روية الله بين التنزيه والتشبيه

اشارة

عنوان : روية الله بين التنزيه والتشبيه
موسسه تحقيقات و نشر معارف اهل البيت (ع)

مقدمة

البحث مستلّ وبنحو ملفق من كتاب رؤية الله لآية الله الشيخ جعفر السبحاني، وكتاب كلمة في الرؤية للعلاّمة السيد عبدالحسين شرف الدين، وكتاب الملل والنحل للشيخ السبحاني وكتاب العقائد الإسلامية ج2. تعتبر مسألة رؤية الله من المسائل الكلامية المهمة التي حظيت بنطاق واسع من البحث والتحقيق والأخذ والرد بين المسلمين منذ الصدر الأوّل للإسلام وحتي الآن، وذلك لما لها من مدخلية كبيرة في أصل قضية التوحيد من جهة، وإلحاح العقل في استيضاحها من جهة ثانية، ولعلّ أهميتها في هاتين الجهتين جعلها عرضة للتأثر السلبي بالتراث اليهودي من جهة، والمشارب الفلسفية من جهة ثانية، بحثاً عن أسباب إضافية تستكمل بها حاجتها الي الاشباع الكافي. وهذه الدراسة عبارة عن محاولة لتسليط الأضواء علي هذه المسألة، ورائدنا فيها هو البحث عن الحقيقة التي يثبتها العقل ويدلّل عليها النقل. وقبل أن ندخل في صميم البحث، لابدّ لنا من التنويه بأنّ مسألة الرؤية تتداخل مع مسألة التجسيم تداخلاً صميمياً، وليس بإمكاننا الفصل بين المسألتين، ولذا فدراستنا هذه تتناولهما معاً في آن واحد، لأجل التلازم القائم بينهما الذي يجعل البحث في أيٍّ منهما بحثاً فيهما معاً، وإن كان العنوان مقتصراً علي واحد منهما فقط.

الاتجاهات والآراء في مسألة الرؤية

لقد تشتتت الآراء والاتجاهات في هذه المسألة حتي بلغت حد الافراط، بحيث إنّك حينما تطالع كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري تجده يعرض في هذه المسألة تسعة عشر رأياً. فقد كتب يقول: «واختلفوا في رؤية البارئ بالأبصار علي تسع عشرة مقالة ; فقال قائلون: يجوز أن نري الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات. وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه. وأجاز كثير ممّن أجاز رؤيته في الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم، وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك، حُكي ذلك عن بعض أصحاب مضر وكهمس. وحُكي عن أصحاب «عبدالواحد بن زيد» أنّهم كانوا يقولون: إنّ الله سبحانه يري علي قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن. وقد قال قائلون: إنّا نري الله في الدنيا في النوم فأمّا في اليقظة فلا. ورُوي عن رَقَبة بن مَصقلة أ نّه قال: رأيت ربّ العزّة في النوم فقال: لأكرمنّ مثواه ـ يعني سليمان التيمي ـ صلّي الفجر بطُهر العشاء أربعين سنة. وامتنع كثير من القول إنّه يُري في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه، وقالوا: إنّه يُري في الآخرة. واختلفوا أيضاً في ضرب آخر، فقال قائلون: نري جسماً محدوداً مقابلاً لنا في مكان دون مكان. وقال زهير الأثري: ذات الله عزّ وجلّ في كل مكان وهو مستو علي عرشه ونحن نراه في الآخرة علي عرشه بلا كيف، وكان يقول: إنّ الله يجيء يوم القيامة الي مكان لم يكن خالياً منه، وأ نّه ينزل الي السماء الدنيا ولم تكن خالية منه. واختلفوا في رؤية الله عزّ وجل بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا؟ فقال قائلون: هي إدراك له بالأبصار وهو يُدرك بالأبصار. وقال قائلون: يُري الله سبحانه بالأبصار ولا يُدرك بالأبصار. واختلفوا في ضرب آخر: فقال قائلون: نري الله جهرة ومعاينة، وقال قائلون: لا نري الله جهرة ولا معاينة. ومنهم من يقول: اُحدّق إليه إذا رأيته، ومنهم من يقول: لا يجوز التحديق إليه. وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد: إن الله لا يُري بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا هذه فندركه بها، وندرك ما هو بتلك الحاسّة. وقالت البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُري فيها ويكلّم خلقه منها. وقال الحسين النجّار: إنّه يجوز أن يحوّل الله العين الي القلب، ويجعل لها قوّة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤيةً له، أي علماً له. وأجمعت المعتزلة علي أنّ الله لا يُري بالأبصار واختلفت هل يري بالقلوب؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: إن الله يري بقلوبنا بمعني إنّا نعلمه بها، وأنكر ذلك الفوطي وعبّاد. وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية: إن الله لا يُري بالأبصار في الدنيا والآخرة، ولا يجوز ذلك عليه. واختلفوا في الرؤية لله بالأبصار ـ هل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محال ـ علي مقالتين: فقال قائلون: يجوز أن يُري الله سبحانه في الآخرة بالأبصار وقال(؟) نقول: إنّه بتاتاً وقال(؟) نقول: إنّه يري بالأبصار. وقال قائلون: نقول بالأخبار المرويّة وبما في القرآن أ نّه يُري بالأبصار في الآخرة، بتاتاً يراه المؤمنون. وكل المجسمة إلاّ نفراً يسيراً يقول بإثبات الرؤية، وقد يُثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم» [1] . هذا ما قاله أبو الحسن الأشعري، ولكننا يمكننا أن نرجع بعض الآراء الي بعض ونختصرها جميعاً في ثلاثة اتجاهات أساسية هي: 1 ـ اتّجاه يقول بإمكان الرؤية الحسّية في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المجسّمة الذين جعلوا الله سبحانه وتعالي علي صفة سائر مخلوقاته من حيث الجسمية، فلما جعلوه جسماً كسائر الأجسام كان من الطبيعي أن يؤمنوا برؤيته كما يحصل ذلك لأي جسم آخر بلا فرق بين الدنيا والآخرة. 2 ـ واتّجاه آخر حاول التوسط فمنع الرؤية في الدنيا وأجازها في الآخرة مع نفي الكيفية، وهو رأي الجمهور المتمثل بأهل السنّة والجماعة من أتباع المذاهب الأربعة الذين حاولوا التخلص من التجسيم مع الاحتفاظ بالرؤية بهذه الكيفية. 3 ـ واتّجاه ثالث آمن باستحالة الرؤية في الدنيا والآخرة، وهو ما عليه المعتزلة والإمامية وآخرون. فالأوّل تجسيم محض، والثالث تنزيه محض، والثاني متوسط بينهما حاول أن يأخذ من كل طرف طرفاً. ولابدّ من التذكير هنا بأن البحث كل البحث يقع في الرؤية البصرية، أما ما يتحدث عنه الوالهون بحب الله سبحانه وتعالي من الرؤية القلبية الوجدانية فخارج عن محل البحث، كقول الإمام علي(عليه السلام): «ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وفيه وبعده» [2] ،أو قول الإمام الحسين(عليه السلام): في دعاء عرفة: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً» [3] .

منهج البحث

وقبل أن نخوض في المسألة واتّجاهاتها الثلاثة لابدّ لنا من التذكير بنقطة مهمة وهي أن طريق النفي والإثبات في هذه المسألة منحصر بالعقل، وليس للنصوص الشرعية إلاّ دور الكشف عن حكم العقل فيها، لبداهة أن حجية النصوص الشرعية لا تتم إلاّ بعد اثبات أصل التوحيد والمسائل المتعلقة به، ولو جعلنا النصوص الشرعية هي الحجة في المسائل التوحيدية للزم من ذلك الدور، ولتوقفت حجية النصوص الشرعية علي نفسها وهو باطل، ولافتقرت الي دليل يثبتها، ولتعطلت بذلك حجيتها، ولم يعد بوسعنا اثبات أيّ شيء بها، ولا تكون حينئذ حجة لا في مسألة شرعية ولا عقائدية. نعم، إذا أجاز العقل صفة معينة في مرحلة الثبوت ولم يدلّل علي اتّصاف أو عدم اتّصاف التوحيد بها في عالم الإثبات احتجنا الي الشرع في اثباتها أو نفيها عن الله سبحانه وتعالي، وهذا انّما يصح في مرحلة الإثبات بعد اجازة العقل في مرحلة الثبوت، وفيما عدا ذلك تناقش أدلّة السمع بما هي كاشفة عن حكم العقل ومتطابقة معه ومشيرة إليه، وإذا وجد ظاهر من ظواهر الكتاب والسنّة يتقاطع مع دليل عقلي قطعي في مسألة توحيدية فاللازم حينئذ تأويل هذا الظهور بنحو يرفع التقاطع بينهما، وهذا التأويل لا يعني التصرف الكيفي في معاني الكتاب والسنّة، وإنّما يعني البحث عن المعني الصحيح بالطريقة التي أمرنا القرآن الكريم أن نبحث بها عن معانيه التي يقصدها هو. وذلك في قوله تعالي: (هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هنّ اُم الكتاب واُخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ اُولوا الألباب) [4] . فهناك تأويل كيفي مرفوض، وآخر منهجي يسير طبق ضوابط معينة هدفه منع التصرف الكيفي بظواهر القرآن واتّباع الطريقة القرآنية في التوصل الي المعاني التي يقصدها. ومن هنا يمكننا أن نناقش القاضي عبدالجبار في قوله: «ويمكن أن نستدل علي هذه المسألة بالعقل والسمع جميعاً، لأن صحة السمع لا تقف عليها، وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن ولهذا جوّزنا الاستدلال بالسمع علي كونه حياً لما لم تقف صحة السمع عليها، يبيّن ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعاً حكيماً وإن لم يخطر بباله أ نّه هل يُري أم لا؟» [5] . فإنّ المعيار في المسألة ليس عدم خطور الرؤية في الذهن لدي الاعتقاد بوجود صانع للعالم، فإنّ الذهن لدي انشغاله بجهة معينة قد ينصرف عن جهة اُخري ملازمة لها، ومثل هذا الانصراف لا يكون دليلاً علي عدم تلازم الجهتين، إنّما الدليل يظهر حينما يلتفت العقل الي الجهة الثانية، ويصدر حكمه بالتلازم وعدم التلازم مع الجهة الاُولي، ولو فرضنا أن العقل حكم بتلازم الاُلوهية مع عدم الرؤية وتلازم الجسمية والرؤية مع الممكنات المادية، في مثل هذه الحالة يكون ذلك التلازم العقلي هو الدليل في اثبات عدم جواز رؤية الله، وتكون أدلّة السمع مؤيدة ومؤكدة له وكاشفة عنه، وليست دليلاً مستقلاً عنه ولوفرض وجود ظهورات سمعية معارضة فسوف تعتبر من جملة متشابهات القرآن والسنة التي يجب ارجاعها الي المحكمات، طبقاً لمفروض القرآن الكريم. وحينئذ، إذا اعتقد الإنسان بالصانع الحكيم والتفت الي عدم جواز رؤيته عقلاً، اصبحت صحة السمع متوقفة علي مسألة الرؤية، ولم يعد بالإمكان الاستدلال علي الرؤية بالسمع والأدلّة السمعية من الكتاب والسنّة بنحو مستقل عن العقل وحكمه بعدم جواز الرؤية.

ادلة الاتجاه الأول القائل بالتجسيم والرؤية

وأصحاب هذا الاتجاه هم المجسمة القائلون بأنّ الله سبحانه وتعالي جسم كسائر الأجسام قابل للرؤية والمشاهدة في الدنيا والآخرة، مع التشبيه والتكييف، وليس بين أيدينا الآن مصادر محايدة تذكر أصحاب هذا الاتجاه وتراثهم الفكري، وإنّما هناك نقولات وذكر لبعض أسمائهم في مصادر غيرهم، كما مرّ في كلام الأشعري عن مضر و كهمس. والظاهر أنّ هذا الاتجاه قد اندحر بصورة مبكرة بعدما اتّضح بطلانه ومخالفته الصريحة للعقل والوجدان والكتاب والسنة، وقد بلغ بالقبح حدّاً بحيث أصبح أصحاب الاتّجاه الثالث القائل بالتنزيه يرمي أصحاب الاتّجاه الثاني بالتجسيم والتشبيه، وإن كان هؤلاء يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ويعلنون براءتهم من التجسيم ويقولون بنفي الكيفية عن الله سبحانه وتعالي. فنجد في بعض المؤلفات أسماء أشخاص ينسبون الي التجسيم، وحينما تطالع آراءهم تجدهم يقولون بنفي الكيفية ويعتبرون ذلك كافياً لنفي التجسيم عنهم والحاقهم بالتنزيه، بينما يصر أهل التنزيه علي ادراجهم في قائمة المجسمة اعتقاداً منهم بأنّ نفي الكيفية لا يكفي في نفي التجسيم كما سنري ذلك تفصيلاً فيما بعد. ولم أعثر علي مصدر يبين أدلة الاتّجاه الأوّل فيما ذهب إليه من القول بالتجسيم الصريح سوي وجوه ذكرها الباقلاني المتوفي سنة (403 هـ) في كتابه تهميد الأوائل وتلخيص الدلائل، دون أن يذكر مصدرها، بصيغة إن قالوا قلنا، أو قيل لهم، ولا نعلم هل أنها مذكورة في تراثهم فعلاً وقد عثر عليها ونقلها عنهم، أم أنها وجوه افتراضية ذكرها لنقض كل المداخل المحتملة لاثبات الجسمية؟ فقد كتب يقول: «إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسماً؟ قيل له: لما قدّمناه من قبل وهو أن حقيقة الجسم أنّه مؤلف مجتمع، بدليل قولهم: رجل جسيم وزيد أجسم من عمر، وعلماً بأنهم يقصرون هذه المبالغ علي ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول ولا يوقعونها بزيادة شيء من صفات الجسم سوي التأليف، فلما لم يجز أن يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً وكان شيئاً واحداً ثبت أنه تعالي ليس بجسم. فإن قالوا: من أين استحال أن يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً؟ قيل لهم: من وجوه: أحدها: أن ذلك لو جاز عليه لوجب أن يكون ذا حيِّز وشغل في الوجود، وأن يستحيل أن يماسّ كلّ بعض من أبعاضه وجزء من أجزائه غير ما ماسّه من الأبعاض وأجزاء الجواهر أيضاً من جهة ما هما متماسان، لأن الشيء المماس لغيره لا يجوز أن يماسّه ويماسّ غيره من جهة واحدة وليس يقع هذا التمانع من المماسة إلاّ للتحيّز والشغل، ألا تري أن العرض الموجود بالمكان إذا لم يكن له حيّز وشغل لم يمنع وجوده من وجود غيره من الأعراض في موضعه؟ وإذا ثبت ذلك، وجب أن تكون سائر الأبعاض المجتمعة ذا حيّز وشغل، وما هذه سبيله فلابدّ أن يكون حاملاً للأعراض ومن جنس الجواهر والأجسام، فلما لم يجز أن يكون القديم سبحانه من جنس شيء من المخلوقات، لأنه لو كان كذلك لسد مسدّ المخلوق وناب منابه واستحق من الوصف لنفسه ما يستحقه ماهو مثله لنفسه، فلما لم يجب أن يكون القديم سبحانه مُحدثاً والمحدث قديماً ثبت أنه لا يجوز أن يكون القديم سبحانه مؤتلفاً مجتمعاً. ويدلّ علي ذلك أيضاً أنه لو كان القديم سبحانه ذا أبعاض مجتمعة لوجب أن تكون أبعاضه قائمة بأنفسها ومحتملة للصفات ولم يخل كل بعض منها من أن يكون عالماً قادراً حياً أو غير حي ولا عالم ولا قادر، فإن كان واحد منها فقط هو الحي العالم القادر دون سائرها وجب أن يكون ذلك البعض منه هو الإله المعبود المستوجب للشكر دون غيره، وهذا يوجب أن تكون العبادة والشكر واجبين لبعض القديم دون جميعه، وهذا كفر من قول الاُمّة كافة، وإن كانت سائر أبعاضه عالمة حية قادرة وجب جواز تفرّد كل شيء منها بفعل غير فعل صاحبه، وأن يكون كل واحد منها إلهاً لما فعله دون غيره، وهذا يوجب أن يكون الإله أكثر من اثنين وثلاثة علي ما تذهب إليه النصاري، وذلك خروج عن قول الاُمّة وكل اُمّة أيضاً علي أن ذلك لو كان كذلك لجاز أن تتمانع هذه الأبعاض ويريد بعضها تحريك الجسم في حال ما يريد الآخر تسكينه، فكانت لا تخلو عند الخلاف والتمانع من أن يتم مرادها أو لا يتم بأسرها أو يتم بعضه دون بعض، وذلك يوجب إلحاق العجز بسائر الأبعاض أو بعضها والحكم لها بسائر الحدث علي ما بيّناه في الدلالة علي إثبات الواحد، وليس يجوز أن يكون صانع العالم محدثاً ولا شيء منه، فوجب استحالة كونه مؤلّفاً. فإن قالوا: فكذلك فجوّزوا تمانع أجزاء الإنسان إذا قدر وأراد وتصرف كل شيء منها بقدرة وإرادة غير إرادة صاحبه، قيل له: لا يجب ذلك ولا يجوز أيضاً تمانع الحيين المحدثين المتصرفين بإرادتين وإن كانا متباينين، لقيام الدليل علي أنه لا يجوز أن يكون محلّ فعل المحدثين واحداً، واستحالة تعدي فعل كل واحد منهما لمحل قدرته، والتمانع بالفعلين لا يصح حتي يكون محلهما واحداً، فلم يجب ما سألتم عنه. فإن قالوا: ولِمَ أنكرتم أن يكون الباري سبحانه جسماً لا كالأجسام، كما أنه عندكم شيء لا كالأشياء؟ قيل له: لأن قولنا «شيء» لم يُبنَ لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلّف، ولم يكن ذلك نقضاً لمعني تسميته بأنه شيء، وقولنا «جسم» موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أن قولنا: «إنسان» و«محدَث» اسم لما وُجد عن عدم ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نُثبت القديم سبحانه مُحدَثاً لا كالمحُدَثات وإنساناً لا كالناس قياساً علي أنه شيء لا كالأشياء، لم يجز أن نثبته جسماً لا كالأجسام، لأنه نقض لمعني الكلام وإخراج له عن موضوعه وفائدته. فإن قالوا: فما أنكرتم من جواز تسميته جسماً وإن لم يكن بحقيقة ما وُضع له هذا الاسم في اللغة؟ قيل لهم: أنكرنا ذلك، لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلاّ شرعاً، لأن العقل لا يقتضيها بل ينفيها إن لم يكن القديم سبحانه مؤلّفاً، وليس في شيء من دلائل السمع من الكتاب والسنّة وإجماع الاُمّة وما يُستخرج من ذلك ما يدل علي وجوب هذه التسمية ولا علي جوازها أيضاً، فبطل ما قلتموه. فإن قالوا: ولم منعتم من جواز ذلك وإن لم توجبوه؟ قيل له: أما العقل فلا يمنع ولا يُحرّم ولا يُحيل إيقاع هذه التسمية عليه تعالي وإن أحال معناها في اللسان، وإنما تحرم تسميته بهذا الاسم وبغيره مما ليس بأسمائه لأجل حظر السمع لذلك، لأن الاُمّة مُجمعة علي حظر تسميته عاقلاً وفَطناً وإن كان بمعني من يستحق هذه التسمية; لأنه عالم وليس العقل والحفظ والفطنة والدراية شيئاً أكثر من العلم، وإجازة وصفه وتسميته بأنه نور وأنه ماكر ومستهزئ وساخر من جهة السمع وإن كان العقل يمنع من معاني هذه الأسماء فيه، فدل ذلك علي أن المراعي في تسميته ماورد به الشرع والإذن دون غيره، وفي الجملة فإن الكلام إنما هو في المعني دون الاسم فلا طائل في التعلل والتعلق بالكلام في الأسماء. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون جسماً علي معني أنه قائم بنفسه، أو بمعني أنه شيء، أو بمعني أنه حامل للصفات، أو بمعني أنه غير محتاج في الوجود الي شيء يقوم به؟ قيل له: لا ننكر أن يكون الباري سبحانه حاصلاً علي جميع هذه الأحكام والأوصاف، وإنما ننكر تسميتكم لمن حصلت له بأنه جسم، وإن لم يكن مؤلفاً، فهذا عندنا خطأ في التسمية دون المعني، لأن معني الجسم أنه المؤلف علي ما بيّناه، ومعني الشيء أنه الثابت الموجود، وقد يكون جسماً إذا كان مؤلفاً ويكون جوهراً إذا كان جزءاً منفرداً، ويكون عَرضاً إذا كان مما يقوم بالجوهر، ومعني القائم بنفسه هو أنه غير محتاج في الوجود الي شيء يوجد به، ومعني ذلك أنه مما يصح له الوجود وإن لم يفعل صانعه شيئاً غيره إذا كان محدثاًويصح وجوده وإن لم يوجد قائم بنفسه سواه إذا كان قديماً، وليس هذا من معني قولنا «جسم» و «مؤلَّف» بسبيل، فبطل ما قلتم. فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون معني جسم ومعني قائم بنفسه، وغير قائم بغيره ومعني أنه حامل للصفات هو معني أنه شيء، لأنه لو لم يكن معني جسم ومعني قائم بنفسه وغير قائم بغيره، ومعني أنه حامل للصفات هو معني شيء لجاز وجود شيء حامل للصفات ليس بشيء وقائم بنفسه وغير قائم بغيره وليس بجسم، ولو جاز ذلك لجاز وجود جسم ليس بشيء ولا قائم بنفسه ولا حامل للصفات، فلما لم يجز ذلك وجب أن يكون معني الجسم ما قلناه؟ يقال لهم: لو كان هذا العكس الذي عكستموه صحيحاً واجباً لوجب أن يكون معني موجود محدث مؤلف مركب حامل للأعراض معني أنه شيء، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لجاز وجود شيء ليس بموجود ولا مُحدث ولا مؤلف ولا مركب ولا حامل للأعراض ولا قائم بنفسه، ولو جاز ذلك لجاز وجود محدث قائم بنفسه مركب مؤلف حامل للصفات ليس بشيء ولا موجود، فلما لم يجز ذلك ثبت أن معني شيء غير معني محدث مؤلف حامل للأعراض، فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه. مسألة: ويقال لهم: ما الدليل علي أن صانع العالم جسم؟ فإن قالوا: لأننا لم نجد في الشاهد والمعقول فاعلاً إلاّ جسماً فوجب القضاء بذلك علي الغائب. قيل لهم: فيجب علي موضوع استدلالكم هذا أن يكون القديم سبحانه مؤلفاً محدثاً مصوراً ذا حيّز وقبول للأعراض، لأنكم لم تجدوا في الشاهد وتعقلوا فاعلاً إلاّ كذلك، فإن مرّوا علي ذلك تركوا قولهم وفارقوا التوحيد وإن أبوه نقضوا استدلالهم» [6] . ولو كان الوجود موجباً للرؤية والتجسم في كل موجود كما تقول المجسمة للزم من ذلك تجسيم الروح ورؤيتها، وهم حينئذ بين أمرين، إما انكار وجود الروح وإما الادّعاء بجسميتها، والأوّل يلزم منه تكذيب القرآن الدال علي وجود الروح، والثاني يلزم منه كذبهم لثبوت عدم جسمية الروح. وهذا المثال لا يوضّح بطلان فكرة التجسيم فقط، وإنّما يوضّح تناقض فكرة التجسيم مع جوهر الفكر الديني القائم علي أساس وجود عالم ما ورائي أسمي من المادة، وأن عدم جسمية ذلك العالم من جملة لوازم سمّوه وتقدمه علي المادّة. إنّ المجسمة وإن كانوا يمثلون اتّجاهاً منقرضاً إلاّ أن النقاش معهم يهيئ الأرضية المناسبة للنقاش مع الاتّجاه الثاني الذي فكك بين الرؤية والجسمية فآمن بانتفاء الجسمية من جهة وبإمكان رؤية الله بلا كيفية في الآخرة من جهة ثانية، ولذا سننطلق في مناقشتنا مع الاتّجاه الثاني من نقطة نفي جسمية الله سبحانه وتعالي باعتبارها القاعدة المشتركة بين القائلين بالتنزيه من أهل الاتجاهين الثاني والثالث معاً.

ادلة الاتجاه الثاني القائل بالرؤية بلا كيفية

اشاره

وهو الاتجاه المتبنّي من قبل الأشاعرة والذي اتّبعته مذاهب الجمهور، ويبتني هذا الاتّجاه علي التفكيك بين الرؤية والتجسيم، وبين الدنيا والآخرة، حيث قالوا بإمكان الرؤية في الآخرة دون الدنيا بلا كيف، وبنفيهم الكيفية حاولوا التخلص من اشكال التجسيم. وأهمية هذا الاتّجاه وما يحضي به من ثقل علي صعيد علم الكلام تقتضي منا متابعته بدقة وتأن خطوة خطوة، وهو ما سنقوم به في مرحلتين: 1 ـ مرحلة مناقشة امكانية التفكيك بين الرؤية والتجسيم باعتباره الدعامة التي قامت نظرية الأشاعرة عليها، فإذا كان هذا التفكيك في حد نفسه ممكناً عقلاً سوف لا يحتاج الأشاعرة في اثبات مدعاهم إلاّ الي أدلّة نقلية تثبت بالكتاب والسنّة. أن هذا الأمر الممكن عقلاً قد أخبر القرآن الكريم عن تحققه في الآخرة، وأما إذا كان هذا التفكيك في حد نفسه غير ممكن، وأن الرؤية تلازم الجسمية لا محالة كما آمن بذلك المجسمة وأهل التنزيه المحض معاً، أصبح الاتّجاه الأشعري ملحقاً بأهل التشبيه والتجسيم، أي بالاتّجاه الأوّل، وأصبح الفرق بينهما صورياً لفظياً، ولم يعد للاتّجاه الأشعري أصالة، وصارت الاتّجاهات في المسألة اثنتين لا ثلاثة، هما الأوّل والثالث، أي التجسيم المحض والتنزيه المحض، وكل من لا يقول بالتنزيه المحض فهو من المجسمة وإن أنكر وتذرّع باللاكيفية، وإذا ما وصل البحث الي هذه النقطة أصبح مستغنياً عن الخوض في أدلّة الأشاعرة علي رأيهم، لأن حكمهم علي المجسمة وتنديدهم الشديد بهم سوف يجري عليهم أنفسهم باعتبارهم من جملة المجسّمة حينئذ. 2 ـ مرحلة طرح أدلة الأشعرية علي رؤية الله ومناقشتها، وذلك في صورة اثبات امكانية التفكيك بين الرؤية والجسمية في المرحلة السابقة. فالمرحلة الاُولي هي مرحلة النقاش مع الاتجاه الأوّل في عالم الثبوت، والمرحلة الثانية ناظرة الي عالم الإثبات.

المرحلة 01

ونخوض هذه المرحلة عبر طرح السؤال التالي: هل أن الرؤية تلازم الجسمية أم لا؟ يجيب الطرفان علي هذا السؤال بالإيجاب، وليس بوسع أحد أن ينكر هذا التلازم، فكل ماهو مادي يُري بالعين، بل أن رؤيته واجبة كلما تحققت شروط الرؤية، بمعني أن حاسة البصر عندما تكون سالمة والمانع بينها وبين المرئي مفقود من البعد المفرط أو الحجاب أو نحو ذلك، فليس بوسع هذه الحاسة حينئذ أن لا تراه، لأن انعكاس صور الأشياء في حدقة العين أمر قهري لا اختيار للإنسان فيه، وكل ما لا نراه فإما معدوم أو موجود غير مادي، كالفكر والروح، فلا مفر عن الإقرار بالتلازم بين الرؤية والجسمية، ولذا فسّرت الرؤية قديماً وحديثاً بنحو ملازم للجسمية وكون المرئي في جهة مقابلة، فقديماً قيل: إن الرؤية تحصل لأجل شعاع يصدر من العين ويقع علي المرئي، وقد أبطل العلم الحديث هذا التفسير، وجاء بتفسير جديد يقول: إن الرؤية عبارة عن شعاع ينطلق من الأشياء فيخترق الشبكية ويكون سبباً في تحقق الرؤية، ولازم كلا التفسيرين أن يكون المرئي جسماً واقعاً في جهة مقابلة للعين. والمسألة عند هذه النقطة لا خلاف فيها، إنّما يظهر الخلاف بين الطرفين حينما نأتي لمعرفة حقيقة التلازم بين الرؤية والجسمية، هل هو تلازم عرضي طارئ كتلازم الضحك مع الإنسان أم هو تلازم ذاتي يتصل بماهية الرؤية والجسمية، بحيث لا يمكن الانفكاك بينهما كاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة؟ حيث يؤمن الأشاعرة بأن تلازم الرؤية والجسمية من النوع الأوّل، وأنّ انفكاك الرؤية عن الجسمية ووقوعها علي وجودات غير مجسمة أمر ممكن، كما هو انفكاك الضحك عن الإنسان أمر ممكن لا يستلزم مستحيلاً من المستحيلات، وإن كانت العادة قد جرت في العالم الذي نحن فيه علي تلازمهما، ويصرّح الأشاعرة بأنّ: «ما لا يتعلق بها الرؤية، بناءً علي جري العادة بأنّ الله تعالي لا يخلق فينا رؤيتها، لا بناءً علي امتناع ذلك، وما ذكره الخصم مجرد استبعاد» [7] ، فليس هناك قانون عام يحكم بأن ما لا يري في الدنيا لا يري في الآخرة أيضاً. ويأتي الأشاعرة بهذا الجواب دفاعاً وإتماماً لدليلهم العقلي علي جواز رؤية الله القائل: بأن العلّة في رؤية الأشياء هي الوجود، والوجود صفة مشتركة بين الواجب والممكن، فيلزم من ذلك جواز رؤية كل موجود، وقد تحققت هذه الرؤية لبعض الموجودات في الدنيا وانتفت عن موجودات اُخري لم تجر العادة علي رؤيتها، فيبقي أمرها علي الجواز العقلي، ولعلّ الله يأذن برؤيتها بنحو من الأنحاء في الآخرة، ومن جملتها رؤية الله سبحانه وتعالي نفسه. ثم يتمم الأشاعرة استدلالهم علي ذلك بالآيات والأحاديث التي يظهر منها تحقق رؤية الله في الآخرة [8] . بينما آمن أهل التنزيه المحض باستحالة انفكاك الرؤية عن الجسمية، وأن ما يوجب ادراك الأشياء «من حيث كانت موجودة يوجب ادراكها من حيث كانت متحيزة، لأنه ليس للوجود في هذا الباب من الاختصاص ما ليس للتحيّز، وللتحيز من الاختصاص ما ليس للوجود، وبيّنا أن القول بأنها تدرك من حيث كانت متحيزة يسلم ويصح، والقول بأنها تدرك من حيث كانت موجودة لا يصح» [9] ، فإنّ «ما قدمنا ذكره من أن ما يصح أن يراه الرائي يجب أن يراه يبطل هذا القول، وما قدمناه من أن الرائي لا يصح كونه رائياً لمعني يبطله أيضاً، وما قدمناه الآن من أن الرائي يري الجوهر واللون لما يختصان به، لا لوجودهما، يبطله أيضاً» [10] ، و«أن غرض هذا القائل بقوله أن كل موجود يصح أن يري، اثبات كون القديم تعالي مرئياً، ومتي عول في ذلك علي الوجود وسائر ما قدمناه لزمه أن يكون الذي لأجله وجب ذلك فيه حدوثه، لأن عند حدوث المرئي يصح أن يري وقبل حدوثه يستحيل ذلك فيه، وهذا يبطل القول بأنّه تعالي يري أو يصح كونه محدثاً إن كان مرئياً، فقد صح بهذه الجملة أن الادراك يتعلق بالشيء علي ما يختصّ به من الصفات مما هو عليه في ذاته» [11] . فالنزاع في المرحلة الاُولي يرجع الي تحليل العلاقة بين الرؤية والجسمية، وهل أن الرؤية البصرية مما يستحيل وقوعه علي غير الأجسام أم لا؟ النظرية الأشعرية مبنية علي الامكان، ونظرية التنزيه المحض مبنية علي الاستحالة، ومعرفة الحق في المسألة تقتضي تحليل العلاقة بين الرؤية والمرئي تحليلاً عميقاً نتوصل من خلاله الي ما يمكن أن يكون سبباً للاستحالة أو الإمكان. والبحث كل البحث يجب أن ينصب علي أهم دليل عقلي ذكره الأشاعرة علي نظريتهم وهو قولهم: إن مصحح الرؤية هو الوجود، وهو أمر مشترك بين الممكن والواجب، فلابدّ وأن نراهما معاً. وصحة النظريتين معاً منوطة بصحة هذا الدليل وسقمه، وها نحن نورد تقريرين لهذا الدليل; أوّلهما لسعد الدين التفتازاني وثانيهما لابن تيمية. فقد كتب التفتازاني يقول: «تمسك المتقدمون من أهل السنّة في إمكان الرؤية بدليل عقلي. تقريره: أنا نري الجواهر والأعراض بحكم الضرورة كالأجسام والأضواء والألوان والأكوان، وباتّفاق الخصوم. وإن زعم البعض منهم في بعض الأعراض أنها أجسام وفي الطول الذي هو جواهر ممتدة أنه عرضه. وردّ بأنه يدرك الطول بمجرد تأليف عدة من الجواهر في سمت، وإن لم يخطر بالبال شيء من الأعراض. وقد يستدلّ علي رؤية القبيلين بأنا نميز بالبصر بين نوع ونوع من الأجسام كالشجر والحجر، ونوع من الألوان كالسواد والبياض من غير أن يقوم شيء منها بآلة الإبصار. وبالجملة، لما صحت رؤيتهما وصحة الرؤية أمر يتحقق عند الوجوب وينتفي عند العدم، لزم أن يكون لها علة، لامتناع الترجيح بلا مرجح، وأن يكون تلك العلة مشتركة بين الجوهر والعرض لما مرّ من امتناع تعليل الواحد بعلتين، وهي إما الوجود وإما الحدوث، إذ لا ثالث يصح للعلية، والحدوث أيضاً غير صالح لأنه بالعدم وهو اعتباري محض أو عن الوجود بعد العدم. ولا مدخل للعدم فتعين الوجود، وهو مما يشترك فيه الواجب، لما مرّ في مبحث الوجود عبارة عن مسبوقية الوجود، فلزم صحة رؤيته وهو المطلوب» [12] . وكتب ابن تيمية يقول: «اختلف الناس في ما يجوز رؤيته، فقال بعضهم: المصحح للرؤية أمر لا يكون إلاّ وجودياً محضاً، فما كان وجوده أكمل كان أحق أن يري. وقال آخر: بل المصحّح لها ما يختصّ بالوجود الناقص الذي هو أولي بالعدم، مثل كون الشيء محدثاً مسبوقاً بالعدم، أو ممكناً يقبل العدم، كان قول من علّل إمكان الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث، والواجب والممكن، أولي من هذا فإن الرؤية وجود محض، وهي إنّما تتعلق بموجود، لا بمعدوم، فما كان أكمل وجوداً، بل كان وجوده واجباً، فهو أحق بها مما يلازمه العدم، ولهذا يشترط فيها النور الذي هو بالوجود أولي من الظلمة. والنور الأشد كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته، بل لضعف الأبصار; فهذا يقتضي أنا نعجز عن رؤية الله مع ضعف أبصارنا، ولهذا لم يطق موسي رؤية الله في الدنيا. لكن لا يمتنع أن تكون رؤيته ممكنة، والله قادر علي تقوية أبصارنا لنراه. وإذا قيل: هي مشروطة باللون والجهة ونحو ذلك ممّا يمتنع علي الله، قيل له: كل ما لابدّ منه في الرؤية لا يمتنع في حق الله، فإذا قال القائل: لو رؤي للزم كذا، واللازم منتف، كانت إحدي مقدمتيه كاذبة، وهكذا كل ما أخبر به الصادق الذي أخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر، كل ما أخبره به وظن الظان أن في العقل ما يناقضه، لابدّ أن يكون إحدي مقدماته باطلة. فإذا قال: لو رؤي لكان متحيزاً، أو جسماً، أو كان في جهة، أو كان ذا لون، وذلك منتف عن الله، قيل له: جميع هذه الألفاظ مجملة لم يأت شرع ينفي القياس سماها حتي تنفي بالشرع. وإنما ينفيها من ينفيها بالعقل فيستفسر عن مراده، إذ البحث في المعاني المعقولة، لا في مجرد هذه الألفاظ. فقال: ما تريد بأنّ المرئي لابدّ أن يكون متحيزاً فإن المتحيّز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعني به ما يجوز غيره، كما في قوله تعالي: (أو متحيّزاً الي فئة) [13] ، فهذا تحيّز موجود يحيط به موجود غيره الي موجودات تحيط به، وسُمي متحيزاً، لأنه تحيّز من هؤلاء الي هؤلاء. والمتكلمون يريدون التحيّز ما شغل الحيّز والحيّز عندهم تقدير مكان، ليس أمراً موجوداً، فالعالم عندهم متحيّز، وليس في حيّز وجودي، و المكان عند أكثرهم وجوديّ. فإذا اُريد بالمتحيّز ما يكون في حيّز وجودي منعت المقدمة الاُولي، وهو قوله: كل مرئي متحيّز، فإن سطح العالم يمكن أن يري، وليس في عالم آخر. وإن قال: بل اُريد به لابدّ أن يكون في حيّز، وإن كان عدمياً، قيل له: العدم ليس بشيء، فمن جعله في الحيّز العدمي لم يجعله في شيء موجود. ومعلوم أنه ما ثَمّ موجود إلاّ الخالق والمخلوق، فإذا كان الخالق بائناً عن المخلوقات كلّها لم يكن في شيء موجود. وإذا قيل: «هو في حيّز معدوم» كان حقيقته أنّه ليس في شيء. فلِمَ قلت: إن هذا محال؟ وكذلك إذا قال: «يلزم أن يكون جسماً»، ففيه إجمال تقدم التنبيه عليه. وكذلك إذا قال: في جهة، فان الجهة يراد بها شيء موجود، وشيء معدوم. فإن شرط في المرئي أن يكون في جهة موجودة كان هذا باطلاً برؤية سطح العالم، وإن جعل العدم جهة قيل له: إذا كان بائناً عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة وجودية. وإذا سميت ما هنالك «جهة» وقلت: «هو في جهة» علي هذا التقدير، منعت انتفاء اللازم، وقيل لك: العقل والسمع يدلاّن علي ثبوت هذا اللازم، لا علي انتفائه» [14] . ومن يقرأ هذين التقريرين يلمس فيهما فجوة واضحة وعجزاً بيّناً، ففي التقرير الأوّل نجد التفتازاني يصل الي أن علّة رؤية الجواهر والأعراض هي الوجود، ثم يستنتج من ذلك صحة رؤية الله سبحانه باعتباره من جملة الوجود، وهنا تكمن الفجوة الواضحة والعجز البيّن، فإنّه عمم حكم الوجود الممكن علي الوجود الواجب بلا دليل، لوضوح أن مجرد الاشتراك في الوجود بين الممكن والواجب لا يكون دليلاً كافياً لتعميم الحكم بالرؤية، لاحتمال ـ علي الأقل ـ أن يكون للواجب حكم آخر في هذه المسألة غير حكم الممكن، وحينئذ تبقي فكرة «أن الوجود هو العلّة للرؤية» بلا دليل، لعدم ثبوت دليل عليها في واجب الوجود، وخروج هذا المصداق عنها، أو العجز عن إقامة الدليل علي شمولها لمصداق من مصاديق الوجود وهو الوجود الواجب يعرّضها للتزلزل، وهذا ما يسلّط الضوء علي الفكرة الأشعرية الاُخري ـ التي مرّ ذكرها ـ القائلة: بأن عدم رؤيتنا لبعض الموجودات لا يعود الي امتناعها عن الرؤية، وإنّما يعود الي أن أبصارنا قد كيّفت بنحو تبصر بعض الموجودات دون بعض، فإذا ارتفع هذا التكييف وكيّفت بنحو آخر أصبح بالامكان أن تري ما لم تكن تراه أولاً، فإنّ هذه الفكرة هي الاُخري تبقي دعوي بلا دليل، فبأي دليل نجعل علّة عدم رؤية الروح ـ مثلاً ـ ضعف البصر لا الامتناع وكون الروح من ماهية اُخري يستحيل عليها الرؤية؟ فكما يحتاج القائل بالامتناع الي دليل يدلّ عليه، كذلك يحتاج القائل بضعف البصر الي دليل يدل عليه. وقد طرح ابن تيمية في تقريره الفكرتين معاً، دون أن يطرح دليلاً علي أيٍّ منهما، وزاد علي كلام التفتازاني بقوله: «إن الرؤية وجود محض وهي إنّما تتعلق بموجود لا بمعدوم»، وهذا مما لا نقاش فيه، وإنّما النقاش في كلامه التالي، حيث أكمل قائلاً: «فما كان أكمل وجوداً، بل كان وجوده واجباً فهو أحق بها ممّا يلازمه العدم»، فإنّ النقاش يقع في هذه الملازمة، فبأي دليل يتاح لابن تيمية ان يثبت أن الوجود الأكمل أحق بالرؤية من الوجود الناقص؟ فقد يكون مقتضي الأكملية التنزّه عن الرؤية لا الوقوع تحتها فضلاً عن أن يكون أحق بها، لما يشوب الرؤية من شوب الجسمية والتحيّز والوقوع في جهة مقابلة للرائي، وهاهي الروح وجود أكمل من البدن، وهي لا تري والبدن يري، وهاهو العقل وجود أكمل من المخ، وهو لا يري والمخ يُري، فالأكملية ـ طبقاً للشواهد الموجودة ـ تلازم عدم الرؤية وتحاول التنزّه عنها، فبأي دليل نقول: إنّ أكملية الواجب تجعله أحق بالرؤية من الممكن، ونحن نري هذه الشواهد العكسية؟ وبأي دليل نفسر عدم رؤية الروح والعقل بقصور البصر الحالي عن ادراكهما وأنّ الله سيمنح الإنسان قدرة بصرية متطورة يتاح له بفضلها رؤية الروح والعقل والخالق نفسه سبحانه وتعالي؟ فإن هذا بحد ذاته يحتاج الي دليل وبرهان، وهو أشبه بالمصادرة علي المطلوب، فإنّ البحث كل البحث في أنّ الحقائق الماورائية بحد نفسها هل تقبل الرؤية أم لا؟ والتفسير بضعف البصر مبني علي أ نّها قابلة للرؤية، وهو أوّل الكلام وأصل البحث الذي اتّضح أنّ النظرية الأشعرية لم تثبته بدليل بعد، بل هي عاجزة عن اثباته بدليل، فالدليل النقلي لا ينفع في المقام لاحتياجه الي مرحلة سابقة تثبت أن الرؤية ممكنة بحق الله وغير مستحيلة، وهذه المرحلة لا يمكن أن تكون نقلية للزوم الدور من ذلك، فلابدّ وأن يكون الدليل عقلياً محضاً، والدليل العقلي لا يمكن اقامته، لأن العقل إنّما يحكم بناءً علي تحليل علاقة الرؤية بين الرائي والمرئي طبقاً للنظام الكوني القائم فعلاً، والأشاعرة يتحدثون عن نظام كوني آخر سيتيح للمؤمنين رؤية واجب الوجود بلا حيّز ولا كيفية ولا جسمية، ويدّعون أنّ التلازم بين الرؤية والجسمية خاصية جري عليها النظام الكوني القائم، وليس أمراً حتمياً لا ينفك عنه الوجود بحال من الأحوال، حتي في الآخرة التي ستشهد حلول نظام كوني آخر لا يتسم بهذا التلازم. ولذا يلاحظ الباحث في طيّات أفكارهم أن الجانب العقلي من النظرية الأشعرية في مسألة الرؤية، لا يقوم علي دليل عقلي قائم بنفسه، وإنّما يدور بين استبعادات وتقريبات وارسال للدعوي إرسال المسلّمات واقامتها مقام الدليل ثم البناء عليها، كقولهم: إنّ الوجود هو المصحح للرؤية، وإنّ ما لا نراه يعود الي جري العادة لا الامتناع، وإنّ رؤية الله في الآخرة سوف لا تستلزم حيّزاً ولا جسمية ولا جهة، وإنّ كل شيء في الدنيا سوف يكون بخلافه في الآخرة، وأحياناً يخالفون ادّعاءهم بأنّهم يتحدثون عن رؤية ستجري في عالم آخر، فيحاولون إثبات تلك الرؤية بشواهد من هذا العالم، كقولهم: إن القديم سبحانه لما كان رائياً لغيره فيجب كونه مرئياً من نفسه ومن غيره [15] . فإن كلامهم هذا مستفاد في روحه من تلازم الرؤية مع الجسمية، والمفروض أ نّهم يتحدثون عن رؤية من عالم آخر تنفك فيه الرؤية عن الجسمية ويتساوي فيه الواجب مع الممكن في امكان الرؤية، فإنّهم إما أن يتقيّدوا بقوانين الرؤية في هذا العالم، وإما أن لا يتقيّدوا بها كلّها، لأنها قوانين متلازمة مع بعضها والأخذ ببعضها يستلزم الأخذ بالباقي، مثال ذلك: انّ الرائي لغيره يكون في عالمنا هذا مرئياً من قبل نفسه وغيره لكونه جسماً، ولأجل التلازم القائم بين الرؤية والجسمية، ولو فرض أن قانون التلازم سوف يرتفع في الآخرة فلا معني حينئذ للاستدلال علي رؤية الله بأن الرائي لغيره لابدّ وأن يكون مرئياً من قبل نفسه وغيره، لأن قانون التلازم إذا ارتفع فسترتفع معه لوازمه، والاصرار علي الاستدلال باللوازم والغاء الأصل سلوك غير علمي يراد به الفرار من الدليل وهو يستبطن الاذعان الخفي بتلازم الرؤية مع الجسمية. إنّ الحديث عن رؤية منفكة عن الجسمية كالحديث عن مربع بلا زوايا. والحديث عن نظام كوني في الآخرة سيشهد هذا الانفكاك ادّعاء يحتاج الي اثبات، أو بالأحري سلوك يقصد به الفرار من الدليل والبرهان. وقبول مثل هذا الادعاء يفتح الباب لكل ادّعاء شاذ وغريب بحجة أن النظام الكوني في الآخرة سوف يكون شكلاً آخر. صحيح أنّ النظام الكوني في الآخرة سيأخذ صورة اُخري، لكن بمعني أن يكون ذلك النظام أكمل وأتمّ من النظام الفعلي، لا بمعني أن الاُسس والقواعد سوف تكون شيئاً آخر، وأن ماهو مستحيل سوف يكون ممكناً وماهو ممكن سوف يكون مستحيلاً، في النظام الأكمل سوف لا تكون الحرارة منفكة عن النار، وإنّما ستكون درجتها أعلي وأكبر، الأيدي والأرجل في الآخرة هي نفسها التي في الدنيا سوي أنّها سوف يطلب منها أن تخبر عن أعمالها فتنطق بذلك وهكذا، كما يخبرنا بذلك القرآن الكريم، بما يفيد أنّ الاُسس الكونية والقوانين الكلّية ثابتة في الدنيا والآخرة، سوي أنّ هذه الاُسس والقوانين سوف تأخذ صورة أكمل وأتمّ في الآخرة. ولولا ذلك لأمكن الادّعاء بأنّ الحرارة ـ مثلاً ـ في الآخرة سوف تنفك عن النار بحجة أن التلازم الموجود في الدنيا بينهما هو لأجل جريان العادة بذلك، وأنّ كل شيء في الآخرة سوف يكون بشكل آخر. إن تعلّق النظرية الأشعرية في جانبها العقلي بالتخمينات وخلوّها من الأدلّة العقلية الكافية يعود الي أ نّها تدّعي شيئاً لا يقبل الإثبات العقلي، وهو الرؤية الخالية من الجسمية، وهذا بحد ذاته يكشف عن صحة نظرية التنزيه المحض القائلة بامتناع انفكاك الرؤية عن الجسمية، كما سنري تفصيل ذلك فيما بعد. ولعلّ ذلك هو الذي جعل دعاة النظرية الأشعرية يعتمدون علي الأدلة السمعية دون العقلية، كما في نهاية الاقدام للشهرستاني [16] والمحصل للفخر الرازي [17] ، أو يجعلون الأدلة السمعية مقدمة علي العقلية، كما في شرح المقاصد للتفتازاني [18] ، والقليل منهم من اعتمد المسلك العقلي ولم يلجأ الي الأدلّة السمعية إلاّ علي سبيل التقريب كسيف الدين الآمدي [19] المتوفي سنة (631 هـ). وعندما يصل الباحث الي أنّ النظرية الأشعرية في الرؤية لاتقبل الإثبات العقلي يصبح في غني عن أن يخوض في الأدلة السمعية، إذ لا يعقل أن تتحدث نصوص الكتاب والسنّة عن أمر غير ممكن ولا يقبل التحقق في عالم الثبوت، وحتي لوفرضنا فيها ما يدلّ علي اثبات الرؤية في الآخرة، فإنّ صيانة القرآن عن اللغو والباطل تقتضي منا اعتبار تلك الأدلة من جملة المتشابه الذي لابدّ من عدم ابتغائه، عملاً بالآية السابقة من سورة آل عمران التي مرّ ايرادها، ولابدّ من حمله حينئذ علي وجوه من الكناية والمجاز، وسيأتي مزيد المناقشة معهم في بحث أدلّة القول باستحالة رؤية الله سبحانه. ولكننا مع ذلك ولغرض إغناء البحث نجد ضرورة التطرق للآيات القرآنية التي استدلّ بها الأشاعرة علي أنّ الرؤية ستقع في الآخرة، لننظر هل هناك آية قرآنية ذات دلالة حتمية علي الرؤية بنحو لا يقبل الحمل علي وجه آخر؟

المرحلة 02

استدلّ الأشاعرة علي وقوع رؤية الله سبحانه في الآخرة من قبل المؤمنين بالآيات التالية: 1 ـ قوله تعالي: (وجوه يومئذ ناضرة - الي ربّها ناظرة) [20] . 2 ـ قوله تعالي: (كلا انّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون) [21] . 3 ـ قوله تعالي: (للذين أحسنوا الحسني وزيادة) [22] . 4 ـ قوله تعالي: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) [23] . 5 ـ قوله تعالي: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَي الخَاشِعِينَ - الَّذِينَ يَظُنُّونَ أ نَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأ نَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ) [24] . هذه هي جملة الآيات التي استدلّ بها الأشاعرة علي أنّ المؤمنين سيرون الله سبحانه وتعالي في الآخرة، وقد كانت معركة للآراء بينهم وبين أهل التنزيه المحض، تجد ذلك مفصلاً في المصادر الكلامية والتفسيرية من الفريقين [25] ، خاصة الآية الاُولي التي كانت مورداً لنقض وإبرام مترامي الأطراف من الفريقين الي الحد الذي يجعل الباحث يتساءل: هل أن ألفاظ الآية غامضة بحيث تسمح بظهور معركة فكرية واسعة حولها؟ وهذا السؤال بالذات جعلنا نبحث عن طريق أوضح وأكثر اختصاراً من الطريق الذي سلكه متكلمو ومفسّرو الفريقين، وهو أنّ حجة الأشاعرة من هذه الآيات تتم فيما لو أنها تدل علي وقوع الرؤية دلالة حتمية بنحو لا يحتمل وجهاً آخر ودلالة اُخري، بينما لا يحتاج مخالفوهم في إثبات مطلوبهم الي أكثر من بيان وجه محتمل في هذه الآيات يخالف الرؤية. وسرّ الفرق بينهما أنّ الأشاعرة يدّعون أمراً مخالفاً للمألوف، وهو تحقق الرؤية بلا كيفية، فيحتاجون الي الإثبات القطعي الذي لا يقبل احتمالاً مخالفاً، فإذا جاء مخالفوهم باحتمال معارض كان ذلك كافياً لاسقاط ادّعاء الرؤية، وبسقوطه يكون مطلوب أهل التنزيه المحض قد تحقق، وهو انتفاء رؤية الله سبحانه وتعالي. فالأصل هو انتفاء رؤية ما لا جسم ولا كيفية له، والبيّنة علي من يدّعي خلافه، فإذا أقامها بنحو لا يقبل الشبهة والترديد فهو المطلوب، وإذا أقامها بنحو يقبل الشبهة والترديد فهو كمن لم يقمها، وكأنه أراد الادّعاء بالادّعاء، وقد قيل: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وحينما يبطل الاستدلال نعود الي الأصل وهو انتفاء الرؤية. وبهذا الطريق يمكننا أن نختصر النقاش بين الطرفين، فإنّ الأشاعرة مهما تمسّكوا بهذه الآيات، فإنّهم ليس بوسعهم الادّعاء بأنّ هذه الآيات لا تقبل معنيً آخر غير الرؤية البصرية، وغاية ما يمكنهم الادّعاء به هو أنّ الرؤية البصرية هي الاحتمال الراجح في هذه الآيات، وهذا بحد ذاته لا يكفي لاثبات الرؤية البصرية ولا يعني أ نّهم قد اقاموا الدليل القرآني عليها لوجود عدّة احتمالات معارضة له. ونحن هنا نعتبرها احتمالات، تنزلاً، وإلاّ فإنّ أصحابها من أهل التنزيه المحض يرونـها هـي المعني الصحيح والمراد المطلوب من تلك الآيات. ففـي الآيـة الاُولي هناك احتمال أن يكون المراد بـ (وجوه يومئذ ناضرة - الي ربّها ناظرة)انتظار رحمة الله وفضله وثوابه، وهناك شواهد قرآنية ولغوية كثيرة تؤيد أنّ النظر لا يلازم الرؤية، فقد يقترن بها، وقد يفترق عنها، لأنّ النظر هو مدّ الطرف نحو الشيء رآه أو لم يره، وإذا أصرّ الأشاعرة علي التلازم بين النظر والرؤية فإنّ التلازم المدّعي لا يدل حتماً علي الرؤية البصرية، لاحتمال أن يكون المراد بالرؤية حينئذ الرؤية القلبية التي هي من خواص المؤمنين في الدنيا والآخرة، ومن الممكن أن تكون رؤيتهم القلبية لله سبحانه وتعالي في يوم القيامة أشد وأجلي بحيث تكون من أكبر النعم التي سينعمون بها، وقد أحسن الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفّي سنة (1209 هـ) تصوير وتقرير هذا المعني في بحث رائع ضمن كتابه جامع السعادات نقتطف منه ما يناسب المقام، حيث كتب يقول: «ثم أهل السنّة قالوا: إنّ الرؤية في الآخرة ـ مع تنزهها عن التخيّل والتصوير والتقدير بالشكل والصورة والتحديد بالجهة والمكان ـ تكون بالعين دون القلب، وهو عندنا باطل. إذ الرؤية بالعين محال في حقّ الله تعالي، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، فكما لا تجوز رؤية الله سبحانه في الدنيا بالعين والبصر، فكذلك لا تجوز في الآخرة، وكما تجوز رؤيته في الآخرة بالعقل والبصيرة لأهل البصائر ـ أعني غاية الانكشاف والوضوح بحيث تتأدّي الي المشاهد واللقاء ـ فكذلك تجوز رؤيته في الدنيا بهذا المعني، والحجاب بينه وبين خلقه ليس إلاّ الجهل وقلّة المعرفة دون الجسد، فإنّ العارفين وأولياء الله يشاهدونه في الدنيا في جميع أحوالهم ومنصرفاتهم، وإن كان الحاصل في الآخرة أزيد انكشافاً وأشد انجلاء بحسب زيادة صفاء النفوس وزكائها وتجردها عن العلائق الدنيوية ـ كما تقدّم مفصلاً ـ وقد ثبت ذلك من أئمتنا الراشدين العارفين بأسرار النبوّة، روي شيخنا الأقدم محمد بن يعقوب الكليني وشيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه ـ رحمهما الله تعالي ـ باسنادهما الصحيح عن الصادق(عليه السلام): أنّه سئل عما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهم من نور الشمس ليس دونها سحاب. وباسنادهما عن أحمد بن اسحاق قال: كتبت الي أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس، فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متي ساوي المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه، وكان ذلك التشبيه، لأن الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسببات. وعن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن الله ـ عزّ وجلّ ـ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم! وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متي؟ قال: حين قال لهم: (ألست بربّكم، قالوا بلا...)ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك! فاُحدّث بهذا عنك؟ فقال: «لا! فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعني ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر. وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالي الله عما يصفه المشبهون والملحدون». وسُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال: ويلك! ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قيل: وكيف رأيته؟ قال: ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان [26] . وقال سيد الشهداء(عليه السلام): كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتي يكون هو المظهر لك، متي غبت حتي تحتاج الي دليل يدل عليك، ومتي بعدت حتي تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل من حبّك نصيباً». وقال (عليه السلام): تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء وقال: وأنت الذي تعرفت إليَّ في كل شيء، فرأيتك ظاهراً في كل شيء، وأنت الظاهر لكل شيء [27] ، وأمثال ذلك مما ورد عنهم(عليهم السلام)أكثر من أن تُحصي» [28] . وهكذا فحتي لو نجحت محاولات الأشاعرة لاثبات الرؤية بآية أو باُخري عبر استشهادات لغوية معينة، فسيبقي عليهم اثبات أنّ الرؤية المقصودة في الآية رؤية بصرية لا قلبية، وهذا ما لا سبيل عندهم إليه. أما أهل التنزيه المحض فلا يحتاجون الي اثبات الرؤية القلبية، لأن الرؤية البصرية أثبتوا استحالتها بالعقل، والمسألة عندهم عقلية لا سمعية. فإذا جاء القرآن الكريم بآيات تفيد الرؤية، وباب الرؤية البصرية مسدود انحصر تفسيرها عندهم بالرؤية القلبية، حيث لا مانع عقلي ولا نقلي منها، بينما يحتاج الأشاعرة الي مرحلتين من الاثبات، مرحلة اثبات دلالة الآية علي الرؤية، ومرحلة اثبات أنّ الرؤية التي تقصدها الآية رؤية بصرية لا قلبية، وقد اتّضح عجزهم عن كلتا المرحلتين، وغالباً ما تتكئ مناقشات أهل التنزيه للأشاعرة حول دلالة الآيات التي يعتمدون عليها في اثبات الرؤية علي المرحلة الاُولي، ببيان عدم ثبوت الدلالة علي الرؤية كما هو واضح من مراجعة المصادر الكلامية والتفسيرية، وقد اتّضح أنه حتي لو ثبتت الرؤية فإنّ ذلك لوحده لا يكفي لاثبات مطلوبهم، بل سيحتاجون الي إثبات أن الرؤية التي ستحصل في الآخرة هي رؤية بصرية لا قلبية، وهو أمر متعذّر عليهم، لأن كل الآيات التي اُدّعي دلالتها علي الرؤية خالية من الإشارة الي البصر، ومع فقدان هذه الاشارة كيف يتاح لهم اثبات الرؤية البصرية ونفي الرؤية القلبية. ومجموع البحث في المرحلتين يفيد اجتماع العجز العقلي مع السمعي عن اثبات رؤية الله يوم القيامة رؤية بصرية، ومن هنا نجد أن المعتزلة والإمامية يعتبرون التنزيه منحصراً بهم، ولا يؤمنون بما يدّعيه الأشاعرة من التنزيه، إذ لا يكفي في التنزيه نفي الجسمية عن الله نفياً لفظياً، ولابدّ من الالتزام باللوازم العقلية المترتبة عليه، فإذا نفي شخص الجسمية ولم ينفِ لوازمها كان في الحقيقة من جملة المجسمة، وإن أنكرهم واشتدّ في الإنكارعليهم، وكان صادقاً في قلبه في ذلك الإنكار، لكنه في الحقيقة يبقي منهم، لأنّ مسألة رؤية الله تحتمل إما التجسيم وإما التنزيه ولا تحتمل أمراً ثالثاً يتوسط بينهما، والواقع لا يتقبل هذا الأمر المتوسط، ولذا آمن المجسمة برؤية الله، لأنه عندهم جسم من الأجسام، وهم يعتقدون أن الله لو لم يكن جسماً لم تصح رؤيته، وقد جعلوا الآيات التي تفيد رؤيته ـ عندهم ـ من جملة الدلائل علي جسميته. وفي المقابل عدّ أهل التنزيه الأشاعرة ومن والاهم من جملة المجسمة، ولذا قد يقع الباحث في متاهة حينما يطالع كتب أهل التنزيه فيجد فيها اتّهامات متوالية لرؤوس الأشاعرة بالتجسيم، ثم يطالع كتب الأشاعرة فيجدها تنادي بالتنزيه وشجب التجسيم، والسرّ هو ما ذكرناه، ويشتد الاتّهام بالتجسيم علي من ألّف كتاباً في اثبات صفات الله ورؤيته في يوم القيامة بنحو من التفصيل بحيث يجري الحديث فيها عن طول الله وعرضه ولحيته ووجهه ويده...الخ. تعالي عن ذلك علوّاً كبيراً ككتاب السنّة للخلال، وكتاب السنّة المنسوب لعبدالله بن أحمد بن حنبل، وكتاب الابانة لابن بطة، وكتب عثمان بن سعيد الدارمي، وابطال التأويل لأبي يعلي والايمان لابن منده، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، والتوحيد لابن خزيمة، وبعض كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم الجوزية، وكتاب العلو للذهبي، والاستقامة لخشيش بن أصرم.

عوامل ظهور القول بالرؤية

ما مرّ كان بياناً لحكم المسألة في ضوء العقل والكتاب العزيز، ونحن إذا عدنا الي التاريخ وجدنا القول بالتنزيه هو الجاري بين مسلمي صدر الإسلام، وهو المعتقد الذي عليه صحابة الرسول(صلي الله عليه وآله)، ويكفينا أن نلقي نظرة عابرة علي كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة في نهج البلاغة لنلمس وبوضوح ما كان لدي الإمام من توحيد صاف رائق يرفض كل شائبة من شوائب التشبيه والتجسيم، فنجده(عليه السلام) يقول: «الحمدلله الذي بطن خفيات الاُمور، ودلّت عليه اعلام الظهور، وامتنع علي عين البصر.. تعالي الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً» [29] ، ويقول(عليه السلام)أيضاً: «ولا تحيط به الأبصار والقلوب» [30] . وسأله أحدهم يوماً أن يصف له الله سبحانه كأنّه يراه فغضب (عليه السلام)لذلك، ونطق بكلام طويل في ذلك سمي بخطبة الأشباح كان منها قوله(عليه السلام): «وأشهد أنّ من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره علي معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك وكأنّه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين)، كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم وجزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم.. وأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك.. وأ نّك أنت الله الذي لم تتناهي في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً» [31] . وقال(عليه السلام) في خطبة اُخري: «الحمدلله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر.. وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام..» [32] وقال(عليه السلام) في خطبة اُخري: «ما وحّده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله ولا إيّاه عني من شبّهه ولا صمده من أشار إليه وتوهمه» [33] . وقال(عليه السلام) فيها أيضاً: «... وبها امتنع عن نظر العيون» [34] ، وله من أمثال ذلك الكثير الكثير ممّا هو مذكور في مواضع اُخري من نهج البلاغة أو في الأدعية الواردة عنه(عليه السلام). وأورد المجلسي في بحار الأنوار عن ابن عباس أ نّه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الأحبار، إذ قال: يا كعب احافظ أنت للتوارة؟ قال كعب: انّي لأحفظ منها كثيراً. فقال رجل من جنبة المجلس: يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جلّ ثناؤه قبل أن يخلق عرشه، ومم خلق الماء الذي جعل عليه عرشه. فقال عمر: يا كعب هل عندك من هذا علم؟ فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالي كان قديماً قبل خلق العرش وكان علي صخرة بيت المقدس في الهواء، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وآخرها ما بقي منها لمسجد قدسه! قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب(عليه السلام)حاضراً فعظم علي ربّه وقام علي قدميه ونفض ثيابه فأقسم عليه عمر لما عاد الي مجلسه ففعله. قال عمر: غص عليها يا غواص، ما تقول يا أبا الحسن فما علمتك إلاّ مفرجاً للغم، فالتفت علي(عليه السلام) الي كعب فقال: غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه! يا كعب ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته، وعزّ الله وجلّ أن يقال له مكان يومئ إليه، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان، وقولي (كان) عجز عن كونه، وهو مما علم من البيان، يقول الله عز وجل:(خلق الإنسان علّمه البيان)فقولي له (كان) ما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً علي ما يشاء محيطاً بكل الأشياء، ثم كوّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد، وإنه عزّوجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه ظلمة، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء كما خلق النور من غير شيء، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ولا يزال مرتعداً الي يوم القيامة، ثمّ خلق عرشه من نوره وجعله علي الماء، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الاُخري، وكان العرش علي الماء من دونه حجب الضباب، وذلك قوله: (وكان عرشه علي الماء ليبلوكم). يا كعب ويحك، إن من كانت البحار تفلته علي قولك، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه، فضحك عمر بن الخطاب وقال: هذا هو الأمر وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب، لا عشت الي زمان لا أري فيه أبا حسن [35] . وأورد البخاري في صحيحه عن عامر عن مسروق: «قال قلت لعائشة: يا اُ مّتاه هل رأي محمد (صلي الله عليه وآله)ربّه؟ فقالت: لقد قفّ شعري ممّا قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أنّ محمدّاً (صلي الله عليه وآله) رأي ربّه فقد كذب، ثم قرأت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب)، ومن حدّثك أ نّه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) ومن حدّثك أ نّه كتم فقد كذّب ثم قرأت: (يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك...)الآية ولكنه رأي جبرئيل في صورته مرتين» [36] . وورد في فردوس الأخبار عن ابن عباس رواية عن النبي (صلي الله عليه وآله)يحكم فيها بشرك من شبّه الله بغيره [37] ، وهو ما يوضّح موقف ابن عباس من مثل هذه القضية. ويروي الثعالبي في كتابه الجواهر الحسان: أنّ عائشة وجمهور الصحابة كانوا يفسّرون قوله تعالي: (ولقد رآه نزلة اُخري) بارجاع ضمير رآه الي جبرئيل(عليه السلام) [38] تنزيهاً لله عن الرؤية. وورد أنّ عائشة لما سمعت قائلاً يقول: إنّ محمداً رآي ربّه، قالت: لقد قفّ شعري ممّا قلت، ثلاثاً، من زعم أنّ محمداً رأي ربّه فقد أعظم الفرية علي الله تعالي [39] . ولقد ردّ الشيخ سلامة القضاعي الشافعي المتوفّي سنة (1379هـ) علي من ادّعي أنّ السلف كانوا علي القول بالرؤية في يوم القيامة، فكتب يقول: «إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف، إنّما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي، فلا تظنّ أ نّهم أرادوا أنّ ذاته العليّة منقسمة الي أجزاء وأبعاض فجزء منها يد وجزء منها وجه، غير أ نّه لا يشابه الأيدي والوجوه التي للخلق. حاشاهم من ذلك وما هذا إلاّ التشبيه بعينه، وإنّما أرادوا بذلك أن لفظ الوجه واليد قد استعمل في معني من المعاني وصفة من الصفات التي تليق بالذات العلية كالعظمة والقدرة، غير أ نّهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيّباً من التهجّم علي ذلك المقام الأقدس، وانتهز المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام وخدعوا بها الأغمار من الناس وحملوها علي الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه وتبرأوا من اسمه، وليس يخفي نقدهم المزيف علي صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء» [40] . وهذا ما يحفّزنا الي البحث عن العوامل التي أدّت الي ظهور فكرة الرؤية في المجتمع الإسلامي، ولابدّ من التسليم أوّلاً بأنّ النفس البشرية تميل بطبعها الي المادة والمظاهر المادية ولا تتقبل الحقائق التجريدية إلاّ بمعاناة وارغام عقلي عبر البرهان والدليل، وقد يدعوها نزوعها الحسّي الي أن تلبس الحقائق التجريدية لباساً مادياً، وهذا هو المنشأ النفسي لظهور عبادة الأصنام في التاريخ، ولظهور بعض المظاهر الصنمية في بعض الأديان، كفكرة الأقانيم الثلاثة والادّعاء بكون المسيح(عليه السلام)ابناً لله. فإنها في مدلولها النفسي تعني استنزال الإله عن عرش التجريد الي حضيض التجسيم، ولذا فإن ظهور فكرة التجسيم ورؤية الله تأتي في مدلولها النفسي امتداداً لهذا السياق. وفي المقابل يأتي التركيز الشديد علي التنزيه ورفض التجسيم بكل صوره وأشكاله ودرجاته محاولة للدفاع عن التوحيد الخالص النقي الرائق من كل شوائب المادة وأدرانها. إلاّ أنّ الزاوية النفسية لا تعنينا في بحثنا هذا، ولا تدخل بالتالي في نطاق بحثنا عن العوامل التي أدّت الي ظهور فكرة الرؤية في المجتمع الإسلامي، لأنّ الماهية الكلامية لبحثنا هذا تجعلنا ننشد العوامل المباشرة التي جعلت طائفة من علماء المسلمين يعتقدون بمثل هذه الفكرة ووفرت بين أيديهم الأدوات الاستدلالية اللازمة لها. وننأي عن العامل غير المباشر الذي يمثل مناخاً نفسيّاً عاماً موجوداً لدي عامة البشر. وفي هذا السياق نستطيع أن نرجع ظهور فكرة الرؤية الي عاملين أساسين هما: 1 ـ دور أهل الكتاب السلبي في صدر الإسلام. 2 ـ اتباع منهج الحشوية في تغليب ظواهر الألفاظ علي مضامينها، واعتماد التفسير الحرفي أو السطحي الجاف للنصوص الدينية. أما العامل الأوّل فيشهد له كلام الشهرستاني في الملل والنحل بأنّ أكثر أخبار التجسيم كاذبة مقتبسة من اليهود [41] . لقد ظهر الإسلام في بيئة تتألف من مشرك يجسّد إلهه في صنم، وآخر كتابي تمتلئ ثقافته الدينية بالتجسيم، فكافحهما معاً، وأكّد علي توحيد خالص لا تشوبه أقل شائبة من شوائب المادية. ومن مفارقات التاريخ أن يقرّر صحابة النبي(صلي الله عليه وآله) بعد وفاته مباشرة منع التحديث بحديث النبي من جهة، وفسح المجال أمام كبار اليهود ممّن دخلوا في الإسلام توّاً أن يحدّثوا بما عندهم من تراث اسرائيلي غارق في التجسيم والتشبيه من جهة اُخري. مثل كعب الأحبار ومن بعده وهب ابن منبه; حتي لقد كانت لكعب مكانة غريبة بعد وفاة النبي(صلي الله عليه وآله) في حياة المسلمين بحيث كتب عنه الذهبي يقول في ترجمته: العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، وجالس أصحاب محمّد(صلي الله عليه وآله)، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب،... حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولي عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروي عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي [42] ، وعرّفه في موضع آخر بأنّه من أوعية العلم [43] . وهو الذي أشاع في المسلمين فكرة: أنّ الله تعالي قسّم كلامه ورؤيته بين موسي ومحمدّ(صلي الله عليه وآله) [44] ، وأسس بذلك فكرة الرؤية لديهم، ويبدو من المؤشرات التاريخية التي مرّ ذكر بعضها، والأخبار التي يبدو منها اعتراض عائشة، وابن عباس علي فكرة الرؤية، أن هذه الفكرة كانت في دور الارهاص، وأنّ المجتمع الإسلامي قد صُدم بها وجهد في ردّها، وأنّ احتضان الخليفتين الثاني والثالث لكعب الأحبار يعد أكبر عامل في ظهورها. وسرعان ما انتقل كعب من المدينة الي الشام واتّخذ من دمشق قاعدة لنشر أفكار التشبيه والتجسيم والرؤية بحماية رسمية من معاوية، حتي أصبحت هذه الأفكار من جملة الخصائص التاريخية للشام، ولذا نجد الشيخ الصدوق يروي في كتابه التوحيد بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أ نّه قال:«يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام علي الله عزّ وجلّ، يزعمون أن الله تبارك وتعالي حيث صعد الي السماء وضع قدمه علي صخرة بيت المقدس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه علي حجر فأمرنا الله تبارك وتعالي أن نتخذه مصلي، يا جابر إن الله تبارك وتعالي لا نظير له ولا شبيه، تعالي عن صفة الواصفين، وجلّ عن أوهام المتوهمين، واحتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم» [45] . ومن هنا كانت الأحاديث النبوية التي يوردها أهل السنّة لاثبات رؤية الله يدور أمرها بين الوضع والدسّ، وبين ضعف الاسناد، وبين كونها أخبار آحاد لا يحتجّ بها في باب العقائد [46] . وأمّا العامل الثاني فهو متأخر زمنيّاً عن العامل الأول، وذلك لأن عصر التدوين وظهور العلوم الشرعية وتبلور النظريات الدينية ضمن صياغات نظرية معينة، قد برز في أواخر القرن الهجري الأوّل، أي في عصر التابعين فما بعد. وبحلول هذا العصر ظهرت اتّجاهات متعددة، منها اتّجاه أهل الحديث الذي اُطلق عليه لقب الحشوية لما عرف به من القشرية الجافة التي تؤثر ظواهر الألفاظ علي مضامينها، وقد كان ظهوره بمثابة ردّة فعل شديدة تجاه مدرسة الرأي التي برزت في الكوفة علي يد أبي حنيفة وآخرين، ومن هنا كان للتجسيم والتشبيه والقول بالرؤية من أبرز خصائص مدرسة الحديث، لأن أصحاب هذه المدرسة رأوا نصوصاً دينية ظاهرة في التجسيم واثبات الرؤية، فقالوا بالتجسيم والرؤية، ثم رأوا نصوصاً دينية اُخري تنفي الكيفية عن الله سبحانه فثبتوا علي قولهم الأوّل وأضافوا إليه نفي الجهة والكيفية، فكأنهم بذلك يحاولون الجمع بين الظواهر القرآنية المختلفة بهذه الطريقة ولذا تراهم يؤكدون بأننا نؤمن بأعضاء لله لا كالتي نعرفها، فالأمر عندهم يدور بين محذورين تشبيه الله وتجسيمه من جهة، ومخالفة الظواهر القرآنية من جهة اُخري، فرأوا الطريق الوسط بين المحذورين هو الأخذ بكل تلك الظواهر مع نفي الكيفية عنها، وبمرور الزمن أصبح هذا هو الرأي المعتمد في مدرسة أهل السنّة والجماعة. قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: «وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنّة من طريق الحسن البصري عن اُمّه عن اُم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. ومن طريق ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنّه سئل كيف استوي علي العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلي الله الرسالة، وعلي رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي، قال: كنّا والتابعون متوافرون نقول إن الله علي عرشه، ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته. وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالي: (ثمّ استوي علي العرش)؟ فقال: هو كما وصف نفسه. وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبدالله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبدالله (الرحمن علي العرش استوي)كيف استوي؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن علي العرش استوي كما وصف به نفسه ولا يقال: كيف، و«كيف» عنه مرفوع، وما أراك إلاّ صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيي بن يحيي عن مالك نحو المنقول عن اُمّ سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: علي هذا مضي أكابرنا، وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الي المغرب علي الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله(صلي الله عليه وآله)في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسّر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي(صلي الله عليه وآله)وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة، فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف. وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبدالأعلي سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فانّه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرويّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفي عن نفسه، فقال: (ليس كمثله شيء). وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: «كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه» ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنّة في قوله تعالي: (الرحمن علي العرش استوي) قال: بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول وهو علي العرش كما وصف به نفسه في كتابه، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات، وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمرّوها بلا كيف. وهذا قول أهل العلم من أهل السنّة والجماعة. وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه، وقال اسحق ابن راهويه: إنّما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة: قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك، وقال ابن عبدالبر: أهل السنّة مجمعون علي الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة، ولم يكيفوا شيئاً منها. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقرّ بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأي بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف الي الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر علي مواردها وتفويض معانيها الي الله تعالي، والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة اتباع سلف الاُمّة للدليل القاطع علي أن إجماع الاُمّة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين علي الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع. وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة» [47] . وقال أيضاً: «قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو الي منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله: «الي الله» فهو علي ما تقدم عن السلف في التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل، وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الردّ علي الجهمية المجسّمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرّر أنّ الله ليس بجسم فلا يحتاج الي مكان يستقرّ فيه، فقد كان ولا مكان، وإنّما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعني الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان» [48] . ثم قال: «قال الخطابي ذكر اليمين في هذا الحديث معناه حسن القبول، فإن العادة قد جرت من ذوي الأدب بأن تصان اليمين عن مسّ الأشياء الدنيئة، وإنّما تباشر بها الأشياء التي لها قدر ومزية وليس فيما يضاف الي الله تعالي من صفة اليدين شمال، لأن الشمال لمحل النقص في الضعف، وقد روي «كلتا يديه يمين» وليس اليد عندنا الجارحة إنّما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها علي ما جاءت ولا نكيفها وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة» [49] . وممّا لاشك فيه أن الجمع بين ظواهر الألفاظ المختلفة أمر عقلائي صحيح متبع عند كل العقلاء في تعاملهم مع مثل هذه الحالات، ولكن هناك جمع معقول وهناك جمع غير معقول، وعرف العقلاء يؤيد الجمع الذي يتقبله العقل ولا يرد عليه اشكال عقلي، وهناك جمع لا يتقبله العقلاء يحكم عليه العقل بإشكال معين، وهناك جمع يحكم العقل بامتناعه، وما نحن فيه من هذا النوع الثالث، فإنّ الجمع بين الجسمية ورؤية الله من جهة، ونفي الكيفية والتشبيه عنه من جهة اُخري أمر مستحيل ممتنع في نفسه كما تقدّم، فهو ساقط عن الاعتبار، والجمع العقلائي الصحيح هو نفي الجسمية، ونفي الكيفية من جهة، وإثبات الرؤية القلبية التي لا تستلزم تشبيهاً ولا تجسيماً ولا كيفية من جهة اُخري، وهذا أولي بالاعتبار من ذاك، وما أخذوه علي هذا الجمع بأنّه تأويل يخالف الظواهر القرآنية يجري بنفسه علي ذاك أيضاً، فكما أن تفسير الرؤية بالرؤية القلبية، تأويل وخروج عن ظواهر القرآن، كذلك القول بالرؤية البصرية تأويل وخروج عن الظواهر القرآنية الدالة علي نفيها. ذلك أن مبدأ الجمع بين ظواهر الألفاظ المختلفة يقوم أساساً علي حتمية تأويل بعضها. فمن لم يؤول: (وجوه يومئذ ناضرة - الي ربّها ناظرة) بالرؤية القلبية ونحوها، لابدّ وأن يقع في تأويل: (لا تدركه الأبصار) بأنّ الله سوف يُري ببصر غير هذا البصر. فلماذا ننتخب التأويل المستحيل الذي لا يقبله العقل، ونترك التأويل المعقول الموافق للكتاب والسنّة؟ هذا هو معني الجمود علي ظواهر الألفاظ والاتّجاه القشري الجاف في تفسير النصوص، علي أن الإسلام لم يمنعنا من التأويل، وإنّما منع التأويل الكيفي الذي يكون من غير أهله ويعتمد علي الرأي والقياس، ولم يمنع التأويل الذي يكون من أهله وطبقاً لموازين صحيحة. كما مرّ ذلك في صدر البحث، ومهما أصرّ أهل الحديث علي التمسك بالظواهر اللفظية، فإنّ أحداً منهم لا يستطيع الادّعاء بأنّه يستطيع أن يتجنب التأويل في كل مسائل الإسلام من أوّلها الي آخرها، فإنّ التأويل ممّا لا مفرّ منه في كثير من الظواهر القرآنية.

خلاصة البحث

إنّ القول برؤية الله في يوم القيامة رؤية بصرية أمر لا يصح الاعتقاد به عقلاً ولا شرعاً، لأنه يستلزم التجسيم والتشبيه، وأنّ اضافة نفي الكيفية أمر صوري لا يحل أصل الاشكال المذكور، وأنّ ما دلّ علي رؤية الله يمكننا تفسيره بالرؤية القلبية التي لا يلزم منها إشكال عقلي ولا شرعي، بل هي متطابقة مع مسألة الإيمان، وأنّ فكرة الرؤية والتشبيه دُسّت من قبل اليهود في الفكر الإسلامي، وقد ساعد عليها ظهور اتّجاه فكري يتشبث بالظواهر اللفظية ولا يتدبّر في المضامين الفكرية لها.

پاورقي

[1] مقالات الإسلاميين: 213 ـ 217 ط المانيا.
[2] مفاتيح الجنان: 271، نقلاً عن اقبال الأعمال لابن طاووس.
[3] شرح الأسماء الحسني، ملا هادي سبزواري: 1/189.
[4] آل عمران: 7.
[5] شرح الاُصول الخمسة: 233، ط القاهرة.
[6] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل: 220 ـ 225 ط مؤسسة الكتب الثقافية.
[7] شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: 4/191 ط عالم الكتب.
[8] شرح المقاصد: 189 ـ 192 بتصرف بياني منا.
[9] المغني، عبدالجبار المعتزلي: 4/84. [
[10] المصدر السابق: 85.
[11] المغني، عبدالجبار المعتزلي: 4 / 88.
[12] شرح المقاصد: 4/189 ط عالم الكتب.
[13] الأنفال: 6.
[14] الردّ علي المنطقيين: 238 ـ 240 ط بيروت.
[15] شرح الاُصول الخمسة: 272 ـ 273، انظر كذلك المغني في أبواب التوحيد والعدل: 4/176 ـ 178.
[16] بحوث في الملل والنحل، جعفر السبحاني: 2/194 نقلاً عن نهاية الاقدام: 369.
[17] تلخيص المحصل، نصير الدين الطوسي: 319 ط بيروت.
[18] شرح المقاصد: 4/181.
[19] بحوث في الملل والنحل: 2/194، نقلاً عن غاية المرام في علم الكلام: 174.
[20] القيامة: 22 ـ 23.
[21] المطففين: 15.
[22] يونس: 26.
[23] سورة ق: 35.
[24] البقرة: 45 ـ 46.
[25] مثل: تفسير الفخر الرازي، وشرح المقاصد للتفتازاني، وشرح المواقف، وشرح الاُصول الخمسة، والمغني في أبواب العدل والتوحيد وغيرها.
[26] اُصول الكافي: ج1، باب ابطال الرؤية، الوافي: 1/69 باب إبطال الرؤية.
[27] مفاتيح الجنان: 272 ـ 274 دعاء عرفة.
[28] جامع السعادات: 3/166 ـ 168.
[29] نهج البلاغة: خطبة رقم 48، الطبعة المزدانة بشرح الشيخ محمد عبده.
[30] المصدر السابق: خطبة رقم 81.
[31] نهج البلاغة: خطبة رقم 87.
[32] المصدر السابق: الخطبة 178.
[33] المصدر السابق: الخطبة رقم 179.
[34] المصدر السابق.
[35] بحار الأنوار: 44/194.
[36] صحيح البخاري: 6 / 50، مسند أحمد: 6/49.
[37] فردوس الأخبار، الديلمي: 4/206 ط دار الكتاب العربي.
[38] الجواهر الحسان: 3/253.
[39] شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبار: 268 ط القاهرة.
[40] بحوث في الملل والنحل: 4/120 ـ 121، نقلاً عن فرقان القرآن: 80 للقضاعي.
[41] الملل والنحل: 1/141 ط دار المعرفة.
[42] سير أعلام النبلاء: 3/489.
[43] تذكرة الحفّاظ: 1/52.
[44] شرح نهج البلاغة: 3/237.
[45] التوحيد: 179، انظر كذلك تفسير العياشي: 1/59، والبحار: 102 / 270.
[46] انظر التفصيل في ذلك في كتاب كلمة حول الرؤية لسماحة السيد عبدالحسين شرف الدين: 61 ـ 66، وكتاب بحوث في الملل والنحل لسماحة الشيخ جعفر السبحاني: 2/222 ـ 226، وكتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي.
[47] فتح الباري: 13/406 ـ 407 ط دار المعرفة.
[48] فتح الباري: 13 / 416.
[49] فتح الباري: 13/417.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.