علم الامام : كتاب وجيز يبحث عن علم الامام و كميته و كيفيته عن طريقي العقل و النقل

اشارة

عنوان و نام پديدآور : علم الامام : كتاب وجيز يبحث عن علم الامام و كميته و كيفيته عن طريقي العقل و النقل

محمد الحسين المظفر ؛ تحقيق احمد بن كاظم البغدادي.

مشخصات نشر : قم: المكتبه الحيدريه، 1431ق=1389.

مشخصات ظاهري : 144ص.

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي (اطلاعات ثبت)

يادداشت : چاپ اول

شماره كتابشناسي ملي : 2827572

باعث التأليف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله الذي اصطفي محمدا بالرسالة واختاره للدلالة وارتضي عترته الطاهرة للإمامة وخصهم بالزعامة والكرامة وحباهم من الفضائل ما يقصر عن شأوه الأواخر والأوائل وميزهم بالعلم الذي استمد من ينبوع فيضه فعجزت الأفكار عن إدراك مدي تلك المنحة وحد ذلك الفيض والصلاة والسلام علي تلك الصفوة المنتقات من بريته محمد والأئمة الهداة من عترته. وبعد فقد سبق أن كتبت عن الإمام الصادق عليه السلام كتابا جم العناوين وكان منها عنوان في عامة وإن السابقين من أجلة العلماء الذين كتبوا عنه عليه السلام يذكرون في باب علمه النوادر من الأجوبة البديعة والنكات الغامضة في الفقه وغيره وإنما هي بأجوبة عالم فطن أشبه وأين هذا من علم الإمام؟ ولما كنت لا أري ذلك شيئا ذا بال من الإمام الذي استمد فرات علمه من منبع الرسالة المستمد من علم العلام جل شأنه ولما كنت وأمثالي نجهل حقيقة الرسالة والإمامة ولا نعرف إلا شيئا منهما بالأثر الخالد من العلم الغمر والفضائل المعجزة اقتصرت في ذلك الباب [ صفحه 8] علي الإشارة إلي علومه المنسوبة إليه دون أن أحدد علمه لقصوري عن الوصول إلي غور ذلك العلم والإحاطة بكنهه ولما كان هذه غير واف بالقصد لفتني بعض من يعز علي من أفاضل الإخوان إلي تحرير رسالة في علم الإمام وكان هذا

التنبيه منه تفضلا. وإني لعلي علم بأن هذا البحر لا يبلغ فكري قعره ولا يصل فهمي إلي شاطئه ولو عرفنا قدر علم الإمام لعرفنا حقيقته ومبلغ صفاته ولو اهتدينا إلي كهنه لوصلنا إلي معرفة من جعل الإمامة بتلك الوسامة ورفعها إلي سمك لا نبصره ولا نصل ولو بجناح العقاب إلي سمائه. ولما كان هذا الجهل لقصور في الملكة والإدراك فلا يحول دون التفكير في مبلغ ذلك البحر العجاج والخوض فيه بقدر ما تصل إليه حواسنا من معرفته بالآثار ودون التحرير لما تهتدي إليه أفكارنا القاصرة وإلا لسقط التكليف في معرفة الإمامة وتشخيص الإمام بل وعرفان الرسالة من تقمص بأبرادها بل ومن نصب ذلك العلم للاهتداء والمنار للدلالة. ولا غرو ولو كنت القاصر عن بلوغ الغاية والمتعثر في هذا الفجاج لبعد المقصد وطول الشقة ولا أجدني عند الفكرة في ذلك العلم أو من اتصف به من تلك العصابة الزاكية إلا كراكب في زورق وسط بحر متلاطم الموج لا تبلغ الرشا عمقه، ولا تري العين ساحله. [ صفحه 9] راجيا منه جل شأنه، وبمن خصهم بتلك المزايا السامية والهبات الجليلة أن يمد لي يد الرحمة، لينقذني من تلك اللجج المتلاطمة، وأنا علي هدي وسبيل نجاة إذ ليست ضالتي المنشودة إلا خدمة الأئمة من أهل البيت وطلب مراضيه تعالي فيهم. محمد الحسين المظفر [ صفحه 11]

مقدمات إمام البحث

اشاره

1 - إن المراد بالإمام ها هنا. هو الحجة علي العباد ومن وجبت معرفته وطاعته وحرم جهله وعصيانه وكانت ميتة الجاهل به ميتة جاهلية وهم: علي وأولاده الأحد عشر من الحسن إلي ابن الحسن الغائب المنتظر عليهم من الله تعالي أزكي التحية وأفضل السلام. أما الأنبياء السابقون فليسوا الآن من محل

الابتلاء لنا لندخل في البحث. وأما نبينا الأكرم (ص) فإنه يشمله البحث لكونه إماما أيضا. وسنشير إلي علمه قبل البحث في علم أوصيائه. 2 - إن المراد من العلم الحضوري أو الإرادي والإشائي هو: ما كان موهوبا من العلام سبحانه ومستفاضا منه بطريق الالهام أو النقر في الأسماع أو التعليم من الرسول أو غير ذلك من الأسباب. وهذا العلم اختص به الإمام دون غيره من الأنام. وليس المراد من العلم ها هنا ما حصل بالكسب من الأمارات والحواس الظاهرية والصنايع الاكتسابية، لاشتراك الناس مع الإمام في هذا العلم لأنه تابع لأسبابه الاعتيادية وهذا لا يختص بأحد. وهو بخلاف الأول إذ لا يمنحه علام الغيوب إلا لمن أراد واصطفي. 3 - إن علم الله تبارك اسمه قديم وسابق علي المعلومات، وهو [ صفحه 12] عين ذاته وعلة للمعلومات وأما علم الإمام الحضوري فلا يشارك علم الله سبحانه في شئ من ذلك لأنه حادث ومسبوق بالمعلومات. وهو غير الذات فيهم وليس بعلة للمعلومات وإنما حضوره عندهم بمعني انكشاف المعلومات لديهم فعلا. فلا ينبغي أن يتوهم ذو بصيرة بأنهم مشاركون له تعالي في هذه الصفة وأن القول بالحضوري من الشرك أو الغلو لاختلاف العلمين في الصفة. علي أن علمه تعالي ذاته وعلمهم عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه. فلم يبق مجال لدعوي اتحاد العلمين بتاتا. 4 - إن المراد من العلم في المقام هو العلم في الموضوعات الخارجية الجزئية الصرفة لا العلم في الموضوعات للأحكام الكلية. لأن جهل الإمام بها نقص في رتبته وحط من منزلته وإن بيانها من خصائصه ووظيفته ولا العلم في الأحكام لأن الإمام لا بد وأن يكون علمه فيها حضوريا إذ لا لا يجوز

أن يسئل عن حكم لم يكن علمه لديه حاضرا وإلا لم يكن الحجة علي العباد بل ولبطلت إمامته. 5 - إن الكلام في علم الإمام يشمل العلم بالساعة والآجال والمنايا وغيرها مما ظاهره استئثاره به تعالي والتي يجمعها قوله جل شأنه: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. لأن النصوص الخاصة صريحة في أن الله تعالي أطلعهم علي هذا [ صفحه 13] العلم بال وبعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالي: ولا يظهر علي غيبة أحدا إلا من ارتضي من رسول وبها نرفع اليد عن ظواهر الآيات والروايات التي دلت علي اختصاصه تعالي بها دون خلقه أو يحمل الاختصاص علي العلم الذاتي دون العرضي.

علم النبي

قبل أن نبسط الكلام في علم الإمام نسطر كلمة موجزة في علم الرسول (ص). لأن علم الرسول هو المنبع وعنه الصدور. إن النبي (ص) بعث للعالم أجمع، وللخليقة التي علي كرة المعمورة كافة وما كانت شريعته لتعم البشر علي اختلاف الألسنة وتباين الطباع وتغاير الألوان وتشاسع البلدان إلا وهي صالحة لأن يكون نظامها العام الذي تنضوي تحت لوائه والذي يوافق كل قطر، ويلائم كل جيل ويجتمع مع كل لسان من دون أن يكون لقطر أو جيل أو لسان ميزة علي عداه إنما المؤمنون إخوة وليس لأخ فضل علي أخيه وإنما هم سواء في ذلك النظام العام. نعم إنما أقربهم إلي خالق السماء وبارئ النسيم منزلة أطوعهم لامتثال أو أمره والانتهاء عن زواجره إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن أولياؤه إلا المتقون. وما كان ذلك لرسول مبعوثا بتلك الرسالة العامة للبشر: أبيضهم وأسودهم شريفهم ووضيعهم قريبهم

وبعيدهم من دون أن [ صفحه 14] يكون القدير علي تمشية ذلك النظام أو تطبيقه علي الجميع وتنفيذه فيهم كافة بغير محاباة ولا مجاملة أو ميل لأحد علي أحد فيكون الكل لديه في الحق سواء ولا تأخذه في الله لومة لائم. ولا فرق عنده في القيام بهذه المسؤولية العظمي والعب الرازح بين أن تكون دعوته قد عمت البشر أجمع وهيمنت علي الكرة كلها أو تكون مقصورة علي إقليم خاص. ولو لم تكن له تلك الكفاءة والمقدرة لما صلحت شريعته لأن تجمع العالم بأسره تحت نظامها البديع وقانونها الباهر. إن الهيمنة علي الكرة بأسرها، وتعميم الشريعة للعالم أجمع، يتطلبان الكفاء والمقدرة اللتين لا تكونان في العادة لبشر مهما كان له من العلم والقدرة وقوة الفكر والمزاج واعتدال الطبايع. إن الرسالة إصلاح للبشر وتسوية في الحقوق وعدل في الأمة ومن يرتدي هذه الحلة السماوية فلا يعدو أن يكون أهلا للنهوض بهذه الأعباء الباهضة وكيف يتبعث الله إنسانا بذلك العبء الثقيل ولا يجعل فيه تلك القوي الجسيمة. فلو كانت له السيطرة علي أقصي البلاد التي لا تصل رسله إليها إلا بالشهور أو السنين ولا تصل صرخته إليه من ولاته ودعاته وجباته إلا بذلك الزمن البعيد فكيف يكون عدله شاملا وأمنه مستتبا وفي يوم فيه عامله جائر وجابيه خائف وقاضيه ظالم ولا تصله أخبارهم إليه ولا نجدته له ولا رفع الظلم عنهم والانتصاف لهم من أولئك الخونة الجائرين إلا بعد إعلامه بالشأن وإيقافه علي الحال وهو يتطلب ذلك الأمد الأبعد. [ صفحه 15] نعم، لا بد وأن يكون لصاحب هذه الدعوة وتلك السيطرة، من العلم من لدن العلام جل وعلا، ما يحيط بالجليل والحقير والكبير والصغير فيما تأتي به

الحوادث في تلك البلاد قربت أو بعدت ليتسني له أن يتدارك الحيف ويرفع الظلم وينتقم من أهل العدوان عند أول زمن ولولا هذا العلم المحيط وتلك القدرة علي التنفيذ لكانت الرسالة ناقصة والإصلاح والعدل غير شاملين فعلم الرسول بالعالم وإحاطته بما يحدث فيه. وقدرته علي تعميم الاصلاح للداني والقاص والحاضر والباد. من أسس تلك الرسالة العامة وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة. غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه الرسالة أن يظهر للأمة تلك القوي القدسية والعلم الرباني الفياض وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غض جديد. والناس لم تتعرف تعاليم الإسلام الفرعية بعد...؟ فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة العظمي، وتطمئن إلي الإيمان بذلك العلم؟ علي أن سلطته ما اجتازت الجزيرة، وشريعته لم تهيمن علي العرب كافة. دون سواهم من الأمم. بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت لوائه من ذوي الإيمان الراسخ. وما خضع البعض منهم للسلطة النبوية إلا بعد اللتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب. بل وكان البعض منهم يبطن الكفر ويظهر الإسلام رهبة أو رغبة (وممن حولك من الأعراب رجال منافقون. ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق) إلي غيره هؤلاء ممن لم يعرف منزلة النبوة ولا يقوي [ صفحه 16] علي عرفانها. فكيف والحال كما وصفنا. يتسني له العمل بكل ما أوتي من ميزة ولطف. ويقدر علي إظهار كل موهبة.

وظيفة الخليفة

لما تجلي لديك أن الرسول لا بد وأن يتحلي الصفات السامة والمواهب الإلهية. من العلم والقوي العالية. اللذين يؤهلانه لأن يكون صاحب السلطتين الزمنية والروحية علي الأرض كلها، وأن يكون إصلاحه وعدله مخيمين علي البسيطة أجمع، مسيرا لشؤون العالم. من دون أن يعاني التعب في البعيد دون القريب والجهد في القاصي

دون الداني بل هو في ذلك كله علي نهج واحد. وأن أمد الرسول منقض مهما طال. وجب أن يكون له خليفة ينهض بجمع الناس وتسييرهم تحت لواء واحد وتطبيق نظام الشريعة عليهم، وقيامه بما قام به الرسول من إفشاء العدل والإصلاح. واستتاب الأمن. فالخلافة وظيفة تنوب عن الرسالة وتنهض بعبئها الباهض. سوي مقام النبوة والتشريع، ولو لم يكن للخليفة تلك الملكة السامية القدسية السماوية، من العلم بما يحدث في العالم، ليسير بها علي سنن العدل ومناهج الاصلاح ومن القوي النفسية التي يستطيع بها علي تمشية ذلك النظام الإلهي من دون ملل أو كلل أو سام وبرم، أو ميل لقريب وحبيب أو ميل علي بعيد وغريب لما حصل الغرض [ صفحه 17] الأقصي من لطف الرسالة، ولذهبت الدعوة النبوية أدراج الرياح، فإن ما جاء به الرسول عن الجليل تعالي من الأحكام وتطبيقها علي المجتمع البشري لم يكن مقصورا علي زمن الرسالة وأهل أوانها فحسب، بل هو عام لكل قوم وجيل وزمان ومكان إنما أنت منذر لكل قوم هاد فتطبيق ما صدع به الرسول بعد عصر الرسالة يحتاج إلي ذلك الخبير في كل وقت وحين بتلك الأحكام كما أنزلت وبذلك النظام كما صدع به، وبما يحدث في العالم كما كان عليه الرسول، لتعميم العدل والأمن وتنفيذ أحكام الشريعة وذلك الخبير هو الهاد بعد المنذر من دون فصل ومن دون استثناء زمن ولولا ذلك الخبير الهاد إذا أطيع - لدخلت الأهواء الباطلة والآراء الضالة في تلك الأحكام وذلك النظام، فتصبح الأمة مذاهب وشيعا. وأحزابا وفرقا. وهل وقعت في هذه الحبائل إلا حين صفحت عن ذلك الطبن بأمور الدنيا والدين، وصافحت من هو في أمس الحاجة إلي الإرشاد والإصلاح

وإقالة العثرات (أفمن يهدي إلي الحق أن يتبع. أمن لا يهدي إلا أن يهدي). وخلاصة الكلام أن الخلافة تسيير لنظام الرسالة. ونهوض بعبئها من كافة الجهات، حذو القذة بالقذة إلا ما كان من الوحي ومقام الرسالة الخاص. ولو لم يكن في الأمة من يقوم بهذه المهمة العظمي، لذهب فضل [ صفحه 18] الرسالة، ولم يعرف شأوها الرفيع، ولخابت تلك الجهود الكبيرة من صاحب الرسالة، لقصور الأمة عن عرفان تلك السنن، وتمشيتها علي الوجه الأكمل. وهل أحد غير ذلك الخليفة خبير بالشريعة الحقة وقدير علي تغذيتها، كما شاء الشارع وأراد الصادع؟... وهل أحد سواه يقوي علي قمع الباطل وقطع حجج ذوي الضلال...؟

الخلافة وأهل البيت

لم نقصد بما سلف إثبات الخلافة لأهل البيت ونفيها عن غيرهم، وإنما أردنا البرهان علي ما يجب أن يتصف به الخليفة، فلو استلزم هذا البيان حصرها، فيهم، فليس مقصورا بالأهل ومنظورا بالبحث. إن إمامة أهل البيت معتقد فرقة إسلامية ذات العدة والعدد والعلم والعمل. ولها في هذا الميدان الحلبة الواسعة والحجج القويمة، من لدن إن وجدت الإمامة والخلافة حتي هذه الساعة. ومهما كان الأمر، فإن الخليفة - كما قلنا - لا بد وأن يتقمص بتلك الخلال الكريمة من العلم الذي لا يحصل في العادة بالكسب والتعلم، ومن القوي التي لا توجد عادة في إنسان قط وإن أمكن عقلا، وإنما هو من الفيوضات الربانية والمواهب السماوية. ومن لم تكن فيه تلك المنح، فلا يقدر علي تأدية ذلك الواجب. [ صفحه 19] وإن صفح الناس عمن اتصف بتلك السمات لا يمس بكرامته، ولا يغض من مقامه، بل يعود وباله علي من أعرض عنه. لأنه إنما أعرض. عن حظه من العدل والصلاح والهداية والفلاح. [ صفحه

23]

علم الإمام الحضوري من طرق العقل

الحضوري أنفع للأمة

لقد قامت الحجج النيرة والبراهين العقلية، علي أن الرسول لا بد له من خليفة يجمع شمل الأمة، لئلا تتفرق عن الحق، بعد اجتماعها عليه. وهل يجمع شملها إلا ذلك القائم مقام الرسول؟ كما دلت تلك البراهين علي أن الخليفة لا بد وأن يتحلي بالصفات التي تؤهله لأن يقوم مقام صاحب الرسالة لئلا يعجز عن إدارة شؤون الأمة وعن دحض مزاعم أهل الأهواء الفاسدة والعقائد الباطلة، بالبراهين القاطعة والحجج الحقة. فإن عجز عادت الأمة شيعا وشعبا، ومللا ونحلا. وكما دلت علي أن يكون له من العلم، بمقدار ما يمكن أن يمتد إليه سلطانه ويهيمن عليه نظام الشريعة. ولا يمكن أن يخيم العدل والإصلاح والأمن، وذلك النظام علي كرة الأرض ما لم يكن لذلك القائم بالأمر علم بما يحدث في هاتيك البقاع والأصقاع. ولا بد أن يكون علمه بالحوادث: كعلمه في سائر الفنون والأديان والمعارف والأحكام. وكيف يكون بهذه الصفة وهو الحجة علي العالم، والمؤدي عن صاحب الدعوة، والقائم بوظيفته. [ صفحه 24] ولو كان جاهلا ببعض تلك الشؤون، أو كلها، لما صلح لأن يؤدي عن الرسول، ويقوم مقامه، ويكون حجة الله علي العالم، الذي يحتج به علي أهل الملل والأديان، وذوي الأهواء والآراء، والأضاليل والأباطيل وكيف يحتج الله علي عباده بذوي الجهل، ومن لا فقه له، ولا علم لديه؟ وإن سئل عن شئ صمت، أو نطق أعرب بقوله عن جهله. وجملة القول إن الإمامة ضرورية للأمة، وإن الإمام لا بد له من ذلك العلم الزاخر المستمد من ينبوع علم العلام تعالي. ولو لم يكن في الأمة إمام علي هذه الصفة، لما قامت لله الحجة البالغة علي خلقه بعد الرسول إذ لا تقوم الحجة بذوي

الجهل. فإن كان أهل البيت هم الأئمة حقا والخلفاء صدقا، فلا بد أن يكونوا علماء بكل شئ علما حضوريا مما كان ويكون وما هو كائن، وفي كل فن وحكم وأمر. فلا يجوز أن يسأل الإمام عن شئ مهما كان، ولا يكون عنده علمه، ولا يحدث شئ وهو غير خبير به، لتكون لله تعالي به الحجة البالغة علي خلقه، كما كانت لصاحب الرسالة. ولولا الإمام لا نقطع أثر الرسالة العظيم، ولم تلمس الناس جدواها الجليلة في العاجل والآجل. إلي غير هذا مما يستلزم إضعاف شأن الرسالة وعدم سراية نفعها. وإذا أبت الظروف أن تسمح لذلك الإمام بإظهار ما أودعه العلام [ صفحه 25] سبحانه عنده من جليل علمه، وأسرار حكمه. فلا يكون معني ذاك أنه ليس لديه هذا العلم والوجدان خير مرشد إلي هذا الوجود، لظهوره أحيانا علي أفعال ذلك الإمام وأقواله، ومحاوراته ومناظراته. وإذا أضاعت الناس تلك المنفعة الجليلة من مخزون علم الإمام، وصالح إرشاده وجميل إصلاحه، بإعراضهم عنه وإقبالهم علي سواه. فلا يكون معني ذلك أنه لا فائدة مهمة بعلمه، لأن الفائدة الجليلة إنما ضاعت بما اختاره الناس لأنفسهم. فإن من يضع علي عينيه غشاوة لئلا يبصر القمر ونوره، فلا يعدم ذلك نور القمر، وإنما يعدم الانتفاع بذلك النور بسوء ما اختار. ولولا هذه الإضاعة وتلك الغشاوة، للمسوا تلك الجدوي، ولاهتدوا بذلك النور. نعم لو كان الإمام صاحب السيف والصولجان، وكانت الوسادة مثنية له، لظهر علمه ناصعا تبصره كل عين وتلمس آثاره كل يد. ولم يملك من أئمة أهل البيت عليهم السلام أزمة الأمور إلا أمير المؤمنين (ع) أربع سنين وأشهرا وأنت تعلم كيف لاقي من الأمة من النزاع والصراع والقراع. ومع ذلك فقد

ظهرت له في هذه المدة الوجيزة من الفضائل والعلوم ما ملأ الخافقين. وهي وإن كانت غيضا من فيض إلا أنها أدهشت العقول وأحارت الألباب حتي دعت بعض الضعفاء في البصائر إلي الغلو فيه ورفعه عن مستوي البشر إلي منزلة الألوهية. فكيف تراهم لو أبدي جميع المكنون من عمله، والمخزون من حكمه وحكمه. [ صفحه 26]

الحضوري أكمل في الرسالة والإمامة

إن الأكمل في الرسالة والإمامة أن تكون الصفات في الرسول والإمام أتم الصفات. ولا تكون أتمها ما لم يكن علمه حضوريا غير معلق علي الإشاءة والإرادة لأن العلم المعلق علي الإشاءة كمال لا أكمل، وفضيلة لا أفضل.

الحضوري أسبغ في النعمة

إن إرسال الرسل والأنبياء وإقامة الأئمة والأوصياء من النعم التي أسبغها المولي تعالي علي عبيده، والتي يجب أن يشكرها العباد دوما، معترفين بفضلها مقرين بجزيلها وهل الأجود في هذه النعم التي من بها اللطيف سبحانه علي عبادة أن تكون علي أتم حاله وأكمل صنعه وأحسن صبغته مع قدرته جل شأنه علي هذه الأتمية وعدم المانع عن إيجادها علي الصفة الأكملية والصبغة الأحسنية. أو تكون علي صفة التمام والكمال لا الأتمية والأكملية. لا يرتاب العقل في أنه من كمال المنة في أن تكون النعمة أسبغ، [ صفحه 27] والصفة أفضل والصبغة أحسن، كما لا يشك في أن العلم الحضوري هو الأسبغ في النعمة، والأكمل في الصنعة. والأفضل في الصفة، مع قابلية المحل والحاجة إليه.

الحضوري أتم في القدرة

لا يشك العقل في أن الله جلت قدرته قادر علي أن يجعل رسوله المصطفي وأوصياءه الأصفياء علي أكمل صنعة وأزكي نقيبة وأنفس صفة كما لا يرتاب في أن جعلهم علي ذلك الكمال الأرفع والفضل الأسمي لا مانع يحجز دونه ولا حائل يقف أمامه. فلأي شئ إذا لا يجري الله سبحانه قدرته في صفوته من بريته علي ذلك الصنع الأكمل والشأن الأفضل. حين لا مانع عن إجراء تلك القدرة الفضلي.

الحضوري أكمل في اللطف

إن إرسال الرسل، وجعل الحجج، وإقامة البينات، لطف منه [ صفحه 28] جل شأنه. وهل الأكمل في اللطيف أن يكون علي أجمل صورة، وأفضل صنعة وأكمل تركيب، أو أن يكون علي وجه يحصل به اللطف من الجمال في الصورة والكمال في التركيب والفضل في الصنعة، والحجة في الدلالة غير أنه علي غير الأعلي والأسمي، والأتم في الحجة والأكمل في الدلالة لا يشك العقل في أن اللطيف جل لطفه إنما يجري نعمه وألطافه، وحججه وآياته علي الأتم الأرفع، الأجمل الأسبغ. والعقل، وإن لم يصل إلي جميع المصالح والحكم التي بني عليها الحكيم تعالي أفعاله وصنايعه، إلا أنه علي يقين لحسن الظن به سبحانه بأنه جل شأنه قد بني سائر أعماله علي الحكمة والصلاح وإن الأنسب بحكمته مع سعة قدرته أن تكون مصنوعاته وصنايعه علي الوجه الأكمل وبيناته وآياته علي النحو الأتم، وبنيانه علي الأمتن الأقوي.

الاولي في الإمام اختيار الأفضل

إن النفس - ولا سيما الحساسة - التي نفت من دون الفضائل، وتحلت بجميل الفضائل والتي تستطيع بتلك الملكة القدسية أن تغتنم كل فضيلة لا ريب في أنها تطمح إلي أفضل السمات وأشرف [ صفحه 29] الصفات. ولأي شئ لا تختار تلك المنزلة العليا والصفة الفضلي إذا كان لها الاختيار ولم يكن ثمة حائل دون ما تختار ولو لم تختر هاتيك الرتبة السامية لاعتقدنا بأن هناك قصورا في الادراك وضعفا في الحس، وأنها ليست كما يعتقد بها من ذلك السمو والتجرد والقدرة والاختيار. ولا ريب في أن الحضوري أفضل من الإرادي. وإذا كان اختيار الأول راجعا إلي الرسول أو الإمام نفسه. فلم لا يختار الأكمل، ويريد الأفضل. وأي نفس قدسية وملكة فردوسية، لا تختار الأسمي محلا والأعلي رتبة.

الحضوري أبلغ في المثالية

إن صفات الرسول وأوصيائه مثال لصفات الجليل تبارك اسمه ولا شبهة في أن الأبلغ في المثالية أن تكون صفاتهم أكمل الصفات، وخصالهم أفضل الخصال فالعلم الحضوري هو الأولي. لأنه الأبلغ في المثالية. وأما أن صفاتهم مثل لصفات الخالق تعالي، فهو ما يشهد له العقل والنقل. [ صفحه 30] أما النقل فكثير، ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (نحن صنائع الله، والناس بعد صنائع لنا). وتحليله أن يقال: إن الله تعالي شأنه لما أحب أن يعرف خلق الخلق ليعرف ولما أحس البشر أن لهم خالقا خلقهم، ومصورا أوجدهم، أرادوا أن يعرفوه وكيف بعد أن أوصلهم الحس إلي وجود الخالق لهم لا تندفع نفوسهم إلي عرفانه. والمعرفة أساس الاتصال بين الخالق والمخلوق. فكان ظهوره جل وعز أكشف للسر وأجلي للغشاء. ولما استحال ظهوره تعالي بنفسه لزم أن يظهر لعباده بصفاته ولقصور العقول عن الإحاطة بعالي تلك الصفات.

ولتقريب الأمر إليهم عن كثب. خلق لهم بشرا منهم يمثل لهم تلك الصفات السامية لذاته تعالي بما اتصفوا به من جميل الخصال. وهل يا تري خلق خلقا أفضل في الصفات وأجمل في الخصال من نبينا الأكرم وأوصيائه الأمناء فكانوا أحق البشر في أن يمثلوا صفاته القدسية. ولولا هؤلاء لما حصل الغرض من خلق الخلق، لعدم معرفتهم به تلك المعرفة المطلوبة، بدون أن يكونوا ممثلين لصفاته، فلذا كان خلق الخلق لأجل أولئك الذين مثلوه، ليحصل بذلك عرفانه، فكان الناس الصنايع لأجلهم. وأما العقل فهو بعد أن أدرك أن لهذا العالم الملموس موجدا ابتدعه يلتمس الوصول إليه. والاهتداء إلي الوقوف عليه. وبالآثار يتعرف ذلك المبدع الموجد. وأقربها إلي حسه أن يكون له مثال يكشف عن [ صفحه 31] سمو صفاته، بعد أن تعذر عليه الوصول إلي قدسي ذاته. فإذا عرفنا بالآثار أن خاتم الأنبياء وأوصياءه النجباء أكمل العالم صفاتا وأفضلهم أعمالا. عرفنا المثالية فيهم أتم وهل الأجدر فيها أن تكون علي الطراز الأعلي والسنام الأرفع. أم علي وجه لا يخلو من قصور...؟ تري أن العقل يتردد في اختيار الغرار الأفضل للتمثيل، والطراز الأتم للتعريف.

الحضوري أبلغ في الدلالة

إن الرسول الأمين وخلفاءه الأمناء أدلاء علي الموجد سبحانه، المتفضل بسوابغ النعم التي تفوت حد الاحصاء. والدليل يجب - بحكم العقل - أن يكون صالحا للقيام بوظيفته... وهل الأبلغ في الدلالة، والأمثل في الإشارة أن يكون الدليل علي أحسن سمة وأفضل صفة، أو يكفي فيه أن يتحلي بمحاسن الخصال، وإن كان ثمة ما هو أرفع مقاما، وأعلي منزلة؟ لا يشك العقل في أن الأجدر في الدليل أن يكون أعلي منزلة، إذا كان المدلول عليه لا يحيط به الوصف، ولا يصل إلي كنهه

الحس، ليكون أقرب إلي الإشارة في تعريفه. وأقدر علي البيان في وصفه. [ صفحه 32]

ذو العلم الحضوري أسلم عن الانخداع

إذا لم تكن الضمائر متجلية للإمام، ولا الدفائن منكشفة له، جاز أن لا يعرف المؤمن من المنافق والسليم من السقيم. حينما يتساوي الجميع في المظاهر الجميلة، ويتنافسون في الأعمال الجليلة. وما الذي - عند ذلك - يحجز عن انخداعه بذلك الجمال البارز، فيمنعه عن الوقوع في الأخطار وإيقاع سواه في المهالك. كل ذلك ركونا إلي تلك الصور الجميلة واعتمادا علي ذلك الحسن الفاتن. وأما إذا كان علمه حضوريا فلا تخفي عليه دخائل الصدور وخبايا الزوايا فكيف يغتر بالجمال الظاهر، أو يفتتن بالبيان الساحر؟ فصاحب العلم الحاضر أسلم عن الانخداع وأبعد عن الافتتان.

لابد أن يكون علم السفير والشهيد حضوريا

اشاره

إن النبي وخلفاءه الأئمة سفراء الله في الناس وأمناؤه علي خلقه، [ صفحه 33] وشهداؤه عليهم، وكيف يكون الشهيد علي الناس والسفير فيهم والأمين عليهم، من لا يعلم شيئا من حالهم، ولا يدري ماذا كان عملهم، ولا يكون خبيرا بما تجنه ضمائرهم، وتطويه سرائرهم...؟ فلو كان علمه حضوريا، لحق أن يكون الشهيد علي الأمة المخبر عما تعمله، والأمين علي العالم الناصح لهم، والسفير فيهم، والوسيط بينه تعالي وبينهم، والمبلغ عنه أحكامه تعاليمه، وعنهم الطاعة أو العصيان. هذا بعض ما سنح في الفكر من تقريب العقل للحضوري، وتقديمه علي الإشائي ولو أردنا البحث، لكانت الأدلة أكثر.. وبما سبق كفاية. [ صفحه 34]

هل هناك حكم عقلي معارض

إنا لو أطلنا التفكير في هذا الشأن وأجلنا النظر في أطرافه، لم نجد برهانا للعقل يدفع ما سلف، ويهدم أساس ذلك البناء الرصين. نعم أقصي ما يمكن أن يدعي نهوضه للمقاومة، أمور ثلاثة: الأول - إن العقل يستعظم ذلك المقام، ويستكبر تلك المنزلة، حتي يكاد أن يلحق الزعم بالغلو. الثاني - لو كان علمهم حضوريا لالتمست آثاره، وسمعت أخباره. وكيف تخفي مثل هذه الخلة العظيمة؟ الثالث - أية جدوي ملموسة، لو كانت لهم تلك الملكة النفسية. وهم لا يقوون علي أعمالها؟ وأية فائدة محسوسة. إذا كانوا علي تلك الصفة وهم لا يستطيعون أن يتظاهروا بها. الجواب عن الأول: إن الاستعظام أو الاستبعاد ليسا من البراهين لتقوم بدفع ما سلف علي أن مثل الاستكبار لو فرض وقوعه من العقل. فهو عند أول نظرة، وحين سلف علي أن مثل الاستكبار لو فرض وقوعه من العقل. فهو عند أول نظرة، وحين عروض هذه الخلة. قبل الروية والسير لما سجله العقل من الحجج وأتي به من الشواهد

المقربة. ولو فطن إلي أن الحضوري ممكن بنفسه لا مانع من اتصافهم به بل [ صفحه 35] وكان الأجدر بهم. والأنسب لمقامهم، لما وجد مجالا للاستبعاد. ومحلا للاستعظام. وأما الغلو فلا مورد له. بعدما أسلفنا بيانه في المقدمة الثالثة من الفرق بين علمه تعالي وعلم الإمام علي تقدير كونه حضوريا. الجواب عن الثاني: إن مشاهدة الأثر لذلك العلم الحضوري لا يختلف فيه اثنان: إلا من يريد الحط من مقام الأئمة ودفع تلك المنزلة من العصمة. ومثل هؤلاء لا نقف معهم في مثل هذا الموقف. ولا نخوض وإياهم في مثل هذا البحث. ونكران المشاهدة مكابرة محضة. ومن أين ذهب بعض الضعاف في البصائر إلي القول بألوهيتهم لو لم يكن هناك ما يشاهدون من الآثار التي لم تتحملها عقولهم. وهذه كتب الفضائل بين يديك تعطيك مثالا صالحا لذلك العلم. فكم أخبروا عما فات وعما هو آت. وكم حدثوا رجلا عما ارتكب من فعل وعما نوي في نفسه واختلج في صدره. ولولا الإطالة لأتينا لكل إمام من ذلك طرفا مستملحة. وإن الكتب المعدة لسرد أحوالهم أشارت إلي شئ من تلك النوادر، وكفي منها إرشاد الشيخ المفيد، وكشف الغمة ومناقب ابن شهرآشوب، وأصول الكافي في باب مواليدهم، وبصائر الدرجات والخرائج والجرائح وروضة الكافي: وجمع شطرا منها صاحب مدينة المعاجز. [ صفحه 36] الجواب عن الثالث: إن تلبسهم بتلك الخصال الكريمة وإن كان لنفع البشر، إلا أن الناس إذا انصرفوا عن نور الحق، وتسكعوا في وهدة الباطل، بسوء الاختيار منهم فأي تقصير يكون لمن تقمص بذلك الخلق الكريم، إذا لم يجد مساغا لإظهار علمه، وإبراز ما يحمل من الهدي والرشاد...؟ ولو صح مثل هذا النقض لبطلت النبوات والشرائع، لصفح الناس

عن أولئك الهداة، وإعراضهم عن هاتيك الأحكام الإلهية. بل لبطل خلق الخلق، لأنهم لم يعرفوا الحق كما يحق ولم يعبدوه كما يجب. نعم! لو ثنيت الوسادة لأولئك المرشدين لعرفت الناس منازلهم حقا ولظهرت آثارهم واضحة. ولكن كيف يمكنهم أن يعلنوا بما تضم جوانحهم، والناس مصرة علي الأعراض عنهم، وعدم الاهتداء بنورهم والانتفاع بعلمهم بل والسيوف مجردة فوق رؤوسهم، إن فاه أحدهم بمكنون علمه، أو أظهر كرامة، أو أقام حجة، لم يجد ما يشيم عنه ذلك الصارم، أو يقف دون حده. حتي أن الباقر عليه السلام قال: (لو كانت لألسنتكم أوكية لحدثت كل امرئ بما له وعليه.... وحتي قال الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق: (يا بن النعمان إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم...) إلي كثير من أمثال هذا. [ صفحه 37] فكانت المخاوف من جهة، وعدم تحمل الناس ذلك من جهة أخري، إلي ما سوي هذه الجهات، صوارفا فألهم إبداء ما منحوا من تلك الكرامة. [ صفحه 41]

البرهان النقلي علي علم الإمام الحضوري

اشاره

إن النقل (كتابا وسنة) يعارض حكم العقل بأن علم الرسول وأوصيائه حضوري، بل هو أصرح في الدلالة، وأظهر في المطلوب. ما دل من الكتاب علي علمهم الحضوري: لقد نطق الكتاب المجيد في عدة آيات بعلمهم الحضوري، نذكر منها بعض الآيات الكريمة، منها قوله تعالي: (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) إن النبي وخلفاءه الأئمة من الراسخين في العلم، الذين قرن الله جل شأنه علمهم بالتأويل بعلمه. فعلمهم بالتأويل في عرض علمه. وكيف يعلمون التأويل وعلمهم غائب عنهم؟ وكيف يقرنهم جل شأنه في العلم بعلمه وعلمهم غير حاضر لديهم؟. ومنها قوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي علمه شديد

القوي) فقد دلت هذه الآية الكريمة علي أن النبي (ص) لا ينطق إلا عن وحي وتعليم، من دون أن يذكر لذلك التعليم حدا، وللوحي قيدا، وإن الأئمة ورثة النبي (ص) في علمه وسائر فضائله. ومنها قوله عز شأنه: (ولا يظهر علي غيبة، أحدا إلا من ارتضي من رسول) ولا شك في أن نبينا الاكرام ممن ارتضاه تعالي للاطلاع علي غيبة، بل الأخبار في تفسير هذه الآية الكريمة صريحة بهذا. وهل العلم الحضوري إلا الاطلاع علي الغيب؟ وهل المستبعد المستعظم [ صفحه 42] لحضوري علمهم إلا لكونه غيبا. والغيب مما استأثر به العلام جل شأنه. فأين هو عما نوهت به هذه الآية الكريمة؟ وأما الإمام فهو الوارث لعلم الرسول، وخصاله كافة. ومنها قوله تبارك وعلا: (وتعيها أذن واعية) وقد جاء في تفسيرها إن الأذن الواعية هي أذن أمير المؤمنين عليه السلام وأنها وعت ما كان وما يكون. ومنها قوله: (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) وقوله تعالي شأنه: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) إلي غيرهما من الآيات المصرحة بوجود الشاهد علي الأمة يوم البعث والحساب، وقد فسرت بالنبي (ص) وأوصيائه الأمناء. وكيف يكونون الشهداء علي الناس، وهم لا يعلمون شيئا من حالهم، ولا يدرون بما يعملون...؟ وهل يكون الشاهد إلا الحاضر المطلع...؟ ومنها قوله: تعالي: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم) وقد صح أنهم هم المقصودون بهذه الآية. ولو لم يكن علمهم حاضرا، لما صدق عليهم أنهم أوتوا العلم. وكيف يكون ثابتا في صدورهم وهم لا يعرفونه؟ وهل يكون غير الموجود ثابتا؟ وقوله تعالي: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) فبهذا نفهم أنه (ص) عالم بكل شئ، ولا يكون ذلك إلا بالحضوري.

وما انتهي إليه (ص) فقد انتهي إليهم. [ صفحه 43] إلي غير هذه الآيات البينات، مما يشهد لذلك العلم الحاضر.

ما دل من الحديث علي علمهم الحضوري

لقد صرحت الأخبار، وأنبأت بوضوح، بما كان عليه النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة من ولده، من ذلك العلم الحاضر... ونورد طرفا منها في ضمن طوائف.

الائمة خزنة العلم والحجة البالغة

صرحت طائفة من الأحاديث بأن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام خزنة علم الله وعيبة وحيه وأنهم الحجة البالغة علي من دون السماء ومن فوق الأرض [1] . إن علم الله سبحانه لا يحصيه حاسب ولا يحصره كاتب. وهل يكون الخازن جاهلا بما في الخزانة والعيبة؟ وهل هو إلا كناية عن استيداعه تعالي علمه أوعية صدروهم وغياب قلوبهم. وكيف يحجب الله تعالي علمه عن حجته؟ وكيف تكون تلك الحجة بالغة؟ وليس لديها علم بالحوادث والأعمال لتكون مخبرة لهم عما يعملون عند الإعجاز والكرامة. وإن عموم العلم المخزون عندهم شامل لكل أمر من حكم أو موضوع كلي أو جزئي [ صفحه 44]

علمهم بما في السماء والأرض

صرحت هذه الطائفة من الأحاديث بأن الله سبحانه أجل وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه [2] . وهذه فوق صراحتها بالمطلوب دلت علي أن حجب علم السماء والأرض عن الإمام مما يستلزم النسبة الله بما ينافي كرمه وجلالة شأنه. بل لو حجب ذلك العلم عنه لما صح لأن يكون مفترض الطاعة. وكيف تكون طاعته مفروضة وليس لديه علم ما يسأل عنه.

ان الأئمة هم الراسخون في العلم والذين أوتوا العلم

نطقت هذه الطائفة من الأحاديث بأن الراسخين في العلم الذين علموا تأويل القرآن، والمقرون علمهم بالتأويل بعلمه جل شأنه هم الأئمة من أهل البيت وأنهم هم الذين قال الله تعالي عنهم في محكمفرقانه: (آيات في صدور الذين أوتوا العلم) [3] . [ صفحه 45] كيف يا تري شأو العلم يقرن الجليل تبارك وعلا بعلمه؟ وكيف يا تري شأنهم والله تعالي يخبر عنهم بأنهم الراسخون في العلم وأنهم أوتوه وأثبت في صدورهم؟. ولو أمكن وصف علمهم بأعلي وأرفع من الحضوري لكان في هذه الأحاديث المفسرة لتلك الآيات الكريمة مجال لذلك الوصف وإنما نسمي علمهم بالحاضر لقصورنا عن إدراك وصف أسمي منه بل ولجهلنا لحقيقة ذلك العلم.

الائمة معدن العلم و وارثوه

أنبأت هذه الطائفة: بأن الأئمة عليهم السلام شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم ومختلف الملائكة وموضع الرسالة، وورثة العلم يورثه بعضهم بعضا [4] . وهل يريد المرء بالإفصاح عن علمهم الحضوري بأجلي من هذا البيان وأظهر من هذا المفاد؟ وكيف يكونون معدنا للعلم ولا علم يحضر هذا المعدن؟ وكيف يتوارثون العلم، والمتوارث شئ غير موجود؟ ولو ادعي أنها تختص بالعلم بالأحكام وموضوعاتها الكلية، فلا نجد مبررا لهذه الدعوي، واللفظ عام والعموم أليق بتلك [ صفحه 46] المنزلة. ومن يتحلي بتلك الصفات الشريفة التي أخبرت عن بعضها هذه الأحاديث لا يستغرب من علمه إذا كان حضوريا وحاصلا لديه في كل حين، ومن يكون مختلفا للملائكة وموضعا للرسالة وبيتا للرحمة وشجرة للنبوة كيف لا يكون حاضر العلم يدري بما يعمل الناس ويصف لهم ما تنطوي عليه سرائرهم.

الائمة ورثة علم النبي

نطقت هذه الطائفة بأن الأئمة عليهم السلام ورثة علم النبي (ص) وأن النبي (ص) ورث جميع علوم الأنبياء والرسل وأولي العزم [5] . فهذه الطائفة أخبرتنا بأن علم العالم كله وصل إليهم، واجتمع عندهم فكل ما كان للأنبياء والرسل وأوصيائهم من علم فهو قد انتهي إليهم وورثوه منهم. وهل بعد هذا العلم الذي كان عليه كافة الرسل وصار لديهم يبقي مجال لأن يقال بأن علمهم ليس بحاضر، بل حضوره تابع للإشاءة فإذا لم يكن حاضرا لديهم فأي شئ ورثوه إذا؟.

ان لديهم جميع الكتب و يعرفونها علي اختلاف ألسنتها

أخبرت هذه الطائفة بأن عند الأئمة (ع) جميع الكتب السماوية، [ صفحه 47] ويقرؤونها علي اختلاف ألسنتها [6] . إن في الكتب علم الأول والآخر والسالف والحاضر، وعلم الأحكام والحوادث والمنايا والبلايا وكل شئ فليت شعري هل يقرءون تلك الكتب وهم يجهلون ما يقرءون أو يعرفون بعضا وينكرون بعضا...؟ إن هذا لشئ عجاب.

الائمة يعلمون الكتاب كله

صرحت هذه الطائفة من الأحاديث بأن الأئمة يعلمون ما في القرآن المجيد كله، حتي قال الصادق عليه السلام: والله إني لا علم كتاب الله من أو له إلي آخره كأنه في كفي فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن قال الله عز وجل (فيه تبيان كل شئ) [7] . وهل يطلب الباحث أثرا بعد عين افتري أنه أراد من العلم بكتاب الله الذي فيه تبيان كل شئ من خبر السماء والأرض وما كان أو هو كائن هو العلم بالأحكام أو موضوعاتها لا الحوادث والأعمال وما وقع أو يقع من شؤون العالم وهل يجوز لذي علم أو ذوق أن يحمل هذا البيان علي ذلك القصد؟ وهل أصرح من هذا [ صفحه 48] البيان بالعلم بشؤون العالم سابقه وحاضرة ولاحقه.

عندهم جميع العلوم

أفصحت هذه الطائفة من الأحاديث عن سعة ذلك العلم الذي كان عند الأئمة الأمناء فإنها أفادت أن لله علمين: علم أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله فما أظهر عليه وملائكته ورسله وأنبياء فقدعلمناه وعلم استأثر به فإذا بدا لله في شئ منه أعلمنا بذلك [8] . الله ما أكبر منازلكم أيها السادة الأوصياء عند رب السماء وما أرفع مراتبكم أيها الهداة عند خالق الأرض والسماوات: فقد رفعكم فوق منازل النبيين وسما بكم علي معارج المرسلين، حتي أطلعكم علي ما استأثر به من العلم، واختصكم بما لم يظهر عليه أولي العزم من رسله... ولا أدري ما وراء هذا يراد من الحضوري؟ ولأي شئ بعد هذه الصراحة يصار إلي الإشائي؟.

يعلمون حتي بانقلاب جناح الطائر

بينت هذه الطائفة من الأحاديث بأنه ما ينقلب جناح طائر في الهواء إلا وعند الأئمة علم منه [9] . [ صفحه 49] أوليس هذا صريحا في شمول علمهم حتي للجزئي من الحوادث، ووقوفهم علي كل ما يقع ويكون، فوق ما وقع وكان.

ان الأئمة الشهداء علي الناس

نطقت الأخبار العديدة بأن النبي والأئمة عليهم السلام يكونون الشهداء علي الناس يوم العرض والحساب. أتري يكون أحد شهيدا علي أحد، وهو لا يعلم ما اقترف، ويخبر عما كان عليه وهو لا يدري ما عمل؟ هذا كله وهو بعض ما نطقت به الأحاديث وصرحت به الأخبار، إذ ليس الغرض الاستقصاء، بل القصد عرفان ما كانوا عليه من ذلك العلم الزاخر. وإن كنا نجهل ما اتصفوا به، غير أنا تستظهر شيئا أنبأت عنه أحاديثهم، ودلتنا عليه أعمالهم. [ صفحه 53]

منابع علمهم

اشاره

هناك أحاديث أخري تشير إلي بعض المنابع التي يستقون منها غامر علمهم، ومنها علمهم ومنها ويستفاد أن ذلك العلم المستقي لا بد وأن يكون حاضرا لديهم في كل آن، وحاصلا عندهم في كل زمان، وهي علي طوائف نشير إلي بعض منها.

ان عندهم الاسم الأعظم

إن الاسم الأعظم علي ما أعربت عنه الأحاديث، علي ثلاثة وسبعين حرفا، وإن الذين عندهم منه اثنان وسبعون حرفا! وحرف واحد استأثر به الجليل تعالي. وما كان عند (آصف) إلا حرف واحد منه، وقد أحضر به عرش بلقيس بأسرع من طرفة عين. وكان آدم عليه السلام أكثر الأنبياء عليهم السلام حظوة به، وما كان عنده إلاخمسة وعشرون حرفا [10] . إنا وإن لم ندر ما الاسم الأعظم؟ وكيف يكون علي ثلاثة وسبعين حرفا؟ إلا أننا نفهم من هذا البيان خطر شأنهم وكبر مقامهم وسعة علمهم حتي أن الله سبحانه سمي ذلك الحرف الذي كان عند (آصف) علما من الكتاب فكيف بمن كان لديه جميع حروفه؟.

ان عندهم آيات الأنبياء

ومن تلك المصادر لعلوم الأئمة الفياضة وقدرتهم الباهرة، آيات [ صفحه 54] الأنبياء كألواح موسي وعصاه وخاتم سليمان، إلي ما سواها [11] . وهذا ما يعرفنا بأن الأئمة منحوا من العلم والفضل والقدرة ما يعجز عن وصفه البيان، حتي كان لديهم جميع كتب الأنبياء وعلومهم وآياتهم فأي وجه بعد هذا للتردد فيما كان لديهم من العلم، ومقدار ذلك الغامر منه؟

ما عندهم من الجفر والجامعة ومصحف فاطمة وما يحدث بالليل والنهار

وهذه إحدي المنابع لعلومهم الزاخرة، وقد أنبأت هذه الطائفة عن بيان هذه المنابع. فإن أبا بصير يقول: دخلت علي أبي عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك: إني أسألك عن مسألة: ها هنا أحد يسمع كلامي؟ فرفع أبو عبد الله سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال: جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلي الله عليه وآله علم عليا (ع) ألف باب يفت له من كل باب ألف باب؟ فقال أبو عبد الله: يا أبا محمد علم رسول الله (ص) عليا (ع) ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب. قال أبو بصير فقلت: هذا والله العلم. ثم إن الصادق عليه السلام لما رأي استعظام أبي بصير هذا المنبع [ صفحه 55] العزيز صار ينبئه بأن لهم منابع أخري أغزر مادة وأسح فيضا، فذكر له أن عندهم الجامعة، وإنها سبعون ذراعا بذراع رسول الله (ص) وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه فيها كل حلال وحرام، وكل شئ يحتاج إليه الناس، حتي الأرش في الخدش. ثم ذكر، إن عندهم الجفر، وأنه وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل. ثم ذكر إن عندهم مصحف فاطمة، وإنه

مثل القرآن ثلاث مرات ثم قال عليه السلام: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلي أن تقوم الساعة. وفي كل هذا يقول أبو بصير مبتهرا ومستعظما: هذا والله العلم، والصادق عليه السلام يقول: إنه لعلم وليس بذلك، فقاله أبو بصير: جعلت فداك فأي شئ العلم؟ قال عليه السلام: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر،والشئ بعد الشئ إلي يوم القيامة [12] . إننا وإن لم ندرك حقيقة هذه المنابع، وقدر هذه المواد، إلا أننا نفهم من هذا البيان أنهم رزقوا من العلم ما لا مزيد عليه إلي ما شاء الله جل شأنه وأنه لو يسمح لنا البيان بأن نعرفه بأكثر من الحضوري، وأوسع من الحصولي، لوسمناه به. [ صفحه 56] وهل بعد هذا يصح أن يقال في علمهم: إنه مبني علي الإشاءة، وموقوف علي الإرادة؟ وأما إشرافه (ع) علي البيت ورفع الستر في هذه الرواية لا ليعلم هل فيه أحد، فيكون منافيا للحضوري، بل ليطمئن أبو بصير بخلو البيت من السامع. ولقد أوجزنا بنقل الأحاديث التي دلت علي سعة علومهم. وحضورها لديهم، لأننا لا نريد استقصاء ما جاء عنهم في هذا الباب، فإن الغرض الأوحد أن نعرف ما كانوا عليه من العلم، ولا نعرفه عن طريق النقل، إلا بما عرفوه لنا وأبانوه من ذلك المكنون في أوعية صدورهم. وبما أوردناه يحصل الغرض المطلوب والضالة والمنشودة. وإن كان ما أوردناه قطرة من غيث وغرفة من بحر، مما جاء عنهم في ذلك من الأخبار وظهر من الآثار. [ صفحه 57]

الادلة النقلية المعارضة

ربما يقال بأن هناك أدلة يستفاد منها تضييق تلك الدائرة الواسعة المزعومة، وحصرها في مجال دون ذلك المجال المفروض. وهو أن علمهم، وإن

كان زاخر العباب بعيد القطر. إلا إنه لم يكن حاضرا لديهم، حاصلا عندهم. ساعة بساعة وحينا حين. وإنما يكون حضوره بالأمر إذا شاءوا علم ذلك الأمر. وحصوله بالشئ إذا أرادوا أن يعلموا ذلك الشئ، ولم يكن العلم منهم سابقا علي الإشاءة. حاضرا قبل الإرادة. وعليه الكتاب والسنة. الكتاب

ما دل من الكتاب علي أن علمهم ليس بحاضر

إن من تدبر الكتاب المجيد، واستقصي سوره، وجد فيه آيات عديدة تدل علي أن نبينا (ص)، بل والأنبياء عليهم السلام كافة لا يعلمون الغيب، وليس لهم من العلم إلا ما علمهم العلام جل شأنه. والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ليسوا بأولي من النبي بذلك. إذ أقصي ما نقول في علمهم أنه ورثوه عن النبي (ص). وأنه انتهي إليهم ما كان يعلمه صلي الله عليه وآله من جميع العلوم. فمن تلك الآيات الكريمة قول تعالي: (وعنده مفاتح للغيب لا [ صفحه 58] يعلمها إلا هو) فهذه الآية صريحة الدلالة بأن علم الغيب منحصر به سبحانه، ولا يعلمه أحد من خلقه، وعمومها يشمل حتي الأنبياء والأوصياء. ومن تلك الآيات البينات قوله تبارك وعلا: (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) فهذه وإن دلت علي أنه تعالي يجوز أن يشرف عباده علي علمه. إلا أنها دلت علي أن العباد قاصرون عن الإحاطة بعلمه. ولو كان علمهم حاضرا لأحاطوا بعلمه سبحانه. ومنها قوله تعالي شأنه: (سنقرئك فلا تنسي) فقد دلت هذه الآية الكريمة علي أن النسيان سائغ عروضه علي النبي (ص) ولو كان حاضر العلم لما جاز نسيانه، ولا احتاج إلي لفته، بأن يكون متنبها لما يقرأ عليه حتي لا ينسي. ومنها قوله عز وجل: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) فهذه الآية صريحة

بانحصار علم الغيب بالله جل شأنه. ولو كانوا حاضري العلم لاشتركوا معه سبحانه بهذه الصفة. بل إن النبي نفسه يعترف بأنه لا يعلم الغيب، كما حكي عنه تعالي ذلك في قوله تبارك وعز: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير)... وهل بعد هاتين الآيتين من شبهة في أن علم الغيب منحصر به تعالي، وأن علمهم ليس بحاضر؟ ومنها قوله عز شأنه: (ومن حولك من الأعراب رجال منافقون ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم) وأي [ صفحه 59] دلالة أصرح من دلالة هذه الآية المباركة بأن علم البني (ص) لم يكن حاضرا، بالأشياء ولو كان حاضرا لأخبر تعالي عنه، بأنه كان يعلم بنفاق أولئك الأعراب وبعض أهل المدينة. فهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي الكتاب العزيز صريحة بأن النبي (ص) كان لا يعلم الغيب. فكيف إذا شأن الأئمة الأطهار فيه، وبما أوردناه من الآيات البينة كفايد في الدلالة علي القصد. ولا حاجة بنا إلي إيراد شئ من الكتاب الكريم سواها.

الجواب عنها

إننا لا نريد أن نثبت بأن علمهم ذاتي لا يحتاج إلي العلم حتي العلام تعالي، بل إن علمهم كان بلطف منه جل شأنه، وتعليم من لدنه جل ذكره، فهذا لا يأبي من أنهم لا يعلمون بالذات: الغيب ولا غيره، فهذه الآيات الكريمة لا تعارض تلك الآيات التي صرحت بأن الله تعالي وإن استأثر بعلم الغيب إلا أنه شاء أظهر عليه من ارتضاه من الرسل، وأن رسولنا صلي الله عليه وآله - كما في الأحاديث - ممن ارتضاه الله سبحانه. علي أن هذه الآيات نفسها دلت علي هذا المفاد، كما في قوله: (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) فإن هذا

الاستثناء كاف في الدلالة علي إشاءته تعالي لأن يحيطوا بشئ من علمه. وهذه الطائفة محمولة علي استئثاره بالعلم الذاتي. وأما من أطلعه علي ذلك العلم - كما دلت عليه تلك الآيات - فذلك العلم محمول علي [ صفحه 60] الغرضي، بل إننا لا نريد أن نثبت بما سلف أن لديهم كل ما يعلمه الجليل سبحانه، ولا تلازم بين علمهم الحضوري وأنه يعلمون كل ما يعلمه العلام سبحانه، فيجوز حينئذ أن نحمل ما دل علي نفي ما يعلمه العلام سبحانه، فيجوز حينئذ أن نحمل ما دل علي نفي علمهم وما دل علي استئثاره بشئ علي اختصاص ذلك بما تخصص به ولم يطلع عليه أحدا من البشر، ويشهد له ما جاء في الأحاديث التي قالت بأن الاسم الأعظم علي ثلاثة وسبعين حرفا وأن عندهم منه اثنين وسبعين وأن الجليل تعالي استأثر بحرف واحد. فهذا يدل علي أنه اختص بشئ لم يطلعهم عليه. علي أنه قد يقال في الجواب إن هذه الآيات وما سواها، مما دل بظاهره علي أن الأنبياء كانوا لا يعلمون، ولا سيما مثل قوله تعالي: (وما أدراك ما ليلة القدر) وقوله جل شأنه: (وما أدراك ما الحاقة) وقوله عز وعلا: (وما أدراك ما يوم الدين) وقوله عز وجل: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله سبحانه: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) إلي غيرها محمولة علي أن المراد بها الأمة من باب إياك أعني واسمعي يا جارة. بل يمكن الجواب عن كل آية آية. ولكن لا نريد الإطالة في الجواب والإكثار من الكلام. ولو لم يمكن التوفيق بين هاتين الطائفتين من الآيات الكريمة، فلا بد من التصرف في ظاهر هذه الطائفة خاصة، لأن حكم العقل قاض

بأن الإمام لا بد وأن يكون علمه حضوريا كما أنه لا يمكن التصرف في صريح هاتيك الآيات. [ صفحه 62]

الاخبار النافية للأخبار الدالة علي الحضور

اشاره

أما الأخبار التي دلت علي أن علمه ليس بحاضر فهي كثيرة جدا، لا يسمع المقام استيفاؤها وها نحن نشير إلي طرف منها في طي طوائف.

كانوا لا يعلمون الغيب

هناك طائفة من الأحاديث صرحت بأن الأئمة لا يعلمون الغيب، حتي أن أبا عبد الله عليه السلام خرج يوما وهو مغضب فلما أخذ مجلسه قال: يا عجبا لأقوام يزعمون إنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد همت بضرب جاريتي فلانة، فهربتمني، فما علمت في أي بيوت الدار هي [13] . وهذه كما تري - صريحة بأنهم كانوا لا يعلمون الغيب، ولم يكن علمهم بالأشياء حاضرا لديهم. ولو كانوا حاضري العلم دوما، والأمور منكشفة لهم أبدا، لما خفي عليه هرب الجارية، ومكانها من بيوت الدار. [ صفحه 63]

سهو النبي والأئمة

وهناك طائفة كبيرة من الأحاديث صرحت بسهو النبي صلي الله عليه وآله حتي أنه صلي الظهر خمس ركعات، ومرة صلاها ركعتين! وإن عليا عليه السلام صلي بغير طهر، فأخرج مناديه يعلم الناس بذلك! وحتي أن الرضا عليه السلام - كما في عيون الأخبار - لعن الذين لا يقولون بسهو النبي صلي الله عليه وآله، ونسبهم إلي الغلو، وأن الصادق (ع) كما في آخر السرائر - قال: (ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ صلواتي). وهل يتطلب الباحث إلي أكثر من هذا التصريح... فإن علمهم لو كان حاضرا لكان بأفعالهم أجدر، فكيف يقع منهم السهو، وهم يعلمون كل شئ من أفعال العباد، أفلا علموا بأفعالهم حتي يتحرزوا من السهو في أفضلنا، وهو الصلاة.

نوم النبي عن الصلاة الصبح

لقد جاء في الأخبار الصحيحة أن النبي (ص) نام عن صلاة [ صفحه 64] الصبح حتي أيقظه حر الشمس. وعلل هذا النوم بأن الله عز وجل فعله بنبيه (ص) رحمة بالناس. لئلا يعير النائم عن الصلاة. وهل بعد هذا التصريح من وجه للقول بأن علمهم كان حاضرا. والأمر لديهم كان متجليا. وأين كانوا من نومهم إلي أن تطلع الشمس؟ أفلا كانوا علي علم منه.

متي شاء الإمام أن يعلم أعلمه الله تعالي

وهذه الطائفة من الأحاديث اشتملت علي نصوص عديدة، وكلها مفصحة وقائلة: بأن الإمام متي شاء أن يعلم شيئا أعلمه الله سبحانه ذلك. وهذه الطائفة يمكن أن تكون الحد المعتدل والنمرقة الوسطي، وعندها اجتماع ما اختلف من الأدلة، وائتلاف ما افترق من الأحاديث، فتحمل تلك الطوائف علي أن علمهم يكون حاضرا إذا شاءوا، وحاصلا إذا أرادوا، ولا يكون حضوره دوما، وحصوله أبدا، بل إن تجلي الأمور وانكشاف الأشياء، عند الإشاءة منهم والإرادة لها. ومن ثم يتضح أن ما ظهر منه من الأقوال والأفعال التي أفصحت عن العلم الحاضر عندهم، والأمر المتجلي لهم، محمول علي أنهم أرادوا علم ذلك الشئ، فأطلعهم تعالي علي علمه، فأظهروه بعد تلك الإشاءة. [ صفحه 65]

المؤيدات لهذا الجمع

استمرارهم عملا وقولا علي عدم الحضور

إن الذي يؤيد هذا الجمع استمرارهم في الأعمال والأقوال علي أن ليس لديهم علم حاضر، ولا أمر منكشف. ولو كانت الأمور متجلية لهم لما رفع الصادق عليه السلام الستر ليعلم هل في البيت أحد يسمع، ولما بقيت لمعة في ظهر الباقر عليه السلام لم يصل إليها الماء عندما اغتسل، ولما أكل الكاظم عليه السلام بيضة فأمر بها مولي له. فلما علم بذلك تقيأها [14] .

اقدامهم علي القتل وشرب السم

ومما يؤيد أن علمهم بحاضر دوما، أنهم كانوا يقدمون علي القتل وشرب السم، ولو كانوا عالمين بحال قبل الوقوع في تلك الحبائل، لكان من الالقاء للنفس في التهلكة. وهم أجل شأنا وأعلي منزلة من أن يقدموا علي هذا الالقاء.، [ صفحه 66]

الغلو

اشاره

إننا لو اعتقدنا بأن النبي والأئمة عليه وعليهم السلام حاضر و العلم بالأشياء كافة. ما سبق منها وما هو آت إلي يوم الحشر. بل حتي يما هو في السماء من خبر. وبما بعد يوم القيامة من أثر. الأمر الذي يقف عنده اللبيب مبهوتا. ويبقي لديه العارف مذهولا، ولأمكن أن يقال بأن هذا الاعتقاد غلو فيهم. وخروج عن النمرقة الوسطي في الاعتقاد بهم. ولكن لو قلنا بأن علمهم وحضوره راجع إلي الإشاءة منهم. فإذا شاءوا أعلمهم تعالي بما أرادوا علمه لم يكن ذلك غلوا. ولا خروجا عن الحد المعتدل. الجواب عن الأول: قد بينا في مقدمات هذه الرسالة الفرق بين علمه تعالي وعلمهم، وأن علمه تعالي عين ذاته، وأن علمهم صفة خارجة عن الذات زائدة عليها وأنه موهوب منه جل شأنه، وهذا لا ينافي أنهم لا يعلمون الغيب بالذات بل إنما يعلمونه بالتعليم والمنحة منه تعالي. علي أن التخصيص للكتاب بالسنة جائز ووارد. وقد جاء في المقام قوله تعالي: (إلا من ارتضي من رسول) وكان والله محمد ممن ارتضاه فالرواية بعد التخصيص شاهد علي أن النبي كان يعلم الغيب مما أعلمه الله عز وجل. [ صفحه 67] وأما حادثة الجارية وتظاهر عليه السلام بأنه لا يعلم ابن هي من بيوت الدار، وإنكار علي من يقول بأنهم يعلمون الغيب، فلا يخفي شأنه علي ذي بصيرة لأنهم أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم، وعدم تحملهم.

فلو أنهم كانوا يتظاهرون دوما بما منحوا من ذلك العلم لأعتقد بهم أهل الضعف أنهم أرباب أو غير ذلك مما يؤول إلي الشرك، ولقد اعتقد بهم ذلك كثير من الناس من البدء حتي اليوم، علي أنهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحيانا، وليسوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر، كما سبق لأمير المؤمنين (ع) مع أصحاب ابن سبأ. بل كانوا غرضا لفراعنة أيامهم، وهدفا لنبالهم، ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم، فلو تظاهروا بتلك الخلة كيف تري يحمل الحسد أولئك الطواغيت علي الفتك بهم، وهم المحسودون علي ما آتاهم الله من فضله، وأي حائل - يحجز عما يريدونه بهم وبأوليائهم. وإنهم لم يطلعوا أعدائهم ولا سواد أوليائهم علي جميع ما رزقوا من ذلك الفضل، وقد لاقوا من المصائب والنوائب، والحوادث والكوارث، والوقائع والفجائع ما تسيخ منه شم الجبال، وتشيب من هوله الرضع، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر علي قدر ما رزقوا من الفضل لما استطاع أن يحمل - ما تحملوه - بشر، وهل مات أحد منهم حتف أنفه دون أن يتجرع غصص السم النقيع، أو يصافح حدود الصوارم، ويعتنق قدود الرماح، هذا فوق ما يرونه من الهتك [ صفحه 68] للحرمات، وتسيير العقائل والسب والسلب، والغصب للحقوق، والتلاعب بالدين، وتضييع أحكام الشريعة. نعم! لا يظهر بتلك المنح الإلهية جميعها إلا الإمام المنتظر عجل الله فرجه، لأنه لا يخشي ذلك التسرب إلي ضعاف البصائر، لو صارح بما وهب من الفضل، لقدرته علي الردع والتأديب، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم، وهو صاحب السلطة والسيف. علي أن في ذيل تلك الرواية ما يفصح بتلك السعة، وينبئ عن ذلك التعميم والحضور،

فإنه عليه السلام قال: (علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا) والكتاب كما أنبأ عنه الجليل جل وعلا جاء بيانا لكل شئ. الجواب عن الثاني: أما الجواب عن الطائفة الثانية التي صرحت بوقوع السهو من النبي (ص) ومن الأئمة المعصومين عليهم السلام من الجهة الفقهية، فمعارضة بالأخبار الخاصة. فأما أن تحمل علي التقية أو تطرح لضعفها سندا ومتنا عن مقاومة ما دل علي نفي السهو والنسيان من النبي والإمام، ولعدم العامل بها صريحا غير الصدوق في فقيهه. وأما من جهة أصول الدين، فلا يمكن العمل بالأخبار حتي لو صحت سندا واتضحت دلالة إذ ليس المعتبر إلا حكم العقل، والعقل يمنع من صدور أمثال ذلك عن المعصوم المقتدي، وإن صدور [ صفحه 69] أمثال ذلك لا يوافق مقام النبوة ومنزلة الإمامة بل هو حط من تلك الكرامة، ونقص من ذلك المنصب الإلهي. ولو أردنا أن نجاري الخصم في جواز ذلك منهم فقها وعقلا، فالأدلة الخاصة تأبي من اتصافهم بما تحملته هذه الأحاديث، وكفي منها ما سبق من تلك الطوائف سوي الأخبار التي نفت خصوص السهو والنسيان عنهم، وإن الطبع يمج تلك النسب ويأبي عن قبول هاتيك الدعوي فضلا عن إياء العقل والفقه لها. الجواب عن الثالث: وأما الجواب عن هذه الطائفة، فيعلم من الجواب عن الثانية، وأما كون نوم النبي (ص) رحمة للناس لئلا يعيروا بنومهم بعد طلوع الشمس، فتعليل غريب. نعم! هو أنسب بالحزازة بنومه عن الصلاة. وهل اللائق بمثل تلك المنزلة الجليلة والمقام الرباني، وبمن تنام عينه ولا ينام قلبه، وبمن لا تغمض عينه إلا خلسة، أن ينام عن الفريضة، حتي يوقظه حر الشمس؟ ولو ارتكبه أقل أرباب العبادة والتهجد لكان

عارا وحزازة. فكيف بسيد الأنبياء؟ وهل انحصر رفع التعبير عن النيام إلا بنوم النبي (ص) أوليس هذا من دفع القبيح بالأقبح؟ [ صفحه 70] أفلا يكفي البيان والإعلان باللسان في دفع التعبير عمن ينام؟ الجواب عن الرابع. إن هذه الطائفة إنما صرحت بأن علمهم موقوف علي الإشاءة منهم ولكن لا دلالة فيها علي أنهم لا يشاءون إلا في وقت دون آخر، فأي صراحة فيها تعارض ما دل علي أنهم يشاءون أبدا ويريدون دوما؟ فتكون مؤيدة للعلم الحضوري علي هذا البيان. علي أنه إذا كان علمهم موقوفا علي الإرادة منهم فلم لا يريدون أبدا علم الأشياء؟ ومن الذي لا يريد أن يكون علمه بأعلي مراتب الكمال، وهو باختياره وإرادته؟ فإن الناس تريد حصول المراقي الرفيعة من الفضيلة ولا تكون إلا بالكد والجد والتعب والنصب، فكيف يمتنع أحد عن تحصيلها وهي بالرغبة والإشاءة من دون كلفة وجهاد؟ ولم لا يحصل علي تلك الرتب السامية وهو يعرف ما الفضيلة، ويعلم هاتيك الدرج العلية؟ [ صفحه 71]

الجواب عن المؤيد الأول: استمرارهم علي عدم العلم الحاضر

أما دعوي استمرارهم في الأقوال والأعمال علي عدم العلم الحاضر فشئ لا يمكن دفعه في الجملة، وعلي نحو الموجبة الجزئية، ولكن تظاهرهم بالحاضر أكثر، ويشهد له في القول ما سبق من تلك الطوائف، وفي العمل ما وقع لهم من الأخبار بالملاحم والمغيبات، والأخبار عما يعلمه الناس وعما سيعلمونه وعن وساوس الصدور، ومناجاة النفوس، وهذا شئ أصبح من الجلاء والظهور بحيث يعد البرهان عليه فضولا، والاستشهاد له يكون هذرا، وهذه (مدينة المعاجز) وقد ذكرت لكل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام من أمثال ما أشرنا إليه الجم الغفير، بل وهذا (نهج البلاغة) أمام باصرتك فيه من ذكر الملاحم، والأخبار بالمغيبات الشئ

الكثير. لربما يكون تظاهرهم أحيانا بعدم العلم هو من العلم الحاضر نفسه، لعلمهم بزنة عقول الناس ومقادير مداركهم، وعسي أن يكون من حضر أو سمع أو يسمع لا يأمنون عليه من الشذوذ في العقيدة، وقوله فيهم بما ليسوا فيه، فيظهرون بعدم العلم دفعا لذلك المحذور. أو يخشون من أعدائهم إذا بلغ مسامعهم ذلك القول أو العمل، [ صفحه 72] فيحملهم علي التنكيل بهم أو بأوليائهم. وقد أشارت كثير من تلك الأحاديث إلي أنهم لا يستطيعون أن يعلنوا بكل ما أوتوا من العلم، فإنهم قالوا: لو كان لألسنتكم أوكية لحدثنا كل امرئ بما له وعليه [15] وقالوا: (لو وجدنا مستراحا لقلنا والله المستعان) [16] . وقالوا: (إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم [17] وقال أميرالمؤمنين (ع): (إن ها هنا علما جما لو وجدت له حملة) [18] فعدم تحمل الناس لعلومهم، والحذر من الشذوذ في المعتقد فيهم، والخوف من سطوات أهل الظلم والجور، وغير ذلك مما هم أعلم به، هو الذي دعاهم إلي ذلك الظهور أحيانا بعدم العلم الحاضر. علي أنه يمكن الجواب عن كل حادثة من تلك الحوادث التي وقعت منهم، ودلت علي عدم العلم. فأما رفع الستر فلعله كان لاطمئنان أبي بصير وكيف يعلم بخبيئة أبي بصير حين دخل عليه ولا يعلم بما وراء الستر. وأما بقاء اللمعة، فلعلها كانت من تخيل الناظر. ورواية الصادق عليه السلام لها من ذلك الشأن الذي أشرنا إليه أو لتنبيه الناظر أن [ صفحه 73] ليس عليه من بأس إذا لم يخبر، وإلا كيف تبقي لمعة والغسل كان ارتماسيا، وكيف لا يستولي الماء علي جميع بدن المرتمس. وأما القئ فلعله كان مجاراة للمخبر، ولو أصر الإمام

علي أن البيضة لم تكن مما اكتسب من القمار لاتهم المخبر الإمام أو غير ذلك مما يكون من المخبر لتصديق خبره. وبالجملة إننا لا ننكر أنهم قد يتظاهرون أحيانا بعدم العلم قولا أو فعلا، إلا أن لذلك وجوها جمة لا تخفي علي البصير، فلا توجب أن تحمل تلك الأدلة الصريحة بالعلم الحاضر وتصرف عن وجهها لبعض تلك الظواهر.

الجواب عن المؤيد الثاني: إقدامهم علي القتل و شرب السم

وأما أنهم لا يعلمون بما يجري عليهم، ولو علموا لم يقدموا، لأنه من الالقاء في التهلكة، فهو ينافي صريح الأخبار عنهم في هذا الشأن وأنهم أقدموا علي علم ويقين. فهذا الصادق عليه السلام يقول: أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلي ما يصير: فليس ذلك بحجة لله علي خلقه). وهذا الكاظم عليه السلام، كيف أعلم السندي والقضاة عن سقيه السم وعما ستتقلب عليه حاله إلي ساعة موته. [ صفحه 74] وهذا الرضا عليه السلام: كيف أجاب السائل الذي طرأت عليه الأوهام والشكوك في حادثة أمير المؤمنين عليه السلام. حين قال له: إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه. وقوله لما سمع صياح الأوز في الدار: (صوائح تتبعها نوائح) وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار، وأمرت غيرك أن يصلي بالناس؟ فأبي عليها وكثرة دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم قاتله بالسيف، كان هذا يجوز أو يحل تعرضه؟ فقال الرضا عليه السلام: ذلك كان كله، ولكنه خير تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عز وجل). وهكذا كان الجواب منهم عليهم السلام عن شأن حادثة الحسين عليه السلام [19] إلي كثير من أمثال هذه الأحاديث والأجوبة. ولكن أجمعها لرفع هاتيك الشبه، وأصرحها

في الغرض خبر ضريس الكناسي، فإنه قال: سمعت أبا جعفر يقول وعنده أناس من أصحابه: (عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (ص) ثم يكسرون حجتهم، ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقنا ويعيبون ذلك علي من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا أترون أن الله تبارك وتعالي افترض طاعة أوليائه علي عباده، ثم يخفي عنهم أخبار [ صفحه 75] السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم). فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله عز ذكره وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتي قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: (يا حمران إن شاء الله تبارك وتعالي قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه علي سبيل الاختيار) وفي نسخة الاختيار) ثم أجراه، فبتقدم علم إليهم من رسول الله (ص) قام علي والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منا. ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل، وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك، وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذا لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم [20] . وحقا ألا تذهب بالعارف البصير المذاهب يمنة ويسرة، بعد هذا البيان الجلي والحجة

الناصعة، علي أن في حجج العقل السابقة، كفاية [ صفحه 76] وقناعة، كيف والأحاديث عنهم في أمثال هذا حجة لا تحصي وكثيرة لا تستقصي.

الجواب عن المؤيد الثالث: الغلو

ليس كلما يستعظمه المرء يكون غلوا، وكلما يستكبره الإنسان يكون خروجا عن الحد الأوسط، وإفراطا في الاعتقاد. إن الغلو إنما يكون فيما إذا استلزم القول والاعتقاد فيهم إخراجهم عن ناموس البشر، وجعلهم أربابا، أو شركاء للخالق الرازق سبحانه في خلق أو رزق، أو ما سواهما مما اختص به الله جل شأنه. ومهما اعتقدنا فيهم من سعة العلم، أو ما سوي ذلك من الصفات الغالية، فلا نعتقد فيهم إلا أنهم بشر مخلوقون مربوبون مرزوقون علي سنن سائر البشر. وأما الاعتقاد فيهم بأن الله منحهم مواهب جليلة، وصفات نبيلة، لا يبلغ مداها ولا يعرف كنهها، فليس من الغلو في شئ إذ لا يلزم من ذلك خروجهم عن البشرية، أو مشاركتهم لله سبحانه في شئ من صفاته الخاصة. ومهما اعتقدنا فيهم من شئ فلا نبلغ فيه مراقيهم القدسية الرفيعة ولو لم يعلموا أننا لا نصل إلي تلك الرتب السامية التي يعرفونها لأنفسهم، لما قالوا لنا: نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم). [ صفحه 77] لعلمهم بأننا مهما سبق لنا فيهم من قول وكان دون القول في الله الخالق تعالي، فلا يكون خروجا عن مستواهم وغلوا فيهم. [ صفحه 81]

المؤيدات لعلمهم الحضوري

اشاره

ثم إن هناك مؤيدات للقول بحضور علمهم وصحة الجمع بين أدلة الجانبين، وتأويل النافي منهما، علي نحو ما سبق، وهي أمور جمة نستطرد شيئا منها.

علمهم منة منه و هي تقضي بالحضوري

إن مما امتن به سبحانه علي النبي وأهل بيته عليهم السلام، العلم سوي ما منحهم به من سائر الصفات الكمالية، والفضائل العظيمة، وإن مقتضي الامتنان والمنحة من ذلك القادر الذي لا يعجزه شئ أن يكون علمهم حضوريا، وتقييده بالإشاءة والإرادة خلاف التعميم بالمنة، ولأي شئ لا تكون منته عليهم علي قدر ما كانوا عليه من الملكات القدسية، وعلي قدر تفضله وألطافه.. أفهل تحد قدرته ولطفه وفضله.

ان سائر صفاتهم غير مقيدة

إن الله جل لطفه منح النبي وأوصياءه (ع) بصفات جليلة ومواهب سنية لا تجاري ولا تباري، ولم يجعل لتلك الخصال الجمة حدا ولا قيدا، ولم يحصرها علي دائرة، ولم يقصرها علي زمن. فلأي وجه إذا نقصر علمهم دونها. ونحصره في دائرة خاصة سواها؟ فلو كان استعظام علمهم واستكبار شأنه، حدا ببعض الناس إلي تضييق [ صفحه 82] دائرته ضيقا منهم، وعدم تحمل منهم لتلك السعة، فلم لا يكون ذلك أيضا حاملا لهم علي تحديد سائر صفاتهم، وتضييق خصالهم.

الحضوري أبعد عن عصيان الناس وأقرب إلي طاعتهم

إن الناس لو علموا بأن الإمام يعلم سرهم ونجواهم، وما يقترفون من عصيان ويأتون من طاعة، وأنه يستطيع علي إخبارهم بالشأن، وردعهم عن الموبقات إذا أصابوها، وحثهم علي ازدياد الطاعات إذا ارتكبوها، لكان ذلك أبعد عن عصيانهم، وأقرب منهم إلي الطاعة.

حاجة الناس إلي عالم حاضر العلم

إن الناس في حاجة إلي عالم يكشف لهم عما يعلمون ليقربهم إلي الطاعة، ويبعدهم عن المعصية. ولما كان النبي وأوصياؤه أهلا لأن يمنحهم الجليل تعالي بتلك الكرامة، والناس في حاجة لها، فلأي شئ لا يفيض عليهم ذلك الغمر، مع عدم المفسدة في ذلك الفيض، بل ووجود المصلحة به...؟

الحضوري ممكن و قام الدليل عليه

لا ريب في أنه من الممكن أن يكون علمهم حضوريا، إذ لا دليل [ صفحه 83] يدل علي امتناعه. فأي مانع من الذهاب إليه والزعم به، وقد قامت البراهين المتضافرة، والحجج المتكاثرة، علي صدوره ووقوعه، علي ذلك النحو من الحضور، وذلك السمت من الحصول، فإن ركني الوجوب في القول به - وهما الإمكان والوقوع - قد وجدا ولمسا عن يقين وخبرة، فأي مانع بعد أن اتفق الركنان. من الاعتقاد بالحضوري والمصير إليه.

لو لم يكن علمهم حاضرا لجاز إن يوجد من هو أعلم منهم

لو قلنا بأن علمهم غير حاضر لديهم، لجاز أن يكون هناك من هو أعلم منهم بالأمر الذي يقع أو يسألون عنه. ولا يجوز أن يكون أحد أعلم من الإمام في وقته في شئ من الأشياء. أما استلزم عدم الحضوري وجود الأعلم فأمر بديهي، وذلك لأن جزئيات الموضوعات الخارجية لا بد وأن يكون هناك من يعرفها كبنوة زيد لعمرو، أو زنا خالد بهند. فلو سئل الإمام عنها، وكان غير عالم بها واتفق وجود العالم بها، فقد وجد حينئذ في الناس الأعلم من الإمام ولو في الموضوعات الخارجية.

جهلهم يستلزم السهو والنسيان وغيرهما أحيانا

إننا لو قلنا بأنهم لا يعلمون بالموضوعات الصرفة، لجاز عليهم [ صفحه 84] السهو والنسيان فيها، بل لوقع منها قطعا، بل لجاز عليهم أيضا حرمان المستحق وأعطاه من لا يستحق، بل لكثر منهم الخطأ في الشؤون الخارجية، وتقويت الواقع أحيانا، لأن هذه شؤون لازمة للجهل لا محالة، ولا ينفك عنها البشر. وآي منقصة أكبر من ذلك للإمام، وهو المنزه عن النقائص. ولو كان ذلك واقعا منهم، لحكي ونقل علي طول الزمن وكثرة، الأئمة وللزم من حدوث هاتيك الأمور منهم المفاسد الكثيرة، واختلال بعض النظام، إلي ما لا يحصي من النقائص والمفاسد، لو جوزنا علي الإمام الجهل.

جهلهم يستلزم الحاجة للناس

لا شك في أنهم يكونون محتاجين إلي الناس في معرفة الموضوعات الصرفة لو قلنا بأنهم غير عالمين بها، لاحتياج الجاهل إلي العالم فيما يجهل، وكيف يحتاجون إلي تعليم أحد، وهم في غني عن البشر في العلم، وكيف يكون حجة علي من هو أعلم منه، وعلي من هو معلمه. فهو مع استلزام وجود الأعلم، واحتياجه إلي المعلم سقوط حجيته عليها، ولا بد أن يكون الإمام الحجة علي كل أحد وقوله الفصل في كل شئ. وهذا لا يجامع الجهل. [ صفحه 85]

جهلهم يستلزم أمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر، الجهل لازمه فعل ما يجب معه القصاص

وهذا أيضا من لوازم الجهل، إذ يجوز عليهم الخطأ في الأقوال والأعمال مع الناس. فلو كان الإمام مبسوط اليد وضرب من لا يستحق الضرب، أو اقتص ممن لا يجب عليه القصاص، لو جب أن يطيع للاقتصاص منه، وكيف يكون إمام وللناس أن يقتصوا منه، ويكون لهم عليه حق في ماله أو بدنه. وهذا بعض المؤيدات للعلم الحضوري واستلزام الجهل بالموضوعات الصرفة، من اللوازم التي ينزه عنها الإمام. جملة القول: وجملة القول إنه لو لم يرد عن الأئمة الميامين، ما يشهد لعلمهم الحضوري من الأفعال والأقوال والآثار والأخبار، لكان في حكم [ صفحه 86] العقل دلالة كافية، وبرهان نير، فإن العقل يري أن اللطيف جل شأنه يجب عليه أن يجعل حجة بينه وبين عباده، يقوم بتبليغ أحكامه، وبيان نظامه، وذلك الحجة جامع لجميع صفات الكمال، وعار عن جميع خصال النقص، ولا يكون فيه ما يجعله عرضة للانتقاص، ومسرحا للتوهين ومحلا للانتقاد. بل يجب أن يكون المنزه عن النقائص في الخلق والخلق، ليصلح أن تقوم به الحجة، ولا تكون لأحد عليه حجة أو تطاول في فضل أو علم. وأين هذا من القول بجهلهم بالموضوعات الصرفة التي

تؤول بهم إلي تلك اللوازم السيئة، والأعمال الممقونة؟ وكيف تنفق تلك الخلال اللازمة مع أغراض ذلك الحكيم اللطيف، والطاف ذلك القدير العليم. وكيف يأمر جل شأنه، باتباع من يجوز الخطأ والغلط، ويحذر من يخالفه من لا يؤمن عثاره؟ وكيف يوجب الطاعة والتسليم لمن يسوغ سهوه ونسيانه، والفشل بجهله، ويزجر عن الاعتراض علي من يخاف من سقطاته، ويخشي من هفواته...؟ أفيجوز علي الحكيم أن ينصب علما للناس من هاتيك شؤونه، وهذه صفاته؟؟. [ صفحه 89]

شبهات بعض القائلين بعدم العموم والرد عليها

اشاره

هناك بعض الشبهات لبعض الأعلام، دعتهم إلي القول بعدم التعميم لعلمهم وعدم الحضورية له في الجميع، أحببنا سطرها، وبيان ما فيها، لئلا تبقي شبهة في المقام لم نقم بدفعها، وإبداء الملاحظة عليها.

سهو النبي رحمة للأمة

علل الشيخ الصدوق طاب ثراه في فقيهه في كتاب الصلاة: (باب السهو) بأن سهو النبي (ص) ليس كسهونا من الشيطان، بل هو إسهاء من الرحمن، لمصلحة الترحم علي الأمة، لئلا يعير المسلم الساهي والنائم عن صلاته، ولئلا يتوهم فيه الربوبية، وليعلم الناس حكم السهو متي سهوا. وجوابه: أولا - بأن سهو النبي (ص) منقصة له، ويشين عليه، ولا يدفع العار عن الناس، بما يجلب العار إلي سيد الرسل صلي الله عليه وآله المنزه عن كل نقص. وثانيا - بأن المناقص في الناس كثيرة في الأخلاق الخلقة، فمقتضي هذه العلة أن يجعل الله تلك المناقص فيه دفعا للعار عن الناس فيجعله سئ الخلق فظا غليظا أعرج أعور أشل أفطح، إلي ما سوي ذلك، حتي لا يعير أحد من الناس فيه شئ من الأخلاق السيئة والنقصان في الخلقة. [ صفحه 90] وثالثا - بأن السهو منقصة فيه ذاتية، ولا يتدارك هذه المنقصة دفع العار عن الناس، لأن الأعمال تابعة لمصالحها ومفاسدها الشخصية. ورابعا بأن رفع توهم الربوبية لا ينحصر في السهو والنوم، بل له طرق أخري، من يغويه الشيطان فيوقعه في حبائل هذا الزعم، فلا يمنعه دعوي السهو والنوم، كما أنه ما منع من قال بهذه المقالة نسبة السهو والنوم إليه صلي الله عليه وآله. وأما معرفة حكم السهو من فعله فالبيان فيها أفصح، والتعليم بها أوضح، وبه غني عن فعله، ولربما لا يغني عن البيان في اللفظ.

التفضيل بين سهو النوم وغيره، فيجوز في الأول دون الثاني

حكي عن الشيخ المفيد أعلي الله مقامه في الرد علي الصدوق في كلامه السالف التفصيل بين السهو في العبادة الناشئ عن غلبة النوم حتي يخرج الوقت فيقضيها بعده، فيجوز عليه، وبين السهو الناشئ عن غير النوم، فلا يجوز

معللا ذلك بأنه نقص عن الكمال الإنساني وعيب يمكن التحرز عنه، وهذا بخلاف النوم، لأنه ليس بنقص ولا عيب، إذ لا ينفك عنه بشر. وجوابه: بأن الفرق بين السهوين - إن كان النقص والعيب - فهو جاز في السهوين، لأن النوم عن الصلاة المفروضة، والسهو في الصلاة الواجبة: نقص في الإنسان ذي الدين والفضيلة، فكيف [ صفحه 91] بسيد الرسل وإمام الأمة؟ وإن كان النص فإنه مردود لمنافاته لحكم العقل وللنصوص الكثيرة الصريحة: علي أنها تعارض ما دل علي أن الإمام تنام عينه ولا ينام قلبه، فهو إذا كالتارك عن عمد، بعد أن كان يقظان القلب وشاعرا بالوقت.

لو كانوا يعلمون الموضوعات للزم سد باب معاشهم ومعاشرتهم

إنك علي جبر بما تقوم به السوق من الكذب والسرقة، وتقلب النقود المغصوبة فيه بأيدي الناس، وبوجود النجاسة الواقعية في الناس، وبإرتكابهم للمحرمات، ولو كانوا حاضري العلم لسد عليهم باب المعاش والمعاشرة، لمخالفة الظاهر للواقع، ولوجب عليهم ردع المرتكب للمحرمات في السر والعلن، أو إقصاؤهم عنهم، ولا نجدهم كانوا علي هذا مع الناس في المعاش والمعاشرة. والجواب أولا: إن معاملتهم بالأمارات الظاهرية مع الناس لا يستلزم عدم علمهم بالواقع، إذ لا يجوز أن يكون تكليفهم في العمل علي الظاهر، وإن خالف ما علموه، لعدم إمكانهم أن يعملوا مع الناس بما علموا. وثانيا: أنهم يعملون بما يعملون، ومن الذي أعلمنا بأنهم لا يقدرون علي العمل بالواقع؟ ولم كان باب المعاش والمعاشرة يسد عليهم، وهم بتلك القدرة التي من الله تعالي عليهم؟ نعم! لم تكن [ صفحه 92] معاملاتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الناس علي الواقع، لعدم قدرتهم علي تنفيذ الأحكام الإلهية، سوي من كان يمت إليهم بالولاء فإنهم كانوا يردعونهم عن المنكرات، وإن عملوها

في الخفاء، ومن سبر شيئا من أحوال الأئمة عليهم السلام عرف هذا الأمر... ولو كانت معاملاتهم جارية علي الظاهر دون العلم، لاتفق لهم الخطأ والسهو، ولانكشفت لهم المخالفة لأعمالهم، مع أنه لم يتفق لهم ذلك طيلة أيامهم.

قبح العلم الفعلي أحيانا بالموضوعات

لو كان علمهم بالموضوعات فعليا دوما، لقبح أحيانا بعضه، كالعلم بفروج النساء حال الجماع. وجوابه: بأن العلم بالقبيح والمنكر والمستهجن ليس بقبيح ذاتا، وإلا لكان علم العلام تعالي بالأمور القبيحة قبيحا، بل وخلقه لآلات التناسل قبيحا، وللحيوانات النجسة العين - كالكلب والخنزير - قبيحا: نعم! إنما بقبح تعلم القبيح، والاستعلام والتجسس عنه، وارتكابه ومن ثم اشتبه هذا علي ذي الشبهة، فحسب أن العلم بالقبيح أيضا قبيح. [ صفحه 93]

الاصل عدم علمهم الفعلي

إن علمهم كوجودهم حادث ومسبوق بالعدم، فالأصل بقاؤه علي ما كان وإنما خرج عن الأصل ما تيقن بالدليل، وهو ما كان بالإشاءة وجوابه: بأن المدار علي هذا العرض علي إفادة الدليل، وقد سبق أن الدليل عقلا ونفلا شاهد علي فعلية علمهم وحضوره، علي أن مثل هذه الأصول مقطوع استمرارها للقطع بحدوث علم لهم، كما انقطع أصل الوجود بحدوث الوجود.

لو كان علمهم حاضرا للغي نزول جبرائيل

اشاره

إن نزول جبرائيل بالوحي والآيات، وإخباره بالحوادث والكائنات، دليل قطعي علي عدم فعلية علم النبي، إذ لو كان فعليا لما احتاج إلي مجئ جبرائيل، وغشيانه بالوحي، وإعلامه بالحوادث، ويؤيده قوله تعالي (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) فإن نزول الملائكة والروح علي النبي أو علي الإمام بعده في ليلة القدر وإتيانهم بكل أمر يحدث في تلك السنة، شاهد لعدم علمهم بما تأتي به الأيام، لولا تنزل الملائكة والروح. [ صفحه 94] وجوابه أولا: بأن لعلمهم الحاضر منابع يستقون من فراتها، وموارد ينتهلون من معينها، ومن تلك المنابع والموارد غشيان الملائكة عليهم بالوحي والإعلام بالحوادث، وهذا لا ينافي أن يكون علمهم حاضرا، ولحضوره أسباب ودواع. وثانيا: بأن إنزال الملائكة وجبرائيل والروح بالآيات والحادثات، إنما هو لإقامة الحجة وتأييد الدعوة، ومن ثم كان تعدد الأنبياء علي الأمم بل وتعددهم في الوقت الواحد، كما كان لكل واحد منهم آيات عديدة ودلائل أكيدة، تقوم علي صدق دعواه ومن تلك الحجج المقامة علي العباد اشهاده تعالي عليهم بجعل الحفظة والكرام الكاتبين وتسجيلهم كل عمل وقول، مع أنه جل شأنه هو الحفيظ الرقيب والشاهد غير الغائب. ولو أخذنا بما يدعيه الخصم للغي كل هذه البينات، وبطل كل هذه الآيات والحجج والبراهين. وثالثا: بأن مثل هذه الحجج المقامة إنما

تكون لطفا منه بعباده، لتقريبهم إلي الطاعة وتبعيدهم عن المعصية، ولولا ذلك لكان في العقل وإقامته حجة علي العبد، كفاية عن سواه من الدلائل المنصوبة. ورابعا: بأن هذه الدعوي مصادمة للبراهين العقلية والشواهد النقلية، ولا نرفع اليد عن صريح تينك الحجتين، بمجرد الاحتمال [ صفحه 95] والاستبعاد، ولو جهلنا الحكمة في إنزال جبرائيل بالوحي لتأولناه بصريح العقل والنقل. وهذه أقوي الشبه التي أوردوها لدفع العلم الحاضر وأقاموها لتأييد زعمهم بأنه موقوف علي الإشاءة، وقد عرفت الجواب عنها والدافع لها.

زبدة المخض

إن البرهان - العقلي دل - نظرا لحاجة الناس الماسة إلي وجود الهادي بين ظهرانيهم والمصلح لشؤونهم، والحاكم بالعدل بينهم، إلي ما سوي هدا مما يتطلبه صالح أمورهم وفي الدارين -: علي أن الله تعالي يجب عليه لطفا بعباده أن يجعل فيهم - وقد جعل - من يكون العالم بالكائنات كافة، والعلوم والفنون، والمتحلي بأبراد الكمال كلها، حتي يكون الفرد الأوحد في عصره، الصالح للنهضة بالإرشاد والهداية، للعالم، والمضطلع بهذا العبء الباهض، حتي لو كانت له الهيمنة علي الكرة الأرضية برمتها، لاستطاع أن يدبر شؤونها أحسن إدارة، ويدبر أمورها أجمل تدبير كما يقوي علي خصم كل محاجج بالقوة البيانية والآيات الفعلية، ويستطيع الجواب عن مسألة كل سائل، بالكشف عن الحقيقة، وإماطة الستار عن الواقع، ليكون حقا هو الحجة البالغة من الخالق علي الخلق والهادي لهم بعد ذلك الرسول المنذر. [ صفحه 96] وإن النقل قد عاضد هذا البرهان العقلي، وفصل، وأبان غامضه حتي لا يبقي لذي وهم ريب، ولذي مسكة عذر، في الاعتقاد بوجوب وجود ذلك الهادي في الأمة. قد جاءت الأفعال والأقوال ممن تجلبب تلك الصفات الكريمة وفقا لتينك الدلالتين من العقل والنقل، حتي

يتضح للعالم أجمع أن من يجب أن يوجد لطفا منه تعالي بعباده متحليا بهاتيك الخصال الجملية والهبات القدسية، قد أصبح والوجود مفاض عليه، بحيث لو فحص عنه طالب الحق لوجده شخصا مرئيا وقالبا حسبا، لا يحيد عن تلك المزايا الجليلة قيد شعره. ولو قام يخال بأنه برهان علي أن ليس في البشر ممن يجمع هذه الخصال ويتقمص بهذه الصفات، أو أنها ليست بتلك السعة المزعومة. أو العلم منها خاصة، فهو مردود مرفوض، لمخالفته لجهتي العقل والنقل، بل وللوجدان: من فعل الإمام وقوله... فهل بعد هذه الحجج النيرة يصغي إلي شبهة، أو يلتفت إلي زعم... وقعود الناس عن معرفة تلك الحجة البالغة، وسكوتهم عن طلب ذلك الإمام الهادي أو سلوكهم في غير سبيله، بعد سطوع نهجه، ووضوح أمره، لا ينقص من شأنه ولا يحط من كرامته، ولا يبطل حجته، ولا يفسد المصلحة التي من أجلها اختير وجعل إماما، ومن جرائها اصطفي وانتخب. وعدم إظهاره أو تظاهره بذلك العلم المخزون والفيض الغمر [ صفحه 97] أحيانا. حذرا من عدم قبوله أو عدم احتماله، أو خشية من العدو الحاسد وبطشه أو خوفا من غلو الناس وإفراطهم في الدعوة، لا يكون ذلك شاهدا علي عدم الوجدان لذلك العلم أو عدم سعته، وما تحمل الإمام للمصائب والنوائب، وهو القدير علي دفع ما مني به، ورفع ما نزل بساحته، إلا لتأكد الحجة علي الخلق مع ما له من الحجج البالغة، وإلا لدفع أوهام الغلاة، ومزاعم المفرطين في الحب، الذين يخرجون الإمام عن مستوي البشر، ويلبسونه أبراد الأولوهية. وقد كشف عن هذه الغامضة السفير الجليل الحسين بن روح عليه الرحمة وقد سأله سائل قائلا له، أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام

أهو ولي الله؟ قال: نعم. قال الرجل: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله؟ قال نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله تعالي عدوه علي وليه، فقال له ابن روح: إفهم عني ما أقول لك، اعلم أن الله تعالي لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جل جلاله يبعث إليهم رسلا من أجناسهم وأصنافهم بشرا مثلهم، ولو بعث إليهم رسلا من غير صنفهم وصورهم، لنفروا عنهم، ولم يقبلوا منهم، فلما جاءهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتي تأتونا بشئ نعجز أن نأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه. فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التي تعجز الخلق عنها. فمنهم من جاء بالطوفان بعد [ صفحه 98] الإنذار والإعذار، فغرق جميع من طغي وتمرد ومنهم من ألقي في النار، فكانت عليه بردا وسلاما، ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة، وأجري من ضرعها اللبن، ومنهم من فلق البحر وفجر له من الحجر العيون، وجعل له العصي اليابسة ثعبانان تلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيي الموتي بإذن الله وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ومنه من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك. فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله. كان من تقدير الله تعالي ولطفه بعباده وحكمته، أن جعل الأنبياء عليهم السلام مع هذه المعجزات في حال غالبين وفي حال مغلوبين وفي حال قاهرين وفي حال مقهورين، ولو جعلهم الله تعالي في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله

تعالي، ولما عرف فضل صبرهم علي البلاء والمحن والاختبار. ولكنه تعالي جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوي صابرين، وفي حال العافية والظهور علي الأعداء شاكرين، وليكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد بأن لهم إلها هو خالقهم ومدبرهم، فيعبدوه ويطيعوا رسله وتكون حجة الله ثابتة علي من تجاوز الحد فيهم، وادعي الربوبية لهم، أو عاند وخالف وعصي وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل عليه السلام، ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة. قال محدث هذا الحديث (محمد بن إبراهيم بن إسحاق): فعدت [ صفحه 99] إلي ابن روح من الغد، وأنا أقول في نفسي: (أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدرني فقال لي: يا محمد لئن أخر من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحب إلي من أن أقول في دين الله تعالي برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل،مسموع عن الحجة عليه السلام [21] . وهل بعد هذا البيان من عذر أو حجة لمن يزعم بأنهم لا يعلمون علي ما يقدمون، وأن دائرة علمهم ضيقة لا تحيط بالحوادث، ولعمر الحق إن القول بحضور علمهم لا يحتاج إلي كل هذه الحجج والبراهين بل إن البعض مما سلف كاف في الإيضاح عنه والكشف عن نقابه وإزاحة الشبهة فيه غير أن وفور الأدلة دعانا إلي استطراد البعض منها وإن أغني النزر منها.

علم الإمام يجب الاعتقاد به

لما كان نصب الإمام واجبا علي الله جل شأنه من باب اللطف، وكانت معرفته بعد وجوب واجبة أيضا، عقلا ونقلا، كانت تلك المعرفة له يجب أن تكون بشخصه كافة صفاته، بحكم العقل وصراحة

النقل. فإذا وجب هذا كله، وجب أن يكون الإمام أفضل الناس في جميع الصفات الحميدة، وإذا وجب هذا أيضا وجب أن يعتقد من يقول بالإمامة بأن الإمام جامع لصفات الفضل ممتازا بها علي العالم بأسره. [ صفحه 100] ومن تلك الصفات (العلم) وهذا مما لا ينبغي الريب فيه، كما أن البحث في تفصيل هذه الأمور مذكور في كتب الكلام، في أبواب الإمامة، فلا يلزم ذكرها هنا، وإنما الذي يلزم البحث عنه في هذا المقام أمران: الأول: هو أن علم الإمام - بعد وجوب الاعتقاد به - هل يجب علي نحو التفصيل أو يكفي الاجمال. الثاني: إن هذا الاعتقاد ضروري، بحيث يكون من لا يعتقد ذلك منكرا لضروري من الضروريات في الدين. أوليس الأمر كذلك؟ أما الأول: فلم نجد دليلا يرشدنا إلي وجوب الاعتقاد تفصيلا. نعم أقصي ما يدل عليه العقل، هو أن الإمام يجب أن يكون أعلم الناس فإذا وجب هذا، وجب علي القائل بالإمامة الاعتقاد بذلك، لأنه من شؤون الإمامة ولوازمها. ومن أرشده الدليل إلي التفصيل وجب عليه الاعتقاد بما وضح لديه، لأنه من شؤون الإمامة عند ذاك.. وكيف نستطيع أن نقول بوجوب الاعتقاد بالتفصيل مطلقا، والمعرفة التفصيلية متعذرة لمثل النساء والأطفال، بل وعامة الناس. وأما الثاني: ففيه تفصيل، وذلك لأن مثل الصبية والنسوة بل والسواد العام لا يتعقلون في أن علم الإمام، علي نحو ما أشرنا إليه من الضروريات وإن من يتعذر في شأنه فهم الشئ وإدراكه والوصول إلي كنهه كيف يكون اعتقاده به ضروريا نعم إن ذلك إنما يتأتي في شأن الخواص وأهل العلم ومن قام لديه الدليل علي وجوب اتصاف الإمام بتلك الخصال الكريمة، فإن العلم بالنسبة إليه [ صفحه 101]

ضروري وإنكاره شأن إنكار الضروريات في الدين. إن لطف الإمامة إنما هو بما يتحمله الإمام من مسؤولية الهداية والإرشاد، ولا يتحمل تلك المسؤولية، ما لم يكن متقمصا بتلك الصفات الجميلة، فإنكار بعض صفاته التي بها امتيازه إنكار للطف الإمامة، فمن ثم يتضح لديك أن العلم من ضروريات الدين، وإنكاره إنكار للضروري. فلا غرابة إذا لو قلنا بوجوب الاعتقاد بعلم الإمام علي نهج الاعتقاد بسائر صفاته، بل هو أظهرها. كما أن إنكاره للخواص وأهل المعرفة إنكار للطف الإمامة. وكيف لا يكون العلم حينئذ ضروريا لهم خاصة.

العلم بعض صفات الإمام و صفاته أفضل الصفات

إن علم الإمام بعض صفاته القدسية، التي يجب أن يتصف بها الحجة البالغة، ومنار الهدي والرشاد للعالم بأسره. ولا بد أن يكون الإمام في كل صفة نبيلة أفضل أهل عصره، فإنه لو كان في الناس من هو أفضل منه، ولو في بعض الصفات، لما صح أن يكون حجة علي الأفضل، بل ولا المساوي، وما وجبت طاعته علي الناس واستماعهم له، إلا لتقمصه بجلباب الدعوة إليه تعالي، [ صفحه 102] وإرشاده للناس إلي طاعته، وكفهم عن عصيانه، ولا يكون كذلك إلا وهو خير الناس في الناس، ولو كان في الناس مثله أو أفضل منه، ولو من بعض النواحي، لكانت إمامته خاصة ترجيحا بلا مرجح. ولا يخفي علي ذي بصيرة بأن الإحاطة بحقيقة الإمامة، وسبر غورها، ومعرفتها كمعرفة سائر الأمور، شئ غير مطاق لنا، لأن الإمامة والنبوة مظهر لصفات الله تعالي، ومثال لكمالات الخالق سبحانه ومن يحيط خبرا بكماله العظيم وصفاته القدسية.

الامام والإمامة

إن لأبي الحسن الرضا عليه السلام كلاما في الإفصاح عن مقام الإمامة والإمام، والإرشاد إلي بعض فوائدهما ووظائفهما مما ينبئنا عن قصورنا عن إدراك هذه المنزلة والإحاطة بتلك الحقيقة وقد تكلم به عندما خاض الناس في الإمامة بمرو في الجامع يوم الجمعة، وقد حكي له ذلك. ولما كان كلام الإمام هذا دخيلا من بعض الجهات فيما نحن فيه من البحث، أردنا أن نلتقط من عقوده بعض اللئالي الكريمة لتكون مسك الختام. قال عليه السلام: إن الإمامة أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلي مكانا، وأمنع جانبا وأبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم، أو [ صفحه 103] يقيموا إماما باختيارهم. وقال عليه السلام. إن الإمامة منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء إن الإمامة خلافة الله

تعالي وخلافة الرسول (ص). إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين). إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفئ والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحلل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله ويدعو إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة). الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار). الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجي وأجواز [22] البلدان والقفار ولجج البحار). الإمام الماء العذب علي الظمأ والدال علي الهدي والمنجي من الردي). [ صفحه 104] الإمام النار علي اليفاع [23] الحار لمن اصطلي به [24] والدليل في المهالك من فارقه فهالك). الأمم السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الضليلة والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة). الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق والأخ الشفيق والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية [25] أمين الله في خلقه، وحجته علي عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلي الله والذاب عن حرم الله. الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم والموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين وغيض المنافقين وبوار الكافرين. الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره؟ هيهات [ صفحه 105] هيهات ضلت العقول، وتاهت الحلوم وحارت الألباب، وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألباء [26] وكلت الشعراء

وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شؤونه أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير). وكيف يوصف بكله، أو ينعت بكنهه أو يفهم شئ من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه؟ لا وكيف وأني. وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول (ص). ثم قال عليه السلام: (وكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وداع لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة). إلي أن يقول عليه السلام:... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم [ صفحه 106] بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عز وجل، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله). ثم قال عليه السلام: (وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه بذلك ليكون حجته علي عباده، وشاهده علي خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون علي مثل هذا فيختارونه؟ أو يكونمختارهم بهذه الصفة فيقدمونه [27] . هذه لؤلؤة مما زانوا به جيد الدهر من البيان عن مقام الإمامة والإمام، ولم نضع هذه الرسالة الوجيزة للكلام عن الإمام حتي نستوفي النقل لتلك الآيات البينات التي أفصحوا بها عن الإمامة وصرحوا بها عن شأن الإمام، أو نشرح هذه اللؤلوة الغالية الجديرة بالشرح والحقيقة بالإعجاب. وإنما الغرض - الأقصي - كما يرمز إليه عنوان الرسالة - هو البت في علم الإمام وأنه

حضوري - أو موقوف علي الإشاءة والإرادة منه. وما [ صفحه 107] كان الخوض منا في هذا البحر الزاخر إلا علي قدر ما نحسه وتصل إليه مداركنا، وتحكم به عقولنا، وتفهمه من أحاديثهم التي بين أيدينا. وكيف نستطيع أن نحدد الإمام حقا، ونحيط به معرفة، وما ذكر الإمام الرضا عليه السلام إلا بعضا من صفاته، وما هذا القدر مما ذكره الرضا (ع) من شؤون الإمامية بالنسبة إلي مداركنا إلا كما قال عليه السلام: وهو بحيث النجم من يد المتناولين). وكفي برهانا علي ارتفاع ذلك المنار هذه الآية البيانية والمعجزة الكلامية التي أفصحت عن بعض شمائل الإمام وصفات الإمامة، فإنها دلالة من الإمام علي الإمامة وعلامة بينة منه عليه، بل وأمارة قائمة علي بعد ذلك المنال عن أبصارنا وبصائرنا. وما معرفتنا به إلا علي قدر ما نلمسه من آثاره ونقرأه من أخباره، نسأله جل شأنه أن يعرفنا نفسه، لنعرف بذلك رسول الله (ص)، وأن يعرفنا رسوله لنعرف بذلك حجته، وأن يعرفنا حجته لنهتدي لدينه ولا نضل عن سبيله، إنه خير مسؤول، وأكرم مجيب، وهو ولي التوفيق والهداية. كان الفراغ من تسويد هذه الرسالة صبح الاثنين الثالث عشر من صفر الخير أحد شهور السنة الواحدة والستين بعد الألف. والثلثمائة هجرية علي مهاجرها أفضل الصلاة والتحية. إنتهي

پاورقي

[1] الكافي كتاب الحجة باب إن الأئمة (ع) ولاة الله وخزنة علمه وباب أن الأئمة أركانالأرض إلي غيرهما من الأبواب.

[2] الكافي كتاب الحجة باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفي عليهمشئ صلوات الله عليهم.

[3] الكافي باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة وباب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدروهم.

[4] الكافي باب أن الأئمة

عليهم السلام معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة وبابإن الأئمة عليهم السلام ورثة العلم يورث بعضهم بعضا العلم.

[5] الكافي باب الأئمة عليهم السلام ورثوا النبي صلي الله عليه وآله وجميع الأنبياءوالأوصياء.

[6] الكافي: باب أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله... الخ.

[7] الكافي: باب إنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمون علمه كله. ولا يخفي أنه أرادالاستشهاد بمعني الآية دون لفظها قوله تعالي: (ونزلنا عليك القرآن تبيانا لكل شئ).

[8] الكافي: باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلي الملائكة والأنبياء والرسل.

[9] كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام.

[10] الكافي: باب ما أعطي الأئمة (ع) من اسم الله الأعظم.

[11] الكافي: باب ما عندهم من آيات الأنبياء عليهم السلام.

[12] الكافي: باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام.

[13] الكافي: كتاب الحجة، باب نادر فيه ذكر الغيب.

[14] أما الخبر الأول فهو في الكافي في كتاب الحجة باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة. وأما الخبر الثاني فهو في الوسائل في أبواب الغسل. وأما الثالث ففي الوسائل أيضافي أبواب التجارة باب تحريم كسب القمار.

[15] الكافي: كتاب الحجة: باب أن الأئمة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئبما له وعليه.

[16] المصدر السابق: باب إنه يجمع القرآن كله إلا الأئمة (ع) وأنهم يعلمون علمه كله.

[17] وصية الصادق (ع) لمؤمن الطاق.

[18] نهج البلاغة.

[19] الكافي: كتاب الحجة: باب أن الأئمة يعلمون متي يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.

[20] الكافي باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفي عليهم شئ صلواتالله عليهم.

[21] إكمال الدين وإتمام النعمة: التوقيعات.

[22] الأجواز جمع جوز: وسط الشئ ومعظمه.

[23] اليفاع: ما ارتفع من الأرض.

[24] لعله

كناية عن احتراق من يريد السوء به أو العداء له.

[25] الناد كسحاب: الداهية ولعل المستفاد من تكرار المعني. الشدة فالمعني إذا الداهية الشديدة.

[26] الألباء جمع لبيب: العاقل.

[27] راجع الكافي: كتاب الحجة باب نادر في فضل الإمام.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.