اسم الكتاب: قراءة العزائم في الصلاة – 39 –
التأليف والناشر : المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام.
الطبعة : الأولى – 1422ه_.
الصفحات: 28.
العزائم جمع العزيمة أي الفريضة، وسور العزائم بتقدير المضاف أي سور السجدات العزائم أي الفرائض أي الواجبات، وهي في الفقه الإمامي سور: السجدة وفصلت والنجم والعلق. ولا تشمل الموارد الاُخري من آيات السجود، وقد اختلفت المذاهب الإسلامية في حكم سجود التلاوة لمن قرأ احدي آيات السجود في صلاته، فقالت الحنفية بجواز ذلك، وإذا قرأها المصلي وجب عليه السجود فوراً في أثناء الصلاة، وقال سائر الجمهور بجواز قرائتها في الصلاة علي كراهية، وعدم وجوب السجود لعدم ثبوت وجوب سجود التلاوة عندهم، وقالت الإمامية بعدم جواز قراءة خصوص العزائم الأربعة منها في الصلاة، وأن الصلاة تبطل بذلك لوجوب السجود فيها. وهذا البحث مخصص لدراسة هذه الآراء الثلاثة، وبيان أدلتها وانتقاء ماهو الصحيح، الذي يساعد الدليل الكتابي والنبوي علي اعتباره.
استدلّ أبو حنيفة وأصحابه علي وجوب سجود التلاوة بأدلة، منها: قوله تعالي: (فَمَا لَهُمْ لا يُ_ؤْمِنُون - وَإذَا قُرِئَ عَلَ_يْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [1] فذمّهم بترك السجود ووبّخهم عليه فدلّ علي وجوبه [2] . ومنها قوله (صلي الله عليه وآله): «السجدة علي من سمعها وعلي من تلاها» [3] . ومنها ما رواه أبو هريرة عن النبي (صلي الله عليه وآله) أنّه قال: «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان، يقول: يا ويله اُمرَ ابن آدمَ بالسجود، فسجد، فله الجنة، واُمرت بالسجود فأبيت فلي النار»، قال في فتح القدير: «والأصل أن الحكيم إذا حكي عن غير الحكيم كلاماً ولم يعقبه بالانكار كان دليل صحته، فهذا ظاهر في الوجوب، مع أن آي السجدة تفيده أيضاً، لأنها ثلاثة أقسام: قسم فيه الأمر الصريح به، وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة، حيث اُمروا به، وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود، وكل من
الامتثال والاقتداء ومخالفة الكفرة واجب، إلاّ أن يدل دليل في معين علي عدم لزومه...» [4] . ومع ثبوت وجوبها عندهم أصبح أداؤها واجباً علي كل من تلا آية السجدة، بلا فرق بين من كان في حال الصلاة وغيرها، بل إن سجدة التلاوة إذا وجبت في الصلاة تأخذ عندهم مزية الصلاة [5] .
ومضي سائر الجمهور الي عدم وجوب سجدة التلاوة وقالوا باستحبابها، قال ابن قدامة: «إنّ سجود التلاوة سنّة مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا ومالك والأوزاعي والليث والشافعي، وهو مذهب عمر وابنه عبدالله» [6] . وقال الماوردي: «يستحب لمن قرأ السجدة أو سمع من يقرأها، أن يسجد لها، في صلاة كان أو غير صلاة، ولا تجب عليه قارئاً كان أو مستمعاً، وبه قال عمر، وهو مذهب مالك [7] . وقال ابن حزم في المحلّي بذلك أيضاً [8] . واستدلّ ابن قدامة علي رأي عامة الجمهور بقوله: ولنا ما روي زيد بن ثابت، قال: «قرأت علي النبي (صلي الله عليه وآله) (النجم) فلم يسجد منّا أحد» متفق عليه، ولأنه اجماع الصحابة، وروي البخاري والأثرم عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة علي المنبر بسورة النحل، حتي إذا جاءت السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتي إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتي إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنّما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا اثم عليه، ولم يسجد عمر، وفي لفظ إنّ الله لم يفرض علينا السجود إلاّ أن نشاء، وفي رواية الأثرم، فقال: علي رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلاّ أن نشاء، فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا، وهذا بحضرة الجمع الكثير فلم ينكره أحد ولا نقل خلافه، فأما
الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا مشروعيته، وقياسهم ينتقض بسجود السهو، فإنّه عندهم غير واجب» [9] . واستدلّ الماوردي عليه، بقوله: «ودليلنا رواية عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند رسول الله (صلي الله عليه وآله) بسورة النجم فلم يسجد، ولو كان واجباً لسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأمر به زيداً، وروي أنّ رجلاً قرأ عند الرسول (صلي الله عليه وآله) آية السجدة، فسجد، وقرأها آخر فلم يسجد، فقال (صلي الله عليه وآله): كنت إمامنا فلو سجدت سجدنا، وفيه دليلان: أحدهما: أنه لم يأمره بالسجود وأقرّه علي تركه. والثاني: قوله (صلي الله عليه وآله): «لو سجدت سجدنا» علي سبيل المتابعة والتخيير. وروي الشافعي أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة علي المنبر يوم الجمعة فسجد، وقرأها في الجمعة الثانية فتهيّأ الناس للسجود، فقال: أيخها الناس، علي رسلكم إنّ الله لم يكتبها علينا إلاّ أن نشاء، وروي عنه الشافعي، أنّه قال: فمن سجد فقد أحسن، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فدلّ قوله بحضرة الملأ من المهاجرين والأنصار، وعدم مخالفتهم له، علي إجماعهم أنّه ليس بواجب، ولأنه سجود يجب للمسافر فعله علي الراحلة في الأحوال فاقتضي أن لا يكون واجباً، أصله سجود النافلة، ولأنها صلاة غير واجبة، فوجب أن لا يكون السجود لها واجباً أصله إذا أعاد تلك الآية، ولأنه لما لم يجب عند العود الي التلاوة لم يجد عند ابتداء التلاوة كالطهارة، ولأن كل سجود لا تبطل الصلاة بتركه فهو مسنون كسجود السهو. وأما قوله تعالي: (وَإذَا قُرِئَ عَلَ_يْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [10] فالمراد بها الكفار، بدليل ما تعقبها من الوعيد الذي لا يستحقه من ترك سجود التلاوة،
وقوله تعالي: (لا يَسْجُدُونَ) يعني لا يعتقدون، ألا تري قوله تعالي: (بَلِ الَّذِينَ كَ_فَ_رُوا يُ_كَ_ذِّ بُونَ) [11] وأما قياسهم فباطل لسجود السهو، علي أن المعني في سجود الصلاة كونه مرتباً في أوقات معتبرات» [12] . هذا هو رأيهم في أصل سجود التلاوة، أما قراءة آيات السجود ومنها العزائم الأربعة في الصلاة فهو جائز عندهم، ويرسلون الكلام عنه إرسال المسلّمات، ثم يفصلون في حكم المسألة بين صورة صلاة الجماعة والصلاة الانفرادية.
واستدلّ الإمامية علي رأيهم في المسألة، بأدلّة ننقلها عن مصادرهم المعروفة، واحداً بعد الآخر، بعد حذف الأدلّة الخاصة التي استدلّوا بها، وهي الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المقام. قال السيد المرتضي في الانتصار: «والوجه في المنع من ذلك، مع الاجماع المتكرر، أن في كل واحدة من هذه السور سجوداً واجباً محتوماً، فإن سجده كان زائداً في الصلاة، وان تركه كان مخلاًّ بواجب» [13] . وقال الشيخ الطوسي في الخلاف عن عدم جواز قراءة العزائم في الصلاة: «دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً الذمة مشغولة بالصلاة بيقين، ولا تبرأ إلاّ بيقين مثله، وهو أن يقرأ غير العزائم...» [14] . واستدلّ علي وجوب السجود في العزائم، بأدلة أوّلها: «اجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون فيه» [15] . واستدلّ العلامة الحلّي في التذكرة علي عدم جواز قراءة العزائم في الصلاة بقوله: «... ولأنّ سجود التلاوة واجب، وزيادة السجود مبطل، وأطبق الجمهور علي جوازه للأصل، وإنّما يكون حجة لو لم يطرأ المعارض» [16] . وأضاف صاحب الجواهر بأنّه: «قد يستفاد وجوب سجود التلاوة من نحو قوله تعالي: (وَإذَا قُرِئَ عَلَ_يْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) باعتبار الذمّ علي ترك السجود لقراءة القرآن، ولا مورد له بعد الاجماع وغيره
إلاّ الأربع المزبورة خاصة...» [17] . وواضح أن رأي الإمامية هذا مبني علي مقدمتين: الاُولي: وجوب السجود عند قراءة آية السجود في العزائم الأربعة. والثانية: بطلان الصلاة بإتيان السجود للعزيمة باعتبارها زيادة خارجة عن أصل الصلاة. ومعلوم أنّ المكلف ملزم باتمام الصلاة وعدم إبطالها بايقاع عمل أجنبي عنها في أثنائها، فيلزم من ذلك عدم جواز القيام بمثل هذا العمل، لكونه حينئذ من أبرز مصاديق نقض الغرض. ومجموع هاتين المقدمتين ينتج عدم جواز قراءة العزائم في الصلاة. والأحناف وافق_وا الإمامية ف_ي المقدمة الاُولي مع تعميم الوجوب لكل آيات السجود في القرآن الكريم، وخالفوهم في المقدمة الثانية، وسائر الجمهور خالفوا في كلتيهما. ورغم أن الجمهور من الأحناف وغيرهم قد استدلّوا علي مخالفتهم للمقدمتين بوجوه مرّ ذكرها، إلاّ أن التأمل العلمي الدقيق يقودنا الي الاعتقاد بتمامية المقدمتين وعدم صحة ما أورد عليهما من المناقشات والمخالفات. أما مخالفتهم في المقدمة الاُولي فهي أنّهم قد ادّعوا عدم وجوب سجود التلاوة للعزائم بأدلّة هي: 1 _ ردّ دلالة الآية (وَإذَا قُرِئَ عَلَ_يْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) علي وجوب السجود. 2 _ رواية عطاء بن يسار. 3 _ رواية رجل عن رسول الله في ذلك. 4 _ رواية عن عمر بن الخطاب في ذلك تفيد اجماع الصحابة علي عدم وجوب السجود. 5 _ إنّ كل سجود لا تبطل الصلاة بتركه فهو مسنون. 6 _ إن أداء سجود التلاوة علي الراحلة من مسافر قادر علي النزول يدلّ علي كونه مستحبّاً. هذه هي الوجوه والأدلّة التي استدلّوا بها علي عدم وجوب سجود التلاوة، وها نحن نستعرضها لنري مدي متانتها. أما ردّهم دلالة الآية علي الوجوب فغير وجيه، وتعليلهم الردّ بأن المخاطب في الآية هو الكفار
غير سديد، لأن العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب، كما يقول المفسرون، وأن المورد لا يخصص الوارد، كما يقول الاُصوليون، بل إن المخاطب في الآية أعمّ من المؤمن والكافر، ذلك أنّ الشيء الذي وقع مورداً لاستنكار الآية هو عدم السجود لأمر يستحق في نفسه السجود فضلاً عن الاذعان والتصديق، وهو تلاوة القرآن الكريم، وواضح أن قبح هذه الحالة يشتدّ حينما يقترن عدم السجود بالانكار والاستكبار، فأصبح الكفار لأجل ذلك المخاطب الأوّل في الآية، مع أن مخاطبها الحقيقي هو أعم من الكافر والمؤمن، لوضوح أن السجود لا يقع إلاّ من المؤمن، ولا يعقل أن تستنكر الآية من الكفار عدم السجود لله عند تلاوة كتابه، وهم علي ماهم عليه من حالة الكفر والعناد، وإنّما استنكرت منهم عدم الاذعان وعدم الإيمان بآيات إلهية لا تستحق من الإنسان الإيمان فقط، بل تستحق منه السجود عند تلاوتها عليه أيضاً، ولذا ابتدأت الآية باستنكار عدم الإيمان، وانتهت باستنكار عدم السجود: (فَمَا لَهُمْ لا يُ_ؤْمِنُون - وَإذَا قُرِئَ عَلَ_يْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ)، وحينئذ يكون مطلوب الآية من الكفار هو الإيمان والاذعان والتسليم، ثم إذا آمنوا وأسلموا واذعنوا أصبحوا مطالبين بأمر جديد هو السجود عند تلاوة آيات الكتاب العزيز، كما هو الأمر بالنسبة الي سائر المؤمنين، وحيث إن الاجماع قائم علي عدم وجوب السجود لتلاوة القرآن الكريم يصبح مقتضي الجمع بين الآية وبين هذا الاجماع هو وجوب السجود عند تلاوة آيات مخصوصة هي التي ورد فيها معني الأمر بالسجود. فدلالة الآية علي وجوب سجود التلاوة تامة لا غبار عليها. وأما رواية عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت، فقد أوردها البخاري ومسلم في صحيحيهما، ونصّها عند البخاري، عن ابن قسيط، عن عطاء بن
يسار، أنّه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت (رضي الله عنه)، فزعم أنه قرأ علي النبي (صلي الله عليه وآله) (والنجم) فلم يسجد فيها [18] ، وفي صحيح مسلم، عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنّه قرأ علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) (والنجم إذا هوي) فلم يسجد [19] . والرواية تنقل لنا سنّة عملية للرسول (صلي الله عليه وآله)، وهناك رواية اُخري تنقل لنا سنّة عملية له (صلي الله عليه وآله)، تفيد أنه (صلي الله عليه وآله) سجد في سورة النجم، رواها عبدالله بن عمر، وذكرها البخاري في صحيحه في باب باسم «باب سجدة النجم» [20] . والمعروف أن السنّة العملية مجملة لا يستدل بها علي وجوب ولا استحباب، وإنّما يستدلّ بها علي المشروعية فقط، فكما أن رواية عبدالله بن عمر لا تفيد الوجوب، لاحتمال أن سجود النبي كان لأجل الاستحباب، كذلك رواية عطاء بن يسار لا تفيد عدم الوجوب، لاحتمال أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد سجد بعد ذلك، خاصة وأن الراوي، وهو عطاء، نقل عن زيد بن ثابت جوابه واصفاً إيّاه بالزعم، وهذا الوصف يطلق علي الكلام الذي لم يثبت بعد، وهو يرادف الادعاء، وكأنّ في نفس عطاء شيئاً من كلام زيد. وأما رواية الرجل الذي قال له الرسول (صلي الله عليه وآله): «لو سجدت سجدنا» التي ذكرها صاحب الحاوي الكبير، فهي مرسلة لا اعتناء بها كما هو واضح. وأما ادعاء الاجماع من الصحابة في المسألة المستفاد من كلام عمر بن الخطاب، وسكوت الصحابة عنه، المروي في صحيح البخاري [21]
وسنن البيهقي [22] ، فإذا صح فهو خاص بالآيتين (49 _ 50) من سورة النحل، لأن المذكور في صحيح البخاري، أن عم_ر ب_ن الخطاب قد قرأ في الجمعتين المذكورتين س_ورة النح_ل، فسجد في الجمعة الاُولي ونهي عن السجود في الجمعة الثانية، لأن المذاهب قد اختلفت في عدد ومواضع السجود في القرآن الكريم، ولا يجب السجود في مذهب أهل البيت في كل موضع من القرآن ورد فيه الأمر بالسجود أو مافي معناه، وإنّما هناك مواضع مخصوصة يجب فيها السجود دون مواضع اُخري، والذي عليه مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، أن السجود واجب في أربعة مواضع هي آيات السجود الواردة في سورة السجدة، النجم، العلق، وفصلت. خلافاً للحنفية الذين يرون وجوب السجود في كل مواضع سجود التلاوة في القرآن التي يبلغ عددها عندهم أربعة عشر موضعاً [23] . ومستحب في سائر سجود القرآن الكريم، وهو أحد عشر موضعاً آخر، من جملتها الموضع المذكور من سورة النحل، فاجماع الصحابة هذا لا ينفي وجوب سجود العزائم، وإنّما يثبت استحبابه في هذا الموضع من القرآن الكريم، وهو مؤيد لمذهب أهل البيت (عليهم السلام). وأما قولهم بأن كل سجود لا تبطل الصلاة بتركه، فهو مسنون، فهو صحيح في سجود الصلاة، وتعدية الحكم منه الي سجود التلاوة قياس، والقياس باطل عند بعض مذاهب الجمهور فضلاً عن الإمامية، والقائلون بصحة القياس يرون قياس سجود التلاوة علي سجود الصلاة قياساً فاسداً [24] . وأما إيماء المسافر بسجود التلاوة علي الراحلة، وعدم وجوب النزول عليه لأجله فلا يدلّ علي الاستحباب، فإن لكل فريضة خصوصياتها، ولا مانع من أن يكون لسجود التلاوة هذه الخصوصية، ولو صح كلام المعترض لوجب أن يقال بأن صلاة الجنازة مستحبة إذ
لا سجود فيها ولا ركوع. وأما كلام الماوردي الذي يقول فيه: «أصله سجود النافلة، ولأنها صلاة غير واجبة، فوجب أن لا يكون السجود لها واجباً، أصله إذا أعاد تلك الآية، ولأنه لما يجب عند العود لم يجب عند ابتداء التلاوة». فلم يفهم له معنيً معقولاً ووجهاً محصلاً، فما معني أن الأصل في سجود التلاوة هو سجود النافلة؟ وأن سجود النافلة صلاة غير واجبة؟ ثم إن صلاة النافلة وإن لم تكن غير واجبة في حد نفسها، لكنها حينما تفقد ركناً من أركانها كالسجود أو الركوع تكون باطلة، فلا يقال حينئذ عنها أنها صلاة حتي يقال عنها أن سجودها غير واجب، فلابد من الإتيان بأركان الصلاة حتي يثاب المكلف عليها، ومن لم يأتِ بركن من الأركان كمن لم يأت بأصل النافلة، فهو غير مأثوم لعدم وجوب النافلة، وغير مثاب لكونه في حكم من لم يأتِ بها أصلاً. ثم ما معني، قوله: إذا أعاد تلك الآية؟ [25] إذ ليس هناك من قال: بأنّ سجود التلاوة يجب عند تكرار الآية، وكل من يقول بالوجوب أو الاستحباب يري ذلك عند تلاوة الآية، وليس هناك من يقول بذلك عند تكرارها فقط. وبذا يتّضح بطلان ما ذكروه من أدلة علي عدم وجوب سجود التلاوة، وأن دلالة الآية علي الوجوب تامة، ويضاف الي الآية قول عثمان بن عفان الذي يرويه البخاري، وفيه يقول: «إنّما السجدة علي من استمعها» [26] وروي ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر أنّه قال: «السجدة علي من سمعها» [27] ، وأورد العيني في شرحه علي صحيح البخاري أدلة اُخري علي وجوب سجود التلاوة هي ما رواه: ابن أبي شيبة عن حفص عن حجاج عن ابراهيم ونافع وسعيد
بن جبير أنهم قالوا: من سمع السجدة فعليه أن يسجد. وعن ابراهيم بسند صحيح: إذا سمع الرجل السجدة وهو يصلي فليسجد. وعن الشعبي كان أصحاب عبدالله إذا سمعوا السجدة سجدوا في صلاة كانوا أو غيرها. وقال شعبة: سألت حماداً عن الرجل يصلي فيسمع السجدة، قال: يسجد. وقال الحكم مثل ذلك، وحدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول في الجنب إذا سمع السجدة يغتسل، ثم يقرؤها فيسجدها فإن كان لا يحسنها قرأ غيرها، ثم يسجد. وحدثنا حفص عن حجاج عن فضيل عن إبراهيم وعن حماد وسعيد بن جبير، قالوا: إذا سمع الجنب السجدة اغتسل ثم سجد. وحدثنا عبيدالله بن موسي عن أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عثمان في الحائض تسمع السجدة، قال: تومئ برأسها وتقول: اللهم لك سجدت، وعن الحسن في رجل نسي السجدة من أول صلاته، فلم يذكرها حتي كان في آخر ركعة من صلاته قال: يسجد فيها ثلاث سجدات، فإن لم يذكرها حتي يقضي صلاته غير أنه لم يسلم معه، قال: يسجد سجدة واحدة مالم يتكلم فإن تكلم استأنف الصلاة. وعن ابراهيم اذا نسي السجدة فليسجدها متي ما ذكرها في صلاته. وسئل مجاهد في رجل شكّ في سجدة وهو جالس لا يدري سجدها أم لا، قال مجاهد: «إن شئت فاسجدها فإذا قضيت صلاتك فاسجد سجدتين وأنت جالس، وإن شئت فلا تسجدها واسجد سجدتين وأنت جالس في آخر صلاتك» [28] . هذا تمام الكلام في المقدمة الاُولي. أما المقدمة الثانية، وهي بطلان الصلاة بسجود التلاوة فهي من الواضحات، لأن المكلف قد ألزم نفسه بهذا السجود في الصلاة باختياره لأجل تلاوته واحدة من العزائم فيها، فجاء بزيادة خارجة عن أصل
الصلاة، وقد قرر فقهاء الإسلام أن الصلاة تبطل بايقاع العمل الكثير فيها، قال الجزيري في الفقه علي المذاهب الأربعة: «تبطل الصلاة بالعمل الكثير الذي ليس من جنس الصلاة، وهو ما يخيل للناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة... أما إذا عمل المصلي عملاً زائداً عن الصلاة من جنسها كزيادة ركوع أو سجود فإن كان عمداً أبطل قليله وكثيره وإن كان سهواً لم يبطل الصلاة مطلقاً» [29] . ولذا قال الشافعية: بأن المصلي إذا قرأ آيات السجود في الصلاة، وكان قاصداً من ذلك سجود التلاوة بطلت صلاته [30] . وهو قريب من قول الإمامية، قال السيد محمد كاظ_م اليزدي رضوان الله عليهفي العروة الوثقي: «لا يجوز قراءة إحدي سور العزائم في الفريضة، فلو قرأها عمداً استأنف الصلاة» [31] . مع فرق بين القولين من جهتين، جهة الفرق الاُولي بينهما أن الشافعية يحكمون ببطلان الصلاة لمن قرأ آية السجدة قاصداً منها سجود التلاوة، بينما يري فقهاء الإمامية بطلان الصلاة لمن تعمد قراءة العزيمة، أي لم يكن ناسياً ولا جاهلاً بحكمها، بل كان عالماً وملتفتاً، وإن لم يكن قاصداً سجود التلاوة، وجهة الفرق الثانية، أن الشافعية يحكمون ببطلان الصلاة لمن سجد سجود التلاوة فعلاً، ومن لم يسجد فلا شيء عليه. ويتفق الإمامية معهم في الحكم بصحة الصلاة في هذه الصورة، لكنهم يرون الشخص عاصياً، ويحكمون عليه باعادة الصلاة احتياطاً وجوبياً عند بعضهم [32] ، واستحبابياً عند البعض الآخر [33] . ومخالفة الأحناف في هذه المقدمة غريبة جداً، لأن من قرأ آية السجدة في الصلاة، قد أوقع نفسه بين أمرين متزاحمين: أحدهما: وجوب اتمام الصلاة وعدم جواز إبطالها. وثانيهما: وجوب سجدة التلاوة فوراً أثناء الصلاة، ومع إقرار الأحناف بوجوب
سجدة التلاوة كيف يتجه عندهم القول بجواز قراءة آية السجدة المؤدية بلوازمها الي إبطال الصلاة؟ أليس هذا إقداماً علي إبطال المصلي لصلاته؟ أليس المصلي مأموراً بعدم إبطال صلاته؟ والالتزام بهذا القول يؤدي الي وقوع التزاحم في أحكام الشريعة ممّا يكشف عن خلل واضح في الموقف الفقهي. وواضح أن هذا التزاحم لا يقف عند حدود الفقه الحنفي الذي يفتي بوجوب سجدة التلاوة أثناء الصلاة، وإنما يشمل فقه سائر مذاهب الجمهور ممّن آمن بجواز سجدة التلاوة أثناء الصلاة أيضاً، وان مثّل الفقه الحنفي درجته القصوي، لأن القول بجواز سجدة التلاوة في الصلاة يعني أن الشريعة قد نهت عن سجدة التلاوة باعتبارها زيادة عن أصل الصلاة، وأنها سمحت بالوقت نفسه بأدائها اثناء الصلاة، وهذا تهافت يكشف عن خلل في الموقف الفقهي أدي به الي أن يستبطن مثل هذه النتيجة ونسبتها الي الشريعة. وقد عبّر الإمام (عليه السلام) عن لب الشريعة حينما أخبر زرارة عن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) أن أحدهما قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم فإن السجود زيادة في المكتوبة» [34] .
والخلاصة أن الآراء في مسألة سجود التلاوة هي ثلاثة: قول بجواز قراءة آية السجدة في الصلاة ووجوب السجود للتلاوة وهو قول الحنفية. وقول بجواز القراءة وجواز السجود للتلاوة وهو قول سائر الجمهور. وقول بعدم جواز العزائم الأربعة المذكوة في أول البحث وبطلان الصلاة بها وهو قول الإمامية. وقد اتّضح أن قول الإمامية يستند الي مقدمتين اُولاهما: وجوب السجود لتلاوة العزائم، وقد اتّضح من البحث تماميتها وعدم صحة ما أورد عليها من المخالفات والردود، وثانيتهما: بطلان الصلاة بسجود التلاوة فيها، وأنّ المكلف سوف يوقع نفسه بين أمرين متزاحمين; حرمة إبطال الصلاة،
ووجوب اتيان سجدة التلاوة المؤدية الي بطلانها، فيلزم لأجل ذلك القول بحرمة قراءة العزائم في الصلاة.
[1] الانشقاق: 20 _ 21.
[2] شرح فتح القدير، محمد بن عبدالواحد: 1/465، انظر كذلك المغني، ابن قدامة: 1/652، والحاوي الكبير: 2/200، ط دار الكتب العلمية.
[3] شرح فتح القدير: 1/466.
[4] شرح فتح القدير، محمد بن عبدالواحد: 1/466، ط دار احياء التراث العربي.
[5] شرح فتح القدير، محمد بن عبدالواحد: 1/470، ط دار احياء التراث العربي.
[6] المغني: 1/652.
[7] الحاوي الكبير، علي بن محمد الماوردي:2 / 200. ط دار الكتب العلمية.
[8] المحلي: 5/106. ط دار الجيل.
[9] المغني: 1/652. [
[10] الانشقاق: 21.
[11] الانشقاق: 22.
[12] الحاوي الكبير: 2/200 _ 201.
[13] الانتصار: 146.
[14] الخلاف: 1/426 ط جماعة المدرسين _ قم.
[15] الخلاف: 1 / 431 طبع جماعة المدرسين _ قم.
[16] التذكرة: 3/146.
[17] جواهر الكلام: 10/214 ط النجف الأشرف.
[18] صحيح البخاري: 2/32، ط دار الفكر.
[19] صحيح مسلم: 2/88، طبع دار الفكر.
[20] صحيح البخاري: 2/32، ط دار الفكر.
[21] صحيح البخاري: 2/33 _ 34، ط دار الكفر.
[22] سنن البيهقي: 2 / 320، أبواب سجود التلاوة، باب من لم يرَ وجوب سجدة التلاوة.
[23] الفقه علي المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت: 1/605.
[24] عمدة القاري: 7/96، ط دار الفكر.
[25] الحاوي الكبير للماوردي: 3/201، كتاب الصلاة، باب صفة الصلاة وعدد سجود القرآن.
[26] صحيح البخاري: 2/33.
[27] مصنف ابن أبي شيبة: 1/457.
[28] عمدة القاري: 7/95 دار الفكر.
[29] الفقه علي المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت: 1/430، انظر كذلك الفقه علي المذاهب الخمسة للشيخ محمد جواد مغنية: 145.
[30] الفقه علي المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت: 1/602.
[31] العروة الوثقي: 1 / 644، فصل 24 في القراءة.
[32] منهاج الصالحين، السيد الخوئي: 1/164.
[33] منهاج الصالحين، السيد السيستاني: 1/206.
[34] الوسائل: 4/779،
باب 40 من أبواب القراءة في الصلاة ح1.