كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب

اشارة

سرشناسه : امين، محسن، 1952 - 1865

عنوان و نام پديدآور : كشف الارتياب في اتباع محمدبن عبدالوهاب/ تاليف محسن الامين؛ ققه و اخرجه ولده حسن الامين

مشخصات ظاهري : 413 ص.مصور

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : چاپ دوم

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

شماره كتابشناسي ملي : 51884

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم منذ خمس وثلاثين سنة طغت موجة الارهاب السعودي علي الجزيرة العربية فحملت معها الحقد والسفك والدمار والتنكيل بالعرب والمسلمين فاستبيحت المحارم وسفكت الدماء وأهينت المقدسات وكفر المسلمون وعطلت شعائر الإسلام. وارتفعت الأصوات بالاستنكار في مختلف البقاع العربية والإسلامية وعقدت المؤتمرات وقامت الاحتجاجات باستنكار هذه الحركة الرجعية الآثمة التي تلبست لباس الاصلاح والغيرة علي الدين فاصطبغت أيدي القائمين بها بدماء العرب والمسلمين منذ أن تحالف أبناء مؤسس الدعوة الوهابية محمد بن عبد الوهاب مع آل سعود فكانت غاراتهم المتتالية علي نجد والحجاز والعراق وبقية بقاع الجزيرة العربية فسفكت بها دماء الآلاف من الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال ودمرت المدن والقري واعمل فيها القتل والنهب والسلب. وقامت أقلام العلماء والأدباء والشعراء بالذب عن حياض المقدسات الدينية وفضح أعمال البرابرة السعوديين الذين أعادوا إلي الذاكرة فظائع الغزو المغولي للديار الإسلامية وما ارتكبت فيه من آثام وجرائم ضد الحضارة والإنسانية. وكان في طليعة الكتب التي صدرت في ذلك الحين كتاب " كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب " وهو هذا الكتاب بقلم المرحوم الوالد الذي استقصي فيه تاريخهم الحافل بالفضائح والمآسي والأجرام وفضح فيه أسطورة الاصلاح والتجديد التي زعموها وفند عقائدهم وافتراءاتهم علي الإسلام والمسلمين بما ليس فيه زيادة لمستزيد. وقد آثار هذا الكتاب ضجة كبري في العالمين الإسلامي والعربي يومذاك وألب عليهم الرأي العام وأوقعهم في حيرة من أمرهم لما فيه من الحجج الدامغة والبراهين الساطعة

ص: 3

وجعلهم يحشدون كل ما لديهم من أقلام مخدوعة ومأجورة للرد عليه واضطرهم بالتالي إلي التخفيف من غلوائهم ومحاولة استرضاء الرأي العام الإسلامي الذي ناصبهم العداء لا سيما بعد أن صدرت الفتاوي بعدم جواز أداء فريضة الحج لعدم أمان المسلمين علي أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وكان موسم الحج هو المورد الوحيد لتأمين الموارد لهم بعد أن خرجوا من ديارهم حفاة عراة جائعين وبعد أن كان تاريخهم الدامي الذي يفاخرون به سلسلة من أعمال الغزو والسلب والنهب والتقتيل. - 2 - لقد هادن السعوديون الرأي العام العربي والإسلامي فترة وتظاهروا بالتوبة ثم عمدوا إلي شراء أقلام الكتاب والصحافيين المأجورة يسترون بها عوراتهم وجرائمهم بأموال المسلمين وذلك حرصا علي استتباب الأمر لهم. ولما ظهر البترول في البلاد العربية التي اغتصبوها من أصحابها وأعطوا امتيازاتها للشركات الاحتكارية بأبخس الأثمان وأبطرتهم النعمة عادوا سيرتهم الأولي وانطلقوا يحملون معهم خيرات البلاد لينفقوها بالملايين وعشرات الملايين علي الفسق والفجور وشرب الخمور وانتهاك الأعراض حتي انتشرت فضائحهم في الشرق والغرب وتحدثت عنها صحف العالم بينما ضنوا بالنزر اليسير منها علي الشعوب التي ابتليت بحكمهم فتضورت جوعا. ولم يحرموا هذه الشعوب من خيرات البترول فحسب بل حرموها من أبسط ما يتمتع به الإنسان من كرامة بل حرموها من أبسط الحريات فلا حرية للمعتقد ولا حرية للعبادة ولا حرية للقول ولا حرية للكلام فالكتب والصحف محظورة إلا ما مجد السعوديين وأباح جورهم وأشاد بطغيانهم بينما تحرق كتب الإسلام الصحيح وتمزق أسفار الدين القويم وكشاهد علي ذلك نروي ما فعله قاضيهم في محكمة الظهران سليمان بن عبيد عام 1955 من أمره بإحراق كتاب فقهي اسمه (دعائم الإسلام) كما فعلوا بكتاب (أبو الشهداء) للأستاذ عباس محمود العقاد الذي لم يكتفوا بمنعه بل صادروه وأحرقوه وكذلك فعلوا بكثير من الكتب والأسفار. وفي هذا العام أصدر شاب فاضل من أبناء القطيف التي نكبت بحكم السعوديين كتابا

ص: 4

أسماه (مؤمن قريش) فأمروا بإحراق الكتاب واختطفوا مؤلفه وأخفوه وكادوا يقضون عليه لولا الضجة التي ثارت عليهم من كل جانب فاكتفوا بسجنه وجلده. - 3 - سلط السعوديون زبانيتهم ممن أسموهم زورا " وبهتانا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " علي الناس فأمعنوا بهم تنكيلا، وهم الذين يحكمون بإحراق كتب الدين وتاريخ المسلمين وينكلون بالأحرار أمثال الكاتب الفاضل عبد الله الخنيزي ويفتنون بارتكاب الموبقات وإننا لنسأل عبد الملك بن إبراهيم رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمين سرها عبد الله باشميل وجلاوزتهما كيف سكتوا عن مخازي أمرائهم وفجور حكامهم وفسق ملوكهم وتهتك كبرائهم ولم يروا في هذه الأعمال منكرا ينهون عنه. - 4 - لقد رأينا خدمة للحقيقة والتاريخ تجديد هذا الكتاب وإعادة طبعه وزيادة فصول جديدة عليه ونشره في الرأي العام العربي والإسلامي لإظهار حقيقة السعوديين خالية عن الزيف وعن بهرج الدعاية المضللة وبالله المستعان حسن الأمين

ص: 5

نسب السعوديين

مما استدركناه علي الطبعة الأولي. (الناشر). لماذا يكفر السعوديون المسلمين ويستحلون دماءهم وأعراضهم وأموالهم؟! ولماذا لم يحارب السعوديون إلا العرب ولم يخربوا إلا ديارهم ولم ينتهكوا إلا حرماتهم؟! لماذا وقف السعوديون هذا الموقف المخزي من كارثة فلسطين فكانوا عونا للصهاينة علي أهلها؟! لماذا أبي ملكهم عبد العزيز بن سعود أن يهدد بقطع النفط يوم كان هذا التهديد حاسما في منع تقسيم فلسطين، ولماذا رفض أن يساهم بدينار واحد في إنقاذ الأرض المقدسة، ولماذا رفض أن يبعث جيشا سعوديا مع جيوش العرب الداخلة إلي فلسطين؟ (1) ولماذا كان هذا الجيش السعودي جاهزا أبدا للهجوم علي أي بلد عربي حين يقف هذا البلد موقفا حازما مع الاستعمار؟ كان المخلصون في كل مكان يحارون في الإجابة علي هذه الأسئلة، وكان يندهشون لهذا التصرف السعودي اللئيم ولا يجدون له تفسيرا إلا أن طبيعة من الشر قد سيطرت علي هذه السلالة فجعلتها سفاكة للدماء خائنة للعرب والمسلمين!. ولكن لماذا كان طبيعة الشر هذه لا توجه السعوديين إلا إلي العرب والمسلمين؟! لماذا لا توجههم إلي المستعمرين، إلي اليهود، إلي وجهة غير وجهة أذي الإسلام والعروبة؟! وها نحن اليوم نكشف حقيقة السعوديين ونفسر ما أعيي تفسيره الأذهان. إن السعوديين ليسوا عربا وليسوا مسلمين، ولكنهم تستروا بالعروبة وبالإسلام تغطية لإجرامهم وسترا لمؤامراتهم وتمويها لخياناتهم. وهذه هي القصة بكاملها تنشر وتطبع اليوم لأول مرة بعد أن عرفت وجالت علي الأفواه قبل اليوم في نجد وفي الجزيرة، ولكن لم يكن يجرؤ أحد ممن عرفوها علي التصريح بها وتداولها رهبة وخوفا، وها نحن إذ نقدمها للقارئ الكريم نضع حدا لهذا الزيف في التاريخ، ويا له من زيف!.

ص: 6


1- 1. كان كل ما فعله عبد العزيز بن سعود أن أرسل إلي فلسطين - سترا للمظاهر - 700 بدوي حفاة عراة ببنادق بالية. أما الجنود وأما المدافع وأما المصفحات فقد كانت معدة لهدم مساجد أهل القطيف وتخريب بيوتهم ولذبح النخاولة في مدينة الرسول (ص).

ونترك الكلام الآن لشخصية نجدية جليلة نكتفي بأن نرمز إلي اسمها بالحرف (ح) خوفا من أن تمتد إليها يد البطش السعودي إذ لا تزال هذه اليد قادرة علي الوصول إليها. قال الشيخ (ح): أقرأتم التاريخ المزور الذي رسمته وكتبته الأقلام المأجورة المستثمرة وأملته الضمائر الخائنة لقاء أرقام من المال، إنه أرقام بأرقام من الجمل المرصوفة الكاذبة الخائنة بأرقام من المال تبدأ بالألوف وتنتهي بالملايين، ذلكم التاريخ هو تاريخ آل سعود تاريخ اجتمع علي وضعه وتزويره خونة سعوديون أين منهم مسيلمة الكذاب وسجاح من غربيين وشرقيين ومستشرقين والأنكي من ذلك والأدهي هو أن هؤلاء الخونة ربطوا تاريخ هذه الجزيرة العربية الحافل بالبطولات والأمجاد والتي شع منها نور المعرفة وبزغ من ربوعها فجر الحضارة وأشرق علي الأفكار سناها، هذه الجزيرة العربية التي يرتبط تاريخ الشعوب الإسلامية بتاريخها، ربط هؤلاء الخونة المأجورون تاريخها بتاريخ آل سعود، التاريخ المزور الذي حشد المستعمرون وعملاؤهم من كتاب ومؤرخين كل جهودهم لتزويره وفرضه تاريخا علي الجزيرة العربية وبالتالي علي تاريخ الشعوب الإسلامية وبالنتيجة يفقد العرب والمسلمون كل تاريخهم الذي حفل بأنواع البطولات والعبقريات. ونحن هنا في قلب الجزيرة العربية لا يشرفنا أن يرتبط تاريخنا بتاريخ الأسرة الخائنة الفاجرة الأسرة التي تسللت في الظلام لتسطو علي مقدراتنا ومقدساتنا وتستولي علي السلطة بالقوة بدون مبرر وبالتالي تتآمر علي تاريخنا وذلك بأن تزور لها تاريخا علي حساب تاريخنا فتدعي لنفسها زورا وافتراء بأنها صانعة التاريخ الحديث في الجزيرة العربية ونحن أمس واليوم وفي الماضي والحاضر كأننا لا تاريخ لنا يذكر إلا علي هامش تاريخ آل سعود. لذلك نري لزاما علينا أن نصحح هذا الخطأ من تاريخنا ونمحو هذه الوصمة من جبينه الناصع الوضاء ونقدم آل سعود علي حقيقتهم وكيف دخلوا البلاد حاكمين وما هو دورهم في هذه الحقب التي توالوا عليها منذ تسلمهم هذا العرش المتزعزع الذي توارثوه واحدا عن واحد ولدينا من الحقائق الواضحة والأدلة الناصعة ما تصفع كل مزور خائن.. بل تقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وعلي اسم الله نمضي في تحقيقنا هذا. فمن هم آل سعود؟ إليك الجواب أيها القارئ:

ص: 7

في أمسية من أماسي عام 1937 كان ركب السير جون فلبي الانكليزي الشهير الذي صار الحاكم الفعلي للسعودية والموجه لسياستها والمدبر لأمورها - كان ركب فلبي هذا يدخل مدينة نجران في رحلته الشهيرة التي مضي فيها بعد ذلك إلي الربع الخالي، وكان في الركب رفيقا لفلبي أحد شيوخ النجديين الشيخ محمد التميمي. فما هو أن استراح فلبي من وعثاء السفر حتي راح يسأل في نجران عن أسرة يهودية وعن عميدها المسمي يوسف ليسلمه أمانة مالية مرسلة من الملك عبد العزيز بن سعود، ثم مضي فلبي يصحبه التميمي وسلم فلبي يوسف المذكور خمسمائة ريال فضية، من العملة المنقوش عليها اسم ماري تريز وهي العملة المتداولة في اليمن، وأبلغه تحيات الملك، وسأله عن حاجاته ليقضي منها ما يستطيع قضاءه وليرفع ما لا يستطيع قضاءه إلي الملك ليقضيه بنفسه. فشكر يوسف اليهودي فضل الملك وعاطفته ثم قدم إلي فلبي كتابا خطيا بعضه بالعربية وبعضه بالعبرية اسمه العربي (نبع نجران المكين في تراث أهله الأولين)، ولم يكن بعض ما في الكتاب مجهولا لدي كثير من الخاصة في نجد ولكن التفاصيل التي فيه كانت مثيرة حقا، وكلف يوسف اليهودي رسول الملك فلبي أن يهدي بالنيابة عنه هذا الكتاب إلي جلالة الملك السعودي تقديرا لعاطفته وصلاته المتكررة ليهود نجران بعامة وليوسف وأسرته بخاصة، وقد كان ما في الكتاب شيئا خطيرا حمل فلبي علي أن يذاكر بشأنه زميله الانكليزي الآخر ه. ر. ب دقسن المعتمد البريطاني في الكويت، وأن يقررا معا وجوب طي الكتاب وعدم إظهاره حرصا علي المصلحة الاستعمارية. يقول الشيخ محمد التميمي: لقد أغاظني هذا اليهودي يوسف وهو يحدثنا حديث المزري علي العرب المستخف بالمسلمين، وقد كان يشير بذلك وبقوله إن العرب والمسلمين لا يصلحون لتولي أمور الناس، وبالإشادة بنجاح آل سعود - كان يشير إلي ما كنا نجهل تفاصيله يومذاك وإن علمنا مجمله عن الحقيقة في نسب آل سعود، هذه الحقيقة التي أخذنا علي أنفسنا تقصيها بعد ذلك حتي عرفنا دقائقها من شيوخنا الذين عرفوها من شيوخهم دون أن يجرؤ أحد علي كشفها جلية للناس أجمعين، بل ظل الذين يعرفونها يتهامسون بها همسا ويوصلها جيل إلي جيل ليأتي اليوم الذي يمكن الجهر بها من غير أن

ص: 8

يخشي الجاهر فتكا ولا بطشا وقد جاء والحمد لله هذا اليوم المنتظر: إن السعوديين من أصل يهودي إذ يرجعون بنسبهم إلي يهود نجران، ومن أبناء أعمامهم اليهودي النجراني يوسف المتقدم ذكره والفائز بصلات الملك السعودي ومبراته والذي يلتقي نسبه مع آل سعود في الجد السادس وقد تفرع الجميع من اليهودي سليمان اسلايم الذي كان له ولدان أحدهما اسمه (مقرن) وهو جد آل سعود بينما الولد الآخر جد يوسف وهذه هي التفاصيل: كان مقرن بن سليمان اسلايم يمتهن التجارة فيضطر للتجوال في البلاد العربية فيلاقي بسبب يهوديته متاعب وإهانات كان ينوء بها ولكنه كان يتغلب عليها فاتسعت تجارته وازدادت ثروته وتضخمت معاملاته فعزم علي التوسع بتجارته إلي خارج الجزيرة والوصول إلي العراق والتعامل مع أهليه، وكان يري أن يهوديته ستغري به العرب فيفتكون به أو يسلبونه، وطريقه إلي العراق ومن العراق مملوء بالعشائر فقرر أولا أن يستقر في بلدة معينة يتخذها ركيزة لأعماله المقبلة فاستقر في مدينة " عيينة " النجدية وهي اليوم خربة وتمتد شرقا مع طول الوادي إلي قرية الجبيلة وكان سكانها يوم حل فيها مقرن يناهزون الخمسين ألف نسمة وهي محاطة بكل من العشائر الآتية: عتيبة، قحطان، بنو مرة، بنو خالد، العجمان، سبيع، الدواسر، شمر، مطير، حرب، يام، تميم. وبعد أن توطد مقام مقرن في عيينة واكتسب هو وأسرته عاداتها الاجتماعية وألف تقاليدها الحياتية وأصبحوا لا يختلفون في شئ من تصرفاتهم وطراز عيشهم عن جميع العرب الساكنين داخل عيينة أو حولها عزموا علي الانخراط نهائيا في الحياة العربية والانتماء إلي عشيرة من العشائر بحيث تضيع معالمهم الأصلية وتغيب حقيقتهم اليهودية، ولكن الأمر لم يكن سهلا علي مقرن وأسرته فالقبائل تأبي الدخيل وتلفظه واستعرضوا أمامهم أسماء العشائر المعروفة فرأوا أن ما من قبيلة تحترم نفسها يمكن أن يذوبوا في غمارها، لذلك اتجه تفكيرهم إلي عشيرة من العشائر النكرة في المنطقة لكي لا ينكشف أمرهم أمام أهل العيينة وأمام العشائر المجاورة لها فوقع اختيارهم علي عشيرة " المصاليخ " وهي فخذ صغير من أفخاذ قبيلة عنزة مشهور بين العشائر بتفاهته وعدم تحسسه بالحس القبلي والنعرة العشائرية بحيث لا يوجد منه سوي أقلية بجبل سنجار شمال العراق وأقلية

ص: 9

أخري انصهرت في عشيرة الحسنة القاطنة في ضواحي الشام والتابعة لمشيخة ابن ملحم وكانت هذه الفكرة اليهودية محكمة كل الإحكام فاستطاع مقرن وأسرته أن يعايشوا (المصاليخ) وأن ينطووا بيهوديتهم في كيانها فيبرزوا وكأنهم منها وفيها وهكذا عاد (مقرن) اليهودي عربيا مسلما يقصد بتجارته إلي الأقاصي البعيدة محتميا بمظهره الجديد ومن مقرن هذا تحدر السعوديون واحدا بعد واحد. يقول الشيخ محمد التميمي: كان يوسف اليهودي لا يريد أن يبوح أمامي بحقيقة النسب الذي يربطه بآل سعود وكان يتكلم بالمعاريض وحرص علي أن لا أعلم بحقيقة ما في الكتاب المهدي إلي فلبي (وكان في الكتاب تفاصيل للأحداث النجرانية وبعضها متعلق بالنسب السعودي). ولكن يوسف عاد بعد ذلك يتحدث بلا تحفظ أو بشئ من التحفظ فكان مما عرفناه منه أن آل سعود الأولين كانوا يعطفون عليهم ولم يتنكروا للرحم حتي جده الثالث داود، ثم عادوا يتجاهلونهم بعد ذلك ويحاولون الابتعاد عنه بسبب الظروف التي صار فيها آل سعود، إلي أن انتهي الأمر إلي عبد العزيز واستقرت به الحال واطمأن إلي المصير فعاود الاتصال بهم والعطف عليهم، وكان ما حمله إليه فلبي بعض ما كان يصلهم به ويغدقه عليهم. علي أن عبد العزيز لم يسمح لهم في حال من الأحوال بأن يتصلوا به شخصيا وأن يعلنوا ما يجب ستره من صلاة القربي " انتهي ". والسعوديون بهذا النسب اليهودي العريق يشبهون اليهود الأتراك الذي عرفوا باسم " الدونمة "، وهم يهود سكنوا البلاد التركية لا سيما سلانيك، واضطرتهم ظروف الحياة إلي إعلان إسلامهم مع إبطان يهوديتهم فأطلق عليهم الأتراك اسم " الدونمة " تمييزا لهم عن المسلمين الصحيحي الإسلام. وقد استغل الدونمة هذا التظاهر بالإسلام أسوأ استغلال فأتاح لهم ما لم يكن يتاح من التغلغل في صفوف المواطنين والامعان تخريبا وكيدا. وقد أصبحوا مصدر الدسائس التي أحاقت بتركية، ولم تحل بها نكبة ولم تقم بها مؤامرة إلا وكان الدونمة رأسها. وبذلك كانوا كالسعوديين في العرب نسبا وحسبا ومناقب!! وبعد فهل عرفتم لماذا يقف السعوديون هذا الموقف اللئيم من العرب والمسلمين؟ وإذا أنكر السعوديون اليوم هذا النسب فإننا (؟)

ص: 10

مقرن، فالعرب حريصة علي أنسابها وكل ما يتصل بهذه الأنساب لا سيما من كانوا في منزلة آل سعود، فمن هو جدكم يا آل سعود بعد مقرن؟. إنه اليهودي سليمان اسلايم (1) .

ص: 11


1- 2. من طريف ما حدث عام 1949 أن نظم أحد الشعراء علي سبيل المطايبة قصيدة علي لسان الملك عبد الله يخاطب بها الملك عبد العزيز بن سعود بعنوان (إلي الملك الثري) فنظم الشاعر عبد المطلب الأمين هذه القصيدة علي لسان الملك عبد العزيز يخاطب بها الملك عبد الله. يلومونني إني بخلت ولو رأوا براميل بترول الرياض لا قصروا تفيض به الصحراء تبرا مذوبا وتزهو به أرض الحجاز وتزهر ولم أر مثل النفط أما سواده فمسك وأما الريح منه فعنبر غنينا به عن كل حاف مقمل يجئ من الحجاج عريان يفخر تزود من كل الذنوب بماله وجاء إلينا مفلسا يتطهر فديت بني الدولار من كل أشقر وإن سكروا وقت الطعام و " خنزروا " أتونا بأكياس الريالات كلما حردنا عليهم زودونا وأكثروا وبعد الجمال الجرب صارت تقلنا " طنابيل " منها (هدسن) و (كرزلر) وكل حسان الأرض طوع أكفنا نطير إليها أو إلينا تطير وكنا وعدنا جنة مثل هذه تطوف علينا الحور فيها وتخطر نحارب أعداء الإله لأجلها ونفني يهود الأرض أني تجمهروا فلما كفانا (العم سام) جهادنا قعدنا علي جيراننا (نتمسخر) وما كان زهدا بالجنان قعودنا ولكن طريق النفط للخلد أقصر يقولون لي أخلفت وعدك حينما وعدت أن أفدي بني ليظفروا يريدون مني أن أكون سموءلا؟ وذاك يهودي أذل وأحقر وما كنت إلا سيدا وابن سيد أقر متي شئت الوعود وأنكر فإن تك عبد الله في ذا تلومني فواعجبي مما تقول وتذكر فجدك قبلي قال للفاتح الذي أناخ له في باب مكة عسكر جمالي جمالي إن للبيت ربه يقيه إذا شاء العدو ويقهر علام أحامي عن فلسطين صارفا فلوسي وبترولي أضيع وأهدر فلا والدي في مسجد القدس موسد وليس لأجدادي بغزة أقبر ولكن نجدا يا أكارم موطني أموت علي الدهناء منها وأنشر فإن تقبلوني عاهلا دون مصرف قبلت وإلا فاتركوني وثرثوا فليس لإسرائيل عندي مأرب سوي خيبر لا كانت الدهر خيبر إذا طلبوها قلت أهلا ومرحبا بأبناء أعمام علينا تغندروا في البيت العاشر إشارة إلي ما ينشده السعوديون عند الحرب: هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها ولم ينشدوا هذا النشيد إلا في حروبهم للعرب والمسلمين، لأنهم في كل أدوارهم لم يحاربوا إلا العرب والمسلمين. وفي البيت الرابع عشر إشارة إلي ما كان قاله عبد العزيز بن سعود من أنه يفدي أولاده من أجل فلسطين ثم كان حربا عليها.

تاريخ الوهابيين

الي من ينسب مذهب الوهابية ومتي ظهر وكيف ظهر ومن اتبعه بعد ظهوره ومن هو أول من بذر بذور هذا المذهب

ينسب مذهب الوهابية إلي محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد ابن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن بعضاد بن ريس بن زاخر بن محمد ابن علي بن وهيب التميمي. (وفي خلاصة الكلام) في أمراء البلد الحرام للشيخ أحمد بن زيني دحلان: ولد محمد بن عبد الوهاب سنة 1111 وتوفي سنة 1207 (1) فيكون عمره ستا وتسعين سنة (2) وأخذ في أول أمره عن كثير من علماء مكة والمدينة وكانوا يتفرسون فيه الضلال والإضلال وكان والده عبد الوهاب من العلماء الصالحين وكان يتفرس فيه ذلك ويذمه كثيرا ويحذر الناس منه وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب أنكر عليه ما أحدثه وألف كتابا في الرد عليه. وكان في أول أمره مولعا بمطالعة أخبار مدعي النبوة كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأمثالهم. وخلف محمد بن عبد الوهاب بعده أربعة أولاد وهم عبد الله وحسن وحسين وعلي فقام بالدعوة عبد الله أكبرهم ولما مات خلف سليمان وعبد الرحمن وكان سليمان متعصبا تعصبا شديدا في أمرهم فقتله إبراهيم باشا سنة 1233 وقبض علي عبد الرحمن وأرسله إلي مصر فمات بها وخلف حسن عبد الرحمن وولي قضاء مكة أيام استيلاء الوهابيين عليها وعمر عبد الرحمن حتي قارب المائة وخلف عبد اللطيف وخلف كل من حسين وعلي أولادا كثيرة ولم يزل نسلهم باقيا بالدرعية إلي الآن يسمونهم أولاد الشيخ. وكان القائم بنصرة محمد بن عبد الوهاب ونشر عقيدته محمد ابن سعود ثم ولده عبد العزيز ثم ولده سعود " انتهي ملخصا ".

ص: 12


1- 3. يأتي في كلام الآلوسي 1206.
2- 4. الذي في النسخة اثنتين وتسعين سنة لكنه لا يوافق تاريخ الولادة والوفاة. - المؤلف -.

وسعود بن عبد العزيز هو الذي غزا العراق والحجاز ومنع المسلمين من الحج فانقطع الحج في زمانه عدة سنين كما سيأتي. وقال ملطبرون في جغرافيته المترجمة من رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة بمصر المطبوعة بمصر: أصل المذهب الوهابي إن العرب سيما أهل اليمن تحدثوا بأن راعيا فقيرا اسمه سليمان رأي في منامه كأن شعلة نار خرجت منه وانتشرت في الأرض وصارت تحرق من قابلها فقصها علي معبر فعبرها بأن ولدا له يحدث دولة قوية فتحققت الرؤيا في حفيده محمد بن عبد الوهاب فلما كبر محمد صار محترما عند أهل بلده بسبب هذه الرؤيا التي لا يعلم أنها كانت أم لا فأول أمره بين مذهبه سرا فاتبعه جماعة ثم سافر إلي الشام فلم يتبعه أحد فرجع إلي بلاد العرب بعد أن غاب عنها ثلاث سنين وجاء إلي بلاد نجد وأظهر هذا المذهب فتبعه عليه سعود (1) وكان شهما حازما وتقوي كل منهما بالآخر فقوي سعود إمارته من طريق الدين باتباعه محمد بن عبد الوهاب علي مذهبه وقوي ابن عبد الوهاب دعوته من طريق السيف باتباع سعود له وانتصاره به فكان سعود الأمير الحاكم وابن عبد الوهاب الرئيس الديني وصارت ذرية كل منهما تتولي مرتبة سلفها وبعد أن صار سعود حاكما علي قبيلته تغلب علي قبيلتين من اليمن ودان بهذا المذهب قبائل كثيرة من العرب وجميع أعراب نجد واختاروا مدينة الدرعية قاعدة بلادهم وهي في الجنوب الشرقي من البصرة وبعد خمس عشرة سنة اتسعت ولاية سعود وهو يطمع في الزيادة وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض بل والأنفس فيأخذ عشر الناس بالقرعة فجمع أموالا عظيمة وصار جيشه يربو علي مائة وعشرين ألف مقاتل " انتهي ". وفي خلاصة الكلام: كان ابتداء ظهور محمد بن عبد الوهاب سنة 1143 واشتهر أمره بعد الخمسين فأظهر العقيدة الزائفة بنجد وقرأها فقام بنصره محمد بن سعود أمير الدرعية فحمل أهلها علي متابعته فتابعوه وما زال يطيعه كثير من أحياء العرب حتي قوي أمره فخافته البادية وكان يقول لهم إنما أدعوكم إلي التوحيد وترك الشرك بالله. وعن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي إن ابن عبد الوهاب نشأ في بلد العيينة من بلاد نجد فقرأ علي أبيه الفقه علي مذهب أحمد بن حنبل وكان من صغره يتكلم بكلمات

ص: 13


1- 5. الصواب أن أول من تبعه محمد بن سعود كما مر عن خلاصة الكلام - المؤلف -.

لا يعرفها المسلمون وينكر عليهم أكثر الذي اتفقوا لكنه لم يساعده علي ذلك أحد فسافر من العيينة إلي مكة المشرفة ثم إلي المدينة فأخذ عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم ابن سيف وشدد النكير علي الاستغاثة بالنبي (ص) عند قبره ثم رحل إلي نجد ثم إلي البصرة يريد الشام فلما ورد البصرة أقام فيها مدة وأخذ فيها عن الشيخ محمد المجموعي وأنكر علي أهلها أشياء كثيرة فأخرجوه منها فخرج هاربا ثم جاء بعد عدة تحولات إلي بلد حريملة من نجد وكان أبوه بها فلازمه وقرأ عليه وأظهر الانكار علي مسلمي نجد في عقائدهم فنهاه أبوه فلم ينته حتي وقع بينهما نزاع ووقع بينه وبين المسلمين في حريملة جدال كثير فأقام علي ذلك سنتين حتي توفي أبوه سنة 1153 فاجترأ علي إظهار عقائده والإنكار علي المسلمين فيما أطبقوا عليه وتبعه حثالة من الناس إلي أن غص أهل البلد من مقالاته وهموا بقتله فانتقل من حريملة إلي العيينة ورئيسها يومئذ عثمان بن أحمد بن معمر فأطمعه ابن عبد الوهاب في ملك نجد فساعده عثمان وأعلن النكير علي المسلمين فتبعه بعض أهل العيينة وهدم قبة زيد بن الخطاب التي عند الجبيلة فعظم أمره وبلغ خبره سليمان بن محمد بن عزيز الحميدي صاحب الأحساء والقطيف وتوابعها فأرسل سليمان كتابا إلي عثمان يأمره فيه بقتله ويهدده علي المخالفة فلم تسعه مخالفته فأرسل إليه وأمره بالخروج عن مملكته فقال له إن نصرتني ملكت نجدا فلم يسمع منه وخرج إلي الدرعية سنة 1160 (وهي بلاد مسيلمة الكذاب) وصاحبها يومئذ محمد بن سعود فتوسل بامرأة الحاكم إليه وأطمعه في ملك بلاد نجد فتبعه وبايعه علي قتال المسلمين فكتب إلي أهل نجد ورؤسائهم وقضاتهم بطلب الطاعة فأطاعه بعضهم وبعضهم لم يحفل به فأمر أهل الدرعية بالقتال فأجابوه وقاتلوا معه أهل نجد والأحساء مرارا كثيرة حتي دخل بعضهم في طاعته طوعا أو كرها وصارت إمارة نجد جميعها لآل سعود بالقهر والغلبة ومات ابن عبد الوهاب سنة 1206 ثم مات محمد بن سعود فخلفه ولده عبد العزيز وقام بنصرة هذا المذهب وقاتل عليه وبلغت سراياه وعماله أقصي بلاد نجد ثم مات عبد العزيز فخلفه ولده سعود وكان أشد من أبيه في التوهب، منع المسلمين عن الحج وخرج علي السلطان وغالي في تكفير من خالفهم ثم مات سعود وخلفه ابنه عبد الله " انتهي ". وفي خلاصة الكلام أن الوهابيين أرسلوا في دولة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد المتوفي سنة 1165 ثلاثين من علمائهم فأمر الشريف أن يناظرهم علماء الحرمين فناظروهم

ص: 14

فوجدوا عقائدهم فاسدة وكتب قاضي الشرع حجة بكفرهم وسجنهم فسجن بعضهم وفر الباقون. ثم في دولة الشريف أحمد المتوفي سنة 1195 أرسل أمير الدرعية بعض علمائه فناظرهم علماء مكة وأثبتوا كفرهم فلم يأذن لهم في الحج " انتهي ملخصا ". وهذا المذهب وإن كان ظهوره وانتشاره في زمن محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر إلا أن بذره قد بذر قبل ذلك من زمن أحمد بن تيمية في القرن السابع وتلميذه ابن القيم الجوزية وابن عبد الهادي ومن نسج علي منوالهم. وقد عثرنا فيه علي رسالة لمحمد ابن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المولود سنة 1059 والمتوفي سنة 1182 كما عن كتاب البدر الطالع للشوكاني، سماها تطهير الاعتقاد عن أدران الالحاد وسيأتي النقل عنها في محاله وهذا الرجل كان معاصرا لابن عبد الوهاب. وعن كتاب أبجد العلوم للصديق حسن خان القنوجي: كان المولي العلامة السيد محمد ابن إسماعيل الأمير بلغه من أحوال النجدي ما سره فقال قصيدته المشهورة: سلام علي نجد ومن حل في نجد وإن كان تسليمي علي البعد لا يجدي (1) ثم لما تحقق الأحوال من بعض من وصل إلي اليمن وجد الأمر غير خال من الأدغال وقال: رجعت عن القول الذي قلت في نجد فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي " انتهي " وعن محمد بن إسماعيل المذكور أنه قال في شرح القصيدة المذكورة المسمي بمحو الحوبة في شرح أبيات التوبة: لما بلغت هذه الأبيات نجدا يعني الأبيات الأولي وصل إلينا بعد أعوام رجل عالم يسمي الشيخ مربد بن أحمد التميمي وذلك في صفر سنة 1170 وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه ثم عاد إلي وطنه في شوال من تلك السنة

ص: 15


1- 6. وهي التي يقول فيها كما أورده في تطهير الاعتقاد: أعادوا بها معني سواع ومثله يغوث وودا ليس ذلك من ودي وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم نحروا في سوحها من نحيرة أهلت لغير الله جهلا علي عمد وكم طائف حول القبور مقبلا ويلتمس الأركان منهن بالأيدي - المؤلف -.

وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب الذي وجهنا إليه الأبيات وكان تقدمه في الوصول إلينا الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال وتجاريه علي قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار فبقي معنا تردد فيما نقله الشيخ عبد الرحمن حتي وصل الشيخ مربد وله نباهة ومعه بعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم وحقق لنا أحواله وأفعاله فعرفنا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا ولم يمعن النظر ولا قرأ علي من يهديه نهج الهداية ويدله علي العلوم النافعة ويفقهه بل طالع بعض مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقلدهما من غير اتقان مع أنهما يحرمان التقليد " انتهي ". وهذا يدل علي أن محمد بن إسماعيل المذكور رجع عن مغالاته في التوهب ولعل رجوعه كان بعد تأليفه رسالة تطهير الاعتقاد لأن تلك الرسالة لا تقصر عن كتب ابن عبد الوهاب في المغالاة كما ستعرف. وقد تبع هذا المذهب من بعد ظهوره إلي اليوم بعض من ينسب إلي العلم من أهل السنة من غير النجديين حسنه في نظرهم ظهوره بمظهر ترك البدع مع ما يرونه من كثرة البدع لكن الافراط آفة تفسد أكثر مما تصلح (وكل يدعي وصلا بليلي) والبعض منهم لم يصل في تضليل المسلمين إلي حد التكفير واستحلال الدم والمال كالآلوسي صاحب تاريخ نجد فيما حكي عنه حيث قال بعد ذكر سعود بن عبد العزيز: إنه قاد الجيوش وأذعنت له صناديد العرب ورؤساؤهم بيد أنه منع الناس عن الحج وخرج علي السلطان وغالي في تكفير من خالفهم وشدد في بعض الأحكام وحملوا أكثر الأمور علي ظواهرها كما غالي الناس في قدحهم، والإنصاف الطريقة الوسطي لا التشديد الذي ذهب إليه علماء نجد وعامتهم من تسمية غاراتهم علي المسلمين بالجهاد في سبيل الله ومنعهم الحج، ولا التساهل الذي عليه عامة أهل العراق والشامات وغيرهما من الحلف بغير الله وبناء الأبنية المزخرفة علي قبور الصالحين والنذر لهم وغير ذلك مما نهي عنه الشارع، والحاصل إن الافراط والتفريط في الدين ليس مما يليق بشأن المسلمين بل الأحري بهم اتباع ما عليه السلف الصالح وتكفير بعضهم لبعض مستوجب للمقت والغضب " انتهي ".

ص: 16

فتراه قد أنصف بعض الإنصاف في لوم الوهابيين علي تكفير من خالفهم ومنع الناس عن الحج والخروج علي السلطان وتسمية الغارة علي المسلمين جهادا في سبيل الله ولكنه حاد عن الإنصاف في جعله الحلف بغير الله والبناء علي قبور الصالحين مما نهي عنه الشارع لما ستعرف من أن النهي منه غير واقع وجعله النذر للصالحين لما ستعرف أيضا من أنه لا ينذر أحد لهم بل لله ويهدي الثواب إليهم، وربما يكون كثير من غير النجديين ممن ينسب إلي العلم ويميل إلي الوهابيين لا يصل في المغالاة إلي حد التكفير واستحلال المال والدم، والله العالم بأسرار عباده.

حروب الشريف غالب أمير مكة المكرمة مع الوهابيين واستيلائهم علي الحجاز في زمانه وما فعلوه في الحجاز والعراق وانقطاع الحج والزيارة في أيامهم

في خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام لأحمد بن زيني دحلان مفتي الشافعية أن الشريف غالبا غزا الوهابية ما ينوف عن خمسين غزوة من سنة 1205 إلي سنة 1220 فأرسل عليهم في سنة 1205 ستمائة مقاتل مع أخيه عبد العزيز مع قبائل كثيرة حتي وصل إلي عريق الدسم وملك عدة من قري نجد وحاصر عنيزة قرية بسام ثم رجع (وفي سنة 1206) جهز جيشا بأمرة المذكور لقتال القبائل التي دخلت في دين عبد العزيز بن محمد بن سعود (1) فوصل به إلي تربة ثم إلي رينة ثم إلي بيشة فأطاعته كلها ثم عاد إلي مكة (وفي سنة 1208) غزا الوهابيين بجيش من العربان بأمرة عثمان المضايفي فصبح ابن قيحان بموضع يقال له عقيلان وحصلت ملحمة عظيمة انتصر فيها عثمان وأخذ جميع إبل ابن قيحان ثم هزمه ابن قيحان ولم ينتزع منه الإبل (وفي سنة 1209) جهز جيشا بإمرة أخيه عبد المعين لغزو هادي بن قرملة وكان ممن توهب فنذر به وهرب فقصد ابن قفطان من اتباع ابن سعود فحصره في قصره وقبض عليه وأرسله إلي الشريف غالب فسأله العفو فعفا عنه وأطلقه فلما وصل إلي بلده غدر وأظهر العصيان فدس إليه من قتله

ص: 17


1- 7. وهو الذي تأمر بعد موت أبيه محمد بن سعود الذي هو أول من اتبع محمد بن عبد الوهاب - المؤلف -.

وقصد مواضع فيها من اتباع ابن سعود فقتل منهم ثم رجع إلي مكة (وفي سنة 1210) جهز جيشا بأمرة السيد ناصر فغزا جماعة من الوهابية فقتل ونهب وعاد سالما (ثم) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد بن عبد الله وغزا جماعة من الوهابية وقبض علي ثلاثة جواسيس أرسلهم هادي بن قرملة فقتل اثنين وأخبره الثالث بموضع القوم مخافة القتل فعفا عنه وجد في السير وفي اليوم الثاني وصل إلي محل هادي بن قرملة فقتل من أصحابه نحو المائة وانهزم الباقون ثم توجه علي طريق الفرشة فصادف جماعة من قحطان بأمرة ابن قيحان وهو ممن توهب فقتل منهم ونهب وصادف ابن شذير من شيوخ قحطان غازيا فقتل من أصحابه خمسة وأربعين وأخذ ابن شذير وإبله وخمسة من الخيل وعشرين من جياد الركاب (ثم) جهز جيشا بأمرة أخيه عبد المعين فأرسل الجواسيس فوجد من يريده من العربان قد ترفع وأبعد لما سمعوا به فأبقي جماعة في تربة ورجع ثم جهز جيشا كثيفا بأمرة السيد ناصر حتي أتي الشماس فدهمهم جيش الوهابيين فجرت ملحمة عظيمة وقتل من الفريقين خلق كثير ورجع السيد ناصر إلي مكة (وفي سنة 1211) (1) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد فأرسل سرية إلي الخرمة فقتلت منهم ثم أغار علي قوم من حرب توهبوا ثم ارتحل إلي روغ النعام فدهمهم الحجيلاني أمير الخرج بجند كثير فوقعت ملحمة عظيمة قتل فيها كثير من الطرفين ثم غزا هادي بن قرملة بموضع يقال له البقرة فقتل منهم وأخذ فرس ابن قرملة وإبله ثم رجع إلي مكة (فجهز) له الشريف غالب جيشا وأمره بالرجوع فملك رينة ونهبها وأحرق دورها ثم أتي الجنينة وأرسل الجواسيس إلي قوم سماهم فأخبر بارتحالهم فعاد إلي مكة (وفي سنة 1212) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد علي قوم من

ص: 18


1- 8. في رسالة الفواكه العذاب لأحمد بن ناصر النجدي إحدي رسائل الهدية السنية الخمس المطبوعة بمطبعة المنار بمصر إن الشريف غالبا في سنة 1211 طلب من عبد العزيز بن سعود إرسال عالم لمناظرة علماء الحرم فأرسل صاحب الرسالة وذكر صورة المناظرة وأنه أذعن له علماء الحرم ولم يشر إليها في خلاصة الكلام بل أشار إلي وقوع مناظرة قبل ذلك في دولتي الشريفين مسعود ومساعد كما مر وأني لنا بتصديق إقرار علماء الحرم له بصحة معتقده وأنه غلبهم بشبهاته التي بان ضعفها وفسادها مما أوردناه في هذا الكتاب نعم يجوز أن تكون وقعت هذه المناظرة فلم يقنع ذلك النجدي بل بقي علي إصراره وعناده. - المؤلف -.

حرب في عريق الدسم توهبوا فغنم وعاد سالما (ثم) جهز جيشا بأمرة السيد مبارك فأغار علي قوم من حرب توهبوا بموضع يقال له العلم فغنم مواشيهم وصادف في طريقه خمسة وأربعين من الوهابية فقتلهم وأراد الرجوع فمنعه الشريف غالب وأمده بجيش بأمرة السيد سعد فاجتمعا علي صلبة وارتحلوا وأقاموا علي مران وبثوا الجواسيس فبلغهم أن الوهابي جمع لهم ما لا طاقة لهم به فأرادوا الرجوع فمنعهم الشريف غالب وخرج بنفسه في جيش عظيم حتي وصل مران واجتمع بهما ثم أغار علي قوم من قحطان وأخذ مواشيهم ثم أغار علي ابن قرملة في القنصلية وقتل منهم مقتلة عظيمة وفر ابن قرملة منهزما ثم عاد إلي رينة وحاربها وقطع نخلها فطلب أهلها الصلح فعفا عنهم وارتحل إلي بيشة فأقر بها جماعة أطاعوه وفر آخرون فأحرق دورهم وارتحل إلي الخرمة فأبادها وجاءه خبر بقدوم الوهابيين في جمع عظيم فأتهم المخبر وبعد يومين أقبلوا في جموعهم والتحم القتال فقتل من الفريقين ما ينوف عن الفين ومن الأشراف نيف وأربعون وكانت الغلبة للوهابية ثم رجع إلي مكة. صلح الشريف غالب مع الوهابية (وفي سنة 1212 في جمادي الأولي) انعقد الصلح بين الشريف غالب وعبد العزيز ابن محمد بن سعود بعد مكاتبات وجعلوا حدودا للأراضي والقبائل التي تحت طاعة الشريف وطاعة ابن سعود وأخذت العهود والمواثيق بينهم علي ترك الحرب وأن يحج الوهابيون ونودي بالأمان وحج من علمائهم حمد بن ناصر ومعهم شرذمة منهم ولم يحج أميرهم لأن سليمان باشا والي بغداد جهز عليه جيشا بأمارة علي بك كتخدا فحاصرهم لكنهم دسوا دسائس أفسدوا بها أهل العسكر وفر اميره هاربا (وفي سنة 1214) حج سعود بن عبد العزيز ومعه أناس كثير واجتمع بالشريف غالب في خيمة ضربت لهما بالأبطح (وفي سنة 1215) حج سعود أيضا ومعه جند يزيد علي عشرين ألفا وأرسل قبل قدومه هدية للشريف غالب مع حمد بن ناصر وهي خمسة وثلاثون من الخيل وعشر من النوق العمانيات فقبلها الشريف وكافأهم عليها وكان قد احترس قبل قدومهم خوفا من غدرهم فبني سور الطائف والأبراج التي في أطراف مكة ومداخلها وطلب كثيرا من القبائل وترس جميع المداخل والأبراج فلم يدخل سعود مكة بجيشه قبل الوقوف بل نزل

ص: 19

بعرفة (وفي الثاني عشر من ذي الحجة) وقع خصام بين عرب الشريف وقوم سعود أدي إلي القتال بالرصاص فمنع الشريف عربه وكف القتال ونزل الناس من مني قبل الزوال ثم رحل سعود إلي بلاده. غزو الوهابية العراق سنة 1216 - 1225 وإعادتهما فاجعة كربلاء يقول المؤلف: (وفي سنة 1216) جهز سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الوهابي جيشا عظيما من أعراب نجد وغزا به العراق وحاصر كربلاء ثم دخلها عنوة واعمل في أهلها السيف ولم ينج منهم إلا من فر هاربا أو اختفي في مخبأ أو تحت حطب ونحوه ولم يعثروا عليه وهم جيران قبر ابن بنت رسول الله " ص " السبط الشهيد ونهبها وهدم قبر الحسين (ع) واقتلع الشباك الموضوع علي القبر الشريف ونهب جميع ما في المشهد من الذخائر ولم يرع لرسول الله (ص) ولا لذريته حرمة وأعاد بأعماله ذكري فاجعة كربلاء ويوم الحرة وأعمال بني أمية والمتوكل العباسي ويقول أهل العراق - وهم أعلم بما جري في بلادهم -: أنه ربط خيله في الصحن الشريف وطبخ القهوة ودقها في الحضرة الشريفة. وقال العلامة السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة وفي عصره كان غزوهم للعراق: إن سعودا الوهابي الخارج في أرض نجد اخترع ما اخترع في الدين وأباح دماء المسلمين وتخريب قبور الأئمة المعصومين فأغار في السنة المذكورة علي مشهد الحسين (ع) وقتل الرجال والأطفال وأخذ الأموال وعاث في الحضرة المقدسة فأفسد بنيانها وهدم أركانها. (قال): وفي الليلة التاسعة من شهر صفر سنة 1221 قبل الصبح هجم علينا سعود الوهابي في النجف ونحن في غفلة حتي أن بعض أصحابه صعد السور وكادوا يأخذون البلد فظهرت لأمير المؤمنين عليه السلام المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة فقتل من جيشه كثير ورجع خائبا. (قال): وفي جمادي الآخرة سنة 1222 جاء الخارجي الذي اسمه سعود إلي العراق بنحو من عشرين ألف مقاتل أو أزيد فجاءت النذر بأنه يريد أن يدهمنا في النجف الأشرف غيلة فتحذرنا منه وخرجنا جميعا إلي سور البلد فأتانا ليلا فرآنا علي حذر قد أحطنا بالسور بالبنادق والأطواب فمضي إلي الحلة فرآهم كذلك ثم مضي إلي مشهد الحسين (ع) علي حين غفلة نهارا فحاصرهم حصارا شديدا فثبتوا له خلف السور وقتل

ص: 20

منهم وقتلوا منه ورجع خائبا وعاث في العراق وقتل من قتل وقد استولي علي مكة المشرفة والمدينة المنورة وتعطل الحج ثلاث سنين. (قال): وفي سنة 1225 أحاطت الأعراب من عنزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الأشرف ومشهد الحسين (ع) وقد قطعوا الطريق ونهبوا زوار الحسين (ع) بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان وقتلوا منهم جما غفيرا وأكثر القتلي من العجم وربما قيل إنهم مائة وخمسون وبقي جملة من الزوار في الحلة ما قدروا أن يأتوا إلي النجف كأنها في حصار والأعراب ممتدة من الكوفة إلي فوق مشهد الحسين (ع) بفرسخين أو أكثر " انتهي ". انتقاض الصلح بين الوهابية والشريف غالب في خلاصة الكلام إن سعودا ما زال يدس الدسائس بعد الصلح ويكاتب مشايخ الأعراب سرا كشيخ محايل وشيخ بارق فصارا يفسدان القبائل حتي انتقض الصلح وتوهب جميع قبائل الحجاز فأرسل الشريف إلي وزيره بالقنفذة أن يذهب لقتال شيخ محايل ففعل وحصل بينهما قتال شديد فهزمهم الوزير وملك ما في واديهم وأحرق ديارهم وعاد إلي القنفذة ثم بلغه أنهم رجعوا وتجمعوا وصاروا يراسلون أهل تلك الأطراف ويتهددون من لم يطعهم فأخبر بذلك الشريف فجهز جيشا عظيما بأمرة السيد منديل فغزا بني كنانة وقتل منهم مقتلة وجاء الخبر إن أهل حلي توهبوا فجهز الشريف غالب عليهم جيشا بأمرة السيد ناصر بن سليمان فقتل منهم كثيرا وغنم ثم رجعوا إلي مكة ومعهم بعض أهل حلي تائبين وطلبوا من الشريف أن يرسل معهم جيشا ففعل وأمر عليهم السيد منديل فبني علي حلي سورا وجعل فيها كثيرا من الذخائر خوف هجوم العدو وبعد ثمانية أشهر بلغه إقبال الوهابيين بأمرة رجل اسمه حشر وكان فاجرا ختالا وأرسلوا إلي شيخ حلي فاستمالوه علي أنهم متي خرجوا لقتالنا تمنعهم من الدخول فأخرج السيد منديل بعض رجاله لقتالهم وبقي هو في البلد في خمسين مقاتلا فنشب القتال وقتل من الفريقين جماعة وانهزم الوهابيون خديعة وجعلوا لهم كمينا فخرج علي جماعة الشريف وحجز بين الفريقين حر النهار وأظهر أهل حلي الخيانة فاضطر الشريف منديل إلي الخروج والرجوع إلي مكة (وبلغ) الشريف غالبا إن عربانا بساحل اليمن توهبوا فأرسل عليهم غزية بأمرة السيد

ص: 21

سعد القتادي فأغار علي دمينة وغامد الفرعاء وقتل فيهم ونهب وأسر تسعة عشر رجلا (وكان) وزير القنفذة أبو بكر بن عثمان أذاقهم الويل في قتاله لهم فاحتالوا علي قتله بأن أظهرت له الطاعة ثلاث قبائل وكاتبوه أن يأتيهم ليحاربوا معه الوهابيين وأضمروا القبض عليه إذا أتاهم فأقبل إليهم بمن معه من الجند فبادروه بالقتال فأظهره الله عليهم وقتل كثيرا منهم ونهب ثم اجتمع بعسكر السيد سعد وبلغه أن الوهابيين أقبلوا بجنود كثيرة وافترقوا فرقتين فتوجه في أثرهم فأقبلت فرقة تقاتل السيد سعدا فلما أشرفوا عليه عرفوا عجزهم فتركوه وأقبلت فرقة علي القنفذة فأدركهم الوزير بموضع يقال له دكان فأثخن فيهم القتل والنهب ولم يسلم منهم إلا القليل. (وفي أوائل سنة 1217) جمع معدي بن شار شيخ محائل اثني عشر ألفا وقصدوا القنفذة علي حين غفلة فخرج إليهم الوزير في سبعمائة رام وثلاثة عشر من الخيل فقتل منهم نحو الأربعمائة وجرح مائتين وأسر مائتين وهرب الباقون وأخذ سلاحهم ومواشيهم. وهذه الوقائع كانت في مدة الصلح لما وقع منهم من الغدر بإفسادهم القبائل حتي أفسدوا جميع إقليم اليمن وغيرهم (ولما) علم سعود أن إقليم اليمن سيصير تحت يده سلط سالم بن شكبان علي قبائل زهران فشرع في إفسادهم وسلط عربانه عليهم فلما علم بذلك الشريف أرسل كتابا لعبد العزيز وسعود يطالبهما بالوفاء بالعهد فأرسل كل منهما كتابا يعتذر بأعذار واهية وإن هذه الشوائع أكاذيب من العربان لأجل نقض الصلح فأرسل الشريف رسولا إلي زهران ليعرف الحقيقة فأخبره إن ما بلغه حق فأرسل إلي الدرعية زوج أخته عثمان بن عبد الرحمن المضايفي والشريف عبد المحسن وابن حميد شيخ المقطة وغيرهم لتجديد الصلح فوصلوا الدرعية وأعطوا الكتب لعبد العزيز فرحب بهم وغدر المضايفي فطلب من عبد العزيز أن يخلي له المجلس ففعل وطلب منه الإمارة ليملكه مكة وذكر له أسماء شيوخ القبائل التي يريد التأمر عليها فكتب لهم كتبا أنه قد أقامه أميرا عليهم وأمره علي الطائف وما حولها وكتب مع الوفد جوابا للشريف بمداهنة ظاهرية وهم لا علم لهم بما جري بينه وبين المضايفي إلا أنهم لما خرجوا من الدرعية أنكروا علي المضايفي مدحه لمذهب الوهابية فلما وصلوا العبيلاء وبينه وبين الطائف يوم وللمضايفي فيه حصن علي جبل فبقي فيه وقال لهم أجئ في أثركم ودخل الحصن ونصب بيرقا ودق الزير وأرسل الكتب لشيوخ القبائل

ص: 22

القريبة منه فأطاعوه وكان في الطائف الشريف عبد المعين وكيلا عن أخيه الشريف غالب فأرسل إليه المضايفي كتابا يدعوه فيه إلي التوهب وأول من أطاعه من القبائل الطفحة ثم النفعة والعصمة فغزا بهم علي الزوران فأطاعوه بعد قتال ثم غزا عوفا فكسروه ثم خرج علي العرج فهزمهم وأحرق دورهم ونهب مواشيهم فجمع الشريف غالب ما ينوف عن ثلاثة آلاف وأرسلهم إلي الطائف. هجوم الوهابيين علي الطائف سنة 1217 وخرج المضايفي من حصنه قاصدا الطائف فخرج إليه الشريف عبد المعين فاقتتلوا بوادي العرج تمام النهار فكان النصر للشريف عبد المعين وقتل من أصحاب المضايفي نحو الستين ولولا تحصنهم بالجبل ما سلم منهم أحد وأخذ ما معهم من إبل وذخائر وعاد إلي الطائف واستشهد من جماعة الشريف ثلاثة عشر ثم خرج إليهم الشريف غالب بنفسه قاصدا العبيلاء والتقي بأخيه عبد المعين وأحاطوا بالحصن ورموا عليه بالقنابر والمدافع فلم يقدروا عليه فرجعوا إلي الطائف ثم عادوا ثانيا فامتنع عليهم فعادوا إلي الطائف ثم خرج المضايفي ومن معه فأحاطوا بالطائف وجاءه مددا أمير بيشة سالم بن شكبان في عدد كثير ووقع القتال طول النهار وفي المساء تباعدوا عن السور وفي الصباح عادوا وتقاتلوا طول النهار وفي المساء عادوا إلي خيامهم بعدما قتل كثير منهم وفي تلك الليلة تفرق عن الشريف من معه من الأعراب وعالجهم علي البقاء فامتنعوا وظهر خلل في السور والأبراج وارتحل جماعة من الأشراف إلي مكة وفي الغد أخبر الشريف بذلك وقيل له إن المضايفي وابن شكبان يريدان التوجه بمن معهم إلي مكة فأرسل من يكشف الخبر فأخبره أنه رآهم نازلين من ريع التمارة فتحقق عنده الخبر فأعطي العسكر ومن بقي معه من البوادي لكل واحد عشرة مشاخصة وحرضهم علي القتال وتوجه هو إلي مكة عن طريق المثناة فوقع الفشل فيمن بالطائف وخرج رجل يسمي دخيل الله بن حريب فلحق بالوهابيين وأخبرهم بتوجه الشريف إلي مكة فرجعوا إلي الطائف وتقدمهم رجل من كبارهم يسمي عبد الله البويحيت مع دخيل الله وجاء إلي بيت إبراهيم الزرعة وهو من أعز أهل البلد وأغناهم فاتفق معه علي مبلغ من المال يدفعه لسلامة أهل البلد فخرج عبد الله ليأتيهم بالأمان فرماه بعض أهل الطائف برصاصة من منارة فقتله فلما علمت الوهابية بذلك حملوا علي السور ولم يوجد من يقدر علي منعهم.

ص: 23

دخول الوهابيين الطائف عنوة سنة 1217 وفظائعهم فيها فدخلوا البلد عنوة (1) في ذي القعدة سنة 1217 وقتلوا الناس قتلا عاما حتي الأطفال وكانوا يذبحون الطفل الرضيع علي صدر أمه وكان جماعة من أهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم وفتشوا علي من تواري في البيوت وقتلوه وقتلوا من في المساجد وهم في الصلاة ودخل نيف وعشرون رجلا إلي بيت الفتني ومائتا رجل إلي بيت الفعر وامتنعوا عن التسليم وقاتلوا ثلاثة أيام فراسلهم ابن شكبان بالأمان وقال أنتم في وجه ابن شكبان وعثمان وأعطوهم العهود فكفوا عن القتال فأرسلوا جماعة أخذوا منهم السلاح وقالوا لا يجوز للمشركين حمله ثم أمروهم بالخروج لمقابلة الأمير فأمر بقتلهم فقتلوا جميعا بقوز يسمي دقاق اللوز وكان في بيوت ذوي عيسي نحو الخمسين متترسين يرمون بالرصاص فأخرجوهم بالأمان علي النفس دون المال فسلبوهم وأخرجوهم إلي وادي وج وتركوهم فيه مشكوفي السوأتين ومعهم النساء حتي رموا عليهم اطمارا بالية ثم عاهدوهم بعد ثلاثة عشر يوما علي التوهب فصاروا يتكففون الناس فيعطي السائل الحفنة من الذرة يقضمها وصارت الأعراب تدخل كل يوم إلي الطائف وتنقل المنهوبات إلي الخارج حتي صارت كأمثال الجبال فأعطوا خمسها للأمير واقتسموا الباقي ونشروا المصاحف وكتب الحديث والفقه والنحو في الأزقة وأخبروا أن الأموال مدفونة في المخابئ فحفروا في موضع فوجدوا فيه مالا فعندها حفروا جميع بيوت البلد حتي بيوت الخلاء والبالوعات ثم ارتحل ابن شكبان وبقي عثمان أميرا علي الطائف وكتبوا إلي سعود يخبرونه بذلك فسر به سرورا عظيما وكان مبرزا بالدهناء مسير سبعة أيام عن الدرعية يريد غزو العراق. قصد الوهابية مكة سنة 1217 فسار مسرعا إلي الحجاز والتقي بابن شكبان وأصحابه فأعادهم معه فلما وصلوا العييناء

ص: 24


1- 9. أما الجبرتي فإنه قال: في أواخر سنة 1217 أغار الوهابيون علي الحجاز فلما قاربوا الطائف خرج إليهم الشريف غالب فهزموه فرجع إلي الطائف وأحرق داره وهرب إلي مكة فحاربوا الطائف ثلاثة أيام حتي دخلوها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال وهذا دأبهم مع من يحاربهم. وهدم المضايفي قبة ابن عباس بالطائف الغريبة الشكل والوصف. [

قرية علي ثلاث مراحل من مكة وبلغ خبرهم أهل مكة والحجاج الذين بها من الآفاق خافوا واضطربوا لا سيما لما سمعوا بما جري علي الطائف وكان ممن حج فيها إمام مسقط سلطان بن سعيد ونقيب المكلي وجاء أمير الحاج الشامي عبد الله باشا العظم وأمير الحاج المصري عثمان بك قرجي ومعهما العساكر الكثيرة وشاع يوم التروية أن سعودا نزل عرفة فخاف الناس ثم ظهر كذب ذلك فلم يأت سعود في وقت الحج لكثرة الحجاج كثرة لم يسبق مثلها وبعد تمام الحج نادي منادي الشريف أن يخرج الناس إلي الجهاد فخرج شريف باشا والي جدة بعساكره فتقهقر سعود يومين وجمع الشريف أمراء الحجوج وطلب منهم محاربة الوهابية فلم يوافقوه معتلين بعدم الذخائر فتعهد لهم بها مجانا فلم يقبلوا وقالوا نكاتبه فأن رجع وإلا نحاربه فكاتبوه فأجابهم بالتهديد فاضطربت آراؤهم فطلب الشريف ثانيا منهم محاربته وقال في ركوبنا عليه ناموس للدولة وتكفل بكل ما يحتاجونه فلم يقبلوا وأعادوا الرسل ثانيا فأجابهم كالأول وتهدد من أقام منهم بمكة فوق ثلاثة أيام فعزموا علي الرحيل وأعاد الشريف عليهم القول فلم يقبلوا فاجتمع أعيان مكة وذهبوا إلي أمير الحاج الشامي طالبين منه البقاء عشرة أيام فأبي وسافر خامس المحرم سنة 1218 وفي اليوم الثاني سافر أمير الحاج المصري ثم توجه شريف باشا إلي جدة وبقي الشريف غالب وحده فتوجه هو أيضا إلي جدة. " وقال الجبرتي " إن الشريف غالبا طلب من والي جدة وأمراء الحاج الشامي والمصري البقاء معه أياما لينقل ماله ومتاعه إلي جدة فأجابوه بعد أن بذل لهم مالا فبقوا معه اثني عشر يوما ثم ارتحلوا وارتحل بعد أن أحرق داره بمكة " انتهي ". فأرسل أخوه الشريف عبد المعين كتابا إلي سعود بطلب الأمان لأهل مكة وبذل الطاعة وأن يكون هو عامله فيها وذهب مع الرسول جماعة من أفاضل أهل مكة فاجتمعوا بسعود بوادي السيل علي مرحلتين من مكة فقال لهم إنما جئتكم لتعبدوا الله وحده وتهدموا الأصنام ولا تشركوا فقال بعض علمائهم والله ما عبدنا غير الله فمد يده وقال عاهدتكم علي دين الله ورسوله توالون من والاه وتعادون من عاداه والسمع والطاعة فعاهدوه فسر بذلك وأمر كاتبه فكتب لهم كتاب الأمان في كاغذ لا يزيد عن خمس أصابع فيه بعد البسملة: من سعود بن عبد العزيز إلي كافة أهل مكة والعلماء والأغوات

ص: 25

وقاضي السلطان السلام علي من اتبع الهدي (1) أما بعد فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه إنما ندعوكم لدين الله ورسوله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فأنتم في وجه الله ووجه أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام. فقرأه مفتي المالكية علي الناس بعد صلاة الجمعة. استيلاء الوهابية علي مكة بدون حرب سنة 1218 وفي ثامن المحرم وصل سعود (2) محرما فطاف وسعي ونحر من الإبل نحو المائة ونزل في بستان الشريف الذي في المحصب وفي اليوم الثاني لوصوله نادي مناديه باجتماع الناس غدا ضحوة النهار فاجتمعوا وصعد علي أعلي درج الصفا والمفتي عن يمينه والقاضي عن شماله فحمد الله وأثني عليه وقال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأنجز وعده وأعز جنده لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون الحمد لله الذي صدقنا وعده وسكت، " ثم قال " يا أهل مكة أنتم جيران بيته آمنون بأمنه وسكني حرمه وأنتم في خير بقعة اعلموا أن مكة حرام ما فيها لا يحتلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها وإنما أحلت ساعة من نهار وإنا كنا من أضعف العرب ولما أراد الله ظهور هذا الدين دعونا إليه وكل يهزأ بنا ويقاتلنا عليه وينهب مواشينا ونشتريها منهم ولم نزل ندعو الناس للإسلام وجميع من تراه عيونكم ومن تسمعون به من القبائل إنما أسلموا بهذا السيف ورفع سيفه تجاه الكعبة. وقد كنت في هذا العام غازيا نحو العراق فلما سمعت ما وقع من المسلمين بغزوة الطائف وأقبلوا عليكم يغزونكم خفت عليكم من العربان والبادية فاحمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك وأنا أدعوكم أن

ص: 26


1- 10. لم يكتب إليهم السلام عليكم لأنه لا يراهم مسلمين.
2- 11. الذي في تاريخ الجبرتي أن الواصل مع عسكر الوهابيين إلي مكة هو عبد العزيز بن سعود وإن دخولهم إليها كان يوم عاشورا سنة 1218 بعد ارتحال الحاج والشريف غالب بيومين قال فولي الشريف عبد المعين أميرا علي مكة والشيخ عقيلا قاضيا " انتهي " وفي رسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إن دخولهم مكة كان يوم السبت نصف النهار ثامن المحرم سنة 1318 وهو الصواب لأنه كان معهم.

تعبدوا الله وحده وتقلعوا عن الشرك الذي كنتم عليه وأطلب منكم أن تبايعوني علي دين الله ورسوله وتوالون من والاه وتعادون من عاداه في السراء والضراء والسمع والطاعة. ثم جلس فبايعه الشريف عبد المعين ثم المفتي ثم القاضي ثم بقية الناس علي طبقاتهم " ثم قال " انتظروني بعد صلاة العصر بين الركن والمقام لأبين لكم الدين وشرائط الإسلام ثم انصرف " فلما " كان العصر اجتمعوا فصعد علي ظهر زمزم ومعه المفتي فجعل يعلمه وهو يعلم الناس ويقول: إعلموا أيها الناس أن الأمير سعودا يقول لكم أن الخمر والزنا حرام " إلي آخر ما قال " مما لا يجهله أحد: ثم قال لهم: في غد اهدموا القبب والأصنام حتي لا يكون لكم معبود غير الله. هدم الوهابية القبور والقبب بمكة وحملهم الناس علي معتقداتهم سنة 1218 وفي الصباح بادر الوهابيون ومعهم كثير من الناس بالمساحي فهدموا أولا ما في المعلي من القبب وهي كثيرة ثم هدموا قبة مولد النبي " ص " ومولد أبي بكر وعلي وقبة السيدة خديجة " وفي تاريخ الجبرتي " أنهم هدموا أيضا قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي هي أعلي من الكعبة " انتهي " وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين فهدموها وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون ويبالغون في شتم القبور ويقولون إن هي إلا أسماء سميتموها حتي قيل إن بعضهم بال علي قبر السيد المحجوب " وأما " أهل مكة فمشوا معهم خوفا فما مضي ثلاثة أيام إلا ومحوا تلك الآثار " ثم " نادوا بإبطال تكرار صلاة الجماعة في المسجد وأن يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء من شاء وأن يصلي الجمعة المفتي " ثم " أمر بإحراق النارجيلات وآلات اللهو بعد كتابة أسماء أصحابها عليها ليعرف من أطاعه ووكل بذلك جماعة من قومه ومنع شرب التتن والتنباك وحمل الناس علي ترك الاستغاثة بالمخلوقين وبناء القباب علي القبور وتقبيل الأعتاب وغير ذلك مما يرونه بدعة أو شركا " وكان " ينزل من المحصب قبل الفجر ليحضر صلاة الصبح فسمع المؤذنين يؤذنون الأذان الأول ويصلون علي النبي " ص " ويقولون يا أرحم الراحمين ويترضون عن الصحابة فقال هذا شرك أكبر ومنعهم منه " ثم " أمر علماء مكة أن يدرسوا عقيدة محمد بن عبد الوهاب المسماة كشف الشبهات فلم تسعهم المخالفة ثم طلب قبائل العرب الذين حول مكة فبايعوه وأخذ منهم

ص: 27

أموالا كثيرة زعم أنها نكال ووضع في القلعة مائتين من بيشة وأمر عليهم فهيدا أخا سالم ابن شكبان. محاصرة الوهابية جدة ورجوعهم عنها " وأرسل " كتابا لأهل جدة يطلب دخولهم في طاعته فأجابوه بأنا رعية الشريف فطاعتنا من طاعته وإن أطعناك هل تطلب منا شيئا من المال فأرسل يطلب منهم مائتي ألف ريال وستين ألف مشخص ومن القماش ما قيمته ستة آلاف ريال ووجه من يقبض ذلك ثم توجه بجيوشه إلي جدة فاستعد له الشريف غالب بالمدافع والقلل فجعلوا يحملون علي السور وتشتتهم المدافع فينهزمون حتي قتل منهم خلق كثير فبقوا ثمانية أيام وجعل سعود يشتم عثمان المضايفي لأنه هو الذي أشار بمنازلة جدة ثم ارتحلوا إلي بلادهم ولم يدخلوا مكة " وقال " الجبرتي في سنة 1218 جاءت كتب إلي مصر من الشريف غالب وشريف باشا أن الوهابيين جلوا عن جدة ومكة لأنه بلغهم أن العجم زحفوا علي بلادهم الدرعية وملكوا بعضها " انتهي " فغزا الشريف غالب أهل الوادي فقتل وأسر وفر أميرها ثم عاد إلي جدة. وفي أيام إمارة الشريف عبد المعين علي مكة صارت العرب تقطع الطرق وتنهب في كل ناحية وليس عنده من الجند ما يدفعهم به. دخول الشريف غالب مكة وخروج الوهابيين من الحجاز سنة 1218 ثم إن الشريف غالبا عزم علي دخول مكة وإخراج من فيها من الوهابيين فتوجه من جدة ومعه شريف باشا والي جدة وكثير من العسكر وثلاثة مدافع منها مدفع كبير أهداه له إمام مسقط فنزل بالزاهر وأرسل العسكر والعبيد فأحاطوا بقلعة جياد وفيها الجند الذي خلفه سعود ودخل الشريف مكة ومعه شريف باشا ولم ينازعه الشريف عبد المعين وبقي الذين في القلعة محصورين ثم هربوا ليلا " وأقبلت " هذيل لمبايعة الشريف وطلبوا الأمان لثقيف فلم يعطهم الأمان حتي يفارقوا المضايفي فأظهرت ثقيف ذلك ثم نكثت. وجهز الشريف عسكرا لمحافظة الزيماء وجهز جماعة لمحاصرة الطائف فأحاطوا بها مع ثقيف وحاصروا عثمان أكثر من شهر وضيقوا عليه فأمده سعود بالجنود فارتحل المحاصرون إلي قرن ثم عادوا إلي مكة ثم أرسل الشريف جندا إلي قرن فجاءهم جند كثير من قبل عثمان فعادوا إلي مكة ودخلت ثقيف في طاعة عثمان فجهز الشريف عليهم

ص: 28

عسكرا فقتل منهم وأخذ حلتهم ومواشيهم ثم توجه المضايفي وابن شكبان لقتال هذيل الشام فقتلوا من هذيل وسلبوا النساء ثم أرسلوا إلي بني مسعود وهم في جبلهم ليتوهبوا فلم يقبلوا ووقع القتال فقتل بنو مسعود من الوهابية نحو السبعمائة ثم صعد الوهابية الجبل وقتلوا من أدركوه ثم نزلوا ونادوا بالأمان فعاد إليهم من بقي من بني مسعود فأخذ منهم ابن شكبان غرامة شيئا كثيرا. ثم غزا المضايفي الأشراف بني عمرو أهل اللفاع وقامت الحرب بينهم حتي قتل من الأشراف ستة وعشرون ونهبوهم وسلبوا نساءهم حتي جردوها من الثياب فطلبوا الأمان وتوهبوا ثم أقبل المضايفي وابن شكبان لحصار مكة فلما وصلوا السيل نهبوا كل ما في طريقهم من المواشي واقتسموه وكان أمير الحاج الشامي سليمان باشا مملوك أحمد باشا الجزار فطلب منه الشريف غالب إبقاء طائفة من العسكر لحماية البلد الحرام ويقوم الشريف بلوازمهم فأبي ثم قبل بواسطة أمين الصرة أن يبقي مائة وخمسين مع مائة وخمسين جملا بما عليها من لوازم القتال. محاصرة الوهابية جدة ثانيا ورجوعهم عنها ثم دخلت سنة 1219 وفيها في المحرم أقبل ابن شكبان والمضايفي باثني عشر ألف مقاتل لحصار جدة فأراد الشريف غالب تحصين مكة لعلمه بعدم قدرتهم علي جدة فنادي بالنفير العام فخرج الناس علي طبقاتهم إلي الزاهر حاملين السلاح وبقوا هناك سبع ليال أما الذين حاصروا جدة فبقوا ثلاثة أيام يحملون عليها حملة واحدة فيفرقهم المدفع ويقتل منهم فينهزمون إلي خيامهم حتي قتل الكثير منهم وامتلأت الحفر والقنوات من جيفهم وكانوا يدفنون العشرة والعشرين في محل واحد فلما رأوا ذلك ارتحلوا وقتل عثمان في طريقه حيا من الأعراب وأخذوا إبلا للشريف غالب فجهز الشريف جيشا إلي الليث من طريق البر بقيادة بعض الأشراف مع مائة من خيل الأتراك بقيادة حسين آغا وجيشا من طريق البحر معه عشر من الداوات الكبار مشحونة بالذخائر والمدافع الكبار بقيادة مفرح آغا عتيق الوزير ريحان فوصل جيش البحر إلي الليث وأطاعه أهله بغير قتال وتلاه جيش البر وبعد ثلاثة أيام هجم عليهم أربعة آلاف من الوهابية فكانت ملحمة عظيمة انجلت عن انهزام الوهابية وقتل كثير منهم واستشهد الشريف حسن أمير الجيش البري وجمع بعض الأتراك رؤوس الوهابيين وأرسلها إلي الشريف فعلقت خارج مكة وهرع

ص: 29

الناس للنظر إليها ثم جهز الشريف جيشا إلي الليث فلم يجدوا فيها أحدا ثم جهز جيشا آخر فيه من الأتراك نحو مائتين وخمسين فارسا وأمرهم أن يقيموا بالمدرة مرابطين فبقوا فيها ثلاثة أشهر وتغير الهواء علي الأتراك فمرضوا ورجع الكثير إلي مكة ولم يبق إلا أربعون فهجم عليهم المضايفي بغتة بأربعة آلاف مقاتل ونصر الله الأربعين علي الأربعة آلاف فهزموهم وقتلوا فيهم قتلا ذريعا حتي وصلوا إلي الزيماء هاربين وأرسل الشريف خلفهم مائتين من الخيل فلم تلحقهم وأنعم الشريف علي أولئك الأربعين (وجاءت الأخبار) أن عشرين من خيل الوهابية تصل إلي المغمس فتنهب إذا سنحت لها الفرصة من بادية الحرم فأرسل الشريف سرية فيها أربعة عشر فارسا وعشرون راميا فوصلوا إلي المغمس فلم يجدوا أحدا فلما اقبلوا علي سولة رأوا ما ينوف عن خمسمائة فوقع الحرب بينهم وانتصر ذلك العدد القليل علي الوهابية فأفنوا الكثير منهم وهزموهم هزيمة قبيحة وغنموا منهم وعادوا إلي مكة ومعهم الرؤوس علي الرماح. استيلاء الوهابية علي ينبع سنة 1219 وإخراجهم منها ثم إن بداي شيخ حرب وقومه توهبوا وحاصر هو وابن جبارة شيخ جهينة ينبع وأرسلا إبراهيم الرويتي إلي وزيرها محمد الحجري فخدعه وخوفه وصعب عليه الأمور ولم يكن عنده دراية بالحرب فطلب الأمان ولولا ذلك لم يقدروا عليه فدخلوا ينبع وقتلوا أهلها وتوجه وزيرها إلي جدة في البحر ثم أتي مكة ورمي عند الشريف بالخيانة فصلبه وتوجه الشريف إلي جدة وجهز عشر داوات كبارا بالذخائر والعساكر نصفها من عسكره ونصفها من الترك وفي أيام إقامته بجدة وصلها إبراهيم الرويتي فوجد معه أوراقا من بداي يفسد بها الرعية فأمر بصلبه فصلب ثلاثة أيام واستولي الجند المرسل إلي ينبع عليها بعد قتال ثلاثة أيام وقتلوا أصحاب ابن بداي قتلا ذريعا. محاصرة الشريف غالب الطائف وحروبه مع الوهابية ثم توجه الشريف غالب بعسكر عظيم وحاصر المضايفي في الطائف عشرة أيام ثم عاد إلي مكة وجاء عبد الوهاب أبو نقطة من قواد الوهابية إلي أرض اليمن حتي وصل الليث بجند كثير فخرج الشريف بجنوده إلي قتاله حتي أتي السعدية فوجد فيها جنود الوهابية

ص: 30

والتحم القتال فكان النصر أولا للشريف ثم انتصر الوهابية وقتل من الفريقين نحو الألفين لكن القتلي من الوهابية أكثر ثم انهزموا ولحقتهم خيل الشريف ثم عادوا إلي مكة ووصل المضايفي وابن شكبان إلي الزيما بجنود كثيرة ثم أتوا عرفة ودخل في دينهم بعض قريش وهذيل وقتلوا من لم يطعهم أو أسروه وهدموا عين زبيدة فقل الماء بمكة ثم انتقل كثير منهم إلي وادي مر وجعلوا ينهبون ويقتلون الوافدين إلي مكة. وجاء الحاج الشامي والمصري من طريق جدة وحج الناس ولم يحج أحد من الحجاز بسبب هذه الفتنة. محاصرة الوهابية مكة سنة 1219 والأعراب محاصرة مكة من جميع الجهات وكلم الشريف أمير الحاج الشامي إبراهيم باشا والي الشام أن يخرج لقتال الوهابية فأبي فطلب منه جمالا وعسكرا لإحضار القوت والذخيرة من جدة فوعد ثم أخلف (وجاء) ليلة خمسة فوارس وهو مقيم بالزاهر فصاحوا في أطراف العسكر وكبروا فخاف خوفا شديدا وكاتب المضايفي وصار يأتيه بعض الوهابية فيكرمهم ثم سافر فجر العشرين من ذي الحجة وأخذ معه العسكر الذي كان أبقاه أمير الحاج الشامي في السنة الماضية ولم يأذن له المضايفي في الرحيل حتي دفع له مائتي كيس فسكن الشريف روع أهل البلد وقام بحفظه بمن معه من الأعوان وترسه من الجوانب الأربعة. اشتداد الغلاء بمكة عام 1219 واشتد الغلاء والجوع لانقطاع الطرق وابتدأ من أواخر ذي الحجة سنة 19 واستمر إلي ذي القعدة سنة 20 فبلغت كيلة القمح والرز مشخصين والزبيب ثلاث ريالات ورطل السكر والشحم والزيت والبن واللحم والتمر ريالا والسمن ريالا ونصفا وباع أهل مكة جميع ما يملكونه بأبخس الأثمان ثم عدمت الأقوات بالكلية وأكل الناس الأدوية كبزر الخشخاش وزبيب الهوي والصمغ والنوي وبزر الحمر وشربوا الدم وأكلوا الجلود والسنانير والكلاب وكل حيوان. وكاتب جملة من الناس المضايفي وانسل بعضهم إليه ليلا وكاتبه بعض شيوخ العبيد الذين بيدهم القلعة فبلغ ذلك الشريف فسجن جماعة وقتل بعض شيوخ العبيد ودخل كثير من الأشراف في طاعة الوهابي.

ص: 31

تشديد الوهابية الحصار علي مكة وفي المحرم سنة 1220 ارتحل الوهابيون الذين بالوادي إلي أطراف مكة فقاتلهم العبيد الذين في أبراج حول مكة من الظهر إلي الغروب وقتل من الوهابيين سبعة فتوجه الوهابيون إلي الحسينية وأخذوا مواشيها وقتلوا من أهلها أحد عشر رجلا وتوجهوا إلي العابدية لأنه بلغهم أن العبيد تركوا الأبراج وجاؤا إلي مكة لطلب الزاد فبلغ ذلك الشريف فأعادهم في الحال وأمدهم بمثلهم فسبقوا الوهابيين إليها ثم ارتحل المضايفي وابن شكبان بعدما بنوا حصنا بالمدرة وتركوا فيه حامية وكان قد بايعهم أكثر العربان الذين بأطراف مكة فأمروهم بقطع الجلب عن مكة فاجتهد الشريف في جمع الجمال وأرسلها إلي جدة لتأتي بالأقوات ومعها مائة فارس وعدد غيرهم وخرج معهم كثير من أهل مكة فرارا من الجوع حتي بلغ كراء الجمل سبعين قرشا إلي ثمانين وبلغ الشريف خروج بعض الوهابية عليهم فأمدهم بمائة فارس وجاء الخبر أن الذاهبين أولا خرج عليهم ثلاثة فرسان كانوا جواسيس ثم ظهر نحو عشرين فقتلوا بعضهم وفر الباقون ولما بلغوا المنتجي وهو جبل وجدوا في حصنه سبعة من الوهابيين فقتلوهم وجاؤا برؤوسهم إلي جدة ووردت أغنام إلي جدة فنهبها الوهابيون ثم رجعت القافلة إلي مكة وبلغ كراء البعير ثلاثين ريالا ثم أعاد الشريف القافلة إلي جدة مخفورة فذهبت وعادت سالمة ثم أعادها ثالثا ورابعا وخرج معها في المرة الرابعة من أهل مكة نحو ثلاثة آلاف ثم انقطع الطريق بالكلية وأحاطت الوهابية بمكة من جميع جوانبها فبقوا علي ذلك شعبان ورمضان ثم أرسل الشريف جيشا علي قوم من لحيان توهبوا فقتل منهم ثلاثة وأخذ خمسين بعيرا وفر الباقون. ثم جهز جيشا علي المناعمة والمطارفة فولوا هاربين وغنموا منهم ثم جهز جيشا مكمل العدة ومعهم مدفع كبير علي حصن المدرة وفيه جماعة من الوهابية فأحاطوا به ورموه بالقنابل وجاء مدد لمن فيه فطردهم عسكر الشريف وأرسل لهم الشريف مدفعا آخر وجاء قوم يريدون دخول الحصن فقاتلهم العسكر فانهزموا ثم هجموا علي الحصن ووصل الترك إلي بابه فوجدوا عليه عشرة فقتلوا ستة وفر أربعة وأمدهم الشريف بمائتين مع مدفع ثم بلغهم أن المضايفي أمد أهل الحصن بثلاثة آلاف فعملوا متاريس فلما أقبلوا رموهم بالمدفع وقاتلوهم إلي آخر النهار فقتل من جيش المضايفي نحو الخمسين ولم يقتل أحد من جيش الشريف. وفي الليل أشار عليهم بعض

ص: 32

من خالطه الخوف بالعودة إلي مكة فعادوا فأدركتهم خيل الوهابية قبل دخول مكة ففر بعضهم وثبت البعض ووقعت بينهم ملحمة قتل فيها من عسكر الشريف عشرة ومن الوهابية جماعة من المشهورين وغنم عسكر الشريف منهم خيلا. ثم وصل سالم بن شكبان الطائف بخمسمائة واستقبله المضايفي وخيموا قرب جبال بني سفيان وأرسلوا إليهم وتهددوهم فأطاعوهم خوفا وجاءت مشايخهم إلي المضايفي وابن شكبان فطوقوهم بالحديد ووضعوا علي كل سفياني عشرين ريالا وأخذوا سلاحهم فلما سمعت هذيل طلبت الأمان وحملت ما طلبوه من المال فقالوا لهم قد صح إسلامكم فقاتلوا أهل مكة المشركين وانزلوا من جبالكم واسكنوا تهامة وامنعوا القوت عن مكة فبلغ ذلك الشريف فأمر ببناء أبراج في الحسينية ثم ارتحل ابن شكبان والمضايفي. وبلغ الشريف أن الوهابية تريد أخذ القافلة الواردة من جدة فجهز جيشا لحمايتها وأصبح الجيش بالركابي فما ملؤا القرب حتي جاءهم الوهابية ووقع القتال علي ظهور الخيل وصعد ثلاثون من عبيد الشريف علي جبل وجعلوا يرمون بالبنادق فقتلوا عدة وانهزم الوهابيون وقتل أميرهم وقتل منهم جماعة مع ثمان من الخيل ونهبت بعض خيلهم ثم أحاط جماعة منهم بالعبيد الذين في الجبل ووقع بينهم القتال فقتل من الوهابيين سبعون ومن العبيد خمسة وعشرون وسلمت القافلة. ثم جمع سعود أمراءه منهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير وسالم بن شكبان أمير بيشة وعثمان المضايفي أمير الطائف وغيرهم وأمرهم بحصار مكة من جميع الجهات ومنع الأقوات عنها. فجاء المضايفي بخمسة آلاف وخيم في المضيق وأرسل عشرين فارسا يركضون فكبروا وطلبوا البراز فطلبتهم خيل الشريف ففروا. محاصرة الوهابيين جدة وقطعهم الطرقات عنها وعن مكة واشتداد الغلاء سنة 1220 ثم قصد جدة وأحاطوا بالسور ومعهم السلالم والمعاول فأبعدتهم حامية السور بالبندق والمدفع وقتلوا كثيرا منهم فانهزموا ثم ارتحلوا إلي المدرة وطلب المضايفي باقي العربان ورتبهم لقطع الطرقات: طريق جدة واليمن ووادي نعمان وحصن المدرة وانتقل هو

ص: 33

وأصحابه إلي طريق جدة يقتلون ويأسرون من يمر بهم من الحجاج وغيرهم وينادونهم يا مشركون ثم أمر أربعين من هذيل أن يكونوا بين مكة والحسينية يقطعون الطريق فأخذوا أربعة من أصحاب الشريف ومنعوا الناس من الاعتمار من التنعيم وقتلوا بعض المعتمرين عند الزاهر ثم ارتحل المضايفي من طريق جدة إلي الحسينية فجهز الشريف جماعة فالتقوا بهم بأسفل مكة ووقع القتال فانهزم الوهابيون وقتل منهم جماعة وقتل من جماعة الشريف السيد فواز الحسيني أمير المدينة وعاد أصحاب المضايفي إلي الحسينية فحاربوا من فيها يومين وملكوها وأرسل المضايفي يبشر سعودا بذلك وجاء ابن شكبان بزهاء خمسة آلاف وأبو نقطة بنحو عشرة آلاف فتكاملوا في الحسينية ثلاثين ألفا فاشتد الكرب علي أهل مكة وزاد الغلاء حتي بلغت الكيلة من القمح والرز مشخصين ومن الزبيب ثلاث ريالات ورطل السكر والشحم والزيت ريالين والسمن والعسل ريالين ونصفا والتمر والبن ريالا واللحم نصف ريال والتنباك ستة ريالات ونصفا ونفدت النقود فاشتروا بالأثاث والحلي وباعوا ما قيمته مائة بعشرة واشتروا ما قيمته عشرة بمائة وأكلوا الجلود البالية والمطاط بعد حرقها بالنار والسنانير والكلاب وكل حيوان وشربوا الدم وأكلوا نباتا يسمي الاخريط فأثر فيهم ورما ثم يموتون وفنيت الأقوات فأكل الناس العقاقير والأدوية كما فعلوا سنة 1219 ومات كثير بالجوع وبعضهم مات وهو يمشي وتري الأطفال موتي في كل زقاق فهرع الناس إلي الحسينية من الطرق الصعبة خوفا من السطوة بهم فمنهم قتل ومنهم مات جوعا ومنهم وصل محمولا ولم يبقي بمكة إلا القليل ولا يتكامل الصف الأول عند الصلاة في المسجد الحرام وأغلقت الحوانيت. صلح الوهابية مع الشريف غالب سنة 1220 وجاء من الحسينية عبد الرحمن بن نامي أحد علماء الوهابية وتذاكر مع الشريف في الصلح علي أن يأذن لهم في الحج ثم يرجعوا لبلادهم ويدخل الناس في الطاعة ويكون حكم مكة للشريف وشرط عليهم إعادة الحسينية وغرامة ما ذهب فيها من نفوس وأموال وغير ذلك مما رأي فيه الصلاح والرفق بأهل مكة وأن يخبروا سعودا بالصلح وينتظروا الجواب فدخلوا مكة وعاد إليها أهلها وتنازلت الأسعار وحج الوهابية وجعلوا يركضون في الطواف ويشيرون إلي الحجر الأسود بالمشاعيب والبواكير ووصل الحاج الشامي وأميراه

ص: 34

عبد الله باشا ومعه قوة زائدة عن العادة نحو ألف وخمسمائة خيال وقال سعود (1) لأميري الحاج الشامي والمصري ما هذه العويدات التي تأتون بها وتعظمونها يعني المحمل فقالوا جرت العادة بذلك علامة لاجتماع الحجاج فتوعدهم بتكسيرها إن جاؤوا بها ثانيا وشرط أن لا يأتوا بالطبل والزمر وأقام الوهابيون إلي حادي عشر المحرم سنة 1221 ثم ارتحلوا وأصيبوا مدة مقامهم بمكة بالجدري فمات كثير منهم حتي صاروا يدفنون في الحفرة الواحدة جماعة وكان الكثير منهم مدة إقامتهم بمكة يؤجرون أنفسهم لأهل مكة للاحتطاب وحمل القمائم ونزح المراحيض وغير ذلك وفي افتتاح هذه السنة وجه الشريف عماله علي الأقطار فأرسل وزيرا إلي ينبع وأرسل مائتين من الأتراك إلي سواكن ومثلها إلي مصوع ونزل هو إلي جدة ورتب أمورها وأمر بإصلاح السور وعمارة الخندق وبناء برج علي باب البوغاز المسمي بالعلم يمنع الداخل إلي المرسي أن قصده عنوة ثم وصل من الدرعية عشرون رجلا فيهم حمد بن ناصر أحد علمائهم وكان الشريف بجدة فأعطوه كتبا من سعود فيها إتمام أمر الصلح ونزل حمد إلي مسجد عكاش وجمع الناس وقرأ عليهم رسالة محمد بن عبد الوهاب التي يكفر فيها المسلمين وقبل الشريف بمنع جميع الأمور التي يعتقد الوهابية منعها، مرغما علي ذلك فأمر بهدم القباب وترك شرب التنباك وعدم بيعه وبدخول الناس المسجد عند سماع الأذان لصلاة الجماعة وبتدريس رسائل ابن عبد الوهاب وترك تكرير الجماعة في المسجد الحرام والاقتصار علي الأذان في المنائر وترك التسليم والتذكير والترحيم وأبطل ضرب نوبته ونوبة والي جدة فتوجه حمد بن ناصر إلي الدرعية يخبرهم بذلك وأرسل الشريف معه رسولا فرجع بالجواب والشريف باق بجدة فأعاد الجواب لهم وفي مدة غيابه في جدة وقعت فتنة بين الأتراك والعبيد فحضر إلي مكة واطفأها وعاقب من كان سببها فلما بلغ خبرها المضايفي فرح وذهب من الطائف إلي الدرعية ليخبر سعودا بذلك ويشنع علي الشريف فلم يصادف قبولا عند سعود فرجع وأمر العربان بقطع الطرق مشاقة للشريف وكان سعود أعطاه إمارة العربان فارتفعت

ص: 35


1- 12. وقال الجبرتي إن سعودا في سنة 1222 توعد بحرق المحمل إن جئ به ثانيا وصاحب خلاصة الكلام قال إن ذلك كان سنة 20 كما سمعت مع أنه لم يظهر من كلامه إن سعودا حج تلك السنة بل ظاهره إنه لم يحج.

الأسعار بمكة لانقطاع الطرق فأخبر الشريف سعودا بذلك فأرسل إلي عثمان ومنعه فعاد الأمن وتراخت الأسعار ثم أمر الشريف ببناء حصن علي رأس جبل الهندي وحصنه بالرجال والذخائر وكان مدة استيلائهم علي مكة يصانعهم ويهدي لهم الأموال الجزيلة وكانت هداياه تصل إلي أكثر أمرائهم وعلمائهم وأعوانهم محافظة علي نفسه وعلي أهل مكة وكان سعود وكثير من أمرائهم يحجون كل سنة بجنود كثيرة فيكرمهم الشريف ويهئ لهم الضيافات الكثيرة ومع ذلك كان يكاتب الدولة العثمانية سرا ويحثها علي تعجيل تجهيز العساكر لإنقاذ الحرمين من الوهابية. وفي خلاصة الكلام: في هذه السنة كان أمير الحاج الشامي عبد الله باشا فلما وصل منزل هدية جاءه من الوهابي لا تأت إلا علي ما شرطنا عليك في العام الماضي فرجع الحاج من هدية لم يحجوا أما المحمل المصري فأمر سعود بإحراقه ونادي مناديه بعد انقضاء الحج أن لا يأتي إلي الحرمين بعد هذا العام من يكون حليق الذقن وتلا في المناداة (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) فانقطع مجئ الحاج الشامي والمصري من هذا العام (1) نهب الوهابية ذخائر الحجرة النبوية وهدم القباب بالمدينة المنورة سنة 1221 وفيها أخذ الوهابي كل ما في الحجرة النبوية من الأموال والجواهر وطرد قاضيي مكة والمدينة وأقام لقضاء مكة الشيخ عبد الحفيظ ولقضاء المدينة بعض علمائها ومنعوا الناس من زيارة النبي (ص). وقال الجبرتي: لما استولي الوهابيون علي المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة لكنهم لم يهدموا قبة النبي (ص) وحملوا الناس علي ما حملوهم عليه بمكة وأخذوا جميع ذخائر الحجرة النبوية وجواهرها حتي أنهم ملؤا أربع سحاحير من الجواهر المحلاة بالماس والياقوت العظيمة القدر ومن ذلك أربع شمعدانات من الزمرد

ص: 36


1- 13. هذا يدل علي أنه منع غير الوهابيين من الحاج مطلقا ويدل عليه كلام بعض المؤرخين لأنه يري أن جميع من ليس وهابيا مشركون وممن صرح بأن سعودا منع الناس عن الحج محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد علي ما حكي عنه وهو غير متهم في حق الوهابيين. - المؤلف -.

وبدل الشمعة قطعة ماس تضئ في الظلام ونحو مائة سيف لا تقوم قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ماس وياقوت ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك ونصلها من الحديد الموصوف وعليها أسماء الملوك والخلفاء السالفين. وطرد الوهابية أغوات الحرم والقاضي الذي كان قد توجه لقضاء المدينة واسمه سعد بك وخدام الحرم المكي وقاضي مكة فتوجه مع الشاميين. وقال الجبرتي في حوادث سنة 1222 في هذه السنة أخبر الحجاج المصريون أنهم منعوا من زيارة المدينة المنورة. انقطاع الحج من مصر والشام والعراق قال العلامة السيد جواد العاملي في حوادث سنة 1222 إنه تعطل الحج ثلاث سنين كما مر فيكون ابتداء انقطاعه من العراق سنة 1220 وذكر الجبرتي في حوادث سنة 1222 أن منها انقطاع الحج الشامي والمصري (أقول) وكان ابتداء انقطاع الحج من الشام في سنة 1221 ومن مصر في سنة 1222 كما مر فيظهر أن الحج انقطع من العراق أربع سنين ومن الشام ثلاث سنين ومن مصر سنتين ولا يعلم هل انقطع بعد ذلك أو لا. هجوم الوهابيين علي سورية سنة 1225 عن تاريخ الأمير حيدر الشهابي أنه في هذه السنة هجم عبد الله بن سعود الوهابي علي بلاد حوران فنهب الأموال وأحرق الغلال وقتل الأنفس البريئة وسبي النساء وقتل الأطفال وهدم المنازل وعاث في الأرض فسادا حتي قيل إنه أتلف في تلك البلاد ما قيمته ثلاثة آلاف ألف درهم. وفي خلاصة الكلام أنه في هذه السنة أرسل الوهابيون جيشا إلي ناحية الشام فتوجه يوسف باشا المعدني إلي جهة المزيريب وحصن قلعتها واستعد لهم بجيش وحاربوهم وطردوهم.

في محاربة محمد علي باشا للوهابيين

ونأخذ ذلك من تاريخ الجبرتي وخلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام لأحمد بن زيني دحلان: في سنة 1218 أرسلت الدولة العثمانية إلي محمد علي باشا والي مصر أن يرسل أربعة آلاف عسكري إلي الحجاز لمحاربة الوهابية وأنهم أرسلوا من جهة بغداد أربع بشوات مع

ص: 37

العساكر وأرسلوا إلي أحمد باشا الجزار والي عكا بالتوجه لمحاربتهم وفي سنتي 1222 و 23 أرسلت تحثه فاعتذر بأن هذا الأمر لا يتم بالعجلة ويحتاج إلي الاستعداد وفي سنة 1224 أرسلت له بذلك وأن يوسف باشا المعدني تعين للسفر إلي الحرمين عن طريق الشام وسليمان باشا والي بغداد تعين للسفر من ناحيته علي الدرعية وفي سنة 1225 حضر عيسي آغا من قبل الدولة العثمانية إلي الإسكندرية ومعه مهمات وآلات مراكب ولوازم حرب لسفر الحجاز ومحاربة الوهابية وفي سنة 1226 اهتم محمد علي باشا بأمر الحجاز وإرسال العساكر إليه فسافر إلي السويس وحجز المراكب وكان عمل قبل ذلك مراكب بالسويس لهذا الغرض وأمر بعمل مراكب كبار لحمل الخيول ثم قلد ابنه طوسون باشا ساري عسكر الحجاز وعسكروا خارج مصر (1) ثم سافر طوسون في شهر رمضان من هذه السنة مع قسم من العسكر عن طريق البحر ومعه رئيس التجار السيد محمد المحروقي وأوصاه أبوه بالأخذ برأيه ومن العلماء الشيخ المهدي والسيد أحمد الطحطاوي وسافر القسم الآخر من العسكر عن طريق البر وكان الشريف غالب يراسل محمد علي باشا ويعده معاونة عساكره والمذكور أيضا يراسله فلما وصلت العساكر البحرية إلي ينبع البحر لم يعطوهم ماء ومنعهم المرابطون عند العين ورموا عليهم من القلعة بالمدافع والرصاص فأحاطوا بها وضربوا عليها بالقنابل وصعدوا إليها بالسلالم غير مبالين بالرصاص النازل عليهم فملكوها وقتلوا من بها سوي سبعة هربوا علي خيولهم منهم وزير الشريف ونهبت ينبع وسبيت نساؤها علي رواية الجبرتي وأرسل بعض الرؤوس إلي مصر ووصلت العساكر البرية إلي المويلح ثم اجتمعت بعساكر البحر وأخذوا ينبع البر بلا قتال وأتتهم العربان أفواجا فخلع عليهم طوسون ثم ملكوا قرية السويق قرية ابن جبارة وفر هاربا. واجتمع جماعة من كبار الوهابية فيهم عبد بن سعود والمضايفي في نحو من سبعة آلاف فارس عدي الرجالة وقصدوا تبييت العسكر فنذر بهم وخرج إليهم شديد شيخ الحويطات بفرسانه وطائفة من العسكر

ص: 38


1- 14. وبهذه الواسطة احتال علي أمراء المماليك وقتلهم فإنه عمل موكبا عظيما لتجهيز العساكر وخروجها إلي الحجاز حضره أمراء المماليك وكان قد أسر إلي بعض أمرائه بقتلهم فلما توسطوا الموكب أغلقوا الأبواب أمامهم ووراءهم وقتلوهم عن آخرهم ولم يسلم منهم إلا من لم يحضر فبقي شريدا وصفت له مصر بقتلهم لأنهم كانوا أمراءها وينازعونه الملك.

فوافاهم قبل شروق الشمس ووقع القتال والوهابية ينادون هاه يا مشركون فانهزمت الوهابية وغنموا منهم سبعين هجينا وكانت الحرب بقدر ساعتين ثم انتقل العسكر إلي الصفراء والجديدة واجتمع مع الوهابية كثير من قبائل العرب فوقع القتال ثالث عشر ذي القعدة ووجد العسكر المصري متاريس فحاربوا عليها حتي أخذوها وصعدوا إلي الجبال فهالهم كثرة جيش الوهابية وسارت الخيل في مضيق الجبال وبقيت الحرب في أعاليها يوما وليلة فما شعر السفلانيون إلا والذين في الأعالي هابطون منهزمين فانهزموا جميعا وتركوا خيامهم وأثقالهم وساروا طالبين السفن التي كانوا أعدوها بساحل البريك احتياطا ووقع في قلوبهم الرعب وظنوا أن الوهابيين في أثرهم والحال أنهم لم يتبعوهم فازدحموا علي السفن وذهب كثير منهم مشاة إلي ينبع البحر ورجع طوسون وخاصته والخيالة إلي ينبع البحر فبقوا فيها خمسة وعشرين يوما وبعد الإذن من محمد علي باشا حضر طوسون ومن معه إلي مصر ومعهم العلماء والمحروقي في أوائل سنة 1227 فسخط محمد علي باشا علي العسكر وطرد الذين جاؤوا بغير إذن ولم يثنه ما وقع عن عزمه وشرع في تجهيز جيش آخر فبعث عسكرا من طريق البحر مع خزانداره الملقب بونابرته وأمره أن يكون هو وطوسوس في ينبع لمحافظتها وأرسل عسكرا مع صالح آغا إلي ينبع عن طريق البر وسافر عدة من عسكر المغاربة والعثمانيين إلي ينبع وجاءت عساكر كثيرة من الأتراك وعينت للسفر وقام هو بلوازمهم وصار يوالي إرسال العساكر برا وبحرا وأظهر العزم علي السفر بنفسه إلي الحجاز فاجتمعت العساكر في ينبع ومعهم صناديق الأموال فأخذوا في تألف العربان واستمالتهم بالمال واستولت عساكر الأتراك علي عقبة الصفراء والجديدة بدون حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة الذي كان يكاتبهم سرا ويكاتبونه ويعملون بتدبيره ولم يجدوا بها أحدا من الوهابيين ثم وصلت عساكر الأتراك إلي المدينة المنورة ونزلوا بفنائها ثم إن كبراء العرب الذين استمالوهم ومنهم شيخ الحويطات أخبروا أن الهزيمة السابقة كانت من مقاتلة عرب حرب والصفراء المتوهبين وأنهم مجهودون والوهابية لا يعطونهم شيئا ويقولون قاتلوا عن دينكم وبلادكم فإذا بذلت لهم الأموال صاروا معكم وملكوكم البلاد فأرسل محمد علي بعض أمرائه ومعه صناديق الأموال والكسوة وأشاع الخروج بنفسه واستمر علي إرسال النجدات وهو معسكر خارج باب النصر دائب علي

ص: 39

تعليم العساكر يومي الاثنين والخميس فوصل الأمير ينبع البر وذهب شيخ الحويطات وجماعة إلي شيخ حرب ولم يزالوا به حتي وافقهم وجاؤا به إليه فأكرمه وخلع عليه وعلي شيوخ العربان فألبسهم الفرو والكسوة وشالات الكشمير وصب عليهم الأموال وأعطي شيخ حرب مائة ألف ريال فرانسة فرقها علي عشيرته وخصه بثمانية عشر ألف ريال ورتب لهم العلوفات والمؤن ونقودا في كل شهر فأدخلوهم المدينة المنورة فاخرجوا من فيها من الوهابية واستولوا علي قلعتها ونزل متولي القلعة من قبل الوهابية واسمه مضيان أو ابن مضيان علي حكمهم فأرسلوه إلي مصر فأرسله محمد علي إلي إسلامبول فقتلوه وعلقوه علي باب السراية وجاء جماعة إلي مصر معهم مفاتيح المدينة فزينت مصر وأرسل محمد علي المفاتيح إلي إسلامبول وأرسل البشائر إلي كافة بلاد الإسلام وحج سعود في هذا العام ثم رجع إلي بلاده مسرعا وكاتب الشريف العساكر الذين في ينبع فحضرت منهم طائفة إلي جدة من طريق البحر في المحرم سنة 1228 وملكوها بدون قتال وكان في قلعة مكة جماعة من الوهابية يسمونهم المهاجرين فلما بلغهم وصول العساكر إلي جدة هربوا ليلا وتوجه بعض عسكر جدة إلي مكة فأكرمهم الشريف ولما بلغ ذلك وهابية الطائف استولي عليهم الرعب فهربوا مع أميرهم المضايفي ووصلت البشائر إلي مصر فزينت خمسة أيام وأرسل محمد علي بشيرا إلي إسلامبول اسمه لطيف آغا فتلقاه أعيان الدولة في موكب عظيم ومعه مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف وقد وضعوها علي صفائح الذهب والفضة إمامها البخور في مجامر الذهب والفضة وخلفها الطبول والزمور وضربوا لذلك مدافع وأنعم عليه السلطان وكبراء الدولة وسمي لطيف باشا وأنعمت الدولة علي محمد علي وأهدته خنجرين وسيفا مجوهرة وعدة اطواخ بالباشوية لمن يريده وسأل الشريف مفتي المالكية الشيخ عبد الملك القلعي هل جعلتم تاريخا لانقضاء مدة الوهابية فقال " قطع دابر الخوارج " 1227 وأرسل محمد علي باشا ولده إسماعيل باشا إلي إسلامبول بالبشارة فأكرمته الدولة ثم عاد إلي مصر وبعد استقرار العساكر بمكة والطائف شنوا الغارات علي طوائف الوهابية القريبين من الطائف حتي قتلوا كثيرا منهم وفرقوا جموعهم. القبض علي المضايفي ثم قبضوا علي المضايفي بناحية الطائف وكان قد جرد علي (؟) إليه الشريف

ص: 40

غالب مع عساكر الأتراك والعربان ووقع الحرب وأصيب جواده وأصابته جراحة فنزل إلي الأرض واختلط بالعسكر فلم يعرفوه وارتفع الحرب بنزوله ثم خرج عنهم وسار نحو أربع ساعات فصادفه جند الشريف فقبضوا عليه فجعل الشريف في عنقه زنجيرا وكان المضايفي زوج أخت الشريف فاستاء منه وانضم إلي الوهابيين فكان أعظم أعوانهم وهو الذي كان يحارب لهم ويجمع قبائل العرب ويدعوهم عدة سنين ويوجه السرايا وهو الذي فتح الطائف وهو المحارب مع عرب حرب بناحية الصفراء الذي هزم عساكر طوسون وشتتهم كما مر وكان فصيحا متأنيا في الكلام عليه آثار الإمارة ومعرفة مواقع الكلام ثم أرسلوه إلي جدة ومنها إلي مصر والزنجير في عنقه وجاءت البشارة إلي محمد علي بالقبض علي المضايفي وقد تهيأ للسفر إلي الحجاز فوصل جدة في أواخر شوال سنة 1228 وكانوا أرسلوا المضايفي فلم يره وبعد وصول المضايفي إلي مصر بثلاثة أيام أرسلوه مع ابن مضيان إلي إسلامبول فطافوا بهما فيها ثم قتلوهما. ولما وصل محمد علي باشا إلي جدة واجتمع بولده طوسون حضر الشريف غالب لمقابلته وجاءته رسل سعود الوهابي فقالوا الأمير سعود يطلب الافراج عن المضايفي ويفتديه بمائة ألف ريال فرانسة ويريد الصلح فقال أما المضايفي فأرسل إلي إسلامبول وأما الصلح فلا نأباه بشرط دفع كل ما صرفناه علي العساكر من ابتداء الحرب إلي اليوم وإرجاع كل ما أخذه من ذخائر الحجرة النبوية ودفع ثمن ما استهلك منها وأن يأتي إلي لأتعاهد معه ويتم صلحنا وإن أبي فنحن ذاهبون إليه فقالوا أكتب له كتابا فقال لا أكتب لأنه لم يرسل معكم كتابا فكما جئتم بمجرد الكلام فعودوا به فلما أرادوا الانصراف جمع العساكر ونصبوا ميدان الحرب والرمي من البنادق والمدافع ليري الرسل ذلك. ثم توجه محمد علي إلي مكة فاحتفل به الشريف غاية الاحتفال وبالغ في ضيافته وإكرامه مع شدة التحذر منه وأنزله وولده طوسون كلا في دار وكان الباشا يعظم الشريف غاية التعظيم ويقبل يده وتعاهد معه في جوف الكعبة علي الوفاء وعدم الخيانة من الطرفين ومن تحذره منه إن حسن له توجه العساكر من جدة إلي الطائف بدون دخول مكة لئلا يحصل ضيق في الماء لكثرة الحاج ففعل ولم يكن مع الباشا في مكة من العساكر إلا قليل وكان عند الشريف عساكر موظفون نحو الألفين متفرقين قلقات في أطراف مكة

ص: 41

ومن العبيد نحو الألف في القلاع ولكن إذا جاء القدر لم ينفع الحذر. القبض علي الشريف غالب وكان محمد علي باشا مأمورا من السلطنة بالقبض علي الشريف غالب فتحير في ذلك لتحذر الشريف منه ولما بينهما من العهود فرأي أن يقبض عليه ابنه طوسون تخلصا من خلف العهد بزعمه فأظهر أن بينه وبين ابنه منافرة وذهب ابنه لجدة مظهرا أنه مغاضب لأبيه وكتب إلي الشريف أن يشفع له عنده ففعل فكتب الشريف إليه بالحضور فحضر وذهب الشريف للسلام عليه وليأخذه إلي أبيه فلما وصل إلي بيت طوسون وجد أكثر العساكر مجتمعة فلم ينكر ذلك لظنه أنهم جاؤوا للسلام فدخل علي طوسون وتفرق أتباعه في الدهليز وقبل طوسون يده وعظمه ومنع الناس من الدخول علي العادة ثم دخل عابدين بك من كبار العسكر فقبل يد الشريف وقبض علي الجنبية ليأخذها من وسطه وقال أنت مطلوب للدولة فلم يجد بدا من التسليم فقال سمعا وطاعة أقضي أشغالي في ثلاثة أيام ثم أتوجه فقال لا سبيل إلي ذلك وأدخلوه إلي بيت آخر ولا يعلم أحد بشئ وذلك في أواخر ذي القعدة من سنة 1228 ومكة مملؤة بالحجاج وأرسل طوسون إلي أبيه يعلمه بذلك فاستشار الشيخ أحمد تركي الذي كانت هذه الحيلة بتدبيره وهو مطوف ذو عقل ودهاء وكان من المختصين بالشريف ويعتمد عليه في المهمات ويبعثه إلي دار السلطنة فلما قدم محمد علي الحجاز جعله ملازما له فوجده محمد علي ذا خبرة ودراية فقربه وصار يستشيره ولما رجع إلي مصر أمر نائبه بمكة باستشارته فقال إن الشريف له ثلاثة أولاد كبار فيخشي أن يحدثوا فتنة والقلاع بأيدي عبيدهم وعندهم عساكر موظفة فلا بد من الاحتيال للقبض عليهم فذهب الشيخ أحمد إلي الشريف غالب وقبل يده وقال افندينا يسلم عليكم ويقول لا تهتموا والقصد أن تقابلوا مولانا السلطان وترجعوا إلي ملككم ويكون مدة غيابكم أحد أولادكم نائبا عنكم فاطلبوهم واخبروهم بالحقيقة ليطمئنوا فصدقه وأمر بكتابة ورقة لهم ليحضروا وختمها فحضروا وقبض عليهم وقيل بل أرادوا الحرب لما علموا فتهددهم الباشا وأرسل إليهم الشريف فمنعهم عن ذلك وخدعهم الشيخ أحمد تركي فقال ليس علي أبيكم بأس إنما هو مطلوب في مشاورة مع الدولة ويعود بالسلامة والباشا يريد أن يولي كبيركم نيابة عن أبيه حتي يرجع فانخدعوا وقاموا معه والله أعلم. وأشار الشيخ أحمد بتولية

ص: 42

الشريف يحيي ابن أخي الشريف غالب إمارة مكة قبل شيوع الخبر فأحضروه وألبسه محمد علي فرو سمور وشالا ثمينا وأحضر له صندوقا من المال وأركبوه علي فرس مرخت ومشت القواسة بين يديه حتي أوصلوه إلي داره وعندها علمت الناس بحقيقة الحال وارتجت البلد وعزلت الأسواق خوفا من فتنة فلم يحصل شئ وفي الليل أرسلوا الشريف غالبا وأولاده مع أربعة عبيد طواشية إلي جدة ومعهم عسكر فأخذ العسكر ما في جيوبه ثم أرسلوا إلي مصر فوصلوها في المحرم سنة 1229 وضربوا لوصولهم عدة مدافع ودخل الشريف مصر بالإجلال والإكرام لكن منعت الناس من السلام عليه إلا خواص الباشا ثم أرسلوا حريمه إلي مصر واستولي الباشا علي جميع موجودات الشريف فأخذ ما لا يحصيه إلا الله وأخرج حرمه وجواريه من داره بما عليهن من الثياب بعدما فتشوهن تفتيشا فاحشا. وفي خلاصة الكلام إن العساكر نهبت داره التي بجياد وأخذوا منها أموالا كثيرة وأخرجوا أهله منها بصورة شنيعة وحضر مرسوم من إسلامبول بإرجاع ما أخذ من الشريف فصالحوه عنه بخمسمائة كيس وكان أكثر من ذلك بكثير. وفي شعبان من هذه السنة أرسلوه مع أولاده وحريمه إلي سالونيك فأقام بها منفيا إلي أن توفي رحمه الله تعالي سنة 1221 وكان من دهاة العالم وكانت إمارته نحوا من سبع وعشرين سنة. مداومة محمد علي باشا علي حرب الوهابية ثم استحضر الباشا من مصر سبعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس وكان بناحية تربة امرأة مشهورة بالشجاعة تسمي غالية هي الأميرة علي العرب واجتمع عندها كثير من أمراء الوهابية وجنودهم فأرسل إليها الباشا عسكرا سنة 1229 فهزمته شر هزيمة ثم أرسل إليها ابنه طوسون فحاربتهم ثمانية أيام ورجعوا منهزمين ونفرت العرب من الباشا بما صنعه مع الشريف غالب وانضم كثير من الأشراف إلي الخصم ووقع الغلاء بالحرمين. وفيها في ربيع الثاني مات سعود أمير الوهابية في الدرعية وتولي مكانه ابنه عبد الله وفية أرسل الباشا عساكر كثيرة إلي ناحية القنفذة برا وبحرا فاستولوا عليها وهرب من فيها من الوهابية ولم يجدوا فيها غير أهلها فقتلوهم فتجمعت قبائل عسير مع طامي أبي نقطة وحاصروا القنفذة ومنعوا عنها الماء فانهزمت العساكر وقتل كثير منهم فأرسل الباشا إليهم نجدة فهزموها.

ص: 43

في جمادي الثانية توجه بنفسه إلي الطائف لمحاربة الوهابية والعساكر والذخائر والأموال تأتيه من مصر وبلغت العشور بميناء جدة أربعة وعشرين لكا وجعل يستميل الناس بالمال وصالح الأشراف ومشايخ العربان الذين فروا منه ثم توجه من الطائف إلي كلاخ ووجه العساكر إلي جهات متفرقة ووجه ابنه طوسون إلي المدينة ثم عاد هو إلي مكة إلي أن حج. وفي افتتاح سنة 1220 عاد إلي الطائف ووقع بينه وبين الوهابية حروب كان النصر له فيها عليهم واستولي علي تربة وبيشة ورينة وقتل الكثير من الوهابيين وتوجه إلي القنفذة من بلاد عسير فملكها وقبض علي طامي أبي نقطة فإن الشريف راجحا بذل لابن أخي طامي مالا جزيلا ليقبض علي عمه فصنع وليمة ودعاه إليها فقبض عليه فأرسلوه إلي مصر مغلولا ثم إلي إسلامبول فقتل. ولم يزل محمد علي باشا يجول في بلاد العرب ويقهر الخصوم ويبذل الأموال ويرتب الأمراء في كل موضع يستولي عليه إلي جمادي الأولي ثم عاد إلي مكة ورتب بها الأرزاق للأشراف وغيرهم وجدد دفاتر الجراية لأهل مكة وكانت انقطعت في زمن الوهابية وأبطل ما استولي عليه الأغنياء منها بالفراغات ورتبها ترتيبا جديدا ثم أقام حسن باشا الأرنؤطي نائبا عنه بمكة وتوجه إلي مصر فوصلها في رجب. الصلح بين طوسون باشا والوهابية سنة 1230 ووفاة طوسون وفي شعبان من هذه السنة تصالح طوسون وعبد الله بن سعود وترك عبد الله الحرب وأذعن للطاعة وجاء من الوهابية نحو عشرين شخصا إلي طوسون فأرسل اثنين منهم إلي أبيه بمصر فلم يعجبه الصلح ثم حضر طوسون إلي مصر في ذي القعدة وفي سنة 1231 توفي بالطاعون وعمره نحو عشرين سنة وولد له في غيابه مولود اسمه عباس وهو الذي ولي مصر بعد عمه إبراهيم باشا. وبقي أمر محمد علي باشا نافذا بالحجاز وعساكره في كل ناحية ونائبه بمكة حسن باشا ومستشاره بها الشيخ أحمد تركي والشريف شنبر ولم ينقطع إرسال العساكر من مصر إلي الحجاز. وفي أوائل سنة 1222 أرسل ولده إبراهيم باشا إلي الحجاز لإكمال محاربة الوهابيين والاستيلاء

ص: 44

علي الدرعية فتوجه بعساكر وأموال وذخائر كثيرة حتي دخل مكة ثم خرج منها بالعساكر قاصدا الدرعية وجعل يملك كل أرض وصلها بلا معارض حتي وصل إلي موضع يسمي الموتان ووقع بينه وبين الوهابية حرب شديد وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر منهم وغنم خياما ومدفعين (وفي سنة 1223) أمده أبوه بعساكر أتراك ومغاربة وملك بلدا من بلاد الوهابية وقبض علي أميرها ويسمي عتيبة ثم استولي علي الشقراء وكان بها عبد الله ابن سعود فخرج هاربا إلي الدرعية ليلا وبينها وبين الشقراء يومان ثم استولي إبراهيم باشا علي بلد كبير من بلادهم ولم يبق بينه وبين الدرعية إلا ثمان عشرة ساعة ثم زحف علي الدرعية فملك جانبا منها وحاصر الوهابيين وأحاط بهم ثم غاب عن معسكره لأمر اقتضي ذلك فاغتنموا فرصة غيابه وكبسوا العسكر وقتلوا منهم عددا وافرا وأحرقوا " الجبخانة " ولما بلغ الخبر أباه أمده بالعساكر برا وبحرا مع قائد اسمه خليل باشا ولم يزل يتابع إرسال الذخائر والأموال حتي أنها بلغت أجرة الذخيرة مرة من ينبع إلي المدينة علي جمال العرب خاصة خمسة وأربعين ألف ريال لكل بعير ستة ريالات ومن المدينة إلي الدرعية مائة وأربعين ألف ريال هذا في مرة واحدة ومثله مستمر. ولم يزل إبراهيم باشا يغير علي أطرافهم ويشدد الحصار عليهم لما وصله المدد ازدادت قوته وحصل له معهم وقائع إلي أن استولي علي الدرعية وكسر الوهابية وقبض علي أميرهم عبد الله بن سعود وكثير من أقربائه وعشيرته واخرب الدرعية فسكن من بقي من أهلها الرياض ولما بلغ ذلك محمد علي باشا بمصر فرح فرحا شديدا وضرب لذلك نحو ألف مدفع وبلغ عدد المدافع التي ضربت أيام الزينة ثمانين ألف مدفع. وفي أول سنة 1234 أرسل إبراهيم باشا عبد الله بن سعود وكثيرا ممن قبض عليهم إلي مصر فدخلها وهو راكب علي هجين وأمامه العسكر وخرج الناس للتفرج وضربوا عند دخوله المدافع فلما أدخل علي محمد علي باشا قابله بالبشاشة وقام له وأجلسه إلي جانبه وقال له ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال كيف رأيت إبراهيم باشا فقال ما قصر ونحن كذلك حتي كان ما كان قدره المولي قال إنا إن شاء أشفع فيك عند السلطان فقال المقدر يكون فخلع عليه وكان معه صندوق صغير مصفح فسأله ما فيه فقال فيه ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلي السلطان فإذا فيه ثلاثة مصاحف متقنة وثلاثمائة حبة لؤلؤ

ص: 45

كبار وحبة زمرد كبيرة وبها شريط ذهب فقال له الذي أخذه أبوك من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا فقال هذا الذي وجدته فإنه لم يستأصل كل ما في الحجرة لنفسه بل أخذ منه كبار العرب وأهل المدينة وأغوات الحرم وشريف مكة فقال صحيح وجدنا عند الشريف غالب أشياء من ذلك ثم أرسله في تاسع عشر المحرم مع أتباعه مخفورا إلي إسلامبول فطافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه في نواح متفرقة (وفيها) أرسل محمد علي ابن أخته خليل باشا بعساكر إلي الحجاز فتوجه إلي يمن الحجاز واستولي عليه صلحا ثم صار محافظا لمكة وفيها في رجب وصل من أسري الوهابية نحو أربعمائة إلي مصر أرسلهم إبراهيم باشا بحريمهم وأولادهم ومعهم أولاد عبد الله بن سعود وبعد أن حج إبراهيم باشا توجه إلي مصر فوصلها في صفر سنة 1235 وأحضر من رؤساء الوهابية فشهروهم وقتلوهم واستقر ملك محمد علي باشا علي مصر والحجاز ونجد. وكان قد هرب كثير من كبار الوهابية من إبراهيم باشا حين ملك الدرعية فلما ارتحل عنها رجعوا إليها منهم عمر بن عبد العزيز وتركي ابن أخي عبد العزيز ومشاري بن سعود وكان قبض عليه إبراهيم باشا فهرب من الحمراء فعمروا الدرعية ورجع أكثر أهلها وقدموا عليهم مشاريا المذكور فجهز محمد علي عسكرا له بإمرة حسين بك فقبضوا علي مشاري وأرسلوه إلي مصر فمات في الطريق وتحصن الباقون في قلعة الرياض المعروفة عند المتقدمين بحجر اليمامة وبينها وبين الدرعية أربع ساعات فحاصرهم حسين بك ثلاثا فطلبوا الأمان فأمنهم وخرجوا إلا تركيا فهرب من القلعة ليلا فقيدهم وأرسلهم إلي مصر سنة 1236 ثم ملك تركي الرياض بعد سنين وثار عليه رجل من آل سعود اسمه مشاري فقتل تركيا وكان لتركي ولد اسمه فيصل كان عند قتل أبيه في الغزو فلما بلغه جاء برجال الغزو وقتل مشاريا واستقل بالملك واستفحل أمره وأشهر الدعوة التي كان عليها أسلافه فجهز محمد علي العساكر لقتاله مع خورشيد باشا فتوجه من المدينة سنة 1253 ومعه خالد بك ابن سعود وهو من أسري سنة 1233 كبر وتربي بمصر فاستحسن محمد علي أن يؤمره في نجد فلما وصل خورشيد إلي نجد حصل بينه وبين فيصل وقائع كثيرة إلي أن قبض علي فيصل وأرسله إلي مصر سنة 1254 وأقام خالدا أميرا في الرياض ورجع فاستمر خالد في الإمارة سنتين ثم ظهر لأهل نجد عدم سلوكه الطريقة التي يرتضونها فثار عليه عبد الله بن ثنيان مع النجديين

ص: 46

وأرادوا الفتك به فهرب إلي مكة ثم مات وصار أمر نجد لابن ثنيان فلما بلغ ذلك فيصلا وهو محبوس بمصر قال لعباس باشا ابن طوسون باشا وكان يجتمع به لو وصلت إلي نجد لانتزعتها من ابن ثنيان وصرت خادما لأفندينا فاحتال عباس لإخراجه ليلا من القلعة فهرب بمن معه حتي وصلوا جبل شمر مقر إمارة ابن رشيد فأكرمهم وتوجهوا إلي القصيم فانضاف إليهم كثير منهم فقصدوا ابن ثنيان في الرياض فقاتلوه وحصروه إلي أن قبضوا عليه وحبسوه ثم قتل خنقا في الحبس سنة 1258 واستقل فيصل بالملك وفي سنة 1262 صدر الأمر من الدولة العثمانية بتجهيز العساكر لمحاربة فيصل بن تركي أمير الرياض لأنه استفحل أمره ويخشي أن يقع منه ما وقع من أسلافه، وأن يكون ذلك برأي الشريف محمد بن عون أمير مكة المكرمة فتوجه الشريف مع العساكر من المدينة حتي وصل جبل شمر فسار معه أميره ابن رشيد بكثير من القبائل ولما وصلوا القصيم أطاعهم أهله فخاف فيصل خوفا شديدا فأرسل لأهل القصيم أن يتوسطوا في الصلح علي تأدية عشرة آلاف ريال في كل سنة فتم الصلح ورجع الشريف بالعساكر واستمر فيصل يدفع ذلك حتي مات سنة 1282 فقام بعده ابنه عبد الله فنازعه إخوته وانتزعوا الأمر منه وأقاموا أخاه سعودا ثم توفي فعادت الإمرة إليه إلي سنة 1300 ولكن ملكه ضعف لأن الدولة العثمانية انتزعت منه الحسا والقطيف وخرج عن طاعته أهل القصيم وأطاعوا الدولة العثمانية وأدوا لها الخراج وأميرهم منهم وخرج عن طاعته ابن رشيد أمير جبل شمر وقوي ملكه وأطاع الدولة العثمانية وأدي لها الخراج علي قول صاحب خلاصة الكلام. والذي نعلمه أنه لم يكن يؤدي لها خراجا وإنما يهدي لها الخيل الجياد وغيرها وهي دائما في جانبه دون ابن سعود بل كان الشائع في ذلك العصر أن ابن سعود في جانب الانكليز. الفصل الرابع فيما آل إليه أمر نجد وما فعله الوهابيون في الحجاز والعراق والشام في هذا الزمان بعدما تقلص حكم محمد علي باشا عن بلاد نجد صار فيها إمارتان إحداهما لآل سعود مقرها القصيم وعاصمتها الرياض والأخري لآل رشيد وعاصمتها حائل في جبل شمر وهو المعروف في القديم بجبل طئ وقوت الدولة العثمانية جانب إمارة آل الرشيد وصارت هي صاحبة الحول والطول في نجد وبخفارتها يسير الحاج العراقي والنجدي عن طريق حائل

ص: 47

بخاوة (خفارة) قدرها ثلاثون ريال فرنسة عن العربي وضعفها عن العجمي وليس للدولة العثمانية علي نجد حكم سوي إنها في جانب آل الرشيد ومع ذلك فرعايا ابن رشيد كلهم أو جلهم علي المذهب الوهابي بل لعل آل رشيد كانوا أيضا علي هذا المذهب. وفي عهد السلطان عبد الحميد أنشأت الدولة العثمانية متصرفية في أطراف نجد غير متصرفية في أطراف نجد غير متصرفية القطيف فكان نصيبها الفشل وحاصر النجديون العساكر المرسلة لحمايتها فعادوا بأسوأ حال وألغيت تلك المتصرفية ثم إن ابن رشيد غلب آل سعود علي أمرهم وأخرج الأمير عبد الرحمن الفيصل آل سعود والد سلطان نجد الحالي وولده عبد العزيز وأقرباءهم من الرياض عاصمة إمارتهم فأقاموا عند ابن صباح صاحب الكويت ثم إن عبد العزيز استنفر زهاء ثلاثين رجلا من قومه فركب كل منهم ذلولا وخرجوا من الكويت إلي نجد يستنفرون من مروا به من عشائرها في طريقهم فحارب ابن رشيد واستعاد إمارة آبائه منه ثم هجم في أيام الحرب الكبري علي عشائر شمر في جبلهم وأزال إمارتهم وكانت قد ضعفت بعد موت الأمير محمد ابن رشيد باختلافهم وقتل بعضهم بعضا وأخذ ابن سعود آخر أمير منهم وهو الأمير محمد ابن طلال وما بقي من آل رشيد أسراء وأبقاهم عنده. وفي هذه السنة وهي سنة 1346 حاول الأمير محمد بن طلال قتل الأمير سعود بن عبد العزيز علي ما يقال فتسلق داره هو وأتباعه وعبيده فأخطأ مكانه فأمر سعود بقتلهم فقتلوا وهو عشرون شخصا. وما زال عبد العزيز سلطان نجد يتقوي شيئا فشيئا بذكائه ودهائه وعزمه وثباته ومساعدة التقادير له، وفي آخر عهد الاتحاديين استولي علي متصرفية القطيف التي كانت لأجداده قبل وقبض علي منصور باشا أحد كبراء القطيف لموالاته الدولة العثمانية ثم قتله خفية وسكتت الدولة العثمانية عنه لانشغالها بالفتن والحروب وصالحته كما صالحت إمام اليمن وعقدت معه اتفاقا اعترفت له فيه بإمارة نجد له ولذريته. ولما نشبت الحرب العامة ودخلت فيها الدولة العثمانية سنة 1332 ه 1914 م بقي ابن سعود علي الحياد وتعاهد مع الانكليز واستمالت الدولة الانكليزية إليها الشريف حسين ابن علي أمير مكة ووعدته ومنته استقلال بلاد العرب وتعاهدت معه علي ذلك كما تعاهدت مع الفرنساويين في الوقت نفسه علي اقتسام بلاد العرب فساعدها الشريف حسين ورجال العرب مساعدة تذكر ولما وضعت الحرب العامة أوزارها سنة 1337 ه 1919 م ودخلت

ص: 48

جيوش الحلفاء سورية وبينها الجيوش العربية بقيادة الأمير فيصل أحد انجال الملك حسين ابن علي ثم كان إلي الجيوش البريطانية والعربية احتلال المدن الأربع دمشق وحلب وحمص وحماه وتوابعها ومنها حوران، والتصرف الإداري فيها بيد الحكومة العربية، وإلي الجيوش الافرنسية احتلال بيروت ولبنان وطرابلس وجبل عامل والأردن وتوابع ذلك وإلي الجنود البريطانية احتلال فلسطين وشرق الأردن وبعض حوران. وأعلن استقلال الحجاز ونودي بالشريف حسين ملكا عليه باسم ملك العرب ووافقت علي ذلك الدول الكبري وخطب باسمه علي المنابر حتي في مدن سوريا وفلسطين ثم بويع بالخلافة في الحجاز وأكثر تلك المدن وأعلن استقلال نجد تحت سلطنة الأمير عبد العزيز آل سعود باسم سلطان نجد ووافقت علي ذلك الدول العظمي وفي مقدمتها بريطانيا ومنحته راتبا لا يقل عن أربعين ألف ليرة انكليزية وبلغ مجموع ما دفعته له من ابتداء سنة 1917 إلي سنة 1923 ميلادية زهاء خمسمائة ألف واثنين وأربعين ألف جنيه انكليزي وكان ذلك أولا للمساعدة في الحرب ضد تركيا وبعد الحرب ليمتنع عن القيام ضد الحجاز والكويت والعراق وليساعد في ترويج سياستها الخاصة التي ترمي إلي إيجاد أحوال سلمية في بلاد العرب. صرح بذلك وزير المستعمرات مستر أمري وتناقلته صحف العالم ونقلناه بحروفه، وتعاهدت معه علي أن إمارة نجد وملحقاتها له ولأولاده بشرط أن يكون الأمير اللاحق مختارا من السابق ولا يكون خصما معاديا للحكومة البريطانية بمخالفته لشروط هذه المعاهدة، وإن تساعده وذريته علي أي دولة أجنبية تعتدي علي بلادهم إذا كان الاعتداء بدون علمها ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعته في إزالة الخلاف المسبب للاعتداء وأن لا يعقد اتفاقا ولا معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية ويعد بعدم مفاوضة أحد في ذلك ويلتزم إعلام الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعد علي بلاده ويلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا يؤجر ولا يتخلي عن شئ من أراضي بلاده ولا يمنح امتيازا لدولة أجنبية أو أحد رعاياها بدون رضا بريطانيا وبأن يتبع في ذلك نصائحها وبإبقاء الطرق الموصلة إلي البلاد المقدسة مفتوحة والمحافظة علي الحجاج الذين يسلكونها وعدم الاعتداء علي حكومات

ص: 49

جيرانه البحرين والكويت وقطر وعمان والمشايخ الذين تحت الحماية البريطانية. ونقلنا ذلك من مجموع مقالات صاحب المنار (الوهابية والحجاز) وأقيم الأمير عبد الله نجل الملك حسين أميرا علي شرق الأردن وأطلق علي إمارته إمارة الشرق العربي وجعلت تلك الإمارة له ولذريته. وبقيت الجنود البريطانية في المدن الأربع سنة كاملة ثم خرجت منها واستقلت بها الحكومة العربية تحت إمارة الأمير فيصل ثم وقع الاختلاف بينها وبين الافرنسيين بعد أن أقيم الأمير فيصل ملكا علي سوريا وكانت وقعة ميسلون المشورة بين العرب من الدمشقيين وغيرهم وبين الافرنسيين التي انتهت بقتل جملة من العرب والافرنسيين وقتل يوسف بك العظمة وزير الحربية العربي بعدما أبدي بسالة تذكر واحتلال الجنود الافرنسية المدن الأربع وخروج الملك فيصل من سوريا سنة 1338 ه 1920 م ثم أقيم ملكا علي العراق برأي الانكليز ومشورة العراقيين.

هجوم الوهابيين في الحجاز علي عرب الفرع من قبيلة حرب

في سنة 1340 غزا الوهابيون عرب الفرع من قبيلة حرب في عقر دارهم في الحجاز ونهبوا المواشي فجاء النذير إلي أهل الفرع فلحقوهم واستخلصوا منهم ما نهبوه وقتلوا فيهم وغنموا جميع ما معهم وولوا منهزمين ومن جملة ما غنموه أعلام وبيارق فدفعوه إلي الملك حسين وانقطع مجئ أعراب نجد إلي الفرع لاكتيال التمر فحصل بذلك ضيق علي أهل الفرع بسبب كساد تمورهم التي كان يشتريها النجديون. قتل الوهابيين الحاج اليماني سنة 1341 في هذه السنة التقي الوهابيون بالحاج اليماني وهو أعزل من السلاح وجميع آلات الدفاع فسايروهم في الطريق وأعطوهم الأمان ثم غدروا بهم فلما وصلوا إلي سفح جبل مشي الوهابيون في سفح الجبل واليمانيون تحتهم فعطفوا علي اليمانيين وأطلقوا عليهم الرصاص حتي قتلوهم عن بكرة أبيهم وكانوا ألف إنسان ولم يسلم منهم غير رجلين هربا وأخبرا بالحال. وأراد الشيخ رشيد رضا صاحب المنار علي عادته في تلفيق الأعذار عن أفعال الوهابيين الاعتذار عن

ص: 50

هذه الفعلة الشنعاء فقال في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) (1) : إن الملك حسينا كان أرسل حملة علي منطقة عسير بعد وفاة السيد محمد علي الإدريسي الذي كان قد تخلي عنها لسلطان نجد وفي أثر تنكيل الوهابية بحملة هنالك وقعت حادثة حجاج اليمن الذين اعتقد الوهابيون إنهم نجدة منهم فأطلقوا عليهم الرصاص وبعد أن عرف الأمر اعتذر السلطان عبد العزيز للإمام يحيي عن هذا الخطأ واتفقا علي حفظ المودة بينهم بتعويض مقبول معقول (انتهي). وهذا عذر فاسد بارد يراد به ستر فظائع الوهابيين في استحلالهم دماء المسلمين وتوجيه بأسهم وسطوتهم وأفواه بنادقهم كلها إلي قتال المسلمين خاصة وغزوهم كلما سنحت لهم فرصة وقتلهم بأنواع الغدر والبغي تارة في سورية وأخري في الحجاز وثالثة في العراق ورابعة في اليمن وهيهات أن تستر هذه الأعذار الفاسدة فظائعهم وقد عرفها العام والخاص ولم تعد تخفي علي أحد من الناس. يقول صاحب المنار إنهم اعتقدوهم نجدة وكيف ذلك وهم عزل من السلاح ولا يؤذون لهم بحمله في مملكة أجنبية ولو كانوا مسلحين ما استطاع الوهابية قتلهم ولكانوا أقصر باعا من ذلك وهل تخفي حالة الحجاج من حالة الغزاة المحاربين فكيف يمكن لعاقل أن يعتقد أو يظن أو يحتمل إنهم نجدة. وهل اعتقد الوهابيون في أعراب شرق الأردن أنهم نجدة حينما غزوهم في عقر دارهم واعملوا فيهم رصاص البنادق وحد السيوف وهل اعتقدوا في أهل العراق أنهم نجدة فتابعوا عليهم الغزو والقتل والنهب. وكيف ساغ للوهابيون وهم وحدهم المسلمون الموحدون الأبرار الأتقياء الورعون الذين تورعوا عن الفتيا في التلغراف لعدم النص فيه أن يقتلوهم قبل سؤالهم وتعرف حالهم ولكن حالهم كما قال الحسن البصري في أهل العراق: يسألون عن دم البقة ويستحلون دم الحسين. وكما اقتضت المصلحة الانكليزية والدهاء البريطاني أن يكون الشريف حسين ملك الحجاز والأمير ابن سعود سلطان نجد اقتضت ثانيا أن يكون السلطان ابن سعود أيضا ملكا علي الحجاز مكان الملك حسين وأولاده عقيب امتناعه عن إمضاء المعاهدة البريطانية الحجازية.

ص: 51


1- 15. صفحة 33.

هجوم الوهابيين علي الحجاز وفظائعهم في الطائف سنة 1343 - 1924 ففي أوائل هذه السنة هجم الوهابيون علي الحجاز وحاصروا الطائف ومعهم الشريف خالد بن لؤي من أشراف مكة المعادين للملك حسين واحد عمال السلطان ابن سعود ثم دخلوها عنوة واعملوا في أهلها السيف فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتي قتلوا منها ما يقرب من الفين بينهم العلماء والصلحاء واعملوا فيها النهب وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر له الأبدان وتتفطر القلوب نظير ما عملوه في المرة الأولي كما سبق وممن قتلوا من المعروفين الشيخ عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بصورة فظيعة وقتلوا جملة من بني شيبة سدنة الكعبة المكرمة كانوا مصطافين في الطائف وجاءت الأخبار بارتكابهم فظائع لا يليق ذكرها وأن السلطان ابن سعود لما سئل عنها لم ينكر وقوعها لكنه اعتذر بما وقع من خالد بن الوليد يوم فتح مكة وقول النبي (ص) (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد). ثم أخذوا ما وراء الطائف من المعاقل الحصينة وأهمها الهدي وكري. مهاجمة الوهابية شرق الأردن واستيلاؤهم علي مكة وفيها هجم جماعة من الوهابيين فجأة علي أعراب شرقي الأردن الآمنين فهجموا علي أم العمد وجوارها فقتلوا ونهبوا وما لبثوا إن ارتدوا مدحورين مأسورين لأن الطيارات والدبابات الانكليزية اشتركت في قتالهم مع عرب شرقي الأردن وانجلت المعركة عن قتل ثلاثمائة من الوهابيين وأسر جماعة كثيرة منهم وقتل مائتين وخمسين من أهل شرقي الأردن ثم أطلقت أسري الوهابيين بأمر من الانكليز وأوصلوا إلي مأمنهم. وفي هذه السنة وهي سنة 1346 جاءت الأخبار بمهاجمة الوهابيين شرقي الأردن ووصولهم إلي معان بنحو من ثلاثين ألفا وأنهم أعلنوا الجهاد. استيلاء الوهابيين علي مكة المكرمة سنة 1343 وفيها دخل الوهابيون مكة بغير قتال بعدما خرج الملك حسين وولده منها إلي جدة فنهبوا داره واستولوا علي جميع ما يؤول إليه ثم أكره علي التنازل عن الملك لولده الأمير علي وعلي الخروج من الحجاز إلي العقبة وبعد فتح الوهابيين الطائف ومكة حضر السلطان عبد العزيز بن سعود إلي مكة وقامت الحرب بينهم وبين الملك علي المتحصن في جدة وانقطع الحج في تلك السنة فاستحضر الملك علي إليه جماعة من السوريين من الضباط

ص: 52

وغيرهم واشتري الأسلحة والطيارات وصرف الأموال ولكن علي غير جدوي وصادرت له الحكومة المصرية في الظاهر، أسلحة واردة في البحر من طريق مصر عملا بقانون الدول المتحايدة. وبقيت في يده أيضا المدينة المنورة وباقي سواحل الحجاز والحرب قائمة في الكل وجدة والمدينة تحت الحصار وأبوه وهو في العقبة يمده بالمال والرجال ثم نفي أبوه من قبل الانكليز من العقبة إلي جزيرة قبرص علي دارعة بريطانية مع حرمه وخدمه ولم يحضر لوداعه أحد ممن كان يظهر له الصداقة غير ولده الأمير عبد الله ولما طال الحصار علي الملك علي اضطر إلي صلح الوهابية فتم ذلك بتوسط قنصل الانكليز في جدة فخرج من جدة علي دارعة أو باخرة بريطانية ودخلها الوهابية سنة 1344 واستولوا علي مراكب أبيه البحرية وذهب هو إلي العراق فأقام عند أخيه الملك فيصل. ودامت الحرب ما يزيد عن سنة كاملة وأصبح ابن سعود سلطان نجد وملك الحجاز واستولي الوهابيون علي المدينة المنورة والحجاز كله ودخلت جميع أعراب الحجاز تحت طاعتهم. وكان السلطان ابن سعود يعلن وهو يحارب الملك عليا إنه ما جاء إلي الحجاز إلا لينقذه من ظلم الأشراف ولا يريد تملكه وإنما يجعل مصيره راجعا إلي رأي عموم المسلمين فكانت هذه الأقوال جارية علي عادات المتغلبين في دهائهم وسياساتهم لم يف منها بشئ. نعم عقد مؤتمرا بمكة دعا إليه الحكومات وأهل البلاد الإسلامية لإرسال مندوبين عنها فحضره طائفة منهم وامتنع آخرون وأرجعت الدولة الإيرانية مندوبها بعدما عينته لما بلغها ما فعل بأئمة البقيع واجتمع المؤتمر ولم يسفر عن نتيجة وبث السلطان ابن سعود الأمن في الحجاز وعاد الحج وأرسلت الحكومة المصرية عسكرها المعتاد مع أمير الحاج المصري وفي مني استاء الوهابيون من فعل العسكر المصري بعض ما يراه الوهابيون محرما فرشقوا العسكر بالحجارة فقابلهم العسكر برمي البنادق والمدفع فقتلوا جماعة من الوهابيين وقابلهم الوهابيون بالمثل فجرح جماعة من العسكر بينهم بعض الضباط وقتل بعضهم فأرسل السلطان ابن سعود ولده لإخماد الفتنة فلم يستطع فحضر هو بنفسه وأخمدها. وتفنن عماله في الاستفادة من أموال الحجاج فدخل عليه بذلك أموال عظيمة تعد بالملايين من الليرات (1) .

ص: 53


1- 16. كان هذا قبل اكتشاف البترول وظلوا بعد اكتشافه يتوسلون بكل وسيلة لاستنزاف أموال الحجاج وفرض الضرائب عليهم. - الناشر -.

التاريخ يعيد نفسه وقد جري علي الملك حسين من طرده من مقر ملكه إلي جدة ثم إلي العقبة ثم نفي الانكليز له إلي جزيرة قبرص ما جري علي سلفه الشريف غالب من خروجه من مكة ومحاصرته في جدة ونفيه إلي مصر ثم إلي سلانيك كما مر. وجري علي الطائف وأهله في هذا العصر نظير ما جري عليهم في ذلك العصر وفعل الوهابيون في الحجاز في هذا العصر من هدمهم القباب والضرائح ومحوهم آثار سادات الإسلام ومنعهم الحرية المذهبية للمسلمين وإغاراتهم علي بلاد المسلمين في العراق وسوريا نظير ما فعلوه في ذلك العصر فأن التاريخ كما يقولون يعيد نفسه. هجوم الوهابيين علي العراق وقد تكرر هجوم الوهابيين علي أطراف العراق سنة 1345 - 1346 بقيادة فيصل الدويش يقتلون وينهبون وكان نتيجة ذلك أن اشتكي العراقيون إلي الحكومة الانكليزية وقالوا لها إما أن تردعهم أو تترك العراقيين وإياهم ليدفعوا عن أنفسهم فخابرت معتمدها في البحرين ليخابر السلطان ابن سعود فكان جوابه أنه لا علم له بما جري وسيسأل فيصل الدويش عن ذلك وما زال فيصل الدويش يشن الغارات علي أعراب العراق المجاورة لنجد فينهب مواشيهم ويقتل فيهم وقد قرأنا اليوم في الجرائد خبر هجومه عليهم ونهبه وقتله لهم ومطاردة الطيارات البريطانية والجند العراقي لجنوده وإن السلطان ابن سعود أرسل لحكومة العراق يحذرها منه ويقول إنه خارج عن طاعته وغير قادر علي ردعه (1) .

ص: 54


1- 17. فاتنا أن نذكر في تاريخ الوهابية بعض أمور فنستدركها هنا نقلا عن خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام. وهي أن محمد بن سعود أمير الدرعية بعدما اتبع محمد بن عبد الوهاب واتخذه وسيلة لاتساع الملك وانقياد الأعراب له اتسع ملكه وملك أولاده من بعده حتي ملكوا جزيرة العرب وكان إذا أراد أن يغزو بلدة كتب كتابا بقدر الخنصر إلي الأعراب فيلبون دعوته ويتحملون علي أنفسهم كل ما يحتاجون إليه وإذا نهبوا شيئا يدفعون إليه خمسه ويأخذون أربعة أخماس فإذا ملك القبيلة من العرب سلطها علي من دنا منها وهكذا حتي ملك الشرق كله ثم إقليم الحسا والبحرين وعمان ومسقط وقرب ملكه من بغداد والبصرة هذا من جهة الشمال ثم ملك من الجنوب الحرار بأسرها ثم الخيوف ذوات النخيل والحربية والفرع وجهينة وملك ما بين المدينة المنورة والشام حتي قرب ملكه من الشام وحلب وملك العربان الذين بين الشام وبغداد وعربان المشرق والحجاز والقبائل التي حول الطائف ومكة ثم ملك الطائف ودخل مكة بالصلح سنة 1220 بعد حرب الشريف غالب معه نحوا من خمس عشرة سنة وعجزه عنه واستمر فيها إلي غاية سنة 1227 وحاربه محمد علي باشا حتي وصل ابنه إبراهيم باشا إلي الدرعية سنة 1233.

هدم الوهابيين القباب والمزارات بالحجاز عام 1343 لما دخل الوهابيون إلي الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأولي ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قباب عبد المطلب جد النبي " ص " وأبي طالب عمه وخديجة أم المؤمنين وخربوا مولد النبي " ص " ومولد فاطمة الزهراء " ع " ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها كما خربوا قبور من ذكر أيضا وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها وجدة ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها ولما حاصروا المدينة المنورة هدموا مسجد حمزة ومزاره لأنهما خارج المدينة وشاع أنهم ضربوا بالرصاص علي قبة النبي " ص " ولكنهم أنكروا ذلك ولما استولوا علي المدينة المنورة خرج قاضي قضاتهم الشيخ عبد الله بن بليهد من مكة إلي المدينة في شهر رمضان سنة 1344 ووجه إلي أهل المدينة سؤالا يسألهم فيه عن هدم القباب والمزارات فسكت كثير منهم خوفا وأجابه بعضهم بلزوم الهدم وسيأتي ذكر السؤال والجواب إن شاء الله في فصل البناء علي القبور. وإنما أراد بهذا السؤال تسكين النفوس لا الاستفتاء الحقيقي فأن الوهابيين لا يتوقفون في وجوب هدم جميع القباب والأضرحة حتي قبة النبي " ص " بل هو قاعدة مذهبهم وأساسه وبعد صدور هذا السؤال والجواب هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها من القباب والأضرحة والمزارات فهدموا قبة أئمة أهل البيت بالبقيع ومعهم العباس عم النبي " ص " وجدرانها وأزالوا الصندوق والقفص الموضوعين علي قبورهم وصرفوا علي ذلك ألف ريال مجيدي ولم يتركوا غير أحجار موضوعة علي تلك القبور كالعلامة وهدموا قباب عبد الله وآمنة أبوي النبي " ص " وأزواجه وعثمان بن عفان وإسماعيل بن جعفر الصادق ومالك إمام دار الهجرة وغير ذلك مما يطول باستيفائه الكلام. وبالجملة هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها وينبع وغيرها من القباب والمزارات والأضرحة وكانوا قبل ذلك هدموا قبة حمزة عم النبي " ص " وشهداء أحد كما مر حتي أصبح مشهد حمزة والشهداء والجامع الذي بجانبه وتلك الأبنية كلها أثرا بعد عين ولا يري الزائر لقبر حمزة اليوم إلا قبرا في برية علي رأس تل من التراب وتريثوا خوفا من عاقبة الأمر عن هدم قبة النبي " ص " وضريحه التي حالها عندهم كحال غيرها أو أشد لشدة تعلق المسلمين بذلك وتعظيمهم له وأدلتهم الآتية

ص: 55

وفتواهم لا تستثني قبة نبي ولا غيره وما أعلنه سلطانهم في الجرائد من أنه يحترم قبة النبي " ص " وضريحه يخالف معتقداتهم جزما ولا يراد منه إلا تسكين الخواطر ومنع قيام العالم الإسلامي ضدهم ولو آمنوا ذلك ما توقفوا عن هدمها وإلحاقها بغيرها بل كانوا بدأوا بها قبل غيرها. وفي بعض اعتذاراتهم أنها قبة المسجد لا قبة النبي " ص "، ومنعوا الزوار من الدنو إلي قبر النبي " ص " وقبور أهل البيت " ع " ولمسها وتقبيلها وأقاموا حرسا بأيديهم الخيزران يمنعون الناس من ذلك إلا إذا قبضوا بعض الدراهم وكان لا يراهم أحد فيشيرون إلي الزائر بالدنو من ضريح النبي " ص " ولمسه وتقبيله والرجوع بسرعة. ولما شاع في الأقطار الإسلامية ما فعلوه في الحجاز بقبور أئمة المسلمين ومشاهدهم أكبر المسلمون ذلك واعظموه لا سيما ما فعلوه بقبة أئمة البقيع وجاءت برقيات الاحتجاج علي ذلك من العراق وإيران وغيرها وعطلت الدروس والجماعات وأقيمت شعائر الحزن في هذه البلدان احتجاجا علي هذا الأمر الفظيع.

ص: 56

من مخازي السعوديين

مما استدركناه علي الطبعة الأولي " الناشر " أما مخازيهم فليست تنقضي ولو انقضت وتناهت الأعداد ولو أن أشجار البسيط مراقم والبر طرس والبحار مداد إننا حين نسرد فيما يلي بعض مخازي السعوديين نعترف بأننا أعجز من أن نلم بطرف منها ولكننا نورد ما نورده تدليلا علي طبيعة الحياة التي يحياها السعوديون، ويحياها في ظلالهم الشعب العربي الذي قدر لهم أن يحكموه بأخس الوسائل وأحقر الأساليب وأفظع الطرق وأشدها همجية ووحشية ونذالة: أرض الزيت والدماء عام 1952 منح الدكتور بيير جرونفيل عقدا بسنتين ليعمل في مستشفي الملك سعود وذهب إلي المملكة وعندما انتهت مدة السنتين فتح عيادته الخاصة واستمر بها إلي وقت قريب، وفي خلال هذه المدة تجول في داخل البلاد. وهو هنا يتحدث عما أبصره بعينيه وسمعه بأذنيه في البلاد التي نكبت بحكم السعوديين: عدت من " المملكة السعودية " قريبا بعد إن كنت أزاول مهنة الطب في عدة بلدان مختلفة وصرح لي بالعمل حتي في البقاع البعيدة التي لا يصرح بدخولها إلا لعدد قليل جدا من غير العرب. ولن تجد في أية بقعة من بقاع العالم من الوحشية والمذابح والجوع مثل ما تجده " في السعودية " اليوم التي أصبحت تفوق قصص ألف ليلة وليلة الخرافية!. إن الزيت الموجود في باطن الأرض قد جذب الشركات الأمريكية، كما أن موقع " السعودية " الجغرافي جعلها حليفة مرتبطة أشد الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية التي أنشأت المطارات العسكرية وتكلفت الكثير في بناء القواعد والمؤسسات الحربية.. والثروة التي تنفق في سبيل الفساد

ص: 57

والإفساد والترف وبناء القصور المجهزة بتكييف الهواء ووسائل اللهو والعبث المليئة بالرقيق والحريم التابع للملك سعود وعائلته، لم يكن لها ولو تأثير بسيط علي مستوي الحياة العامة للشعب، التي تشبه حياة الحيوان والتي لا يمكن للمرء أن يصدقها أبدا، ولم تتحسن هذه الحياة منذ عدة قرون. التمثيل بالإنسان الحي فإذا خطر ببالنا مسألة الجريمة وكيفية العقاب نري أن العربي الفقير الذي يتهم بالسرقة - وهي الجريمة الشائعة - يلقي القبض عليه ويودع في سجن حقير كاللحد ليس به نوافذ. ومن الناحية النظرية نجد أن البوليس هو السلطة التي تتولي عمل التحريات الخاصة بالجريمة المزعوم ارتكابها، ولكن التحريات تستدعي أناسا علي جانب من الذكاء أكثر من رجال البوليس السذج البسطاء الذين معظمهم أميون لا يمكنهم القراءة أو الكتابة والطريقة المألوفة في معاملة المتهم هي أن يضرب بالسياط حتي يعترف، وإن لم يعترف، فهناك طريقة أخري. وهي قلع الأظافر والكي بالنار وربط عضوه التناسلي في سلك معدني دقيق مع إطعامه أشياء مدرة للبول وتكبيل يديه، وتعذيبه، وسيعترف بعد ذلك! حتما!.. ولو في غيبوبته!، وقد أدخلت " علي السعودية " وسائل هذا النوع من العذاب من قبل شخص جاء به جون فيلبي من العراق ووضعه مديرا للأمن العام ويدعي مهدي بك.. وفي إمكاني أن أذكر من نتائج الكشوف الطبية التي كنت أقوم بها أنه يكفي المتهم سبع جلدات (دون ما سواها) حتي يعترف سواء أكان مذنبا أو بريئا!. ثم يحضر المتهم بعد ذلك أمام " القاضي " وهو رجل الدين الجاهل الذي يصدر الأحكام ارتجالا في كل منطقة حسب مزاجه!. ومعظم هؤلاء " القضاة " الذين يكون تعيينهم الحقيقي تعيينا من الناحية السياسية، هم أميون مثل رجال البوليس سواء بسواء، فإذا تصادف إن كان مع المتهم ثمة نقود، (وهذا من النادر أن يحدث) فإن المتهم يمكن إنقاذه بالرشوة وتكون العقوبة في هذه الحالة مجرد ضربه عدد من السياط. ولكن النتيجة العادية من " المحاكمة " والمحاكمة كلها تتلخص في أن رجل الدين أو البوليس يقول: (أن المتهم قد اعترف بالجريمة!) هي صدور النطق بالحكم " السعودي " رأسا من القرآن الذي يصرفونه حسب أهوائهم،

ص: 58

وهذا بصرف النظر عما إذا كان السجين قد سرق ريالا واحدا أو تمرة أو قطعة رغيف لإنقاذ حياته من الجوع، فإن الحكم يستوي في ذلك، فإذا سرق لأول مرة فأن يده اليمني يجب أن تقطع من ناحية المعصم، وإذا سرق مرة أخري، فيجب أن تبتر رجله اليسري، وثالث مرة تقطع قدمه من ناحية المفصل، ولا تظنوا أن فيما أقوله مبالغة فقد أشرفت بنفسي علي بعض هذه العمليات المضحكة التي ذهب ضحيتها أحد الفقراء، أما اللص الحقيقي فذلك الحاكم الذي يأمر بقطع ثلاثة أعضاء من جسم الفقير العاطل عن العمل، وليس هناك ثمة خلاف " في تطبيق الحكم " كما قلت إذا كان المتهم قد سرق كسرة من الخبز ليطعم بها عائلته التي تموت جوعا، فأن " الحكم " لا يخفف وهو واجب التنفيذ في هذا الصدد!. وبصفتي طبيبا فقد كنت أحضر مئات من هذه " المحاكمات " العلنية وذلك لكي أعالج السجين بعد أن ينتهي معه هؤلاء الموظفون والعبيد. ولقد صممت علي أن أعمل تقريرا عن هذه الوحشية إلي العالم الخارجي مهما كان في ذلك الأمر من مخاطرة. وقد أدخل الحكام أخيرا بعض التحسينات علي هذه التشويهات في المدن الكبيرة فقط... فعندما تجري هذه التشويهات في إحدي المدن الكبيرة يحضر بعض الأطباء لاستعمال " ضاغطة الشرايين " ويعالج الضحية من الصدمة، ثم يأخذه بعد ذلك إلي الصيدلية.. تجري هذه " التحسينات " كما قلت في المدن التي يوجد بها عدد من الأجانب الذين يهزؤون ويبكون أحيانا لهذه المناظر المؤذية. أما في المدن الصغيرة، فأن الأيدي والأرجل تغمس في الزيت المغلي بعد قطعها لإيقاف نزيف الدم! وغالبا ما يموت الضحية، وأما في القري البعيدة فإن السجين يترك ليعالج نفسه بنفسه، أي ليموت موتا بطيئا.. " وفي البلاد المتمدنة " التي يسيطر عليها الأمريكان، كالظهران مثلا، يعطي للسجين حقنة ضد (التيتانوس) وهي إحدي الوسائل التي تميز البلاد " المتمدنة " عن البلاد المتأخرة في المملكة العربية السعودية السعيدة!. وقد صرح لي شخص مطلع جدا ومن الحاشية بأنه (قد زاد عدد الذين قطعت أيديهم وأرجلهم عن 100 ألف رجل وطفل وامرأة منذ أن حل في البلاد حكم العائلة السعودية) فليتصور الأوربي مصير هؤلاء الناس وعائلاتهم.. بل ليتصور العرب الذين يهاجمون

ص: 59

الاستعمار الغربي ووحشيته، بينما يغمسون رؤسهم في رمال الصحراء عن مخازي بعضهم وهمجيتهم. جريمة قتل وإذا كانت الجريمة المرتكبة هي القتل (سواء كان صادرا عن إرادة أو غير إرادة) فلا تختلف عما إذا كان القتل مقصودا به مجرد الدفاع عن النفس أم لا!. فأن النظام السعودي لم يميز بين هذا وذاك! والعقاب يجب أن يطبق تطبيقا حرفيا وهذا علي الفقير فقط كما أسلفت. عقوبة الزني وعقوبة الزني هي التي تبدو أكثر بربرية ووحشية من جميع العقوبات السعودية، - وإنني قد رأيت تنفيذ هذه العقوبة. ولكني لم أتحمل تنفيذها بهذا الشكل البشع علي الرغم من طبيعتي كطبيب. فالمرأة الفقيرة التي يلقي القبض عليها بتهمة الزني، تجرد من ثيابها حتي تصبح عارية ثم تربط بالحبال وتؤخذ إلي المدينة أو القرية لتجوب الطرقات ليتمكن كل إنسان من مشاهدتها، وفي الميدان الرئيسي حيث توجد حفرة ما، تدفن هذه المرأة هناك، وهي حية ما عدا رأسها الذي يكون مرتفعا نوعا ما عن سطح الأرض، ثم تحضر عربة محملة بالصخور إلي هذا الميدان ويتسلح كل فرد من الخدم والعبيد لرجم الفقيرة بهذه الصخور. ثم يقفون خارج دائرة معينة حول هذه المرأة، وعندما تعطي إشارة من رئيس الشرطة فأن هؤلاء القوم يبدأون بقذف الحجارة وتصويبها إلي هذه الضحية المسكينة، التي تكون قد ارتكبت الخطيئة لتطعم أطفالها، وتستمر هذه العملية حتي تموت هذه المرأة، ثم بعد ذلك يأخذون في إخراج الجثة الخاصة بهذه المرأة لإعادة دفنها من جديد بطريقة " صحيحة " هناك. ولا فرق في هذا التشريع بين الرجل والمرأة وغالبا ما يؤتي بالرجل والمرأة معا فيربطان ظهرا لظهر ويرجمان حتي الموت بالطريقة سالفة الذكر. هذا إذا كانا من الفقراء. أما الأمراء والكبار فإنهم يختطفون النساء والغلمان من الشوارع، دون حسيب أو رقيب وغالبا ما تذبح الضحية، بعد إتيان الفاحشة بها، وتعاد مذبوحة لترمي علي عتبة باب أهلها. وماذا يفعل الأهل بعد ذلك؟.. ولمن الشكوي فالخصم هو الحاكم..

ص: 60

وليس هناك منازل علنية للدعارة وفي الحقيقة فإننا نجد أن الدعارة موجودة وتمارس بصورة وحشية في القصور.. حكم العبيد! وهناك حركة كبيرة في شراء وبيع الجواري والعبيد وليس هناك ثمة تحديد للجواري والعبيد من البنات وخاصة الملك وأمراء العائلة المالكة والأتباع. وأكبر سوق علني للرقيق موجود في مكة، ومن سخرية القدر أن هذه المدينة تعتبر من أقدس المدن العربية والإسلامية علي الاطلاق. فهناك يمكن للعبيد من النساء أو الجواري (العبدة هي امرأة إفريقية أما غير الإفريقية فتعتبر جارية) أن تباع بثمن يتراوح بين(150 جنيها إلي 300 جنيه) وهذا يتوقف علي مقدار جمالهن، أو جمالهم إذا كانوا ذكورا. وتذهب البنات إلي السوق بطرق مختلفة كثيرة فبعضهن قد اختطف من أطراف الجزيرة الصحراوية الفقيرة حيث كن يعشن عيشة الحيوانات.. والبنت الجميلة الجذابة التي يشتريها رجل سعودي غني، تعيش عيشة راضية وهناك عدد كبير من البنات يفضلن هذه العلاقة أو هذه العيشة الفخمة نسبيا علي حياة القصور المفزعة. ومع ذلك فأن غالبية البنات اللائي يعرضن للبيع يحضرن إلي السوق بواسطة تجار الرقيق الذين يبيعونهن كما تباع المواشي. ويعمل تجار الرقيق علي ربط هؤلاء البنات مع بعضهن بالسلاسل ثم يعرضن في السوق بالجملة (من خمسة إلي خمسين وستين) دفعة واحدة. والذين يرغبون في الشراء يعطي لهم الوقت الكافي الذي يرغبونه لفحص البضاعة، وتكون البنات لابسات ثيابهن ولكن لا يلبسن النقاب علي وجوههن وهو النقاب الذي تلبسه المرأة السعودية، فالعبدة يجب أن تكشف وجهها! وإذا رغب المشتري شراء إحدي هؤلاء الفتيات، فأن الوسيط يخلي سبيلها ثم يأخذها المشتري إلي خيمته ليجري عليها اختبارا خاصا لفحص الثدي والسن والبطن وكافة أنحاء جسمها، فأن الدين السعودي يقول: (من اشتر ولم ير فله الخيار حتي يري) والمشتري المرتقب يجوز له أن يصطحب معه طبيبا لفحص الفتاة ومعرفة ما بها من أمراض، وفي إحدي الحالات التي طلبت فيها للكشف علي فتاة عمرها 15 سنة أراد أن يشتريها أمير سعودي معروف بالشذوذ الجنسي والتعذيب، فإنني لم أساعده بشهادة طبية في صالح الفتاة، وذلك حتي لا تقع هذه الضحية بين قبضتيه وعلي الرغم من الحقيقة وهي أن هذه الفتاة كانت ملائمة وحالتها الصحية لا بأس بها

ص: 61

فإنني قد أعطيتها شهادة طبية غير حسنة وألغيت بذلك صفقة البيع. إن سماسرة بيع الرقيق يحتفظون بهؤلاء العبيد والجواري ذكورا وإناثا في غرف قضبان حديدية في منازلهم الخاصة. وذلك ليضمنوا بقاء البكارة للنساء.. ومعظم هؤلاء الأرقاء اختطفوا أصلا من اليمن وقطر ودبي وعمان والبريمي والجنوب العربي وسوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين والمناطق الصحراوية في الحجاز ونجد، ومتوسط ثمن الجارية الصحيحة البدن هو حوالي 1500 جنيه. ولكن ما يتكبده تاجر الرقيق في هذا الصدد هو مبلغ زهيد بخس دراهم معدودة كافية له لكي يستحوذ علي مثل هذه الفتاة. وتعيش الجارية مع زوجات السعودي الحرائر!. (وعشرة من الجواري يعتبرون أقل عدد ملائم لرجل سعودي ثري) ويجب عليهن أن يعملن في المنزل. أما الزوجات فهن لا يعملن شيئا من الأعمال المنزلية. وإنني لم أر أي سعودي يمنع من شراء وحفظ هذه الجواري علي الرغم من أنه كان هناك في الماضي بعض حالات تدل علي تحرير الرقيق. وتسترا علي الفضائح نلاحظ أن السعوديين يتشددون الآن في طرد غير العربيات من سوق الرقيق. وبإمكان أي واحد أن يحضر هذه الأسواق العلنية. إن المنظمات الدولية التي تتحري تجارة الرقيق في السعودية حاولت من آن لآخر أن تتعرف علي بعض الوسطاء الذين يعملون في تجارة الرقيق ولكنها لم تحاول منعه في السعودية، وإن حاولت فإنها لا يمكن أن تتمكن من منعه لوجود هذا الحكم العجيب، وبعض هؤلاء الأرقاء حاول شراء نفسه، وكان هؤلاء ممن لهم مقدرة علي الاندماج بالوطنيين وأراد العيش في عالم أفضل من عالم العبيد.. ولكن كثيرا منهم اكتشف أمره، وكان عقابهم دائما هو القتل أو الخصي أمام العامة الذين يجتمعون في ميدان عام، ويتركون بعد ذلك ليموتوا، والفائدة التي تعود من شراء الجارية بدلا من استخدام امرأة تعمل بأجر زهيد جدا - هو أن هناك ثمة مخاطرة في الاتصال الجنسي ومزاولته مع خادمة ليست من العبيد، بينما يمكن للسيد أن يفعل ما يشاء مع أية فتاة تكون عبدة له أو جارية. وأيضا فإن العبد أو العبدة فيهما استثمار حسن. ذلك أن كثيرا من السعوديين يأخذون معهم خمسة أو ستة من العبيد في رحلاتهم ثم يبيعونهم أثناء السفر علي طول الطريق كأنهم شيكات مع المسافرين، أو يعلمونهم قيادة السيارات وبعض الحرف لاستثمار حياتهم. ومسألة شراء زوجة ما (بقصد الزواج) هي في الواقع غير مأمونة العواقب إذا قورنت بشراء الجارية أو

ص: 62

المحظية ذلك لأن وجه المرأة يجب أن يكون مغطي دائما ولا يمكن للرجل أن يري وجه المرأة العادية التي يريد أن يتخذها السعودي زوجة له.. وعلي ذلك فأن العريس المرتقب غالبا ما يستشير العجائز من أهل الحي نظير أجر معلوم وهن اللائي يخبرنه عن أجمل الفتيات.. حسب أذواقهن!. والزوج المأمول يتفاوض بعد ذلك مع والد الفتاة، ويمتد هذا التفاوض في الغالب إلي مدة سبعة أشهر. والفتاة الجميلة يدفع مهرها مبلغا يتراوح في حدود 265 جنيه.. ولن يحظي العريس بمعاينة زوجته المرتقبة قبل الليلة الأولي أو الثانية للزواج.. وغالبا ما يفر العريس أو العروس عندما يشاهد كل منهما الآخر. ومع ذلك فأن والد الفتاة يحجز لديه النقود التي دفعت له، وعلي العكس من ذلك إذا حدث أن هربت الفتاة بعد الزواج، وفي ذلك يكون والد الفتاة ملزما بأن يدفع إلي الزوج ضعف المبلغ الأصلي الذي دفعه مهرا لابنته. أين تذهب الثروة وكل ثروة البلاد التي لا يمكن تصديقها تذهب إلي سعود وعائلته الملكية، إلا البعض من هذه الثروة فهو يذهب في مشروعات لا تعود إلا علي نفس العائلة السعودية وأتباعها بالمال الوفير. إن هذه الثروة الكبيرة لم تحدث أي تغيير في معيشة هؤلاء الناس أو حتي إصلاح الطرق البدائية الخربة.. ومتوسط منزل المواطن هو عبارة عن حجرة قذرة أو حجرتين. ويتكون الأثاث من كليم علي الأرض وهو كل ما يمكن تدبيره كسرير وجميع المياه يجب أن تحمل بواسطة الصفائح من الآبار. أما المراحيض ودورات المياه فلم نسمع بها. والحمام أيضا غير موجود. وعلي الرغم من أن تعاليم القرآن تتطلب أن يغسل الشخص أذنيه ووجهه ويديه وأنفه وقدميه قبل أن يؤدي الصلاة وأن هناك خمس صلوات في اليوم علي الرغم من كل ذلك فأن السعوديين الحكام يحاولون تجهيل شعبهم ليمر المواطن علي هذا مر الكرام ويتمسح علي هذه الأعضاء من جسمه ليلمسه مجرد اللمس فقط، لتفتك بهم الجراثيم الناتجة عن تراكم الأوساخ!. وقد لعب البنسلين دورا كبيرا في تخفيض بعض الأمراض مثل السيلان، ولكن الزهري الذي غالبا ما يكون وراثيا، لا يزال منتشرا، وهذه مشكلة مؤلمة.

ص: 63

وقد قدم الملك سعود بعض المستشفيات في بعض المدن الكبري ولكنه لا يوجد ثمة شخص يدير هذه المستشفيات، وهذه المستشفيات بما فيها من معدات هائلة لا تزال شاغرة يعلوها الصدأ والتراب. وبمستشفي الملك سعود الخاص بالعائلة المالكة (يوجد أكثر من 300 أمير من الدم الملكي الذين غالبا ما تكون أمراضهم ناتجة عن التخمة أو السمنة أو الرغبة في اصطياد الممرضات) وهو غاص بالأطباء المتمرنين والموظفين الأميركان الذين يشتغلون هناك بأجور خيالية. أما أبناء الشعب فأن المرض يعتبر جزءا من حياتهم، فلا أطباء ولا عناية طبية.. ويعيش العربي هناك علي وجبة واحدة من الرز والتمر، فإذا ما كان سعيدا فإنه يأكل مرة واحدة في الشهر قطعة من لحم الماعز. والأطفال الذين هم من أبناء الأغنياء يعطون في بعض الأحيان لبن الجمال، وإلا فإنهم أيضا يعيشون علي الأرز والمياه، لأن معظم الأموال تذهب علي الملذات الجنسية.. علي من تحرم الخمور؟! وجميع المشروبات الروحية محرمة تماما " ولكن هذا علي الشعب فقط " أما الأمراء ورجال الدين الوهابي، فإنهم يستوردونها أو يصادرونها ممن يستوردها ويشربونها شرب الهيم ويبيعون ما تبقي منها علي التجار وزبائنهم. وفي الوقت نفسه فأن أي شخص من أبناء الشعب يضبط متلبسا ثملا أو يتملك زجاجة من الخمر فإنه يجلد بالسياط بلا رحمة ويسجن وينفي عن تلك المنطقة التي ضبط فيها.. وهذه " الممنوعات " تنطبق علي المقاهي والبوفيهات الشعبية التي لا يمتلكها أمير أو أميرة أو ملك أو ملكة أو واحد من الأتباع أو أتباع الأتباع.. فتلك المقاهي (الشعبية) يجب أن تغلق خمس مرات في اليوم وذلك ليؤدي أفراد الشعب الصلاة طالبين من الله إطالة عمر العائلة المالكة! حيث يساق الشعب مرغما علي " هذه الصلاة " من قبل جلاوزة الهيئة الدينية " الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر " لتدخله " بيوت الله " فيعتاد " علي الطاعة طاعة الأمراء ".. أما قارورة الوسكي فتتراوح قيمتها بين 300 - 400 ريال، وجميع المشروبات متوفرة لأنها تجلب عن طريق الحكام ورجال الدين لبيعها علي الشعب بباهظ الأثمان.. وليس هناك ثمة مسارح في البلاد كما أنه ليس هناك صحافة بالمعني المفهوم، وليس هناك متاحف ولا نواد من أي نوع كان، والتدخين لا يسمح به، في الوقت الذي تستورد فيه الحكومة

ص: 64

هذا الدخان لتبيعه بأثمان باهظة وتأخذ من مستورديه رسوما خيالية، والحقيقة أن الدين السعودي لا يسمح بأي نوع من أنواع النشاط عدا نوع واحد في وقت الفراغ: " ذلك هو الصلاة "... والجهل في رأي الدين السعودي وحكومته " فضيلة " والمرأة " عار علي أهلها " وتعليمها " جريمة ". الحياة العامة والناس هناك يضعون حولهم سياجا قدسيا كاذبا، ذلك أن كل إنسان يخاف من كرباج رجل البوليس والدين السعودي، ولكنهم في داخل جحورهم ومنازلهم العارية يفعلون كل ما يمكن أن يفعلوه.. إن كبارهم يلعبون الميسر مع مراقبة البوليس وتحت حماية الحكم نفسه، ويشتركون في اللذة الجنسية مع إحدي الجاريات التي يمتلكها شخص منهم، فإذا ما تصادف وضبط أحد آخر غير الذي يمتلك هذه الفتاة فأن العقاب يكون الجلد بالنسبة لهذه الجريمة.. وقد علمت من أحد المقربين للعائلة أن الأمراء يمارسون اللذة الجنسية مع قريباتهم وأقربائهم الصغار أيضا، ويبيعون الأفيون علي الشعب ليدخنه، ولكن ثمة عقوبة موجودة في ذلك وهي الضرب بالسياط بشكل قاس. وهكذا يبيعون الأفيون ويجلدون المشتري. وقد يسمح بالرقص في بعض الأحيان حيث تقرع الطبول الموسيقية ولكن يمكن للرجل الرقص مع الرجال والنساء مع النساء. ولا يمكن للرجل السعودي أن يعطي صوته في الانتخابات حيث ليس هناك برلمان وليس هناك بالطبع اجتماع لهذا البرلمان، والانتخابات محرمة، والكلمة العليا فقط تصدر من البيت السعودي. وليس هناك سكك حديدية أو طرق ذات صفة مستديمة.. والسفر يكون بطريق السيارة والأوتوبيس علي الطرق التي أنشئت بواسطة صب الزيت علي الرمال.. ثم سويت بعد ذلك بالهراسة البخارية.. إن العواصف قد جعلت السكك الحديدية والأسفلت في الطرق الرئيسية غير صالحة، فقد يحدث أن تغطي تماما هذه الطرق بالرمال ثم لا يوجد لها أثر بعد ذلك.. وهذا ما يحدث لخطوط السكك الحديدية والطرق الرئيسية التي حاولوا أن ينشئوها في الماضي.

ص: 65

وأنه لمن الصعب حقا للرجل الغربي أن يفهم مقدار الشقاء والتعاسة التي يعيشها الناس في القري البعيدة عن البلاد. والمرأة الحامل تستمر في السير حتي يأتيها المخاض ويرغمها علي أن ترقد في الأرض في حفرة أو تحت جذوع الأشجار، وتضع طفلها. وبعد أن تنتهي من هذه الولادة تستمر في سيرها أو ترجع مرة أخري إلي عملها إذا كانت فلاحة وفي نهاية اليوم تحمل طفلها وتأخذه معها إلي منزلها. ومثل هؤلاء النساء يتزوجن وهن في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرهن (ويتزوج الرجل وهو في سن 13 إلي 18 سنة) وبمضي الوقت، عندما يصبحان في سن الثلاثين يكونان قد انتهيا من هذه الحياة. ولكن الذي يجب أن ندركه في هذا الصدد بشأن الطريقة القاسية التي تنجب هؤلاء النسوة بمقتضاها الأطفال التعساء، أو القدرة الموجودة في الرجل العربي علي أن يشفي بعد ضربه أو جلده سبعين جلدة، فأن الرجل الأمريكي أو الأوربي قد يموت علي الأرجح في مثل هذه الظروف من جلدة أو جلدتين. إن هؤلاء الناس قد تعودوا علي مثل هذه الحياة الوحشية. والشئ الوحيد الذي يخفف كل هذه القيود وكل هذه الحياة المنخفضة المملة التي يسودها الفقر والعذاب هو الحياة الجنسية السعودية التي تعتبر من النسب العالمية في إنجاب الأطفال وكذلك استعمال المخدرات، وبإمكانك أن تقدر أن 80 بالمائة يموتون والباقي يعيش. فإذا كنت في بلاد " السعودية " العربية وأقمت هناك مدة مثل ما أقمت فسوف تلمس أن الحكومة قد قررت علي أن تجعل الشعب في حالة من التأخر والانحطاط والتعاسة كما هم عليه الآن. أين تذهب الأموال وفيما عدا المدن الكبيرة، فليس هناك مدارس في البلاد، وليس هناك مشروعات لهذه المدارس. وأبناء الملك سعود لهم مدرسون خصوصيون وبينما نجد التعاسة والشقاء يخيمان علي عدد كبير من المواطنين في البلاد نجد أن الكماليات الخيالية تسيطر علي الحياة الموجودة في القصور الملكية. إن الزيت الموجودة في البلاد يقدر بثلاث أضعاف الزيت الموجود في الولايات المتحدة، وكل هذا الذهب السائل يعتبر ملكا خاصا لآل سعود!.

ص: 66

فليس " لجلالته " أن يعمل شيئا بصدد هذا الزيت وهذه الآبار " التي يمتلكها " إن رؤوس الأموال الأمريكية والموظفين الأمريكيين هم فقط كل شئ.. ولكن في النهاية وبمعني آخر في نهاية كل عام يعطي الملك مئة مليون جنيه بالإضافة إلي ما يستحصل عليه بطرق أخري. وكل هذه الأموال تهدر دون وعي، فالسيارات الكاديلاك تطلب بالعشرات، والطائرات الخاصة وكذلك آلات تكييف الهواء في القصور التي توجد في جميع أنحاء " مملكة العائلة " وكذلك السيارات المصفحة والمذهبة الملكية المكيفة بالهواء، التي تقابل الملك أينما حل في البلاد أو رحل، كل ذلك يتطلب أموالا باهظة وعملة صعبة ولكن.. لكل شئ نهاية.. القصور والحريم وآخر قصر ملكي انتهي من عمله في جدة تكلف تسعة ملايين جنيه وأمثاله في الرياض ومكة والمدينة والظهران.. وفي الوقت الحاضر يمتلك سعود 124 قصرا خاصا له بما فيها قصر آخر يبني الآن في الدمام. ويتكون حريم سعود فقط من(3000) امرأة. وثلاثة من هؤلاء الزوجات يكن دائما علي استعداد يوميا.. ومعظم النساء والجواري يتنافسن في اللون والعمر والجمال والحجم.. والسعوديون يعتبرون الحياة الجنسية لازمة مستلزمة من مستلزمات المظهر الملكي. وليس هناك من يعلم من موظفي القصور الرسمية ما هو عدد بنات الملك سعود (النساء ليس لهن أهمية قليلة بالنسبة للسعوديون، لدرجة أن الملك لا يهتم مطلقا بتعداد بناته). وقد قيل لي من مصدر موثوق أن الملك له 130 ولدا آنذاك. وسعود يهتم كثيرا بالأولاد.. فهو يلعب معهم ويمنح كلا منهم مرتبا ثابتا خياليا وعندما يبلغ عمر الابن سن ال 12 عاما يظهر ومعه عدد من سيارات الكاديلاك وعدد من الخدم والجواري والنساء والعبيد.. وعندما زارت السعودية الملكة ثريا ملكة إيران السابقة منذ عدة سنوات أهداها الملك سعود من المجوهرات ما يعادل مبلغ 0 0 0، 35 جنيه. وعدد من السيارات المذهبة. السفه وفي أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، أدهش موظفي المطاعم بالمنح التي كان يهبها

ص: 67

كساعات الذهب التي كان يخلعها علي جميع الجرسونات وفي أثناء حكم الوالد عبد العزيز بن سعود عندما كان يسافر الأمراء السعوديون إلي بيروت وأوروبا كانوا ينفقون أموالا باهظة جدا من الذهب ولكن الملك سعود قد عمل علي إيجاد مخصصات للبيت المالك، فجعل إخوانه الأمراء (وعددهم لا يحصي) يعيشون علي مبلغ ثابت لكل منهم متوسطه (10500 جنيها شهريا) علاوة علي المصاريف الأخري التي يمكن أن تستحصل عن طريق المصاريف اللازمة لإدارة قصورهم وسياراتهم الكاديلاك والطائرات الخاصة والحريم الخ.. وقد عين سعود أخاه الأمير فيصل رئيسا للوزارة ووزيرا للخارجية بمرتب شهري قدره - 000، 100 جنيه في السنة وقد أعطي مثل هذا المرتب إلي أربعة آخرين من الأمراء الذين عينهم في وزارته. ومع ذلك فأن " مجلس الوزراء المستوزرين " هذا ليس إلا صورة ناطقة بلسان الحكم السعودي ووحشيته. والأمير فيصل يملك 000، 000، 5 جنيه عبارة عن عمارات سكنية في القاهرة فقط.. وهناك أمير آخر يبني الآن قصرا في مشارف القاهرة يطل علي 14 عمارة سكنية بناها من قبل. ولو فرضنا جدلا أن بعض أمراء البيت السعودي قد يودون أن يعملوا بعض التحسينات لبلادهم فإنهم في نفس الوقت لا يريدون أن يشعروا الناس بأنهم بدأوا يعرفون معني الديمقراطية أو معني مشاركتهم في الثروة. وقد بنيت بعض المستشفيات القليلة جدا والمدارس الموجهة، وليس هناك أي فائدة لوجودها. وسعود بطئ التفكير بطئ الحركة، ليس لديه ما يؤهله ليتعامل ويتفرغ للمشكلات السعودية. وقد تعلم سعود من والده الطرق الوحشية التي كان يجريها والده في الصحراء. فهو لم يدخل مدرسة ما ولم يتعلم شيئا سوي القرآن، ولكنه تعلم كيف يكون لصا خطيرا ومزواجا شهيرا.. وقد ساعد والده علي تقوية الرقابة حول المملكة العربية السعودية عن طريق قطع الرقاب للقبائل المعارضة والثائرة علي الوضع الفاسد. والملك الحالي جاء بعد موت والده في عام 1953 وذلك بالنسبة لماضيه الشرير، فهو لا يمكنه أن يفهم أو يحاول أن يفهم المشاكل المعاصرة في بلاده، فمثلا، عندما دعي سعود إلي زيارة رسمية لشركة أرامكو حيث يعمل بها 000، 15 عامل من العرب هناك (هذا

ص: 68

هو كل العدد الذي يعمل في الصناعة في جميع أنحاء المملكة السعودية السعيدة) كان هناك مظاهرة بقيادة 000، 4 من العمال لمقابلة الموكب الملكي قبل وصوله بقليل وكنت بنفسي موجودا في الشركة في ذلك الوقت، وعلي ذلك فأنني شاهد عيان لما حدث عندما وصل الملك. عندما وصل سعود وحاشيته إلي بوابة الشركة بدأ العمال بالصياح: " فليسقط الظلم. فليسقط المستعمرون الأمريكان " وذلك في 9 - 6 - 1956. وهنا التفت سعود إلي رئيس الحرس وأعطاه أمرا: علي الفور نزل الحراس الخصوصيون بين العمال وبدأوا بضرب المتظاهرين حتي أماتوا الكثير منهم. وتعتبر أرامكو بما فيها من الأمريكان الفنيين الشريان الحيوي للعرش السعودي وبدون هذه الشركة لا يمكنهم أن يستحوذوا علي قطرة من الزيت من باطن الأرض كما أنه لا يمكنهم أن يديروا هذه الشركة بما فيها من الآلات المعقدة لأنهم لا يعلمون أبناء الشعب ولا يعتمدون عليهم، لسبب واحد هو أنهم يخشونهم، وفي الواقع أنه لكي يكون سعر الزيت منخفضا ومبلغ ال 100 مليون جنيه بعيدة عن أن يشترك فيها أحد، لا بد أن يكون معظم الشعب " المسعدن " جاهلا بما يجري في العالم الآخر من أحداث، ولكن الشعب يفهم واقعه تماما وهو يغلي كالبركان، رغم عدم تعليمه. وهذا هو السبب الذي من أجله لا توجد مدارس ولا أنظمة لإنشائها وهذا هو السبب الذي من أجله يسمح فقط بعدد قليل من الكتب والجرائد بدخول البلاد. ولكن علي الرغم من هذا فأن الشعب كما قلت قد عرف مظاهر الحضارة الموجودة في الظهران علي الأقل إحدي الوسائل التي يعيش فيها الأمريكان وهي التي بذرت البذرة الأولي وفتحت العيون. وسينتصر الشعب حتما.. " انتهي ما أورده الطبيب ".

كيف تحكم البلاد السعودية وتساس

قالت مجلة " العرفان " في الجزء الثالث من المجلد 42 بتوقيع: نصير الشعب: في العدد الثالث من مجلة " العرفان " الصادر في جمادي الأولي سنة 1373 كتب أحد أبناء القطيف كلمة تحت عنوان " كيف تحكم بلاد القطيف وتساس " وباعتباري أحد أبناء

ص: 69

الشعب السعودي يهمني جدا أن اقرأ عن بلادي الشئ الكثير، ولكن الذي استوقفني كثيرا في هذه الكلمة هو أن كاتبها تحدث عن القطيف وحدها وكيف تحكم وتساس من دولة الأمراء وقد بين الظلم الذي يقع علي القطيف لكونها موطن الشيعة ليس إلا، وكان الأحري به أن يكون أكثر علما ومعرفة بالأوضاع العامة التي يعانيها الشعب السعودي بصورة عامة بما في ذلك النجديون والحجازيون والإحسائيون ورجال القبائل البدو وأهالي نجران وغيرهم.. إن هذه المظالم التي ذكرها الكاتب لم تقتصر علي أهل القطيف وحدهم لكونهم من مذهب غير مذهب حكومة الأمراء ولكن هذه المظالم تصيب هؤلاء الذين علي دينهم بأعظم الأسهم وأكثرها جورا وتعسفا أن هؤلاء الذين يلتقطون النواة التي يرميها الحجاج أثناء الحج لم يكونوا إلا من النجديين وأبناء الحجاز وأن هذا الذي يصرخ من أعماقه (هللة يا حاج) لم يكن قطيفيا وإنما هو سني. إن القضية أوسع بكثير من هذه النظرة الضيقة للمسألة، إن هؤلاء يسمونهم علميا بالاقطاعيين والاوتوقراطيين أي رجال الحكم الرجعيين وإن همهم هو استغلال خيرات البلاد وامتصاص دم الشعب كما يمصه الاستعمار وشركاته الاستثمارية وهم لا يفرقون أبدا بين طائفة وأخري وإنما همهم بالدرجة الأولي اكتناز الأموال وصرفها في الطرق التي لا يقرها دين ولا ضمير ولا إنسانية. أرجو أن يعرف صاحبنا جيدا أن المسألة أبعد عمقا من هذه السطحية التي عالج فيها كيفية الحكم في القطيف وكان الأحري به أن يقول كيف تحكم هذه الملايين التي يخيم عليها الجهل والفقر والمرض والادواء الفتاكة الثلاثة ولا يزيد السني عن الشيعي ولا الحجازي عن الأحسائي. والحكومة لا تفرق بين هؤلاء أبدا في هذا الغرض البتة وأن الذي أصدر كتاب " هذه هي الأغلال " لم يكن قطيفيا وإنما كان نجديا من القصيم. وأن أعضاء " لجنة ممثلي العمال السعوديين " الذين اعتقلوا لكونهم من الأحرار الذين طالبوا بإيقاف " أرامكو " عند حدها وأودعوا سجن العبيد في الآي بي سي وكبلوا بالحديد الثقيل لم يكن بينهم شيعي واحد كما أعتقد فقد كان معظمهم من النجديين أبناء العمومة لدولة الأمراء وهؤلاء الذين أوقفوا في الحجاز منذ أيام وعددهم يربو علي 350 شابا لم يكونوا من الشيعة أو من أهالي القطيف وهؤلاء الذين اعتقلوا في الرياض وعددهم أكثر

ص: 70

من ثمانين لم يكونوا إلا نجديين. وأن المطالب التي رفعها أهالي القطيف إلي الملك سعود أثناء توليه العرش والتي كانت بسيطة جدا للغاية ومن حق أي إنسان أن يطالب بها ومن بينها تمثيل القطيف في مجلس الشوري لكيما يتسني للقطيفيين أن يفهموا الحكومة إذا كانت تريد الاصلاح، مشاكل البلاد وما تحتاجه من إصلاح وطالبوا أيضا بمساواة القضاء الشيعي بالقضاء السني وفتح المدارس والسماح للبعثات بالسفر إلي الخارج وفتح المستشفيات ورفع الرقابة عن الكتب الخارجية والسماح بحرية الاعتقاد دينيا كان أو غيره. أتعرف ماذا كان جواب الحكومة عليها؟ كان الصمت والصمت وحده وقد بقي وفد القطيف الذي انتخبه الشعب هناك ينتظر أياما طوالا في قصر الضيافة ليحظي بالجواب ولكن بدون جدوي. فهل اقتنعت يا عزيزي الكاتب بأن القضية لم تكن قضية معينة بالذات وإنما هي قضية عامة لأن الاصلاح الذي ينشده الشعب السعودي بمختلف طبقاته وعناصره ومذاهبه يختلف كل الاختلاف مع مصالح الطبقة الحاكمة الاستغلالية. ولو أنك سمعت بذلك التهديد الذي ألقاه في آذان وفد القطيف الأمير سعود ابن جلوي أظلم إنسان عرفته البشرية في قرنها العشرين. قال لهم: " إذا عدتم لها أي إذا عدتم للمطالبة بحقوقكم فسوف لا نبقي عليكم ولا نذر، وإنكم لا تثقون بالحكومة وإنكم مشاغبون " وقد قال مثل هذا لأعضاء لجنة ممثلي العمال السعوديين وقد قلنا سابقا إنهم لم يكونوا إلا سنيين. والآن دعني أعالج مطالب أهالي القطيف الحيوية.. وليعلم القارئ بأنني من أبناء السنة ونجدي قح ولكن هاتوا يدكم الكريمة يا أبناء شعبي لأشد عليها بقوة ولنعمل سوية في سبيل تمتعنا نحن الشعب بكل أجناسه بخيرات أرض أجدادنا: إذا علمنا أن الحكومة السعودية حكومة ملكية ونحن نعرف أن الحكومات التي تشارك أمم العالم في مجالسها الدولية ومنظماتها العالمية وتتبادل التمثيل مع كافة الحكومات يجب أن تتبادل التمثيل وتتجاوب بالأحاسيس مع شعوبها بالدرجة الأولي، وإذا كانت الحكومات الملكية تكون عادة دستورية، وكل القوانين المتعارف عليها تقر (أن الشعب مصدر السلطات) وإذا علمنا أن الحكومة لا يمكن أن تكون مستقلة ومعترف بها دوليا بين الشعوب الحرة إلا إذا كان شعبها حرا ومستقلا في تصريف شؤونه واختيار طريقة الحكم التي يريدها.

ص: 71

بقي أن نتسأل هل أن هذا متوفر لدينا نحن شعب المملكة السعودية؟ واقع الحال يؤكد عدم توفره وهل أن حكومة من الحكومات تحكم من الأمراء فمنهم الوزراء ومنهم حكام أكثر المناطق أهمية وبيدهم الحل والربط ومعفيون من كل الإجراءات النظامية التي تتحكم بمقدرات الشعب العربي. فإذا ما طالب الشعب العربي السعودي بمساواته بالشعوب العربية الأخري فلا يعني هذا خروجا عن المألوف.. وإذا ما طالب القطيفيون بأن يمثلوا في مجلس الشوري وهذا من حقهم الطبيعي فهذا لا يعني بأية حال أنهم لا يثقون بالحكومة وإذا لم يطالب أهالي نجد والأحساء بذلك لا يعني هذا أيضا بأن القطيفيين أهل شغب. ولكن الواقع يا أصحاب الشأن أن الشعب السعودي بمختلف طبقاته متذمر من هذه الأوضاع الاجتماعية المتردية التي يتخبط بها وأن هذه المساوئ لا تؤثر علي القطيفيين وحدهم بل هي تؤثر علي الكل بدون استثناء بما في ذلك أهالي نجد والأحساء والحجاز " انتهي ". وقد علقت العرفان علي هذه الكلمة بما يلي: نشرنا ما نشرناه عن القطيف لأنه لم يردنا من غير القطيف رسائل لننشرها، ولعل ذلك مرده الخوف من الانتقام مع أن أكثر الذين زاروا المملكة العربية السعودية حتي من الذين يقبضون من السعوديين يؤيدون ما جاء في هذه الرسالة وما قبلها من الرسائل ويروون العجائب والغرائب عن حالة الشعب السيئة في تلك البلاد التي يحتكر ذهبها الأسود الأمراء فينفقونه علي الفساد والإفساد، وفي غير مواضعه ومواقعه دائما، ولذلك نجد المسبحين بحمدهم، والمطبلين والمزمرين لهم، طمعا في عطائهم، وأملا في نفعهم، ولا حبا بهم " انتهي ".

فضيحة في حريم الملك سعود

قالت مجلة آخر الساعة: حكاية تسربت من حريم الملك سعود في العربية السعودية. لقد قرر الملك سعود فجأة أن يطلق ابنه المدلل الأمير خالد من زوجته فريال. والسبب كما قال لي قادم من المملكة العربية السعودية أن الملك سعود الذي يقول إنه مسلم.. وإنه حامي الحرمين كان يغار من ابنه بسبب زواجه من فريال. وكانت هذه الغيرة تثير أعصاب الملك.. فلم يكن يتمالك نفسه وهو يراها تروح وتغدو أمام عينيه.. وكشف الملك " المسلم " عن مشاعره الخبيثة تجاه زوجة ابنه حتي أصبحت الفتاة

ص: 72

المسكينة حديث الحريم في قصر الناصرية.. قصر الملك في الرياض.. ولم يكن أمام الملك حتي يشفي نفسه من حالة الهستيريا التي كان يصاب بها كلما رآها أمام عينيه إلا أن يقرر تطليقها من ابنه.. ولم يضع في اعتباره أبدا أنها زوجة ابنه ولم تكن زوجته في يوم من الأيام.. وكما سمعت من القادم من المملكة العربية السعودية.. ذهبت فريال إلي لبنان لتقضي عدة أسابيع. ومنذ أسبوعين عادت إلي الرياض فلم تجد زوجها الأمير خالد في انتظارها.. واستدعاها الملك سعود ليقول لها بنفسه: ولدي خالد لا يصلح لأن يكون لك زوجا.. ثم سلمها الملك وثيقة الطلاق ومعها شيك بمبلغ مائة ألف ليرة لبنانية.. وبكت فريال وهي تقول للملك: ليش ما قلت الكلام ده " يا طويل العمر " قبل ما تيجي أنت بنفسك وتطلبني من أهلي؟ ولم يستطع الملك سعود.. الملك المتمسك كما يقول بتعاليم دينه الإسلامي.. أن يقول شيئا.. واضطرت فريال لأن تعود إلي لبنان دون أن تودع زوجها الذي تطلقت منه بأمر الملك. وبقية الحكاية.. تقول.. إن الملك سعود عندما زار لبنان وذهب ليخطب فريال لم يكن يريدها لابنه.. ولكنه كان يريدها لنفسه.. وسأل الملك عمها عن سنها وهو يقول له: - عمرها قد آش؟ وأجاب العم قائلا: 22 سنة! ولمعت عينا الملك ببريق عجيب.. ثم مسح شعيرات ذقنه كعادته براحة يده وهو يقول: إذن نزوجها لولدنا خالد..

ص: 73

ولم يفهم العم لماذا عدل الملك فجأة عن رأيه في طلب الزواج من فريال.. ولماذا قرر تزويجها من ابنه المدلل الأمير خالد؟ ولكن لبنان كله عرف السبب.. فالملك كما قال يفضل فيمن يختارها زوجة لنفسه أن يكون عمرها أقل من 18 سنة. وأنه وجد فريال أكبر سنا مما كان يعتقد. وكان إن قرر تزويجها من ابنه بدلا من أن يتزوجها هو " انتهي "!

ماذا يجري في السعودية

قالت الأهرام في عددها الصادر في 11 آيار سنة 1961 الذي يجري في السعودية الآن، هل هو غير طبيعي؟ - بالعكس، ذلك ما كان ينبغي أن يحدث بالضبط! وهل كان في تصور أحد مثلا أن القوي الرجعية الحاكمة في السعودية سوف تستسلم ببساطة للأفكار الجديدة المتحفزة للتغيير الثوري؟ هل كان في تصور أحد أنه يكفي أن يقال للملك سعود: " يا صحاب الجلالة، إن هذه الحياة التي تعيشها لم تعد تتفق مع طبيعة العصر ولقد بات محتما أن تتغير هذه الحياة. لم يعد مقبولا أن تحصل لنفسك وحدك من دخل بترول السعودية علي مائة مليون جنيه استرليني، وأن تحصل أسرتك علي مائة مليون أخري غيرها، ثم لا يتبقي لسبعة أو ثمانية ملايين من البشر في مملكتهم غير الفتات الذي لا يرد الجوع! لم يعد مقبولا يا صاحب الجلالة أن يكون في قصرك أكثر من ألف جارية ومحظية وأن يكون لك من الأولاد والبنات ما يزيد علي المائة كل منهم له مرتباته ومخصصاته وحاشيته وقصوره. إن البترول - يا صاحب الجلالة - ليس موردا ثابتا وإنما هو نبع سوف ينضب في يوم من الأيام، ومن صالح الشعب العربي في بلادك أن تنتهز فرصة تدفقه لبناء قاعدة للإنتاج تبقي وتدوم للشعب الباقي الدائم ". هل كان في تصور أحد أن الملك سعود، حين يسمع هذا الكلام مثلا، سوف يطرق برأسه مفكرا لوهلة، ثم يرفع رأسه ويقول:

ص: 74

- هذا حق، ولست أعرف كيف فات علي أمره، ولكن الفرصة لم تفت بعد. ثم يقوم جلالته فيعطي للشعب ما هو حق للشعب. ويحتفظ لنفسه بمليون واحد، أو حتي مليونين، وبقصر واحد، أو حتي قصرين، وبزوجة واحدة، أو حتي زوجتين. ثم يقول لمن حوله: اقتدوا بي حتي يعم الخير علي الناس! ذلك لم يحدث، ومن المستحيل حدوثه، لأنه هو غير الطبيعي وإنما الطبيعي هو ما جري، وما يجري الآن فعلا! يحاول الملك أن يخادع تيار التطور ويماطله، ولقد ينجح - وقد نجح فعلا في تأجيل الصراع المحتوم سنتين أو ثلاث. لكن تأجيل الصراع لا ينهيه. ثم جاءت لحظة المواجهة التي لم يكن منها مفر. وانتفض الملك بكل غيظه وحقده وعدائه الذي يصل بغير تردد إلي حد القتل يحاول الانقضاض علي تيار التطور. داس علي مشاكله الصغيرة لكي يستجمع قواه للمعركة المريرة. لم يقف عند حد في حقده الأعمي. لم يتردد لحظة في الاصرار علي القتل. من نماذج المشاكل التي داس عليها جلالته، خصومته مع أخيه الأمير فيصل. ومن المدهش مثلا أن الملك لم يتورع عن سؤال بعض أصدقائه الأمريكيين أن يتوسطوا بينه وبين أخيه لكي يفهم أن التغيير الذي يحوم حول الشرق العربي يهددهما معا.. وقد كان. تدخل أميركي بين ملك عربي، وبين أخيه الأمير العربي، ولم ينس الأميركي طبعا أن يحتسب عمولته في الوساطة، فأخذها في شكل إخراج السيد عبد الله الطريقي الذي كان وزيرا لشؤون البترول في الوزارة التي ألفها سعود في عنفوان خصومته لفيصل وبعد أن أقاله من الوزارة سنة 1960

ص: 75

وكان الملك قد استعمل " الطريقي " واجهة لتضليل الشباب الجديد المثقف في الجزيرة العربية وإيهامهم أنه مستعد للتغيير، لكن التغيير يجب أن يجئ تدريجا وخطوة بعد خطوة. ولقد كان الطريقي يعتبر الخبير الوحيد في شؤون البترول في مملكة سعود، وكانت خبرته في صدام مستمر طول الوقت مع المصالح البترولية المتحكمة في السعودية. ثم حدثت حكاية مثيرة في آخر جلسة لمجلس الوزراء السعودي، حضرها الملك سعود، قبل مرضه وطيرانه المفاجئ إلي أميركا، طلب الطريقي وزير شؤون البترول في وزارة سعود أن يتكلم في المجلس، وأعطاه الملك الكلمة، وقال الطريقي: " إن شركات البترول اليابانية أخطرتني بأن السيد كمال أدهم شقيق حرم الأمير فيصل طلب منها مليون من الدولارات مع عمولة مستمرة قدرها خمسة في المائة علي أن يتكفل هو بحصولها علي الامتيازات التي تقدمت لها " ثم استطرد الطريقي: " إن المسألة ليست مسألة كمال أدهم ولكني أعلم أن أسرة الأمير فيصل ذاتها تشترك معه في الحصول علي هذه المبالغ الطائلة ". وقال الملك: هذا كلام خطير ولا بد أن نحقق فيه! وأحس عدد من الجالسين في قاعة اجتماع الوزارة أن ما قاله الطريقي لم يكن مفاجأة للملك وإنما كان الملك علي علم بما سوف يقوله الطريقي بوسيلة أو بأخري!. وتأجل الاجتماع. وفي هذه الفترة قرر سعود أن يهرب من المنطقة العربية كلها إلي أميركا وترك الأمور في السعودية لفيصل بعد تدخلات ووساطات. وعقد فيصل اجتماعا للوزارة بعد سفر سعود. وبدأ فيصل جلسة للوزارة بقوله: - أريد أسمع معكم مناقشات مجلس الوزراء في آخر جلسة حضرها الملك، حتي

ص: 76

نستأنف تصريف الأمور من حيث تركها جلالة الملك. ودخل أحد رجال حاشية فيصل يحمل جهاز التسجيل، والقاعدة في السعودية بسبب عدم وجود العدد الكافي من المختزلين والسكرتيرين، أن تسجل جلسات مجلس الوزراء علي شريط كهربائي يحتفظ به الملك. وساد القاعة صمت ثقيل بينما وضع رجل الحاشية جهاز التسجيل علي مائدة الاجتماع وركب الشريط عليه، وبدأت الأصوات، أصوات المناقشة في الاجتماع السابق، تتصاعد منه. وفجأة بدأ اتجاه الحديث المسجل يقترب من اللحظة المسرحية المثيرة. وسمع صوت السيد عبد الله الطريقي يطلب الكلمة، وصوت الملك يعطيها له ثم راح صوت السيد عبد الله الطريقي يوجه الاتهام إلي صهر الأمير فيصل وإلي أسرة الأمير فيصل.. والأمير هو الذي يجلس هذه اللحظة المسرحية المثيرة علي رأس مجلس الوزراء. وكان فيصل طوال الوقت يوجه للطريقي نظرات لا أجد حاجة إلي وصفها! وانتهي التسجيل، وقال فيصل: لا أظن أني أستطيع أن أتعاون معك بعد هذا. وذهب الطريقي إلي بيته. وكانت الترتيبات في أميركا تجري. وعاد الملك، وقبل فيصل أن يستمر في العمل نائبا لرئيس الوزراء مع الملك الذي تمسك برئاسة الوزارة. وأعيد تشكيل الوزارة.. وخرج الطريقي " انتهي ".

كفاءات وظائف الدولة الكبري عند السعوديين

1 - في السلطة الإدارية: تنحصر السلطة الإدارية في الملك وأتباعه وتنحدر تدريجيا إلي وزارة الداخلية حتي تنتهي في الإمارات وكل أمير في بلد يعتبر حاكما إداريا ومعطي الصلاحيات التي بموجبها له الحق في قطع الرقاب والأيدي والأرجل والسجن مدي الحياة ونفي أي مواطن لأي بلد يختاره له وكل الدوائر الرسمية في حدود منطقة الأمير مربوطة به ولا يجوز لأي دائرة

ص: 77

أن تكتب لجهات اختصاصها إلا بعد أخذ موافقة الأمير واطلاعه علي تفاصيل الموضوع مقدما وله الحق في الموافقة والرفض بدون إبداء الأسباب. وبالاختصار الأمير هو كل شئ في منطقته يحيي ويميت ويعز ويذل. ما هي مؤهلات الأمير لكي يفوز بهذه الصلاحيات الواسعة؟ أ - يجب أن يكون من خويان الملك القدامي أو خويان الأمير فيصل العتاق الذين خدموا في المعية السامية ما لا يقل عن عشر سنوات ونالوا شهادة البراءة من النار والثقة من الملك أو فيصل واجتازوا مرحلة الاختبار وأثبتوا أنهم لا يمتون إلي الشعب بصلة. والشئ الوحيد الذي يعرفونه عن الشعب هو أنه ملك آل سعود، استولوا عليه بالسيف وهم - أي الأمراء - خلائف آل سعود علي هذا القطيع من الآدميين الذين لا حق له في الحياة إلا بإرادة سيده ومولاه الملك سعود. ب - أن يكون الأمير قد حمل السلاح وراء أحد آل سعود وقدم لهم الحذاء. ج - يشترط أن يكون الأمير من بيئة منحطة في المجتمع حتي يعتبر نفسه خادما حقيرا لآل سعود ويشعر بأنه شخص تافه ولولا فضل آل سعود وعطفهم عليه لم يصل لهذا المنصب الخطير ولا كان له مكان في الناس وشعوره هذا هو الدافع الذي يجعله يتفاني في الاخلاص لهم وتقديم آيات الولاء والطاعة لأنه يعلم أن مصيره مربوط برضاهم وبدونهم لا بقاء له وعلي هذا الأساس يكون شعوره نحو الشعب فلا هو من الشعب ولا الشعب منه. د - والأهم أن يكون الأمير أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف سوي محل توقيعه علي المعاملات. هذه هي مؤهلات الحاكم الإداري المسلط في السعودية علي رقاب الشعب 2 - في السلطة القضائية: تنحصر السلطة القضائية في مفتي نجد الأكبر وهو اليوم كفيف البصر اسمه الشيخ محمد ابن إبراهيم من سلالة ابن عبد الوهاب ومنه تنحدر السلطة إلي رئاسة القضاة التي يقوم بها جلالته أما مؤهلات القاضي فيجب أن يكون قبل كل شئ وهابي الدين أما دراسته

ص: 78

فمحدودة، ولا تتعدي الاطلاع علي مجموعة التوحيد النجدية ولا بد من التأكد من أن دراسته محصورة في المجموعة المذكورة. ويجب أن يحفظ الكثير منها عن ظهر قلب كأحكام ابن عبد الوهاب وأحاديثه ودعوته الأولي وكذلك يجب أن يطلع علي تاريخ الدرعية بما فيه الأسباب التي أدت إلي فشل آل سعود في الدعوة السابقة، ولا يولي القضاء إلا من عرف بالعبودية للوضع القائم بغض النظر عن تحصيله العلمي ونزاهته واستقامته وكفاءته " انتهي ما كتبه فاضل نجدي ".

مشاهدات سائح سوداني

قال الشيخ عمر مرتضي من أبناء السودان: لقد زرت الجزيرة العربية 1376 ه وطفت بها من الظهران إلي الحجاز، فعرفت أثناء رحلتي الكثير عن أعمال طاغية الأحساء ابن جلوي، وزرت وادي بني مالك في الطائف البلد الذي أحرقه ابن سعود بأهله وماشيته وأشجاره. ورأيت كيف هدم آل سعود بيوت الرسول وآل الرسول وأصحاب الرسول ومنازل الوحي دون أن يخشوا الله ويتقوه أو يستحوا - علي الأقل - ويتركوا هذه البيوت الطاهرة التاريخية التي تجلت بها أعظم المواقف الإنسانية - يتركوها - ولو من باب المحافظة علي الآثار القديمة. ولكنني لما رأيت المنكر والترف والتبذير وسرقات الحكام والرشوات، ولما رأيت القصور الفاجرة والفسق فيها، وطريقة زواجهم اللاشرعية والتي هي زني مستور، وكذلك توالدهم واقتناء الجواري والعبيد والظلم والطغيان وتفضيل اللصوص الكبار وتقطيع أيدي وأرجل الضعفاء وجلدهم في الطرقات الشئ الذي يبرأ منه الإسلام، أيقنت بعد ذلك أن من يخرب بيوت الله والأنبياء لا يتورع أبدا من أن يخرب بيوت شعبه.. فوالله لم يفعل قارون وفرعون وهامان، وجنودهم وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع - حسبما رأيت بعيني وسمعت من الشعب المقطعة أيديه بإذني - مثلما يفعل سعود وآله وخدمه بأرض الجزيرة التي كانت منبعا للرسالة الإنسانية والشجاعة والإيمان " انتهي ".

حول المؤتمر السعودي

في هذه الأيام ونحن نطبع هذا الكتاب " ذي الحجة 1381 " عمد السعوديون إلي طريقتهم التي درجوا عليها من التمويه علي العالمين الإسلامي والعربي، والتظاهر بالغيرة والحمية فسخروا بعض من

ص: 79

نبذتهم أوطانهم وفضحتهم أعمالهم - سخروهم ليعاونوهم في استغلال موسم الحج بأن يجمعوا لهم ما أسموه بالمؤتمر الإسلامي، ففشل هذا المؤتمر فشلا ذريعا، وانكشف السعوديون وأذنابهم فيه انكشافا مريعا. وفي التعليق علي مقررات المؤتمر المزعوم نشرنا هذه الكلمة في مجلة الحوادث البيروتية ونحن نضيفها إلي هذه الفصول: 1 - لا يجهل أحد حقيقة هذه الغيرة المفاجئة علي الإسلام والمسلمين التي أظهرها اليوم الحكام السعوديون ولا ما هي البواعث التي حملتهم علي الدعوة إلي مؤتمرهم، هذه البواعث التي هي أبعد ما تكون من الغيرة علي الإسلام والدفاع عنه. 2 - تتحدث قرارات المؤتمر السعودي في مادتها الأولي عن أن الإسلام فوق العصبيات، فهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يحرم فريق من المواطنين المسلمين في السعودية من أبسط حقوق المواطن لا لشئ إلا لأنهم لا يرون في بعض شؤونهم ما يراه رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب. وهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يهدم مسجد أهل القطيف وأن ينكل بهم، وأن تهدر إنسانية النخاولة وأن يصف المئات منهم وفيهم العلماء والمفكرون ويدعي الرعاع بالألوف ليبصقوا عليهم ويسخروا بهم ويمزقوا كراماتهم بكل ما أوتوا من نذالة. وهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يحدث في موسم حج هذا العام، في نفس الوقت الذي كان يتشدق واضعو هذه القرارات بها، ما حدث من شتم ألوف الحجاج ومصادرة ما يحملونه من كتب دينية، والكتابة عليها بأنها صودرت لما فيها من الشرك.. ونصوص هذه الكتابة تحت يدنا. 3 - تتحدث المادة الثانية عن العدالة الاجتماعية فهل من العدالة الاجتماعية أن يركض معظم سكان السعودية وراء قشور البطيخ سدا لأرماقهم في حين يحيا الأمراء والكبراء السعوديون الحياة التي أصبحت فضيحة العرب الاجتماعية في العالم. 4 - توصي المادة الخامسة بإزالة جميع آثار الشرك والبدع المخالفة للإسلام ويؤسفني أن أقول بأن المسؤولين السعوديين قد استغفلوا المؤتمرين فدسوا عليهم هذا الكلام الخطير ولو كنا نعلم أن المؤتمرين يدركون خطورة ما قالوا لكان لنا معهم شأن آخر، ولكننا

ص: 80

نعلم حق العلم أن المؤتمرين كانوا قسمين: قسما مؤمنا مخلصا حقا ولكنه يجهل اللغة العربية أو يلم بها إلماما، وقد دفعه إخلاصه وإيمانه أن لا يتعمق بالنصوص وأن يكتفي بأن يحضر مؤتمرا إسلاميا ظاهره الغيرة علي الإسلام. وقسما يعرف العربية ويعرف مرمي هذه الكلمات ولكن حقده الشخصي وأهواءه الأنانية جعلته يسترضي السعوديين ويسير معهم كما يشاؤون ولو كان في ذلك إهانة للعالم الإسلامي كله. وعند الحاج أمين الحسيني - الذي رضي لنفسه أن يكون بوق السعوديين الأكبر بعد إن كان مفتي المسلمين الأكبر - عند الحاج أمين الخبر اليقين.. ما هي آثار الشرك التي يريد السعوديون ومؤتمرهم أن يزيلوها من الإسلام؟! يؤسفنا أن نكشف حقيقة العقيدة السعودية التي تري في المسلمين جميعا مشركين لأنهم يزورون بين الحين والحين أجداث أحبائهم، فالمسلم البيروتي الذي يعن له أن يزور قبر أب أو أخ أو صديق في مقبرة الباشورة هو عند السعوديين مشرك خارج عن الإسلام، والمسلم اللبناني يؤمن بقدسية الإمام الأوزاعي فيخطر له أن يشد الرحال للانحناء أمام قبره هو مشرك عند السعوديين الوهابيين. والمسلم الهندي والباكستاني والإيراني الذي يحب علي بن أبي طالب وولده الحسين والإمام أبا حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني فيلم بقبر واحد منهم في العراق زائرا محييا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم المغربي الذي تستهويه سجايا مولاي إدريس فيعرج علي ضريحه الطاهر مسلما داعيا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم المصري الذي يحترم قبر رأس الحسين وقبر السيدة زينب وقبر الإمام الشافعي فيدعو الله هناك هو مشرك عند السعوديين. والمسلم الدمشقي الذي يكبر صلاح الدين الأيوبي فيطوف بضريحه متحمسا هو مشرك عند السعوديين.

ص: 81

والمسلم الحلبي الذي يعتز بعبد الرحمن الكواكبي فيزور رمسه مكبرا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم الحمصي الذي يقرأ الفاتحة علي قبر خالد بن الوليد هو مشرك عند السعوديين. وهكذا قل عن كل المسلمين في كل البلاد الإسلامية الذين لا يرون رأي الأعرابي محمد ابن عبد الوهاب وجماعته السعوديين. هذه هي آثار الشرك التي يريد السعوديون الوهابيون إزالتها من الإسلام، وهذا هو موقفهم من المسلمين. ومن العجيب بل ليس من العجيب أن السعوديين الوهابيين منذ برزوا حتي اليوم ومنذ الساعة التي حملوا فيها السلاح حتي هذه الساعة لم يحاربوا إلا العرب ولم يسفكوا إلا دماء المسلمين، وأن رصاصة واحدة من رصاصهم الكثير لم تطلق علي مستعمر أو صهيوني، وأن هبوب الجنة الذي يهتفون به في حروبهم لا يهب عليهم إلا في قتالهم للعرب والمسلمين. 5 - في سجون السعوديين اليوم كاتب كبير وعالم جليل اسمه عبد الله الخنيزي فهل لحكام الرياض أن يقولوا لنا لماذا سجنوه؟ وبأي ذنب جلدوه وعذبوه؟ وهل لهم أن يدلونا علي مادة من مواد مؤتمرهم تجيز لهم فعل ما فعلوه ويفعلونه بهذا الرجل الفذ العبقري وبسكان القطيف والأحساء جميعا وبفريق من مجاوري المدينة المنورة؟ وهل من روح المؤتمر الإسلامي أن يعذب مفكر نحيل الجسم رقيق الشعور علي أيدي حكام غلاظ الرقاب تنفر بطونهم حيث تختفي عقولهم؟ 6 - ليس هذا كل ما يقال في هذا المؤتمر.

ص: 82

فتوي الوهابيين في التلغراف والشيعة ومسجد حمزة واتلاف كتب المنطق وغيرها

في متفرقات من مقالات الوهابية واعتقاداتهم وتشدداتهم ومقالات مروجي دعوتهم وردها الأول: توقفهم في (التلغراف) وفتواهم في شيعة الأحساء والعراق وفي المكوس فمن الطرائف ما نقلته الصحافة العربية من توقف علماء الوهابية في جواز استعمال التلغراف لأنه أمر حادث وإفتائهم بعدم جواز معارضة السلطان ابن سعود في أخذ المكوس مع فتواهم بأنها من المحرمات الظاهرة. قالت جريدة الرأي العام في العدد 4061 الصادر في 19 ذي القعدة سنة 1345 بدمشق ومثلها قالت جميع الصحف العربية: ورد علي جلالة السلطان ابن سعود من بعض الوهابيين أسئلة تتعلق بالمحمل والهاتف والضرائب وغيرها فاستفتي علماء نجد فورد عليه منهم الأجوبة الآتية ننشرها ليطلع عليها الرأي العام الإسلامي وهي موقعة من نحو من أربعة عشر رجلا من علماء نجد منهم محمد بن اللطيف وسعد بن عتيق وسليمان بن سمحان وغيرهم. قالوا: أما بعد فقد ورد علي الإمام سلمه الله تعالي سؤال من بعض الإخوان عن عن مسائل فطلب منا الجواب عنها فأجبناه بما نصه: أما مسألة البرق " التلغراف " فهو أمر حادث في آخر هذا الزمان ولا نعلم حقيقته ولا رأينا فيه كلاما لأحد من أهل العلم فتوقفنا في مسألته ولا نقول علي الله ورسوله بغير علم والجزم بالإباحة والتحريم يحتاج إلي الوقوف علي حقيقته (1) " وأما " مسجد حمزة وأبي رشيد فأفتينا الإمام وفقه الله بهدمهما علي القوم. (إلي أن قالوا): وأما الرافضة: فأفتينا الإمام يلزمهم البيعة علي الإسلام ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل وعليه أن يلزم نائبه علي الأحساء أن يحضرهم عند الشيخ ابن بشر ويبايعونه علي دين الله ورسوله وترك الشرك من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم وعلي ترك سائر البدع في اجتماعهم علي مآتمهم وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ويمنعون من زيارة المشاهد

ص: 83


1- 18. هذا مثال من الاصلاح والتجديد الذي يدعيه قصار النظر للدعوة الوهابية " الناشر ".

ويلزمون بالاجتماع علي الصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد ويرتب الإمام فيهم أئمة ومؤذنين ونوابا من أهل السنة ويلزمون بتعليم الثلاثة الأصول (1) وتهدم المحال المبنية لإقامة البدع فيها (2) ويمنعون من إقامة البدع (3) في المساجد وغيرها ومن أبي قبول ما ذكر ينفي عن بلاد المسلمين (وأما رافضة القطيف) فيلزم الإمام أيده الله الشيخ ابن بشران يسافر إليهم ويلزمهم بما ذكرنا (وأما البوادي والقري) التي دخلت في ولاية المسلمين فأفتينا الإمام بأن يبعث إليهم دعاة ومعلمين ويلزم نوابه بمساعدة الدعاة علي إلزامهم بشرائع الإسلام (وأما رافضة العراق) الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الإمام بكفهم عن الدخول في مواطن المسلمين وأرضهم " وأما المكوس " فأفتينا أنها من المحرمات الظاهرة فأن تركها فهو الواجب عليه وإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين والخروج عن طاعته من أجلها حرر في 8 شعبان سنة 1345 " انتهي ". فهذا نموذج من فتاوي الوهابية فليتأمل فيه العاقل المنصف وليقايس بين تشددهم واستشكالهم في التلغراف خوفا من القول علي الله ورسوله بغير علم وبين تساهلهم في المحرمات الظاهرة كالمكوس وإرخائهم العنان فيها لآخذها خوفا من شق عصا المسلمين بزعمهم. وهل أعوان الإمام غير الوهابية فأين شق عصا المسلمين " أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " ولماذا لم يفتوا بعدم هدم قبور أئمة المسلمين وعظمائهم خوفا من شق عصا المسلمين ولماذا هدموها وألحقوا الإهانة بأهلها فأوغروا قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حتي صار كل فرد منهم يتمني خروجهم من الحجاز ولا يتأخر عن مقاومتهم في أول فرصة تمكنه أليس في هذا شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم. ولكنهم إذا اعتقدوا أن لا مسلم غيرهم كانوا قد شقوا بذلك عصا غير المسلمين بزعمهم. " وإذا " كانوا يستشكلون ويتوقفون في حكم التلغراف لأنه حادث لا يعلمون حقيقته فهلا توقفوا في كل حادث كالبندقية والمدفع والسيارة التي لا يعلمون حقيقتها وكيف تسير بلا مسير ظاهر ويركب فيها ابن سعود وأتباعه وكثير من الوهابية وهي أحدث من التلغراف إلي غير ذلك فكانوا بذلك كالخوارج الذين استشكلوا في قتل الخنزير الشارد

ص: 84


1- 19. التي في رسالة محمد بن عبد الوهاب.
2- 20. كالحسينيات.
3- 21. مثل قراءة التعزية - المؤلف -.

في البر وقالوا إنه فساد في الأرض ولم يستشكلوا في قتل الصحابي المسلم الصائم في شهر رمضان وفي عنقه قرآن لأنه لم يوافقهم علي تكفير علي بن أبي طالب وقتل زوجته معه وهي حامل وبقر بطنها. " وإذا " كانوا بكل هذا الورع في التوقف عن حكم التلغراف فهلا توقفوا عن استباحة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وإخافة السبيل وكفروهم تقليدا لرجل يجوز عليه الخطأ. وتكفير المسلم عظيم كاستباحة ماله ودمه وعرضه واستندوا في ذلك إلي أمور اجتهادية يكثر فيها الخطأ وأدلة وأخبار ظنية قابلة للصدق والكذب فلو كانوا أهل ورع حقيقة كما يزعمون للزمهم أن يفاوضوا علماء المسلمين المنتشرين في أقطار الأرض ويباحثوهم ويجادلوهم بالإنصاف لا بالبنادق ويعقدوا مجتمعا عاما إسلاميا ويبسطوا المسائل المتنازع فيها علي بساط البحث ويحكموا بينهم الكتاب والسنة المسلمة بين الكل حتي ينظروا لمن يكون الفلج لا أن ينحازوا في بادية نجد بين أعطان الإبل ويصدروا الفتاوي استنادا إلي أقوال تلقوها من أسلافهم الذين يجوز عليهم الخطأ يتوارثها اللاحق من السابق ولا يحيد عنها قيد شبر ثم يجبروا الناس علي اتباعها بالسيف والسنان شاءوا أو أبو اعتقدوا أو لا (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) وإذا لم يريدوا ذلك فليتركوا للناس اجتهادهم فإن مسائلهم التي خالفوا فيها المسلمين ليست ضرورية بل اجتهادية للبحث فيها والتأويل مجال ولم ينزل عليهم بها وحي ولا شافههم بها نبي وإنما أخذوها من أشياء زعموا دلالتها وعند غيرهم ما ينفيها ويمنع دلالتها. وكذلك فتواهم الجزافية في حق أهل البيت الطاهر الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم، ونبزهم بالرافضة، من شيعة الأحساء والقطيف من رعايا سلطانهم وشيعة العراق الذين يدخلون بلاد نجد، لمخالفتهم لهم في أمور اجتهادية يشاركهم في أكثرها سائر المسلمين ويحتمل في حق كل أحد فيها الإصابة والخطأ فالمصيب مأجور والمخطئ مع عدم تقصيره معذور مثل دعاء الصالحين وإقامة المآتم وزيارة المشاهد وليست من ضروريات الدين كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج فكيف يجبرون علي البيعة علي الإسلام وهم مسلمون يقرون لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون بجميع ما جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين ويرجعون فيما اختلفوا فيه إلي أقوال أئمة أهل البيت الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في العلم فليسوا دونهم وكيف يمنعون

ص: 85

من إظهار شعائر دينهم فأن كان ذلك من الضروريات فهم يوافقون المسلمين عليها وإن كان في الاجتهاديات فباب الاجتهاد عندكم مفتوح فكيف جاز لكم الاجتهاد ومنع منه غيركم بالسيف والنفي من بلاد المسلمين وكيف يجوز إلزامهم بالصلاة خلف من قد يعتقدون ببطلان صلاته لترك البسملة التي هي جزء السورة عندهم أو غير ذلك من الأمور الاجتهادية وكيف يمنعون من الأذان وهو شعار الإسلام ويجعل لهم مؤذن من غيرهم وإلي أي دليل استندتم في هذه الفتوي. وبأي عدل وإلي أي دليل استندتم في منع شيعة العراق عن الدخول إلي بادية نجد والأرض لله تعالي لا لكم والناس كلهم عبيده وهلا أفتيتم الإمام بمنع الشيعة وباقي المسلمين المشركين بزعمكم عن حج بيت الله الحرام والله تعالي يقول (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وكيف أن حكومتكم النجدية تبذل كل ما في وسعها لترغيب الناس في الحج لتعيش وتعيشون في الحجاز القاحلة لولا الحجاج. الثاني: في حكم الوهابية بوجوب إتلاف كتب المنطق وروض الرياحين ودلائل الخيرات وغيرها: قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية الخمس: ولا نأمر بإتلاف شئ من المؤلفات إلا ما اشتمل علي ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق فإنه قد حرمه جمع من العلماء علي أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل " يعني دلائل الخيرات " وهو كتاب مشهور معظم يشتمل علي أدعية وأوراد. (قال) وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض كتب أهل الطائف إنما صدر من بعض الجهلة وقد زجروا عن مثل ذلك. ونقول: أما روض الرياحين فلا نعرفه لنبدي رأينا فيه وأما علم المنطق الذي أمر بتعريبه من اليونانية المأمون العباسي ككثير من كتب العلوم العقلية والرياضية وكان له بذلك الفضل والذكر الجميل الخالد وتداوله المسلمون وألفوا فيه كثيرا ودرسوه من ذلك العصر إلي اليوم ولم يترك درسه متسم بالعلم، فقد ابتلي هذا العلم النفيس الذي يشحذ الأذهان ويفيد قوة الحجة من طرف الوهابية بما ابتليت به قبور الأنبياء والصلحاء فله أسوة بها ودليلهم علي وجوب إتلاف كتبه أنه يحصل بسببه خلل في العقائد وأنه حرمه جمع من العلماء فليذكروا لنا من هو الذي اختلت عقيدته بسبب علم المنطق وهل يكون تحريم

ص: 86

جمع من العلماء إن صح النقل مجوزا لإتلاف كتبه المملوكة للغير بغير إذنه. علي أننا لم نسمع تحريمه عمن يصح أن يعتمد علي علمه سوي ما حكاه صاحب السلم عن بعض الجامدين بقوله: فابن الصلاح والنواوي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما واعتذار صاحب المنار في الحاشية بقوله إنما حرموا بعض كتب المنطق القديمة الممزوجة بالفلسفة اليونانية الباطلة دون ما ألفه المسلمون، غير مجد لأن الكتب القديمة لا وجود لها حتي نشغل أنفسنا بتحريمها وتحليلها وكلام صاحب السلم كالصريح في عدم هذا التقييد والاعتذار عن إتلاف كتب أهل الطائف المساكين كالاعتذار عن قتل نفوسهم البريئة ونهبهم وسلبهم وتعذيبهم بأنه وقع من البدو الجاهلين فهو كالذي وقع من خالد بن الوليد وقال (ص) اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد. وهؤلاء البدو هم الذين تسمونهم غزو الموحدين وهذه أفعالهم مع المسلمين وما يفيد زجركم لهم بعد خراب البصرة وذهاب النفوس والأموال بأيدي غزو الموحدين وإذا كان هذا فعلهم في كتب لا يعلمون ما هي ولا نفع لهم فيها فما حال النفوس والأموال التي وقعت في مخالبهم. الثالث: في كتاب (القديم والحديث) للكاتب الشهير محمد كرد علي الدمشقي من جملة مقال له في الوهابيين (1) ما لفظه: ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل علي أنه برئ من تلك الافتراءات التي افتروها علي عقائده وعقائد أبيه وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين وتلك الرسالة منقولة في إتحاف النبلاء من شاء الاطلاع عليها فليرجع إليها. (إلي أن قال): قال أحمد سعيد البغدادي في كتابه نديم الأدب: حقيقة هذه الطائفة أنها حنبلية المذهب وجميع ما ذكره المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليها بتأمل لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية فأن كان المنقول عنه صاحب دراية مصدق تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة علي قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل وإن كان غير صادق الرواية فمن باب أولي ومن أراد أن يعرف جليا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل " رض " فإنه مذهبهم " انتهي ".

ص: 87


1- 22. صفحة 166 طبع مصر.

ونقول: الرسالة المشار إليها هي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية وقد نسب فيها إلي المسلمين الشرك وأنواع الشرك وإنهم من أقبح المشركين وأجهلهم وإنهم مصرون علي الاشراك والشرك الأكبر الذي يهدر الدم ويبيح المال وجعل قبور الصالحين أصناما وطواغيت تعبد وإن الخلاف بين الوهابية وبين الناس في إخلاص التوحيد وإنهم لما دخلوا مكة عبد الله وحده وإن الناس قبل ذلك لم تكن تعرف التوحيد والشرك وإن من بلغته دعوتهم ولم يتبعهم فهو كافر إلي غير ذلك في نحو من عشرين موضعا والرسالة لا تزيد علي 15 صفحة وصرح فيها بأنهم يوجبون إتلاف كتب المنطق كما مر في الأمر الثاني وأنهم يجعلون قول يا رسول الله أسألك الشفاعة شركا موجبا لحلية الدم والمال مع اعترافهم بأن له الشفاعة يوم القيامة وقد نقلنا جملة من أقواله في تلك الرسالة في تضاعيف هذا الكتاب فما قول الأستاذ في هذه الشاهدة العدل التي استشهد بها علي صحة عقائد ابن عبد الوهاب وابنه وبراءتهما من الافتراءات التي افتروها علي عقائدها وبنوا عليها الزلازل والقلاقل وهل مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين تكفير جميع المسلمين وإباحة دمائهم وأموالهم ووجوب إتلاف كتب المنطق. والهدية السنية التي هذه الرسالة إحدي رسائلها طبعت مرارا بمطبعة المنار بمصر فليرجع إليها في شاهدة عدل. علي أن ما نسب إلي عقائده وعقائد أبيه هو عين ما يصرحان به ليس فيه كذب ولا افتراء عليهما. أما ما نقله عن كتاب نديم الأدب، ففيه أنه لم يبق حاجة والحمد لله في معرفة عقائد الوهابية إلي أخذها من الكتب الإفرنجية ولا من ترجمتها فكتب الوهابية المتضمنة عقائدهم مطبوعة منتشرة يوزعونها مجانا وبذلك قد مزقوا أعذار من يبتغي الاعتذار عنهم وأما أن مذهبهم مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم وإن انتسبوا إليه لكنهم يصرحون كما عرفته في الباب الأول بأنهم لا يلتزمون بمذهبه ولا بغيره إذا بان لهم دليل علي خلافه كما أنهم يصرحون علي ما عرفت بكفر جميع من يخالفهم من المسلمين واستحلال دمه وماله والإمام أحمد بن حنبل برئ من ذلك. قال بعض أعاظم العلماء في كتاب كتبه إلينا ما صورته: قال لي بمصر بعض من يدعي العلم بالحديث: إن كتب الحنابلة هي كتب الوهابية فما تنكر منها وليس لك أن تؤاخذهم

ص: 88

إلا بما تجده صريحا في كتبهم ولا عبرة بنقل الخصم (1) فقلت ما تقول في القرامطة قال كفار ملاحدة قلت إنهم يزعمون أن مذهبهم مذهب أهل البيت وأن كتبهم كتبهم فهل تجد في كتب أهل البيت إلا الحق والنور؟ قال إن القرامطة كذبوا وهؤلاء نقلة التاريخ يثبتون كفر القرامطة وزورهم قلت وهل تري قيام الحجة بنقل أهل التاريخ قال نعم فأن الشافعي صرح في الرسالة بأن نقلهم جماعة عن جماعة أحب إليه من نقل أهل الحديث واحدا عن واحد قلت إذا يجب أن تقبل مني من نقل المؤرخين المشاهدين للوهابية ما هو صريح في كفرهم، فسكت، فقلت له فعل المرء حجة ودليل عليه وإن كذبه لسانه فالقرامطة لما استحلوا دماء المسلمين وأموالهم لم تبق شبهة في كفرهم وكذلك سادتك، فغضب ولم يدر ما يقول، فقلت ما تقول فيما ورد في الخوارج ومروقهم وإنهم كلاب النار وشر قتلي تحت أديم السماء وغير ذلك؟ قال إن المجموع يفيد العلم القطعي بمروق الخوارج واستحقاقهم غضب الله، ولكنهم هم الذين قتلهم علي بالنهروان وليس الوهابية منهم. قلت بم استحق أولئك غضب الله أبكونهم يحقر الصحابة صلاتهم في جنب صلاتهم وصيامهم في جنب صيامهم؟ قال لا. قلت أبسبب زهدهم وتقشفهم؟ قال لا قلت بقولهم من قول خير البرية وبقراءتهم القرآن يقومونه كالقدح؟ قال لا. قلت فبماذا؟ فتلعثم فقلت ما ذاك إلا باستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم لهم مع ادعائهم أنهم هم المسلمون وحدهم ولا شك أن من اتصف بما اتصفوا به يستحق ما استحقوا بتلك الصفة " انتهي ". وقد ظهر بذلك أيضا فساد أقوال من يريدون تبرير أعمال الوهابية وإنكار فظائعهم بأن الحامل لأهل عصرهم علي نقل ما نقلوه عنهم وعلي ذمهم هو السياسة والانتصار لدولة الترك وأشراف مكة فنسبوا إليهم الفظائع في مكة والمدينة وكربلاء وغيرها لينفروا الناس منهم! فإنك قد عرفت فيما ذكرناه في تاريخهم وغيره من هذا الكتاب أن فظائعهم وأعمالهم في تلك الأماكن أصبحت معروفة متواترة كتواتر وجود مكة والمدينة وكربلاء والوهابية، وليست قابلة للشك والإنكار وكذا تكفيرهم المسلمين واستحلالهم أموالهم ودماءهم وجعلهم غزوهم جهادا في سبيل الله وبلادهم دار حرب أصبح غير قابل للاعتذار بعد تصريحهم به فيما نشروه من كتبهم المطبوعة التي نقلنا عباراتها وأشرنا إلي صفحاتها فيما مر.

ص: 89


1- 23. بعدما بيناه فيما سلف نقلا عن كتبهم المطبوعة من تكفيرهم جميع المسلمين وقول بعضهم إن كفرهم أصلي واستحلالهم دماءهم وأموالهم بل وأعراضهم لا يبقي مجال لهذا الكلام ولا احتياج إلي الجواب. - المؤلف -.

في أمور مهمة يتوقف عليها المقصود من رد شبهات الوهابية

الأول أحكام الشرع الإسلامي منها ما هو ضروري كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والكذب وهذا لا يحتاج إلي إقامة الدليل عليه ولا يجوز الاجتهاد بخلافه بل يخرج منكره عن الإسلام. ومنها ما هو نظري ككون أفعال العباد مخلوقة لله والكسب للعبد وكون صفات الله عين ذاته وثبوت الكلام النفسي ورؤية الله تعالي وأن الإمامة بالنص أو باختيار الأمة غير ذلك. هذا في الأصول وأما في الفروع فكحكم الشك في الصلاة والبناء علي القبور وحكم ما لا نص فيه كالتدخين وغير ذلك وهذا يجب أخذه من أدلة الشرع: الكتاب والسنة والإجماع والعقل للقادر علي ذلك وغيره يقلد القادر. ولا يجوز الحكم بضلالة أحد أو فسقه فضلا عن شركه وكفره لمخالفته في أمر اجتهادي أي ليس من ضروريات الدين ولا يجوز معارضته وممانعته وإجباره علي اتباع قول غيره مما يخالف اجتهاده بل هو معذور في اجتهاده ما لم يكن مقصرا وللمخطئ أجر واحد وللمصيب أجران. روي البخاري في صحيحه عنه " ص " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. وقال ابن تيمية في كتابه الذي سماه منهاج السنة (1) علي ما حكي: قول السلف وأئمة الفتوي كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفرعية " انتهي " فمن اجتهد في إباحة شئ كالتدخين أو استحبابه كالتبرك بقبة النبي " ص " وتقبيله وشد الرحال إلي زيارته أو أنه ليس ببدعة كالتحريم والتذكير ليس لمن اجتهد علي خلافه معارضته وممانعته ولا تفسيقه وتضليله فضلا عن تكفيره وتشريكه لأن ذلك ليس من ضروريات الدين التي لا يجوز الاجتهاد فيها. الثاني الكتاب كلام الله تعالي المنزل علي نبيه " ص " وهو قطعي السند لاتفاق المسلمين كافة

ص: 90


1- 24. ص 20 ج 3.

علي أن ما بين الدفتين منزل منه تعالي، إما دلالته ففيه المحكم والمتشابه أو المجمل والمبين فالمحكم ما يكون ظاهر الدلالة ويسمي المبين. والمتشابه ما يكون غير ظاهر الدلالة بل المعاني فيه علي السواء في الاحتمال ويسمي المجمل، ثم المبين قسمان: النص وهو ما لا يحتمل الخلاف، والظاهر وهو الراجح مع احتمال الخلاف. ويسمي المرجوح المقابل للظاهر: المؤل. وفي الكتاب أيضا العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ. ولا يجوز الاحتجاج من الكتاب بغير النص والظاهر إلا ما بينته السنة بعد ثبوتها أو الاجماع. كما لا يجوز العمل بالعام أو المطلق إلا بعد الفحص عن الخاص أو المقيد ولا بالدليل إلا بعد الفحص عن معارضه أو ناسخه لأن الدليل لا يكون دليلا بدون ذلك. وبسبب وجود هذه الأقسام الكثيرة في القرآن وغيرها أمكن لكل ذي قول حقا كان أو باطلا أن يستند في صحة قوله إلي ظاهر آية من القرآن. فربما استند إلي الحقيقة وغفل عن قرينة المجاز أو المطلق أو العام وغفل عن المقيد أو الخاص إلي غير ذلك. وقد جمع أحمد بن محمد بن المظفر الرازي من أعيان القرن السابع ومن علماء أهل السنة كتابا سماه " حجج القرآن " ذكر فيه من الآيات ما يمكن أن تحتج به كل فرقة لمذهبها وأقوالها المتباينة المتناقضة. ونحن نذكر مثالا من ذلك من جملة ما ذكره وما لم يذكره: فالوعيدية المنكرون للعفو الموجبون المؤاخذة علي المعاصي يمكنهم الاستدلال بآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والوعيدية القائلون برفع المؤاخذة بالكلية وإن الله لا يعاقب علي المعصية لهم الاستناد إلي آية: يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا. والمثبتون للرؤية في الآخرة استندوا إلي آية: وجوه يومئذ ناضرة إلي ربها ناظرة. والنافون إلي قوله: لا تدركه الأبصار. لن تراني. والجبرية إلي آيات كثيرة مثل: وخلق كل شئ. قل كل من عند الله. يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة. يضل من يشاء ويهدي من يشاء. إن الله لا يهدي القوم الكافرين. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء والعدلية إلي مثلها كقوله تعالي: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وما الله يريد ظلما للعباد. أو للعالمين. سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا " الآية ". فمن شاء اتخذ إلي ربه سبيلا. قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا والقائلون بالتجسيم علي الحقيقة بالجهة يستندون إلي الآيات التي فيها اليد والعين والوجه والنافون إلي آية: ليس كمثله شئ. والمجوزون المعصية علي الأنبياء

ص: 91

إلي آيات: وعصي آدم. وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه " الآية ". فأنساه الشيطان ذكر ربه. سبحانك إني كنت من الظالمين. ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر والنافون إلي آية: لا ينال عهدي الظالمين والقائلون بخطاب الكفار بالفروع إلي عموم: يا أيها الناس اعبدوا ربكم. والنافون بخطاب: يا أيها الذين آمنوا. (والوهابية) استدلوا علي عدم جواز دعاء غير الله والتشفع بغيره والاستغاثة به بآية: فلا تدعوا مع الله أحدا. لله الشفاعة جميعا " وغيرهم " بآية: فاستغاثه الذي من شيعته. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية ". يا أبت استغفر لنا. ولا يشفعون إلا لمن ارتضي. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. أذكرني عند ربك أغناهم الله ورسوله. آتاهم الله ورسوله. وسيؤتينا الله من فضله ورسوله. الثالث السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره وشرط الاحتجاج بالفعل ظهور الوجه فلو فعل المعصوم شيئا وجهل وجهه علم عدم تحريمه مع تردده بين الوجوب والندب والكراهة ولم يثبت واحد منها ولا تثبت السنة لنا إلا بالخبر المتواتر وهو إخبار جماعة كثيرة يمتنع عند العقل تواطؤهم علي الكذب أو المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره ولا يثبت بخبر الفاسق ولا مجهول الحال لعدم إفادته العلم وعدم الدليل علي حجيته بل الدليل قائم علي عدمها من قوله تعالي: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (الآية) والنهي عن اتباع الظن. (أما خبر الثقة العدل) مع عدم إفادته العلم فقد اختلف في حجيته فمنعها قوم لأصالة عدم حجية الظن وأثبتها آخرون واستدلوا بأدلة مذكورة في الأصول (وعلي) القول بحجيته لا بد من ثبوت العدالة إما بالعلم أو شهادة عدلين وفي كفاية العدل الواحد خلاف (والعدالة) ملكة تبعث علي اجتناب الكبائر وعدم الاصرار علي الصغائر وترك منافيات المروءة الكاشفة عن عدم مبالاة فاعلها بالدين. (وإثبات) عدالة من بعد عنا زمانهم من أصعب الأمور لانحصار الأمر في علمنا بها في أخبار الغير وهو مفقود غالبا إلا من أخبار البعض المستند علي الظنون والاجتهادات التي تخطئ كثيرا لا علي الممارسة والمعاشرة مع اختلاف الآراء فيما يوجب الجرح وما لا يوجبه ولذلك وقع الاختلاف كثيرا في الجرح والتعديل، فما عدله واحد جرحه آخر والقاعدة أن الجرح مقدم علي التعديل لجواز اطلاع الجارح علي

ص: 92

ما لم يطلع عليه المعدل. (فعلم) من هذا أن التسرع إلي القول بمضمون الخبر بمجرد وجوده في أحد كتب الحديث أو بمجرد قول واحد إنه صحيح وتخطئه الغير بذلك فضلا عن الحكم بكفره أو شركه خطأ محض. (ويشترط) لجواز العمل بالخبر عدم مخالفته لدليل قطعي مع إجماع المسلمين وسيرتهم أو نص القرآن أو نص خبر آخر متواتر بل وعدم مخالفته للمشهور بين علماء المسلمين مع كونه بمرأي منهم ومسمع وعدم معارضته بدليل أقوي منه بأحد الوجوه الآتية في الأمر الرابع. " والخبر " فيه الأقسام السابقة في الكتاب كلها وما يحتج به من الكتاب من تلك الأقسام يحتج به من الخبر، وما لا فلا " ويشترط " في العمل بالخبر ما اشترط في العمل بالكتاب مما مر في الأمر الثاني وبسبب وجود هذه هذه الأقسام في الخبر أمكن لكل ذي قول حق أو باطل الاستناد إلي ظاهر رواية كما يعرفه المتتبع لأقوال العلماء وأدلتهم، حتي أن البابية يحتجون علي ضلالتهم بخبر أن المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد، (واتباع) المسيح المهدي القادياني يحتجون علي ضلالهم بخبر لا مهدي إلا عيسي. " والحاصل " أن كل من يريد العناد والعصبية فله مدرك يتشبث به من الكتاب أو السنة ما لم يكن له حاجب من تقوي الله. والمنصف الطالب للحق لا يتمسك بظواهر الآيات والأحاديث ما لم يبحث عن معارضتها من عقل أو نقل أو إجماع وما لم يبحث عن سند الحديث ويستفرغ الوسع في فهم معناه الرابع الأخبار المتعارضة الواردة عن النبي " ص " كثيرة. وسبب التعارض إما كون بعضها مكذوبا فقد كثرت الكذابة عن النبي " ص " في عصره حتي قام خطيبا فقال ما معناه: قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. وبعد عصره تقربا إلي الملوك وترويجا للأهواء ومحافظة علي الدنيا من طريق الدين وغير ذلك. وخبر الذي روي للمهدي العباسي وكان يحب اللعب بالحمام " لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح " فزاد أو جناح اتباعا لهوي المهدي فلما خرج قال المهدي أشهد أن قفاه قفا كذاب علي رسول الله " ص "، خبر مشهور وكم أعطيت الجوائز ووليت الولايات واقطعت الاقطاعات علي اختراع الروايات الموافقة للشهوات " وأما " الاشتباه لخطأ في فهم المراد أو سماع اللفظ أو الاطلاع علي العام أو المطلق أو المنسوخ وعدم الاطلاع علي الخاص أو المقيد أو الناسخ

ص: 93

أو غير ذلك. وللتعارض علاجات وردت بها الأخبار والروايات وقال بها علماء المسلمين " منها " العرض علي كتاب الله والثابت من سنة رسول الله " ص " فيؤخذ بما وافق ويترك ما خالف " ومنها " الموافقة للإجماع أو السيرة أو المشهور بين علماء المسلمين أو الموافقة لما عليه الصحابة والتابعين " ومنها " الترجيح بحسب السند بكون رواته أوثق أو أحفظ أو أكثر أو الدلالة بكونه أظهر دلالة أو العبارة بكونها أفصح أو أحسن سبكا أو غير ذلك. الخامس الكتاب والخبر عربيان وفيهما كسائر كلام العرب الحقيقة والمجاز " فالحقيقة " (1) الكلمة المستعملة فيما وضعت له كقولك سمعت زئير الأسد في الغاب وتريد الحيوان المفترس " والمجاز " الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لمناسبة ما وضعت له مناسبة موافقة للعرف غير مستهجنة (2) كقولك رأيت أسدا في الحمام وتريد رجلا شجاعا، والمناسبة بينهما الشجاعة. وقد كثر المجاز في كلام العرب جدا ومنه الكتاب والخبر بل أكثر كلام العرب مجاز " ومما " جاء منه في القرآن: يد الله فوق أيديهم. واصنع الفلك بأعيننا. ولتصنع علي عيني. فإنك بأعيننا. ولو تري إذ وقفوا علي ربهم. يا حسرتا علي ما فرطت في جنب الله. كل شئ هالك إلا وجهه. أينما تولوا فثم وجه الله. ويبقي وجه ربك. الرحمن علي العرش استوي. يخافون ربهم من فوقهم. فكان من ربه قاب قوسين أو أدني. إلا من رحم ربك إلا من رحم الله. وغضب الله عليه. الله يستهزئ بهم وجاء ربك. و " القرينة " علي المجاز في الكل عدم إمكان إرادة المعني الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحير. والوجود في مكان دون غيره وكونه محلا للحوادث " ومما " جاء منه في السنة حديث أبي هريرة: إن النار لا تمتلئ حتي يضع الله قدمه فيها. لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة والقرينة ما مر. " ولا بد " للمجاز من قرينة كقولنا في المثال المتقدم في الحمام لأن الحيوان المفترس لا يكون في الحمام عادة وقد تكون القرينة حالية لا مقالية فتخفي علي بعض الأفهام ويقع فيها الاشتباه وقد يكثر استعمال اللفظ في

ص: 94


1- 25. فصلنا هذه الأمور ليفهمها من لم يطلع علي معانيها فيعم النفع فلا ينسبنا أحد في ذلك إلي ذكر ما لا لزوم له لأنها مبينة في مواضعها.
2- 26. احتراز عن مثل استعمال الحائط في الرجل الطويل لمناسبة الطول فإنه مستهجن عرفا (المؤلف).

المعني المجازي حتي يصير مجازا مشهورا لا يحتاج إلي قرينة غير الشهرة وقد يكثر حتي يبلغ درجة الحقيقة فيسمي منقولا. ثم المجاز قد يكون في الكلمة كما مر وقد يكون في الإسناد كأنبت الربيع البقل وصام نهاره وجري النهر وبني الأمير المدينة وغير ذلك فأسند الانبات إلي الربيع مجازا باعتبار أنه زمان له وحقه أن يسند إلي الله والصوم إلي النهار باعتبار أنه زمانه وحقه أن يسند إلي الشخص والجري إلي النهر باعتبار أنه مكانه وحقه أن يسند إلي الماء والبناء إلي الأمير باعتبار أنه سبب آمر وحقه أن يسند إلي البناء " ومما " جاء منه في القرآن الكريم " فما ربحت تجارتهم " أي فما ربحوا في تجارتهم " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " والذي زادهم هو الله والآيات سبب (يذبح أبناءهم) والذي ذبحهم أتباع فرعون وهو سبب آمر (ينزع عنهما لباسهما) والنازع هو الله وإبليس سبب " يوما يجعل الولدان شيبا " والجاعل هو الله واليوم سبب لكثرة أهواله " يا هامان ابن لي صرحا " والبناء فعل العملة وهامان سبب آمر " فلا يخرجنكما من الجنة " والمخرج الله، وإبليس سبب " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن " والآكل أهل السنين وهي زمان للأكل " وأخرجت الأرض أثقالها " والمخرج الله والأرض مكان للإخراج. " ولا بد " للمجاز في الإسناد أيضا من قرينة لفظية أو عقلية كقول الموحد انبت الربيع البقل فأن كونه موحدا كاف في حمل كلامه علي المجاز في الإسناد. ومثله لو قال المسلم الموحد يا رسول الله اغفر لي أو اشف ولدي أو طول عمري أو ارزقني أو رد غائبي أو نحو ذلك فيجب حمل كلامه علي المجاز في الإسناد أي كن سببا في ذلك بشفاعتك ودعاء الله لي ويكفي قرينة علي ذلك كونه مسلما موحدا ولا يجوز تخطئته في هذا اللفظ فضلا عن الحكم بكفره وشركه الموجب لحل دمه وماله إلا من غبي غير عارف بأساليب كلام العرب أو معاند. ثم إنه قد اختلف في المعاني الحقيقية لألفاظ كثيرة واردة في الكتاب والأخبار مثل صيغة افعل هل هي للوجوب أو الندب أو مشتركة بينهما، وصيغة لا تفعل هل هي للحرمة أو للكراهة أو مشتركة بينهما وكذا مادة الأمر والنهي وما يشتق منهما إلي غير ذلك مما تضمنته كتب الأصول، وكيفما قلنا فقد كثر استعمال اللفظين في الندب والكراهة كثرة مفرطة بحيث يصعب الحكم بالوجوب أو الحرمة بمجرد ورودهما إذ لعلهما صارا مجازا

ص: 95

مشهورا في ذلك خصوصا بملاحظة خصوصيات المقامات المبعدة للحمل علي الوجوب أو التحريم. وفي الكتاب والخبر أيضا كسائر كلام العرب التصريح والكناية. " فالتصريح " كقولنا: فلان كريم و " الكناية " وهي ذكر اللازم وإرادة الملزوم كقولنا: كثير الرماد وجبان الكلب، كناية عن كرمه لأن الكرم يلزمه كثرة الطبخ للأضياف المستلزم كثرة الرماد ويلزمه كثرة الطراق المستلزم جبن الكلب عادة. وفي الكتاب والخبر أيضا كسائر كلام العرب المبالغات كقوله تعالي " عبدا مملوكا لا يقدر علي شئ. يكاد البرق يخطف أبصارهم ". وقوله " ص ": لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة بالسجود لزوجها. لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. لا يزني الزاني وهو مؤمن " الحديث " (1) وقول علي " ع " ما زال رسول الله " ص " يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه وما زال يوصيني بالمرأة حتي ظننت أنه يحرم طلاقها وقال المتنبي: وضاقت الأرض حتي ظل هاربهم إذا رأي غير شئ ظنه رجلا وقال الآخر: كفي بجسمي نحولا إنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقال شاعر العرب: أنعي فتي الجود إلي الجود ما مثل من أنعي بموجود أنعي فتي مص الثري بعده بقية الماء من العود وقال شاعرهم: عقيلية أما ملاث إزارها فدعص وأما خصرها فبتيل وزادوا في المبالغة حتي قال قائلهم في وصف من يتغزل بها: تدخل اليوم ثم تدخل أرادفها غدا وهذا باب متسع لا تمكن الإحاطة بأطرافه. ولم نر أحدا قال إنهم مهما بالغوا قد خرجوا عن طريقة العرب ومنهج كلامهم. " والمبالغة أيضا " واقعة في لساننا ومحاورتنا

ص: 96


1- 27. وفيه نفي الإيمان أيضا عن السارق وشارب الخمر والقاتل وسيأتي في الأمر السادس. - المؤلف -.

بل في كل لسان. " ومن المبالغات " الواقعة في الكتاب والخبر تسمية الذنب أو العظيم منه: كفرا وفاعله كافرا ونحو ذلك كما يأتي في الأمر السادس، وإطلاق المعصية علي فعل المكروه خصوصا إذا صدر من الأنبياء والأولياء ولكن ذلك كما قال بعض العظماء: بلسان الورع والتقوي لا بلسان الفقه والفتوي. ومنه المعاصي المنسوبة في القرآن إلي الأنبياء عليهم السلام بعد قيام الدليل علي وجوب عصمتهم وامتناع صدور المعاصي منهم السادس ليست جميع المعاصي ولا الكبائر منها كفرا خلافا لما يحكي عن الخوارج لعدم الدليل علي ذلك ومتي حكم بالإسلام لا يحكم بغيره إلا بيقين ومضت علي ذلك سيرة النبي (ص) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين ولو كانت المعاصي أو الكبائر منها كفرا لبطلت الحدود والتعزيرات ولم يبق لها ثمرة فإن المرتد يستتاب وإلا قتل فلا معني لإقامة الحد عليه أو تعزيره وللزم الحكم بارتداد جميع الخلق الذين لا يسلمون من المعاصي بل والكبائر ولم ينج منه إلا القليل ولو كان كذلك لبينته العلماء في كتبها ونادت به الوعاظ والخطباء وعرفه كل أحد وصار من ضروريات الدين لشدة الحاجة إليه من عموم المكلفين وكون المرتد له أحكام خاصة به يلزم علي كل مكلف معرفتها وترتيبها عليها (وروي) عبادة بن الصامت (1) عن النبي (ص): خمس صلوات كتبهن الله علي العباد من أتي بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا دليل علي أن ترك الصلاة ليس كفرا لأن الكفر لا يغفره الله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " هذا إن لم يكن مستحلا لما ثبت وجوبه أو تحريمه بضرورة الدين وإلا كان كافرا (ولكن) قد يطلق علي كثير من الذنوب اسم الكفر أو الشرك أو النفاق أو نحو ذلك تعظيما للذنب وتحذيرا منه وتشبيها لمؤاخذته لعظمها بمؤاخذة الكفر وبيانا لأن مقتضي الإسلام والإيمان أن لا يفعل ذلك الذنب أو لأنه ربما انجر بالآخرة إلي ذلك كما ورد أن في قلب المؤمن نكتة بيضاء فإذا عصي الله اسود منها جانب وهكذا إلي أن يتم سوادها فذلك الذي طبع الله عليه (كما) جاء التهديد

ص: 97


1- 28. الحديث في الهدية السنية ص 66.

بالنار واللعن علي ترك بعض المستحبات أو فعل بعض المكروهات بيانا لتأكد الاستحباب حتي كأنها واجبة ولشدة الكراهة حتي كأنها محرمة أو لأن التهاون بها ربما ينجر إلي التهاون بالواجب وفعل المحرم كما ورد أن من ترك فرق شعره فرق بمنشار من نار. ونظير ذلك اللعن علي فعل المكروه كلعن المحلل والمحلل له ولعن النائم في البيت وحده والمسافر وحده وآكل طعامه وحده كما يأتي في فصل اتخاذ القبور مساجد. وإطلاق المعصية علي فعل المكروه كما في المعاصي المنسوبة إلي الأنبياء عليهم السلام علي ما مر في الأمر الخامس (ومما) ورد من إطلاق الكفر ونحوه علي الذنب في القرآن قوله تعالي (ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فأن الله غني عن العالمين) (وفي الأحاديث) قوله (ص) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة علي الميت. أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتي يرجع إليهم (روي الثلاثة مسلم) (1) وفي الجامع الصغير للسيوطي (2) عن الطبراني في الكبير: من أرضي سلطانا بما يسخط ربه خرج من دين الله. قال العزيزي في الشرح: إن استحل وإلا فهو زجر وتهويل " انتهي ". وقال الحفني في الحاشية: أي من كماله أو حقيقته إن استحل " انتهي " (وقوله ص) بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (رواه مسلم). العهد بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (رواه أحمد وأهل السنن). بين العبد والكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد كفر وأشرك. من تركها - أي الصلاة - عمدا فقد خرج عن الملة. من تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة " رواهما عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه " من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله رواه أحمد " أنس عنه ص " لا دين لمن لا عهد له " أبو هريرة عنه ص " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن (أبو هريرة عنه ص) علامة النفاق الكذب وسوء الخلق والخيانة (عبد الله بن عمر عنه ص) إن النفاق عبارة عن أربع: الخيانة والكذب والغدر والفجور (أبو هريرة عنه ص) المراء في القرآن كفر (وعنه ص) لا يفوت حضور الجماعة إلا منافقا (أبو ذر عنه ص) الرقي والتمائم من الشرك (أبو هريرة عنه ص) من قال مطرنا

ص: 98


1- 29. صفحة 402 الجزء الأول بهامش إرشاد الساري.
2- 30. ص 326 ج 2.

بنوء كذا فهو كافر الرياء الشرك الأصغر (أبو سعيد عنه ص) الرياء شرك خفي (عمر عنه ص) كسب الربا شرك (شداد بن أوس عنه ص) من صلي يرائي فقد أشرك (ابن مسعود عنه ص) قتال المسلمين كفر (ابن عمر) نسبة المسلم إلي الكفر كفر (وهذا الأخير) منطبق علي الوهابيين في نسبتهم المسلمين إلي الكفر وروي أحمد بن حنبل في مسنده (1) عنه (ص) إذا أحدكم قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما وروي عدة روايات بهذا المعني أو قريبا منه (وروي) ذلك غيره أيضا (وما ذكرناه) أحسن وجه للجمع بين حديث عبادة المتقدم وهذه الأخبار ويرشد إليه حديث أبي هريرة السابق لا يزني الزاني الخ، حيث نفي الإيمان عنه في حال تلبسه بالمعصية لا مطلقا فدل علي المراد أن تلبسه بالمعصية خلاف مقتضي الإيمان فنفي الإيمان عنه في تلك الحال مجاز تشبيها لمن لا يعمل بمقتضي إيمانه بغير المؤمن نظير لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فتكون هذه الرواية شاهدا للجمع المذكور. (وحكم الوهابيون) بكفر تارك الصلاة أو الزكاة وإن لم يكن مستحلا واستحلوا القتل بترك بعض فرائض الإسلام أو شعائره علي عادتهم في التسرع إلي تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وتشددهم في ذلك اقتفاء بالخوارج الذين أشبهوهم من كل الوجوه كما يأتي في المقدمة الثالثة (فقالوا) في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية (2) : اختلف العلماء في تارك الصلاة من غير جحود لوجوبها فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلي أنه لا يحكم بكفره واحتجوا بحديث عبادة المتقدم وذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه وجماعة إلي أنه كافر وحكاه إسحاق إجماعا وقال ابن حزم سائر الصحابة والتابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقا ويحكمون عليه بالارتداد وعد عشرة من الصحابة ثم قال ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة (قال) وأجابوا عن حديث عبادة أن المراد عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن بدليل الآيات والأحاديث الواردة في تركها وأورد جملة مما مر ثم قال إن العلماء مجمعون علي قتل تارك الصلاة كسلا إلا أبا حنيفة والزهري وداود فقالوا يحبس حتي يموت أو يتوب واحتجوا

ص: 99


1- 31. ص 18 ج 2.
2- 32. ص 65.

علي قتله بقوله تعالي فاقتلوا المشركين إلي قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وبقوله (ص) أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (الحديث) ثم ذكر رواية الترمذي: أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن يتقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا (الحديث) قال والمقصود فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء علي الجهلة من الناس أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إنه مسلم ولا يجوز قتله وإن ترك فرائض الإسلام ثم أطال في الاستشهاد بكلام الأجهوري والأذرعي والهيتمي وابن تيمية وغيرهم الدال علي أن ترك بعض شعائر الإسلام موجب للمقاتلة كأهل القرية إذا تركوا الأذان أو الجماعة أو صلاة العيد أو غير ذلك وفي جملة ما نقله عن ابن تيمية (1) أيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضة أو الزكاة أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال (2) والخمر والزنا والميسر أو نكاح المحارم أو الجهاد أو ضرب الجزية أو غير ذلك فإنها تقاتل عليها وإن كان مقرة بها. " ونقول ": أما الأحاديث التي أطلق فيها الكفر علي جملة المعاصي فقد عرفت أنه لم يرد بها الحقيقة للشواهد التي قدمناها من لزوم لغوية الحدود ورواية عقادة وحديث لا يزني الزاني وهو مؤمن وغيرها أما حمل ترك الصلاة في حديث عبادة علي إرادة عدم المحافظة عليها في وقتها فلا شاهد عليها بل هو تخرص علي الغيب بخلاف حمل الكفر علي تعظيم الذنب فأن له نظائر وشواهد كثيرة كما عرفت ولا أقل من وقوع الشبهة فلا يجوز التهجم علي الدماء مع وجودها وعدم صراحة النصوص " ومن الغريب " ما نقلوه عن إسحاق بن راهويه من حكاية الاجماع مع مخالفة عظماء أئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك التي نقلوها في صدر الكلام كاستدلال ابن حزم عليه بقول نفر من الصحابة إن صح النقل عنهم مع عدم العلم بمذهب الباقين وهم ألوف وكقولهم العلماء مجمعون علي قتل تارك الصلاة كسلا إلا أبا حنيفة والزهري وداود فما فائدة هذا الاجماع مع مخالفة هؤلاء الثلاثة. أما الاستدلال بآية فاقتلوا المشركين فغير صحيح لأن الإسلام قول باللسان وعمل بالأركان فمن كان مشركا وتشهد

ص: 100


1- 33. ص 81.
2- 34. هذا ينطبق علي الوهابية الممتنعين عن التزام تحريم دماء المسلمين وأموالهم (المؤلف).

الشهادتين ولم يأت بأعمال الإسلام لا يحكم بإسلامه بخلاف المسلم الموحد المولود علي فطرة الإسلام الملتزم بأحكامه الفاعل لها إذا عصي بترك فرض يعتقد بوجوبه ويعلم أنه عاص بتركه. فالآية واردة في الأول لا في الثاني وكذلك ما أطالوا به بدون طائل من الاستشهاد بكلام فلان وفلان علي أن ترك بعض شعائر الإسلام موجب للقتال لا شاهد فيه علي حلية قتل تارك الفرائض كسلا فضلا عن كفره فإن صح جواز القتال علي ترك بعض الشعائر حتي المستحبة كالآذان والجماعة لا ربط له بترك الفرض كسلا والحاصل أنه لا يجوز الإقدام والتهجم علي دماء المسلمين بأخبار غير ظاهرة وبأقوال الأجهوري والأذرعي والحراني والهيتمي فليتق الله المتهجمون والمهورون. السابع الاجماع اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد " ص " علي أمر ديني في عصر من الأعصار وهو حجة إما لما روي عنه " ص " لا تجتمع أمتي علي خطأ أو لوجود معصوم بينهم بناء علي عدم خلو العصر من معصوم كما يقوله أصحابنا وهو رئيس أهل الحل والعقد أو للكشف عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع كما يستكشف رأي المتبوع برأي اتباعه الذين لا يصدرون إلا عن رأيه فيعلم رأي أبي حنيفة باتفاق الحنفية والشافعي باتفاق الشافعية وغير ذلك وفي حكم الاجماع سيرة المسلمين والفرق بينهما أن الاجماع اتفاق قولي والسيرة إجماع عملي فيكشف عن أن ذلك مأخوذ عن صاحب الشرع يدا عن يد ويشمله: لا تجتمع أمتي علي خطأ. والوهابية لا ينكرون حجية الاجماع وقد تكرر في كتبهم الاحتجاج به والرد علي غيرهم بمخالفته وفي الرسالة الثالثة من رسائل السنية (1) ما نصه: والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة لا يجتمعون علي ضلالة " انتهي " ولكن الصنعاني من الوهابية أنكر في رسالته تطهير الاعتقاد إمكان وقوع الاجماع أو إمكان العلم به حيث قال (2) بعدما عرف الاجماع بأنه اتفاق مجتهدي أمة محمد " ص " علي أمر بعد عصره: وعلي ما نحققه فالإجماع وقوعه محال فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق فعلماؤها لا ينحصرون ولا يتم لأحد معرفة أحوالهم فدعوي الاجماع بعد انتشار الدين وكثرة العلماء دعوي كاذبة كما قاله أئمة التحقيق " انتهي " وصدر كلامه دال علي استحالة وقوعه وعجزه

ص: 101


1- 35. ص 60.
2- 36. ص 19.

ظاهر في عدم إمكان الاطلاع عليه وكلاهما فاسد فإن كثرة العلماء لا تمنع من اتفاقهم لا عقلا ولا نقلا والاطلاع عليه أيضا ممكن وواقع بملاحظة الفتاوي وعمل المسلمين وعدم نقل الخلاف وقرائن أخر: فإنا نعلم علما ضروريا باتفاق العلماء علي أن البنتين لهما الثلثان في الميراث بالفرض إذا انفردن عن الإخوة لا النصف وإن لم نشافه جميع العلماء ونطلع علي فتاواهم تفصيلا وأمثال ذلك في الشرعيات كثير كما نعلم علما ضروريا بإجماعهم علي استحباب زيارة النبي " ص " وتعظيم قبره وحجرته ورجحان بنائها والتبرك به وبها وجواز بناء القبور وبناء القباب عليها لاستمرار سيرتهم علي ذلك قولا وفعلا من الصدر الأول إلي اليوم وعدم نهي أحد عنه من الصحابة فمن بعدهم قبل الوهابية بل الإنصاف أنه ما من مسألة اتفق عليها المسلمون قولا وعملا من جميع المذاهب مثل هذه المسألة. الثامن الأصل الإباحة فيما لا نص فيه ولم يقم دليل علي تحريمه لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولقوله تعالي: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) أي لانتفاعكم. وقوله تعالي: (وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا) وبعث الرسول كناية عن وصول الأحكام وإلا فمجرد البعث قبل تبليغ الأحكام لا تتم به الحجة. وقوله تعالي: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به. الآية) وأمثالها من الآيات. التاسع البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين ولا يحتاج تحريمها إلي دليل خاص لحكم العقل بعدم جواز الزيادة علي أحكام الله تعالي ولا التنقيص منها لاختصاص ذلك به تعالي وبأنبيائه الذين لا يصدرون إلا عن أمره مع أنه قد ورد النص بأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وأما تشخيصها فهو مما يقع فيه الاشتباه فكم بدعة عدت سنة وبالعكس. وسبب الاشتباه أما خطأ في الدليل المستدل به علي أن ذلك من الشرع أوليس منه أو تقليد من سنها لحسن الظن به مع أنه مبدع أو توهم أنه لا بد من ورود النص بها بالخصوص مع دخولها في عمومه أو إطلاقه كما وقع في زماننا من بعض المتشددين فقالوا إن القيام عند ذكر ولادة النبي " ص " بدعة لعدم ورود النص به والحال أنه يكفي فيه عموم ما فهم من

ص: 102

الشرع من لزوم احترام النبي " ص " ورجحان تعظيمه حيا وميتا بكل أنواع الاحترام التي لم ينص الشرع علي تحريمها. ثم البدعة لا تكون بدعة إلا إذا فعلت بعنوان أنها من الدين فما قاله بعضهم من أن ما اصطلح عليه بعض المسلمين في هذه الأعصار من ترك الأعمال يوم الجمعة بدعة لأنه لم ينص الشرع علي ذلك بل أمر بالعمل بعد قضاء صلاة الجمعة: اشتباه لأن الترك هنا بعنوان الراحة أو بعنوان مصلحة أخري دينية أو دنيوية كإظهار حرمة يوم الجمعة وغير ذلك لا بعنوان أنه في نفسه عبادة وطاعة ومن ذلك توهم الوهابية أن التذكير والترحيم بدعة لأنه لم يكن في عهد النبي " ص " إذ يكفي في مشروعيته عموم ما دل علي رجحان ذكر الله تعالي والصلاة علي نبيه " ص " والدعاء ونحو ذلك وتخصيصه ببعض الأمكنة والأزمنة لفائدة مع عدم إتيانه بعنوان الخصوصية أي بعنوان أنه مأمور به بالخصوص في هذا الزمان والمكان لا يجعله بدعة وكذلك جملة أشياء مما جعلوه بدعة كما سيأتي بيان ذلك في الباب الأول. العاشر الأفعال تختلف أحكامها باختلاف القصد الموجب لاختلاف العنوان وتبدل الموضوع وباختلاف الأزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص الموجب لذلك وهذا معني ما اشتهر أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان. أما اختلافها باختلاف القصد فكضرب اليتيم فإنه محرم بقصد الايذاء، راجح بقصد التأديب وكغيبة المسلم فإنها محرمة بقصد الانتقاص واجبة بقصد نهيه عن المنكر أو نصح المستشير أو إقامة الحق في مقام جرح الشاهد وكالسجود عند قبر النبي " ص " فإنه راجح مستحب بقصد الشكر لله تعالي علي توفيقه لزيارته محرم قصد السجود للنبي " ص " لعدم جواز السجود لغير الله تعالي إلي غير ذلك. وأما اختلافها باختلاف الأزمان والأشخاص والأحوال فكلبس الأزرق مثلا حيث يعد زينة في بعض الأزمان أو الأمكنة فيحرم علي الزوجة في وقت الحداد ويستحب إذا أرادت التزين لزوجها وكلباس الشهرة ولباس النساء المحرم علي الرجال وبالعكس فإنه يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص والأمكنة وكدفن المؤمن الجليل القدر قريبا من المزبلة فإنه يعد إهانة له فيحرم وكإنزال الضيف الشريف في مرابط الدواب فإنه يعد إهانة مع إمكان غيره بخلاف المكاري وقد

ص: 103

يكون ترك القيام للشخص في زمان أو بلاد يعد إهانة له فيحرم وفي زمان آخر أو بلاد أخري لا يعد فلا يحرم وملبوس الزهد ومأكوله يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال وكهدم قبور الأنبياء والأولياء وقبابهم ومشاهدهم فهب إنه كان منهيا عن البناء نهي كراهة أو تحريم إلا أن الهدم صار يعد في هذا الزمان إهانة لهم فيتعارض عنوان واجب وهو الهدم وعنوان محرم وهو الإهانة فيقدم الأهم ولا شك أن مراعاة عدم إهانة النبي أو الولي أهم من كل شئ. الحادي عشر قد يتعارض عنوان واجب مع عنوان محرم فيقدم الأهم كلمس بدن الأجنبية فإنه محرم لكن إذا توقف عليه إنقاذها من الغرق أو شفاؤها من المرض فيجوز أو يجب وكالنظر إلي عورة الغير فهو محرم ويباح للطبيب وكأخذ المكوس فهو محرم عند الوهابية وغيرهم لكن الوهابية في فتواهم المذكورة فيما مر قالوا إن تركها الإمام فهو الواجب عليه وإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين والخروج عن طاعته من أجلها. " أقول " وذلك لأن جمع كلمة المسلمين وعدم شق عصاهم أهم في نظر الشرع من عدم أخذ المكوس لأن المفسدة التي تترتب علي شق عصا المسلمين أعظم من المفسدة المترتبة علي أخذ المكوس وبناء علي هذا كان يجب علي الوهابية عدم التعرض لهدم قبور أئمة المسلمين الذي يسوء مئات الملايين من المسلمين تحن قلوبهم إلي هذه القبور ويسوءهم هدمها وتدميرها أفما كانت هذه المفسدة التي تشتت كلمة المسلمين وتسوءهم وتوقع الخصام والعداوة بينهم في هذه الأيام العصيبة التي تبدد فيها جمعهم ووهي ركنهم وضعف سلطانهم وفتحت بلادهم أعظم من مفسدة تحريم البناء علي القبور إن كانت وأهم وأولي بالرعاية. أفما تقابل هذه المفسدة مفسدة شق عصا المسلمين؟ بلي والله بل هي أعظم منها وأفظع وأوجع لقلوب المسلمين فهلا أبقيتم هذه القبور ولو حرم عندكم إبقاؤها كما أبقيتم قبر النبي " ص " وإبقاؤه عندكم حرام مراعاة لأهم المصلحتين ودرءا لأعظم المفسدتين ومنعتم الناس من الدنو إليها ولمسها الذي هو عندكم شرك كما منعتم من لمس قبر النبي " ص " والدنو إليه مع أنكم لا ترون إبقاء القبور شركا غايته التحريم. الثاني عشر تكفير المقر بالشهادتين المتبع طريقة المسلمين واستحلال دمه وماله وعرضه عظيم

ص: 104

فلا يجوز الإقدام عليه واعتقاده استنادا إلي أمور نظرية اجتهادية يكثر فيها الخطأ وأخبار ظنية محتملة للكذب والتأويل كالاجتهادات والأخبار التي يستند إليها الوهابية في تكفير المسلمين ولا يجوز تكفير المسلم إلا بشئ قطعي يوجب خروجه عن دين الإسلام وكانت السيرة النبي " ص " والصحابة والتابعين وتابعي التابعين معاملة الناس علي الاكتفاء بأظهار الشهادتين والالتزام بأحكام الإسلام. أخرج البخاري عنه " ص " أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم. وعنه " ص " أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم علي الله، وعنه " ص " من صلي صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، وعن أبي هريرة أنه " ص " أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال ما بال هذا قالوا يتشبه بالنساء فنفاه إلي البقيع فقيل يا رسول الله ألا تقتله فقال نهيت عن قتل المصلين. فيستفاد من هذه الأخبار أنه بعد إظهار الشهادتين يبني علي الإسلام ما لم يعلم شئ ينافيه ولا يلزم التفتيش والتجسس بل نهي الله تعالي عنه. ولسنا نقول إن المقر بالشهادتين الذي يصلي ويزكي لا يمكن الحكم بكفره مع ذلك لجواز أن يحكم بكفره مع ذلك كله كالخوارج والمجسمة ومنكر الضروري وغير ذلك لكنا نقول الاقرار بالشهادتين والتزام أحكام الإسلام كاف في الحكم بالإسلام حتي يثبت ما ينافيه باليقين والقطع لا بالاجتهادات الظنية والأخبار الظنية وحتي ينتفي احتمال التأويل وما كفر به الوهابية المسلمين لم تجتمع فيه هذه الشروط. الثالث عشر القول أو الفعل الصادر من المسلم وله وجهان علي أحدهما يكون صحيحا وعلي الآخر فاسدا يجب حمله علي الوجه الصحيح ولا يجوز حمله علي الوجه الفاسد إلا مع العلم وعلي ذلك سيرة المسلمين وإجماعهم وبه انتظام أمر معاشهم ومعاملاتهم مثلا لو رأينا المسلم يضرب يتيما وأمكن أن يكون ضربه له تأديبا وإيذاء وجب حمله علي الصحيح ولم تنتقض بذلك عدالته إن كان عدلا وكذا لو رأيناه يضاجع امرأة ولم نعلم أنها زوجته أو أجنبية أو يشرب شرابا أحمر ولم نعلم أنه خل أو خمر أو سجد ولم نعلم أن سجوده لله أو لمخلوق أو تزوج أو طلق أو باع أو وقف أو نذر أو ذبح ولم نعلم أن ذلك علي وجه الصحة أو

ص: 105

الفساد وجب حمله علي الصحيح إلا أن يعلم الفساد ولا يكفي الظن بالفساد فضلا عن الشك ولو صدر من المسلم فعل أو قول وله وجه أو معني يوجب الارتداد وكان يمكن حمله علي وجه أو معني صحيح لا يوجب الارتداد لا يجوز الحكم بارتداده ووجب حمل فعله علي الوجه الصحيح وقوله علي المعني الصحيح ولو كان احتمال قصده لذلك المعني ضعيفا فضلا عما لو كان ظاهرا أو مساويا في الاحتمال فإذا استغاث مسلم بنبي أو ولي واحتمل أن تكون استغاثته لطلب أن يدعو له ويشفع له إلي الله لم يجز الحكم بارتداده لمجرد احتمال إرادته معني يوجب الارتداد " وهكذا " لو قال ارزقني وعاف ولدي وانصرني علي عدوي ونحو ذلك واحتمل إرادته طلب أن يكون واسطة وشفيعا فيسأل الله ذلك وأن إسناد الفعل إليه من باب إسناده إلي السبب كما في بني الأمير المدينة لم يجز الحكم بشركه وارتداده فضلا عما لو علم إرادته ذلك أو كان ظاهر حاله ذلك باعتبار أنه مسلم يعلم أن هذه الأمور لا يقدر عليها غير الله تعالي. الرابع عشر في تحقيق معني العبادة: العبادة في اللغة الذل والخضوع ومنه بعير معبد أي مذلل وطريق معبد أي مسلوك مذلل ونقلت في الشرع إلي معني جديد أو أريد بها معني خاص من المعاني اللغوية كما نقلت ألفاظ كثيرة غيرها كالصلاة والزكاة والصيام والحج التي كانت في اللغة لمطلق الدعاء والنمو والإمساك والقصد ونقلت في الشرع إلي معان جديدة وذلك لأن الألفاظ اللغوية قد تبقي في الشرع علي معانيها القديمة كالبيع والشراء وقد تنقل عنها في الشرع إلي معان جديدة فإذا لم تنقل وجب حملها علي معانيها القديمة إذا لم يعلم أنه أريد بها معني خاص منها سواء وردت في الكتاب أو الخبر أو غيرهما وأما إذا نقلت عن المعاني الأولي إلي معان جديدة فلا بد من معرفة تلك المعاني بما ثبت عن الشارع فإن عرفت وجب الحمل عليها وإلا بقيت تلك الألفاظ مجملة وكذا لو علم عدم إرادة المعاني القديمة وأنها استعملت في المعاني الجديدة المحدودة مجازا فلا بد من معرفة تلك المعاني أيضا وإلا كانت من المجمل المحتاج إلي البيان فالعبادة بمعناها اللغوي الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد ليست شركا ولا كفرا قطعا وإلا لزم كفر الناس جميعا من لدن آدم إلي يومنا هذا لأن العبادة بمعني الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد فيلزم كفر المملوك والزوجة والولد والخادم والأجير والرعية والجنود بإطاعة المولي والزوج والأب والمخدوم

ص: 106

والمستأجر والملك والأمراء وجميع الخلق لإطاعة بعضهم بعضا بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم وقد أوجب الله طاعة الأبوين وخفض جناح الذل لهما وقال لرسوله " ص " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وإطاعة الزوجة لزوجها حتي ورد لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت الزوجة بالسجود لزوجها وإطاعة الأنبياء وجعل نبينا " ص " أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأمرنا بإطاعته وإطاعة أولي الأمر منا وقرنها بإطاعته تعالي إلي غير ذلك. ثم إنه ورد في الشارع إطلاق العباد والعبادة علي مطلق المطيع والطاعة فورد أن العاصي عبد الشيطان وعبد الهوي " وقال تعالي " أفمن اتخذ إلهه هواه. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. مع ما ورد أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما حرموا عليهم حلالا وأحلوا لهم حراما فاتبعوهم، وإن الإنسان عبد الشهوات، وإن من أصغي إلي ناطق فقد عبده فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله ومن هذا القبيل قول رابعة العدوية: لك ألف معبود مطاع أمره دون الإله وتدعي التوحيدا ولا ريب أن هذه الأمور التي سميت عبادة لا توجب الكفر والارتداد وإلا لم يسلم منه أحد والضرورة قاضية بخلافه. ثم إن من جملة العبادة السجود وقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجد يعقوب وزوجته وبنوه ليوسف كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم فدل علي أن السجود ليس في نفسه قبيحا وممنوعا منه موجبا للشرك والكفر وإن سمي عبادة وإلا لم يأمر به الله تعالي وأنه ليس مثل اتخاذ الشريك للباري في جميع صفاته فإن هذا لا يعقل أن يأمر الله به أو يجيزه ولا يمكن أن لا يكون شركا وكفرا وعلم من ذلك أيضا أنه ليس مطلق الخضوع والتعظيم حتي السجود لغير الله قبيحا في نفسه وشركا وكفرا. ثم إنه ورد إطلاق العبادة علي دعاء الله تعالي في القرآن بقوله تعالي ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي. والإخبار بقوله (ص) الدعاء مخ العبادة ولكن ليس المراد بالدعاء هنا معناه اللغوي قطعا وهو النداء وإلا لكان كل من نادي أحدا وسأله شيئا عابدا له بل المراد به نداء الله تعالي وسؤاله والقيام بغاية الخضوع والتذلل بين يديه

ص: 107

وإنزال حاجات الدنيا والآخرة به علي أنه الفاعل المختار والمالك الحقيقي لأمور الدنيا والآخرة والمتصرف فيها كما يشاء فمن دعا مخلوقا علي هذا النحو كان عابدا له أما من دعاه ليشفع له إلي الله بعد ثبوت أن الله جعل له الشفاعة فلا يكون عابدا له ولا فاعلا ما لا يحل. فظهر أنه ليس كل ما يطلق عليه اسم العبادة موجبا للشرك والكفر إذا وقع لغير الله بل ولا محرما إلا أن ينص الشارع علي تحريمه كالسجود للشمس والقمر المنهي عنه في القرآن والسجود لغير الله المتفق علي تحريمه وأن مطلق الخضوع والانقياد لغير الله لا يوجب ذلك ولو فرض أنه سمي عبادة وأن العبادة التي يترتب عليها ذلك ليست العبادة اللغوية بل عبادة خاصة لا يمكن معرفتها إلا ببيان الشارع وبدون بيانه تكون مجملة وأنه لا يجوز ترتيب حكم الشرك والكفر بل ولا التحريم علي ما يسمي عبادة إلا إذا علم أنها من تلك العبادة الخاصة ومع الشك أو الظن لا يجوز ترتيب ذلك الحكم فإذا فرض ورود النهي عن عبادة غير الله فما علم أنه من المنهي عنه حرم وما لم يعلم لم يلحقه الحكم كالتكفير (1) والانحناء عند غير العرب ورفع اليد عند الجنود وكشف الرأس عند الإفرنج وغير ذلك للعلم بأن المنهي عنه ليس مطلق ما يسمي عبادة وخضوعا. ثم إن الذي علم ترتب حكم الشرك والكفر عليه من العبادات أو الاعتقادات أمور (الأول) اعتقاد المساواة لله تعالي في جميع الصفات أو أنه هو الله ولو بطريق الحلول. (الثاني) إنكار الشرائع وتكذيب الرسل وإن اعترف فاعله بتوحيد الله تعالي ولم يعبد وثنا بل بقي علي شريعة منسوخة. (الثالث) ما ذكر مع عبادة الأوثان بما لم يأذن به الله تعالي بل نهي عنه من سجود ونحر وذبح لها وذكر اسمها عليه وطليها بدمه وتعظيم باعتقاد استحقاق ذلك بالاستقلال لرفعة ذاتية واعتقاد أن له تدبيرا واختيارا كما كان يفعله عبدة الأصنام سواء كان مع الاعتراف بوجود آله وعدمه.

ص: 108


1- 37. هو وضع إحدي اليدين علي الأخري خضوعا كالذي يفعل في الصلاة - المؤلف -.

الخامس عشر لا شك أن الله تعالي فاوت بين مخلوقاته في الفضل فجعل بعضها أفضل من بعض من الأزمنة والأمكنة والأحجار والآبار والحيوانات وبني آدم وغير ذلك ففي الأزمنة فضل شهر رمضان علي سائر شهور السنة وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر وجعل من أشهر السنة الاثني عشر أربعة حرما حرم فيها القتال وفضل يوم الجمعة علي سائر الأيام وفضل ساعة منه علي سائره. وفي الأمكنة فضل الكعبة علي سائر بقاع الأرض وتعبد الناس بالحج إليها والطواف حولها ومكة والمقام وحجر إسماعيل والمسجد والمساجد الأربعة والمسجد الحرام منها علي غيرها. وفي الأحجار فضل الحجر الأسود علي غيره وتعبد الناس باستلامه وتقبيله وفي الآبار فضل بئر زمزم علي غيره وفي الحيوانات فضل الخيل علي غيرها وأمر بارتباطها وإكرامها وجعل الخير معقودا بنواصيها وجعل بعض دم الغزال مسكا وفي ذلك يقول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وفي بني آدم فضل الأنبياء علي غيرهم ومحمدا (ص) علي سائر الأنبياء والشهداء علي غيرهم والعلماء علي الشهداء وعلي بعض الأنبياء بل الشئ الواحد له فضل في حال دون حال فالكنيف لا فضل له وهو منتهي الخسة فإذا جعل مسجدا صار معظما عند الله وحرم تنجيسه ووجب تعظيمه وجلد الشاة يجعل نعلا وحذاء فيكون في منتهي الإهانة ويعمل جلدا للقرآن الكريم فيكون في منتهي الإكرام والإعظام كما قال الشاعر: أو ما تري نوع الأديم فإنه منه الحذاء ومنه جلد المصحف والرجل يكون كسائر الناس فيبعثه الله بالنبوة فتجب إطاعة أمره ونهيه أو ينصبه النبي " ص " بعده خليفة أو المسلمون فيدخل في قوله تعالي: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم. ومن هذا القبيل البقعة من الأرض تكون كسائر البقاع فيدفن فيها نبي أو ولي فتكسب شرفا وفضلا وبركة بدفنه لم تكن لها من قبل ويجب احترامها وتحرم إهانتها لحرمة من فيها ومن احترامها قصدها لزيارة من فيها وبناء القباب عليها والحجر حولها لتقي زائريها من الحر والبرد وعمل الأضرحة لها التي تصونها عن كل إهانة وإيقاد المصابيح عندها لانتفاع زائريها واللاجئين إليها وجعل الخدمة والسدنة

ص: 109

وتقبيلها والتبرك بها ووضع الخلع عليها والمعلقات فوقها وغير ذلك. ومن إهانتها هدمها لها وهدم ما فوقها من البناء وتسويتها بالأرض وجعلها معرضا لوقوع القاذورات ووطئ الدواب والكلاب والآدميين وترويث وبول الدواب والكلاب وغير ذلك وما ورد مما يوهم المنافاة لذلك مما سيأتي في محله علي فرض صحته مخصوص بغيرها أو منصرف بحكم التبادر إلي غيرها لما علم من الشرع من لزوم تعظيم أصحابها أحياء وأمواتا وهذا من تعظيمهم وحرمة إهانتهم أحياء وأمواتا وهذا منها وهل يشك في ذلك عاقل وهو يري أن الله تعالي جعل احتراما لصخرة صماء بسبب وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام عليها حين بني البيت فقال واتخذوا مقام إبراهيم مصلي أفيجعل الله احتراما لمقام رجل خليله ولا يجعل احتراما لمدفن جسده أو مدفن جسد سيد أنبيائه. وإذا كان له هذا الاحترام فلماذا حرم تقبيله والطواف والتبرك به والصلاة عنده ودعاء الله تعالي كما يصلي عند مقام إبراهيم " ع " ويدعي فإن كان لتوهم أنه عبادة له كعبادة الأصنام فهو توهم فاسد لأن احترام من جعل الله له حرمة احترام لله وعمل بأمر الله وعبادة وإطاعة لله فهو كتقبيل الحجر الأسود وتعظيم الكعبة والحرم والمقام والمساجد والتبرك بماء زمزم وسجود الملائكة لآدم وإن كان لزعم ورود النهي فستعرف أنه لا نهي. السادس عشر الأحكام لا تغير الموضوعات فإذا كان الموضوع علي حالة أو صفة قبل الحكم كان كذلك بعد الحكم وهذا من البديهيات الأولية التي لا يشك فيها من عنده أقل إلمام بالعلوم. مثلا إذا حرم الشرع شتم زيد أو أوجبه وكان الشتم في نفسه مع قطع النظر عن الحكم بتحريمه أو وجوبه إهانة لزيد لا يصير بعد التحريم أو الوجوب احتراما له وكذا لو أوجب إضافة زيد أو حرمها وكانت إضافته في نفسها إكراما له لا تصير بعد إيجابها أو تحريمها إهانة له وإذا كان تعظيم المخلوق واحترامه والتبرك به والقيام في خدمته بغاية الذل والخضوع وما أشبه ذلك عبادة له وشركا بالله تعالي فإذا أوجب الله تعالي تعظيم المخلوق واحترامه والتبرك به وإطاعته والذل والخضوع له ونحو ذلك لم يخرجه هذا الوجوب عن كونه عبادة وشركا بل يكون الله تعالي قد أوجب الشرك وعبادة المخلوق لما عرفت

ص: 110

من أن الحكم لا يغير الموضوع. إذا عرفت هذا فاعلم أن وجوب تعظيم المخلوق من جماد وإنسان واحترامه والتبرك به وإطاعته والقيام في خدمته بغاية الذل والخضوع وما ينتظم في هذا السلك ثابت في الشرع بلا شك ولا ريب، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم والولد بتعظيم الوالدين وخفض جناح الذل لهما وأمر بإطاعة الرسول وأولي الأمر منا بالائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه وعدم رفع أصواتنا فوق صوته وأمر بتعظيم المساجد والكعبة والطواف بها وتعظيم المقام والحجر الأسود وبئر زمزم والتبرك بمائه وتعظيم الحرم إلي غير ذلك مما ورد في الشرع فلا بد حينئذ من التزام أحد أمرين إما القول بأنه ليس كل تعظيم عبادة وشركا أو القول بأن الله أمر بالشرك وعبادة غيره! ولما كان الشرك قبيحا منهيا عنه موجبا للخلود في نار جهنم يغفر الله ما دونه من الذنوب ولا يغفره بنص القرآن الكريم لم يمكن أن يأمر الله به فتعين القول بأنه ليس كل تعظيم عبادة موجبة للشرك.

ص: 111

في شبه الوهابيين بالخوارج وذلك من عدة وجوه

" أولا " كما أن الخوارج شعارهم " لا حكم إلا لله " وهي كلمة حق يراد بها باطل كما قال أمير المؤمنين علي " ع ". كلمة حق لمطابقتها قوله تعالي " إن الحكم إلا لله "، يراد بها باطل، وهو أنه لا إمارة لأحد ولا يجوز التحكيم في الأمور الدينية، وفرعوا عليه إن التحكيم الذي كان بصفين كان معصية وكفرا، مع أن التحكيم قد جاء في الشرع بقوله تعالي: " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " وقال تعالي في جزاء الصيد: " يحكم به ذوو عدل منكم ". كذلك الوهابيون شعارهم: لا دعاء إلا لله، لا شفاعة إلا لله، لا توسل إلا بالله، لا استغاثة إلا بالله، ونحو ذلك. كلمات حق يراد بها باطل: كلمات حق لأن المدعو والمتوسل به حقيقة لدفع الضر وجلب النفع والمغيث الحقيقي ومالك أمر الشفاعة هو الله. يراد بها باطل وهو منع تعظيم من عظمه الله بدعائه والتوسل به ليشفع عند الله تعالي ويدعوه لنا وعدم جواز التشفع والاستغاثة والتوسل بمن جعله الله شافعا مغيثا وجعل له الوسيلة كما يبين في محله. وهي كجملة من كلماتهم المزخرفة كقولهم: لمن يقول يا محمد ويا فلان ويا فلان: هل الله أعطاك القوة أو محمد " ص "؟ فلا بد أن يقول الله فيقولون له لم لا تدعو الله وتدعو محمدا. وهذا تمويه وتضليل يراد به باطل، إذ لا يوجد أحد يعتقد أن محمدا " ص " أو غيره بيده الأمر أصالة وإنما هو التوسل وطلب الشفاعة ممن له الوسيلة والشفاعة، واعتراضهم هذا يرجع إلي الاعتراض علي الله الذي جعل الشفاعة لمحمد " ص " وإلا فمتي جعلها له فعلينا أن نطلبها منه. ولو صح اعتراضهم هذا لتوجه علي من يسأل الدعاء من الغير فيقال له: الله الذي يجيب دعاءك أو أخوك المؤمن؟ فلا بد أن يقول الله، فيقال له: لم لا تدعو الله وتطلب من أخيك أن يدعو لك؟ وكقولهم لمن يقبل ضريح النبي " ص " أو المنبر الموضوع في مسجده وفي مكان منبره: إنما تقبل حديدا أو خشبا جئ به من بلاد الإفرنج، ولم يعلموا أنه كما يحترم جلد الشاة بعمله جلدا للمصحف، والورق والمداد بكتابة المصحف عليه وبه، كذلك يحترم الحديد والخشب الذي وضع

ص: 112

علي قبر النبي " ص " أو في مسجده وفي مكان منبره. ومر بيانه في الأمر الخامس عشر من المقدمة الثانية. " ثانيا " كما أن الخوارج متصلبون في الدين مواظبون علي الصلوات وتلاوة القرآن والعبادة حتي اسودت جباههم من طول السجود، طالبون للحق كما قال أمير المؤمنين " ع ": لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، متورعون عن المحارم حتي بلغ من تورعهم أن إنسانا منهم ضرب خنزيرا بريا بسيفه فقالوا هذا فساد في الأرض، والتقط أحدهم تمرة من الطريق فوضعها في فمه فبادر آخر وطرحها من فمه. كذلك الوهابيون متصلبون في الدين يؤدون الصلاة لأوقاتها ويواظبون علي العبادة ويطلبون الحق وإن أخطأوه ويتورعون عن المحرمات حتي بلغ من تورعهم أنهم توقفوا في استعمال " التلغراف " كما مر. وقد رأيت نجديا يصرف الريالات الجديدة بالقديمة بتفاوت، فأراد رجل أن يعطيه قديما وزيادة بجديد، فقال علي الفور: لا، هذا ربا. وكان معه دلال يهودي، فلما فارقه قال له اليهودي: ادع لنا، فقال: " الله يهديك "، والتفت إلي وقال هذا يهودي. " ثالثا " كما أن الخوارج كفروا من عداهم من المسلمين وقالوا إن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وقالوا إن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر حتي أنهم قتلوا عبد الله بن خباب أحد أصحاب رسول الله " ص " صائما في شهر رمضان والقرآن في عنقه وقتلوا زوجته وهي حبلي وبقروا بطنها لأنه لم يتبرأ من علي بن أبي طالب، وقالوا له هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك فذبحوه علي شاطئ النهر حتي سال دمه في النهر. وكانوا إذا أسروا نساء المسلمين يبيعونهن فيما بينهم حتي أنهم تزايدوا في بعض الوقائع علي امرأة جميلة وغالوا في ثمنها فقام بعضهم فقتلها وقال إن هذه الكافرة كادت تقع فتنة بسببها بين المسلمين، وقالوا للحسن بن علي يوم ساباط المدائن: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك. كذلك الوهابيون حكموا بشرك من خالف معتقدهم من المسلمين واستحلوا ماله ودمه

ص: 113

وبعضهم استحل سبي الذرية كما سيأتي في الباب الأول ولم يخاطبوه إلا بقولهم يا مشرك وجعلوا دار الإسلام دار حرب ودارهم دار إيمان تجب الهجرة إليها وحكموا بقتال تارك الفرض وإن لم يكن مستحلا كما في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) ونقلوه فيها أيضا عن ابن تيمية (2) قال سليمان بن عبد الوهاب علي ما حكي عنه في رسالته في الرد علي أخيه محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية: قال ابن القيم: الخوارج لهم خاصيتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم إحداهما خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسنة سنة والثانية أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب علي ذلك استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم وعامة البدع إنما تنشأ من هذين الأصلين " انتهي ". وهذا الذي ذكره بعينه موجود في الوهابية. " رابعا " كما أن الخوارج استندوا في شبهتهم هذه إلي ظواهر بعض الآيات والأدلة التي زعموها دالة علي أن كل كبيرة كفر. كذلك الوهابيون استندوا في هذه الشبهة إلي ظواهر بعض الآيات والأدلة التي توهموها دالة علي أن الاستغاثة والاستعانة بغير الله شرك وعلي غير ذلك من معتقداتهم كما يظهر من استشهاداتهم بالآيات التي لا دلالة فيها علي معتقداتهم عند نقلنا لها. وسيأتي في الأمر العاشر عدة روايات تشير إلي ذلك. " خامسا " كما أن الخوارج استحلوا قتال ملوك الإسلام والخروج عليهم لأنهم باعتقادهم أئمة ضلال كذلك الوهابيون استحلوا قتال ملوك الإسلام وأمرائه لأنهم باعتقادهم أئمة ضلال ناصرون للشرك والبدع. " سادسا " كما أن الخوارج لا يبالون بالموت ويقدمون علي الحرب لأنهم رائحون بزعمهم إلي الجنة حتي أن بعضهم طعن برمح فمشي والرمح فيه إلي طاعنه فقتله وهو يتلو: " وعجلت إليك ربي لترضي ". كذلك الوهابيون يظهرون بسالة وإقداما ولا يبالون بالموت لأنهم بزعمهم رائحون إلي الجنة ويقولون في حروبهم مع المسلمين:

ص: 114


1- 38. ص 65 - 86.
2- 39. ص 81.

هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها " سابعا " كما أن الخوارج علي جانب من الجمود والغباوة، فبينا هم يتورعون عن أكل تمرة ملقاة في الطريق ويرون قتل الخنزير الشارد في البر فسادا في الأرض، تراهم يرون قتل الصحابي الصائم وفي عنقه القرآن طاعة لله تعالي ويكفرون جميع المسلمين ويرون كل كبيرة كفرا. ولقيهم قوم مسلمون فسألوهم من أنتم؟ وكان فيهم رجل ذو فطنة، فقال اتركوا الجواب لي، قال: نحن قوم من أهل الكتاب استجرنا بكم حتي نسمع كلام الله ثم تبلغونا مأمننا. فقالوا لا تخفروا ذمة نبيكم فأسمعوهم شيئا من القرآن وأرسلوا معهم من يوصلهم إلي مأمنهم. وقالوا لعبد الله بن خباب الصحابي ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فأثني خيرا فقالوا إنك ممن يتبع الرجال علي أسمائها وفعلوا معه ما تقدم. كذلك الوهابيون علي جانب من الجمود. فبينا هم يحرمون الترحيم والتذكير لأنه بزعمهم بدعة وأمثال ذلك، ويتوقفون في " التلغراف " لعدم وقوفهم علي نص فيه، ويحرمون التدخين ويعاقبون عليه، تراهم يكفرون المسلمين ويشركونهم ويستحلون أموالهم ودماءهم ويقاتلونهم بالبنادق والمدافع لطلبهم الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة وتوسلهم بمن له عند الله الوسيلة. " ثامنا " كما أن الخوارج قال بمقالتهم جماعة ممن ينسب إلي العلم لظهورهم بمظهر مقاومة أئمة الضلال ورفع الظلم الذي لا شك أنه كان موجودا في الجملة، وأنه لا حكم إلا لله، الكلمة التي قال عنها أمير المؤمنين علي " ع ": إنها كلمة حق يراد بها باطل كما مر. كذلك الوهابيون قال بمقالتهم جماعة ممن ينسب إلي العلم لظهورهم بمظهر رفع البدع التي لا شك في وجودها في الجملة وأنه لا عبادة ولا شفاعة إلا لله ولا استعانة ولا استغاثة إلا بالله. وهذه كتلك كلمة حق يراد بها باطل كما عرفت وستعرف. " تاسعا " كما أن الخوارج عمدوا إلي الآيات الواردة في المشركين فجعلوها في المسلمين والمؤمنين كذلك الوهابيون جعلوا الآيات النازلة في المشركين منطبقة علي المسلمين. أما صدور ذلك من الخوارج فيدل عليه ما في خلاصة الكلام (1) مما هذا لفظه: روي

ص: 115


1- 40. صفحة 230.

البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلي آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين وفي رواية أخري عن ابن عمر عند غير البخاري أنه " ص " قال أخوف ما أخاف علي أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه " انتهي " وعن ابن عباس لا تكونوا كالخوارج تأولوا آيات القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب والمشركين فجهلوا علمها فسفكوا الدماء وانتهبوا الأموال. وأما صدور ذلك من الوهابيين فيدل عليه ما سيأتي عند نقل كلماتهم ومعتقداتهم من جعلهم الآيات الكثيرة النازلة في الكافرين والمشركين منطبقة علي المسلمين مثل: أغير الله اتخذو وليا. أروني ماذا خلق الذين من دونه. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالي عما يشركون. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا. أجعل الآلهة إلها واحدا. أجئتنا لنعبد الله وحده فلا تجعلوا لله أندادا. أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ. إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يسردونها وهي نازلة في الكافرين والمشركين فيجعلونها منطبقة علي المسلمين انطباقا تاما بغير مائز ولا فارق. " عاشرا " كما أن الخوارج سيماهم التحليق أو التسبيد كذلك الوهابيون سيماهم التحليق وعن النهاية في حديث الخوارج: التسبيد فيهم فاش هو الحلق واستئصال الشعر " انتهي ". " حادي عشر " كما أن الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان كما أخبر النبي " ص " عنهم بما رواه في السيرة الحلبية (1) من قوله " ص " في الخوارج: يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم لا تفقهه قلوبهم ليس لهم حظ منه إلا تلاوة الفم وإنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " الحديث ". كذلك الوهابيون يقتلون أهل الإسلام وحدهم ولم ينقل عنهم أنهم حاربوا أحدا سوي المسلمين. وفي قتلهم أهل الطائف أولا وآخرا بلا ذنب وقتلهم أهل كربلاء سنة 1216 وغزوهم بلاد الإسلام المجاورة لهم كالعراق والحجاز واليمن وشرقي الأردن وغيرها وقتلهم من ظفروا به من المسلمين وقتلهم نحو ألف رجل من اليمانيين جاؤوا لحج بيت الله الحرام سنة

ص: 116


1- 41. ص 140 ج 3 طبع عام 1320 بمصر.

1340 وذبحهم لهم ذبح الأغنام كما مر ذلك كله في تاريخهم، وعدم غزوهم للمستعمرين أو الصهيونيين وتوجيه بأسهم وحربهم كله إلي المسلمين والعرب أقوي شاهد علي ذلك. " ثاني عشر " كما أن الخوارج كلما قطع منهم قرن كذلك الوهابيون كلما قطع منهم قرن نجم قرن فقد حاربهم محمد علي باشا واستأصل شأفتهم ووصل ولده إبراهيم باشا إلي قاعدة بلادهم الدرعية وأخربها ثم نجم قرنهم بعد ذلك وقطع ثم نجم وقطع مرارا.

ص: 117

معتقدات الوهابيين و محور مذهبهم الذي يدور عليه

في ذكر جميع معتقدات الوهابية ومحور مذهبهم الذي يدور عليه الاجتهاد عند الوهابيين

اشاره

الوهابيون سنيون وينتحلون مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا أنهم لا يلتزمون بتقليد أحد المذاهب الأربعة بل قد يجتهدون علي خلافها. قال محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المعاصر لابن عبد الوهاب وأحد مؤسسي المذهب الوهابي في رسالته تطهير الاعتقاد (1) : وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة وإن كان هذا قولا باطلا وكلاما لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلا " انتهي ". وقال محمد بن عبد اللطيف أحد أحفاد ابن عبد الوهاب في آخر الرسالة الخامسة (2) من رسائل الهدية السنية مذهبنا مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ندعي الاجتهاد وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله " ص " عملنا بها ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان " انتهي ". وهذا هو الاجتهاد الذي أنكره في أول كلامه وقال به في آخره. وما هي السنة الصحيحة التي تبين له هل يشافهه بها رسول الله " ص " أو تكون متواترة خفيت علي جميع أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم وبانت له؟! هذا مستحيل عادة أو هي خبر ظني الدلالة والسند أو السند فقط والله تعالي قد نهي عن العمل بالظن في كتابه وذم متبعه فهل يكون العمل بذلك الخبر الظني إلا بالاجتهاد الذي أنكره. وقال أبوه عبد اللطيف في إحدي رسائل الهدية السنية (3) أن محمد بن عبد الوهاب لا يري ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده. إلي أن قال: نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط يصار إلي التقليد ولا يري إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل من الكتاب والسنة خلافا لغلاة المقلدين. وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (4) ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها إلا أنه إذا صح لنا نص جلي من

ص: 118


1- 42. صفحة 19.
2- 43. صفحة 110.
3- 44. صفحة 49.
4- 45. صفحة 39.

كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصوص ولا معارض بأقوي منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فنقدم الجد بالإرث وإن خالفه مذهب الحنابلة. إلي أن قال: ولا نعترض علي أحد في مذهبه إلا إذا اطلعنا علي نص جلي مخالف لأحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمن الحنفي والمالكي مثلا بالطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالأسرار ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض وقد اختار جمع من أئمة المذاهب الأربعة ما يخالف مذهب مقلده " انتهي " وهذا الأخير يخالف ما ذكره محمد بن عبد اللطيف وما حكاه أبوه عن محمد ابن عبد الوهاب فهذا يشترط في جواز الأخذ بالنص من الكتاب والسنة أن يقول به أحد الأئمة الأربعة ومحمد يقول لا نقدم علي السنة قول أحد كائنا من كان وابن عبد الوهاب يري إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل. ثم إلزام صاحب المذهب بخلاف مذهبه فيما فيه شعائر ظاهرة خطأ فإنه إن كان معذورا لم يجب إلزامه بل لم يجز وإن لم يكن معذورا وجب إلزامه سواء كان فيه شعائر ظاهرة أو لا. اعتقاد الوهابية وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالي وصفاته إعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون وأنهم باعتقادهم التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد عن أن يتطرق إليه شئ من الشرك. وادعي الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي ولكن الحقيقة إن بن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمي التوحيد وهتكوا ستوره وخربوا حجابه ونسبوا إلي الله تعالي ما لا يليق بقدس جلاله تقدس وتعالي عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فاثبتوا لله تعالي جهة الفوق والاستواء علي العرش الذي هو فوق السماوات والأرض والنزول إلي سماء الدنيا والمجئ والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية، وأثبتوا له تعالي الوجه واليدين اليد اليمني واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية دون تأويل، وهو تجسيم صريح.

ص: 119

وحملوا ألفاظ الصفات علي معانيها الحقيقية فاثبتوا لله تعالي المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالي يتكلم بحرف وصوت فجعلوا لله تعالي محلا للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في محله من علم الكلام. أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء علي العرش حقيقة والتكلم بحرف وصوت. وهو أول من زقا بهذا القول وصنف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرهما واقتفاه في ذلك تلميذاه ابن القيم الجوزية وابن عبد الهادي وأتباعهم ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه فأخذ إلي مصر ونوظر فحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسا بعدما أظهر التوبة ثم نكث. ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما هي قيمة ابن تيمية عند العلماء: قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة إن ابن تيمية تجاوز إلي الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة علي المنابر من دعوي الجهة والتجسيم الخ وقال ابن حجر أيضا في الدرر الكامنة علي ما حكي: أن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم من نسبه إلي التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وإنه مستو علي العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله. ومنهم من ينسبه إلي الزندقة لقوله إن النبي (ص) لا يستغاث به وإن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول الله " ص " وكان أشد الناص عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزر، فقال البكري: لا معني لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر ومنهم من ينسبه إلي النفاق لقوله في علي أنه كان مخذولا حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة وأنه كان يحب الرياسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله: أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول وعلي أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه علي قول، ولكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء علي قصة أبي

ص: 120

العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فالزموه بالنفاق لقوله " ص ": لا يبغضك إلا منافق. ونسبه قوم إلي أنه يسعي في الإمامة الكبري فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه وكان ذلك مولدا لطول سجنه. وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا " انتهي ". وعن منتهي المقال في شرح حديث لا تشد الرحال للمفتي صدر الدين أنه قال فيه: قال الشيخ الإمام الحبر الهمام سند المحدثين الشيخ محمد البرلسي في كتابه إتحاف أهل العرفان: وقد تجاسر ابن تيمية الحنبلي عامله الله تعالي بعدله وذكر تحريمه للسفر إلي زيارة النبي " ص " إلي أن قال حتي تجاوز الجناب الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وخرق سياج الكبرياء والجلال وحاول إثبات ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة والتجسيم ونسبة من لم يعتقدهما إلي الضلالة والتأثيم وأظهر هذا الأمر علي المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر. إلي آخر ما يأتي في فصل الزيارة وعن صاحب أشرف الوسائل إلي فهم الشمائل أنه قال في بيان إرخاء العمامة بين الكتفين. قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه ذكر شيئا بديعا وهو أنه " ص " لما رأي ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. قال العراقي ولم نجد لذلك أصلا. أقول: بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما إذ هو مبني علي ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحط علي أهل السنة في نفيهم له وهو إثبات الجهة والجسمية لله تعالي عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما يصم عنه الأذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان قبحهما الله وقبح من قال بقولهما. والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة كيف وهي كفر عند كثيرين (انتهي). وعن المولوي عبد الحليم الهندي في حل المعاقد حاشية شرح العقائد كان تقي الدين ابن تيمية حنبليا لكنه تجاوز عن الحد وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحق تعالي وجلاله فأثبت له الجهة والجسم وله هفوات أخر كما يقول إن أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه كان يحب المال وإن أمير المؤمنين سيدنا عليا رضي الله عنه ما صح إيمانه فإنه آمن في حال صباه. وتفوه في حق أهل بيت النبي صلي الله عليه وعليهم ما لا يتفوه به المؤمن المحق وقد وردت الأحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح، وانعقد مجلس في قلعة الجبل وحضر

ص: 121

العلماء الأعلام والفقهاء العظام ورئيسهم قاضي القضاة زين الدين المالكي وحضر ابن تيمية فبعد القيل والقال بهت ابن تيمية وحكم قاضي القضاة بحبسه سنة 705 ثم نودي بدمشق وغيرها من كان علي عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمد عبد الله اليافعي ثم تاب وتخلص من السجن سنة 707 وقال إني أشعري ثم نكث عهده وأظهر مرموزه فحبس حبسا شديدا ثم تاب وتخلص من السجن وأقام في الشام وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ ورد أقاويله وبين أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين والمرام أن ابن تيمية لما كان قائلا بكونه تعالي جسما قال بأنه ذو مكان فإن كل جسم لا بد له من مكان علي ما ثبت ولما ورد في الفرقان الحميد (الرحمن علي العرش استوي) قال إن العرش مكانه ولما كان الواجب أزليا عنده وأجزاء العالم حوادث عنده اضطر إلي القول بأزلية جنس العرش وقدمه وتعاقب إشخاصه الغير المتناهية فمطلق التمكن له تعالي أزلي والتمكنات المخصوصة حوادث عنده كما ذهب المتكلمون إلي حدوث التعلقات " انتهي ". وعن اليافعي في مرآة الجنان أنه قال في ذكر فتنة ابن تيمية: وكان الذي ادعي عليه بمصر أنه يقول إن الرحمن علي العرش استوي حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان علي عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه (انتهي). وعن تاريخ أبي الفدافي حوادث سنة 705: وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلي مصر وعقد له مجلس وأمسك وأودع الاعتقال بسبب عقيدته فإنه كان يقول بالتجسيم " انتهي ". وجاء في المنشور الصادر بحقه من السلطان: وكان الشقي ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه وتحدث في مسائل القرآن والصفات ونص في كلامه علي أمور منكرات وأتي في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد علي خلافه إجماع العلماء الأعلام وخالف في ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه حتي اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم " انتهي ". وعن كشف الظنون عن بعضهم أنه بالغ في رد ابن تيمية حتي صرح بكفر من أطلق عليه شيخ الإسلام " انتهي ". وأما محمد بن عبد الوهاب فاقتفي هو وأتباعه في ذلك أثر ابن تيمية كما اقتفي أثره في

ص: 122

زيارة القبور والتشفع. والتوسل وغير ذلك وبني علي أساسه وزاد وقد أثبت ابن عبد الوهاب لله تعالي جهة الفوق والاستواء علي العرش الذي هو فوق السماوات والأرض والجسمية والرحمة والرضا والغضب واليدين اليمني والشمال والأصابع والكف كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل. قال محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق علي العبيد علي ما حكي عنه في باب قوله تعالي: " حتي إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ": العشرون إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة. قال الشارح: الأشعرية الفرقة المنتسبة لأبي الحسن الأشعري أنكرت كثيرا من الصفات " منها " علو الله تعالي واستواؤه علي عرشه بائنا عن خلقه ومحبته لعباده الصالحين ورحمته لهم رضاه وغضبه وغير ذلك خلافا لما جاء عن رسول الله " ص " وأصحابه وسائر السلف الصالحين ثم استدل علي ذلك بالأحاديث فقال باب ما جاء في قوله تعالي: " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " (الآية) عن ابن مسعود رضي الله عنه جاء حبر من الأحبار إلي رسول الله " ص " فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات في إصبع والأرضيين في إصبع والشجر علي إصبع والماء علي إصبع والثري علي إصبع وسائر الخلق علي إصبع فيقول إنا الملك فضحك النبي " ص " حتي بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ: " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " (الآية) وفي رواية لمسلم والجبال والشجر علي إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات علي إصبع والماء والثري علي إصبع وسائر الخلق علي إصبع أخرجاه ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمني ثم يقول إنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وروي عن ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وعن ابن مسعود بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفي عليه شئ من أعمالكم أخرجه ابن مهدي وعن العباس بن عبد

ص: 123

المطلب رضي الله عنه قال رسول الله " ص " هل تدرون كم بين السماء والأرض قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلي سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالي فوق ذلك وليس يخفي عليه شئ من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره وفيه مسائل: " الأولي " تفسير قوله تعالي (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) " الثانية " إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه " ص " لم ينكروها ولم يتأولوها " الثالثة " إن الحبر لما ذكر ذلك للنبي " ص " صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك " رابعا " وقوع الضحك منه " ص " لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم " الخامسة " التصريح بذكر اليدين وإن السماوات في اليد اليمني والأرضين في الأخري " السادسة " التصريح بتسميتها الشمال " انتهي ". وهو صريح في إثبات جهة الفوق لله تعالي والاستواء علي العرش الذي هو فوق السماوات والأرض وإثبات المحبة والرحمة والرضا والغضب وإثبات اليدين والأصابع واليد اليمني واليد الشمال والكف له تعالي كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل ونسبة الأشعرية الذين يؤلونها إلي التعطيل وهو عين التجسيم الذي أطبق المسلمون علي كفر معتقده لاستلزامه التركيب والتحيز والوجود في جهة دون جهة وكل ذلك يستلزم الحدوث كما قرر في محله ويلزم من إثبات المحبة والرحمة والرضا والغضب بمعانيها الحقيقية وهي ميل القلب ورقته وعدم هيجان النفس وهيجانها كونه تعالي محلا للحوادث الموجب حدوثه كما علم من علم الكلام مع أن حديث حبر اليهود عليه لا له فإن الضحك لم يكن لتصديق قول الحبر كما توهم بل للرد عليه فهو ضحك تعجب من نسبة ذلك إليه تعالي مع بطلانه في العقول ويدل عليه قراءته " ص " وما قدروا الله حق قدره أي ما قدروه حق قدره بنسبتهم إليه الجسمية والأعضاء. وأما أتباع محمد بن عبد الوهاب فاثبتوا لله تعالي جهة العلو والاستواء علي العرش والوجه واليدين والعينين والنزول إلي سماء الدنيا والمجئ والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية.

ص: 124

ففي الرسالة الرابعة من الرسائل الخمس المسمي مجموعها بالهدية السنية (1) لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبد الوهاب عند ذكر بعض اعتقادات الوهابية وأنها مطابقة لعبارة أبي الحسن الأشعري قال: وأن الله تعالي علي عرشه كما قال: " الرحمن علي العرش استوي " وأن له يدين بلا كيف كما قال: " لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان " وأن له عينين بلا كيف وأن له وجها كما قال " ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام " وقال (2) ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله " ص " أن الله ينزل إلي السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر. " إلي أن قال " ويقرون إن الله يجئ يوم القيامة كما قال: " وجاء ربك والملك صفا صفا " وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ". وفي الرسالة الخامسة لمحمد بن عبد اللطيف المذكور (3) ونعتقد أن الله تعالي مستو علي عرشه عال علي خلقه وعرشه فوق السماوات قال تعالي " الرحمن علي العرش استوي " فنؤمن باللفظ ونثبت حقيقة الاستواء ولا نكيف ولا نمثل قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس وبقوله نقول، وقد سأله رجل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. (إلي أن قال) فمن شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر ونؤمن بما ورد من أنه تعالي ينزل كل ليلة إلي سماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر فيقول الخ. (ونقول): يلزم من ذلك أحد أمرين: التجسيم أو القول بالمحال وكلاهما محال لأن حصول حقيقة الاستواء مع عدم الكيف محال بحكم العقل ومع الكيف تجسيم فلا بد من التأويل والمجاز والقرينة العقل. ومنه تعلم أن الكلام المنسوب إلي الإمام مالك لا يكاد يصح وحسن الظن به يوجب الريبة في صحة النسبة إليه وذلك لأن قوله الاستواء معلوم أن أراد أنه معلوم بمعناه الحقيقي فهو ممنوع بل عدمه معلوم بحكم العقل باستحالة الجسمية عليه تعالي واستحالة الاستواء الحقيقي بدون الجسمية وأن المراد بالمعني المجازي فلا يصلح شاهدا لقوله: نثبت حقيقة الاستواء، ولا يكون السؤال عنه بدعة ولا يلزم الكيف حتي يقال إنه مجهول. ثم كيف يكون السؤال بدعة والتصديق بالمجهول محال وإن أراد أنا نؤمن به علي حسب المعني الذي أراده الله تعالي منه وإن لم نعلمه تفصيلا فإن كان يحتمل أنه أراد حقيقة الاستواء ففاسد لما عرفت من استحالته بحكم

ص: 125


1- 46. ص 97.
2- 47. ص 99.
3- 48. ص 105 طبع المنار بمصر.

العقل وإن كان الترديد بين المعاني المجازية فقط فأين حقيقة الاستواء التي أثبتناها. وإذا كان قول الإمام مالك عند هؤلاء قدوة وحجة في مثل هذه المسألة الغامضة فلم لم يقتدوا بقوله فيما هو أوضح منها وأهون وهو رجحان استقبال القبر الشريف والتوسل بصاحبه عند الدعاء حسبما أمر به مالك المنصور فيما مرت الإشارة إليه. " وكذا " الاعتقاد باليدين والعينين والوجه بدون الكيف فإن كانت بمعانيها الحقيقة لزم اعتقاد المحال لاستحالة المعاني الحقيقية بدون الكيف ومع الكيف يلزم التجسيم فلا بد من المجاز والتأويل والقرينة حكم العقل. وكذا بأنه تعالي ينزل إلي سماء الدنيا ويجئ يوم القيامة ويقرب من خلقه إن كان بمعانيها الحقيقية لزم التجسيم فلا بد من المجاز والتأويل لعين ما مر. قوله: فمن شبه الله بخلقه كفر، قلنا: إثبات حقيقة هذه الأشياء هي تشبيه له بخلقه فتكون كفرا لعدم إمكان إثباتها بدون التشبيه كما عرفت. قوله: ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، قلنا: جحود الصفة والإقرار بها حكم عليها والحكم علي الشئ فرع معرفته فيلزم أولا أن نعرف ما أريد بهذا اللفظ هل هو معناه الحقيقي أو المجازي لنعرف ما وصف به نفسه فنقر به وإذا كان المعني الحقيقي يستحيل إرادته كما بينا فلا يكون مما وصف به نفسه فلا يكون جحوده كفرا. ومن هنا تعلم فساد ما حكي عن محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد من أن الوهابيين يقرون آيات الصفات والأحاديث علي ظاهرها ويكلون معناها إلي الله تعالي " انتهي " فإن إقرارها علي ظاهرها يناقض إيكال معناها إلي الله كما هو واضح بل إيكالها إليه تعالي عبارة عن التوقف وعدم الحكم ببقائها علي ظاهرها أما قول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية أنه لا يلزم أن نكون مجسمة وأن قلنا بجهة العلو لأن لازم المذهب ليس بمذهب ففيه أن كون لازم المذهب ليس بمذهب إن صح فمعناه أن من ذهب إلي القول بشئ لا يجب أن يكون قائلا بلازمه إلا أنه إذا كان هذا اللازم باطلا كان ملزومه الذي ذهب إليه باطلا

ص: 126

لأن بطلان اللازم يدل علي بطلان الملزوم وإلا لبطلت الملازمة فمن قال بجهة العلو وإن لم يقل بالتجسيم إلا أنه لازم قوله فإذا كان التجسيم باطلا فالقول بجهة العلو خطأ وباطل مع أنك قد عرفت آنفا أن قدوتهم ومؤسس ضلالتهم ابن تيمية قد صرح بالجسمية وكفره علماء عصره لذلك وحكموا بقتله أو حبسه وإن مؤسس مذهبهم ابن عبد الوهاب اقتدي بابن تيمية في ذلك فأثبت اليدين اليمين والشمال والأصابع والكف وهم علي طريقته لا يحيدون عنها قيد أنملة فلا ينفعهم التبري من القول بالتجسيم. اعتقاد الوهابيين في النبي " ص " وسائر الأنبياء والصالحين وقبورهم اعتقادهم في النبي (ص) أن الاستغاثة به وطلب الشفاعة منه إلي الله والتوسل به إليه بقول يا رسول الله أو يا رسول الله إشفع لي أو أتوسل بك إلي الله والتبرك بقبره والصلاة والدعاء عنده وتعظيمه كل ذلك شرك وكفر وعبادة للأصنام والأوثان موجبة لحل المال والدم وأنه يحرم السفر لزيارته ويجب هدم ضريحه وقبته ويحرم التبرك بتربته ولمس ضريحه وتقبيله وأن ضريحه صنم من الأصنام ووثن من الأوثان بل هو الصنم الأكبر والوثن الأعظم وكذلك سائر الأنبياء والصالحين، وفي خلاصة الكلام: (1) كان محمد بن عبد الوهاب يقول عن النبي " ص " إنه طارش، وإن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد لأنه ينتفع بها في قتل الحية ونحوها ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع وإنما هو طارش ومضي، وكان يقال ذلك بحضرته أو يبلغه فيرضي وكان يقول: وجدت في قصة الحديبية كذا كذا كذبة " انتهي ". اعتقادهم في عموم المسلمين واعتقادهم في عموم المسلمين أنهم كفروا بعد إيمانهم وأشركوا بعد توحيدهم أو أنهم كفار بالكفر الأصلي بل شر من الكفار فيجب قتالهم وتحل دماؤهم وأموالهم، وعلي بعض الأقوال: تسترق ذراريهم، وهذا الكفر والشرك حصل منهم منذ ستمائة سنة قبل ابن عبد الوهاب، علي ما في خلاصة الكلام، وأنهم أبدعوا في دين الإسلام. هذا محور مذهب الوهابية الذي يدور عليه.

ص: 127


1- 49. صفحة 230.

أما كفرهم وشركهم فبعبادتهم الأنبياء والصالحين بل وغير الصالحين ممن يعتقدون فيهم الولاية وهم من فسقة الناس وعبادتهم قبورهم فكانوا بذلك كمشركي قريش وغيرهم عبدوا الأصنام والأوثان من الأحجار والأشجار وغيرها وعبدوا الملائكة والجن، كالنصاري الذين عبدوا المسيح وأمه، وذلك باستغاثتهم بالأموات ودعائهم لكشف الملمات والهتاف بأسمائهم والتشفع بهم إلي الله بقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة ونحو ذلك، والنذر والذبح لهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وعمل الأضرحة لها ووضع الجوخ وغيره عليها وعمل الستور لها وإسراجها وتخليقها والعكوف عليها كما كان المشركون يعكفون علي أصنامهم، والنذر لها وتزيينها بالقناديل والذهب والفضة وغيرها وجعل الخدمة والسدنة لها وعمل أعياد ومواسم لها وتقبيلها والطواف حولها والتمسح بها وأخذ ترابها تبركا والصلاة عندها واتخاذها مساجد وشد الرحال إليها وكتب الرقاع عليها ونحو ذلك، فإن ذلك كله عبادة لها ولأهلها. وصرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها موجب للشرك والكفر. وفرعوا علي ذلك وجوب هدم قبور الأنبياء والصالحين والقباب المبنية عليها وعدم جواز تعميرها وتعليق المعلقات فيها والوقف عليها بل هو باطل، وعدم جواز لمسها والتبرك بها والصلاة والدعاء عندها وإيقاد السرج عليها وغير ذلك. وقسموا التوحيد إلي توحيد الربوبية وهو الاعتقاد بأن الخالق الرازق المدبر للأمر هو الله. وتوحيد العبادة وهو صرف العبادة كلها إلي الله. قالوا ولا ينفع الأول بدون الثاني لأن مشركي قريش كانوا يعتقدون بالأول فلم ينفعهم لعدم إقرارهم بالثاني، كذلك المسلمون لا ينفعهم الاقرار بتوحيد الربوبية لعبادتهم الأنبياء والصالحين وقبورهم بنفس الأشياء التي كان المشركون يعبدون أصنامهم بها. وقالوا: الكفر نوعان مطلق ومقيد فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول " ص " والمقيد أن يكفر ببعضه وهو كفر المسلمين الذين هم باعتقادهم مشركون، وقسموا الشرك إلي قسمين: أكبر وأصغر فالأكبر هو الذي تقدم والأصغر كالرياء والحلف بغير الله تعالي. وفرع الوهابية علي هذا الاعتقاد الذي اعتقدوه من إشراك جميع المسلمين: وجوب

ص: 128

قتالهم واستحلال دمائهم وجعل بلادهم دار حرب وقتالهم جهادا في سبيل الله وبلادهم بلاد شرك تجب الهجرة منها إلي بلاد الإسلام التي أهلها وهابية موحدون كما كانت هذه الأشياء ثابتة في حق عبدة الأوثان والأصنام. قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة ثلاثة الأصول (1) : والهجرة فريضة علي هذه الأمة من بلد الشرك إلي بلد الإسلام وهي باقية إلي أن تقوم الساعة الخ. أما سبي ذراري المسلمين فهو مقتضي قواعد المذهب الوهابي الذي أساسه ومبناه ومحوره الذي يدور عليه التسوية بين عبدة الأصنام وبين المسلمين في الاشراك بالعبادة، وقد صرح الصنعاني في تطهير الاعتقاد في عدة مواضع بما يدل علي ذلك حيث قال: (2) ومن فعل ذلك (أي الاستغاثة وما يجري مجراها) لمخلوق فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار الفاعل عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده فأن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم. وقال في موضع آخر: (3) فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسول الله (ص) من المشركين " انتهي ". ويدل عليه ما حكاه الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1217 كما تقدم نقله عنه في بعض الحواشي السابقة: أنهم لما دخلوا الطائف قتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال. قال: وهذا دأبهم مع من يحاربهم. وعن كتاب التوضيح لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنه قال: وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأن يتخذوهم عبيدا " انتهي ". ومر عن تاريخ الأمير حيدر أن الوهابيين في بعض حروبهم سبوا النساء وقتلوا الأطفال، ولكن في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (4) : ومما نحن عليه إنا لا نري سبي العرب ولم نفعله نقاتل غيرهم " كذا " ولا نري سبي النساء والصبيان " انتهي " وهذا مناقض لقواعد مذهبهم ولما سمعت من كلام بعضهم، والتناقض في كلامهم غير عزيز كما يظهر لك من تضاعيف هذا الكتاب.

ص: 129


1- 50. صفحة.
2- 51. صفحة 7.
3- 52. صفحة 12 طبع المنار بمصر.
4- 53. صفحة 40.

وأما إبداع المسلمين في الدين فبإحداثهم أشياء فيه لم تكن علي عهد النبي " ص " والصحابة. وقالوا: البدعة وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة (أي قرن النبي " ص " وما بعده) مذمومة مطلقا. ذكره حفيد ابن عبد الوهاب في إحدي رسائل الهدية السنية (1) وذلك مثل المحاريب الأربعة في المساجد للأئمة الأربعة وجعل أربعة أئمة للصلاة من أهل المذاهب الأربعة والترحيم والتذكير الذي يفعل في المآذن ليلة الجمعة ويومها وليلة الاثنين وبين الأذان والإقامة وقبل الفجر (2) ورفع الصوت في مواضع الأذان كالمنائر بغير الأذان من قرآن أو صلاة علي النبي " ص " أو ذكر بعد أذان أو في ليلة جمعة أو رمضان أو العيدين وقراءة حديث أبي هريرة قبل خطبة الجمعة والاجتماع علي قراءة سيرة المولد الشريف النبوي وقراءة المولد النبوي بقصائد بألحان وتخلط بالصلاة عليه وبالأذكار والقراءة وتكون بعد التراويح والتظاهر باتخاذ المسابح والاجتماع علي رواتب المشايخ برفع الصوت وقراءة الفواتح كراتب السمان والحداد وغيرهما وقراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس وكصلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان ورفع الصوت بالذكر عند حمل الميت وعند رش القبر بالماء وكإتخاذ الطرائق وتعليق الأسلحة والبيارق في التكايا والزوايا وعمل الذكر المتعارف ونقر الدفوف وما يتخلل ذلك من الشهيق والنهيق والنعيق وتكرار لفظ الجلالة (الله الله) وغير ذلك. وأحرق الوهابية دلائل الخيرات بدعوي اشتمالها علي البدعة أو الشرك. وفي خلاصة الكلام: (3) أن محمد بن عبد الوهاب كان ينهي عن الاتيان بالصلاة علي النبي " ص " ليلة الجمعة وعن الجهر بها علي المناير وأنه قتل رجلا أعمي كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة علي النبي " ص " في المنارة بعد الأذان فلم ينته فأمر بقتله فقتل. ثم قال: إن الربابة في بيت الخاطئة أقل إثما ممن ينادي بالصلاة علي النبي " ص " في المنائر " انتهي " وذلك لأن الربابة في البيت الخاطئة لا يتجاوز إثمها صاحبها أما الصلاة علي النبي " ص " بتلك الكيفية فهي بزعمه بدعة فيتعدي إثمها لكل من يقتدي بفاعلها. (ونقول): البدعة كما مر في المقدمات إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرم

ص: 130


1- 54. ص 47.
2- 55. وهذا جاء في سؤال ابن بليد الموجه إلي أهل المدينة كما يأتي.
3- 56. ص 23. - المؤلف -.

أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبه أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له، ولو سلمنا حديث. خير القرون قرني الخ فإن أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتفاق وتقسيم بعضهم لها إلي حسنة وقبيحة أو إلي خمسة أقسام ليس بصحيح بل لا تكون إلا قبيحة. ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك وإن لم يكن موجودا في عصر النبي " ص " فتقبيل يد العالم أو الصالح أو الأبوين بقصد التعظيم والاحترام تقربا إليه تعالي جائز وراجح وإن لم يكن ذلك في عصره " ص " ولا ورد فيه نص خاص فإنه بعد أن صار نوعا من التعظيم عادة وفهم من أدلة الشرع رجحان تعظيم المؤمن بوجه العموم يكون جائزا وراجحا، وكذا القيام عند ذكر ولادة النبي (ص) أو ذكر اسم رجل عظمه الشرع هو من هذا القبيل ما لم يكن التعظيم بفعل حرمه الشرع كالغناء وآلات اللهو والكذب في المدح ونحو ذلك. كما أنه لا بدعة فيما فعل لا بقصد الخصوصية أو العبادة. ومنه يعلم عدم صحة الحكم بالبدعة في كل ما ذكروه وصحته في البعض فرفع الصوت بالأشياء المذكورة لا مانع منه لعموم أدلتها أو إطلاقها وعدم تقييدها برفع الصوت ولا بخفضه خصوصا إذا كان في رفع الصوت فائدة كالإعلان بذكر الله واتعاظ السامع ونحو ذلك، نعم لو فعلت بقصد الخصوصية والورود كانت بدعة، ودعوي أن السامع يتوهمها كذلك لا تسمع لأن السامع عليه الفحص وسؤال أهل المعرفة وكذا التذكير والترحيم يشمله عموم ذكر الله ودعائه والترحم علي المؤمنين والصحابة ونحو ذلك. وعد ذلك بدعة، جمود وقلة فقه، فلو أن رجلا اصطلح علي أن يصلي علي النبي " ص " عند طلوع الشمس عشر مرات أو أن يكبر بعد العصر سبعين مرة مثلا أو نحو ذلك ولم يقصد أن هذا مأمور به بخصوصه لم يكن مبدعا في الدين بعد دلالة الأدلة الشرعية بعمومها أو إطلاقها علي استحباب الصلاة علي النبي " ص " في أي وقت كان واستحباب ذكر الله بالتكبير وغيره. ولو فرضنا أنه يلزم فعل العبادات بجميع الخصوصيات التي كان يفعلها النبي " ص " بها ولا يجوز فعلها بدونها بل تكون بدعة لكانت الصلاة بالطربوش أو الشال الهندي أو البنطلون أو العقال والمنديل بدعة، ولكانت الخطبة في الجمعة والعيدين بدون قلنسوة بدعة إذا فرض أنه " ص " كان يفعلها متقلنسا، وبقلنسوة بيضاء بدعة إذا فرض أنه كان يفعلها بقلنسوة حمراء مثلا، وهكذا، وهذا لا يقول به من عنده أدني معرفة

ص: 131

بأدلة الشرع. وكأنهم منعوا الترحيم الذي يقال فيه يا أرحم الراحمين ارحمنا بجاه فلان لأن ذلك عندهم من التوسل الموجب للكفر، وستعرف فساده. والالتزام بقراءة حديث فيه فائدة أمام خطبة الجمعة لا ضرر فيه إن لم يفعل بقصد الورود. والاجتماع علي قراءة سيرة المولد الشريف فيه تعظيم للنبي " ص " واستبشار بخبر ولادته التي كانت سببا لسعادتنا الأبدية فيشمله عموم ما دل علي رجحان ذلك، وقراءة المولد مع قصائد وصلاة عليه لا مانع منها إن لم تشتمل علي الغناء المحرم لعموم الأدلة، والتظاهر بحمل المسابح لا محذور فيه لما فيها من الفوائد من عد الأذكار الموظفة بعدد خاص فتكون كما ورد من العد علي النوي الذي أشار إليه صاحب المنار في الحاشية. وقوله في الحاشية: أي اتخاذها شعارا يوهم أنه مطلوب شرعا، مردود بأنه لا يوهم ذلك عند ذي المعرفة، وغيره لا يضرنا وهمه ولا يلزمنا دفعه ولا يصير فعلنا بدعة بسببه، وقراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات يراد بها إهداء الثواب إليهم فيعمها ما دل علي جواز إهداء الثواب للميت واختيار أوقات الصلاة لأنها أفضل فيزداد الثواب. ومن ذلك تعلم أن قوله: فالربابة الخ مع ما فيه من سوء الأدب العظيم مبني علي ما هو فاسد من كون رفع الصوت في المنارة بالصلاة بدعة وقد عرفت فساده، وأن الصلاة عليه (ص) مستحبة مطلقا مع رفع الصوت وبدونه علي المنارة وغيرها فيجوز مطلقا إلا أن يقصد وروده في الشرع بهذه الكيفية وهذا لا يقصده أحد. والحاصل أن ما ثبت استحبابه علي وجه العموم إذا التزم بكيفية منه لا من باب الخصوصية لا يكون ذلك بدعة. أما المحاريب الأربعة والأئمة الأربعة للصلوات الخمس فقد بينا في مقام آخر من هذا الكتاب أنه لو كان بدعة لكانت المذاهب الأربعة بدعة ومع كونها سنة فلا بد أن يكون سنة. أما اتخاذ الطرائق وما يتبعها مما عددوه إلي الشهيق والنهيق والنعيق وتكرار الجلالة الذي يشبه في كثير من حالاته نبح الكلاب فنحن نوافقهم في أنه من البدع القبيحة ومن تسويلات الشيطان. ثم قال حفيد ابن عبد الوهاب في إحدي رسائل الهدية السنية بعد كلامه السابق:

ص: 132

وأما ما لا يتخذ دينا ولا قربة كالقهوة وقصائد الغزل ومدح الملوك فلا ننهي عنه ويحل كل لعب مباح لأن النبي (ص) أقر الحبشة علي اللعب يوم العيد ويحل الرجز والحداء وطبل الحرب ودف العرس وقد قال (ص): بعثت بالحنيفية السمحة لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة (انتهي). وهنا نشكر للوهابية تسامحهم وتساهلهم في تحليل الأشياء المذكورة وعدم عدهم لها كفرا وشركا أو تحريمهم لها أو عدها بدعة كما حرموا التدخين وعاقبوا عليه وكما توقفوا في (التلغراف) كما مر وإذا كانوا يعلمون أنه (ص) بعث بالحنيفية السمحة فما بالهم يضيقون علي العباد في الأمور الاجتهادية التي ليست من ضروريات الدين مع تجويزهم الاجتهاد ومخالفة جميع المذاهب الأربعة واعتقادهم أن المخطئ في اجتهاده مأجور. وتحريم التدخين ليس من ضروريات الدين ولم يرد فيه نص ولم يكن في زمن النبي (ص) وحاله حال القهوة التي يشربونها وصرحوا بحليتها فإن كان تحريم الدخان لعدم النص فالقهوة كذلك وإن كان للأضرار فلا يحرم علي من لا يعتقد الضرر وإن كان للإسراف فالمدخنون يرتاحون إليه ويستعينون به علي التسلي وتصفية الفكر وإن كان لأنه من الخبائث فليس بمأكول ولا مشروب حتي يعمه تحريم الخبائث لأن إضافة التحريم إلي الأعيان علي حذف الفعل المناسب، فحرمت الخمر أي شربها، والميتة أي أكلها، وأمهاتكم أي نكاحها، والخبائث أي أكلها وشربها وغير ذلك. علي أن الخبائث مجملة فما شك في دخوله فيها بقي علي أصالة الحل. وبعد ذلك كله فالمجتهد في حلية التدخين ليس لنا معارضته أصاب أو أخطأ لأنه معذور وكذا كل ما ينقمونه علي المسلمين لا يخرج عن أمور اجتهادية ليست ضرورية فكيف ساغ لهم معارضة المسلمين فيها بالسيف والسنان. وجعل الوهابية حالهم في الدعاء إلي مذهبهم وإلي تجديد التوحيد ورفع البدع حال رسول الله (ص) والأنبياء قبله في الدعاء إلي الإسلام والتوحيد فكما جاءت الأنبياء لتلزم الناس بالتوحيد وتمنعها من الشرك وترفع من بينها البدع وكما دعا النبي (ص) مشركي قريش ومن ضارعهم من عبادة الأوثان إلي إخلاص التوحيد واستحل دم ومال من أبي، فالوهابيون يدعون جميع المسلمين الذين هم جميعا عندهم من عبدة الأوثان إلي إخلاص التوحيد وترك الشرك والبدع ومن أبي ولم يتوهب حل ماله ودمه كما حل مال ودم عبدة الأصنام ومشركي قريش في زمن

ص: 133

النبي (ص). صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات وصرح به محمد بن إسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد كما سيأتي عند نقل كلامهما وغيرهما. والحاصل أن حكم الوهابيين بكفر جميع المسلمين وشركهم هو أساس مذهبهم ومحوره الذي يدور عليه لا يتحاشون منه وكتبهم مشحونة بالتصريح به تصريحا لا يقبل التأويل بل صرح به محمد بن عبد الوهاب في رسالتي أربع القواعد وكشف الشبهات كما سيأتي بأن شرك المسلمين أغلظ من شرك عبدة الأصنام لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم دائم في الحالتين ولأن أولئك يدعون مع الله أناسا مقربين عنده وأشجارا وأحجارا غير عاصية وهؤلاء يدعون معه أناسا من أفسق الناس، وصرح بذلك الصنعاني في رسالة تطهير الاعتقاد في عدة مواضع بل صرح في تلك الرسالة كما ستعرف بأن كفر المسلمين أصلي لا كفر ردة. وصرح بالتكفير بجملة مما كفر به الوهابية غيرهم ابن تيمية في رسالتي الواسطة وزيارة القبور كما ستعرف ومنه أخذ الوهابية تكفير المسلمين وعلي أساسه بنوا وزادوا وصرح بذلك أيضا الوهابية في عدة مواضع من رسائل الهدية السنية الخمس وغيرها وصرح به عبد اللطيف حفيد ابن عبد الوهاب فيما حكاه عنه الآلوسي في تاريخ نجد. وقد أطلق محمد بن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات اسم الشرك والمشركين علي عامة المسلمين عدي الوهابيين فيما يزيد عن أربعة وعشرين موضعا وأطلق عليهم اسم الكفر والكفار وعباد الأصنام والمرتدين والمنافقين وجاحدي التوحيد وأعدائه وأعداء الله ومدعي الإسلام وأهل الباطل والذين في قلوبهم زيغ والجهال والجهلة والشياطين وإن جهال الكفار عبدة الأصنام أعلم منهم وإن إبليس إمامهم ومقدمهم إلي غير ذلك من الألفاظ الشنيعة فيما يزيد عن خمسة وعشرين موضعا (1) وأطلق عليهم الصنعاني في تطهير الاعتقاد اسم الشرك فيما يزيد عن ثلاثين موضعا وأطلق عليهم اسم الالحاد والكفر والكفر الأصلي وإنهم عبدوا غير الله وزادوا علي عبادة الأصنام وإنهم مثل أصحاب مسيلمة والسبائية واليهود والخوارج وأهل الجاهلية فيما يزيد عن خمسة عشر موضعا وأطلق اسم الإله والصنم والوثن والند لله علي من يستغيثون ويتبركون به في نحو من عشرة مواضع (2) .

ص: 134


1- 57. راجع صفحاتها من صفحة 57 إلي 72 تجد في كل منها شيئا كثيرا من ذلك.
2- 58. راجع صفحة 7 و 17 و 20 و 22.

وأطلق أصحاب الهدية السنية علي المسلمين اسم الشرك والإشراك والشرك بالله والشرك الأكبر وأعظم الشرك والشرك الوخيم ومتخذي الشريك والشرك الموجب لحلية المال والدم والمشركين والمشركات وأقبح المشركين وإنهم مشركون شاؤوا أو أبوا وإن شركهم أقبح وأشنع ممن قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، وأعظم وأكبر من شرك الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا، وإن الوهابيين لما جاؤوا إلي مكة عبد الله وحده، فيما يزيد عن ستين موضعا، واسم الكفر والكفار وإنهم كاليهود والنصاري والسبائية وعباد الملائكة والشمس والقمر والقائلين اجعل لنا ذات أنواط بل شر منهم وعباد اللات والعزي وعباد الأصنام والأوثان وإن ما هم عليه هو دين الجاهلية، فيما يزيد عن عشرين موضعا، ووصفوهم بعبادة غير الله فيما يزيد عن عشرة مواضع وسموا من يتوسل ويتبرك بهم المسلمون وبقبورهم بالأصنام والأوثان والأنداد لله فيما يزيد عن اثني عشر موضعا (1) وسننقل في تضاعيف ما يأتي جملة من كلماتهم الصريحة في ذلك. وأطلق حفيد ابن عبد الوهاب علي المسلمين اسم الكفر في ثلاثة مواضع، والشرك في أربعة، ومدعي الإسلام وأنهم يحبون مع الله محبة تأله وأنهم شر من جاهلية العرب وأن شركهم أشد وأشنع وأكبر من شركها وأنه لم يبلغ شرك الجاهلية الأولي شركهم، ونسبهم إلي الفساد وأنهم من أجهل الخلق وأضلهم وخارجون عن الإسلام وعابدون لغير الله وخارجون عن الملة، إلي غير ذلك من الألفاظ الشنيعة. وفي القصائد الملحقة بالهدية السنية تصريح بذلك في عدة مواضع يطول الكلام بنقلها. وفي خلاصة الكلام (2) كان محمد بن عبد الوهاب إذا اتبعه أحد وكان قد حج حجة الإسلام يقول له حج ثانيا فإن حجتك الأولي فعلتها وأنت مشرك فلا تقبل ولا تسقط عنك الفرض وإذا أراد أحد الدخول في دينة يقول له بعد الشهادتين اشهد علي نفسك إنك كنت

ص: 135


1- 59. راجع الهدية السنية ص 10 إلي 15 و 19 و 20 و 22 إلي 28 و 30 إلي 34 و 36 و 37 و 41 و 42 و 45 و 53 و 55 إلي 57 و 59 و 61 إلي 63 و 65 و 86 إلي 93 و 95 و 102 إلي 105 و 107 ويوجد مواضع غير هذه كثيرة يجدها المتتبع.
2- 60. ص 229 - 330.

كافرا وعلي والديك أنهما ماتا كافرين وعلي فلان وفلان ويسمي جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفارا فإن شهد قبله وإلا قتله وكان يصرح بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة ويكفر من لا يتبعه ويسميهم المشركين ويستحل دماءهم وأموالهم " انتهي " وفي خطبة سعود بمكة التي تقدمت تصريحات عديدة بأن جميع من عداهم من المسلمين هم مشركون وإنما يصيرون مسلمين باتباعهم إياهم مثل قوله: ولم نزل ندعو الناس للإسلام وجميع القبائل إنما أسلموا بهذا السيف. وقوله: فاحمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك وأنا أدعوكم أن تعبدوا الله وحده وتقلعوا عن الشرك الذي كنتم عليه. وقد صرح بذلك محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد علي ما حكي وهو غير متهم في حق الوهابيين، فقال: إن سعودا غالي في تكفير من خالف الوهابيين وإن علماء نجد وعامتهم يسمون غاراتهم علي المسلمين بالجهاد في سبيل الله " انتهي ". وقد صرح بذلك صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) (1) فقال: كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجددا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع أهله عن الشرك والبدع إلي التوحيد والسنة علي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية " انتهي " وإذا كان هذا اعتقاد صاحب المنار في المسلمين فما باله يكرر في تلك المجموعة نداءه للمسلمين بقوله: أيها المسلمون إن الحجاز مهبط دينكم أيها المسلمون إلي متي أنتم غافلون أيها المسلمون إن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض أيها المسلمون حسبكم ما بينا لكم، إلي غير ذلك، بل كان عليه أن يقول أيها المشركون المدعون للإسلام فما باله لا يبالي بالتناقض في كلامه ولعله يريد بالمسلمين خصوص أهل نحلته الوهابية. ومع كل هذه التصريحات التي لا تقبل التأويل والتي نشاهد أعمال الوهابية موافقة لها وسيرتهم عليها فإنهم لا يفترون عن غزو المسلمين والهجوم عليهم في عقر ديارهم وقتلهم وقتالهم كلما سنحت لهم فرصة وأمكنهم ذلك ومناداتهم بقول يا مشركون، نري بعض الوهابيين وأتباعهم كصاحب المنار يريدون التبري من هذا المعتقد وستره لما رأوا بشاعته وشناعته وتقبيح الناس له ونفورهم عنهم وتشنيعهم عليهم بسببه، وهيهات. فممن رام ستر ذلك والتبري منه صاحب الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية فإنه

ص: 136


1- 61. ص 6.

قال في تلك الرسالة (1) : وأما ما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا علي الخلق. إلي أن قال: وإنا نضع من رتبة نبينا " ص " بقولنا: النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع له منه. إلي أن قال: وإنا نكفر الناس علي الاطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو علي ما نحن عليه ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركا وأن أبويه ماتا علي الشرك بالله الخ فجميع هذه الخرافات جوابنا عنها سبحانك هذا بهتان عظيم فمن نسب إلينا شيئا من ذلك فقد كذب وافتري وأن جميع ذلك وضعه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرا للناس عن الاذعان بإخلاص التوحيد لله تعالي بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " انتهي ". وتراه في نفس اعتذاره الذي حاول فيه إنكار تكفير المسلمين صرح بتكفيرهم وتشريكهم بقوله: " تنفيرا للناس عن الاذعان بإخلاص التوحيد لله بالعبادة وترك أنواع الشرك " فحكم علي الناس بأنهم مشركون بشرك العبادة، وإن من ينسب إلي الوهابية هذه الأشياء يريد تنفير الناس عن التوحيد وترك الشرك فكان بهذا الاعتذار شبيها بما يحكي أن رجلا قال لأعجمي لماذا تقلبون الذال زايا والقاف غينا فقال (كزب الزي يغول زلك)، وبما يحكي أن عالما قال لبعض أمراء الحرافشة: إن أهل هذه القرية يسبون الدين فمرهم بترك ذلك، فأمر الأمير مناديه أن ينادي: (يا أهل القرية اتركوا مسبة الدين ومن سب منكم الدين فالأمير يحرق دينه ودين دينه). وهؤلاء يصرحون بأن التوحيد لا يتم إلا بتوحيد العبادة وأن الناس مشركون وغير موحدين بتوحيد العبادة وأن الذي أحل دماء المشركين في زمن النبي " ص " وأموالهم ودماءهم وسبي ذراريهم هو شركهم في العبادة وأن المسلمين مثلهم بلا فرق. ومع ذلك يقولون: من نسب إلينا إنا نكفر الناس فقد كذب وافتري هذه خرافات هذا بهتان عظيم ومن نسب إلينا إنا نلزم المبايع الشهادة علي نفسه وأبويه بالشرك فقد كذب وافتري وأتي بالخرافة والبهتان العظيم. هل هذا إلا التناقض الذي لا يرضي به لنفسه عاقل. ومن نسب إلينا إنا نكفر الناس فقد كذب وافتري وقصد بافترائه تنفير الناس عن الرجوع عن شركهم إلي إخلاص التوحيد. فهذا

ص: 137


1- 62. ص 6.

هو الاعتذار الذي وضع صاحب المنار فوقه الخطوط المستطيلة ليكون عذر الوهابية بارزا جليا للأنظار. ومن يكون أساس مذهبهم ومحوره الذي يدور عليه كفر المسلمين وشركهم واستحلال أموالهم ودمائهم وسبي ذراريهم. وكتبهم مشحونة بالتصريح بذلك وقد طبع منها الألوف، ألا يخجلون من إنكاره والتبري منه بعبارة هي إقرار به ولئن صح عنهم قولهم عن النبي " ص " إنه طارش ومضي وإنه رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع له منه أو لم يصح، فجعلهم قبر النبي " ص " وثنا وتعظيمه والتبرك به شركا ومنعهم من زيارته أو من شد الرحال إليها وغير ذلك لا يقصر عن هذا القول ومعتقده لا يستبعد منه قول ذلك. وممن رام ستر ذلك والتملص منه عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فإنه قال في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) : فإن قال منفر عن قبول الحق: يلزم من قطعكم إن من قال يا رسول الله أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدور الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة لا سيما المتأخرين لتصريح علمائهم أن ذلك مندوب وشنوا الغارة علي المخالف. قلت لا يلزم لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما لا يلزم أن نكون مجسمة وأن قلنا بجهة العلو، ونقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا وقامت عليه الحجة وأصر مستكبرا معاندا كغالب من نقاتلهم اليوم وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته لمن هذه حاله ونعتذر عمن مضي بأنهم مخطئون معذورون والإجماع في ذلك ممنوع قطعيا ومن شن الغارة فقد غلط ولا بدع فقد غلط من هو خير منه عمر بن الخطاب في مسألة المهر فلما نبهته المرأة رجع بل غلط الصحابة والنبي بينهم فقالوا اجعل لنا ذات أنواط. ثم قال: فإن قلت هذا فيمن ذهل فلما نبه انتبه، فكيف بمن حرر الأدلة وعرف كلام الأئمة وأصر حتي مات؟! قلت: ولا مانع أن نعتذر له ولا نقول بكفره لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه فلم تقم عليه الحجة بل الغالب علي زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ علي هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، ولم تزل أكابرهم تنهي أصاغرهم عن النظر في ذلك، وقد رأي معاوية وأصحابه منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقتاله وهم مخطئون بالإجماع واستمروا علي الخطأ حتي ماتوا، ولم يكفرهم أحد من السلف ولا فسقهم بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد.

ص: 138


1- 63. ص 40.

ولا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه وورعه وزهده وبذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها وإن أخطأ في هذه المسألة كابن حجر الهيثمي فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم (1) ونعتني بكتبه ونعتمد علي نقله. أقول: اعتذاره عن لزوم تكفير غالب الأمة بل كلها عدي الوهابيين بأن لازم المذهب ليس بمذهب فذهابهم إلي أن من قال: يا رسول الله أسألك الشفاعة مشرك مهدور الدم وإن لزم منه تكفير غالب الأئمة لا سيما المتأخرين المصرحين بأنه مندوب إلا أنهم لا يقولون بهذا اللازم، غير صحيح: (أولا) مخالفته لتصريحاتهم التي لا تقبل التأويل. (ثانيا) أن تكفير غالب الأمة ليس بلازم المذهب بل هو عين المذهب فإن مذهبهم أن كل من توسل أو تشفع بمخلوق فقد أشرك فإذا كان المسلمون يفعلون ذلك فمذهبهم أنهم مشركون بطريق الصراحة ودلالة المطابقة لا بطريق اللزوم، وقياسه علي المسألة التجسيم إن صحت قياس مع الفارق، فالقائل بجهة العلو لا يصرح بالتجسيم لكن يلزم من جهة العلو الجسمية ولكن لا يلزم أن يكون القائل بجهة العلو قائلا بالتجسيم لجواز أن يعتقد الشخص شيئا ولا يعتقد بلازمه بل إذا سئل عن لازمه يبرأ منه ولذلك لم يكن لازم المذهب مذهبا بخلاف ما نحن فيه إذ مذهب الوهابية أن المتشفع والمتوسل بغير الله مشرك، وهذا شامل بوجه العموم والدلالة المطابقية لمن يقول يا رسول الله إشفع لي لا بوجه الملازمة ولا يمكن الجمع بين القول بأن من تشفع بغير الله مشرك ومن قال يا رسول الله إشفع لي ليس بمشرك بل هو تناقض صريح محال بخلاف الجمع بين القول بجهة العلو والقول بعدم الجسم فإنه ممكن واقع. وإن أرادوا أنهم لا يكفرون من يعتقد رجحان التشفع إذا لم ينطق به، ففيه أولا أنه إذا كان سؤال الشفاعة كفرا وشركا لزم أن يكون معتقد جوازه كافرا مشركا وإن لم يتلفظ بالسؤال فهو كمن يعتقد السجود للصنم وإن لم يسجد. والكفر كما يكون بالأعمال يكون بالاعتقاد. ثانيا: أن هذا لو سلم لا ربط له بمسألة كون لازم المذهب ليس

ص: 139


1- 64. اسم كتابه الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم لا الدر المنظم فالظاهر أنه وقع سهو في إبدال أحدهما بالآخر وهذا الكتاب هو الذي يرد فيه علي ابن تيمية ويذمه بأقبح الذم وسيأتي نقل كلامه فيه في فصل زيارة القبور وهو الذي أشاروا إليه بقولهم فإنا نعرف كلامه الخ - المؤلف -.

بمذهب. ثالثا: أنه لا يوجد بين المسلمين من لم يقل طول عمره يا رسول الله أسألك الشفاعة ولم يهتف باسمه ولم يستغث ولم يتوسل به ولم يفعل شيئا مما يرونه كفرا وشركا بل اعتقد جوازه فقط ولم يفعله، وهم قد قطعوا بأن من قال ذلك مشرك مهدور الدم كما صرحوا به في نفس السؤال، فقد قطعوا بأن جميع المسلمين مشركون مهدورة دماؤهم، ولم ينفع هذا الاعتذار مهما أكثر صاحب المنار فوقه من الخطوط المستطيلة ليزيد في ظهوره للأبصار وجلوته للأنظار. أما تقييده التكفير ببلوغ الدعوة الوهابية وقيام الحجة مع الاصرار مستكبرا معاندا فهو مخالف لما ذكره أبوه وغيره كما عرفت من إطلاق اسم الكفر والشرك والارتداد ونحو ذلك علي عامه المسلمين من دون تقييد بذلك في مواضع تنبو عن الحصر بل عرفت تصريح الصنعاني أحد مؤسسي مذهبهم بأن كفر المسلمين أصلي لا ارتدادي، وكل ذلك مبطل لهذا العذر الواهي، وجميع الوهابيين لا يخاطبون المسلمين إلا بقولهم يا مشرك من غير نظر إلي قيام الحجة علي المخاطب وعدمه، وسمعت بعض النجديين في مجلس صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي بمحضر صديقنا الشيخ عبد الرزاق البيطار يقول: قرر الإخوان أن لا يخاطبوا أحدا إلا بقول يا مشرك حتي لو أراد أحدهم شراء لبن بعشر بارات فعليه أن يقول يا مشرك أعطني لبنا بعشر بارات، فمع كل هذه التصريحات لا ينفع هذا الاعتذار عن الوهابيين شيئا. أما اعتذاره عمن مضي بأنهم مخطئون معذورون لعدم بلوغ الدعوة لهم وتنظيره بغلط عمر في المهر والصحابة في ذات أنواط: ففيه أن معتقد الكفر والشرك غير معذور لقيام الحجة عليه من العقل والنقل قبل أن يخلق الله الوهابيين ولو كان معذورا لعذر عبدة الأصنام من أهل الجاهلية الذين ماتوا في الفترة ولم يقل أحد بعذرهم مع أن بلوغ الدعوة المعتبر إنما هو بلوغ الدعوة النبوية إلي التوحيد وترك عبادة الأوثان وهذا قد حصل ومع ذلك فقد بقي المسلمون مصرين علي عبادة الأوثان بقولهم: نسألك الشفاعة يا رسول الله، وجهلهم بأنه شرك لا يكون عذرا كجهل من عبد الأصنام بعد الإسلام، والمجتهد معذور مثاب وإن أخطأ في الفروع لا في الأصول. ومن ذلك يظهر بطلان التنظير بغلط عمر في المهر لأنه في مسألة فرعية لا في مسألة اعتقادية توجب الشرك وأما التنظير بغلط الصحابة وبينهم النبي (ص) في ذات أنواط فنقول لو لم يرجعوا عن ذلك

ص: 140

لأشركوا فبطل التنظير. وأما اعتذاره عن عدم كفر من حرر الأدلة وعرف كلام الأئمة ومات مصرا: بأنه لم يكن في زمانه وهابية يناضلون باللسان والسيف والبنادق، فلم تقم عليه الحجة، فغير صحيح لما عرفت من أنه يكفي في قيام الحجة أدلة الشرع من العقل والنقل بعدما أكمل الله الدين وأتم الحجة قبل خلق الوهابية ثم إن هؤلاء المسلمين الذين يكفرهم الوهابية ويشركونهم، يعتقدون أن حججهم أقوي من حجج الوهابية وأن الوهابية مخطئون وكلهم يقولون لو ظهر لنا صحة أقوال الوهابيين لاتبعناها فكيف قامت عليهم الحجة وبقوا مصرين معاندين، اللهم إلا أن تكون حجة السيف والرصاص (وآية السيف تمحو آية القلم)، وليس مع الوهابية معجز تقوم به الحجة كما كان مع الأنبياء ولو كانت الحجة تقوم باللسان والسنان لما احتاج الأنبياء إلي المعجز كما لم يحتج إليه الوهابية، ولو كانت الحجة لا تقوم إلا بالسيف والسنان لكان الذين قبل منهم النبي (ص) الجزية ولم يجبرهم علي الإسلام لقوله تعالي (لا إكراه في الدين) معذورين لأنهم لم تقم عليهم الحجة. ونسبته إلي علماء المسلمين إنهم تواطئوا علي هجر كلام أئمة السنة والإعراض عنه افتراء وسوء أدب، وإذا كان منتهي قيام الحجة المناضلة باللسان والسيف والسنان، لم يكن معاوية وأصحابه معذورين، فقد ناضلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام باللسان والسيف والسنان فكيف عذرتهم الأمة وأثبتت لهم أجر الاجتهاد. وأما قوله لا نكفر من صحت ديانته الخ وإن أخطأ في هذه المسألة فكيف تصح ديانته ويعتمد علي نقله وقد اعتقد الكفر والشرك وفعل ما يوجبه وما ينفعه مع ذلك التدريس والتأليف (إن الله لا يغفر أن يشرك به). وممن رام ستر الحقائق وإنكار تكفير الوهابيين للمسلمين بكلام هو إقرار واعتراف بتكفيرهم للمسلمين ولم يبال بالتناقض الصريح الواقع في كلامه وكلامهم الشيخ رشيد رضا صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) فإنه قال (1) إن الأمير فيصلا نجل السلطان عبد العزيز آل سعود نشر بلاغا في شوال سنة 1342 جاء فيه أن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب عرض مسألة الخلافة علي مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلا صحيحا، وتعقبه صاحب المنار بقوله: فهذه تصريحات قطعية

ص: 141


1- 65. صفحة 37.

ونصوص لا تحتمل التأويل بأن أئمة نجد وحكامها يعدون جميع الشعوب الإسلامية إخوانا لهم خلافا لما يفتري عليهم من عدم اعتراف النجديين لأحد بالإسلام غير الوهابيين " انتهي " ووصف في المجموعة المذكورة (1) مؤتمر الشوري المنعقد في الرياض في ذي القعدة سنة 1342 وأنه اجتمع فيه كبار علماء البلاد وزعماؤها ورؤساء الأجناد وقوادها وتذاكروا في أمر الحج وأن السلطان ابن سعود أجابهم بما معناه أن شريف مكة لا يمنعكم من الحج ولكنه يخشي وقوع فتنة في الموسم وفيه المسلمون كل جنس الخ ثم قال ما نصه: وفي تصريح السلطان عبد العزيز نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده بإسلام جميع الشعوب الإسلامية والرغبة في التعارف والتواد معها، هذا كلامه " معزي ولو طارت " (2) فإذا كانت هذه تصريحات قطعية ونصوص لا تقبل التأويل من سلطان نجد وعلماء بلاده وحكامها بإسلام جميع الشعوب الإسلامية وأخوتها للوهابية وإذا كان في رسائل علماء بلاده التي طبعت بأمر جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد كما كتب علي ظهرها، وغيرها من رسائل ابن عبد الوهاب التي طبعها صاحب المنار. وفي كلام صاحب المنار نفسه تصريحات قطعية ونصوص لا تقبل التأويل كما بيناه فيما سبق بتكفير جميع المسلمين وإشراكهم عدي الوهابيين ومناداة بتكذيب هذه الدعوي وبأن مدعيها كمن يقول بأن مكة ليست بموجودة والوهابيون لم يوجدوا في الدنيا، كان كلام الوهابية ومنهم صاحب المنار متناقضا تناقضا صريحا قطعيا لا يقبل التأويل ومن لا يبالي بالتناقض الصريح في كلامه لا يتكلم معه فعند حاجتهم إلي المسلمين في ميدان السياسة وجلب القلوب يسمونهم إخوانهم ويعترفون بإسلامهم وعند بيان معتقدهم وأساس مذهبهم ونشر دعوتهم يكفرون المسلمين ويشركونهم بدون تحاش فهم في ذلك كالنعامة قيل لها احملي قالت أنا طائر قيل لها طيري قالت أنا جمل. وكأن صاحب المنار يري من موجبات الأخوة وأهم أسباب التعارف بين الوهابيين والشعوب الإسلامية والتواد معها غزوها وشن الغارات عليها وقتلها كلما سنحت الفرصة لتتوثق عري الأخوة ويتم التعارف وتكمل المودة.

ص: 142


1- 66. صفحة 38 - 41.
2- 67. يقال إن رجلين رأيا غربانا واقعة علي الأرض فقال أحدهما هذه غربان وقال الآخر هذه معزي ثم طارت فقال الأول أعلمت أنها غربان فقال له الثاني هي معزي ولو طارت - المؤلف -.

وهذا حديث إجمالي عن اعتقادات الوهابية وتفصيل ذلك ورده في الباب الثاني والباب الثالث. وحيث ذكرنا معتقدات الوهابية إجمالا فيناسب أن نذكر هنا بعض ما يدل إجمالا علي فساد شبهتهم في حكمهم بشرك جميع المسلمين، وهو ما رواه البخاري في باب الصلاة علي الشهيد وعلامات النبوة والمغازي وذكر الحوض، ومسلم في فضائل النبي (ص)، وأبو داود في الجنائز، كذا النسائي (1) عن النبي (ص) إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف الدنيا أن تنافسوا فيها وفي رواية لمسلم (2) أن تتنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من قبلكم. ولو كان الأمر كما زعم الوهابية من أن الناس أشركت كلها قبل ظهورهم وأنهم جاؤوا ليدعوهم إلي التوحيد للزم تكذيب هذه الأحاديث كلها. وقوله " ص " ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضي بها. رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وهذا ينافي حكم الوهابيين بإشراك أهل مكة بل قالوا إنهم لم يروا بلدا تعبد فيه القبور والأموات مثل مكة. وقوله " ص " إن الشيطان قد أيس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات، رواه الحاكم وصححه وأبو يعلي والبيهقي. وفي رواية أنه " ص " قال إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. ومكة والمدينة من جزيرة العرب قطعا. بل حكي في النهاية الأثرية عن أنس بن مالك أنه قال أراد بجزيرة العرب المدينة نفسها وهذا ينافي حكمهم بإشراك أهل الجزيرة العرب عدا نجد بعبادة الأوثان وقال " ص " إن الإيمان ليأرز إلي المدينة كما تأرز الحية إلي جحرها ذكره ابن الأثير في النهاية وفيه من المبالغة في ثبوت الإيمان ورسوخه في المدينة ما لا يخفي المنافي لما يدعيه الوهابية من رسوخ الكفر فيها وجعل بلادهم بلاد الإيمان.

ص: 143


1- 68. صفحة 31.
2- 69. ص 160 ج 9 بهامش إرشاد الساري.

من آثام الحكم السعودي

في موسم حج العام 1362 سفك السعوديون في مكة دم حاج إيراني جاء من بلاده يطوي المراحل تقربا إلي الله بالحج إلي بيته فتقرب السعوديون بقتله ظلما وعدوانا فسجلوا بذلك صفحة جديدة من صفحات غدرهم بالمسلمين واستهانتهم بدمائهم. ولقد كان لهذا الحادث ضجة كبري شملت العالم الإسلامي وتركته في غليان شديد. وبعد أن تباهي السعوديون بفعلتهم تلك عادوا يحاولون التنصل منها بعد أن رأوا ما تركته من ثورة وهياج عليهم في كل مكان وإليك تفصيل الحادث وذيوله: تفصيل الحادث كان الحاج الإيراني عبده طالب بن حسين يطوف حول الكعبة محرما خاشعا فأصيب وهو في طوافه بدوار فانقض عليه الزبانية السعوديون وساقوه إلي ساحة الموت حيث قطعوا رأسه وأجروا دمه في أقدس بقعة إسلامية، ثم لم يخجلوا مما فعلوه فنشروا في جريدة أم القري التي يصدرونها في مكة في عددها 990 بلاغا رسميا رقم 82 قالوا فيه: ألقت الشرطة القبض في بيت الله الحرام في يوم 12 ذي الحجة 1362 علي المدعو عبده طالب بن حسين الإيراني من المنتسبين إلي الشيعة في إيران وهو متلبس بأقذر الجرائم وأقبحها وهي حمل القاذورات " العذرة "، وهو ويلقيها في المطاف حول الكعبة المشرفة بقصد إيذاء الطائفين وإهانة هذا المكان المقدس وبعد إجراء التحقيق بشأنه وثبوت هذا الجرم القبيح فقد صدر الحكم الشرعي بقتله وقد نفذ حكم القتل فيه في يوم السبت في 14 ذي الحجة 1362 ولذا حرر " انتهي ". هذا هو البلاغ الرسمي الوقح الذي برروا به جريمتهم، والحقيقة أن عقيدتهم في استحلال دماء المسلمين هي وحدها كانت الباعث لهم علي استغلال الدوار الذي أصيب به الحاج الشهيد حيث شفوا إحنهم بإهراق دمه وقطع رأسه. صدي الحادث ولم يكد يعلن الحادث الذي شهده مئات الألوف من المسلمين والذي تناقلت خبره

ص: 144

أسلاك البرق في كل مكان حتي هاجت النفوس علي السعوديين فقطعت إيران علاقتها معهم بعد أن قدمت احتجاجا صارخا، وثار البرلمان الإيراني، وإننا لننقل بعض ما جري فيه عن جريدة " النهار " البيروتية الصادرة يوم السبت في 5 شباط سنة 1944. طهران - أثار بعض النواب ضجة حول إعدام الحاج الإيراني في الحجاز وسأل فريق منهم وزير الخارجية ماذا كان جواب الحكومة العربية السعودية علي الاحتجاج الإيراني، فأجاب الوزير إن الحكومة الإيرانية تلقت جوابا حاولت فيه حكومة الحجاز تبرير عملها وقد عدت طهران هذا الجواب غير مرض وقررت أن ترد عليه بمذكرة شديدة اللهجة قبل أن تتخذ التدابير التي يتطلبها الموقف. وقالت " النهار " في نفس العدد: أذاع راديو أنقرة نقلا عن القاهرة أن حادثا خطيرا وقع بين إيران والمملكة العربية السعودية قد يؤدي إلي وقف العلاقات بين الدولتين. وقد تلقت جريدة " جمهوريت " رسالة من طهران جاء فيها إن حكومة الشاه بعثت بمذكرة إلي الحكومة العربية السعودية تحتج فيها احتجاجا شديد اللهجة علي إعدام أحد الحجاج الإيرانيين. وتفصيل الحادث إن الحاج المذكور اتهم بانتهاك حرمة الكعبة المشرفة عمدا فاعتقل وحوكم فقضي الحاكم بإعدامه. وقد نفذ الحكم به فورا. والظاهر أن جواب الحكومة السعودية علي احتجاج إيران عد في طهران غير مرض. ولم تكتف حكومة إيران بالاحتجاج إلي الحكومة السعودية بل قدمت مذكرة إلي الحكومة المصرية تلفتها فيها إلي خطورة الحادث بوصفها المكلفة حماية الحجاج الإيرانيين في البلاد العربية السعودية. وتقول صحف طهران في تعليقها علي الحادث أن الديار المقدسة ليست ملكا لابن السعود وحكومته فعلي الأمم الإسلامية أن تؤمن سلامة أبنائها الذين يحجون إلي مكة المكرمة بإنشائها قوة مسلحة ذات طابع دولي " انتهي ". تراجع السعوديين والواقع أن النقمة علي الحكم السعودي بسبب هذا الحادث بلغت ذروتها فاضطر السعوديون للتراجع

ص: 145

وحاولوا ستر فضيحتهم - ولكن هيهات - وإليك نموذجا مما نشروه، فقد جاء في العدد 1841 من جريدة " الرابطة الشرقية " ما يلي: القاهرة 4 - أوضحت الأوساط السعودية في القاهرة الحادث الإيراني السعودي الذي تأثر له العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، وقد أعلنت أن الرجل المحكوم عليه بالموت ليس شيعيا بل مجوسيا لا ينتمي إلي مذهب من مذاهب الإسلام. وهذا الكافر تجرأ وستة عشر من رفاقه المجوسيين علي تدنيس الكعبة المقدسة متحديا الإسلام. وحاول الحجاج تمزيقه ولكن رجال الأمن أقبلوا في الموعد وقبضوا علي الكافرين وأحالوهم إلي محكمة دينية شرعية. وقد حكم عليهم جميعا بالموت، ولكن تدخل وزير العدل المصري - وكان يومذاك في مكة - قضي بقتل واحد وإبعاد الآخرين إلي إيران. وتري الأوساط السعودية في القاهرة أنه يجب اعتبار القضية مفروغا منها ما دامت أعلنت الحكم محكمة شرعية قانونية " انتهي ". وهكذا بعد أن نشروا بلاغا رسميا في أم القري أكدوا فيه أن الشهيد هو شيعي عادوا هنا يقولون إنه مجوسي ثم صرحوا إنهم لم يكونوا يريدون أن يقتلوه وحده بل كانوا يريدون أن يقتلوا معه ستة عشر حاجا غيره، أما المحكمة الشرعية القانونية فهي من عرفت - فيما مر - كفاءتها ونزاهتها وعلمها. رد المؤلف وعلي أثر ما نشروه أذاع مؤلف هذا الكتاب بيانا قال فيه: بيان حقيقة لقد كثر اللغط حول مسألة الرجل الإيراني المسلم الموحد الحاج إلي بيت الله الحرام الذي قتل ظلما وعدوانا في حرم الله وأمنه الذي من دخله كان آمنا والذي يأمن فيه الطير والوحش " مكة المكرمة " بحجة لا تنطلي علي الأطفال الرضع وأبانت عن أن قابليها ليسوا أهلا للحكم: هي أنه ألقي النجاسة في المسجد الحرام، والحقيقة أن سبب ذلك هو التعصبات المذهبية المعروفة وأن الرجل كان يطوف فغلب عليه الضعف فشهدوا عليه بأنه جاء ليلقي النجاسة في المسجد فحكم بقتله بدون سؤال ولا تحقيق كما أخبرنا بذلك

ص: 146

متواترا الحجاج الصادقون الذين شاهدوا الحادث، وهو لا يحتاج إلي إخبار مخبر بل كل من عنده أدني ذرة من العقل لا يمكن أن يصدق بأن رجلا مسلما تحمل المشاق من بلاد بعيدة وصرف الأموال الكثيرة لأجل أن يلقي نجاسة في المسجد الحرام وهو معظم عنده أكثر من الذين حكموا بقتله، وإن كان غير مسلم فما الذي يدعوه لأن يسافر من شقة بعيدة ويصرف أموالا طائلة ليلقي نجاسة في مسجد المسلمين وما الذي يجنيه من وراء ذلك. والدولة الإيرانية ليست وحدها التي ستطالب بدم هذا المسلم البرئ بل سيطالب به بحق مائة وخمسون مليونا من المسلمين أو أكثر، هم بقدر الثلث من مجموع المسلمين.

ص: 147

في ذكر معتقدات الوهابية التي كفروا بها المسلمين وحججهم علي ذلك وردها علي وجه العموم

ناقلين لها من كتبهم المطبوعة المشهورة كرسالتي أربع القواعد وكشف الشبهات عن خالق الأرض والسماوات لمحمد بن عبد الوهاب، والثانية هي التي ألفها لأهل نجد حينما أتاهم بالدعوة وكتابهم الذي أرسلوه إلي شيخ الركب المغربي وذكره الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1218 ورسالة تطهير الاعتقاد عن أدران الالحاد لمحمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المعاصر لابن عبد الوهاب ورسالتي الواسطة وزيارة القبور والاستنجاد بالمقبور لابن تيمية باذر البذر الأول لمذهب الوهابية والرسائل الخمس المسمي مجموعها بالهدية السنية وتاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي الذي ينقل فيه عن كتبهم وغير ذلك مع استيفاء نقل كلماتهم كلها وردها وإن أدي ذلك إلي الإطالة وبعض التكرار: قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة أربع القواعد (1) ما حاصله: إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد: الأولي أن الكفار الذي قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بأن الله تعالي هو الخالق الرازق المدبر ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالي (قل من يرزقكم) (الآية). " الثانية " أنهم يقولوا ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة (والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي. ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) " الثالثة " أنه (ص) ظهر علي قوم متفرقين في عبادتهم فبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم الأنبياء والصالحين وبعضهم الأشجار والأحجار وبعضهم الشمس والقمر فقاتلهم ولم يفرق بينهم. الرابعة أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالي فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلي البر إذا هم يشركون.

ص: 148


1- 70. صفحة 1 - 4 - الموضوع عليها 24 - 27 - طبع المنار بمصر.

وقال في رسالة كشف الشبهات (1) ما حاصله: أن التوحيد إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلي عباده فأولهم نوح (ع) أرسله الله إلي قومه لما غلوا في الصالحين ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وآخرهم محمد (ص) الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله إلي قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلي الله شفاعتهم عنده كالملائكة وعيسي ومريم وغيرهم من الصالحين فبعثه الله يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شئ لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهم يشهدون أن الله وحده هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر الأمر وأن السماوات والأرض وما فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره لقوله تعالي (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأني تسحرون) فإذا عرفت أن إقرارهم هذا لم يدخلهم في التوحيد وأن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد (2) وكانوا يدعون الله ليلا ونهارا ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم إلي الله ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسي عرفت أنه (ص) قاتلهم علي هذا الشرك ودعاهم إلي إخلاص العبادة كما قال (فلا تدعوا مع الله أحدا. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) وأنه (ص) قاتلهم ليكون الدعاء والنذر والذبح والاستغاثة وجميع العبادات كلها لله وإن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وإن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلي الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم وعرفت التوحيد

ص: 149


1- 71. صفحة 1 - 3 الموضوع عليها - 56 - 58 - طبع المنار بمصر.
2- 72. يأتي نظيره في كلام الصنعاني حيث يقول بل يسمونه معتقدا كما أن سائر كلامه متوافق معه - المؤلف -.

الذي دعت إليه الرسل وأبي عن الاقرار به المشركون وهو معني لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ملكا كان أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا لا الخالق الرازق المدبر فأنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما مر وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ " السيد " والمراد من كلمة التوحيد معناها لا مجرد لفظها والكفار الجهال يعلمون أن مراده " ص " بها هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا " اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشئ من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بلا إله إلا الله. ثم قال: فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في وقتنا الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله " ص " الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل وقتنا بأمرين أحدهما أن الأولين لا يشركون إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلي البر أعرضتم. أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون. وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه إلي قوله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار. وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين. الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين نبيا أو ملكا ويدعون أشجارا وأحجارا مطيعة ليست عاصية وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس يحكون عنهم الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك. وقريب من ذلك ما حكي عن محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد أنه حكاه عن ابن عبد الوهاب ولعله لخصه وانتخبه من مجموع كلماته فإنا لم نجد بهذه العبارات في كتبه المطبوعة. قال بعد ذكر الآيات الدالة علي توحيد الله والرد علي المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخري والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله

ص: 150

ورسوله محمد " ص " فإنهم كانوا يدعونها ويلجئون إليها ويسألونها علي وجه التوسل بجاهها وشفاعتها لتقربهم إلي الله زلفي كما حكي ذلك الله عنهم بقوله تعالي (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية ". والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي " وغيرها من الآيات. ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض واستقلوا بشئ من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في خلق ذرة من الذرات قال تعالي " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قال حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه ولذلك حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل ومجرد الاتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلما بل هو حجة علي ابن آدم خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الاقرار كالكرامية ومجرد التصديق كالجهمية وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل علي كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع التأكيدات قال تعالي (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فأكدوا بلفظ الشهادة وإن اللام والجملة الأسمية فأكذبهم وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء وزاد التصريح باللقب الشنيع وبهذا تعلم أن مسمي الاذعان لا بد فيه من الصدق والعمل ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له إن صلي وزكي وصام قال تعالي (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) الآية (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) الآية " انتهي ". والجواب: أما إجمالا: فإن جعله ما يصدر من المسلمين في حق الأنبياء من الاستغاثة بهم وطلب شفاعتهم الذي مرجعه إلي طلب الدعاء منهم والنذر والذبح لله والتصدق به وإهداء الثواب إليهم الذي توهم أنه نذر وذبح لهم وتعظيمهم وتعظيم قبورهم والتبرك بها وغير ذلك عبادة لهم ولقبورهم كعبادة الأصنام خطأ وغلط فإنه ليس المراد من العبادة التي لا تصلح لغير الله وتوجب الشرك والكفر إذا وقعت لغيره مطلق التعظيم والخضوع كما

ص: 151

مر مفصلا في المقدمات بل عبادة خاصة لم يصدر شئ منها من أحد من المسلمين. وأما تفصيلا فقوله في رسالة أربع القواعد إن الذين قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام فنقول لم يدخلهم في الإسلام لأنهم يكذبون رسول الله (ص) ويقولون إنه ساحر كذاب وينكرون جميع شرائعه ويدينون بدين الجاهلية وهذا كاف في كفرهم سواء تشفعوا بالأصنام وعبدوها أو لا فكيف يقاس بهم ويجعل مساويا لهم من يؤمن بالله وبرسوله وبأن جميع ما جاء به من عند الله حق لأنه يتشفع إلي الله تعالي بمن جعله شافعا ومشفعا ويتوسل إليه بمن جعل له الوسيلة سبحانك اللهم ما هذا التمويه والتضليل وليس موجب كفرهم تشفعهم بالأنبياء والصالحين كما زعم واستدلاله علي ذلك بالآيتين واضح الفساد كما يأتي في الفصل الثاني من الباب الثالث. قوله إنه " ص " ظهر علي قوم متفرقين في عبادتهم فقاتلهم ولم يفرق بينهم. نعم لم يفرق بينهم لاشتراكهم جميعا في تكذيبه وإنكار نبوته ورد ما جاء به من عند ربه والتمسك بأديان آبائهم الفاسدة وهؤلاء لا فرق بين أن يعبدوا ملكا أو نبيا أو صنما أو كوكبا أو لا يعبدوا. وإنما يتم لابن عبد الوهاب ما أراد لو كان بعضهم آمن بالنبي " ص " وصدق بجميع ما جاء به ولكنه بقي يتشفع إلي الله بنبي أو صالح فقاتله النبي " ص " ولم يفرق بينه وبين من يعبد الحجر والشجر والشمس والقمر وأني له بذلك. أما قوله في كشف الشبهات إن الله تعالي أرسل محمدا " ص " إلي قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله فيظهر فساده من وجوه: الأول: إنهم كانوا يتعبدون ولكن كانت عبادتهم كما أخبر الله تعالي عنه بقوله (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) المكاء التصفير والتصدية التصفيق. في الكشاف كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها يقصفوون " انتهي ". كانوا يتعبدون فيسجدون للأصنام التي نهي الله عن السجود لها ويقربون لها القرابين ويهلون عليها بأسمائها ويطلونها بدمائها هذه كانت عبادتهم ويحجون ولكنهم أحدثوا في الحج بدعا وقبائح كثيرة. منها: إنهم كانوا يطوفون عراة رجالا ونساء وعوراتهم بادية يتقربون إلي الله بذلك. وقصة المرأة التي ألزموها بذلك وكانت

ص: 152

جميلة ففعلت واجتمع أهل مكة للنظر إليها فطافت عارية ويدها علي فرجها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله. مشهورة فهؤلاء الذين انحصر كفرهم وشركهم في تشفعهم بالصالحين عن ابن عبد الوهاب (ويتصدقون) مع تكذيبهم الرسل فما تنفعهم صدقاتهم (ويذكرون الله) أحيانا إن صح ذلك وفي غالب أحوالهم أو كلها يعرضون عن ذكر الله ويذكرون أسماء أصنامهم كما كانوا يقولون (أعل هبل) وكانوا يذكرون أسماءها علي ذبائحهم دون اسم الله. وما أدري لم لم يقل ابن عبد الوهاب ويصلون ويزكون ولا يزنون ولا ينكحون مع ما نكح آباؤهم ولا يشربون الخمر ولا يعملون الميسر ولا الأنصاب ولا الأزلام ولا يأكلون الربا ولا يئدون البنات ويفعلون جميع شرائط الإسلام حتي صلاة التراويح ولا يصدر منه إلا أمر واحد وهو التشفع بذوي المكانة عند الله وجعلهم وسائط بينهم وبينه كالملائكة وعيسي فلذلك قاتلهم النبي " ص " وحكم بشركهم وكفرهم أليس كذلك أيها الإخوان ألم يقل الله تعالي (وما كان صلاتهم عند البيت الإمكاء وتصدية) ألم يكونوا يكرهون فتياتهم علي البغاء وهن يردن التحصن ألم يكونوا يفعلون جميع الموبقات والمنكرات وأفعال الجاهلية فكيف يسوغ لمحمد بن عبد الوهاب أن يقول إن رسول الله " ص " لم يقاتلهم إلا علي تشفعهم إلي الله بالملائكة والأنبياء والصالحين. الثاني: إن حصره شرك وكفر من بعث إليهم النبي " ص " في جعلهم بعض المخلوقات وسائط وشفعاء عند الله جهل أو تمويه. أما مشركو قريش فإنهم وإن اعتقدوا أن الرازق الخالق المحيي المميت المدبر الأمر المالك ما في السماوات والأرض هو الله كما دلت عليه الآيات التي ذكرها إلا أنه لا شئ يدلنا علي أنهم لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم من الجن والإنس والملائكة أنه لا تأثير لها في الكون وأن التأثير وحده لله تعالي وهي شافعة فقط إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثيرا بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها فتشفي المرضي وتنصر علي الأعداء وتكشف الضر وغير ذلك وأنها تشفع عند الله حتما ولا يرد شفاعتها أو أن الله تعالي جعل لها قسطا من التأثير أو كله إليها بل ظاهر الآيات هو ذلك مثل قوله تعالي (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) بل ظاهر قوله تعالي (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) إنهم كانوا لا يسجدون لغير الأصنام ولا يعتقدون

ص: 153

إلها غيرها وظاهر قوله تعالي حكاية عن أهل جهنم (قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) اعتقادهم إنها مساوية لرب العالمين وإن لم يكن من جميع الوجوه بل يخرج عنه الأمور المذكورة في الآيات المستشهد بها في كلام ابن عبد الوهاب وذلك كاف في الشرك والكفر وذلك أيضا ظاهر جميع الآيات الدالة علي اتخاذهم آلهة من دون الله وشركاء لله ونحو ذلك. مثل (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا. أئنا لتاركوا آلهتنا. أإفكا آلهة دون الله تريدون. أجعل الآلهة إلها واحدا. ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون. وقالوا آلهتنا خير أم هو. أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا. وقالوا لا تذرن آلهتكم. وما نحن بتاركي آلهتنا. فما أغنيت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله. الذين يجعلون مع الله إلها آخر. قل لو كان معه آلهة كما يقولون. واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) إلي غير ذلك. وكيف يمكن حصر شركهم وكفرهم في جعلهم بعض المخلوقات وسائط وشفعاء عند الله وهم يكذبون رسول الله " ص " ويجعلونه ساحرا وينكرون ما جاء به من عند ربه من الأحكام والشرائع مع ظهور المعجزات علي يديه ويتمسكون بدين الجاهلية كما مر أفلا يكفي هذا في كفرهم وشركهم وماذا ينفعهم الاقرار بوجوده تعالي والعبادة والحج والصدقة وذكر الله أن سلم صدور ذلك منهم وهل ينفي ذلك عنهم الكفر الذي أوضحناه ويحصر شركهم في تشفعهم بالصالحين؟ هيهات. وكيف يمكن حصر كفرهم في ذلك وقد بدلوا دين الله تعالي الذي جاءهم به إبراهيم " ع " فأحدثوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والنسئ (1) وغير ذلك من مبتدعاتهم ومخترعاتهم وهذا أيضا كاف في كفرهم مع أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان والملائكة

ص: 154


1- 73. البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها ولا تطرد عن ماء ولا ترعي ولو لقيها المعيي لم يركبها (والسائبة) كان الرجل يقول إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في تحريم الانتفاع (والوصيلة) كانت الشاة إذا ولدت أنثي فهي لهم وإن ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثي قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر (والحامي) الفحل كان إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا قد حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعي (والنسئ) كانوا إذا احتاجوا إلي القتال في شهر حرام قاتلوا فيه وأخروه إلي شهر غيره وجعلوه مكانه فتركوا فيه القتال. - المؤلف -.

وجعلوهم شركاء لله تعالي وعبادتهم لهم مشاهدة معلومة ولم تكن تلك العبادة مجرد التشفع والتوسل بمن جعل الله له الشفاعة والوسيلة وما يجري ذلك مجري ذلك كما موه به ابن عبد الوهاب (أما عبادتهم للأصنام والأوثان) فإنهم عمدوا إلي أصنام من حجر أو نحاس أو خشب أو غيرها علي صور قوم صالحين متوهمة أو غيرهم عملوها بأيديهم وإلي أشجار فعبدوها من دون الله وسجدوا لها ونحروا وذبحوا لها وأهلوا بذبائحهم لها وذكروا أسماءها عليها دون اسم الله وطلوها بدمائها كما قال قائلهم: أما ودماء مائرات تخالها علي قنة العزي وبالنسر عندما وطلبوا منها كل ما يطلب من الله وأعرضوا عن عبادة الله فكانوا يقولون لا طاقة لنا علي عبادة الله فنحن نعبدها لتقربنا إلي الله وهذا أيضا صريح في أن عبادتهم لها غير طلب الشفاعة منه وتشفعوا بها وخالفوا أمر الله وأنبيائه في نهيهم عن عبادتها وطلب شئ منها عنادا وعتوا وخالفوا مقتضي عقولهم الحاكمة لو رجعوا إليها بأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تقرب ولا تشفع ولو كانت علي صورة نبي أو صالح فإن الشافع هو النبي أو الصالح لا صورته الموهومة ولا تدفع عن أنفسها بول الثعالب عليها ولا تروث الدواب فوقها فقد كان لبعضهم صنم فجاء ثعلب فبال عليه فقال قائلهم: لرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب ومنهم من عمل صنما من تمر فسجدوا له أول النهار وعبدوه فلما كان آخر النهار جاعوا فأكلوه. وكانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منها لآلهتهم فإذا زكا ما جعلوه لله رجعوا فجعلوه للآلهة وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه وذلك قوله تعالي: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلي الله وما كان لله فهو يصل إلي شركائهم ساء ما يحكمون) ولم يفعل أحد من المسلمين شيئا من ذلك مع نبي ولا ولي ولا قبر ولا غيره وإنما تشفع المسلمون بمن جعله الله شافعا وتوسلوا بمن جعل له الوسيلة وما التشفع سوي سؤال الدعاء الذي لا ينكره الوهابية وكذا الاستغاثة وما جري مجراها لا تخرج عن سؤال الدعاء وأهدوا ثواب الصدقة بالمذبوح إلي النبي أو الولي الذي ثبت جواز إهداء الثواب إليه ولم يذكروا اسمه عليه بل اسم الله تعالي كما سيأتي تفصيل ذلك كله في الفصول المختصة بذلك. فهذه

ص: 155

الاعتقادات والأعمال والتكذيب للرسل هي التي قاتلهم النبي " ص " عليها ودعاهم إلي تركها لا علي مجرد التشفع بنبي أو صالح والتوسل به إلي الله تعالي. وأما عبادتهم للملائكة فقد اتخذوهم أربابا من دون الله كما يدل عليه قوله تعالي في سورة آل عمران (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) إلي قوله تعالي (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) وفي هذا دليل علي أنهم فعلوا أو اعتقدوا بالنسبة إليها ما هو من خصائص الربوبية ولا يليق إلا بالله تعالي من سجود ونحوه من أنواع العبادات والاعتقادات وليس لنا ما يدل علي أنه لم يصدر منهم إلا مجرد التشفع بالملائكة إلي الله. وذكر صاحب الكشاف في تفسير الآية أنه " ص " كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة واليهود والنصاري عن عبادة عزير والمسيح فلما قالوا له أنتخذك ربا قيل لهم ما كان لبشر " الآية " وقوله تعالي في ذيلها أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون دليل علي أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له " انتهي " وفي ذلك دليل علي أن اتخاذهم الملائكة أربابا كان من هذا النسخ بإرادة عبادتهم لهم بالسجود وغيره كما أرادوا أن يتخذوه " ص " ربا ويسجدوا له. وكانوا يقولون في الملائكة إنهم بنات الله كما قالت اليهود والنصاري في عزير والمسيح إنهما ابنا الله وقد أخبر الله تعالي عنهم بذلك كله بقوله في سورة الزخرف (وجعلوا له من عباده جزءا. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين. وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم) ففي قوله تعالي لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابا دليل علي فعلهم معها ما هو من خصائص الربوبية كما مر وقوله تعالي (لو شاء الله ما عبدناهم) صريح في عبادتهم لهم ولا شئ يدل علي أنها كانت مجرد الاستغاثة والتشفع بل ما مر يدل علي عدمه. وقوله بما ضرب للرحمن مثلا دليل علي جعلهم لها مماثلة لله تعالي ومشابهة له لأن الولد مماثل للوالد ومن جنسه وكذلك قوله من عباده جزءا (قال صاحب الكشاف) فجعلوهم جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له " انتهي " وافتروا علي الله في ذلك عدة افتراءات. " إحداها " نسبة الولد إلي الله تعالي " ثانيتها " نسبتهم إليه أخس النوعين الذي كانوا إذا بشر به أحدهم ظل وجهه مسودا وهو كظيم ووأده حيا " ثالثتها " جعلهم لها من الملائكة الذين هم من أكرم عباد الله

ص: 156

عليه فاستخفوا بهم " رابعتها " نسبتهم إلي الله تعالي أنه رضي لهم عبادة الملائكة. وبذلك ظهر أن كفرهم ليس مجرد استغاثتهم بالملائكة وتشفعهم وتوسلهم بهم وستعرف أن الملائكة ممن ثبتت لهم الشفاعة باعتراف الوهابية فالمتشفع بهم ليس مخطئا فضلا عن أن يكون مشركا وكذا المتشفع بالنبي " ص " ومن جعل الله له الشفاعة فليس مخطئا فضلا عن أن يكون مشركا فكيف يقاس من يستغيث ويتشفع ويتوسل بنبي أو وصي ليشفع له إلي الله تعالي بالمشركين في عبادتهم الملائكة وكون قريش لم تكن تعتقد في الملائكة أنها تخلق وترزق وتدبر الأمر من دون الله بدليل (قل من يرزقكم من السماء والأرض إلي قوله فسيقولون الله) لا يدل علي أن كفرها وشركها لتشفعها وتوسلها واستغاثتها بالملائكة لأن الشرك يكون بغير اعتقاد الخلق والرزق مما مر في صدر الكلام ولو كان الصادر منها الاستغاثة بالملائكة والتشفع بها فقط لم يكن ذلك موجبا لشركها وكفرها وأما من عبد المسيح وأمه فلم يكن منه مجرد الاستغاثة والتوسل وطلب الشفاعة قطعا بل جعل المسيح " ع " إلها مستحقا لجميع صفات الألوهية وقد أخبر الله تعالي عنهم في القرآن تارة بأنهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وتارة قالوا إن الله ثالث ثلاثة المسيح أحدهم وذلك أنهم قالوا الأقانيم الثلاثة آله واحد وتارة أنهم اتخذوه وأمه إلهين من دون الله بقوله تعالي: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) وتارة أن المسيح ابن الله فتسويه ابن عبد الوهاب بين من يستغيث ويتشفع ويتوسل من المسلمين إلي الله بنبي أو ولي جعل الله له الشفاعة والوسيلة وجعله مغيثا بدعائه وبين من يعبد المسيح وأمه تمويه وتضليل. وأما قوم نوح " ع " فقد فعلوا فعل مشركي قريش من تكذيب الرسل وإنكار ما جاءت به وعبادة غير الله كما أخبر بذلك عنهم القرآن الكريم وكفي ذلك في كفرهم ولم يرد في دليل قوي ولا ضعيف إن عبادتهم لغير الله كانت مجرد التشفع والتوسل إليه بالصالحين وإنهم كانوا يقيمون جميع شرائع الدين سوي هذه وإن نوحا " ع " ما بعث إلا لينهاهم عن التوسل بالصالحين والتشفع بهم وأي كتاب أو سنة نطق بذلك. بلي أنهم قد غلوا في الصالحين وعبدوهم بما نهي الله عنه كما أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أما إنه لم يصدر منهم إلا مثل ما يصدر من المسلمين من الاستغاثة والتوسل والتشفع بالصالحين فهو تخرص علي الغيب بل افتراء محض وكذا غيرهم من أمم الأنبياء عليهم السلام وظاهر

ص: 157

قوله تعالي حكاية عن قوم هود في خطابهم لهود " ع " (أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) اعتقادهم بأنها قادرة مختارة بنفسها علي الضر والنفع والاعتراء بسوء فظهر أن عبادة المشركين للأصنام لم تكن مجرد الاستغاثة والتوسل والتشفع إلي الله بذوي المكانة عنده كما توهم الوهابيون. وسيأتي كلام في مثل ذلك في رد كلام الصنعاني ويأتي له مزيد توضيح في الباب الثالث إن شاء الله. (قوله) فبعثه الله يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم الخ قد ظهر بطلانه مما مر فإن دين أبيهم إبراهيم الذي بعث محمد " ص " لتجديده ليس هو عبارة عن عدم التشفع بالصالحين ولا داخلا فيه. أما إنه ليس عبارة عن عدم التشفع بالصالحين فلان دين أبيهم إبراهيم الذي جدده لهم رسول الله " ص " وترك ما كانوا يفعلونه من المحرمات والموبقات التي مر بعضها كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والنسئ والطواف بالبيت عراة ونكاح أزواج آبائهم والخمر والميسر وإكراه فتياتهم علي البغاء ووأد بناتهم وسجودهم للأصنام وذكر أسمائها علي ذبائحهم وتركهم الصلاة واستبدالها بالمكاء والتصدية وغير ذلك فهذا وأمثاله مما بدلوه من دين أبيهم إبراهيم هو الذي بعث رسول الله " ص " ليجدده لهم وأما إن عدم التشفع والتوسل بالصالحين ليس داخلا فيما جدده لهم فلأن ذلك وما يجري مجراه لم ينههم الرسول " ص " عنه فضلا عن أن يكون بعثه محصورا في ذلك بل أقرهم علي التشفع والتوسل الذي هو نوع من طلب الدعاء منه بما حث عليه من سؤال الدعاء من المؤمنين وبما أخبرهم به من أن الله تعالي جعل له الشفاعة والوسيلة وأكرمه بذلك كما ستعرفه مفصلا في الفصول الخاصة بذلك ولا ينكره الوهابيون. قوله: ويخبرهم إن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، هذا افتراء علي الله وعلي إبراهيم عليه السلام فمتي أمر الله تعالي محمدا (ص) أن يخبرهم أنه لا يجوز طلب الشفاعة ممن له الشفاعة وإن طلبها محض حق الله لا يجوز طلبها من غيره ومتي أخبرهم محمد (ص) بأن لا يطلبوا منه الشفاعة بل الأمر بالعكس فقد أخبرهم بأنه الشفيع المشفع وصاحب الوسيلة ولازم ذلك أن يطلب منه ما جعله الله له ولم يقل لهم حين أخبرهم بذلك أن طلب الشفاعة منه شرك وكفر مع أنه أمرهم بطلب الدعاء من الغير، وطلب الشفاعة لا يخرج عن ذلك كما ستعرف وتشبث الوهابية للمنع بآية " لله الشفاعة جميعا. فلا تدعوا مع الله أحدا) ستعرف أنه من السخافة بمكان. فالذي أوجب شركهم وكفرهم وأحل

ص: 158

قتالهم تبديلهم دين الله وتكذيبهم رسله وعبادتهم الصور والتماثيل من دون الله لا مجرد التشفع بالصالحين إلي الله. وبذلك تعرف أن توحيد العبادة الذي جحدوه ليس هو عدم التشفع والتوسل بالصالحين إلي الله وأن هذا التشفع ليس عبادة لغير الله ولا منافيا لتوحيد الله في العبادة وأن ما يسميه المسلمون الاعتقاد لا محذور فيه فإنهم لم يعتقدوا في الأنبياء والصالحين إلا بما جعلهم الله له أهلا. قوله: وكانوا يدعون الله ليلا ونهارا ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسي. فيه أن دعاءهم الله ليلا ونهارا لم ينفعهم لأنهم بدلوا دينه وكذبوا رسله وعبدوا غيره بما نهي الله عنه لا بطلب الشفاعة ممن له الشفاعة. وعبادتهم للملائكة لم تكن مجرد تشفعهم بهم بل فعلهم معهم ما هو من خصائص الربوبية واعتقادهم مماثلتهم لله وأنهم بناته إلي غير ذلك كما مر مفصلا وعبادتهم للات الذي هو رجل صالح لم تكن مجرد التشفع به إلي الله بل السجود وأنواع العبادة لحجر زعموا أنه علي صورته مع نهي الله لهم عن ذلك علي لسان أنبيائه إلي غير ذلك مما مر. وعبادة النصاري لعيسي عليه السلام ليست مجرد التشفع به إلي الله بل أثبتوا له جميع صفات الإلهية كما مر وكيف يتوهم عاقل إن عبادتهم له مجرد التشفع به إن هذا لمخالفة للمحسوس وتكذيب للقرآن وتمويه وتضليل. قوله: وإنه قاتلهم ليكون الدعاء والنذر والذبح والاستغاثة وجميع العبادات كلها لله سيأتي الكلام علي الأربعة المذكورة كل في فصله وما تقدم هنا حديث إجمالي وقد ظهر أن قوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلي الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم كذب وافتراء علي الله وعلي رسوله بل الذي أحل دماءهم وأموالهم تبديلهم للدين وتكذيبهم له (ص) بعدما رأوا معجزاته ودلائل نبوته وعبادتهم للأصنام بالوجوه التي ذكرناها من دون أمر الله بل عنادا وخلافا عليه لا مجرد تشفعهم وتوسلهم بالصالحين. ومن ذلك يعلم انهدام وفساد كل ما بناه علي هذا الأساس الفاسد من تفسير كلمة التوحيد التي دعا النبي (ص) المشركين إلي الاقرار بها بأن المراد بالإله فيها ما يعم من قصد لأجل الشفاعة ونحوها وأنه ليس المراد به الخالق الرازق المدبر فقط. لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده فإن المبني في الكل واحد وهو توهم أن الاستغاثة والتشفع إلي الله بذوي

ص: 159

المكانة عنده يوجب اتخاذهم آلهة ويكون عبادة لهم وقد عرفت وستعرف مفصلا فساد هذا التوهم وسخافته وأن التشفع بذوي المكانة وما يجري مجراه ليس عبادة لهم ولا يوجب اتخاذهم آلهة لهم وأن قياسهم علي عباد الأصنام والكواكب وعيسي ومريم والملائكة جهل أو عناد وأن تفضيل جهال مشركي قريش وعبدة الأصنام علي المسلمين اليوم من أعظم الجهالات والافتراءات وأقبحها وأنه لا يظن ولا يحتمل أحد من المسلمين إن الإسلام هو التلفظ بكلمة التوحيد من دون اعتقاد معناها ولا يظن حاذق منهم ولا غيره أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله وكلهم يعلمون أن من كذب الرسل وخالفهم وعمل عمل عبدة الأصنام أو أنكر شيئا من ضروريات الدين كافر لكنهم لا يعتقدون أن من عظم الذي أمر الله بتعظيمه واستشفع بمن جعله الله شافعا وتوسل بمن جعل الله له الوسيلة كافر ومشرك مع أنه لم يخرج عن أمر الله وطاعته. فأي الفريقين أحق بنسبة الجهالة إليه لو كانوا يعلمون؟! وكذلك ظهر فساد قوله وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد فإن المسلمين الذين سماهم المشركين لا يعنون بلفظ السيد معني ينافي العبودية الخالصة وإنما يعنون به أن له منزلة عند الله أوجبت امتيازه عن غيره وأن يقبل الله شفاعته ويسمع دعاء من تشفع به إليه كرما منه تعالي وفضلا فهم لم يثبتوا له إلا ما أثبته الله. أما الوهابية فنفوا عنه ما جعله الله له ونسبوا إلي المسلمين ما هم منه براء فكانوا أشبه بالمشركين الذين خالفوا الله ورسله ونسبوا إلي الرسل وأتباعهم ما هم منه براء. أما إطلاق السيد علي غير الله تعالي بل والرب فلا مانع منه إذا لم يقصد به معني ينافي العبودية الخالصة لله تعالي كما ستعرفه في الفصل الخاص به مفصلا وحاش لله أن يقصد به أحد من المسلمين معني ينافي العبودية الخالصة لله تعالي. ومما ذكرنا تعلم فساد المحكي في تاريخ نجد عن ابن عبد الوهاب. وإذا كان المشركون لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض أو ذرة من الذرات كما قال فلا دليل يدلنا علي أنهم لم يزعموا استقلالهم بشئ من التدبير والتأثير وآية (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) لا تنفي ذلك إذ لم يظهر منهم الاعتراف بذلك بل الظاهر والله أعلم أنه من قبيل الاحتجاج عليهم وإظهار بطلان معتقدهم أنها تكشف الضر وتمسك الرحمة فلا يدل علي أنهم لا يعتقدون أنها كذلك وبذلك يحسن موقع الاستفهام فيكون إنكاريا لا تقريريا

ص: 160

وهم لم يقروا بجميع تلك الجمل مع أنهم كانوا يعبدون صور الأنبياء والصالحين لا أنفسهم وكانوا يقولون عن الملائكة أنها بنات الله ومن عبد المسيح يعتقد فيه ما يعتقد في الله كما مر ذلك كله وإذا كانوا لا يعتقدون في الأوثان ما ورد في الآيات مما أقروا به فلا دليل علي أنهم لا يعتقدون غيره من صفات الربوبية كما مر مفصلا أما ما أطال به من قوله إن مجرد الاتيان بلفظ الشهادة الخ فهو تطويل بلا طائل فلسنا نكتفي بمجرد الاتيان بلفظ الشهادة كالكرامية ولكن أين العرش حتي تنقش وكون الإيمان مجرد التصديق عند الجهمية لا يظهر لذكره فائدة غير التطويل ومثله الاستشهاد بآية المنافقين التي لا مساس لها بما نحن فيه والإطالة في تفسيرها. ومما بيناه من عدم وقوع العبادة المنهي عنها من أحد من المسلمين لنبي ولا صالح ولا قبر ولا غيره تعرف انهدام ما بناه علي ذلك من قوله: من شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له (ثبت العرش ثم انقش) وكذا الاستشهاد بباقي الآيات. ثم قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات (1) : إذا تحققت إن الذين قاتلهم رسول الله " ص " أصح عقولا واخف شركا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها علي ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه إلينا: وهي أن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرا ونحن نشهد الشهادتين ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟! (فالجواب) أنه لا خلاف بين العلماء أن من صدق رسول الله " ص " في شئ وكذبه في شئ أو آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كافر كما قال الله تعالي: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا)، ولما لم ينقد أناس للحج نزل فيهم: (ولله علي الناس حج البيت إلي قوله ومن كفر " الآية ") فإذا كان من صدق الرسول في كل شئ وكذبه في شئ واحد كالبعث أو الصلاة أو الصيام فهو كافر حلال الدم والمال، فكيف إذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل. ثم استشهد بأن أصحاب

ص: 161


1- 74. ص 65 - 70.

رسول الله " ص " قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون الشهادتين ويصلون ويؤذنون. (قال) فإن قال أنهم يقولون إن مسيلمة نبي قلنا هذا هو المطلوب إذا كان من رفع رجلا إلي رتبة النبي كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتين والصلاة فكيف بمن رفع شمسان ويوسف أو صحابيا أو نبيا في مرتبة جبار السماوات والأرض كذلك يطبع الله علي قلوب الذين لا يعلمون (قال) وبنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلهم يشهدون الشهادتين ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء علي كفرهم وقتالهم وإن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتي استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين (قال) وإذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم (كذا) جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معني الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب باب المرتد وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه وذكروا أنواعا كثيرة كل منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتي أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو علي وجه المزح واللعب (قال) والذين نزل فيهم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم كفرهم الله تعالي بكلمة مع أنهم في زمن الرسول " ص " يجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون والذين نزل فيهم (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) كانوا مع رسول الله " ص " في غزوة تبوك وقالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها علي وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق (واستدل أيضا) بما حكاه الله تعالي عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسي اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وقول ناس من الصحابة إجعله لنا ذات أنواط (1) فحلف " ص " إن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلها. (ثم قال) وللمشركين شبهة أخري يقولون أنكر النبي " ص " علي أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال أقتلته بعدما

ص: 162


1- 75. روي الترمذي عن أبي واقد الليثي خرجنا مع رسول الله " ص " إلي حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله " ص " الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسي اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " الآية " لتتبعن سنن من كان قبلكم. - المؤلف -.

قال لا إله إلا الله (وقال) أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله وأحاديث أخري في الكف عمن قال لا إله إلا الله (قال) ومراد هؤلاء الجهلة إن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل (وأجاب) بأن اليهود وبني حنيفة والذين حرقهم علي بن أبي طالب يقولون لا إله إلا الله وهؤلاء الجهلة يقولون من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها فكيف إذا جحد التوحيد قال ولكن أعداء الله ما فهموا معني الأحاديث (فأما) حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعي الإسلام لظنه أنه ما ادعاه إلا خوفا والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتي يتبين منه ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالي في ذلك (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) أي تثبتوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معني وكذلك الأحاديث الأخر. والدليل علي هذا أن رسول الله " ص " الذي قال أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله وقال أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله هو الذي قال في الخوارج أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا حتي أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم وتعلموا العلم من الصحابة فلم ينفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة " انتهي ". وقال ابن عبد الوهاب أيضا فيما حكاه عنه الآلوسي في تاريخ نجد: الكفر نوعان، مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول " ص "، والمقيد أن يكفر ببعضه، حتي أن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث الجد والأخت وإن صلي وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة. إلي أن قال: فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية علي العوام وتلبيس لينفق شركهم ويقال بإسلامهم وإيمانهم ويأبي الله ذلك ورسوله والمؤمنون " انتهي ". (والجواب) أن إنكار شئ مما جاء به النبي " ص " بعد العلم بأنه جاء به لكونه مما ورد في القرآن أو جاءت به السنة القطعية وصار من ضروريات الدين لا ريب في أنه تكذيب للنبي " ص " موجب للكفر وإذا وقع من مسلم حكم بارتداده ولا يحتاج إلي الإطالة وإكثار الشواهد عليه من الآيات وغيرها وذكر العلماء باب المرتد وغير ذلك الذي أطال به بدون طائل. إنما الكلام في أن الاستغاثة والتشفع والتوسل بالصالحين هل هي

ص: 163

موجبة لجحود التوحيد وللرفع في مرتبة جبار السماوات والأرض كما زعم وقد تبين بما شرحناه وأوضحناه في هذا المقام وغيره وفي الفصول المختصة بتلك الأمور أنه ليس فيها شئ مما ينافي التوحيد ولا توجب رفع مخلوق إلي رتبة جبار السماوات والأرض ولا تخرج عن طلب الدعاء ممن يرجي من الله إجابة دعائه لنا لما له من المنزلة عنده بإخلاصه في عبوديته. ولما قاس الوهابيون حال المسلمين المستغيثين بالصالحين علي حال مشركي قريش فقالوا إن كليهما أقر بتوحيد الربوبية ولكنه تشفع واستغاث وتوسل بالمخلوقين فلم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية وإن النبي " ص " لم يقاتل عبدة الأوثان إلا علي استشفاعهم بغير الله رجلا صالحا أو غيره فدل ذلك علي أن الاستشفاع عبادة وعبادة غير الله شرك كما صرح به ابن عبد الوهاب في كلماته السابقة، توجه عليهم حينئذ اعتراض بعض أهل الأحساء بأن هذا قياس مع الفارق: فمشركوا قريش لا يشهدون الشهادتين ويكذبون الرسل والقرآن وينكرون البعث، وهذا هو الذي أوجب كفرهم وأحل قتالهم، ونحن نقر بذلك كله، فبطل القياس، نعم لو كان الصادر من الأولين مجرد الاستغاثة والاستشفاع وتعظيم القبور كان القياس صحيحا، ولكن الصادر منهم غير ذلك مما يوجب الكفر والشرك، ولا ينفع الجواب بأن من صدق الرسول في شئ وكذبه في شئ كفر، الذي لا ينكره أحد. ومن ذلك تعلم أن قوله: سبحان الله ما أعجب هذا الجهل، لا ينطبق إلا عليه خاصة. وأن قوله: كذلك يطبع الله علي قلوب الذين لا يعلمون، ليس أحد أولي به منه. ومع كون الشواهد التي استشهد بها وأطال بذكرها لا حاجة إليها بل هي تطويل بلا طائل أكثرها غير صحيح في نفسه كدعواه إن الفاطميين المصريين بني عبيد قد أجمع العلماء علي كفرهم وقتالهم وإن بلادهم بلاد حرب، فإنه، ادعاء باطل وافتراء علي العلماء، ولو كان ذلك صحيحا لتمسك به أعداؤهم خلفاء بني العباس وجعلوه من أعظم الحجج لهم فأخذوا فتاوي العلماء بذلك، ولو وقع ذلك لشاع وذاع ولذكره أهل السير والتواريخ ونقلة الأخبار مع أنه ليس له في كتبهم عين ولا أثر، ولما كان بنو العباس يعدلون عنه إلي كتابة محضر بعدم صحة نسبهم فقط، شهد فيه جماعة من العلماء خوفا علي أنفسهم وامتنع من الشهادة الشريف الرضي، وقصته في ذلك مع القادر العباسي مشهورة ذكرها المؤرخون. ولا شئ أطرف من قوله: وغزاهم المسلمون حتي استنقذوا ما بأيديهم من بلاء

ص: 164

المسلمين، فإنا لا نعلم أحدا من المسلمين غزاهم، وهذه كتب التواريخ شاهدة بذلك وإنما استنجد آخر خلفائهم الملقب العاضد بنور الدين ملك الشام لما خاف علي بلاده من الإفرنج، فأرسل إليه صلاح الدين الأيوبي، فكان انقراض دولتهم علي يده بدون حرب ولا قتال ولا غزو بل علي عادة الملوك في تغلبهم علي ملك غيرهم إذا أنسوا منهم ضعفا، كما تغلب صلاح الدين علي ملك مصر وخرج عن طاعة نور الدين مع أنه هو الذي أرسله وكان بمنزلة العامل عنده، ثم تغلب صلاح الدين علي الشام بعد موت نور الدين وطرد ولده من الملك. وخبر ذلك في التواريخ مشهور، أفهذه أدلة محمد بن عبد الوهاب وهذا مبلغ علمه بالتاريخ؟! وقوله: غزاهم المسلمون طريف جدا فإنه مناف لتكفير الوهابية المسلمين وإشراكهم إياهم فإن المسلمين في عصر الفاطميين المصرين مثلهم في عصر الوهابيين لا يزيدون عنهم بشئ فقد كانوا في ذلك العصر يبنون القباب علي القبور ويعظمونها ويتشفعون بالصالحين، فإن كان هؤلاء مشركين فأولئك مشركون، ولم يكن في عصر الفاطميين وهابية يغزون فكيف سماهم مسلمين. وهذا كقول صاحب المنار: أيها المسلمون. مع تصويبه اعتقاد الوهابية فيهم كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن هؤلاء عند حاجتهم للمسلمين يعترفون بإسلامهم وإذا استغنوا عن ذلك كفروهم وأشركوهم. نعم إن المسلمين أجمعوا علي ضلالة الوهابيين وخروجهم من الجماعة وقتالهم وغزاهم المسلمون بأمر خليفة الإسلام حتي استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين كما فصلناه في تاريخهم، فإن كان ذلك دليلا علي الكفر الارتداد فهو دال علي كفر الوهابية وخروجهم من الدين، كما أنك قد عرفت في الباب الأول أقوال العلماء في حق ابن تيمية قدوة الوهابية وباذر بذور مذهبهم وأول من زقا بالقول بالتجسيم وصنف فيه. فإجماع العلماء قائم علي ضد قول ابن عبد الوهاب لا معه مع أنه لا قيمة لإجماع العلماء عنده وإن تظاهر بالتمسك به. أما قوله: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسل وغير ذلك، فما معني ذكر العلماء باب المرتد الخ: ففيه كما مر أن المعترض لم يقل إن الأولين لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين هذه الأشياء بحيث لو نقص واحد منها لم يكفروا وأنه ليس شئ سواها مكفرا بل لما قاس الوهابية حال المسلمين اليوم علي حال مشركي قريش توجه عليهم الاعتراض بأن هذا قياس مع الفارق كما عرفت. نعم لو كان الصادر من الأولين مجرد الاستغاثة والتوسل والاستشفاع وتعظيم القبور كان القياس صحيحا ولكن الصادر منهم غير ذلك مما يوجب التكفير فلم يبق في ذلك دلالة علي أن الاستشفاع ونحوه موجب للكفر وحينئذ فاستشهاده

ص: 165

يذكر العلماء باب المرتد تطويل بلا طائل كما عرفت لعدم إنكار أحد إمكان حصول الارتداد مع الاقرار بالشهادتين إنما الكلام في أن المتنازع فيه هو موجب للارتداد أم لا وهذا لا ينفع فيه ذكر العلماء باب المرتد. علي أن جميع علماء المذاهب الذين ذكروا باب المرتد وبينوا ما يوجب الارتداد لم يذكروا من جملته الاستغاثة والاستشفاع بالصالحين فدل علي إجماعهم علي أنه ليس موجبا للارتداد وبطل بذلك زعم الوهابية. فما استشهد به شاهد عليه لا له. قوله: مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه. أقول: الذي ذكره علماء المذاهب في باب المرتد إن من تكلم بكلمة الكفر كقوله الله ثالث ثلاثة استهزاء أو عنادا كفر (1) لا مطلق من قالها كما يقتضيه إطلاق كلامه قصدا لتهوين أمر الارتداد. قوله: أو علي وجه المزح واللعب ستعرف مما يأتي بعده شرح ذلك ورده وأنه خيانة في النقل وتدليس. ومن الغريب قوله بأن الذين نزل فيهم يحلفون بالله ما قالوا (الآية) كفرهم الله بكلمة مع أنهم في زمن الرسول (ص) يجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون فإن هذه الآية مع كونها كغيرها من استشهاداته لا حاجة إلي الاستشهاد بها كما عرفت نزلت في المنافقين. ففي أسباب النزول للواحدي قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله (ص) إلي تبوك وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله (ص) وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلي رسول الله (ص) فقال (ص) يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالي هذه الآية إكذابا لهم وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من جهينة ورجلا من غفار اقتتلا فظهر الغفاري علي الجهني فنادي عبد الله بن أبي يا بني الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأخبر النبي (ص) فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية " انتهي " وفي الكشاف أقام رسول الله (ص) في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم الجلاس بن سويد فقال الجلاس والله لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفانهم وهم سادتنا وأشرافنا فنحن شر من الحمير فقال له عامر بن قيس الأنصاري أجل والله إن محمدا لصادق

ص: 166


1- 76. راجع الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع وحاشيته ص 229 ج 2 في الفقه الشافعي وحاشية الشرقاوي علي شرح التحرير لزكريا الأنصاري ص 390 ج 2 في الفقه الشافعي أيضا (المؤلف).

وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك رسول الله (ص) فاستحضره فحلف بالله ما قال فنزلت الآية " انتهي " وهي قوله تعالي يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا. ولكونها نزلت في المنافقين قال صاحب الكشاف: " كفروا بعد إسلامهم " أظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام " انتهي " والذي هموا به فلم ينالوه: الفتك برسول الله (ص) عند مرجعه من تبوك توافق خمسة من المنافقين علي أن يدفعوه عن راحلته إلي الوادي ذا صعد العقبة فرآهم عمار قائد ناقة النبي (ص) أو حذيفة سائقها ملثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ذكره الواحدي عن الضحاك وذكره الزمخشري فهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن عبد الوهاب إنهم يجاهدون ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون وما ينفعهم ذلك وهم منافقون يسبون رسول الله (ص) ويطعنون في الدين ويقولون في حقة (ص): سمن كلبك يأكلك ويحاولون قتله وإلقاءه عن راحلته إلي الوادي فجعلهم كالمسلمين الذين يستشفعون إلي الله تعالي ويستغيثون بالنبي (ص) الذي جعله شافعا ومغيثا علي السواء. هذا علم ابن عبد الوهاب وهذه حججه وأدلته وكذلك قوله: إن آية أبا الله وآياته الخ نزلت فيمن قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها علي وجه المزح (1) تهوينا وتصغيرا وتخفيفا لعملهم، حتي يتسني له تشبيه المسلمين بهم وهل ينفعهم ذلك وادعاؤهم المرح، والحال أنهم من المنافقين الذين أنزل الله تعالي فيهم " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن لله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في الكشاف: بينا رسول الله " ص " يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا انظروا إلي هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فأطلع الله نبيه علي ذلك فقال احبسوا علي الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله لا والله ما كنا في شئ من أمرك ولكن في شئ مما يخوض فيه الركب

ص: 167


1- 77. يتبين مما سيأتي في سبب نزول الآية إنهم لم يعترفوا بتلك الكلمة ولا ادعوا قولها لا علي سبيل المزاح كما يدعيه ابن عبد الوهاب ولا غيره بل أنكروها بتاتا وادعوا أنهم كانوا يمزحون بشئ غيرها. ثم إنه هنا يقول ذكروا أنهم قالوها علي وجه المزح وفي صفحة 72 من كشف الشبهات يقول. كفروا بسبب كلمة قالوها علي وجه اللعب والمزح فجزم بذلك فتناقض كلاماه وكلاهما للواقع فانظر إلي تحريفه الأخبار ترويجا لمقاصده. - المؤلف -.

ليقصر بعضنا علي بعض السفر فنزلت الآية. وذكر نحوه الواحدي في أسباب النزول عن قتادة وأنهم قالوا يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب وذكر الواحدي أيضا عن زيد بن أسلم ومحمد بن وهب إن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء يعني النبي " ص " وأصحابه ارغب بطونا ولا أكذب السنا ولا أجبن عند اللقاء فأخبر النبي " ص " فاعتذر القائل بأنا كنا نخوض ونلعب فنزلت الآية " انتهي " أبهؤلاء يقاس المسلمون المتشفعون إلي الله تعالي بنبيه صاحب الشفاعة عنده. ثم يتبجح بقول: تأمل هذه الشبهة ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق. وهو كما عرفت لم يأت بجواب ولا شبه جواب وكذا استشهاده بحلف النبي (ص) أن قول بعض الصحابة له اجعل لنا ذات أنواط نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لا محل له ولا فائدة فيه ومن الذي يشك في أن اتخاذ شجرة تناط بها الأسلحة وتعبد كما تعبد الأصنام هو نظير عبادة بني إسرائيل للأصنام وطلب بعض الصحابة ذلك من النبي (ص) هو نظير طلب قوم موسي منه ولكن هذا لا يثبت أن الاستغاثة والاستشفاع بالنبي (ص) نظير عبادة الأصنام. وأما جوابه عن قصة أسامة وتنظيره باليهود وبني حنيفة والذين حرقهم علي بن أبي طالب والخوارج فهو مبني علي الأساس الفاسد الذي أسسه من جعل الاستشفاع والتوسل بالصالحين عبادة لهم وشركا فلا ينفع معها قول لا إله إلا الله وحيث عرفت فساد هذا الأساس تعرف فساد ما بني عليه وتعرف إن من وصفهم بأعداء الله وهو أحق بهذا الوصف منهم قد فهموا معني الأحاديث وأفنوا أعمارهم في فهمها ودراستها وأنها تدل علي أن من قال لا إله إلا الله حرم دمه إلا أن يثبت خروجه عن الإسلام بيقين ولا يجوز تكفيره واستحلال دمه بمجرد الظن والتخمين فاليهود أنكروا نبوة عيسي عليه السلام ومحمد صلي الله عليه وآله وجميع شرائع الإسلام (وبنو حنيفة) الذين قتلهم خالد اعتل لقتلهم بمنع الزكاة التي وجوبها من ضروريات الدين التي يكفر منكرها والذين اتبعوا مسيلمة ادعوا فيه النبوة وارتدوا عن الإسلام. وجعله المسلمين أشد كفرا منهم باعتبار أن أولئك ادعوا النبوة في مسيلمة والمسلمون رفعوا المخلوقين إلي درجة الإلهية بسبب استغاثتهم وتشفعهم بهم من السخافة بمكان لما عرفت ولما هو أوضح من الشمس في رائعة النهار من أن استغاثة المسلمين واستشافعهم بذوي المكانة عنده تعالي وجميع ما يفعلونه ليس فيه شائبة

ص: 168

رفع المخلوق عن درجة العبودة إلي درجة الإلهية وقد أوضحنا ذلك مكررا فلا نطيل بإعادته. والذين حرقهم علي بن أبي طالب قالوا له أنت الله أما من توسل بنبي أو صالح إلي الله ودعاه واستغاث به ليدعوا الله له ويكون له شفيعا فلم يكفر ولم يشرك ولم ينكر ضروريا حتي يباح دمه إلا عند الجاهل الذي لا يفهم معني الأحاديث وأما استشهاده بأخبار الخوارج وإن الرسول (ص) أمر بقتلهم لما ظهر منهم من مخالفة الشريعة ففيه أن الذي ظهر منهم هو تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وإخافة السبيل وإشهار الحرب علي المسلمين لشبهة دخلت عليهم أعظم أسبابها الجمود، وأشبه الناس بهم في هذا الزمان كما مر من يكفر المسلمين ويستحل دماءهم وأموالهم ويغزو بلاد الإسلام ويشهر الحرب علي المسلمين ويخيف السبل بشبهة أنهم يستغيثون ويستشفعون بذوي المكانة عند الله وتوهم أن ذلك شرك بالله، والحال أنه ليس فيه من ذلك شائبة كما بيناه وأوضحناه فأي الفريقين أحق بأن يشبه بالخوارج لو كانوا يعقلون. (وأما قوله) فيما حكي عنه في تاريخ نجد أن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه فهو اعتراف منه علي نفسه وعلي أتباعه بالكفر فإنهم قد أنكروا فروعا فضلا عن الفرع الواحد مجمعا عليها بين المسلمين كالاستشفاع بالنبي " ص " وتعظيم قبره والتبرك به وغير ذلك مما خالفوا فيه عامة المسلمين بعد اتفاقهم وإجماعهم عليه أجيالا عديدة فتوي وعملا (قوله): فتشبيه عباد القبور الخ قد علمت مما بيناه وشرحناه أنه ليس في ذلك تشبيه بل هو الحق الذي لا شبهة فيه وأن تشبيه الوهابيين بأن الاستشفاع والتوسل بالنبي " ص " الذي جعله الله شافعا وجعل له الوسيلة كفر وشرك مجرد تعمية علي العوام وتلبيس لتنفق ضلالتهم التي كفروا بها المسلمين ويأبي الله ذلك ورسوله والمؤمنون. ومما ذكره ابن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات (1) أنه ما بعث الله نبيا بهذا التوحيد إلا جعل الله له أعداء كما قال (وجعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالي (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم) فإذا عرفت أن الطريق إلي الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير

ص: 169


1- 78. ص 59 - 61 طبع المنار بمصر.

لك سلاحا تقاتل هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل لأقعدن لهم صراطك المستقيم لآتينهم من بين أيديهم (الآية) ولكن إذا أقبلت علي الله فلا تخلف (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان والسيف والسنان (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلي يوم القيامة. (ونقول) جعله علماء المسلمين كالشياطين الذين يصدون عن سبيل الله وقدحه في علومهم وكتبهم وحججهم لأنهم لا يوافقونه علي معتقده الفاسد كجملة من كلماته الشنيعة في حقهم السابقة والآتية خروج عن جادة الأدب وعما أمر الله تعالي به نبيه " ص " من المجادلة بالتي هي أحسن والدعاء إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ولو كان له دليل واضح لاكتفي به ولم يحتج إلي سوء القول في علماء المسلمين وحماة الدين وما أحقه بما وصمهم به وأشد انطباقه عليه وعلي أتباعه. قال: وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا (فنقول) جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة وهو قوله تعالي (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) وقد صح عنه " ص " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمي الله فاحذروهم. مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وإن الشفاعة حق والأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلاما للنبي " ص " يستدل به علي شئ من باطلها وأنت لا تفهم معني الكلام الذي ذكره فجاوبه بأن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه وكون كفر المشركين بتعلقهم علي المخلوقين وتشفعهم بهم محكم وما ذكرت لي لا أعرف معناه ولكن أقطع أن (كلام ظ) الله لا يتناقض وأن كلام النبي لا يخالف كلام الله وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهونه فإنه كما قال تعالي ولا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

ص: 170

(ونقول): ما أحقه بهذه الأوصاف التي وصف بها المسلمين. وأما إيصاؤه من يتبعه بأن يجعل كلام مخالفه من المتشابه ومعتقده هو من المحكم ليدخل مخالفه تحت (وأما الذين في قلوبهم زيغ " الآية ") فطريف جدا وما ندري ما الذي يجعل إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم وكون الشفاعة حقا والأنبياء لهم جاه عند الله من المتشابه. (فالمتشابه) كما ذكرناه في الأمر الثاني من المقدمة الثانية ما لا يكون ظاهر المعني لسبب من الأسباب وهذه الألفاظ معناها بين ظاهر فكيف جعلها من المتشابه. (قوله) أو ذكر كلاما للنبي " ص " يستدل به علي شئ من باطلها " أي الشفاعة " فجاوبه الخ. هذا خطأ منه في تعليم الاحتجاج والمجادلة فإنه إذا كان الحديث مجملا متشابها والوهابي لا يفهم معناه مع كونه من أهل العلم والفهم فكيف يستدل به العلماء وأهل المعرفة والفهم وإذا فرض فالجواب عنه سهل مختصر وهو أنه لا دلالة فيه لإجماله من جهة كذا ولا يحتاج إلي هذه المقدمة الطويلة العريضة والتبجح الزائد بقوله فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة وقوله فهذا جواب سديد الخ. ولعله يكون ظاهر الدلالة والمخاطب لا يفهم معناه لكونه أعرابيا نشأ في البادية ولم يتعلم وإن كان قلبه محشوا بالتوحيد فكيف يسوغ لمحمد بن عبد الوهاب أن يعلمه هذا الجواب. أما السر في هذه الوصية فهو أنه لما مني أصحابه الموحدين أن الواحد منهم يغلب الألوف من المشركين وعلم أنهم لا بد أن يغلبوا في كثير من مجادلاتهم أراد أن يعلمهم طريقا يرفع به عن نفسه خلف الوعد والكذب فيما وعدهم ومناهم به ويتخلصون به عندما يجابون بجواب فيعجزون عن رده وهو أن يقولوا لخصمهم: هذا الذي ذكرته متشابه وما نعتقده محكم والمتشابه لا يجوز التمسك به ولا يعارض المحكم. فهذه طريقة يمكن التخلص بها في كل مقام ومن كل إيراد، ولم يعلم أن المتشابه لا يكون متشابها بمجرد الدعوي بل له أسباب لا بد لمن يدعي التشابه من بيانها مثل كونه مشتركا بين معنيين ولا قرينة علي تعيين أحدهما أو أنه قامت قرينة علي عدم إرادة المعني الحقيقي ولم تعين المجازي ونحو ذلك. (ونظير هذه الوصية) ما حكي أن رجلا طلب للمحاكمة مع آخر فاسترشد صديقا له ما الذي ينبغي أن يفعله حتي لا يغلب فأوصاه باستعمال الانكار فلما حضر للمحاكمة ادعي عليه خصمه بمال فسأله القاضي عن اسمه فقال أنا منكر فقال هل أخذت منه هذا المال قال نعم ولكن أنا منكر فأمره القاضي بدفع المال فقال أنا منكر ولم يفهم المسكين أن الانكار بعد الاقرار لا يفيد. أما جعله كفرا شركا بتعلقهم علي الصالحين

ص: 171

وتشفعهم بهم من المحكم فقد عرفت وستعرف بما لا مزيد عليه أنه من الوهي والوهن بمكان وأنه لا أحكام فيه بل هو رقم علي الماء وإن جوابه لا شئ فيه من السداد. قال: (وأما المفصل) فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس. منها قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا " ص " لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم فجاوبه بما تقدم وهو إن الذين قاتلهم " ص " مقرون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبر شيئا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه فإن قال إنها نزلت فيمن يعبد الأصنام فكيف تجعلون الصالحين أصناما فجاوبه بما تقدم فإذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة وأراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين والأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم (أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب) ويدعون عيسي وأمه واذكر قوله تعالي (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شئ ولكن أرجو شفاعتهم فالجواب أن هذا قول الكفار بعينه (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي. هؤلاء شفعاؤنا عند الله) " قال ": وهذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم. (ونقول) يظهر فساد ما أطال به بلا طائل مما قدمناه من أن الذين قاتلهم رسول الله " ص " لم يقاتلهم علي مجرد التشفع بالصالحين إليه بل علي عدم قبولهم أحكام الإسلام وتكذيبهم له مع ظهور المعجزات علي يديه وارتكابهم الموبقات والعظائم وغير ذلك مما مر في صدر الكلام حتي من يعبد صور الصالحين من الأحجار المنحوتة أما قوله تعالي (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجعون رحمته ويخافون عذابه) فنزلت علي ما ذكره المفسرون في قوم من العرب كانوا يعبدون الجن أو كانوا يعبدون الملائكة وقيل كانوا يعبدون عيسي وعزيرا واعترضه الطبري في تفسيره بما حاصله: إن

ص: 172

الآية دالة علي وجودهم في عهد النبي " ص " وعزير وعيسي ليسا كذلك " انتهي " (وفي الكشاف): " أولئك " مبتدأ و (الذين يدعون) صفته و (يبتغون) خبره و (أيهم) موصولة بدل من واو يبتغون يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلي الله الذين هم أقرب منهم وأزلف فكيف بغير الأقرب " انتهي " فالآية دالة علي أنهم اتخذوهم آلهة من دون الله وعبدوهم وليس فيها ما يدل علي أنه لم يصدر منهم في حقهم إلا طلب شفاعتهم عند الله والتوسل بهم إليه وإن اشتملت علي لفظ الدعاء وإن المدعوين يبتغون إلي ربهم الوسيلة، لكن قوله لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا دال علي أنهم كانوا يعتقدون فيهم القدرة علي كشف الضر وتحويله عنهم بأنفسهم ولذلك عبدوهم واتخذوهم آلهة دون الله بدليل قوله تعالي: الذين زعمتم من دونه. ومع ذلك فقد كذبوا الرسل وعاندوهم. وأما من يعبد عيسي وأمه فحالهم أوضح وأظهر. والعجب كيف جعل عبادة عيسي وأمه وجعله إلها خالقا رازقا مدبرا للكون متحدا مع الله تعالي كمن يتشفع بصالح إلي الله! ما هذا إلا الجهل أو العناد. وكذلك جعله رجاء الشفاعة من الصالحين هو قول المشركين: ما نعبدهم إلا ليقربونا هؤلاء شفعاؤنا، واضح الفساد بما عرفت من صراحة الآيتين في وقوع عبادة منهم غير الشفاعة جعلت علة لها مرة وعطفت عليها أخري والعلة غير المعلول ومقتضي العطف التغاير كما سيأتي في فصل الشفاعة. وقال الصنعاني في تطهير الاعتقاد (1) ما حاصله بعد حذف تكريرات كثيرة وتقديم وتأخير: التوحيد قسمان توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها أي إن الله وحده هو الرب الخالق الرازق للعالم وهذا لا ينكره المشركون وتوحيد العبادة أي إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات وعدم عبادة غيره معه وهذا الذي جعلوا لله فيه الشركاء ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالي. والرسل والأنبياء من أولهم وهو نوح إلي آخرهم وهو محمد بعثوا لتقرير توحيد الربوبية كقولهم (أفي الله شك. هل من خالق غير الله. أغير الله اتخذ وليا. أروني ماذا خلق الذين من دونه. أروني ماذا خلقوا من الأرض). استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون ولم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير. والدعاء إلي التوحيد العبادة وإخلاصها والنهي عن شركها. قال الله تعالي (ولقد بعثنا في

ص: 173


1- 79. صفحة 3 - 16.

كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) فأفاد أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة (أن لا تعبدوا إلا الله. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) ولم ترسل الرسل لطلب توحيد الربوبية لأن المشركين مقرون به بدليل قوله تعالي (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم. قل من يرزقكم) الآيات المتقدمة في كلام ابن عبد الوهاب. وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السماوات والأرض ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم (أفمن يخلق كمن لا يخلق. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) والعبادة اعتقادية كالاعتقاد بالتوحيد ولفظية كالنطق بكلمته وبدنية كالصلاة ومالية كالزكاة. والعبادة أقصي باب الخضوع والتذلل ولم تستعمل إلا في الخضوع لله لأنه مول أعظم النعم فكان حقيقا بأقصي غاية الخضوع كما في الكشاف. ورأس العبادة وأساسها التوحيد الذي تفيده كلمته والمراد اعتقاد معناها وهو إفراد الله بالعبادة والإلهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه لا مجرد قولها وقد علم الكفار هذا المعني لأنهم أهل اللسان فقالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا) وقالوا (أجئتنا لنعبد الله وحده) أي لنفرده بالعبادة دون الأوثان فأنكروا إفراده بالعبادة وعبدوا معه غيره واتخذوا له أندادا قال تعالي (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك فالمشركون إنما أشركوا في العبادة ولم يشركوا في توحيد الربوبية وكانت عبادتهم للأصنام هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون ويقربونهم إلي الله زلفي ويشفعون لهم عنده فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم ولم يعبدوهم بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله زلفي وتشفع لهم لديه وقالوا وهم في النار: (تالله إن كنا لفي

ص: 174

ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا جعلوهم خالقين رازقين وكان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد فبعث الله محمدا " ص " يدعوهم إلي إفراد الله بالعبادة كما أفردوه بالربوبية وأن لا يدعوا مع الله أحدا قال تعالي: له دعوة الحق (الآية) وقال (وعلي الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) أي من شرط الصدق (كذا) بالله أن يفردوه بالتوكل كما يجب إفراده بالدعاء والاستغفار وهذه الحال التي أشرك بها السابقون بشرك العبادة هي بعينها حال المسلمين مع الأنبياء والصالحين وغيرهم فاعتقدوا فيهم أنهم يضرون وينفعون ويقربون إلي الله ويشفعون عنده فدعوهم ونادوهم في الشدائد والرخاء وهتفوا بأسمائهم واستغاثوا واستعانوا وتوسلوا وتشفعوا وحلفوا بهم وطلبوا منهم ما لا يطلب إلا من الله من عافية المريض وقدوم الغائب ونيل المطالب ونذروا لهم بأموالهم وأولادهم ونحروا علي قبورهم وطافوا بها وتبركوا وتمسحوا بها فصار الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام لأنه قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. وكما أن السابقين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم ذلك لأنهم مشركون بالعبادة فلم ينفعهم إقرارهم بالله لأنه نافاه فعلهم كذلك المسلمون وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية لم ينفعهم إقرارهم لأنه نافاه عملهم. فالمشركون لم يتخذوا الأصنام ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه والملائكة شركاء لله لأنهم أشركوهم في الخلق بل لأنهم يقربونهم إلي الله زلفي كما قالوه وإنهم شفعاء عند الله قال الله تعالي (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالي عما يشركون) فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا. فما يفعله المسلمون هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية وإنما يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا والأسماء لا تغير المعاني فمن شرب الخمر وسماها ماء ما شرب إلا خمرا ولعل عقابه أشد للتدليس والكذب وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها وصدق " ص " فإنه أتي

ص: 175

طوائف من الفسقة يشربون الخمر ويسمونها نبيذا وأول من سمي ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس فقال هل أدلك علي شجرة الخلد فسمي الشجرة التي نهي آدم عن قربانها شجرة الخلد جذبا لطبعه إليها وتدليسا عليه بالاسم الذي اخترعه لها كما يسمي إخوانه المقلدون الحشيشة بلقمة الراحة وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلما أدبا فيقولون أدب القتل أدب التهمة أدب المكاييل والموازين أو باسم النفاعة والسياقة وكذلك تسمية القبر مشهدا والرجل وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن لمعاملتهم لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج بالبيت ويستلمونهم استلامهم لأركانه ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية كقولهم علي الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد وكل قوم لهم رجل ينادونه فأهل العراق والهند عبد القادر الجيلي وأهل التهائم يقولون يا زيلعي يا ابن العجيل وأهل مكة والطائف يا ابن العباس وأهل مصر يا رفاعي يا بدوي والسادة البكرية وأهل الجبال يا أبا طير وأهل اليمن يا ابن علوان وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء وينادونه في الشدة والرخاء وهو عاكف علي القبائح لا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة ولا يكتسب حلالا ويضم إلي ذلك دعوي التوكل وعلم الغيب ويجلب إبليس إليه جماعة قد عشش في قلوبهم وباض فيها وفرخ يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا. فإفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله والنداء في الشدائد والرخاء والاستعانة واللجأ والنذر والنحر وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كلها لله ومن فعل ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار بهذه العبادة أو أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم ومن اعتقد في شئ من ذلك أنه ينفع أو يضر أو يقرب إلي الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إليه تعالي إلا ما ورد في حديث فيه

ص: 176

مقال في حق نبينا " ص " (1) أو نحو ذلك فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان وصار حلال المال والدم كما حلت دماء المشركين وأموالهم قال الله تعالي أنا أغني الشركاء عن الشرك لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره ولا يؤمن به من عبد معه غيره بل سمي الله الرياء في الطاعات شركا مع أن فاعلها ما قصد بها إلا الله وإنما أراد طلب المنزلة بها في قلوب الناس فلم تقبل وسماها شركا أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. عنه " ص " يقول الله تعالي (أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا وأشرك فيه معي غيري تركته وشركه) بل سمي الله التسمية بعبد الحارث شركا بقوله تعالي (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سمرة عنه " ص " لما حملت حواء وكان لا يعيش لها ولد طاف بها إبليس وقال لا يعيش لك ولد حتي تسميه بعبد الحارث فسمته فعاش وكان إبليس تسمي بالحارث. ثم قال (2) فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله وجعلوا لهم جزءا من المال وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عندها وهتفوا بهم عند الشدائد ونحروا تقربا إليهم وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم ولا استبعد أن فيهم من يفعل ذلك بل أخبرني من أثق به أنه رأي من يسجد علي عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيما له وعبادة. وقال (3) فإن قلت القبوريون يقولون نحن لا نشرك بالله تعالي ولا نجعل له ندا والالتجاء إلي الأولياء ليس شركا قلت يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم لكن هذا جهل منهم بمعني الشرك فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك وما يفعلونه عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين ولا ينفعهم قولهم نحن لا نشرك بالله شيئا لأن فعلهم أكذب قولهم. ثم قال: فإن قلت هم جاهلون إنهم مشركون بما يفعلونه قلت قد خرج الفقهاء في باب الردة أن

ص: 177


1- 80. المراد حديث سؤال الأعمي الآتي في الفصل الثالث في التوسل. - المؤلف -.
2- 81. ص 13.
3- 82. ص 11.

من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها وهذا دال علي أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا ومن نادي الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادي معه غيره فقد أشرك في العبادة. ثم أورد سؤالا بأنهم إذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلكه (ص) في المشركين وأجاب بأنه ذهب إلي هذا طائفة من أهل العلم وقال إنه يجب دعاؤهم إلي التوحيد ويجب علي العلماء بيان أن ما يفعلونه شرك وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم فإذا أبانت العلماء ذلك للأئمة والملوك وجب عليهم بعث دعاة إلي إخلاص التوحيد فمن رجع حقن عليه ماله ودمه وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله (ص) من المشركين ثم قال فإن قلت لا سواء لأن هؤلاء قد قالوا لا إله إلا الله وقد قال النبي (ص) أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقال لأسامة قتلته بعدما قال لا إله إلا الله وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين قلت قد قال (ص) إلا بحقها وحقها إفراد الألوهية والعبودية لله والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة فلم تنفعهم كلمة الشهادة فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء وبنو حنيفة كانوا يشهدون الشهادتين ويصلون لكنهم قالوا مسيلمة نبي فقاتلهم الصحابة وسبوهم فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حرق أصحاب عبد الله بن سبأ وكانوا يشهدون الشهادتين ولكن غلوا في علي واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأجمعت الأمة علي أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله فكيف بمن يجعل لله ندا وإنكاره (ص) علي أسامة قتله من قال لا إله إلا الله لأن من قالها من الكفار حقن ماله ودمه حتي يتبين منه ما يخالف ما قاله فإن تبين لم تنفعه هذه الكلمة كما لم تنفع اليهود ولا الخوارج مع عبادتهم التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلي جنبها بل أمر (ص) بقتلهم وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلي تحت أديم السماء كما ثبتت به الأحاديث فإن قلت القبوريون ومن يعتقد في فسقه الناس وجهالهم من الأحياء يقولون نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلت: هذا جهل بمعني العبادة فإنها لا تنحصر فيما ذكرت

ص: 178

بل رأسها وأساسها الاعتقاد وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقدا ويصنعون له ما سمعت مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا " انتهي ". والجواب: إن تقسيمه التوحيد إلي توحيد الربوبية وتوحيد العبادة تطويل بدون طائل فإنه لا شك في وجوب توحيد الباري تعالي في ذاته وصفاته وعبادته وجميع ما هو من لوازم الربوبية وصفات الكمال ونفي صفات النقص عنه ولا يحتاج إلي كل هذا التطويل والتكرير الذي اعتادوه ولا إلي إلي إكثار الشواهد القرآنية عليه ولا إلي الاستشهاد بإياك نعبد وأمثالها وإنما الذي ينفع بيان ما هي العبادة التي لا تليق بغير الله وإذا فعلت لغيره توجب الشرك والكفر هل هي مطلق التعظيم والخضوع والنداء والدعاء والاستعانة والاستغاثة والتشفع والتوسل والنذر والذبح والنحر وغير ذلك ليكون ما يفعله المسلمون داخلا فيها أو عبادة خاصة وهم لم يأتوا علي أن ما يفعله المسلمون داخل في ذلك ببينة ولا برهان بل البرهان علي خلافه قائم لما بيناه مرارا عند الكلام علي هذه الأمور إجمالا وتفصيلا من أن مطلقها ليس ممنوعا فضلا عن كونه كفرا وشركا وأن تعظيم من هو عظيم عند الله والخضوع له والاستغاثة والتشفع والتوسل بمن جعله الله مغيثا شافعا وجعل له الوسيلة كلها عبادة لله وأن النذر والذبح والنحر الذي يفعله المسلمون هو لله تعالي وعباده وطاعة له فجميع هذه الأمور سواء سميت عبادة أو لا لا تعد شركا ولا كفرا لأن الممنوع منه الموجب للشرك هي عبادة خاصة وهي ما كان عن غير أمر الله أو عنادا له أو بقصد الاستحقاق الذاتي كاستحقاق الله أو نحو ذلك مع أن قوله إن جميع الرسل بعثوا لتقرير توحيد الربوبية والدعاء إلي توحيد العبادة ولم يبعثوا للدعاء إلي توحيد الربوبية جهل محض فإن الأمم التي بعثت إليها الرسل منها من كان يعتقد في عيسي الإلهية ويثبت له جميع صفاتها كما مر في رد كلام ابن عبد الوهاب فكيف يقول إن جميع من بعثت إليهم الرسل موحدون بتوحيد الربوبية، ومنه يعلم فساد قوله إن من اتخذوا المسيح وأمه لم يتخذوهم لأنهم أشركوهم في الخلق بل لأنهم يقربونهم إلي الله زلفي ومنها من كان ينكر الله تعالي وينكر البعث وهم الذين قالوا كما حكي الله تعالي عنهم في كتابه العزيز: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيي وما يهلكنا إلا الدهر، ففي تفسير الطبري يقول الله مخبرا عن هؤلاء

ص: 179

المشركين أنهم قالوا وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام وطول العمر إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم. وفي مجمع البيان أي ما يميتنا إلا الأيام والليالي أي مرور الزمان وطول العمر إنكارا منهم للصانع. وفي تفسير الرازي أن الله حكي عنهم شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قولهم ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيي وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار فقولهم وما يهلكنا إلا الدهر يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركة الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع وإذا وقعت تلك الامتزاجات علي وجه خاص حصلت الحياة وإذا وقعت علي وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة والموت تأثير الطبائع وحركة الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلي إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة وفي تفسير النيشابوري، إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتي ضموا إليه إنكارا المبدأ قائلين وما يهلكنا إلا الدهر " انتهي ". ثم إن قوله تعالي اعبدوا الله ولا تعبدوا إلا الله ليس صريحا في طلب توحيد العبادة فقط لجواز أن يعبر باللازم عن الملزوم فيكون قد طلب إفراد الله بالعبادة وملزومه الذي هو إفراده بالربوبية. ثم إن تقسيمه العبادة إلي اعتقادية ولفظية وبدنية الذي اختصرناه. وقوله: إن العبادة أقصي غاية الخضوع وإن مستحقها الله تعالي لإيلائه أعظم النعم كما نقله عن الكشاف لا يظهر لذكره في هذا المقام فائدة بل هو تطويل بلا طائل كما هي عادتهم في التطويل بتكرر المعني الواحد وإعادته مرارا كثيرة كما وقع في كلامه من تكرير القول بأن الأنبياء بعثوا للدعاء إلي توحيد العبادة لا توحيد الربوبية مرارا كثيرة وقد اختصرناه ووجه كون ذلك تطويلا بلا طائل أنه لا ينكر أحد إن الحقيق بغاية الخضوع والتذلل هو الله تعالي ولكن الذي ينفع هو إثبات أن كل خضوع وتذلل لغير الله هو عبادة له موجبة للشرك والكفر وأني لهم بذلك بل هو بكلامه هذا رد علي نفسه فإنه جعل العبادة الخاصة بالله تعالي هي غاية الخضوع والتذلل فدل علي أن مطلق الخضوع والتذلل ليس كذلك وتقسيم العبادة لا مساس له بما هو بصدده وكذا قوله إن رأس العبادة وأساسها التوحيد وإن المراد معني كلمة الشهادة لا مجرد قولها تطويل بلا طائل إذ لا ينكر أحد ذلك ومن التطويل بلا طائل قوله وقد علم الكفار هذا المعني الخ كما لا يخفي. أما رجز التلبية الذي استشهد به فهو عليه لا له فإنهم بعدما جعلوا الأصنام شركاء لله يعبدونها بأنواع العبادة التي نهي الله

ص: 180

عنها ولم يقع منها من أحد من المسلمين كما ستعرف لا ينفعهم قول: هو لك تملكه وما ملك. قوله: وكانت عبادتهم للأصنام اعتقادهم أنهم يضرون وينفعون الخ جعل تارة عبادة الأصنام هي اعتقاد أنهم يضرون وينفعون ويشفعون المتفرع عنه النحر لهم والطواف بهم والنذر عليهم والذل والخضوع والسجود لهم وتارة جعل عبادتهم هي الخضوع والتقرب بالنحر والنذر المتسبب عن اعتقاد الشفاعة ولا يخفي تهافت ذلك وتناقضه وسواء كانت عبادة الأصنام هي الاعتقاد المذكور المتفرع عنه تلك الأفعال أو تلك الأفعال المتفرعة عن الاعتقاد المذكور أو هما معا فقياس حال المسلمين بهم قياس فاسد وجهل محض كما علم مما مر في الرد علي ابن عبد الوهاب. فالمشركون كذبوا الرسول " ص " وأنكروا ما جاء به ومنهم من قال عيسي هو الله. والمسلمون أقروا بالله وبرسوله وبكل ما جاء به فكيف يقاس أحدهما بالآخر وجعل مساويا له هل هذا إلا الضلال نعوذ بالله منه. والمشركون اعتقدوا في أحجار وأشجار وجمادات لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تغيث ولا تشفع سواء كانت صور صالحين أو غيرهم فالشافع الصالح لا صورته أنها تضر وتنفع وتغيث وتشفع فتشفعوا واستغاثوا بها وعظموها ولم يجعل الله لها شيئا من ذلك بل نهي عن التشفع والاستغاثة بها وتعظيمها. والمسلمون اعتقدوا أن الأنبياء والصالحين ينفعون بدعائهم وشفاعتهم أحياء وأمواتا كما نصت عليه أحكام دينهم وأدلته التي ستعرفها والتي أثبتت لهم الشفاعة والدعاء ويضرون بترك ذلك وبالبعد عن نيل بركتهم وهو اعتقاد صحيح مطابق لأدلة الدين الإسلامي فطلبوا منهم ما جعله الله لهم من دعائه والشفاعة لديه. والمشركون عظموا ما لا يستحق التعظيم سواء كان صورة صالح متوهمة أو غيره فإن الصورة لا تستحق تعظيما فإنها إن كانت مجسمة فعملها حرام وإتلافها واجب وإن كانت غير مجسمة فعملها حرام أو مكروه وإتلافها واجب أو مستحب وطافوا وتبركوا بما لم يجعله الله مباركا. والمسلمون عظموا من أمر الله بتعظيمه حيا وميتا وجعله معظما من الأنبياء والصالحين وقبورهم وطافوا وتمسحوا وتبركوا بها لتشرفها بأجسادهم الشريفة كما تشرف الجلد المعمول للمصحف فهل يسوي بين هؤلاء وهؤلاء إلا جاهل مضل أو معاند. والمشركون عبدوا تلك الأحجار والأشجار بأنواع العبادات التي نهاهم الله تعالي عنها فسجدوا لها وذبحوا ونحروا لها مهلين بأسمائها علي ذبائحهم دون اسم الله تعالي وطلوها بدمائها وأعرضوا عن عبادة الله بالكلية وقالوا لا قدرة لنا علي

ص: 181

عبادته فنحن نعبدها لتقربنا إليه واعتقدوا أن لها شرفا ذاتيا واستحقاقا للعبادة بالاستقلال واختيارا وتدبيرا وكانوا يقولون (اعل هبل) قاصدين أن تكون كلمة الأصنام ودين الجاهلية هي العليا وكلمة الله ودين الإسلام هي السفلي فأجابهم النبي " ص " بقوله: (الله أعلي وأجل) فأعرضوا عن ذكر الله واكتفوا بذكرها وكذبوا الرسل الذين نهوهم عن عبادتها ولم يكتفوا بذلك بل بدلوا دين الله وغيروا أحكامه ومنهم من عبد الملائكة وسماهم بنات الله. والمسلمون لم يعبدوا نبيا ولا صالحا ولا قبره بل عبدوا الله وحده فلم يسجدوا لقبر ولا لولي ولم يذبحوا له ولم يذكروا اسمه علي ذبيحتهم بل ذبحوا لله وحده وذكروا اسمه علي المذبوح وأهدوا ثواب الصدقة بالذبيحة إليه فهل يسوي بين عمل المسلمين هذا وعمل المشركين إلا جاهل أو مكابر. وسيأتي لهذا مزيد توضيح في الباب الثالث ومر في رد كلام ابن عبد الوهاب في هذا الباب ما له علاقة بالمقام فراجع. ومن ذلك يظهر فساد استشهاده بآية إذ نسويكم برب العالمين، وإن المسلمين بتشفعهم وتبركهم وتعظيمهم لمن جعله الله شافعا مباركا عظيما لم يسووه برب العالمين. قوله: ومنهم من كان يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد. قد عرفت في رد كلام ابن عبد الوهاب إن عبادتهم للملائكة لم تكن مجرد التوسل والتشفع الذي يقع مثله من المسلمين فلا نطيل بإعادته. قوله: وأن لا يدعوا مع الله أحدا ستعرف في فصل الدعاء أن المنهي عنه ليس هو ما يقع من المسلمين من طلب الشفاعة وأن آية له دعوة الحق لا دلالة فيها علي شئ مما يزعمونه. قوله: كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. كيف ذكر ما قاله علماء البيان هنا ونسي ما قالوه في باب المجاز العقلي من أن قول أنبت الربيع البقل إذا صدر من المسلم كان مجازا عقليا من باب الإسناد إلي الزمان وإذا قاله الدهري كان حقيقة ولم يعمل به في طلب المسلمين من النبي أو الولي عافية المريض أو قدوم الغائب ونحو ذلك فيجعله مجازا عقليا من باب الإسناد إلي السبب وقرينته ظهور حال المسلم كما جعل أهل البيان انبت الربيع البقل مجازا عقليا وقرينته صدوره من مسلم بل كفر به المسلمين واستحل أموالهم ودماءهم. قوله: فاعتقدوا أنهم يضربون وينفعون تقدم الكلام علي مثله آنفا فراجع. قوله: ويقربون إلي الله ويشفعون عنده. نعم يقربون إلي الله بدعائهم لنا ويشفعون لنا عنده. ودعاء المؤمن لأخيه فضلا عن النبي والشفاعة لا ينكرها الوهابية كما ستعرف أما الأحجار والأشجار فليست لها هذه الصفة فبطل القياس. قوله: فدعوهم إلي قوله وتمسحوا بها سيأتي الكلام

ص: 182

عليه مفصلا في الفصول الآتية إن شاء الله وباقي كلامه يفهم رده مما مر. قوله: فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا سيأتي الكلام عليه مفصلا في فصل الشفاعة وإن هذه الدعوي محض افتراء علي الله تعالي وإن اتخاذ الشفعاء الذين جعل الله لهم الشفاعة كنبينا " ص " هو عين إطاعة الله تعالي وإن جعله شركا من أعظم الموبقات وأقبح الافتراءات عليه تعالي وكذا بقية كلامه الذي من هذا القبيل. قوله: والأسماء لا تغير المعاني. نعم لا تغيرها فتسمية الوهابية الأنبياء والأولياء وقبورهم ومشاهدهم أوثانا لا تجعلها أوثانا وتسميتهم طاعة الله وما أمر به من تعظيم أوليائه والتشفع بهم شركا لا تجعله شركا وتسمية أنفسهم الموحدين لا تجعلهم كذلك بعدما نسبوا إلي الله التجسيم ولوازم الحدوث. وقياسه تسمية القبر مشهدا والرجل وليا بمن يسمي الخمر نبيذا والشجرة المنهي عنها شجرة الخلد والحشيشة لقمة الراحة والظلم أدبا قياس فاسد وجهل محض فالمسلمون سموا محل القبر مشهدا بكرم صاحبه علي الله ومكانته عنده وشرفه لديه بإخلاصه له في العبودية وتشرفه بجسده تشرف الأديم والورق والمداد بكلام الله تعالي وسموا من أخلص لله في العبودية والطاعة وليا كما سماه الله تعالي بقوله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " الآية ". ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وغير ذلك. نعم قد يطلق اسم الولي علي من لا يستحق ذلك لكونه معتوها أو مشعوذا أو مع كونه جاهلا أو فاسقا ولكن هذا لا يوجب أن يكون إطلاقه علي أهله خطأ وإثما. وكون بعض الناس قد يعتقد في فسقة الأحياء وجهالهم لا يوجب فساد اعتقادهم في شفاعة الأنبياء والأولياء وطلب دعائهم. أما استدلاله علي كون ما يسمي مشهدا أو وليا هو وثن وصنم بأنهم يعاملونها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج بالبيت ويستلمونهم استلامهم لأركانه فيظهر فساده مما ستعرف في الفصول الآتية فإن طوافهم بقبورهم واستلامهم لها تبركا بها وبمن فيها لمكانتهم عند الله وشرفهم عنده بإخلاصهم له في العبودية وبذلهم أنفسهم في طاعته هو طاعة لله الذي جعلهم مباركين وميزهم عن عباده كما ميز البيت وأركانه وشرفها بالطواف والاستلام وهي أحجار وجماد لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ومن ذلك تعرف أنه لم يعامل أحد الأنبياء والأولياء وقبورهم معاملة الأصنام بل عاملوهم بما أمر الله أن يعاملوهم به وأن هتافهم بهم لطلب الدعاء والشفاعة الذي لا محذور فيه. أما قولهم علي

ص: 183

الله وعليك فلا يراد به إلا علي الله قضاء حاجتي وعليك الشفاعة عنده ودعاؤه في قضائها وهذا مقصد صحيح لا مغمز فيه ولا محذور ولا يريدون مساواته بالله تعالي في القدرة والطلب منه فهو نظير قوله تعالي: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله) فكيف نسب الله الايتاء إليه وإلي رسوله علي السواء في ظاهر اللفظ وأمر المسلمين أن يقولوا ذلك ولم يكن ذلك شركا وكان قوله علي الله وعليك شركا وكفرا وهو مثله ونظيره ولو فرض جهل مقصدهم لوجب الحمل علي ما ذكرنا لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم علي الصحيح مهما أمكن كما مر في المقدمات وكذا هتافهم بأسمائهم عند الشدائد لا يراد به إلا ذلك كما تكرر بيانه واتفاق أهل جميع بلاد الإسلام علي المناداة بذلك واستمرار سيرتهم عليه أقوي دليل علي إجماع المسلمين علي ذلك وأخذ الخلف له عن السلف وإجماع المسلمين وسيرتهم حجة كما مر في المقدمات. أما قوله: إن إفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم الخ فهو علي إطلاقه بالنسبة إلي الدعاء والنداء والاستعانة والخضوع والتذلل وأمثال ذلك فاسد لما عرفت وستعرف من أن مطلق هذه الأمور لا يكون عبادة منهيا عنها أو موجبا للشرك وأن الممنوع منه ما كان خلافا علي الله ومعاندة لأمره وتعبدا بما لم يأذن به وأن ما يفعله المسلمون خارج عن ذلك كله وأما النذر والنحر فيأتي كل منهما في فصله. قوله: من اعتقد في شئ من ذلك أنه ينفع أو يضر، مر الكلام في مثله ويشمل كلامه هذا من سأل رجلا أن يدعو له واعتقد أنه ينفعه بدعائه ومن اعتقد في شخص أنه يضره بدعائه عليه أو نحو ذلك ومن اعتقد في شخص حي أنه ينفعه ببره أو يضره بشئ من مضار الدنيا فيلزم كفر الجميع. قوله: أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيابمجرد التشفع الخ سيأتي الكلام عليه في فصل الشفاعة. أما الحديث الذي قال إن فيه مقالا فهو حديث سؤال الأعمي الآتي في فصل التوسل حيث أمره النبي (ص) أن يتوسل به إلي الله وستعرف انتفاء كل مقال عنه وإذا كان التوسل به (ص) في حياته ومماته شركا وكفرا كما يقتضيه قوله حي أو ميت فيلزم القطع بكذب هذا الحديث لا أن يكون فيه مقال. أما استشهاده بالحديث القدسي: أنا أغني الشركاء الخ فغريب لأنه وارد في الرياء كما صرح به بعد ذلك وأنه تعالي لا يقبل عمل المرائي وتسمية الرياء شركا في الأخبار من باب المجاز والمبالغة كتسمية بعض الذنوب كفرا كما بيناه في الأمر الخامس من المقدمة الثانية وإلا فلم يقل أحد بأن المرائي صار كافرا مشركا حلال

ص: 184

المال والدم حتي يتوب ولا نظن أن الوهابيين يلتزمون بذلك وإن كان لا يستبعد شئ من جمودهم وتعسفهم وتعنتهم وقد صرح بعضهم في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) بأن الرياء لا يخرج عن الملة وأنه شرك أصغر ومن ذلك ظهر أن استشهاده أخيرا بتسمية الرياء شركا لا محل له، أما استشهاده بتسمية حواء ولدها بعبد الحارث بأمر من إبليس الذي تسمي الحارث وتسمية الله له شركا فعجيب فإن إبليس ما أراد بأمرها أن تسميه بعبد الحارث أي عبد الشيطان إلا أن يكون عبدا له كما هو عبد الله فإذا أطاعته حواء في ذلك فقد جعلت له شريكا فيما آتاها فهل يقاس بذلك المتشفع إلي الله بمن جعل الله له الشفاعة والمعظم لمن جعله الله عظيما والمتبرك بمن جعله مباركا إلي غير ذلك، قوله: والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم. لا كلام لنا فيمن يعتقد في جهال الأحياء والأموات وضلالهم فنحن لا نعتقد فيهم ونخطئ من يعتقد فيهم وإنما كلامنا في الأنبياء والأولياء والصلحاء، قوله: فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله إلي قوله: ونحروا تقربا إليهم. قد عرفت أننا لم نعتقد فيهم إلا ما جعلهم الله له أهلا. وستعرف أنه لم يجعل أحد لهم جزءا من المال وإنما ينذر الصدقة وإهداء الثواب إليهم الذي ثبت جوازه في الشرع وأن زيارة قبور الأنبياء والصلحاء والقصد إليها مما يتقرب به إليه تعالي وأن الطواف حول قبورهم التي بوركت بهم كما بورك جلد الشاة والورق بالمصحف والخضوع عندها احتراما لأهلها لا محذور فيه هو إطاعة لله تعالي وأن الهتاف بأهلها عند الشدائد لطلب دعائهم وشفاعتهم لا مانع منه وأن النحر هو تقرب إلي الله لا إليهم وإنما يهدي ثواب الصدقة بالمنحور لهم وأنه ليس في شئ من ذلك شائبة العبادة لغيره تعالي. (أما السجود علي العتبة) الذي حكاه عمن يثق به فالذي نظنه أن هذا المخبر رأي من يقبل العتبة فظنه سجودا وتقبيل العتبة كتقبيل الضريح تعظيما له وتبركا به لا مانع منه ولا محذور فيه، وإن أباه جمود الوهابية وتعنتهم وستعرف ذلك في فصل التبرك بقبور الصالحين باللمس والتقبيل وغير ذلك وإن صح ما نقل من السجود علي عتبة مشهد الولي ولا نظنه صحيحا فيجب حمله علي السجود لله تعالي شكرا له علي التوفيق لزيارة النبي أو الولي التي ثبت أنها طاعة كما ستعرف إذ لا يظن ولا

ص: 185


1- 83. ص 25.

ولا يحتمل بمسلم السجود لغير الله وهو يعلم أنه غير جائز فما دام له محمل صحيح لا يجوز حمله علي الفاسد ولا يجوز الحكم بكفر فاعله كما مر في المقدمات، نعم الأرجح تركه لأنه موهم للسجود لغير الله، قوله: هذا جهل منهم بمعني الشرك. قد ظهر بما عرفت وستعرف أنه أحق بنسبة الجهل إليه. قوله: فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك. بل تعظيم من عظم الله من الأنبياء والأولياء والصلحاء من أعظم الطاعات لله تعالي ونسبة فاعلها إلي الشرك وعدم تعظيمهم بل إهانتهم بهدم قبورهم وجعلها معرضا لكل هوان من أعظم الموبقات التي إن لم تكن كفرا لمخالفتها إجماع المسلمين بل ضرورة الدين لا تنقص عن الكفر والشرك وقد عرفت مما ذكرناه أن ما يفعله المسلمون بعيد عما فعله المشركون أكثر من بعد السماء عن الأرض وأن أفعالهم تصدق أقوالهم ولا تكذبها، قوله: خرج الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها. قد مضي في رد كلام ابن عبد الوهاب أن الذي ذكره الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر استهزاء أو عنادا أو اعتقادا كفر لا مطلق من قالها، قوله: وهذا دال علي أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد بل ما عرفت دال علي أنه ومن تبعه لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا الشرك ويرمون المسلمين بما هم منه براء. وأفحش من هذا كله قوله: فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، افتراء تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا أن يكون المسلمون المقرون لربهم بالوحدانية ولنبيه بالرسالة والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والقائمون بجميع فروض الإسلام كفارا كفرا أصليا موجبا لحل دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لماذا؟! لأنهم يسألون الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة ويستغيثون بمن جعله الله مغيثا ليدعو الله لهم في نجاح مطالبهم وهم لا يعتقدون إلا أنه نبي شرفه الله بالرسالة ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بأمر الله تعالي، قوله: فمن نادي الله إلي قوله: فإن الدعاء من العبادة الخ، ستعرف تفصيل الجواب عنه بما لا مزيد عليه في فصل الدعاء والاستغاثة وإن طلب الشفاعة والاستغاثة بمن جعله الله شافعا ومغيثا لا يدخل في ذلك وقد بان من ذلك انهدام ما بناه علي هذا الوهم الفاسد من الأسئلة والأجوبة الفاسدة بقوله: إذا كانوا مشركين وجب جهادهم الخ. والسؤال الذي بعده المتضمن لقصة أسامة وجوابه المتضمن تشبيه المسلمين بطلبهم الشفاعة من النبي " ص " واستغاثتهم به ليدعو الله

ص: 186

لهم باليهود المنكرين بعض الأنبياء المتمسكين بشريعة منسوخة وببني حنيفة القائلين إن مسيلمة نبي أو الذين اعتل لقتلهم بمنع الزكاة التي وجوبها من الضروريات وبأصحاب عبد الله بن سبأ القائلين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنت الله (1) وبمنكري البعث وبالخوارج الذين هم أشبه الناس بالوهابية كما عرفت في المقدمات والذين أنكروا حب علي بن أبي طالب وهو من ضروريات الإسلام واستحلوا دماء المسلمين وكفروهم كما أنكر الوهابيون حرمة قبر رسول الله " ص " ووجوب تعظيمه وهي من ضروريات الدين وجعلوه وثنا وصنما واستحلوا دماء المسلمين وكفروهم، قوله: هذا جهل بمعني العبادة فإنها لا تنحصر فيما ذكرت بل رأسها وأساسها الاعتقاد الخ كأنه يريد أنهم يعتقدون فيهم أنهم يقدرون علي ما يطلب منهم فيصنعون ما يتفرع عن الاعتقاد من الدعاء والنداء الخ، فنقول: هذا جهل منه واضح فالمتشفعون والمتوسلون من المسلمين بالأنبياء والأولياء والصالحين لا يعتقدون فيهم أنهم يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا وأن الأمر كله لله وإنما يعتقدون فيهم ما جعلهم الله له أهلا من الشفاعة والوسيلة وإجابة الدعاء وأنه ميزهم علي غيرهم من الخلق وقربهم منه بطاعتهم له فمعتقد ذلك فيهم مصيب لا مخطئ فلذلك يدعونهم ليشفعوا لهم عند من جعل لهم الشفاعة ويتوسلون بهم إلي من جعل لهم الوسيلة ويستغيثون ويستعينون بهم ليسألوا الله في قضاء حوائجهم ويحلفون بهم لأن لهم قدرا وشأنا عند الله تعالي بإطاعتهم وستعرف في فصل الحلف أنه لا محذور فيه وينذرون النذور ويهدون ثوابها إليهم إلي غير ذلك فهذا الاعتقاد لا مساس له بالعبادة حتي يجعل اسها ورأسها والمتفرع عنه لا ضرر فيه ولا محذور، قوله: وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا، فمع إنا لم نر ذلك في كلام العلماء ولو فرض فلا دليل عليه وإنما يكون آثما. فيه أن قياسه بما يفعله المسلمون قياس فاسد لما عرفت من أن ما يصدر من المسلمين لا محذور فيه والعجب من هؤلاء تارة يجعلون ما ينسبونه إلي العلماء حجة وتارة يكفرون جميع المسلمين عالمهم وجاهلهم ولا يعبأون بما استمرت عليه سيرتهم جيلا بعد جيل، قوله: ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا، أقول: قد عرفت أنهم يكفرونه بذلك إذا قالها استهزاء أو عنادا أو اعتقادا لا مطلقا كما يقتضيه كلامه. قوله: فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا. قد عرفت أنه لم يعتقد إلا ما هو الواقع ولم يقل ولم يفعل إلا ما هو الصواب.

ص: 187


1- 84. إن صح ذلك، فقد ثبت أن عبد الله بن سبأ شخصية وهمية لا وجود لها إلا في الخيال، راجع كتاب عبد الله بن سبأ للسيد مرتضي العسكري. " الناشر ".

وقال ابن تيمية في رسالة الواسطة (1) في جواب مسألة عن رجلين تناظرا فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك: إن أراد أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، إلي أن قال: وإن أراد أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار، إلي أن قال: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين، إلي أن قال: ومن أثبت مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وخلقه كالحجاب بين الملك ورعيته يكونون هم يرفعون إلي الله حوائج خلقه فالله إنما يهدي ويرزق بتوسطهم فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله تأدبا أو لأن سؤالهم أنفع لقربهم فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل " انتهي ". والجواب: أن ما ذكره من القول بأنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار أو إن المشايخ وسائط كالحجاب بين الملك ورعيته والله لا يهدي ولا يرزق إلا بتوسطهم غير موجود لأحد من المسلمين فسواء كان جعل ابن تيمية له كفرا وشركا صوابا أو خطأ لا يضر أحدا وذكره له تطويل بلا طائل فلا نطيل برده وإن كانت دعواه الاجماع علي التكفير بالأول غير ثابتة ولا مستند لها ومن الذي عنون هذه المسألة الفرضية وتكلم علي حكمها من المسلمين حتي يدعي إجماعهم علي ذلك علي أن مجرد سؤال غفران الذنب وتفريج الكرب ونحو ذلك لا يعد غلطا وخطأ وفضلا عن أن يكون شركا وكفرا لأنه محمول علي الصحة من باب المجاز في الإسناد بإرادة الإسناد إلي السبب كما فصلناه في المقدمات وفي تضاعيف ما مر كما أن حكمه بكفر وشرك من أثبت المشائخ واسطة علي النحو المذكور واستحلال دمه إن لم يتب. لو فرض وجود من يعتقد ذلك لا دليل عليه وهو تهجم علي الدماء وتقول علي الله لأن الظاهر مراده أنهم وسائط وشفعاء إلي الله في ذلك لا أنهم يفعلونه من أنفسهم كما صرح به في قوله: ومن أثبت مشايخ العلم إلي قوله: فالخلق

ص: 188


1- 85. ص 66 - 70 طبع المنار بمصر.

يسألونهم وهم يسألون الله تأدبا. ودعوي أنها كعبادة الأصنام والاعتقاد فيها يدفعها ما مر ويأتي مفصلا من أن عبادة الأصنام وإشراك عابديها ليس من هذا القبيل، نعم اعتقاد ذلك غلط وخطأ أما إن معتقده كافر مشرك فلم يقم عليه دليل أن لم يقم علي عدمه. وذكر الجبرتي في حوادث سنة 1218 أن الوهابي أرسل كتابا إلي شيخ الركب المغربي ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته وفيها بعد المقدمة ما نصه: أن الرسول (ص) أخبرنا بأن أمته تأخذ مآخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه (ص) لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتي لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصاري قال فمن. وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان علي مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوي من حوادث الأمور التي أعظمها الاشراك بالله والتوجه إلي الموتي وسؤالهم النصر علي الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات وكذلك التقرب إليهم بالنذر وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلي غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وصرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالي أغني الأغنياء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالي (فاعبدوا الله مخلصين له الدين إلا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي) فأخبر سبحانه أنه لا يرضي من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلي الله زلفي ويشفعوا لهم عنده وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار. وقال تعالي (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلي قوله: سبحانه وتعالي عما يشركون) فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وهو لا يرضي إلا التوحيد (1) (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي) فالشفاعة

ص: 189


1- 86. ولا موحد إلا الوهابيين فلا شفاعة إلا لهم. - المؤلف -.

حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) فإذا كان الرسول (ص) وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر لله ساجدا فيحمده بمحامده يعلمه إياها ثم يقال إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي (ص) أمته وحذر منها كما في الحديث: لا تقوم الساعة حتي يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتي تعبد فئام من أمتي الأوثان وهو " ص " حمي جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يؤدي إلي الشرك فنهي أن يجصص القبر وأن يبني عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب وأمره أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية علي القبور لأنها أسست علي معصية الرسول " ص " فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله " ص " وإجماع السلف الصالح من الأمة ممتثلين لقوله تعالي: وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. إلي أن قال: ونعتقد أيضا أن أمة محمد المتبعين للسنة لا تجتمع علي ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته علي الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم علي ذلك " انتهي ". والجواب عما تضمنه هذا الكتاب مما روي عنه " ص " من اتباع هذه الأمة سنن الأمم قبلها كاليهود والنصاري: أنه لا يبعد أن يكون النبي " ص " أشار به إلي الوهابية فأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وقد ورد في الحديث أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم، وهؤلاء قلدوا محمد بن عبد الوهاب في كل ما يقوله فحرم عليهم حلالا كالتشفع والتوسل بذوي المكانة عند الله ونحو

ص: 190

ذلك وحلل لهم حراما وهو سفك دماء المسلمين واستباحة أموالهم وأعراضهم فاتبعوه بدون تحقيق ولا تمحيص للأدلة حتي كأن كلامه وحي منزل وهو ممن يجوز عليه الخطأ وأدلته التي يستدل بها كلها ضعيفة واهية كما بيناه في هذا الكتاب وهم يأخذونها بالقبول ولا يقبلون عليها ردا ولا في مقابلها دليلا ولا يحيدون عنها قيد أنملة ولا يزيدون عليها ولا ينقصون منها كلمة واحدة ويتوارثها آخرهم عن أولهم بلفظ واحد ومعني واحد ويسمون أنفسهم بالسلفيين أي إنهم أتباع السلف وإذا أورد لهم شئ من أقوال السلف يخالف معتقدهم لا يتحاشون من نسبة قائله إلي الشرك والكفر ويقولون مقتدانا الكتاب والسنة فهم في خطأ علي الحالين فإن أقوال السلف ليست وحيا منزلا ولا أصحابها معصومون من الخطأ حتي نقلدهم علي كل حال وإذا جاز تقليدهم فما بالنا نقلدهم تارة ونكفرههم أخري وستعرف في الفصول الآتية مخالفة السلف للوهابيين في الشفاعة والتوسل وزيارة القبور والبناء عليها وغير ذلك مما تجده في تضاعيف هذا الكتاب. وأما ما تضمنه الكتاب المذكور من الحديث القائل إن الفرقة الناجية هي من كان علي مثل ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه فهو من البديهيات والضروريات التي لا تحتاج إلي الاستدلال بالأحاديث وإطالة الكلام إذ لا شك في أن متبع النبي " ص " ناج ومخالفه هالك وإلا لم يكن نبيا وقد قال الله تعالي وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. وما كان عليه النبي " ص " هو دين الإسلام وأصحابه اقتدوا به واتبعوه عليه فالميزان في الحقيقة هو ما كان عليه النبي " ص " فقط لأن اتباع أصحاب النبي " ص " المتبعين له اتباع له " ص " وإن خالفوه لم يجز اتباعهم وأي مسلم يشك في وجوب اتباع النبي " ص " دون غيره. اللهم إنا لا نتبع إلا طريقة رسولك وسنته ونبرأ إليك ممن خالفها ولو ظهر لنا أن الاستغاثة والتشفع والتوسل بذوي المكانة عندك وتعظيم قبور الأنبياء والصالحين تخالف سنة نبيك " ص " لكنا أول من تبرأ منها. وهذا ليس محلا للكلام ولا محطا للأنظار وإنما محل الكلام معرفة ما كان عليه النبي " ص " واتبعه عليه أصحابه فقد وقع الاختلاف الكثير فيه بين المجتهدين وعلماء المسلمين فما أثبته هذا نفاه ذلك (وكل يدعي وصلا بليلي) وكل يقول إن قوله هو ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه، لا يوجد من يقول إني لا أتبع ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه بل الصحابة أنفسهم اختلفوا في مسائل عديدة ليس هذا محل تفصيلها وستعرف أن الاستغاثة بذوي المكانة طلبا لدعائهم والاستشفاع بهم إليه والبناء علي القبور والصلاة

ص: 191

عندها سيرة المسلمين خلفا عن سلف وسيرة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وقد اعترف صاحب الكتاب بحجية إجماع السلف الصالح وإن الأمة لا تجتمع علي ضلالة وتقييده الأمة بالمتبعين للسنة لا يظهر له معني ولا فائدة إذ لا يوجد مسلم تظهر له سنة رسول الله " ص " ويقول لا أتبعها وإنما أراد بذلك أن يحفظ لنفسه خط الرجعة فيحصر اتباع السنة بالوهابيين فقط حينما يحتج عليه أحد بإجماع الأمة وأني له ذلك فإن ثبت قول الرسول " ص " لا تجتمع أمتي علي ضلالة كان ذلك دالا علي أن ما اتفقوا عليه هو من سنته وعلي طبق شريعته فهذا القيد الذي قيد به فضول فاسد. ومر في المقدمات أن سيرة المسلمين وإجماعهم كاشف عن أن ذلك مما كان عليه النبي " ص ". قوله: وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين وأجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ستعرف في الفصول الآتية عدم صحة هذه الدعوي وأن الذي أجمع عليه السلف الصالح وعلماء المسلمين خلاف ما عليه الوهابية. أما باقي الكتاب فيفهم رده مما مر في كلام ابن عبد الوهاب والصنعاني فإن كلماتهم كلها تدور علي محور واحد. وعن تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي أنه حكي عن عبد اللطيف حفيد ابن عبد الوهاب أنه قال: ذكر طرف من معتقد المغالين في القبور والصالحين. ونذكر لك طرفا من معتقد هؤلاء ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعا وتوسلا مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق. من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا الله والعكوف حول أجداثهم وتقبيل أعتابهم والتمسح بآثارهم طلبا للغوث واستجابة الدعوات وإظهار الفاقة وإبداء الفقر والضراعة واستنزال الغيوث والأمطار وطلب السلامة من شدائد البراري والبحار وسؤالهم تزويج الأرامل والأيامي واللطف بالضعفاء واليتامي والاعتماد عليهم في المطالب العالية وتأهيلهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية وإعطاء تلك المراتب السامية. وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم وعز عنه امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالي والإنابة إليه بل ليس ذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان حتي جعلوا الذهاب إلي المشاهد عوضا عن الخروج للاستسقاء والإنابة إلي الله

ص: 192

تعالي في كشف الشدائد والبلوي كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم فهل سمعت من جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب والكلام مع ذكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق ومن لا ترضي نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد وأما ميت القلب بليد الذهن وضيع النفس جامد القريحة ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق علي ما يحكي عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر والتنديد فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج وخطابه محض عناء ولجاج. ومن وقف علي كتب المتصوفة ومناقب مشايخهم وقف علي ساحل بحر من ضلالهم وفي حاشية البيجوري علي السنوسية نقلا عن الدردير عن الشعراني أن الله وكل بقبر كل ولي ملكا يقضي حاجة من سأل ذلك الولي فقف هنا وانظر إلي ما آل إليه إفكهم فأين هذا من قوله تعالي (وإذا سألك عبادي عني " الآية " ادعوا ربكم تضرعا وخفية. فإذا فرغت فانصب وإلي ربك فارغب. أم من يجيب المضطر إذا دعاه. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) وأي حجة في هذا الذي قاله الشعراني لو كانوا يعلمون ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومن هذا الجنس ما ذكره الشعراني في ترجمة شمس الدين الحنفي أنه قال في مرض موته من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب أن أقضيها له فإنما بيني وبينه ذراع من تراب وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل وباب تصرف المشايخ والأولياء قد اتسع حتي سلكه جمهور من يدعي الإسلام من أهل البسيطة وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغرباء وأظلته المحيطة حتي نسي القصد الأول من التشفع والوساطة فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمي فعاد الأمر إلي الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولي إلي هذه الغاية بل ذكر الله عز وجل أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير علي ما أنكروه من الإلهية. ومن عجيب أمرهم ما ذكره حسين بن محمد النعيمي اليمني في بعض رسائله إن امرأة كف بصرها فنادت وليها أما الله فقد صنع ما تري ولم يبق إلا حبك " انتهي ". وروي أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج فذهبوا إلي الضريح المنسوب إلي الحسين رضي الله عنه

ص: 193

بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتي أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين فقالوا هذا محبة في سيدنا الحسين وكثير من علماء مصر يقول لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد أحمد البدوي وقد اشتهر ما يقع من السجود علي أعتاب المشهد وقصد التبرك مع ما فيه لا يمنع حقيقة العبادة الصورية ومن المعروف عندهم شراء الولدان من الولي بشئ معين يبقي رسميا جاريا يؤدي كل عام وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها لأنها مشتراة منه ولا يمانع هذا إلا مكابر في الحسيات وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر وهذا أشد وأشنع مما ذكر جل ذكره عن جاهلية العرب (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) " الآية ". وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها ولا تذبح وسوق الهدايا والقرابين إلي مشاهد الأولياء وذبحها حبا للشيخ وتقربا إليه وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريما مما ذبح وذكر عليه اسم غير الله فإن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة. ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كان بقرب المشهد وجعله من ماله. ومنها الحج إلي المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله فيطوفون حول الضريح ويستغيثون ويهدون لصاحب القبر ويذبحون وبعض مشايخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة وقد صنف بعض غلاتهم كتابا سماه حج المشاهد. ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر بل فيه البحر الذي لا ساحل له والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد ومن نحوه عرف الكفر وظهر الشرك والفساد كما يعرف ذلك من له إلمام بالتواريخ ومبدأ الحوادث في الدين ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد علي والحسين وموسي الكاظم ومحمد الجواد رضي الله عنهم عند رافضتهم والشيخ عبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم رضي الله عنهم عند سنتهم من العبادات وطلب العطايا والمواهب والتصرفات وأنواع الموبقات علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم وأنهم في غاية من الكفر والشرك ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلي الإسلام والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويمحو هذه الضلالات حتي يعبد وحده فتسلم الوجوه له وتعود البيضاء كما كانت ليلها كنهارها " انتهي ".

ص: 194

ونحن نبين لك بأجلي بيان أن ما نسبه إلي المسلمين وإلي زوار قبور الأئمة والصالحين بعضه زور وبهتان وبعضه لا يستلزم الشرك ولا العصيان ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن وبتسميته بالمسلم الموحد المطيع لله ولرسوله والمتبع سنة نبيه (ص) إن كان الواقف ممن سلم من العصبية والعناد وتقليد الآباء والأجداد ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لضلالهم ومحالهم توحيدا ولتعظيم من أمر الله بتعظيمه شركا وكفرا ولمخالفة السنة وإجماع المسلمين وطريقة السلف اتباعا للسنة وللسلف مع ما في ذلك من الهلاك المتناهي واستباحة الدماء والأموال التي حرمها الله تعالي عند من يعقل الحقائق. زعم أن المسلمين يحبون مع الله محبة تأله. نعم أنهم يحبون في الله ولله وبأمر الله وتلك لا تخرج عن محبة الله أما أنهم يحبون مع الله فإن أراد المعية في الوجود فلا محذور فيه وإن أراد المساواة لمحبة الله كما في قوله تعالي (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) فالمسلمون مبرؤن من ذلك وأين محبة المشركين للأصنام وإطاعتهم لهم المخبر عنها في الآية كما عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين الذين لا يستحقون محبة ولا إطاعة أو لرؤسائهم الذين كانوا يطيعونهم كما عن السدي من محبة المسلمين للأنبياء والأولياء والصلحاء التي هي محبة لله تعالي لأمره بها في كتابه العزيز وعلي لسان نبيه الكريم (ص) بقوله تعالي (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا. فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) وقرن حب رسوله (ص) بحبه في قوله (أحب إليكم من الله ورسوله) وعن أنس أن رسول الله (ص) قال (لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجه البخاري ومسلم ولابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب قال رسول الله (ص): ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتي يحبهم لله ولقرابتهم مني) وقال رسول الله (ص) في علي (ع) يوم خيبر (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) أخرجه الشيخان وقال له (يا علي حبك إيمان وبغضك نفاق) إلي غير ذلك ولا يتم الحب لله تعالي إلا بحب هؤلاء لأن حبهم من حبه تعالي لأنه عن أمره ولأن المؤمن إنما يحبهم لأنهم عباد الله المطيعون لأمره المتفانون في طاعته المجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيله ولإعلاء

ص: 195

كلمته وإحياء دينه فكلما كمل إيمان المؤمن وإسلامه كملت محبتهم في قلبه وهيهات أن يكمل إسلام المسلم وإيمانه بدون كمال محبتهم فمن جعل كمال محبتهم من أسباب الشرك كهذا الرجل وأهل نحلته فهو بعيد عن الإسلام والإيمان مستحق لسخط الرحمن بنص قوله (ص) لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده فحبهم مع الله لله ولقرابتهم من رسول الله (ص) من متممات الإسلام والإيمان فأي الفريقين أحق بالأمن أمن يجعل كمال حبهم من أسباب الشرك أم من يعتقده من متممات الإيمان كما جعله الله ورسوله. ومنه يعلم أن قوله: محبة تأله إفك وافتراء وأن ما يحكي عن كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب من قوله: إن من حقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله ويتصدقون لوجوهها مما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره في وجه الله - أيضا كذب وافتراء فليس أحد من المسلمين الذين سماهم مشركين يحب أحدا من الناس نبيا أو وليا إلا في حبه تعالي لكونه محبوبا له مقربا عنده بطاعته له تعالي فحبه حب لله غير خارج عنه فضلا عن أن يكون أكثر من حبه تعالي ولا يتصدق واحد لوجوههم وإنما يتصدق عنهم لوجهه تعالي فيهدي الثواب إليهم. قوله: وخضوع ورجاء أما الخضوع فحاصل ولا محذور فيه وأما الرجاء فيرجون منهم الدعاء والشفاعة ومنه تعالي إجابة دعائهم وقبول شفاعتهم وهذا لا محذور فيه أيضا وهو عين إطاعته تعالي وعبادته كما مر مرارا. قوله: ودعائهم مع الله في المهمات والملمات الخ قد عرفت أنهم لا يدعونهم لكشف المهمات ودفع الملمات ليكشفوها بأنفسهم وإنما هو طلب الدعاء والشفاعة. قوله: والعكوف حول أجداثهم، سمي زيارة قبورهم وتلاوة القرآن والصلاة والدعاء وطلب الحوائج من الله تعالي عندها والتبرك بها ونحو ذلك عكوفا تشبيها بالعكوف علي الأصنام كما سماه غيره من أصحاب نحلته علي ما مر وقد عرفت وستعرف أن ذلك كله مطلوب مرغوب فيه شرعا لا مانع منه ولا محذور فيه سواء سماه عكوفا أو لا. وقد روي البخاري في صحيحه لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته علي قبره قبة ولبثت هناك سنة كاملة. قوله: وتقبيل أعتابهم والتمسح بآثارهم، ستعرف في فصل التبرك بالقبور أن تقبيل الأعتاب والقبور والتمسح بها وبآثار الصالحين تبركا وتعظيما جائز وراجح لا مانع منه ولا محذور فيه طلبا للغوث بالشفاعة والدعاء واستجابة الدعاء

ص: 196

منه تعالي ببركة المكان والمكين. قوله: وإظهار الفاقة وإبداء الفقر والضراعة، وهذا لا مانع منه فالثلاثة حاصلة منا لله تعالي بلا ريب وإظهارها عند قبر النبي أو الولي لشرفه وحاصلة منا للنبي أو الولي لطلب دعائه وشفاعته. قوله: واستنزال الغيث والأمطار، لا مانع من ذلك ببركتهم ودعائهم وشفاعتهم وهو نظير ما يأتي من أن أهل المدينة قحطوا فقالت عائشة انظروا قبر النبي (ص) فاجعلوا منه كوة إلي السماء فمطروا. قوله: وطلب السلامة من شدائد البراري والبحار، ولا مانع منه بتسببهم بالدعاء والشفاعة وسيأتي في فصل الدعاء والاستغاثة استغاثة من أضل شيئا أو أراد عونا في أرض ليس فيها أنيس بقول يا عباد الله أعينوني أو أغيثوني ففيه طلب السلامة من شدائد البراري والبحار من غير الله تعالي. قوله: وسؤالهم تزويج الأرامل والأيامي إلي قوله: المطالب العالية، لا مانع من ذلك بطلب دعائهم وشفاعتهم ولو كان ظاهر اللفظ إسناد الأفعال إليهم حملا لفعل المسلم وقوله علي الصحة من باب المجاز في الإسناد كما مر في المقدمات. قوله: وتأهيلهم لمغفرة الذنوب الخ هذا كذب وافتراء منه علي المسلمين فكلهم يعلم أنه لا يغفر الذنوب ولا ينجي من الهاوية ولا يعطي المراتب السامية في الجنان إلا الله قد قرأوا ذلك في كتاب ربهم وعرفه عامتهم وخاصتهم وهيهات أن يؤهل أحد منهم أحدا من المخلوقين نبيا فمن دونه لمغفرة الذنوب وإنما يرجون بتوسلهم بالأولياء والصالحين وتشفعهم بهم وطلب دعائهم واستغفارهم وزيارة قبورهم ومحبة الرسول (ص) وأهل بيته أن يغفر الله لهم وينجيهم من الهاوية ويعطيهم المراتب السامية وقد وعد الله تعالي علي لسان نبيه (ص) المتمسك بهم النجاة بقوله (ص) مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوي. مثل أهل بيتي كمثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا. ولكن يأبي قصد ترويج الباطل لهؤلاء إلا الكذب والافتراء وقذف المسلمين بما هم منه براء. قوله: وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم وعز عنه امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالي والإنابة إليه بل ليس ذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان حتي جعلوا الذهاب إلي المشاهد عوضا عن الخروج

ص: 197

للاستسقاء والإنابة إلي الله تعالي في كشف الشدائد والبلوي كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم فهل سمعت من جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب والكلام مع ذكي القلب ومن لا ترضي نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد وأما ميت القلب بليد الذهن ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق علي ما يحكي عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر فذاك فاسد الفطرة وخطابه محض عناء. هذا أيضا افتراء منه علي المسلمين فكلهم يعلم أن القادر المختار علي كل شئ هو الله تعالي وحده وأن النبي فمن دونه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله وأنه لا ينفع إلا قصده تعالي والإنابة إليه وهذا راسخ في نفوسهم خاطر دائما ببالهم مطابق لأفعالهم وأقوالهم وليس للولي ولا لمشهد الشيخ في نفوسهم شئ غير ما جعله الله له من البركة والشفاعة واستجابة الدعاء فيقصدون مشهده وينادونه طلبا لذلك الذي لا يخرج عن قصد الله تعالي والإنابة إليه كما لم يخرج سؤال الدعاء من المؤمن عن ذلك. وأما قوله: حتي جعلوا الذهاب إلي المشاهد عوضا عن الخروج للاستسقاء فهو كسابقه في أنه كذب وافتراء فكلهم يخرجون إلي الاستسقاء عند احتباس قطر السماء ويدعون الله مع ذلك في المشاهد المباركة كما يدعونه في المساجد وفي كل مكان هو مظنة إجابة الدعاء ولم نر ولم نسمع عنهم غير ذلك، نعم يوجد في الناس من يدعي الولاية لمن ليس أهلا لها ولكن لا يقاس به من أثبت الولاية لأهلها ودخل البيوت من أبوابها فيعمم الكلام لجميع المسلمين. ولكن الوهابية لما ألفت طباعهم شبهات ابن عبد الوهاب وفسدت بها فطرهم وعز عنها امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من احترام من جعل الله له الحرمة والتشفع والتوسل والتبرك بمن جعل الله له الشفاعة والوسيلة والبركة حتي جعلوا قبور الأنبياء والأولياء أصناما وأوثانا ومن عظمها وتبرك بها كافرا مشركا فهل سمعت من جاهلية العرب أو من أحد من أهل الملل والنحل مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب، والكلام مع المسلم الذكي القلب المتبع طريقة المسلمين المنصف العارف بمنزلة الأنبياء والأولياء عند الله تعالي ورفيع درجتهم أما ميت القلب بليد الذهن جامد القريحة الذي

ص: 198

نبذ ما عليه المسلمون كافة وخالف إجماعهم وطريقتهم وجهل منزلة الأنبياء والأولياء وقصر بهم عن المرتبة التي جعلها الله لهم وتمحل وعاند ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد لشخص واحد يجوز عليه الخطأ والتعلق علي ما يقوله والاتباع لشبهة سنها وضلالة ابتدعها حتي كأنها وحي منزل فذلك ميت القلب بليد الذهن فاسد الفطرة وخطابه محض عناء. أما المتصوفة: فإذا فرض نقلهم بعض المناقب المكذوبة من مشايخهم فهل يوجب ذلك بطلان مناقب الأنبياء والأولياء علي العموم ومع ذلك فالظاهر أنهم لا يعتقدون في مشايخهم الاستقلال في التصرف ولا يزيدون عن اعتقادهم أنهم عباد مكرمون ومع الشك يجب حملهم علي ذلك لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم علي الصحة مع الإمكان. وما نقله عن حاشية البيجوري لا يوجب اعتقاده كفرا ولا شركا لأنه ممكن فيجب قبوله إذا دل عليه النقل وهب أن ناقله كاذب فلا يكون كافرا بل عاصيا. أما إمكانه: فلتواتر النقل بأنه تعالي يستعمل الملائكة في نظام عالم التكوين بلا حاجة منه إليهم. فلا مانع من أن يوكل الله تعالي ملكا لقضاء حوائج الخلق ولا يكون معتقده كافرا إذا كان مخطئا فضلا عن المصيب ولا ينافي ذلك الآيات التي ذكرها فمجيب الدعوة وقاضي الحاجة حقيقية هو الله تعالي كما أنه تعالي تارة قال (الله يتوفي الأنفس حين موتها. والله خلقكم ثم يتوفاكم) وتارة قال: قل يتوفاكم ملك الموت. الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين. توفته رسلنا. إذ يتوفي الذين كفروا الملائكة. فكيف إذا توفتهم الملائكة. حتي إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم. فكما لا تناقض بين هذه الآيات لا تناقض بين ما ذكره بعد صحة النقل المذكور. ومنه يعلم أنه أولي بنسبة نبذ كتاب الله وراء ظهره إليه. وما ذكره الشعراني في ترجمة الحنفي لا يوجب إسقاط حرمة الأنبياء والأولياء وشفاعتهم واستغفارهم ودعائهم ووسيلتهم رأسا وإذا تجاوز الشعراني في بعض شطحه لا يتعدي ذلك إلي غيره. وإذا اعتقد بعض الناس في المشايخ والأولياء الذين بعضهم من الدجالين والمحتالين أو المجانين ما لا ينبغي اعتقاده فليس لنا أن نأخذ بذنبهم غيرهم ممن اعتقد في الأنبياء والأولياء والصلحاء

ص: 199

الحقيقين. أما قوله: ولم يبلغ شرك الجاهلية إلي هذه الغاية فقد مر نظيره في كلام الصنعاني ومر الكلام عليه. وأما حكاية المرأة التي كف بصرها: فلا يقاس عليها غيرها مع أنه يمكن أن يلتمس لكلامها وجه صحيح إن صحت الحكاية وهو أن الله تعالي قد اقتضت مشيئته كف بصرها فلم يبق إلا أن تتوسل بهذا الولي وبحبه إلي الله ليرد عليها بصرها. أما ما حكاه عن بعض المغاربة فغير بعيد أنه من الأكاذيب نظر ما مر حكايته من أن رجلا صلي إلي ضريح ابن عباس وترك القبلة عامدا فإنا لم نر ولم ينقل لنا وقوع شئ من هذا في شئ من البلدان والأزمان ولو صح لم يقس عليه غيره وهو خاص بفاعله كقول من قال لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد البدوي مع أن يقول هذا لا يصح أن يسمي عالما فهل إذا غلطت امرأة كف بصرها أو بعض المغاربة أو بعض علماء مصر نغلط كافة الأمة ونكفرهم. قوله: وقد اشتهر ما يقع من السجود علي أعتاب المشهد، مر الكلام عليه في هذا الباب عند الرد علي الصنعاني. قوله: لا يمنع حقيقة العبادة الصورية، المدار علي العبادة الحقيقية لا الصورية والأعمال بالنيات أما شراء الولد بشئ معين والمرأة بشئ من مهرها فلم نسمع بذلك ولم نره ولو فرض صحته فيختص بفاعله مع أن له وجها صحيحا وهو قصد التصديق عن الولد أو المرأة بمال وإهداء ثواب الصدقة إلي الولي فيجب الحمل علي الصحة ما أمكن ولا يوجب ذلك شركا ولا كفرا ولا يقاس بفعل جاهلية العرب الذين جعلوا لشركائهم نصيبا كما حكي الله تعالي عنهم كما مر الكلام علي نظير ذلك في كلام الصنعاني فراجع. وأما السوائب فلم نرها ولم نسمع بها في شئ من بلاد الإسلام. وأما سوق الهدايا والقرابين إلي مشاهد الأولياء وذبحها فستعرف في فصل الذبح أنه يقصد ذبحها لله وتقربا إليه لا للشيخ وإنما يهدي ثواب الصدقة بها فجعله ذلك وإن ذكر اسم الله عليه أشد تحريما مما ذكر عليه اسم غير الله جهل محض وتعليله بأن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة لا يكاد يظهر له معني. أما ما ادعاه من ترك الشجر والعشب إذا كان بقرب المشهد فمع صحته لا مانع منه فترك الشجر لاستظلال الزائرين والمارة إكراما لصاحب المشهد وترك العشب لنزهتهم ورعي دوابهم. قوله: ومنها الحج إلي المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله. أخذ هذا الكلام من ابن تيمية الذي قال في كتابه

ص: 200

منهاج السنة: الرافضة يعظمون المشاهد المبنية علي القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين ويحجون إليها كما يحج إلي البيت ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم بل يسبون من لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرضه الله وهذا من جنس دين النصاري والمشركين الذين يفضلون عبادة الأوثان علي عبادة الرحمن وقد صنف شيخهم المفيد كتابا سماه مناسك المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة والبيت الحرام الذي جعله الله قياما للناس. ونقول: قد ثبت بما سنذكره في فصل الزيارة استحباب زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء وشد الرحال إليها رغما عن تشددات ابن تيمية وأتباعه الوهابية فسواء سموا زيارتها حجا قصدا للتشنيع أو لم يسموها وسواء سمي ابن تيمية الصلاة لله ودعاءه عندها عكوفا أو لا، لا يضرنا شيئا وكون الزيارة في أوقات مخصوصة لا قبح فيه لأن تلك الأوقات مما ثبت فضلها وشرفها والله تعالي قد فاوت بين مخلوقاته في الفضل حتي الأزمنة كما مر في المقدمات فيتضاعف أجر الزيارة بفضل الزمان فقصدهم إلي التشنيع بذلك بأنه كالحج الذي هو في أوقات مخصوصة لا شناعة فيه إلا عليهم كقوله مضاهات لبيت الله وكقول ابن تيمية أنهم يحجون إليها كما يحجون إلي البيت فهم يزورونها اقتداء بنبيهم (ص) الذي سن الزيارة وفعلها واتبعه المسلمون عليها وسن شد الرحال إليها خلافا للوهابية كما ستعرف في فصل الزيارة فهم مقتدون بسنة نبيهم (ص) التي خالفها هو وشنع علي من اقتدي بها فهم لم يبنوا كعبة يضاهون بها بيت الله لم يأذن الله ببنائها ولا بزيارتها بل ذهبوا لزيارة قبور أنبيائهم وأوليائهم حسبما أمرهم ربهم فسواء ضاهي ذلك بيت الله أو لم يضاهه لا ضرر فيه وهل هذه المشاهد المشرفة بشرف من فيها ليست بيوت الله؟! بل هي بيوت الله والكعبة بيت الله والمساجد بيوت الله وكلما كان عن أمر الله فهو لله، وستعرف في فصل البناء علي القبور رجحان بناء المشاهد. والشيعة توجب الحج علي كل من استطاع إليه سبيلا ولا تجعل شيئا مغنيا عنه لا زيارة مشهد ولا غيرها، وتسب من لا يعتقد ذلك، ومن نسب إليها غير ذلك فقد أفك وافتري. هذه كتبها الفقيه التي تعد بمئات الألوف وطبع منها الملايين شاهدة بذلك وناصة عليه حتي أنهم يوجبون القضاء عمن مات مستطيعا ولم يحج وحجاجها في كل عام من بلاد المشاهد وغيرها تنبو عن الحصر فإن كان الحج إليها أعظم أو مغنيا عن الحج المفروض كما

ص: 201

افتراه ابن تيمية فلماذا يتحملون كل هذه المشاق لأجل الحج. قوله: فيطوفون حول الضريح، نعم يطوفون تبركا به ولا ينكر بركته إلا من أعمي الله بصيرته. قوله: ويستغيثون، ستعرف في فصل الاستغاثة أنه لا محذور في ذلك. قوله: ويهدون لصاحب القبر ويذبحون. كلا بل يذبحون لله ويتصدقون علي الفقراء ويهدون الثواب لصاحب القبر قوله: وبعض مشايخهم يأمر الزائر بحلق رأسه. أبي شيطان هؤلاء إلا أن يزين لهم ترويج ضلالتهم ولو بالكذب والافتراء فبعد أن سمي زيارة الأنبياء والأولياء حجا وأنها في أوقات مخصوصة كالحج وأنهم يطوفون ويهدون كالحجاج أراد أن يتمم حجهم بالفرية التي نقلها من أن بعض المشايخ يأمر الزائر بحلق رأسه، ما رأينا هذا ولا سمعنا به إن هذا إلا اختلاق وكان ينبغي له أن يتمم أحكام الحج من الاحرام ورمي الجمار والسعي وغير ذلك. أما قوله: وقد صنف بعض غلاتهم كتابا سماه حج المشاهد فمأخوذ من كلام ابن تيمية الذي سمعته علي عادتهم في تقليد الخلف للسلف في كل ما يقول وهي فرية كفرية حلق الرأس، وابن تيمية كان بالشام والمفيد بالعراق وبينهما نحو ثلاثمئة سنة فأين رأي كتابه الموهوم المسمي حج المشاهد وأين رآه حفيد ابن عبد الوهاب المنحاز في بادية نجد نعم يوجد بعض الكتب التي فيها آداب الزيارة وفيها الأدعية التي يدعي بها الله تعالي في المشاهد أما كتاب حج المشاهد فهو من عنديات ابن تيمية وحفيد ابن عبد الوهاب والله تعالي يجزي كلا بعمله. قوله: ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. أقول: هذا التعريف لم نسمع له بتعريف هو ثالث الفريتين أن يوم عرفة من الأيام الشريفة كيوم الجمعة وغيره من الأيام وقد ورد استحباب صومه والإكثار من دعاء الله تعالي فيه والخضوع وطلب الحاجات منه تعالي في أي موضع كان الإنسان وإذا كان ذلك في مكان شريف كالمسجد أو المشهد المشرف بمن فيه كان أولي وأفضل، فهذا الذي عابه علي المسلمين ونسبهم فيه إلي الشرك والكفر. قوله: والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر الخ. وهذا أيضا مبني علي أساسهم الفاسد الذي أسسوه من المنع من زيارة قبور الأئمة والأولياء وتعظيمهم وتعظيم قبورهم وبناء المشاهد والقباب لهم وعمل الضرائح وجعل الخدمة والسدنة والصلاة عند قبورهم ودعاء الله تعالي عندها والتوسل بأصحابها إليه تعالي في قضاء حوائج الدنيا والآخرة وما يجري هذا المجري ولما كان تعظيم المسلمين لقبور أئمة أهل البيت في

ص: 202

العراق وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بنجف الكوفة وولده الحسين السبط الشهيد بكربلاء والإمام موسي الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد في بغداد وابنه الإمام علي بن محمد الهادي وابنه الإمام الحسن العسكري في سامراء عليهم السلام والمواظبة علي زيارتهم والصلاة ودعاء الله تعالي في مشاهدهم بالغا للغاية لما لهم عند الله تعالي من المكانة ولما لهم من الفضل العظيم في حماية الدين ونشر علوم سيد المرسلين. وكذلك قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني والإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي في بغداد والحسن البصري والزبير أحد الصحابة العشرة في البصرة، عظم علي هذا النجدي ذلك فقال إن في العراق من ذلك الحظ الأكبر والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد. وأني يكون المتمسك بولاية أهل البيت الطاهر وزائر قبورهم والمتعبد ربه بأنواع العبادة عندها غير ناج وهم سفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوي وباب حطة الذي من دخله كان آمنا بنص جدهم (ص)، وتكون النجاة محصورة في أهل نجد مطلع قرن الشيطان ومحل الزلازل والفتن والذين جعلوا دأبهم وديدنهم غزو بلاد الإسلام، ومن أعمالهم ذبح المجاورين لقبر ابن بنت رسول الله (ص) في كربلاء وهدم ضريحه وهتك حرمته وربط الخيل والدواب في صحنه ودق القهوة وإشعال النار في مشهده وفوق رأسه كما مر في تاريخهم. أما قوله: إن من نحو العراق عرف الكفر وظهر الشرك والفساد فيكذبه أن العراق ما زال ولم يزل مهبط الدين ومنبع الإيمان والإسلام وحب أهل البيت وموالاتهم ولم يظهر الكفر والفساد إلا من بلاد نجد بلاد مسيلمة وبلاد الوهابية المجسمة الذين ما فتئوا يعيثون في الأرض فسادا يسفكون الدماء وينهبون الأموال ويحتقرون المسلمين ويرمونهم بالكفر والشرك ويحتقرون الأنبياء والمرسلين وعظماء الدين يهدمون قبورهم ويجعلونها معرضا لدوس الأقدام وترويث الدواب والكلاب ووقوع القاذورات ويهينون من يزورها أو يحترمها أو يتبرك بها أو يصلي لربه عندها فأي فساد أعظم من هذا. وهم يقولون إن من العراق ظهر الفساد ومن نجدهم ظهر الصلاح وقد عرف صحة ما قلناه كل من له أدني إلمام بتاريخ الوهابية وقدوتهم ابن تيمية ومبدأ حوادثهم في الدين. أما ما يقع من شيعة أهل البيت الطاهر الذين نبزهم بالرافضة عند مشاهد الأئمة الطاهرين بالعراق الذين حرم من حلاوة مودتهم ومحبتهم والفوز بولايتهم فلا يعدو عبادة الله تعالي وتوحيده والخضوع

ص: 203

لعظمته فالقاصدون لتلك المشاهد الشريفة منهم الزائر لقبورهم المعدد لمناقبهم ومآثرهم في خدمة الدين والإسلام ومنهم المصلي لربه الراكع الساجد الخاشع ومنهم الداعي لله تعالي القائم في خدمته الباكي من خشيته المتضرع إليه المتوسل والمتشفع إليه بمن أعطاهم الشفاعة وجعل لهم الوسيلة ومنهم الخاطب الواعظ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إلي غير ذلك من أنواع العبادات والطاعات لله تعالي، ولا يعبدون أحدا منهم بشئ مما حظره الله تعالي، ولكن الوهابيين لما اقتضي جمودهم وغباوتهم وعنادهم إن تعظيم القبور وأهلها والصلاة لله ودعاءه عندها والتشفع والتوسل بأهلها عبادة لغير الله موجبة للشرك والكفر عدوا فعل المسلمين بالعراق عند المشاهد كفرا وشركا وحيث قد بينا مرارا بما لا مزيد عليه خروج ذلك عن العبادة لغير الله الموجبة للشرك والكفر بل هو عين الطاعة لله تعالي ظهر أن عد ذلك شركا من أعظم الموبقات وأن من عده كذلك من أجهل الخلق وأضلهم بمخالفته لما أجمع عليه المسلمون خلفا عن سلف وأن مخالف إجماع المسلمين وسيرتهم ومثبت الوجه واليدين والعينين لله تعالي والاستواء علي العرش الذي هو فوق السماوات علي الحقيقة من دون تأويل أولي بغاية الكفر والشرك التي ما وصل إليها قبله أحد ممن ينتسب إلي الإسلام وأي شرك أو كفر أو عبادة لغير الله تعالي تحصل في مشاهد الأئمة بالعراق؟ وأول كلام يقال عند فتح أبواب مشاهدهم هو لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدق المرسلين الخ. ولا تشتمل الزيارات والأدعية التي تقرأ في تلك البقاع الطيبة إلا علي توحيد الله تعالي وتمجيده والثناء عليه وما يشتمل منها علي التوسل والتشفع وطلب الحوائج والعطايا والمواهب من صاحب القبر لا يخرج عن سؤال الدعاء والشفاعة الذي بينا في فصله جوازه ورجحانه وإذا فرغ الزائر من الزيارة يصلي لله تعالي ركعتين مستحبتين يهدي ثوابهما للمزور ويقول بعدهما كما هو مأثور عن أئمة أهل البيت الطاهر (اللهم إني صليت وركعت وسجدت لك وحدك لا شريك لك لأن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لك لأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت اللهم وهاتان الركعتان هدية مني إلي سيدي ومولاي (ويسمي المزور) اللهم فتقبلها مني بأحسن قبولك وأجرني علي ذلك بأفضل أملي ورجائي فيك وفي وليك يا أرحم الراحمين).

ص: 204

ورجاؤه فيه تعالي الثواب والمغفرة وفي وليه الدعاء والشفاعة. والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويمحو هذه الضلالات التي جاء بها هؤلاء ويرد عاديتهم عن المسلمين ويردهم إلي سبيل الرشد ويريح المسلمين من تشدداتهم وتعنتاتهم حتي تبقي السهلة السمحاء كما كانت وينزه الباري تعالي عن نسبة ما لا يليق بجلاله وتبقي البيضاء كما كانت ليلها كنهارها.

ص: 205

الباب الثالث في تفصيل الأمور التي كفر بها الوهابية المسلمين ورد كل واحد منها بخصوصه حيث ظهر لك أن منشأ شبه الوهابيين في حكمهم بشرك جميع المسلمين وكفرهم واستحلال دمائهم وأموالهم هو زعمهم أنهم يعبدون القبور بتعظيمهم لها بالتقبيل والطواف والتمسح وبناء القباب والإسراج وغير ذلك من أنواع التعظيم وأنهم يعبدون الأموات بدعائهم لهم وطلبهم منهم قضاء حوائجهم وأنهم ينذرون وينحرون لهم كما كان أهل الجاهلية يفعلون مثل ذلك مع أصنامهم فكان ذلك عبادة لغير الله وشركا به وقد عرفت فساد ذلك بوجه العموم في الباب السابق فلنتكلم علي كل واحد من هذه الأمور التي هي منشأ شبهتهم بخصوصه مضافا إلي ما مر في الباب السابق لأن أكثرها يختص بما لا يشاركه فيه غيره وذلك في ضمن فصول. الفصل الأول في الشفاعة إعلم أن طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين والملائكة الذين أخبر الله تعالي أن لهم الشفاعة مما منعه الوهابيون وجعلوه كفرا وشركا صرح بذلك ابن عبد الوهاب في كلامه المتقدم في رسالة أربع القواعد التي قال إن الخلاص من الشرك يتم بها بقوله: الثانية أنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة. وفي رسالة كشف الشبهات. بقوله: لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم القرب إلي الله وشفاعتهم عنده. وقوله: ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم إلي الله ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسي. وقوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلي الله بذلك هو الذي أحل دماءهم، وفيما حكاه الآلوسي عنه حيث جعل طلب الشفاعة مثل شرك جاهلية العرب وفي كلامه الأخير في كشف الشبهات الذي علم به الاحتجاج علي المسلمين بقوله: إن الذين قاتلهم (ص) مقرون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبر شيئا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة وأنهم ما أرادوا

ص: 206

ممن قصدوا إلا الشفاعة وإن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفار ما نعبدهم إلا ليقربونا. هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلي غير ذلك، والصنعاني في كلامه السابق حيث جعل من جملة عبادة المشركين الأصنام اعتقادهم أنها تشفع عنده وجعل من جملة عبادة الأنبياء والصالحين اعتقاد ذلك والتشفع بهم. قوله: فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن لهم الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ومن اعتقد في حي أو ميت أنه يقرب إلي الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل كما اعتقد المشركون في الأوثان وصار حلال المال والدم وجعل من جملة الشرك الاعتقاد في شئ أنه يشفع في حوائج الدنيا بمجرد التشفع، والوهابيون في كتابهم إلي شيخ الركب المغربي بقولهم: فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم إلي قولهم: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله وجعلهم سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم شركا وعبادة للأوثان. وفي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) ونثبت الشفاعة لنبينا محمد (ص) يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ونسألها من المالك لها والإذن فيها بأن نقول اللهم شفع نبينا محمدا (ص) فينا يوم القيامة أو اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلا الله تعالي فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله (ص). وفي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية إن الشفاعة وإن كانت حقا في الآخرة فلها أنواع مذكورة في محلها ووجب علي كل كل مسلم الإيمان بشفاعته (ص) بل وغيره من الشفعاء فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدا الشفاعة العظمي فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون فالوصف من مات لا يشرك بالله شيئا كما في البخاري من حديث أبي هريرة (رض) لكل نبي دعوة مستجابة

ص: 207


1- 87. ص 42.

وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا إلي أن قال: وإذا كانت بالوصف فرجاؤها من الله ودعاؤه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب قال: فالمتعين علي كل مسلم صرف همته إلي ربه بالإقبال إليه والاتكال عليه والقيام بحق العبودية له فإذا مات موحدا استشفع الله فيه نبيه بخلاف من أهمل ذلك وتركه وارتكب ضده من الاقبال إلي غير الله بالتوكل عليه ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله والالتجاء إلي ذلك الغير مقبلا علي شفاعته متوكلا عليها طالبا لها من النبي " ص " أو غيره فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد. إلي أن قال: ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله وحده فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما. إلي أن قال: ولهذا قال عز من قائل (قل لله الشفاعة جميعا. وما نري معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) وطلبها من غير الله في هذه الدار زعم بعدم تعلقها بالإذن من الله والرضا عن المشفوع له وقال تعالي (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) والعبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " انتهي ". وقال محمد بن عبد الوهاب أيضا في رسالة أربع القواعد (1) : الشفاعة شفاعتان منفية ومثبتة فالمنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لقوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) والمثبتة هي التي تطلب من الله والشافع مكرم بالشفاعة والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن كما (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) " انتهي " وفصل في مقام آخر ما أجمله هنا فقال في رسالة كشف الشبهات (2) عند تعليمه أتباعه الاحتجاج علي غيرهم في تتمة كلامه السابق، فإن قال (أي بعض المشركين من المسلمين الذين لا يقولون بمقالة الوهابية) أتنكر شفاعة رسول الله " ص " وتبرأ منها فقل لا بل هو الشافع والمشفع وأرجو شفاعته لكن الشفاعة كلها لله (قل لله الشفاعة جميعا) ولا يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي) وهو لا يرضي إلا التوحيد

ص: 208


1- 88. ص 25.
2- 89. ص 62 طبع المنار بمصر. - المؤلف -.

فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولا يشفع النبي " ص " ولا غيره في أحد حتي يأذن الله فيه ولا يأذن إلا لأهل التوحيد (1) فالشفاعة كلها لله فأطلبها منه وأقول اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه في وأمثال هذا فإن قال النبي " ص " أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله " كذا " فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال " فلا تدعو مع الله أحدا " وأيضا الشفاعة أعطيها غير النبي " ص " فصح أن الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم رجعت إلي عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالي في كتابه وإن قلت لا بطل قولك هذا. وقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور (2) في تتمة كلامه المتقدم في الباب الثاني: وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلي الله مني ليشفع لي في هذه الأمور لأني أتوسل إلي الله به كما يتوسل إلي السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال الذين يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم والمشركين الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي وقال تعالي: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون. قل لله الشفاعة جميعا. ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلي الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته أما رغبة وأما رهبة وأما حياء وأما مودة وأما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتي يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء الله وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له. إلي أن قال: وقد أمرنا أن نصلي علي النبي " ص " في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا " انتهي ". " ونقول " الشفاعة من الشفيع عبارة عن طلبه من المشفوع إليه أمرا للمشفوع له فشفاعة النبي " ص " أو غيره عبارة عن دعائه الله تعالي لأجل الغير وطلبه منه غفران الذنب وقضاء الحوائج فالشفاعة نوع من الدعاء والرجاء. وحكي النيسابوري في تفسير قوله تعالي " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له

ص: 209


1- 90. ولا موحد إلا الوهابيون فلا شفاعة إلا لهم.
2- 91. ص 156.

كفل منها عن مقاتل أنه قال: الشفاعة إلي الله إنما هي الدعوة لمسلم لما روي عن النبي (ص) من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك فذلك النصيب والدعوة علي المسلم بضد ذلك (انتهي) وحينئذ فطلب الشفاعة من الغير كطلب الدعاء منه وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان واعترف بذلك الوهابية وقدوتهم ابن تيمية في طلبه من الحي بل هو من ضروريات دين الإسلام وحينئذ فيجوز طلب الشفاعة إلي الله تعالي من كل مؤمن فضلا عن الأنبياء والصالحين وفضلا عن سيد المرسلين. ولو قيل أن الشفيع لا بد أن يكون له قدر وجاه عند المشفوع إليه. فنقول: إن الله تعالي جعل حرمة لكل مؤمن يرجي قبول شفاعته واستجابة دعائه فلم يبق فرق، علي أنه قد ورد ثبوت الشفاعة لآحاد المؤمنين وللملائكة وأنها ليست من خواص الأنبياء وثبتت شفاعة الملائكة بما أخبر الله تعالي عنهم بقوله (الذين يحملون العرش ومن حوله إلي قوله ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وقهم السيئات) " الآية " قال الرازي في تفسيره: هذه تدل علي حصر الشفاعة من الملائكة للمذنبين كما وقعت الشفاعة من النبي " ص " وغيره من الأنبياء وأمره الله تعالي بها فقال واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وحكي عن نوح أنه قال رب أغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات " انتهي " وفيه تصريح بأن الشفاعة لا تزيد عن الدعاء وطلب المغفرة كما قلناه. فظهر أن الشفاعة والدعاء من واد واحد وكذا طلبهما من الغير وليس حتما علي الله قبول الشفاعة ولا إجابة الدعاء وإنما ذلك من ألطافه ومنه ورأفته بعباده فجعل لهم وسائل كثيرة إلي نيل رضاه وعفوه وخيره وبره وهذا منها ولا شفاعة إلا بإذنه ورضاه كما قال تعالي: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي) وغير ذلك. وظهر أن طلب الشفاعة من النبي " ص " بل ومن آحاد المؤمنين في دار الدنيا أحياء وأمواتا ليشفعوا في الدنيا في أمور الدنيا والآخرة أو يوم القيامة جائز لا محذور فيه لأنها من قبيل الدعاء فيرجع طلبها إلي التماسه وذلك جائز من الأحياء بالاتفاق أما طلب

ص: 210

الدعاء من الأموات فمنعه ابن تيمية والوهابية والحق جوازه كما يأتي في الفصل الثالث. والأخبار الواردة في ثبوت الشفاعة للنبي " ص " يوم القيامة وأنه الشفيع المشفع ولغيره مستفيضة أو متواترة رواها البخاري ومسلم وغيرهم. مثل من سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. من سمع الأذان ودعا بكذا حلت له شفاعتي يوم القيامة. أعطيت خمسا وعد منها الشفاعة. أنا أول شافع وأول مشفع. أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة. يدخل بشفاعتي رجال من أمتي أكثر من بني تميم. إن الله يقول فرغ الشافعون من الشفاعة شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين. يجلس المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا فيأتون آدم فيعتذر بخطيئته ثم إبراهيم " ع " فيعتذر بثلاث كذبات كذبهن ثم موسي " ع " فيعتذر بقتل النفس ثم عيسي " ع " فيقول لست هناك فيقول الله سبحانه بعد أن أسجد له إشفع تشفع (الخبر) ومن أدلة شفاعته لنا بعد موته " ص " حديث وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم. إلي قوله: وما رأيت من شر استغفرت لكم، لما عرفت من أن الشفاعة لا تزيد عن الدعاء لنا والاستغفار وإذا كان " ص " يستغفر لنا بعد موته جاز لنا أن نطلب منه الاستغفار الذي هو الشفاعة بعينها. وشفاعة النبي " ص " يوم القيامة لا ينكرها الوهابية فلا حاجة إلي إكثار الأدلة عليها وإنما منعوا من جواز طلبها منه " ص " في الدنيا وإن كانت ثابتة له وقد أعطاه الله الشفاعة وهو الشفيع المشفع وجعلوه شركا وكفرا. ومرجع شبهتهم في ذلك علي ما يستفاد من مجموع كلماتهم التي سمعتها إلي أن طلب الشفاعة من النبي " ص " عبادة له وكل عبادة لغير الله شرك (أما الثاني) فلوجوب توحيد الله في العبادة كما يجب توحيده في الخالقية والرازقية (وأما الأول) فلأن شرك الكفار الذين بعث إليهم رسول الله " ص " كان بطلبهم الشفاعة من الأصنام بدليل قوله تعالي (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا. ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا) ولأنهم لا ينكرون توحيد الخالقية والرازقية لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلي الله وشفاعتهم عنده ولا يفرق النبي " ص " بين من كان يدعو الملائكة ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسي أو يدعو غيرهم فقاتل الكل فهذا دليل علي أن التشفع بالنبي

ص: 211

أو الصالح شرك كالتشفع بغيره. ويدل أيضا علي عدم جواز طلب الشفاعة من غير الله قوله تعالي (لله الشفاعة جميعا. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وإذا كانت الشفاعة كلها لله لم يجز طلبها من غيره وقوله تعالي (فلا تدعوا مع الله أحدا) وطلب الشفاعة من النبي " ص " دعاء له فيكون منهيا عنه مع كون الدعاء عبادة بنص الكتاب والسنة بل مخها كما يأتي وإذا كان طلب الشفاعة دعاء والدعاء عبادة كان شركا فالجمع بين ثبوت الشفاعة له " ص " وعدم جواز طلبها منه أن يقول المستشفع به " ص " اللهم شفعه في أو لا تحرمني شفاعته أو ارزقني شفاعته أو نحو ذلك وهذا معني قولهم فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله. ويفهم مما مر عن الرسالة الأولي من الهدية السنية الاحتجاج لذلك بأن طلب الشفاعة من غير الله في الدنيا مناف لكونه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإلا لمن ارتضي. والجواب عن شبهتهم هذه أنها شبهة سخيفة فطلب الشفاعة ليس عبادة للمطلوب منه وشرك أهل الجاهلية الذي أحل دماءهم وأموالهم لم يكن سببه اتخاذهم الشفعاء كما زعموا وليس في الآيتين المستشهد بهما إن الموجب لشركهم هو تشفعهم ولا أن عبادتهم لهم هي تشفعهم بهم بل الآيتان صريحتان في أن عبادتهم لهم كانت غير التشفع فإنه جعل في الآية الأولي العبادة علة التقريب الذي هو الشفاعة والعلة غير المعلول ببديهة العقول وعطف في الآية الثانية قول هؤلاء شفعاؤنا علي قوله ويعبدون والعطف يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه كما قرر في علم العربية مع أن عبادتهم لهم بغير التشفع من السجود والإهلال بأسمائها وغير ذلك مشاهدة معلومة كما ذكرناه مرارا وقد ذكرنا مرارا أن قوله تعالي والذين اتخذوا من دون الله أولياء " الآية " ويعبدون من دون الله " الآية " صريح في أن عبادتهم لها كانت مع الإعراض عن الله والمخالفة لأمره. وقوله: ما لا يضرهم ولا ينفعهم إشارة إلي أنهم عبدوا أحجارا وأشجارا هي من الجمادات وطلبوا منها النصر والشفاعة ولم يجعل الله لها ذلك ولو كانت علي صور قوم صالحين، فلا يقاس بها من جعله الله شافعا وقادرا علي الشفاعة ولا من تشفع به بمن تشفع بها ويجب علي قياس قولهم بمنع يا رسول الله إشفع لي بل يقول اللهم شفعه في أو ارزقني شفاعته أن يمنعوا يا فلان ادع لي بل يقول اللهم أجب دعاءه في أو ارزقني دعاءه لي مع اعترافهم بجوازه ومنعه، ويشبه الأكل من القفا أي إيصال اللقمة إلي الفم من وراء الرقبة. أما جعل طلب الشفاعة منافيا لكونه لا يشفع

ص: 212

عنده أحد إلا بإذنه فستعرف فساده عند رد هذا الكلام وقد ظهر من ذلك فساد قول ابن عبد الوهاب: إن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفار ما نعبدهم إلا ليقربونا هؤلاء شفعاؤنا، لما عرفت من صراحة الآيتين في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة. وبطلان ما يفهم من قوله أنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة. وقوله: لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم القرب إلي الله وشفاعتهم عنده الدال علي أن سبب الشرك طلب الشفاعة لما عرفت من صراحة القرآن ودلالة الوجدان علي خلافه وبطلان قوله ومنهم من يدعو الملائكة ليشفعوا له أو صالحا كاللات أو نبيا كعيسي. وقوله: ومنهم من يدعو الصالحين والأولياء لما عرفت في الباب الثاني من أن دعاء الملائكة لم يكن بطلب شفاعتهم بل عبادتهم بغير ذلك وقول إنهم بنات الله ودعاء اللات لم يكن بالتشفع به لأنه رجل صالح بل بعبادة حجر علي صورته الموهومة بالسجود وغيره والتشفع بذلك الحجر الذي لم يجعل الله له شفاعة ولو كان علي صورة صالح مزعومة، ودعاء عيسي " ع " لم يكن مجرد التشفع به بل اعتقاد أنه هو الله الخالق الرازق بأحد الوجوه التي سبق بيانها وأي جهل أعظم من جعل الاشراك بعيسي مجرد التشفع به وهل يمكن صدوره من عاقل فضلا عن عالم. وقوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم قد عرفت أنه كذب وافتراء وإن الذي أحل ذلك تكذيبهم للرسل وإنكارهم للشرائع وعبادتهم للأوثان بغير مجرد التشفع وكذلك جعله طلب الشفاعة مثل شرك جاهلية العرب وإن الذين قاتلهم " ص " إنما أرادوا الجاه والشفاعة. ومما يدل علي أن عبادتهم كانت غير طلب الشفاعة ما حكاه الوهابية أنفسهم في الرسالة الثالثة من الهدية السنية (1) عن الإمام البكري عند قوله تعالي قل من يرزقكم من السماء والأرض " الآية " من قوله: فإن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام قلت كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن بطرق مختلفة ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفي وفرقة قالت الملائكة ذو منزلة عند الله فاتخذنا أصناما علي هيئتها لتقربنا إليه زلفي وفرقة قالت جعلنا

ص: 213


1- 92. ص 58.

الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته وفرقة اعتقدت أن لكل ملك (كذا) شيطانا موكلا بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضي الشيطان حوائجه بأمر الله وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله " انتهي " (والعجب) أن المستشهد بهذا الكلام من الوهابية قال بعد نقله: فانظر إلي كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلي الله وطلب شفاعتهم عنده " انتهي " ولم يدر أن عبادة غير الله لا يحتاج التكفير بها إلي الاستشهاد بكلام أحد سواء كانت بقصد التقرب إلي الله وطلب شفاعتهم أو بدون ذلك ولكن الذي ينفع إثبات إن طلب الشفاعة عبادة أو إن ما يفعله المسلمون هو عين ما كان يفعله عبدة الأصنام والكلام الذي استشهد به صريح بخلافه فليس في المسلمين من يعتقد بواحدة مما كانت تعتقده تلك الفرق، هذا في رد زعمهم أن طلب الشفاعة عبادة وأما استدلال ابن عبد الوهاب علي عدم جواز طلب الشفاعة من غير الله بآية لله الشفاعة جميعا وآية فلا تدعوا مع الله أحدا فاستدلال فاسد، أما آية لله الشفاعة جميعا فليس معناها أن الله وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع لأنه تعالي لا يشفع عند أحد وثبت أن الأنبياء والصالحين والملائكة يشفعون عنده وليس معناها أنه لا يجوز طلب الشفاعة ممن جعله الله شافعا بل معناها والله العالم إن الله مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي) وصدر الآية هكذا (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا " الآية ") فهو في مقام الرد علي الذين اتخذوا الأصنام والأحجار شفعاء إلي الله تعالي وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله مع أنهم لا يملكون شيئا فكيف يملكون الشفاعة ولا عقل لهم حتي يشفعوا وفي الكشاف (من دون الله) من دون إذنه (قل لله الشفاعة جميعا) أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بشرطين أن يكون المشفوع له مرتضي وأن يكون الشفيع مأذونا وها هنا الشرطان مفقودان جميعا " انتهي ". وحكي الطبري عن مجاهد (لله الشفاعة جميعا) أي لا يشفع أحد إلا بإذنه " انتهي ". فحمل ابن عبد الوهاب واتباعه له علي أن معناه طلب الشفاعة من الله وحده وعدم طلبها من المخلوق وإن كان له أن يشفع حمل مستهجن مستقبح لا يساعد عليه اللفظ ولا

ص: 214

فهم أهل العرف ولم يذكره أحد من المفسرين ولا تقتضيه الحكمة ولا يخرج عن التمحل والتحكم والعبث فكأن الله تعالي يقول اطلبوا من الناس كل ما يقدرون عليه واطلبوا منهم الدعاء لكم الذي لا تخرج الشفاعة عنه بل هي نفسه ولكن لا يجوز لكم ومحظور ومحجور عليكم أن تطلبوا من النبي " ص " أن يشفع لكم في الدنيا أو في الآخرة ويدعو الله لكم وإن كانت له الشفاعة وقد أعطاه الله إياها وهو الشفيع المشفع وإذا طلبتموها منه فقد كفرتم وأشركتم فانظر أيها المنصف هل يحسن أن يصدر ذلك من عاقل وهل يصدر إلا من سفيه جاهل تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا. وأما آية تدعو مع الله فستعرف في فصل الدعاء أنها أجنبية عن المقام مع أنه لو صح الاستدلال بها علي عدم جواز طلب الشفاعة من العبد لصح الاستدلال بها علي عدم جواز طلب الدعاء منه لأن كلا منهما دعاء لغير الله يشمله قوله تعالي (فلا تدعوا مع الله أحدا) فأي فارق بين قول يا فلان إشفع لي ويا فلان ادع لي، وطلب الدعاء من الغير لا ينكره الوهابية ولا قدوتهم ابن تيمية إذا كان من الحي كما ستعرف مع شمول الآية له. وجاء في أحاديث كثيرة صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني، وسيأتي حديث صلوا علي ثم اسألوا الله لي الوسيلة فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. والصلاة منا الدعاء ومنه تعالي الرحمة ورفع الدرجة فقد طلب منا " ص " أن ندعو له برفع الدرجة وإعطاء الوسيلة وهو كطلبنا منه الشفاعة بأن يدعو الله أن يغفر ذنوبنا ويدخلنا جنته فكيف صار طلبه منا توحيدا وطلبنا منه شركا ونحن أحوج إلي شفاعته ودعائه منه إلي دعائنا فأي فارق بينهما لولا الجمود وقلة الإنصاف. أما جعل الصنعاني من جملة عبادة المشركين الأصنام اعتقادهم أنها تشفع عند الله ومن جملة عبادة الأنبياء والصالحين اعتقاد ذلك والتشفع بهم ففاسد لأن اعتقاد المشركين في الأصنام أنها تشفع وطلبهم منها الشفاعة خطأ وغلط إذ لم يجعل الله لها شفاعة سواء كانت علي صورة صالح أو غيره فإن الشافع هو الصالح لا الحجر الذي علي صورته كما عرفت بخلاف الاعتقاد بأن الأنبياء والصالحين يشفعون فإنه صحيح مطابق للواقع ليس فيه خطأ ولا غلط فضلا عن كونه عبادة وشركا وكذلك التشفع بهم، علي أن الاعتقاد في حجر أو شجر أنه يشفع وطلب الشفاعة منه لم يعلم كونه عبادة له إنما هو خطأ وغلط، والمشركون لم يعلم أن هذا سبب في شركهم لأنه لم يصدر منهم وحده بل صدر معه ما هو كاف في

ص: 215

الشرك والكفر من إنكار الرسل والشرائع والعبادة للأصنام بغير ما ذكر كما بيناه غير مرة وتعليل الصنعاني وغيره كون اتخاذ الشفعاء شركا بأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فاسد فإن قوله إلا بإذنه مثبت للشفاعة فكيف يكون اتخاذ الشفعاء الذين جعل الله لهم الشفاعة وأذن لهم فيها شركا. وقوله: فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها، رد عليه فاتخاذ الشفيع الذي ذمهم الله عليه هو اتخاذ حجر أو شجر أو صورة شفيعا مع أن الله لم يجعل لها شفاعة ولا هي أهل لها أما الأنبياء الذين أثبت الله لهم الشفاعة التي هي نوع من الدعاء كما عرفت وجعلهم أهلا لها كما تواترت به الأخبار ودل عليه قوله تعالي (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. ما من شفيع إلا من بعد إذنه. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا. ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال البيضاوي: عهدا من الإيمان والعمل الصالح أو إذنا فيها " انتهي " (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) في تفسير البيضاوي: إلا من شهد بالحق بالتوحيد، والاستثناء متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله لاندراج الملائكة والمسيح فيه ومنفصل إن خص بالأصنام " انتهي " فهذه الآيات مثبتة للشفاعة جزما مع إذن الله ورضاه ولسنا نطلب منهم أن يشفعوا لنا قهرا وحتما علي الله ومثبتة لشفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا ومن شهد بالحق فلا ذم علي طلب الشفاعة منهم ولا شرك فيه. وظهر من ذلك بطلان قول الصنعاني إن الاعتقاد في حي أو ميت أنه يقرب إلي الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل إليه تعالي شرك كالاعتقاد في الأوثان، وقوله بمجرد التشفع لا يظهر له معني ولا للتقييد به فائدة فإنه إن أراد منه أنه يشفع بغير إذن الله ويجبر الله علي قبول شفاعته فهذا لا يعتقده مسلم ولا يقول به أحد فما فائدة هذا التقييد وكيف رتبوا عليه استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم. نعم لا يبعد أن يكون عبدة الأصنام يعتقدون مثل ذلك في أصنامهم وأوثانهم كما بيناه في غير هذا الموضع وإن أراد أنه يشفع بمجرد التشفع ويشفعه الله لأن الله أذن له إذنا عاما في الشفاعة عندما يتشفع به أحد ووعده قبول شفاعته لكل من يتشفع به فهذا أيضا لا يعتقده أحد من المسلمين وإن كان ممكنا وجائزا إن دل عليه النقل وإنما يقولون إن الله

ص: 216

تعالي جعل النبي (ص) شافعا ومشفعا كما دلت عليه صحاح أخبارهم لكن لا بلا قيد ولا شرط فقد يتشفع به أحد ويشفع له وقد لا يشفع له لأنه ليس أهلا للشفاعة أو لأن الله لم يأذن له أن يشفع فيه وقد يأذن له في الشفاعة وقد لا يأذن والأمر كله لله تعالي. نعم كلهم يطلبون منه الشفاعة التي هي نوع من الدعاء رجاء أن يشفع فيشفعه الله وليس ذلك حتميا قطعيا فجعل ذلك كالاعتقاد في الأوثان التي ثبت بصريح العقل ونص الشرع عدم قدرتها علي الشفاعة والدعاء وعدم جواز طلبها منها خطأ واضح فما فائدة هذا التقييد؟ أبمثل هذا تستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. ومما ذكرنا يعلم أن قولهم في الكتاب إلي شيخ الركب المغربي بعد ذكر آية ويعبدون من دون الله " الآية ". فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، تقول علي الله وافتراء عليه فالله تعالي في هذه الآية أثبت لهم شيئين عبادتهم الأصنام وقولهم هؤلاء شفعاؤنا وأخبر أنهم أشركوا ولم يخبر إن عبادتهم هي طلب الشفاعة ولا أن طلبهم هو الشرك بل أخبر بأن عبادتهم الأصنام غير قولهم ذلك لاقتضاء العطف المغايرة كما مر وقد أبطلوا في كتابهم المذكور احتجاجهم بآية أن الشفاعة لله جميعا بذكرهم معها الآيات الآخر تفسيرا لها وهي من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا. فبينت أن معني كون الشفاعة كلها لله أنها لا تكون إلا بإذنه وليس لأحد أن يشفع قهرا عنه وبدون رضاه ويلجئه إلي قولها حياء أو خوفا أو غير ذلك كما يقع بين المخلوقين لا أن معناها عدم جواز طلب الشفاعة ممن له الشفاعة. أما ذكرهم في جملة الآيات المستدل بها علي إبطال طلب الشفاعة من غير الله آية فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم فغريب لأن هذه الآية لا ربط لها بطلب الشفاعة وإنما تدل علي عدم قبول عذر أو توبة بعد الموت من الظالمين. ولكن هؤلاء يظنون أن تكثيرهم لسرد الآيات يدل علي أنهم شديدو التمسك بالقرآن. أما قولهم وهو سبحانه لا يرضي إلا التوحيد بعد ذكر آية فيومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، فنعم هو والله لا يرضي إلا التوحيد ولا تكون الشفاعة إلا لأهل التوحيد كما أنه لا يرضي بنسبة الشرك إلي أهل التوحيد لطلبهم الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة ولا ينفع الناسبين تسمية أنفسهم بالموحدين. أما قولهم: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله فإذا كانت حقا فما المانع من طلبها أفيجعل الله طلب الحق باطلا وشركا، تعالي

ص: 217

الله عن ذلك فطلب الحق لا يكون إلا حقا وطلب الباطل لا يكون إلا باطلا والتقييد بقولهم في دار الدنيا دال علي جواز طلبها في الآخرة كما يدل عليه حديث تشفع الناس بالأنبياء واعتذار كل منهم ثم تشفعهم بمحمد (ص) الآتي نقله، وإذا كان طلبها شركا لم يجز في الدنيا ولا في الآخرة وهل منع الناس من الشرك في الدنيا وأبيح لهم الشرك في الآخرة! قولهم: فإذا كان رسول (ص) وهو سيد الشفعاء لا يشفع إلا بإذن الله فكيف بغيره لا يظهر له معني بل تطويل بلا طائل ولا علاقة له بالمقصود فمن الذي ينكر أن الرسول (ص) لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بأمر الله ولا يشفع إلا بإذن الله فضلا عن غيره فهذا ليس محل نزاع بيننا وبينهم إنما النزاع في أن طلب الشفاعة من الرسول (ص) الذي جعل الله له الشفاعة من بعد إذنه وتفضله وهدايته وتعليمه له كيفية الشفاعة وتحديده له حدا، هل يكون طلبنا الشفاعة منه التي جعلها الله له وأذن له فيها شركا وكفرا ومعصية أو لا؟ فهل إذا انتفت الشفاعة إلا بإذن الله يكون طلبها شركا وكفرا وما وجه الملازمة ومن الذي يقول إنه (ص) يشفع قهرا علي الله ولكن كل ما يذكره سلفهم لا بد أن يذكره خلفهم ولو لغير فائدة فانظر رعاك الله بعين البصيرة والإنصاف إلي هذه الاستدلالات الواهية التي بها استحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم هل يسوغ التمسك بها والتهجم علي الدماء والأموال والأعراض بمثلها. قولهم: وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين وأجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم فيا ليت شعري من هو الذي قال وأفتي من علماء المسلمين بأن طلب الشفاعة من رسول الله " ص " كفر وشرك ومتي أجمع علي ذلك علماء المسلمين وفي أي عصر من الأعصار وقع ذلك وفي أي كتاب وجدوه منقولا وهل أحد عنون هذه المسائل قبل الوهابيين وابن تيمية حتي يدعي فيها الاجماع أو عدم الخلاف ومن هو الذي أفتي بها من الأصحاب أو التابعين ومن الذي أفتي بها من الأئمة الأربعة وأين موضعها من كتب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة غير الوهابية ليدلونا علي مكانها إن كانوا صادقين. وكيف خالف أتباع الأئمة الأربعة أئمتهم فيها واتبعهم الوهابية خاصة. والدعاي ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء فدعواهم هذه افتراء منهم علي علماء المسلمين وعلي الأصحاب والتابعين وعلي الأئمة الأربعة وأتباعهم بل الاجماع حاصل من الأنبياء والمرسلين ومن الصحابة والتابعين علي

ص: 218

خلاف ما يقوله الوهابية فقد تشفع وتوسل رسول الله " ص " بمن قبله من الأنبياء وتشفع الأصحاب بالنبي " ص " وبفتح كوة بين قبره وبين السماء وتشفع عمر بالعباس كما سيأتي ذلك كله في الفصل الثالث في التوسل ويأتي في هذا الفصل أنه " ص " أقر الأعرابي علي قوله إنا نستشفع بك علي الله وفي الفصل الثاني أنهم طلبوا من النبي " ص " بعد موته أن يستسقي لهم فسقوا. ومما تقدم تعلم فساد كلام صاحب الرسالة الثانية من الهدية السنية حيث أثبت الشفاعة للنبي " ص " يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال ومنع من طلبها منهم وقال إنها تطلب من الله فقد بان لك أنه لا مانع من طلبها منهم بعد أن ثبتت لهم الشفاعة وأن منع طلبها منهم جهل وغباوة أو عناد ومكابرة أما تعليله كون طلب ذلك في البرزخ شركا بأنه لم يرد به نص من كتاب أو سنة أو أثر من السلف الصالح فغريب لأن عدم ورود النص والأثر من السلف لا يستلزم كونه شركا بشئ من وجوه الاستلزام بل لا يستلزم تحريمه فضلا عن كونه شركا لما عرفت في المقدمات من أصالة الإباحة فيما نص فيه. قوله: بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف إنه شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله " ص "، افتراء علي الكتاب والسنة لما عرفت مفصلا من ورودها كلها بخلاف ما قالوه وإنه " ص " لم يقاتل أحدا علي الاستشفاع بمن له الشفاعة وكذا كلام صاحب الرسالة الأولي منها يظهر فساده مما مر فإنه اعترف بأن الشفاعة حق في الآخرة وأنه يجب علي كل مسلم الإيمان بها وبشفاعة سائر الشفعاء فمنع طلبها بعد الاعتراف بها تمحل وعناد وما لفقه للمنع من طلبها لا يخرج عن العناد كقوله إن لها أنواعا مذكورة في محلها وإنها ثابتة بالوصف وهو من مات لا يشرك بالله شيئا لا بالشخص عدي الشفاعة العظمي فإنها لأهل الموقف عامة وتفريعه علي ثبوتها بالوصف لزوم طلبها من الله بأن يشفع فيه نبيه فإن ذلك كله تمحل في تمحل فما هي تلك الأنواع التي يدعيها والحال أن الشفاعة مرجوة لكل مذنب لم يشرك بالله كما دل عليه حديث أبي هريرة الذي ذكره تصديقا لقوله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد جاء عنه " ص " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وثبوتها بالوصف لا بالشخص لا يظهر له معني محصل وكأنه يريد به أن من ثبتت له معلوم بالوصف وهو عدم الشرك لا بالشخص وهو زيد أو عمرو مثلا لجواز أن لا يموت علي التوحيد فكيف يطلب الشفاعة ولا يخفي

ص: 219

ما في ذلك من التمحل والتعسف فإذا كانت الشفاعة ثابتة بصفة عدم الشرك حال الموت فكل موحد يرجو ثبوتها له فما المانع من أن يطلبها وما وجه الملازمة بين ثبوتها بالوصف وعدم جواز طلبها من غير الله فإن كان وجهه عدم العلم بثبوت الوصف فذلك لا يقتضي المنع من طلبها رجاء لثبوته ولا يقتضي كون طلبها شركا وكفرا ولا يلزم علي من طلب شيئا أن يكون عالما بحصوله وبتحقق شروطه وهل هذا إلا مكابرة وتضييق فيما وسع الله فيه. وقوله إنها ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدي الشفاعة العظمي فإنها لأهل الموقف عامه، أيضا لا يظهر له معني محصل فإن أراد أن هناك شفاعتين عظمي لأهل الموقف عامة مشركهم وموحدهم وغيرها لخصوص الموحدين نافي قوله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به وقوله لا يشفعون إلا لمن ارتضي فإذا كان الله لا يغفر للمشرك ولا يرتضيه فما معني هذه الشفاعة وما فائدتها. قوله: وليس منها ما يقصدون، إذا كانت لأهل الموقف عامة فما وجه خروج ما يقصدون عنها وإذا كانت لمن مات غير مشرك فالمتشفع يرجو أن يكون كذلك. قوله: فالمتعين علي كل مسلم صرف همته إلي ربه، إلي قوله: طالبا لها من النبي أو غيره. هذا تمويه وتضليل فالمتشفع بمن جعله الله شافعا لم يصرف همته إلا إلي ربه ولم يقبل إلا إليه ولم يتكل إلا عليه ولم يفعل شيئا ينافي القيام بحق العبودية له بل ذلك من تمام القيام بحقها لأنه عن أمر الله الذي جعله شافعا فنحن لم نطلب منه إلا ما جعله الله له وما جعله له إلا ليطلب منه كما كان طلب الدعاء من الغير كذلك مع عدم الفرق بينهما فنسبة المسلمين إلي أنهم بطلبهم الشفاعة من النبي " ص " أهملوا ذلك والتجأوا إلي غير الله مقبلين علي شفاعته متوكلين عليها افتراء عليهم وكيف يتصور عاقل إن طلب الشفاعة إلي الله في غفران الذنب ونيل الخير منه تعالي ممن جعل الله له الشفاعة هو إعراض عن الله والتجاء إلي غيره وتوكل علي غيره وكيف لم يكن طلب الدعاء من الغير كذلك وطلب الشفاعة لا يخرج عن طلب الدعاء والكل من الله وإلي الله وفي الله. قوله: فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم قد عرفت بما كررناه مرارا أنه لا مساس لذلك بفعل المشركين ولا باعتقادهم فإنهم كذبوا الرسل وعبدوا الأصنام وأعرضوا عن عبادة الله واعتقدوا الشفاعة فيمن لم يجعل الله له شفاعة وعظموا من لا يستحق التعظيم من تمثال وشجر ونحوه. قوله: ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد، لا يجوز دخول لا النافية علي الماضي إلا

ص: 220

مكررة أو مسبوقة بنفي، واعتقاد أن النبي " ص " شافع مشفع وصاحب الوسيلة عند الله وأنه يستغفر للمذنبين من أمته بعد وفاته كما أخبر عن نفسه (1) وأنه مجاب الدعوة وأن دعاءه لنا أرجي في الإجابة من دعائنا لأنفسنا هو عين الحق والصواب. فجعله سببا لكل فتنة نشأت في الوجود ضلال وخذلان نعوذ بالله منه. نعم إن اعتقاد الوهابيين أن ذلك كفر وشرك واستحلالهم به الدماء والأموال كان سببا لكل فتنة في الوجود بغزوهم بلاد الإسلام وإراقتهم الدماء ونهبهم الأموال وتفريق كلمة المسلمين وكسر شوكتهم وزيادتهم ضعفا إلي ضعفهم فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: ولهذا حسم مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله، لا يتوهم عاقل ولا جاهل إن الشفاعة تكون بغير إذن الله وقهرا عليه فالتعبير بقوله حسم مادة الشفاعة بغير إذنه لا مناسبة له ولا محل فحسم المادة يكون بنفي كل شفاعة والله تعالي بآية من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قد أثبتت الشفاعة بإذنه ونفاها بغير إذنه فلم يحسم مادتها وما وجه الربط بين هذه العلة والمعلول فإذا كان الله تعالي قد نفي الشفاعة بغير إذنه أو حسم مادتها بغير إذنه كما يقول هذا الوهابي فهل يلزم أن يكون طالب الشفاعة من النبي " ص " الذي جعل الله له الشفاعة وأذن له فيها كافرا ومشركا. وهل طالب الشفاعة من النبي " ص " يقول له إشفع لي قهرا علي الله رضي أم أبي أذن أم لم يأذن، بالدبوس كدين الوهابية. كلا فانظر رعاك الله إلي هذه التعليلات وإلي هذه النتائج والمقدمات التي استحلوا بها الدماء والأموال واعجب ثم أعجب. قوله: ولهذا قال لله الشفاعة جميعا قد عرفت أن المراد بها أنه تعالي مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فلا تزيد عن الآية الأولي. أما قوله تعالي: وما نري معكم شفعاءكم الخ، فالمراد بشفعائهم الأصنام والأحجار التي كانوا يزعمون أنها شركاء فيهم ولها نوع اختيار معه تعالي وتصرف في الكون وهي جماد لا الأنبياء والمرسلين الذين لا يعتقد مسلم فيهم شيئا من ذلك سوي ما جعله الله لهم من الشفاعة عنده والمنزلة لديه فإنهم حاضرون مع أممهم يشفعون لها ولم يتقطع ما بينهم وبينها ولا ضلت عنهم لا سيما نبينا محمد " ص " الذي هو وسيلة الخلق يوم القيامة دون الأنبياء قوله: وطلبها من غير الله في هذه الدار

ص: 221


1- 93. بقوله ووفاتي خير لكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت لكم كما مر في المقدمات. - المؤلف -.

زعم بعدم تعلقها بالإذن الخ لا ندري ولا المنجم يدري لماذا كان طلبها في هذه الدار زعما بعدم تعلقها بإذن الله ولماذا كان تعلقها بإذن الله منافيا لطلبها وبأي وجه يدل قولنا يا رسول الله إشفع لي علي إرادة إشفع لي رغما عن الله وقهرا عليه وبدون إذنه وهل إذا طلبنا منه الشفاعة يمتنع ويستحيل ولا يمكن أن يستأذن ويشفع فيكون طلب الشفاعة منافيا لتعلقها بالإذن ونفي الولي والشفيع في الآيتين يراد به النفي المقيد الذي هو من دون الله وفي قباله وبغير أمره وإذنه لا مطلق الشفيع الثابت بالاستثناء في قوله تعالي إلا بإذنه وبالضرورة من دين الإسلام ولا مطلق الولي الثابت بقوله تعالي (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " الآية " وغير ذلك. قوله: والعبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كلام لا يرتبط بالمقصود ولا يثمر غير التطويل بلا طائل سمعه ولم يعرف موضعه فسواء كانت الآيتان واردتين في مورد خاص أو لا لا تدلان علي منع طلب الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة كما عرفت. أما قول ابن عبد الوهاب إن الشفاعة شفاعتان منفية ومثبتة وجعله المنفية ما تطلب من غير الله واستشهاده علي ذلك بآية لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والمثبتة ما تطلب من الله فهو تخرص علي الغيب وتفسير للقرآن بالرأي والهوي وبغير الوجه الذي يجب أن يفسر به فإن قوله تعالي ولا شفاعة، عام أو مطلق يجب تخصيصه أو تقييده بالآيات الأخر مثل (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) لوجوب حمل العام علي الخاص والمطلق علي المقيد كما بيناه في المقدمات فيحمل قوله ولا شفاعة علي الشفاعة لغير من يرتضي كالمنكر له تعالي أو المشرك به أو من يشفع بغير إذنه أو نحو ذلك أما حمل قوله تعالي ولا شفاعة علي نفي الشفاعة المطلوبة من غير الله فلا دليل عليه ولا يساعده العرف مع أنه تعالي أمر بالإنفاق من قبل أن يأتي لا شفاعة فيه والمراد به يوم القيامة فهو تعالي نفي الشفاعة في يوم القيامة ولم ينف الشفاعة المطلوبة في الدنيا ولا يمكن أن يراد بهذا اللفظ نفي الشفاعة في الدنيا. وقد ظهر مما مر ويأتي في فصل الدعاء فساد قول ابن عبد الوهاب في تعليمه الاحتجاج: إن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا أي إن تطلبها منه وقال فلا تدعوا مع الله أحدا، لما ستعرف من أن الدعاء المنهي عنه في الآية لا يشمل طلب الشفاعة كما لا يشمل طلب الدعاء التي هي نوع منه ولا يمكن أن يكون شاملا لذلك إذ يكون محصله إن الله تعالي أباح لك

ص: 222

أن تطلب من كل أحد ما أعطاه الله إياه إلا الشفاعة فحجر عليك طلبها من النبي " ص " وأن أعطيها تحكما من غير فارق إلا توهم كون طلبها عبادة وهو توهم سخيف كما عرفت وهذا لا يليق أن يصدر من سفيه فضلا عن رب العزة جل وعلا. وظهر أيضا أن قوله في تعليمه الاحتجاج: الشفاعة أعطيها غير النبي " ص " فصح أن الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت: الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم رجعت إلي عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالي في كتابه - كلام فارغ لا يرجع إلي محصل بل هو افتراء علي الله تعالي وعلي كتابه فمتي ذكر الله تعالي في كتابه إن طلب الشفاعة من الصالحين عبادة وفي أي سورة أم في أي آية ورد هذا أم أي مفسر ذكر ذلك؟! غاية ما عند ابن عبد الوهاب إن اللات اسم رجل صالح وإن المشركين كان لهم صنم علي صورته وإنهم قالوا ما نعبد الأصنام إلا ليقربونا إلي الله وإن الله قال عنهم ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا وقد اتضح لك إن ذلك أبعد مما يرومه ابن عبد الوهاب من السماء عن الأرض لصراحة الآيات كما مر في عبادتهم الأصنام وإنها غير طلب الشفاعة وإنهم طلبوا الشفاعة من الصنم الذي هو حجر لا من الصالح الذي ذلك الحجر علي صورته وكون بعض الأصنام المعبودة كانت علي صورة موهومة لرجل صالح لا يوجب أن يكون الصادر منهم مجرد التشفع برجل صالح ولا يرتبط به ولا يستلزمه بشئ من وجوه الاستلزام فجعله طلب الشفاعة من الصالحين رجوعا إلي عبادتهم التي زعم أنه تعالي ذكرها في كتابه قريب من الهذيان فالملائكة والأولياء وإن ثبتت لهم الشفاعة كما سبق إلا أن من سألهم الشفاعة والاستغفار له لا يكون عابدا لهم ولا يزيد علي من يسأل أخاه الاستغفار له. والذين أشركوا من العرب بعبادتهم الملائكة لم يشركوا بطلبهم منهم الشفاعة بل اتخذوهم أربابا وقالوا إنهم بنات الله كما مر. ثم إن ابن عبد الوهاب صرح فيما يأتي في فصل الدعاء والاستغاثة بأن طلب المقدور من غير الله تعالي ليس شركا ولا محرما وإنما الموجب للشرك أن يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله وحينئذ فمنعه من طلب الشفاعة من النبي " ص " مع اعترافه بأن له الشفاعة وأنه يقدر عليها ولو بعد الاستئذان من الله تعالي وأنه الشفيع المشفع تناقض ظاهر كما سيأتي بيانه وما الذي فرق بين الشفاعة وغيرها حتي منع الله تعالي من طلب الشفاعة من غيره وإن كان قادرا عليها وجوز طلب الدعاء من المؤمن الذي هو مثلها وغير ذلك مما

ص: 223

يقدر عليه هل هو إلا نسبة التحكم إلي الله تعالي والعبث تعالي الله عن ذلك. أما كلام ابن تيمية في رسالة زيارة القبور الذي فتح به هذا الباب للوهابية بقوله: وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلي الله مني ليشفع لي وجعله التشفع والتوسل إلي الله كما يتوسل إلي السلطان بخواصه من أفعال الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم شفعاء والمشركين وعبدة الأصنام الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا واستشهاده علي ذلك بآيات الشفاعة وزعمه أنه تعالي بين الفرق بينه وبين خلقه ففساده أوضح من أن يبين بعدما أثبت الله الشفاعة رأفة بالمذنبين من عباده ليتسببوا إلي نيل رضاه وعفوه وجعلها لمن يكرم عليه من أنبيائه وأوليائه كما يستشفع ويتوسل إلي السلطان بخواصه ومن يكرم عليه لكن السلطان يقضي حاجته رغبة أو رهبة أو حياء أو غير ذلك والله تعالي يقضي حاجته كرما ورحمة ورأفة ولا ينافي ذلك كونه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإن الأمر كله له والذين أخبر الله عنهم إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لم يكن ذلك لأجل طلبهم منهم الشفاعة بل إنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم كما جاء في بعض الأخبار فهو نظير قوله تعالي اتخذ إلهه هواه والذين عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا تشفعوا بأحجار لا تعقل ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع فذمهم الله تعالي بقوله أم اتخذوا من دون الله شفعاء وبين وجه ذمهم بقوله أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فجعل التشفع بأنبياء الله وأوليائه الذين يعقلون ويملكون أمر الشفاعة حيث إنه تعالي جعل لهم الشفاعة وملكهم أمرها وأذن لهم فيها كالتشفع بالأصنام التي لا تعقل ولا تملك شفاعة جهل محض. وما بينه ابن تيمية في تفسير (لله الشفاعة جميعا. ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) من الفرق بين الشفاعة عند الله وعند خلقه يبطل استدلالهم بآية لله الشفاعة جميعا علي عدم جواز طلبها من غير الله لأنه ذكر في وجه الفرق أن عادة الناس أن يستشفعوا إلي الكبير بمن يكرم عليه فيقضي حاجته رغبة أو رهبة أو حياء أو مودة أو غير ذلك والله تعالي لا يشفع عنده أحد حتي يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء الله وشفاعة الشافع من إذنه والأمر كله له فهذا معني إن الشفاعة كلها لله لا أنه لا يجوز طلبها من غيره. هذا مع دلالة جملة من الأخبار علي جواز طلب الشفاعة من النبي " ص " وغيره في دار

ص: 224

الدنيا لأمور الدنيا والآخرة فعن صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس عن النبي " ص " ما من رجل مسلم يموت فيقوم علي جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا (1) إلا شفعهم الله فيه. وعن صحيح مسلم عن عائشة عن النبي " ص " ما من ميت يموت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه وهذان الخبران يدلان علي جواز الشفاعة في الدنيا من آحاد المؤمنين وأنها لا تختص بالآخرة ولا بالأنبياء فهل إذا أوصي رجل جماعة من إخوانه أربعين أو مائة أن يقوموا علي جنازته ويشفعوا فيه أو يصلوا عليه ويشفعوا فيه يكون مشركا وآثما مخطئا عند محمد بن عبد الوهاب واتباعه لأنه طلب منهم الشفاعة وخالف قوله تعالي فلا تدعوا مع الله أحدا كما يكون طالبها من النبي " ص " كذلك، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وعن الترمذي عن أنس سألت النبي " ص " أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل قلت فأين أطلبك قال أولا علي الصراط قلت فإن لم ألقك قال عند الميزان قلت فإن لم ألقك قال عند الحوض فإني لا أخطي هذه المواضع. فهذا أنس قد طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا ولم يطلبها من الله كما يريد ابن عبد الوهاب وأقره النبي " ص " علي ذلك أفهل كان أنس بذلك آثما ومشركا والنبي " ص " أقره علي معصيته وشركه وابن عبد الوهاب وحده موحدا أم إن النبي " ص " لم يسمع بقوله تعالي: لله الشفاعة جميعا. ولا تدعوا مع الله أحدا. ولذلك لم ينه أنسا عن طلب الشفاعة منه أو سمعه النبي " ص " ولم يفهم معناه وفهمه محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لأنهم أعلم بكتاب الله تعالي من رسول الله " ص " وأصحابه. وقد طلب سواد بن قارب وهو من الصحابة الشفاعة من النبي " ص " كما سيأتي في الفصل الثالث في التوسل: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب ولم ينكر عليه رسول الله " ص " ولم ينهه ولم يقل له لم طلبت الشفاعة مني ودعوت غير

ص: 225


1- 94. بناء علي إشراك جميع المسلمين يلزم أن يكون الأربعون من أعراب نجد حتي تقبل شفاعتهم. - المؤلف -.

الله فأشركت مع أن الشفاعة كلها لله ولا يجوز أن يدعي أحد مع الله فادع الله واطلب الشفاعة منه وقل يا الله شفعه في كما يقوله ابن عبد الوهاب. وفي السيرة الحلبية (1) عن ابن إسحاق في كتاب المبدأ إن تبعا الحميري آمن بالنبي " ص " وكتب كتابا فوصل إلي النبي " ص " بعد مبعثه وفيه إن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني وإن النبي " ص " قال مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات " انتهي " ولو كان هذا شركا وكفرا لوجب أن ينكره لا أن يرحب بصاحبه ثلاثا ويسميه الأخ الصالح ولو أنكره لنقل عنه. وقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (2) ما لفظه: في الحديث أن أعرابيا قال للنبي " ص " جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك وبك علي الله فسبح رسول الله صلي الله عليه وآله حتي عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك إن الله لا يستشفع به علي أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. قال فأقره علي قوله إنا نستشفع بك علي الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالي لا يسأل العبد ولا يستشفع به " انتهي " فإقرار النبي " ص " له علي قوله إنا نستشفع بك علي الله دليل علي جواز طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا وأنه ليس فيها شائبة منع. واتضح فساد قول الوهابيين إن الشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله فقد أقر النبي " ص " علي طلبها منه في دار الدنيا لأمور الدنيا ولغيرها ومع هذا كله يعاند الوهابيون ويصرون ويتمحلون ويخالفون صريح السنة ليستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ويزعمون أنهم بها يتمسكون فإنا لله وإنا إليه راجعون. لا يقال: الذي أنكره الوهابية طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا بعد موته وهذه الروايات كلها في طلب الشفاعة من الأحياء فلا يتم الاستدلال. لأنا نقول الدليل الذي استدلوا به علي عدم جواز طلب الشفاعة في دار الدنيا وأنها شرك إن تم لا يفرق بين طلبها من الحي وطلبها من الميت وهو قوله تعالي لله الشفاعة جميعا فلا تدعوا مع الله أحدا. مع أنها قد وردت أخبار في طلب الشفاعة منه " ص " بعد موته. وهي ما سيأتي من أن ابن حنيف علم رجلا أن

ص: 226


1- 95. ص 88 ج 2.
2- 96. ص 155.

يقول في دعائه في خلافة عثمان يا محمد إني أتوجه بك إلي ربك أن تقضي حاجتي ويذكر حاجته وأنه فعل ذلك فقضيت حاجته. وما رواه المفيد في المجالس عن ابن عباس أن أمير المؤمنين " ع " لما فرغ غسل النبي " ص " كشف الإزار عن وجهه ثم قال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا. إلي أن قال: بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك ثم أكب عليه فقبل وجهه. وفي خلاصة الكلام: صح أنه لما توفي " ص " أقبل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك " انتهي " وهذا استشفاع به " ص " في دار الدنيا بعد موته. كل هذا والوهابية وأتباعهم يزعمون أنهم سلفيون متمسكون بأقوال السلف وبأقوال الصحابة. وفي خلاصة الكلام: عن شرح المواهب للزرقاني أن الداعي إذا قال اللهم إني أستشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة إشفع لي عند ربك استجيب له " انتهي " وسيأتي في فصل التوسل من جملة الدعاء الذي ذكره العلماء في باب آداب الزيارة خطابا له " ص " جئناك لقضاء حقك إلي قوله والاستشفاع بك فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك فاستغفر لنا وأشفع لنا الخ ويأتي هناك أن كثيرا من علماء المذاهب الأربعة ذكروا في كتب المناسك عند ذكر الزيارة استحباب التشفع به (ص). الفصل الثاني في دعاء غير الله تعالي والاستغاثة والاستعانة به وطلب الحوائج منه وهذا مما صرح الوهابية وقدوتهم ابن تيمية بأنه موجب للشرك والكفر ففي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) أن قول أدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني علي عدوي ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالي إذا طلب في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك وادعي ورود الكتاب والسنة وإجماع السلف إن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله (ص) وصرح بذلك ابن تيمية في كلامه المتقدم في الباب الثاني المنقول عن رسالة الواسطة وصرح به في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور في عدة مواضع وهي جواب لمن سأله عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره يطلب إزالة ذلك ويقول يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك فلان ظلمني فلان قصد أذيتي ويقول إن المقبور يكون

ص: 227


1- 97. ص 40.

واسطة بينه وبين الله تعالي. وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع وفيمن يجئ إلي شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك وفيمن يقصده بحاجته ويقول يا فلان ببركتك أو يقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ وفيمن يعمل السماع ويجئ إلي القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه علي الأرض ساجدا وفيمن قال إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود. ومما جاء في الجواب قوله (1) : من يأتي إلي قبر نبي أو صالح ويسأله حاجته ويستنجده مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو يقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صحيح (صريح ظ) يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل ثم ذكر (2) عن وثيمة وغيره أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما وكان العكوف علي القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان ولهذا قال النبي (ص): (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) إلي أن قال (3) : وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي (ص) والرجل الصالح في حياته وسؤاله بعد موته وفي مغيبه وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد في حضوره إلي أن قال (4) : ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتخيرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف قال ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت وغائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصاري في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم علي الله نبينا محمد (ص) واعلم الناس بقدره وحقه أصحابه ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك لا في مغيبه ولا بعد مماته. وقال ابن تيمية أيضا في رسالة القبور (5) : وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلي الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك - من أقوال المشركين فإن الله تعالي يقول (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)

ص: 228


1- 98. صفحة 156.
2- 99. صفحة 161. [
3- 100. صفحة 262.
4- 101. صفحة 162 طبع المنار بمصر.
5- 102. صفحة 157.

إلي أن قال: وأمر الله العباد أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) وأخبر عن المشركين أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلي الله زلفي ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت غير الله فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر علي عطاء سؤالك أو ارحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤال غيره، إلي أن قال: وإن كنت تعلم أنه أقرب إلي الله منك وأعلي درجة فهذا حق لكن كلمة حق أريد بها باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلي درجة فإنما معناه أن يثيبه الله ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين علي ما يكرهه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولي بالرحمة والقبول وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته كما تقول للحي ادع لي وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلي الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي دون الميت إلي آخر ما يأتي في هذا الفصل. وقال ابن تيمية أيضا في رسالة زيارة القبور (1) ما حاصله: مطلوب العبد إن كان مما لا يقدر عليه إلا الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتخذ المسيح وأمه الآهين مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت اغفر ذنبي أو انصرني علي عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك وإن كان مما يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالي (فإذا فرغت فانصب وإلي ربك فارغب) وأوصي النبي (ص) ابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأوصي طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه وقال فهذه المنهي عنها والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه الخ. وصرح محمد بن عبد الوهاب في كلامه السابق في الباب الثاني بأن دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين والدخول في عداد المشركين وعبدة

ص: 229


1- 103. صفحة 153 - 155 طبع المنار بمصر.

الأصنام واستحلال المال والدم إلا مع التوبة بقوله: إن النبي " ص " قاتل المشركين لتكون جملة أشياء كلها لله وعد منها الدعاء والاستغاثة وغير ذلك من كلماتها السابقة. وقال في رسالة كشف الشبهات (1) عند تعليمه الاحتجاج علي المسلمين المشركين بزعمه فإن قال (أي الخصم من المسلمين الذي هو مشرك بزعمه): أنا لا أعبد إلا الله والالتجاء إلي الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له أنت تقر إن الله فرض عليك إخلاص العبادة فبين لي هذا الذي فرض عليك فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقوله تعالي (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) إذا عملت بهذا هل هو عبادة فلا بد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة فقل إذا دعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ودعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله فلا بد أن يقول نعم فقل له وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره وإن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجؤا إليهم للجاه والشفاعة ثم قال فإن قال أنا لا أشرك بالله حاشا وكلا والالتجاء إلي الصالحين ليس بشرك فقل إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنا وأن الله لا يغفره فما هو فإنه لا يدري فقل كيف تبرئ نفسك من الشرك ولا تعرفه فإن قال الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبدها فقل ما معني عبادتها أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها فهذا يكذبه القرآن يعني قوله تعالي (قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية) أو هو قصد خشبة أو حجر أو بنية أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلي الله زلفي ويدفع عنا ببركته وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا التي علي القبور وغيرها وأيضا قولك الشرك عبادة الأصنام هل تريد إن الشرك مخصوص بهذا وإن الاعتماد علي الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا فهذا يرده ما في القرآن من كفر من تعلق علي الملائكة وعيسي والصالحين. وقال في الرسالة المذكورة أيضا (2) : ولهم شبهة أخري وهي ما ذكر النبي (ص)

ص: 230


1- 104. صفحة 62 - 64 طبع المنار بمصر.
2- 105. صفحة 70 طبع المنار بمصر.

أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسي ثم بعيسي فكلهم يعتذر حتي ينتهوا إلي رسول الله (ص) فهذا يدل علي أن الاستغاثة بغير الله ليست شركا، قال: والجواب أن نقول سبحان من طبع علي قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها (فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه) وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العباد عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتي يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح تقول له ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله (ص) يسألونه في حياته وأما بعد مماته فحاش وكلا أنهم سألوا ذلك بل أنكر السلف علي من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه. ثم قال (1) ولهم شبهة أخري وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبرائيل في الهواء فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا فلو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها علي إبراهيم. وأجاب بأن جبرائيل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله فيه (شديد القوي) فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم ويلقيها في المشرق أو المغرب أو يضيع إبراهيم عنهم في مكان بعيد أو يرفعه إلي السماء لفعل وهذا كرجل غني يعرض علي رجل محتاج أن يقرضه أو يهبه فيأبي ويصبر حتي يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون " انتهي ". وصرح الصنعاني في كلامه السابق في الباب الثاني بأن من فعل ذلك أي الدعاء والنداء والاستعانة والالتجاء لمخلوق فقد أشرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا وصار بهذه العبادة أو أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده ولم يخرجه إقراره وعبادته عن الشرك وعن وجوب سفك دمه وسبي ذراريه ونهب أمواله كما لم يخرج المشركين. وذكر الصنعاني في تطهير الاعتقاد سؤال استغاثة الناس بآدم عليه الناس يوم القيامة بما يقرب مما تقدم عن ابن عبد الوهاب إلا أنه قال فإن قلت الاستغاثة قد ثبتت في

ص: 231


1- 106. ص 71.

الأحاديث فإنه قد صح إن العباد يستغيثون بآدم الخ وقال بدل ليست شركا ليست بمنكر وقال قلت هذا تلبيس فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد. إلي أن قال: وإنما الكلام في استغاثة المقبورين وغيرهم بأوليائهم وطلبهم منهم أمورا لا يقدر عليها إلا الله تعالي من عافية المريض وغيرها. إلي أن قال: نعم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالي يفصل بين العباد بالحساب حتي يريحهم من هول الموقف وهذا لا شك في جوازه أعني طلب الدعاء لله تعالي من بعض عباده لبعض وأمرنا سبحانه أن ندعوا للمؤمنين ونستغفر لهم يعني قوله تعالي (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). قال: وقد قالت أم سليم رضي الله عنها يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه " ص " وهو حي وهذا أمر متفق علي جوازه والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم وينفسوا علي حبلاهم ويسقوا زرعهم ويدروا ضروع مواشيهم ويحفظوها من العين ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالي هؤلاء الذين قال الله فيهم والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وصرح بذلك الوهابية في كتابهم إلي شيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني. ثم إن حاصل استدلال الوهابيين علي عدم جواز دعاء غير الله تعالي بنحو الاستغاثة والاستعانة وطلب الحوائج علي أحد الوجوه المبينة في صدر الجواب وإنه كفر وشرك أكبر كدعاء الأصنام علي ما يفهم من كلماتهم المار ذكرها وكما في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية (1) إنه تعالي قال (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ. والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير. والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " الآية ". قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا

ص: 232


1- 107. ص 86.

تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " الآية ". إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم " الآية ". ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له " الآية "). وقال الصنعاني في تنزيه الاعتقاد وقد سمي الله الدعاء عبادة بقوله (ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي الآية) وفي الهدية السنية (1) عنه " ص " الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وفي رواية الدعاء هو العبادة ثم قرأ " ص " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي " الآية " رواه أحمد وأبو داود والترمذي " انتهي ". ومن هتف باسم نبي أو صالح عند الشدائد كقول يا رسول الله يا ابن عباس بدون أن يتبعه بشئ أو قال إشفع لي إلي الله في حاجتي أو أستشفع بك إلي الله في حاجتي أو نحو ذلك أو قال اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخها كما عرفت فيكون قد عبد غير الله وصار مشركا إذ لا يتم التوحيد إلا بتوحيده تعالي في الإلهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنما أشركوا بعدم توحيد الله في العبادة كما مر مفصلا. والجواب: إن الدعاء والاستغاثة بغير الله يكون علي وجوه ثلاثة، الأول: أن يهتف باسمه مجردا مثل أن يقول يا محمد يا علي يا عبد القادر يا أولياء الله يا أهل البيت ونحو ذلك. الثاني: أن يقول يا فلان كن شفيعي إلي الله في قضاء حاجتي أو ادع الله أن يقضيها أو ما شابه ذلك. الثالث: أن يقول اقض ديني أو اشف مريضي أو انصرني علي عدوي وغير ذلك. وليس في شئ من هذه الوجوه الثلاثة مانع ولا محذور فضلا عما يوجب الاشراك والتكفير لأن المقصود منها طلب الشفاعة وسؤال الدعاء سواء صرح بذلك كما في الوجه الثاني أو لا كما في الوجهين الباقيين للعلم بحال المسلم الموحد المعتقد إن من عدا الله تعالي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا فبسبب ذلك نعلم أنه لم يقصد سوي طلب الشفاعة والدعاء ولو فرض أننا جهلنا قصده لوجب حمله علي ذلك سواء صدر من عارف أو عامي لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم علي الصحة مهما أمكن حتي يعلم الفساد

ص: 233


1- 108. ص 86.

وعدم جواز تكفير المقر بالشهادتين إلا بما يوجب كفره علي اليقين وعدم جواز التهجم علي الدماء والأموال والأعراض بغير اليقين كما مر في المقدمات فيكون ذلك هو المحذوف المطلوب من المدعو في الوجه الأول ويكون إسناد الفعل إلي المدعو مجازا في الإسناد في الوجه الثالث من باب الإسناد إلي السبب لكونه بدعائه وشفاعته سببا في ذلك كما في بني الأمير المدينة وشفي الطبيب المريض فإن ذلك صحيح في لغة العرب كثير فيها وفي القرآن الكريم وهو المسمي عند علماء البيان بالمجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلي غير ما هو له من سبب أو غيره، والقرينة عليه هنا ظاهر حال المسلم فإن كون المتكلم به مسلما يعتقد ويقر بأن من عدا الله تعالي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بإقدار الله تعالي يكفي قرينة علي ذلك ولهذا ذكر علماء البيان أن مثل انبت الربيع البقل إذا صدر من الدهري كان حقيقة وإذا صدر من المسلم كان مجازا عقليا كما تقدم تفصيله في المقدمات وأي فارق بين انبت الربيع البقل وبين ما نحن فيه فليكن هذا الإسناد كإسناد الرزق وما يجري مجراه إلي غير الله تعالي في قوله تعالي (فارزقوهم منها. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله) والإغناء لا يقدر عليه إلا الله فكيف نسبه إلي الرسول " ص " وجعله شريكا لله في ذلك وهل هو إلا كالرزق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالي وهم قد جعلوا قول ارزقني: شركا وكفرا وقد نسب الله تعالي إلي عيسي عليه السلام الخلق وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتي بإذن الله بقوله حكاية عنه (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله) فكيف جاز نسبة ذلك إليه ولم يكن كفرا ولا شركا ولم يجز نسبة شفاء المريض وقضاء الدين والرزق ونحو ذلك إلي النبي أو الولي بإذن الله فإن كان المانع أنه لا يقدر عليه إلا الله فالكل كذلك وإن كان عدم القدرة بعد الموت فهي حاصلة بما دل علي حياة الأنبياء بل وغيرهم في عالم البرزخ. وإلي ما ذكرناه أشار عالم المدينة السمهودي الشافعي في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفي (1) بقوله: وقد يكون التوسل به (ص) بطلب ذلك الأمر منه بمعني أنه " ص " قادر علي التسبب فيه بسؤاله وشفاعته إلي ربه فيعود إلي طلب دعائه وإن اختلفت العبارة

ص: 234


1- 109. صفحة 421 ج 2 طبع عام 1326 بمصر.

ومنه قول القائل له أسألك مرافقتك في الجنة " الحديث " ولا يقصد به إلا كونه " ص " سببا وشافعا انتهي " وفي قول القائل أسألك مرافقتك في الجنة في الحديث المشار إليه رد لما توهموه من كفر من قال اشف مريضي وانصرني علي عدوي ونحوه حتي ادعي ابن تيمية إجماع المسلمين علي ذلك كما مر في الباب الثاني فمرافقته في الجنة لا يقدر عليها غير الله نظير غفران الذنب وشفاء المريض بل لو فرض أنه ليس ظاهر حال القائل ما ذكرنا وتساوي الاحتمالان أو ضعف الاحتمال الصحيح لم يجز الحكم بالكفر والشرك لوجوب الحمل علي الصحة ولو مع الاحتمال الضعيف وعدم جواز التكفير إلا مع اليقين، نعم لو قصد في الوجه الأول والثالث إن المستغاث به هو الفاعل لذلك اختيارا واستقلالا بدون واسطته تعالي وإقداره فالمسلمون منه براء ولكنه لا يوجد بين المسلمين أحد يقصد ذلك نعم ربما يوجد من لا يخطر بباله شئ تفصيلا فيجب حمله أيضا علي الوجه الصحيح من طلب الدعاء والشفاعة دون غيره لأنه وإن لم يقصد ذلك ولم يلتفت إليه تفصيلا إلا أنه مقصود له إجمالا ولهذا لو سئل أنك هل تعتقد أنه قادر علي ذلك بلا واسطته تعالي لقال كلا لا اعتقد ذلك وتبرأ ممن يعتقده ولو قيل له هل مرادك طلب الدعاء والشفاعة لقال نعم. وحيث ظهر أن مرجع ذلك إلي طلب الشفاعة وسؤال الدعاء، فنقول: أما الشفاعة فمضي الكلام فيها في الفصل السابق وأنها لا تخرج عن سؤال الدعاء، وأما سؤال الدعاء فلا مانع منه عقلا ولا شرعا من حي ولا ميت أما من الحي فاعترف الوهابيون (والمنة لله) بجوازه ولم يجعلوه شركا ولا كفرا ولا بدعة صرح بذلك ابن عبد الوهاب الصنعاني وقبلهما ابن تيمية. قال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (1) ثبت عنه صلي الله عليه وآله (ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك ولك مثل ذلك) ومن المشروع في الدعاء إجابة غائب لغائب (2) ولهذا أمر " ص " بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ففي الحديث إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي فإن من صلي علي مرة صلي الله عليه عشرا ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن

ص: 235


1- 110. صفحة 155.
2- 111. كأن صوابه ومن المشروع في إجابة الدعاء دعاء غائب لغائب - المؤلف -.

سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. ويشرع طلب الدعاء ممن هو فوقه ودونه فإن النبي صلي الله عليه وآله ودع عمر إلي العمرة وقال لا تنسنا من دعائك يا أخي وثبت في الصحيح أنه صلي الله عليه وآله ذكر أويس القرني وقال لعمر إن استطعت أن يستغفر لك فافعل وفي الصحيحين كان بين أبي بكر وعمر " رض " شئ فقال أبي وبكر لعمر استغفر لي لكن في الحديث إن أبا بكر ذكر أنه حنق علي عمر وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلي الله عليه وآله أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فسقوا " انتهي " ثم ذكر حديث الأعرابي الذي قال للنبي " ص " ادع لنا ولم ينكر عليه وقد مر في فصل الشفاعة. والجواب عن احتجاجهم علي عدم جواز دعاء غير الله والاستعانة والاستغاثة به بآية فلا تدعوا مع الله أحدا وما ذكر معها - إن الدعاء في اللغة مطلق النداء قال الله تعالي (يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ويطلق الدعاء علي سؤال الله تعالي والرغبة إليه وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه باعتقاد أنه مالك أمر الدنيا والآخرة وبعبارة أخري باعتقاد ألوهيته واستحقاقه العبادة والتعبد والخضوع له بذلك إطاعة لأمره وإطلاق الدعاء علي ذلك أما لأنه أحد أفراد المعني اللغوي أو لصيرورته حقيقة عرفية في ذلك أو مجازا مشهورا وقد ورد في الشرع الحث علي دعاء الله تعالي وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه وسمي عبادة قال الله تعالي (ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال زين العابدين علي ابن الحسين " ع " في دعائه بعد ذكر الآية (فسميت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعدت عليه دخول جهنم داخرين) حتي ورد أن الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة كما ذكروه في احتجاجهم وبمضمونه عدة روايات. وإنما كان كذلك لما فيه من إظهار نهاية الخضوع والتذلل لله تعالي والافتقار إليه وأن الأمور كلها بيده ولهذا أمر بالدعاء وحث عليه مع أنه أعلم بحوائجنا منا وارأف بنا من كل أحد ولكنه أراد أن نظهر له غاية الخضوع والعبودية وننزل به حوائجنا جليلها وحقيرها حتي ورد أنه أوحي إلي موسي " ع " يا موسي اسألني حتي علف دابتك وقوت يومك أو ما هذا معناه. ولا شك أن مطلق الدعاء والمناداة وطلب الحاجة من غير الله لا يكون عبادة ولا ممنوعا منه فمن دعا رجلا ليأتي إليه أو ليعينه وينصره أو ليناوله شيئا أو يقضي له حاجة

ص: 236

لم يكن عابدا له ولا آثما. فقوله تعالي (فلا تدعوا مع الله أحدا) لا يراد به مطلق الدعاء قطعا بل دعاء خاصا وهو الدعاء المساوي لدعاء الله تعالي باعتقاد أن المدعو قادر مختار مساو لله في ذلك كما كان غير المسلمين يفعلون ذلك في معابدهم أو دعاء من نهي الله عن دعائه من الأصنام والأوثان التي هي أحجار وأشجار لا تعقل ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ولا تسأل ولا تشفع كما كان يفعله المشركون في الكعبة أو دعاء الملائكة والجن الذين كانوا يعبدونهم ويعتقدون أن لهم تأثيرا في الكون مع الله بأنفسهم أو يشفعون عنده اضطرارا بحيث لا يرد شفاعتهم أو نحو ذلك مما لم يجعله الله لهم وكذلك قوله " ص " الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة لا يراد به مطلق الدعاء بل دعاء خاص كما أريد بالآية الكريمة بل لا يبعد أن يراد بالدعاء فيه خصوص دعاء الله تعالي أي إن دعاء الله تعالي مخ عبادة الله تعالي وذلك لاشتماله علي نهاية الذل والخضوع والعبادة أقصي نهاية الخضوع والذل لأنها مأخوذة من قولهم طريق معبد أي مذلل فتكون الألف واللام فيه نائبة عن الإضافة فهي عهدية لا جنسية. وآيات (والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) دالة علي أنهم كانوا يعتقدون أنهم قادرون علي نصرهم بأنفسهم لا بدعائهم وشفاعتهم وإلا لم تكن الآيتان ردا عليهم ولكان لهم أن يقولوا إنهم وإن لم يقدروا علي نصرنا بأنفسهم فهم قادرون عليه بالتسبب بدعاء الله لنا الذي وعد إجابة الدعاء ونحن لم نطلب منهم غير ذلك وأنهم وإن كانوا عبادا أمثالنا فهم قادرون علي أن يشفعوا لنا عند الله الذي جعل لهم الشفاعة بإذنه فيستأذنونه ويشفعون هذا إن كانوا من الأنبياء أو الصلحاء. إذا عرفت ذلك ظهر لك أن من دعا نبيا واستغاث به فذلك لا يدخل في الدعاء المنهي عنه في الآية لأن هذا الدعاء والاستغاثة لا يخرج عن طلبه منه أن يدعو الله له أو يشفع له عنده الذي هو في معني الدعاء فمن طلب ذلك مع اعتقاد أن الأمر فيه لله إن شاء أجاب دعاءه وقبل شفاعته وإن شاء رد لا يدخل في النهي قطعا بعد ما عرفت أن المنهي عنه ليس مطلق الدعاء بل دعاء مخصوص مع أن طلب الدعاء والشفاعة ممن جعل الله له ذلك لا يخرج عن دعاء الله تعالي وعبادته وتعظيم شأنه والتوسل إليه بأنواع الوسائل وفي ذلك مبالغة في التضرع إليه والطلب منه الذي علم أنه يحبه ويرضاه وأنه مخ العبادة له. والمعني

ص: 237

في الآية ظاهرة في المساواة، ومن يدعو النبي " ص " ليدعو الله له ويشفع إليه في حاجته لم يدعه مع الله ولم يساوه به بل في الحقيقة دعا الله الذي أمر بطلب الدعاء من الغير وجعل له الشفاعة وليس المراد بالمعية مجرد المشاركة في الوجود وإلا لحرم دعاء غير الله في المساجد أو مطلقا مع الله بأن يقول يا الله اغفر لي ويا فلان اسقني ماء وحينئذ فقول يا محمد ادع لي الله أو أشفع لي عنده الذي هو في معني ادعه لا يزيد عن قوله يا فلان اسقني ماء. وبعبارة أخري: معني مع الله أن يكون دعاؤه في عرض دعاء الله لا في طوله. والأصنام لو فرض أن دعاءها ليس كذلك فالله نهي عن دعائها بكل حال لأنها جماد ولأن دعاءها خلاف علي الله وتكذيب للرسل. ودعاء باقي المعبودات كعيسي والملائكة والجن هو مثل دعاء الله قطعا فعيسي (ع) اتخذ شريكا في الربوبية والملائكة والجن اعتقد أن لهم قدرة وتأثيرا مع الله كما مر. أما قوله تعالي (له دعوة الحق) " الآية " فمعناه والله العالم إن المدعو بحق هو الله تعالي وما يدعون من دونه من حجر أو شجر أو نبي يعتقدون إلهيته كعيسي فيدعونه ليرزقهم ويدخلهم الجنة ويفعل معهم فعل الرب مع عبيده أو ملك أو جني يعتقدون أن له تأثيرا مع الله أو شفاعة اضطرارية أو غير مردودة أو نحو ذلك لا يستجيبون لهم أما الأحجار والأشجار فلأنها جماد لا تقدر علي شئ سواء كانت علي صورة صالح أو لا لأن الدعاء والشفاعة للصالحين لا لصورهم وأما من يدعي فيه الإلهية أو التأثير مع الله من ملك أو جني فلأنه ليس إلها أو لا تأثير له ولا يبعد أن يكون المراد الأصنام خاصة وأن تكون واردة في مشركي قريش ولذلك شبه حالهم بباسط كفيه إلي الماء يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر علي نفعهم وأين ذلك من طلب الدعاء من الصالحين الذين أمر الله بطلب الدعاء منهم ودلت الآيات والأخبار علي حياتهم بعد الموت وقدرتهم علي ذلك وسؤال الشفاعة منهم التي جعلها الله لهم وأخبر أنهم قادرون عليها وبذلك ظهر جليا أن قياس دعاء الصالحين علي دعاء الأصنام والأوثان وعيسي ومريم وغير ذلك قياس باطل وتوهم فاسد.

ص: 238

إذا عرفت هذا فلنعد إلي الجواب عن كلماتهم السابقة كل منها علي حدة. أما قول ابن تيمية بشرك من يسأل النبي أو الصالح إزالة مرضه أو قضاء دينه أو نحو ذلك ولزوم قتله إن لم يتب ففاسد لما عرفت من عدم جواز التهجم علي تكفير المسلم واستحلال دمه بغير اليقين ووجوب حمل قوله وفعله علي الصحيح مهما أمكن ولا يقين هنا لوجود المحمل الصحيح وهو إرادة الإسناد إلي السبب بالدعاء والشفاعة وإن مثل ذلك وارد في كلام العرب والقرآن الكريم. وأما روايته إن ودا وسواعا الخ أسماء قوم صالحين فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم إلي أن اتخذوا تماثيلهم أصناما فهو حجة عليه لا له فإن موجب تكفيرهم اتخاذ تماثيلهم أصناما لا التبرك بقبورهم. قوله: وكان العكوف علي القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان. يأبي الخذلان الذي أصاب ابن تيمية إلا أن يسمي المداومة علي زيارة قبور الأنبياء والصلحاء بالعكوف تنظيرا له بالعكوف علي الأصنام وستعرف في فصل الزيارة إن استحباب زيارة قبر النبي " ص " وقبور سائر الأنبياء والصلحاء ودعائه تعالي عندها من ضروريات دين الإسلام وإذا ثبت استحباب ذلك ثبت استحباب الاكثار منه فإنه لا سرف في الخير كما لا خير في السرف فسواء سماه ابن تيمية عكوفا أو غيره لا يضر إلا نفسه أما جعله ذلك أصل الشرك وعبادة الأوثان. فإن أراد به أنه سبب تام في ذلك ففساده ظاهر لما نشاهده من تعظيم المسلمين قبور الأنبياء والصالحين وتبركهم بها أجيالا عديدة ومع ذلك لم يتخذوا صورهم وتماثيلهم أصناما. وإن كان يقول إن هذا التعظيم والتبرك عبادة للقبور كما تقول الوهابية فقد رجع عن قوله إنه أصل الشرك وعبادة الأوثان وسببه (وإن أراد) أنه قد يؤدي إلي عبادة الأوثان والشرك كما أدي في قوم نوح الذين اتخذوا صور الصالحين أوثانا بعد ما عظموا قبورهم وتبركوا بها فهذا لا يوجب تحريمه كما أنه إذا أدي ظهور المعجزة أو الكرامة علي يد نبي أو صالح إلي اتخاذه إلها لا يكون إظهارهما محرما بعد وجود الأدلة من العقل والنقل علي عدم إلهيته القاطعة للعذر (وإن أراد) بكونه أصل الشرك إنه نفسه شرك وعبادة للأوثان كما تقوله الوهابية فقد علم فساده بما أقمناه من البراهين علي أنه ليس كذلك وبوجود الفرق الواضح بينه وبين عبادة الأصنام. أما قوله: ولهذا قال " ص " اللهم

ص: 239

لا تجعل قبري وثنا يعبد فتخرص علي الغيب فمن الذي أخبره إن علة قوله " ص " ذلك: الخوف من أن يصل تعظيم قبره والتبرك به وتقبيله إلي اتخاذه وثنا يعبد بل هو دعاء بأن يعصم أمته من اتخاذ قبره وثنا يعبد بما كانت تعبد به الجاهلية أوثانها لا بمجرد تعظيم المسلمين له وتبركهم به الذي قد بينا مرارا أنه ليس عبادة له. أما تفرقته بين سؤال النبي والصالح في حياته وسؤاله بعد موته أو في مغيبه بأنه في حياته لا يعبده أحد في حضوره فما يضحك الثكلي (أولا) إن السبائية - كما يزعمون - قد عبدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " ع " في حضوره حتي حرقهم بالنار فزاد ذلك اعتقادهم بإلهيته لما سمعوه منه لا يعذب بالنار إلا رب النار المحمول علي الكراهة في غير المقام الذي يناسبه شدة العقاب أو غيره من المحامل (ثانيا) احتمال أن يترتب علي فعل المباح أو الراجح أمر محرم، لا يوجب تحريمه وإلا لحرم جميع ما في الكون من فعل. قوله: ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتخيرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء، ما أهون الدعاوي المنفية وتتابع أدوات النفي علي ابن تيمية إذا حاول ما طبع عليه من انتقاص قدر الأنبياء والصلحاء كأنما الله تعالي أوجده في جميع العصور واطلع علي كل كائنات الدهور وإنا نسأله هل كان مالك ابن أنس إمام دار الهجرة والذي قيل فيه لا يفتي ومالك في المدينة وحجة الله علي خلقه بشهادة الإمام الشافعي (1) من سلف هذه الأمة ومن التابعين أو تابعي التابعين حين قال لأبي جعفر المنصور وقد سأله قائلا يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعو أم أستقبل رسول الله (ص) فقال لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم " ع " إلي يوم القيامة بل استقبله واستشفع به " الحديث " وهل أنكر أحد ذلك علي مالك من علماء المدينة وهي ملأي بالتابعين وتابعي التابعين أو من علماء سائر الأقطار وهل تحتاج فضيلة المكان المدفون فيه جسد النبي صلي الله عليه وآله سلم وهو سيد الكائنات وأشرف ولد آدم إلي رواية خاصة ونص مخصوص وإذا ثبتت فضيلته ثبتت فضيلة الصلاة فيه أفيلزم مع ذلك أن ينزل ملك علي ابن تيمية يخبره بفضيلة الصلاة في المكان الفاضل. ولكن تكفير المسلمين واستحلال أموالهم ودمائهم تكفي فيه الظنون والأوهام وسرد الدعاوي المنفية بلا دليل وسيأتي في فصل التوسل إن جميع أصحاب المناسك من علماء الإسلام ذكروا استحباب

ص: 240


1- 112. كما في خلاصة تهذيب الكمال ص 313 طبع مصر.

المجئ إلي قبر رسول الله (ص) والدعاء: اللهم إنك قلت في كتابك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الخ. وتقدم مجئ رجل إلي قبره (ص) وسؤاله أن يستسقي لأمته فسقوا، قوله: ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم، هذه الدعوي يكذبها مضافا إلي ما تسالم عليه المسلمون خلفا عن سلف من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين وطلب الشفاعة منهم كما يظهر مما ذكرناه في تضاعيف هذا الكتاب ما ذكره عالم المدينة السمهودي الشافعي في كتابه وفاء الوفا حيث قال في كلامه الآتي في الفصل الثالث إن الاستغاثة بالنبي (ص) من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين وما ذكره في خاتمة الباب الثامن (1) من استغاثة جماعة من السلف به " ص " بعد وفاته حيث قال: خاتمة في نبذ مما وقع لمن استغاث بالنبي " ص " أو طلب منه شيئا عند قبره فأعطي مطلوبه ونال مرغوبه مما ذكره الإمام محمد بن موسي بن النعمان في كتابه مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام فمن ذلك ما قال: اتفق لجماعة من علماء سلف هذه الأمة من أئمة المحدثين والصوفية والعلماء بالله المحققين. قال محمد بن المنكدر أودع رجل أبي ثمانين دينارا وخرج للجهاد وقال له إن احتجت انفقها وأصاب الناس جهد من الغلاء فأنفقها فقدم الرجل وطلبها فقال له عد إلي غدا وبات في المسجد يلوذ بقبر النبي " ص " مرة وبمنبره مرة حتي كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبي " ص " - إلي آخر القصة وقال: الإمام أبو بكر ابن المقري كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله " ص " وأثر فينا الجوع فلما كان وقت العشاء حضرت قبر النبي " ص " وقلت يا رسول الله الجوع، إلي أن قال: فدق الباب علوي معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شئ كثير وقال أشكوتم إلي رسول الله " ص " فإني رأيته في المنام فأمرني أن أحمل بشئ إليكم ثم ذكر السمهودي بعد نحو من نصف ورقة أن هذه الواقعة رواها ابن الجوزي في كتابه الوفاء بإسناده إلي أبي بكر المقري قال وقال ابن الجلاد دخلت المدينة وبي فاقة فتقدمت إلي القبر وقلت ضيفك فغفوت فرأيت النبي (ص) فأعطاني رغيفا فأكلت نصفه - إلي آخر القصة.

ص: 241


1- 113. ص 425 ج 2.

وقال أبو الخير الأقطع وذكر نحوه، وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زرعة الصوفي، سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن خفيف إلي مكة فأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا المدينة فأتي أبي الحظيرة وقال يا رسول الله أنا ضيفك الليلة، إلي أن قال: فقال رأيت رسول الله (ص) فوضع في يدي دراهم - إلي آخر القصة. وقال أحمد بن محمد الصوفي، تهت في البادية ثلاثة أشهر فانسلخ جلدي فدخلت المدينة وجئت إلي النبي (ص) فسلمت ثم نمت فرأيته (ص) في النوم فقال لي جئت قلت نعم وأنا جائع وأنا في ضيافتك قال افتح كفيك فملأهما دراهم فانتبهت الخ.. ثم نقل السمهودي ما يزيد علي عشر وقائع من هذا القبيل ومنها واقعتان نقلهما عن نفسه يطول الكلام بذكرها فليطلبها من أرادها. ويستفاد من ذلك أيضا أن الاستغاثة بالنبي (ص) عليها سيرة المسلمين خلفا عن سلف بدون تناكر بينهم فيكشف عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع كما عرفت في المقدمات مع أنه لا يحتاج جواز الاستغاثة إلي ورود الدليل بل المانع عليه إقامة الدليل، قوله: ومن أعظم الشرك الخ. قد عرفت أنه لا شرك فيه بوجوب حمله علي الوجه الصحيح فضلا عن كونه من أعظم الشرك، قوله: وهذا حال النصاري في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. بل هذا حال الوهابية في أتباعهم رؤساءهم علي غير بصيرة ولا هدي فأشبهوا الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الذين ورد فيهم أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما حرموا عليهم حلالا وأحلوا لهم حراما فاتبعوهم ومما مر تعلم فساد قوله إن خير الخلق إلي قوله ولا بعد مماته. قوله: وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلي الله مني وأنا بعيد لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة من أقوال المشركين الخ. أما قول هذا أقرب إلي الله مني فصحيح ليس فيه شئ من الضلال فإن درجات الناس متفاوتة في القرب منه تعالي بالطاعة الذي هو بمعني القرب المعنوي تشبيها بقرب المكان وأما قول لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة فلا يقوله ولا يعتقده أحد من المسلمين فضلا عن أن ينسب إلي كثير من الضلال ولم نسمع إلي الآن من أحد ولا عنه أنه يقول ذلك بل يدعون الله مرة بلا واسطة ومرة بواسطة نعم قد يقولون إن هذا أقرب إلي الله مني فدعاؤه أرجي للإجابة من دعائي وهذا لا بأس به ولا مانع منه فقد ثبت أن

ص: 242

دعاء الغير أرجي للإجابة ولو لم يكن أقرب وروي أن الله تعالي أوحي إلي موسي (ع) " ادعني علي لسان لم تعصني به " كما كانت الصلاة علي النبي " ص " التي أمرنا الله تعالي بها في الدعاء من أسباب إجابته كما صرح به ابن تيمية في كلامه السابق والله تعالي قادر علي إجابة الدعاء بدون الصلاة علي النبي " ص " فكيف أمر بها لتكون سببا في إجابة الدعاء ولم يكن ذلك منافيا لقربه من الداعي وكان التشفع إليه بذوي المكانة الذين جعل الله لهم الشفاعة منافيا لذلك. وخلاصة القول إن الله تعالي أمر عباده بدعائه ووعدهم الإجابة قصدا لتذللهم وتعبدهم له من دون حاجة منه إلي دعائهم مع قدرته علي أن يعطيهم بدون دعاء مع رأفته بهم لكنه أراد أن يتعبدوا له بأنواع التعبد والتذلل ويتوسلوا إليه وجعل لهم من لطفه بهم ورحمته أسبابا لنيل فضله ونعمه مثل الصلاة علي النبي " ص " في دعائهم والتشفع إليه بذوي المكانة عنده ومن ذلك إعطاؤه الشفاعة لذوي الشفاعة مع عدم حاجة منه إلي شئ من ذلك ولو فرض أن أحدا قال لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة لكان مخطئا وغالطا ولم يكن مشركا وكافرا كما يزعمه ابن تيمية وأتباعه الوهابية، أما استدلاله بآية وإذا سألك عبادي عني " الآية " علي إمكان دعاء الله بلا واسطة فمن فضول الكلام فإنه لا ينكر أحد إمكان ذلك وأنه تعالي قريب ممن دعاه ولكن لا ينافي ذلك كون بعضهم أقرب من بعض ولا كون دعاء الغير أرجي للإجابة، أما استشهاده بآية إياك نعبد وآية إنما نعبدهم ليقربونا فلا محل له فلا أحد يعبد غير الله ولا يستعين بغيره وإنما هو سؤال الدعاء والشفاعة الذي لا يخرج عن عبادته تعالي والاستغاثة به لأنه عن أمره، قوله: إن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر علي عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلالة وكفر ليس في المسلمين من يعتقد هذا فذكره فضول وتطويل بدون طائل، قوله: وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلي سؤال غيره. لم يعدل أحد عن سؤاله تعالي إلي سؤال غيره وإنما هو طلب الدعاء والشفاعة الذي لا يخرج عن سؤاله تعالي لأنه عن أمره كما مر، ونقول له: النبي " ص " يعلم أن الله تعالي أعلم بحاله وأقدر علي عطاء سؤاله وأرحم به من عمر فلم عدل عن سؤاله إلي سؤال عمر وقال له حين ودعه إلي العمرة لا تنسنا من دعائك يا أخي حسبما رويت وإذا كان " ص " يعلم ذلك فلماذا طلب منا أن نصلي عليه ونسأل الله تعالي له الوسيلة ولماذا لم يطلبها هو من الله ولماذا أمر عمر أن يسأل أويسا القرني أن يستغفر له ولماذا قال أبو بكر لعمر استغفر لي ولماذا لم يطلب أبو بكر

ص: 243

المغفرة منه تعالي بغير واسطة عمر والله تعالي أعلم بحاله وأقدر علي عطاء سؤاله وأرحم به من عمر ولماذا سأل الناس النبي " ص " أن يستسقي لهم لما أجدبوا ولم يستسقوا بأنفسهم والله تعالي أعلم بحالهم وأقدر علي عطاء سؤالهم وأرحم بهم من النبي " ص " وقد روي ذلك كله ابن تيمية فيما مر قريبا واعترف به وهو هنا يقول فلم عدلت عن سؤاله إلي سؤال غيره وإن كان يزعم أن المسلمين يسألون غيره تعالي لأنه القادر المختار الفاعل لما يشاء فهذا افتراء علي المسلمين لما عرفت من أن ذلك لا يخرج عن طلب الدعاء وسؤال الشفاعة. ويكاد الإنسان يقضي عجبا من تمحلات هؤلاء وتهافت كلامهم، قوله: وإن كنت تعلم أنه أقرب إلي الله منك فإنما معناه أنه يثيبه أكثر مما يثيبك لا أنك إذا دعوته يقضي الله حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله. نعم إن دعاء الغير للعبد أرجي في الإجابة من دعائه نفسه كما مر فلهذا ينبغي له الجمع بينهما ومنه يعلم أنها كلمة حق لم يرد بها إلا الحق، قوله: فإنك إذا كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين علي ما يكرهه الله وإلا فالله أولي بالرحمة والقبول، مما يضحك الثكلي فإنك قد عرفت أن المطلوب من النبي أو الصالح الدعاء والشفاعة التي لا تخرج عن الدعاء وهو قد سلم إن طلب الدعاء من الغير مشروع فيقال له إذا كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالذي تسأله الدعاء لك لا يعين علي ما يكرهه الله وإلا فالله أولي بالقبول والرحمة فلماذا تسأل الغير أن يدعو لك أولم يعلم ابن تيمية إن مستحق العقاب قد يرحمه الله تعالي بالدعاء من الغير الذي هو أرجي في الإجابة ومستحق رد الدعاء قد يجيب الله دعاء غيره فيه ويقال له أيضا إذا كان العبد مستحقا للعقاب ورد الدعاء فلماذا أمر الله تعالي بالدعاء علي وجه العموم والله تعالي لا يأمر بما يكرهه ولا يعين عليه ولم لم يرحم بدون دعاء وشفاعة ولم أمر في الدعاء بالصلاة علي النبي (ص) وجعلها سببا لقبوله ولم جعل الشفاعة وأذن فيها وكون الله أولي بالرحمة والقبول لا ينافي التوسل إليه بدعاء الغير بل هذا من أتم أسباب رحمته ورأفته، قوله: وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته. قد عرفت أن هذا هو الحاصل من المسلمين الذي أمر به الشرع ودل عليه النقل لا غيره. ومما ذكر تعلم فساد تفصيله في رسالة زيارة القبور بين طلب ما لا يقدر عليه إلا

ص: 244

الله وما يقدر عليه غيره فإذا كان المطلوب هو الدعاء والشفاعة لم يكن المطلوب غير مقدور وكلما طلب فيه غير المقدور يجب حمله علي طلب الدعاء والشفاعة حملا لفعل المسلم علي الصحة فالتفصيل المذكور ساقط من أصله. وأما قوله: إن مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها فإن أراد بالنهي نهي الكراهة والتنزيه لا نهي المنع والتحريم فله وجه بمعني أنه لا ينبغي مسألة الناس والاستعانة بهم مع إمكان الاستغناء عنهم. وسمع بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام من يقول اللهم لا تحوجني إلي خلقك فنهاه وقال ما معناه أنه لا بد من احتياج الخلق بعضهم لبعض ولكن قل اللهم لا تحوجني إلي لئام خلقك. وإن أراد غير ذلك فهو مردود عليه ولكن ذلك كله خارج عما نحن فيه فإن كلامنا في الاستغاثة بالمخلوق ليكون شافعا إلي الله ووسيلة إليه ولا شك أن ذلك راجح لا كراهة فيه إذا كان المستغاث أهلا لذلك فإن ذلك لا يخرج عن عبادة الله ودعائه والاستغاثة به بل هو المستغاث حقيقة والله تعالي يحب دعاءه والتوسل إليه بكرام خلقه لأن ذلك من أنواع العبادة له والتذلل له وإلا فالله تعالي قادر علي أن يعطينا بدون دعائنا وتوسلنا وتضرعنا ويعفو عنا بغير شفاعة شفيع فلماذا أمرنا بالدعاء وقبل شفاعة الشفعاء وأذن لهم فيها. وأما ما ذكره ابن عبد الوهاب في تعليمه الاحتجاج من قوله أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة إلي قوله فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فجوابه أن علماء المسلمين أعرف بربهم وبعبادته وأنواعها منه ونسبته لهم إلي الجهل بالعبادة وأنواعها جهل وسوء أدب وتخرص علي الغيب وإذا كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فكيف جزم بأنه لا بد أن يقول إن الدعاء عبادة وإنه مخ العبادة، قوله: إذا دعوت الله ودعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله الخ. قد علم بما بيناه أنه ليس كل دعاء عبادة وأن من يدعو غير الله في حاجة من نبي أو صالح حي أو ميت ليدعو الله له في قضاء حاجته ويشفع له عنده ليس بعابد لذلك النبي أو الصالح وليس مشركا في عبادة ربه أحدا ولا خارجا عن دعاء الله وعبادته فلا نطيل بإعادته، قوله: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء قد عرفت أيضا إن عبادتهم لهم كانت بالسجود والذبح والإهلال بأسمائهم علي الذبائح والالتجاء إلي الأحجار والأشجار للجاه والشفاعة التي نهي الله عن الالتجاء إليها علي لسان أنبيائه ولم يجعل فيها صفة تصحح الالتجاء إليها ولا جاه لها عنده

ص: 245

سواء قصد طلب شفاعتها أو التجئ إليها لأنها فاعلة بنفسها ولأنها جمادات لا قدرة لها علي شئ أصلا ولا تسمع ولا تعقل، أو بعبادة ملك أو جني واعتقاد أن له تأثيرا مع الله وقدرة بنفسه لم يجعلها الله له. قوله: إذا كنت تقر إن الله حرم الشرك الخ. فما هو فإنه لا يدري. قوله: لا يدري حكم علي غائب وتخرص علي الغيب وما الذي حرمه أعلمه أنه لا يدري وهل الله أشركه في علم الغيب بل الشرك الذي حرمه الله تعالي معلوم معروف عند جميع المسلمين لا يجهله عوامهم فضلا عن علمائهم فنسبتهم إلي أنهم لا يعرفون معني الشرك افتراء باطل وإساءة أدب مع علماء الأمة الذين قال رسول الله (ص) فيهم علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل ومع الأمة عموما التي قال الله تعالي عنها إنها خير أمة أخرجت للناس فجعلهم يجهلون معني الشرك ويعرفه أعراب نجد فقط، وقد عرفت أن الشرك والكفر يتحقق بأحد الأمور المتقدمة في الأمر الرابع عشر من المقدمة الثانية وما في حكمها وتحقق الشرك بذلك أوضح من أن يبين أو يجهله مسلم. ويمكن أن نقلب هذا الاستدلال علي ابن عبد الوهاب وأتباعه، فنقول: لأحدهم أنت تقر إن الله فرض عليك إخلاص العبادة وحرم عليك الشرك فبين لنا هذا الذي فرض عليك وحرم عليك فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فإن قال إخلاص العبادة هو أن لا يدعو غير الله ولا يستغيث إلا بالله ولا ينحر ولا يذبح إلا لله والشرك دعاء غير الله والتشفع والاستغاثة به فقل له هل مطلق دعاء غير الله وندائه عبادة فإن قال نعم فقل له إذا لا يسلم أحد من الشرك وإن قال بل هو دعاء مخصوص فقل بينه لي فإن قال هو دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقل فلماذا كفرتم المسلمين في طلب الشفاعة من النبي (ص) وهو قادر عليها وهو الشفيع المشفع فإنه لا يهتدي إلي جوابه. وقل له هل كل تعظيم عبادة موجبة للشرك فإن قال نعم فقل إذا تعظيم الأبوين وتعظيم النبي (ص) في حياته شرك وكفر وإن قال هو تعظيم مخصوص فقل له بينه لي فإنه لا يعرفه فقل له إنه تعظيم غير الله بما نهي عنه الله وكان مساويا لتعظيم الله وهذا لا يفعله مسلم. وقل له هل كل ذبح ونذر لغير الله أو هو ذبح ونذر مخصوص فلا بد أن يقول إنه نذر وذبح مخصوص فقل له فما هو فأن قال هو نذركم وذبحكم للأولياء فقل إذا نذرنا أن نذبح شاة

ص: 246

ونتصدق بها علي الفقراء فهل هذا النذر والذبح لله أو لغير الله فلا بد أن يقول إنه لله فقل له وكذلك النذر والذبح الذي تزعمون أنه للولي هو نذر وذبح لله ليتصدق به علي الفقراء ويهدي ثوابه للنبي أو الولي. قوله: أتظن أنهم يعتقدون إن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق الخ فيه إنهم وإن لم يعتقدوا أنها تخلق وترزق إلا أنهم عبدوها وعظموها بما نهاهم الله عنه واعتقدوا أن لها شرفا ذاتيا واختيارا وتدبيرا كما أوضحناه مرارا فلا نطيل بإعادته وليس هذا هو فعل المسلمين عند الأحجار والبنايا التي علي القبور وغيرها كما زعم وتوهم علي ما سبق مفصلا فأين الاستغاثة بذوي المكانة عند الله ودعاؤهم من عبادة الأصنام وأين فعل المسلمين من فعل عباد الأصنام فالمسلمون بتعظيمهم من أمر الله بتعظيمه وتبركهم بمن أثبت الله له البركة واستغاثتهم وتشفعهم بمن جعله مغيثا وشافعا وطلبهم دعاءه واستغفاره لهم لم يعبدوا غير الله تعالي ولم يعظموا غير الله ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يدعوا غير الله لأن كل ما كان عن أمر الله تعالي فهو إطاعة له ولو تعلق بالمخلوقين واشتمل علي تعظيمهم كما كان سجود الملائكة لآدم ويعقوب وأولاده ليوسف وتعظيم الكعبة والطواف بها والحجر الأسود وتقبيله واستلام الأركان وتعظيم حجر إسماعيل ومقام إبراهيم والصلاة عنده وتعظيم الحرم والمساجد وهي جمادات كلها عبادة لله تعالي وتعظيما له. قوله: هل تريد إن الشرك مخصوص بهذا أي عبادة الأصنام وإن الاعتماد علي الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا فهذا يرده ما في القرآن من كفر من تعلق علي الملائكة وعيسي والصالحين. وقد عرفت أن الكفر من تعلق علي الملائكة لم يكن لمجرد التشفع بهم وطلب دعائهم وأن كفر من تعلق علي عيسي لأنه جعله إلها مستحقا لجميع صفات الألوهية لا مجرد الاستغاثة به بطلب دعائه وشفاعته فراجع فتعبيره بالتعلق المجمل وعدم بيانه المراد منه جهل أو تضليل فأين هذا ممن استغاث بنبي أو ولي فطلب دعاءه وشفاعته. وأما من تعلق علي الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر التي ورد أنها أسماء قوم صالحين فقد أقام لهم تماثيل من أحجار يعبدها ويسجد لها ويذبح الذبائح ويهل بها لها ويذكر أسماءها عليها ويطليها بدمائها ويتقرب بها إلي تلك الأحجار ويستغيث بها ويعتقد أن لها تأثيرا وقدرة إلي غير ذلك ولم يكن منه مجرد الاستغاثة والتشفع إلي الله بأصحابها

ص: 247

الذين هم قوم صالحون ولهم مكانة عند الله بل تشفع واستغاث بأحجار علي صورهم الموهومة لم يجعل الله لها حرمة ولا شفاعة ولم يقتصر علي ذلك بل زاد عليه أنواعا من العبادة كما مر مرارا وأين هذا من الاستغاثة والتوسل بالنبي أو الولي. قوله: في جواب استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة الدالة علي أنها ليست شركا: سبحان من طبع علي قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها الخ. ونقول: سبحان من طبع علي قلبه فجعله لا يلتفت إلي التناقض والتهافت في كلامه فإنه كما عرفت في الفصل الثاني يمنع من طلب الشفاعة من النبي " ص " ويجعله شركا ويوجب طلبها من الله تعالي بقوله اللهم شفعه في أو ارزقني شفاعته مع تسليمه بأنه " ص " قادر عليها وأن له الشفاعة وأنه الشفيع المشفع وهنا يقول لا ننكر الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه فأي جهل وتناقض وتهافت أعظم من هذا وهو مع ذلك يقول سبحان من طبع علي قلوب أعدائه مع أنك عرفت مرارا أن الاستغاثة الحاصلة بالمخلوق ليست إلا فيما يقدر عليه وهو الدعاء والشفاعة وإن عبر بقوله ارزقني واشف مريضي وغير ذلك كما مر آنفا (لا يقال) إنما منع من طلب الشفاعة من النبي " ص " تمسكا بقوله تعالي إن الشفاعة لله جميعا. فلا تدعوا مع الله أحدا فيكون عدم جواز طلبها منه وإن كان قادرا عليها لنص شرعي تعبدي وهو الآيتان الشريفتان (لأنا نقول) معني الآية الأولي كما عرفت في الفصل الأول ليس عدم جواز طلب الشفاعة منه " ص " بل إنه تعالي مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإلا لمن ارتضي ولا يلجئه أحد إلي قبول شفاعته كما يقع من المخلوقين والمنهي عنه في الآية الثانية دعاء مخصوص لا مطلق الدعاء كما عرفته في هذا الفصل. وأول كلامه بالنسبة إلي الاستغاثة وغيرها مطلق شامل للمقدور وغيره مع أنه في مقام البيان ولكن لما اعترض عليه بالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة التي لم يجد لها جوابا قيد حينئذ الاستغاثة الممنوعة بغير المقدور وإلا فما باله لم يقيدها من أول الأمر ويسلم من الاعتراض مع كونه في مقام البيان. ومنه يظهر بطلان جواب الصنعاني السابق الراجع إلي التفصيل بين الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه وغيرها لما عرفت من أن الاستغاثة الحاصلة لا تخرج عن المقدور. قوله: وأما بعد مماته فحاش وكلا إنهم سألوا ذلك فيه أنه يناقض قوله الأول: ونحن أنكرنا استغاثة العباد عند قبور الأنبياء والأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله فإنه يدل علي أن الموجب للإنكار كونها لا يقدر عليها إلا الله وحينئذ

ص: 248

فلا فرق بين طلبها من الحي أو الميت فلو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله لكان شركا عنده وقوله وأما بعد مماته فحاش وكلا الخ يدل علي عدم جواز طلب شئ من الميت مطلقا ولو كان مما يقدر عليه غير الله كالدعاء والشفاعة وهو تناقض ظاهر فتارة جعل المناط عدم قدرة غير الله وتارة الحياة والموت والغيبة والحضور. كما أن تقييد الصنعاني بالأحياء مشعر بعدم جواز الاستغاثة بالأموات حتي في المقدور. وكيف كان فقد عرفت أن التفصيل بين ما يقدر عليه غير الله وما لا يقدر عليه إلا الله لا يرجع إلي محصل بعد ما كان المراد سؤال الدعاء وطلب الشفاعة المقدورين فكما أن استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتي يستريح أهل الجنة من كرب الموقف واستغاثة المسلمين بهم في الدنيا يريدون منهم أن يدعوا لله ويشفعوا عنده حتي يقضي حوائجهم وهذا أمر مقدور لهم بعد مماتهم ومن ذلك يعلم فساد تفرقته بين استغاثة إبراهيم بجبرائيل عليهما السلام لو فعلها واستغاثتنا بالنبي " ص " بأن الأولي استغاثة في أمر مقدور بخلاف الثانية لأن الثانية هي أيضا في أمر مقدور وهي طلب الدعاء والشفاعة وليس فيها عبادة وشرك لو كان يفقه. كما أن التفصيل بين الاستغاثة بالأحياء والاستغاثة بالأموات ولو في المقدور لغير الله تحكم محض لم يأت الصنعاني عليه بدليل ولم يزد ابن عبد الوهاب في دليله علي قوله فحاش وكلا إنهم سألوا ذلك بل أنكر السلف علي من قصد دعاء الله عند قبره فضلا عن دعائه نفسه وهي دعوي مجردة عن الدليل لم يأت عليها بشاهد ولا أثر مروي بل عرفت أنها دعوي كاذبة وإن الأمر بالعكس فإنهم أنكروا علي من لم يدع الله عند قبره ولم يستقبله في دعائه ويتوسل به كما وقع لمالك إمام دار الهجرة مع المنصور العباسي وإن سيرة السلف والخلف دعاء الله تعالي عند قبره الشريف والتبرك به فمن هم السلف الذين يزعم ابن تيمية وابن عبد الوهاب أنهم أنكروا علي من دعا الله تعالي عند قبر النبي " ص " وهل مالك إمام المذهب وإمام دار الهجرة الذي قيل فيه لا يفتي ومالك في المدينة والذي قال فيه الإمام الشافعي حجة الله علي خلقه لا يعد منهم فظهر بذلك أن ما قاله افتراء علي السلف وأنه لا فرق بين طلب الدعاء منه " ص " في حياته وبعد وفاته وأن التفرقة بينهما محض جمود أو عناد وأن ما هو شرك لا يمكن أن يكون توحيدا وبالعكس.

ص: 249

ومما يدل علي جواز الاستغاثة بغير الله من النقل ما في خلاصة الكلام أنه رواه ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله " ص " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا فإن لله عبادا يجيبونه. وفي حديث آخر رواه الطبراني أنه " ص " قال إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني وفي رواية أغيثوني فإن لله عبادا لا ترونهم وقال إن الفقهاء ذكروا ذلك في آداب السفر " انتهي " وهو موجود في كتب أصحابنا أيضا وأورده بعض الوهابية في الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية ببعض التغيير (1) قال: ومما استدل به علينا في جواز دعوة غير الله قوله " ص " وأورد الحديث الأول لكنه قال احبسوها بدل احبسوا. قال: وفي رواية إذا أعيت فليناد يا عباد الله أعينوا. ثم أجاب بأجوبة طويلة جلها لا يرجع إلي محصل ولا يليق أن يسطر ولا يرتبط بالمقصود فلذلك أعرضنا عن نقله. ومما ذكره: القدح في السند برواية الطبراني له في الكبير بسند منقطع عن عقبة وإن النووي عزاه لابن السني وفي إسناده معروف بن حسان قال ابن عدي منكر الحديث مع أن أخذ الفقهاء له بالقبول وذكرهم مضمونه في آداب السفر وإيراد أئمة الحديث له في كتبهم كالطبراني والنووي مغن عن تصحيح سنده لو سلم ما قاله وكيف خفي علي الفقهاء والمحدثين أن مضمونه شرك أو حرام وظهر ذلك لأعراب نجد. وأجاب صاحب المنار في الحاشية بأن المتبادر إن النداء لمن عساه يوجد من الناس في الفلاة ولم يره وهو معتاد " انتهي " ولما كان الحديث المذكور في رسالة الوهابية إشارة إلي ما رواه الطبراني والنووي كما نص عليه صاحب الرسالة عند قدحه في السند كان تأويل صاحب المنار هذا مصادما لصريح الحديث فإن قوله: فإن لله عبادا لا ترونهم صريح أو كالصريح في أنهم ليسوا ممن يري لدلالة المضارع علي الاستمرار ودلالة التأكيد بأن علي تحقق وجودهم وكذا قوله فإن لله عبادا يجيبونه دال علي أن وجودهم وإجابتهم محقق أو غالب لا محتمل احتمالا بعيدا أو مقطوع بعدمه كما هو حال الفلاة والأرض التي ليس فيها أنيس ولو أراد ذلك لقال فليناد لعله يوجد أحد يجيبه أو نحو ذلك. وفي خلاصة الكلام: صح عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه ذبح شاة عام القحط المسمي عام الرمادة فوجدها هزيلة فصار يقول وا محمداه وا محمداه " انتهي " وظاهر الحال

ص: 250


1- 114. ص 30.

أنه استغاثة به " ص " لا ندبة. قال: وصح أيضا أن أصحاب النبي " ص " لما قاتلوا مسيلمة الكذاب كان شعارهم وا محمداه وا محمداه " انتهي " وهو أظهر من السابق في الاستغاثة لأنه وقع في حياته " ص ". قال: وفي الشفا للقاضي عياض إن عبد الله بن عمر خذلت رجله مرة فقيل له اذكر أحب الناس إليك فقال وا محمداه فانطلقت رجله " انتهي " وهو من نوع الاستغاثة. أما ما يروي من أن أبا بكر قال قوموا نستغث برسول الله من هذا المنافق فقال " ص " أنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله فهو علي تقدير صحة سنده محمول علي أن المستغاث به الحقيقي هو الله تعالي لأنه القادر المختار الفاعل لما يشاء فقال بذلك تواضعا لله تعالي فهو نظير (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي) وقوله " ص " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم. فلا يعارض ما دل علي جواز الاستغاثة ووقوعها كما مر مع أنه خارج عن محل النزاع فإن الذي يعارض فيه الوهابيون كما صرحوا به الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله واستغاثتهم برسول الله " ص " من ذلك المنافق كانت في أمر مقدور قطعا وهو دفع مفسدة نفاقه بضربه أو قتله أو غير ذلك. الفصل الثالث في التوسل إلي الله تعالي بالأنبياء والصلحاء وهذا يكون علي وجوه (أحدها) أن يقول أتوسل به إلي الله أو أتوجه به إليه أو أتشفع أو أقدمه بين يدي حاجتي أو نحو ذلك (ثانيها) أن يقول أسألك بفلان أو بحق فلان أو بحقه عليك أو بجاهه عندك أو ببركته أو بحرمته عندك أو نحو ذلك (ثالثها) أن يقول أقسمت عليك أو أقسم عليك بفلان أو نحو ذلك وكلها تؤول إلي شئ واحد وهو جعله وسيلة وواسطة بينك وبين الله تعالي لما له من المنزلة عنده والكرامة لديه. والوجهان الأخيران يدخلان في الإقسام علي الله بمخلوق الذي يأتي في الفصل الرابع وذكرناهما هنا لعدم خروجهما عن التوسل وكونهما من أنواعه. والتوسل بأنواعه مما منعه الوهابية وجعلوه شركا لأنه نوع من التشفع الممنوع عندهم والموجب للشرك ولجريان أدلتهم فيه. وقد صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب في المحكي عنه في كتاب التوحيد حيث قال بعد ذكر آية (أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب) بين فيها الرد علي المشركين الذين يدعون الصالحين ففيها بيان إن هذا الشرك الأكبر (انتهي) وصرح به أيضا الصنعاني في تطهير الاعتقاد حيث قال في جملة كلامه المتقدم في الباب الثاني بأن من توسل

ص: 251

بمخلوق فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان وعد من جملة العبادة الموجبة للشرك والكفر التوسل بالمخلوق. وقد صرح ابن تيمية في كلامه المتقدم في الفصل الأول في الشفاعة بأن من توسل بعظيم عند الله كما يتوسل إلي السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال الكفار والمشركين. وقال في مقام آخر من رسالة زيارة القبور (1) : وأما قول بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة إنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه إلا ما رأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز فعل ذلك إلا للنبي (ص) إن صح الحديث في النبي (ص) ثم قال قد روي النسائي والترمذي وغيرهما أنه (ص) علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول (اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلي ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم فشفعه في) فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة علي جواز التوسل به (ص) في حياته وبعد مماته قالوا وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة به تعالي لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجة عن النبي (ص) في دعاء الخارج للصلاة (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا) إلي آخر ما يأتي في الفصل الرابع قالوا فسأله بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلي الصلاة والله تعالي قد جعل علي نفسه حقا بقوله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين. كان علي ربك وعدا مسؤولا) قال: وفي الصحيح عن معاذ بن جبل عن النبي (ص) حق الله علي العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد علي الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وجاء في غير حديث كان حقا علي الله كذا وكذا كقوله في حديث شارب الخمر فإن عاد في الثالثة أو الرابعة كان حقا علي الله أن يسقيه من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به في مماته وبعد مغيبه بل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه استسقي بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وقد بين عمر إنهم كانوا يتوسلون به في حياته

ص: 252


1- 115. ص 164.

فيسقون وذلك التوسل به إنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه فيتوسلون بشفاعته ودعائه. إلي أن قال: فهذا كان توسلهم به ولما مات توسلوا بالعباس وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا قبر غيره. إلي أن قال: ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا الانتصار ولا غير ذلك من الأدعية والدعاء مخ العبادة ومبناها علي الاتباع لا الابتداع " انتهي ". ونقول: التوسل ثابت بنص القرآن العظيم قال الله تعالي (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) وهي بعمومها شاملة لكل توسل إليه تعالي بما يكرم عليه. وقد دلت الأخبار الكثيرة علي ثبوت الوسيلة للأنبياء والأوصياء والصالحين وقد مر قول النبي " ص " اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد ويأتي في فصل الحلف بغير الله قوله " ص " عن الخوارج يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. والمراد بالوسيلة الدرجة والمكانة عنده تعالي ولذلك يتوسل ويتشفع به إليه. والتوسل بذوي المكانة عند الله تعالي أحياء وأمواتا من سنن المرسلين وسيرة الصالحين بأي وجه كان من الوجوه الثلاثة السابقة (1) بل هو ثابت في الشرائع السابقة. فعن القسطلاني في شرح صحيح البخاري عن كعب الأحبار إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم " انتهي " وليس فيه شائبة شئ من العبادة الموجبة للشرك أو المنهي عنها فإن التوسل لو كان عبادة وكل عبادة لغير الله شرك لأن صرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها كما هو محور كلام الوهابية لم يتفاوت الحال بين التوسل بالحي والميت وقد ثبت جواز التوسل بالحي كما اعترف به ابن تيمية في كلامه السابق وصرحت به الأحاديث السابقة التي أوردها وفيها أمره بالتوسل به " ص " إلي الله تعالي وبسؤاله بحق السائلين عليه وبحق ممشي المصلي إلي الصلاة وصرحت بالحق علي الله وبالتوسل بالنبي " ص " وبالعباس وجاء ذلك في الأخبار الآتية أيضا وفيها

ص: 253


1- 116. ولا يخرج عنها ما ذكره ابن تيمية في كلامه الآنف الذكر من أن توسلهم به " ص " في حياته أنهم يسألونه الدعاء لهم فيدعو ويدعون معه فيتوسلون بشفاعته ودعائه فإنه إذا جاز التوسل بعمله من الشفاعة والدعاء جاز التوسل به نفسه " ص " وإن كان تفسيره للتوسل بذلك قصدا لتوهين أمره غير صحيح بل معناه ما ذكرناه في مآل الوجوه الثلاثة السابقة. - المؤلف -.

قول عمر في العباس هذا والله الوسيلة إلي الله والمكان منه وإذا ثبت أن التوسل بالحي ليس عبادة ولا شركا فالتوسل بالميت كذلك لعدم تعقل الفرق فإن جواز التوسل به إلي الله إن كان لمكانته عند الله فهي لم تذهب بالموت وإن كان التوسل به لأجل أن يدعو الله فهو ممكن في حق الميت ولو فرض عدم إمكانه لم يوجب الشرك بل يكون مثل طلب المشي من المقعد بزعم أنه صحيح كما بيناهما مرارا فالتفرقة بين التوسل بالأحياء والأموات تحكم محض وجمود بحت وقد فهم الصحابة الذين هم أعلم بالسنة من ابن تيمية وأتباعه عدم الفرق وأمر مالك إمام المذهب أبا جعفر المنصور أن يتوسل بالنبي " ص " ويستشفع به بعد موته وقال هو وسيلتك وسيلة أبيك آدم كل هذا والوهابية يراوغون ويتمحلون ويكفرون المسلمين بما لم يجعله الله مكفرا فإذا قيل لهم هذا قد ثبت في الشرع قالوا ثبت في حق الأحياء الحاضرين دون الأموات والغائبين. كأن الله جوز عبادة الأحياء الحاضرين والإشراك بهم ولم يمنع إلا من عبادة الأموات والغائبين. ويمنع ابن تيمية من التوسل بالنبي " ص " بعد موته ويعده بدعة ويقول ثبت في الحياة والحضور دون الغيبة وبعد الموت. ونقول لهم: هل زالت حرمة رسول الله " ص " بعد موته وبطلت مكانته عند الله ولم يعد مقربا لديه إذا فلماذا يعلن باسمه في المآذن في اليوم والليلة خمس مرات وعلي رؤوس المنابر وفي الصلوات كلها مفروضها ومسنونها مقرونا باسمه تعالي في الكل ولماذا يصلي عليه كلما ذكر ولماذا ولماذا؟!. وإذا كان التوسل به بعد موته وفي غيبته أيام حياته شركا فكيف صار في حياته وحضوره عبادة وتوحيدا فما يكون شركا لا يكون توحيدا وبالعكس. فإن قلتم الفارق ورود النص بالأمر به في الحياة وعدم وروده في غيره. قلنا النص لا يوجب التفريق في الشئ الواحد بين فرديه بحسب الزمان فيجعل أحدهما شركا في زمان وتوحيدا في آخر وإذا كان التوسل شركا قبل الأمر لم يجز الأمر به ولا يمكن أن يغيره لأن الحكم لا يغير الموضوع وإذا لم يكن شركا قبل الأمر فهو كذلك في الحياة والحضور والغيبة وبعد الموت وأين قياسكم الذي تتمسكون به في أحكام الدين وكيف ضاق عن هذا الحكم فتورعتم عن الاستدلال به فيه لتستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مع أن العلة في التوسل هنا ظاهرة وهي الجاه والمكانة عند الله فتعم كل ذي جاه ومكانة عنده بإطاعته له تعالي ويخرج عن القياس المستنبط العلة ويلحق بمنصوصها بل العلة في ذلك

ص: 254

قطعية وهي المكانة الحاصلة بالقرب والطاعة لما هو المعلوم ضرورة ونصا من أنه ليس بين الله وبين أحد هوادة وإن أكرم العبادة عنده أتقاهم وليس أحد خيرا من أحد إلا بالتقوي فتوقف ابن تيمية في ذلك معتلا بأنه لم ينقل توسلهم به بعد موته ولا في مغيبه وتورعه عنه خوفا من الابتداع جمود في غير محله وكذا ما نقله عن ابن عبد السلام من عدم تجويز ذلك إلا للنبي " ص " معلقا علي صحة الخبر فيه وينبغي لهؤلاء أن يقتصروا علي التوسل به في حياته وحضوره في المدينة دون مكة وفي يوم كذا وشهر كذا وسنة كذا وساعة كذا وفصل كذا دون الباقي أبمثل هذه الأدلة الواهية الواهنة تستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ويحكم بكفرهم وشركهم وأن دارهم دار حرب. ومما يكذب ما زعمه ابن تيمية من أنه لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته ولا استحبوا ذلك ما نقل عن أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها من التوسل به " ص " في مماته ورجحان ذلك واستحبابه قال السمهودي في وفاء الوفا (1) وغيره في غيره: قال عياض في الشفا بسند جيد عن ابن حميد أحد الرواة عن مالك فيما يظهر قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله " ص " فقال مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالي أدب قوما فقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي (الآية) ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله (الآية) وذم قوما فقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " الآية " وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله " ص " فقال لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله قال الله تعالي ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم (الآية) " انتهي " وفي خلاصة الكلام ذكره أي الحديث القاضي عياض في الشفا وساقه بإسناد صحيح وذكره الإمام السبكي في شفاء السقام في زيارة خير الأنام والسيد السمهودي في خلاصة الوفا والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية والعلامة ابن حجر في تحفة الزوار والجوهر المنظم وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب زيارة النبي " ص " قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم رواية ذلك عن الإمام جاءت بالسند الصحيح الذي لا

ص: 255


1- 117. ج 2 ص 422.

مطعن فيه وقال العلامة الزرقاني في شرح المواهب ورواها ابن فهد بإسناد جيد ورواها القاضي عياض في الشفا بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضاع ولا كذاب قال: ومراده بذلك الرد علي من نسب إلي مالك كراهية استقبال القبر (انتهي) قال السمهودي فانظر هذا الكلام من مالك وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسل بالنبي " ص " واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه (انتهي) فهذا قول مالك إمام المذهب مخاطبا به المنصور الخليفة العباسي حتي استكان لكلامه مع أنه خليفة الوقت وسلطانه مبينا به أن حرمة رسول الله " ص " ميتا كحرمته حيا مخاطبا له بخطاب التوبيخ بقوله لم تصرف وجهك عنه، ناصا علي حسن التوسل به ورجحانه وأنه الوسيلة للخلق ووسيلة أبيهم آدم آمرا له باستقبال قبره والتشفع به ضامنا له عليه الشفاعة ناصا علي أن آية ولو أنهم إذ ظلموا (الآية) عامة للحياة والممات. كل هذا وابن تيمية يقول إنه لم يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته ولا استحبوا ذلك ويتورع ويخاف من الابتداع بزعمه ويقول الدعاء مخ العبادة ومبناها علي الاتباع لا الابتداع ولا يتورع عن نسبة لوازم التجسيم إليه تعالي وعن تكفير المسلمين ونسبتهم الشرك، ثم حكي السمهودي عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب في آداب زيارة النبي " ص " أنه يجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره ويقول في دعائه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية " وإني قد أتيت نبيك مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبت لمن أتاه في حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك " ص " وذكر دعاء طويلا، ثم قال: وقال أبو منصور الكرماني من الحنفية إن كان أحد أوصاك بتبليغ التسليم تقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان يستشفع بك إلي ربك بالرحمة والمغفرة فاشفع، وقال السمهودي في وفاء الوفا (1) ما لفظه: وفي كلام أصحابنا، يعني الشافعية أن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل، انتهي محل الحاجة، وفي خلاصة الكلام (2) والدرر السنية، كلاهما لأحمد بن زيني دحلان: قال العلامة ابن حجر في كتابه الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان

ص: 256


1- 118. ج 2 ص 425.
2- 119. ص 252.

يتوسل بالإمام أبي حنيفة " رض " يجئ إلي ضريحه يزور فيسلم عليه ثم يتوسل إلي الله تعالي به في قضاء حاجاته قال وقد ثبت أن الإمام أحمد توسل بالإمام الشافعي (رض) حتي تعجب ابنه عبد الله ابن الإمام أحمد فقال له أبوه إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن ولما بلغ الإمام الشافعي أن أهل المغرب يتوسلون إلي الله بالإمام مالك لم ينكر عليهم (انتهي) وفي صواعق المحرقة، لابن حجر أن الإمام الشافعي (رض) توسل بأهل البيت النبوي حيث قال: آل النبي ذريعتي وهم إليه وسيلتي أرجو بهم أعطي غدا بيدي اليمين صحيفتي (انتهي) فهذا الإمام مالك إمام المالكية والسامري الحنبلي والكرماني الحنفي وعلماء الشافعية قائلون بحسن التوسل والتشفع به " ص " بعد موته والإمام الشافعي توسل بأهل البيت بعد موتهم وتوسل بالإمام أبي حنيفة بعد موته وأقر أهل المغرب علي توسلهم بالإمام مالك بعد موته وأحمد توسل بالشافعي بعد موته فضلا عن النبي " ص " وكل هؤلاء من أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها. وابن تيمية يقول إنه لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته. وفي خلاصة الكلام: المرجح عند الحنابلة جواز التوسل بالنبي " ص " بعد موته لصحة الأحاديث الدالة علي ذلك فيكون المرجح عندهم موافقا لما عليه أهل المذاهب الثلاثة. قال: وأما ما ذكره الآلوسي في تفسيره من أن بعضهم نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه منع التوسل فهو غير صحيح إذ لم ينقله عنه أحد من أهل مذهبه بل كتبهم طافحة باستحباب التوسل ونقل المخالف غير معتبر. قال: وقد بسط الإمام السبكي نصوص المذاهب الأربعة في استحباب التوسل في كتابه شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام فراجعه. قال: وفي المواهب اللدنية للإمام القسطلاني وقف أعرابي علي قبره الشريف " ص " وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فاعتقني من النار علي قبر حبيبك فهتف به هاتف يا هذا تسأل العتق لك وحدك هلا سألت العتق لجميع الخلق يعني من المؤمنين (الخبر). قال: ثم قال في المواهب عن الحسن البصري وقف حاتم الأصم علي قبره " ص " فقال: يا رب إنا زرنا قبر نبيك " ص "

ص: 257

فلا تردنا خائبين " الخبر ". وقال ابن أبي فديك وهو من أتباع التابعين ومن الأئمة الثقات المشهورين ومن المروي عنهم في الصحيحين وغيرهما: سمعت بعض من أدركت من العلماء والصلحاء يقول بلغنا إن من وقف عند قبر النبي " ص " فقال هذه الآية (إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وقال صلي الله عليك يا محمد حتي يقولها سبعين مرة ناداه ملك صلي الله عليك يا فلان ولم تسقط له حاجة. قال: وهذا الذي نقله في المواهب عن ابن أبي فديك رواه عنه البيهقي. قال: ومما ذكره العلماء في آداب الزيارة أنه يستحب أن يجدد الزائر التوبة في ذلك الموقف الشريف ويستشفع به " ص " إلي ربه عز وجل في قبولها ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " ويقولون (نحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك بزيارتك والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله فاستغفر لنا واشفع لنا عند ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا). قال: وفي الجوهر المنظم أيضا إن أعرابيا وقف علي القبر الشريف وقال: (اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك وأنت يا رب أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك اللهم إن العرب إذا مات فيهم سيد أعتقوا علي قبره وإن هذا سيد العالمين فاعتقني علي قبره يا أرحم الراحمين) فقال له بعض الحاضرين يا أخا العرب إن الله قد غفر لك بحسن هذا السؤال. قال: وذكر كثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك عند ذكرهم زيارة النبي " ص " أنه يسن للزائر أن يستقبل القبر الشريف ويتوسل إلي الله تعالي في غفران ذنوبه وقضاء حاجاته ويستشفع به " ص " قالوا ومن أحسن ما يقول ما جاء عن العتبي وهو مروي أيضا عن سفيان بن عيينة وكل منهما من مشايخ الشافعي رضي الله عنه قال العتبي كنت جالسا عند قبر رسول الله " ص " فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول. وفي رواية: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما وقد

ص: 258

جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلي ربي. وفي رواية: وإني جئتك مستغفرا ربك عز وجل من ذنوبي ثم بكي وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم استغفر وانصرف فغلبتني عيناي فرأيت النبي " ص " في المنام فقال يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره إن الله غفر له فخرجت خلفه فلم أجده " انتهي " وذكر حكاية الأعرابي هذه السمهودي في وفاء الوفا وسيأتي نقلها في فصل الزيارة وحكي السمهودي (1) عن السبكي أن الآية دالة علي الحث بالمجئ إليه " ص " والاستغفار عنده واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين لقوله تعالي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته وقوله واستغفر لهم معطوف علي جاؤوك فلا يقتضي كون استغفاره بعد استغفارهم مع إنا لا نسلم أنه لا يستغفر بعد الموت لما سبق من حياته ومن استغفاره لأمته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه " انتهي " ثم قال في خلاصة الكلام: قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم روي بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنهم بعد دفنه " ص " بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمي بنفسه علي القبر الشريف علي ساكنه أفضل الصلاة والسلام وحثا من ترابه علي رأسه وقال يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله ما وعينا عنك وكان فيما أنزله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلي ربي " الخبر " قال وجاء ذلك عن علي أيضا من طريق أخري " انتهي " وفي وفاء الوفا (2) قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسي بن النعمان في مصباح الظلام إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عن علي بن أبي طالب قال قدم علينا أعرابي وذكر مثله ثم قال في خلاصة الكلام ويؤيد ذلك ما صح عنه " ص " حياتي خير لكم تحدثون وأحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم (انتهي).

ص: 259


1- 120. ج 3 ص 411.
2- 121. ج 2 ص 412.

فهذه أقوال علماء المذاهب الأربعة وسيرة المسلمين خلفا عن سلف متفقة علي التبرك بقبر النبي " ص " والتوسل والاستشفاع به " ص " سيما عند قبره ودعا الله عنده وأخبارهم ورواياتهم طافحة بذلك. وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بعد موته ولا استحبوا ذلك. أما أئمة أهل البيت الطاهر النبوي فأدعيتهم المأثورة عنهم التي تبلغ حد التواتر طافحة بالتوسل بجدهم " ص " وبآله وبحقه وحقهم والإقسام عليه تعالي بهم وهم أعرف بسنة جدهم وبأحكام ربهم من ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهم من أعراب نجد فهم باب مدينة علم المصطفي وورثة علمه والذين أمرنا بأن نتعلم منهم ولا نعلمهم لأنهم أعلم منا. فمنه قول أمير المؤمنين " ع " في الصحيفة العلوية التي جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي من ادعيته " ع " في الدعاء الذي علمه أويسا (وبحق السائلين لك والراغبين إليك والمتعوذين بك والمتضرعين إليك وبحق كل عبد متعبد لك في بر أو بحر أو سهل أو جبل) وفي دعائه " ع " عند لقاء العدو وبمحمد رسول الله " ص " أتوجه (وبعد الثامنة من صلاة الليل) اللهم إني أسألك بحرمة من عاذ بك منك ولجأ إلي عزك واستظل بفيئك واعتصم بحبلك ولم يثق إلا بك (وبعد الزوال) وأتقرب إليك بمحمد عبدك ورسولك وأتقرب إليك بملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين (وفي اليوم السادس عشر) وأتوجه إليك اللهم لا إله إلا أنت بنبيك محمد النبي (وفي اليوم الثالث والعشرين) أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلي الله عليه وآله الطيبين الأخيار يا محمد إني أتوجه بك إلي الله ربك وربي في قضاء حاجتي. وفي دعاء الحسين بن علي " ع " يوم عرفة المستفيض نقله عنه. اللهم إنا نتوجه إليك في هذه العشية التي شرفتها وعظمتها بمحمد نبيك ورسولك وخيرتك من خلقك. وقول علي بن الحسين زين العابدين " ع " في الصحيفة الكاملة التي كفي دليلا علي صحة نسبتها بلاغة ألفاظها فضلا عن صحة أسانيدها وعظيم شهرتها في دعائه " ع " إذا دخل شهر رمضان: اللهم إني أسألك بحق هذا الشهر وبحق من تعبد لك فيه من ابتدائه إلي وقت فنائه من ملك قربته أو نبي أرسلته أو عبد صالح اختصصته (وفي يوم عرفة) بحق من انتجبت من خلقك وبمن اصطفيته لنفسك بحق من اخترت من بريتك ومن اجتبيت لشأنك بحق من وصلت طاعته بطاعتك ومن جعلت معصيته كمعصيتك بحق من قرنت موالاته بموالاتك ومن نطت معاداته بمعاداتك. وفي دعائه عند زيارة جده أمير المؤمنين " ع ": اللهم فاستجب دعائي واقبل ثنائي واجمع بيني وبين أوليائي بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن

ص: 260

والحسين والأئمة المعصومين من ذرية الحسين. (وفي الدعاء الثلاثين) من أدعية الصحيفة الخامسة له " ع " اللهم فإن وسيلتي إليك محمد وآله وبعدهم التوحيد (وفي الدعاء الأربعين) وأتوجه إليك وأتوسل إليك واستشفع إليك بنبيك نبي الرحمة محمد " ص " وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عبديك وأمينيك الخ إلي غير ذلك مما يطول الكلام باستقصائه إذ قلما يوجد دعاء من الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت " ع " علي كثرتها لا يوجد فيه شئ من هذا القبيل وكفي به حجة دامغة لمن أنكر ذلك. ومن أنواع التوسل به " ص " في حياته وبعد موته تقديم الصلاة عليه قبل الدعاء الذي ورد أنه من أسباب إجابة الدعاء كما اعترف به ابن تيمية فيما نقلناه عنه في فصل الاستغاثة وجرت عليه سيرة المسلمين وأصبح من ضروريات الدين فإنه لا معني له إلا التوسل به " ص " وبالصلاة عليه إلي الله في إجابة الدعاء. ومن أنواع التوسل به " ص " استقبال قبره الشريف وقت الدعاء فإنه في الحقيقة توسل به " ص " وبقبره الشريف وقد جرت عليه سنة المسلمين خلفا عن سلف وقرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وأفتي باستحبابه الإمام مالك إمام دار الهجرة في قوله للمنصور لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلي الله تعالي بل استقبله واستشفع به كما مر. وفي خلاصة الكلام: ذكر علماء المناسك أن استقبال قبره الشريف " ص " وقت الزيارة والدعاء أفضل من استقبال القبلة قال العلامة المحقق الكمال ابن الهمام أن استقبال القبر الشريف أفضل من استقبال القبلة وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن استقبال القبلة أفضل فمردود بما رواه الإمام نفسه في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر للقبلة وسبقه إلي ذلك ابن جماعة فنقل استحباب استقبال القبر الشريف عن الإمام أبي حنيفة أيضا ورد قول الكرماني أنه يستقبل القبلة وقال ليس بشئ قال في الجوهر المنظم ويستدل لاستقبال القبر أيضا بأنا متفقون علي أنه " ص " حي في قبره يعلم زائره وهو " ص " لو كان حيا لم يسع الزائر إلا استقباله واستدبار القبلة فكذا يكون الأمر حين زيارته في قبره الشريف ثم نقل قول مالك للمنصور المشار إليه آنفا. ثم قال: قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب إن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلا له مستدبرا للقبلة ثم نقل عن مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي " ره " والجمهور مثل ذلك. قال: وأما مذهب الإمام

ص: 261

أحمد ففيه اختلاف بين علماء مذهبه والراجح عند المحققين منهم أنه يستقبل القبر الشريف كبقية المذاهب " انتهي محل الحاجة من خلاصة الكلام " ومر ما نقله السمهودي عن أبي عبد الله السامري الحنبلي وعن كثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك إن الزائر يستقبل القبر ويستدبر القبلة وقال السمهودي أيضا في وفاء الوفا (1) قال عياض قال مالك في رواية ابن وهب إذا سلم علي النبي " ص " ودعا يقف ووجهه إلي القبر لا إلي القبلة. قال: وفي رواية نقلها عياض عن المبسوط أنه قال لا أري أن يقف عند القبر يدعو لكن يسلم ويمضي قال السمهودي قلت وهي مخالفة أيضا لما تقدم في مناظرة المنصور لمالك وكذا لما نقله ابن المواز أنه قيل لمالك فالذي يلتزم أتري له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع قال لا ولكن يقف ويدعو قيل له وكذلك عند قبر النبي " ص " قال نعم. ثم قال: نقل ابن يونس المالكي عن ابن حبيب أنه قال ثم أقصد القبر من وجاه القبلة فادن منه وسلم علي رسول الله " ص " واثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه " ص " يسمع ويعلم وقوفك بين يديه الخ. قال: وقال النووي في رؤوس المسائل عن الحافظ أبي موسي الإصبهاني أنه روي عن مالك أنه قال إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبي " ص " فيستدبر القبلة ويستقبل النبي " ص " ويصلي عليه ويدعو. قال: وقال إبراهيم الحربي في مناسكه تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه يعني القبر. قال: وروي أبو القاسم طلحة بن محمد في مسند أبي حنيفة بسنده عن أبي حنيفة قال جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي " ص " فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلي القبر وبكي بكاء غير متباك. قال: وقال المجد اللغوي روي عن الإمام الجليل أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة فقلت لأنظرن ما يصنع فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله " ص " وبكي غير متباك فقام مقام رجل فقيه. ثم قال: قلت فهذا يخالف ما ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوي عطفا علي حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة من أن المسلم عليه " ص " يستقبل القبلة وقال السروجي الحنفي يقف عندنا مستقبل القبلة قال الكرماني الحنفي يقف عند رأسه بين المنبر والقبر مستقبل القبلة. قال: وعن أصحاب الشافعي وغيره يقف وظهره إلي القبلة ووجهه إلي الحظيرة وهو قول ابن حنبل. قال:

ص: 262


1- 122. ص 423 ج 2.

وقال محقق الحنفية الكمال ابن الهمام ما نقل عن أبي حنيفة أنه يستقبل القبلة مردود بما روي أبو حنيفة في مسنده عن ابن عمر قال من السنة أن تأتي قبر رسول الله " ص " من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلي القبلة وتستقبل القبر وتسلم وقال ابن جماعة في منسكه الكبير ومذهب الحنفية إلي أن قال ثم يدور إلي أن يقف قبالة الوجه المقدس مستدبر القبلة فيسلم وشذ الكرماني فقال يقف للسلام مستدبر القبر مستقبل القبلة وتبعه بعضهم وليس بشئ ثم حكي السمهودي عن السبكي أنه قال: وقول أكثر العلماء هو الأحسن فإن الميت يعامل معاملة الحي والحي يسلم عليه مستقبلا فكذلك الميت وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه ثم حكي عن المطري أنه لما أدخل بيت رسول الله " ص " وحجرات أزواجه في المسجد وقف الناس مما يلي وجه النبي " ص " واستدبروا القبلة للسلام عليه قال السمهودي وذلك لتعذر استقبال الوجه الشريف قبل إدخال البيت في المسجد ثم قال فاستدبار القبلة في هذه الحالة مستحب كما في خطبة الجمعة والعيدين وسائر الخطب المشروعة كما قاله ابن عساكر في التحفة. إلي أن قال: وفي كلام أصحابنا (يعني الشافعية) إن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل ثم يقف مستقبل القبلة والقبر عن يساره والمنبر عن يمينه فيدعو أيضا (انتهي وفاء الوفا). وفي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية اختلفوا في التوسل إليه تعالي بشئ من مخلوقاته هل هو مكروه أو حرام والأشهر الحرمة " انتهي " (وفي الرسالة الثانية) منها وأما التوسل وهو أن يقول القائل اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد " ص " أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين أو بحق عبدك فلان فهذا من أقسام البدعة المذمومة ولم يرد بذلك نص كرفع الصوت بالصلاة علي النبي " ص " عند الأذان (انتهي) فذاك حكي تحريمه وهذا جعله بدعة ولم يجعله شركا (والحمد لله) كما مر عن الصنعاني وقد عرفت مما تقدم ورود النصوص الصريحة بذلك واتفاق المسلمين عليه فتوي وعملا حتي بلغ إلي حد الضرورة فجعله من البدعة جمود بارد وتشدد في غير محله كرفع الصوت بالصلاة علي النبي (ص) عند الأذان فإن الصلاة عليه (ص) إذا كانت سنة لم يكن رفع الصوت بها بدعة وكان فاعلها مخيرا بين رفع الصوت وخفضه والاخفات بها لإطلاق الدليل ويلزم علي قياس قوله إن نبحث عن مقدار الصوت بها الذي كان في عصر السلف فلا نزيد عليه ولا ننقص لئلا نقع في البدعة ومع الجهل نتركها بالكلية لعدم العلم بما ليس بدعة

ص: 263

الفصل الرابع في الإقسام علي الله بمخلوق أو بحق مخلوق ونحوه مثل أقسمت عليك أو أقسم عليك بفلان أو بحق فلان أو سألتك أو أسألك بفلان وهذا داخل في التوسل المذكور في الفصل السابق وإنما أعدنا ذكره في فصل خاص لكونه نوعا مخصوصا من التوسل وللوهابية كلام فيه بعنوانه الخاص وأدلة خاصة به وهو مما منعه الوهابية وحرموه علي عادتهم في التشدد والتضييق علي عباد الله فيما وسع الله فيه عليهم وعدم رضاهم بتعظيم من عظمه الله ما وجدوا لذلك حيلة ولا ندري هل يجعلونه كفرا وشركا لا يستبعد منهم ذلك بعد أن جعلوا سؤال الشفاعة من النبي (ص) شركا مع تسليمهم بأن الله أعطاه الشفاعة وأنه الشفيع المشفع كما مر بيانه في محله وقد جعل الصنعاني التوسل كفرا وشركا كما مر وهذا منه ومر في أواخر الفصل السابق إن بعض الوهابية جعل التوسل بدعة وبعضهم قال إن الأشهر تحريمه وفي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية المنسوبة لعبد العزيز بن محمد بن سعود إن الإقسام علي الله بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء (1) قال وهل هو نهي تنزيه أو تحريم قولان أصحهما إنه كراهة تحريم واختاره العز بن عبد السلام في فتاويه ثم نقل عن أبي حنيفة أنه قال لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن تقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وعن أبي يوسف بمعاقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك ثم حكي عن القدوري أن المسألة بحق المخلوق لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق علي الخالق. قال: صاحب الرسالة وأما قوله وبحق السائلين عليك ففيه عطية العوفي وفيه ضعف ومع صحته فمعناه بأعمالهم لأن حقه تعالي عليه طاعته وحقهم عليه الثواب والإجابة (انتهي). وقال: صاحب المنار في الحاشية: المتبادر من معني هذه الجملة إنها سؤال لله تعالي بوعده للسائلين أن يستجيب دعاءهم بمثل قوله (ادعوني أستجب لكم). ونقول: الإقسام علي الله تعالي بكريم عليه من نبي أو ولي أو عبد صالح أو عمل صالح أو غير ذلك نوع من التوسل الذي تقدم الكلام فيه في الفصل الثالث وبينا جوازه ورجحانه

ص: 264


1- 123. يا عجبا لهؤلاء تارة يستدلون باتفاق العلماء وإجماعهم وتارة بقول الصنعاني أحد مؤسسي مذهبهم أن وقوعه محال كما مر في المقدمات. - المؤلف -.

وأنه ليس ببدعة وأنه محبوب لله تعالي وأنه تعالي يحب أن يتوسل إليه عبده بأنواع الوسائل وكلها لا تخرج عن دعائه وعبادته ومن أجل ذلك جعل الله الشفاعة التي لا ينكرها الوهابية وقبلها وأذن فيها وإلا فأي حاجة له إلي الشفيع وهو أعلم بحال عبده وأرأف به وانحني عليه من كل أحد فجعل الشفاعة كرامة للشفيع ورحمة بالمشفوع به ولأنها نوع من عبادته ودعائه والتضرع إليه فهو يحب ذلك كله سواء كان من العبد نفسه أو علي لسان غيره ولذلك قبل الدعاء بلسان الغير بل جعله أرجي للإجابة. وقول صاحب الرسالة إن الإقسام علي الله بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء جزاف من القول ولم يأت بما يثبته سوي ما نقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عبد السلام والقدوري كأن علماء الإسلام في جميع الأعصار والأمصار انحصرت في هؤلاء الأربعة وأين فتوي الشافعي ومالك وأحمد ابن حنبل لم لم ينقلها إن كانوا موافقين وأين فتوي باقي العلماء الذين لا يحصي عددهم إلا الله هل اطلع علي فتواهم فوجدهم موافقين أو لا فكيف تجرأ علي دعوي اتفاقهم وكيف يدعي الاتفاق بفتوي أربعة أحدهم القدوري وابن عبد السلام وسلفه محمد بن إسماعيل الصنعاني ينكر تحقق الاجماع بعد عصر الصحابة كما مر في المقدمات. وإذا كنت تريد أن تعرف مبلغ هؤلاء من العلم والتثبت والتورع في النقل وغيره فخذ لك نموذجا من هذا وإذ عرفت أن الأقسام علي الله بمخلوق لا يخرج عن التوسل به إلي الله تعالي فكان يلزم علي الوهابية أن يجعلوه شركا كما جعلوا التوسل لكنهم يلقون الفتاوي جزافا ويفرقون بين المتفقات ويوافقون بين المتفرقات. والحق أنه لا كراهية ولا تحريم في ذلك بل هو راجح مستحب لأنه نوع من دعاء الله تعالي وعبادته الثابت رجحانه بعموم أدلة الدعاء ولم يثبت شئ يخرجه عن العموم بل وردت النصوص فيه بالخصوص. مثل ما مر في الفصل الثالث مما رواه الحاكم وصحح إسناده والطبراني من قول آدم عليه السلام يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي وما رواه الحاكم في الكبير والأوسط من قول رسول الله (ص) اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. وما سيأتي قريبا من قول أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا وقد ورد في أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام أسألك بمعاقد العز من عرشك بكثرة وهو ينفي احتمال الكراهية كما أنه ورد في أدعيتهم عليهم السلام الإقسام علي الله بالمخلوق وقد مر في الفصل الثالث وهم أحق

ص: 265

بالاتباع وأعلم بسنة جدهم (ص) من ابن عبد الوهاب وأمثاله. أما استدلال القدوري علي تحريمه بأنه لا حق للمخلوق علي الخالق فباطل. أولا لأن الإقسام علي الله بالمخلوق لا يلزم أن يقال فيه أسألك بحق فلان عليك بل يكفي بحق فلان أو بفلان فإن الحق في اللغة الأمر الثابت الواجب من حق يحق حقا إذا ثبت فتارة يكون ثابتا للإنسان في نفسه من فضل وعلم وشرف وعبادة وزهادة وغير ذلك وتارة يثبت له علي غيره. ثانيا دعواه أنه لا حق للمخلوق علي الخالق إن أريد أن له عليه حقا حتميا إلزاميا شاء أو أبي وتسلطا كحق الدائن علي المديون فمسلم، لكن هذا لا يقول به أحد وإن أريد أن له عليه حقا جعله الله علي نفسه وأكرم به عبده فأي مانع منه وأي دليل يقتضي نفيه بل الدليل علي ثبوته موجود قال الله تعالي (وكان حقا علينا نصر المؤمنين كان علي ربك وعدا مسؤولا) أفنترك قول الله تعالي في كتابه ونتبع قول القدوري والطناجري. وفي الجامع الصغير للسيوطي (1) من رواية الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ حق علي الله عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله. وفي النهاية الأثيرية الحق ضد الباطل ومنه الحديث (أتدري ما حق العباد علي الله) أي ثوابهم الذي وعدهم به فهو واجب الانجاز ثابت بوعده الحق (انتهي) ومر في الفصل الثالث ما ذكره ابن تيمية من حديث كان حقا علي الله أن يسقيه من طينة الخبال وقوله جاء في غير حديث كان حقا علي الله كذا وكذا وما نقله في الصحيح حق الله علي العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد علي الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وما حكاه من رواية ابن ماجة في دعاء الخارج للصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا الخ وفي خلاصة الكلام (2) أنه رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) من خرج من بيته إلي الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك. قال: وذكره الجلال السيوطي في

ص: 266


1- 124. ص 230 ج 2 طبع مصر.
2- 125. ص 420.

الجامع الكبير وكثير من الأئمة في كتبهم بل قال بعضهم ما من أحد من السلف إلا وكان يدعو به. قال: ورواه ابن السني بإسناد صحيح عن بلال مؤذن رسول الله (ص) وفيه اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق مخرجي، مع بعض التفاوت (قال) ورواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث أبي سعيد بلفظ رواية ابن السني " انتهي " فإذا كان الله تعالي ورسوله قد صرحا بالحق علي الله تعالي فهل نتركه ونتبع قول القدوري والمغرفي أيها الوهابيون. ومع كل هذا التصريح من الله تعالي ورسوله فهم يتمحلون في رد الأحاديث بالقدح في إسنادها أو مفادها لأنه يعظم عليهم أن يعظموا أحدا ممن عظم الله فيردون ما دل علي ذلك بكل وسيلة ترويجا لشبهتهم وتمسكا بها (أما) قدح صاحب الرسالة في حديث بحق السائلين عليك بأن فيه عطية العوفي وفيه ضعف فمردود. حكي الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (1) عن ابن سعد أنه قال وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة وحكي فيه عن الدوري عن ابن معين أنه صالح " انتهي ". وفي خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ أحمد بن عبد الله الأنصاري (2) : عطية ابن سعد بن جنادة العوفي أبو الحسن الكوفي عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وعنه ابناه عمر والحسن وإسماعيل ابن أبي خالد ومسعر وخلق، ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي، وحسن له الترمذي أحاديث " انتهي " وحكي في الحاشية عن التهذيب: قال أبو حاتم وابن سعد ومع ضعفه يكتب حديثه " انتهي " وفي تهذيب التهذيب عن ابن عدي وأبي حاتم إنه مع ضعفه يكتب حديثه " انتهي " فدل ذلك علي أن أحاديثه مقبولة ليس فيها مناكير والذين ضعفوه لم يضعفوه إلا لكونه من شيعة علي عليه السلام فرموه بما رموه به " ففي تهذيب التهذيب " عن ابن عدي أنه كان يعد مع شيعة أهل الكوفة " وفيه أيضا " قال أبو بكر: البزار كان يعده في التشيع روي عنه جلة الناس، وقال الساجي ليس بحجة وكان يقدم عليا علي الكل " انتهي " فدل علي أن سبب القدح تقديمه عليا علي الكل وكفي به قدحا عندهم. وفيه عن ابن سعد بسنده عن عطية قال لما ولدت أتي أبي عليا ففرض لي في مائة وقال ابن سعد خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجاج إلي محمد بن القاسم أن يعرضه علي سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبي أن يسب فأمضي حكم الحجاج فيه

ص: 267


1- 126. راجع ج 7 صفحة 224 - 226 طبع الهند.
2- 127. راجع صفحة 226 طبع مصر.

" انتهي " أفهذا الذي هذه حاله وصفته في التصلب في الدين وصبره علي البلاء خوفا من الله تعالي يصدق في حقه قول ابن حبان كما حكاه عنه في تهذيب التهذيب إنه سمع من أبي سعيد أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبي فإذا حدث الكلبي عن رسول الله (ص) يحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له من حدثك بهذا يقول حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه الخدري وإنما أراد الكلبي " انتهي " ولعل الكلبي كان يكني بأبي سعيد أو هو كناه به كما يدل عليه ما في تهذيب التهذيب عن الكلبي أنه قال قال لي عطية كنيتك بأبي سعيد فأنا أقول حدثنا أبو سعيد. وما عليه إذا كني الكلبي بأبي سعيد وأخبره بذلك فإذا توهموا أنه الخدري فما ذنبه ولو كان مراده التدليس لم يخبر الكلبي بذلك هذا إن صح النقل لكن الغالب علي الظن أنه افتراء فمن يتحمل ضرب أربعمائة سوط وحلق لحيته ولا يسب عليا هل يتعمد إبدال الكلبي بأبي سعيد ليتوهموا أنه الخدري إن هذا ما لا يكون وما الذي يدعوه إلي ذلك " وابن حبان " هذا هو الذي قال في حق الإمام علي بن موسي الرضا إمام أهل البيت في عصره الذي حين روي لعلماء نيسابور حديث سلسلة الذهب المشهور كتب عنه ذلك الحديث من أهل المحابر والدوي ما ينوف عن عشرين ألفا وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي والناس ما بين صارخ وباك ومتمرغ في التراب ومقبل لحافر بغلته. فقال ابن حبان في حقه كما في كتاب الأنساب للسمعاني المطبوع ببلاد ألمانيا: يروي عن أبيه العجائب كان يهم ويخطئ (انتهي) وتعقبه بعض العلماء في الحاشية بقوله: أنظر إلي هذه الجرأة العظيمة من هذا المغرور وكيف يوهم ويخطئ ابن رسول الله ووارث علمه أحد علماء العترة النبوية وإمامهم المجمع علي غزارة علمه وشرفه وليت شعري كيف ظهر لهذا الناصبي الذي أفني عمره في علم الرسوم لأجل الدنيا حتي نال بها قضاء بلخ وغيرها وهم علي بن موسي الرضا وخطؤه وبينهما نحو مائة وخمسين عاما لولا بغض القربي النبوية التي أمر الله بحبها ومودتها وأمر رسوله عليه السلام بالتمسك بها قاتلهم الله أني يؤفكون " انتهي " ومما يدل علي وثاقة عطية رواية جلة الناس عنه كما اعترف بها البزار وكثرة من روي عنهم ورووا عنه من الصحابة وغيرهم " ففي تهذيب التهذيب: روي عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس وابن عمرو وزيد بن أرقم وعكرمة وعدي ابن ثابت وعبد الرحمن بن جندب وقيل ابن جناب. روي عنه ابناه الحسن وعمر والأعمش

ص: 268

والحجاج بن أرطاة وعمرو بن قيس الملائي ومحمد بن جحادة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي ومطرف بن طريف وإسماعيل بن أبي خالد وسالم بن أبي حفصة وفراس بن يحيي وأبو الجحاف وزكر بن أبي زائدة وإدريس الأودي وعمران البارقي وزياد بن خيثمة الجعفي وآخرون " انتهي " وقد أورد حديثه أئمة الحديث في صحاحهم كالبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة القزويني كما يدل عليه وضع صاحب مختصر تذهيب الكمال علي اسمه رمز (بخ دت ق) الذي هو رمز إلي هؤلاء أما قول صاحب الرسالة ومع صحته فمعناه بأعمالهم الخ فلا يظهر له معني محصل ومع ذلك ففيه اعتراف بثبوت الحق لهم علي الله بمعني الثواب والإجابة وجواز القسم به وقول صاحب المنار في الحاشية أن المتبادر من هذه الجملة إنها سؤال لله تعالي بوعده للسائلين أن يستجيب دعاءهم الخ لا ينفي الحق علي الله تعالي بل يؤيده وهو ما جعله علي نفسه بوعده الصادق من إجابة دعاء من دعاه. الفصل الخامس في الحلف بغير الله تعالي وهذا منعه الوهابية وبعضهم جعله شركا علي الاطلاق وبعضهم شركا أصغر فمن صرح به بأنه شرك علي الاطلاق الصنعاني في تطهير الاعتقاد فإنه بعدما ذكر أن القبوريين سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة وعد أعمالهم الموجبة لذلك قال (1) ويقسمون بأسمائهم بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالي لم يقبل منه فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه وهكذا كانت عبادة الأصنام (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وفي الحديث الصحيح (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله (ص) رجلا يحلف باللات فأمره أن يقول لا إله إلا الله - وهذا يدل علي أنه ارتد بالحلف بالصنم فأمره أن يجدد إسلامه فإنه قد كفر بذلك " انتهي ". ثم قال (2) بعدما ذكر أن رأس العبادة وأساسها الاعتقاد وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقدا ويصنعون له ما سمعته تفرع عن الاعتقاد وعد من جملته الحلف وفي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية

ص: 269


1- 128. صفحة 14.
2- 129. صفحة 15.

الشرك شركان أكبر وله أنواع ومنه الذي تقدم (يعني طلب الشفاعة من المخلوق والتوسل وغيره) وأصغر كالرياء والسمعة ومنه الحلف بغير الله لما روي ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله " ص " من حلف بغير الله فقد أشرك أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان وقال " ص " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت أخرجه الشيخان قال والشرك الأصغر لا يخرج عن الملة وتجب التوبة منه " انتهي ". ونقول قد وقع القسم بغير الله تعالي من الله تعالي ومن النبي " ص " ومن الصحابة والتابعين وجميع المسلمين خلفا عن سلف. أما من الله تعالي فإنه قد أقسم في كتابه العزيز بكثير من مخلوقاته كما أقسم بذاته وبعزه وجلاله مثل قوله تعالي (والعصر إن الإنسان لفي خسر. والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا. والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا. والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا. والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا. والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالملقيات ذكرا. والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين. والضحي الليل إذا سجي. والليل إذا يغشي. والنهار إذا تجلي. والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها. والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع. والسماء ذات الحبك. والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود. والسماء والطارق. والنجم إذا هوي. والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر. ن والقلم وما يسطرون. والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور. لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد. فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس. لا أقسم بيوم الدين. فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق. لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون) - لا يقال صدوره من الله تعالي لا يستلزم جواز

ص: 270

صدوره منا فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. لأنا نقول: إنا نريد أن صدوره منه تعالي يدل علي أنه لا قبح فيه لأنه تعالي منزه عن فعل القبيح فلا يكون صدوره منا قبيحا ونعم القدوة الله تعالي وإذا كان الله تعالي قد جعل لنفسه شريكا وأشرك بالشرك الأصغر (تعالي عن ذلك) فما علي من اقتدي به في ذلك بأس. وقول القسطلاني في إرشاد الساري (1) : لله تعالي أن يقسم بما شاء من خلقه ليعجب به المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظيم شأنها عندهم ولدلالتها علي خالقها وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق قال: ويقبح من سواك الشئ عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا (انتهي) كلام قشري لما عرفت من أن ما يقبح من العبد لكونه شركا أصغر وتشبيها للخلق في العظمة به تعالي لا يمكن أن يحسن منه تعالي إذ صدوره منه تعالي لا يخرجه عن تلك الصفة إن كانت والشعر الذي أورده لا يرتبط بما نحن فيه كما لا يخفي، وأما من النبي (ص) فعلا وتقريرا فمما رواه مسلم في صحيحه (2) أنه جاء رجل إلي النبي (ص) فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا فقال أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشي الفقر وتأمل البقاء (الحديث) وروي مسلم أيضا في كتاب الإيمان (3) أنه جاء رجل إلي رسول الله " ص " من أهل نجد يسأل عن الإسلام فقال رسول الله " ص " خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام شهر رمضان والزكاة ومع كل واحدة يقول: هل علي غيرها وهو " ص " يقول لا إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد علي هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله " ص " أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق (وحكي) القسطلاني في إرشاد الساري (4) عن ابن عبد البر أن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة تردها الآثار الصحاح " انتهي " (أقول) بل يعضدها حديث أما وأبيك لتنبأنه قال وقيل إنها مصحفة من قول والله. وقال القسطلاني وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه في الموطأ وغيره (انتهي) " قال القسطلاني " وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره أن هذا اللفظ كان يجري علي ألسنتهم من غير أن

ص: 271


1- 130. صفحة 358 ج 9.
2- 131. صفحة 419 ج 4.
3- 132. صفحة 224 - 227 ج ل بهامش إرشاد الساري.
4- 133. صفحة 357 ج 9.

يقصدوا به القسم أو إن التقدير أفلح ورب أبيه (انتهي) " وفيه " أن العرب تقصد به القسم وإلا كان إتيانه عبثا وهذرا والحذف لا دليل عليه وقال أبو طالب عم النبي (ص) كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل سمع ذلك رسول الله (ص) ولم ينكره " وأما الحلف بغير الله من الصحابة والتابعين وجميع المسلمين " فقد سمعت قول أبي بكر وأبيك ووقع الحلف من الكل بلفظ لعمري أو لعمر أبيك ونحو ذلك في الشعر والنثر بكثرة لا يمكن معها ضبطه وهو قسم باتفاق أهل اللغة وحلف بالعمر بفتح العين وهو الحياة أو الدين كما فسره أهل اللغة بل جعله النحويون نصا في القسم قال ابن مالك في ألفيته: وبعد لولا غالبا حذف الخبر حتم وفي نص يمين ذا استقر وقال ابنه في الشرح الثاني خبر المبتدأ الصريح في القسم نحو لعمرك لأفعلن (انتهي) وكذا ذكر ابن هشام في كتبه وغيرهم من النحويين " ففي كتاب علي إلي معاوية " لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمن (وفي كتاب آخر له إليه) فلعمري لو كنت الباغي لكان لك أن تخوفني " وفي كتاب معاوية إليه " فإن كنت أبا حسن إنما تحارب عن الإمارة والخلافة فلعمري لو صحت لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين وللحسين بن علي (ع): لعمرك إنني لأحب دارا تحل بها سكينة والرباب وقال ولده علي بن الحسين (ع) من كلام يخاطب به أهل الكوفة ولعمري ما هي منكم بنكر (ع) أخوه علي بن الحسين الأكبر يوم كربلاء: أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيت الله أولي بالنبي ولما سمع عبد الله بن عمر العنسي وكان من عباد أهل زمانه رواية عمرو بن العاص عن النبي " ص " أن عمارا تقتله الفئة الباغية خرج ليلا فأصبح في عسكر علي وحدث الناس بقول عمرو وقال من جملة أبيات: والراقصات بركب عامدين له إن الذي جاء من عمرو لمأثور ما في مقال رسول الله في رجل شك ولا في مقال الرسل تحيير رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين مسندا عن رجاله " ومما " يدل علي جواز الحلف

ص: 272

بغير الله من العظماء ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عائشة قال لها مسروق سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله (ص) يعني في حق الخوارج قالت سمعته يقول إنهم شر الخلق والخليفة يقتلهم خير الخلق والخليقة أقربهم عند الله وسيلة. فإن قوله سألتك بصاحب هذا القبر بمنزلة قوله أقسمت عليك به ولا فرق بين أن يقول القائل أقسم بفلان وأقسم عليك بفلان (وقوله) وأقربهم عند الله وسيلة من أدلة جواز التوسل كما مر. أما حديث من حلف بغير الله فقد أشرك فهو في مسند أحمد عن ابن عمر كان يحلف: وأبي فنهاه النبي (ص) قال من حلف بشئ دون الله فقد أشرك وقال الآخر وهو شرك " انتهي " (1) أما المنقول عن الترمذي وصححه الحاكم فهو أن ابن عمر سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله " ص " يقول من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " وهو " محمول أما علي الكراهة الشديدة وإطلاق الشرك عليه من باب المبالغة بيانا لشدة الكراهة فقد ورد اللعن علي فعل المكروه كلعن المحلل والمحل له كما بيناه في مقام آخر ويؤيده قوله في الرواية كان يحلف وأبي الدال علي أن ذلك كان عادة له مستمرة فهو شبه الإعراض عن الله تعالي ويؤيده ما في الروايات الأخر كما يأتي كانت قريش تحلف بآبائها وقول عمر وأبي وأبي " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (2) بعد نقل رواية الترمذي والتعبير بذلك يعني الكفر والشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ المشهور عند المالكية الكراهة وعند الحنابلة التحريم وجمهور الشافعية إنه للتنزيه وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة وقال غيره بالتفصيل فإن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم وكفر بذلك الاعتقاد وإن حلف لاعتقاد تعظيم المحلوف به علي ما يليق به من التعظيم فلا يكفر (انتهي). وأما علي الحلف بالأصنام كما يشير إليه الحديث الآنف الذكر في كلام الصنعاني فيمن حلف باللات مما

ص: 273


1- 134. كذا وجدنا هذه العبارة في المسودة ولم تحضرنا نسخة مسند أحمد عند تبييضها فلتراجع - المؤلف -.
2- 135. ص 358 ج 9.

يدل علي أن ذلك كان يقع منهم بعد إسلامهم لقرب عهدهم بالشرك لكن ذلك لا يتأتي علي رواية أحمد لأن فيها أنه كان يحلف وأبي أو علي الحلف بغير الله باعتقاد مساواته لله تعالي أو علي الحلف بالبراءة ونحوها كأن يقول إن فعل كذا فهو يهودي أو برئ من الإسلام أو من الله أو من رسوله فإنه إما محرم فقط أو موجب للكفر إن قصد الرضا بذلك إذا فعله ولكنه لا يتأتي علي رواية أحمد كما عرفت أو علي الحلف في مقام القضاء والمرافعة لإثبات حق أو نفيه الذي لا يجوز بغير الله تعالي وجعله شركا لتأكيد التحريم أو غير ذلك من المحامل فإن جواز الحلف بغير الله في غير ذلك قطعي بل من ضروريات الإسلام يعرف جوازه الخواص والعوام والنساء والصبيان ولو كان حراما لاشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار لكثرة الابتلاء به ولم يخف علي الناس كلها ويظهر للوهابية وحدهم وستعرف اتفاق الأئمة الأربعة علي الجواز. أما حديث النهي عن الحلف بالآباء فرواه أحمد في مسنده أيضا كما رواه الشيخان وصدره أن النبي (ص) سمع عمر وهو يقول وأبي وفي الرواية وأبي وأبي مكررا فقال إن الله ينهاكم الخ وفي رواية لمسلم الاقتصار علي من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله. قال: وكانت قريش تحلف بآبائها فقال لا تحلفوا بآبائكم وهو كالذي سبق محمول إما علي الكراهة أو علي عدم الانعقاد فيكون إرشاديا كما في النهي عن بيع الغرر، أي بيع المجهول أي أنه لا يترتب عليه آثار اليمين من وجوب الوفاء ولزوم الكفارة بمخالفته وغير ذلك أو علي الحلف في مقام المرافعة أو غير ذلك. قال النووي: في شرح صحيح مسلم (1) في شرح إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فيه النهي عن الحلف بغير أسمائه تعالي وصفاته وهو عند أصحابنا. يعني الشافعية مكروه وليس بحرام (انتهي). وصرح الخطيب الشربيني الشافعي في الاقناع بأن اليمين بالمخلوق مكروه ومثله عن شرح المنهاج وأفتي أحمد بن حنبل الذي ينسب الوهابية أنفسهم إليه ويقولون إنهم علي مذهبه بجواز الحلف بالنبي (ص) وأنه ينعقد لأنه أحد ركني الشهادة فهذا إمامهم ومقلدهم وأحد أئمة مذاهب الإسلام الأربعة يفتي بجواز الحلف بالمخلوق وانعقاده وهم يجعلونه شركا أو شركا أصغر. قال الشعراني في ميزانه: ومن ذلك قول أحمد إنه لو حلف بالنبي (ص) انعقد يمينه فإن حلف لزمته الكفارة (انتهي) بل الأئمة الأربعة قائلون بجواز الحلف بالنبي

ص: 274


1- 136. ص 119 ج 7 بهامش إرشاد الساري.

(ص) بل وغيره من المخلوقات لكنه مكروه إنما الخلاف في انعقاد الحلف بالنبي (ص) ولزوم الكفارة بالحنث. والحاصل أن الحلف بالله تعالي له أحكام خاصة لا تترتب علي غيره كفصل الخصومات به وترتب الإثم والكفارة علي مخالفته. ومذهب أئمة أهل البيت عليه السلام جواز الحلف بغير الله تعالي عدا البراءة فيحرم الحلف بها ولكنه لا ينعقد بغير الله تعالي ولا تسقط به الدعوي. أما قول الصنعاني أنه إذا حلف من عليه حق باسم الله لم يقبل منه وإذا حلف باسم ولي قبلوه وصدقوه. فجوابه أنه إنما يصدر ذلك من عوام الناس وجهالهم، وأهل المعرفة براء منه فهل تستحل دماء المسلمين وأموالهم لأمر يصدر من بعض جهالهم مع كونه أيضا لا يوجب شركا ولا كفرا وإن كان خطأ. وأما استشهاده بحديث من حلف باللات فأمره (ص) أن يقول لا إله إلا الله فعجيب فإنه ما حلف باللات إلا علي عادته التي كانت له قبل الإسلام من جعلها آلهة وعبادتها من دون الله وهي حجر لا تضر ولا تنفع وليس لها شرف يصحح الحلف بها فأمره بقول لا إله إلا الله ردعا له عن ذلك الحلف فقياسه الحلف بعظيم عند الله علي ذلك بمكان من الغرابة سواء كان ذلك موجبا للكفر أو لا. أما قوله: رأس العبادة وأساسها الاعتقاد الخ فقد مر الكلام عليه في الباب الثاني. الفصل السادس في التعبير عن غيره تعالي بالسيد والمولي ونحو ذلك بصيغة الخطاب وغيره وهذا أيضا مما جعله الوهابية موجبا للشرك ففي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية (1) بعدما ذكر تحريم عمارة القبور قال ويضاف إلي عمارتها دعاء أصحابها، إلي أن قال: وخطابهم يا سيدي يا مولاي إفعل كذا وكذا، وبهذا عبدت اللات والعزي إلي آخر ما قال وتقدم في الباب الثاني قول محمد بن عبد الوهاب وإنما يعنون. أي المشركون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد وفي خلاصة الكلام إن محمد بن عبد الوهاب يزعم أن من قال لأحد مولانا أو سيدنا فهو كافر. ونقول: إطلاق لفظ السيد علي غير الله تعالي ونداؤه به صحيح لا محذور فيه فإنه لا يراد به الملكية الحقيقية المساوية لملكيته تعالي ولا يقصد أحد من المسلمين ذلك ولو فرض

ص: 275


1- 137. ص 28.

إنا جهلنا قصدهم لوجب حمل كلامهم علي الصحيح وقد ورد إطلاق السيد علي غيره تعالي في القرآن الكريم بقوله تعالي في يحيي بن زكريا (وسيدا وحصورا. وألفيا سيدها لدي الباب) وفي كلام النبي (ص) بما يبلغ حد التواتر. روي البخاري في الأدب المفرد من حديث جابر عنه (ص) من سيدكم يا بني سلمة قالوا الجد بن قيس. وعن أبي هريرة عنه (ص) أنا سيد ولد آدم يوم القيامة. وفي رواية أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وعن عائشة عنه (ص) أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. وعن أبي سعيد الخدري عنه (ص) الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. وعن الترمذي عن فاطمة أخبرني النبي (ص) إني سيدة نساء العالمين. وعن أبي نعيم الحافظ في حلية الأولياء عنه (ص) ادعوا لي سيد العرب عليا. وعن الحلية أيضا أنه (ص) قال لعلي مرحبا بسيد المؤمنين. وعن عائشة أنه (ص) سار الزهراء فقال لها أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين. وعنه (ص) سادات النساء أربعة: خديجة وفاطمة ومريم وآسية. وفي الفائق للزمخشري (1) قال (ص) لأصحابه أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا كيف يصنع به فقال سعد بن عبادة والله لأضربنه بالسيف ولا انتظر أن آتي بأربعة شهداء فقال رسول الله " ص " انظروا إلي سيدنا هذا ما يقول وروي إلي سيدكم (وفي النهاية) في الحديث قالوا يا رسول الله من السيد فقال يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام قالوا فما في أمتك من سيد قال بلي من آتاه الله مالا ورزق سماحة فأدي شكره وقلت شكايته في الناس. قال: وفيه أنه " ص " قال للحسن بن علي إن ابني هذا سيد. وفيه أنه قال للأنصار قوموا إلي سيدكم يعني سعد بن معاذ " انتهي " وأشار بذلك إلي ما رواه أحمد بن حنبل (2) بسنده عن أبي سعيد الخدري نزل أهل قريضة علي حكم سعد بن معاذ فأرسل إليه رسول الله " ص " فأتاه علي حمار فلما دنا قريبا من المسجد قال " ص " قوموا إلي سيدكم أو خيركم (الحديث) ورواه البخاري (3) نحوه (وكذلك في كلام الصحابة) فعن البخاري عن جابر أن عمر كان يقول إن أبا بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا. وعن أبي بكر أنه قال أتقولون هذا شيخ قريش وسيدهم (وعن علي) أنا سيد البطحاء. وفي الفائق

ص: 276


1- 138. صفحة 308 طبع الهند.
2- 139. صفحة 22 ج 3.
3- 140. صفحة 146 ج 9 إرشاد الساري.

للزمخشري قالت أم الدرداء حدثني سيدي أبو الدرداء. وفي النهاية في حديث عائشة كان سيدي رسول الله " ص " الخ. هذا وفي بعض الأخبار ما يوهم عدم جواز إطلاق السيد علي غير الله. أورد السيوطي في الجامع الصغير عن الديلمي في مسند الفردوس عن علي: السيد الله وأورد العزيزي في شرح الجامع الصغير عن مسند أبي داود أنه جاء وفد بني عامر إلي النبي " ص " فقالوا أنت سيدنا فقال السيد الله (الحديث). والجمع بينه وبين ما مر باختلاف القصد في معني السيد أو بأنه قال ذلك تواضعا أي السيد الحقيقي هو الله. وفي النهاية: أي هو الذي تحق له السيادة كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع " انتهي ". وكذا ما ورد من النهي عن قول السيد: عبدي وأمتي، روي البخاري في حديث (1) ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي. وفي رواية لمسلم لا يقولن أحدكم عبدي فإن كلكم عبيد الله. وفي رواية لأبي داود والنسائي فإنكم المملوكون والرب الله مع قوله تعالي (والصالحين من عبادكم وإمائكم. عبدا مملوكا. اذكرني عند ربك) فهذه المناهي للتنزيه قصدا للتواضع (وحاش لله) أن يقصد المسلمون من إطلاق لفظ السيد علي غير الله تعالي معني ينافي إخلاص العبادة كيف وهم يعلمون أن ما عداه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا إلا بأمره تعالي وإرادته وإقداره. فقول ابن عبد الوهاب وإنما يعنون بلفظ الإله ما يعني المشركون بلفظ السيد افتراء علي المسلمين فلا يريد المسلمون الذين سماهم المشركين بلفظ السيد غير ما أريد في الاستعمالات الواردة في كلامه تعالي وفي كلام النبي " ص " والصحابة التي مر نقلها من الرئيس والأفضل ونحو ذلك. أما ما يريده المشركون بلفظ الإله فقد عرفت بما بيناه مرارا أنه يخالف ذلك فراجع. الفصل السابع في النحر والذبح وهذا مما كفر به الوهابية المسلمين ونسبوهم إلي الشرك فزعموا أنهم يذبحون وينحرون للأموات والقبور ويقربون لها القرابين وأن ذلك كالذبح والنحر للأصنام الذي كانت تفعله أهل الجاهلية الموجب للشرك. صرح بذلك ابن عبد الوهاب في كلامه المتقدم في

ص: 277


1- 141. ص 312 ج 4 إرشاد الساري.

الباب الثاني المنقول عن رسالته كشف الشبهات حيث قال إن النبي " ص " قاتل المشركين لتكون جملة أشياء لله تعالي وعد منها الذبح وقال في الرسالة المذكورة (1) في أثناء كلام له علم به أصحابه كيف يحتجون علي غيرهم: فقل هل الصلاة والنحر لله عبادة إذ يقول (فصل لربك وانحر) فلا بد أن يقول نعم فقل إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله فلا بد أن يقول نعم فقل المشركون هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغيرها فلا بد أن يقول نعم فقل وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره. وصرح بذلك الصنعاني في عدة مواضع من كلامه المتقدم في الباب الثاني. كقوله: إن إفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا أن تكون أشياء لله وعد منها النحر. وقوله: إن تعظيمهم الأولياء ونحرهم لهم النحائر شرك والله تعالي يقول (فصل لربك وانحر) أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف. وقوله: إن النحر علي القبر بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا الخ. وقوله: ونحرهم النحائر لهم شرك. وقال الصنعاني في رسالة تطهير الاعتقاد أيضا فإن قال إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه فقل إن كان النحر لله فلأي شئ قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه هل أردت بذلك تعظيمه إن قال نعم فقل له هذا النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالي غيره وإن لم ترد تعظيمه فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا ولا أردت إلا الأول ولا خرجت من بيتك إلا قصده. إلي أن قال: فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب " انتهي " وصرح بذلك الوهابيون في كتابهم إلي شيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني حيث عدوا من جملة أسباب الشرك التقرب إلي الموتي بذبح القربان. ونقول: النحر والذبح " قد يضاف لله تعالي " فيقال ذبح لله ونحر لله ومعناه أنه نحر لوجهه تعالي امتثالا لأمره وتقربا إليه كما في الأضحية بمني وغيرها والفداء في الاحرام والعقيقة وغير ذلك وهذا يدخل في عبادته تعالي أو نحر باسمه تعالي فذكر اسمه علي المنحور وهذا لا ربط له بالعبادة إنما هو شرط في حلية الذبيحة مع التفطن لقوله تعالي ولا

ص: 278


1- 142. صفحة 62 طبع المنار بمصر.

تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " وقد يضاف إلي المخلوق " فيقال ذبحت الدجاجة للمريض ونحرت البعير أو ذبحت الشاة للأضياف أو ذبحت كذا لفلان تريد الذي أمرك بالذبح وهذا لا محذور فيه. وقد يضاف إلي المخلوق بقصد التقرب إليه كما يتقرب إلي الله طلبا للخير منه مع كونه حجرا وجمادا لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع سواء كان تمثالا لنبي أو صالح أو غير ذلك ومع نهي الله تعالي عن ذلك ويذكر اسمه علي المنحور والمذبوح ويعرض عن اسم الله تعالي فيجعل نظيرا لله تعالي وندا له ويطلي بدم المنحور أو المذبوح قصد التقرب إليه مع كون ذلك عبثا ولغوا نهي عنه الله تعالي كما كان يفعل المشركون مع أصنامهم وهذا قبيح منكر بل شرك وكفر سواء سمي عبادة أو لا. وهذا ما توهم الوهابية أن المسلمين يفعلون مثله للأنبياء والأوصياء والصلحاء فينحرون ويذبحون لهم عند مشاهدهم أو غيرها ويقربون لهم القرابين كما كان عبدة الأصنام والأوثان يفعلون ذلك بأصنامهم وأوثانهم وهو توهم فاسد فإن ما يفعله المسلمون لا يخرج عن الذبح والنحر لله تعالي لأنه يقصد إني أذبح هذا في سبيل الله لأتصدق بلحمه وجلده علي الفقراء أو مطلق عباد الله وأهدي ثواب ذلك لرب المشهد. والذبح الذي يقصد به هذا يكون راجحا وطاعة لله تعالي وعبادة له سواء أهدي ثواب ذلك لنبي أو ولي أو أب أو أم أو أي شخص من سائر الناس ونظيره من يقصد إني أطحن هذه الحنطة لأعجنها وأخبزها وأتصدق بخبزها علي الفقراء وأهدي ثواب ذلك لأبوي فأفعاله هذه كلها طاعة وعبادة لله تعالي لا لأبويه ولا يقصد أحد من المسلمين بالذبح لنبي أو غيره ما كانت تقصده عبدة الأوثان من التقرب إليها بالذبح لها ولا يفعل ما كانت تفعله من ذكر اسمها علي الذبيحة والإهلال بها لغير الله وطليها بدمها مع نهي الله تعالي لهم عن ذلك ولو ذكر أحد من المسلمين اسم نبي أو غيره علي الذبيحة لكان ذلك عندهم منكرا وحرمت الذبيحة. فليس الذبح لهم بل عنهم بمعني أنه عمل يهدي ثوابه إليهم كسائر أعمال الخير أو لهم باعتبار ثوابه ولذلك لا ينافيه قولهم ذبحت لفلان أو أريد أن أذبح لفلان أو عندي ذبيحة لفلان، لو فرض وقوعه فالمقصود في الكل كونها له باعتبار الثواب وهذا كما يقال ذبحت للضيف أو للمريض أو لفلان الأمر بالذبح أو نحو ذلك بل لو قصد بالذبح امتثال أمر الآمر به من المخلوقين وطلب رضاه وأتي به علي وجهه من شرائط الذبح الشرعية لم يكن بذلك آثما ولا عابدا للآمر ولا مشركا مع أنه لو وقع مثل ذلك امتثالا لأمره تعالي كما في الأضحية ونحوها لكان عبادة له تعالي كما مر. وكل من

ص: 279

يأمرهم السلطان ابن سعود بالذبح أو النحر من خدمه وعبيده وأتباعه حالهم كذلك مع أنهم هم الموحدون الوحيدون. والحاصل أن المسلمين لا يقصدون من الذبح للنبي أو الولي غير إهداء الثواب أما العارفون منهم فحالهم واضح في أنهم لا يقصدون غير ذلك وأما الجهال فإنما يقصدون ما يقصد عرفاؤهم ولو إجمالا حتي لو فرض وقوع إضافة الذبح إلي النبي أو الولي كما مر فليس المقصود إلا كون ثوابها له لا يشك في ذلك إلا معاند. ولو سألنا عارفا أو عاميا أيا كان: هل مرادك الذبح لصاحب المشهد تقربا إليه كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم أو مرادك إهداء الثواب له؟ لقال معاذ الله أن أقصد غير إهداء الثواب ولو فرضنا أننا شككنا في قصده أو خفي علينا وجه فعله لما جاز لنا أن نحمله إلا علي الوجه الصحيح لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم علي الصحة حتي يعلم الفساد ولم يجز لنا أن ننسبه إلي الشرك ونستبيح دمه وماله وعرضه بمجرد ظننا أن قصده الذبح لها كالذبح للأصنام لما عرفت في المقدمات من وجوب الحمل علي الصحة مهما أمكن (1) أما إهداء ثواب الخيرات والعبادات إلي الأموات فأمر راجح مشروع لم يمنع منه كتاب ولا سنة بل وردت به السنة في صحاح الأخبار وقامت عليه سيرة المسلمين وعملهم في كل عصر وزمان من عهد النبي (ص) والصحابة إلي اليوم وهذا منه ولا أظن الوهابية يخالفون فيه ومن أولي بالهدايا من أنبياء الله وأوليائه روي مسلم في صحيحه في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه بعدة أسانيد عن عائشة أن رجلا أتي النبي " ص " فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم. قال: النووي في الشرح: نفسها نائب فاعل أو مفعول به أي ماتت فجأة. ثم قال وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت

ص: 280


1- 143. قال الشيخ محمد عبده الشهير في كتابه الإسلام والنصرانية ص 55 إن من أصول الأحكام في الدين الإسلامي البعد عن التكفير وإن مما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل علي الإيمان ولا يجوز حمله علي الكفر " انتهي " فما رأي الأستاذ صاحب المنار في الجمع بين هذا الكلام الصادر ممن يسميه الأستاذ " الإمام حكيم الإسلام " وبين أقوال أسياده الوهابية الذين ينشر لهم كتب دعوتهم التي يكفرون بها المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم بقولهم يا رسول الله إشفع لي إقض حاجتي مع أنه لو احتمل الكفر من وجه واحد فهو يحتمل الإيمان من مائة وجه كما تعلمه من تضاعيف هذا الكتاب. - المؤلف -.

تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك بإجماع العلماء (انتهي). وروي أحمد بن حنبل في مسنده عن عائشة أن رجلا قال للنبي " ص " إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت فهل لها أجر إن أتصدق عنها قال نعم. وروي أحمد بن حنبل أيضا عن ابن عباس أن بكرا أخا بني ساعدة توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشئ عنها قال نعم فقال أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها. وعن أحمد وأبي داود والترمذي أن النبي " ص " ذبح بيده وقال اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي. وعن سيف وأبي داود إن عليا كان يضحي عن النبي " ص " بكبش وكان يقول أوصاني إن أضحي عنه دائما. وعن علي أن النبي " ص " أوصاني أن أضحي عنه. وعن بريدة أن امرأة سألت النبي " ص " هل تصوم عن أمها بعد موتها وهل تحج عنها قال نعم. وعن ابن عباس أنه قال تفي البنت نذر أمها. وروي أن العاص بن وائل أوصي بالعتق فسأل ابنه النبي " ص " عن العتق له فأمر به. وعن عائشة أن النبي " ص " قال عند الذبح: اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمته وهذا أمر لا يشك أحد من المسلمين في جوازه وعليه جرت سيرتهم خلفا عن سلف وقد سمعت دعوي النووي إجماع العلماء عليه فهذا حال الذبح والنحر عن الأنبياء والأولياء الذي أعظم الوهابية أمره واستحلوا لأجله الدماء والأموال والأعراض لا يخرج عن مندوبات الشرع ومستحباته ومن ذلك يظهر فساد قول الصنعاني: إن كان النحر لله فلأي شئ قربت ما تنحره من باب المشهد الخ فإن اختيار الذبح في جوار المشهد. (أولا) لطلب زيادة الثواب لتشرف البقعة بمن فيها إن كان نبيا أو وليا فيزداد ثواب العمل بذلك لما ورد من أن الأعمال يتضاعف أجرها لشرف الزمان المكان وإنكار شرف المكان بشرف المكين إنكار للضروري (ثانيا) لما كان المراد إهداء الثواب إليه ناسب كون هذا العمل الذي هو عبادة وصدقة لله في المكان الذي فيه قبره لأن الهدية يؤتي بها عادة للمهدي إليه نظير قراءة القرآن عند قبره وإهداء ثواب القراءة إليه وليس في ذلك منافاة للدين ولا محذور لأن ذلك إن لم يكن راجحا فلا أقل من كونه مباحا (ثالثا) إن مريد الذبح يأتي غالبا للزيارة التي هي راجحة ومشروعة سواء بعدت المسافة أو قربت كما ستعرف في فصل الزيارة فيحضر ما يريد ذبحه وإهداء ثوابه إلي المزور معه وليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة محذور ولا مانع ولا منافاة للحنيفية السهلة السمحاء التي تشدد فيها الوهابيون تشدد الخوارج. وظهر

ص: 281

أيضا فساد قوله إن أردت بذلك تعظيمه فهذا النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالي غيره وإن لم ترد فهل أردت توسيخ باب المشهد الخ فإن مراده لا يخرج عن الوجوه الثلاثة المذكورة مع أنه لو أراد بذلك إظهار تعظيمه بإهداء الثواب إليه وأنه أهل لذلك الذي لا يظهر إلا بالذبح عند مشهده لم يكن فيه محذور ولا منه مانع أليس هو أهلا للتعظيم ومحلا لإهداء الثواب إلا أن يكون كل تعظيم لمخلوق شركا وكفرا كما تقتضيه حجج الوهابية فيعمهم الشرك أتري لو أن السلطان ابن سعود أو أحد عظماء أعراب نجد زاره أمير من الأمراء فأتي بالإبل والغنم ونحر وذبح لضيافة زائره وإكرامه وإظهار تعظيمه وذكر اسم الله علي الذبيحة يكون كافرا ومشركا لأنه ذبح لغير الله وقصد بالذبح تعظيم المذبوح له؟! كلا حتي لو كان هذا الأمير الزائر ظالما لم يكن في الذبح له قصدا لتعظيمه كفر ولا شرك مع أنه ليس أهلا للتعظيم فكيف بمن هو أهل لكل تعظيم حيا وميتا كالأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين. فقوله هذا شرك بلا ريب إفك وافتراء بلا ريب. وظهر أيضا فساده ما موه به ابن عبد الوهاب من قوله هل الصلاة والنحر لله عبادة إذ يقول فصل لربك وانحر الخ الذي حاصله إن النحر لله عبادة لله فالنحر للمخلوق عبادة للمخلوق فإذا نحرت لمخلوق فقد أشركت في هذه العبادة غير الله كما أشرك الذين كانوا يذبحون للأوثان فإن النحر والذبح الذي يفعله المسلمون نحر وذبح لله بالوجه الذي بيناه وتوهم أنه مثل نحر عبدة الأصنام فاسد كما عرفته بما لا مزيد عليه والنحر لله معناه كونه لوجه الله وامتثالا لأمره فيما يكون مأمورا به وباسمه في مطلق النحر. قال في الكشاف: وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للأوثان " انتهي " وما يفعله المسلمون جامع للأمرين فيذكر عليه اسم الله وينحر للصدقة وإهداء الثواب بخلاف ما ينحر للأوثان الذي يذكر اسمها عليه ويقصد به التقرب إليها لا إلي الله. مع أن النحر في الآية ليس متعينا لإرادة نحر الأنعام (ففي الكشاف) أنه نحر البدن وقيل هي صلاة الفجر بجمع والنحر بمني وقيل صلاة العيد والتضحية وقيل جنس الصلاة، والنحر وضع اليمين علي الشمال " انتهي " (وفي مجمع البيان) بعدما ذكر أنها صلاة العيد ونحر الهدي والأضحية عن عطاء وعكرمة وقتادة أو صلاة الفجر بجمع ونحر البدن بمني عن سعيد بن جبير ومجاهد نقل عن الفراء أن معناه صل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك، تقول العرب: منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا أي يستقبله وأنشد:

ص: 282

أبا حكم هل أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر أي ينحر بعضه بعضا قال وأما ما رووه عن علي " ع " أن معناه ضع يدك اليمني علي اليسري حذاء النحر في الصلاة فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه أن معناه ارفع يديك إلي النحر في الصلاة أي حال التكبير ثم أورد الروايات الدالة علي ذلك. الفصل الثامن في النذر لغير الله وهذا مما صرح ابن تيمية قدوة الوهابية بعدم جوازه فإنه سئل في ضمن السؤال المتقدم في الفصل الثاني عمن ينذر للمساجد والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وأمثال ذلك. فأجاب بأنه قال علماؤنا لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت في الصحيح عنه (ص) من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه واختلف العلماء هل علي الناذر كفارة يمين علي قولين (انتهي). وصرح الوهابية بأنه موجب للشرك صرحوا به في كتابهم إلي شيخ ركب الحاج المغربي المتقدم في الباب الثاني حيث جعلوا من جملة أسباب الشرك التقرب إلي الموتي بالنذور باعتبار أنه نوع من العبادة وصرف شئ من العبادة لغير الله كصرف جميعها. وصرح به الصنعاني في تطهير الاعتقاد في كلامه المتقدم في الباب الثاني بقوله بعد ما عد أشياء منها النذر: ومن فعل ذلك لمخلوق فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له إلها الخ. وقوله بعد ما ذكر أن اعتقاد النفع والضر في المخلوق أو الشفاعة شرك فضلا عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي إلي قوله فهذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام والنذور بالمال علي الميت هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية. وقال في الرسالة المذكورة (1) فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمهما وأجاب بأن الأموال عزيزة علي أهلها والناذر ما أخرج من ماله إلا معتقدا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر ولو عرف بطلان ما أراده ما أخرج درهما فالواجب تعريفه بأنه إضاعة لماله ولا ينفعه ما يخرجه ولا يدفع عنه ضررا وقد قال " ص " إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ويجب رده إليه ويحرم قبضه ولأنه تقرير للناذر علي

ص: 283


1- 144. ص 16.

شركه إلي آخر ما ذكره من هذا القبيل. وقال في موضع آخر من تلك الرسالة (1) أنه يجب علي العلماء بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم. والجواب عن هذا كالجواب عن سابقه من النحر والذبح بأن من ينذر لنبي أو ولي أو رجل صالح دراهم أو خلافها لا يقصد إلا نذر الصدقة وإهداء ثوابها إلي النبي أو الولي أو الصالح ولا يقصد التقرب إليه بالنذر بل التقرب إلي الله تعالي وكيف يقصد التقرب إليه وهو يعلم أنه ميت لا يمكنه الانتفاع بالمنذور لا بأكله إن كان طعاما ولا بصرفه إن كان نقودا ولا بلبسه إن كان ثيابا ولا بشئ من الانتفاع مهما كان المنذور مع وجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم علي الصحة مهما أمكن وعدم جواز التهجم علي الدماء والأموال والأعراض بمجرد الظنون والأوهام كما مر في المقدمات فلا يزيد هذا النذر علي من نذر لأبيه أو أمه أو حلف أو عاهد أن يتصدق عنهما كما روي عنه (ص) أنه قال للبنت التي نذرت لأبيها عملا (ف) بنذرك فإن كان النذر للآباء والأمهات كفرا كان هذا كفرا وإلا فلا. واختبار بعض الأمكنة للنذر طلبا لشرف المكان حتي يتضاعف ثواب العبادة كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات لا بأس به بل لا بأس بتخصيص بعض الأمكنة كما يستفاد مما روي عن ثابت بن الضحاك عن النبي " ص " أن رجلا سأله إنه نذر أن يذبح ببوانة فقال هل كان فيها وثن يعبد قال لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم فقال لا فقال ف بنذرك. وفي القاموس بوانه كثمامة هضبة وراء ينبع. وفي النهاية الأثيرية في حديث النذر أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة هي بضم الباء وقيل بفتحها هضبة من وراء ينبع (انتهي) وكأن سؤاله " ص " عن أنه هل كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية خشية أن يكون النذر جاريا علي عادة أهل الجاهلية لقرب العهد بهم وإن كان السائل مسلما فقد قالوا له " ص " اجعل لنا ذات أنواط وهم مسلمون وقال أصحاب موسي له حين مروا علي قوم يعكفون علي الأصنام اجعل لنا إلها كما لهم آلهم أو أنه إذا كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعيادهم يكون النذر مرجوحا فلا ينعقد لأن شرطه الرجحان أو تساوي الطرفين والله أعلم. وقد ظهر بذلك بطلان ما قاله ابن تيمية ناقلا له عن علمائهم من عدم جواز النذر

ص: 284


1- 145. ص 12.

للقبر ولا للمجاورين وعده نذر معصية حتي فرط بعضهم فيما نقله عنه فأوجب علي الناذر كفارة يمين. أما النذر للقبر فلا يفعله أحد بل ولا لصاحب القبر وإنما النذر لله والصدقة به عن صاحب القبر بمعني إهداء ثوابه إليه ولو فرض صدور ما يوهم خلاف ذلك فهو محمول عليه حملا لفعل المسلم علي الصحة كما مر وأما النذر للمجاورين فإن المجاورة عند القبر لا مانع منها شرعا لو لم تكن راجحة طلبا لشرف البقعة التي تشرفت بصاحب القبر وإنكار شرف القبر مصادمة للضرورة ويكفي في رده دفن الصاحبين عند النبي " ص " حتي عد ذلك منقبة عظيمة لهما ومنع بني أمية وبعض أمهات المؤمنين من دفن الحسن عند جده قائلين أيدفن عثمان في أقصي البقيع ويدفن الحسن عند جده وإصرار بني هاشم علي ذلك حتي كاد يؤدي إلي إراقة الدماء كما سنبينه في غير هذا الموضع. والمجاورون عند القبر عباد الله يجوز التصدق عليهم كالتصدق علي غيرهم إن لم يكن أولي ولم يخرجوا بمجاورتهم عن استحقاق الصدقة وليست المجاورة عند القبر عبادة له حتي تكون محرمة لما بيناه مرارا من أنه ليس كل تعظيم واحترام عبادة وقياس ابن تيمية ذلك فيما مر من كلامه في الفصل الثاني علي ما ذكروه من أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما قياس فاسد فإن أولئك صوروا صورهم في المساجد وكانوا يصلون إليها ثم اتخذوها أوثانا وعبدوها فسبب عبادتهم لها تصويرهم تلك الصور وصلاتهم إليها لا احترام قبورهم وليس في المسلمين من يفعل مثل فعلهم ومجرد احتمال أن يؤدي الشئ إلي محرم لا يوجب تحريمه وإلا لم يبق في الدنيا حلال. كما ظهر بذلك بطلان ما هول به اليماني في أمر النذر فجعل أخذه حراما وتقريرا للمشرك علي شركه وقد عرفت بما ذكرنا صحة النذر وأنه لا يزيد عن نذر الصدقة عن الميت الثابت جوازه ورجحانه وأنه لا يحرم أخذه وأنه ليس فيه شئ من الشرك حتي يكون أخذه تقريرا للشرك وأن النفع حاصل به وهو الثواب منه تعالي والضرر يندفع به كما يندفع بالصدقة إذ هو لا يخرج عنها. أما الحديث الذي استشهد به فمع فرض سلامة سنده وإن قال صاحب المنار في الحاشية أنه متفق عليه من حديث ابن عمر يجب طرحه لمخالفته العقل والنقل فمن نذر أن يتصدق بمال أو ينفقه في سبيل الله أو نحو ذلك فقد أتي

ص: 285

له نذره بخير الدنيا والآخرة ودفع عنه الله به ضرر الدنيا والآخرة فلا يمكن أن يحكم " ص " بأنه لا يأتي بخير. الفصل التاسع في بناء القبور والبناء عليها وتجصيصها وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها وهذا مما حرمه الوهابية وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها بل جعلوا ذلك شركا وكفرا. وصرح الصنعاني في تطهير الاعتقاد بأن المشهد بمنزلة الوثن والصنم في كلامه المتقدم في الباب الثاني بقوله: إن ما كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثنا وصنما هو الذي يفعله القبوريون لما يسمونه وليا قبرا ومشهدا وذلك لا يخرجه عن اسم الوثن والصنم الخ. وصرح بذلك الوهابيون في كتابهم إلي شيخ الركب المغربي المتقدم هناك بقولهم: إن ما حدث من تعظيم قبور الأنبياء وغيرهم ببناء القباب عليها وغير ذلك من حوادث الأمور التي أخبر عنها النبي " ص " بقوله لا تقوم الساعة حتي يلحق الحي من أمتي بالمشركين وحتي يعبد فئام من أمتي الأوثان. وزعم الوهابيون أن البناء علي القبور بدعة حدثت بعد عصر التابعين. وقال قاضي قضاتهم عبد الله بن سليمان بن بليهد في مقالته التي نشرتها جريدة أم القري في عدد جمادي الثانية سنة 1345 لم نسمع في خير القرون إن هذه البدعة حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة (انتهي). واتبع الوهابية في ذلك قدوتهم وباذر بذور مذهبهم أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية التي عنه أخذ وبه اقتدي. قال: ابن القيم علي ما حكي عنه في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد (1) ما حاصله: أنه يجب هدم المشاهد التي بنيت علي القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة علي هدمها وإبطالها يوما واحدا فإنها بمنزلة اللات والعزي أو أعظم شركا عندها وبها يجب علي الإمام صرف الأموال التي تصير إلي هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين كما أخذ النبي " ص " أموال اللات وكذا يجب عليه هدم هذه المشاهد وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها

ص: 286


1- 146. ص 661.

علي مصالح المسلمين وكذا حكم أوقافها فإن الوقف عليها باطل وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين (انتهي). ولذلك هدم الوهابيون ما استطاعوا هدمه من مشهد الحسين (ع) وقبره الشريف أيام استيلائهم علي كربلاء وهدموا قبة أئمة البقيع من أهل البيت الطاهر عند استيلائهم علي المدينة المنورة في المرة الأولي وفي هذه المرة وهدموا قبورهم الشريفة وسووها بالأرض وشوهوا محاسنها وتركوها معرضا لوطأ الأقدام ودوس الكلاب والدواب وكذلك قبر سيد الشهداء حمزة بأحد وقبته والمسجد الذي عنده وقبور سائر الصحابة والتابعين وغيرهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجميع الحجاز كما فصلناه في المقدمة الأولي في تاريخ الوهابية لكنهم في المرة الثانية لما عزموا علي هدمها أرادوا أن يظهروا مبررا وعذرا لعملهم في هدم قباب أئمة المسلمين وقبورهم وإنكار فضلها وفضل أهلها وإهانة من أوجب الله تعظيمه واحترامه حيا وميتا بإهانة قبره من نبي أو ولي أو صديق أو شهيد عملا بشبهتهم الواهية من أن تعظيمها عبادة لها وأنها صارت كالأصنام تعبد من دون الله تعالي وأنه تعالي نهي عن البناء علي القبور فأرسلوا قاضي قضاتهم المسمي الشيخ عبد الله بن بليهد إلي المدينة المنورة في شهر رمضان سنة 1344 وبعد دخوله المدينة وجه إلي علمائها هذا السؤال: السؤال الموجه إلي علماء المدينة في هدم القبور ما قول علماء المدينة زادهم الله فهما وعلما في البناء علي القبور واتخاذها مساجد هل هو جائز أم لا وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهيا شديدا فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله والتقرب بالذبح والنذر لها وإيقاد السرج عليها هل هو جائز أم لا وما يفعل عند حجرة النبي " ص " من التوجه إليها عند الدعاء وغيره والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها وكذلك ما يفعل في المسجد من التحريم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة هل هو مشروع أم لا أفتونا مأجورين وبينوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين. وهذا هو نص الجواب المنسوب لعلماء المدينة أما البناء علي القبور فهو ممنوع إجماعا لصحة الأحاديث الواردة في منعه ولهذا أفتي

ص: 287

كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين علي ذلك بحديث علي أنه قال لأبي الهياج ألا أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله " ص " أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته رواه مسلم وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع لحديث ابن عباس لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن (1) وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعا لا يجوز فعله أصلا وأما التوجه إلي حجرة النبي " ص " عند الدعاء فالأولي منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ولأن أفضل الجهات جهة القبلة وأما الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقا وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث هذا ما وصل إليه علمنا " انتهي ". ولسنا نعتقد ولا نظن أن جميع علماء المدينة المنورة موافقون علي هذا الجواب وما فيه من الحجج الواهية كما ستعرف وإنما هو من الوهابية وإليهم وألفاظه ألفاظهم متوافقة مع عبارات رسائلهم التي نقلنا جملة منها وجل علماء المدينة ساكتون خائفون من نسبة الاشراك إليهم الذي به تستحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم فإن وافق موافق منهم فخوفا من السوط والبندق. ونحن نتكلم علي بطلان هذه الفتوي ودليلها. فنقول: يرجع استدلالهم علي ذلك إلي أمور " الأول " الاجماع المشار إليه بقولهم: البناء علي القبور ممنوع إجماعا " والجواب " بطلان دعوي الاجماع بل هو جائز إجماعا لاستمرار عمل المسلمين عليه من جميع المذاهب في كل عصر وزمان عالمهم وجاهلهم مفضولهم وفاضلهم أميرهم ومأمورهم رجالهم ونسائهم سنيهم وشيعيهم قبل ظهور الوهابية توافقوا عليه في جميع الأجيال والأعصار والأمصار والنواحي والأقطار بدون منع ولا إنكار والسيرة إجماع عملي يشملها ما دل علي حجية الاجماع لكشفها كشفا قطعيا لا يعتريه شك عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع ومتبوع المسلمين كما مر في المقدمات فلا يتطرق إليها بعض الشبهات الموردة علي الاجماع وليس في الإسلام أمر حصلت فيه السيرة حصولها في هذا الأمر واتفق عليه جميع المسلمين

ص: 288


1- 147. هذه العبارة في رسائل الوهابية وهذا مما يدل علي أن الجواب من الوهابية وإليهم - المؤلف -.

من كل فرقة ولا يضر بهذه السيرة ما قد يوجد في بعض الكتب مما ينقله الوهابيون من القول بالمنع استنادا إلي بعض الروايات الشاذة التي لا عامل بها أو لا دلالة فيها أو لم تثبت صحتها غفلة منهم عن هذه السيرة المستمرة التي سبقتهم ولحقتهم فأقوالهم مردودة بها كما يرد القول المسبوق بالإجماع والملحوق به ولعلنا نشير إليها فيما سيأتي إن شاء الله تعالي وقد اعترف بهذه السيرة الصنعاني في رسالته تطهير الاعتقاد (1) حيث أورد علي نفسه سؤالا بأن هذا أمر عم البلاد وطبق الأرض شرقا وغربا بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد بل مساجد المسلمين غالبها لا تخلو عن قبر أو مشهد. ولا يسع عقل عاقل إن هذا منكر يبلغ إلي ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا. وأجاب بأنك إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلا بعد جيل فاعلم أن هذه الأمور صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير بل تري من يتسم بالعلم ويدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة معظما لما يعظمونه مكرما ما يكرمونه ولا يخفي أن سكوت العالم أو العالم علي وقوع منكر ليس دليلا علي جوازه. قال: ولنضرب لك مثلا المكوس المعلوم من ضرورة الدين تحريمها قد ملأت الأرض حتي في أشرف البقاع أم القري تقبض المكوس من القاصدين لأداء فريضة الإسلام وسكانها من العلماء والحكام ساكتون. قال وهذا حرم الله أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة بدعة قرت بها عين إبليس وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين وقد سكت الناس عليها ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها أفهذا السكوت دليل علي جوازها هذا لا يقوله من له إلمام بشئ من المعارف كذلك سكوتهم علي هذه الأشياء الصادرة من القبوريين. إلي أن قال ما حاصله: لو فرض أنهم علموا بالمنكر وسكتوا لما دل سكوتهم علي جوازه لأن مراتب الانكار ثلاثة إذا تعذرت واحدة وجبت الأخري. الانكار باليد

ص: 289


1- 148. ص 17 - 19 طبع المنار بمصر.

ثم باللسان ثم بالقلب فإذا مر عالم بمن يأخذ المكوس لم يستطع الانكار باليد ولا باللسان فيجب علي من رآه ساكتا أن يعتقد أنه أنكر بقلبه فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين والتأويل لهم ما أمكن واجب فالداخلون إلي الحرم الشريف والمشاهدون لمقامات المذاهب الأربعة معذورون عن الانكار إلا بالقلب كالمارين علي المكاسين والقبوريين فهذه الأمور أسسها من بيده السيف ودماء العباد وأموالهم وأعراضهم تحت لسانه وقلمه فكيف يقوي أحد علي دفعه (انتهي). وفيه اعتراف بوقوع السيرة علي أكمل وجوهها وأتمها بحيث لم يقع في الإسلام سيرة مثلها بما اختصرناه من عباراته فضلا عما أطال به من باقي عباراته المسجعة كعادته وعادة أصحابه الوهابية وقد اعترف في جوابه بوقوع ذلك من جميع طبقات الناس من العوام والعلماء والفضلاء والقضاة والمفتين والمدرسين والأولياء والعارفين والأمراء والحكام بدون نكير ولم يخرج عنه باعترافه طبقة من الطبقات فأي سيرة أقوي من هذه وأشمل. أما جوابه بأن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفقت عليه الأجيال ففيه أن اتفاق الأمة جيلا بعد جيل دليل قطعي لا دليل أقوي منه حتي يعارضه. وقوله: إن سكوت العالم أو العالم علي منكر ليس دليلا علي جوازه فيه أن ذلك إذا علم أنه منكر والبناء علي القبور محل النزاع فأنتم تدعونه منكرا ونحن نقول إنه معروف ونستدل بسيرة المسلمين الكاشفة بوجه القطع عن أخذه من صاحب الشرع فإذا سكت العلماء والعالم عن أمر مع قدرتهم علي الانكار علمنا أنه ليس منكرا. أما المثل الذي ضربه من أخذ المكوس حتي في مكة المكرمة وسكوت العلماء. ففيه أنه قياس مع الفارق. (أولا) إن الآخذين للمكوس هم الحكام وذوو الشوكة وحدهم والبانون للقبور وللقباب عليها والمعظمون لها المتبركون بها هم جميع طبقات الناس فبطل القياس. (ثانيا) إن المكوس أمور دولية تعارض فيها الحكام الذين تخاف سطوتهم لمنافاة تركها لمصلحتهم وإخلاله بأمور دولتهم بخلاف بناء القبور وتعظيمها فإنها أمور دينية صرفة مرجعها العلماء وأهل الدين فسكوت العلماء عن الأول لا يدل علي الرضا بخلاف الثاني. (ثالثا) إن العلماء وجميع المتدينين غير ساكتين عن الاجهار بتحريم المكوس وذم قابضها وتفسيقه والتجنب عنها وعدها من السحت يجيبون بذلك كل من يسألهم ويثبتونه في كتبهم ويتحدثون به في مجتمعاتهم وها هو يصرح بتحريمه في رسالته هذه ويندد بفاعليه ويذمهم أشد الذم مع

ص: 290

وجوده في زمانهم وعدم قدرته علي منعه وها هي رسالته تطبع وتنشر في الآفاق ولا يخاف طابعها وناشرها من الحكام الآخذين المكوس أفيقال بعد هذا إنهم ساكتون نعم هم ممسكون عن المنع لعدم قدرتهم، كما أمسك الإخوان الوهابيون المجددون ما انمحي من آثار الإسلام والرافعون البدع والمحرمات بالسيف والسنان، عن منع حكومتهم من أخذ المكوس المحرمة عندهم في جدة وغيرها حتي عن التتن والتنباك المحرم تدخينه عندهم والمعاقب مدخنه وأخذت في العام الماضي من كل قاصد لحج بيت الله الحرام ليرة عثمانية ذهبا وفي هذا العام أزيد من ذلك عدا عما شاركت به أصحاب الجمال والسيارات والبيوت والباعة وغير ذلك. والإخوان ساكتون لعدم قدرتهم علي المنع لكنهم يصرحون بالتحريم وإن كانوا قادرين فقد تركوا أعظم واجب في الدين. أما تمثيله بالمقامات الأربعة ففساده أظهر من مسألة المكوس فإن المكوس مما قام علي تحريمها إجماع المسلمين بل ضرورة الدين وأنكرها جميع العلماء وأهل الدين إن لم يكن باليد فباللسان مع أنها أمور دولية يخاف منكرها كما عرفت وليس كذلك المقامات الأربعة فلم يسمع عن أحد إنكارها قبل الوهابية مع كونها دينية صرفة ولم يقم دليل علي كونها بدعة محرمة كما قام علي تحريم المكوس فإن جعل مقامات أربعة لأئمة أربعة يقلدهم أربعة أخماس المسلمين ويرون أقوالهم وفتاواهم حجة وجلهم إلا من شذ يمنع الاجتهاد بعدهم ليس فيه شئ من البدعة فهو كاصطلاح أهل بلد علي أن يصلي بهم أربعة أشخاص أحدهم يوم كذا أو في مكان كذا أو صلاة كذا والآخر في خلاف ذلك مع كون الكل صالحين للإمامة وجعلهم لكل واحد محرابا أو مسجدا فإنه ليس منكرا ولا بدعة ولا إدخالا في الدين ما ليس منه لدخوله في عموم جواز الصلاة في أي مسجد كان وأي محل كان وعموم جواز الصلاة خلف أي إمام كان بعد اعتقادهم وتصريحهم بأن ذلك ليس بأمر واجب وإن لكل ذي مذهب أن يصلي خلف من شاء منهم وكل ما دخل في عموم أو إطلاق خرج عن البدعة وليس كل ما لم يكن في زمن النبي " ص " من الهيئات وبعض الكيفيات ولا كل ما لم يرد به بخصوص نص بدعة بعد دخوله في عمومات أدلة الشرع وإطلاقاتها كما مر في المقدمات. وجعل المحاريب للأئمة الأربعة لا يزيد علي جعل المذاهب أربعة وكتب المذاهب أربعة والمنتمين إليها أربعة والمفتين من أهل المذاهب أربعة فإن كان ذلك بدعة فليكن هذا بدعة لأن كلا من ذلك لم يكن علي عهد رسول الله

ص: 291

" ص " وإن كان جعل أربعة مقامات لأهل المذاهب كل إمام منهم يصلي في واحد منها بدعة فما رسمه الوهابية بعد استيلائهم علي الحجاز في المرة الأولي وهذه المرة بأن يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء من شاء - بدعة لأن ذلك لم يكن علي عهد رسول الله " ص " وإن كان المانع منه تكرار صلاة الجماعة في المسجد فأي مانع من تكرارها ولم ترد فيه آية ولا رواية مع أن تكرار الخير خير وإن كانت حجتهم في منع التكرار أنه لم يكن علي عهد النبي " ص " والخلفاء فمع وجوده " ص " من الذي يأتم بغيره ومع وجود خليفة المسلمين لا ينبغي الائتمام بغيره فلا يقاس بذلك هذا الزمان. فظهر بطلان قوله أن الداخلين إلي الحرم كالمارين علي المكاسين والقبوريين لوضوح الفرق بين المكس وغيره كما ذكرناه مع أن قياسه البناء علي القبور بالمقامات الأربعة أيضا باطل لأن البناء علي القبور اتفق علي فعله قبل الوهابية جميع طوائف المسلمين بدون استثناء وأما المقامات الأربعة فاختص بفعلها جل طوائف المسلمين لا كلها. قوله: فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين والتأويل لهم ما أمكن واجب. إذا كان يعترف بوجوب حسن الظن بالمسلمين والتأويل لهم مهما أمكن فما باله يسئ الظن بهم في استشفاعهم أو استغاثتهم بالأنبياء والصالحين وغيرها ويكفرهم ويشركهم بذلك ويجعل شركهم شركا أصليا ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم مع أن التأويل لهم ممكن هين واضح حتي في مثل ارزقني وعاف مريضي بإرادة طلب الشفاعة وسؤال الدعاء كما فصلناه فيما مضي. (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). ثم إنهم في هذه الفتوي المنسوبة لعلماء المدينة عللوا الاجماع بصحة الأحاديث وهو تعليل عليل لأن صحة الحديث في نظرهم ودلالته عندهم وخلوه من المعارض لا توجب ذلك في نظر غيرهم فكيف يدعي الاجماع لدعوي صحة الحديث مع أنك ستعرف عدم صحته وعدم دلالته فإن أرادوا أن الاجماع واقع وعلة وقوعه صحة الأحاديث فالعلماء أجمعوا لما رأوا صحة الأحاديث فهو تخرص وتهجم علي الغيب بغير دليل وكيف يدعي إجماع العلماء وقد توالت الأحقاب والأجيال علي بناء القبور من جميع المسلمين علي تفاوت طبقاتهم ونحلهم ومذاهبهم بدون منكر ومعارض إلا من شذ ممن سبقته السيرة ولحقته كما عرفت آنفا فلو كان ذلك مجمعا عليه لما وقعت السيرة التي هي أقوي من الاجماع

ص: 292

علي خلافه. قولهم: ولهذا أفتي كثير من العلماء بوجوب هدمه. إذا كان مجمعا علي تحريمه فلماذا أفتي كثير من العلماء بوجوب هدمه ولم لم يفتوا كلهم بوجوب هدمه ما هذا التناقض والتهافت في هذه الفتوي الواهية (الثاني) من أدلتهم حديث أبي الهياج المتكرر ذكره في كلمات الوهابية والمتقدم ذكره في الفتوي المنسوبة لعلماء المدينة. والجواب عنه: القدح فيه سندا ومتنا. أما سنده ففيه وكيع وهو مع كثرة ما مدحوه به قال في حقه أحمد ابن حنبل أنه أخطأ في خمسمائة حديث حكاه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (1) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه وقال في آخر ترجمته (2) قال محمد بن نصر المروزي كان يحدث بآخره من حفظه فيغير ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعني ولم يكن من أهل اللسان (انتهي). وفي سنده سفيان الثوري وهو مع كثرة ما مدحوه به أيضا نقل في حقه ابن حجر في تهذيب التهذيب (3) عن ابن المبارك قال حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه فلما رآني استحيي وقال نرويه عنك وذكر في ترجمة يحيي القطان (4) قال أبو بكر سمعت يحيي يقول جهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفا فما أمكنه قال مرة حدثنا أبو سهل عن الشعبي فقلت له أبو سهل محمد بن سالم فقال يا يحيي ما رأيت مثلك لا يذهب عليك شئ. وفي سنده حبيب بن أبي ثابت وهو مع توثيقهم له قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (5) قال ابن حبان كان مدلسا وقال العقيلي غمزه ابن عون وقال القطان له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. إلي أن قال: وقال ابن خزيمة في صحيحه كان مدلسا وقال ابن جعفر النحاس كان يقول إذا حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقا (6) قال ونقل العقيلي عن القطان قال حديثه عن عطاء ليس بمحفوظ قال العقيلي وله عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وفي سنده أبو وائل وهو الأسدي شقيق بن سلمي الكوفي بدليل رواية حبيب بن أبي ثابت عنه فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب أنه ممن يروي عنه وليس هو القاص عبد الله بن بحير. وكان ابن وائل

ص: 293


1- 149. الجزء 11 صفحة 125.
2- 150. ج 11 صفحة 130.
3- 151. ج 4 صفحة 115.
4- 152. ج 11 صفحة 218 طبع الهند.
5- 153. ج 3 صفحة 179.
6- 154. هذا هو التدليس وهو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينه وبينه واسطة فلا يذكر الواسطة - المؤلف -.

هذا منحرفا عن علي (ع) مبغضا له وقد قال رسول الله " ص " لعلي (ع) لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) ومنهم. أي المنحرفين عن علي (ع) أبو وائل شقيق بن سلمي كان عثمانيا يقع في علي (ع) ويقال إنه كان يري رأي الخوارج ولم يختلف في أنه خرج معهم وأنه عاد إلي علي (ع) منيبا مقلعا روي خلف بن خليفة قال أبو وائل خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي فما زال يكلمنا حتي رجع منا الفان وروي صاحب كتاب الغارات عن عثمان بن أبي شيبة عن الفضل ابن دكين عن سفيان الثوري قال سمعت أبا وائل يقول شهدت صفين وبئس الصفين كانت قال وروي أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال كان أبو وائل عثمانيا (انتهي) ويؤيد انحرافه عن علي (ع) ما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب (2) أنه قال عاصم ابن بهدلة قيل لأبي وائل أيهما أحب إليك علي أو عثمان قال كان علي أحب إلي ثم صار عثمان (انتهي). هذا شأن سند الحديث. وأما متنه ففيه (أولا) أنه شاذ انفرد به أبو الهياج بل قال السيوطي في شرح سنن النسائي (3) أنه ليس لأبي الهياج في الكتب إلا هذا الحديث الواحد (انتهي). (ثانيا) أنه لا دلالة فيه علي شئ مما زعموه من عدم جواز البناء علي القبور بل هو وارد في الأمر بالتسطيح والنهي عن التسنيم فإن المشرف وإن كان معناه العالي إلا أن التسنيم نوع من العلو أو معني من معانيه. ففي القاموس الشرف محركة العلو ومن البعير سنامه (انتهي) فالمشرف يشمل بإطلاقه أو بوضعه العالي بالتسنيم وبغيره إلا أن قوله ألا سويته قرينة علي إرادة التسنيم من الأشراف لأن التسوية التعديل. ففي المصباح المنير: استوي المكان اعتدل وسويته عدلته. وفي القاموس سواه جعله سويا (انتهي) فقوله إلا سويته يعين أن المراد من الأشراف ما يقابل التسوية وليس هو إلا التسنيم فإن مطلق العلو لا يقابل التسوية لجواز أن يكون عاليا مستويا فلا يناسب مقابلة العالي بالمستوي بل اللازم أن يقول إلا جعلته لاطئا أو نحو ذلك وإرادة الهدم من التسوية غير صحيحه ولا يساعد عليها عرف ولا لغة لأن التسوية ليس معناه الهدم ولا تستعمل فيه إلا بأن يقال سويته بالأرض أو نحو ذلك مع أن التسوية

ص: 294


1- 155. ج 1 صفحة 370 طبع مصر.
2- 156. ج 4 صفحة 362.
3- 157. صفحة 286 ج ل.

بالأرض ليست من السنة بالاتفاق للاتفاق علي استحباب رفع القبر عن الأرض في الجملة وعلي كل حال فلا دلالة فيه علي عدم جواز البناء علي القبور ولا ربط له بذلك فيجعل علو القبر نحو شبر ويجعل عليه حجرة أو قبة. والحاصل أنه سواء جعلنا معني قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته ولا قبرا مسنما إلا سطحته وأزلت سنامه كما هو الظاهر. أو ولا قبرا عاليا إلا وطيته، لا ربط لذلك بالبناء علي القبور. وما ذكرناه في معني الحديث هو الذي فهمه منه العلماء وأئمة الحديث. وروي مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز (1) بسنده عن ثمامة قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله " ص " يأمر بتسويتها ثم روي حديث أبي الهياج ومن الواضح أن قوله فأمر فضالة بقبره فسوي أي سطح ولم يجعله مسنما وكذا قوله سمعت رسول الله " ص " يأمر بتسويتها أي تسطيحها وليس المراد أنه أمر به فهدم لأنه لم يكن مبنيا ولا المراد أنه أمر به فسوي مع الأرض لأن ذلك خلاف السنة للاتفاق علي استحباب تعليتها عن الأرض في الجملة كما عرفت فتعين أن يراد به التسطيح فكذا خبر أبي الهياج الذي عقب به مسلم وساقه مع هذا الحديث في مساق واحد وذلك دليل علي أنه حمل قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته علي معني ولا قبرا مسنما إلا سطحته. وقال النووي: في الشرح قوله يأمر بتسويتها وفي الرواية الأخري ولا قبرا مشرفا إلا سويته فيه أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه (انتهي) فحمل التسوية علي التسطيح وعدم رفع القبر كثيرا كما تري. ومن العجيب أن بعض الوهابيين في رسالته المسماة بالفواكه العذاب إحدي رسائل الهدية السنية الحاوية لمناظرة مؤلفها النجدي مع علماء الحرم الشريف بزعمه في عهد الشريف غالب سنة 1211 استدل علي عدم جواز البناء علي القبور بحديثي فضالة وأبي الهياج المذكورين مع أنهما كما عرفت واردان في التسطيح ولا مساس لهما بعدم جواز البناء حتي لو سلمنا أن حديث أبي الهياج يدل علي عدم الرفع كثيرا كما فهمه النووي في كلامه السابق فلا دلالة له علي عدم جواز البناء علي القبور فلو جعل علو القبر نحو شبر وبني عليه حجرة

ص: 295


1- 158. ج 4 صفحة 312 بهامش إرشاد الساري.

لم يكن ذلك منافيا للحديث المذكور كما عرفت ولكن هؤلاء يسردون الأحاديث ويجعلونها دالة علي مرادهم بالسيف ومن أبي كفر وأشرك " معزا ولو طارت " وقال القسطلاني: في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (1) : روي أبو داود بإسناد الصحيح أن القاسم ابن محمد بن أبي بكر قال دخلت علي عائشة فقلت لها اكشفي لي عن قبر النبي " ص " وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء أي لا مرتفعة ولا لاصقة بالأرض كما بينه في آخر الحديث (انتهي). ثم قال القسطلاني: ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ولا يخالف ذلك قول علي رضي الله عنه أمرني رسول الله " ص " أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته لأنه لم يرد تسويته بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأخبار نقله في المجموع عن الأصحاب (انتهي). وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور ولم يقل في هدم القبور ثم أورد حديث أبي الهياج وظاهر أنه لم يحمل التسوية فيه إلا علي التسطيح لأن ذلك هو معناها لغة وعرفا ولا ربط له بعدم جواز البناء عليها مع أن الوهابيين في الرسالة الآنفة الذكر (2) أو ردوا هذا الذي ذكره الترمذي دليلا علي عدم جواز البناء. (الثالث) من أدلتهم ما أشار إليه ابن بليهد في سؤاله الموجه لعلماء المدينة من قوله وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع الخ. وفيه أن تسبيلها أي وقفها في سبيل الله مقبرة للمسلمين دعوي بلا دليل إذ لم ينقل ناقل أن أحدا وقفها لذلك فهي باقية علي الإباحة الأصلية ولو فرض وقفها مقبرة فليس علي وجه التقييد بعد جواز الانتفاع بها إلا بقدر الدفن وعدم جواز البناء زيادة علي ذلك حتي علي قبر عظيم عند الله يصون البناء قبره عما لا يليق وينتفع به الزائرون لقبره ويستظلون به من الحر والقر عند زيارته وقراءة القرآن والصلاة والدعاء لله تعالي عند قبره الثابت رجحانه كما ستعرف ذلك كلا في محله ولا أقل من الشك في كيفية الوقف لو فرض محالا حصوله فيحمل بناء المسلمين فيه علي الصحيح لوجوب حمل أفعالهم وأقوالهم علي الصحة مهما أمكن وكذا لو فرض محالا إننا علمنا أنها كانت مملوكة فلا مناص لنا عن حمل البناء فيها علي الوجه الصحيح الذي هو

ص: 296


1- 159. ج 2 صفحة 468.
2- 160. صفحة 84.

ممكن لا يعارضه شئ وحينئذ فيكون هدمها ظلما محرما وتصرفا في مال الغير بغير رضاه وقد وقفها البانون وجعلوها مسبلة لانتفاع المسلمين الزائرين واستظلالهم بها وعمل البر فيها من الدعاء والصلاة وغيرها فهدمها ظلم للبانين والمسلمين ومنع لهم عن حقهم فما أوردوه دليل لهم هو دليل عليهم علي أن كتب التواريخ والآثار دالة علي أن أرض البقيع كانت مباحة أو مملوكة لا مسبلة. ففي وفاء الوفا للسمهودي (1) روي ابن زبالة عن قدامة ابن موسي أن أول من دفن رسول " ص " بالبقيع عثمان بن مظعون. قال: وروي أبو غسان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه لما توفي إبراهيم ابن رسول الله " ص " أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون فرغب الناس في البقيع وقطعوا الشجر فاختارت كل قبيلة ناحية فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها. قال: وروي ابن أبي شبة عن قدامة بن موسي كان البقيع غرقدا (2) فلما هلك عثمان بن مظعون دفن بالبقيع وقطع الغرقد عنه " انتهي " فهذا نص علي أن البقيع كان مواتا مملوءا بشجر الغرقد فاتخذه المسلمون مدافن لموتاهم ورغبوا فيه حين دفن النبي " ص " ولده إبراهيم فيه فأما أن تكون كل قبيلة ملكت قسما منه بالحيازة أو بقي علي أصل الإباحة فأين التسبيل والوقف فيه أيضا (3) قال ابن شبة فيما نقله عن أبي غسان قال عبد العزيز دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد ابن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل " انتهي " فدل علي أن قبر العباس وقبور أئمة أهل البيت كانت في دار عقيل فأين التسبيل والوقف وأي شئ سوغ التخريب والهدم وما قيمة هذه الفتوي المزيفة المبنية علي هذا السؤال. وفيه أيضا (4) روي ابن زبالة عن سعيد بن محمد بن جبير أنه رأي قبر إبراهيم عند الزوراء قال عبد العزيز بن محمد وهي الدار التي صارت لمحمد بن زيد بن علي " انتهي " وذلك يدل علي أن هذه الدار كانت مملوكة. وفيه أيضا (5) عن ابن شبة عن عبد العزيز أن سعد بن معاذ دفنه رسول الله " ص " في طرف الزقاق الذي بلزق دار المقداد بن الأسود وهو المقداد بن عمرو وإنما تبناه الأسود ابن عبد يغوث الزهري وهي الدار التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصي البقيع عليها جنبذة " انتهي ". وفي القاموس: الجنبذة وقد تفتح الباء أو هو لحن كالقبة " انتهي " وهذا

ص: 297


1- 161. ج 2 صفحة 84.
2- 162. شجر مخصوص ولذلك قيل بقيع الغرقد - المؤلف -.
3- 163. صفحة 96 ج 2.
4- 164. صفحة 85 ج 2.
5- 165. صفحة 100 ج 2.

صريح في أنها كانت دارا مملوكة وكان عليها قبة وسيأتي في فصل الكتابة علي القبور أن عقيلا لما حفر في داره بئرا وجد حجرا مكتوبا فيه هذا قبر أم حبيبة بنت صخر ابن حرب وفي رواية أخري أنه وجده في دار علي بن أبي طالب فدل علي أن محل قبرها كان مملوكا وكل هذه الأخبار مع دلالتها علي الملك تدل علي جواز البناء حول القبور والدفن في محل البناء وإن سيرة المسلمين علي ذلك. (الرابع) من أدلتهم الأحاديث الناهية عن البناء علي القبور. روي مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهي رسول الله " ص " أن يجصص القبر وأن يبني عليه (1) وروي الترمذي عن عبد الرحمن ابن الأسود عن محمد بن ربيعة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهي رسول الله " ص " أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبني عليها وأن توطأ. وروي أبو داود من حديث جابر أن رسول الله " ص " نهي أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه. وروي أيضا عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي " ص " نهي أن يقعد علي القبر وأن يجصص وأن يبني عليها. وروي ابن ماجة عن زهير ابن مروان عن عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر نهي رسول الله " ص " عن تجصيص القبور. وروي أيضا عن محمد بن يحيي عن محمد بن عبد الله الرقاشي عن وهب عن عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد أن النبي " ص " نهي أن يبني علي القبور. وروي النسائي عن هارون بن إسحاق عن حفص عن ابن جريح عن سليمان ابن موسي وأبي الزبير عن جابر نهي رسول الله " ص " أن يبني علي القبر أو يزاد عليه أو يجصص زاد سليمان بن موسي أو يكتب عليه. وروي أيضا عن يوسف بن سعيد عن حجاج عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهي رسول الله " ص " عن تقصيص القبور (2) أو يبني عليها أو يجلس عليها أحد. ويحكي عن عمر أنه رأي قبة علي قبر ميت فقال نحوها عنه وخلوا بينه وبين عمله يظله أو دعوه يظله عمله.

ص: 298


1- 166. زاد بعض الوهابية في رسالة الفواكه العذاب (وأن يكتب عليه) راجع صفحة 83 من الهدية السنية طبع المنار بمصر وليست هذه الزيادة في الرواية راجع صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري جزء 4 ص 314.
2- 167. تقصيصها تشييدها بالقصة وهي الجص - المؤلف -.

والجواب " أولا " أنها ضعيفة السند. فحفص بن غياث وإن وثقوه لكنهم قدحوا في حفظه وقالوا إنه مدلس. ففي تهذيب التهذيب لابن حجر قال يعقوب ثقة ثبت إذا حدث من كتابة ويتقي بعض حفظه. وقال أبو زرعة ساء حفظه بعدما استقضي وقال داود ابن رشيد: حفص كثير الغلط وقال ابن عمار كان لا يحفظ حسنا وذكر الأشرم عن أحمد ابن حنبل أن حفصا كان يدلس وقال ابن سعد كان ثقة مأمونا كثير الحديث يدلس وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود كان حفص بآخره دخله نسيان " انتهي " وكيف يكون ثقة مأمونا من يدلس. وابن جريح وإن مدحوه فقد قدحوا في روايته وحفظه وقالوا إنه مدلس قال ابن حجر في تهذيب التهذيب في حقه، قال أبو بكر بن خلاد عن يحيي ابن سعيد كنا نسمي كتب ابن جريح كتب الأمانة وإن لم يحدثك بها ابن جريح من كتابه لم ينتفع به وقال الأثرم عن أحمد إذا قال ابن جريح قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به وقال المخراقي عن مالك كان ابن جريح حاطب ليل وقال عثمان الدارمي عن إسماعيل بن داود عن ابن معين ليس بشئ في الزهري وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيي بن سعيد كان ابن جريح صدوقا فإذا قال حدثني فهو سماع وإذا قال أخبرني فهو قراءة وإذا قال قال فهو شبه الريح وقال الدارقطني تجنب تدليس ابن جريح فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح (1) مثل إبراهيم ابن يحيي وموسي بن عبيدة وغيرهما وقال ابن حبان كان يدلس " انتهي ". وأبو الزبير قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد قال أبي كان أيوب يقول حدثنا أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير قلت لأبي يضعفه قال نعم وقال نعيم بن حماد سمعت ابن عيينة يقول حدثنا أبو الزبير وهو أبو الزبير أي كأنه يضعفه وقال هشام بن عمار عن سويد ابن عبد العزيز قال لي شعبة تأخذ عن أبي الزبير وهو لا يحسن أن يصلي وقال نعيم بن حماد سمعت هشيما يقول سمعت من أبي الزبير فأخذ شعبة كتابي فمزقه وقال محمود بن غيلان عن أبي داود قال شعبة ما كان أحد أحب إلي أن ألقاه بمكة من أبي الزبير حتي لقيته ثم سكت وروي أحمد بن سعيد الرباطي عن أبي داود الطيالسي قال: قال شعبة لم يكن في الدنيا أحب إلي من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزبير فقدمت مكة فسمعت منه فبينا أنا

ص: 299


1- 168. فيترك ذكر المجروح فيخيل لآخذ الحديث إنه صحيح وهو ضعيف - المؤلف -.

جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فرد عليه فافتري عليه فقلت له يا أبا الزبير تفتري علي رجل مسلم قال إنه أغضبني قلت ومن يغضبك تفتري عليه، لا رويت عنك شيئا وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء قلت لشعبة مالك تركت حديث أبي الزبير قال رأيته يزن ويسترجح في الميزان وقال يوسف بن عبد الأعلي سمعت الشافعي يقول أبو الزبير يحتاج إلي دعامة وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن أبي الزبير فقال يكتب حديثه ولا يحتج به قال وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال روي عنه الناس قلت يحتج بحديثه قال إنما يحتج بحديث الثقات وقال ابن عيينة كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه. وعبد الرحمن بن الأسود ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب ولم يوثقه، ومحمد بن ربيعة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال الساجي فيه لين وتبعه الأزدي ونقل عن عثمان بن أبي شيبة قال جاءنا محمد بن ربيعة فطلب إلينا أن نكتب عنه فقلنا نحن لا ندخل في حديثنا الكذابين " انتهي ". وعبد الرزاق في حديث أبي داود المراد به الصنعاني بقرينة روايته عن ابن جريح وهو مع مبالغتهم في مدحه وتوثيقه رموه بالتشيع والكذب حكاه في تهذيب التهذيب. وحديث ابن ماجة الأول رواته قبل أبي الزبير مجاهيل وأبو الزبير قد علمت حاله. والثاني في سنده وهب وهو مجهول. وعبد الرحمن بن زيد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب: قال أبو طالب عن أحمد ضعيف وقال أبو حاتم عن أحمد إنه ضجع (1) في عبد الرحمن وقال الميموني عن أحمد إنه ضعف أمر عبد الرحمن قليلا وقال روي حديثا منكرا وقال الدوري عن ابن معين ليس حديثه بشئ وقال البخاري وأبو حاتم ضعفه علي ابن المديني جدا وقال أبو داود زيد بن أسلم كلهم ضعيف وقال أيضا أنا لا أحدث عن عبد الرحمن وقال النسائي ضعيف وقال ابن عبد الحكيم سمعت الشافعي يقول ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا فقال اذهب إلي عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح وقال خالد بن خداش قال لي الداوردي ومعن وعامة أهل المدينة لا ترد عبد الرحمن إنه كان لا يدري ما يقول وقال أبو زرعة ضعيف وقال أبو حاتم ليس بقوي في الحديث وقال ابن حبان كان يقلب الأخبار فاستحق الترك وقال ابن سعد كان ضعيفا جدا وقال ابن خزيمة

ص: 300


1- 169. في الصحاح التضجيع في الأمر التقصير فيه - المؤلف -.

ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه وقال الساجي عن الربيع عن الشافعي قيل لعبد الرحمن بن زيد حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله (ص) قال إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين قال نعم قال الساجي وهو منكر الحديث وقال الصحاوي حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف وقال الجوزجاني أولاد زيد ضعفاء وقال الحاكم وأبو نعيم روي عن أبيه أحاديث موضوعة وقال ابن الجوزي اجمعوا علي ضعفه " انتهي " (وحديثا) النسائي مع مشاركتهما في ضعف السند الذي فصلناه لباقي الأحاديث المشتركة معهما في رجال السند في سند الثاني منهما حجاج وهو حجاج بن محمد الأعور بقرينة روايته عن ابن جريح ففي تهذيب التهذيب أنه يروي عنه وهو وإن وثقه بعضهم لكن ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب أنه خلط في آخر عمره وذكر ما يدل علي أنه حدث في حال اختلاطه قال وذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء بسبب الاختلاط. (ثانيا) إنها مضطربة المتن مع اشتراك روايات مسلم والنسائي والترمذي في ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر ورواية أبي داود معها في جابر القاضي بأنها رواية واحدة (ووجه الاضطراب) إن في بعضها الاقتصار علي التجصيص وفي بعضها زيادة البناء عليه وفي آخر التجصيص والكتابة والوطأ وفي ثالث التجصيص والكتابة والزيادة عليه وفي آخر البناء عليه بدل الكتابة وفي بعضها البناء والزيادة والتجصيص والكتابة وفي بعضها القعود والتجصيص والبناء وفي بعضها الاقتصار علي الكتابة كما يأتي في الفصل العاشر وفي بعضها التقصيص والبناء والجلوس ثم إنه تارة عبر بالجلوس عليها وتارة بالقعود وتارة بأن توطأ والقعود عليها لا يخلو من إجمال (قال السندي) في حاشية سنن النسائي قيل أراد القعود لقضاء الحاجة أو للإحداد والحزن بأن يلازمه ولا يرجع عنه أو أراد احترام الميت وتهويل الأمر في القعود عليه تهاونا بالميت والموت أقوال (وروي) أنه رأي متكئا علي قبر فقال لا تؤذ صاحب القبر قال الطيبي هو نهي عن الجلوس عليه لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه وحمله مالك علي الحدث لما روي أن عليا كان يقعد عليه " انتهي " (وكذلك الزيادة عليه لا تخلو من إجمال لعدم ظهور المراد بالزيادة قال السندي في حاشية سنن النسائي (أو يزاد عليه) بأن يزاد علي التراب الذي خرج منه أو بأن يزاد طولا وعرضا عن قدر جسد الميت ألميت " انتهي " (والعجب) أن صاحب رسالة الفواكه العذاب

ص: 301

قال: ونهي " ص " أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون التابوت والجوخ ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص " انتهي " ولم يعلم أن النهي عن زيادة التراب لا يدل علي النهي عن وضع التابوت والجوخ وعمل القبة عند من يفهم معاني الألفاظ سيما عند من يبالغ في الاقتصار علي مدلول الألفاظ كالوهابية في بعض حالاتهم مع أن النهي عن زيادة التراب هو للكراهة كما ستعرف ولا يعلم سره ولا حكمته ولا يشمل ذلك وضع التابوت والجوخ وبناء القبة لا لغة ولا عرفا فإن الزيادة علي الشئ تكون من جنسه وسنخه فلو قال المولي لعبده لا تزد علي هذا السمن أو الزيت أو اللبن فلا يفهم منه أنك لا تضع فوقه صندوقا أو ماعونا أو ثوبا أو لا تبن فوقه بيتا أو لا تنصب خيمة لأن ذلك لا يعد زيادة عليه لغة ولا عرفا فعمل الصندوق ووضع الجوخ وعقد القبة كلها من احترام القبر الذي ثبت أن له حرمة وشرفا بمن حل فيه فهو راجح لا محذور فيه. (ثالثا) إن النهي أعم من الكراهة والتحريم وهب أنه ظاهر في التحريم لكن كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة مضافا إلي فهم العلماء منه الكراهة هنا يضعف هذا الظهور (قال النووي) في شرح صحيح مسلم في هذا الحديث كراهة تجصيص القبر والبناء عليه وتحريم القعود هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء " إلي أن قال " قال أصحابنا تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه وأما البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشافعي في الأم رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما بني ويؤيد الهدم قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته " انتهي " (والحق): الكراهة في الكل كما هو مذهب أئمة أهل البيت وفقهائهم لعدم ظهور النهي في مثل هذه المقامات في التحريم مع كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة. (هذا) إذا لم يترتب علي بناء القبر منفعة ولم يكن تعظيمه من تعظيم شعائر الدين لكونه قبر نبي أو ولي أو نحو ذلك لما ستعرف من توافق المسلمين من عهد الصحابة إلي اليوم علي تعمير قبور الأنبياء والأولياء ومنها قبر النبي (ص) وحجرته التي دفن فيها وكراهة البناء والتجصيص مذهب الشافعي كما عرفت إلا أن يكون البناء في مقبرة مسبلة مع أن بعضهم قال إن الحكمة في النهي عن التجصيص كون الجص أحرق بالنار وحينئذ فلا بأس بالتطيين كما نص عليه الشافعي " انتهي " نقله السندي في حاشية سنن النسائي وذلك يناسب الكراهة لكن الشافعي حرم القعود مع أنه مسوق مع البناء

ص: 302

والتجصيص في هذه الأخبار بسياق واحد فالأولي فيه الكراهة ويدل عليها ما مر من الرواية عن علي أنه كان يقعد علي القبر وكذلك حمل الشافعي عدم زيادة التراب وعدم رفع القبر كثيرا علي الاستحباب قال السيوطي في شرح سنن النسائي: قال الشافعي والأصحاب يستحب أن لا يزاد القبر علي التراب الذي أخرج منه لهذا الحديث (يعني حديث أو يزاد عليه لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا " انتهي " (أما) ما حكاه عن الأئمة أنه رآهم بمكة يأمرون بهدم ما يبني فلعله لزعمهم أنها مسبلة وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أنه لا دليل علي الوقف والتسبيل وأنه يجب حمل البانين علي الصحة حتي يعلم الفساد ولم يعلم وحينئذ فيكون الهدم محرما لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه أما ما أيد به النووي من قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته فلا تأييد فيه لما عرفت من أن المراد به النهي عن التسنيم وعدم جواز إرادة الهدم من التسوية ومن ذلك يظهر أن استشهاد بعض الوهابيين في رسالة الفواكه العذاب بقول النووي قال الشافعي في الأم الخ شاهد عليه لا له فإن الشافعي يقول بكراهة البناء إذا كان في ملكه والوهابيون يحرمونه مطلقا وقد استشهد صاحب الرسالة أيضا بكلام الأذرعي وابن كج الذي لا يرجع إلي دليل غير مجرد التهويل بقوله إنه مضاهاة للجبارة والكفار وأي فائدة في قال فلان وقال فلان (ومما) مر ويأتي يظهر الجواب عن المحكي عن عمر من أمره بتنحية القبة " أي الخيمة " عن القبر وقوله دعوه يظله عمله فإنه بعد تسليم ثبوته وحجيته محمول علي الكراهة أو صورة عدم النفع فيكون تضييعا للمال كما يرشد إليه قوله دعوه يظله عمله أي لا نفع له في ذلك وإنما ينفعه عمله ويعارضه ما مر في الباب الثاني. ويأتي في فصل اتخاذ المساجد من رواية البخاري أنه لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة علي قبره سنة. (رابعا) إن هذه الأحاديث مع الغض عن ضعف أسانيدها ودلالتها واضطراب متنها منصرفة إلي غير ما يكون تعميره وتشييده والبناء فوقه من تعظيم شعائر الله وحرماته لكون صاحبه نبيا أو وليا أو صالحا ولكونها بنيت لمصالح في الدين مهمة. منها أن تكون علامة ومنارا للقبر الذي ندب الشرع إلي زيارته كما يأتي في فصل الزيارة وحفظا له عن الاندراس. وقد علم رسول الله " ص " قبر عثمان بن مظعون بصخرة وضعها عليه (روي)

ص: 303

ابن ماجة (1) بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله " ص " أعلم قبر عثمن بن مظعون بصخرة (قال السندي) في الحاشية أي وضع عليه الصخرة ليتبين بها وفي الزوائد هذا إسناد حسن وله شاهد من حديث المطلب بن أبي وداعة رواه أبو داود (انتهي) وفي وفاء الوفا (2) روي أبو داود بإسناد حسن عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن بعض الصحابة لما مات عثمن بن مظعون ودفن أمر النبي " ص " رجلا أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه رسول الله (ص) وحسر عن ذراعيه (قال الراوي) كأني أنظر إلي بياض ذراعي رسول الله (ص) حين حسر عنهما ثم حمله فوضعه عند رأسه وقال أتعلم به قبر أخي وادفن إليه من مات من أهلي (قال) ورواه ابن شبة وابن ماجة وابن عدي عن أنس والحاكم عن أبي رافع وروي قبل ذلك عن محمد بن قدامة عن أبيه عن جده لما دفن النبي (ص) عثمان أمر بحجر فوضع عند رأسه (الحديث) ثم حكي عن عبد العزيز بن عمران أنه قال سمعت بعض الناس يقول كان عند رأس عثمن بن مظعون ورجليه حجران. وهو يرشد إلي جواز فعل كل ما يكون علامة ومنارا للقبر " قال " وعن شيخ من بني مخزوم يدعي عمر قال كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين فلحد له رسول الله (ص) وفضل حجرا من حجارة لحده فحمله رسول الله (ص) فوضعه عند رجليه فلما ولي مروان بن الحكم المدينة مر علي ذلك الحجر فأمر به فرمي به وقال والله لا يكون علي قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به فأتته بنو أمية فقالوا بئسما صنعت: عمدت إلي حجر وضعه النبي فرميت به بئسما عملت فمر به فليرد فقال أما والله إذ رميت به فلا يرد ثم قال (3) وروي ابن زبالة عن ابن شهاب وغيره أن رسول الله (ص) جعل أسفل مهراس (4) علامة علي قبر عثمان بن مظعون ليدفن الناس حوله (إلي أن قال) فلما استعمل معاوية مروان بن الحكم علي المدينة حمل المهراس فجعله علي قبر عثمان (انتهي) (وكفي) بهذا الفعل دليلا علي ما كان عليه مروان من الاستهانة بالدين وكأن الوهابية في هدمهم قبور الأئمة والصحابة الصالحين أرادوا الاقتداء به. (ويأتي) في فصل الزيارة رواية أن فاطمة بنت رسول (ص) كانت تزور قبر حمزه

ص: 304


1- 170. صفحة 243 ج ل.
2- 171. صفحة 85 ج 2.
3- 172. صفحة 100 ج 2.
4- 173. في القاموس المهراس حجر منقور يتوضأ منه - المؤلف -.

ترمه وتصلحه وقد تعلمته بحجر وذلك يدل علي استحباب مرمة القبر وحفظه من الاندراس وعمل ما يكون علامة ودليلا عليه فإذا ثبت استحباب ذلك فكلما كان أبلغ في حفظه وعدم اندراسه كبناء القبة عليه كان أولي بالاستحباب فإن هذا بمنزلة العلة المنصوصة ومنه يعلم أن القبور يمتاز بعضها عن بعض بامتياز أصحابها في الدين وعدم بناء القباب ونحوها في ذلك العصر للعسر الحاصل للمسلمين واحتياجهم إلي صرف الأموال إن وجدت فيما هو أهم، من الجهاد وإعاشة المسلمين فلا يقاس به العصر المتأخر عن ذلك الذي اتسعت فيه أحوال المسلمين " وكما " كان النبي " ص " وأصحابه يقنعون من العيش بالبلغة وبيوتهم لاطئة مبنية باللبن وسعف النخل ومسجده المعظم عريش كعريش موسي وخطبته في الجمعة والعيد أولا إلي جذع ثم عمل له منبر ولم يكن المنبر يمتاز كثيرا عن الجذع بغير الهيئة فلما قويت شوكة الإسلام واتسعت حال المسلمين واستولوا علي كنوز كسري وقيصر تغيرت حالهم في اللباس والمأكل والمشرب والمسكن ووسعوا المسجدين النبوي والمكي وأجادوا بناءهما وبناء الحجرة الشريفة وسائر المساجد، ولم يكونوا بشئ من ذلك عاصين ولا مبدعين كذلك بنوا علي قبور عظماء الدين تعظيما لشأنهم كما فهموه من أحكام دينهم تصريحا وتلويحا. ولو سلمت الكراهة في سائر القبور لا تسلم في قبور الأنبياء وعظماء الشهداء كحمزة سيد الشهداء " ومنها " أن تكون حفظا للقبر الذي ثبتت حرمته في الشرع عن دخول الدواب والكلاب ووقوع القاذورات عليه " والقبور " الشريفة اليوم في البقيع وغيره بعدما ارتكبه الوهابيون من الأعمال الوحشية في حقها، معرض لهذا كله. (ومنها) استظلال الزائرين بها من الحر والقر عند إرادة الزيارة والصلاة بجانبها التي ثبت رجحانها بشرف المكان والدعاء عندها وقراءة القرآن الذي ثبت أنه أرجي للإجابة وأوفر في الثواب ببركتها وبركة من حل فيها والتدريس فيها وإلقاء المواعظ وغير ذلك من الفوائد فهي بهذا الاعتبار داخلة في المواضع المعدة للطاعات كالمساجد والمدارس والرباطات " ومنها " أن في بنائها وتشييدها تعظيما لشعائر الإسلام. " خامسا " إنها مع الغض عما ذكر مهجورة متروكة لم يعمل بها أحد من المسلمين قبل الوهابية ومن ضارعهم من عهد الصحابة إلي يومنا هذا وما هذا حاله من الأحاديث لا يعمل به

ص: 305

ولا يعول عليه ولو فرض صحة سنده باعتراف الوهابية فضلا عن غيرهم ففي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية المنسوبة لعبد العزيز بن محمد بن سعود (1) إن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به فإنهم قالوا إن الحديث الصحيح الذي يعمل به إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة " انتهي " وأي شذوذ عن قواعد الشرع أعظم من مخالفة عمل المسلمين من الصدر الأول إلي اليوم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وسائر المسلمين وأي علة أكبر من ذلك ومن عمل بها أو ببعضها لم يحملها إلا علي الكراهة أو خصها بما لا يكون تعميره من إقامة شعائر الدين كقبور الأنبياء والأولياء الصالحين. " أما عدم العمل بها " فمن وجوه " أحدها " إن الكتابة المشتمل عليها بعضها لم يعمل بها أحد كما ستعرف في فصلها " ثانيا " إن قبور الأنبياء التي حول بيت المقدس كقبر داود عليه السلام في القدس وقبور إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسي من مصر إلي بيت المقدس عليهم السلام في بلد الخليل كلها مبنية مشيدة قد بني عليها بالحجارة العادية ا لعظيمة من قبل الإسلام وبقي ذلك بعد الفتح الإسلامي إلي اليوم " فعن " ابن تيمية في كتابه الصراط المستقيم إن البناء الذي علي قبر إبراهيم الخليل عليه السلام كان موجودا في زمن الفتوح وزمن الصحابة إلا أنه قال كان باب ذلك البناء مسدودا إلي سنة الأربعمائة " انتهي " ولا شك أن عمر لما فتح بيت المقدس رأي ذلك البناء ومع ذلك لم يهدمه وسواء صح قول ابن تيمية إنه كان مسدودا إلي الأربعمائة أو لم يصح لا يضرنا لأنه يدل علي عدم حرمة البناء علي القبور وقد مضت علي هذا البناء الأعصار والدهور وتوالت عليه القرون ودول الإسلام ولم يسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدين وغيرهم قبل الوهابية إنه أنكر ذلك أو أمر بهدمه أو حرمه أو فاه في ذلك ببنت شفة علي كثرة ما يرد من الزوار والمترددين من جميع أقطار المعمور. وبذلك يظهر بطلان زعم الوهابية أن البناء علي القبور حدث بعد عصر التابعين وقول ابن بليهد إنه حدث بعد القرون الخمسة ويكذبه أيضا مضافا إلي ما يأتي في بناء الحجرة الشريفة النبوية ما سيأتي في فصل اتخاذ المساجد علي القبور من وجود المسجد علي قبر حمزه في المائة الثانية وما مر في هذا الفصل عند رد دليلهم الثالث من أن قبر العباس وأئمة أهل البيت كانت في دار

ص: 306


1- 174. ص 31 طبع المنار بمصر.

عقيل مع عدم الفرق بين البناء الحادث والمستمر وإن قبر إبراهيم ابن رسول الله " ص " كان في دار محمد بن زيد بن علي وإن قبر سعد بن معاذ في دار ابن أفلح وإن عليه جنبذة أي قبة في زمن عبد العزيز ابن محمد الذي هو من أهل المائة الثانية بتصريح السمهودي كما يأتي في فصل اتخاذ المساجد علي القبور (ثالثها) إنها قد بنيت الأبنية علي القبور في عهد الصحابة ومن بعدهم قبل المائة الخامسة وأولها قبر النبي (ص) فإنه قد دفن في حجرة مبنية ودفن فيها صاحباه. ويظهر من السيرة النبوية لأحمد بن زيني دحلان إن ذلك كان بشبه وصية منه " ص " حيث قال: (1) واختلفوا في موضع دفنه " ص " فقال أبو بكر " رض " سمعت رسول الله " ص " يقول ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه فقال علي وأنا أيضا سمعته رواه الترمذي وابن ماجة وفي رواية الموطأ ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه " انتهي " ولو كان البناء علي القبور محرما وواجب الهدم لهدمها الصحابة قبل دفنه " ص " فيها أو دفنوه " ص " في مكان لا بناء فيه إذ لا يتصور فرق بين البناء السابق واللاحق ولم يقل أحد بالفرق. ولو كانت بمنزلة الأصنام كما يزعم الوهابيون لم يكن فرق بين البناء السابق واللاحق مع أنهم قد بنوها لاحقا بني عليها عمر بن الخطاب حائطا وهو أول من بناها وبنت عائشة حائطا بينها وبين القبور وكانت تسكنها وتصلي فيها قبل الحائط وبعده وبذلك يبطل قولهم بعدم جواز الصلاة عند القبور وبناها عبد الله بن الزبير ثم سقط حائطها فبناه عمر بن عبد العزيز ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بني علي البيت حظارا وفي رواية أنه هدم البيت الأول ثم بناه وبني حظارا محيطا به وتولي ذلك عمر ابن عبد العزيز وأزر الحجرة بالرخام ثم أعيد تأزيرها في زمن المتوكل الخليفة العباسي ثم جدد في زمن المقتفي ثم عمل في زمنه للحجرة مشبك من خشب الصندل والأبنوس علي رأس جدار عمر بن عبد العزيز ثم لما سقط حائط الحجرة في دولة المستضئ أعيد بناؤه ثم لما احترق الحرم الشريف سنة 654 شرعوا في تجديد الحجرة الشريفة في دولة المستعصم آخر ملوك بني العباس وأكمل تعميرها من آلات وصلت من مصر في عهد الملك المنصور ايبك الصالحي وأخشاب من صاحب اليمن الملك المظفر ثم أكمل تعميرها في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي صاحب مصر فعملت أول قبة علي الحجرة الشريفة وهي القبة

ص: 307


1- 175. ص 400 ج 3 بهامش السيرة الحلبية طبع عام 1330 بمصر.

الزرقاء بناها أحمد بن عبد القوي ناظر قوص سنة 678 ثم جددت في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ثم في أيام الملك الأشرف سنة 765 ثم جددت في دولة الظاهر جقمق سنة 853 ثم جدد بناء الحجرة الشريفة سنة 881 في دولة الملك الأشرف قاتباي صاحب مصر وعمل عليها قبة سفلية تحت القبة الزرقاء ثم لما احترق الحرم الشريف ثانيا سنة 886 أعيد بناء الحجرة الشريفة وعمل عليها قبة عظيمة بدل القبة الزرقاء والتي تحتها وذلك في دولة الملك الأشرف قاتباي ثم جدد بناؤها سنة 891 في دولة الملك الأشرف ولم يزل ملوك بني العباس يجددون ما انهدم منها وكذلك ملوك بني عثمان وقد جددت في عهد السلطان عبد المجيد منهم كما سيأتي تفصيل ذلك كله. " ومما بني في عهد الصحابة " وبعده قبل المائة الخامسة ما ذكره السمهودي في وفاء الوفا كما سيأتي في فصل الكتابة علي القبور إن عقيلا لما حفر بئرا في داره وجد حجرا مكتوبا عليه هذا قبر أم حبيبة فدفن البئر وبني عليه بيتا وإن ابن السائب قال دخلت البيت فرأيت القبر " وبني " الرشيد قبة علي قبر أمير المؤمنين " ع " كما عن عمدة الطالب وغيره وكان الرشيد في المائة الثانية ثم تتابع البانون في بنائها إلي اليوم وفيها يقول الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور المتوفي سنة 391 في مطلع قصيدة: يا صاحب القبة البيضا علي النجف من زار قبرك واستشفي لديك شفي وعن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن الكاظم عليه السلام دفن في مقابر الشونيزية خارج القبة وقبره هناك مشهور يزار وعليه مشهد عظيم فيه القناديل وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد " انتهي " فيدل علي وجود قبة عند دفن الكاظم عليه السلام وهو سنة 183 وعلي وجود مشهد في عصر الخطيب المولود سنة 392 ولا بد أن يكون حدوثه قبل عصره " وذكر " المؤرخون وعلماء الأثر وجل من كتب في التراجم أن الأئمة زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام دفنوا في قبة الحسن عليه السلام والعباس رضوان الله عليه بالبقيع وكانت وفاة زين العابدين " ع " سنة 59 ووفاة الباقر عليه السلام في أوائل المائة الثانية في العشر الثاني منها ووفاة الصادق " ع " سنة 148 كما ذكروا بناء القباب والمشاهد علي جملة من القبور قبل المائة الخامسة " مثل " أن الإمام علي بن موسي الرضا دفن في القبة التي دفن فيها هارون الرشيد بطوس في دار حميد بن قحطبة

ص: 308

الطائي ويظهر أن الذي بني تلك القبة علي الرشيد هو ولده المأمون وكان كما عن السيوطي أمارا بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء " انتهي " وكان عصره حافلا بالعلماء وأئمة الدين منهم الإمام علي بن موسي الرضا إمام أهل البيت ووارث علوم جده وآبائه الذي كان يصدر المأمون عن رأيه وعمل له الرسالة الذهبية ومسائله له مشهورة في مشكلات علوم الدين ولما رآه يتوضأ والغلام يصب علي يديه الماء قال له يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربك أحدا فصرف الغلام. فلو كان البناء علي القبور محرما لنهاه عن بناء القبة علي قبر الرشيد مع أنه لم ينهه بل أوصي أن يدفن في تلك القبة ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد من أئمة المذاهب الأربعة وسفيان بن عيينة وغيرهم ولم ينقل أن أحدا أنكر عليه مع أنهم أنكروا عليه القول بخلق القرآن وصبروا علي الحبس والضرب ولم يوافقوه عليه " ومثل " أن نهشل بن حميد الطوسي بني قبة علي قبر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور المتوفي سنة 230 بالموصل " وأنها " بنيت قبة علي قبر بوران بنت الحسن بن سهل المتوفاة سنة 271 وإن معز الدولة البويهي المتوفي سنة 393 دفن أولا في داره ثم نقل إلي مشهد بني له في مقابر قريش إلي غير ذلك مما يقف عليه المتتبع ويطول الكلام باستقصائه وكل ذلك يكذب ما زعمه الوهابية من أن البناء علي القبور حدث بعد المائة الخامسة ويبين أنهم يرسلون الكلام علي عواهنه ويكيلون الدعاوي جزافا ويدل علي مبلغهم من العلم وجهلهم بالتاريخ. وعن تاريخ الخلفاء للسيوطي أن المتوكل في سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور وأن يعمل مزارع ومنع الناس من زيارته وخرب وبقي صحراء وكان المتوكل معروفا بالنصب فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه علي الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء فمما قيل في ذلك: تالله إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبره مهدوما أسفوا علي أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما وعن المسعودي أن المتوكل أمر في سنة 236 المعروف بالديزج بالمسير إلي قبر الحسين بن علي وهدمه وإزالة أثره وأن يعاقب من وجده به فبذل الرغائب لمن يقدم علي

ص: 309

ذلك فكل خشي عقوبة الله فأحجم فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين فحينئذ أقدم الفعلة علي العمل ولم يزل الأمر علي ذلك حتي استخلف المنتصر " انتهي " (وهذا) صريح في أن قبر الحسين " ع " كان مبنيا بناء عاليا مشيدا لقوله فهدم أعالي القبر وأن هدم قبور عظماء الدين كان معلوما عند المسلمين قبحه ومغروسا ذلك في نفوسهم فلذلك لم يقدم الناس علي هدم قبر الحسين " ع " مع بذل الرغائب ولذلك قبح جميع المسلمين فعل المتوكل وكتبوا هجاءه علي الحيطان وعد فعله هذا من قبائحه الشنيعة وذمه بذلك كل من كتب في التاريخ فالوهابية اقتدوا في أعمالهم بالمتوكل المعروف بالنصب الذي ساء جميع المسلمين بعمله هذا كما ساؤا هم جميع المسلمين بعملهم ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر فسلط عليه الأتراك فقتلوه برأي ولده المنتصر شر قتلة. ومن ذلك كله يعلم أن البناء علي القبور لاحقا وسابقا غير محرم وأنه راجح إذا كان علي قبر نبي أو ولي أو عالم أو عابد أو غيرهم ممن يكون تعظيمه من تعظيم شعائر الله تعالي وهذا الوجه مما يهدم كل أساس بني عليه الوهابية شبهاتهم ولا يرتاب فيه إلا مكابر معاند فإنك إذا أحطت علما بما سردناه عليك من تاريخ بناء الحجرة الشريفة النبوية من مبدأ أمرها إلي يومنا هذا وما بني علي قبور الصحابة والأئمة والأولياء والصلحاء والشعراء والأمراء وبعض النساء وغيرهم علمت أن المسلمين عموما من الصدر الأول إلي اليوم من جميع النحل والمذاهب الإسلامية متفقون علي جواز البناء علي القبور وعقد القباب عليها عدي الوهابية فإنهم مخالفون لما عليه الأمة الإسلامية جمعاء ولمذهب السلف الذين يتغنون دائما بأنهم متبعون له حيث علمت أن الصحابة جميعا ومنهم الخلفاء الأربعة اتفقوا علي دفنه " ص " في بيته وحجرته التي كان يسكنها مع زوجته عائشة وهي مبنية مسقفة ولو كان البناء علي القبور غير جائز لما خفي علي الصحابة عموما ولو حرم ابتداء لحرم استدامة ثم دفن أبو بكر وعمر مع النبي " ص " في تلك الحجرة وعد ذلك أعظم منقبة لهما ثم بنت عائشة حائطا في تلك الحجرة بينها وبين القبر الشريف وقد رويتم أنه " ص " قال خذوا ثلثي دينكم عن عائشة ثم جدد بناء الحجرة الشريفة عمر بن الخطاب وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز صالح بني أمية وعادلهم وزاهدهم ومعيد رونق الخلافة بعدما صارت ملكا عضوضا ورافع السب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وراد

ص: 310

فدك إلي أولاد فاطمة تورعا ثم تتابع ملوك الإسلام وأمراؤهم في بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر وخلفا عن سلف متقربين بذلك إلي الله راجين ثوابه مفتخرين به أمام رعاياهم وكان في أعصارهم وفي المدينة المنورة من العلماء والصلحاء وأهل الفضل والدين ما لا يحصي عددهم ولم يسمع من أحد أنه لامهم علي هذا الفعل أو خطأهم فيه أو منعهم منه من العلماء الذين كانت لهم الكلمة النافذة عند الملوك والأمراء وليس ترك ذلك شيئا مخلا بسلطنتهم وسياستهم للملك حتي يخافهم العلماء فيه بل هو أمر ديني محض لا يخالفهم فيه ملك ولا أمير ولا يخرج قصد الملوك والأمراء في ذلك عن أحد أمرين طلب الثواب منه تعالي والفخر عند الناس وكل ذلك لا يتم لهم مع نهي العلماء عنه وتحريمه فإذا لم يكن هذا الأمر الذي اتفق عليه الصحابة من صدر الإسلام والتابعون وتابعو التابعين وعلماء المسلمين وعامتهم وملوكهم وصعاليكهم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل قطعيا ولا إجماعيا ففي أي حكم في الشريعة يمكن دعوي القطع والإجماع وإذا لم يكن السلف قدوة في مثل هذا ففي أي شئ يقتدي بهم ويقول المرء عن نفسه أنه سلفي علي عادة الوهابيين. " رابعها " إن حرمة قبور الأنبياء والصلحاء بل كل مسلم وفضلها وشرفها وبركتها ملحق بالضروريات عند الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين لا يرتاب في ذلك أحد كما سيأتي في الفصل الثالث عشر وإذا كان لها حرمة ومنزلة وشرف وبركة عند الله تعالي وجب أو رجح فعل كل ما يوجب احترامها وتعظيمها من زيارتها والبناء عليها وحفظها عن دوس الإقدام وروث الدواب والكلاب وغير ذلك لأن ذلك من تعظيم شعائر الله وحرماته وحرم كل ما يوجب إهانتها واحتقارها وامتهانها من هدمها وهدم حجرها وقبابها وجعلها معرضا لوطأ الأقدام وروث الدواب والكلاب ووقوع القاذورات فإن ذلك كله لا شك أنه إهانة لها ولأهلها فإذا ثبت ذلك وجب طرح كل حديث ناه عن البناء علي القبور أو آمر بهدمها لو فرض وجوده أو تخصيصه بغير قبور الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء لأن ذلك إهانة لهم وقد دل العقل والنقل علي حرمة إهانتهم ووجوب تعظيمهم أحياء وأمواتا. " لا يقال " إنما يكون تعظيم تلك القبور راجحا لو لم يكن كفرا وشركا بكونه عبادة لها كعبادة الأصنام " لأنا نقول " بعد ما ثبت أن لها شرفا وحرمة عند الله تعالي بما

ص: 311

بيناه لا يكون تعظيمها عبادة لها ولا كفرا ولا شركا بل تعظيمها تعظيم لله تعالي وعبادة له كتعظيم الكعبة والحرم والحجر الأسود والمساجد والمقام وكل شئ أمر الله بتعظيمه من المخلوقات وقياس ذلك بعبادة الأصنام التي لم يجعل الله لها حرمة بوجه من الوجوه قياس فاسد كما أوضحناه مرارا. " لا يقال " إنما يكون بناؤها والبناء عليها تعظيما لها لو لم يرد النهي الموجب لكونه محرما ولا تعظيم بمحرم وإنما يكون هدمها وهدم ما بني عليها إهانة لو لم يرد الأمر به الموجب لكونه طاعة وهو عين الاحترام لها ولأصحابها بتنفيذ ما أمر الله به فيها " لأنا نقول " كون بنائها والبناء عليها في نفسه احتراما لها ولأصحابها وهدمها وهدم ما بني عليها في نفسه إهانة لها ولأصحابها عرفا مع قطع النظر عن ورود النهي والأمر مما لا يشك فيه أحد وبعدما ثبت بالدليل القطعي السابق وجوب احترامها وحرمة إهانتها لا يمكن أن يكون النهي عن البناء والأمر بالهدم شاملا لها بل هو إما مطروح أو خاص بغيرها أو مصروفا إليه لأن الظن لا يعارض اليقين. " خامسها " إن وجوب مودة أهل البيت عليهم السلام واحترامهم وحرمة إهانتهم أحياء وأمواتا مما نطق به الكتاب العزيز في قوله تعالي " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي " وفسرت الآية مع ظهورها في نفسها السنة النبوية بأن المراد بالقربي هم أهل البيت الطاهر النبوي مما لا يسع المقام ذكره فلا ينافي ذلك تمحلات ابن تيمية وتأويلاته علي عادته في الاجتهاد في محو كل فضيلة ومنقبة لأهل البيت الطاهر إما بإنكار الحديث ولو استفاض واشتهر أو تواتر أو بتأويله أو بدفعه بالاستبعادات (1) ونطقت بها

ص: 312


1- 176. كما دفع حديث " إن قتل علي لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين " تارة بتضعيف سنده وإنه موضوع وتارة بأنه كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ومنهم الأنبياء وأخري بأن عمرو بن عبد ود لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة. ورده صاحب السيرة الحلبية بأن قلته كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين وبأن عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتي أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما جعل له علامة يعرف بها ليري مكانه " انتهي " وأي عمل من الأعمال يعادل ضربته لعمرو بن عبد ود يوم الخندق حين عبر الخندق معلما يطلب البراز فجبن عنه الناس كلهم إلا علي وأي خذلان كان يقع علي الإسلام لو لم يقتل علي عمرا فبتلك الضربة أعز الإسلام وقويت شوكته واشتد ساعده وابن تيمية يوهن أمرها ويصغره " إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره " - المؤلف -.

السنة الطاهرة كما في حديث الثقلين وغيره مما ليس هذا محل ذكره ومن مودتهم واحترامهم احترام قبورهم وحفظها بالبناء عليها عن أن تداس بالأقدام أو تكون معرضا لدخول الدواب والكلاب إليها وتوسيخها وتنجيسها ووقوع القاذورات عليها وعدم إهانتهم بهدم قبورهم وقبابهم المشيدة فإن هدم قبر النبي أو الولي يعد في العرف إهانة له وأي إهانة. واحترام المؤمن فضلا عن النبي واجب حيا وميتا ومن احترامه ميتا النهي عن الجلوس علي قبره والاتكاء عليه والاستناد إليه ووطئه بالأقدام كما مر في هذا الفصل وفي وفاء الوفا (1) روي ابن زبالة ويحيي من طريقه من غير واحد منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا كانت عائشة تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله (ص). قالوا وما عمل علي مصراعي داره إلا بالمناصع (2) توقيا لذلك. (وقال) قبل ذلك أن عمر قال إن مسجدنا هذا لا ترتفع فيه الأصوات وقال أبو بكر لا ينبغي رفع الصوت علي نبي حيا ولا ميتا (انتهي) ولا يخفي تبدل العناوين بحسب الزمان والمكان والأشخاص فتتبدل لذلك الأحكام. (فالأخبار) المتوهم دلالتها علي خلاف ذلك مهجورة متروكة عند جميع المسلمين أو مصروفة إلي غير قبورهم الشريفة وقبابهم المنيفة والأسئلة التي أوردناها علي الوجه الرابع يمكن أن تورد هنا والجواب الجواب. بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة النبوية من ابتداء أمرها إلي اليوم أما ما وعدنا به من شرح وتفصيل بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة النبوية من ابتداء أمرها إلي يومنا هذا فنقول: كانت الحجرة الشريفة التي دفن فيها رسول الله (ص) هي البيت الذي كانت تسكنه عائشة أم المؤمنين قال السمهودي في وفاء الوفا (3) كان من لبن وجريد النخل ثم حكي عن عمران بن أبي أنس أن بيوت النبي (ص) كانت أربعة بلبن لها حجر من جريد (قال) وبيت عائشة أحد الأربعة ثم حكي عن رواية ابن سعد أنه لم يكن عليه حائط زمن النبي (ص) وأن أول من بني عليه جدارا عمر بن الخطاب (قال) وليحمل علي أن حجرة

ص: 313


1- 177. ص 398 ج ل.
2- 178. في القاموس النصع مثلثة جلد أبيض أو ثوب " انتهي " وليس فيه ما يناسب المقام غير هذا - المؤلف -.
3- 179. ص 383 - 390 ج ل طبع مصر.

الجريد التي كانت مضافة له أبدلها عمر بجدر، جمعا بين الروايات (انتهي) وبقيت عائشة ساكنة في ذلك البيت بعد دفن النبي (ص) ودفن أبي بكر وعمر فلما دفن عمر بنت بينها وبين القبور جدارا فكان عمر أول من بني جدار الحجرة الشريفة وثنته عائشة (قال السمهودي) في وفاء الوفا (1) روي ابن زبالة عن عائشة (رض) أنها قالت ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي حتي دفن عمر فلم أزل محتفظة في ثيابي حتي بنيت بيني وبين القبور جدارا (قال) وعن المطلب كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها فأمرت بالكوة فسدت " قال " وقال ابن سعد في طبقاته بسنده عن مالك بن أنس قسم بيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر وقسم تكون فيه عائشة وبينهما حائط فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها (ثم قال) قال عبيد الله بن أبي يزيد كان جداره قصيرا بناه عبد الله بن الزبير " انتهي " فهؤلاء هم السلف الذين يزعم الوهابية أنهم قدوتهم ويسمون أنفسهم السلفية وهؤلاء أصحاب رسول الله " ص " الذين يزعم الوهابية أنهم علي طريقتهم عملا بقوله " ص " إن أمته ستفترق علي ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة وهي من كان علي مثل ما هو عليه وأصحابه. " ثم قال السمهودي " قال الأقشهري قال أبو زيد بن شبة قال أبو غسان بن يحيي بن علي بن عبد الحميد وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم: لم يزل بيت النبي " ص " الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر ظاهرا حتي بني عمر بن عبد العزيز عليه الحظار المزور الذي هو عليه اليوم حين بني المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيعه تربيع الكعبة وأن يتخذ قبلة فيصلي إليه. (أقول) وذلك أنه جعل الحظار بهيئة التربيع ولما انتهي إلي الزاويتين اللتين من جهة الشمال أخذ منهما خطين مائلين حتي التقيا في جهة الشمال وحدث منهما زاوية خامسة وذكر هذا الحظار النووي فيما سيأتي عنه في الفصل الحادي عشر " ثم " حكي السمهودي (2) عن رواية ابن سعد أنه انهدم الجدار الذي علي قبر النبي " ص " في زمان عمر بن عبد العزيز فأمر بعمارته " وعن " رواية ابن زبالة أنه جاف بيت النبي " ص " من شرقيه فأمر عمر بن عبد العزيز ابن ورد أن يكشف

ص: 314


1- 180. ج ل ص 385.
2- 181. ص 386 ج ل.

عن الأساس فظهر قدمان فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر أيها الأمير لا يرو عنك فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس " وفي رواية البخاري " من حديث هشام بن عروة إن القائل لهم ذلك هو عروة " قال السمهودي " وروي عن المطلب أنه لما سقط الجدار من شق موضع الجنائز أمر عمر " يعني ابن عبد العزيز " بقباطي فخيطت ثم ستر بها وأمر أبا حفصة وناسا معه فبنوا الجدار " وفي رواية " أن عمر بن عبد العزيز دعا وردان البناء فبناه بعد ما ستر بالقباطي ومزاحم مولي عمر يناوله قال (1) ويستفاد من ذلك أن السبب في هذا البناء سقوط الجدار ولعله بسبب المطر كما يشير إليه بعض الروايات " ويدل " بعض الروايات التي نقلها إن سبب البناء أن الناس كانوا يصلون (2) إلي القبر فأمر به عمر بن عبد العزيز فهدم الحائط ورفع حتي لا يصل إليه أحد وبعضها أن الوليد بن عبد الملك لما اشتري حجر أزواج النبي " ص " كتب إلي عمر ابن عبد العزيز أن اهدمها ووسع بها المسجد فهدمها فلما أن بني البيت علي القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة (أقول) والظاهر أن عمر بن عبد العزيز لما انهدم حائط الحجرة الشريفة بناه ثم لما وسع المسجد أزال بناء الحجرة كله وبناه جديدا وجعل لها حظارا. " قال " السمهودي (3) وهذا البناء لم يبلغ به عمر بن عبد العزيز سقف المسجد اتفاقا بل فوقه شباك من خشب متصل بسقف المسجد. قال (4) وروي ابن زبالة عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله " ص " الذي فيه قبره وهو بيت عائشة الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة " أي جص " وبابه مسدود بحجارة سود وقصة ثم بني عمر بن عبد العزيز علي ذلك البيت هذا البناء الظاهر " وقال " السمهودي (5) إنه لم ير للبيت عند انكشافه في العمارة التي أدركها بابا ولا موضع باب ورآه مربعا مبنيا بالأحجار السود المنحوتة (وحكي السمهودي) عن بعض العلماء في سبب ستر القبور ما وقع من وصية الحسن (ع) أن تحمل جنازته ويحضر بها قبر النبي (ص) فظن طائفة أن الحسين (ع) يريد دفنه في الحجرة فمنعوه وقاتلوه فلما كان عبد الملك أو غيره سدوا وستروا (ثم قال) وفيما قدمناه أشعار بأن موضع القبور

ص: 315


1- 182. ص 388 ج ل.
2- 183. من الوصول - المؤلف -.
3- 184. ص 404 ج ل.
4- 185. ص 388 ج ل.
5- 186. ص 401 ج ل.

كان مسقفا تحت سقف المسجد كما يأتي التصريح به ولهذا لما انكشف سقف المسجد رأوا ما بين الحظار الظاهر والحجرة ولم يروا جوف الحجرة ثم استدل له بحديث جعل الكوة من قبر النبي " ص " إلي السماء حتي لا يكون بينهما سقف وقد تقدم " إلي أن قال " ثم اطلعنا في العمارة التي أدركناها علي وجود سقف جعل بعد الحريق وعلي آثار السقف الذي كان قبله " ثم " حكي (1) عمارة أبي البختري والي المدينة لهارون الرشيد التي كشف فيها سقف المسجد مما يلي الحجرة الشريفة فوق القبر في جمادي الأولي سنة 193 فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا " انتهي " فهذه أيضا تصلح أن تعد من جملة عمارة الحجرة باعتبار أنها فوقها " ثم " حكي (2) عن ابن النجار أنه قال إن المتوكل في خلافته أمر إسحاق بن سلمة وكان علي عمارة الحرمين من قبله أن يؤزر الحجرة بالرخام ففعل وكانت خلافة المتوكل سنة 232 وتوفي سنة 247 " وقال السمهودي " إن تأزير الحجرة بالرخام له ذكر في كلام يحيي بن عباد وذكر الخبر عن حجر كان في بيت فاطمة كان رسول الله (ص) يصلي إليه إذا دخل علي فاطمة وكانت فاطمة عليها السلام تصلي إليه وولدت الحسنين عليهما السلام عليه وسيأتي في الفصل الرابع عشر. " قال راوي الحديث " ولم يزل ذلك الحجر نراه حتي عمر الصانع المسجد ففقدناه عندما أزر القبر بالرخام وكان الحجر لاصقا بجدار القبر قريبا من المربعة " قال السمهودي " قال بعض رواة كتاب يحيي: الصانع هذا هو إسحاق بن سلمة كان المتوكل وجه به علي عمارة المدينة ومكة " انتهي " وحكي السمهودي (3) عن ابن النجار إنه في خلافة المقتفي سنة 548 جدد ذلك جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حول الحجرة الشريفة قامة وبسطه (وحكي) في موضع آخر (4) عن ابن النجار أن جمال الدين الأصفهاني الوزير المذكور عمل للحجرة الشريفة مشبكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف أي علي رأس الجدار الذي بناه عمر بن عبد العزيز فإنه لم يبلغ السقف كما مر " انتهي " " وحكي أيضا " (5) عن ابن النجار أنه قال في كتابه الدرة الثمينة: في سنة 548 سمعوا صوت هدة في الحجرة فأخبروا أمير المدينة القاسم بن مهني الحسيني فقال ينزل من يري

ص: 316


1- 187. ص 398 - 399 ج ل.
2- 188. ص 408 ج ل.
3- 189. ص 408 ج ل.
4- 190. ص 405 ج ل.
5- 191. ص 406 ج ل.

هذه الهدة فاختاروا عمر النسائي شيخ شيوخ الصوفية بالموصل فوجد ردما أما من السقف أو من الحيطان فأزاله " قال " وقال إنه من سنة 554 إلي زمانه لم يقع دخول إلي الحجرة وقد توفي سنة 642 (ولكن) حكي السمهودي عن الأقشهري بسنده عن الرحال أحمد بن عاث إنهم منذ قريب أربعين سنة سمعوا بالمدينة هدة في الحجرة الشريفة فكتب في ذلك إلي الخليفة فاستشار الفقهاء فأفتوا أن يدخلها رجل فاضل من القومة علي المسجد فاختاروا بدر الضعيف وهو شيخ فاضل من بني العباس يصوم النهار ويقوم الليل فدلي فوجد الحائط الغربي قد سقط وهو حائط دون الحائط الظاهر فصنع له لبن من تراب المسجد فبناه وكانت رحلته سنة 612 وقد قال قريبا من أربعين سنة فيكون ذلك في حدود 570 ويكون في دولة المستضئ. ثم احترق الحرم الشريف النبوي علي ما ذكره السمهودي (1) نقلا عن المؤرخين ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة 654 بسبب أن أحد الفراشين دخل إلي حاصل المسجد ومعه نار فعلقت في بعض الآلات وأعجزه طفيها واحترق الحاصل والفراش والمسجد كله ولم يسلم سوي القبة التي أحدثها الناصر لدين الله سنة 576 لحفظ ذخائر الحرم لكونها بوسط صحن المسجد وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ووقع السقف الذي كان علي أعلي الحجرة علي سقف بيت النبي (ص) فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وكتبوا بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله في شهر رمضان فوصلت الآلات والصناع مع ركب العراق في الموسم وابتدئ بالعمارة أو سنة 655 وأرادوا إزالة ما وقع من السقوف علي الحجرة الشريفة فلم يجسروا واتفق رأي أمير المدينة منيف بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنئ الحسيني وأكابر أهل الحرم أن يطالع الخليفة المستعصم بذلك فكتبوا إليه فلم يأت الجواب للاشتغال بفتنة التتر فتركوا الردم بحاله وأعادوا سقفا محكما فوقه علي الحجرة الشريفة من ألواح ثخينة جدا من الساج الهندي وسمروا بعضها إلي بعض علي قوائم من خشب وجعلوه أربع قطع كل قطعة كالباب العظيم وجعلوا عند ملتقي كل قطعتين مقصات من حديد وكلبوا بعضها إلي بعض تكليبا محكما وجعلوا تحته

ص: 317


1- 192. ص 427 - 432 ج ل.

ثلاث جزم من الساج الهندي تحمله ولم يجعلوا في تلك الألواح دهونا ولا نقوشا ولا كتابة غير أن النجار كتب اسمه علي طرف السقف نقرا وكذلك سقف المسجد المحاذي للحجرة الشريفة مما يلي هذا السقف جميعه من الساج النقي ليس عليه دهان ولا نقوش فسقفوا في سنة 655 الحجرة الشريفة وبعض المسجد ثم دخلت سنة 656 فكان في المحرم منها استيلاء التتار علي بغداد وقتل الخليفة فوصلت الآلات من مصر والمستولي عليها يومئذ الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين ايبك الصالحي ووصلت آلات وأخشاب من صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور بن عمر بن علي بن رسول فعملوا إلي باب السلام ثم عزل صاحب مصر آخر سنة 657 وتولي مكانه مملوك أبيه الملك المظفر وقتل بعد نحو أحد عشر شهرا ولم تتم عمارة المسجد وتولي مكانه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي البندقداري فكمل في أيامه سقف المسجد. " وقال السمهودي " إن السلطان المذكور لما حج سنة 667 أراد أن يجعل علي الحجرة الشريفة مقصورة فعملها وأرسلها سنة 668 وعمل لها أبوابا وكانت نحو القامتين فزاد عليها الملك العادل زين كتبغا في 694 شباكا دائرا عليها حتي وصلها بسقف المسجد وقد صارت هذه المقصورة تعرف بالحجرة الشريفة وأبوابها وقناديلها بأبواب الحجرة وقناديلها. ثم عملت القبة الزرقاء وهي (أول قبة) عملت علي الحجرة الشريفة " قال السمهودي " في وفاء الوفا (1) لم يكن قبل حريق المسجد الأول وما بعده علي الحجرة الشريفة قبة بل كان حول ما يوازي الحجرة النبوية في سطح المسجد حظير مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد واستمر ذلك إلي سنة 678 في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي فعملت (القبة الزرقاء) وهي مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت علي رؤوس السواري وسمر عليها ألواح من خشب ومن فوقها ألواح الرصاص وفيها طاقة يري المبصر منها سقف المسجد الأسفل وحولها علي سقف المسجد ألواح رصاص ويحيط بها وبالقبة درابزين خشب مكان الحظير الآجر. (قال) ورأيت في الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلي الصعيد في ترجمة الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي ناظر قوص أنه بني علي الضريح النبوي

ص: 318


1- 193. ص 435 ج ل.

هذه القبة المذكورة قال وقصد خيرا وتحصيل ثواب (انتهي) (أقول) ولم ينقل عن أحد من أهل العلم والدين الذين كانوا في زمانه أنهم أنكروا ذلك لكون البناء علي القبور وعقد القباب عليها شركا أو محرما وكانت البلاد الإسلامية سيما الحرمين الشريفين غاصة بالعلماء " أما " ما حكاه السمهودي في وفاء الوفا من قول بعضهم أنه أساء الأدب بعلو النجارين ودق الخشب فخارج عن المقام إن لم يكن مؤيدا لما نقوله من وجوب احترام قبر النبي (ص) ومخالفا لما تقوله الوهابية أو هو لازم قولهم من سقوط حرمة قبره (ص) مع أن هذا القول جمود وغباوة من قائله لأن علو النجارين ودق الخشب ليس فيه قلة احترام للمرقد الشريف لأنه مقدمة وواسطة لإعلاء شأنه ورفع مناره فهو عين الاعظام والاحترام مع أن الضرورات تبيح المحذورات فما هو إلا كصعود أمير المؤمنين علي عليه السلام علي منكب النبي (ص) يوم فتح مكة لإلقاء الأصنام عن ظهر الكعبة. ولو كان ذلك منافيا للأدب لما أوصي الصاحبان أن يدفنا بجنب النبي (ص) ولما نفذ الصحابة هذه الوصية مع استلزامها الضرب بالمساحي والمعاول والدق العنيف بجنب القبر الشريف مع أن أم المؤمنين كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله (ص) كما مر في هذا الفصل وسيأتي عن كتاب تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة إن باني هذه القبة قلاوون الصالحي ولعل الاشتباه حصل من بنائها في أيامه (قال السمهودي) وقد جددت في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها فخشوا من كثرة الأمطار فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد سنة 765 وقال قبل ذلك أنه حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وسقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة 853 وما قبلها علي يد الأمير برد بك الناصر المعمار وغيره (قال) وظهر في بعض أخشابها خلل سنة 881 فعضدها متولي العمارة الشمس بن الزمن بأخشاب سمرت معها وقلع ما حولها من ألواح الرصاص التي علي أعلي السطح بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره فوجدوا الأخشاب حولها قد تأكلت فأصلحوها وأعادوا الألواح وأضافوا إليها كثيرا من الرصاص وجددوا الدرابزين وكانت مياه الأمطار تتسرب من بين تلك الألواح وتصل إلي سقف الحجرة الشريفة وأثرت في الشباك الذي بأعلي حائز عمر بن عبد العزيز فتأكل بعضه فأصلحه وفي الستارة التي علي سقف الحجرة الشريفة فتأكل بعضها " وذكر "

ص: 319

السمهودي أيضا في وفاء الوفا (1) ما يستفاد منه: أنه لما ورد شاهين الجمالي المدينة المنورة منصرفه من جدة أروه الحائز المخمس علي الحجرة الشريفة لانشقاق فيه قديم فتقرر أنه ليس بضروري لأنه شق قديم في طول الحائط لا في عرضه مملوء بالجص والحائط ليس عليه سقف ثم في سنة 881 وردت المراسيم من الملك الأشرف قاتباي صاحب مصر بتفويض أمر العمارة للجناب الشمسي بن الزمن (إلي أن قال) ثم كان ما تقدم من نقض الرخام المؤزر به جدار الحجرة الظاهرة وتجديده فظهر الشق المتقدم ذكره وهو انشقاق قديم سد الأقدمون خلله بكسر الآجر وأفرغوا فيه الجص وبيضوه بالقصة فانشق البياض من رأس وزرة الرخام إلي رأس الجدار فقشروا البياض وأخرجوا ما في خلله من الجص والآجر فظهر بناء الحجرة المربع الذي هو جوف البناء المخمس المذكور وظهر شق في جدار الحجرة الداخل تدخل اليد فيه فعقدوا لذلك مجلسا حضره العلماء والقضاة والمشائخ والخدام وشيخهم وقر رأيهم علي الهدم والبناء فشرعوا في الهدم والتنظيف وظهر من وصف البناء الداخل ما قدمناه من كونه مربعا بأحجار منحوته ولا باب فيه ولا موضع باب وتبين ما في الجدار الداخل من الانشقاق في موضعين فعزم متولي العمارة علي هدم جدار الحجرة الداخل من جهة الشام بأجمعه فبدأ برفع السقف الذي وجد علي الحجرة نفسها ثم عزموا علي عقد قبة سفلية " أي تحت القبة الزرقاء المقدم ذكرها " علي جدار الحجرة الداخل رعاية للإتقان والإحكام فشرعوا في هدم الجدار الشامي والشرقي من البناء الداخل فوجدوا في بعض الجدر لبنا غير مشوي طول اللبنة أرجح من ذراع وعرضها نصف ذراع وسمكها ربع ذراع وطول بعضه وعرضه وسمكه واحد وهو نصف ذراع " قال " وظهر لي أن السلف لما بنوا الحجرة الشريفة بالأحجار لقصد الإحكام وكان ما عدي الأساس منها مبنيا باللبن في عهده " ص " وضعوا في البناء بعض اللبن بين الأحجار للبركة والعجب إن الشق لم يظهر إلا في الجهة الخالية من اللبن والذي يظهر أن تلك الجهة سقطت وأعيدت لاختلاف البنائين حتي أن الجدار الشرقي لم يكن مبنيا بالحجارة الموجهة إلا من داخله دون خارجه وكتبوا محضرا وأرسلوه إلي ملك مصر الحال ثم هدموا من الجدار القبلي مما يلي المشرق جانبا نحو أربعة أذرع حتي بلغوا به

ص: 320


1- 194. ص 442 - 453 ج 1.

أرض الحجرة وهدموا من الجدار الغربي مما يلي الشام نحو خمسة أذرع حتي بلغوا به الأرض وذلك ليتأتي لهم إحكام القبة التي عزموا عليها ولم يبق من أركان الحجرة الشريفة سوي مجمع جداري القبلة والمغرب ثم هدموا من علو ما بقي من الجدارين المذكورين نحو خمسة أذرع فلم يبق من بناء الحجرة إلا ما فضل منهما وراموا تربيع القبة فعقدوا قبوا علي نحو ثلث الحجرة من جهة الشرق لأنها من تلك الجهة أطول وعقدوا القبة علي ما بقي من الحجر بالأحجار المنحوتة من الحجر الأسود وكملوها بالأبيض وارتفاعها من داخل أرض الحجرة الشريفة إلي أعلاها المغروز فيه هلالها اثنا عشر ذراعا بذراع العمل وارتفاع حائطها عن طرف القبو الذي بني عليه الحائط ذراعان إلا ثلث بذراع العمل وبيضوا تلك القبة وجميع جدرانها من خارجها بالجص ونصبوا بأعلاها هلالا من نحاس وهو قريب من سقف المسجد الأول فإن هذه القبة تحته فصار علي القبر الشريف قبتان هذه القبة والقبة الزرقاء التي فوقها وكان شروعهم في هدم الحجرة الشريفة في الحادي عشر أو الرابع عشر من شهر شعبان سنة 881 وشروعهم في إعادة بناء الحجرة في السابع عشر منه من السنة المذكورة وفراغهم من بناء الحجرة والقبة سابع شوال من تلك السنة ثم احترق ذلك كله في حريق المسجد الثاني " انتهي ما يستفاد من كلام السمهودي ". الحريق الثاني في المسجد النبوي الشريف وعمل القبة البيضاء قال السمهودي (1) ما حاصله: أنه في الثلث الأخير من سنة 886 ليلة الثالث عشر من شهر رمضان احترق مسجد النبي (ص) في المدينة المنورة وبسبب ذلك أن رئيس المؤذنين شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالريسية وصعد المؤذنون بقية المنائر وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين وسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة فأودت بحياة الرئيس ومات لحينه صعقا وسقطت في المسجد ولها لهيب كالنار فأصابت سقف المسجد الأعلي بين المنارة

ص: 321


1- 195. ص 544 ج ل.

الرئيسية وقبة الحجرة النبوية فثقبته ثقبا كالترس وعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل ونودي بالحريق في المسجد فاجتمع أمير المدينة الشريف زين الدين فيصل الجمازي وأهلها وصعد أهل النجدة بالمياه لإطفائها فعجزوا عن ذلك فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها فسبقتهم ومات بسبب ذلك بضعة عشر نفسا واحترقت المنارة الرئيسية واحترقت ثياب الرئيس بعد موته وصار المسجد كالتنور واستولي الحريق علي جميع سقفه وحواصله وما فيه من خزائن الكتب إلا اليسير الذي أمكنهم إخراجه ولما اشتعلت النار في السقف المحاذي للحجرة الشريفة ذاب الرصاص من القبة التي بسقف المسجد الأعلي واحترقت أخشابها وما يحاذيها من السقف الأسفل والشباك الدائر علي حائز عمر بن عبد العزيز وسقط ما سقط من ذلك علي القبة السفلي فلما أصبحوا بدؤا بإطفاء ما سقط علي القبة المذكورة فسلمت وسقط من المسجد مائة وبضع وعشرون أسطوانا وما بقي أثرت فيه النار وسلمت الأساطين اللاصقة بجدار الحجرة واحترقت المقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة والمنبر وغير ذلك وكتبوا إلي سلطان مصر الملك الأشرف قاتباي بذلك ونظفوا ما حول الحجرة الشريفة وأداروا عليها جدارا من الآجر في موضع المقصورة المحترقة وجعلوا فيها شبابيك وطاقات وأبوابا (ولما) وصل الرسول إلي مصر وعلم سلطانها بذلك عظم عليه وأمر بتنظيف المسجد واهتم في أمر العمارة وأمر بإبطال عمائره المكية وبتوجه القيم عليها الأمير سنقر الجمالي صحبة الحاج الأول بما يزيد عن مائة صانع مع كثير من الدواب والجمال وصحبته وصحبة أخيه الشجاعي شاهين والأمير قاسم الفقيه شيخ الحرم الشريف عشرون ألف دينار وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتي كثرت في الطور وينبع والمدينة الشريفة وجهز شمس الدين بن الزمن متولي العمارة الأولي في ربيع الأول سنة 887 ومعه أكثر من مائتي جمل ومائة دابة وأزيد من ثلاثمائة صانع وشرعوا في الهدم والتعمير فعمروا المسجد وجعلوا علي ما يحاذي الحجرة الشريفة وما حوله قبة عظيمة علي دعائم بأرض المسجد وعقود من الآجر وهي (القبة البيضاء) بدلا عن القبة الزرقاء التي كانت قبل الحريق (والظاهر أنهم بنوها من الحجر أو الآجر لا من الخشب) وكانت تلك علي رؤوس السواري وجعلوا تلك الدعائم في موازاة الأساطين التي كان بينها درابزين المقصورة وأحدثوا أسطوانا في جانب مثلث الحجرة من بناء عمر بن عبد العزيز ليشتد به

ص: 322

العقد الذي عليه القبة في تلك الناحية وزادوا دعامتين وعقدا إلي جانب الأسطوانتين اللتين في جهة الوجه الشريف خشية من سقوط القبة وأبدلوا بعض الأساطين بدعائهم وأضافوا إلي بعضها أسطوانة أخري وعقدوا العقود المتصلة بهذه القبة من المشرق والشام وجعلوها قبوا بدل السقف وأعادوا ترخيم الحجرة الشريفة وما حولها وأزالوا البناء الذي عمله أهل المدينة في موضع المقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة وأبدلوا ما يلي القبلة من ذلك بشبابيك من النحاس وبأعلاها شبكة من شريط النحاس كهيئة الزرد وجعلوا لبقيتها مما يلي الشام مشبكا مشاجرا من الحديد وفاصلا عن يمين المثلث الحجرة ويساره فيه بابان وكمل تعمير المسجد في أواخر شهر رمضان عام 888 ثم إن القبة تشققت من أعاليها فرممت ثم تشققت ولم يفد فيها الترميم فأرسل الملك الأشرف - الشجاعي شاهين الجمالي لما اشتمل عليه من الفضل والنبل وإصابة الرأي وفوض إليه النظر في أمرها فورد المدينة الشريفة في موسم عام 891 فاقتضي الحال هدم أعالي القبة فاتخذوا في الطاقات المحيطة بجوانبها سقفا يمنع من سقوط ما يهدم منها إلي أرض الحجرة الشريفة ثم شرع في هدمها وإعادتها بحيث لم يرفع كسوة الحجرة الشريفة فجاءت القبة حسنة مع الاتقان حتي أنه استصحب الجبس من مصر واستعمله في البناء وكملت في عام 892 ثم حكي عن ابن النجار أنه قال ولم يزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء علي المدينة الشريفة ويمدونهم بالأموال لتجديد ما ينهدم من المسجد النبوي (ولا شك أن الحجرة الشريفة وقبتها من جملة ذلك) فلم يزل ذلك متصلا إلي أيام الناصر لدين الله أي الخليفة في زمنه فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار لعمارة المسجد وينفذ من الصناع عدة لكون مادتهم مما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف وينفذ من الحديد والرصاص والآلات شيئا كثيرا (قال) ولما انتقل أمر المدينة الشريفة إلي ملوك مصر لم يزل ملوكها يهتمون بعمارة هذا المسجد الشريف " انتهي ما اقتطفناه من كلام السمهودي في وفاء الوفا الذي كان عمل القبة البيضاء بدل الزرقاء في عصره " ولم يزل ملوك بني عثمان الذين كانت إليهم الخلافة الإسلامية يبعثون بالأموال الكثيرة لعمارة قبر النبي (ص) وحجرته وقبته ومسجده وقد جدد عمارة المسجد والقبة الشريفة النبوية بالبناء المحكم الموجود اليوم منهم السلطان عبد المجيد وابتدأ بذلك سنة 1270 واستمر في تعميره نحو

ص: 323

أربع سنين والبناء الذي كان قبله تعمير السلطان قاتباي سلطان مصر وأمر ببناء قبة أئمة البقيع بعين البناء الذي تبني به قبة جدهم صلي الله عليه وعليهم وسلم فعارض في ذلك أهل المدينة ومنعوا من بناء قبة أئمة البقيع وتغييرها واعتلوا بأن حولها قبور آبائهم وأجدادهم ويصيبها ضرر بواسطة الهدم والتعمير كما أنه لما عمل في زماننا شباك لضريحهم الشريف بإصفهان من الفولاذ الدقيق الصنعة وبأعاليه الأسماء الحسني بالخط الجميل المذهب واستأذنت الدولة الإيرانية من الدولة العثمانية في وضعه علي ضريحهم المقدس فأذنت لها وجاء به السيد علي القطب رحمه الله إلي جدة عارض أهل المدينة في وضعه علي الضرائح المقدسة فبقي في جدة ثلاثة أعوام حتي بذل الإيرانيون مبلغا عظيما من المال لأهل المدينة فرضوا بنقله ووضعه ولما حمل إلي المدينة المنورة أرادوا إزالة الصندوق الخشب الموضوع علي القبور الشريفة ووضعه مكانه فمنع أهل المدينة من ذلك بحجة أن الصندوق الخشب وقف لا يجوز تغييره فاضطروا إلي وضعه خارج الصندوق فنقصت ألواحه الفولاذية بسبب ذلك فاضطروا إلي إكماله بقطعة من الخشب بعد دهنها بما يقرب من لونه والكتابة عليها وقد رأيت القطعة الخشبية ظاهرة فيه مقصرة عنه في الرونق عند تشرفي بزيارة المدينة المنورة بعد الحج عام 1321 وبعد ذلك عند تشرفي بزيارتها من دمشق وبقي هذا الشباك حتي أزاله الوهابية عام 1343 حين استيلائهم علي المدينة المنورة وهدمهم لقبة أئمة البقيع وقبورهم المقدسة وتشويههم لمحاسن تلك البقعة الشريفة في التاريخ المتقدم وبما بيناه وأوضحناه من أن بناء الحجرة الشريفة كان قبل موت النبي (ص) ومنهم فهم ما رووه عنه إيصاؤه بدفنه فيها وتتابع الصحابة والتابعون وتابعوهم والمسلمون إلي يومنا هذا في بنائها وبناء القباب عليها ظهر لك بطلان ما ذكره محمد بن إسماعيل اليماني في رسالته تطهير الاعتقاد بقوله: فإن قلت هذا قبر رسول الله صلي الله عليه وآله قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال " قلت " هذا جهل عظيم بحقيقة الحال فإن هذه القبة ليس بناؤها منه (ص) ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصلاحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة فهذه أمور دولية لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول " انتهي " وذلك

ص: 324

أن هذه القبة وإن بناها قلاوون الصلاحي إلا أنه تبع في بنائه أصحاب النبي (ص) الذين دفنوه في حجرة مبنية ثم بنتها عائشة وعمر وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وتتابع المسلمون في بنائها وفيهم التابعون وتابعو التابعين وعلماء الأمة وأئمة الملة وكانوا يستشيرون العلماء والأئمة في ذلك بل تكتب إليهم العلماء وتطلب منهم ذلك كما عرفته في تضاعيف ما ذكرناه من تاريخ بناء الحجرة من مبدئه إلي منتهاه وبذلك تعلم أنها أمور دليلية لا دولية كما زعم. فتحصل من مجموع ما ذكرناه أن تعظيم قبر النبي " ص " وقبور سائر الأنبياء ببناء القباب عليها وعمل الشباك والكسوة وغير ذلك مما يأتي راجح شرعا لا مانع منه ولا يعد عبادة لها كما توهمه الوهابية لأنها مما أمر الله بتعظيمه فتعظيمها عبادة لله وطاعة له كما بيناه في فصل مطلق تعظيم القبور (أما) باقي ما اشتملت عليه الفتوي من اتخاذ القبور مساجد وإسراجها والتمسح والطواف بها وتقبيلها فسيأتي الكلام عليها في الفصول الخاصة بها وأما الذبح والنذر ودعاء أهلها فقد مر الكلام عليها كل في فصله الخاص به وأما التوجه إلي حجرة النبي (ص) عند الدعاء فمر الكلام عليه في آخر فصل التوسل وأما التذكير والترحيم في الأوقات المذكورة فمر عليه الكلام في الباب الأول. الفصل العاشر في الكتابة علي القبور وهذا مما منعه الوهابية محتجين بما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن سعيد عن حفص بن غياث عن ابن جريح عن سليمان بن موسي عن جابر نهي رسول الله (ص) أن يكتب علي القبور شئ وبما مر في الفصل التاسع من رواية الترمذي نهي رسول الله " ص " أن تجصص القبور وأن يكتب عليها ورواية أبي داود أنه " ص " نهي أن يجصص القبر أو يكتب عليه ورواية النسائي نهي رسول " ص " أن يبني علي القبر إلي قوله: أو يكتب عليه. والجواب (أولا) بضعف السند فحديث ابن ماجة في سنده حفص بن غياث وابن جريح وقد علمت حالهما في الفصل التاسع وفيه سليمان بن موسي عن جابر وهو مرسل (قال ابن حجر) في تهذيب التهذيب أرسل سليمان بن موسي عن جابر وقال ابن معين سليمان بن موسي عن جابر مرسل وقال أبو حاتم في حديثه بعض الاضطراب وقال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس بالقوي في الحديث وقال في حديثه شئ " انتهي " وباقي الأحاديث قد عرفت حالها في الفصل التاسع والحاكم وإن صحح بعضها كما ستعرف فالجرح مقدم علي التعديل فهذا حال الأحاديث التي يعتمد عليها الوهابية في مخالفة سيرة المسلمين

ص: 325

وتضليلهم (ثانيا) إنها محمولة علي الكراهة في صورة لا يكون للكتابة فائدة أما مع الفائدة ليعرف فيتعاهد بالزيارة والاستغفار وإهداء ثواب القراءة وغير ذلك فلا وقرينة الكراهة جمعها مع غيرها مما ثبتت كراهته كما مر في الفصل التاسع ويمكن حمل الكتابة علي كتابة الآيات القرآنية وأسماء الله تعالي خوفا عليها من الإهانة (ثالثا) إنه لم يعمل بها أحد من المسلمين وعملهم مخالف لها وما هذا حاله من الأخبار لا حجة فيه باعتراف الوهابية لاشتراطهم في حجية الخبر عدم الشذوذ والعلة كما مر في الفصل التاسع وكفي بما ذكر شذوذا وعلة " قال " محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي في حاشية سنن النسائي (1) عند قوله أو يكتب عليه، قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث في المستدرك الإسناد صحيح وليس العمل عليه فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون علي قبورهم وهو شئ أخذه الخلف عن السلف وتعقبه الذهبي في مختصره بأنه محدث ولم يبلغهم النهي " انتهي " وهذا الاعتذار الذي ذكره الذهبي ليس بصحيح إذ من أين لنا العلم بأنه لم يكن في الزمن الأول مع أنه يكفي اتفاقهم عليه في عصر من الأعصار لأنه يصير بذلك إجماعا فكيف باتفاقهم أعصارا وقرونا متعددة. وقوله لم يبلغهم النهي مقطوع بفساده فهذا النهي كان معلوما عند العلماء ولولاهم لم يصل إلينا (ويدل) علي استمرار السيرة علي الكتابة علي القبور من عهد بعيد ما في وفاء الوفا عن المسعودي في مروج الذهب أن أبا عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين توفي سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن بالبقيع مع أبيه وجده قال وعلي قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبيد الأمم ومحيي الرمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله (ص) سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي وعلي بن الحسين بن علي وقبر محمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام) " انتهي " وذكر ما يقتضي أنه حين ذكر هذا كان في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة " وفيه " عن ابن شبة عن زيد بن السائب عن جده قال لما حفر عقيل بن أبي طالب في داره بئرا وقع علي حجر منقوش مكتوب فيه هذا قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب فدفن عقيل البئر وبني عليه بيتا قال ابن السائب فدخلت ذلك البيت فرأيت فيه ذلك القبر (ثم قال السمهودي) روي ابن شبة عن محمد بن يحيي قال سمعت من يذكر

ص: 326


1- 196. ص 285 ج ل.

أن قبر أم سلمة " رض " بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد بن علي وأنه كان حفر فوجد علي ثمانية أذرع حجرا مكسورا مكتوبا في بعضه أم سلمة زوج النبي " ص " فبذلك عرف أنه قبرها وأمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه (قال) وروي ابن زبالة عن إبراهيم بن علي بن حسن الرافعي قال حفر لسالم البانكي مولي محمد بن علي فأخرجوا حجرا طويلا فإذا فيه مكتوب هذا قبر أم سلمة زوج النبي (ص) فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر " قال " وعن حسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب قال فأخرجنا حجرا مكتوبا فيه هذا قبر رملة بنت صخر فسألنا عنه فائدا مولي عبادل فقال هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان قال ويخالفه ما تقدم من أن قبرها في دار عقيل ولعله تصحف بعلي " انتهي " ويتضح من ذلك جليا إن الكتابة علي القبور سيرة المسلمين من عهد الصحابة وما بعدهم فعقيل من الصحابة وقد وجد الحجر المكتوب علي قبر أم حبيبة ومحمد بن زيد وجده علي قبر أم سلمة. الفصل الحادي عشر في اتخاذ المساجد علي القبور واتخاذها مساجد إعلم أنه قد ورد في بعض الأخبار ما يفيد النهي عن ذلك " روي النسائي " أخبرنا قتيبة حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (وروي ابن ماجة) حدثنا أزهر بن مروان ثنا عبد الوارث ثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس لعن رسول الله (ص) زوارات القبور (ورواه) ابن ماجة بأسانيده عن سفيان عن عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه مثله. حدثنا محمد بن خلف العسقلاني أبو نصر ثنا محمد بن طالب ثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة مثله (ورواه أبو داود) بلفظ زوارات القبور علي ما نقله ابن تيمية في رسالة زيارة القبور وكذا ابن ماجة كما سمعت (وفي صحيح البخاري) باب ما يكره من اتخاذ المساجد علي القبور: لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبة علي قبره سنة ثم رفعت ثم ذكر حديث عائشة عن النبي (ص) لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا قالت ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشي أن يتخذ مسجدا

ص: 327

(ورواه مسلم) إلا أنه قال مساجد فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (ورواه) مسلم والنسائي أيضا إلي قوله قالت وفي بعضها يحذر مثل ذلك (وفي رواية) لمسلم قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وفي رواية له " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك (وروي النسائي) بسند فيه قتادة عن سعيد بن المسيب (1) لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وبسنده) لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وروي) البخاري أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة اسمها مارية فذكرتا من حسنها وتصاويرها فيها فقال رسول الله " ص " أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا علي قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شر الخلق عند الله (ورواه) مسلم والنسائي نحوه قالا فيها تصاوير وقالا عند الله يوم القيامة (وعن الموطأ) وغيره عنه (ص) اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وأول) من فتح باب اتخاذ القبور مساجد للوهابية هو ابن تيمية ككثير من معتقداتهم فإنه بعد ما أورد في رسالة زيارة القبور (2) روايات الموطأ ومسلم وأبي داوود وغيرها مما مر قال ولهذا قال علماؤنا لا يجوز بناء المسجد علي القبور ثم قال إن الآيات والأخبار الواردة في المساجد لم يرد مثلها في المشاهد بل ورد النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من يفعل ذلك " انتهي " ويأتي تمامه في الفصل الثالث عشر ولا يخفي أن تشدد ابن تيمية في أمر المشاهد إنما هو حنق منه علي الشيعة الذين لا يألوا جهدا في التعصب عليهم بالباطل فإن الرجل لا يقف به تعصبه عند حد وقد بلغ به حنقه علي أتباع أئمة أهل البيت الطاهر إن أنكر جملة من مناقب أمير المؤمنين (ع) وفضائله المتواترة حتي فضل ضربته يوم الخندق كما فصلناه في فصل البناء علي القبور وجاء في كتابه الذي سماه منهاج السنة بالغرائب ومما

ص: 328


1- 197. قتادة رمي بالقدر وبأنه حاطب ليل يأخذ عن كل أحد وبأنه حدث عن ثلاثين رجلا لم يسمع منهم إلي غير ذلك مما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب ثم قال: قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن: سمعت علي بن المديني يضعف أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب تضعيفا شديدا وقال أحسب أن أكثر ما بين قتادة وسعيد فيها رجال " انتهي " ولعلنا لو بحثنا عن باقي أسانيد هذه الأخبار نجد فيها أمثال هذا كثيرا لكن لم يتسع لنا الوقت للبحث عن جميعها - المؤلف -.
2- 198. ص 159 - 106 طبع المنار بمصر.

جاء فيه بشأن المشاهد قوله: الرافضة بدلوا دين الله فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد مضاهاة للمشركين ومخالفة للمؤمنين، ومر له كلام آخر بشأن المشاهد في أواخر الباب الثاني. والله تعالي وعباده يعلمون أنه غير صادق في ذلك فالشيعة وحدها لم تعمر المشاهد بل شاركها في ذلك جميع المسلمين حتي الناصبة أمثال ابن تيمية وذلك معلوم مشاهد لا يشك فيه أحد. والشيعة لم تعطل المساجد، هذه بلادهم ومدنهم وقراهم مساجدها معمورة تقام فيها الصلوات والجماعات في جميع أقطار المعمور " ثم " إنه يظهر من مجموع كلماته هذه أنه يحمل جعل القبور مساجد علي ما يعم الصلاة عندها وفي مشاهدها وبناء مسجد عليها ويحمل علي الأخير النهي عن اتخاذ المساجد عليها كما يظهر من قوله: ولهذا قال علماؤنا الخ وتبعه علي ذلك تلميذه ابن القيم الجوزية فإنه قال في كتابه زاد المعاد (1) علي ما حكي عنه ما ملخصه أن النبي " ص " حرق مسجد الضرار وأمر بهدمه فكذلك مشاهد الشرك أحق بذلك وأوجب والوقف لا يصح علي غير بر ولا قربة فيهدم المسجد إذا بني علي قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ علي الآخر منع منه وكان الحكم للسابق " انتهي ". واعتمادا علي هذه الأحاديث هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزه بن عبد المطلب عم النبي صلي الله عليه وآله بأحد بعدما هدموا القبة التي علي القبر وأزالوا تلك الآثار الجليلة ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع فلا يري الزائر لقبر حمزه اليوم إلا أثر قبر علي تل من التراب لاعتقادهم إن ذلك محرم بل شرك وكفر واستندوا في فتواهم المنسوبة إلي علماء المدينة بعدم جواز اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها المتقدمة في الفصل التاسع إلي الحديث الأول من هذه الأحاديث كما عرفت ولم يبنوا ما هو مرادهم من اتخاذها مساجد ولعل مرادهم ما يظهر من ابن تيمية كما تقدم فإنه قدوتهم وأول باذر لبذور مذهبهم " والجواب " عن الحديث المذكور الذي استندوا في فتواهم إليه ومنه يعلم الجواب عن الباقي: " أولا " بعدم صحة السند علي رواية النسائي (فعبد الوارث) وإن وثقوه لكن رموه بأنه كان يري القدر (أي الاعتزال) ويظهره وإنه ذم لبدعته وإنه لولا الرأي لم يكن به بأس وإن الحسن بن الربيع قال كنا نأتي عبد الوارث بن سعيد

ص: 329


1- 199. ص 16 ج 2.

فإذا حضرت الصلاة تركناه وخرجنا وإن أبا علي الموصلي قال قلما جلسنا إلي حماد بن زيد إلا نهانا عن عبد الوارث نقل ذلك كله ابن حجر في تهذيب التهذيب (وأبو صالح) مردد بين ميزان البصري وبين باذام مولي أم هاني بنت أبي طالب (والثاني) مقدوح فيه ففي تهذيب التهذيب في ترجمة ميزان البصري أبي صالح روي الترمذي في كتاب الجنائز من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس وذكر الحديث ثم قال فجزم ابن حبان إن اسم أبي صالح هذا ميزان ولم يذكر المزي ميزان هذا لأنه مبني علي أن أبا صالح المذكور في الحديث هو مولي أم هاني كما صرح بذلك في الأطراف ويؤيده أن علي بن مسلم الطوسي روي هذا الحديث عن شعيب عن محمد بن شحادة سمعت أبا صالح مولي أم هاني فذكر هذا الحديث وجزم بكونه مولي أم هاني الحاكم وعبد الحق في الأحكام وابن القطان وابن عساكر والمنذري وابن دحية وغيرهم " انتهي " وقال في ترجمة باذام أبي صالح مولي أم هاني: قال أحمد كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وقال النسائي ليس بثقة وقال ابن عدي لم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه وقال ابن المديني عن القطان عن الثوري قال الكلبي قال لي أبو صالح كلما حدثتك كذب وقال العقيلي المغيرة يعجب ممن يروي عنه وقال عبد الحق في الأحكام أن أبا صالح ضعيف جدا وقال الجوزقاني إنه متروك ونقل ابن الجوزي عن الأزدي أنه قال كذاب وقال الجوزجاني كان يقال له ذو رأي غير محمود وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالقوي عندهم وقال ابن حبان يحدث عن ابن عباس ولم يسمع منه " انتهي " ولا يفيد مع هذا قول ابن حجر في تهذيب التهذيب وثقة المجلي وحده لأن الجرح مقدم علي التعديل (هذا) علي رواية النسائي وأما علي رواية ابن ماجة الثانية (فعبد الله بن عثمان) وإن وثقه بعضهم قال النسائي مرة ليس بالقوي وقال ابن حبان كان يخطئ وعن ابن معين أحاديثه ليست بالقوية وعن علي بن المديني منكر الحديث ذكر ذلك كله ابن حجر في تهذيب التهذيب (وابن بهمان) وإن ذكره ابن حبان في الثقات إلا أن ابن المديني قال لا نعرفه. كذا في تهذيب التهذيب (وأما) علي رواية ابن ماجة الثالثة ففي ميزان الاعتدال للذهبي محمد بن طالب عن أبي عوانة الوضاح لا يعرف روي عنه محمد بن خلف العسقلاني فقط " انتهي " " فهذه " حال الروايات التي يستند إليها الوهابية في

ص: 330

فتاواهم ويكفرون بها المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم ويدعون أنهم هم الموحدون وغيرهم المشركون فتأملوا ذلك أيها المنصفون (ثانيا) باضطراب المتن مع وحدة السند في الكل الدال علي أنها رواية واحدة فهو علي رواية النسائي زائرات القبور بصيغة اسم فاعل والمتخذين عليها المساجد والسرج وعلي رواية ابن ماجة زوارات القبور بصيغة المبالغة وبدون تلك الزيادة وأي اضطراب في المتن أعظم من ذلك (ثالثا) بعدم الدلالة علي ما توهموه من عدم جواز الصلاة عند القبور وفي مشاهدها وبناء مسجد عليها إذ الظاهر أنه إشارة إلي ما في رواية كنيسة الحبشة من قوله إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا علي قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شر الخلق عند الله فاللام في قوله والمتخذين عليها المساجد للعهد ولما كان سبب الذم في رواية كنيسة الحبشة هو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد بتلك الحالة وهي تصويرهم الصورة وعبادتها والصلاة والسجود إليها أو إليها وإلي القبر كما يصلي إلي الوثن ويسجد له علي ما هو الظاهر من تلك الرواية كان سببه في رواية والمتخذين عليها المساجد هو هذا وكما تكون رواية كنيسة الحبشة مفسرة للروايات التي أطلق فيها لعن اليهود وغيرهم علي اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد تكون مفسرة لهذه الرواية إذ الروايات يفسر بعضها بعضا ويرشد إلي ذلك قوله في رواية مسلم المتقدمة أن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد الخ فعقب النهي عن اتخاذها مساجد لما حكاه عمن كان قبلهم فدل بأجلي دلالة علي أن المنهي عنه من اتخاذها مساجد هو ما كان من هذا السنخ ويرشد إليه أيضا ما في رواية الموطأ من تعقيبه ذم من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد الدال علي أن المراد من اتخاذها مساجد الصلاة إليها والسجود لها كما يصلي إلي الأوثان ويسجد لها ويدل عليه قوله في رواية البخاري ومسلم ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشي أو غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا لظهوره في أن معني اتخاذه مسجدا السجود إليه لا اتخاذ المسجد حوله وبذلك يظهر عدم صحة الاستدلال علي ما زعموه برواية كنيسة الحبشة ولا بالروايات الأخر إذ الظاهر أن المراد في الجميع واحد وهو النهي عما كان يفعله السابقون من الصلاة إلي قبور الأنبياء والصلحاء وصورها الموضوعة في قبلة المصلي والسجود لها كما يصلي إلي الوثن ويسجد له وهذا لا يفعله أحد من المسلمين ولا يجيزه أما الصلاة لله تعالي عند قبر أو

ص: 331

في مشهد طلبا لزيادة الثواب بشرف المكان الذي ثبت شرفه فلا مانع منه ولو لم يكن راجحا لم يكن محرما ولا تتناوله هذه الأخبار ولا تدل عليه كما لا تتناول مجرد وجود القبر في قبلة المصلي من دون قصد الصلاة إليه أو الصلاة فوق قبر نعم هو مكروه كما يشير إليه عنوان البخاري المتقدم واستشهاده بضرب القبة علي قبر الحسن ويمكن حمل جعل المساجد علي القبور علي السجود عليها فإنه مكروه كما عرفت وكما يفهم من عنوان البخاري السابق ولا ينافيه اللعن فإنه لتشديد الكراهة إذ هو لغة: الطرد، وفاعل المكروه مطرود عن الثواب الحاصل له بتركه امتثالا لأمره تعالي وقد ورد لعن المسافر وحده والآكل طعامه وحده والنائم في البيت وحده وورد لعن الله المحلل والمحلل له وتسمية المحلل بالتيس المستعار رواه ابن ماجة (1) بأسانيده عن ابن عباس وعلي وعقبة بن عامر عنه (ص) قال السندي في حاشية سنن ابن ماجة المحلل من تزوج مطلقة الغير ثلاثا لتحل له والمحلل له هو المطلق والجمهور علي أن النكاح بنية التحليل يقتضي عدم الصحة وأجاب من يقول بصحته إن اللعن قد يكون لخسة الفعل فلعل اللعن ها هنا لأنه هتك مروءة وقلة حمية وخسة نفس أما بالنسبة إلي المحلل له فظاهر وأما المحلل فإنه كالتيس يعير نفسه بالوطأ لغرض الغير وتسميته محللا يؤيد القول بالصحة " انتهي " ونسبته إلي الجمهور أن النكاح بنية التحليل يقتضي عدم الصحة منظور فيه " قال " الخطيب الشربيني في الاقناع (2) علي مذهب الشافعي لو نكح بشرط أنه إذا وطئ طلقها أو فلا نكاح بينهما وشرط ذلك في صلب العقد لم يصح النكاح (إلي أن قال) ولو تواطأ العاقدان علي ذلك قبل العقد ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط كره (وفي الحاشية) قوله لم يصح النكاح وعليه حمل حديث لعن الله المحلل والمحلل له وهذا عندنا (أي الشافعية) وأما عند المالكية فعلي ظاهره فلا يصح التحليل مطلقا بهذا الشرط سواء وقع في صلب العقد أو قبله (انتهي) وأنت تري أن ذلك كله مع التصريح بالاشتراط لا مجرد النية كما فهم من كلام السندي مع أن الرواية مطلقة ولا دليل علي التقيد ونظيره إطلاق الكفر علي جملة من المعاصي مع أنها ليست كذلك كما مر في المقدمات " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري إنما صور أوائلهم ليتأنسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون

ص: 332


1- 200. ص 305 ج ل.
2- 201. ص 148 ج 2.

الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان إن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي (ص) عن مثل ذلك (إلي أن قال) وهو " أي قوله بنوا علي قبره مسجدا " مؤول علي مذمة من اتخذ القبر مسجدا ومقتضاه التحريم لا سيما وقد ثبت اللعن عليه لكن صرح الشافعي وأصحابه بالكراهة وقال البندينجي المراد أن يسوي القبر مسجدا فيصلي فيه وقال إنه يكره أن يبني عنده مسجد فيصلي فيه إلي القبر وأما المقبرة الداثرة إذا بني فيها مسجد ليصلي فيه فلم أر فيه بأسا لأن المقابر وقف وكذا المسجد فمعناهما واحد قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصاري يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا منع المسلمين من مثل ذلك فأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا للتوجيه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور " انتهي " " وقال السندي " في حاشية سنن النسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد أي قبلة للصلاة يصلون إليها أو بنوا مساجد عليها يصلون فيها ولعل وجه الكراهة إنه قد يفضي إلي عبادة نفس القبر سيما في الأنبياء والأخيار وقال في موضع آخر مراده أن يحذر أمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصاري بقبور أنبيائهم من اتخاذهم تلك القبور مساجد أما بالسجود إليها تعظيما لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها قيل ومجرد اتخاذ مسجد في جوار صالح غير ممنوع " انتهي " وقال النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء إنما نهي النبي " ص " عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدي ذلك إلي الكفر كما جري لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلي زيادة في مسجد رسول الله " ص " حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلي أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة " رض " مدفن رسول الله " ص " وصاحبيه بنوا علي القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلي المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتي التقيا حتي لا يتمكن أحد من استقبال القبر ولهذا قال في الحديث ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " انتهي " " أقول " وكل هذه الكلمات متوافقة علي أن المحرم من اتخاذ القبور مساجد هو السجود إليها تعظيما أو جعلها قبلة أو نحو ذلك كما يدل عليه

ص: 333

قول عائشة فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا والمراد بإبراز قبره هدم الحجرة الشريفة التي عليه وجعله بارزا ظاهرا يراه الناس. وإن الصلاة إلي القبر لا بهذا القصد مكروهة وإن اتخاذ مسجد بجوار صالح لا محذور فيه وإن أخبار كنيسة الحبشة ظاهرة في ذمهم علي تصوير الصور وعبادتها كما هو المألوف عند النصاري " وقول " النووي إنهم لما احتاجوا إلي زيادة في المسجد بنوا علي القبر حيطانا مرتفعة الخ الظاهر أنه إشارة إلي الحظار الذي بناه عمر بن عبد العزيز علي الحجرة الشريفة وجعله مزورا من جهة الشمال بالصفة التي ذكرها النووي لأن حيطان الحجرة كانت محيطة بالقبر الشريف من أول الأمر كما مر في الفصل التاسع فقوله ثم بنوا جدارين أي بعد الفراغ من عمل الحظار المربع. ومما يدل علي أن النهي في هذه الأخبار مراد به الكراهة ذكر زائرات القبور أو زوارات القبور وتخصيص اللعن بهن دون الزائرين المحمول علي الكراهة كما ستعرف تفصيل الكلام في فصل الزيارة وهذا دليل آخر علي جواز اللعن من الشارع علي فعل المكروه. فتحصل من ذلك أن هذه الأخبار بعد تسليم صحة أسانيدها لا ربط لها بما يحاوله الوهابية من عدم جواز البناء حول قبور الأنبياء وعقد القباب فوقها ووجوب هدمها (أولا) لأنه ليس أحد من المسلمين يجعل ذلك مسجدا (ثانيا) لو فرض فلا دلالة لتلك الأخبار علي عدم جوازه كما عرفت بل ولا علي كراهته إذ المسجد يكون خارجا عن محل القبر ومحل القبر لا يصلي عليه ولا يجعل مسجدا وجعل المسجد بجوار قبر نبي أو صالح لا مانع منه كما عرفت من تصريح علماء المسلمين بذلك والممنوع منه الصلاة إليه تعظيما له أو السجود له ولا يفعل ذلك أحد من المسلمين إنما يسجدون لله تعالي ويصلون إلي القبلة " ومما يدل " بأقوي دلالة لا يمكن لأحد دفعها علي أن اتخاذ مسجد حول القبر جائز ومستحب ما فعله المسلمون وتتابعوا عليه في سائر الأعصار من توسيع مسجد النبي صلي الله عليه وآله حتي صار قبره الشريف وحجرته المنيفة في وسط المسجد بعدما كانت بجانبه الشرقي فأصبح المسجد محيطا بها وذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك وبقي كذلك إلي اليوم بمرأي من علماء الأمة وصلحائها في كل عصر وكان المتولي لتوسيعه عمر بن عبد العزيز صالح بني أمية وفاضلهم وعادلهم الذي قال في حقه ابن سعد صاحب الطبقات

ص: 334

كان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع وروي حديثا كثيرا وكان إمام عدل حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال في تهذيب التهذيب: قال ميمون بن مهران ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة وقال نوح بن قيس سمعت أيوب يقول لا نعلم أحدا ممن أدركنا كان آخذ عن النبي صلي الله عليه وآله منه وقال أنس ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله " ص " من هذا الفتي إلي غير ذلك من المدح العظيم الذي مدحه به ولم يسمع أن أحدا من العلماء والفقهاء نهاه عن ذلك ولا أفتي بتحريمه ولا جعله شركا وكفرا لا في عصره ولا بعد عصره إلي اليوم قبل الوهابية وبذلك يعلم كذب قول ابن القيم السابق أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر الخ فإن فيه ردا علي أجلاء الصحابة الذين هم أعلم بسنة رسول الله " ص " منه ومن قدوته والذين يتغني دائما هو وقدوته وأتباعهما بأنهم أتباعهم في دعواهم إنهم سلفيون والذين يعتقد إنهم كالنجوم بأيهم اقتدي اهتدي في جعلهم قبره " ص " في وسط المسجد بعد توسيعه وعلي جميع المسلمين إلي اليوم الذين رضوا بذلك وأقروه فيلزم تخطئة الأمة جمعاء من عصر الصحابة إلي اليوم وتصويب الوهابية وحدهم. وما بال الوهابية لم يهدموا المسجد الذي حول قبر النبي " ص " ويجعلوا قبره الشريف خارجا عن المسجد وأقروا هذا المحرم المؤدي إلي الشرك والكفر وقد صار الحجاز بأيديهم ولهم فيه الحول والطول واكتفوا بإقامة بعض جنودهم حول الضريح المقدس بأيديهم عصي الخيزران يمنعون الناس من الدنو إلي القبر الشريف ولمسه وتقبيله ومن لم يمتنع قرعوه بالخيزران وربما قرعوا بالخيزران علي القبر الشريف إعلاما للزائر الغير الملتفت أن لا يدنو من القبر كما حدثنا بذلك جملة من الزوار ولا يمكنون أحدا من الدنو إلا ببذل بعض القطع الفضية فيشيرون إليه من طرف خفي إذا لم يرهم أحد فإن كان المانع لهم خوف هياج الرأي العام الإسلامي فقد هاج عليهم بهدمهم لمشاهد أئمة المسلمين ولم يبالوا. ومما يدل علي جواز بناء المساجد عند قبور الصالحين أو علي قبورهم تبركا بهم قوله تعالي (وقال الذين غلبوا علي أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) في الكشاف " قال الذين غلبوا علي أمرهم " من المسلمين وملكهم وكانوا أولي بهم وبالبناء عليهم لنتخذن علي باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم " انتهي " ونحوه عن تفسير الجلالين عن السنوي في معالم التنزيل قال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لرب

ص: 335

العالمين " انتهي " وعن ابن عباس قال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم علي ديننا انتهي " وعن النيشابوري في غرائب القرآن (الذين غلبوا علي أمرهم) وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولي بهم وبالبناء عليهم حفظا لتربتهم " انتهي " وفي مجمع البيان (قال الذين غلبوا) يعني الملك المؤمن وأصحابه وقيل أولياء أصحاب الكهف من المؤمنين وقيل رؤساء البلد عن الجبائي (لنتخذن عليهم مسجدا) متعبدا وموضعا للعبادة والسجود يتعبد الناس فيه تبركا بهم ودل ذلك علي أن الغلبة كانت للمؤمنين " انتهي " فقد حكي الله تعالي مقالة المسلمين من غير رد عليهم ولا إنكار لعله ذكرها في معرض المدح فيكون ذلك تقريرا لها وأنا حكي الله تعالي قصص الماضين لتعتبر بها هذه الأمة وتقتدي بالحسن منها وتتجنب القبيح. ومن الغرائب ما يحكي عن شارح كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب أنه قال بعد ذكر الآية هذا دليل علي أن الذين غلبوا هم الكفار إذ لو كانوا مؤمنين ما أرادوا أن يتخذوا علي قبور الصالحين مسجدا لأن النبي " ص " لعن فاعل ذلك " انتهي " فكأن معتقدات الوهابية عند هذا الرجل وحي منزل فلذلك تكون ناسخة للقرآن الكريم ويجب حمله عليها ولا يجوز تطبيقها عليه وهل يلتفت إلي هذا الاحتمال السخيف بعد إطباق المفسرين علي خلافه ومنهم ابن عباس ترجمان القرآن وإمام المفسرين ومخالفته لظاهر الآية وسياقها كما يفهم مما مر مع أن ظاهر قوله تعالي (إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا علي أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) إن الجميع كانوا متفقين علي البناء الذي يحرمه الوهابية وإنما كان التنازع في كيفيته فالوهابيون بمنعهم البناء علي القبور قد خالفوا المسلمين والكافرين وقد نجي الله ذلك الملك المسلم ورعيته المسلمين في حياتهم فلم يكن في زمانهم وهابية وإلا لكفروهم بعد إسلامهم وشركوهم بعد توحيدهم لبنائهم مسجدا علي أهل الكهف وتبركهم بهم لكنهم لم يسلموا من الوهابيين بعد موتهم وبعد إن مضي علي موتهم ألوف مؤلفة من السنين فكفروهم بعدما صاروا ترابا في قبورهم. ومما يدل علي جواز بناء المساجد علي القبور ما في وفاء الوفا للسمهودي (1) عن ابن

ص: 336


1- 202. ص 88 ج 2.

شبة عن عبد العزيز بن عمران بسنده إلي محمد بن علي بن أبي طالب في حديث ذكر فيه وفاة فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب. إلي أن قال: فلما توفيت خرج رسول الله " ص " فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة " الحديث " قال السمهودي وقوله في موضع المسجد الخ يقتضي أنه كان علي قبرها مسجد يعرف به في ذلك الزمان " انتهي " (وقوله) في موضع المسجد الخ الظاهر أنه من كلام ابن الحنفية المتوفي سنة 81 فيكون المسجد قبل ذلك وفي وفاء الوفا (1) قال عبد العزيز الغالب عندنا إن مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني علي قبر حمزه " انتهي " وقال قبل ذلك (2) سيأتي عن عبد العزيز بن عمران إنه كان علي قبر حمزه قديما مسجد وذلك في المائة الثانية " انتهي ". الفصل الثاني عشر في الاسراج علي القبور وهذا مما منعه الوهابية محتجين بالحديث المتقدم في الفصل السابق (لعن الله زوارات القبور أو زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج) واستنادا إلي هذه الرواية منع الوهابيون إضاءة قبر النبي " ص " هذه السنة أعني سنة 1346 بعدما كانوا يضيئونه في العام الماضي علي ما أخبرنا به الحجاج (والجواب عن هذا الحديث بضعف السند كما بيناه في الفصل السابق ومع تسليم السند فهو محمول علي صورة عدم المنفعة لانصرافه إلي ذلك فيكون تضييعا للمال أو علي غير قبور الأنبياء والأولياء الذين دل الشرع علي رجحان تعظيمهم أحياء وأمواتا أما إسراجها لقراءة القرآن والأدعية والصلاة وانتفاع الزائرين والبائتين فيها فليس مكروها ولا محرما للنفع الظاهر في ذلك فيكون من التعاون علي البر والتقوي المأمور به في الكتاب المجيد ويكون نظير ما حكي عن الترمذي أنه روي عن ابن عباس أن النبي " ص " دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج قال العزيزي في شرح الجامع الصغير (3) في شرح قوله (والسرج): محل ذلك حيث لا ينتفع بها الأحياء " إلي

ص: 337


1- 203. ص 115 ج 2.
2- 204. ص 105 ج 2.
3- 205. ص 198 ج 3.

أن قال " فإن كان هناك من ينتفع به صح ذلك " انتهي " وقال السندي في حاشية سنن النسائي: والنهي عنه لأنه تضييع مال بلا نفع " انتهي " فدل علي أنه لا نهي حيث يكون هناك نفع (وقال) الشيخ الحنفي في حاشية الجامع الصغير يحرم إسراج القنديل علي قبر ولي ونحوه حيث لم يكن من ينتفع به لما فيه من إضاعة المال لا لغرض شرعي " انتهي ". الفصل الثالث في الدعاء والصلاة عند القبر الشريف وغيره والتوجه إليه عند الدعاء وهذا أيضا مما منعه الوهابية وجعلوه شركا وكفرا (وقال) قدوتهم ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (1) إن الصحابة كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلي الله عليه وآله يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده كما في سائر البقاع " أي لا يتوسلون بالنبي ص " (إلي أن قال) ولهذا لم يذكر أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة ولا أن الصلاة والدعاء هناك أفضل منهما في غيرها بل اتفقوا كلهم علي أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين سميت مشاهد أو لم تسم ثم ذكر بعض الآيات والأخبار الواردة في المساجد كقوله تعالي إنما يعمر مساجد الله وقوله (ص) من بني لله مسجدا بني الله له بيتا في الجنة وقال إنه لم يرد مثلها في المشاهد " انتهي " (ونقول) يدل علي جوازه الصلاة والدعاء عند قبر النبي (ص) وقبور سائر الأنبياء والصالحين عموم وإطلاق ما دل علي جواز الصلاة والدعاء في كل مكان ويدل علي رجحان ذلك ما فهم من الشرع من رجحان الصلاة والدعاء ومطلق العبادة في كل مكان ثبت شرفه في الشرع ولا شك في تشرف المكان بالمكين الموجب لتشرف قبر رسول الله " ص " بحلول جسده الشريف فيه ويدل عليه عمل المسلمين خلفا عن سلف ويدل علي رجحان الدعاء عند قبر النبي " ص " قوله تعالي ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله " الآية " الشامل لحالتي الحياة والموت وأن حرمته (ص) ميتا كحرمته حيا كما قاله مالك للمنصور علي ما مر في التوسل وذكر جميع علماء المسلمين من أهل المذاهب له في كتب

ص: 338


1- 206. ص 159 - 160.

المناسك وذكرهم الدعاء المشتمل علي الاستشهاد بالآية المذكورة ولنعم ما قال شمس الدين الجزري في الحصن الحصين علي ما حكي عنه: إن لم يجب الدعاء عند النبي (ص) ففي أي موضع يستجاب " انتهي " وسيأتي في فصل زيارة القبور إن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمها حمزة في كل جمعة فتصلي وتبكي عنده (وفي رواية) أنها كانت تزور قبور الشهداء بأحد اليومين والثلاثة فتصلي هناك وتدعو وتبكي وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من أئمة السلف إن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة (وأما استقباله " ص " عند الدعاء) فلا مانع منه لقوله تعالي أينما تولوا فثم وجه الله بل هو راجح بقصد التبرك بمواجهته المرجو معها استجابة الدعاء وبقصد التوسل والتشفع به الثابت رجحانه كما بيناه في تضاعيف ما مر بل يدل قول الإمام مالك للمنصور المتقدم في فصل التوسل علي أن استقباله " ص " أفضل من استقبال القبلة أو مساو له ولا ينافي ذلك ما دل علي أن أفضل الجهات جهة القبلة لأن العام يخصص والمطلق يقيد وفي قول المنصور لمالك أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله (ص) دلالة واضحة علي أن الدعاء عند القبر الشريف كان مشهورا معروفا لا يشك أحد في رجحانه وإنما الذي توقف فيه المنصور إن استقبال القبلة حال الدعاء أفضل أم استقبال القبر (أما) قول ابن تيمية: لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة والدعاء عند القبور وفي مشاهدها أفضل منها في غيرها فيكذبه خبر مالك إمام دار الهجرة مع المنصور المشار إليه وأما كون الصلاة والدعاء عند القبور وفي مشاهدها أفضل منهما في غيرهما فيكفي فيه ما دل علي شرف تلك البقاع بشرف من دفن فيها الذي صار ملحقا بالضروريات في شرع الإسلام كما شرف جلد الشاة بكونه جلدا للمصحف وما الذي يمنع من الصلاة لله عندها والأرض كلها لله تعالي وقد قال النبي " ص " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا والصلاة جائزة في كل بقاع الأرض سيما الشريفة منها بعد أن تكون لله تعالي والممنوع منه الصلاة إلي القبر تعظيما له أو السجود له كما مر في فصل اتخاذ المساجد علي القبور أما الصلاة بقربه تبركا بالمكان المدفون فيه فلا مانع منها لثبوت شرف المكان بالمكين ضرورة كما تكرر ذكره والعبادة لله لا للقبر كما أن الصلاة لله في المسجد طلبا لشرف المكان مستحبة وليست عبادة للمسجد فالمسلمون يصلون

ص: 339

عند قبور شرفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم الله مباركين كما يصلون عند المقام الذي هو حجر شرف بملامسة رجل إبراهيم الخليل (ع) لقوله تعالي (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي) الذي يفهم منه إن سبب اتخاذ المصلي عنده تبركه بقيامه عليه ويدعون الله عندها لشرفها أيضا بمن دفن فيها فيكون دعاؤهم عندها أرجي للإجابة كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو أحد الأمكنة أو الأزمنة التي شرفها الله ولكن ابن تيمية تعود بسرد الدعاوي المنفية بلا دليل بل مصادمة للضرورة وتتابع أدوات النفي لترويج مدعياته كما أن دعواه اتفاق أئمة السلف كلهم علي أن الصلاة في البيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين دعوي مجردة عن الدليل فمن هو الذي صرح بذلك من أئمة السلف فضلا عن كلهم فليأتنا بواحد منهم إن كان من الصادقين (وعن الخصائص الكبري للسيوطي) في قصة المعراج عن النبي " ص " قال فركبت ومعي جبرئيل فسرت فقال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسي ثم قال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت صليت ببيت لحم حيث ولد عيسي " انتهي " ومنه يفهم أن محل ولادة عيسي ينبغي الصلاة فيه كطيبة وطور سيناء لفضله وبركته بولادة عيسي فيه أفلا يكون المكان الذي بورك بوجود جسد النبي " ص " فيه مباركا مستحقا لاستحباب الصلاة وعبادة الله تعالي فيه ولا يكون مكان ولادة النبي " ص " مستحقا لأن يتبرك به بل مستحقا للهدم والمحو كما فعلته الوهابية به " وقال ابن القيم " تلميذ ابن تيمية في كتابه زاد المعاد علي ما حكي عنه: إن عاقبة صبر هاجر وابنها علي البعد والوحدة والغربة والتسليم إلي ذبح الولد آلت إلي ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ومتعبدات لهم إلي يوم القيامة " انتهي " فإذا كانت آثار إسماعيل وهاجر لأجل ما مسهما من الأذي مستحقة لجعلها مناسك ومتعبدات فآثار أفضل المرسلين الذي قال ما أوذي نبي قط كما أوذيت لا تستحق أن يعبد الله فيها وتكون عبادة الله عندها والتبرك بها شرا وكفرا! وقد كانت عائشة ساكنة في الغرفة التي دفن فيها النبي " ص " وبقيت ساكنة فيها بعد دفنه ودفن صاحبيه وكانت تصلي فيها وذلك يبطل قول الوهابية بعدم جواز الصلاة عند القبور كما مر في فصل البناء علي القبور.

ص: 340

الفصل الرابع عشر في تعظيم القبور وأصحابها والتبرك بها بما لم ينص الشرع علي تحريمه من لمس وتقبيل لها ولأعتاب مشاهدها وتمسح بها وطواف حولها ونحو ذلك وهذا مما منعه الوهابية وكفروا به المسلمين وأشركوهم وسموهم القبوريين وعباد القبور ونحو ذلك صرح به الصنعاني في كلامه السابق في الباب الأول حيث عد الطواف بالقبور والتبرك والتمسح بها من موجبات الشرك وإنه كفعل الجاهلية للأصنام والأوثان والوهابيون في كتابهم إلي شيخ الركب المغربي المتقدم هناك حيث جعلوا تعظيم قبور الأنبياء والأولياء ببناء القباب والإسراج والصلاة عندها وغير ذلك من الشرك وعبادة الأوثان وصرح بذلك أيضا غير من ذكر. (ونقول) تعظيم قبور الأنبياء والصلحاء بل سائر المؤمنين وأصحابها أحياء وأمواتا بما لم ينص الشرع علي تحريمه (1) راجح عقلا وشرعا لا مانع منه ولا محذور فيه لأنه من تعظيم شعائر الدين (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب) ولم يدل دليل علي تحريمه فيبقي داخلا في العموم مع حكم العقل بحسن تعظيم كل قريب إلي الله حيا وميتا ولا يعد ذلك عبادة لها كما توهمه الوهابية لأنه ليس كل تعظيم أو خضوع أو تذلل بقيام أو غيره يكون عبادة ويوجب شركا وكفرا أو يكون محرما فقد عرفت في المقدمات أن العبادة المنهي عنها لغير الله والتي توجب الشرك والكفر ليست العبادة اللغوية قطعا التي تشمل مطلق التعظيم والخضوع وأن تعظيم القبور ومن فيها والقيام والخضوع عندها لا يدخل في ذلك بل تعظيمها عبادة وطاعة لله تعالي لأن تعظيم من عظمه الله طاعة لله وعبادة وتعظيم له وخضوع له كما مر في المقدمات وليس عبادة للمعظم موجبة للشرك والكفر (أما) إن الأنبياء والصلحاء ممن يستحق التعظيم عنده تعالي وإن لهم حرمة وشأنا وشرفا وفضلا وبركة أحياء وأمواتا فلأنهم أنبياء الله ورسله الذين اختارهم واجتباهم برسالته وميزهم علي جميع خلقه وجعلهم أمناء شرعه ودينه والصالحون هم أحباء الله المطيعون لأمره ونهيه فحرمتهم أحياء وأمواتا لا يشك فيها مسلم وهو عند المسلمين ملحق بالضروريات

ص: 341


1- 207. مثل السجود لها والصلاة إليها كما يصلي إلي الوثن - المؤلف -.

فالنبي والصالح لا تسقط حرمته بموته وقد قال الإمام مالك للمنصور كما مر في فصل التوسل أن حرمة النبي (ص) ميتا كحرمته حيا واعترف الوهابية في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية بأن رتبة النبي " ص " أعلي مراتب المخلوقين وأنه حي في قبره حياة برزخية وأن من أنفق نفيس أوقاته بالصلاة عليه فقد فاز بسعادة الدارين وإن كان المنقول عنهم كما مر أنهم يقولون النبي طارش وعصا أحدنا أنفع له منه إلا أن ضرورة دين الإسلام تقضي بخلاف هذا وأن المكان يتشرف بالمكين وينال به الفضل والبركة وإذا ثبتت حرمة الأنبياء والصالحين أحياء وأمواتا فبدفنهم في مكان يكتسب ذلك المكان شرفا وفضلا وبركة ويستحق التعظيم كما يستحق جلد الشاة التعظيم بجعله جلدا للمصحف وينال البركة والفضل بمجاورة المصحف فيجب تعظيمه وتحرم إهانته وتنجيسه وكما أن من احترام المصحف احترام جلده فمن احترام الأنبياء والصلحاء احترام قبورهم المتشرفة بأجسادهم الشريفة فتعظيم هذه القبور واحترامها هو بأمر الله الذي جعلها محترمة معظمة لأنها قبور أنبيائه ورسله الذي أمر باحترامهم وتعظيمهم فيكون عبادة لله تعالي لأن كلما كان عن أمر الله فهو طاعة وعبادة لله وذلك كتعظيم الأخ في الله واحترامه والأبوين وخفض جناح الذل لهما والمسجد والكعبة والحرم والمقام والحجر بكسر الحاء والحجر الأسود وغيرها (والحجر) هو منزل إسماعيل وأمه عليهما السلام ومدفنهما فإن إبراهيم عليه السلام لما ذهب بهاجر وإسماعيل إلي مكة عمد بها إلي موضع الحجر وأمرها أن تتخذ فيه عريشا ولما ماتت دفنها إسماعيل في الحجر فلما مات إسماعيل وعمره مائة وثلاثون عاما دفن مع أمه في الحجر ذكر ذلك قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة نقلا عن الأزرقي (1) وقد أوجب الله احترام النبي " ص " غاية الاحترام فقال يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض (ولو كان) احترام قبور الأنبياء والصلحاء عبادة لها وشركا لكان تعظيم الكعبة والطواف بها والحجر الأسود وتقبيله والحجر والمقام والمساجد والمشاعر والأبوين وإطاعتهما وخفض جناح الذل لهما وغض الأصوات عند رسول الله " ص " وخفضه جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وسجود الملائكة لآدم وسجود إخوة يوسف وأبويه له وتعظيم الجنود لأمرائهم والصحابة للنبي " ص " وللخلفاء والأنبياء لآبائهم وأماتهم وقيامهم وخضوعهم لهم والوهابية للسلطان ابن سعود وغير ذلك كله عبادة لغير الله وشركا ولم يسلم من الشرك

ص: 342


1- 208. راجع ص 22 و 27 من تاريخ مكة بهامش خلاصة الكلام.

نبي فمن دونه " لا يقال " التعظيم الذي نص الشرع عليه وأمر به لا كلام لنا فيه إنما لكلام فيما لم ينص عليه الشرع (لأنا نقول) إذا فرض أن كل تعظيم عبادة وكل عبادة لغير الله شرك يكون الله تعالي قد أمر بالشرك ورضيه وأحبه وذلك باطل لقبح الشرك عقلا ونقلا (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ولا يمكن أن يرخص الله تعالي في الشرك، وورد الأمر به لا يرفع الشركية لأن ما هو شرك قبل الأمر لا يصير توحيدا بالأمر به إذ الحكم لا يغير الموضوع كما مر في المقدمات مع أنه كما يقال بورود الشرع بتعظيم هذه المذكورات يقال بوروده بتعظيم قبور الأنبياء والصالحين لما عرفت من أن فضلها وبركتها الموجب لتعظيمها ثابت بضرورة الشرع وكيف أمر الله بتعظيم المقام وما هو إلا صخرة تشرفت بقيام إبراهيم عليه السلام عليها حين بناء البيت وبأثر قدمه ولم تكن وثنا معبودا ولا معظمها كافرا ولا مشركا وكان معظم قبر إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وقبر محمد (ص) سيد ولد آدم الذين حويا جسديهما الشريفين كافرا ومشركا سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وتوهم ورود النهي عن تعظيم القبور بينا فساده في محاله " ويكفي " في حرمة القبور وشرفها وفضلها وبركتها إيصاء الصاحبين أن يدفنا مع النبي " ص " وقد عد دفنهما معه أعظم منقبة لهما ولو كانت القبور ليس لها حرمة وشرف ولا ترجي بركتها وبركة جوارها فما الموجب لذلك ولما أراد بنو هاشم تجديد العهد بالحسن بن علي " ع " بجده " ص " وظن بنو أمية وأعوانهم أنهم يريدون دفنه عند جده لبسوا السلاح ومنعوهم أشد المنع قائلين أيدفن عثمان في أقصي البقيع ويدفن الحسن عند جده وإذا لم يكن للقبر حرمة ولا شرف وبركة ترجي فلماذا يأتي بنو هاشم بجنازة الحسن ليجددوا به عهدا بجده " ص " بوصية منه وهل هذا إلا عين التوسل والتبرك بالنبي " ص " وبقبره بعد الموت الذي أنكره الوهابية وجعلوه شركا وهل أشرك الحسن " ع " وبنو هاشم بفعلهم هذا وجهلوا معني التوحيد الذي عرفه أعراب نجد إذا لم يكن للقبور شرف وحرمة فلماذا يتأسف بنو أمية لدفن عثمان في أقصي البقيع ويمنعون من دفن الحسن عند جده كل ذلك دال علي شرف البقعة وفضلها عند عموم المسلمين بشرف من فيها وإن الدفن فيها طلبا لشرفها وبركتها أمر راجح مطلوب محبوب تراق دونه الدماء وتزهق النفوس " وحينئذ " فقياسهم تعظيم قبور الأنبياء والصالحين بتعظيم الأصنام والأوثان التي لم يجعل الله لها حرمة

ص: 343

ونهي عن تعظيمها سواء كانت صور قوم صالحين أو غيرها قياس فاسد وجهل فاضح (وقال) صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) ما معناه: إن تعظيم القبور تعظيما دينيا من أعمال الشرك (ثم قال) حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان اعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأي رجلا في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي مستقبل القبر مستدبر القبلة فظنه أعمي وجاء ليحوله إلي القبلة فرآه بصيرا وأبي أن يتحول فأمر بإخراجه (إلي أن قال) ما حاصله: إن تعظيم القبور تعظيما دينيا كان سببا لمنكرات كثيرة وإن استحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كفر وخروج عن الملة (انتهي). وقد عرفت مما بيناه وأوضحناه أن تعظيم قبور الأنبياء والصالحين تعظيما دينيا من الأمور المندوب إليها في الشرع كتعظيم نفس الأنبياء والصالحين وأن حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء وأنه كتعظيم جلد الشاة المعمول جلدا للمصحف لا يشك في ذلك إلا جاهل أو معاند وما حكاه عن هذا الشريف لم نسمع بمثله في شئ من بلاد الإسلام لا من الخواص ولا من أجهل العوام ولا نظنه إلا فرية وأن فرض صدقة لا يوجب أن يكون كل تعظيم شركا وكفرا فهل إذا عظمت السبائية عليا (ع) وأوصلته إلي درجة الألوهية (1) يكون كل تعظيم له شركا. ويدخل في حكمه علي استحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة بأنه كفر وخروج من الملة تعظيم قبر النبي " ص " والتبرك به فإن المسلمين قد أجمعوا علي ذلك في جميع الأعصار والأمصار قولا وعملا حتي وصل إلي حد الضرورة ولم يخالف فيه غير الطائفة الوهابية. وأما التبرك بقبر النبي " ص " بلمس وتقبيل وتمسح به وطواف حوله ونحو ذلك فالحق جوازه ورجحانه لما ستعرف من الأدلة الكثيرة الدالة عليه " أما " علماء أهل السنة فاختلفوا في جوازه واستحبابه وكراهته ولكن من كرهه إنما كرهه بزعم منافاته للأدب كما ستعرف قال السمهودي في كتاب وفاء الوفا (2) قال النووي لا يجوز الطواف بقبره (ص) ويكره الصاق البطن والظهر بجدار القبر قاله الحليمي وغيره قال ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته هذا هو

ص: 344


1- 209. إن صح ذلك.
2- 210. ص 442 - 445 ج 2.

الصواب الذي أطبق عليه العلماء ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء وفي الأحياء مس المشاهد وتقبيلها عادة النصاري واليهود قال الزعفراني وضع اليد علي القبر ومسه وتقبيله بدعة من البدع التي تنكر شرعا وروي أن أنس بن مالك رأي رجلا وضع يده علي قبر النبي " ص " فنهاه وقال ما كنا نعرف هذا علي عهد رسول الله " ص " وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشد الانكار وقال بعض العلماء إن قصد بوضع اليد مصافحة الميت يرجي أن لا يكون به حرج ومتابعة الجمهور أحق وفي تحفة ابن عساكر ليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس ولا أن يقبله ولا يطوف كما يفعل الجهال بل يكره ذلك ولا (1) يجوز والوقوف من بعد أقرب إلي الاحترام ثم روي من طريق أبي نعيم بسنده أن ابن عمر كان يكره أن يكثر مس قبر النبي " ص " قال البرهان بن فرحون بعد ذكره وهذا تقييد لما تقدم وهو عن ابن عمر في القبر نفسه فالجدر الظاهرة أخف إذا لم يكثر منه وعن تأليف ابن تيمية قيل لأحمد بن حنبل أنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وأهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية ويسلمون فقال نعم هكذا كان ابن عمر يفعل وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل قبر النبي " ص " يلمس ويتمسح به قال لا أعرف هذا قلت فالمنبر قال أما المنبر فنعم قد جاء فيه شئ يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح المنبر ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة أي رمانة المنبر قبل احتراقه ويروي عن يحيي بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلي العراق جاء إلي المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن (2) ذلك قال السروجي الحنفي لا يلصق بطنه بالجدار ولا يمسه بيده وعن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر لا يلصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا وقال ابن قدامة من الحنابلة لا يستحب التمسح بحائط قبر النبي (ص) ولا يقبله وحكي العزيز بن جماعة عن كتاب العلل والسؤالات

ص: 345


1- 211. أولا " ظ ".
2- 212. يحتمل رجوع الضمير في استحسن إلي مالك ويحتمل إلي ابن حنبل - المؤلف -.

لعبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله (ص) ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالي قال لا بأس قال العز بن جماعة وهذا يبطل ما نقل عن النووي من الاجماع وقال السبكي في الرد علي ابن تيمية إن عدم التمسح بالقبر ليس مما قام الاجماع عليه فقد روي أبو الحسين يحيي بن الحسين بن جعفر في أخبار المدينة عن عمر بن خالد عن أبي نباته عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أقبل مروان بن الحكم فإذا رجل ملتزم القبر فأخذ مروان برقته ثم قال هل تدري ماذا تصنع فقال إني لم آت الحجر ولم آت اللبن إنما جئت رسول الله " ص " سمعت رسول الله " ص " يقول لا تبكوا علي الدين إذا وليه أهله ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله قال المطلب وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري وقال السمهودي في مقام آخر (1) رواه أحمد بسند حسن عن عبد الملك بن عمرو عن كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح وذكر مثله إلا أنه لم يذكروا اللبن " قال " ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وتقدم في المبحث الثاني تمريغ بلال وجهه علي القبر لما جاء لزيارته " ص " " قال " وفي تحفة ابن عساكر من طريق طاهر بن يحيي عن الحسيني عن أبيه عن جده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال لما رمس رسول الله " ص " جاءت فاطمة فوقفت علي قبره وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها علي عينها وبكت وأنشأت تقول: ماذا علي من شم تربة أحمد أن لا يشم مدي الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها صبت علي الأيام عدن لياليا قال وذكر الخطيب ابن حملة أن ابن عمر كان يضع يده اليمني علي القبر الشريف وأن بلالا وضع خده عليه " إلي أن قال " ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل علي الإذن في ذلك والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرن إليه وأناس فيهم أناة والكل محل خير وقال الحافظ ابن حجر استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره " إلي أن قال " ونقل عن

ص: 346


1- 213. ص 410 ج 2.

ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه يجوز تقبيل القبر ومسه قال وعليه عمل العلماء الصالحين وأنشد: أمر علي الديار ديار ليلي أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وعن أبي خيثمة عن مصعب بن عبد الله عن إسماعيل بن يعقوب التيمي كان ابن المنكدر يصيبه الصمات فكان يقوم كما هو يضع خده علي قبر النبي " ص " فعوتب في ذلك فقال إنه يصيبني خطرة فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي " ص " وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع فقيل له في ذلك فقال إني رأيت النبي " ص " في هذا الموضع أراه قال في النوم " انتهي ما أردنا نقله وفاء الوفا " وبذلك ظهر أن جملة ممن كره الصاق البطن والظهر والمسح باليد أو إكثاره والتقبيل وإطالة الوقوف إنما قال به لمنافاته الأدب والاحترام بزعمه كما يدل عليه قول الحليمي بل الأدب أن يبعد منه الخ وقول ابن عساكر والوقوف من بعد أقرب إلي الاحترام وما حكي عن ابن عمر من كراهته إكثار المس لا أصل المس فكأنه رأي أن في إكثار المس سوء أدب وكذا إطالة الوقوف التي في كتاب الهندي لا لكونه عبادة وكيف يتوهم فيما جعل منافيا للاحترام أنه عبادة وبعضهم كرهه لزعم أنه بدعة كما في كلام الزعفراني ويدل عليه قول مالك ما كنا نعرف هذا علي عهد رسول الله (ص) وقول ابن عساكر ليس من السنة وقول أحمد هكذا كان ابن عمر يفعل وقول الغزالي إنه عادة النصاري واليهود وغير ذلك من كلماتهم وكذلك منع الطواف به لزعم أنه بدعة أو لشبهة بالطواف بالكعبة المشرفة وكيف كان فليس في شئ من كلماتهم أنه عبادة للقبر كما تزعمه الوهابية " والتحقيق " أنه لا كراهة ولا تحريم في شئ من ذلك إذ لا يقصد به سوي التبرك وهو جائز وراجح إذ لا يشك مسلم بأن القبر الذي حول جسد النبي " ص " مبارك قد نالته بركة جسده سيما إذا قلنا بحياته البرزخية في قبره التي لا تنكرها الوهابية كما مر في المقدمات وإذا كان كذلك فلا مانع من التبرك بقبره الشريف بجميع أنواع التبرك من تقبيل ولمس والصاق بدن وطواف حوله وغير ذلك (قال) قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن السبكي في محكي

ص: 347

كتابه شفاء السقام في زيارة خير الأنام الذي يرد به علي ابن تيمية: نحن نقطع ببطلان كلامه " أي ابن تيمية " وإن المعلوم من الدين وسيرة السلف الصالحين التبرك ببعض الموتي من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين ومن ادعي أن قبور الأنبياء وغيرهم من الموتي المسلمين سواء فقد أتي أمرا عظيما نقطع ببطلانه وخطائه وفيه حط لرتبة النبي (ص) إلي درجة غيره من المؤمنين وذلك كفر بيقين فإن من حط رتبة النبي (ص) عما يجب له فقد كفر (فإن قال) إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له (قلت) هذا جهل وسوء أدب ونحن نقطع بأن النبي (ص) يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شئ من الإيمان " انتهي ". وتوهم أن ذلك أو بعضه بدعة توهم فاسد لما عرفت في المقدمات من أنه يكفي في كون الشئ سنة دخوله في عمومات أدلة الشرع وفحاويها ولا يلزم النص عليه بخصوصه وقد فهم ضرورة من الشرع أن في القبر الذي ضم جسد سيد ولد آدم وأشرف المخلوقات بركة وأن له فضلا وذلك كاف في جواز التبرك به بجميع أنواع التبرك التي يرجي بها نيل بركته وما مر عن أحمد من أنه كان ينكره أشد الانكار معارض بما مر من حكاية ولده عنه الترخيص فيه وقوله هكذا كان ابن عمر يفعل لا يدل علي ترجيحه لفعله ولا يبعد أن يكون ترك ابن عمر له لظنه أن غيره أقرب إلي الأدب مع أنه معارض بما مر من أنه كان يضع يده علي القبر وأنه كره إكثار المس لا أصله وكراهته الاكثار لظن منافاته الأدب ومعارض بما مر من التزام أبي أيوب الأنصاري للقبر ورده علي مروان ذلك الرد ومن تمريغ بلال وجهه ووضع خده عليه ووضع الزهراء ترابه علي عينها واستشفاء ابن المنكدر به بوضع خده عليه وبالموضع الذي رآه فيه في النوم بتمرغه واضطجاعه فيه والاستشفاء أعظم من التبرك ولذلك أجازه أبو الصيف أحد علماء مكة والمحب الطبري وقال إن عليه عمل العلماء كما مر مع أن ابن عمر وسعيد ابن المسيب ويحيي ابن سعيد شيخ مالك تبركوا بمسح المنبر كما مر الذي نال البركة بجلوس رسول الله (ص) برهة من الزمان فكيف بقبره الذي بورك بوجود جسده الشريف علي ممر الدهور والأعوام ولذلك استنبط بعض العلماء من تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من حجر وغيره وقد قال عمر إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله " ص " يقبلك ما قبلتك رواه ابن ماجة ولذلك جوز أحد علماء مكة

ص: 348

تقبيل المصحف وأجزاء الحديث كما مر وتقبيل المصحف عليه عمل المسلمين كلهم جيلا بعد جيل وروي أن النبي " ص " طاف راكبا وكان يستلم الركن بمحجنه ويقبل المحجن (1) رواه مسلم (2) وابن ماجة (3) وإذا جاز تقبيل المحجن لملامسة الركن أفلا يجوز تقبيل قبر حل فيه رسول الله " ص " " لا يقال " إنما يجوز تقبيل المحجن اقتداء بفعل رسول الله (ص) ولو رأيناه يقبل القبر ما توقفنا في جوازه والعبادة مبناها علي الاتباع (لأنا نقول) استفدنا من تقبيله المحجن الذي تبرك بملامسة الركن جواز تقبيل كل مستحق للتعظيم علي نحو ما استفاد ذلك بعض العلماء من تقبيل الحجر الأسود كما مر وحكي القسطلاني في إرشاد الساري (4) عن أصحاب المذاهب استلامه باليد وتقبيلها والإشارة إليه باليدين وتقبيلهما (ولو) كان تقبيل قبر النبي (ص) عبادة له أو للقبر لكان تقبيل يده أو بدنه الشريف في حياته وبعد موته عبادة له لعدم تصور الفرق مع أنه قد روي أحمد بن حنبل في مسنده (5) بسنده عن ابن عمر أنه قبل يد النبي " ص " " وقد " قبل سواد بن غزية بطن رسول الله " ص " في غزوة بدر نقله في السيرة الحلبية (6) وأقره (ص) علي ذلك وقبل كشحه سواد بن عمرو ولم ينهه رواه أبو داود كما في السيرة الحلبية (وفيها أيضا) عن الخصائص الصغري: من خصائصه (ص) أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار " أقول " وليس ذلك إلا ببركة بدنه الشريف فمن التصق بقبره الذي بورك بالتصاقه ببدنه الشريف يرجي له ذلك (وأخرج) ابن ماجة في سننه أن أبا بكر قبل النبي " ص " وهو ميت " وعن " كفاية الشعبي وفتاوي الغرائب ومطالب المؤمنين وخزانة الرواية ما هذا لفظه: لا بأس بتقبيل قبر الوالدين لأن رجلا جاء إلي النبي " ص " فقال يا رسول الله إني حلفت أن أقبل عتبة باب الجنة وجبهة حور العين فأمره أن يقبل رجل الأم وجبهة الأب قال يا رسول الله إن لم يكن أبواي حيين قال قبل قبرهما قال فإن لم أعرف قبرهما قال خط خطين انو أحدهما قبر الأم والآخر قبر الأب فقبلهما فلا تحنث في يمينك " ومر " في فصل الدعاء والاستغاثة تمسح الناس بالعباس لما استسقي به عمر فسقوا (وعن القاضي

ص: 349


1- 214. بكسر الميم وسكون الحاء المهملة ونون عصا محنية الرأس - المؤلف -.
2- 215. صفحة 380 ج 5 بهامش إرشاد الساري.
3- 216. صفحة 115 ج 2.
4- 217. صفحة 161 ج 2.
5- 218. صفحة 23 ج 2.
6- 219. صفحة 171 ج 2 طبع عام 1320.

عياض) في شرح الشفا أنه رئي ابن عمر واضعا يده علي قبر النبي " ص " من المنبر ثم وضعها علي جبهته. أفيجوز التبرك بمقعد النبي " ص " من المنبر ولا يجوز التبرك بقبره الذي ضم جسده الشريف (أما قول الغزالي) إن مس المشاهد وتقبيلها عادة النصاري واليهود فيرده ما سمعت من أنه عادة المسلمين أيضا أكابرهم وأصاغرهم وكونه عادة النصاري واليهود لا يصير دليلا علي منعه بعد أن ثبت من الشرع جوازه كما عرفت (أما) توهم أن اللمس أو كثرته والصاق البطن والظهر وإطالة الوقوف منافية للآداب فتوهم فاسد لأن فعل ذلك بقصد التبرك من تمام الأدب والاحترام وكذا إكثاره وإطالة الوقوف طلبا لزيادة البركة والثواب ليس فيه شئ من منافيات الآداب (أما الطواف بالقبر) فإن أريد به أنه مأمور به بخصوصه وأنه عبادة خاصة كالطواف بالكعبة فهو تشريع محرم لكن هذا لا يقصده أحد وإنما يقصد الطائف حصول البركة بل المبالغة في حصولها حتي لا يبقي جانب من القبر إلا وتناله بركته وكونه شبيها بالطواف بالكعبة لا يوجب حرمته فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوي ليس كل شبيه بالعبادة يكون ممنوعا وإلا لحرم تقبيل الآدمي رحمة وتقبيل الميت لمشابهته تقبيل الحجر الأسود ولا يقول به أحد (وفي تاريخ مكة المكرمة) المسمي بالإعلام بأعلام بيت الله الحرام لقطب الدين الحنفي (1) عن قصص الأنبياء أن إبراهيم عليه السلام لما جاء لزيارة ولده إسماعيل بمكة جاءته زوجة إسماعيل بحجر وهو حجر المقام الذي بني عليه الكعبة فجلس عليه فغاصت رجلاه في الحجر فغسلت شقيه الأيمن والأيسر وأفاضت الماء علي رأسه وبدنه وانصرف فلما جاء إسماعيل وجد رائحة أبيه فسأل زوجته فأخبرته وقالت هذا موضع قدميه فقبل موضع قدم أبيه من الحجر وحفظه يتبرك به إلي أن بني عليه فيما بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكعبة (انتهي) فهل كفر أيها الوهابيون إسماعيل بتقبيله موضع قدم أبيه وتبركه بحجر وقف عليه أبوه وهل هذا الحجر بوقوف إبراهيم " ع " عليه صار أشرف من بقعة ضمت جسد سيد الأنبياء محمد (ص) التي جعلتم تقبيلها والتبرك بها شركا وكفرا (والعجب) أن الوهابيين منعوا الناس من التبرك بالبناء الذي علي مقام إبراهيم عليه السلام ومن لمسه وتقبيله وأخبرنا في هذه السنة أن بعض الحجاج لمس القفل

ص: 350


1- 220. ص 24 بهامش خلاصة الكلام طبع مصر.

الذي علي باب المقام فضربوه ضربا مبرحا أدي به إلي قذف الدم والخطر علي الحياة فالمقام الذي بلغ من فضله عند الله تعالي ببركة وقوف خليله إبراهيم عليه أن أمر بأن يتخذ مصلي بقوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي) لا يستحق أن يتبرك بما جاوره عند الوهابيين لقد ردوا بفعلهم هذا علي الله وحادوه وعملوا بضد ما أمر به (وروي) السمهودي في وفاء الوفا (1) عن يحيي بن عباد أنه روي أن بيت فاطمة الزهراء لما أخرجوا منه فاطمة بنت حسين وزوجها حسن بن حسن وهدموا البيت بعث حسن ابنه جعفر وكان أسن ولده وقال أنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا هل يدخلونه في بنيانهم فرصدهم حتي رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر فأخبر أباه فخر ساجدا وقال ذلك حجر كان رسول الله (ص) يصلي إليه إذا دخل إلي فاطمة أو كانت فاطمة تصلي إليه الشك من يحيي وقال علي بن موسي الرضا ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين (ع) علي ذلك الحجر قال يحيي ورأيت الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسين ولم أر فينا رجلا أفضل منه إذا اشتكي شيئا من جسده كشف الحصي عن الحجر فيتمسح به الحديث ومر تمامه في الفصل التاسع في تفصيل بناء الحجرة الشريفة فإذا كانت هذه حرمة حجر نال البركة بولادة الزهراء ولديها الحسنين عليه وبصلاتها أو صلاة أبيها " ص " إليه وهذه حال خيار السلف الذين يدعي الوهابية الاقتداء بهم بالنسبة إليه وهم في قرنه أو القريب منه الذي رووا أنه خير القرون فكيف بتربة ضمت جسد أبيها وجسدها الشريفين ألا يحق التبرك والتمسح والاستشفاء بها وطلب الحوائج من الله عندها أيها الإخوان؟ في وفاء الوفا (2) نقلا عن ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران في حديث أنه لما توفيت فاطمة بنت أسد نزل النبي " ص " فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثم نزع قميصه فأمر أن تكفن فيه وقال ما أعفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد قيل يا رسول الله ولا القاسم قال ولا إبراهيم وكان إبراهيم أصغرهما " قال " وروي ابن شبة عن جابر بن عبد الله أنه لما أخبر " ص " بوفاتها نزع قميصه فقال إذا غسلتموها فاشعروها إياه تحت أكفانها وأنه تمعك في اللحد فقيل يا رسول الله رأيناك صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما نزعك قميصك وتمعكك في اللحد قال أما قميصي فأريد أن لا تمسها النار أبدا

ص: 351


1- 221. ص 408 ج ل.
2- 222. ص 88 ج 2.

إن شاء الله تعالي وأما تمعكي في اللحد فأردت أن يوسع الله عليها في قبرها (قال) وروي ابن عبد البر عن ابن عباس أنها لما ماتت ألبسها رسول الله " ص " قميصه واضطجع معها في قبرها فقالوا ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه فقال إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر لي منها إنما لبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها (انتهي) فهذا صريح في حصول البركة لقبرها رضوان الله عليها باضطجاعه (ص) وتمعكه فيه بحيث صار ذلك موجبا لرفع ضغطة القبر عنها التي لم يسلم منها ولد رسول الله (ص) الرضيع وفي حصول البركة للقميص بمماسة جسد رسول الله " ص " بحيث تفيد مماسته لبدنها نجاتها من النار واللبس من حلل الجنة فكيف ينكر بعد هذا إن لمس قبره الذي تبرك وتشرف بملامسة جسده المبارك الشريف ومجاورته موجب للبركة ونيل خير الدنيا والآخرة ويجعل كفرا وشركا لولا الخذلان والحرمان. وفي وفاء الوفا (1) عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أوصي أن يدفن عند عثمان بن مظعون فدفن هناك (وفيه) أنه روي ابن سعد في طبقاته عن أبي عبيدة بن عبد الله أن ابن مسعود قال ادفنوني عند قبر عثمان ابن مظعون (انتهي) وذلك قصدا إلي التبرك بجواره ولأن النبي أمر بدفن ابنه إبراهيم عنده كما في وفاء الوفا. قال السمهودي في وفاء الوفا (2) انعقد الاجماع علي تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتي علي الكعبة وأجمعوا علي تفضيل مكة والمدينة علي سائر البلاد واختلفوا أيهما أفضل فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلي تفضيل المدينة وأحسن بعضهم فقال الخلاف في غير الكعبة فهي أفضل من المدينة ما عدي ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا قال وحكاية الاجماع علي تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض والقاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب بن جملة ونقله أبو اليمن بن عساكر وغيرهم مع التصريح بالتفضيل علي الكعبة ونقل التاج الفاكهي نفي الخلاف عن ذلك (انتهي) وهل نالت المدينة المنورة هذا الفضل العظيم حتي صارت أفضل من مكة أو ما عدي الكعبة إلا بوجود النبي (ص) فيها حيا وميتا وإذا كان محل القبر الشريف

ص: 352


1- 223. ص 89 ج 2.
2- 224. ص 19 ج 1.

صار يفضل علي الكعبة المعظمة ويدعي علي ذلك الاجماع أفلا يستحق أن يعظم ويتبرك به؟ ويكون تعظيمه والتبرك به شركا وكفرا كعبادة الأصنام! (وعقد السمهودي) عدة فصول أورد فيها ما روي في الحث علي حفظ أهلها وإكرامهم وأنهم جيرانه (ص) والتحريض علي الموت بها والدعاء بذلك وعلي المجاورة بها والدعاء لها ولأهلها وعصمتها من الدجال والطاعون والأحاديث الواردة في تحريمها وغير ذلك وغير خفي أنها إنما حازت كل هذه الفضائل بتشرفها بهجرته " ص " إليها وسكناه بها حيا وميتا وإلا كانت كسائر البلاد فإذا كانت إنما حازت هذا الشرف به " ص " وبقبره الشريف أفلا يسوغ أن يتبرك بقبر من هذه بركته وهذه حرمته عند الله تعالي؟ ويكون التبرك به شركا وكفرا! " وعن " الصديق حسن الحنبلي عن الإمام مالك أنه مع ضعفه وكبر سنه لم يركب قط في أرض المدينة وكان يقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله " ص " مدفونة " انتهي " ومع كل هذا يجعل الوهابيون التبرك بقبر رسول الله (ص) شركا وكفرا. ومن ذلك يظهر أن قول بعض الوهابيين في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية خطابا لأهل مكة: من جمع بين سنة رسول الله (ص) في القبور وما أمر به ونهي عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما أنتم عليه اليوم من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما وجد أحدهما مضادا للآخر مناقضا له إلي آخر ما قال - أحق بأن يقلب عليه فيقال: من جمع بين منعكم من تعظيم قبر النبي (ص) والتبرك والتمسح به وبين ما قدمناه مما أثر عن النبي (ص) وأصحابه وجد أحدهما مضادا للآخر مناقضا له (وأما) استشهاد الوهابيين بخبر يغوث ويعوق ونسر التي هي أسماء قوم صالحين فلا شاهد فيه لأن الذم ليس علي التبرك بهؤلاء الصالحين وبقبورهم بل علي عبادة صورهم فقد ذكر المفسرون أن الآباء تبركت بهم والأبناء عبدت صورهم فالذم للأبناء علي العبادة لا للآباء علي التبرك. الفصل الخامس عشر في اتخاذ الخدمة والسدنة لقبور الأنبياء والأولياء والصلحاء واتخاذها أعيادا وهذا مما منعه الوهابية وصرحوا في كتابهم لشيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني بأن اتخاذها أعيادا وجعل السدنة لها شرك وكفر وعبادة للقبور لزعمهم أن كل

ص: 353

تعظيم لها فهو عبادة وأنها صارت بذلك أصناما وأوثانا وأن جعل الخدمة والسدنة لها كما كان يجعل المشركون السدنة لأوثانهم. وهذا جهل منهم لما بيناه مرارا في الفصول السابقة وفي تضاعيف كلماتنا من أن تعظيم من يستحق التعظيم واحترام من هو أهل للاحترام ليس عبادة له ما لم يعظم بشئ من خواص الربوبية كالسجود ونحوه وأن تعظيم المشركين لأصنامهم بجعل السدنة لها وغيره تعظيم لغير من عظمه الله ولمن نهي الله عن تعظيمه ولم يجعل له حرمة لكونه حجرا أو شجرا ونحو ذلك سواء كان علي صورة نبي أو صالح أو لا أما قبور الأنبياء والصلحاء فقد شرفها الله وأوجب تعظيمها بتضمنها لجسد وليه ونبيه فمن عظمها فقد عظم الله تعالي وأطاع أمره ومن تعظيمها جعل السدنة والخدمة لها ليحفظوها من وقوع القاذورات والأوساخ عليها ويعينوا زوارها علي حوائجهم ويسرجوا حولها ويفرشوا لمن أراد عبادة الله عندها بصلاة أو قراءة قرآن أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك مما أمر الله به وشرعه في كل زمان ومكان سيما الأمكنة الشريفة كمشاهد الأنبياء والصلحاء (وأما) اتخاذها أعيادا فقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (1) : وفي السنن عنه (ص) أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني (أقول) وأورد هذا الحديث السمهودي في وفاء الوفا (2) هكذا: لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا " الحديث " (وفي رواية له) بدل وصلوا علي الخ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم (وفي رواية) لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر ثم قال ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. ومع تسليم سند هذا الحديث فقوله لا تتخذوا قبري عيدا لا يخلو من إجمال قال السمهودي: قال الحافظ المنذري يحتمل أن يكون المراد به الحث علي كثرة زيارة قبره " ص " وأن لا يهمل حتي يكون كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين قال ويؤيده قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تتركوا الصلاة فيها حتي تجعلوها كالقبور التي لا يصلي فيها. قال السبكي ويحتمل لا تتخذوا له وقتا مخصوصا ويحتمل لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك بل لا يؤتي إلا للزيارة والسلام والدعاء " انتهي " (وروي) السمهودي في وفاء الوفا أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي (ص) ويصلي عليه

ص: 354


1- 225. ص 159.
2- 226. ص 416 ج 2.

ويصنع من ذلك ما انتهزه عليه علي بن الحسين بن علي عليهم السلام فقال ما يحملك علي هذا قال أحب التسليم علي النبي (ص) فقال أخبرني أبي عن جدي أن رسول الله (ص) قال لا تجعلوا قبري عيدا " الحديث " (قال) فهذا يبين أن ذلك الرجل زاد في الحد فيكون علي بن الحسين موافقا لمالك في كراهة الاكثار من الوقوف بالقبر وليس إنكارا لأصل الزيارة أو أنه أراد تعليمه أن السلام يبلغه مع الغيبة لما رآه يتكلف الاكثار من الحضور (انتهي) وأما جعل التذكار لمواليد الأنبياء والأولياء الذي يسميه الوهابية بالأعياد والمواسم بإظهار الفرح والزينة في مثل يوم ولادتهم التي كانت نعمة من الله علي خلقه وقراءة حديث ولادتهم كما يتعارف قراءة حديث مولد النبي " ص " وطلب المنزلة والرفعة من الله لهم وتكرار الصلوات والتسليم علي الأنبياء والترحم علي الصلحاء فليس فيه مانع عقلي ولا شرعي إذا لم يشتمل علي محرم خارجي كغناء أو فساد أو استعمال آلات اللهو أو غير ذلك كما يفعل جميع العقلاء وأهل الملل في مثل أيام ولادة عظمائهم وأنبيائهم وكل ذلك نوع من التعظيم الذي إن كان صاحبه أهلا للتعظيم كان طاعة وعبادة لله تعالي وليس كل تعظيم عبادة للمعظم كما بيناه مرارا فقياس ذلك بفعل المشركين مع أصنامهم قياس فاسد. الفصل السادس عشر في تزيين المشاهد بالذهب والفضة والمعلقات والحلي والكسوة ونحو ذلك وهذا أيضا مما منعه الوهابية ولذلك نهبوا جميع ذخائر الحجرة الشريفة النبوية وجواهرها عند استيلائهم علي المدينة المنورة سنة 1221 كما مر في الفصل الثاني من المقدمة الأولي ونقلنا هناك عن تاريخ الجبرتي بيان أنواع الجواهر التي نهبوها من الحجرة الشريفة وقدرها. وقد صوب الجبرتي في تاريخه نهبهم لها وقال إنما وضعها ضعفاء العقول من الأغنياء والملوك الأعاجم وغيرهم ثم بين أنها لا ينبغي أن تكون للنبي (ص) لزهده في الدنيا وأنه بعث ليكون نبيا لا ملكا وذكر أحاديث واردة في عرض الدنيا عليه وإبائه " ص " وفي زهده وأنها إن كانت صدقة فهي محرمة عليه وعلي آله وأنه لا نفع فيها مع بقائها علي حالها فالأرجح صرفها علي المحاويج إلي غير ذلك من التلفيقات. ومثله ما يحكي

ص: 355

من احتجاج الوهابية علي منعها بأنها لغو وعبث وأنها مما لا ينتفع به الميت واحتجوا في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية علي عدم جواز كسوة القبور بأن رسول الله " ص " نهي أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون التابوت ولباس الجوخ الخ وفحاوي كلامهم دالة علي أن ذلك كفر وشرك لأنهم يجعلونه مثل ما كان يعمل مع الأصنام (والجواب) أن فعل ذلك نوع من تعظيم هذه القبور الشريفة واحترامها التي ثبت رجحان تعظيمها واحترامها من تضاعيف ما تقدم ثبوتا لا شك فيه وتوهم الوهابية أن ذلك شرك وعبادة توهم فاسد لما بيناه مرارا وتكرارا من أنه ليس كل احترام وتعظيم عبادة ودعوي أن ذلك لم يكن في عهد الصحابة والتابعين مدفوع بأنه ليس كلما لم يكن في عهدهم يكون محرما لأصالة الإباحة في كل ما لم ينص الشرع علي تحريمه كما قرر في الأصول ولا يخفي أن الأزمان مختلفة والعادات فيها متفاوتة ففي مبدأ الإسلام كانت أحوال المسلمين ضيقة فكانت الحال تقتضي استعمال الملابس الخشنة والمآكل الجشبة وعدم رفع البناء وإتقانه وتزيينه وبناء المساجد باللبن والجذوع وسعف النخل كما بني النبي (ص) مسجده الشريف بالمدينة ولما انتشر الإسلام واتسعت أمور الناس واستعمل الأكثر من الخلفاء أطيب المأكول وأحسن الملبوس وأتقن الناس بناء الدور وزينوها كان من الراجح المستحسن إتقان بناء المسجد كما فعله المسلمون واستمروا عليه إلي اليوم ومنها المسجد الشريف النبوي والمسجد الحرام والمسجد الأقصي فإن ذلك إعلاء لشأن الإسلام وتعظيما لشعائر الدين ورفعا لمقام بيوت الله تعالي عن أن تكون دون بيوت خلقه وليس لأحد أن يقول بناء مسجده (ص) علي الحالة التي هو عليها اليوم محرم لأنه لم يكن في زمانه " ص " للوجه الذي قدمناه كذلك حجرته الشريفة كانت أولا باللبن والجذوع وجريد النخل ثم بنيت بالحجارة والقصة ثم صار بناؤها يحسن ويزين بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لأنه صار تحسينها وتزيينها نوعا من احترامها وتعظيمها ولم يكن الزمان الأول مقتضيا لذلك لما كانت عليه أحوال الناس. ودعوي أن ذلك إسراف بلا فائدة لا للميت ولا لغيره يدفعه أن الاسراف مالا يترتب عليه منفعة والمنفعة هنا حاصلة وهي احترام الميت وتعظيمه وإعزاز الإسلام وتعظيم شعائره وكبت معانديه وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي لا يعادلها شئ ويرخص في جنبها كل غال. وتصويب الجبرتي نهبهم لها

ص: 356

جهل محض فإن هذه الذخائر موقوفة لتوضع بالحجرة الشريفة وتكون زينة لها وليست ملكا له ولا صدقة. وزهد النبي " ص " في الدنيا لا ربط له بالمقام فإن قال قائل إن وقفها علي الحجرة النبوية غير جائز قلنا هو جائز لجريان سيرة المسلمين بل جميع أهل الأديان علي ذلك ولأن في وقفها تعظيما لشعائر الدين فلا يكون سفها بل هو أمر راجح مطلوب شرعا له فائدة عظيمة. مع أنه ثبت ذلك في حق الكعبة المعظمة قبل الإسلام واستمر ذلك بعد الإسلام إلي اليوم فليثبت مثله في حق الحجرة النبوية ومشاهد الأنبياء والأئمة فإن العلة في الجميع واحدة والجهة واحدة من دعوي الاسراف واللغوية وعدم الفائدة (فعن المسعودي) في مروج الذهب كانت الفرس تهدي إلي الكعبة أموالا وجواهر في الزمان الأول وكان ابن ساسان بن بابك أهدي غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا إلي الكعبة (وفي مقدمة ابن خلدون) (1) قد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظم البيت والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر كسري وغيره وقصة الأسياف وغزالي الذهب الذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله (ص) حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمأتي قنطار وزنا وقال له علي بن أبي طالب يا رسول الله لو استعنت بهذا المال علي حربك فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه هكذا قال الأزرقي (وفي البخاري) بسنده إلي أبي وائل قال جلست إلي شيبة بن عثمان وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل قال ولم؟ قلت فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدي بهما وخرجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلي كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين حين غلب علي مكة سنة 199 فأخذ ما في خزائن الكعبة وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ " انتهي " (وقال القسطلاني في إرشاد الساري (2) حكي الفاكهي أنه (ص) وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية " انتهي " " وفي " وفاء الوفا (3) تكلم السبكي في حكم قناديل الكعبة وحليتها والقناديل التي حول

ص: 357


1- 227. ص 418.
2- 228. ص 152 ج 3.
3- 229. ص 422 ج ل.

الحجرة الشريفة وألف في ذلك كتابا فأورد حديث البخاري وغيره في كنز الكعبة وما تضمنه من إقرار النبي (ص) له بمحله ثم أبي بكر بعده ورجوع عمر لذلك لما ذكره به ابن شيبة وقال هما المرآن يقتدي بهما قال فهذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدي إليها أو ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال قال ابن بطال إنما ترك لأنه يجري في مجري الأوقاف وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو وقال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون النبي (ص) إنما تركه رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة علي قواعد إبراهيم ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض " انتهي وفاء الوفا " وعلي كل حال يثبت المطلوب من جواز الابقاء إن لم يكن واجبا وإذا كان النبي (ص) تركه رعاية لقلوب قريش أفلا يلزم الوهابية أن يتركوا ذخائر الحجرة النبوية ومشاهد أئمة المسلمين وذخائرها رعاية لقلوب مئات ملايين المسلمين إن كانوا ممن يقتدي به (ص) كما يزعمون (وفي) وفاء الوفا (1) حيث تركه النبي " ص " لهذه العلة ثم تركه أبو بكر ثم عمر بعد الهم به ورجوعه عن ذلك ثم من بعده فهو إجماع علي تركه فلا نتعرض له لما يترتب عليه من الشناعة " انتهي " " وقال " قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة المكرمة (2) ، قال الشريف التقي الفاسي في شفاء الغرام يقال إن إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي أول من علق في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة ثم نقل عن الأزرقي في أشياء أهديت للكعبة منها أن عمر بن الخطاب لما فتح مدائن كسري كان مما بعث إليه هلالان فبعث بهما فعلقهما في الكعبة وبعث السفاح بالصفحة الخضراء فعلقت في الكعبة والمأمون بالياقوتة التي تعلق في كل موسم بسلسلة من الذهب فعلقت في وجه الكعبة وبعث المتوكل بشمسية من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد تعلق بسلسلة من الذهب في وجه البيت في كل موسم وأهدي المعتصم قفلا لباب الكعبة فيه ألف مثقال ذهبا في سنة 219 " إلي أن قال " وذكر الفاكهي أن مما أهدي إلي الكعبة طوقا من ذهب مكللا بالزمرد والياقوت مع ياقوتة كبيرة خضراء أرسله ملك الهند لما أسلم سنة 259 فعرض أمره علي المعتمد فأمر بتعليقها في البيت الشريف فعلقت قال التقي

ص: 358


1- 230. ص 423 ج ل.
2- 231. ص 41 بهامش خلاصة الكلام طبع مصر.

الفاسي ومما علق بعد الأزرقي قصبة من فضة فيها كتاب بيعة جعفر ابن أمير المؤمنين المعتمد علي الله وبيعة أبي أحمد الموفق بالله ابن أخي المعتمد وقدم بها الفضل بن العباس في موسم 261 وكان وزن الفضة 360 درهما وعليها ثلاثة أزرار بثلاث سلاسل من فضة فعلقت مع تعاليق الكعبة " إلي أن قال " ثم لما وقعت الفتن بمكة أخذت تلك التعاليق من الكعبة وصرفت في ذلك " قال " وكانت الملوك ترسل بقناديل الذهب وتعلق في الكعبة وقد وصل سنة 984 من السلطان مراد بن سليم العثماني ثلاثة قناديل ذهب مرصعة بالجواهر ليعلق اثنان منها في سقف الكعبة المعظمة والثالث في الحجرة الشريفة تجاه الوجه الشريف فعلقت " انتهي " (وأما) كسوة الكعبة المعظمة (ففي تاريخ مكة لقطب الدين الحنفي (1) ذكر الأزرقي وابن جريح أن أول من كسي الكعبة تبع الحميري من ملوك اليمن في الجاهلية تعظيما لها واسمه أسعد رأي في منامه أنه يكسوها فكساها الأنطاع ثم رأي أنه يكسوها فكساها من حبر اليمن وجعل لها بابا يغلق " انتهي " (وفي إرشاد الساري) قيل أول من كساها تبع الحميري الخصف والمعافر والملاء والوصائل وذكر ابن قتيبة إنه كان قبل الإسلام بتسعمائة سنة وفي تاريخ ابن أبي شيبة أول من كساها عدنان بن أدد وزعم الزبير أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير وعند إسحاق عن ليث بن سليم كانت كسوة الكعبة علي عهد رسول الله (ص) الأنطاع والمسوح وروي الواقدي أنه كسي البيت في الجاهلية الأنطاع ثم كساه النبي (ص) الثياب اليمانية ثم كساه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان القباطي ثم كساه الحجاج الديباج وروي أبو عروبة في الأوائل له عن الحسن أول من ألبس الكعبة القباطي النبي (ص) وذكر الأزرقي فيمن كساها أبا بكر وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات فكانت تكسي الديباج يوم عاشورا والقباطي في آخر رمضان وكساها يزيد بن معاوية الديباج الخسرواني والمأمون الديباج الأحمر يوم التروية والقباطي أول رجب والديباج الأبيض في سبع وعشرين من رمضان وهكذا كانت تكسي في زمن المتوكل وكسيت زمن الناصر العباسي السواد من الحبرات فهي تكسي ذلك إلي اليوم ولم تزل الملوك تتداول كسوتها إلي أن وقف عليها الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون سنة نيف وخمسين وسبعمائة قرية تسمي بيسوس وأول

ص: 359


1- 232. ص 45 بهامش خلاصة الكلام.

من كساها من ملوك الترك الظاهر بيبرس صاحب مصر (انتهي) " وفي تاريخ مكة " لقطب الدين الحنفي عن الأزرقي بسنده عن ابن مليكة قال كان يهدي للكعبة هدايا شتي فإذا بلي منها شئ جعل فوقه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شئ وكانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة البيت فيضربون علي القبائل بقدر احتمالهم من عهد قصي بن كلاب حتي نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم وكان مثريا يتجر في المال فقال لقريش أنا أكسو الكعبة وحدي سنة وجميع قريش سنة وكان يفعل ذلك إلي أن مات فسمته قريش العدل لأنه عدل قريشا وحده في كسوة البيت وقيل لبنيه بنو العدل (وقال أيضا) أخبرني محمد بن يحيي عن الواقدي عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيشة عن أبيه قال كسي النبي (ص) البيت الثياب اليمانية ثم كساه عمر وعثمان القباطي وكان يكسي كل سنة كسوتين أولا الديباج يوم التروية والثانية القباطي يوم السابع والعشرين من شهر رمضان فلما كانت خلافة المأمون أمر أن تكسي ثلاث مرات الديباج الأحمر يوم التروية والقباطي أول رجب والديباج الأبيض في عيد الفطر واستمر الحال علي هذا كل دولة بني العباس ثم صارت كسوة الكعبة تأتي تارة من سلاطين مصر وتارة من سلاطين اليمن إلي أن اشتري الملك الصالح ابن الملك الناصر قلاوون قريتين بمصر ووقفهما علي كسوة الكعبة وهما بيسوس وسندبيس واستمرت سلاطين مصر ترسل كسوة الكعبة في كل عام وعند تجدد كل سلطان يرسل مع الكسوة السوداء كسوة حمراء لداخل البيت وكسوة خضراء للحجرة الشريفة النبوية مكتوب علي الكل كلمة الشهادتين فلما فتح السلطان سليم مصر والشام جهزت كسوة المدينة علي العادة وأمر باستمرار كسوة الكعبة علي المعتاد ثم خربت القريتان الموقوفتان علي كسوة الكعبة ولم يف ريعهما بها فأمر أن تكمل من الخزائن السلطانية ثم أضاف إلي القريتين قري أخري ووقفها (انتهي). وأما كسوة الحجرة الشريفة النبوية ففي وفاء الوفا للسمهودي بعد ما ذكر تأزيرها بالرخام وعمل الشباك المتخذ من خشب الصندل بأعلي جدارها حكي عن ابن النجار أنه قال ولم تزل علي ذلك حتي عمل لها الحسين ابن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة من الديبقي الأبيض وعليها الطروز والجامعات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر ونيطها وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر مكتوبا عليه سورة يس وغرم عليها مبلغا عظيما فمنعه أمير المدينة قاسم بن مهنا من تعليقها حتي يستأذن المستضئ العباسي

ص: 360

فلما جاء الإذن علقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلي دوران جاماتها أسماء الخلفاء الأربعة وعلي طرازها اسم المستضئ فبعث الأولي إلي مشهد علي ووضعت هذه مكانها ثم أرسل الإمام الناصر ستارة من الإبريسم الأسود وطرزها وجاماتها من الإبريسم الأبيض فعلقت فوقها وبعد أن حجت أم الخليفة أرسلت ستارة من الإبريسم الأسود علي شكل الأولي فعلقت فوقها فصارت ثلاثا " انتهي ما حكاه عن ابن النجار " قال وهو يقتضي أن ابن أبي الهيجاء أول من كسي الحجرة وفي كلام رزين أنه لما حج الرشيد ومعه الخيزران أمرت بتخليق مسجد النبي " ص " وتخليق القبر وكسته الزنانير وشبائك الحرير. وأما قناديل الذهب والفضة وغيرها التي تعلق حول الحجرة الشريفة ففي وفاء الوفا أنه لم ير في كلام أحد ابتداء حدوث ذلك قال إلا أن ابن النجار قال وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة علي رأس الزوار إذا وقفوا معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة والساذجة واثنان بلور وواحد ذهب وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب وهذه تنفذ من الملوك وأرباب الحشمة والأموال. وقال السمهودي: واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلي زماننا هذا علي الاهداء إلي الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة ثم ذكر السمهودي حال ما يهدي من القناديل وعدده وما جري له مفصلا مما يطول بذكره الكلام وإن بعض أمراء المدينة لما أراد أخذ شئ منه أقام الناس عليه النكير (وقال أيضا) وأما حكم هذه المعاليق ونحوها من تحلية الصندوق والقائم الذي بأعلاه فحكم معاليق الكعبة الشريفة وتحليتها ثم نقل عن السبكي أنه قال وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل فيها أمر معتاد من زمان ولا شك أنها أولي بذلك من غيرها وكم من عالم وصالح قد أتي للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار لذلك فلهذا وحده كاف في جواز ذلك واستقر اء الأدلة فلم يوجد فيها ما يدل علي المنع ولم نر أحدا قال بالمنع فما وقف من ذلك إكراما لذلك المكان صح وقفه وإن اقتصر علي إهدائه صح أيضا كالمهدي للكعبة وكذا المنذور له " انتهي " الفصل السابع عشر في زيارة القبور وقد منع ابن تيمية من زيارة النبي " ص " وحرمها مطلقا مع شد الرحال وبدونه فضلا عن زيارة غيره. حكي ذلك عنه القسطلاني في إرشاد الساري وابن حجر الهيتمي في

ص: 361

الجوهر المنظم وقال بل زعم حرمة السفر لها إجماعا وأنه لا تقصر فيه الصلاة وسيأتي نقل كلامهما. وبعض الوهابيين حرم شد الرحال إليها وحينئذ فيقع الكلام فيها في مبحثين: أصل مشروعيتها وشد الرحال إليها. المبحث الأول في أصل مشروعية زيارة القبور وفيه مقامان المقام الأول في زيارة قبر النبي " ص " وتدل علي مشروعيتها أدلة الشرع الأربعة (الأول الكتاب العزيز) وقوله تعالي ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فإن الزيارة هي الحضور الذي هو عبارة عن المجئ إليه " ص " سواء كان لطلب الاستغفار أو بدونه والتسليم لا يدخل في معناها وإذا ثبت رجحان ذلك في حال حياته ثبت بعد مماته. قال السبكي فيما حكاه عن السمهودي في كتاب وفاء الوفا (1) : والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة واستحبوا لمن أتي القبر أن يتلوها قال وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العتبي واسمه محمد بن عبيد الله بن عمر وأدرك ابن عيينة وروي عنه وهي مشهورة حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوها ورأوها من أدب الزائر وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن وغيرهما بأسانيدهم إلي محمد بن حرب الهلالي قال دخلت المدينة فأتيت قبر النبي " ص " فزرته وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " إلي آخر ما في فصل التوسل ثم ذكره السمهودي هذه القصة بطريقين آخرين عن علي " ع " لا نطيل بذكرها فليطلبهما من أرادهما. " الثاني السنة " والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة نقلها السمهودي في وفاء الوفا (2) ونقلها غيره ونحن ننقلها منه وربما نترك بعض أسانيدها وقد تكلم هو علي أسانيدها بما فيه كفاية.

ص: 362


1- 233. ص 411 ج 2.
2- 234. ص 394 - 403 ج 3.

" 1 " الدارقطني في السنن وغيرها والبيهقي وغيرهما بالأسانيد من طريق موسي ابن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زار قبري وجبت له شفاعتي. " 2 " البزار من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي " ص " من زار قبري حلت له شفاعتي. " 3 " الطبراني في الكبير والأوسط والدارقطني في أماليه وأبو بكر بن المقرئ في معجمه من رواية مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من جاءني زائرا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة. قال: والذي في معجم ابن المقري من جاءني زائرا كان له حقا علي الله عز وجل (1) أن أكون له شفيعا يوم القيامة. قال: وأورد الحافظ ابن السكن هذا الحديث في باب ثواب من زار قبر النبي " ص " من كتابه السنن الصحاح المأثورة ومقتضي ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع علي صحته " انتهي " وهو بإطلاقه شامل للزيارة في الحياة وبعد الموت. " 4 " الدارقطني والطبراني في الكبير والأوسط وغيرهما من طريق حفص بن داود القاري عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي قال ورواه ابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بسنده وزاد وصحبني ورواه ابن عدي في كامله بسنده بهذه الزيادة ورواه أبو يعلي بسنده بدون الزيادة وفي بعض الروايات من حج فزارني في حياتي ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي. أقول: ورواه بلفظه الأول السيوطي في الجامع الصغير عن أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي والنسائي عن الحارث. " 5 " ابن عدي في الكامل من طريق محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك عن

ص: 363


1- 235. فيه ثبوت الحق للعبد علي الله عز وجل الذي أنكره الوهابية كما مر في الفصل الرابع وفاتنا ذكره هناك. - المؤلف -.

نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني قال السبكي وذكر ابن الجوزي له في الموضوعات سرف منه. " 6 " الدارقطني في السنن من طريق موسي بن هارون عن محمد بن الحسن الجيلي عن عبد الرحمن بن المبارك عن عون بن موسي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زارني إلي المدينة كنت له شهيدا وشفيعا. " 7 " أبو داود الطيالسي عن سوار بن ميمون أبي الجراح العبدي عن رجل من آل عمر عن عمر سمعت رسول الله " ص " يقول من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا " الحديث ". " 8 " أبو جعفر العقيلي من رواية سوار بن ميمون عن رجل من آل الخطاب عن النبي " ص " من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة " الحديث ". " 9 " الدارقطني وغيره من طريق هارون بن قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال رسول الله " ص " من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي " الحديث ". " 10 " أبو الفتح الأزدي من طريق عمار بن محمد عن خاله سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال رسول الله " ص " من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه. " 11 " أبو الفتوح بسنده من طريق خالد بن يزيد عن عبد الله بن عمر العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال رسول الله " ص " من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ومن زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة. " 12 " ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن رسول الله " ص " قال من زارني بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة وفي رواية كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ورواه البيهقي بهذا الطريق ولفظه من زارني محتسبا إلي المدينة كان في جواري يوم القيامة. " 13 " ابن النجار في أخبار المدينة بسنده عن أنس قال رسول الله " ص " من زارني ميتا فكأنما زارني حيا ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر.

ص: 364

" 14 " أبو جعفر العقيلي بسنده عن ابن عباس قال رسول الله (ص) من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زارني حتي ينتهي إلي قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو قال شفيعا. (15) بعض الحفاظ في زمن ابن منده بسنده عن ابن عباس قال رسول الله " ص " من حج إلي مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان قال والحديث في مسند الفردوس. " 16 " يحيي بن الحسن بن جعفر الحسيني في أخبار المدينة بسنده عن علي (ع) قال رسول الله (ص) من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني وروي ابن عساكر بسنده عن علي من زار قبر رسول (ص) كان في جوار رسول الله (ص). " 17 " يحيي أيضا بسنده عن رجل عن بكر بن عبد الله عن النبي (ص) من أتي المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة " الحديث " (انتهت الأحاديث التي أوردها السمهودي) وهي مع كثرتها يعضد بعضها بعضا وتعضدها الأحاديث الآتية في تضاعيف ما يأتي مع أنه لا حاجة لنا إلي الاستدلال بها للسيرة القطعية وعمل المسلمين البالغ حد الضرورة. وفي الرسالة الأولي من رسائل الهدية السنية أن الأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل المعرفة منهم ابن الصلاح وابن الجوزي وابن عبد البر وأبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي المالكي والشيخ تقي الدين وغيرهم ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل وكذلك تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن والأئمة كلهم يروون بخلافه وأجل حديث روي في هذا الباب حديث أبي بكر البزار ومحمد بن عساكر حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما. (أقول) دعوي إن هذه الأحاديث علي كثرتها كلها مكذوبة دعوي كاذبة لا يعضدها دليل وابن الجوزي وإن أورد بعضها في الموضوعات فقد أورد البعض الآخر في كتابه مثير الغرام الساكن واعتمد عليه كما مر في الحديث الرابع مع أن الحديث الخامس الذي جعله موضوعا تعقبه الإمام السبكي فيه وقال إن ذكره له في

ص: 365

الموضوعات سرف منه كما مر كما تعقبه غيره في جملة من الأحاديث التي عدها في الموضوعات وباقي من نقل عنهم لعلهم كابن الجوزي إن صح نقله وأما قدوته الشيخ تقي الدين بن تيمية فحاله معلوم في التعصب لآرائه وأهوائه ومصادمته الضرورة في نصرها وتكذيب الأحاديث المشهورة التي يعضدها العقل والنقل تبعا لشهوة نفسه وأوضح برهان علي ذلك تكذيبه حديث (ضربة علي يوم الخندق) بالاستبعادات والدعاوي الباطلة حتي تبعه في ذلك صاحب السيرة الحلبية كما فصلناه في بعض حواشي فصل البناء علي القبور مع أنه لم يعلم دعواه الوضع في جميعها. (قوله) ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل يكذبه ما عرفت في الحديث الثالث أنه أورده الحافظ ابن السكن في كتابه السنن الصحاح المأثورة الذي ذكر في خطبته أنه لا يذكر فيه إلا ما أجمع علي صحته. (قوله) تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن يكذبه أنه روي جملة منها غير الدارقطني من أهل السنن وغيرهم كالبيهقي والبرار والطبراني وأبو بكر بن المقرئ والحافظ ابن السكن وابن عدي وأبو يعلي والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجوزي والعقيلي والأزدي وأبو الفتوح وابن أبي الدنيا وابن النجار ويحيي بن الحسن كما عرفت وابن عساكر باعتراف الوهابية (وإذا) كان تفرد الراوي بالرواية يوجب طرحها فما بال الوهابية لم يطرحوا حديث أبي الهياج وقد تفرد به راويه علي ما عرفته في فصل البناء علي القبور ولكن الحديث المؤدي إلي استحلال دماء المسلمين وأموالهم لا يطرح ولو تفرد به راويه أما الأحاديث الكثيرة الدالة علي تعظيم النبي (صل) واستحباب زيارته الثابتة بالعقل والنقل وإجماع المسلمين البالغ حد الضرورة فتستحق الطرح بدعوي تفرد الدارقطني بها ويلتمس لها الوجوه والتأويلات لطرحها عند الوهابية لأنهم يعظم عليهم تعظيم من عظمه الله ومخالفة قول قدوتهم ابن تيمية وابن عبد الوهاب. " قوله " والأئمة كلهم يروون بخلافه هذه دعوي كاذبة كالأولي فمن هم الأئمة الذين رووا أن زيارة النبي " ص " لا تستحب أو لا يستحب شد الرحال إليها غير ما توهمه الوهابية من أحاديث شد الرحال التي ستعرف في هذا الفصل سخافة توهمهم فيها وقد عرفت أن الأئمة رووا هذه الأحاديث كما رواها الدارقطني ولم يرووا بخلافه وفيهم أجلاء أئمة الحديث كابن حنبل وأبي داود والترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي وغيرهم " وقد " رويت في ذلك أحاديث كثيرة تكاد تبلغ حد التواتر عن أئمة أهل البيت الطاهر

ص: 366

رواها عنهم أصحابهم وثقاتهم بالأسانيد المتصلة الصحيحة موجودة في مظانها (وتدل) عليه أيضا الأحاديث الدالة علي أن النبي " ص " يرد سلام من يسلم عليه التي اعترف بها الوهابية وقدوتهم ابن تيمية ومر طرف منها في المقدمات في حياة النبي (ص) بعد موته قال السبكي فيما حكاه عنه السمهودي في وفاء الوفا (1) بعد ذكر ما يدل علي أنه (ص) يسمع من يسلم عليه عند قبره ويرد عليه عالما بحضوره عند قبره: وكفي بهذا فضلا حقيقا بأن ينفق فيه ملك الدنيا حتي يتوصل إليه من أقطار الأرض " انتهي " ومنه يعلم صحة الاستدلال به علي شد الرحال. (الثالث الاجماع) من المسلمين خلفا عن سلف من عهد النبي " ص " والصحابة إلي يومنا هذا عدا الوهابية قولا وعملا بل أن استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين بل وسائر المؤمنين ومشروعيتها ملحق بالضروريات عند المسلمين فضلا عن الاجماع وسيرتهم مستمرة عليها من عهد النبي (ص) والصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين في كل عصر وفي كل صقع عالمهم وجاهلهم صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم. وإنكار ذلك مصادمة للبديهة وإنكار للضروري. قال السمهودي في وفاء الوفا (2) نقلا عن السبكي: قال عياض زيارة قبره (ص) سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغوب فيها (انتهي) قال السبكي وأجمع العلماء علي استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها واختلفوا في النساء وامتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به ولهذا أقول إنه لا فرق بين الرجال والنساء وقال الجمال الريمي يستثني أي من محل الخلاف قبر النبي (ص) وصاحبيه فإن زيارتهم مستحبة للنساء بلا نزاع كما اقتضاه قولهم في الحج يستحب لمن حج أن يزور قبر النبي " ص " وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير وأضاف إليه قبور الأنبياء والصالحين والشهداء " انتهي " وفي وفاء الوفا (3) كيف يتخيل في أحد من السلف المنع من زيارة المصطفي " ص " وهم مجمعون علي زيارة سائر الموتي فضلا عن زيارته (ص) " انتهي " وصنف قاضي القضاة الشيخ تقي الدين أبو الحسن السبكي الذي تشهد مؤلفاته بغزارة علمه في القرن الثامن كتابا في فضل الزيارة وشد الرحال إليها ردا علي

ص: 367


1- 236. ص 404 ج 2.
2- 237. ص 412 ج 2.
3- 238. ص 417 ج 2.

ابن تيمية سماه شفاء السقام في زيارة خير الأنام ونقل عنه السمهودي في وفاء الوفا شيئا كثيرا ونقل عنه غيره ونقلنا عنه بواسطة السمهودي وغيره " ومما " قاله السبكي في مقدمته علي ما حكي عنه أن من أعظم القرب إلي رب العالمين زيارة سيد المرسلين والسفر إليها من أقطار الأرضين كما هو معروف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها علي ممر السنين وأن مما ألقي الشيطان في هذا الزمان علي لسان بعض المخذولين التشكيك في ذلك وهيهات أن يدخل ذلك في قلوب الموحدين وإنما هي نزعة من مخذول لا يرجع وبالها إلا عليه ولا يترتب عليها إلا ما ألقي بيده إليه شريعة الله محكمة ظاهرة وشبه الباطل علي شفا جرف هائرة " انتهي " ومر في الباب الأول ما يدل علي أن مراده ابن تيمية. " وعن منتهي المقال " في شرح حديث لا تشد الرحال للمفتي صدر الدين أنه قال فيه: قال الشيخ الإمام الحبر الهمام سند المحدثين الشيخ محمد البرلسي في كتابه إتحاف أهل العرفان وقد تجاسر ابن تيمية الحنبلي عامله الله بعدله وادعي أن السفر لزيارة قبر النبي " ص " حرام وأن الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به وأطال في ذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع وقد عاد شؤم كلامه عليه (إلي أن قال) وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة واستدرك علي الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة فسقط من أعين علماء الأمة وصار مثله بين العوام فضلا عن الأئمة وتعقب العلماء كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته وبينوا قبائح أوهامه وغلطاته " انتهي " ومر بعض كلامه في حقه عن الباب الأول وعن شهاب الدين أحمد الخفاجي المصري في نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض أنه قال بعد ذكر حديث لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: إعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلي مقالته الشنيعة التي كفروه بها وصنف فيها السبكي مصنفا مستقلا وهي منعه زيارة قبر النبي " ص " وشد الرحال إليه وهو كما قيل: لمهبط الوحي حقا ترحل النجب وعند ذاك المرجي ينتهي الطلب فتوهم أنه حمي جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها فإنها لا تصدر عن عاقل فضلا عن فاضل " انتهي ". وعن الملا علي القاري في المجلد الثاني من شرح الشفا أنه قال: قد فرط ابن تيمية من

ص: 368

الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي " ص " كما أفرط غيره حيث قال كون الزيارة قربة معلوم من الدين وجاحده محكوم عليه بالكفر ولعل الثاني أقرب إلي الصواب لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا لأنه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب " انتهي ". وقال أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم علي ما حكي عنه وقد ذكره صاحب كشف الظنون قال فيه بعد ما استدل علي مشروعية زيارة قبر النبي " ص " بعدة أدلة منها الاجماع ما لفظه (1) فإن قلت كيف تحكي الاجماع علي مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله كما رآه السبكي في خطه وقد أطال ابن تيمية في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع بل زعم حرمة السفر لها إجماعا وأن لا تقصر فيه الصلاة وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه " قلت " من هو ابن تيمية حتي ينظر إليه أو يعول في شئ من أمور الدين عليه وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتي أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان ولقد تصدي شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع علي جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي قدس الله روحه ونور ضريحه للرد عليه في في تصنيف مستقل أفاد فيه وأجاد وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب " ثم قال " هذا وما وقع من ابن تيمية مما ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبدا ومصيبة يستمر شؤمها سرمدا ليس بعجيب فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب وما دري المحروم أنه أتي بأقبح المعائب إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة

ص: 369


1- 239. ص 13 طبع عام 1279 بمصر.

وتدارك علي أئمتهم سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة شهيرة حتي تجاوز إلي الجناب الأقدس المنزه سبحانه عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس فنسب إليه الكبائر والعظائم وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة علي المنابر من دعوي الجهة والتجسيم وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتي قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره فحبسه إلي مات وخمدت تلك البدع وزالت تلك الضلالات ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأسا ولم يظهر لهم جاها ولا بأسا بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (انتهي) (أما المنقول) من فعل الصحابة فسيأتي في المبحث الثاني أن عمر لما قدم المدينة من فتوح الشام كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم علي رسول الله (ص). وفي وفاء الوفا للسمهودي (1) روي عبد الرزاق بإسناد صحيح أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتي قبر النبي (ص) فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه (قال) وفي الموطأ من رواية يحيي بن يحيي أن ابن عمر كان يقف علي قبر النبي (ص) فيصلي (فيسلم ظ) علي النبي " ص " وعلي أبي بكر وعمر وعن ابن عون سأل رجل نافعا هل كان ابن عمر يسلم علي القبر قال نعم لقد رأيته مائة مرة أو أكثر من مائة كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول السلام علي النبي السلام علي أبي بكر السلام علي أبي وفي مسند أبي حنيفة عن ابن عمر من السنة أن تأتي قبر النبي (ص) من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلي القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. أخرجه الحافظ طلحة بن محمد في مسنده عن صالح بن أحمد عن عثمان بن سعيد عن أبي عبد الرحمن المقري عن أبي حنيفة عن نافع عن ابن عمر " انتهي " (أما المنقول) من فعل سائر المسلمين ففي وفاء الوفا (2) ذكر المؤرخون والمحدثون منهم ابن عبد البر والبلاذري وابن عبد ربه أن زياد ابن أبيه أراد الحج فأتاه أبو بكرة أخوه وهو لا يكلمه فأخذ ابنه فأجلسه في حجره ليخاطبه ويسمع زيادا فقال إن أباك فعل وفعل وأنه يريد الحج وأم حبيبة زوج النبي (ص) هناك فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله " ص " وإن حجبته

ص: 370


1- 240. ص 409 ج 2.
2- 241. ص 410 ج 2.

فأعظم بها حجة عليه فقال زياد ما تدع النصيحة لأخيك وترك الحج فيما قاله البلاذري وقيل حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقيل أراد الدخول عليها فذكر قول أبي بكرة فانصرف وقيل إنها حجبته " قال السبكي " والقصة علي كل تقدير تشهد لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت وإلا فكان يمكنه الحج من غير طريق المدينة بل هي أقرب إليه لأنه كان بالعراق ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمرا لا يترك (انتهي) " لا يقال " نحن نسلم بأن إتيان المدينة أمر راجح مستحب ولكن بقصد الصلاة في المسجد والزيارة تبع والذي نمنعه إتيانها بقصد الزيارة " لأنا نقول " المعروف بين المسلمين من عهد الصحابة إلي اليوم إتيان المدينة بقصد الزيارة هذا الذي جرت عليه سيرتهم وعملهم لا يخطر ببالهم غيره ولا يدور في خلدهم سواه وأما قصد المسجد وكون الزيارة تبعا فشئ لم يكن يعرفه أحد قبل الوهابية ولو كان لحرمة قصد الزيارة بالسفر أصل في الشرع لشاعت وذاعت وعرفها جميع المسلمين وكانت وصلت إلي حد الضرورة لاحتياج الجميع إلي معرفتها ولكانت قامت بها الخطباء والوعاظ وبينتها العلماء وحذروا الناس منها لئلا يقصدوا بسفرهم الزيارة فيقعوا في الحرام الموجب للعقاب من حيث قصدوا الثواب ولكان بينها أصحاب كتب المناسك الذين لم يهملوا شيئا يتعلق بالحج والزيارة من المستحبات فضلا عن هذا الأمر المهم الموقع في الحرام (أما المنقول) عن أئمة المذاهب الأربعة ففي وفاء الوفا (1) بعد ما ذكر اختلاف السلف في أن الأفضل البدأة بالمدينة أو بمكة حكي عن الإمام أبي حنيفة إن الأحسن البدأة بمكة وإن بدأ بالمدينة جاز فيأتي قريبا من قبر رسول الله (ص) فيقوم بين القبر والقبلة (انتهي) وأما ما يحكي عن مالك أنه كره أن يقال زرنا قبر النبي " ص " فهو علي فرض صحته محمول علي كراهة التلفظ بهذا اللفظ لبعض الوجوه التي ذكروها مما لا نطيل بنقله، لا لكراهة أصل الزيارة مع أن العلماء ناقشوه في كراهة هذا اللفظ كالسبكي وابن رشد علي ما في وفاء الوفا وذكر السمهودي في وفاء الوفا (2) أقوال الشافعية في استحباب زيارة النبي " ص " ثم قال والحنفية قالوا إن زيارة قبر النبي (ص) من أفضل المندوبات والمستحبات بل تقرب من درجة

ص: 371


1- 242. ص 411 ج 2.
2- 243. ص 415 ج 2.

الواجبات قال وكذلك نص عليه المالكية والحنابلة وأوضح السبكي نقولهم في كتابه في الزيارة " انتهي ". (الرابع) دليل العقل فإنه يحكم بحسن تعظيم من عظمه الله تعالي والزيارة نوع من التعظيم وفي تعظيمه (ص) بالزيارة وغيرها تعظيم لشعائر الإسلام وإرغام لمنكريه وقد ثبت رجحان زيارته " ص " في حياته والوصول إلي خدمته فكذلك بعد مماته خصوصا بعد الالتفات إلي ما ورد من حياته البرزخية وقد مضي في فصل التوسل قول مالك إمام دار الهجرة للمنصور أن حرمة النبي (ص) ميتا كحرمته حيا وليس في العقل شئ يمنع من الزيارة أو يوجب قبحها بل فيه ما يحسنها من تعظيم من عظمه الله واحترام من هدي الناس إلي سبيل الرشاد وكان سبب سعادتهم في الدارين. المقام الثاني في زيارة سائر القبور قد ثبت أن النبي " ص " كان يزور أهل البقيع وشهداء أحد (وروي) ابن ماجة (1) بسنده عنه " ص " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " وبسنده " عن عائشة أنه " ص " رخص في زيارة القبور (وفي) حاشية السندي عن الزوائد أن رجال إسناده ثقات (وبسنده) عنه (ص) كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة (ورواه) مسلم (2) إلي قوله فزوروها (وروي) النسائي ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر (وزار) النبي " ص " قبر أمه وهي مشركة بزعم الخصم (روي) مسلم في صحيحه (3) وابن ماجة (4) والسنائي (5) بأسانيدهم عن أبي هريرة زار النبي " ص " قبر أمه فبكي وأبكي من حوله فقال " ص " استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم بالموت (قال) النووي في شرح صحيح مسلم هو حديث صحيح بلا شك (وروي) مسلم (6) أنه كلما كانت ليلة عائشة من رسول الله (ص) يخرج من آخر الليل إلي البقيع فيقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون) وعلم " ص " عائشة حين قالت

ص: 372


1- 244. ص 245 ج ل.
2- 245. ص 325 ج 4 بهامش إرشاد الساري.
3- 246. ص 325 ج 4 بهامش إرشاد الساري.
4- 247. ص 245 ج ل.
5- 248. ص 286 ج ل.
6- 249. ص 318 ج 4 بهامش إرشاد الساري.

له كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي " السلام علي أهل الديار من المؤمنين والمسلمين " " الحديث " رواه مسلم " وعن بريدة " كان رسول الله " ص " يعلمهم إذا خرجوا إلي المقابر فكان قائلهم يقول السلام علي أهل الديار وفي رواية السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين والمسلمات الحديث رواه مسلم " وقد " مر في المقام الأول زيارة ابن عمر لقبر الشيخين مرارا كثيرة " وحكي " السمهودي في وفاء الوفا (1) عن الحافظ زين الدين الحسيني الدمياطي إن زيارة قبور الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء وسائر المؤمنين للبركة أثر معروف قال وقد قال حجة الإسلام الغزالي كل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد موته ويجوز شد الرحال لهذا الغرض " انتهي " " إلي أن قال " وقد روي عن النبي " ص " أنه قال آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا وعن ابن عباس ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام وروي من زار قبر أبويه في كل جمعة أو أحدهما كتب بارا وإن كان في الدنيا قبل ذلك بهما عاقا " انتهي " وسيأتي في آخر هذا الفصل أحاديث زيارة فاطمة عليها السلام قبر حمزة وشهداء أحد كل جمعة أو بين اليومين والثلاثة وكفي بفعلها عليها السلام دليلا وحجة. المبحث الثاني في شد الرحال إلي زيارة القبور وقد منع الوهابية من شد الرحال إلي زيارة النبي " ص " فضلا عن غيره وقد عرفت أن ابن تيمية في مقام تشنيعه علي الإمامية قال إنهم يحجون إلي المشاهد كما يحج الحاج إلي البيت العتيق، وما هو حجهم إلا قصدهم زيارتها فسماه حجا إرادة لزيادة التهويل والتشنيع كما هي عادته " وفي " الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وتسن زيارة النبي " ص " إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس (انتهي) (واحتج) الوهابية لذلك برواية البخاري عن أبي هريرة عن النبي " ص " لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول " ص " والمسجد الأقصي " ورواه " مسلم في الحج والصلاة إلا أنه قال

ص: 373


1- 250. صفحة 413 ج 2.

مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصي " ورواه " النسائي في سننه مثله إلا أنه قدم المسجد الحرام " ورواه " أبو داود في الحج " وفي رواية لمسلم " تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد وفي رواية له إنما يسافر إلي ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيليا. " والجواب " عن هذه الأخبار أن الحصر فيها إضافي لا حقيقي أي لا تشد الرحال إلي مسجد من المساجد إلا إلي هذه الثلاثة لأن هذا الاستثناء مفرغ قد حذف فيه المستثني منه وكما يمكن تقديره لا تشد الرحال إلي مكان يمكن تقديره إلي مسجد لكن الثاني هو المتعين لأن ذلك هو المفهوم عرفا من أمثال هذه العبارة وللاتفاق علي جواز السفر وشد الرحال إلي أي مكان كان للتجارة وطلب العلم والجهاد وزيارة العلماء والصلحاء والتداوي والنزهة والولاية والقضاء وغير ذلك مما لا يحصي ولو قيل إن هذا خصص بالدليل للزم تخصيص الأكثر وهو غير جائز كما تقرر في الأصول. " والحاصل " أنه لا يشك من عنده أدني معرفة في أن المراد بقوله لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد أو إنما يسافر إلي ثلاثة مساجد أنه لا يسافر إلي غيرها من المساجد لا أنه لا يسافر إلي مكان مطلقا علي أنه لا يفهم من هذه الأحاديث حرمة السفر إلي باقي المساجد بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد علي ما عداها بحيث بلغ من فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها فإنها لا تشد الرحال وتركب الأسفار وتتحمل المشاق إلا للأمور المهمة لا أن من سافر للصلاة في مسجد طلبا لإحراز فضيلة الصلاة فيه يكون عاصيا وآثما وكيف يكون آثما من يسافر إلي ما هو طاعة وعبادة فالمسجد ببعده لم يخرج عن المسجدية والصلاة فيه لم تخرج عن كونها طاعة وعبادة إذ هو مسجد لكل أحد فكيف يعقل أن يكون السفر للصلاة فيه إثما ومعصية فالسفر للطاعة لا يكون إلا طاعة كما أن السفر للمعصية لا يكون إلا معصية وكيف تكون مقدمة المستحب محرمة ويدل علي ذلك أن النبي " ص " والصحابة كانوا يذهبون كل سبت إلي مسجد قبا وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان ركبانا ومشاة لقصد الصلاة فيه ولا فرق في السفر بين الطويل والقصير لعموم النهي لو كان. روي البخاري في صحيحه (1) أن النبي (ص) كان يأتي مسجد قبا كل سبت ماشيا وراكبا

ص: 374


1- 251. صفحة 332 ج 2 إرشاد الساري.

وأن ابن عمر كان يفعل كذلك " وفي رواية " كان رسول الله " ص " يزوره راكبا وماشيا (وروي) النسائي في سنه أنه كان رسول الله (ص) يأتي قبا راكبا وماشيا وأنه قال من خرج حتي يأتي هذا المسجد مسجد قبا فصلي فيه كان له عدل عمرة وفي إرشاد الساري عن ابن أبي شيبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص لأن أصلي في مسجد قبا ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين لو يعلمون ما في قبا لضربوا إليه أكباد الإبل وهذا نص من سعد علي استحباب ضرب أكباد الإبل إليه الذي لا يكون إلا بالسفر إليه من مكان بعيد (وروي) الطبراني من توضأ فأسبغ الوضوء ثم غدا إلي مسجد قبا لا يريد غيره ولا يحمله علي الغدو إلا الصلاة في مسجد قبا فصلي فيه أربع ركعات كان له أجر المعتمر إلي بيت الله. نقله في إرشاد الساري وسيأتي في آخر هذا الفصل أحاديث إن فاطمة (ع) كانت تزور قبر عمها حمزه بين اليومين والثلاثة وكل جمعة وفيه دلالة علي جواز السفر للزيارة واستحبابه لعدم تعقل الفرق بين السفر الطويل والقصير. وبين أحد والمدينة نحو مما بينها وبين قبا أو أزيد ويدل علي شد الرحال الحديث الخامس المتقدم من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني والزيارة بعد الحج لا تكون إلا بشد الرحال وأظهر فيما قلناه الحديث الآخر لمسلم: تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد بصيغة الإثبات أي إن هذه المساجد الثلاثة تستحق وتستأهل شد الرحال إليها لعظم فضلها فهي حقيقة وجديرة بذلك وشاد الرحال إليها لا يكون عناؤه ضائعا وتعبه خائبا أو فائدته قليلة بل يحصل من الثواب علي ما يقابل تعبه وزيادة " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (1) في شرح قوله لا تشد الرحال أي إلي مسجد للصلاة فيه ثم قال وقد بطل بما مر من التقدير المعتضد بحديث أبي سعد المروي في مسند أحمد بإسناد حسن مرفوعا لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلي مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والأقصي ومسجدي هذا - قول ابن تيمية حيث منع من زيارة قبر النبي (ص) وهو من أبشع المسائل المنقولة عنه ومن جملة ما استدل به علي دفع ما ادعاه غيره من الاجماع علي مشروعية زيارة النبي " ص " ما نقل عن مالك إنه كره أن يقول زرت قبر النبي (ص) وأجاب عنه المحققون من أصحابه إنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل

ص: 375


1- 252. ص 329 ج 2.

الأعمال وأجل القرب الموصلة إلي ذي الجلال وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع قال فشد الرحال للزيارة أو نحوها كطلب علم ليس إلي المكان بل إلي من فيه وقد التبس ذلك علي بعضهم كما قاله المحقق التقي السبكي فزعم أن شد الرحال إلي الزيارة في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ كما مر لأن المستثني إنما يكون من جنس المستثني منه كما إذا قلت ما رأيت إلا زيدا أي ما رأيت رجلا واحدا إلا زيدا لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا " انتهي " وقال القسطلاني في موضع آخر (1) الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلي موضع ولازمه منع السفر إلي كل موضع غيرها كزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة لأن المستثني منه في المفرغ يقدر بأعم العام لكن المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد " انتهي " " وقال النووي " في شرح صحيح مسلم في شرح قوله لا تشد الرحال الخ (2) فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة ومزيتها علي غيرها لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولفضل الصلاة فيها " إلي أن قال " واختلف العلماء في شد الرحال واعمال المطي إلي غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلي قبور الصالحين وإلي المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلي اختياره والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلي هذه الثلاثة خاصة وقال في موضع آخر (3) في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شد الرحال إلي مسجد غيرها وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا يحرم شد الرحال إلي غيرها وهو غلط " انتهي " " وقال السندي " في حاشية سنن النسائي إن السفر للعلم وزيارة العلماء والصلحاء وللتجارة غير داخل في حيز المنع " انتهي " وقال السمهودي في وفاء الوفا (4) ويستدل بقوله تعالي ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " علي مشروعية السفر للزيارة بشموله المجئ من قرب ومن بعد وبعموم من زار قبري وقوله في الحديث الذي صححه ابن السكن من جاءني زائرا. وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر إليها

ص: 376


1- 253. ص 333 ج 2.
2- 254. ص 37 ج 6 بهامش إرشاد الساري.
3- 255. ص 111 ج 6 بهامش إرشاد الساري.
4- 256. ص 414 ج 2.

كذلك وقد ثبت خروج النبي " ص " من المدينة لزيارة قبور الشهداء فإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد وقبره " ص " أولي وقد انعقد الاجماع علي ذلك لإطباق السلف والخلف عليه وأما حديث لا تشدوا الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد فمعناه لا تشدوا الرحال إلي مسجد إلا إلي المساجد الثلاثة إذ شد الرحال إلي عرفة لقضاء النسك واجب بالإجماع وكذلك سفر الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطه وغير ذلك وأجمعوا علي جواز شد الرحال للتجارة ومصالح الدنيا وقد روي ابن شبة بسند حسن أن أبا سعيد يعني الخدري ذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله " ص " لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلي مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصي فهذا الحديث صريح فيما ذكرناه علي أن في شد الرحال لما سوي هذه المساجد الثلاثة مذاهب نقل إمام الحرمين عن شيخه أنه أفتي بالمنع قال وربما كان يقول يكره وربما كان يقول يحرم وقال الشيخ أبو علي لا يكره ولا يحرم " إلي أن قال " وقال الماوردي من أصحابنا (يعني الشافعية) عند ذكر من يلي أمر الحج فإذا قضي الناس حجهم سار بهم علي طريق مدينة رسول الله " ص " رعاية لحرمته وقياما بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة وقال القاضي الحسين إذا فرغ من الحج فالسنة أن يأتي المدينة ويزور قبر النبي (ص) وقال القاضي أبو الطيب ويستحب أن يزور النبي (ص) بعد أن يحج ويعتمر وقال المحاملي في التجريد ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي (ص) وقال أبو حنيفة إذا قضي الحاج نسكه مر بالمدينة (إلي أن قال) وفي كتاب تهذيب المطالب لعبد الحق سئل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة فلم يستطيع أن يزور قال يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة وقال في موضع آخر (1) وممن سافر إلي زيارة النبي " ص " من الشام إلي قبره (ع) بالمدينة بلال ابن رباح مؤذن رسول الله " ص " كما رواه ابن عساكر بسند جيد عن أبي الدرداء قال لما رحل عمر بن الخطاب من فتح بيت المقدس فصار إلي جابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل قال ثم إن بلالا رأي في منامه النبي (ص) وهو يقول ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني

ص: 377


1- 257. ص 408 ج 2.

يا بلال فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتي قبر النبي (ص) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا له يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك فلما قال الله أكبر ارتجت المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها فلما قال أشهد أن محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا بعث رسول الله " ص " فما رئي بالمدينة بعده " ص " أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم قال وقال الحافظ عبد الغني وغيره لم يؤذن بلال بعد النبي (ص) إلا مرة واحدة في قدومه المدينة لزيارة قبر النبي (ص) وقال قال السبكي ليس اعتمادنا علي رؤيا المنام فقط بل علي فعل بلال سيما في خلافة عمر والصحابة متوافرون ولا تخفي عنهم هذه القصة ورؤيا بلال النبي " ص " مؤكدة لذلك (قال) وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز إنه كان يبرد البريد من الشام يقول سلم لي علي رسول الله " ص " وذلك في زمن صدر التابعين وممن ذكر ذلك عنه الإمام أبو بكر بن عمرو بن عاصم التبيل ووفاته في المائة الثالثة قال في مناسكه: وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلي المدينة ليقرئ النبي (ص) السلام ثم يرجع قال وفي فتوح الشام إن عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له هل لك أن تسير معي إلي المدينة وتزور قبر النبي (ص) وتتمتع بزيارته فقال نعم ولما قدم عمر المدينة كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم علي رسول الله (ص) وقال في موضع آخر (1) كانت الصحابة يقصدون النبي " ص " قبل وفاته للزيارة. بقي الكلام في أن جواز زيارة القبور مخصوص بالرجال أو عام لهن وللنساء. قد عرفت في الفصل الحادي عشر ورود بعض الروايات في لعن زائرات القبور أو زوارات القبور وهذه الأخبار بعد تسليمها فقد عرفت القدح في سندها بالضعف وفي متنها بالاضطراب في ذلك الفصل محمولة علي الكراهة لتخصيص اللعن فيها بالزائرات أو

ص: 378


1- 258. ص 417 ج 2.

الزوارات دون الزائرين فإن زيارة القبور جائزة عند الوهابية بدون شد الرحال كما عرفت فلم يبق وجه لتخصيص اللعن بالزائرات إلا الكراهة لمنافاتها لكمال الستر المطلوب في المرأة سيما علي رواية زوارات بصيغة المبالغة الدالة علي أن المنهي عنه كثرة الزيارة التي لا تناسب شدة طلب الستر في النساء ولو حمل علي أن ذلك كان قبل نسخ النهي عن زيارة القبور علي ما مر كما توهم بعضهم لنافاه التعبير بالزائرات أو الزوارات لأن النسخ إن كان ففي الرجال والنساء واحتمال بقائهن تحت النهي كما حكاه السندي في حاشية سنن النسائي لقلة صبرهن واستقر به هو بعيد جدا مناف للسيرة وعمل المسلمين وقاعدة الاشتراك بين الرجال والنساء في الأحكام. قال العزيزي في شرح الجامع الصغير (1) عند شرح قوله " ص " (لعن الله زوارات القبور) قال العلقمي قال الدميري قال صاحب المهذب والبيان من أصحابنا لا يجوز للنساء زيارة القبور لظاهر هذا النهي قال النووي وقولهما شاذ في المذهب والذي قطع به الجمهور إنها مكروهة كراهة تنزيه " انتهي " ويدل علي جواز زيارة النساء للقبور بل استحباب زيارتهن قبور الأنبياء والشهداء ما في وفاء الوفا (2) روي ابن أبي شبة عن أبي جعفر أن فاطمة بنت رسول الله " ص " كانت تزور قبر حمزه ترمه وتصلحه وقد تعلمته بحجر (وروي) رزين عنه أن فاطمة كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة (ورواه) يحيي بنحوه عن أبي جعفر عن أبيه علي بن الحسين وزاد فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتي ماتت (وروي) الحاكم عن علي أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزه كل جمعة فتصلي وتبكي عنده (انتهي وفاء الوفا). " ويظهر " أن الوهابية بعدما أباحوا للنساء زيارة القبور في العام الماضي منعوهن منها في هذا العام فقد أخبرنا الحجاج إن النساء منعت من الدخول إلي البقيع في هذا العام بدون استثناء وكأنهم بنوا علي هذا الاحتمال الضعيف الذي ذكره السندي وقال به صاحب

ص: 379


1- 259. صفحة 198 ج 3.
2- 260. صفحة 112 ج 2.

المهذب والبيان من بقائهن تحت النهي فظهرت لهم صحته هذا العام بعدما خفيت عنهم في العام الأول " يمحو الوهابية ما يشاؤن ويثبتون وعندهم أم الكتاب ". لسنا نعارضهم في اجتهادهم أخطأوا فيه أم أصابوا ولكننا نسألهم ما الذي سوغ لهم حمل المسلمين علي اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب بل هو إلي الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم ولم يقل به إلا الشاذ كما سمعت والأمور الاجتهادية لا يجوز المعارضة فيها كما بيناه في المقدمات وما بالهم يسلبون المسلمين حرية مذاهبهم في الأمور الاجتهادية ويحملونهم علي اتباع معتقداتهم فيها بالسوط والسيف. كما زادوا في طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات فعاقبوا الناس علي البكاء عند زيارة قبر البني " ص " أو أحد القبور ومنعوهم منه والبكاء أمر قهري اضطراري لا يعاقب الله عليه ولا يتعلق به تكليف لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ونقلا ومنعوا من القراءة في كتاب حال الزيارة ومن إطالة الوقوف فمن رأوا في يده كتاب زيارة أخذوه منه ومزقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه (حدثني) بعض الحجاج الثقات أنه تحيل لقراءة الزيارة من الكتاب بأن فصل أوراقا منه وجعلها في القرآن وجلس يظهر قراءة القرآن ويزور فاتفق أنه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبي (ص) فدفعوه حتي أخرجوه من المسجد وأخذوا تلك الأوراق ومزقوها وأمثال هذا مما صدر منهم في حق الحجاج في مسجدي مكة والمدينة ومسجد الخيف والبقيع وغيرها مما سمعناه متواترا من الحجاج كثير يطول الكلام بنقله.

استدراك

اشاره

- 1 - في بعض ما يحكي عن ابن تيمية من المعتقدات التي فاتنا ذكرها عند ذكر معتقده في صدر الباب الأول: ففي كتاب دفع شبه التشبيه والرد علي المجسمة من الحنابلة لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي الواعظ المشهور عند ذكر الآيات التي ظاهرها التجسيم (قال) ومنها قوله تعالي (ثم استوي علي العرش) إلي أن قال: قال ابن حامد (1) الاستواء مماسة وصفة لذاته

ص: 380


1- 261. في حاشية الكتاب: هو شيخ الحنابلة الحسن بن حامد بن علي البغدادي الوراق المتوفي سنة 403 كان من أكبر مصنفيهم له شرح أصول الدين فيه طامات " انتهي " - المؤلف -.

والمراد القعود وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلي أن الله تعالي علي عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه علي العرش وفي الحاشية (1) ما لفظه: قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به أي بالقدم النوعي في العرش " انتهي " وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن الله استوي علي العرش جلوسا فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن الله أزلي وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي إن الله لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلي الأبد حتي يكون له الاستواء أزلا وأبدا. ولننظر أين يكون الله بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا فسبحان الله ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضي به لنفسه " انتهي المنقول في الحاشية " فانظر إلي قول الحنابلة سلف ابن تيمية الذين يدين بمذهبهم أن الله مستو علي العرش استواء مماسة وقعود وأنه ما ملأ العرش بل العرش أكبر منه وأنه يجلس معه نبيه علي العرش تشبيها بالملك الذي يجلس معه وزيره علي السرير وإلي قول ابن تيمية إن العرش قديم بالنوع حادث بالشخص تعالي الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا (وفي كتاب دفع شبه التشبيه) أيضا عند ذكر الأحاديث التي ظاهرها التجسيم (2) الحديث التاسع عشر روي البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي " ص " ينزل ربنا كل ليلة إلي سماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له " قال ابن حامد ": هو علي العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز علي الله. ومنهم من قال يتحرك إذا نزل وما يدري أن الحركة لا تجوز علي الله وقد حكموا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه " انتهي ". " وفي الحاشية " حكي ذلك أبو يعلي في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري وعجيب من " ابن تيمية " كتبه في معقوله غير منكر ما يرويه حرب ابن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه أنه يتكلم ويتحرك ونقل أيضا " يعني ابن تيمية " عن نقض الدارمي ساكتا أو مقرا: الحي

ص: 381


1- 262. صفحة 19 طبع دمشق.
2- 263. صفحة 46 طبع دمشق.

القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن إمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة بل يروي عنه نفسه " يعني ابن تيمية " أنه نزل درجة وهو يخطب علي المنبر في دمشق وقال: ينزل الله كنزولي هذا، علي ما أثبته ابن بطوطة من مشاهداته في رحلته وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: ذكروا أنه ذكر " أي ابن تيمية " حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين، فقال كنزولي هذا فنسب إلي التجسيم " انتهي ". - 2 - مما يتعلق بالاستغاثة ما عن الإستيعاب أنها وقعت مشاجرة بين بني عامر في البصرة فبعث عثمان أبا موسي الأشعري إليهم فلما طلع عليهم صاحوا يا آل عامر فلما سمع النابغة الجعدي برز مع قومه فقال أبو موسي ما شأنك قال سمعت دعوة قومي فأجبتها فعزره أبو موسي بسياط فقال النابغة أبياتا من جملتها: فيا قبر النبي وصاحبيه ألا يا غوثنا لو تسمعونا ألا صلي إلهكم عليكم ولا صلي علي الأمراء فينا والنابغة من الصحابة ولما قال: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له النبي (ص) إلي أين؟ قال إلي الجنة بك يا رسول الله ودعا له النبي (ص) فقال لا فض فوك. ومما يتعلق بالاستغاثة ما جاء في قصة قارون أنه لما خسف به استغاث بموسي " ع " فلم يغثه وقال يا أرض ابلعيه فعاتبه الله حيث لم يغثه وقال له استغاث بك فلم تغثه ولو استغاث بي لأغثته. - 3 - مما يتعلق بالتوسل ما عن السيوطي أن النبي " ص " استسقي فلما نزل الغيث قام رجل من كنانة فقال: لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر دعا الله خالقه دعوة إليه وأشخص منه البصر

ص: 382

أغاث به الله عليا مضر وهذا العيان لذاك الخبر وكان كما قاله عمه أبو طالب أبيض ذو غرر فلم تك إلا ككف الرداء أو أسرع حتي رأينا الدرر به قد سقي الله صوب الغمام ومن يكفر الله يلقي الغرر فقال النبي (ص) إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت. فقوله: سقينا بوجه النبي المطر. وقوله: أغاث به الله عليا مضر. وقوله: وكان كما قاله عمه الخ الذي هو إشارة إلي قوله وأبيض يستسقي الغمام بوجهه. وقوله: به قد سقي الله صوب الغمام كلها دالة علي حسن التوسل والاستغاثة بالنبي (ص) لأنه سمعها ولم ينكرها بل استحسنها. - 4 - مما يتعلق بالإقسام علي الله بمخلوق ما ذكره ابن خلكان في تاريخه قال حكي سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي قال كنا بفناء الكعبة أنا وابن عمر وابن الزبير وأخوه مصعب وعبد الملك بن مروان وذكر دعاء كل منهم أن يعطي متمناه فأعطيه فكان من دعاء عبد الله بن الزبير (أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك عليه السلام). - 5 - مما يتعلق بالنذر ردا علي استشهاد الصنعاني بحديث أن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من النخيل ما رواه صاحب الكشاف والبيضاوي وغيرهما في تفسير قوله تعالي (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " الآية ") عن ابن عباس أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت علي ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما أن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا (الحديث) قالوا ما حاصله إن عليا (ع) استقرض ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزته فجاءهم عند الافطار مسكين فآثروه وجاءهم في

ص: 383

اليوم الثاني يتيم فآثروه وفي اليوم الثالث أسير فآثروه فنزل جبرئيل وقال خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة (انتهي). - 6 - مما يتعلق بالتبرك بمنبر النبي (ص) وبآثاره ما ذكره السمهودي في وفاء الوفا (1) عن الأقشهري عن يزيد بن عبد الله بن قسيط رأيت رجالا من أصحاب رسول الله (ص) إذا خلا المسجد يأخذون برمانة المنبر الصلعاء التي كان رسول الله (ص) يمسكها بيده ثم يستقبلون القبلة ويدعون. قال: وفي الشفاء لعياض عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله كان أصحاب رسول الله " ص " إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون " انتهي ".

مستدركات الطبعة الأولي

- 7 - لم يكن نسب السعوديين اليهودي مجهولا في نجد، بل كان الكثيرون يعرفونه ويعرفون كيف تظاهر السعوديون بالعروبة والإسلام سترا لأغراضهم ومطامعهم. وممن أشار إلي هذا النسب الشاعر النجدي الشهير " حميدان الشويعر " الذي كان يجيد نظم الأشعار الشعبية المعبرة عن أحاسيس مواطنيه. ولما تحالف محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب واستحلا دماء العرب والمسلمين، لم يستطع هذا الشاعر السكوت علي المحنة التي حكمت سلالة اليهود برقاب النجديين وغير النجديين من حملة الإسلام وحفدة العروبة.. وكان هذا الشاعر يقيم ببلدة في أواسط نجد تسمي " اوشيقر " تقع قريبا من جبل يدعي " عوصاء " كان يتردد عليه " حميدان "، فقيل له يوما: لا تذهب إلي هذا الجبل لأن ذئابا تجوبه فتفترس الناس. فضحك الشاعر قائلا: مسكينة هي الذئاب، إنها مظلومة منذ عهد يوسف بن يعقوب ثم أنشد:

ص: 384


1- 264. ص 441 ج 2.

ما أخشي ذيبا في عوصا أخشي عودا في الدرعيه (1) . قولا (2) حق وفعلا (3) باطل وسلاحا (4) كتب مطوية خلي هذا يذبح هذا وهوا (5) جالس في الزوليه (6) . دم يهودا (7) في عروقا (8) من أصول عبرانية دعوتهم للدين الكاذب ما هي دعوه محمديه

ما قدمه السعوديون في الحرب الفلسطينية

- 8 - لكي نعرف ما قدمه السعوديون في الحرب الفلسطينية يكفي أن نأخذ هذه الفقرة من مذكرات القائد طه الهاشمي الذي كان رئيسا للجنة العسكرية المنبثقة سنة 1947 - 1948 عن جامعة الدول العربية للإشراف علي حرب فلسطين. وقد نشر هذه المذكرات في جريدة الحارس البغدادية، قال الهاشمي: إن الحكومة السعودية أبرقت للجنة العسكرية عن أسلحة معدة لإنجاد فلسطين موجودة في (سكاكة) بالصحراء السعودية، فأرسلت الحكومة السورية طيارات عسكرية فأحضرت تلك الأسلحة لدمشق وسلمتها إلي المصنع الحربي التابع للجيش السوري لفرزها وتبويبها، فإذا هي أسلحة عتيقة متعددة الأنواع والأشكال، فيها الموزر والشنيدر والمارتيني الخ وفيها بنادق فرنسية وانكليزية وعثمانية ومصرية ويونانية ونمساوية، وكلها بدون جبخانة وكلها مصدئة (خردة) لا تصلح لقتال... ثم قال الهاشمي: إنهم وجدوا بين هذه الحدايد بنادق مما تعبأ بالكحل من فوهتها وتدك من الفوهة أيضا، وإنها من مخلفات حملة الجيش المصري علي الوهابيين في أوائل القرن التاسع عشر.. " انتهي ". وليس هذا فقط فإن رؤساء الوفود العربية في هيئة الأمم المتحدة أرسلوا عشية الموافقة

ص: 385


1- 265. عود: أي شيخ، والدرعية هي البلدة التي اتخذها ابن سعود وابن عبد الوهاب قاعدة لهما.
2- 266. قوله.
3- 267. فعله.
4- 268. سلاحه.
5- 269. هو.
6- 270. السجادة.
7- 271. اليهود.
8- 272. عروقه.

علي قرار تقسيم فلسطين عام 1948 برقية إلي الملك السعودي يلحون عليه بإصدار تصريح - مجرد تصريح - يهدد فيه بقطع البترول إذا صوتت أمريكا علي التقسيم واعترفت بإسرائيل. فماذا كان رد الملك؟ كان إن أعطي تصريحا معاكسا قال فيه: " إن المصالح الأمريكية في السعودية محمية، وإن الأمريكيين هم من " أهل الذمة "، وإن حمايتهم وحماية مصالحهم واجب منصوص عليه في القرآن الكريم! " وهكذا تم تقسيم فلسطين وإقامة إسرائيل واعتراف أمريكا بالدولة المغتصبة بعد إعلان قيامها بدقيقة واحدة!. الخاتمة ولنقطع الكلام علي هذا القدر من الرد حامدين المولي تعالي علي توفيقه لإكمال هذا الكتاب وكان الفراغ من تسويده في أواخر شهر رمضان المبارك سنة 1346 من الهجرة بقرية شقرا من جبل عامل ووقع الفراغ من تبييضه وإعادة النظر فيه في أواسط ربيع الأول سنة 1347 بمدينة دمشق المحمية والحمد لله وحده وصلي الله علي رسوله محمد وآله وسلم. ومن تجديده وإعادة طبعه علي يد ولد المؤلف حسن الأمين في بيروت سنة 1382.

ص: 386

العقود الدرية في رد شبهات الوهابية

تأليف المغفور له: السيد محسن الأمين حققه وأخرجه: ولده حسن الأمين (الطبعة الثانية) 1382 ه - 1962 م

ص: 387

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا محمد وآله الطاهرين (وبعد) فهذه القصيدة المسماة " بالعقود الدرية في رد شبهات الوهابية " نظم الفقير إلي عفو ربه الغني محسن الأمين الحسيني العاملي تجاوز الله عن سيئاته. اشجاك ربع عند برقة ثهمد أقوي فبت مسهدا لم ترقد لعب الزمان به وبان قطينه من رائح منهم وآخر مغتدي أم هل شجيت بذي الأراك لساجع فوق الغصون من الأراك مغرد أم هل حننت إلي نوازل بالحمي رقدوا وبت لهم بليل الأرمد غادين قد زموا المطي لواغبا حتي أناخوها بأعلي الأثمد وبقيت بعدهم لذكر فراقهم تبكي بدمع للخدود مخدد أم هل بكيت علي الشباب وعصره أم هل صبوت إلي الحسان الخرد مثل الغصون بها القدود تمايلت ولها الثياب كأنها الورق الندي ترمي لواحظها المريضة في الحشا عن قوس حاجبها سهام مسدد وتسل من بين الجفون صوارما مشحوذة تزري بكل مهند ما عاد دمع العاشقين موردا إلا لحمرة خدها المتورد باتت بليلة نائم ما مسها سهد وبت لها بليل مسهد من كل واضحة الجبين اسيلة الخدين خود بضة المتجرد بيض نواعم كالغصون اوانس عين نوافر كالظباء الشرد حملت من الارداف أحقافا ومن اعطافها مثل الغصون الميد ما كان حظ الصب يوم وداعها بالرمل الا لمحة المتزود دع ذكر أيام الصبا ومواقفا لك عند رسم المنزل المتأبد

ص: 388

واهجر أحاديث الغرام وصبوة بعد المشيب لذات قد املد قم وابك منتحبا لما قد حل بالإسلام من وهن وفرط تبدد أبناؤه متشاكسون عراهم محلولة ما بينهم لم تعقد زرعوا وكان الغير حاصد زرعهم يا ويح أيد زرعها لم تحصد وملوكه أمسي يقوض ملكهم أبدا بسيف عنهم لم يغمد فرحون باسم مملك لكنه لسواه كالمملوك والمستعبد ويقوم فيهم من يسمي مصلحا بين البرية وهو عين المفسد أو مرشدا هو أحوج الأقوام لو عقل الأمور إلي اتباع المرشد معبوده إما هوي أو درهم فسوي الدراهم والهوي لم يعبد أو من يذم مقلدا لكنه لو كان يعلم ليس غير مقلد أو من يقلد دينه فيهم إلي شخص لآثام الوري متقلد أو من يثير ضغائنا ما بينهم كادت تماث كأنها لم توجد ويقوم باسم الدين يوقد نارها بغيا ولولا بغيه لم توقد يقلي أخاه به ويظهر بغضه ويقوم مفتريا عليه ويعتدي أو من يروج في الأنام ضلالة ويخالها رشدا وإن لم يرشد في كل شارقة عرين يستباح علي الآساد من مستأسد في كل غاربة لهم حصن يخرب بعد حصن بالخراب مهدد في كل ناحية لهم شمل يبدد بعد شمل قبل ذاك مبدد في كل يوم نحوهم سهم يسدد أثر سهم للنحور مسدد قد أصبحوا ما بين ثاو خامل دان وآخر في البلاد مشرد يمسي ويصبح دهره من حيرة والطرف بين مصوب ومصعد أين الألي فتحوا الحصون وقلدوا بالسيف طوق الذل كل مقلد

ص: 389

من كل قرم للكفاح معاود بشبا الصفاح علي القراع معود يمشي إلي الهيجاء مشية مسرع (عجلان ذا زاد وغير مزود) لم يكف ما قد حل بالإسلام من ضيم تذوب له صخور الجلمد وتقسم المستعمرين بلاده ووقوف سطوتهم له بالمرصد وتتابع الحملات من أطرافه قصدا لهدم أساسه المتوطد حتي أتت أعراب نجد تبتغي نكأ القروح وفعل ما لم يحمد جاءت مجددة لدين محمد زعمت وتنفي عنه كل مجدد جاءت لتهدي الناس وهابية كلا وهل يهديك غير المهتدي من عصبة فيها الجمود سجية لم يلف فيها قط من لم يجمد لولا المساعي الأجنبية ما اغتدي في الناس لابن سعودها من مسعد لولا سيوف الغرب لم يك نجمه في الشرق يوما طالعا بالأسعد فرغت من التوطيد للإسلام لم تترك من الإسلام غير موطد قد مهدت شرع النبي ولم تدع في الأرض شيئا منه غير ممهد وبها طريق الدين صار معبدا لم يبق منه قط غير معبد لم يبق في الأقطار من متمجس من فضل دعوتها ولا متهود ما أن تري بين الوري من فاجر عاص ولا من شارب ومعربد ردت عن الإسلام كل معاند وحمته من باغ عليه ومعتد ومحت من الإسلام كل ضلالة أو بدعة أو شبهة من ملحد شنت علي المستعمرين جميعهم غاراتها في كل قفر فدفد شهرت بمصر والعراق وجلق والهند أسيافا له لم تغمد في المغرب الأدني علت راياته والمشرق الأدني كذا في الأبعد فتحت أقاصي أرض إشبيلية وتخوم أندلس حوتها باليد قد حررت شرق البلاد وغربها بسيوفها من غاصب مستعبد طردت عن الإسلام كل محاول فتح البلاد وغيره لم تطرد

ص: 390

قد جردت في الفاتحين سيوفها لا يقطع الهندي غير مجرد لم تبق من مستعمر في أرضه أو فاتح لبلاده متمرد ينسي بها عهد الفتوح وما جري فيه فمثل فتوحها لم يعهد ردت إلي العرب الكرام فخارهم ولهم أعادت كل مجد اتلد وعلي سواهم وجهت حملاتها وعليهم في دارهم لم تعتدي هذا الحجاز جميعه في كفها بجباله ورماله والأنجد ولها القصيم وحائل ومرابع الدهناء تقتل من تشاء ولا تدي لم يبق غير قبور آل محمد شيدت ضلالا في بقيع الغرقد وقبور آباء النبي وصحبه بوجودها الإسلام لم يتمهد فإذا محت ما شيد من بنيانها لم يبق في الإسلام غير مشيد أمسي بها التوحيد مفقودا فمذ هدمت فما في الكون غير موحد فعدت عليها كالوحوش ضواريا وغدا ستتبعها بقبر محمد ما قبر أحمد عندها أمسي سوي صنم لقد ضلت ولما تهتد كلا لعمر الله هدم قبورهم هدم لصرح بالفخار ممرد قد حاولت والله مكمل نوره إطفاء نور ساطع لم يخمد جرت علي الإسلام أعظم ذلة بفعالها وأتت بكل تمرد ساءت جميع المسلمين بفعلها ورمت قلوبهم بحر موقد ساءت أمام المسلمين محمدا وإليه في قرباه لم تتود ساءت إله العرش فيهم فاغتدت منه بمنزلة القصي المبعد لم يكف ما صنعت بهم أعداؤهم بحياتهم من كل فعل أنكد حتي غدت بعد الممات خوارج في الظلم بالماضين منهم تقتدي لم تحفظ المختار في أولاده وسواهم من أحمد لم يولد وهم الأئمة للوري والعترة الهادون حقا قدوة للمقتدي لم تحفظ المختار في آبائه من أصيد متفرع من أصيد

ص: 391

لم تحفظ المختار في أعمامه من كل قرم بالعلي متفرد لم تحفظ المختار في أصحابه وهم الذين بهم غدونا نقتدي لم تحفظ المختار في أزواجه ولهن منه حرمة لم تجحد هدمت قبابا فوقهم قد شيدت معقودة من فوق أشرف مرقد فوق الإمام السيد الحسن الزكي ابن النبي ابن الإمام السيد والعابد السجاد زين العابدين بن الحسين الراكع المتهجد والباقر العلم ابنه والصادق القول المفضل جعفر بن محمد والسيد العباس عم محمد رب المفاخر والعلي والسؤدد والحبر عبد الله حبر الأمة البحر الخضم ومرشد المسترشد وصحابة الهادي الذين بنصرهم للدين قد فازوا بأعذب مورد والناصر المختار والد طالب عم النبي وحمزة المستشهد والمطعم الحجاج عفوا سيد البطحاء معطي الرفد للمسترفد وخديجة الغراء أم المؤمنين ومن سمت شرفا مقام الفرقد والطهر آمنة وعبد الله يا لله لليوم الفظيع الأسود وامام طيبة مالك وضريح إسماعيل نجل الصادق المتعبد قوم لهم أسمي مقام أدركوا قصب السباق به برغم الحسد سبقوا البرية في الفضائل من مسود قد غدا ما بينهم ومسود ولهم من النسب الصراح صراحه شرف قد اشتركوا به في القعدد من كل فذ ماله من مشبه أو كل ندب في الفضائل مفرد ولأمهات المؤمنين مكانة حكمت ببر في الوري وتودد وبقبر حواء وهدم ضريحه باب المذمة عنهم لم يوصد أم الأنام تعق بعد وفاتها من فعل أبناء عليها تعتدي ساؤا بذلك نسل آدم كله ولآدم جاءوا بما لم يحمد يا قبة بثري البقيع منيعة شأت الفراقد والسهي في مصعد

ص: 392

ولقبة الأفلاك دون منالها شأو الظليع غدا وسير المجهد شعت بها أنوار آل محمد بسنا علي طول الزمان مخلد من كل فذ في البرية مغتذ در النبوة بالإمامة مرتدي في بقعة ودت نجوم سمائها في الأرض من حصبائها لو تغتدي والشمس ترمقها بناظر حاسد ويرد عنها البدر مقلة أرمد كف الثريا قاصر عن نيلها أبدا وعنها الشمس قاصرة اليد تعتز بالفضل العظيم المعتلي وتطول بالشرف القديم الأتلد عاثت بشامخها اكف جفاتهم يا للابا والدين عيث المفسد هدمت معاولهم رفيع بنائها ومحت محاسنها بذاك المعهد عجبا لأحداث الزمان وما أتت فذئابه داست عرينة ملبد أمعالم الإسلام تمحي جهرة والمسلمون بمنظر وبمشهد قد نال قبر السبط شبه فعالهم في القبح من متوكل متمرد ولما تقدم من قبيح فعالهم في كربلاء زمانه لم يبعد أبقي له ولهم مخازي جمة مهما يطل زمن بها تتجدد زعمت بأن الدين أوجب هدمها لرواية جاءت بمسند أحمد يدعو أبا الهياج حيدر أنني لك باعث فانهض بأمري وأجهد كان النبي بمثل ذلك باعثي وبذي الوصية آمري ومزودي لا تبق قبرا مشرفا إلا وقد سويته فاقصد لذلك وأعمد لو أنه قد صح إسناد لها ليست تعارض سيرة لم تجحد إني وليس طريقها بمصحح وبواضح التوثيق لم تتأيد فيه المدلس والذي كثر الخطا منه ومن بغض ابن عم محمد (1) . وبها أبو الهياج منفرد وليس له سوي هذا الحديث المفرد سويته معناه مستويا لقد صيرته لا ذا سنام يغتدي هذا هو المعني إذا متعلق لم يذكروه له بغير تلدد

ص: 393


1- 273. يعلم تفسيره وتفسير غيره مما فصلناه في كشف الارتياب فراجع.

في الذكر سواها وسوي قد أتي أبدا سوي هذابه لم يقصد فمفاده نهي عن التسنيم بالتسطيح أمر فاتبعه ترشد وعليه أورده دليلا مسلم بصحيحه فبمثله فاستشهد وبذلك النووي فسره كذاك القسطلاني الإمام الأوحدي سويته ما أن يفيد هدمته في العرف إلا عند ذي فهم ردي كلا ولا سويته بالأرض يفهم منه ذو فهم صحيح جيد مع أن هذا لم يقله مسلم والرفع بالإجماع سنة مهتدي مع أنه لو تم ليس بشامل للقبة المعلاة فوق المشهد إذ كان مخصوصا بنفس القبر لم يشمل بناء حوله في الأجود هيهات هدم قبور عترة أحمد يا ويلها عن أحمد لم يسند يا للرجال لهول خطب فادح أذكي القلوب بغلة لم تبرد أعراب نجد تبتغي تعليمنا وتقوم فينا في مقام الرشد جهلت لعمر الله سنة أحمد وإلي مدينة علمه لم تقصد كم قد روي الراوون عنه رواية كذبا ولم يخشوا عقاب الموعد فلذاك قام بهم خطيبا قائلا للناس قول تهدد وتوعد كثرت علي من الوري كذابة عصت الإله وللهدي لم تنقد يا قوم من يكذب علي تعمدا فليتخذ في النار أسوأ مقعد ولكم رأوا لفظ العموم وما دروا لفظ الخصوص ولا اهتدوا للمقصد كم قد رووا من مات فهو معذب ببكاء من يبكي ولم يتجلد عمر رواه وخطأته أمه في ذاك لم تشكك ولم تتردد كم مجمل ومبين ومعمم ومخصص أو مطلق ومقيد كم من مجاز للحقيقة مشبه أو من صريح كالكناية يغتدي كم شابه المندوب محتوما ومن مكروهه المحظور لم يتجرد كم سنة في الناس تحسب بدعة ما النص شرط في خصوص المورد

ص: 394

وتفاوت الأفهام فيما قد روي الراوون في الأخبار غير محدد تخد الإله هواه في القرآن قد جاءت وتلك حقيقة لم تقصد عبد الذي أصغي إلي متكلم متكلما لكنه لم يعبد والكفر أطلق في معاصي جمة ما كفرت كإباق عبد أنكد أوليس أمة أحمد إجماعها فيه الصواب وحجة لم تردد وعلي ضلال كلها لم تجتمع فيما رويتم في الحديث المسند مضت القرون وذي القباب مشيدة والناس بين مؤسس ومجدد في كل عصر فيه أهل الحل والعقد الذين بغيرهم لم يعقد لم ينكروا أبدا علي من شادها شيدت ولا من منكر ومفند من قبل أن تلد ابنها تيمية أو يخلق الوهاب بعض الأعبد أفأي إجماع لكم أقوي علي أمثاله من مورد لم يورد فبسيرة للمسلمين تتابعت في كل عصر نستدل ونقتدي أقوي من الاجماع سيرتهم ومن قد حاد عنها فهو غير مسدد هيهات ليس نبيا ابن بليهد في الناش لم يخطئ ولم يتعمد كلا ولا العلماء قد حصرت به هي في بقاع الأرض ذات تعدد كلا ولا من وافقوه لخوفهم أو جهلهم من خائف ومقلد والجل من علماء طيبة ساكت للخوف مكفوف اللسان مع اليد دفن النبي المصطفي في حجرة شات الكواكب في العلي والسؤدد والمسلمون تجد في تعظيمها ما بين بان منهم ومشيد من ذلك العهد القديم ليومنا تعظيمهم لضريحه لم ينفد لم يهدم الأصحاب حجرة أحمد وهم الهداة وقدوة للمقتدي بل لم تزل مبنية وبناؤها في كل عصر لم يزل يتجدد إن لم يجز فوق القبور بناؤنا لم لم تهدم قبل حجرة أحمد ما كان ممنوعا لنا إحداثه إبقاؤه عن ذاك غير مجرد

ص: 395

مع أنهم قد أحدثوا بنيانها متتابعا من بعد دفن محمد زوج النبي بنت عليها حائطا بين القبور وبينها لم يعهد وابن الزبير لها بني وكذلك الفاروق ثم سميه فلنقتد يروي فتي سمهود ذلك عنهم بوفائه فعلي الوفاء تعود جهلوا تراهم ما علمتم أم غدوا متساهلين وأنتم بتشدد وتتابع البانون في بنيانها وغدت لأهل الدين أعظم مقصد لضريح أحمد حرمة ماردها غير الجهول وغير ذي الطبع الردي من في الوري يا صاح يجحد قدره هيهات شامخ قدره لم يجحد إني ودفن الصاحبين بجنبه قد جاوراه كلاهما في ملحد قد عد أعظم رتبة وفضيلة في الكون يوما مثلها لم يعدد وبنو أمية قد أبت دفن ابنه الحسن الزكي بجنبه في مرقد قالت أيدفن ثالث الخلفاء في أقصي البقيع وفي مكان مبعد والسبط يدفن عند تربة جده لنقاتلن بذابل ومهند وتجمعوا مع من يلف لفيفهم من مبرق يبغي القتال ومرعد ويقول مروان أيدفن ها هنا حسن وهذا السيف تحمله يدي لو لم يكن شرف القبور فما الذي يدعو إلي هذا المقيم المقعد وكذا ضرائح آله فلها الذي لضريح جدهم برغم الحسد قد كان بالثقلين أحمد موصيا فيما رواه أحمد في المسند وهما كتاب الله ثم العترة الهادون حقا للطريق الأرشد فهما هما تالله لن يتفرقا حتي ورود الحوض يوم المورد وهما هما قد ضل من لا يهتدي بهما ومن بهداهما لا يقتدي إن احترامهما علي كل الوري فرض بهذا النص لم يتقيد أجر الرسالة ود قربي أحمد ما ذاك فعل المخلص المتودد والله ألزمنا احترام نبيه وذوي المكانة والمقام الأمجد

ص: 396

زمن الحياة وفي الممات كليهما في غابر الأزمان والمتجدد لا ترفعوا أصواتكم عن صوته لا تجهروا بالقول في ذاك الندي في عهد أم المؤمنين كرامة وتد بدار حوله لم يوتد كانت تقول لهم فلا تؤذوا رسول الله من وتد بدار موتد عقد القباب علي قبور ذوي الهدي فيه احترام ذوي القبور الهمد وكذلكم هدم القباب إهانة لهم غدا في رأي كل مسدد والله يغضب والنبي لفعل من يبغي إهانتهم بأمس أو غد والفعل مهما يختلف عنوانه فالحكم مختلف بغير تردد ليس الذي سمي المعظم سيدا بمعنف في قوله يا سيدي والمصطفي قد قال سيدنا وسيدكم لسعد ذي المقام الأسعد ما أسقط الرحمن حرمة مؤمن بعد الممات وفضله لم يفقد هل إذ يموت المرء يعدم فضله فلم الصلاة علي النبي محمد تعظيم قبر معظم لا منع فيه وجعل خدام تروح وتغتدي يعتز ساكنه بحفاد له بين الوري ويهان إن لم يحفد زعموا البناء محرما إذ أنها أرض مسبلة لكل موسد من كان شاهد منكم تسبيلها أو وقفها بين الوري فليشهد هذا افتراء منكم وتحكم إن قد تم فطنابه لم ينقد بل إن ما يروي نفي تسبيلها عنها وأبطل شاهد المستشهد دفن ابن مظعون بها من بعدما كانت مواتا طبقت بالغرقد من بعده الهادي بها دفن ابنه من غير ما وقف وبالهادي اقتدي والناس قد دفنوا بها من بعده من غير تسبيل ولا وقف بدي قطعوا بها ما كان من شجر وما وقفوا لأجل الدفن وقف مؤبد هب أنهم وقفوا فلم يك وقفهم بالمنع عما قلتم بمقيد

ص: 397

لكن ما هدمتوه مسبل في الإثم هادمه يروح ويغتدي عبد القبور المسلمون بزعمكم كلا فغير إلهنا لم نعبد إن احترام القبر تعظيم لمن في القبر من مولي عظيم أمجد قستم بها الأصنام إن قياسكم يا قوم بالأصنام غير مسدد فاؤلائكم عبدوا الحجارة كي تقر بهم ونحن لغيره لم نعبد سجدوا مع الباري لها وتعبدوا جهلا ولم نسجد ولم نتعبد ليس احترام ذوي القبور عبادة لذوي القبور ولا لها في مورد كل احترام لو يكون عبادة في الخلق عم الشرك كل موحد والله ألزمنا احترام مساجد أفهل يكون عبادة للمسجد كم حرمة لمقام رجل خليله جعل الإله لصخرة من جلمد والشرع جاء محسنا تقبيلنا للبيت والحجر الأصم الأسود وإطاعة الأبوين فرض لازم كإطاعة الباري القديم الموجد لهما جناح الذل فاخفض لا تقل أف وبالغ في الإطاعة وأجهد ولآدم سجد الملائك كلهم دون الخبيث فذم من لم يسجد وليوسف يعقوب مع أبنائه سجدوا له قدما سجود تعمد ما كان شركا لا يكون نزاهة النص أورد فيه أو لم يورد أو كان توحيدا فليس بكائن شركا فأنقص من مقالك أو زد الحكم للموضوع ليس مغيرا بالحكم لم ينقص ولما يزدد الله فاضل بين مخلوقاته ليس التراب مساويا للعسجد شهر الصيام علي الشهور مفضل فيه قبول عبادة المتعبد وكذلك الأسبوع يفصل بعضه بعضا كذا الساعات فاكفف واهتد والشمس فضلها الإله علي السهي والبدر ليس مساويا للفرقد

ص: 398

والليث ليس به يساوي أرنب والصقر ليس مماثلا للهدهد والأرض في شرف البقاع تفاوت هل مكة أمست تعد كصرخد والمسجد الأقصي المبارك حوله كسواه أم هل حانة كالمعبد إن القبور كمن حوته تفاوتت في الفضل والشرف القديم الأتلد ذم الألي اتخذوا القبور مساجدا من ذي التنصر قبل والمتهود معناه نهي عن سجود فوقها أو جعلها لك قبلة في المسجد فبذاك أضحت وهي غير المدعي وعلي الكراهة حملها لم يبعد أو عن عبادتهم لصورة صالح بكنيسة في قبلة المتعبد قد كن أزواج النبي رأينها يوما لدي الأحباش فانظر تهتد وكذاك متخذا عليها مسجدا منه الكراهة قط لم تستبعد كرهت علي القبر الصلاة لدي جميع المسلمين ففوقه لا تسجد وعلي القبور إذا بنينا مسجدا منا الصلاة علي المقابر تغتدي وبجمعه مع زائرات للقبور تري الكراهة فيه ذات تؤيد أما البناء لمسجد من حولها قصد الصلاة فما له من مفسد من فوق أهل الكهف قد تخذ غلبوا عليهم مسجدا لم يعهد والمسلمون بحول قبر محمد قد ما بنوا للناس أفضل مسجد وبيوت أزواج النبي به لقد دخلت لدي توسيعه المتجدد والنهي عن إسراجها لو صح فالتنزيه منه ليس بالمستبعد إذ لا تكون به منافع للوري من قارئ أو زائر متردد ولأنه عبث وإسراف بلا نفع فيلزم صرفه في الأفيد والنهي عن كتب عليها جاء في خبر ضعيف نادر لم يعضد وكذا الصلاة لدي القبور تبركا بذوي القبور فليس بالصنع الردي إن الأئمة من سلالة أحمد ثقل النبي وقدوة للمقتدي قالوا الصلاة لدي محل قبورنا في الفضل تعدل مثلها في المسجد

ص: 399

عنهم روته لنا الثقات فبالهدي منهم إذا شئت الهداية فاقتد شرف المكان بذي المكان محقق وأخو الحجي في ذاك لم يتردد خير عبادة ربنا في مثله من غيره فإليه فاعمد واقصد وكذلكم طلب الحوائج عندها من ربنا أرجي لنيل المقصد إن القبور بساكنيها شرفت فلساكنيها منزل لم يحجد بركاتها ترجي لداع إنها بركات شخص في الضريح موسد لا بدع أن كان الدعاء إليه فيها صاعدا وبغيرها لم يصعد طلب الحوائج عند قبر مفضل عند الإله وبالفعال مسود كسؤالها من ربنا في مسجد أو في زمان فاضل لم يردد والنهي جاء عن الصلاة إلي القبور كما رواه أحمد في المسند لكنه إن صح غير المدعي وكذلك منه حرمة لم تقصد لكنما منه الكراهة قد بدت للفهم في النظر الصحيح الجيد والنهي عن تجديدها لا تبنين علي القبور وفوقها لا تقعد إن صح كان علي الكراهة حمله متوجها فاحمل عليها ترشد ذكر القعود علي القبور مؤيد دعوي الكراهة وهو خير مؤيد لكنها في غير من تعظيمه تعظيم ربك والنبي محمد تالله ما فهم الشمول لمثلها إلا الغبي أو الغوي المعتدي حللتم دم كل شخص مسلم ورميتم بالشرك كل موحد بل أنتم أولي بكفرانكم قد قلتم في الله قول مجسد في كل ليلة جمعة هو نازل فيما زعمتم فوق ظهر المسجد وبغير تأويل علي العرش استوي والعقل في التأويل لم يتردد إن الخوارج قبلكم قد كفروا من كان يوما مثلهم لم يجمد

ص: 400

أشبهتموهم في جميع صفاتكم حتي رأينا أمس يظهر في غد وفعلتم بالمسلمين كفعلهم بالصائم المتعبد المتهجد والمصطفي المختار أخبر عنهم بمروقهم من دينه بتعمد وكذلك المختار أخبر عنكم إذ قال في نص الحديث المسند في شامنا بارك وفي يمن لنا يا ربنا والعيش فيها ارغد في صاعنا بارك وفي مد لنا وكذا مدينتنا وظلك فامدد قالوا وفي نجد؟ فعاود قوله من غير تنقيص وغير تزيد قالوا وفي نجد؟ فجاوب قائلا لهم مقال الحانق المتهدد من نجد الشيطان يطلع قرنه في أرض نجدكم له من منجد مأوي الزلازل أرض نجدكم بها فتن تري من كل شخص مفسد هذا مقال المصطفي في نجدكم هيهات ما إن نجدكم بالأرشد فالحق يا إخوان ليس بمنجد والدين والإيمان ليس بمنجد لو يعلم التوحيد منحصرا بها لدعا لها بدعائه المتعدد أو يعلم الاشراك حتما كائنا فيما عداها في الدعا لم يجهد تالله ليس بهين تكفير من بالله آمن والنبي محمد والسفك للدم وانتهاك محارم منه وجعلك مسلما كالملحد وإخافة للمسلمين وتركهم ما بين مقتول وبين مصفد للرأي من شخص خطاه وجهله بين البرية ليس بالمستبعد قد قلدته الرأي وهابية من مرعد ما بينهم أو مزبد قالوا شفاعة أحمد حق وإن تسأله إياها بشرك تلحد من قال في الدنيا له اشفع لي إلي الباري فهذا الشرك دون تردد بل قل إياه رباه شفع أحمدا فينا غدا واقبل شفاعة أحمد

ص: 401

من يدع أحمد للشفاعة فهو من عباد أحمد وهو غير موحد حيث الدعاء عبادة بل مخها بنظيره الإنسان لم يتعبد لا تدع من أحد مع الباري ولا تعبد سوي الباري وربك فاعبد قلنا الدعاء عبادة فيمن دعا المخلوق مثل الواحد المتفرد لكن من يدعو المشفع قائلا يا سيدي اشفع لي له لم يعبد لا تدع من أحد مع الباري به معني العموم من دعا لم يقصد ليس المعية في الوجود مرادة كاغفر ذنوبي واغسلن يا ذا يدي لو كان دعا عبادة من دعي بين الأنام موحد لم يوجد من جاء يدعو شافعا لشفاعة لم يدع من عبد دعاء السيد بل كان من قال اسقني هو عابد وكذاك قول انصر صديقك واعضد كيف الشفاعة حقة وسؤالها شرك تعجب للجهالة وازدد ما كان حقا لا يكون سؤاله شركا فأنقص من مقالك أو زد قالوا وشرك الجاهلية قولهم صنما لغير شفاعة لم نعبد كذبوا فشرك الجاهلية لم يكن طلب الشفاعة من شفيع مفرد بل كذبوا رسل الإله وكتبه وآتوا بدين غير ذاك مجدد عبدوهم كي يشفعوا عبدوا وقالوا هم لنا الشفعاء يوم الموعد العطف والتعليل بينهما قضي فيما قضي بتغاير وتعدد عبدوا الحجارة طالبين شفاعة منها وليس لها الشفاعة تغتدي إن أصبحت صورا لعبد صالح أو غيره لشفاعة لم تعدد لا يقدرون علي عبادة ربهم زعموا لذا عبدوا المصور باليد والبعث أنكره فريق منهم والقول في عيسي شهير المقصد قالوا دعاء القادرين علي الذي منهم يراد مجوز لم يردد لكنما الممنوع إن تدعوهم فيما استطاعتهم له لم توجد كدعاء ميت في القضاء لحاجة لم يستطعها غير رب سرمد كشفا المريض ورد شخص غائب ونمو زرع بعد لما يحصد

ص: 402

قلنا فكيف جعلتم من أحمد طلب الشفاعة مثل فعل الملحد والله أعطاه الشفاعة فاغتدي ذا قدوة وهو المشفع في غد هذا التناقض لا تناقض مثله لنظيره الأسماع لم تتعود أبمثل هذا الجهل قد حللتموا سفك الدماء وما لكم من مسند إن الذي يأتي لباب مليكه متشفعا بوزيره لم يردد أفإن تشفعنا بأشرف خلقه طرا إليه نلم به ونفند إن الصحابة بالنبي تشفعوا ورجوا شفاعته بيوم المورد هذا سواد قد تشفع واستغاث بقوله في شعره المتردد كن لي شفيعا يوم ما لي شافع يغني فتيلا لا ولا من مسعد كفرتم من يستغيث بميت ذي منزل عند الإله السرمد وزعمتم طلب الحوائج منهم شركا بدا من طالب مستنجد إني وليس سوي التشفع بالمقرب عند ربك في نجاح المقصد طلب الحوائج ليس شركا إنما تلك الشفاعة فاتخذها تسعد حتي الذي قد أسند الأفعال للمخلوق فهو حقيقة لم يسند في المسلمين الحال تشهد أنهم قصدوا التجوز في انتساب المسند كبني الأمير مدينة أو انبت البقل الربيع بغير ذا لم تشهد فالاستغاثة والدعاء تشفع بالمستغاث وليس ذا بتعبد ثم التشفع لا يراد به سوي طلب الدعا من صالح مستنجد إن كان ليس بقادر في زعمكم فيكون مثل سؤال مشي المقعد أو كان يقدر وهو أصوب لم يكن شركا وليس مريده بمفند فالروح تشفع عند ربك إنها موجودة في علمه لم تفقد لا تحسبن من في سبيل الله قد قتلوا من الموتي ولا تستبعد وترد روح محمد فيرد تسليم امرئ يهدي السلام ويبتدي بل لا يمر علي القبور مسلم فيما رووا وسلامه لم يردد

ص: 403

صلوا علي وأكثروا فصلاتكم يا قوم تبلغني وتأتي مرقدي وعلي تعرض دائما أعمالكم بعد الممات وإنني في ملحدي إن كان من شر أكن مستغفرا لكم وإن خيرا شكرت وأحمد فإذا استغثنا بالنبي وآله في كشف معضلة وأمر مجهد نسب الضلال لنا وهم شفعاؤنا عند الإله ونجدة المستنجد ما ساغ في دفع اليسير دعاؤهم ويسوغ في دفع العذاب السرمد هذا التحكم لا تحكم مثله هذا مقال الجاهل المتعند قالوا التوسل بالعباد محرم كذبوا وقد ضلوا سبيل المهتدي هذا الكتاب كتاب ربك ناطق إن التوسل من نجاح المقصد أبدا إلي الله الوسيلة فابتغوا في الذكر جاءت حجة لم تردد لو أنهم جاؤوك إذ ظلموا كفت عن كل نص أو حديث مسند فازوا بمغفرة الإله لهم وما ردوا وأنت لدي الدعاء لم تردد حال الحياة وفي الممات كليهما فبواحد من ذاك لم تتقيد إن التوسل بالنبي لدي الحياة وفي الممات وقبل وقت المولد جاءت به الأخبار وهي كثيرة قد ضل من بضيائها لا يهتدي فلقد توسل آدم بمحمد وبآله ومحمد لم يوجد وتوسل الأعمي بحق محمد فغدا بصيرا وهو لما يفقد وتوسل الأصحاب بعد محمد بمحمد متحقق لم يجحد سألوه بعد الموت يستسقي لهم فسقوا به وكأنه في المشهد وبكوة بين السماء وقبره مطروا بغيث مثله لم يعهد وقضي ابن عفان عقيب توسل بالمصطفي المختار حاجة مجتدي وبعمه العباس يستسقي لهم عمر فكان دعاؤه لم يردد بالأنبياء وبه (1) توسل أحمد إذ رام يدفن أمه (2) في ملحد

ص: 404


1- 274. أي بنفسه بقوله بحق نبيك والأنبياء قبلي اغفر لأمي فاطمة بنت أسد.
2- 275. أي فاطمة بنت أسد ويسميها أمه.

وبصالح الأعمال قد نقل البخاري التوسل في الحديث المسند (1) هذا يسير من كثير قد أتي فدع المرا ومن التوسل فازدد وهو الوسيلة دون كل الأنبيا يوم المعاد ونجدة المستنجد فبه توسل دائما وبآله وبخير أصحاب له واستنجد فهم الوسيلة للإله بما لهم عند الإله من المقام الأوحد وارفض مقالة جاهل ومعاند واهجر طريقة جامد ومقلد قالوا قريب ربنا من عبده ويجيب داعيه ولم يتبعد أدني إليه من الوريد يقول ادعوني أجبكم عنكم لم ابعد فلم التوسل والتشفع بالوري ادع الإله وغيره لا تقصد قلنا فكيف الله قال لنا اطلبوا لكم الدعا من غيركم بتأكد حتي النبي محمد طلب الدعا من غيره فيما رووا عن أحمد هل كان ذلك يا تري من بعده عن ربه أو إنه لم يبعد الحلف بالمخلوق شرك عندهم والله نعم المقتدي للمقتدي فالله في القرآن صرح مقسما بالخلق في قسم له متعدد بالتين والزيتون والبلد الأمين وبالضحي الضاحي وليل أربد والعاديات النازعات الناشطات السابحات السابقات لمقصد بالفجر أقسم والليالي العشر والشفع الذي بالوتر أصبح يبتدي والمصطفي وأبيك قال بمورد وأبيه أيضا قالها في مورد وكذا ببيت الله أقسم عمه فاقر وهو بمسمع وبمشهد وأبيك فاه بها أبو بكر ومن قالوا لعمرك جمعهم لم يعدد وأتي بمخلوق كذاك بحقه قسم علي الباري فلا تتشدد وبقول مسروق سألتك بالذي في القبر إقناع لكل مفند

ص: 405


1- 276. في خبر الثلاثة الذين انسد عليهم الغار فتوسل كل بعمل صالح عمله فانفرجت عنهم الصخرة.

والنهي عن حلف بغير الله مح مول علي فصل الخصومة يغتدي أو حلفهم باللات والعزي كما قد كان يفعله الجهول المعتدي والحمل فيه علي الكراهة ممكن واللعن في المكروه لم يستبعد ندب زيارة أحمد في قبره أعظم بندب في النصوص مؤكد فهو الوسيلة في المعاد وفي الدنا نعم الشفيع ونعم جدوي المجتدي من زار قبري قد رووا وجبت له مني الشفاعة للإله ويسعد من زار قبري عند حج كالذي منه الزيارة في حياتي تغتدي ولقد جفاني من يحج ولم يكن لي زائرا من أبيض أو أسود من زارني وإلي المدينة جاءني كنت الشهيد له شفيعا في غد من زارني متعمدا جاورته يوم القيمة جيرة بتعمد من حج مكة ثم أصبح قاصدا لي بالزيارة زائرا في مسجدي ثنتان من مبرور حج خالص كتبا له الجزاء يوم الموعد وافي بلال من دمشق لطيبة متحملا ليزور قبر محمد لما رآه في المنام معاتبا فأفاق ذا وجل بطرف مسهد وأتي إليه باكيا وممرغا وجها عليه بغلة لم تبرد قد جاء يروي ذلك ابن عساكر عنه بإسناد قوي جيد قد كان صالح آل مروان (1) الذي في الأجر من رب السما لم يزهد يمضي بريدا للسلام علي النبي لغير ذاك بريده لم يبرد زار النبي لأمه قبرا ولم تسلم بزعم الخصم أو تتشهد نص رواه مسلم بصحيحه هل بعد هذا النص من متردد زوروا القبور رواه أيضا مسلم عنه فهل من مسلم لا يقتدي وكذا زيارة غيره من آله ومن الصحاب وكل فذ وحدي

ص: 406


1- 277. عمر بن عبد العزيز.

وحديث لا تشدد لغير ثلاثة رحلا يراد به خصوص المسجد شد الرحال إلي الثلاثة وحدها ولغيرها من مسجد لا تشدد مع أن معناه تأكده لها لكنه للغير لم يتأكد وإلي قبا كم كان يأتي المصطفي مشيا وطورا راكبا فبه اقتد لا فرق في الأسفار بين بعيدها لو صح ما قلتم وما لم يبعد ومضي إلي الشهدا بأحد زائرا فزر القبور ودع مقال مندد والبضعة الزهراء كانت دائما تأتي لزورة عمها المستشهد ندب زيارات القبور مؤكد بعدت عن الزوار أم لم تبعد ندب تأكد للرجال وللنسا أو للنساء الندب غير مؤكد وعلي البناء توقفت في الحر والبرد الشديد لزائر متردد لولا البنا درست معالمها وما عرفت ولا يوما لموضعها اهتدي ومقدمات المستحب جميعها في الندب عنها حكمه لم يزدد لعن الرسول لزائرات للقبور إلي حقيقة لفظه لم يقصد وكذاك متخذ المساجد فوقها والسرج في الليل البهيم الأربد إن صح فهو سوي محل نزاعنا منه الكراهة قط لم تستبعد والنهي مخصوصا غدا بالزائرات من النساء لغاية لم تجحد وهي التستر والحجاب فوجهه التنزيه فاعدل في مقالك واقصد فشريكه في النهي محمول علي التنزيه في الرأي الأصح الأرشد واللعن في المكروه جاء بكثرة وكذا نظائره فلا تستبعد لعن المحلل والمحل له ولا تحريم فيه علي الأصح الأجود حسن تمسحنا بقبر محمد قصد التبرك فاتبعه تحمد وضعت علي العينين فاطم تربه وبكته فعل الواله المتوجد تقبيله حسن وليس محرما بل كان تعظيما كتقبيل اليد شرف الأديم إذا يجاور مصحفا ويهان حيث تراه نعلا يغتدي

ص: 407

ما جاور المسك الذكي ذكا به منه الأريج قضية لم تردد إن الكنيف إذا يعمر مسجدا يسمو إلي شرف سمو المسجد فالأرض إن أمست ضريحا للنبي أو الوصي تنل عظيم السؤدد وإذا يجاورها حديد ثم أو خشب ففيه الفضل غير محدد والمنبر المنسوب للهادي يشر فه بتشريف له متأكد إن الصحابة بالنبي تبركوا ببصاقه ووضوئه في مشهد أفقبره الحاوي مقدس جسمه عن ذاك ينقص لا إذا لم يزدد ما كان يركب مالك في طيبة قصدا لتعظيم النبي محمد في قبر فاطمة تمرغ أحمد كيما يبارك ترب ذاك المرقد وكذا يجعل قميصه كفنا لها دفع العذاب عن التي في الملحد وكذا توجهنا لقبر محمد عند الدعاء تشفع بمحمد لا منع فيه لذي البصيرة والذي غطي بصيرته العمي لا يهتدي أفتي به المنصور قدما مالك إذ جاء يسأله ولم يتردد أستقبل الوجه الشريف لدي الدعا أم قبلة جعلت لكل موحد فأجابه لم أنت وجهك صارف عنه بل استقبله واسأل واجهد لك منه خير وسيلة كانت به لأبيك آدم في الزمان الأتلد قالوا القبور غدت لديكم وهي كالأصنام فرق بينها لم يوجد للقبر نذركمو وذبحكمو له كالذبح للأصنام من متعمد كلا فلم يذبح ولم ينذر لها من مسلم في دينه متقيد لكنما الفقراء خصهم بها وثوابها أهدي لرب المشهد راموا من البدع الخلاص فأوقعوا بأشد منها في العقاب وأنكد إياك والإفراط فالإفراط كالتفريط كل منهما لم يحمد ويل لمن أمسي يدخن بينهم فله العقاب الجم غير مصرد

ص: 408

يا قوم إن حرمتم التدخين عن بعض اجتهاد منكم وتشدد فلغيركم فيه اجتهاد مثله في حكمه الأقوال لم تتوحد وبالاجتهاد غدا الثواب مقررا فسد الدليل عليه أو لم يفسد فلم العقاب عليه منكم أيها الإخوان والإجماع لما يعقد إن جاز في الشرع اجتهاد للوري فالمنع عنه خطيئة لم تحمد فدعوا اجتهاد المسلمين فكلهم في ذاك يعذر عند ربك في غد لذوي الإصابة أجرهم متعددا للمخطئين الأجر لم يتعدد إن كان برهان فجيئونا به باللين لا ببنادق ومهند ادع الأنام إلي السبيل بحكمة وبحسن موعظة ولا تتشدد للدين لا إكراه فيه فقد بدا رشد وغي منه للمسترشد إن الشريعة سهلة سمحاء ما جاءت بعسر لا ولا بتشدد الحق بالبرهان يظهر للوري إن كان، لا تحت القنا المتقصد هب أن تشييد القبور محرم وله أدلة ديننا لم تعضد أفليس مصلحة الزمان تجيزه فبفاسد قد جاز دفع الأفسد فدعوا المفيد من الأمور بزعمكم لضرورة وتمسكوا بالأفيد وعن المكوس سكتم من خوفكم شق العصا ووقوعكم في المفسد هلا سكتم عن قبور هدمها أذكي القلوب بمضرم لم يخمد سئتم جميع المسلمين بفعلكم فلهم قلوب حرها لم يبرد والناس حاقدة عليكم كلها لم يلف بين الناس من لم يحقد وسررتم الشيطان في أفعالكم بتبدد للشمل بعد تبدد أبهذه الأيام وهي عصيبة سود يشيب لهن فود الأمرد والمسلمون لكل شخص منهم مما عراهم عبرة المتنهد عضدت بمصقول الشبا شجراتهم لكن بغير أكفهم لم تعضد

ص: 409

عضدت ولم يوجد لها من عاضد واها لها معضودة لم تعضد قمتم بإيغار الصدور وجئتم تورون نار غضاضة لم تخمد وملأتم الأقطار من غزواتكم في كل عامرة وقفر فدفد وبها يفل الحد من إخوانكم بغيا ويشحذ حد سيف الأبعد وأبحتم قتل النفوس تعمدا فلكم تحق عقوبة المتعمد والعرب إنهم هم الأحرار قد وضعت عليهم ربقة المستعبد قف بالحجاز وعج علي مصر وفي سورية أنظر والعراق له أقصد (1) . تلق الفواجع أحدقت في حيث لا جلد لذي لب ولا متجلد واعطف علي اليمن المبارك هل تري بين القبائل فدية للمفتدي من كان يرجو الخير للإسلام عن يدكم وللعرب الكرام المحتد فهو الغبي وكيف يرجو الخير من أهل الجمود سوي الغبي الأجمد والله ليس بغافل عن فعلكم لكنه أمسي لكم بالمرصد فتوقعوا عقبي جنايتكم بدنياكم وفي أخراكم فكأن قد إنا نوحد ربنا وعلي سوي التوحيد فيه قلوبنا لم تعقد ننفي الشريك وكل ند عنه جل وعز من متفرد متوحد لم يتخذ حاشاه صاحبة ولا ولدا ونشهد أنه لم يولد ولقد شهدنا بالنبي المصطفي وبغيره من بعده لم نشهد ولآله الأطهار وإلينا ومن أعدائهم نبرأ ولم نتردد وبكل ما قد جاء آمنا ولم نحفل بقول مفند ومندد ونعظم الهادي وكل معظم حيا وميتا باللسان وباليد ونعظم القبر الذي قد ضمه فيه تشرف واعتلي للفرقد ونزوره متبركين بتربه فيه جلاء الطرف لا بالأثمد وبلثمه وبلمسه يجلي الصدا عند المحب له عن القلب الصدي زره علي رغم الجهول فإنه غيث الوري وإليه رحلك فاشدد

ص: 410


1- 278. كان ذلك قبل خمس وثلاثين سنة في عنفوان طغيان الاستعمار " الناشر ".

وبه لحط الذنب كن متوسلا نعم الوسيلة للفقير المجتدي وهو الشفيع بحيث كل الأنبياء لم يشفعوا عند المهيمن في غد واسأل من الرحمن ربك عنده الحاجات تعط مناك فيه وتسعد قم عنده لله ربك داعيا تبكي بدمع للخدود مخدد قل يا إلهي ارحم به وبآله واغفر ذنوبي ربنا وتغمد والثم ثراه فإنه خير الثري وانشق شذا مسك به وتزود خير من الركن المقبل تربه وكذا من الحجر الأصم الأسود ولقد تشفعنا به وبآله لله في نيل المني والمقصد ولقد برئنا من فعال عصابة هدمت ضرائح آل بيت محمد إن كان شركا فعلنا هذا فلا خير بتوحيد سواه مجدد تم بحمده تعالي نظمها ضحوة يوم الجمعة الرابع من شهر جمادي الثانية سنة 1345 وانتهينا من إعادة النظر فيها غدوة يوم السبت التاسع من شهر ربيع الأول سنة 1347 هجرية والحمد لله علي توفيقه وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وسلم. وتم تجديد طبعها علي يد ولد المؤلف حسن الأمين في بيروت سنة 1382

ص: 411

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.