في رحاب العقيده

اشارة

نام كتاب: في رحاب العقيدة

نويسنده: مركز تحقيقات حج

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

نوبت چاپ: 1

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

وحدة المسلمين

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم إنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلَامُ، «(1)» وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقبَلَ مِنْه «(2)»

، فقد بيَّن اللَّه عزَّ وجلَّ في هذه الآية أنَّ الدين الذي يرتضيه من الناس جميعاً هو الإسلام الذي أرسل به نبيَّه محمداًصلى الله عليه و آله داعياً له سراً وعلانية، في الأهل والعشيرة، قولًا وعملًا، حتى أوذي في ذلك، وضرب، وكسرت رباعيته، وتعرض لأشد أنواع الأذى حتى قال: «ما أوذي نبي كما أوذيت».

كل ذلك معلناًصلى الله عليه و آله بالدعوة إلى اللَّه وتوحيده في الذات والصفات والأفعال والعبادة، مبشراً بجنَّة عرضها السموات والأرض لمن أطاعه واتبعه، منذراً بنارٍ عميق قعرها شديد


1- - آل عمران: 19
2- - آل عمران: 85

ص:6

عذابها لمن عصاه، وقد أيَّد اللَّه عزَّ وجل نبيَّه بالمعجزات الخالدة الواضحة والعلائم اللائحة إظهاراً لنبوته، وإكراماً لمقامه، كما أمر الناس باتباعه بقوله: ومَا آَتَاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهَاكُم عَنْه فَانْتَهُوا «(1)»

وبقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم... «(2)»

فكان من أسس دعوته صلى الله عليه و آله الدعوة بالحق، بلسان صادق اللهجة، أمين في أداء ما حُمِّل حتى لُقِّب-صلوات اللَّه عليه- بالصادق الأمين، ومن أهم أساليبه في الدعوة ما أرشدت له الآية ادعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالتِي هِي أَحْسَن «(3)»

فصدع داعياً بكل ما أوتي من قدرة واستعداد إلهي، وبما ألهم من حكمة إلهيَّة حتى انقادت النفوس لهذا الدين القويم عن رضا واختيار منها إلا من أبى وجاهر بالمحاربة؛ فكان من الحكمة- كما أمر اللَّه عزَّ وجلَّ- أن يناجزه الرسول حرباً بحرب ومعركة بمعركة، حتى استتبَّ الأمر لهصلى الله عليه و آله كما أراد، وكان خلال تلك الفترة التي عاشها بين ظهراني الناس لم يفتأ يُعلِّمُهم الكتاب والحكمة، حتى قال في خطبة الوداع وهي خطبة الغدير: «معاشر الناس.. ما من شي ء يقربكم من


1- - الحشر: 7
2- - النساء: 59
3- - النحل: 125

ص:7

الجنَّة إلا دللتكم عليه، وما من شي ء يبعدكم عن النار إلا نبهتكم عليه» فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ يومئذٍ: اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُم نِعْمَتِي وَرَضِيت لَكُم الإسْلَامَ دِينَاً «(1)»

، ولمَّا أصبح الدين قويّاً حينئذٍ قال تعالى: اليَوْمَ يَئِسَ الذِّينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُم فَلا تَخْشَوهُم واخشونِ.. «(2)»وبعد وفاته صلى الله عليه و آله دأب المسلمون على الاقتداء بالنبي في أقواله وأفعاله، لا يحيدون عن ذلك في عقيدة أو عمل، وذلك لأنَّ العمل ليس إلا مرآةً لما يعتقد المرء، ممَّا يعقد عليه جَنَانه، حيث كان قد أسَّس صلى الله عليه و آله للمسلمين قانوناً يصونهم ويحفظ بعضهم عن بعض يوجب حقن النفس والمال والعرض، وهو «من قال لا إله إلا اللَّه حرم دمه وماله وعرضه» كل ذلك حقناً لدماء المسلمين عن القتل، وحفظاً لأموالهم عن السرقة، ولأعراضهم عن الهتك.

ولذا ينبغي لك- أخي المسلم- أن تحقِّق العزم في قلبك والبناء في جنانك على أن تحافظ على كل ما جاء به الرسول من تعاليم سمحة ومحببةً للناس إلى هذا الدين الكبير، مجتنباً في ذلك ما يشين إلى الإسلام، ويُنَفِّر الخَلْقَ منه؛ كألفاظ التكفير والتفسيق للمسلمين من سائر المذاهب الإسلاميَّة، لمجرد أن


1- - المائدة: 3
2- - المائدة: 3

ص:8

خالفوك في الرأي في مسألة فقهية أو علميَّة، إذ الربُّ واحد وهو المتوجه له الخلق بالعبادة، والرسول محمدصلى الله عليه و آله واحدٌ يقر المسلمون له بالطاعة، والكتاب واحد وهو ما أنزل على النبيصلى الله عليه و آله، والقبلة واحدة وهي التي يتوجه لها المسلمون قاطبة في أرجاء المعمورة، وأهل بيت النبيصلى الله عليه و آله هم الذين أمر اللَّه عزَّ وجلَّ والنبيصلى الله عليه و آله بمحبتهم واتباعهم؛ فحريٌّ بنا أن نتكاتف كي نطرد مِن البين مَنْ يحاول التفريق بين المسلمين، وتشتيت جمعهم، وتبديد شملهم.

ومن الالتزام بجادَّة الاستقامة أن يتثبت المؤمن في عقيدته بما يوافق النص الصحيح الوارد عن اللَّه عزَّ وجلَّ في كتابه وعن نبيَّهصلى الله عليه و آله وعن أهل بيته الكرام، مستنداً في ذلك كلِّه إلى فطرة العقل السليم المدرك، وما أودع فيه من الهداية بما يقوم عليه البرهان الجلي، دون خوف من أحدٍ قط.

ولنجتمع على مثل هذه العقيدة الصافية والتولي لمن تولاه اللَّه والتبري ممَّن تبرأ اللَّه منه داعين اللَّه عزَّ وجلَّ أن يُفرِّج عن المؤمنين والمسلمين في أرجاء الأرض بصلاح أمورهم وهدايتهم لما يريده اللَّه منهم من الاتباع لدينه القويم والوفاء بما عاهدوا عليه من كلمة الإسلام.

وصلَّى اللَّه على محمد وآله الطاهرين

وصحبهم التابعين لهم بإحسان.

ص:9

عقيدة التوحيد

اشارة

قال تعالى في كتابه الكريم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

فقد اشتملت هذه السورة الشريفة على مجامع كلمة التوحيد التي دعا لها كُلّ الرسل والأنبياء-صلوات اللَّه عليهم أجمعين- عبر رسالاتهم السماويَّة المقدَّسة، مع تنوُّع في الطريقة والأسلوب، ولمَّا كانت معالم التوحيد في الفكر الإمامي الإثني عشري تحتاج لمزيد من الإيضاح لدى بعض الفرق والطوائف الإسلاميَّة الأخرى، حيث إنَّ هذا البعض لا يتعب نفسه ولو قليلًا بالبحث الجادِّ حول حقيقة التشيع، ممَّا أدَّى ذلك بهم للمسارعة في الحكم بالتكفير والخروج عن الملَّة لمجرَّد مخالفة معتقدنا لظواهر كلماتهم؛ ولذا كان من اللازم علينا بيان تلك المعالم كي تتّضح الصورة أكثر، وتقام الحجَّة على من لم

ص:10

يعلم فنقول:

إنَّ التوحيد الذي تعتقد به الإماميّة على حسب ما ورد لهم عن النبيّ وأهل بيته عليهم السلام بالآيات والروايات ينقسم إلى أربعة أقسام:

1- التوحيد في الذات؛

ويعني الاعتقاد بأنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ ذات متفردة لا تعدد فيها، ولا شريك لها، فقد قال تعالى: اللَّه لَا إلهَ إلَّاهُوَ الحَيُّ القَيُّوم «(1)»

، وأنَّ هذه الذات الجامعة لجميعصفات الكمال والجلال، منزَّهة عن كلِّ ما يوجب نقصاً، أو ممَّا يعدُّ نقصاً في سائر المخلوقات.

ولذا فالشيعة الإماميَّة- بحكمصريح القرآن- تحكم بالكفر على من يعتقد بإلهين اثنين، إذ أنَّه يتنافى مع الاعتقاد بوحدة الذات الإلهيَّة، فالذات الإلهيَّة لا تعدد فيها ولا شِرْكَة لآخر معها بأيِّ معنى احتمل، وهو المسمَّى بتوحيد الألوهيَّة، بل ترى أنَّ شريك الباري ممتنعٌ لأدلَّة كثيرة منها ما أشارت له الآية: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ «(2)»

إذن فليس من الشرك باللَّه- كما يدَّعيه ابن تيميَّة على الشيعة- التوجُّه إليه تعالى بتوسّط أوليائه المنصوبين من قبله


1- - البقرة: 255
2- - المؤمنون: 91

ص:11

تعالى لطلب المغفرة وطلب الرزق الواسع و. و..؛ فإنَّ التوجُّه بالطلب له عزَّ وجلَّ لا لغيره، والمغفرة مطلوبة منه لا من غيره، إلَّا أنَّ وسيلتنا لما كانت قاصرة ضعيفة احتجنا للوسيلة الكاملة وللوليّ القريب منه تعالى، فتوجهنا له ليس إلَّالأنَّه موجب لقبول استغفارنا وتوبتنا عنده تعالى، وطلب ذي الوسيلة من اللَّه عزَّ وجلَّ متفرعٌ على إرادة اللَّه ومشيئته لا أنَّه في مقابله، ومستقل عنه في الفعل والأمر والنهي.

2- التوحيد في الصفات؛

ويعني هذا الاعتقاد بأنّ للَّه عزّوجلّصفات يوصف بها وهذه على قسمين:

أ-صفات ذاتيّة له؛ أي هي عين ذاته وليست شيئاً آخر زائداً على الذات، وهذه كصفة العلم والقدرة، فاللَّه عالم قادر بذاته، لا أنّه حين نقول عالم لا يكون قادراً أو حين قولنا قادر هو ليس بعالم، ولا أنّه عالم بعلم مغاير لذاته، وقادر بقدرة مغايرة لذاته، وهذه الصفات لا يمكن سلبها عن الذات، فلا يصحّ أن تقول- والعياذ باللَّه- إنّه ليس بعالم أو ليس بقادر.

ب-صفات فعليّة؛ وهي الصفات التي يتّصف بها تعالى لصدور فعل عن ذاته المقدّسة كصفة الخالقيّة والرازقيّة والإحياء والإماتة و. و. و.، وفي هذا الصنف من الصفات يصحّ سلب الصفة عن الذات ولا يستلزم ذلك نقصاً في ذاته تعالى؛ ولا تعطيلًا لصفاته، كأن تقول خلق اللَّه زيداً، كما تقول لم

ص:12

يخلق اللَّه عمرواً، أو تقول رزق فلاناً ولم يرزق فلاناً الآخر..

وهكذا بقيّة الصفات.

وعلى هذا فليس من الكفر أو خلاف التوحيد في الصافت التوجّه إلى النبيّ أو الوليّ- لقربهما من اللَّه عزّوجلّ- بطلب الشفاعة منهم إلى اللَّه، فإنّه ليس من إشراك غير اللَّه معه في الصفة، إذ ليس هو إلّامن باب اتّخاذ الوسيلة إليه تعالى وهو القائل في كتابه: وَابتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَة «(1)»

، والناس بفطرتها الدينيّة تتوجّه لهذا الأمر، وكماصدر من بعضصحابة الرسول كأبي أيّوب الأنصاري بعد وفاة النبيّ وبلال الحبشي وغيرهم كثير من الصحابة والتابعين (رض) «(2)».

3- التوحيد في الأفعال؛

والمقصود منه الاعتقاد بأنَّ الأفعال التي تصدر عن الذات المقدسَّة ممَّا لا يمكنصدورها عن غير الخالق بنحو الاستقلال فكلُّ ما عدا الذات الإلهيّة مستندةٌ في أفعالها إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمَّا أفعال الذات الإلهيّة فهي ممَّا لا يشركها شي ء آخر في حدوثها ولا في بقائها، بل إنّ الذات الإلهيّة متفردة متوحّدة بجميع ما يصدر منصادرات ومخلوقات هذا العالم الكبير الواسع، قال تعالى: هُوَ الذي


1- - المائدة: 35
2- - ترجمة بلال بن رباح من تهذيب تاريخ ابن عساكر: 1/ 256، المستدرك للحاكم: 4/ 515

ص:13

خَلقَ لكم ما في الأرض جميعاً «(1)»فهذه الآية تشير لما منه الوجود والخالقيَّة المطلقة وهي له سبحانه وتعالى.

ولا ينافي هذا أن يقال بصدور أفعال من الإنسان باختياره ممّا جعله اللَّه تحت قدرته واختياره، وعلى هذا فليس من منافاةِ للتوحيد في الأفعال اعتقادصدور المعجزة أو الكرامة من النبيّ أو الوليّ المؤيّد من قبل اللَّه عزّوجل، إذ أنّ اعتقادصدورها منهم هو متفرّعٌ على مشيئة اللَّه وإرادته، وليس في عرضه حتّى يعترض على الشيعة بأنّه تشريك في الفعل غير اللَّه من المخلوقات مع اللَّه، بل إنّ هذه العقيدة قامت على خلوصصدور الفعل عن اللَّه عزَّ وجلَّ، إلّاأنّ بعض الأفعال تتمّ بسببٍ من قبله تعالى- بمقتضى قانون السببيّة- والنبيّ أو الوليّ ليس إلّا سبباً لذلك، كما في تحقّق الإماتة وقبض الروح من قبل ملك الموت، وكذا يُوجَد ملائكة مُوَكَّلون بالرزق، فليس من عقيدة الإماميّة أنَّ أحداً من البشر أو الملائكة- وهم المخلوقون للَّه- عنده القدرة على أن يخلق أو يرزق مستقلًا عن قدرة اللَّه ومشيئته وإرادته.

ومثل هذا المعنى من التوحيد تدلّ عليه آيات كثيرة من


1- - البقرة: 29

ص:14

الكتاب المجيد كما في قوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَي ءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إلَّاأنْ يَشَاءَ اللَّه «(1)»

وقوله تعالى: وَمَا تَشَاؤونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه.

4- التوحيد في العبادة؛

والمقصود منه الإعتقاد بوجوب التوجّه الكامل للَّه عزّوجلّ من قبل الإن سان في جميع أعماله الصادرة عنه للَّه عزّوجلّ، دون إشراك غيره معه في العبادة.

وقد ركّز القرآن على هذا القسم من التوحيد، فقال: ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولًا أن اعبدوا اللَّه «(2)»وقال أيضاً: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلّااللَّه ولا نشرك به شيئاً «(3)»

. ولذا يعلن الشيعة بل المسلمون جميعاً في كلّ فريضة هذا المبدأ بقولهم: إيّاك نعبد.

وعلى هذا فليس من منافاة للعبادة أن يسجد المصلي على مثل التربة الحسينيّة؛ وما هو أرض أو مأخوذ منها؛ فإنّه يسجد عليها لا أنّه يسجد لها حتّى يشنع على الشيعة ويُكَفَّرون بدعوى أنّهم يعبدون الحجر، علاوة على أنّ سجودهم ذاك للنصوص الكثيرة الواردة في وجوب السجود على الأرض،


1- - الكهف: 23
2- - النحل: 36
3- - آل عمران: 64

ص:15

وعلى الخصوص ما كان منها من تراب قبر الإمام الحسين عليه السلام، وليس من منافاة للتوحيد في العبادة أن يُصَلّى خلف قبرٍ والقبر في قِبلَة المصلّي؛ فإنّ المصلّي يصلّي إلى القبلة، لا أنَّ قبلته هي القبر؛ والعرف والعقلاء من المسلمين يدركون هذا المعنى، ويعرفون الفرق بين الأمرين، وإلّا للزم أن يكون كلّ من يصلّي في المسجد النبوي خلف القبر والقبر أمامه- وإن كان وراء البيت- أن يكون مصلّياً للقبر.

فالشيعة الإماميّة تعتقد وتعمل بكلّ صدق بقوله تعالى:

وما خلقتُ الجِنَّ والإنس إلّاليعبدون «(1)»

.

ولذا فهم يعتقدون بأنّ الشرك بمعناه القرآني- وهو إتخاذ شريك مع اللَّه في ذاته أو في خلقه أو فيصفاته أو في فعله أو في عبادته- محَرَّمٌ مطلقاً، ويستحقّ المتّصف به النارَ لقوله تعالى:

إنّ اللَّه لا يغفر أن يُشرك به... «(2)»

، وقوله تعالى: إنَّ الشرك لَظُلم عظيم «(3)»وبعد هذا... فمن الواضح جدّاً أنّ الشيعة الإماميّة مسلمون موحّدون يدينون بكلّ ما جاءت به الشرائع والأديان السماويّة من غير تفريق بينها، فعقيدة التوحيد التي يعتقدها


1- - الذاريات: 56
2- - النساء: 48
3- - لقمان: 13

ص:16

الإمامية هي الرسالة السماويّة الخالدة التي اتّفق كلّ الأنبياء والرسل على تبليغها للناس كافّة، وليس من داعٍ لأن تزعقصيحات من هنا وهناك من زوايا الجهل والحقد على الإسلام لتفرق بين أصحاب الدين الواحد فتُكّفِرَ طائفة كبيرة من المسلمين، بلا موجب لذلك إلّاإرضاء نوايا خبيثة غير معلومة الأصل والجهة، وقانا اللَّه شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا إنّه وليّنا ونعم المولى ونعم النصير.

والحمد للَّه ربّ العالمين

وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين

وصحبهم المنتجبين المتّبعين لهم بإحسان

ص:17

الشفاعة

اشارة

إنَّ الرؤية الواضحة التي يمكن استجلاؤها من خلال مفهوم الشفاعة عند أهل اللغة هي مأخوذة من ضم أمر إلى أمر آخر ليتم به ذلك الشي ء، وذلك لأجل تحصيل عفو و سماح، أو الوصول إلى رتبة لم يكن ليصل إليها لولا ذلك، فالمستشفِع فيه نقص من جهةٍ ويريد أن يكمل هذا النقص ويرفع أثره بأن ينضم للكامل فيكمل، ولذا فالشفاعة لا تتم ولا يتحقق أثرها بطلبها ممَّن هو أنقص قدراً ومرتبةً من مرتبة المستشفِع.

فمن الواضح أنَّ الشفاعة رحمة يفيضها على عباده عبر وسائط يختارها ويعينها بنفسه، وقد استفيد الأمر بها من قوله تعالى: وَابتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَة «(1)»


1- - المائدة: 35

ص:18

وقد ورد لفظ الشفاعة في القرآن الكريم في ثلاثين مورداً تقريباً، وهي فيه على قسمين:

1- شفاعة باطلة؛ وذلك لتضمنها معنى الشرك، حيث يكون المطلوب منه الشفاعة ليس ممَّن هو مقبول عند اللَّه عزَّ وجلَّ من قبيل تقرب المشركين بأصنامهم التي هي ليست مقبولة للَّه جملة وتفصيلًا فقالوا: هؤلَاء شُفَعَاؤُنَا إلَى اللَّه «(1)»

، فإنَّ هؤلاء هم الذين عيَّنوا الأصنام الشفعاءَ لأنفسهم، واعتقدوا فيها القدرة على التأثير على اللَّه من جهة أخرى، وكلتا الجهتين باطلتان.

وقد ردَّها القرآن بقوله: وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقبَلُ مِنهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُم يُنْصَرُون «(2)»

، وأكثرصراحة منها قوله تعالى: لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شفيع «(3)»

2- شفاعة شرعيَّةصحيحة؛ وهي ما كانت بإذن اللَّه، ومن قِبَل أفرادٍ رضي اللَّه عنهم، بل عيَّنهم للشفاعة، لمن


1- - يونس: 18
2- - البقرة: 48
3- - الأنعام: 51

ص:19

رضي اللَّه الشفاعة فيه وله، فهنا شروط ثلاثة تستفاد من خلال الآيات القرآنيَّة:

فالشرط الأول وهو اعتبار إذن اللَّه في ذلك، من قوله تعالى: مَنْ ذَا الذِّي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإذْنِه «(1)»

وكذلك هي دالة على الشرط الثاني؛ فإنَّ إذن اللَّه عزَّ وجلَّ لأحدٍ بأن يشفع، فيه بيان لمقام الشفيع والشفاعة بما يفيد رضا اللَّه بذلك.

وأمَّا الشرط الثالث فهو بمفاد قوله تعالى وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارتَضَى «(2)»

بأن يكون المشفوع له قابلًا للشفاعة.

وعلى هذا فالشفاعة مظهر من مظاهر القدرة الإلهيَّة المنبسطة على كل شيى ءٍ، وكذلك هي مظهر من مظاهر الرحمة الرحيميَّة المختصة بمن يستحق الشفاعة دون غيره من الكائنات.

الأدلة على مشروعيتها

ومشروعيَّة طلبها:

أمَّا من الكتاب: فإنَّ ما ورد من آيات- ممَّا تلوناه عليك وغيره- هي خير دليل علىصدورها وتحققها؛ فضلًا أصل مشروعيتها.

وأمَّا من الحديث: فالروايات الدالَّة على تحقق الشفاعة من الأنبياء بالنبي محمدصلى الله عليه و آله كثيرة، ويكفينا منها حديث


1- - البقرة: 255
2- - الأنبياء: 28

ص:20

الشفاعة الطويل، والمذكور في أكثر الصحاح والمسانيد، ومن تلك الأحاديث:

1- ما رواه البخاري فيصحيحه عن أبي سعيد الخدري عن النبيصلى الله عليه و آله قال: «قد أُعطِي كل نبي عطيَّة، فكل نبي تعجلها، وإنِّي أخرتُ عطيتي شفاعة لأمتي، وإنَّ الرجل من أمتي ليشفع لِفِئَام من الناس فيدخلون الجنَّة، وإنَّ الرجل ليشفع لقبيلة، وإنَّ الرجل ليشفع للعصبة، وإنَّ الرجل ليشفع للثلاثة، وللرجلين، وللرجل» «(1)».

2- وكان أبو سعيد الخدري يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم إنَّ اللَّه لا يظلم مثقال ذرَّةٍ وإن تكُ حسنةً يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون» «(2)».

3- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يشفع يوم القيامة الأنبياء، ثمَّ العلماء، ثمَّ الشهداء» «(3)».

4- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «الشفعاء خمسة: القرآن،


1- - مسند أحمد: 3/ 397، مسند أبي سعيد الخدري حديث 10764
2- - صحيح مسلم: 1/ 116، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، صحيح البخاري: 9/ 798- 800، كتاب التوحيد، باب وجوه يومئذٍ ناظرة، ح 2239
3- - سنن ابن ماجه: 2/ 1443، حديث 4313

ص:21

والرحم، والأمانة، ونبيكم و أهل بيته عليهم السلام» «(1)».

وأمَّا الاجماع: فقد اتفق المسلمون على جواز الشفاعة ممَّن أذن له اللَّه عزَّ وجلَّ في ذلك، وسيرة الأصحاب والتابعين على طلب الشفاعة من النبيصلى الله عليه و آله في حياته وبعد مماته، وحديث عائشة في إشارتها على المسلمين بفتح كوَّة من القبر طلباً للإستسقاء خير شاهد على هذا، وسيرة المسلمين جارية على هذا، وحديث الإمام مالك مع الخليفة المنصور الدوانيقي صريح في هذا حيث قال له: وَلِمَ لا تتوجه له وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم..»

والعقل السليم يساعد على هذا، فإنَّ الذي يريد بلوغ مقام علمي رفيع يحتاج إلى مقدمات لازمة له، فالشفاعة هي المساعدة على بلوغ الهدف، ولذا فالشفاعة ليست هي الهدف الأخير عند المكلَّف، بل لا بدَّ من وجود قابليتها، الذي ليس عنده اعتقاد أو عمل يؤهله لبلوغ دخول الجنَّة لم تكن الشفاعة لتعينه على ذلك، فالشفاعة متممة للسبب لا أنَّها موجدة له.

قال ابن تيميَّة في مجموع الفتاوى: إنَّ مذهب سلف الأمَّة وأئمتها وسائر أهل السنَّة والجماعة على إثبات الشفاعة لأهل الكبائر... وأيضاً فالأحاديث المستفيضة عن النبي في الشفاعة وفيها استشفاع أهل الموقف ليقضي بينهم


1- - كنز العمال: 1/ 390

ص:22

وفيهم المؤمن والكافر .. «(1)».

إذن فثبوتها ليس موطن خلاف بين المسلمين.

من هو الشفيع:

قال تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة إلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْداً «(2)»

، وقال تعالى: وَكَمْ مِن مَلَكٍ فِي السَّموَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم شيئاً إلَّا مِن بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يشَاءَ وَيَرْضَى «(3)»

، وقال تعالى: وَلَا يَمْلِكُ الذِّينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُم يَعْلَمُون «(4)»

، فالآية الأولى تثبت الشفاعة لمن كان له عهد عند اللَّه في ذلك الأمر وهو الشفاعة، والآية الثانية تثبت الشفاعة للملائكة إلا أنَّها مع الإذن لمن شاء منهم، والآية الثالثة تثبتها لخصوص الشهداء بالحق.

من هم المشفوع لهم:

قد اختلف المسلمون في من يستحق الشفاعة وذلك لاحتلاف الروايات في ذلك، فقد قيل بأنَّها مختصة بأهل


1- - مجموع الفتاوى: 1/ 116- 117، وكذا قال بصحة أحاديث الشفاعة في كتابه الحسنة والسيئة: 1/ 151
2- - مريم: 87
3- - النجم: 26
4- - الزخرف: 86

ص:23

الكبائر فقط يوم القيامة، وقيل بأنَّها يمكن أن تنال كل الأمَّة لأنَّها الأمَّة المرحومة، وعلى القول الأول لا تشمل الشفاعة الكفار والمشركين مستدلِّين بقوله تعالى: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ* فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِين «(1)»

إذن فالشفاعة مقام إلهي قد أعطاه اللَّه لمن شاء وارتضى، فليست هي من عند غير اللَّه، وليست هي واقعة ومتحققة بدون إذنه وإرادته، كما أنَّها ليست ممنوعة عمَّن استحقها من عباده، وقبل كل ذلك هي ليست شركاً لغير اللَّه مع اللَّه، والوجه في هذا واضح؛ إذ أنَّ شفاعة الشفيع التي نعتقد بجوازها إنَّما هي بإذن اللَّه وفي طول إرادته تعالى، فكيف يدَّعى وقوع الشرك باللَّه معه تعالى بسببها.

رزقنا اللَّه شفاعة نبيِّهصلوات اللَّه عليه وعلى آله وشفاعة أهل بيته الكرام.

وصلى اللَّه على محمد وآل محمد

وصحبهم التابعين لهم بإحسان


1- - المدثر: 46- 48

ص:24

ص:25

التبرُّك

اشارة

إنَّ ظاهرة التبرك بآثار الأنبياء معروفة حتَّى عند الأمم التي سبقت الإسلام، والتي تتضمن التبرك بثياب أولئك الأنبياء وبقاياهم، ومنها تبرك نبيِّ اللَّه يعقوب بقميص ابنه يوسف:

اذهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلقُوهُ عَلَى وَجْه أَبِي يَأْتِ بَصِيراً «(1)»

، وببركة قميص نبي الله يوسف ارتدَّ إلى أبيه بصره بعد أن فقده على أثر غياب ولده، ولم تكن قدرة اللَّه عاجزة عن ردِّ بصره إليه بلا توسط لقميص يوسف عليه السلام، ولكن شاءت إرادته تعالى إلا أن يكون ذلك بسبب خاص، وليكون هذا سُنَّةً يقتدى بها، حيث يكشف ذلك عن اختصاص أزمنة وأمكنة وأشخاص مخصوصة بمقاماتٍ عند اللَّه تعالى ليست لغيرها، فمنها بركة


1- - يوسف: 93

ص:26

شفاء المرضى وبركة الشفاعة وبركة القرب من اللَّه تعالى وغيرها.

ولو رجعنا إلى المفهوم المعروف للتبرك لوجدناه لا يحيد قيد أنملة عمَّا كان عليه عند الأمم السالفة، بل هو واقع تاريخي عاشته الأمم المتشرعة بشرائع الأنبياء، فقد عُرِّف التبرك لغةً بأنَّه: الزيادة والنماء، والتبريك: الدعاء بالبركة، وفي نهاية ابن الأثير: في حديث أم سليم «فحنَّكه وبرَّك عليه» أي دعا له بالبركة «(1)».

إذن فالتبرك هو طلب البركة بالشي ء وعن طريقه، وقد ورد في القرآن ما يراد به هذا المعنى قال تعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ «(2)»

و: اهبِط بِسَلَام مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَك «(3)»

و: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِي أَنْ بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَن حَولَها «(4)»

و رحمة اللَّه وبركاته عليكم أهل البيت «(5)»

، وكذا وردت آيات كثيرة متعلقة ببركة أماكن وأزمنة مخصوصة، كما أنَّه قد وردت آيات تصف القرآن بالبركة؛ قال تعالى: وهذا


1- - النهاية: 1/ 120
2- - مريم: 31
3- - هود: 48
4- - النمل: 8
5- - هود: 73

ص:27

كتابٌ أنزلناه مباركٌ «(1)»وأمَّا

ما وصل لنا من السنَّة:

فقد ذكر في البخاري أنَّ ابن عمر قبَّل الحَجَر وقال: رأيتُ رسول اللَّه يستلمه ويقبله» «(2)».

وقد جرت سيرة الصحابة على التبرك بالنبي صلى الله عليه و آله في حياته وبعد وفاته.

فأمَّا في حياتهصلى الله عليه و آله: فهو مستفيض جداً، ونذكر منه ما أورده مسلم فيصحيحه من أنَّ رسول اللَّه كان يؤتى له بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم «(3)»، ومن الأخبار في ذلك:

1- عن عبد الرحمن بن عوف قال: ما كان يولد لأحد مولود إلا أُتي به النبي فدعا له «(4)» 2- جاءصلى الله عليه و آله إلى السوق فوجد زهيراً قائماً فضمه إلىصدره فأحس زهير أنَّه رسول اللَّه فقال: جعلت أمسح ظهري فيصدره رجاء حصول البركة «(5)».

3- عن أنس قال: «رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والحلَّاق يحلقه


1- - الأنعام: 92
2- - صحيح البخاري: كتاب الحج، باب 60 تقبيل الحجر الأسود، ح 1611
3- - صحيح مسلم: 1/ 164 باب حكم بول الطفل الرضيع، 6/ 176 باب استحباب تحنيك المولود، مسند أحمد 7/ 303 ح 25243
4- - المستدرك: 4/ 479، الإصابة: 1/ 6 خطبة الكتاب
5- - مسند أحمد: 3/ 938 حديث 12237، البداية والنهاية: 6/ 47 وصحَّحه وقال: رجاله ثقات

ص:28

وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل» «(1)».

4- عن أبي موسى قال: دعا النبيصلى الله عليه و آله بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه ومجَّ فيه ثمَّ قال لهما: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» قال ابن حجر: والغرض من ذلك إيجاد البركة فيه «(2)».

وهكذا كانوا يتبركون بِعَرَقِه «(3)» وبماء وضوءه، بل كانوا يقتتلون على وضوءه «(4)»، وقد جرى هذا منهم بمرأى ومسمع من النبيصلى الله عليه و آله ولم ينكر عليهم أو يمنعهم عنه، فهوصريح في الجواز، بل المحبوبيَّة.

وأمَّا

تبركهم بالنبي (ص) وآثاره بعد وفاته:

فقد ورد لنا الكثير عما كان يصدر عن الصحابة والتابعين من ذلك، فقد أفرد البخاري باباً في ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه...، ومن شعره ونعله وآنيته ممَّا تبرك أصحابه وغيرهم به بعد وفاته «5» وهاك بعضاً منها:


1- - صحيح مسلم بشرح النووي: 15/ 83، مسند أحمد: 3/ 591
2- - صحيح البخاري: 1/ 52 ح 188 كتاب الوضوء
3- - صحيح البخاري: 7/ 140 كتاب الاستئذان
4- - صحيح البخاري: 1/ 52 كتاب الوضوء باب استعمال فضل وضوء النبي

ص:29

1- كان إذا أصاب الإنسان عين أو شي ءٌ بعث إليها- إلى أم سليم- مخضبه فاطَّلعتُ في الحجل فرأيتُ شعرات حمر «(1)».

2- جعل في حنوط أنس بن مالكصرَّة مسك وشعر من شعر رسول اللَّه «(2)».

3- حينما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دعا بشعر من شعر النبي وأظفار من أظفاره وقال: إذا متُّ فخذوا الشعر والأظفار ثمَّ اجعلوه في كفني «(3)».

4- عن ابن سيرين قال:... لئن تكون عندي شعرة منه- من شعر النبي- أحب إلي من الدنيا وما فيها «(4)».

وهكذا روي لنا تبركهم بقدحه الذي كان يشرب فيه «(5)» وبمواضع يده وفمه «(6)» وكثير من نظائرها.

5- وأمَّا تبركهم بقبر النبي صلى الله عليه و آله فهو من الأمور المتواترة


1- - صحيح البخاري: 7/ 207
2- - الطبقات: 7/ 25 ترجمة أنس بن مالك
3- - الطبقات: 5/ 406 ترجمة عمر بن عبد العزيز
4- - صحيح البخاري: 1/ 51 كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل شعر الإنسان
5- - صحيح البخاري: 6/ 352 كتاب الأشربة، صحيح مسلم: 6/ 103.
6- - مسند أحمد: 7/ 520 ح 26574

ص:30

وقد دأب المسلمون بكافة طوائفهم على ذلك إلى يومنا هذا، ولا يقدح شذوذ شرذمة من الناس كابن تيميَّة الحراني، بعد أن رُوِي لنا بالاستفاضة إن لم يكن بالتواتر تبرُّك الصحابة والتابعين بقبره الشريف، كأبي أيوب الأنصاري «(1)» وابن عمر وبلال «(2)»، وقد قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة «(3)».

6- وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبداللَّه يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها ويحدث أنَّ أباه كان يصلي فيها وأنَّه رأى النبي يصلي في تلك الأمكنة، وحدَّثني نافع عن ابن عمر أنَّه كان يصلي في تلك الأمكنة» «(4)» وقال ابن حجر: عرف منصنيع عمر استحباب تتبع آثار النبي صلى الله عليه و آله والتبرك بها «(5)».

وهكذاصنيع أم سليم في طلبها من النبي صلى الله عليه و آله الصلاةَ في بيتها «(6)».


1- - المعجم الأوسط: 1/ 94، الجامع الصغير للسيوطي: 728، تلخيص مجمع الزوائد للذهبي: 4/ 22
2- - وفاء الوفا للسمهودي: 4/ 1405، وكذا تاريخ ابن عساكر في ترجمة بلال: 7/ 137، أسد الغابة: 1/ 244
3- - نقلًا عن مجمع الزوائد: 5/ 241، السنن الكبرى للنسائي: 6/ 485.
4- - صحيح البخاري: 1/ 130، كنز العمال: 6/ 247
5- - فتح الباري: 1/ 469
6- - سنن النسائي: 1/ 268 كتاب المساجد، باب 43 ح 816

ص:31

التبرك بالصحابة والتابعين:

قد ذهب الكثير من علماء المسلمين إلى جواز ذلك؛ بل بكل أهل الخير والصلاح، ومنعه آخرون؛ فقالوا بأنَّ ما ورد من التبرك بالنبي وبشعره وظفره ومكانه هو خاص به دون غيره، كما لم يرد عن الصحابة تبركهم ببعضهم البعض.

ومن الغريبصدور هذا عنهم، فقد وردت الشواهد الصحيحة على ذلك، وقال به مثل الإمام النووي وقد استند لرواياتصحيحة في استسقاء عمر بالعباس حين أصابهم القحط؛ فراجع كلامه.. «(1)».

كما قد استدل ابن حجر برواية استسقاء عمر بالعباس على جواز التبرك والاستشفاع ببعض الأخيار «(2)».

أقول: لو كان التبرك مبغوضاً ومحرماً لكان على النبي أن ينهى عنه، وذلك لحديث عمرو بن العاص عن النبي «إنَّه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمَّته على خير ما يعلمه صلاحاً لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم» «(3)».


1- - المجموع شرح المهذب للنووي: 5/ 68
2- - فتح الباري: 2/ 399
3- - صحيح مسلم: 3/ 1472 كتاب الامارة

ص:32

وأخيراً.. فالتبرك بالصالحين والشهداء أحياءاً وأمواتاً بقبورهم وآثارهم أمر مشهور بين المتشرعة من المسلمين، والمنع عنه من بعضٍ مستشهداً على أنَّه من الشرك بقوله تعالى:

مَا نَعْبُدُهُم إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّه زُلْفَى «(1)»

مغالطة واضحة، إذ أنَّ عمل المسلمين ليس من التوجه بالعبادة لتلك الأشياء، وهذا ممَّا يفهمه كل عاقل مسلم متوجه للَّه بالعبادة، فلا موجب للمنع عن ذلك، وها هم المسلمون يعيشون بركة هذه المشاهد والقبور للأئمة وللصالحين والشهداء ممَّنصحبوا النبي أو من التابعين فضلًا عن أهل بيت نبيه المطهرينصلوات اللَّه عليهم أجمعين... بل إنَّ زيارتهم والتبرك بمقاماتهم ومشاهدهم هو بمثابة تجديد للعهد الذي كانوا عليه، ومعاهدة للنفس على أن تسير على ذلك المنهاج الذي أسَّسه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وسار الصحابة والتابعون عليه من الالتزام بحبل اللَّه والدعوة إلى دينه مهما كلَّف الأمر.

وقد رأينا قبر بلال الحبشي في دمشق يزار ويتبرك به وتستجاب عنده الدعوة، وكذا قبر أبي أيوب الأنصاري «(2)»، وقبر حمزة بن عبد المطلب: فقد ذكروا من مستثنيات حمل تراب المدينة ماصح من جواز حمل شي ءٍ من تراب قبر حمزة لإطباق الناس على نقله للتداوي «(3)».


1- - الزمر: 3
2- - المستدرك: 3/ 518
3- - وفاء الوفا: 1/ 69

ص:33

ومن أهم وأظهر المشاهد التي يتبرك بها المسلمون مشهد الإمام الحسين عليه السلام ومشاهد أئمة البقيع عليهم السلام وبقيَّة أئمة أهل البيت عليهم السلام، فقد ظهرت للجميع آثار عجيبة ملأت الخافقين من استجابة الدعاء وظهور البركة منها.

فليكن- أخى المسلم- مثل هذه الاجتماعات المتكررة عند قبر النبيصلى الله عليه و آله وقبور أهل البقيع وشهداء أحد، وزوجات النبي وعمَّاته وبقيَّة السلف الصالح عنوانَ وفاءٍ وصدقٍ وإخلاصٍ في الرغبة في الاجتماع على مائدة الإسلام البريئة عن التلوث بالتكفير والحكم بالشرك على المسلمين، وتبديع أعمالهم وعقائدهم، وقانا اللَّه شرَّ ذلك إنَّه عليم بصير.

وصلَّى اللَّه على محمد وآله الطاهرين

وصحبهم التابعين لهم بإحسان

ص:34

ص:35

البكاء على الميت

اشارة

من الأمور التي تُثَار بين الفَيْنَةِ والأخرى من قبل بعض المسلمين مسألة البكاء على الميت، معترضين عليها بأنَّها نحو من الجزع المذموم شرعاً، أو أنَّ فيها سوء ظنٍّ باللَّه عزَّ وجلَّ، أو أنَّ الخليفة عمر بن الخطاب قد نهى عنه، ولكنَّ الحق عدم ثبوت شي ء من هذه الأمور أمام الدليل العقلي القاطع، والحديث الصحيح من السنَّة الشريفة، والتاريخ الواصل إلينا عن الأثبات، وسوف نذكر في هذه الوريقات بعض ما وصل إلينا ممَّا روي عن البكاء من فعل النبيصلى الله عليه و آله، أو فعل أصحابه، أو فعل سائر المسلمين، كما سنذكر ما ورد من الترخيص في البكاء من قبل النبيصلى الله عليه و آله، بل ما ورد من نهيه عمن منع النساء عن البكاء، وغيرها من الروايات:

ص:36

ما يتعلق ببكاء النبي:

1- من أبرز الأدلة على شرعيَّة البكاء فعل النبي وسيرته مع من يموت من أهله وأصحابه؛ فقد دلَّت الروايات على بكائه على ابنه ابراهيم «(1)»، وعلى ابنته زينب «(2)»، وعلى زيد وجعفر الطيار وابن رواحة «(3)» وعثمان ابن مظعون «(4)» وسعد بن الربيع «(5)»، وقبل كل ذلك قد بكى على أمِّه حين استأذن ربه في زيارتها كما ذكر في الصِّحَاح وغيرها «(6)» وفيه: «ووسألتُ ربي الزيارة فأذن لي.. وذكرتها فذرفت نفسي فبكيت..» «(7)».

بل كانصلى الله عليه و آله حينما يسأل عن ذلك يقول: «رحمة يجعلها في قلوب عباده، إنَّما يرحم من عباده الرحماء» «(8)».

2- وكذا ماورد من تحريض النبي صلى الله عليه و آله وحثه الناس


1- - العقد الفريد: 3/ 190
2- - ذخائر العقبى: 166، المحلي: 5/ 145
3- - تذكرة الخواص: 172 عن ابن سعد، ذخائر العقبى: 218، تاريخ اليعقوبي: 2/ 66
4- - المستدرك على الصحيحين: 1/ 361، سنن البيهقي: 3/ 407
5- - المغازي: 1/ 329
6- - المستدرك للحاكم: 1/ 375 وقال: هذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه
7- - المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 224
8- - صحيح البخاري: 1/ 224 حديث 1284، سنن النسائي: 4/ 22، المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 266

ص:37

بالبكاء، ومنه حثه صلى الله عليه و آله النساء في البكاء على عمه حمزة، فلما رجع من غزوة أحد ورأى النساء يبكين قتلاهن بكى وقال: «أمَّا حمزة فلا بواكي له» «(1)»، وكذا قال في جعفر «على مثل جعفر فتبك البواكي» «(2)».

3- وقد ورد الترخيص فيه من قِبَلِهصلى الله عليه و آله؛ فقد قال ابن مسعود وثابت ابن زيد وقرظة بن كعب: رخص لنا في البكاء «(3)»، كما قال صلى الله عليه و آله لنساءٍ يبكين وقد نهرهنَّ بعض أصحابه «دعهن يبكين وإيَّاكن ونعيق الشيطان..» «(4)»، وكذا ما رواه أبو هريرة؛ قال خرج النبي على جنازة ومعه عمر، فسمع نساءاً يبكين، فزبرهن عمر، فقال رسول اللَّه:

«يا عمر دعهن؛ فإنَّ العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب» وهذاصحيح على شرط الشيخين «(5)».

4- وكذا ما روي من أنَّهصلى الله عليه و آله سمع جابراً وبنت عمر يبكيان على أبي جابر ولم ينههما عن ذلك «(6)»، ولو كان مذموماً في


1- - مسند أحمد: 2/ 40، الإستيعاب: 1/ 275 بهامش الإصابة
2- - أنساب الأشراف: 43، وغيره ممن ترجم لجعفر
3- - المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 268
4- - كنز العمال: 15/ 621
5- - المستدرك للحاكم: 1/ 381، المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 64، سنن النسائي: 4/ 190
6- - سنن النسائي: 4/ 12

ص:38

الشريعة لنهى عنه النبي صلى الله عليه و آله.

ما يتعلق ببكاء أهل البيت:

1- فقد بكى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على النبيصلى الله عليه و آله بعد وفاته، وعلى فاطمة الزهراء عليها السلام بعد موتها «(1)»، وعلى ولده الحسين عليه السلام «(2)»، وعلى عمَّار بن ياسر «(3)»، وعلى محمد ابن أبي بكر «(4)»، وعلى مالك الأشتر «(5)»، وعلى هاشم بن عتبة «(6)».

2- كما وردت الروايات المفيدة لبكاء السيدة الزهراء عليها السلام على أبيهاصلى الله عليه و آله «(7)»، وعلى شهداء أُحُد «(8)»، وعلى عمها جعفر «(9)».

3- وبكى الحسن وأهل الكوفة أباالحسن بعد أن استُشهِد على يد ابن ملجم اللعين «(10)»، وبكى محمد بن الحنفيَّة


1- - الفصول المهمة: 130
2- - مسند أحمد: 1/ 58، استشهاد الإمام الحسين: 125، المعجم الكبير: 3/ 105، تهذيب التهذيب: 2/ 300، تاريخ دمشق: 238
3- - الإمامة والسياسة: 1/ 110
4- - أنساب الأشراف: 404، تاريخ الطبري: 6/ 62، تذكرة الخواص: 107
5- - شرح نهج البلاغة: 6/ 77
6- - تذكرة الخواص: 94
7- - تذكرة الخواص: 318، مسند فاطمة للسيوطي: 30، الفصول المهمة: 130، كنز العمال: 7/ 261
8- - شفاء الغرام: 2/ 350
9- - أنساب الأشراف: 43، ذخائر العقبى: 218
10- - الفصول المهمة: 142، شرح نهج البلاغة: 4/ 11

ص:39

أخاه الحسن «(1)».

4- وبكى الحسين أخاه الحسن وأمَّه فاطمة وأباه أمير المؤمنين؛ كما ذكرت ذلك كتب التاريخ، وبكى ابنه عليَّاً الأكبر «(2)»، وأخاه العباس «(3)»، وابن عمِّه مسلم بن عقيل «(4)»، وطفله الرضيع «(5)»، وقيس بن مسهر الصيداوي «(6)».

5- وبكى علي بن الحسين أباه الحسين طوال عمره «(7)»؛ فلما لاموه في ذلك قال: لا تلوموني فإنَّ يعقوب فقد سبطاً من ولده فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنَّه مات، ونظرت إلى أربعة عشر رجلًا من أهل بيتي ذبحوا في غداةٍ واحدة؛ فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً «(8)».

ما يتعلق ببكاء الصحابة على النبي:


1- - تاريخ دمشق: 234 ترجمة الإمام الحسن
2- - ينابيع المودة: 415 بالإضافة لكتب المقاتل
3- - المصدر نفسه: 409
4- - الفتوح لابن أعثم: 5/ 124
5- - تذكرة الخواص: 252
6- - الفتوح: 5/ 145
7- - حلية الأولياء: 3/ 138
8- - تاريخ دمشق: 56

ص:40

من المعلوم لدى كل مطلع على التاريخ النبوي أنَّ اليوم الذي فارقت روح النبيصلى الله عليه و آله الدنيا كان أعظم يومٍ على المسلمين، فقد ضجَّت المدينة بالبكاء والنحيب ولم تهدأ لهم عبرة، قال ابن أعثم في كتابه الفتوح عند ذكر سقيفة بني ساعدة:

«إنَّ المسلمين اجتمعوا وبكوا على فقد رسول اللَّه، فقال لهم أبوبكر: إن دمتم على هذا الحال فهو واللَّهِ الهلاك والبَوَار» «(1)».

وقال أبو ذؤيب الهذلي: «قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا بالإحرام، فقلتُ: مَهْ؟ قالوا:

قُبِض رسول اللَّه» «(2)».

وهكذا روي بكاء أبي بكر على النبي صلى الله عليه و آله لمَّا علم بموته جاء فانكب عليه فقبَّله وبكى... «(3)»، كما بكى عليه عمر بن الخطاب وقال: بأبي أنت وأمي يارسول اللَّه! لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا واتخذت منبراً لتسمعهم حنَّ الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه لتسكن، فأمَّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.. الخ «(4)»؛ وشاهدصدق هذا الخبر ما رواه أرباب الصِّحَاح والسُّنَن من حنين الجذع وضمِّ النبي صلى الله عليه و آله له.


1- - الفتوح: 1/ 2
2- - كنز العمال: 7/ 265، حياة الصحابة: 2/ 371، والراوي ممن تكلم في صدق صحبته للنبي صلى الله عليه و آله، لأنَّه رآه بعد وفاته وقبل دفنه
3- - المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 565، سنن النسائي: 4/ 11، سنن البيهقي: 3/ 406
4- - صدق الخبر في خوارج القرن الثاني عشر: 238

ص:41

وقد روي بكاء بلال الحبشي عند قبر النبي «(1)»، وبكت أم سلمة عليه صلى الله عليه و آله.

وأمَّا بكاء الأصحاب على بعضهم:

فمن نماذج ذلك ما ورد من بكاء أبي هريرة للإمام الحسن عليه السلام «(2)»، وبكاء سعيد بن العاص «(3)» عليه، وأمَّا الإمام الحسين عليه السلام فقد بكاه الرسول محمدصلى الله عليه و آله في حياته «(4)»، الصحابة جميعاً، ونذكر منهم: ما روي من بكاء أنس بن مالك حينما رأى رأس الحسين يقرعه يزيد بالقضيب «(5)»، وبكاه زيد بن أرقم في مجلس ابن زياد «(6)»، وبكاه الحسن البصري قائلًا: واذلَّ أمَّةٍ قتلت ابن بنت نبيها.. «(7)»، وبكته


1- - أسد الغابة: 1/ 208 ترجمة بلال، ولاحظ ترجمته من تاريخ ابن عساكر: 1/ 256
2- - تاريخ دمشق« ترجمة الإمام الحسن»: 229، سير أعلام النبلاء: 3/ 277
3- - المستدرك على الصحيحين: 3/ 173
4- - روى ذلك أصحاب التواريخ والسنن فلاحظ: المستدرك 3/ 176، تاريخ الخميس 1/ 418، ابن عساكر في تاريخه، وذخائر العقبى للطبري، وجميع المقاتل التي ذكرت الواقعة
5- - ينابيع المودة: 389 عن سنن الترمذي: 5/ 659، وينقله عن البخاري، لكنَّ صحيح البخاري الموجود بين أيدينا قد خذفت منه هذه الرواية فتأمل!
6- - استشهاد الحسين لابن الأثير: 106، أسد الغابة: 2/ 21
7- - تذكرة الخواص: 268

ص:42

أم سلمة قائلة: «أَوَ قد فعلوها ملاء اللَّهُ بيوتهم ناراً، ثمَّ بَكَتْ حتى غُشِي عليها» «(1)»، وبكته الهاشميات: السيدة زينب والسيدة أم كلثوم والسيدة زينب بنت عقيل، وبكته أم البنين «(2)».

كما أنَّه قد ورد في بعض الروايات والآثار: بكاء عبد الله ابن مسعود على عمر بن الخطاب «(3)»، وبكاء عمر بن الخطاب على النعمان بن مقرن «(4)»، وبكاء عبد الله بن رواحة على حمزة «(5)»، كما قد رثى الشاعرُ حسَّانُ بن ثابت خُبَيْب بن عدي وبكى عليه «(6)»، كما رثى قتلى بر معونة «(7)»، وبكت صفيَّة عمَّة النبي أخاها حمزة بكاءاً شديداً حتى كان رسول الله يبكي إذا


1- - تهذيب التهذيب: 2/ 306
2- - لاحظ: استشهاد الحسين: 111، ينابيع المودة: 425، كفاية الطالب: 441، مقاتل الطالبيين: 56
3- - العقد الفريد: 3/ 195
4- - المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 175- 6/ 558- 7/ 17، سير أعلام النبلاء: 1/ 404
5- - السيرة النبويَّة: 3/ 171
6- - السيرة النبويَّة: 3/ 186
7- - المصدر السابق: 3/ 198

ص:43

بكت وينشج إذا نشجت «(1)».

بقيت شبهة المنع عن البكاء:

الشبهة الأولى: ما روي عن النبي: «إنَّ الميت يعذب ببكاء الحي» أو: «إنَّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه».

الجواب: بعد قبول أنَّ هذه الروايةصدرت عن النبيصلى الله عليه و آله فهو إنَّما كان لموت يهودي، والحديث رواه كلٌّ من البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة: عن هشام بن عروة عن أبيه:

«ذكر عند عائشة قول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله أبا عبدالرحمن سمع شيئاً فلم يحفظه؛ إنَّما مرت على رسول الله جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: «أنتم تبكون وإنَّه ليعذب» «(2)»، إذن فالمنع غير متحقق الصدور، ومع تحققه فهو ليس منعاً وإنَّما هو إخبار عن واقع حال خاص باليهود أو بيهودي مخصوص. ثمَّ إنَّ هذ الروايات المانعة تناقض فعل النبي بالبكاء على بعض من ماتوا، وبأمره بالبكاء و.. و...

الشبهة الثانية:صدور النهي من عمر بن الخطاب؛ وهذا لم يصح إلا في روايةصهيب حينما دخل عليه وهو يحتضر وقد


1- - الفصول المهمة: 92، المغازي: 1/ 290
2- - صحيح مسلم: 3/ 44، صحيح البخاري: 1/ 224- 225 كتاب الجنائز- باب يعذب الميت.../ حديث: 1288- 1289 مع اختلاف يسير

ص:44

أوضحته عائشة بما مرَّ، وفي رواية أخرى مع النبيصلى الله عليه و آله حينما زجر عمرُ النسوة عن البكاء فقال له الرسول: «دعهن فإنَّ النفس..» وقد تقدم نقله، وفيه أكبر دلالة على الجواز لا على المنع.

ثمَّ إنَّ هذا ينافي بكاء عمر نفسه على النبيصلى الله عليه و آله لما استيقن بموته، وأخاه زيد بن الخطاب، وبكى خالد بن الوليد لما مات، وبكى النعمان بن مقرن.

الشبهة الثالثة: أنَّ في البكاء عنوان إظهار الإعتراض على ما يجريه اللَّه عزَّ وجلَّ على الإنسان في هذه الدنيا، وسوء ظنٍّ به تعالى.

ولكنَّ هذه الشبهة ترتفع بفعل النبيصلى الله عليه و آله وفعل أصحابه، وأهل البيت عليهم السلام، هذا مع تصريح النبيصلى الله عليه و آله حين بكى على ولده ابراهيم وعمه حمزة وحين رأى النسوة يبكين: «بأنَّ العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب» وفي كلمة أخرى: «تدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب»، وفيه دلالة واضحة على جواز البكاء في حد ذاته بشرط أن لا يستلزم محرماً وهو إغضاب اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا ملازمة بين البكاء والإعتراض على إرادة اللَّه، ولا منافاة بينه وبين الصبر المأمور به وإلا لانتفتصفة الصبر عن النبيصلى الله عليه و آله حينصدور البكاء منه، وهذا باطل قطعاً.

وأخيراً... فالبكاء ظاهرة نفسيَّة طبيعية عند كل إنسان فضلًا عمَّن تدين بالإسلام وتحلى بقواعد الإيمان، فمن يغيب

ص:45

عنه ولده أو أبوه أو عزيز له ويشتاق إليه مع علمه بأنَّه حي يرزق، فإنَّ البكاء لفقده والتحسر على عدم لقائه أمر طبيعي، فكيف لو كان ذلك الفقد بالموت الذي لا رجعة فيه... رزقنا اللَّه الرحمة وجعل قلوبنا محلًا لرحمته عزَّ وجلَّ إنَّه جواد كريم، غفور رحيم.

وصلَّى اللَّه على محمد وآله الطاهرين

وصحبه التابعين له بإحسان

ص:46

ص:47

زيارة القبور

اشارة

دليل مشروعيَّة الزيارة وما قالوا عنها:

أمَّا دليل المشروعيَّة فقد ورد:

من القرآن:

ما يستفاد منه جواز ذلك؛ قوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُم عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُم فَاسِقُون «(1)»

فقد نهى اللَّه رسوله عن الصلاة أو القيام على قبر جماعة خاصة، وهم خصوص من كفروا باللَّه وبرسوله، بل ماتوا على فسقهم الذي كانوا عليه، فيُفهَم من الآية أنَّ غير هذا الصنف من الناس كمن يموت على الإيمان؛ ليس من بأس في أن تصلي عليه أو تقوم على قبره، والقيام على القبر


1- - التوبة: 84

ص:48

كناية عن الوقوف عليه والسلام على ساكنه.

وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاستَغْفَرُوا اللَّه وَاستَغْفَرَ لَهُم الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابَاً رَحِيماً «(1)»

من غير فرقٍ بين حال حياته وبعد وفاته، من قريب أو من بعيد.

ومن الحديث:

توجد أحاديث كثيرة قيل بتواترها، فمنها:

1- «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنَّها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» «(2)» «.. فإنَّ فيها عبرة» «(3)» 2- «زوروا القبور فإنَّها تُذكِّرُكم الآخرة» «(4)».

3- «زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله.. قال:

استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنَّها تُذكِّرُكم الموت» «(5)».


1- - النساء: 64
2- - صحيح مسلم: ج 3 ص 95، ج 4 ص 73 من حديث بريدة، سنن أبي داود: ج 2 ص 195، سنن ابن ماجه: ج 1 ص 501 باب 47 حديث 1571 و في طبعة أخرى: ص 114، سنن الترمذي: أبواب الجنائز ج 3 ص 274؛ ويقول الترمذي:« حديث بريدة صحيح والعمل عليه ولا يرون بزيارة القبور بأساً»
3- - المستدرك للحاكم: 1/ 375 كتاب الجنائز
4- - سنن ابن ماجه: ج 1 ص 113
5- - صحيح مسلم: 3/ 65، سنن أبي داود: ج 2 ص 195

ص:49

4- عن عائشة «رخَّص رسول اللَّه في زيارة القبور» «(1)».

5- قالت عائشة عن النبي: «أمرني ربي أن آتي البقيع...» إلى أن قالت: «قلت كيف أقول يا رسول اللَّه؟ قال:

قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم اللَّه المستقدمين منَّا والمستأخرين وإنَّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون» «(2)» 5- «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «(3)».

6- نص قول الرسولصلى الله عليه و آله و سلم: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» «(4)» وهذاصريح فيصدور الزيارة منه صلى الله عليه و آله و سلم لهم والتسليم عليهم.

7- روى البزَّار والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر قال قال رسول اللَّه: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «(5)»


1- - سنن ابن ماجه: ج 1 ص 501 باب 47
2- - سنن ابن ماجه: ج 1 ص 501 باب 47، صحيح مسلم: 3/ 64 باب ما يقال عند القبور، سنن النسائي: 3/ 76
3- - الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 590
4- - صحيح مسلم: 3/ 11، سنن النسائي: 4/ 76، سنن أبي داود: 2/ 196
5- - الإيضاح في مناسك الحج: ص 214

ص:50

وعلَّق عليه ابن حجر قائلًا: الحديث يشمل زيارته حياً وميتاً، ويشمل الذكر والأنثى، والآتي من قرب أو بعد، فيستدل به على فضيلة شد الرحال لذلك وندب السفر، إذ للوسائل حكم المقاصد «(1)».

ومن الإجماع:

قد أجمع المسلمون قولًا وعملًا على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين ومشروعيتها ملحقة بالضروريات عند المسلمين، وسيرتهم قائمة على ذلك.

قال ابن حجر المكي: اعلم أنَّ زيارته مشروعة ومطلوبةٌ بالكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة والقياس، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُم إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاستَغْفَرُوا اللَّه وَاستَغْفَرَ لَهُم الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابَاً رَحِيماً دلَّت على حثِّ الأمَّة على المجي ء إليه وزيارته وطلب الاستغفار، ولا فرق في ذلك بين حال حياته وموته. انتهى عن كتابه الجوهر المنظم.

وقال السمهودي نقلًا عن السبكي: قال عياض: زيارة قبرهصلى الله عليه و آله و سلم سُنَّة بين المسلمين، مجمع عليها، وفضيلة مرغوب فيها «(2)».

قال السبكي: وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي، بل قال بعض الظاهريَّة بوجوبه،


1- - حاشية الإيضاح: ص 214
2- - الشفا للقاضي عياض: 2/ 83، وفاء الوفا: 2/ 412

ص:51

واختلفوا في النساء، وامتاز القبر بالأدلة الخاصة، لهذا أقول:

إنَّه لا فرق بين الرجال و النساء «(1)».

ومن كلمات العلماء:

قال ابن حزم: وتستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرَّة، وقدصحَّ عن أمِّ المؤمنين وابن عمر وغيرهما زيارة القبور، وروي عن عمر النهي عن ذلك، ولم يصحَّ «(2)».

وفي الفقه على المذاهب الأربعة: زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكُّر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها عند الحنفيَّة والمالكيَّة، وخالف الشافعيَّة والحنابلة: فقال الحنابلة بعدم تأكدها في يوم دون يوم، وقال الشافعيَّة: تتأكد من عصر يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم السبت «(3)».

وقال الإمام النووي: واعلم أنَّ زيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من أهم القربات وأنجح المساعي «(4)».

وقال تقي الدين السبكي: من أجود الأخبار إسناداً خبر «من زارني بعد موتي فكأنَّما زارني في حياتي» «(5)»


1- - شفاء السقام للسبكي: 69، 70 استانبول 1318 ه
2- - المحلى: 5/ 160 المسألة 600
3- - الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: 1/ 540
4- - رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة: ص 51- 54
5- - نقلًا عن كتاب الجوهر المنظم لابن حجر المكي

ص:52

ومن العقل:

فإنَّ العقل يحكم بحسن تعظيم من عظَّمه اللَّه تعالى، ولا شكَّ أنَّ الزيارة نوع تعظيم، وفي تعظيمه تعظيم لشعار الإسلام وإرغام لمنكريه، وقد ثبت رجحان زيارتهصلى الله عليه و آله في حياته فكذلك بعد مماته، خصوصاً بعد الإلتفات إلى حياته البرزخيَّة، والتي دلَّ عليها من الروايات أنَّ ملكاً مُوَكَّلًا بإبلاغ سلام الناس إليه وأنَّه يرد السلام عليهم.

وأمَّا زيارة سائر القبور: فقد ثبت أنَّ النبيصلى الله عليه و آله كان يزور أهل البقيع، وشهداء أُحُد، علاوة على ما مرَّ من أمرهصلى الله عليه و آله بزيارة القبور، ونصِّه على الحكمة المتوخاة من الزيارة.

السفر للزيارة

إنَّ من المعلوم لكل عاقلٍ مستقيم السليقة أنَّ أمر النبيصلى الله عليه و آله الناس بزيارة قبره، وحثهم على ذلك هو أمر بالسفر لزيارته، وذلك لاستلزام الزيارة السفر، إذ ليس كل الناس هو من أهل المدينة، فتجويز الزيارة من البعض أو إيجابها، ومنعهم عن

ص:53

السفر لزيارة قبره صلى الله عليه و آله، أوجب اضطراباً في عقولهم فاخترعوا أنَّ السفر وشدَّ الرحال لمسجد النبيصلى الله عليه و آله لا لقبره، ثمَّ بعد وصوله يمر على القبر ويدعو له «(1)»، فاستندوا إلى حديث مفاده:

«لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» «(2)».

والجواب عنه واضح؛ فإنَّ الحصر في هذه المساجد إضافي، فإنَّه يعني: إذا قصدتم السفر إلى مسجد بعيد، فاقصدوا أحد هذه المساجد الثلاثة، ولا يعني ذلك عدم جواز السفر إلى مكانٍ آخر لمقاصد مشروعة، والقرينة على ذلك هي الاتفاق بين المسلمين على السفر لزيارة الأهل وللتجارة ولطلب العلم وللجهاد ولزيارة العلماء والصلحاء وللتداوي، وغير ذلك ممَّا لايحصى كثرة من أغراض الناس، فيجوز على هذا زيارة الأنبياء والأئمة والصالحين، لأنَّها ليست مما يتعرض له الحديث أصلًا.

وعلى تقدير تعميم النهي لكل سفرٍ إلى كل مكان وبكل غرض؛ فإنَّه يلزم المنع عن كل سفر مطلقاً ما عدا السفر لهذه المساجد الثلاثة، وهذا لا يقول به عاقل!!

ثمَّ إنَّ المفهوم من الحديث هو إثبات أفضليَّة هذه المساجد على غيرها من المساجد ليس إلا، فإنَّه قد روى البخاري ذهاب النبي إلى قبا كل سبتٍ ماشياً وراكباً،


1- - سبحان اللَّه! فيا ترى هل النبي محتاج إلى دعائنا له أو أنَّنا المحتاجون والمفتقرون إلى دعائه!؟
2- - صحيح مسلم: 4/ 126

ص:54

وابن عمر كذلك «(1)».

وممَّن روي عنه السفر لزيارته بلال بن رباح؛ وذلك في قصة طويلة خلاصتها: أنَّه بعد استقراره في الشام رأى النبيصلى الله عليه و آله في المنام وهو يعاتبه: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه وقصد بدابته المدينة فأتى قبر النبيصلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما.. ثم بعد التماسهما سماع أذانه أذَّ ن للناس فكان يوماً مشهوداً «(2)» وفي وفاء الوفا للسمهودي: روى عبد الرزاق بإسنادصحيح أنَّ ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبيصلى الله عليه و آله فقال:

السلام عليك يا رسول اللَّه... «(3)»، وكذا روي عن أم سلمة أنَّها كانت تخرج لزيارة شهداء أحد.

وكانت الزيارة دأب الصحابة: فقد روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين: أنَّه أقبل يوماً مروان فوجد رجلًا واضعاً وجهه على قبر رسول اللَّه فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضى الله عنه فقال: جئتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ولم آتِ الحجر، سمعتُ رسول اللَّه يقول «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا


1- - إرشاد الساري: 2/ 332
2- - ترجمة بلال بن رباح من تهذيب تاريخ ابن عساكر: 1/ 256
3- - المصدر المذكور: 2/ 409

ص:55

وليه غير أهله» «(1)».

وممَّا لا شك فيه أنَّ الزيارة ليست منحصرة بأهل المدينة بل هي لكل المسلمين، فلا بدَّ من السفر لأجل الزيارة، وهذا مما يوجبه العقل والنقل مقدمة لزيارتهصلى الله عليه و آله وزيارة قبور أهل البقيع وسائر قبور المؤمنين.

فيا أيها الأخوة في اللَّه: بعد أن نقرأ ما ورد من آيات ونتأمل ما وصل لنا من الأحاديث النبويَّة، وما علمنا من سيرة الأصحاب والتابعين، بل المسلمين قاطبة، من عدم توقفهم عن الزيارة والتوجه للقبر الشريف وقبور أئمة البقيع للزيارة، بعد كل ذلك: ألا يعدُّ من الجفاء للنبيصلى الله عليه و آله وإحداث الخلاف بين المسلمين أن يُمنَع عن الاقتداء بالنبي وبصحبه الكرام وأتباعه الصالحين في زيارتهصلى الله عليه و آله وزيارة أهله وأولاده وسائر المؤمنين ممَّن سبقونا إلى الإيمان!؟

وأخيراً.. فإنَّ زيارة قبر النبي وقبور الأئمة والشهداء والصالحين، والسفر بقصد ذلك ما هو إلا تجديد عهدٍ معهم في المضيِّ على ما مضوا عليه والسير على منهاجهم من التزام التُّقى والورع عن محارم اللَّه.

جنَّبنا اللَّه عما حرَّم ووفقنا لالتزام ما أمر به وصلى اللَّه على محمد وآله الطاهرين


1- - المستدرك للحاكم: 4/ 515

ص:56

ص:57

التولي والتبري

إنَّ من المبادى ء المهمة في العقيدة، بل يعد من المفاهيم التي بني عليها الإسلام، والتي بها يكون المؤمن مؤمناً بالله عزَّ وجلَّ خير إيمان، مبدأ التولي والتبري.

ففي مرحلة ثبوت أصل هذه الولاية للَّه عزَّ وجلَّ اقرأ قوله تعالى هُنَالِكَ الوَلَايَةُ لِلَّه «(1)»

وفي مقام بيان ولاية اللَّه عزَّ وجلَّ فيما بينه وبين المؤمنين من خلقه قال تعالى اللَّه وَلِيُّ الذّينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِن الظُّلمَات إلَى النُّور «(2)»

وهذا المبدأ له جنبتان:

الأولى: جانب اتخاذ اللَّه سبحانه الأولياء من قبله، وهذا الجانب من شؤون اللَّه عزَّ وجلَّ، كاتخاذ الأنبياء من قبله


1- - الكهف: 44
2- - سورة البقرة: 257

ص:58

والرسل والأوصياء، وليس لأحد أن ينتخب للولاية الإلهيَّة من يريد ويعزف عمَّن لا يريد، كما دلَّ عليه قال تعالى إنَّ اللَّه اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين «(1)»

وقوله تعالى ثمَّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا «(2)»

وقوله تعالى ولقد اصطفيناه في الدنيا «(3)»

وآيات أخرى كثيرة تدخل في ضمن هذه المعنى.

الثانية: جانب اتخاذ المؤمنين ولياً لهم من قبلهم، وفي هذا الجانب قد أوضح اللَّه عزَّ وجل- من خلال كتابه ونبيِّه- للإنسان بأن يكون هو عزَّ وجلَّ الولي لهم في المرتبة الأولى، وكما مرَّ في الآية الأولى، ثم في المرتبة الثانية يبين أنَّ الولاية لها سلسة طوليَّة، كما في قوله تعالى إنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُه وَالذِّينَ آمَنُوا «(4)»

، علاوة على إفادة الآية لأصل ثبوت الولاية من قبل المذكورين فيها على المؤمنين، فأمَّا تصريح المؤمنين بإعلان الولاية للَّه فقد حكاه القرآن في قوله تعالى أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا «(5)»

وقوله قَالُوا سُبحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِن


1- - آل عمران: 33
2- - فاطر: 32
3- - البقرة: 130
4- - المائدة: 55
5- - الأعراف: 155

ص:59

دُونِهِم «(1)»

وقوله إنَّ وَلِييِّ اللَّهُ الذِّي نَزَّل الكِتَاب «(2)»

كما منع من اتخاذ غيره وليَّاً لهم قال تعالى واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليَّاً ولا نصيراً «(3)»

وقوله تعالى ومن يتخذ الشيطان وليَّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً «(4)»

ثمَّ إنَّ هذه الولاية المأمورين بالإعتقاد بها والعمل على طبقها هي علىصعيد الواقع بمعنى أداة الأعمال وكافة سلوكياتنا العباديَّة والحياتيَّة مخلصة للَّه عزَّ وجلَّ، ولكون النبيصلى الله عليه و آله والمؤمنون- والمقصود بهم أئمة أهل بيت النبي عليهم السلام أو هم في ضمنهم بل هم أظهر الأفراد منهم- في ضمن سلسلة الأولياء، لذا وجب الإعتقاد بولايتهم، إلا أنَّ ولاية هولاء على المؤمنين ليست كولاية بقية المؤمنين على بعضهم البعض كما يفيده قوله تعالى وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتِ بَعْضُهُم أَوْلِيَاء بَعْض «(5)»

، بل هي أكبر من ذلك بمراتب، لأنَّها متنزلة من ولاية


1- - سبأ: 41
2- - الأعراف: 196
3- - النساء: 89
4- - النساء: 119
5- - التوبة: 71

ص:60

الله عزَّوجلَّ ولا شك أنَّ ولاية اللَّه ليست كولاية الأب على ابنه أو كولاية االقاضي على المحجور عليه.

وعليهم فيجب إعلان الموالاة لهم عليهم السلام كما تعلن الولاية للَّه عزَّ وجلَّ.

واعلم- أخي المسلم- أنَّ موالاة أهل بيت النبي عليهم السلام لا تقف في حد حبهم وإظهار الودِّ لهم، بل هي باتباعهم في أوامرهم ونواهيهم، والاعتبار بأقوالهم وأفعالهم. وإلى جانب هذه الظاهرة الإعتقاديَّة توجد عندنا ظاهرة أخرى وهي التبري من أعداء اللَّه عزَّ وجلَّ وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين- وهم أهل بيته المقصودين في الآية السابقة وكما يذكر المفسرون هذا، أو هم أظهر أفرادها- فقد نصَّت الآيات القرآنيَّة على التبري من الشيطان وعدم اتخاذه ولياً كما في الآية المذكورة سابقاً، وعلى عدم موالاة المشركين والكفار.

ولمَّا أن قدَّمنا أنَّ التولي على حسب مراتب الأولياء الطوليَّة، مع ملاحظة اشتراكهم في أصل وجوب موالاتهم، فالتبري كذلك بملاحظة أصل وجوب التبري من أعدائهم تكون جميع المراتب على حد سواء، والتفاوت ليس إلا في درجة التبري، فعلى سبيل المثال يبرأ المسلم عن كل ما لا يمت إلى الإسلام بصلة سواء على مستوى الإعتقاد أم على مستوى الأعمال، ويبرأ عن كل ما يوجب مخالفة الرسولصلى الله عليه و آله، ولو مقدمة لامتثال أوامره واجتناب نواهيهصلى الله عليه و آله، وعلى نفس الوتيرة

ص:61

يجب عليه أن يبرأ عن كل من يبرأ منه أهل بيت النبي عليهم السلام من الأقوال والأفعال والإعتقادات، فإنَّهم لا يَدْعُون إلى ضلال ولا يُخرِجُون عن هدى، وذلك لأنَّنا نعتقد بعصمتهم كعصمة النبيصلى الله عليه و آله، والمعصوم من قبل اللَّه بمعنى عدم إقدامه على خطأ لا يمكن أن نتصور دعوته لما فيه معصية اللَّه عزَّ وجلَّ.

ولذا يستفيد الفقهاء المسلمون من الآيات التي تلوناها عليك أنَّ المطيع لهم مطيع للَّه، والعاصي لهم عاصٍ لأوامر اللَّه، وهذا ليس بِدْعَاً من الفهم أو خارجاً عن قواعد الإستدلال، بل كل مؤمن يدعو للَّه فإنَّ طاعته طاعة اللَّه، ومن هنا قال النبيصلى الله عليه و آله للرجل الذي سأله أن يرشده على من يلتزم بهديه؛ قالصلى الله عليه و آله له «عليك بهذا- يقصد عمار بن ياسر- فإنَّه لن يخرجك من هدى ولن يدخلك في ضلالة» هذا مع أنَّ عمَّاراً ليس بمعصوم، بل هو رجل من أصحاب النبيصلى الله عليه و آله ممَّن أخلص الصحبة لهصلى الله عليه و آله ولم يكن هداه ذاتياً له وإنَّما كان باتباعه لأخ النبي وصنوه وابن عمَّه علي ابن أبي طالب عليه السلام.

إذن فالموالاة للَّه وللرسول ولآل الرسول، والتبري من أعداء اللَّه وأعداء رسوله وأهل بيته-صلوات اللَّه عليهم أجمعين- يُعدُّ واجباً إسلامياً على كل من يدين بهذا الدين المنزل من قبل اللَّه عزَّ وجلَّ.

فلا ينبغي من المسلم الإنصات إلى نقيق الضفادع- من هنا

ص:62

وهناك- ممَّن همُّهم إضعاف المسلمين، وزعزعة كيانهم بعد أن أراد اللَّه لهم العزَّة به وبرسوله وبأهل بيته عليهم السلام، وإحداث شرخ في وحدتهم وتكاتفهم حول راية رسولِ اللَّهصلى الله عليه و آله ومن أرشد لهم بعد وفاته، وهم الثقل الأصغر أهل بيته، وكما ورد هذا متواتراً في حديث الثقلين «(1)».

والحمد للَّه ربِّ العالمين وصلَّى اللَّه على محمد

وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين


1- - راجع لمعرفة مصادره:

ص:63

الشيعة والقرآن

تُعتبر الشيعة الإماميَّة الإثنا عشريَّة إحدى الفرق الإسلاميَّة الكبيرة.. ذات العَرْض العريض من مخطط المجتمع الإسلامي الكبير حيث يُعدُّون بالملايين، في مقابل المذاهب الأخرى التي لو أفرد كل مذهب منها من المذاهب الأربعة لما كان بتعداده يحصل إلى مقدار ما يُعدُّ به الشيعة الإماميَّة.

والشيعة الإماميَّة منتشرون في كل أنحاء المعمورة من القارات السبع، وهم يدينون بما تدين به قاطبة أهل الإسلام..

من الإعتقاد بإله واحدٍ ولا سواه معبود، وبأنَّه حكيم أرسل الرسل وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وآخرهم وخاتمهم النبي الأكرم محمد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله، وجعل له أوصياء من بعده كما هي سنَّة اللَّه عزَّ وجلَّ في كل نبيٍّ بأن ينصب له أوصياء قبل موته لكي تستمر دعوته ورسالته بالحفاظ عليها من قِبَل هؤلاء

ص:64

الأوصياء، ولكيلا تضيع جهوده المضنية هباء منثوراً.

وكانت- ولا تزال- المعجزة الخالدة لنبيِّنا الأكرم هي هذا القرآن العظيم الموجود بين أيدينا.

والشيعة الإماميَّة- كسائر المسلمين- تعتقد بأنَّ القرآن الذي أنزل على النبيصلى الله عليه و آله، ممَّا وعد الله عزَّ وجلَّ بالحفاظ عليه بقوله تعالى إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وَإنَّا لَه لَحَافِظُون «(1)»

، فالشيعة الإماميَّة ملتزمة- امتثالًا لأمر ربها و اقتداء بنبيِّها وأوصيائه الكرام- منذ نزول القرآن على قلب النبيصلى الله عليه و آله وإلى زماننا هذا بتعهد القرآن والحفاظ عليه عن الضياع والتلف وتحريف المحرِّفين.

ففي أوائل من حفظ القرآن أمير المؤمنين عليه السلام حيث اهتم بجمعه في داره لمدة طويلة، وأمَّا الرواية المشهورة بين القُرَّاء الآن والمتداولة وهي رواية حفص عن عاصم عن عبد الرحمن السلمي؛ فهؤلاء كلهم من الشيعة من أهل الكوفة، اذن فالقرآن الموجود بين أيدينا قد توارث الشيعة الإماميَّة حفظه وتلاوته وقراءةته بين الناس حتى وصل إلينا كما كان بين أيديهم آنذاك.

ثم إنَّه ليس المقصود بحفظ اللَّه للقرآن هو حفظه بالإستظهار في الصدور فقط، بل المقصود حفظه عن كل ما


1- - الحجر: 9

ص:65

يخدش في قداسته، ويحط من غضاضته وكرامته، ولم يتبنَّ أيٌّ من علماء الإماميَّة قولًا منافياً لهذا المعنى.

وتعال.. معي لنرى ما ورد من روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في القرآن وما يتعلق به من أحكام:

قال أمير المؤمنين عليه السلام في فضله: «.. وتعلموا القرآن فإنَّه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنَّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنَّه أنفع القصص ..» «(1)»

و قوله من خطبة أخرى «.. وكتاب اللَّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيتٌ لا تهدم أركانه، وعزٌّ لا تهزم أعوانه» «(2)».

ورُوِّينا عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله «من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخُفِّف عن والديه وإن كانا كافرين» «(3)».

وقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام فيصحيفته «.. وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاةٍ لا يضل من أمَّ قصد سنته..».

وأمَّا الروايات في ثواب قراءة القرآن وحامل القرآن


1- - نهج البلاغة: الخطبة 110
2- - نهج البلاغة: الخطبة 133
3- - الكافي: 2/ 613 حديث 1

ص:66

وثواب حفظه وشرائط قراءته وكيفيَّة ختمه فهي كثيرة في روايات أهل البيت عليهم السلام، نكتفي منها بواحدة هنا؛ فقد روي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قوله «حملة القرآن عرفاء أهل الجنَّة» «(1)»

و «لا يعذب الله قلباً وعى القرآن» «(2)»

. ومن مظاهر اهتمام الشيعة بالقرآن جعلهم ميزان الأخبار بالعرض عليه، فما وافقه يؤخذ به وما خالفه ترك وهذا في العقائد وفي الأحكام على حد سواء، ولعله يكون من مختصات الشيعة الإماميَّة دون غيرهم.

ولعل في هذا المعنى أكبر دلالة على نفي وبطلان ما ينسب للشيعة من القول بتحريف القرآن، فإنَّه كيف يلتئم هذا القول والمبنى في عرض الأخبار لمعرفةصحيحها من سقيمها مع القول بتحريف القرآن بالنقص أو بالزيادة، إذ كيف سيتم تصحيح الخبر بعرضه على كالتاب حال الالتزام بكونه ناقصاً أو زائداً؟

ثمَّ إنَّ الشيعة الإماميَّة لكونهم متبعين لأهل بيت نبيِّهم عليهم السلام، وأهل البيت أدرى بالذي فيه، لذا فهم على غرار ذلك مهتمون تمام الإهتمام بذلك حفظاً وقراءةً وتعاهداً وعملًا بالقرآن والتزاماً بمبادئه.

وبعد هذا- أخي المسلم- فهل من المعقول أن يصدر ما يوجب إلقاء التهم و الشبهات حول الشيعة في عقيدتهم بأنَّ لهم


1- - الخصال: 28 حديث رقم 100 باب 1
2- - أمالي الطوسي: ص 6 حديث 7 المجلس الأول

ص:67

قرآناً غير قرآن المسلمين أو أنَّه ليس لهم قرآن أو أنَّهم يرون وقوع التحريف في القرآن.. و.. و..، وغيرها ممَّا لا يخدم إلا المُغرِضِين وأصحاب الأهواء والأغراض المشبوهة المعادية للإسلام والمسلمين والموجبة لإحداث الفرقة فيصفوفهم.

فهاك كلمةً جامعة من شيخ المحدثين الصدوق؛ في كتابه الإعتقادات قال: «اعتقادنا في القرآن الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيه محمدصلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.. إلى أن قال: ومن نسب إلينا أنَّا نقول إنَّه أكثر من ذلك فهو كاذب».

فتعال..- أخي المسلم- لنجتمع على مائدة القرآن حيث تتوحد أفكارنا وتلتئم قلوبنا بقوله تعالى إنَّمَا المُؤمِنُونَ أُخْوَة «(1)»

، ولنواجه أولئك المغرضين بقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْا يَا أَهْلَ الكِتَابِ إلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ألَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهِ وَلَا نُشرِكَ بِهِ شَيئَاً وَلَا يَتَّخِذُ بَعْضُنَا أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللَّهِ «(2)» فَإنَّا أَوْ إيَّاكُم لَعَلَى هُدَى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِين «(3)»

والحمد للَّه ربِّ العالمين وصلَّى اللَّه على محمدٍ

وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين


1- - الحجرات: 10
2- - آل عمران: 64
3- - سبأ: 24

ص:68

ص:69

الشيعة وأهل البيت

ينتمي الشيعة الإماميَّة- أيدهم اللَّه- في أفكارهم وعقائدهم إلى آل بيت النبيصلوات اللَّه عليهم أجمعين، ويستقون من نمير علومهم، كما هو ملتزمون بتعاليمهم وذلك لأنَّ تعاليمهم هي تعاليم القرآن وتعاليم جدِّهم النبيصلى الله عليه و آله، لا يحيدون عنها قيد أنملة، أو ليس قد قال فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الحديث المتواتر لفظاً ومعنى «إنِّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» «(1)».

وأمَّا سبب انتماء الشيعة الإماميَّة وتمسكهم بأهل بيت


1- - سنن الترمذي: 5/ 434 ح 3813، مسند أحمد: 3/ 14- 17- 26- 59، الخصائص للنسائي: 30 وغيرها كثير جدا

ص:70

النبي صلى الله عليه و آله، فللروايات الكثيرة المستفيضة والمُفسِّرة لبعض الآيات فيهم عليهم السلام، ومنها قوله تعالى ياأيُّها الذينَ آمَنُوا اتقوا اللَّه وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين «(1)»

.

فقد ذكر المفسرون «(2)» أنَّ المقصود منها هو علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا شك أنَّ المخاطب بالإتباع هو جميع المؤمنين لا خصوص الصحابة، فتدل على وجود إمام معصوم في كل عصر واجب الإتباع، فكان هو محمدصلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام والأئمة الطاهرون عليهم السلام من آلهما بعدهما كلٌّ في وقته إلى زماننا هذا.

وأمَّا أنَّ الشيعة متَّبِعُون لعلي عليه السلام والمقصودون بذلك فيعرف هذا ممَّا ورد في تفسير بعض الآيات من قِبَل النبيصلى الله عليه و آله، فيحنما نزل قوله تعالى إنَّ الذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُم خَيْرُ البَرِيَّة «(3)»

لما أن أقبل علي عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه و آله «والذي نفسي بيده! إنَّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» «(4)»، كما نقل السيوطي عن ابن مردويه أنَّه أخرج عن


1- - التوبة: 119
2- - راجع تفسير الحبري: 275 ح 35، تفسير الثعلبي: 5/ 108، شواهد التنزيل: 1/ 259 ح 351، الدر المنثور: 4/ 316 وغيرها
3- - البينة: 7
4- - الدر المنثور للسيوطي: 8/ 589، تاريخ دمشق: 42/ 371

ص:71

علي قال: قال لي رسول اللَّه «ألم تسمع قول اللَّه إنَّ الذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّة أنت وشيعتك موعدي وموعدكم الحوض..» «(1)».

.. إذن فالعلاقة بين الشيعة وأهل بيت نبيهم- سلام اللَّه عليهم أجمعين- متأصلة وضاربة في القِدَم إلى أوائل نشوء الإسلام، حيث توالت النصوص وتكاثرت ذاكرة لعليٍّ وشيعته، وليس كما يذكر البعض- ممَّن لم يطلع على التاريخ وليست له خبرة ومتابعة في الروايات والآثار النبويَّة- من أنَّ التشيع لآل بيت النبيصلى الله عليه و آله وليد حركة سياسيَّة في زمن الخليفة عثمان، أو أنَّه حدث بعد استشهاد الحسين عليه السلام في كربلاء، بل إنَّ التشيع لآل بيت النبيصلى الله عليه و آله قد وُلِدَ مع ولادة الإسلام وترعرع في أحضانه، تسقيه عروقه، وتحافظ عليه.

فحق للشيعة- بمقدار ما أعطاهم الإسلام من توجه واهتمام- أن يهتموا بهذا الفكر والعطاء الكبير من آل بيت النبي.. وحق لهم أن يفخروا به أمام الملاء، وهاهو شاعرهم يقول:


1- - الدر المنثور: 8/ 589

ص:72

ومالي إلا أل أحمد شيعة ومالي إلا مذهب الحق مذهبُ

وقال الآخر:

إنَّ التشيع وهو ثاني بذرةٍ غُرِسَت بجانب بذرة الإسلامِ

ومن المهم ذكره هنا أنَّ الشيعة الإماميَّة قد تحملوا الكثير وكابدوا الصعاب في سبيل الحفاظ على مبادى ء أهل البيت عليه السلام حتى وصل إلينا كما هو عليه عند الأوائل غضَّ الإهاب.. قويَّ الجانب.. مستحكم الأساس، فلا غضاضة على الشيعة الإماميَّة أن يدافعوا وينافحوا دونه ويبذلوا في سبيله كل غالٍ ونفيس نتيجة وعي منهم بضرورة الحفاظ عليه؛ إذ في ذلك كل الحفاظ على الشريعة المحمديَّة الغرَّاء، فإنَّ التشيع ليس إلا مبادى ء أهل البيت عليهم السلام وهي ما أثر عن علي عليه السلام عن النبيصلى الله عليه و آله من تعاليم إلهيَّة.

ولا يزال الشيعة في معاهدهم العلميَّة يتدارسون فقه أهل البيت عليهم السلام (وأهل البيت أدرى بالذي فيه) وعلومهم..

يمتثلون لأوامرهم وينتهون عمَّا نهوا عنه، إذ أنَّ في رضاهم رضا اللَّه عزَّ وجلَّ، ومتابعتهم متابعة للحق كما قال ذلك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لعلي في مواطن عدَّة «عليٌّ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ» و «أقضاكم علي» و «أعلمكم علي» وغيرها من الآيات الوارد تفسيرها في علي، والروايات الكثيرة التيصدرت عن

ص:73

معدن النبوة في حق علي وأهل بيته الأئمة الأطهار.

والشيعة الإماميَّة متواجدون في الكثير من بلاد العالم وهم مراكز إسلاميَّة متعددة في شرق آسيا وفي أوروبا الشرقيَّة والغربيَّة وفي بلاد الأمريكتين- الشماليَّة والجنوبيَّة- وفي كل بلاد قارَّة أفريقيا، وأمَّا غرب آسيا وخصوص الشرق الأوسط منه فهو مهد التشيع ومركزه، ويعدون بمئات الملايين.

مراجع للإستفادة:

1- جهاد الشيعة؛ للدكتورة سميرة الليثي.

2- الشيعة والتاريخ؛ للشيخ علي الزين.

3- المراجعات؛ للسيد عبدالحسين شرف الدين.

4- لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ للشيخ أحمد أمين الأنطاكي.

5- الهجرة إلى الثقلين؛ محمد گوزل الحسن الآمدي.

وغيرها من المصادر والكتب المنتشرة في العالم الإسلامي بمختلف اللغات الحيَّة.

والحمد للَّه ربِّ العالمين

وصلَّى اللَّه على محمدٍ وآله

الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين

ص:74

ص:75

الشيعة والبداء

تعتقد الشيعة الإماميَّة بثبوت البداء للَّه عزَّ وجلَّ في بعض الأحداث والكائنات؛ بمعنى أن يظهر اللَّه لرسوله أو وليِّه على المقتضي للفعل لمصلحةٍ من دون أن يطلعه على ما سوف يحصل له من الموانع أو ما سوف يفتقد إليه من شرائط تمنع من تحققه خارجاً.

قال بعض علماءنا الأبرار رحمه الله في ما يتعلق بالبداء:

«.. وحاصل ما تقوله الشيعة هنا: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ينقص من الرزق، وقد يزيد فيه.. وكذا الأجل والصحَّة والمرض والسعادة والشقاوة والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء، كما يقتضيه قوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَاب «(1)»

وهذا مذهب عمر بن الخطاب


1- - الرعد: 39

ص:76

وابن مسعود وأبي وائل وقتادة «(1)»، وقد رواه جابر عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرعون إلى اللَّه تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة، وورد في السنن الكثيرة: أنَّ الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر، وصحَّ عن ابن عبَّاس أنَّه قال: لا ينفع الحذر من القدر ولكنَّ اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر ..».

فالبداء بنظر الشيعة الإماميَّة من الحقائق الثابتة في العلم الإلهي والتي لا تقبل الإنكار، فهو كالنسخ في عالم التشريع، إذ أنَّ البداء بمثابة النسخ في عالم التكوين، لا يختلف عنه إلا في ما يتعلق به من موضوع، فالنسخ مختص بالحكم في عالم التشريعات الالهيَّة، والبداء مختص بالكون الخارجي وما يلازمه من واقعيَّات.

وعليه فإنكار البداء بمثابة إنكار النسخ، والفرض أنَّ الثاني ثابت بالضرورة من القرآن والسنَّة، فالأول مثله في الثبوت.

هذا وقد وردت روايات من طريق أئمتنا نذكر بعضاً منها لإثبات ذلك، فعن أحدهما عليهما السلام قال «ما عبد اللَّه بشي ءٍ مثل


1- - راجع تفسير مجمع البيان: 3/ 398

ص:77

البداء» «(1)»

، وعن أبي عبداللَّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال في هذه الآية يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب قال:

«وهل يُمحَى إلَّا مَا كَانَ مُثبَتَاً، وهل يُثبَت إلا ما ما لم يكن» «(2)».

وكذا الرواية عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله «ما بدا للَّه في شي ءٍ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له» «(3)»

.. ونظير هذه أحاديث كثيرة جدَّاً.

ثمَّ إنَّ أثر البداء يظهر به مقدار التسليم من الإنسان المؤمن به للقضاء والقدر فيما يجري في الكون من حادثات ممَّا يتبدل ويرتفع بعد أن كان مقتضيه مهيئاً لصدور الفعل عنه، أو العكس كصدور الفعل بعد أن كان ممتنعاً ظاهراً- لنا نحن البشر- عن اللَّه عزَّ وجلَّ حيث إنَّ فيه إظهار قدرته وتفرده بالخلق والإرزاق والإماتة والإحياء والإبراء و.. و.. و.

إذن فليس من الصحيح، بل هو من الجهل بحقيقة مذهب الشيعة الإماميَّة وما هم عليه من معتقداتصحيحة أن تتعالى أصوات هنا وهناك على الشيعة بأنَّهم يعتقدون بالبداء بمعنى نسبة الجهل للَّه- والعياذ باللَّه- أو نسبة تعطيل اللَّه في قدرته.

فإنَّه بالتوجه لحقيقة ما بيَّناه من مفهوم البداء بمعنى


1- - حاشية الميرزا رفيع على أصول الكافي: 1/ 475 حديث 1
2- - المصدر السابق: ص 476 الحديث الثاني
3- - المصدر السابق؛ ص 479 الحديث التاسع

ص:78

إظهار اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيه ما كان خافياً عليه أو تسيير ما يرى ظاهراً على خلاف ما يراد له، لا يستلزم عروض النقص في علمه عزَّ وجلَّ، ولا تعطيل قدرته ولا نسبة الجهل له سبحانه.

.. وبعبارة أوضح: إنَّ للهَّ عزَّ وجلَّ علمين:

1- علم يتعلق بماهو موضوع لما في لوح المحو والإثبات؛ بصريح قوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِت، وفي هذا العلم لا مانع من أن يتبدل ويجري فيه محو وإثبات بمقتضى القرآن.

2- علم يتعلق بما هو موضوع لما في أمِّ الكتاب؛ وهذا العلم لا يمكن أن يتحقق فيه تغير أو تبدل يوجب انفعال العلم بالمعلوم وتأثره به، وإلا لزمت محاذير كثيرة ليس هذا محلها.

وعلى كل حال فالذي يلزم منه نسبة الجهل للَّه وتعطيل القدرة أو النقص في العلم قبل الحادث والزيادة بعده؛ هو العلم من الشق الثاني، وأما كان من الشق الأول فليس موجباً لهذه المحاذير، فهذه المحاذير وغيرها تندفع بما بيَّناه هنا من لحاظ علمين للَّه عزَّ وجلَّ.

وبعد هذا البيان يتضح لك- أخي المسلم- أنَّ ما يعتقد به الشيعة الإماميَّة هو مقتضى العقل وكامل التوجه لما ينبغي أن يكون عليه الإعتقاد في الله عزَّ وجلَّ، ونفي ما كان موجباً للنقص في ذاته أو فيصفاته عزَّ وجلَّ.

والحمد للَّه ربِّ العالمين وصلَّى اللَّه على محمدٍ

وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.