دعوة الي سبيل المومنين

اشارة

سرشناسه : زين العابدين، طارق

عنوان و نام پديدآور : دعوة الي سبيل المومنين/ طارق زين العابدين.

مشخصات نشر : مشهد: آستان قدس رضوي، بنياد پژوهشهاي اسلامي ، 1418ق. = 1376.

مشخصات ظاهري : 279 ص.

شابك : 5600 ريال: 978-964-444-094-6

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- اثبات خلافت

موضوع : شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : امامت

شناسه افزوده : بنياد پژوهش هاي اسلامي

رده بندي كنگره : BP212/5 /ز9د7 1376

رده بندي ديويي : 297/417

شماره كتابشناسي ملي : 2893188

المقدمة

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل، أحمده علي عواطف كرمه، وسوابغ نعمه، وأومن به أولا باديا، وأستهديه قريبا هاديا، وأستعينه قادرا قاهرا، وأتوكل عليه كافيا ناصرا. وأشهد أن محمد (ص) عبده ورسوله، أرسله لإنقاذ أمره، وإنهاء عذره، وتقديم نذره [1] . إن ما ستطالعه، إن شاء الله، بين دفتي هذا الكتاب هو طائفة من التحقيقات التي قمت بها خلال مدة دراستي في كليه الإلهيات والمعارف الإسلامية في إيران، حول مسألتين مهمتين هما: 1 - عدالة الصحابة بقضهم وقضيضهم. 2 - مسألة الخلافة بعد النبي (ص)، وما تمخضت عنه أحداث السقيفة وخلاف السنة والشيعة حول هذه المسألة، معتمدا في ذلك علي ما جاء حولها في المراجع المعتبرة لأهل السنة والجماعة. وأنا بدوري أعرض ما توصلت إليه من قناعات علي من تهمه المسألة من أفراد المسلمين كافة، من خلال مفهوم (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) [2] ، ومن [ صفحه 8] خلال النضج الفكري الذي يتمتع به أكثر الشباب في هذا العصر العلمي، ومن خلال حرية الاعتقاد والفكر التي

يقرها كل إنسان لنفسه ولغيره، كل ذلك بعيدا عن العصبية، والقبلية والقومية، وبعيدا عن المنهج الذي لا يعتمد علي الدليل والحجة المقنعة في طرحه لما يعرضه علي الناس. لقد كان هذا التحقيق مما لا بد منه ولا مفر، إذ القضية ترتبط بالاعتقاد والمصير الأبدي، فلم يكن المجال ليسمح بالمساومة أو المماطلة أو الترضيات. إن الدين الإسلامي لما كان هو نظام الحياة الذي يجب أن يؤسس كل مؤمن حياته عليه ويبني عليه مصيرة، كان لا بد أن يقوم اعتقاد كهذا علي أساس يبعث اليقين والطمأنينة. ولا يصح أن تنال المصائر بالظنون والتوهم، أو تنال بالتقليد الأعمي الذي لا يعرف صاحبه الدليل والحجة غير ما كان عليه الآباء والأولون، فإذا سئل: لماذا أنت مسلم؟ فإنه لا يجيب إلا بالصمت والحيرة. وإذا قيل له: لماذا أنت شيعي أو سني أو مالكي أو...؟ تراه يخطرف [3] في الإجابة. كل ذلك لأنه لم يفكر في اعتقاده ومصيره من قبل بحرية، بل قام كل ما عنده من اعتقاد علي التقليد الأبوي والاجتماعي، فصار علي هذا مسلما: شيعيا أو سنيا. ولما كان هذا الأمر خاصا للغاية بالفرد نفسه، سواء في هذه الحياة أو في الحياة الأخري، فمن الجهل أن يعارضه أحد فيما ذهب إليه واطمأنت له نفسه، فلا يجوز إملاء الاعتقاد أو إكراه الناس علي نهج يسيرون عليه، ولكن يجوز إقناعهم بالدليل والحجة المقنعة بالروح العلمية الرياضية العصرية، في إطار حرية الاعتقاد التي سار عليها دين محمد (ص) في تعامله مع الفرق والأديان والاعتقادات المخالفة في كل زمان ومكان. ولقد كنت أتعجب جدا من أولئك الذين عارضوني وخاصموني بشدة، عندما اخترت لنفسي مذهب أهل بيت النبي (ص)، اطمئنانا مني لهذا المذهب الذي

هو عندي أكمل المذاهب وأفضلها بال منازع، بل هو ما كان عليه النبي وأصحابه العدول. ويتعبد به اليوم عدد كبير من أمة محمد (ص) في كثير من بلدان العالم الإسلامي. [ صفحه 9] فالذي ليس له الشجاعة لتقبل الحقائق والأدلة المقنعة، ولا يتذوقها إلا مرة، لا يجوز له أن يضايق من رضي بالحق وقبل الدليل وتذوق فيه الطلاوة والحلاوة. غير أنني لم أغلق الباب أمام من يري خلاف ما رأيت، ويملك من الأدلة ما لم أملك، علي أنه سيظل الباب مفتوحا له، ما دام ينتهج في حواره قوله تعالي: (وادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [4] ، وإلا فالباب موصد. والله من وراء القصد. المؤلف 1416 ه / 1995 م أم درمان [ صفحه 11]

تمهيد

الإنسان بين الواجب الدنيوي والمصير الأخروي. وجوب التحقيق في أمر العقيدة. متطلبات التحقيق في أمر العقيدة. الأسباب الموجبة للتحقيق في أمر العقيدة. أولا: الفتن والاختلافات الحادة. ثانيا: تعدد الفرق الإسلامية. ثالثا: بعد المسافة الزمنية بين زماننا وزمان النبي (ص). رابعا: حصار أهل البيت وتكميم أفواههم. اختلاف المسلمين حول ولي الأمر. [ صفحه 13]

الانسان بين الواجب الدنيوي والمصير الأخروي

يأتي الإنسان إلي هذه الحياة الدنيا، مبتدئا، إياها بيوم مولده، ثم ينشأ ويترعرع. وتترعرع في جنبيه آماله وأحلامه، ويقوي تعلقه بهذه الحياة، فلا يسعه فراقها ولا يرضي بغيرها بدلا، فيطوي علي هذا الحال سنين طويلة، ويبلغ من عمره ما يبلغ، فتأكل الأيام قواه ويثقل الزمان ظهره بحمل من السنين، فيقعد مرغما عن السعي إلي الآمال والركود خلف الأحلام. وعندها تحين الالتفاتة، وهو ما يفتأ يري أنه قد بلغ النهاية في عراكه مع أحداث الحياة من أجل الوصول إلي ما كان يرجوه من أسفاره. وها هو الآن يضع عصا الترحال مستسلما لأمر الواقع، إذا قد حانت أشراط الفراق، وقد ازدادت الشقة بينه وبين هذه الحياة، ثم يلفظ آخر أنفاسه خاتما تلك الحياة في لحظة من سكرات الموت. فهل ينتهي إلي هنا كل شئ؟ وهل تنتهي الحياة بموت الإنسان وتحوله إلي جثة هامدة وعظام نخرة، ثم لا شئ بعد ذلك؟ فإن كان الأمر كذلك، فما هو الفرق إذا بين الإنسان والحيوان، وبين إنسان وآخر من جنسه من حيث المصير؟ ما الفرق بين الناس: الناجح منهم والفاشل في حياته، وبين الخير والشرير، وبين العادل والظالم؟ أم أن خالق الكون والإنسان لا يهدف إلي شئ من خلقه إياه؟ أم أن وجود الإنسان محدود بهذه الحياة الدنيا فحسب، فلماذا الموت والفناء إذا، ولم لا يترك الإنسان

مخلدا باقيا في حياته، ما دام لا شئ بعد الموت، أم أن الخالق عاجز عن إبقائه فيها أبدا؟ [ صفحه 14] الكل يعلم - سواء استمد علمه هذا من عقيدة دينية أو من الفطرة - أنه ميت وماض إلي حياة أخري، وحتي أولئك الماديون فإنهم إنما ينفون هذا لفظا وجدلا لا يقوي علي إقناع أو حجة بل يقرون بذلك فطرة أخفوها من خلف مكابراتهم ومرائهم. إن الحياة لا تنتهي بالموت، وإنما الموت انتقال إلي الحياة الثانية التي تبدأ بما يسمي بالحياة البرزخية. وفي الواقع أنه بالموت يبدأ كل شئ، فالحياة الدنيا ليست سوي تلك الأعمال التي يتصدي لها الإنسان فيها منذ ولادته إلي يوم ارتحاله، والحياة الأخري ليست سوي حضور تلك الأعمال التي تصدي لها الإنسان في حياته الدنيا بذواتها منذ بلوغه التكليف ثم حصحصتها بلا تجاوز لصغيرة ولا كبيرة. وعلي هذا الأساس - فالناس - وهم في حياتهم الدنيا - سواسية من حيث إن لهم اكتساب هذه الفرصة للتحصيل والتزود كل علي قدر ارتباطه بخالقه والتزامه بتكاليفه. وهم بذلك علي قدر وافر من الاختيار، بل دون جبر يحول بينهم وبين اكتساب هذه الفرصة السانحة التي لا تتكرر. وطبقا لذلك فهم سواسية أيضا من حيث الثواب والعقاب في الحياة الأخري، كل طبقا لما اكتسبه في حياته الأولي وما انتخبه من نهج فيها. إذا فالحياة الأولي مرحلة الاكتساب والتزود، والموت هو لحظة الانتقال إلي الحياة الثانية التي هي حياة الاستقرار الأبدي لما اكتسبه وتزود به سابقا (ليجزي الله كلنفس ما كسبت إن الله سريع الحساب) [5] . إن الحياة التي يحرزها الإنسان في آخرته بلا شك هي حياة أبدية ويمكن للفرد أن يتصور ويمعن الفكر بعمق

في معني تلك الحياة الأبدية، مع العلم بأن الأبدية تعني إلي جانب عدم الانقطاع والانصرام اللا عودة واللا رجعة لترتيب الأمور وإصلاح ما فسد منها، إذا أن ذلك أمر ممنوع ولا مجال له قط. فليتصور الإنسان ذلك، وليضع نفسه مرة في موضع من حالفه التوفيق في تلك الحياة الأبدية، ومرة في موضع الذي جانبه التوفيق وحدث علي أقل تقدير تقصير في أعماله فأصابه نوع من الشقاء فيها، وليذوق طعم الحياتين في الحالتين معا، حتي يتبين له الفرق الشاسع وخطورة الموقف، حتي تتبين [ صفحه 15] له أهمية الحياة الدنيا من حيث إنها مجال لا حراز المصائر، وبالتالي يدرك جيدا أن السعي إلي البحث عن سبيل السلام واجب، يحتمه عليه خطورة ما يؤول إليه مصيره الخاص في تلك الحياة التي لا فرصة فيها لإصلاح ما فسد، ولا عودة فيها للبدء من جديد. فالحياة الدنيا - وهي مجال لأداء هذا الواجب ومنطلق لذاك المصير - ليست مجالا لاكتساب أعمال قد أحيطت بالظنون وطوقت بالأوهام، إذا أنها حياة - وهي تؤدي إلي مصير كهذا قطعا - لا تحتمل ذلك لمحدوديتها وقصرها، فلا بد إذا أن يكون كل فعل يكتسب فيها مؤسسا علي اليقين والحق، والفعل الذي يبعث الاطمئنان علي النتائج فتأسيس هذه الحياة علي الظن والأوهام لا ينتهي إلا إلي هذين. إن أهمية الحياة الدنيا من هذا الحيث لا تقل شيئا عن أهمية الحياة الأخري، إذ لا بد للإنسان أن يبعد عن حياته هذه كل ما من شأنه أن يباعد بينه وبين السعادة الأبدية في تلك الحياة التي تقوم علي أساس اليقين، بل عين اليقين. وهذا هو أصل السعادة وأساس الفوز في الحياة الآخرة. والسنخية بين الحياة الدنيا

والحياة الآخرة واضحة، فما يفعله الإنسان في هذه الحياة يحضر بعينه وبصورته النوعية الحقة ليجده الفرد هناك أمامه، بل كل فعل وكل شئ آنذاك يتجلي في صورته الواقعية التي لا نستطيع ونحن في حياتنا هذه - ما دمنا قد بنيناها علي الظن - أن ندركها كما هي في الواقع الحقيقي، وهذا هو اليقين المطلوب في هذه الحياة، الذي تكون علائمه التي تشير إليه هي اليقين المطلوب في هذه الحياة في أدني درجاته. [ صفحه 16]

وجوب التحقيق في أمر العقيدة

والحصول علي هذا اليقين أولي ما يكون في العقيدة، إذ أنها أصل لكل فرع، وفساده في فسادها الذي هو موجب لكل فساد لا محالة، إذ العقيدة هي التي نعنيها بالتحقيق والتصحيح حتي تبدو وقد تأسست علي الحقيقة واليقين، فلا بد إذا من التحقيق من سلامتها بالفحص وإعادة النظر وتقليب البصر وإعمال الفكر والتدبر في أحوالها. والعقيدة لا تورث حتي ندعها للفطرة وحدها، والاتكاء علي اعتقاد الأسلاف والآباء والأجداد ممنوع: (وإذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) [6] ؟ وأرجو أن يظن أحد أن هذا منحصر بنقض عقائد المشركين التي ورثوها عن أسلافهم فحسب، بل يمتد ليشمل العقيدة التي ورثها أصحابها عن الأسلاف، ظنا منهم أنها من الإسلام في شئ. والسبب في ذلك أن عقائد المسلمين قد تلونت وتقسمت وتعددت وتفرعت بسبب الاختلافات والفتن التي عصفت بالرعيل الأول من المسلمين، وما ورد علي عقائدهم من عقائد الأمم والوافدين. ولو لم يكن غير هذا لكان كافيا في إيجاب النظر والبحث في ما بلغنا من اعتقاد السابقين، ولكن الرسول (ص) قد صرح محذرا أمته إذ

يقول (ص) (افترقت اليهود علي إحدي وسبعين فرقة، وافترقت النصاري علي اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة). إذا فالاختلاف الذي وقع [ صفحه 17] بين المسلمين إلي اليوم يؤيد ما ذهبنا إليه في وجوب التحقيق والبحث في ما بلغنا من اعتقاد، وإلا فكيف نطمئن علي حصول السلامة وبلوغ النجاة؟ وكيف نثبت ذلك ونقيم عليه الدليل والحجة؟ هذا أمر لا أظن سيستهونه مسلم ارتبط مصيره بيوم فيه حساب ثم ثواب أو عقاب ولا إنسانا صدق باليوم الآخر ولا يرجو فيه النجاة والسلامة، فالتحقيق والبحث هو السبيل إلي بلوغ هذه الغاية والحصول علي النجاة المطلوبة. وما يجدر الإشارة إليه أن الذي يفجعون بالمصير السئ والنهاية والمشؤومة في تلك الحياة الأخري هم الذين سكنت نفوسهم للموروث من العقائد، ظنا منهم أنه الحق، وتلذذت أنفسهم بنشوة الغفلة وهدأة النفس لها، ولما أصابوه من هذه الحياة. وهؤلاء إما أنهم قد أطلقوا للنفس زمامها وحبلها علي غاربها بالتهاون والتساهل في أمر الدين ونسيان الحياة الآخرة وعدم مراعاة أمرها بتصحيح اعتقاد أو أداء تكليف، أو أنهم ركنوا إلي الأوهام في اعتقادهم وغاصوا في بحار التوهم بحثا عن اللؤلؤ، دون أن يتفطنوا إلي أن اعتقادا كهذا لا وجود له حتي يأتي باللؤلؤ النفيس، فليس الوهم إلا عدم محض لا يوجد إلا في الخيال. أو أن هؤلاء قد استلقوا في أحضان الظن في أمر العقيدة. وذاقوا بهذا يسيرا من مذاق الحقيقة بعد اختلاطها بقدر جم من الباطل، وهم في غمرة هذا المذاق الحلو الذي يتلمظونه بين كم من المرارة ركنوا لمذاق الباطل الذي خلطوه به ظنا منهم أن للحق مذاقا كهذا إذ أنهم خطوا عملا صالحا بآخر سيئا (إن يتبعون إلا

الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) [7] . والذين يمحصون اعتقادهم الديني ليبلغ حد اليقين أو قدرا من اليقين تضعف نسبة الشك والظن فيه بصورة تجعل مقدار الشك لا يؤدي وجوده إلي زوال الطمأنينة في الاعتقاد، فهؤلاء أقرب من غيرهم إلي النهج الذي رسمه النبي الأكرم (ص) لكي يسير عليه الناس، بل هؤلاء لا يعجزون عن التماس الأدلة والحجج القوية علي اعتقادهم هذا من حيث موافقته لآيات القرآن وأحاديث النبي (ص) ومسلمات العقل وفطرياته، فهم في [ صفحه 18] حقيقة الأمر يأنسون، في اعتقادهم الممحص هذا، إلي التفسير السليم لنقاط الخلاف بينهم وبين الفرق الأخري، تفسير يخلوا من التكليف الذي لا يرضي أبدا في مثل هذه المواقف، بل يقفون علي أعتاب التفسير الحكيم لهذه النقاط الخلافية دون أن تتلجلج النفوس الحرة في قبوله ودون أن يخالفه القرآن أو الحديث أو مقتضيات العقل المتوازنة فهكذا يجب أن يكون الاعتقاد في المسائل الدينية الأصلية، ولا يتأتي ذلك إلا ببذل الهمم في البحث والتحقيق - كما أسلفنا - والتنائي عن العصبية والجاهلية والتقليد الأعمي. [ صفحه 19]

متطلبات التحقيق في أمر العقيدة

إن من حزم الأمر علي التحقيق والبحث في اعتقاده فهو لا يستطيع إحراز شئ من تحقيقه إن كان مفعما بالتعصب والتقليد اللذين لا يتيحان الفرصة للتحقيق الحر، فلا بد له لكي يكون حر الحركة والتفكير أن يفرغ نفسه من كل ما يكون أن يتسبب في إفساد التحقيق عليه والحيلولة بينه بين ما يصبو إليه من بحثه، وأن يهيئ نفسه جيدا لتقبل الحقيقة التي يصل إليها، بعد نجاز التحقيق والاطمئنان إلي سلامته من حيث المنهج السليم والأدلة المقنعة بلا شك، لأن الخوف من خوض التحقيق أو الخوف من تقبل

النتيجة عدو المحقق النزيه، فالنتيجة تحتم عليه رحابة الصدر لتقبلها باعتبار أنها الحق، بل تحتم عليه الدفاع عنها وعرضها علي الآخرين. ومن لا يهدف إلي هذا من تحقيقه وبحثه فعليه ألا يشرع في شئ من التحقيق لأنه يكون عندئذ مضيعة لوقته، بل يكون عبثا ولعبا، ولماذا يحتمل المشاق ويقطع الحجة علي نفسه ثم لا يقبل نتيجة بحثه وتحقيقه ولا يدافع عنها؟ ثم إن المحقق والباحث في مسألة الاعتقاد الديني له ثوابت أساسية ينطلق منها باديا بحقه وتحقيقه، فهو لا يستغني عنها أبدا، ولا يتجافي عنها في بحثه عن الاعتقاد الكامل السليم. وهذه الثوابت الأساسية تتمثل في: - الإيمان بالله، فهذا اعتقاد استقر في قلوب المسلمين، وهم في ذلك سواء: إذا أننا لا نجد فرقة تدعي الإسلام دون أن يكون لها اعتقاد وإيمان بالله تعالي، بل إنها بغير هذا [ صفحه 20] الاعتقاد تكون علي نقيض الإسلام، فالله تعالي موجود وهو لخالق والمدبر للوجود بأسره، ما علمنا منه وما لم نعلم. - الإيمان بالنبي (صلي الله عليه وآله)، باعتباره رسولا من قبل الله تعالي إلي الناس كافة، وهو خاتم الأنبياء والرسل، معصوم مبرأ عن كل ما يقلل من شأنه، وجبت طاعته في أوامره ونواهيه. - الإيمان بالقرآن كتاب الله الذي أنزل علي نبيه المصطفي (صلي الله عليه وآله) كتابا محفوظا تكفل الله بحفظه عن التحريف والتبديل، وهو المعجزة التي بينت صدقه (صلي الله عليه وآله). فالقرآن هو الدليل علي نبوة محمد (صلي الله عليه وآله)، وهو - من ثم - الدليل علي وجود الله وخالقيته وربوبيته ووحدانيته إضافة إلي الدلائل الأخري المبثوثة في الأنفس والآفاق، وذلك لأن طبيعة القرآن الإعجازية تفرض علي البشر ذلك الاعتقاد، إذ

أنهم - بإزاء القرآن - قد عجزوا عن: 1 - الإتيان بمثله. يقول الله في كتابه الكريم: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أنيأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [8] . 2 - الإتيان بسورة من مثله. يقول تعالي: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فأتوابسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [9] . وهذا تحد صريح يثبت صدق النبي (صلي الله عليه وآله) في ادعائه النبوة، الأمر الذي يثبت وجود الله وهيمنته علي الوجود. 3 - العجز عن تحريف القرآن. ولو بإبدال حرف واحد بحرف آخر، وهذا من إعجاز القرآن الواضح في بقائه - منذ نزوله إلي هذا اليوم عبر القرون - علي ألفاظه، ولا غرو فقدتكفله الله بالحفظ (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [10] وهذا دليل قاطع يؤكد صدوره من عند الله تعالي إلي نبيه (صلي الله عليه وآله). [ صفحه 21] إن الباحث وهو يقف علي هذه الثوابت لا يخشي خلوا عن الاعتقاد الذي يضمن له البقاء علي عقيدة الإسلام، وإن كان ربما اكتنفه النقص من حيث آخر، لأن الإيمان بالله وبرسوله وكتابه ومفارقته فيما أمر الناس به خلل صريح في عقيدة المخالف عن عمد بعد العلم به، ونقص في عقيدة المخالف بلا عمد لجهله بالأمر. وهو لا يعذر لجهله هذا، فما عليه إلا البحث والتحقيق لإزالة الجهل أو الظن أو الوهم لإكمال هذا النقص الواضح،. وهذا هو المطلوب التحقيق فيه، ذلك لأنه لو كان الإيمان بالله وبرسوله وكتابه كافيا لنجاة الناس لما كانت الفرقة الناجية واحدة. ولما اختلف الناس فصاروا مذاهب وفرقا تسعي كل واحدة منها لإبطال

اعتقاد الأخري. فالإيمان بالله وبرسوله وكتابه هي السمة المشتركة بين كل الفرق المختلفة والمتخالفة، ولا نجد فرقة تدعي الانتساب إلي الإسلام تؤمن بالله وتكفر برسوله أو تطعن في كتابه الكريم، ورغم ذلك فالناجية واحدة. فما هي إذا تلك السمة التي انفردت بها هذه الفرقة عن سائر الفرق ونالت بها الفوز والنجاة؟ وبالتأكيد أن هذه السمة لا تتوفر إلا في هذه الفرقة دون غيرها، وإلا لما كان اختلاف، ولكانت كل الفرق في الواقع فرقة واحدة، فما هذه الصفة يا تري؟! وهذا هو أساس البحث والتحقيق الذي نحن بصدده.. إذا لا بد من التعرف علي هذه الفرقة بهذه الصفة التي تميزت بها عن سائر الفرق. يقول الإمام الرازي: (إن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل علي أن الحق لا يكون إلا واحدا. وإذا كان كذلك كان الناجي واحدا [أي الناجي فرقة واحدة من بين الفرق المتخالفة] [11] . [ صفحه 22]

الاسباب الموجبة للتحقيق في أمر العقيدة

اشاره

لا شك أن ما ندين من عقائد يحتوي علي قدر جيد من الحقيقة، بل بالنظر إلي وجود القرآن بيننا يجعلنا نستطيع أن نجزم بأن ما بين أيدينا هو كل الحقيقة، ولكن وجود الحقيقة بيننا شئ والعمل علي أساس هذه الحقيقة شئ آخر، فالنبي (صلي الله عليه وآله) لم يأمر باتباع القرآن أو العمل به فحسب بل قرن به ما قرن، وهذا المقرون بالقرآن ليس فيه حقيقة تنفصل عن القرآن وتخالفه، بل يبين ما اشتمل عليه القرآن من الحق. إذا فالمقرون بالقرآن هذا لا نستطيع أن نقف من دونه علي ما جاء به القرآن من الحق. وهذا هو السبب الذي لا نستطيع معه أن نقطع بأن ما ندين به يشتمل بلا ريب علي اليقين دون الظن،

وكثير من الأسباب أدت إلي عدم القطع هذا فكان دافعا للتحقيق والبحث، ومن هذه الأسباب:

الفتن والاختلافات الحادة

وهي الفتن والاختلافات عصفت بالمجتمعات والأفراد المسلمين، منذ نعومة أظافر الإسلام. وقد بدأت هذه الاختلافات والنبي (صلي الله عليه وآله) لما يرتحل من بين الناس آنذاك، فلقد اختلفوا في أهم مسألة ترتبط بمصير المسلمين وهم جلوس في حضور نبيهم (صلي الله عليه وآله)، وهو الاختلاف الذي عرف فيما بعد ب " رزية يوم الخميس ". ولا تخلو من حكايته كتب السير والأحاديث. ولا شك أن هذا الاختلاف قد ألقي بظلاله علي زماننا، وأحيطت الحقيقة [ صفحه 23] علي أثره بقدر من الإبهام أدي إلي صعوبة التعرف عليها بعينها، ولا سيما بعد افتراض عدالة كافة الصحابة الذين كانوا أول من اختلف في أمور الدين، فقد أسدلت هذه العدالة الشاملة ستارا معتما علي كثير من الأمور، ومنعت التطرق إلي البحث والتحقيق فيما وقع بين الصحابة من اختلاف بهدف إدراك الحقيقة، فتهيب الناس السؤال عما حدث لمعرفة الحق من الباطل. وبسبب هذه العدالة استوي عند المسلمين في هذا العصر الخطأ والصواب! لأن المتخالفين من الصحابة كلهم مأجورون ومثابون! فانتشر الإسلام علي هذا، يدين الناس بأمور كثيرة مختلف عليها فيه.

تعدد الفرق الإسلامية

ذلك أن اختلافا كهذا حدث بين الرعيل الأول - ولا سيما بعد الركون إلي عدالتهم كافة - قد أدي إلي بروز فرق لا تحصي ولا تعد في المجتمع الإسلامي. والعجيب أن أعضاء هذه الفرق - وهم لا يجوزون بحث الخلاف بين الصحابة - تراهم يبحثون حول ما حدث بينهم من اختلاف، وقد غفلوا عن أن اختلافهم هذا كثير منه معلول الاختلافات الأول، فإثبات الحق لفرقة وسلبه عن فرقة أخري، هو في الواقع نسبة ذلك الحق إلي رأي من آراء بعض الصحابة في المسألة المختلف فيها، وسلبه عن الفرقة

الأخري هو سلب هذا الحق عن البعض الآخر منهم في نفس مسألة الاختلاف، وقد طعنوا بذلك في عدالة كافة الصحابة من مكان بعيد.

بعد المسافة الزمنية بين زماننا و زمان النبي

وهذا من الأسباب القوية التي تؤدي بلا شك إلي بعث غريزة التحقيق والبحث في أمور الدين، لأن ما صدر من النبي (صلي الله عليه وآله) لا بد له أن يطوي كل تلك المسافة متنقلا بين أنواع أفراد البشر والمجموعات المتخالفة التي لا تعتمد إلا ما وافق الرأي منها ولا تحتفظ إلا بما تراه صوابا. وهي في تحديدها الصواب من الخطأ تتنازعها أمور وتتناوشها أشياء، فالنسيان [ صفحه 24] والخطأ والهوي والتقليد والعصبية والقبلية والحقد... كل ذلك سيضع آثاره علي ما روي عن النبي (صلي الله عليه وآله) من كلام، وجب علينا التعبد به ونحن في هذا العصر البعيد عن زمن الرسالة. فالذين ينقون ما يمر عبرهم من أقوال وأفعال صدرت عن النبي (صلي الله عليه وآله).. علي أي معيار يعتمدون في هذه التنقية؟ ومن يجرح غيره ويتهمه بالنسيان وكثرة الخطأ يجرحه بأمور هو نفسه عرضة لها وإن كان ثقة عادلا، هذا فضلا عن الذين شمروا عن سواعدهم لوضع ما لم يكن عن النبي (صلي الله عليه وآله) صدوره ونسبته إليه بعد ذلك، وهم أكثر وأشد نشاطا وفعالية. وعملهم أسهل وأهون من عمل الإصلاح.

حصار أهل البيت و تكميم أفواههم

لقد كان الخليفة الأول وكذلك الخليفة الثاني يرجعان في كثير من الأمور إلي أهل البيت، فأبو حفص كان مفزعه في أمور الدين الإمام علي، ولهذا صدر منه مرارا قوله: " لولا علي لهلك عمر "، وقوله: " الله أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن "، وهكذا كان دأبهما. وأعلمية أهل البيت - وعلي رأسهم الإمام علي (عليه السلام) - من الحقائق التي لا مراء فيها ولا جدال، وقد اعترف بذلك أبو بكر الصديق وخليفته أبو حفص. واستمر الحال إلي

زمان عثمان حيث استولي بنو أمية علي مقاليد الأمور في الدولة الإسلامية، وتصرفوا في كل شئ حتي هيمنوا علي السلطة تماما، فتغير الحال وحورب أهل البيت، وحوصرت أقوالهم، وسلب حقهم في المرجعية الدينية فضلا عن الخلافة. واستمر الحال هكذا إلي آخر يوم في الدولة العباسية، فنشأ الناس علي ترك أهل البيت. ثم إن الحصار في دولة بني أمية لم يقف علي إبعاد أهل البيت النبوي عن المرجعية فحسب، بل تعدي إلي ابرازهم بنحو يؤدي إلي نفور الناس منهم، ولهذا الغرض استنوا سب الإمام علي (عليه السلام) أكثر من خمسين عاما. وضرب الحصار علي من يرجع إليهم في أمور دينه، وقتل من لم يطلق لسانه فيهم بالسباب والشتم، وهيئت الفرص لمن يسبهم ويجافيهم. وأمر معاوية الناس في بقاع [ صفحه 25] الدولة بإبراز محاسن غيرهم في مقابل ما أبرزه النبي (صلي الله عليه وآله) من محاسن لهم، ثم قتلوا بعد ذلك شر تقتيل، فليس منهم إلا مسموم أو مقتول. كتب معاوية نسخة واحدة إلي عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته! فقامت الخطباء في كل كورة وعلي كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته. وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام [12] . والسؤال الذي يطرح ببراءة: لماذا حارب الأمويون طيلة حكمهم هذا علماء أهل البيت؟ ولأي شئ قتلوهم؟ ولماذا نسج علي منوالهم العباسيون؟ وقد يجيب أحد بأنهم نافسوهم في الحكم والسلطة.. ولكن، هل كان أهل البيت يعارضون حكم الأمويين لو كان قائما علي ما جاء به الوحي وقضي به النبي (صلي الله عليه وآله)؟!

وهل كان من الوحي سب الإمام علي أو قتل الإمام الحسين بالصورة الوحشية التي عرفها التاريخ؟! أو كان من الوحي إطعامهم السم الزعاف؟! وهل كان أبناء الرسول يحبون السلطة من أجل السلطة والحكم؟ وما ذا تضرر العباسيون من عترة النبي (صلي الله عليه وآله) حتي انتهجوا معهم ما انتهجه الأمويون؟! إن أهل البيت بعد الضربات الأموية لم تبق لهم تلك الخطورة السياسية التي تعتمد علي قوة الجيش والسلاح، فقد انفض الناس من حولهم إما خوفا من القتل والسبي، وإما انجذابا نحو الأصفر والأبيض من أموال السلطة. وصار أهل البيت تحت المراقبة الأموية في منازلهم وبين أهليهم، أو في المحابس وفي سجون الحكومة العباسية، وهذا يكفي الحكام لتوطيد حكمهم. إذا.. لماذا القتل؟! وهل كان لأهل البيت خطر غير الجيوش والسلاح لا يزول إلا بقتلهم؟! وما ذاك الخطر؟ وهل كان السبيل إلي الصلح والتوافق معهم قد أغلق تماما؟! لقد كانت المسألة بين الحكام من الأمويين والعباسيين، وبين أهل البيت مسألة الدين والشرع، فالحكام في نظر أهل البيت قد خالفوا الشرع والنهج المحمدي، وأهل [ صفحه 26] البيت في نظر الحكام خطر ديني أساسي لا يحتاج إلي جيش وسلاح. وهذا الإمام الحسين يصور حقيقة النزاع بين الحكام وأهل البيت، يقول الطبري: " وقام الحسين في كربلاء مخاطبا أصحابه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا علي الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود،

واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله،وأنا أحق من غيري " [13] . فإذا كان النبي (صلي الله عليه وآله) قد ربي أبناء الناس علي الدين خير تربية، أتراه تاركا أبناءه فإنه علي غير تربية الدين؟! لا، بل لهم الأولوية في التربية والنشأة علي الوحي، وإلا فإنه يكون كالآمر بالبر والناسي لنفسه. ولما كان هدف أهل البيت إقامة الدين وإجراء الشرع الذي تربوا عليه وهم أولي بذلك، كان الحكام في زمانهم يهدفون إلي السلطة فحسب، لأن الذي لا يهدف إلي شئ إلا أن يري الدنيا قائما، لا يضيره شئ إن قام الدين بغيره من الناس علي الوجه المطلوب. وهكذا حوصر أهل بيت النبوة من كل صوب، ومنعوا من الكلام في أي أمر في مجال الدين سياسيا وعباديا. فإن كان هذا حال أهل البيت فمن من أتباعهم تكون له جرأة الكلام والتفوه بما يرضي العترة النبوية؟! فلو استهان أمر أهل البيت عند الحكام فلأمر أتباعهم أشد هوانا. ومع ذلك ظهر علي سطح الساحة الدينية علماء صار حق الفتيا لهم، وارتضاهم الحكام، وقصدوا إلي فرض ما أفتوا به علي الناس ونشره بينهم، فقربوهم إليهم وأجزلوا لهم العطاء. فلم كان ما أفتي به هؤلاء يرضي سريرة أهل البيت ويوافق ما هو عليه من أمر، فلماذا لم يترك الحكام أهل البيت لأن يفتوا أو يقولوا بهذا ما دام لا يضيرهم منه شئ؟! أم أن هؤلاء كانوا أعلم من أهل البيت بأمور الدين والوحي؟! ولكن أهل [ صفحه 27] البيت لم يكونوا ليقبلوا بالصمت أمام الظلم وجور الحكام، كما سمعت من كلام الإمام الحسين. وأما من قرب من العلماء وارتضي من قبل الحكام فلم يكونوا يرون ما كان يراه الإمام

الحسين وأهل البيت كافة، ولذا أفتي هؤلاء العلماء بما زعموا أنه من رسول الله (صلي الله عليه وآله): " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية "! وبعد هذا كيف لا يقبل الحكام هذه الفتاوي وأصحابها من العلماء؟! وكيف بعد هذا يسمع لأهل البيت فتوي في الدين؟! ولهذا أبعد أهل البيت، وقرب من خالفهم من العلماء والناس. واستمر الحال هكذا وطارت فتواهم كل مطير وانتشرت في البلاد وسار الناس علي مذاهبهم، ولم يلتفت أحد إلي بيت النبوة ومهبط الوحي، فأخذ الناس الدين عن غيرهم. وها نحن نري الخلاف بين أتباع المذهب الجعفري [14] من شيعة أهل البيت وبين المذاهب السنية. أفلا يدعو هذا إلي البحث والتحقيق؟! [ صفحه 28]

اختلاف المسلمين حول ولي الأمر بعد النبي

ثم إن من المسائل التي تفرض علينا التحقيق البحث حولها باعتبارها من أهم مسائل الدين، هي معرفة ولي الأمر. الاعتقاد السائد بين كافة المسلمين أن النبي (صلي الله عليه وآله) هو خاتم الأنبياء والرسل، أي هو نبي لا نبي من بعده، وأي اعتقاد بخلاف ذلك يستوجب الكفر بلا شك. وفرض عدم خاتمية الرسالة يفرض نبيا آخر يأتي بعد محمد (صلي الله عليه وآله) لهداية الناس بعد انقضاء فترة الإسلام، ولما لم يكن كذلك.. فهم الإسلام علي ضوء ختم الرسالة بأنه دين كل زمان ومكان، وهذا منطق بلا شك يتفق وختم الرسالة، وعلي هذا تصافق وتوحد اعتقاد المسلمين باعتباره أمرا قرآنيا مسلما (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [15] ، وعلي هذا فإننا نستخلص من هذا الاعتقاد المسائل التالية: 1 - ليس هناك نبي يأتي بعد محمد (صلي الله عليه وآله)، فهو خاتم وآخر الأنبياء والرسل. 2 -

إن الإسلام خاتم الأديان، وهو قد جاء إذا لكافة الناس إلي يوم القيامة. 3 - ولكي يفي الإسلام بهذه العمومية لكل البشر، وحتي يفي بمتطلبات عموم الناس علي اختلافهم وتنوعهم زمانا ومكانا، لا بد أن يكون علي درجة من القوة والكمال حتي ينهض بالناس دينيا واجتماعيا وسياسيا وخلقيا واقتصاديا، ولهذا يقول تعالي: (اليوم [ صفحه 29] أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [16] والله لا يرضي بما هو ناقص غير مكتمل، كما هو واضح. بكل هذه الخصائص لا بد لهذا الدين أن يشق طريقه نحو المجتمعات، ماضيها وحاضرها والناشئة مستقبلا، لإرشاد الناس إلي سبيل المؤمنين، وإبطال كل فكر واعتقاد يباعد بينهم وهذه السبيل. فهذه مهمة لا تنجز منحصرة في عصر واحد، بل تقتضي الحضور الدائم في كل عصر، فكما كان النبي (صلي الله عليه وآله) هو المتصدي لهذه المهمة يكون ولي الأمر من بعده هو المتكفل بذلك، وهكذا أولو الأمر إلي آخرهم. وأهمية ولي الأمر تنحصر في أمور: أولا: فهو من ناحية أنه رئيس وقائد ومدير لشؤون الدولة الإسلامية، فله الأهمية السياسية بكل جوانبها. ثانيا: ومن ناحية أنه المرجع الديني للمسلمين في نواحي الدولة الإسلامية كافة، فله الأهمية الدينية التي لا تنفصل عن حياة الناس. ثالثا: ومن ناحية أنه واجب الطاعة فهو يمثل مسألة من أهم مسائل أصول الدين، إذ أن طاعته أمر إلهي تعبدي لا بد من أدائه، وذلك لقوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [17] ، فهذا أمر مطلق قطعي، وواجب يلزم أداؤه لولي الأمر. إذا، فالأمر الصادر من الله تعالي بإطاعة أولي الأمر يحتم علينا التعرف علي ولي الأمر هذا، لأداء واجب الطاعة له، تنفيذا

لأمر الله تعالي. والطاعة هذه تكون لولي الأمر في كل ما يقول ويأمر به وينهي عنه، فمخالفته في شئ بعد تعيينه معصية صريحة، ومخالفته في أمر بسبب الجهل به ليس فيه عذر، لأن تصريح القرآن بالأمر بطاعته هو إشارة إلي وجوده وتعيينه، وإلا يكون تكليفا فوق الطاقة. فمن هو ولي الأمر من بعد النبي (صلي الله عليه وآله)؟ لقد اختلف المسلمون في ذلك، وانحصر الاختلاف بينهم في ولي الأمر بين أبي [ صفحه 30] بكر بن أبي قحافة وعلي بن أبي طالب (عليه السلام). وذلك لاستلام أبي بكر زمام الخلافة بعد النبي (صلي الله عليه وآله)، ولادعاء الإمام علي أحقيته في ذلك، وقد قال (عليه السلام) في ذلك: " ولقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها كمحل القطب من الرحي، ينحدر عني السيلولا يرقي إلي الطير " [18] وهو يعني بذلك الخلافة وأحقيته فيها. فمن هو الخليفة وولي الأمر؟ ولا بد أن يكون واحدا، إذ لا يصح أن يكون وليان للأمر في زمان واحد لدولة واحدة. ولما كانت طاعته واجبة فهو إما أن يكون أبا بكر أو علي بن أبي طلب (عليه السلام). ونحن مسؤولون عن معرفة الولي المطاع، طبقا للآية الكريمة، ومن هنا تظهر أهمية التحقيق والبحث بل وجوبه حول هذه المسألة المصيرية. [ صفحه 33]

عدالة الصحابة

مقدمة في عدالة الصحابة

إن مسألة عدالة الصحابة لهي من المسائل التي وضعت بصماتها بصورة جلية في حياة المسلمين الاعتقادية والعبادية، ذلك لأن قول الصحابي وفعله أضحي من الأمور التي أولاها الفقهاء وعلماء الحديث والأصول أهمية أدرجتها في مصاف مصادر التشريع الإسلامي، وصارت من المقدسات الدينية عند المسلمين. فكثير من المسائل الفقهية ترجع إلي قول الصحابي وفعله وما

سنه من سنن، حتي وإن كانت هذه السنن تخالف تماما السنة النبوية أو صريح القرآن، كغسل الرجل عند الوضوء دون مسحها [19] ، وسن صلاة التراويح في جماعة [20] ، وقول: " الصلاة خير من النوم " [21] في آذان الفجر، وإلغاء زواج المتعة وتحريمه [22] ، وسن الآذان الثاني في صلاة الجمعة [23] وغير ذلك كثير سن من قبل بعض الصحابة، دون أن يوافق ما كان عليه النبي (صلي الله عليه وآله). علي أن من المسائل التي تدعو إلي التعجب وتبعث علي الحيرة، إدراج كافة الصحابة في صحيفة العدالة دون مراعاة [ صفحه 34] لمدة الصحبة ودرجتها، من حيث الملازمة للنبي (صلي الله عليه وآله) ومستوي أخذ الأحكام منه ودرجة الاهتمام بذلك. وفي الواقع لم يكن الصحابة من هذه النواحي سواسية، فكان منهم الذي يكتب ويسجل الحديث، ومنهم من لم يكن يكتب، ومنهم من شغلته الصفقات في الأسواق فيفوته الكثير ثم ينقل إليه نقلا، ومنهم من له أوقات خاصة مع النبي (صلي الله عليه وآله)، وقد خص بالعلم دون الآخرين، فإن سأل يعطي وإن سكت عن السؤال يبتدر بالعلوم [24] ومنهم من يسمع الحديث فلا يعيه، ومنهم من يحفظ ما يقال، ومنهم من ينساه. فالصحابة بشر بلا شك، فلا يمكن أن يكونوا في ذلك علي وفق واحد. علي أن الصحابة من حيث الإيمان لم يكونوا علي قرار واحد، ولا في الإخلاص علي وتيرة. فهذا هو التاريخ والواقع يبين هذه الحقيقة، فلماذا الغلو في الصحابة؟! لا شك أن وصفهم كافة بالصحبة التي تستوجب العلم والعدالة إسراف مبغوض وتكلف لا يطاق، إذ لا دليل ينهض بذلك ولا حجة تقوم له. ومهما يكن صاحب هذا الرأي ومهما

ينسب إليه من الأوصاف والنياشين العلمية فهو مخطئ وعاثر في رأيه هذا، إذ أن الخطأ والغلط والنسيان سواءا كان عمدا أو سهوا فهو من لوازمه، فلا يؤخذ بقول كل من يقول ولا بكل ما يقول. إن مسألة عدالة كافة الصحابة بقضهم وقضيضهم من المسائل التي عفي عليها الدهر، وتجاوزها العلم والمنطق. ونحن بقدر ما نري في ذكرها حلا لمعضلة البعض من الشباب المتعطشين للحقيقة، نري البحث فيها مضيعة لوقت أولئك الذين وقفوا عليها. وقبل الخوض في الموضوع تفصيلا، علينا أن نري أولا ما يقوله القوم في تعريف الصحابي، والمعيار الذي اعتمدوه في تحديد عدالة الجميع.

تعريف الصحابي

يقول ابن حجر في تعريف الصحابي: " الصحابي من رأي النبي (صلي الله عليه وآله) مؤمنا به ومات [ صفحه 35] علي الإسلام، فيدخل في من لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روي عنه ومن لم يرو، ومن غزا معه ومن لم يغز، ومن رآه رؤية ومن لم يجالسه ومن لم يره لعارض العمي " [25] " وأنه لم يبق بمكة ولا الطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد مع النبي (صلي الله عليه وآله) حجة الوداع، وأنه لم يبق من الأوس والخزرج أحد في آخر عهد النبي (صلي الله عليه وآله) إلادخل في الإسلام، وما مات النبي (ص) وواحد منهم يظهر الكفر " [26] . هكذا عرف ابن حجر الصحابي، وكما وضح فإن رؤية النبي (صلي الله عليه وآله) هي المعيار الذي ينال الفرد به لقب الصحبة عنده، حتي وإن لم يجالس النبي (صلي الله عليه وآله) لحظة عمره. ثم إنه لما جاءت سنة عشر لم يبق أحد في مكة والطائف إلا أسلم، وبالطبع علي

يد النبي (صلي الله عليه وآله)، فيكون بالتالي لم يبق أحد منهم إلا وقد انضوي في سلك الصحابة، لإسلامه ومشاهدته النبي (صلي الله عليه وآله). ثم إنه لما كانت حجة الوداع التي حضرها مع النبي (صلي الله عليه وآله) ما يربو علي مائة ألف شخص كان هؤلاء كلهم - علي قول ابن حجر - من الصحابة، لأنه يستبعد أن يكون هناك من لم يره. ثم إنه لما مات النبي (صلي الله عليه وآله) لم يظهر من أحدهم الكفر، فيكون النبي (صلي الله عليه وآله) قد ارتحل وترك الناس كلهم صحابة، لمشاهدتهم إياه، وإسلامهم علي يديه، وعدم ظهور الكفر من أحدهم، وهكذا يكون النبي (صلي الله عليه وآله) قد ترك الناس كلهم صحابة عدولا، لإسلامهم علي يديه، ولعدم ظهور الكفر من أحدهم حتي رحيل النبي (صلي الله عليه وآله). فهذه هي الصحبة بحدودها التي عرفت بها.

تعريف العدالة

وأما العدالة التي وصف بها كل الصحابة، لصحبتهم النبي (صلي الله عليه وآله) وجعلتهم من مصادر التشريع الإسلامي التي لا يجوز ردها، فيقول فيها إمام الجرح والتعديل أبو حاتم الرازي: " أما أصحاب رسول الله (ص)، فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه (ص) ونصرته وإقامة دينه [ صفحه 36] وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة، فحفظوا عنه (ص) ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع وحكم وقضي وندب وأمر ونهي، وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله (ص) ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه

إياهم موضع القدوة، فنفي عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والفخر واللمز، وسماهم عدول الأمة " [27] . بيد أن الغزالي يرد جميع المذاهب التي رأت القول بعصمة الصحابة وحجية قولها، فيقول: " قد ذهب قوم إلي أن مذهب الصحابي حجة مطلقا، وقوم إلي أنه حجة إن خالف القياس، وقوم إلي أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله: اقتدوا بالذين من بعدي، وقوم إلي أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا. والكل باطل عندنا " [28] ، فيكون الإمام الغزالي بهذا قد رمي بعصمة الصحابة وحجية أقوالهم في مزبلة الباطل. علي أن انشعاب القوم في مسألة حجية قول الصحابة وذهابهم تلك المذاهب يدل بوضوح علي أن عدالة الصحابة بأجمعهم أمر فيه اضطراب أدي إلي هذا التقسيم، إذ ليس من بينها مذهب يمكن الاعتماد عليه، لأن واقع الصحابة من حيث الوقوع في الخطأ والاختلاف يبطل تلك المذاهب والنصوص التي اعتمدوا عليها من السنة في حجية الصحابة كافة. إن الذين ذهبوا إلي أن مذهب الصحابي حجة مطلقا لا شك أنهم واقعون في التناقض الذي يوجب تأييد رأي ضد رأي أو رد كلا الرأيين. وهذا التضارب إما من حيث اختلاف الصحابة فيما بينهم، أو من حيث اختلاف أقوال الصحابي نفسه، أو من حيث مخالفة أقوالهم أحيانا للقرآن والسنة. أما قول البعض بأنه حجة إذا خالف القياس فمفهومه أنه ليس حجة إذا خالف القرآن والسنة، لأنهما مقدمان علي القياس بلا خلاف. [ صفحه 37] أما قول البعض بأن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة، فهم مطالبون بتوضيح ما صدر منهما من أفعال خالفت القرآن والسنة النبوية. ثم إنه كيف يكون الحال إذا خالف قول الصحابي قياس

صحابي آخر، وأي القولين عندئذ أولي بالترجيح؟ وأما حجية أقوال الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا، فهذا شرط يفهم منه عدم حجية رأي أحدهم منفردا أو إذا خالفه الآخرون منهم. وتأييد رأي أحدهم ضد رأي الآخر يقتضي نسبة الخطأ للآخر، إذ لا يمكن أن يصح الرأيان مع الاختلاف بينهما، فأين انتفاء الخطأ عن كل الصحابة؟! أما الأحاديث التي اعتمدوا عليها في منح العدالة لكافة الصحابة، فمنها حديث الاقتداء الذي نصه: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". ومنها حديث الخلفاء الراشدين الذي نصه: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ". ومنها حديث الاقتداء بالذين... ونصه: " اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر ". وسنبحث هذه الأحاديث ونورد أمثلة تبين خطأ المعتمدين عليها في فرض حجية كافة الصحابة أو الأربعة منهم أو أبي بكر وعمر. وسنحصر البحث في مطابقة متون هذه الأحاديث لواقع الصحابة، وهذا وحده كفيل ببيان حقيقة وضع هذه الأحاديث، وخطأ نسبتها إلي النبي (صلي الله عليه وآله). علي أن هذه الأحاديث من حيث السند ساقطة أيضا، وهذا ثابت في مظانه. ومن هذا يتضح أن معني العدالة التي صارت سمة عامة لكافة الصحابة هي العصمة تماما، فمن ناحية قوله: " فحفظوا عنه (ص) ما بلغهم عن الله عز وجل ومن سن وشرع وحكم وقضي وندب وأمر ونهي وحظر وأدب، ووعوه فأتقنوه، ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله " ينضاف إليهم إلي جانب الصحبة صفة العلم، فالصحابة علي هذا القول كلهم من العلماء الذين فقهوا في الدين وعلموا أمر الله وأحكامه ونواهيه بوعي وإتقان دون شائبة. والحال ليس كذلك، لأن الوقوع في الخطأ سببه الجهل. ومن ناحية قوله: " فنفي عنهم الشك والكذب

والغلط والريبة والفخر واللمز " ينضاف إليهم صفة العدالة، وهي بهذا المعني لا يفهم منها إلا العصمة، لأن الذي نفي عنه الغلط [ صفحه 38] والخطأ والكذب والشك فهو معصوم بلا كلام. فيتضح لنا أن العدالة التي وصف بها كل من أسلم وشاهد النبي (صلي الله عليه وآله) هي العصمة عن الخطأ والشك والكذب. ومما يؤكد أن معني عدالة الصحابة هي عصمتهم عن الخطأ والشك والكذب ما قاله ابن الأثير، فهو يقول: " والصحابة يشاركون كافة الرواة... إلا في الجرح والتعديل، فإنهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح " [29] وهكذا ينسب ابن الأثير العصمة إلي كل الصحابة بقوله: " لا يتطرق إليهم الجرح " فالذي لا يتطرق إليه الجرح، إما أن يكون فيه أسباب الجرح وهي الخطأ والشك والكذب... ورغم ذلك لا يجرح ولا يطعن فيه، وهذا ما لا يقره عاقل فضلا عن الدين الإسلامي وشرعه الذي جاء يدعو الناس للعدل والمساواة، وإما أن يكون ليس فيه من أسباب الجرح والطعن شئ قط، بمعني أن يكون قد نفي عنه الغلط والشك والكذب حقيقة، فهو المعصوم. فهذا ما حواه معني كلام أبي حاتم الرازي، سواء قصد هذا أو لم يقصده. ومن المستبعد أن يكون غير مقصود منه، لأن قول الصحابي لهذا السبب صار من مصادر التشريع الأساسية. وبعد هذا التحليل والشرح الوجيز، نفهم بكل وضوح أن الصحبة التي نالها البعض بالرؤية فقط لا بالملازمة اللصيقة ولا بالانقياد التام والطاعة الحقة للنبي (صلي الله عليه وآله) ولا بالأخذ الصحيح منه الذي سيؤدي إلي العلم اليقيني بالشئ الباعث لإرث الأنبياء " العلماء ورثة الأنبياء ". أقول: هذا النوع من الصحبة استوجب هذه العصمة وتلك العدالة التي لا تتوفر

إلا في نبي مرسل أو إمام منصوص عليه. علي أن الذين منحوا كل من أسلم وشاهد النبي (صلي الله عليه وآله) بلا استثناء هذا النوع من الصحبة المقرون بالعدالة المستوجبة للعصمة قد اعتمدوا كما أسلفنا علي أحاديث هي في حقيقة الأمر واهية وضعيفة لم تسلم هي نفسها من الجرح والقدح فضلا عن إعطائها العصمة بالدلالة علي من لا يستحقها، فإلي تفصيل البحث حول هذه الأحاديث ومدي دلالتها علي عدالة الصحابة كافة. [ صفحه 39]

حديث الاقتداء بالصحابة

اشاره

لقد اعتمد القائلون بعدالة كافة الصحابة بقضهم وقضيضهم - كما أسلفنا - علي أحاديث زعموا أنها صادرة عن النبي (صلي الله عليه وآله)، ولهذا منعوا الكلام فيهم وفي تمييز غثهم من سمينهم، واعتبروهم طبقا لذلك في عصمة من الجرح والطعن، بل اعتبروا الكلام فيمن خالف الشرع منهم فسقا وخروجا عن دائرة الإسلام. وهذا الكلام لا يصدر إلا عمن أضاع أسس القياس والمعيار الشرعي في معرفة الناس وأفعالهم، واعتمد علي التقليد الأعمي وعدم الواقعية، لأن كلاما مثل هذا لا يسنده الواقع الذي عاشه الصحابة في زمانهم، إذ لا يمكن أن تؤيده هذه الأحاديث بتلك العمومية التي تفهم من نصوصها الشاملة لكافة الصحابة، فقد زعموا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " [30] ومعني الحديث واضح في إشارته إلي الاقتداء بكافة الصحابة في أمور الدين، وأن الاقتداء بأي كان منهم موجب للهداية والنجاة. وسنضرب أمثلة من مخالفات بعض الصحابة التي خالفوا بها الشرع صراحة، حتي يتضح أن ما ذهب إليه هؤلاء لا يستقيم، وأن بعض الصحابة لا يمكن أن يعتمد عليهم في أخذ مسائل الدين لمخالفتهم للدين نفسه. ونحن نعلم جيدا أن مخالفة الشرع

[ صفحه 40] لا تستحسن من أحد صحابيا كان أو تابعيا أو من سائر الناس، ذلك لأن هذا الدين فوق الجميع ولا يعرف فضيلة لأحد علي الآخر إلا بمقدار تمسكه بالدين وبمقدار ما يتصف به من تقوي. وإثبات مخالفة البعض للشرع يكفي في إبطال حديث الاقتداء بجملة الصحابة، وبالتالي سنعلم أن الصحابة بعضهم يستحق أن يكون قدوة لالتزامه جانب الشرع واقتفاء أثر النبي (صلي لله عليه وآله) واتباعه في أفعاله دون تغيير لها أو تبديل، وبعضهم لا يستحق أن يكون أسوة يقتفي آثاره غيره، لمخالفته النبي (صلي الله عليه وآله) في آثاره. وفي الواقع لا يملك الإنسان إلا التعجب من أولئك الذين ينسبون العدالة والوثاقة لكل الصحابة، ويغضون أبصارهم عما نقل عن بعضهم من آثام وأخطاء في الدين. يقول الشيخ التفتازاني: " ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات علي الوجه المسطور في كتب التاريخ والمذكور علي ألسنة الثقاة يدل بظاهره علي أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلي اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوما ولا كل من لقي النبي (ص)بالخير موسوما " [31] فانظر إلي سلامة هذا القول وصراحته في تأييد ما ذهبنا إليه في نقض عدالة بعض الصحابة، وهو الحق بلا ريب. إن فرض القول بعدالة كافة الصحابة، هو في الواقع كتم للأنفاس وتسلط علي الدين وفرض للآراء ورد لنظر القرآن في بعض الصحابة. وخلاصة القول فهو مسلك لا ينتهي سالكوه إلا إلي الحيرة والاختلاف والتخبط في الدين. والذين يصححون أخطاء الصحابة قد أخطأوا في معرفة مقياس صحة الأعمال، واختلط عليهم ذلك الأمر، هذا مع إحسان

الظن بهم وإلا فهم قد خضعوا لسلطان السياسة والعصبية، فهم بتصحيح أخطاء الصحابة يسعون إلي الضغط علي الشرع ليتقبل هذه الأخطاء ويعطيها مكانا عنده بعد طلائها بطلاء الشرع لتصبح بذلك مصدرا للتشريع. لقد غفل هؤلاء عن أن الشرع هو الذي يجب أن يكون المقياس في صحة أو بطلان أعمال الناس سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وهذا واضح جدا، فكلما اصطدموا بخطأ صدر من أحد الصحابة يخالف به أحكام الدين [ صفحه 41] وحدود الله يسعون بكل جهد إلي لي أطراف الشرع وتشكيل أحكامه لصناعة قالب شرعي منه لهذه الأخطاء، وهم مع ذلك يسمعون قول النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله): " من عمل عمل اليس عليه أمرنا فهو رد " [32] فكل عمل لا يطابق الشره فهو مردود مرفوض مهما كان صاحبه، ولعمري إن هذا لهو الحق الذي يقبله الشرع نفسه وترتاح علي جنبه العقول وتنسجم مع أطرافه الفطرة الإنسانية.

شرب الخمر

قدامة بن مظعون صحابي من أهل بدر، تعاطي الخمر في زمان الفاروق، فأقام عمر بن الخطاب عليه الحد إجراء لحكم الله تعالي.. [33] فماذا يضيرنا لو قلنا لابن مظعون الصحابي البدري هذا: إنك ارتكبت إثما كبيرا وعصيت الله بذلك، فهل نصبح بهذا القول من الفاسقين الخارجين عن الدين؟! وقد يقول قائل: إن الله قد غفر لأهل بدر فليفعلوا ما يحلو لهم، فلو كان هذا الكلام صحيحا فلماذا لم يغفر الفاروق وقد غفر الله لابن مظعون وأمثاله؟! غير أن الفاروق لم يتوان عن إقامة الحد علي ابنه عبد الرحمن الأصغر أيضا عندما تعاطي الخمر هو الآخر، فعمر لم يسع إلي تبرير خطأ هؤلاء الصحابة، ولم يقل: اجتهد هؤلاء في شربهم الخمر فأخطأوا ولهم أجر

واحد، وإلا فعلي الدين السلام! ثم إن الوليد بن عقبة كان واليا علي الكوفة، فشرب الخمر وقام يصلي بالناس صلاة الفجر، فصلاها أربع ركعات، وكان يقول في ركوعه وسجوده: " اشربي واسقني "، وتقيأ في المحراب ثم سلم بعد الأربع وخاطب المصلين: " هل أزيدكم "؟! [34] فأقام الإمام علي (عليه السلام) عليه الحد الشرعي ولم تشفع له صحبته بشئ، ورغم ذلك فعلينا أن نقتدي بهم لكونهم من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله)! أرجو أن لا يعاند أحد الحقيقة المرة ويقول: إن الوليد [ صفحه 42] كان من المنافقين، فالرجل كان واليا علي الكوفة في زمان عثمان بن عفان. ونحن علي استعداد لقبول عدالة الوليد هذا لو استطاع من ينسبها لكافة الصحابة إثبات ذلك له، وهيهات.

الفرار من الزحف و شماتة البعض

يقول ابن هشام: " فلما انهزم الناس ورأي من كان مع رسول الله (ص) من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: " لا تنتهي هزيمتهم دون البحر "! وصرخ جبلة بن حنبل: " ألا بطل السحر اليوم " [35] ! فأبو سفيان هذا صحابي معروف، فهل يلزمنا أن نقول إنه من العدول؟! أم كان جبلة محقا في اعتقاده ببطلان دين السحر يوم حنين؟! وعلي من كان ضغن وحقد أبي سفيان حتي دفعه إلي التفوه بهذا القول وإظهار ذلك السرور عندما شاهد هزيمة المسلمين؟! علي أنه لما تمت البيعة لعثمان وتولي أمر الخلافة دخل إليه بنو أمية، حتي امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليه، فقال لهم أبو سفيان: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا. قال: " يا بني أمية، تلقفوها [يعني الخلافة] كتلقف الكرة، فوالذي يحلف

به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة "! [36] وبهذا ينكشف لنا ضغن أبي سفيان، وهو الصحابي العدل ينكر البعث ويوم الحشر. وليتنا نعلم بمن يحلف أبو سفيان، وهل بعد إنكار البعث والجنة والنار يبقي شئ يحلف به أبو سفيان غير اللات والعزي؟! ورغم ذلك فقد نفي عنه الشك والخطأ والكذب وصار من عدول الأمة! والعياذ بالله من التقليد الأعمي. إن فرار كثير من الصحابة يوم حنين وأحد، من المسائل التي لا تخفي علي أحد، والفرار من القتال أمر منكر يؤدي إلي غضب الله وسوء المصير. يقول تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا [ صفحه 43] لقتال أو متحيزا إلي فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) [37] فماذا حدث يوم أحد؟ يقول القرطبي: " قد فر الناس يوم أحد، وعفا الله عنهم " [38] ولقد خاطبهم الله تعالي بقوله: " إذ تصعدون ولا تلوون علي أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " [39] وقيل كان يناديهم النبي (صلي الله عليه وآله): " إلي عباد الله [40] ، من كر فله الجنة " دون أن تحين منهم التفاتة. وأما غزوة حنين فقد لاذ فيها أغلب الناس بالفرار، وقال لهم تعالي: (ثم وليتم مدبرين) [41] يقول الواقدي في فرار الصحابة: " فقالت أم الحارث: فمر بي عمر بن الخطاب فقلت له: يا عمر، ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله " [42] ! إن فرار الصحابة عن بعض ساحات المعارك أمر أثبته التاريخ وحفظه القرآن آيات تتلي. وفي غزوة أحد يقول الطبري: "

وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة،وانطلق بعضهم فوق الجبل إلي الصخرة فقاموا عليها " [43] فكيف بهذه الصحبة التي لا تمنع صاحبها من ارتكاب خطأ كهذا وقد حصلوا فيها علي العدالة؟! وكيف تكون تلك العدالة وقد تركوا نبيهم في تلك المعارك عرضة لسيوف الحاقدين من المشركين، وبه قد نالوا تلك الصحبة؟! ولولا بعض الصحابة العدول حقا لانطفأ نور الإسلام، ولكن أتمه الله بهم إذ وقفوا إلي جنب النبي (صلي الله عليه وآله) يصدون عنه كل خطر، ويحمونه بأبدانهم، ويفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم. ويقول: قد كان الناس انهزموا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) حتي انتهي بعضهم إلي المنقي دون الأعوص. وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان... حتي بلغوا الجلعب جبلا بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثا... قال لهم رسول الله: لما عادوا " [ صفحه 44] لقد ذهبتم فيها عريضة " [44] .

كتمان الشهادة! شهادة الزور

وأرجو أن لا يندهش أحد إذا قلت: إن من الصحابة من كذب وكتم الشهادة. وهذا بلا شك طعن في العدالة والوثاقة، ذلك أن كتم الشهادة وشهادة الزور من أكبر المطاعن التي بين سوءها القرآن الكريم. يقول ابن أبي الحديد: " ذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي عليه السلام، قائلين فيه السوء. ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه، ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة، منهم أنس بن مالك. ناشد علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال رحبة الجامع بالكوفة -: أيكم سمع رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يقول: " من كنت مولاه فعلي مولاه "؟ فقام اثنا عشر رجلا شهدوا بها،

وأنس بن مالك في القوم لم يقم، فقال له: يا أنس! ما منعك أن تقوم فتشهد، ولقد حضرتها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت سني ونسيت! فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه " [45] . فالصحابة بشر تدفعهم بشريتهم أحيانا إلي ارتكاب الأخطاء من أجل تحقيق أهداف، وإن خالفت الشرع، وحتي لو أدي ذلك إلي شهادة الزور. روي أنه لما جازت عائشة ماء الحوأب ونبحتها كلابها تذكرت تحذير رسول الله (صلي الله عليه وآله) ونهيه إياها أن تكون هي صاحبة الجمل، فبكت وقالت: " ردوني، ردوني "، فجاءها طلحة والزبير بخمسين رجلا لهم جعلا، فأقسموا بالله إن هذا ليس بماء الحوأب. فواصلت مسيرها حتي البصرة. ثم ذكر أنها أول شهادة زور أقيمت في [ صفحه 45] الإسلام [46] . وروي أن أول شهود شهدوا في الإسلام، وأخذوا عليها الرشا: الشهود الذين شهدواعند عائشة حين مرت بماء الحوأب... أنه ليس ماء الحوأب [47] . فأي عدالة تبقي بعد شهادة الزور والقسم بالله كذبا؟! وقد قالوا إن الله نفي عنهم الكذب وسماهم عدول الأمة، إنه بهتان عظيم، فليس الصحابة كلهم عدولا، وإنما العدول منهم قلة كما أن أهل الحق قلة.

سب الإمام علي

إن مسألة سب الإمام علي (عليه السلام) علي المنابر من أشهر المسائل التي شهدها القاصي والداني، وطرقت أسماع الأصم. ورائد هذا السباب واللعن هو الصحابي المشهور معاوية بن أبي سفيان، إذ أصدر أمره بذلك لعماله، وعاقب من الناس من لم يقدم علي سباب الإمام علي (عليه السلام) لقد أمر معاوية عماله في الأمصار باتخاذ لعن الإمام علي سنة يسمعونها

الناس منعلي المنابر، ولما استاء بعض الصحابة من هذه السنة أمر معاوية بقتلهم [48] . كتب زياد بن أبيه والي معاوية علي الكوفة كتابا إلي معاوية يخبره أن حجرا وأصحابه قد خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب وخرجوا عن الطاعة، فأمر معاوية بقتلهم، فقتلوهم بمكان يعرف ب (مرج عذراء)، وقد قالت عائشة لمعاوية: سمعت رسول الله(ص) يقول: " سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء " [49] . فمن هو أبو تراب الذي سن معاوية لعنه علي منابر المسلمين، وقتل حجر بن عدي لامتناعه عن سب أبي تراب؟ إن الرسول (صلي الله عليه وآله) هو الذي يقول لنا بنفسه من هو أبو تراب هذا، يقول النبي (صلي الله عليه وآله): " علي حبه إيمان وبغضه نفاق ". ويقول (صلي الله عليه وآله) له أيضا: " لا يحبك إلا [ صفحه 46] مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق " [50] . ثم من هو معاوية؟! أرسل إليه النبي (صلي الله عليه وآله) ليأتي، فقالوا: إنه يأكل، فقال النبي (صلي الله عليه وآله): " لا أشبع الله بطنه "، وقد قال ابن عباس: " فما شبع بطنه أبدا " [51] ، وقال الذهبي: " قد كان معاوية معدودا في الأكلة " [52] . فما ترون في أن يأكل الإنسان ولا يشبع، ويعد لكثرة أكله من الأكلة، فهل في ذلك فضيلة يا أولي الألباب؟! فهذا هو معاوية، وهذا هو رأي النبي (صلي الله عليه وآله) فيه، وذاك كان عليا، وذاك قول النبي (صلي الله عليه وآله) فيه. وأما طلحة والزبير.. فبعد أن تمت بيعتهما للإمام علي (عليه السلام)، خالفاه ونقضا بيعتهما له وحارباه إلي جنب معاوية هذا. وكان

طلحة قد ألب الناس علي عثمان وكتب إلي أهل البصرة يحرضهم عليه، وفي وقعة الجمل أخرج له البصريون ما كتب لهم من رسائل وسألوه: " أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم. قالوا: فما ردك علي ما كنت عليه، وكنت بالأمس تكتب إلينا تؤلبنا علي قتل عثمان وأنت اليوم تدعونا إلي الطلب بدمه؟! " [53] . ولهذا دعا عثمان - وهو محصور - علي طلحة، فقال: " هذا ما أمر به طلحة، اللهم اكفني طلحة، فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم علي. والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا،وأن يسفك دمه " [54] . وبعد هذا كله اجتمع طلحة هذا والزبير مع معاوية لحرب الإمام علي بعد أن وجبت بيعتهما له في عنقيهما، وأول من بايعه من الناس طلحة والزبير، ثم اتهموا الإمام بعد ذلك بقتل عثمان. [ صفحه 47] فهؤلاء الثلاثة من الصحابة البارزين، قسموا لنا بينهم العدالة، حتي نتبعهم ونقتدي بهم، لكي نهتدي إلي سواء السبيل لو كان لهذا من سبيل بعد قوله (صلي الله عليه وآله): " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " [55] . ونحن نسأل: ماذا بقي بعد السباب واللعن في قلب معاوية تجاه الإمام علي (عليه السلام)؟ وماذا يفضل في نفسه نحوه بعد إعلان القتال والحرب عليه؟ فهل بعد هذا كله نستطيع أن نري حبا لعلي (عليه السلام) في قلب ابن أبي سفيان؟ اللهم إلا أن تنعكس نواميس الدين والعقل فيكون جائزا أن يلعن الإنسان من يحبه ويحاربه بلا هوادة ويقتله! يقول الحسن البصري: " أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: الأولي: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسيف، حتي أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا

الصحابة ذوو الفضل. الثانية: استخدامه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. الثالثة: ادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله (ص): الولد للفراش، وللعاهر الحجر.الرابعة: قتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر، ويا ويلا له من حجر " [56] . ولقد علمت لماذا قتل معاوية حجرا وأصحاب حجر، إذا نحن نزيدك الخامسة: بغضه علي بن أبي طالب، وقد قال فيه رسول الله (صلي الله عليه وآله): " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " [57] . ثم إن الذين كانوا في صف معاوية يوم قتل عمار بن ياسر، ما هو السبيل إلي عدالتهم وقد قطع الرسول منذ أمد بعيد ببغيهم وانحرافهم عن الحق، إذ قال (صلي الله عليه وآله): " ويح عمار، تقتله [ صفحه 48] الفئة الباغية، يدعوهم إلي الله ويدعونه إلي النار " [58] كيف هذا؟ وهل مع النار عدالة؟ اللهم إلا أن يكون قاتل عمار هو الذي جاء به إلي الحرب، فيكون إذا هو الإمام علي (عليه السلام)، وبالتالي يكون قاتل سيد الشهداء حمزة هو النبي (صلي الله عليه وآله)، لأنه هو الذي جاء به لقتال المشركين! نعوذ باله من عمي البصائر وخبل العقول. واستمر لعن معاوية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطب الجمع والأعياد وعلي مسمعمن الناس في أرجاء البلاد، وظل ذلك حتي عام 99 ه [59] .

اختفاء المنافقين بين الصحابة

إن المنافقين ينقسمون إلي قسمين، قسم كان معروفا بالنفاق، وقد تحددت شخصياتهم بالذات، وهؤلاء يسهل اتقاء شرهم وخطرهم. وقسم لم يكن معروفا، ولم يكن أحد يعلم عنهم شيئا، إذ لا يختلفون عن الصحابة العدول والمخلصين من حيث المظهر وإظهار الإيمان، ولهذا كانوا يحسبون من خيرة الصحابة

بلا ريب، ولم يكن يعلمهم إلا الله تعالي: يقول عز وجل: (ومن أهل المدينة مردوا إلي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) [60] ، فهؤلاء لشدة تمرسهم وقدرتهم علي النفاق اختفي أمرهم عن الناس. فلو منح الصحابة كافتهم العدالة والوثاقة بقضهم وقضيضهم فإنها ستشمل هؤلاء المنافقين المستورين بلا ريب، وبالتالي ينطبق عليهم حديث الاقتداء، فيجوز الاقتداء بهم، فهل تتحقق بهم عندئذ الهداية؟!! ثم إن البخاري يروي بالإسناد إلي أبي هريرة، عن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: " بينا أنا قائم، فإذا زمرة حتي عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلي النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلي النار والله. [ صفحه 49] قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، فلا أري يخلص منهم إلا مثل همل النعم " [61] . إن المتدبر في هذا الحديث يستيقن أن كثيرا من الذين وصفوا بالصحابة ومنحوا هذه العدالة ارتدوا بعد النبي (صلي الله عليه وآله) القهقري. وبالتأكيد لم يكن هؤلاء منافقين، لأن الارتداد يكون بعد إيمان، والمنافقون لم يكن لهم إيمان حتي يرتدوا بعد النبي (صلي الله عليه وآله) إذ أنهم لم يؤمنوا حتي في زمان النبي (صلي الله عليه وآله). ثم إنهم لا يجب أن يقال هم الذين ارتدوا في أواخر حياة النبي (صلي الله عليه وآله)، ذلك لأن المرتدين في زمانه لم يكن النبي (صلي الله عليه وآله) يجهل ردتهم حتي يأتي ويقول عندما يراهم قد حيل بينهم وبينه وأخذوا إلي النار: أين؟ فيقال له: إلي

النار والله، فيقول النبي (صلي الله عليه وآله): ما شأنهم؟.. فهو لم يعلم ماذا فعلوا في حين أنه كان يعلم بالمرتدين في حياته. ثم إن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: " فلا أري يخلص منهم إلا مثل همل النعم "، وهذه إشارة إلي كثرتهم وقلة الناجين منهم حتي وصفهم بهمل النعم، أي الإبل القليلة التي تنفصل عن القطيع، في حين أن المرتدين في زمانه لا يزيدون علي عدد الأصابع. نخلص من هذا إلي أن من بين الصحابة - وكثير ما هم - قد ارتدوا بعد النبي (صلي الله عليه وآله). ولا أحد يعلم من هم، وبالتالي لا يستطيع أن يصرف عنهم العدالة لثبوت الصحبة لهم. فهذه معضلة بلا شك يبطل علي إثرها حديث " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". وفي رواية: يقول النبي (صلي الله عليه وآله): " ليردن علي أناس من أصحابي الحوض، حتي إذاعرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " [62] . إذا فلا بد أن نصرف النظر عن اعتبار الصحبة معيارا للعدالة وسببا للاقتداء والهداية، وإلا فسنقع في شراك أولئك المرتدين الذين منعوا ورود الحوض وأخذوا إلي النار، مع العلم أنهم ليسوا معروفين وقد شملتهم الصحبة التي فرض أنها موجبة للعدالة. فالإنسان طالما هو المسؤول وحده عن أعماله وأفعاله، وهو الذي يواجه بنفسه مصيره في اليوم الآخر، فلا بد أن يحرص علي أن يأخذ أمور دينه ممن عرفت عدالته بالدليل [ صفحه 50] القاطع، واستحق بذلك مقام الأسوة، فلا بد من معيار لمعرفة الصحابة غير معيار الصحبة، حتي تميز الحق عن الباطل والصالح عن الطالح. إن الصحبة والمشاهدة لا تعطيان أحدا مزية لأحد ولا تمنحانه

عصمة، وهذا هو النبي (صلي الله عليه وآله) يؤكد ذلك بقوله: " وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم إلي ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين علي أعقابهم منذ فارقتهم " [63] . ونحن نعلم بعد أن الفتن والاختلافات قد عصفت بالحصابة قبيل وفاة النبي (صلي الله عليه وآله)، واستمرت بعده. كما نعلم أيضا أن الحق لا يمكن أن يكون عند كل الأطراف المتناحرة والمتخالفة، والصحبة قد وصف بها الجميع، فهم مشتركون في الصحبة مختلفون في الحق، فهل سنهتدي بهذه الصحبة إلي الحق والصواب في خضم الفتن والاختلافات؟ أعد البصر إلي الحديث المذكور كرتين تري أن الذين أخذوا إلي ذات الشمال صحابة، فهل لهم من العدالة شئ؟ إذا فمن هم هؤلاء؟! لا يستطيع أحد أن يحددهم، ولهذا لا يمكن أن يأمرنا نبي الإسلام والهدي أن نقتدي بأي كان من الصحابة، ولا يمكن أن يجعلنا نلتمس سبيل الهداية بين صحابة ضموا في أوساطهم منافقين مخفيين، وصحابة مرتدين، وآخرين محدثين في الدين. أخرج البخاري عن العلاء بن المسيب، قال: " لقيت البراء بن عازب، فقلت له: طوبي لك، صحبت النبي (ص) وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده "! [64] . إذا فالصحبة والبيعة لا تحول بين الإنسان والإحداث والابتداع، ولا تعصمه من الأخطاء، لأنه من الممكن أن يكون المبايع للنبي (صلي الله عليه وآله) في لحظة البيعة مؤمنا صادقا، ولكن ليس هناك مانع من انتفاء هذه الحال عنه في أي وقت آخر، فيذنب ويرتد ويحدث في أمر الدين، والإيمان يزيد وينقص وينعدم كما هو معروف. إن الاتباع الحقيقي والطاعة الخالية من التردد والمسألة، والملازمة اللصيقة [ صفحه

51] والمراقبة الدائمة للنبي (صلي الله عليه وآله)، والعلم التام بالشرع المأخوذ عن صاحب الرسالة.. كل ذلك هو الموجب للعدالة التي بها يتهيأ لنا سبيل الاقتداء المؤدي إلي الهداية الحقة. لقد حذر النبي (صلي الله عليه وآله) من الفتن والاختلافات، وبحكم حرص النبي (صلي الله عليه وآله) علي المؤمنين ورحمته بهم وإرادة النجاة والسلامة لهم.. لا بد أن يكون قد بين لهم طريق النجاة من تلك الفتن والاختلافات، وأوضح لهم سبيل المؤمنين، فكيف بين النبي (صلي الله عليه وآله) ذلك للمؤمنين؟... علينا أن نبين ذلك عاجلا إن شاء الله. غير أن حديث الاقتداء بكافة الصحابة - بعد ظهور بطلانه من خلال بحث مطابقة الحديث لواقع الصحابة - حديث باطل عند كثير من علماء المسلمين. والألباني قد أورد في كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة) كل روايات هذا الحديث، وأثبت بطلانها. أما الإمام الغزالي، فيقول: " فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم عم جواز الخطأ، وكيف تدعي عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف تتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ وكيف وقد اتفقت الصحابة علي جواز مخالفة الصحابي؟... " إلي قوله: " فانتفاء الدليل علي العصمة،ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم، فيه ثلاثة أدلة قاطعة " [65] . وعليه فحديث " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وأي حديث آخر يأمر باتباع كافة الصحابة دون شرط، فهو حديث لا يستقيم ولا يصح، لمخالفته واقع الصحابة، إذ لا يتسق وتلك الأخطاء والاختلافات الني وقعت بينهم، لأن متابعة المختلفين في المسألة المختلف فيها متابعة علي السواء محال، واتباع أحدهما هو مخالفة للآخر ولازم ذلك اعتبار خطأه ومتابعة

البعض الآخر، لاعتقادهم بوقوفه علي الحق، يستوجب الدليل علي ذلك، وتكون هذه متابعة للدليل لا للشخص ذاته. يقول الألباني: " قال ابن حزم:... إن هذه الرواية لا تثبت أصلا، بل لا شك أنها مكذوبة، لأن الله تعالي يقول في صفة نبيه (ص): (وما ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحي [ صفحه 52] يوحي) [66] فإذا كان كلامه عليه [وآله] الصلاة والسلام في الشريعة حقا كله وواجبا، فهو من الله تعالي بلا شك. وما كان من الله تعالي فلا يختلف فيه لقوله تعالي: (لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [67] ، وقد نهي تعالي عن التفرقة والاختلاف بقوله: (ولا تنازعوا) [68] فمن المحال أن يأمر رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم، وفيهم من يحلل الشئ وغيره يحرمه. ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا، اقتداء بسمرة بن جندب، ولو كان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة، وحراما اقتداء بغيره منهم... " ثم أطال في بيان بعض الآراء التي صدرت من الصحابة وأخطأوا فيها السنة، ذلك في حياته صلي الله عليه [وآله] وسلم وبعد مماته. وقال (86): " فكيف يجوز تقليد قوم يخطأون ويصيبون؟! ". وقال قبل ذلك (5 / 64) تحت ذم الاختلاف: " إنما الفرض علينا ما جاء به القرآن عن الله تعالي الذي شرع لنا دين الإسلام، وما صح عن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم الذي أمره الله تعالي ببيان الدين... فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعي أصلا، وقد غلط قوم فقالوا: الاختلاف رحمة، واحتجوا بما روي عن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم: أصحابي

كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قال: هذا حديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق، لوجوه ضرورية: أحدها: أنه لم يصح عن طريق النقل. الثاني: أنه صلي الله عليه [وآله] وسلم لم يجز أن يأمر بما نهي عنه، وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره، وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتي بها في العدة. فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون عليه السلام يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ، تعالي الله عن ذلك. [ صفحه 53] الثالث: أن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم لا يقول الباطل بل قوله الحق، وتشبيهه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر، لأنه من أراد جهة مطلع الجدي، فأم جهة مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضل ضلالا بعيدا وأخطأ خطأ فاحشا، وليس كل النجوم يهتدي بها في كل طريق، فبطل التشبيه المذكور ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضروريا " [69] . [ صفحه 54]

حديث عليكم بسنتي و سنة الخلفاء...

اشاره

لقد ورد هذا الحديث في كل من صحيح الترمذي، وأبي داود، وابن ماجة، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم. وهو من أخبار الآحاد، إذ أن العرباض بن سارية هو الصحابي الوحيد الذي روي هذا الحديث عن النبي (صلي الله عليه وآله)، إن صح ذلك. علي أنه لم يكلف البخاري ولا مسلم نفسيهما تعب تخريج هذا الحديث في صحيحيهما، رغم الأهمية التي حصل عليها الحديث بين أتباع الخلفاء الأربعة. روي الترمذي: " حدثنا علي بن حجر، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول

الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوي الله، والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يري اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ " [70] . هذا حديث آخر من الأحاديث التي اعتمد عليها أتباع الخلفاء الأربعة في إثبات [ صفحه 55] اتباعهم والعمل بسنتهم، ولهذا اعتبروا الحديث إشارة ودليلا علي الفرقة الناجية من الفرق المتخالفة، واعتبروه السبيل التي تؤدي إلي نجاة سالكها من الوقوع في الفتن والاختلاف ومحدثات الأمور التي لا تؤدي إلا إلي الضلال، وأن كل من خالف هذه السنة - أي سنة الخلفاء - أو ردها فهو منحرف عن الجادة عندهم. وسنبين إن شاء الله إشكالات الحديث ومطابقته بواقع الخلفاء الأربعة من حيث إنه سبيل للنجاة من الاختلاف ومحدثات الأمور. علي أن هذا يغنينا عن نقل ما ذكر في بطلان سنده.

اشكالات علي الحديث

إن في الحديث أمرا باتباع سنة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وسنة الخلفاء. ونحن نوضح هذا الأمر في نقطتين: الأولي: أن يكون اتباع سنتهم منفصلا ومغايرا لاتباع سنة النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) كما هو ظاهر من الحديث، إذ أن العطف يفيد التغاير والاختلاف بلا شك، ففي هذه الحال إما أن تنسب إليهم العصمة، لأن من تساوي أمر اتباعه بأمر اتباع النبي (صلي الله عليه وآله) مع اختلاف سنتهما، يجب أن يكون كالنبي (صلي الله عليه وآله) معصوما، فالسنة وحي بلا ريب والوحي معصوم، والأمر

باتباع سنة النبي (صلي الله عليه وسلم) هو نفس الأمر باتباع سنة الخلفاء، إذا تجب عصمتهم. وعند عدمها يكون الأمر باتباع سنتهم التي يمكن أن يعتريها الخطأ أمرا باتباع الخطأ، وهذا لا يصح. ولكن لا تثبت عصمتهم ولا يؤيدها الحال. إذا سيبطل القول المفروض بأن النبي (صلي الله عليه وآله) قد أمر باتباعهم مع مغايرة سنتهم لسنته، وذلك لعدم عصمتهم. وإما أن لا تنسب إليهم العصمة، فيكون النبي (صلي الله عليه وآله) قد أمر باتباعهم في سنتهم المغايرة لسنته (صلي الله عليه وآله)، رغم عدم عصمتهم ورغم حتمية وقوعهم في الخطأ والشك والريب. ولكن لا يجوز صدور أمر من النبي (صلي الله عليه وآله) باتباعهم علي النحو الذي جاء في الحديث علي سبيل الجزم والقطع، وهم علي هذا الحال من انتفاء العصمة، لأنه أمر بوجوب اتباع غير المعصوم. إذا يبطل القول المفروض بأن النبي (صلي الله عليه وآله) قد أمر باتباعهم في سنتهم المخالفة لسنته، [ صفحه 56] رغم عدم عصمتهم ورغم حتمية وقوعهم في الخطأ والاختلاف. الثانية: أن يكون اتباع سنتهم هو اتباع لسنة النبي (صلي الله عليه وآله)، بل دون أن تكون لهم سنة غير سنته (صلي الله عليه وآله)، بل هم تابعون له. وفي هذا الحال تكون عبارة " وسنة الخلفاء " زائدة لا معني لها، ويكون بالتالي قد أمر الرسول (صلي الله عليه وآله) باتباع سنته وحدها، دون ذكر اتباع القرآن. وليس هذا معهودا من النبي (صلي الله عليه وآله) إذ أنه كان دائما يقدم القرآن سواء علي السنة أو العترة، فضلا عن خلو الحديث من الإشارة إليه خلوا تاما. ثم إنه لو قيل إن ذكر اتباع الخلفاء لحرصهم علي اتباع

سنة النبي (صلي الله عليه وآله)، لا لأنهم ينفردون بسنة خاصة. قلنا: فما هو السبب في تخصيص الاتباع بهم؟ هل كان سائر الصحابة مخالفين للنبي (صلي الله عليه وآله) في سنته أو بعضها؟ وأين حديث: " أصحابي كالنجوم... "؟ أليس هذا وحده كافيا لإبطال حديث الخلفاء؟ وفي الحقيقة أن هذا الحديث بهذه الدلالة التي فهمها منه أتباع الخلفاء الأربعة - باعتباره دليلا علي اتباع سنتهم وحجية أقوالهم - لا يمكن أن يكون وسيلة للنجاة من الاختلاف كما أريد له، أو وسيلة لمعرفة الفرقة الناجية، وسلامة عند ظهور البدع والمحدثات. والباحث عن الفرقة الناجية في دلالة ومعاني هذا الحديث - طبقا لهذا التفسير - لا ينتهي ببحثه إلا إلي مفترق الطرق، ولا يزداد به إلا حيرة في الوصول إلي الفرقة الناجية هذه، وذلك للتناقض بين ما يفيده مفهوم الحديث كدليل يفهم منه الأمر باتباع الخلفاء الأربعة وبين المدلول عليه، وهو واقع حال الخلفاء الأربعة فيما بينهم. فالحديث كان وعظا وعهدا ووصية من النبي (صلي الله عليه وآله) في آخر أيامه إلي أصحابه، حذرهم فيه مغبة الاختلاف ومحدثات الأمور، غير أننا سنري أن الخلفاء أنفسهم لم ينجوا من هذا الاختلاف والوقوع في المحدثات، فخالف بعضهم بعضا، وكاد بعضهم أن يقتل بعضا. لقد اختلف الإمام علي مع أبي بكر وعمر في مسألة الخلافة، فادعي الإمام علي أن الخلافة حق له، وأن أبا بكر يعلم ذلك وأنه أخذ حقا ليس له، يقول الإمام علي: [ صفحه 57] " ولقد تقمصها ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي ". ثم عمدا إلي أخذ البيعة منه بالقوة والتهديد بالقتل! فقد قال الإمام (عليه السلام) لأبي بكر

وقومه: " إن لم أبايع فم؟ فقالوا له: والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ". فنشب الاختلاف بينهم في مسألة من أهم مسائل الدين، وهي الخلافة من بعد النبي (صلي الله عليه وآله). فإن كان النبي (صلي الله عليه وآله) قد أوصي لأحد، فلا ينبغي الاختلاف بينهم في الأمر، بيد أن الاختلاف بينهم قد وقع. وإن لم يكن قد أوصي لأحد، فلا يجوز بينهم الاختلاف أيضا، وهم الذين بهم سلامة الأمة من الفتن والاختلاف. ولهذا فالحديث لا يصح. وهذه الحادثة لو لم تكن إلا هي فهي كافية في بيان بطلان هذا الحديث بهذا المعني. فعندما علم بنو هاشم بما حدث في السقيفة من أمر البيعة لأبي بكر اعتصموا، مع جمع من الأنصار والمهاجرين، في بيت علي (عليه السلام)، احتجاجا ورفضا لما حدث، فقال لهم عمر: " والذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقنها علي من فيها. فقيل له: إن فيها فاطمة! فقال: وإن ". وجاء رسول أبي بكر إلي علي، فقال: يدعوك خليفة رسول الله. فقال علي (عليه السلام): لسريع ما كذبتم علي رسول الله. فرجع إلي أبي بكر فأبلغه، فبكي أبو بكر طويلا، فقال عمر: لا تمهل هذا المتخلف عنك في البيعة! فبعث رسوله إليه ثانية، فقال: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع. فقال علي (عليه السلام): سبحان الله! لقد ادعي ما ليس له. فرجع الرسول وأبلغ الخليفة، فبكي أبو بكر طويلا، فقام عمر ومشي معه جماعة حتي أتوا باب فاطمة (عليها السلام)، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلي صوتها: يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! [ صفحه 58] فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا

باكين، وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر فبقي معه قوم، فأخرجوا عليا ومضوا به إلي أبي بكر، فقال له بايع. فقال (عليه السلام): أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولي بالبيعة لي. فقيل له: لست متروكا حتي تبايع. فقال: إن لم أفعل فم؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك! فقال (عليه السلام): إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله! فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسول الله فلا! وأبو بكر ساكت. فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال أبو بكر: لا أكرهه علي شئ ما كانت فاطمة إلي جنبه. فلحق علي بقبر رسول الله يصيح وينادي: ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا أن يقتلون " [71] .

اختلاف علي و عثمان

إن ما يبين عمق الاختلاف بين الخلفاء أيضا ما وقع بين علي (عليه السلام) وعثمان بن عفان، كما يروي البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما بين مكة والمدينة، وعثمان ينهي عن المتعة [حج التمتع] وأن يجمع بينهما [أي العمرة والحج]، فلما رأي ذلك علي (عليه السلام) أهل بهما جميعا قائلا: لبيك عمرة وحج معا، فقال عثمان: تراني أنهي الناس عن شئ وتفعله أنت؟!فقال علي (عليه السلام): لم أكن لأدع سنة رسول الله (ص) لقول أحد [72] . فيلاحظ في هذه الواقعة أن الاختلاف قد حدث بين الخليفتين المفترض اتباعهما، [ صفحه 59] إذ أنهما من الخلفاء الأربعة، فقد خالف علي عثمان في ما نهي الناس عنه وهو الجمع بين العمرة والحج، مؤكدا أن ما يفعله خلافا لعثمان هو سنة النبي (صلي الله عليه وآله)، ولم يكن له أن يدعها لقول أو

أمر أحد من الناس، وهو بهذا يشير إلي أن عثمان قد خالف سنة النبي (صلي الله عليه وآله). فهذا علي (عليه السلام) وهذا عثمان (رضي الله عنه) يختلفان في السنة النبوية، ولا يتبع أحدهما الآخر، والناس بالطبع منقسمون طبقا لذلك الاختلاف والانقسام. ولما خالف علي عثمان لم يعد عثمان ليتبعه في قوله، بل إن عثمان اعترض عليه قائلا: كيف تفعل شيئا تراني أنهي الناس عنه؟! غير أن عليا اتهمه بترك سنة النبي (صلي الله عليه وآله)، ولن يتركها علي من أجله، إذ هو فرد كسائر الناس. وليست هذه هي الواقعة الوحيدة التي يختلف فيها علي (عليه السلام) مع عثمان (رضي الله عنه) ويظهر فيها عثمان مخالفا لسنة النبي (صلي الله عليه وآله) في نظر الإمام (عليه السلام)، فقد روي سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد قال: " اعتل عثمان بمني فأتي علي، فقيل له: صل بالناس، فقال علي: إن شئتم، ولكن أصلي بكم صلاة رسول الله [(صلي الله عليه وآله)]، يعني ركعتين.فقالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعا.. فأبي علي أن يصلي بهم " [73] . واضح من هذا أن عليا (عليه السلام) قد رفض أن يصلي بصلاة عثمان أربع ركعات، وهي سنة عثمان - وعثمان من الخلفاء الأربعة - والنبي (صلي الله عليه وآله) قال فيهم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء... "! فما بال علي يخالف عثمان لو كان الحديث قد صدر حقا عن النبي (صلي الله عليه وآله)؟!

اخبار النبي لأبي بكر بالإحداث

من الواضح أن الرسول (صلي الله عليه وآله) لم يأمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة، بل أكثر من ذلك أنه كان يعتبر ما سيسنونه من سنة إنما هو إحداث في الدين ومخالفة له

بعد موته، فكان النبي (صلي الله عليه وآله) يظهر التخوف من ذلك. يروي الإمام مالك في " الموطأ ": أن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم. [ صفحه 60] فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله (ص): بلي، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي!فبكي أبو بكر، ثم قال: إننا لكائنون بعدك [74] . فها هو رسول الله (صلي الله عليه وآله) يخبر أبا بكر ومن معه بإحداثهم من بعده، وأبو بكر هذا هو الخليفة الأول من الحلفاء الأربعة، فكيف يأمر الرسول (صلي الله عليه وآله) الناس باتباع سنة أبي بكر ويخبره في نفس الوقت بالإحداث من بعده؟! فهل يتناقض الرسول يا تري؟! أم إن قوله الحق؟ وفي الحقيقة إن هذا الخطاب الصادر من رسول الله (صلي الله عليه وآله) لأبي بكر لا بد من الوقوف عنده طويلا والتمعن في معانيه ومقاصده: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فيا للعجب: أليس هو التغيير والتبديل، أم ليس هو مخالفة السنة النبوية؟! ومن هم - يا تري - هؤلاء الذين يشملهم هذا الخطاب الجمعي الذي يحمل نبأ الإحداث؟ ولو كان هذا الإخبار لا يشمل إلا أبا بكر وحده لكان كافيا في نقض حديث اتباع الخلفاء، غير أن عمر وأبا بكر كانا متصافقين متوافقين في كل خطوات حياتهما منذ أن جمعهما الإسلام، ويكفي أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد آخي بينهما. فهل يمكن أن يكون هذا الإنباء النبوي الشامل لأبي بكر في قوله: " لا أدري ما تحدثون بعدي " لا يشمل عمر، وهو الذي وافق أبا بكر في

كل صغيرة وكبيرة، وهو الذي خلفه أبو بكر من بعده؟ فعمر من محدثات أبي بكر، كما كان أبو بكر من محدثات عمر يوم بايعه في السقيفة وشيد له أركان الخلافة بلا نص ولا حق. إذا لا نستطيع أن نصرف هذا الإخبار النبوي عن عمر بن الخطاب ليتقلب فيه أبو بكر وحده، علي أن دائرة الإخبار النبوي تتسع لتشمل الكثير من الصحابة. قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتي لو [ صفحه 61] دخلوا حجر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟! " [75] وهذا إخبار صريح منه (صلي الله عليه وآله) بانحراف الكثير منهم.

محدثات أبي حفص

إن لابن الخطاب منهجا خاصا انفرد به بين الصحابة، وعمدة هذا المذهب العمري عدم التردد في التصرف كما يري مع السنة النبوية، وإن أدي ذلك إلي تبديلها أو إلغائها وإحلال محلها ما يراه بديلا لها، سواء ذلك في حياة النبي (صلي الله عليه وآله) أو بعد وفاته. روي أحمد في مسنده: " أن أبا موسي الأشعري كان يفتي بالمتعة [حج التمتع]، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك! إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، حتي لقيه أبو موسي فسأله عن ذلك، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم قد فعله هو وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين في الأراك، ثميروحون بالحج تقطر رؤوسهم " [76] . فعمر يعلم أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد سن متعة الحج، ورغم ذلك لم ير بأسا في إلغائها، وليس ذلك إلا لأنه كره شيئا فيها. وبكل هذه البساطة تعطل قوله تعالي:

(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [77] ، وها هو الإحداث العمري. يقول البيهقي: " ما أعمر رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم عائشة في زمن الحج إلا ليقطع بذلك أمر الشرك " [78] ، ذلك لأن المشركين في الجاهلية " كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض " [79] فانظر إلي سبب إدخال النبي (صلي الله عليه وآله) العمرة في الحج، إذ أنها سنة نبوية تخالف سنة جاهلية راجت بين المشركين، فكيف سهل علي الفاروق - وهو الذي قيل إنه فرق بين الحق والباطل - إعادة الباطل وإحياؤه وإماتة الحق [ صفحه 62] وإلغاؤه! ولقد أغلق النبي (صلي الله عليه وآله) باب الاجتهاد في إلغاء أو تغيير شئ في متعة الحج، فبعد أن أعلن النبي (صلي الله عليه وآله) متعة الحج في حجة الوداع أمام ما يربو علي مائة ألف مسلم، قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا التمتع أم للأبد؟ فشبك أصابعه الشريفة و قال: " دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد " [80] . فهل يجوز بعد هذا لأبي حفص أو غيره أن يجتهد ويمنع متعة الحج؟! ولكن النبي (صلي الله عليه وآله) قال لهم قبل ذلك: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فإنها دلائل النبوة. فها نحن قد شهدنا أن حديث الخلفاء يحذر المؤمنين من الاختلاف ويأمرهم باتباع الخلفاء الأربعة، لأن في ذلك نجاتهم من الشقاق والاختلاف وسلامة لهم من محدثات الأمور والبدع، ولكن رأينا أبا بكر ومن نحا نحوه قد أخبرهم النبي (صلي الله عليه وآله) بارتكاب الإحداث والتغيير، وشاهدنا الخلفاء أنفسهم وقعوا في مغبة

الاختلاف فاختلفوا فيما بينهم، كما رأينا ما حدث من اختلاف بين أبي بكر وعمر من ناحية والإمام علي (عليه السلام) من ناحية أخري في مسألة الخلافة، وشاهدنا مثالا للاختلاف بين الإمام علي (عليه السلام) وعثمان بن عفان في سنة النبي الأكرم، ورأينا كيف عمد عمر بن الخطاب إلي إلغاء سنة النبي (صلي الله عليه وآله) التي سنها إلي الأبد. فهذا الاختلاف الذي نشأ بين الخلفاء أدي إلي نفس المخاوف التي من أجلها وعظ النبي (صلي الله عليه وآله) أصحابه بالحديث المذكور الذي فيه الأمر باتباع الأربعة، فلقد حدث الاختلاف ووقع الإحداث ووقع الناس فيه، فكيف يبين الرسول (صلي الله عليه وآله) سبيل النجاة والسلامة من الاختلاف والإحداث باتباع الخلفاء فيقعون هم أنفسهم فيما فرض أن نجاة الناس منه هؤلاء الخلفاء؟! فما دامت أحاديث النبي (صلي الله عليه وآله) وحيا فالوحي لا يخطئ، مما يوضح أن هذا الحديث موضوع علي لسان النبي (صلي الله عليه وآله) ومقول عليه. فالرسول (صلي الله عليه وآله) لم يكن يمنع المسلمين من الاختلاف ويحذرهم إياه ويأمرهم باتباع الخلفاء الأربعة للنجاة منه ويري وقوع الاختلاف بين الخلفاء ولا يري له خطرا. والحق [ صفحه 63] أن الاختلاف بين الخلفاء لهو أشد خطرا من اختلاف العامة من المسلمين ما دام القادة في سلامة منه. فالحق إن اتبع لن يجد الاختلاف إلي اتباع ذلك الحق سبيلا، وكما أن الحق واحد، فالمجتمعون عليه وإن كثر عددهم فهم في الحقيقة واحد، فكيف يختلف الواحد؟! بل كيف يختلف الاثنان وهما علي الحق! إذا فالواحد لا يختلف ليكون اثنين والاثنان لا يختلفان وهما قد توحدا علي الحق بعد إدراكه. نعم ليس كل ما اجتمع عليه حقا لأن

الكثيرين يمكن اجتماعهم علي الباطل كما يمكن أن يختلفوا وهم علي الباطل أيضا بأن يكون الاختلاف بين الطرفين: كل طرف يدعي باطلا يظنه الحق، وكما يمكن أيضا اختلافهم بأن يكون طرفا الخلاف أحدهما علي الباطل والآخر علي الحق. فهذه صور ثلاث أدي إليها وجود الباطل في أحد الطرفين، إذا فالباطل إما أن يتفق عليه، أو يختلف فيه، أو يختلف الباطل مع الحق. وأما الحق فله صورة واحدة إذ أنه واحد، فلا بد من الاتفاق عليه والاتحاد فيه. وأية صورة بخلاف ذلك فهي متضمنة للباطل بأي شكل كان. ولهذا فأينما وجد الاختلاف فاعلم أن الباطل قد أطل برأسه من جهة أو من الجهتين بباطلين مختلفين في الموضوع والهدف، ولهذا حذر منه النبي (صلي الله عليه وآله)، وهو تحذير تناول المعلول دون العلة، فالباطل علة الاختلاف. إن الاختلاف الذي وقع بين الصحابة كافة أو بين الأربعة هو صورة واحدة من صور الاختلاف الثلاث، ولهذا لا يمكن أن يكون اتباعهم علي السواء نجاة من الاختلاف. ولمعرفة الحق لا بد من علامات ومعالم وإشارات وأدلة من سنخ الحق نفسه تشير وتدل عليه. وخلاصة هذا الأمر أن حديث اتباع سنة الخلفاء حديث محرف المعني والدلالة، فهو إن كان يدل علي اتباع الخلفاء فهو لا بد أن يدل بالتأكيد علي وحدتهم واتساقهم، لا سيما في سنة النبي (صلي الله عليه وآله) وكل ما يهم الناس. ثم إنه هناك دلالة في الحديث تشير إلي اتباع الأربعة، فإن اسم الخلفاء الوارد في الحديث لا يعني بأي شكل كان أنهم الخلفاء الأربعة. وهل الخلفاء أربعة كما ذكر؟ [ صفحه 64] وهل هناك ما يدل علي ذلك؟ أم أنهم أكثر من هذا العدد؟ واتباع أحد

الأربعة بهذا الأمر إما لأنهم متبعون للنص فيكون اتباعهم ليس لسبب غير النص نفسه، وإما لأنهم غير متبعين للنص فلا يجوز اتباعهم فيما خالفوا به النص. ولو كانت الحجة في قولهم بسبب اعتمادهم علي النص فلا يختص هذا بهم، إذ كل من يعتمد في قوله علي نص فقوله بهذه الصورة مقبول. أما بخلاف ذلك فلا، لأن الجميع يجب أن يخضعوا للنص، وعلي الجميع طاعة النبي (صلي الله عليه وآله). وحتي أولو الأمر ليس لهم العمل بما يخالف القرآن والسنة. وطاعة الرسول لا تعني مخالفته والعمل بخلاف ما يأمر به وينهي عنه، وهذا واضح بالبداهة، فالذي يجتهد في مسألة بين الرسول (صلي الله عليه وآله) أمر الله فيها ويخلص من اجتهاده إلي ما يخالفها فقد خالف النبي (صلي الله عليه وآله) بذلك، ولا يقبل قوله، بل يجب أن يعاقب علي هذا الخلاف. والاجتهاد ضد النص أو مع وجود النص مخالفة صريحة لله ورسوله. ولو جاز الاجتهاد ضد النص فكيف تكون السنة مصدرا للتشريع؟ أليس ذلك عملا بخلافا لشرع، إذ لم يعتمد علي مصدره؟

مخالفة الصحابة للخلفاء الأربعة

لقد علمنا أن الاختلاف أخذ بتلابيب الخلفاء أنفسهم، ولم يتبع بعضهم بعضا في كثير من المواطن، وهذا ما يتناقض مع الحديث الآمر باتباعهم للنجاة من الاختلاف. كما علمنا أن البدع قد صدرت من بعضهم، وهم - علي أساس حديث الخلفاء - معول عليهم في نجاة الأمة من البدع والمحدثات. غير أن الصحابة لم يترددوا في مخالفة الخلفاء في كثير من الأمور، فكيف يستقيم ذلك والأمر باتباعهم؟! والمخالفون لهم من أجلة الصحابة، لا مجال للطعن فيهم، أو اتهامهم بالنفاق. فإما أن يكون قد أعرضوا عن أمر الرسول (صلي الله عليه وآله) الصادر باتباعهم،

وإما أن يكون الحديث موضوعا عليه (صلي الله عليه وآله). ونقول نحن بالرأي الأخير، ليس لما رأيناه من مخالفة الصحابة للخلفاء فحسب، بل لأسباب سقناها وسنسوق بعضها فيما يأتي من فصول، إن شاء الله. [ صفحه 65]

مخالفة سعد بن عبادة لأبي بكر وعمر

من الشخصيات البارزة في جيل الصحابة شخصية الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فلقد كان من أشد المخالفين لأبي بكر وعمر في أمر الخلافة. فلما تمت البيعة لأبي بكر بالصورة التي كانت، أرسلوا إلي سعد يطلبونه أن يبايع، فقال لهم: " لا والله، حتي أرميكم بكل سهم في كنانتي، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي " [81] فانظر إلي شدة سعد علي الشيخين أبي بكر وعمر، فإنه لم يرفض بيعتهما فحسب، بل أقسم علي قتالهما بأهله وعشيرته، فأي حديث نقبل؟! وأي حديث نصحح؟ فأمامنا حديث الاقتداء بالصحابة، وها هو سعد منهم، وهو نجم به تتحقق الهداية. وأمامنا حديث الخلفاء الأربعة والأمر باتباعهم، ورأينا سعدا يخالفهم ولا يقبل منهم إلا بعد أن يخضب سنانه بدمائهم ويضرب أعناقهم بسيفه. وإنه لما قال عمر بن الخطاب: " اقتلوا سعدا، قتله الله " نهض قيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول له: " والله لو حصحصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة " [82] . وأما الحباب بن المنذر فهو الآخر لم يكن يعرف لأبي بكر وعمر طاعة في يوم السقيفة قط، فلما رد الشيخان كلامه في أمر الخلافة صاح قائلا: " والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل فيعرينة الأسد " [83] . لقد كان الحباب مستعدا لضرب من

يخالفه منهما ويحطم أنفه بسيفه، كما كان مستعدا لتولي أمر الخلافة بنفسه، فضلا عن إبائه التسليم والبيعة لهما بالخلافة. فلا سعد ولا قيس ولا الحباب ولا علي يعرفون حديث الخلفاء! ليس لأنهم خالفوه، بل لأنه حديث لم يكن له وجود في ذلك الوقت، بل ولد أخيرا في مهد الدولة [ صفحه 66] الأموية، وتربي علي أحضانها بهذا المعني. والاختلاف الذي حدث في يوم السقيفة يؤيد ما ذهبنا إليه، إذ لو كان للحديث وجود في ذلك الوقت بمعني الخلفاء الأربعة - كما فسر - وأنه كان عهدا ووصية من النبي (صلي الله عليه وآله) لما حدث ما حدث من اختلاف وتنازع وخصام كادت أن تزهق فيه أرواح طاهرة، ولما احتاج أبو بكر وعمر إلي بذل الوسع وشق الأنفس في إقناع الأنصار بعدم أحقيتهم في الخلافة بأدلة غير هذا الحديث، إذ أنه كان يكفي في إثبات الحجة وإقامة الدليل علي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولما اضطر عمر إلي تشكيل شوري سداسية لتختار خليفة للناس من بعده، كما حدث، إذ المفترض أن الحديث قد أوجب طاعة الأربعة، بعد أن فسروه بهم. ولكن هيهات، فالحديث موضوع باسم رسول الله (صلي الله عليه وآله) عندا، فليتبوأ واضعه مقعده من النار.

خلاف بعض الصحابة للخليفة الرابع

وأما هذه فهي مسألة أخري من الواضحات المسلمات، وقد أصابت من " حديث الخلفاء " مقتلا، ذلك لأن الإمام عليا هو رابع الخلفاء، وعلي هذا فسنته واتباعه - طبقا لهذا الحديث - حجة وجبت علي الصحابة، وإلا كان المخالف رادا علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) ومخالفا له بلا ريب. فهذا معاوية وذاك طلحة والزبير وتلك عائشة أم المؤمنين، وتلك الفئة الباغية، فمن

منهم لم يخالف الإمام عليا (عليه السلام) ولم يعلن عليه الحرب الضروس، عامدين لقتله وهو الخليفة الرابع؟! وأما معاوية فقد حاربه ولعنه وأمر الولاة في دولته بلعنه وسبه علي الملأ، واستمر لعن الإمام بعد معاوية كسنة راجت أكثر من خمسين عاما، يقول الطبري: " إن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة علي الكوفة سنة إحدي وأربعين وأمره عليها دعاه وقال له: لقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا علي بصرك، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم علي عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء [ صفحه 67] لشيعة عثمان والإدناء لهم. فقال له المغيرة: قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم.فقال: بل نحمد إن شاء الله " [84] . إقرأ قول معاوية: " لا تترك شتم علي وذمه "، فهل يبقي لحديث الخلفاء حجة علي أحد بعد هذا القول؟! أرجو أن لا يخطئ القارئ ويظن أن معاوية أمر المغيرة بالترحم علي عثمان والاستغفار له لأنه من الخلفاء الأربعة. كلا، بل هي القبلية والعصبية واللعبة السياسية. وهذا أقل ما يمكن أن يقدمه معاوية لعثمان، لأن معاوية مدين لعثمان، كما هو مدين لمن سبقوه فيما بلغه من مقام بين أهل الشام، حتي بلغ ما يصبو إليه. فقد تركوا له الشام يتصرف فيها كما يشاء مدة أربعين عاما انتهت بوفاته وخلافة ابنه يزيد الفاسق. وأما طلحة والزبير فحدث عنهما ولا حرج، فقد خالفا الخليفة الرابع أسوأ ما تكون المخالفة وأشد، وذلك لأنه من الخلفاء الأربعة المأمور باتباعهم، ولأنهما سبقا الناس وتصدرا غيرهما في البيعة له، إذ كانا أول من بايع الإمام يوم هجم الناس عليه يبايعونه

طوعا ورغبة منهم، ولأنهما حارباه بعد ذلك كله وألبا عليه الناس. فاسمع كيف يتألم الإمام لما فعلا، يقول علي (عليه السلام): " اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا الناس علي، فاحلل ما عقدا ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا.ولقد استتبتهما قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النعمة وردا العافية " [85] . وقد كتب الإمام علي (عليه السلام) رسالة إليهما قبل القتال ينذرهما ويعظهما، قائلا: " فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يتجمع العار والنار،والسلام " [86] . [ صفحه 68]

مخالفة عائشة لعثمان و علي

إن موقف عائشة أم المؤمنين من الخليفة الثالث عثمان بن عفان من المواقف التي يستحيل إنكارها أو إخفاء ما يكتنفها من حقائق، إذ لا تخلو منها كتب السير والأخبار. لقد خالفت عائشة عثمان أشد خلاف واتهمته أشد تهام، وأصدرت فتوي كفره وقتله، فقالت: " اقتلوا نعثلا، فقد كفر " [87] . يقول ابن أبي الحديد: " كل من صنف في السير الأخبار ذكر أن عائشة كانت من أشد الناس علي عثمان، حتي أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله، لم يبل وعثمان قد أبلي سنته. (قال) وقالوا: أول من سمي عثمان نعثلا عائشة، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا. (قال) وروي المدائني في كتاب " الجمل ": لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها، فلم تشك أن طلحة هو صاحب الأمر، فقالت: بعدا لنعثل وسحقا " [88] . فهذه هي الحميراء التي عندها نصف الدين - كما يقول أهل السنة - تفتي بكفر عثمان وقتله، لتبديله

وإبلائه سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) ولم تعر حديث الخلفاء اهتماما، فهل خالفت السنة هي الأخري؟ أم لم يكن للحديث وجود، فلم تكن قد سمعت به من زوجها صاحب السنن (صلي الله عليه وآله)؟ وعلي كل، فإن عملنا بقول عائشة فقد دحض حديث الخلفاء، لتكفيرها عثمان إذ أنه منهم. وإن عملنا بحديث الخلفاء فقد دحض حديث الاقتداء بالصحابة، لبطلان قولها حينئذ، إذ أنها منهم. وهذا هو التناقض الفاضح، والاختلاف الكبير بين الحديثين، الأمر الذي يشير إلي أنهما من عند غير الله، وهو الباطل لا غير. وأما موقفها من علي (عليه السلام) فيحكي نفسه ويبديها للملأ من أعلي سنام الجمل، ومن داخل الهودج الذي استقر علي ظهر " عسكر ". وهذا كله مجتمعا يتظافر ليؤكد أن عائشة [ صفحه 69] لا تطيب نفسا لعلي بخير [89] وأمامنا أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله) في بيان نفاق من يبغض عليا (عليه السلام). فماذا تري نقول في حديث قد خالفه كل الصحابة بقضهم وقضيضهم، ولم يعمل به واحد منهم؟! فالذي لم يخالف أبا بكر فقد خالف عمر، والذي لم يخالف عمر فقد خالف وسب وخاصم عليا (عليه السلام)، والذي لم يخالف عليا فقد خالف أبا بكر وعمر معا، فأي موقف يمكن أن نجد فيه ما يكون مصداقا لهذا الحديث، لنشاهده في الواقع بين الناس؟! ولكن هيهات، هيهات المصداق. [ صفحه 73]

حديث الاقتداء بأبي بكر وعمر

الاقتداء بأبي بكر وعمر

اشاره

من المعلوم أن الأساس الذي تدور عليه الحجية - سواء كانت حجية نص أو حجية شخص - هي العصمة، فحجية القرآن لعصمته، فهو (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [90] وحجية النبي (صلي الله عليه وآله) لعصمته (صلي الله عليه وآله)،

لكونه (لا ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحي يوحي) [91] وحجية أولي الأمر لعصمتهم التي بسببها وجبت علي الناس طاعتهم، وذلك لقوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [92] . وأما ما كان غير ذلك من كلام أو أشخاص فلا حجية فيه، فإذا وضح ذلك.. فما الحجية في قول أو فعل وسيرة أبي بكر وعمر؟. فمن يأمر النبي (صلي الله عليه وآله) باتباع سنته وقوله وفعله لا بد أن يكون معصوما، ولا يمكن لشخص معصوم أن يرتكب أخطاء مما يرتكبه الناس. ومن يقع فيما يقع الناس فيه من أخطاء لا يتميز عنهم بشئ، وبالتالي لا يري الناس لزوما للخضوع له والعمل بأمره ونهيه، ولا ترتاح النفوس لاتباعه، بل يصبح عرضة لانتقادهم واعتراضاتهم، فالذي يقع في الخطأ لا يستطيع أن يمنع الناس عن [ صفحه 74] ارتكابه، وإذا أقدم علي ذلك فسيقل شأنه ويسقط اعتباره عندهم، وإذا أمر عليهم لا يطيعونه ولا يقتدون به.. فكيف يصدر الرسول أمرا باتباع من ليست له عصمة؟! وقد روي أن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: " اقتدوا بالذين من بعدي، أبو بكر وعمر "! فإما أن تكون لهما العصمة، ولهذا أمر الرسول باتباعهما. وإما أن لا تكون لهما العصمة. فإن كانت لهما عصمة من الله تعالي فلا بد من إثبات ذلك، والحال أنه لم يقل أحد بهذا، ولا يؤيد الواقع عصمتهما. وإن لم تكن لهما عصمة من الله فلأي سبب أمر الرسول بالاقتداء بهما؟! والله تعالي لم يأمر باتباع وطاعة الرسول إلا لعصمته، ودون العصمة لا طاعة أبدا، فكيف يأمر الرسول باتباع وطاعة غير المعصوم؟! لقد راعي الله عصمة النبي (صلي الله عليه وآله) ولذا

أوجب طاعته، فكيف لا يراعي ذلك النبي (صلي الله عليه وآله) فيأمر بطاعة غير المعصوم؟! إن هذا محال. وقد يقول قائل: ما أمر النبي بطاعة واتباع هذين إلا لحرصهما علي متابعته والعمل بسنته. ولكن.. لماذا كان الأمر باتباعهما هما علي الخصوص؟ 1 ألم يكن عثمان حريصا علي متابعة النبي (صلي الله عليه وآله) والعمل بسنته؟! وهل كان الإمام علي لا يملك ذلك الحرص؟! غير أننا سنشهد مواقف لهما لا نري فيها ذلك الحرص علي اتباع النبي (صلي الله عليه وآله). ثم ماذا تقول في مخالفة كثير من الصحابة للشيخين في أمر الخلافة، وعلي رأسهم الإمام علي (عليه السلام) وكل بني هاشم، ولا سيما فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟! ولن ننسي موقف سعد حيالهما، فكيف نوفق بين أمر النبي (صلي الله عليه وآله) بالاقتداء بهما ومخالفة الهاشميين والأنصار لهما في أمر الخلافة؟! أو لم يسمع أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الحديث الآمر باتباعهما؟! أم لم يكن للأنصار خبر به؟! وكيف لا يكون لهم خبر به وهو أمر وعهد ووصية منه (صلي الله عليه وآله)؟! علي أن فقدان العصمة وحده يبطل هذا الحديث. يقول الإمام الغزالي في ذلك: " فإنه من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟! وكيف تدعي عصمتهم من غير حجة متواترة؟! وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف [ صفحه 75] المعصومان؟!... ". نعم، يجب ألا يختلف المعصومان أبدا، لأن المعصوم بعيد عن الباطل وواقف علي الحق. والحق - كما هو معروف - واحد لا يختلف، فما يدركه المعصوم من الحق في المسألة الواحدة هو نفس الحق الذي يدركه المعصوم الآخر

منها، ولعدم اختلاف الحق لا يختلف المعصومان، فهل كان لأبي بكر أو عمر تلك العصمة؟ علي أن النبي (صلي الله عليه وآله) أخبر أبا بكر بالإحداث - كما مر عليك - فقال له: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فالنبي كان يعلم أن أبا بكر ومن معه سيحدثون أمرا في الدين، فهل من المعقول أن يأمر بعد ذلك بالاقتداء به علي الوجه الذي رأيت؟! ولأبي بكر موقف مشهور مع بضعة النبي (صلي الله عليه وآله) وبنته البتول، أدي موقفه ذاك إلي إغضابها وإسخاطها! وأما عمر فله مواقف مع النبي (صلي الله عليه وآله) عدة، وستمر عليك مواقف الشيخين هذه إن شاء الله عاجلا. فالحديث هو من صنائع بني أمية، وهو من تلك الأحاديث التي وضعت في مقابل ما روي عن النبي (صلي الله عليه وآله) من اتباع العترة الطاهرة. ذكر المدائني: " كتب معاوية نسخة واحدة إلي عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته... " [93] ، فسد الباب أمام فضائل أهل البيت، وانفتح لفضائل غيرهم بلا ريب وإن لم توجد. وهذا الحديث من تلك.

من هي الزهراء

الزهراء هي فاطمة البتول، بنت محمد (صلي الله عليه وآله)، وهي زوجة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي أم الحسن والحسين (عليهما السلام). فأبوها هو سيد الأنبياء علي نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام. وأمها أول من آمن علي البسيطة بنبي الله الكريم، وكانت أحب نسائه إليه بلا مراء. [ صفحه 76] وأما زوجها فهو ولي كل مؤمن ومؤمنة، ولا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، حبه إيمان وبغضه كفر، وهو ابن عم الرسول وسيف

الله المسلول، كاتب الكتائب، ومظهر العجائب، أسد الله الليث الغالب، فارس المشارق والمغارب، هو الفاروق والصديق الأبر لا يدعيها غيره إلا كاذب، كما قال النبي (صلي الله عليه وآله) [94] . وأما ابناها فهما سيدا شباب أهل الجنة، كما هو مشهور [95] . وأما هي (عليها السلام) فهي، يروي البخاري: " حدثنا موسي بن عوانة، عن فراس، عن عامر، عن مسروق قال: حدثني عائشة أم المؤمنين، قالت: كنا أزواج النبي [(صلي الله عليه وآله)] عنده جميعا لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا والله ما تخرم مشيتها مشية النبي (ص). فلما رآها رحب، وقال: مرحبا يا بنتي. ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأي حزنها سارها الثانية، إذ هي تضحك. فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين؟! فلما قام رسول الله سألتها: عم سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي علي رسول الله سره. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق، لما أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم.. فأخبرتني. قالت: أما ما سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني به العام مرتين، ولا أري إلا الأجل قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإن نعم السلف أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأي جزعي سارني الثانية.. قال: يافاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو نساء هذه الأمة؟ " [96] . ولقد ذكر ابن حجر هذا الحديث، وفيه: " ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء [ صفحه 77] العالمين؟ " [97] . فهذه هي الزهراء، سواء كانت سيدة

نساء العالمين، أو سيدة نساء المؤمنين، أو نساء هذه الأمة، إذ أن ذلك من مسلمات الأمور وبديهياتها. وبالتأكيد لم يكن النبي (صلي الله عليه وآله) مبالغا في وصف الزهراء بهذا الوصف وإعطائها هذه السيادة، ولم يكن وضعه إياها في هذا المكان السامق من قبيل المحاباة لبنته، لماذا؟ ذلك لأنه هو النبي الصادق، وهو الرسول العدل، بل لأنه لا ينطق عن هوي النفس ولا بغير الوحي، إنما نطقه وحي يوحي من الله تعالي، فهو إذا براء من التلفظ تبعا لما تهوي نفسه وتشتهي. بل إن هذه السيادة وتلك الرفعة الفاطمية لم تكن نالتها بسبب خارج عن إيمانها ويقينها وتقواها، أي ليس لأنها بنت النبي (صلي الله عليه وآله) فنالت هذه السيادة دون أن يكون لها صفة تؤهلها ذاتا لذلك المقام الرفيع، فهي إذا إن لم تكن لها تلك الأهلية الإيمانية لا يمكن أن تحظي بهذه الصفة وتنال مقاما لم يتوفر إلا لأربعة نساء [98] في الوجود، فتتربع عليه علي هذا الأساس من الكمال والفائق. ويقول تعالي: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) [99] فانظر كيف اشترط الله الإيمان السابق حتي يكون علة لإلحاقهم بآبائهم وإعطائهم ما لهم من الثواب دون نقصان. فالإيمان السابق إذا هو تلك الأهلية التي يجب أن تتصف بها الذرية. وهكذا الزهراء، نالت هذا المقام بذلك الإيمان، والرسول (صلي الله عليه وآله) ما هو إلا كاشف عن هذا المقام الفاطمي. والإيمان - كما هو معلوم - بين زيادة ونقصان، ولما علم نيل الزهراء لهذا المقام الإيماني علم أن إيمانها ويقينها وتقواها مما بلغ شأوا وجعلها في المقام المحمدي غير ممنون. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه

ما رواه إمام الحنابلة: " عن عبد الرحمن الأزرق، عن علي (عليه السلام)، قال: دخل علي رسول الله (ص) وأنا نائم علي المنامة، فاستسقي الحسن أو الحسين. [ صفحه 78] قال: فقام النبي (ص) إلي شاة لنا بكئ (أي قل وانقطع لبنها) فحلبها فدرت، فجاءه الحسن فنحاه النبي (ص)، فقالت فاطمة: يا رسول الله، كأنه أحبهما إليك. قال: لا، ولكنه استسقي قبله [انظر إلي عدالة النبي]. ثم قال: إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة " [100] . فالزهراء (عليها السلام) باستيفائها الشرط المذكور في الآية - وهو الإيمان - صارت مع أبيها (صلي الله عليه وآله) في مقام واحد يوم القيامة. وبعد هذا لا يصح أن يلتبس علي أحد أمره في مقام السيادة الفاطمي الإيماني فيمر عليه دون انتباه، أو دون وقفة في مقام الانبهار والإجلال لشموخه، منزها إياها عن كل ما يعكر صفو ذلك المقام أو ما يناقضه من ارتكاب الخطأ أو الآثام، ذلك لأن الذي يكون مع النبي المعصوم في مقام واحد يوم القيامة يلزم أن يكون معصوما، وإلا لزم مشاركة غير المعصوم للمعصوم في مقامه وثوابه، وهذا محال. فأقل خطأ يتنزل به المقام عن مقام المعصوم، لمراعاة العدالة الإلهية. إذا فمقام الزهراء جامع لكل الصفات الحسان، لأنه لا يستقيم أن تنال هذا الشموخ وثمة شائبة من الجهل بسنة أبيها أو الجهل بما أنزل عليه من القرآن. أو لا يمكن أن تكون قد ألحقت بهذا المقام السامي المشترط فيه الإيمان المساوق له ويكون قد جري يوما كذب علي لسانها أو جانبت الحق يوما واقتحمت دائرة الباطل، ذلك لأن هذا المقام الإيماني مبدد لكل شين ولكل فعل يخالف هذا المقام،

وهو مذهب لكل وصمة تعارضه. إن الجهل يوقع الإنسان في القبح لعدم العلم به، أو يوقع الإنسان في التقصير في أمر العبادات وأداء التكاليف. وفي الواقع إن المقام الفاطمي هو مقام تزكية وتطهير إلهي لأهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله)، فهذا القرآن يصدح بذلك في قوله تعالي: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [101] والرجس هو القبح أو كل ما يكون علة له. وقد تم تطهيرهم عنه بمشيئة وإرادة الله التكوينية. ومن أقل لوازمه مراقبة الله والخشية منه، فضلا عن علم اليقين الذي يكشف عن قبائح الأخطاء فيورث النفس نفرة منها وتنائيا، وها هي [ صفحه 79] العصمة لا غير. إذا فالزهراء ليست جاهلة بالدين بل عالمة بأموره تماما لا يغيب عنها شئ من مسائله، بل من غير المعقول أن تكون علي غير ذلك بالنظر إلي أنها الطاهرة المطهرة إلهيا الزكية الصفية من كل ما يشين البرية، وبالنظر إلي استحالة أن يتركها أبوها عليه وعليها أفضل الصلاة والتسليم جاهلة ولو بمسألة من أمور الدين، وهي له القريبة والحبيبة والبضعة التي يغضبه ما يغضبها. علي أن النبي عليه وعلي آله الصلاة والسلام الذي جاء معلما للبشرية والذي بعث متمما لمكارم الأخلاق أربأ به أن يترك بضعته في حوالك الجهل ويخرج الآخرين من ظلماته إلي أنوار العلم، وهل جهلها وحديث الثقلين؟! وهل يأمر النبي (صلي الله علي وآله) الناس بالبر وينسي نفسه! أم أنه لم يؤمر بأن ينذر عشيرته الأقربين؟! وهل هذا الإنذار محدود زمنيا ببدء الرسالة؟ أم كانت الزهراء مشاقة للنبي (صلي الله عليه وآله) ولم تكن تري اقتفاء أثره والاقتداء به؟! لقد تنزهت الزهراء عن كل ما يشين، ولا

سيما الكذب وادعاء الباطل، وأخذ ما ليس لها بحق، بل لا يمكن أن تغضب غضبا طفوليا لا أساس له، لأن النبي (صلي الله عليه وسلم) عندما قال من جانب الوحي: " فاطمة بضعة مني، يغضبني ما يغضبها " [102] لم يكن النبي (صلي الله عليه وآله) أراد أن يحمل الناس ذلك ظلما أو تكليفا لهم فوق طاقتهم. وليس هناك سوي ذلك لو كان النبي (صلي الله عليه وآله) قد جعل غضب الزهراء علة لغضبه الذي هو علة لغضب الله تعالي وهو يعلم أن للزهراء غضبا، أو يمكن أن تغضب غضبا ليس في محله أو تطالب بحق ليس لها فتغضب لذلك. فلو كانت الزهراء تغضب علي الناس دون وجه حق، ويغضب النبي (صلي الله عليه وآله) لذلك، فهذا لا يعني إلا شرخا في عدله وانصداعا في رأفته ورحمته بالناس التي شهد بها القرآن! ولا يعني إلا محاباة لبنته دون سائر الناس، تلك المحاباة المتنافية مع قوله: " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ". وهذا دليل علي مضي عدله واستقامته (صلي الله عليه وآله). علي أن الزهراء بعيدة عن عار السرقة، [ صفحه 80] وإنما أراد المثال الأقوي في تأكيد عدالته وتنفيذه أمر الله، حتي لو كان السارق من له مقام كالزهراء، لو قدر لذلك أن يحدث. ونحن لا نفهم - بل يجب أن لا نفهم - من غضب النبي (صلي الله عليه وآله) لغضب الزهراء إلا لأنها وقفت علي عرصات العلم اليقيني الذي تنكشف به حقائق الأمور حسنها وقبحها. وعلم كهذا لا يقوم بنفس خالطها ولو يسير من القبح أيا كان ذلك، لأن العلم اليقيني هذا كله حسن. ولما قام بنفس الزهراء فيجب

أن تحفظ السنخية والانسجام بين نفسها وعلمها هذا. بل إن هذا العلم ونفس الزهراء شئ واحد بالذات، فلا يحتاج إلي التأكيد والكلام عن السنخية والمشابهة، لأن هاتين تطلبان بين اثنين، ولا اثنينية بين الزهراء وعلمها إلا ذهنا. فالاتحاد بين هذا العلم - الذي كله خير - ونفس الزهراء (عليها السلام) لا نفهم منه إلا ذلك التطهير وتلك التزكية، كما هو واضح. فالرسول إذا علي يقين من أن الزهراء في تناء عن الباطل وفي انسجام مع الحق، ولذا لم يكن يخشي منها علي الناس بأن تغضب عليهم بلا وجه حق. ولهذا لما كان من بين الناس - من يتنكر لهذا المقام الفاطمي ولا يتورع عن ظلمها وإغضابها، قرن غضبها بغضبه، بل قال لها: " إن الله يغضب لغضبك، ويرضي لرضاك ". وبهذا تتضح لنا عصمة البتول (عليها السلام) بصورة جلية. فما دام غضب الزهراء (عليها السلام) هو غضب النبي (صلي الله عليه وآله)، ورضاها هو رضاه (صلي الله عليه وآله)، فلا ريب أن يغضب الله لغضبها ويرضي لرضاها، إذ لا يمكن أن يري الله نبيه غاضبا ولا يغضب، أو يراه راضيا فلا يرضي.

ماذا كان بينها و بين أبي بكر و عمر

ونأتي بعد هذا ونسأل: ماذا كان بينها وبين أبي بكر وعمر في مسألة ميراثها من أبيها محمد رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟! يروي البخاري عن عائشة أم المؤمنين: " أن فاطمة بنت النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم أرسلت إلي أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم مما أفاء الله [ صفحه 81] عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم قال: لا نورث، ما

تركناه صدقة... إلي قولها: فأبي أبو بكر أن يدفع إلي فاطمة [(عليها السلام)] منها شيئا، فوجدت فاطمة علي أبي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلمه حت توفيت، وعاشت بعد النبي [(صلي الله عليه وآله)] ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلي عليها[(عليها السلام)] " [103] . ويروي البخاري أيضا: "... فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص)، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، وعاشت بعد رسول الله [(صلي الله عليه وآله)] ستة أشهر. قالت عائشة: فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله [(صلي الله عليه وآله)] من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبي أبو بكر عليها ذلك " [104] . وفدك هذه مما أفاء الله به علي رسوله (صلي الله عليه وآله)، وهو ملك خاص له إذ لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب [105] ، فصالح اليهود النبي (صلي الله عليه وآله) علي نصفها يوم فتح حصون خيبر. وروي أن عمر بن الخطاب قال للنبي (صلي الله عليه وآله) بعد ما أفاء الله عليه من خيبر: " ألا تخمس ما أصبت - أي تأخذ الخمس منه وتقسم الباقي علي المسلمين - فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله): لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين، يقول: ما أفاء الله علي رسوله " [106] . يتضح من هذا جليا أن ما أفاء الله به علي رسوله من فدك وغيرها خالص لرسول الله (صلي الله عليه وآله) ولآل بيته الكرام. ولما طالبه ابن الخطاب بأخذ الخمس منه وتقسيم ما يتبقي بين المسلمين، لم يقبل النبي (صلي الله عليه وآله) ذلك منه وخص به نفسه،

كما خصه به الله تعالي، ولم يشرك معه أحدا من المسلمين فيه. فانظر إلي قوله (صلي الله عليه وآله): " لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين "، فإذا كان النبي (صلي الله عليه وآله) لم يقبل بإعطاء أحد من المسلمين شيئا من فدك واحتفظ بها لنفسه ولأهله وهو [ صفحه 82] حي من بينهم، فكيف يحرمهم منها بعد وفاته وغيابه عنهم؟! فهل كان النبي (صلي الله عليه وآله) يري أن أهل بيته أحوج إلي فدك في حياته منها بعد وفاته؟! أيعقل هذا يا أولي الألباب؟! فمن حيث إن فدكا وغيرها كانت خالصة لرسول الله (صلي الله عليه وآله) ولأهل بيته، فقد صارت بذلك ميراثا للزهراء وعلي وابنيهما (عليهم السلام). ومن حيث إن عليا (عليه السلام) وابن عباس وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم، رووا: " أنه لما نزل قوله تعالي: (وآت ذا القربي حقه) دعا رسول الله [(صلي الله عليه وآله)] فاطمة فأعطاها فدكا " [107] ، فمن حيث ذلك يكون النبي (صلي الله عليه وآله) قد نحل الزهراء (عليها السلام) فدكا، وصارت ملكا لها في حياته (صلي الله عليه وآله). فأما من حيث الميراث فقد رد قولها أبو بكر بقوله: إن رسول الله قال: لا نورث، ما تركناه صدقة! وأما من حيث إنها كانت نحلة لها (عليها السلام) فقد طالبها أبو بكر بالشهود، فشهد لها علي (عليه السلام) وأم أيمن، وقيل جاءت برباح - مولي رسول الله - وأم أيمن [108] ، فلم يقبل دعواها لعدم اكتمال الشهود، كما يقول ابن حجر الهيثمي: " ودعوي فاطمة أنه صلي الله عليه وآله نحلها فدكا لم تأت عليها إلا بعلي وأم أيمن، فلم يكمل

نصاب البينة " [109] . فالزهراء (عليها السلام) لم تكن تري أبا بكر وعمر إلا ظالمين قد حرماها من إرث أبيها بلا وجه حق، أو منعاها نحلتها منه. لذا لم تكن تري ما رواه أبو بكر عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) بصواب ولا بحق. ولهذا تصدت لهذا الظلم، وخاطبت أبا بكر علي ملأ من المهاجرين والأنصار. يروي أبو بكر الجواهري: " لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر علي منعها فدكا، لاثت خمارها علي رأسها، واشتملت جلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ [ صفحه 83] ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية النبي (ص)، حتي دخلت علي أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس، ثم أمهلت هنيهة حتي إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بحمد الله عز وجل والثناء عليه والصلاة علي رسول الله [(صلي الله عليه وآله)] ثم قالت: " أنا فاطمة! ابنة محمد، أقول عودا علي بدء، (لقد جاءكم سول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، فإن تعدوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم... ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا!! (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)؟! يا ابن أبي قحافة! ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد (ص)، والموعد يوم القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون "، وعج المكان ببكاء الناس. ثم خاطبت الأنصار فقالت: " إيها بني قيلة، اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأي ومسمع، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت،

وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار. باديتم العرب، وبادهتم الأمور، وكافحتم البهم، حتي دارت بكم رحي الإسلام، ودر حلبه وخبت نيران الحرب، وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد الإقدام؟! ونكصتم بعد الشدة؟! وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نقضوا إيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)... ألا قد قلت لكم ما قلت علي معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، وخور القناة وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع علي الأفئدة، فبعين الله ما تعملون، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) " [110] . ثم قالت فيما خاطب به أبا بكر وأصحابه: " أفعلي عند تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول الله تبارك وتعالي: (وورث سليمان داود)، وقال عز وجل فيما قص من خبر يحيي بن زكريا: (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب)، وقال عز ذكره: [ صفحه 84] (وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله)، وقال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، وقال: (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين). وزعمتم أن لا حق ولا إرث لي من أبي ولا رحم بيننا! أفخصكم الله بآية أخرج نبيه (ص) منها، أو تقولون: أهل ملتين لا يتوارثون؟! أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي (ص) (أفحكم الجاهلية يبغون) " [111] ؟ فمن الواضح أن الزهراء (عليها السلام) كانت شديدة علي أبي بكر وقومه في مسألة ميراثها

من أبيها، فاضطرها ذلك لأن تخرج وتخاطبه أمام الناس داحضة ما ادعي سماعه من النبي (صلي الله عليه وآله) في عدم توريثه، وأن ما تركه صدقة، فاحتجت الزهراء (عليها السلام) عليه بآيات التوريث، وأشارت إلي عموم حكم الوراثة. وفي قولها: " لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي (صلي الله عليه وآله) " إشارة إلي أنه لو كان ثمة شئ لما خفي علي النبي (صلي الله عليه وآله) حتي يعلموه هم دونه. ولما كان النبي (صلي الله عليه وآله) أعلم بهذا الأمر منهم فهي تعلم ذلك أيضا، إذ أنها مسألة لا يمكن أن تجهلها الزهراء ويعلمها أبو بكر وحده، فهي وارثة علم أبيها، كما شهد به أبو بكر نفسه. وأبو بكر يعلم يقينا قدر زهراء (عليها السلام) وبعدها عن الكذب وادعاء الباطل، ذلك لأنه سمع مرارا قول النبي (صلي الله عليه وآله): " فاطمة بضعة مني، يغضبني ما يغضبها "، لأن هذا الغضب لا يمكن أن يكون بلا وجه حق، وإلا لكان النبي (صلي الله عليه وآله) قاسيا علي الناس وأبي بكر بفرض إرضاء الزهراء رغم ظلمها للناس بالغضب عليهم بلا أساس. فأبو بكر يعلم هذا، ولذا كان عليه أن يجعل غضبها دليلا علي خطئه وبعده عن الحق في مسألة ميراث هذه، وأن يجعل رضاها عنه عنوانا علي صحة وسلامة منهجه وتصرفه في مسألة ميراثها، لأنه لو قدر لأبي بكر أن يحكم بهذا في حياة النبي (صلي الله عليه وآله) لغضب عليه ومنعه، لأن الزهراء كانت ستغضب غضبها ذاك، وهذا مما يغضب النبي (صلي الله عليه وآله) كما عرفنا. وإذا صححنا لأبي بكر حكمه في ميراث الزهراء ومنعها إياه، فعلينا أن نحكم بأن النبي (صلي

الله عليه وآله) قد ترك لبنته زمام الغضب تسوقه متي شاءت علي من شاءت من الناس، [ صفحه 85] بالباطل وبلا حق يؤيدها. فالرسول (صلي الله عليه وآله) ما قرن غضبه بغضبها، ورضاه برضاها إلا لأنها صادقة حين ترضي ومحقة حين تغضب علي الدوام.. فكيف ابتعدت أفهام أبي بكر عن ذلك وغمرته الغفلة عن هذا؟! إن الزهراء ما كانت تحتاج في مطالبتها بإرث أبيها إلي الخروج أمام المهاجرين والأنصار وتخاطبهم باللهجة التي قرأت لولا ثقل الظلم الذي كانت تنوء به هي نفسها، ولولا يقينها الذي لا يشوبه الظن بخطأ أبي بكر في هذا الأمر، سواء أكان ذلك الحكم أن ليس للرسول (صلي الله عليه وآله) إرث لبنته، أو رده ادعاءها بأن أباها (صلي الله عليه وآله) قد نحلها فدكا. وأعجب من ذلك رده شهادة رجل ما جري الكذب علي لسانه يوما منذ نعومة أظافره، رجل شهد له الله تعالي بالإيمان والاستقامة والصلاح.. فعن علي (عليه السلام)، قال: " جاء النبي أناس من قريش فقالوا: يا محمد، إنا جيرانك وحلفاؤك، وإن أناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه، إنما فروا من ضياعنا وأموالنا، فارددهم إلينا، فقال لأبي بكر: ما تقول؟ قال: صدقوا، إنهم جيرانك.. قال: فتغير وجه النبي (ص)، ثم قال لعمر: ما تقول؟ قال: صدقوا، إنهم لجيرانك وحلفاؤك.. فتغير وجه النبي (ص)... فقال: يا معشر قريش، ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قبله بالإيمان، فيضربكم علي الدين. فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه الذي يخصف النعل.. وكان قد أعطي عليا نعله يخصفها " [112] .

فلقد كان هذا كافيا لأبي بكر بأن يقبل شهادة الإمام علي، ويحكم لصالح الزهراء، ويقبل ادعاءها بلا أدني شك. لقد كانت لخزيمة بن ثابت شهادة عدلين لصدقه، فهل كان خزيمة أصدق من [ صفحه 86] علي (عليه السلام)؟! فعلي ولي كل مؤمن ومؤمنة بعد النبي (صلي الله عليه وآله)، بما فيهم أبو بكر وعمر وخزيمة ذو الشهادتين، فيكف وجد أبو بكر سبيلا لرد شهادته وقد سمع نص امتحان الله قلبه بالإيمان من فم النبي (صلي الله عليه وآله)؟! فكان لأبي بكر أن ينحو منحي النبي (صلي الله عليه وآله) من أجل ذرية وبضعة النبي (صلي الله عليه وآله)، فيعد ادعاء الزهراء وحدها دليلا علي صدقها وأحقيتها فيما ادعته، تبرئة لها من الكذب، ولطهارتها من الرجس التي أكدها القرآن الكريم. أو كان لأبي بكر أن ينتهج نهج النبي (صلي الله عليه وآله) من أجل النبي (صلي الله عليه وآله) في أخيه وأبي ولده الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فيعده من أهل الشهادتين، وينزله مقام خزيمة علي أقل التقادير. غير أن معاوية ابن أبي سفيان قد اقتطع ثلث فدك هره لمروان بن الحكم، واستحقها مروان دون ادعاء ميراثها أو نحلتها! فإذا حرمت الزهراء فدكا لأنها مال المسلمين، فقد صارت إرثامن مروان لابنه عبد العزيز، ذلك أن مروان قد اقتطعها لابنه هذا من بعده [113] . علي أن أبا بكر لم يراع قانون حفظ أموال المسلمين كما راعي ذلك في مسألة فدك، فقد كانت أموال المسلمين توهب لكل من هبت من نواحيه عواصف الخطر علي الخلافة! يقول الطبري: " كان النبي [(صلي الله عليه وآله)] قد بعث أبا سفيان ساعيا [علي أموال اليمن] فرجع من سعايته،

وقد مات النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم، فلقيه قوم فسألهم، فقالوا: مات رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم. فقال: من ولي بعده؟ قيل: أبو بكر... فلما قدم المدينة، قال: إني لأري عجاجة لا يطفئها إلا الدم... فكلم عمر أبا بكرفقال: إن أبا سفيان قدم، وإنا لا نأمن شره، فدفع له ما في يده، فتركه ورضي " [114] . فهكذا اتقي أبو بكر وعمر شر أبي سفيان، وأطفئت عجاجته بما كان في يده من أموال المسلمين التي جمعها ساعيا بأمر النبي (صلي الله عليه وآله)! أما الزهراء فلا تأخذ من الإرث حقها، ولا بادعائها وشهادة أمير المؤمنين ولا تنال [ صفحه 87] نحلتها من أبيها! غير أن أبا بكر لما كان مستيقنا من أنه لا بد أن يكون للزهراء إرث من أبيها بأي حال من الأحوال، قال لها: إنه سمع رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: " إنا معشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولافضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا، ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة " [115] . ولعمري، لقد أراد أبو بكر أن يرد ادعاء الزهراء وينفي إرثها من أبيها، ولكنه أثبت لها ذلك من حيث لا يشعر، فإنه بغض النظر عن الذهب والفضة والأرض والعقار والدار، قد أثبت للزهراء إرث الإيمان والحكمة والعلم والسنة من أبيها!! إذا، فهي قد ورثت من أبيها الأرض أيضا، ذلك لأنها ورثت الإيمان من أبيها فلا سبيل للكذب وادعاء الباطل إليها، إذ أن هذا الإيمان يعصمها بلا ريب من ادعاء شئ ليس لها فيه حق، وإن ادعت شيئا فادعاؤها حق لا شبهة فيه. وإذا كانت قد ورثت العلم والسنة فالزهراء (عليها السلام) إذا هي أعلم

بالسنة من أبي بكر، ولا يجوز - مع وراثتها السنة من أبيها - أن تجهل حديثا يعلم به أبو بكر دونها ودون ابن عمها، وأبو بكر ليس بوارث شيئا من علم وسنة النبي (صلي الله عليه وآله). والحديث الذي رواه يمنع به إرث الزهراء حديث انفرد به هو دون والصحابة، فكيف جهلت الزهراء هذا الحديث وهي وارثة السنة؟! فهذا أمر لا يستقيم له عود، لذا فمعارضتها تبطل الحديث. ومن المعلوم أن حديث أبي بكر هذا من أخبار الآحاد، وحتي إذا لم يعارضه في مفاد هذا الحديث أحد، فهو لا يفيد إلا الظن بصدقه هذا مع عدم المعارضة، فكيف الحال إذا تمت المعارضة، ولا سيما إذا تمت من الزهراء (عليها السلام) وأمثالها من بين النبوة؟! إذا فالحديث يتنزل حتي من درجة إفادة الظن في الصدق، بعد المعارضة، إلي أسفل الدرجات، وتبطل به الحجة. يقول صاحب فواتح الرحموت عن الذي يحدث بخبر الواحد: " إذا أخبر بحضرة خلق كثير فأمسكوا عن تكذيبه، يفيد ظن صدقه " [116] ، ولكن قد كذبته الزهراء وأمير [ صفحه 88] المؤمنين (عليه السلام)، إذا فالظن بالصدق لا يستفاد من مفاد الحديث، ويسقط بالتالي عن الاعتبار. إن أبا بكر، لا يستطيع بهذا الحديث الذي انفرد بروايته وحده أن يمنع الزهراء إرثها من أبيها رسول الله (صلي الله عليه وآله). كما أنه لا يستطيع أن يبطل ادعاءها بأن أباها قد نحلها فدكا، ذلك لأنه لا يمكن أن يدعي أن الزهراء قد طلبت ما ليس لها بحق لها جهلا منها أو كذبا، و حاشاها. إذا أنه بنفسه قد أثبت لها أنها ورثت من أبيها الإيمان والعلم والحكمة والسنة، فلا جهل مع العلم والحكمة والسنة،

ولا كذب مع الإيمان الموروث. كما أنها لا سبيل إلي لعلي (عليه السلام) كرات ومرات: " أنت ولي كل مؤمن بعدي ". إبطال شهادة الإمام علي (عليه السلام)، لأنه يعرف مقامه جيدا، وقد سمع النبي (صلي الله عليه وآله) يقول وعلي هذا، فأبو بكر من موالي أمير المؤمنين كما هو واضح، وذلك لعموم الحديث، فلا يمكن أن يطوف بذهن الصديق أن الإمام عليا (عليه السلام) قد أخذته الحمية وجاء يشهد لزوجته شهادة زور وقد بلغ الإمام هذا المقام الولائي الذي يأتي بعد مرتبة النبي (صلي الله عليه وآله) بلا فصل، فأبو بكر يعلم كل ذلك ولم تخف في ذلك عليه خافية. ولكن المسألة لها اتجاه آخر، فالأمر لم يكن فصلا في قضية حكم فيها أبو بكر بما صدر من النبي (صلي الله عليه وآله) ومنع علي أثرها الزهراء من أن ترث أباها، وإنما كان هذا ظاهر القضية لا غير. في الواقع إن أبا بكر ومن تصافق معه قد استكثروا ما تركه النبي (صلي الله عليه وآله) علي الزهراء وزوجها وابنيهما (عليهم السلام). وقد كان أبو بكر يري نفسه أولي من غيره بالنبي (صلي الله عليه وآله) فيكف لا تكون فدك في يده هو، لا سيما وأنه قد تسلم زمام الخلافة؟! فاعتبار نفسه بأنه من عشيرة النبي (صلي الله عليه وآله) من ناحية، والحاجة إلي تقوية موقفه السياسي من حيث الجانب المالي من ناحية أخري.. كل ذلك جعله لا يري سببا يجعل كل فدك في يد علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، لا سيما وأن هؤلاء الأربعة يمثلون خطرا سياسيا له، وأنه بأخذ فدك منهم، وضرب الحصار السياسي عليهم بعد الإضعاف المالي، سيأمن علي خلافته [

صفحه 89] منهم. وبنفس المنطق الذي استولي به أبو بكر علي الخلافة وجرد منها الأنصار استولي علي فدك، إلي جانب منطق الحاجة السياسية والاقتصادية إلي مصدر مالي يجعله يقوم بأعمال شتي لتقوية دولته وحماية حكومته، فكان هذا المصدر المالي في ذلك الوقت هو فدك. ففي سقيفة بني ساعدة خاطب أبو بكر الأنصار قائلا: "... وخص المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه [وفي ذلك إشارة إلي نفسه]، فهم أول من عبد الله في الأرض، وهم أولياؤه وعترته وأحق الناس بالأمر بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ". إذا، فما دام أبو بكر يري أنه من أولياء النبي (صلي الله عليه وآله) وعترته، وهم بالتالي أحق الناس بالخلافة من بعده.. فكيف لا يكون هو أحق الناس بفدك وغير فدك؟! وما دام أنه يري أحقيته في الخلافة، فلا بد أن يدعم هذا الحق بما تركه النبي (صلي الله عليه وآله) باعتباره خليفته من بعده، كما يري، ولهذا كان لا بد من الاستيلاء علي فدك هذه. أما أبو حفص، فلم يكن يري خلاف ما كان يراه أبو بكر، فهما في الأمر سيان، وقد تصافقا عليه وتوحدا، يقول ابن الخطاب مخاطبا الأنصار: " هيهات، لا يجتمع سيفان في غمد، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة؟! " وبهذا يرفع أبو حفص النقاب، ويبدي سبب الاستيلاء علي فدك جليا واضحا.. فانظر إلي قوله: " من ذا يخاصمنا في ميراث محمد وسلطانه "، فعمر كان يري أنه هو و أبو بكر ورثة النبي (صلي الله عليه وآله)، لماذا؟ لأنهما أولياؤه وعشيرته! وإذا كان من حق أبي بكر وعمر أن يرثا

الخلافة بعد النبي (صلي الله عليه وآله)، فكيف لا يكون من حقهما أن يرثا إرثهما في فدك وغيرها؟! وبعد حصول إرث الخلافة، فماذا يمنع من حصول إرث كل شئ آخر، لا سيما إذا كان مربوطا بالخلافة سياسيا واقتصاديا؟! يقول عمر بن الخطاب: " لما قبض النبي (ص) جئت أنا وأبو بكر إلي علي، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (ص)؟ [ صفحه 90] قال: نحن أحق الناس برسول الله (ص). قال [عمر]: قلت: والذي بخيبر؟ قال [علي]: والذي بخيبر. قلت: والذي بفدك؟ قال: والذي بفدك.قلت: أما والله حتي تحزوا رقابنا بالمناشير، فلا " [117] . فهذا الحوار الذي دار بين عمر والإمام علي (عليه السلام) يؤكد ما ذهبنا إليه من استكثار القوم فدكا علي أهل البيت، وإحساسهم بحقهم في إرث النبي (صلي الله عليه وآله). فلما لم يكن في استطاعة أبي بكر وعمر إنكار حق الإمام وأهل بيته في إرث النبي (صلي الله عليه وآله)، اضطرهما ذلك إلي التفكير بالتسوية واقتسام ما ترك النبي (صلي الله عليه وآله) وإلا فليس هناك تفسير غير ذلك لهذا الحوار. فما معني أن يعودا مرة أخري ويسألا الإمام عليا عن فدك وخيبر؟! فأبو بكر أصدر حكمه برد ادعاء الزهراء منح النبي (صلي الله عليه وآله) إياها فدكا، وأكد عدم توريث النبي (صلي الله عليه وآله) وأن ما تركه صدقة ليس لبنته حق في إرثه، فماذا بعد الحكم القضائي وعدم اكتمال البينة - كما يدعي القوم - وبعد إثبات أن ما تركه النبي (صلي الله عليه وآله) هو حق للمسلمين كافة؟! وأما إن كان هذا الحوار هو أول كلام في أمر فدك وخيبر، فلا يجوز لأبي بكر وعمر أن

يأتيا إلي الإمام علي يسألانه رأيه في ما ترك النبي (صلي الله عليه وآله)، لو كان النبي (صلي الله عليه وآله) قد قال حقا: " لا نورث، ما تركناه صدقة "، لأن هذا الحديث لا يتيح مجالا لأبي بكر وعمر ليس اوما في أمر أصدر النبي (صلي الله عليه وآله) قوله فيه وبين حكمه، فالنبي (صلي الله عليه وآله) لا يورث ما تركه صدقة للمسلمين، فما معني محاورة الإمام علي (عليه السلام) وهو لا يملك شيئا من النبي (صلي الله عليه وآله)، بل ليس له شئ فيما ترك النبي (صلي الله عليه وآله) سواء كان إرثا أو صدقة؟! فلماذا يسأل عن رأيه في تركة النبي (صلي الله عليه وآله) وهو غير وارث له طبقا لحديث أبي بكر، ولا صدقة له فيما ترك النبي (صلي الله عليه وآله) بحكم أن أهل البيت قد حرموا الصدقة؟! [118] . [ صفحه 91] ولما رأي عمر عدم مساومة الإمام علي (عليه السلام) في حقه الشرعي، وأنه لم يحقق ما حلما به في الاقتسام، قال له عمر - كما رأيت -: " أما والله، حتي تحزوا رقابنا بالمناشير، فلا ". فعمر لم يبن رفضه هذا علي حديث من النبي (صلي الله عليه وآله)، ولم يقل أبو بكر إني سمعت النبي يقول لا نورث... إذ لم ينبس أحد منهما بهذا الحديث في ذلك الحوار، بل كان هذا الرفض مبنيا علي ما كان يشعر به الشيخان من حق لهما فيما ترك النبي (صلي الله عليه وآله)، وعلي ما كان يلمسانه من الحاجة إلي مصدر مالي يدعمان به الخلافة والدولة. ولو كان الإمام علي رضي بالاقتسام لرضيا به، كما هو واضح من مجيئهما

إليه لمعرفة رأيه فيما ترك النبي (صلي الله عليه وآله)، وبهذا يثبتان له حقه، وبرفضهما تمسك الإمام بكل التركة يوضحان إحساسهما بالحق فيما ترك النبي (صلي الله عليه وآله). إذا، فالاعتراف بحق أهل البيت وإحساسهما بالحق في ذلك أيضا يوضح نية الاقتسام من تلك الزيارة. ولما لم يجد الشيخان من الإمام (عليه السلام) استجابة لما نوياه من اقتسام تركة النبي (صلي الله عليه وآله) ووجداه ثابت الرأي في أحقية أهل البيت في كل التركة، لم يجد بدا من الاستمرار في الاستيلاء عليها والاستئثار بها، إذ حتمت السياسة والحاجة الاقتصادية ذلك من قبل فأخذا فدكا. يقول الإمام في خطابه لعثمان بن حنيف - واليه علي البصرة -: " بلي، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله " [119] . ولهذا غضبت الزهراء (عليها السلام)، ولم تكلم أبا بكر حتي لحقت بأبيها وهي غاضبة عليه لما فعل. يقول البخاري: " فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص)، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، وعاشت بعد رسول الله (ص) ستة أشهر. قالت عائشة: فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (ص) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبي أبو بكر [ صفحه 92] عليها ذلك ". ولكن.. هل يقف الأمر عند أعتاب غضب الزهراء (عليها السلام) وينتهي كل شئ؟ روي البخاري، كما ذكر النبهاني في " الشرف المؤبد ": أن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: " فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها "، ويروي أيضا " فمن أغضبها أغضبني "... ولهذا صار أبو بكر وعمر بين أمرين أحلاهما مر، فهما

يريان أهمية فدك، إذ أنها خير دعم سياسي واقتصادي للخلافة، ويريان في نفس الوقت حق الزهراء في فدك، إذ أنها ميراث النبي (صلي الله عليه وآله) الذي تركه لها، وقد استقلت لذلك غضبا وسخطا.. ولهذا حاول أبو بكر وعمر مرة أخري إرضاء الزهراء عنهما، ولكن مع الاحتفاظ بفدك. ولتحقيق هذا الأمر قال عمر لأبي بكر: " انطلق بنا إلي فاطمة، فإنا قد أغضبناها ". وهذا يؤكد إحساسهما بثقل وخطورة غضب البتول وبضعة الرسول (صلي الله عليه وآله): " فانطلقا جميعا، فاستأذنا علي فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما عليها. فلما قعدا عندها حولت وجهها إلي الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال:... أفترين أعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله؟! ألا إني سمعت أباك رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة، فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، تعرفانه وتعملان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله [(صلي الله عليه وآله)] يقول: رضاء فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضي فاطمة فقد أرضاني، من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم. قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي [(صلي الله عليه وآله)] لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر: إني عائذ بالله تعالي من سخطه وسخطك يا فاطمة.. ثم انتحب أبو بكر يبكي حتي كادت نفسه تزهق وهي تقول: والله لأدعون عليك كل صلاة [ صفحه 93] أصليها.. ثم خرج باكيا، فاجتمع إليه

الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم يعانق حليلته، مسرورابأهله، وتركتموني وما أنا فيه؟! لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتكم " [120] . إذا، فأبوبكر يعلم أن غضب الزهراء (عليها السلام) يغضب النبي (صلي الله عليه وآله) وأن سخطها يسخطه، ويعلم براءتها من الغضب الذي لا أساس له، فقد شهد بهذا أبو بكر نفسه بإثباته أنها ورثت العلم والإيمان والحكمة والسنة من رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وهذا يوضح أن غضبها لا يكون إلا بالحق، ولا يكون رضاها إلا به، ولذلك استعاذ أبو بكر بالله من غضبها قائلا: أنا عائذ بالله تعالي من سخطه....، ثم انتحب يبكي، إحساسا منه بخطورة الموقف. واهتزت أركان الخلافة بسبب هذا الغضب الفاطمي، وأصبحت بيعة الناس له لا تزن عنده عقال بعير، فسعي لأن يكون منها في حل لو استطاع. ولكن هيهات، فلقد أحكم عقدها في أعناق الناس، ولما لم يجد أبو بكر فكاكا منها صار في لحظات احتضاره يجتر مرارة الندم ويتعلق بحبال التمني. فقد قال يوم وفاته: " ثلاث فعلتهن، ليتني كنت تركتهن، فليتني تركت بيت علي، وإن كان أعلن علي الحرب " [121] وقد صاحت الزهراء يومئذ مخبرة أباها عليه السلام بما حدث لأهل بيته من بعده، فقالت: " يا أبت، يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! " [122] . فماذا لقيت الزهراء (عليها السلام) منهما يا تري؟!! والسؤال الذي يطرح نفسه لا محالة: كيف للزهراء الطاهرة أن تقف هذا الموقف من أبي بكر وعمر، والرسول قد قيل إنه قال: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر "؟! أفتراها نسيت ما ورثته من عمل وحكمة وسنة، ولما يمض

علي وفاة النبي (صلي الله عليه وآله) إلا أيام؟!! [ صفحه 94] أم تراها مخالفة لما ورثته من سنة أبيها والدين الذي أنزل عليه، فخالفته فيما أمر به؟!! أم هو حديث صاغته سدنة بني أمية لإثارة الغبار والضباب، لإخفاء فضائل علي (عليه السلام)، وخفضا لمقامه، ومحقا للدين؟!! نعم، هو ذلك لعمري، حديث موضوع، يدحضه قول الصادق الأمين، مخاطبا أبابكر وقومه: " لا أدري ما تحدثون بعدي " [123] وما كان لأبي بكر يوم ذلك الخطاب إلا البكاء، لو يجدي البكاء! وكان الغضب الفاطمي ذا مرارة طغت علي لذة الخلافة والسلطة، فانتزعت تلك المرارة الحقيقة من أعماق الفطرة مهما كان ولكن فات الأوان. وبين سكرات الموت قال أبو بكر: " فوددت أني سألته - يعني رسول الله - لمن هذا الأمر، فكنا لا ننازعه أهله " [124] ولكن.. لات ساعة مندم. [ صفحه 95]

مواقف عمر تجاه أقوال و أفعال النبي

اشاره

إن المتتبع لمواقف أبي حفص تجاه أقوال وأفعال النبي صلي الله عليه وآله - سواء في حياة النبي صلي الله عليه وآله أو طيلة مدة خلافته - يجدها مواقف تنبئ عن شخصية فريدة في نوعها، تختلف تمام الاختلاف عن بقية شخصيات الصحابة، وذلك من حيث جرأة مواقفه وتصرفاته تجاه النبي المعصوم صلي الله عليه وآله! فعمر لم يكن يري أفعال وأقوال النبي صلي الله عليه وآله في عصمة عن المسألة والمعارضة، وكأنه لم يكن يري التسليم لما يعرضه ويصدره النبي صلي الله عليه وآله من أوامر ونواه أمرا لازما له. وفي حقيقة الأمر أن تلك التصرفات العمرية تشير بوضوح إلي نوع من عدم الاعتقاد بعصمة النبي صلي الله عليه وآله حتي في تبليغ الوحي، فضلا عن شؤون الحياة الأخري، إن جاز

القول بعدم عصمة النبي فيها، فعمر لم يكن يري بأسا في مناقشة النبي صلي الله عليه وآله فيما يقول أو يفعل، بل لم يكن يري بأسا في نهي النبي صلي الله عليه وآله عن بعض ما يقول ويفعل. كما أنه لم يكن يتردد في إحلال ما يصدره من أقوال وأفعال وآراء شخصية بل أوامره ونواهيه هو محل أقوال وأفعال وأوامر ونواهي النبي صلي الله عليه وآله. وهذه التصرفات لا تحصي في حياة عمر، الأمر الذي اضطر المعجبين به إلي اختراع تفسير لهذه الجرأة تجاه النبي صلي الله عليه وآله وتحويلها إلي محاسن ومناقب! في حين نري شخصيات أخري من بين الصحابة لا تقل عن عمر [ صفحه 96] في شئ إن لم تفقه في كل شئ، لا تري إلا التسليم التام والخضوع الكامل أمام أوامر ونواهي رسول الله صلي الله عليه وآله. فالذين هم في إعجاب بشخصية أبي حفص يفسرون تلك التصرفات العمرية تجاه كلام أو فعل النبي صلي الله عليه وآله، بالاجتهاد والشجاعة في قول الحق، فوصفوا عمر بأنه لا يخشي في الحق لومة لائم! فشخصية عمر لم تكن ترضي بالانقياد، بل تسعي دوما لأن تكون علي دفة القيادة ومقام الريادة. وفي الحقيقة، إننا نتساءل عن الاجتهاد العمري هذا.. علي أي أساس ابتني؟ فإن كان قد قام علي أساس العلم والإدراك لمسائل الدين، فمعني هذا أنه يفترض تفوقه العلمي علي رسول الله صلي الله عليه وآله! غير أن عمر لا يمكن أن يكون أعلم الصحابة، فضلا أن يترجح علما علي النبي صلي الله عليه وآله. وإن كانت جرأته هذه قد ابتنت علي غيرة اتصف بها أبو حفص علي الدين، فلا يمكن أن نقبل أن

غيرته علي الدين قد فاقت ما لكثير من الصحابة من غيرة علي الإسلام، فضلا عن الغيرة التي كان يتمتع بها النبي الكريم علي دين الله فهذا أساس لا يجيز لعمر أن يقيم عليه اجتهادا قبال ما يصدر من النبي صلي الله عليه وآله، أو يقيم عليه تصرفا يخرجه من دائرة التسليم للوحي. ونحن لا يمكن أن نجد قولا أو فعلا أو تقريرا لشخص يضاهي ما للرسول صلي الله عليه وآله من ذلك كله، فلو كان المعصوم من الناس لا يسعه - علي رغم عصمته - إلا التسليم لما جاء به الوحي، وليس له بعصمته هذه مجوز لمخالفة ما أثبته الوحي الإلهي.. فكيف بعمر الذي قضي ردحا من الزمان يسجد للأحجار؟! إن العصمة لا تضمن لصاحبها إلا صحة الاتباع والاقتداء بالوحي، ولم يكن النبي صلي الله عليه وآله إلا مأمورا بأن يبلغ ويفعل ما يؤمر به. فإن كان لا يجوز للنبي صلي الله عليه وآله الاجتهاد في مقابل الوحي - وهو المعصوم - فبأي شئ ومن أي طريق جاز ذلك لعمر بن الخطاب؟!! وإذا فرض علينا المعجبون بعمر اجتهاداته ضد النصوص النبوية بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله فلا يستطيعون أن يفرضوا علينا اجتهاداته ضد أقوال وأفعال النبي صلي الله عليه وآله والنبي علي قيد الحياة. ثم إنهم كثيرا ما يصورون لنا أن النبي صلي الله عليه وآله كان يقر عمر علي رأيه الذي خالف [ صفحه 97] وعارض به أمر النبي صلي الله عليه وآله! فوصفوه بأنه صاحب إلهام من الله جنبا إلي جانب الوحي! إن الاجتهاد ضد النص لا يجوز أبدا، إذ أنه لا يعني إلا إحلال الرأي البشري محل الوحي الإلهي، ولا

معني له سوي ذلك.. فلو كان الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، فالاجتهاد ضد النص هو إبطال لتلك الصلاحية الشاملة لكل الأمكنة والأزمنة، ويكون قول الله تعالي: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [125] مخصوصا ومحصورا بمكان وزمان نزول الآية هذه، علما أن ابن الخطاب لم يعمل بهذا حتي في زمان ومكان نزول هذه الآية. إن الاجتهاد ضد النص الإلهي لا يعني إلا نسخ الوحي بالرأي البشري المخالف له، وهذا في حقيقة الأمر إلغاء تام للنص الإلهي. علي أن نسخ القرآن بالسنة أمر لا يجوز، فالسنة مبينة ومفسرة ليس إلا.. فكيف إذا بكلام ورأي ابن الخطاب ومن ينحو نحوه؟! علي أن الوحي لما كان عالما بوجود هذا الصنف من الناس، تشدد في النهي عن مخالفة نبي الإسلام المعصوم، ووصفها بالمعصية والضلال، فقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) [126] . فهل لعمر بعد هذا سبيل إلي معارضة أو مخالفة كلمة من كلام النبي صلي الله عليه وآله؟! وإذا اجتهد ضد هذه الآية الواضحة الصريحة.. فهل يوصف اجتهاده هذا بشئ غير المعصية والضلال المبين؟! نعم، لقد كان لأبي حفص تلك المواقف والمعارضات تجاه نبي الإسلام. وإليك أمثلة تؤكد ما ذكرناه: [ صفحه 98]

عمر و صلح الحديبية

لما وافق النبي صلي الله عليه وآله علي شروط صلح الحديبية، وأمر عليا عليه السلام بكتابة الصلح، تصدر أبو حفص فئة المعارضين للصلح، وتشدد علي النبي صلي الله عليه وآله، فخرج بخطابه للنبي صلي الله عليه وآله علي أية حال عن أمر التسليم لأمر النبي الكريم ولما رضي به صلي الله عليه وآله.

ولندع ابن الخطاب يحكي لنا بنفسه ما دار بينه وبين النبي صلي الله عليه وآله يوم ذلك الصلح: يقول ابن الخطاب: فقلت: ألست نبي الله حقا؟! قال [صلي الله عليه وآله]: بلي. قلت: ألسنا علي الحق وعدونا علي الباطل؟! قال [صلي الله عليه وآله]: بلي. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟! قال صلي الله عليه [وآله] وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. (قال) [عمر]: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال [صلي الله عليه وآله]: بلي، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟! قلت: لا. قال [صلي الله عليه وآله]: فإنك آتيه ومطوف به. قال [عمر]: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال [أبو بكر]: بلي. قلت: ألسنا علي الحق، وعدونا علي الباطل؟ قال [أبو بكر]: بلي. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال [أبو بكر]: أيها الرجل، إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه علي الحق. (قال) [عمر]: فقلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال [أبو بكر]: بلي، أفأخبرك أنك آتيه العام؟ [ صفحه 99] (قال) [عمر]: قلت: لا. قال [أبو بكر]: فإنك آتيه ومطوف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال [عمر]: فلما فرغ رسول الله [من الكتاب] قال [صلي الله عليه وآله] لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا. (قال) [عمر]: فوالله ما قام منهم رجل، حتي قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل [صلي الله عليه وآله] خباءه، ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشئ، حتي نحر بدنة بيده [الشريفة] ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأي أصحابه ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم

يحلق بعضا، حتي كاد بعضهم يقتل بعضا [127] . وقد ذكر الحلبي في سيرته - عند ذكر صلح الحديبية -: " أن عمر جعل يرد علي رسول الله [صلي الله عليه وآله] الكلام، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟ نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".قال الحلبي: " وقال رسول الله [صلي الله عليه وآله] يومئذ: يا عمر! إني رضيت وتأبي؟! " [128] . فانظر كيف كان عمر بن الخطاب شديدا علي رسول الله صلي الله عليه وآله، ولم يجد من نفسه استطاعة لأن يخضع لأمر الله ويرضي بما رضي به نبي الله صلي الله عليه وآله! فأين الطاعة والتسليم المطلق الذي كان من المفترض أن يتسم به عمر تجاه ما قضي به الله ورسوله؟! أم كان عمر يظن أن له الخيرة من أمره، وأنه ليس ملزما بالتسليم لذلك الأمر تسليما لا يجد معه في نفسه حرجا نحو ما يقضي به رسول الله صلي الله عليه وآله؟! وفي الحقيقة لم يكن عمر يثق في كلام النبي صلي الله عليه وآله، وكان يري أن النبي صلي الله عليه وآله قال ما لم يفعل، وهذا واضح في قوله وخطابه للنبي الكريم: " أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! " فعمر لما رأي أن النبي صلي الله عليه وآله انصرف عن الطواف بالبيت في هذا العام، ووافق - طبقا للصلح - علي الرجوع دون الطواف، ظن أن ما وعدهم به النبي صلي الله عليه وآله لم. [ صفحه 100] يتحقق ولم يقع كما قال لهم النبي صلي الله عليه وآله - وهو الطواف بالبيت -! ولهذا أوقف

النبي الكريم صاحب الخلق العظيم موقف المسألة والمحاسبة!! ولما رد عليه نبي الرحمة بكلامه المقنع بقوله: " أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " أجاب عمر بالنفي، ولكن لم يرض عمر، لأن ما تعلق بنفسه من ظن كان أقوي، فلم تشفع تلك الحجة القوية للنبي عند عمر! وربما كان إلهام عمر في ذلك الوقت أقوي، من الوحي، فكان يري أشياء لم يرها النبي صلي الله عليه وآله أو يعلم ما لم يكن يعلم به النبي صلي الله عليه وآله!!.. فصوب نحو أبي بكر مؤكدا قوة ما تعلق به من ظن سئ، وإلا كان يكفيه ما قاله النبي صلي الله عليه وآله. والحقيقة التي يعلمها كل مؤمن هي أنه ليس لعمر ولا لأي أحد من أفراد البشر وحتي من غبر من الأنبياء... ليس لهم إلا طاعة المصطفي والنبي الأكمل صلي الله عليه وآله. ولكن هذه الطاعة لا ترجي إلا ممن يأنس في نبي الإسلام الكريم عصمة لا ينفذ من خلالها الخطأ إليه.. وأما من كان بخلاف ذلك، فلا ينتظر منه طاعة. ولقد كان عمر من هذا القبيل: لم يكن يأنس في النبي صلي الله عليه وآله تلك العصمة، وإلا فلماذا المناقشة؟! ولماذا المحاسبة؟! فهل كان يناقشه ويعارضه رغم علمه بعصمته؟ ولكن هذا أسوأ، ومعرفة عصمة النبي لا تحتاج إلي كبير عناء، وقد كان يكفي عمر أن يردد قوله تعالي: (ما آتاكم الرسول فخذوه ونهاكم عنه فانتهوا) ليجد فيه العصمة بأجلي معانيها، إذ أن هذه الآية مطلقة عامة لا تختص بأمور الدين والوحي وحده، ولا هي مختصة بأمور الدنيا والمعاش فقط.. وأما صلح الحديبية فكان من صميم مسائل الدين، لو أدرك ذلك عمر. ومن كلام ابن الخطاب العجيب أثناء

محاسبته النبي صلي الله عليه وآله! قوله: " فلم نعطي الدنية في ديننا؟! ". ومفاد هذا أن الدنية في الدين - حسب فهمه - يفهمها هو دون النبي صلي الله عليه وآله، ويرفضها هو ولا يرضي بها! ولا يرفضها رسول الله ويرضي بها!! فاعجب ما شاء لك أن تعجب! علي أن قول النبي صلي الله عليه وآله " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري " كان - والله - كافيا لأن يثوب عمر إلي حظيرة اليقين والطمأنينة إلي عصمة النبي صلي الله عليه وآله، ولما فعله النبي [ صفحه 101] الكريم في أمر ذاك الصلح، ولكن حتي هذا القول النبوي المحض أيضا لم يكن بشافع للنبي صلي الله عليه وآله عند عمر! وظل عمر يرد عليه الكلام ردا، ولم يترك للنبي صلي الله عليه وآله حتي حق الجدل والنقاش بتقسيم فرص الكلام، حتي اضطر ذلك أبا عبيدة بن الجراح ليتدخل وينتزع من الفاروق فرصة للنبي الأكرم لكي يقول ما يقول، فخاطب أبو عبيدة عمر صارخا: " ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله [صلي الله عليه وآله] يقول ما يقول؟ نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فانظر عزيزي القارئ إلي هذا الإلهام الذي يتعارض مع الوحي! فلو كان عمر صائبا في معارضته للنبي الكريم لأبدي النبي صلي الله عليه وآله لتلك المعارضة ارتياحا وتحسينا، ولكنه سعي بكل السبل إلي إقناع عمر وإزالة أنفته بلا جدوي. فعمر لم يكن مصيبا، وليس لأحد أن يتجرأ فيصحح لنا ما صدر منه يوم هذا الصلح.. فالذي يسعي إلي تصحيح معارضة عمر تلك، عليه - قبل ذلك - أن يتلو آية التسليم لأمر الله ورسوله، وينظر متدبرا عباراتها.. فهل

يجد فيها تأييدا لابن الخطاب من قريب أو بعيد، حتي يجوز له الوقوف أمام أفعال النبي صلي الله عليه وآله كما فعل يوم صلح الحديبية؟! علي أن النبي صلي الله عليه وآله بين لنا بوضوح حقيقة معارضة ابن الخطاب، فقال له بذلك الخلق القرآني العظيم: " يا عمر! إني رضيت وتأبي؟! ".. ولعمر الله، لو كان أحد يقف أمام رؤساء هذا اليوم الموقف الذي وقفه عمر أمام الصلح الذي قبله النبي صلي الله عليه وآله، لكان نصيبه سنوات في ظلمات السجون أو قرارا يطوي حبال المشانق حول عنقه.. ولكنه النبي لا كذب، فلعمر أن يقول ما يقول، ولن يجد إلا صفحا جميلا... عليك وعلي آلك صلوات الله وسلامه يا نبي الله. " يا عمر! إني رضيت، وتأبي؟! ".. نعم يا نبي الله لقد أبي عمر ما رضيت به، فيا لها من عبارات تذيب الصخور تسليما وخضوعا وطاعة لأشرف المخلوقات.. ولكن لم يسمع قلب عمر هذه العبارات التي تعج بالمعاني والانتقاد واللوم، ولم يرم النبي صلي الله عليه وآله منها إلا بيان مقامه النبوي المعصوم الذي نسيه أبو حفص، في لحظة من لحظات الأنفة. ولو كان عمر قادرا علي أن يعي تلك العبارة لكان قد وعي التي قبلها: " إني رسول الله، ولست [ صفحه 102] أعصيه، وهو ناصري "، فالرسول أراد أن يذكر الناسي عمر بثلاث حقائق: أراد أن يذكره بأنه رسول الله، إذ أنه مرسل لينجز هذا الصلح أيضا من جانب الله تعالي. وأراد أن يذكره بأنه منفذ أمر الله تعالي ولن يخالفه ولن يعصي الله في أمر ما إذ أنه معصوم من قبل الله تعالي. وأراد أن يذكره بأن الله يسمع ويري أحوال

النبي وأفعاله ويعلم أعداءه، فلن يتركه عرضة للذلة والدنية، إذ أنه ناصره في كل المواقف... ولكن هيهات لعمر أن يخضع، وكيف يخضع ولم يكن يأنس في النبي صلي الله عليه وآله العصمة؟! وتمادي ابن الخطاب في اعتراضه. وفي واقع الأمر، أنها لواقعة تعقد الألسن بالدهشة، إذ أننا نري أن المقام النبوي ليس مقاما يجوز لأحد أن ينصب أمامه القامة ويرفع أمامه الرأس معارضا في شئ. ومن ناحية نري المقام العمري - طبقا لما صور للناس - من أنه الصحابي العادل الذي يقول الحق ولا يخشي فيه لومة لائم، وأنه الفاروق الذي فرق بين الحق والباطل، وفوق ذلك كله أنه كان صاحب إلهام ومؤيد من ناحية الوحي، ولو في مقابل النبي صلي الله عليه وآله! ونحن عندما نري علو مقام النبي صلي الله عليه وآله الحقيقي وعلو المقام العمري المرسوم في الأذهان، نستسلم للدهشة والحيرة، فلا نستطيع الانتصار للنبي صلي الله عليه وآله من المقام العمري الذي توهمناه، ولا نقدر علي انتقاد عمر رغم إجلالنا للمقام النبوي الرفيع، فنصبح أسري داخل شرنقة الدهشة، ونلوذ بالصمت. وكل ذلك بسبب نظرية عدالة كافة الصحابة، وما حيك حول أبي حفص من صفات إعجازية، فالتبس علينا الأمر ونسينا أن عمر هذا وغيره من كافة الصحابة كانوا مشركين يسجدون ويطأطئون الرأس لحجر أصم ردحا من السنين، فمن الله عليهم بهذا النبي الكريم الذي وقفوا بعد ذلك أمامه معترضين عليه ومسائلين في أمورهم لا يفقهون فيها شيئا ولا يعلمون حكمتها. إن التقليد الأعمي، وعدم إدراك المقام النبوي، هو الذي أوصل عمر وكثيرا من الصحابة إلي مقامات جعلتهم في مصاف المقام النبوي بعد أن عاشوا سنين من الشرك والإلحاد!! نعم الإسلام يجب ما

قبله. ولكنه بما يجبه من شرك وبما يفعله المسلم من إحسان [ صفحه 103] بعد الإسلام لا يؤهله لأن يرتفع من مقامه ليزاحم مقام النبوة، بل لا يستطيع - وهو في مقامه هذا - أن يشاهد مقام راحات أقدام النبي صلي الله عليه وآله. فكل ذلك ما هو إلا ضبابة ضربت حول ابن الخطاب. فعمر يكفيه من الفخر أن يسرد لنا ما أنجزه في التاريخ من فتوحات للإسلام، دون أن يصوروه لنا إنسانا يدرك ما لا يقدر علي إدراكه النبي صلي الله عليه وآله، ويقول الحق ولو في مقابلة النبي الكريم، ويضرب في القبر الملائكة عندما يأتونه للسؤال.. كل ذلك عشعش وباض وأفرخ في رؤوس الناس، فجاء عمر كما يعرفه أهل السنة اليوم. لم يكن عمر معصوما من الخطأ وهوي النفس ونزعات الشيطان. وإن الإيمان يزيد وينقص، والمقامات العليا لا تنال إلا بجهاد النفس والمراقبة الشديدة في طاعة النبي صلي الله عليه وآله.. وشأن عمر وبقية الصحابة بل وكافة الناس في ذلك سواء. والقرآن الذي تلاه عمر فوجد فيه أنه مأمور بما جاء فيه من تكاليف واتباع للنبي صلي الله عليه وآله هو نفس القرآن الذي نتلوه اليوم، وهو القرآن الذي سيتلوه من يأتي من الناس في كل عصر ومصر، فإذا لم نجد فيه ما يجوز مخالفة النبي صلي الله عليه وآله، فلنا الحق أن نسأل: كيف جاز ذلك لعمر؟ فلعمر أن يغضب لشروط الصلح التي كانت تبدو في الظاهر وكأنها دنية - كما بدت له ما دام لا يستطيع أن يدرك ما يدركه النبي الكريم، من الحكمة والمصلحة - في صلح الحديبية. له أن يغضب إذا لم يستطع أن يتجاوز ببصيرته الظاهر، ولكن لا

يجوز أن يترك لغضبه زمام أمره حتي ينسيه مقام النبوة. غير أنه كان المرجو من عمر أن يكون في هذا المقام الحساس في حياة الإسلام رابط الجأش صلب العزيمة إلي جانب النبي صلي الله عليه وآله يشد من أزره لإنقاذ أمر الله، لا أن يسعي - بسبب غضبه وأنفته التي لحقته بسبب الصلح - إلي تفكيك الجبهة الداخلية التي كانت الهم الأول للنبي صلي الله عليه وآله بعد هجرته إلي المدينة. يقول عمر عن كتابة الصلح: " فعملت لذلك أعمالا، فلما فرغ رسول الله، قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا... فوالله ما قام منهم رجل، حتي قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل خباءه... "! [ صفحه 104] إذا، فقد آتت الأعمال التي عملها عمر ضد الصلح أكلها وأينعت ثمارها.. فها هو عمر يقسم: " فوالله ما قام منهم أحد "! إذا، فقد تمرد الصحابة علي النبي صلي الله عليه وآله، وتكافأوا ضد الصلح الذي ارتضاه، ولعل ذلك مما أوحي به إليه إلهامه العمري. يقول الثعالبي: " إن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم رأي في منامه، عند خروجه إلي العمرة، أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه " وقال مجاهد: رأي ذلك بالحديبية، فأخبر الناس بهذه الرؤية... فلما صدهم أهل مكة قال المنافقون: وأين الرؤيا؟! ووقع في نفوس بعض المسلمين شئ من ذلك، فأجابهم النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم بأن قال: وهل قلت لكم: يكون ذلك في عامنا هذا؟! " [129] . وهذا هو رد النبي لعمر - كما جاء في رواية البخاري -. وأما ابن كثير فتراه يصرح باسم عمر عند ذكره هذه الحادثة: يقول: " فلما وقع ما وقع من

قضية الصلح... وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شئ، حتي سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال له [أي للنبي صلي الله عليه وآله] فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال [صلي الله عليه وآله]: بلي، أفأخبرتك أنك تأتيه عام كهذا؟ قال: لا. قال النبي عليه السلام: فإنك آتيه ومطوف به " [130] . أما الطبري فقد ذكر أن السائل عن الرؤيا هم أصحاب محمد، ولم يقل هم المنافقون، كما ذكر الثعالبي.. يقول الطبري: " عن مجاهد في قوله: " الرؤيا بالحق "، قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد؟! " [131] . وقد أورد المراغي في تفسيره ما دار بين عمر والنبي صلي الله عليه وآله، فراجع من تفسيره سورة الفتح [132] تجد ما ذكرناه.. [ صفحه 105] فانظر إلي قول القائلين: " أين رؤيا محمد؟! " تجده يعج بالسخرية والاستهزاء ورغم ذلك فقد حكم بعدالة الجميع، وأنهم لا يتطرق إليهم الجرح، فيا للعجب! وسواء كان القائلون هم المنافقون أو هم أصحاب محمد، فقد تصدرهم ابن الخطاب، وتولي هو محاسبة النبي صلي الله عليه وآله ومعارضته دون الناس، إذ أنه لم يرد اسم أحد من الناس غيره قد استجوب النبي صلي الله عليه وآله. ويقول الثعالبي: " والسكينة [في قوله تعالي (هو الذي أنزل السكينة...)] هي الطمأنينة إلي أمر رسول الله، والثقة بوعد الله، وزوال الأنفة التي لحقت عمر " [133] . إذا، فقد لحقت الأنفة عمر بعد فقدانه الطمأنينة إلي رسول الله صلي الله عليه وآله والثقة بوعد الله. لقد عارض عمر رسول

الله الكريم في أمر الصلح بلا شك، ولما تم الصلح ولم يكن عمر راضيا به عمل له أعمالا في الخفاء لعله يوفق في إبطاله، فكانت نتيجة تلك الأعمال أن تمرد الصحابة علي أمر النبي صلي الله عليه وآله لما أمرهم بأن ينحروا ويحلقوا، فأقسم عمر قسما تفوح منه رائحة السرور والافتخار بنتيجة ما عمل، فقال: " والله ما قام منهم أحد "! وقد يسأل سائل: لماذا عارض عمر النبي صلي الله عليه وآله في كتابة ذلك الصلح؟ ولماذا حرض وألب الناس علي مخالفة النبي صلي الله عليه وآله؟ ولماذا يفعل عمر كل هذا؟ وما هو السر من وراء تلك الأعمال؟ نعم، إنه لهو السؤال المنتظر، ولا بد له من إجابة تكشف عن حقيقة الأمر، وينحل بها اللغز العمري، ولكن الفاروق أراحنا وكفانا ركوب العناء والبحث عن إجابة لهذا السؤال.. يقول الثعلبي: " وقال عمر: ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ! " [134] ، أي يوم صلح الحديبية. فالأمر إذا، لم يكن إلهاما بني عليه عمر اعتراضه وتأليبه الناس علي أمر النبي صلي الله عليه وآله، بل كان الأمر كما عرفت وستعرف.. [ صفحه 106] ولقد روي الواقدي: "... ولقي عمر من القضية [يعني قضية الصلح] أمرا كبيرا، وجعل يرد علي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم الكلام، ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يقول: أنا رسول الله، ولن يضيعني! قال: فجعل [عمر بن الخطاب] يرد علي النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم الكلام. قال [و] يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟! تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واتهم

رأيك!... وقال عمر: فما أصابني قط شئ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق مما صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذ. فكان ابن عباس يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية - أي قضية صلح الحديبية -: " ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذ. ولو وجدت ذلك اليوم شيعة - أي مؤيدين له - تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجت ". وقال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذ من الشك، وراجعت النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم يومئذ مراجعة ما راجعته مثلها قط، ولقد أعتقت فيما دخلني يومئذ رقابا وصمت دهرا. وإني لأذكر ما صنعت خاليا فيكون أكبر همي، فينبغي للعباد أن يتهموا الرأي. والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتي قلت في نفسي: لو كان مائة رجل علي مثل رأيي ما دخلنا فيه أبدا " [135] . نعم، لقد لقي عمر من القضية - وهي مما قضي به الله ورسوله - أمرا بل أمرا كبيرا، والله تعالي يقول: (إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.وما صاحبكم بمجنون) [136] ولكن دخل عمر ما دخله من الريب يومئذ! وهذا الريب الذي يوضحه بقوله: ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت، زين لعمر الخروج علي أمر الله ورسوله صلي الله عليه وآله يوم الصلح، إذا وجد من يشاطره الرأي في الخروج علي النبي صلي الله عليه وآله وما رضي به النبي صلي الله عليه وآله.. [ صفحه 107] وندم عمر علي ما فعل داحضا بذلك تهمة الإلهام التي اتهموه بها، وقال: " لقد أعتقت فيما دخلني

يومئذ رقابا، وصمت دهرا " ورغم ذلك فعندما يذكر عمر ما صنع حينما يكون في خلوته يشعر بثقل ذنبه ويكون أكبر همه، ولذا توصل عمر إلي نتيجة قنع بها في اتهام الرأي، علي أن الرأي من عدم في قبالة النص، ولا سيما في حياة النبي صلي الله عليه وآله، كما حدث لعمر. ومن عجائب ما ذكره الدحلاني في قول عمر " لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا ": " وإنما فعل ذلك لتوقفه عن المبادرة بامتثال الأمر، وإن كان معذورا في جميع ما صدر منه، بل مأجور، لأنه مجتهد "!! ولله العجب من هذا الكلام! أيجتهد عمر في أمر صدر من النبي صلي الله عليه وآله في حياته؟! أيعد عدم امتثال عمر لأمر الله ورسوله اجتهادا في وجه النبي الكريم؟! وهل كان لعمر الخيرة من أمره قبال ما قضاه الله ورسوله من قضية الصلح تلك؟! وهل كان عمر يري التسليم لأمر الله لا يلزمه؟! أم أن عصمة النبي صلي الله عليه وآله ليس لها وزن أمام آراء عمر بن الخطاب؟! أم يا تري وجد عمر في قوله تعالي: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [137] فسحة للرد علي النبي صلي الله عليه وآله وعدم المبادرة إلي امتثال أمره وللاجتهاد ضد أوامره؟! وروي أنه عندما لم يقم أحد من الناس للمبادرة بامتثال أمر النبي صلي الله عليه وآله لما قال لهم: " قوموا فانحروا وحلقوا " دخل عليه وآله السلام علي أم سلمة [التي كانت معه يومئذ] وهو شديد الغضب فاضطجع، فقالت: ما لك يا رسول الله؟! مرارا، وهو لا يجيبها، وذكرلها ما لقي من الناس، وقال لها: هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا

ويحلقوا، فلم يفعلوا " [138] . فعمر لم يكن مستثني من الناس في أمر النبي صلي الله عليه وآله بالنحر والحلق، ولم يقم عمر، وتثاقل مع الناس في امتثال أمر النبي صلي الله عليه وآله. ولو كان لعمر هذا الثواب بسبب هذا الاجتهاد ضد أوامر النبي صلي الله عليه وآله فلم قال النبي صلي الله عليه وآله لأم المؤمنين: " هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا "؟!.. [ صفحه 108] إذا، فليعلم الدحلاني ومن ذهب مذهبه أن عدم المبادرة إلي امتثال أمر النبي صلي الله عليه وآله ليس أنه لا يتضمن ثوابا فحسب، بل موجب للهلاك والعذاب، كما قال النبي صلي الله عليه وآله. ولو كان عمر بن الخطاب - دعك من أن يكون مستيقنا من الأجر علي اجتهاده ضد أوامر النبي صلي الله عليه وآله - لو كان يظن ظنا أنه مأجور علي عدم المبادرة إلي امتثال أوامر النبي صلي الله عليه وآله.. لما توسل إلي الله طلبا لرضاه ومغفرته بعتق الرقاب والصوم دهرا، إذ أن هذا العمل يوضح ندم عمر علي ما صنع مع رسول الله، وهذا يبين إحساسه بالإثم، لا الثواب يا سيدي الدحلاني! غير أن إثبات عدم المبادرة إلي امتثال أوامر النبي صلي الله عليه وآله من ناحية عمر هو موضع حديثنا وهو ما نسعي إلي توضيحه. ومن هنا يظهر بطلان حديث " اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر "، وقول من قال: إن الشيخين لامتثالهما أمر النبي عليه وآله السلام أمر باتباعهما. ولما عاد النبي صلي الله عليه وآله وأصحابه راجعين بعد صلح الحديبية إلي المدينة، نزلت عليه بكراع الغميم - وهو مكان بين مكة والمدينة -

سورة الفتح. وقد روي البخاري [139] أن النبي صلي الله عليه وآله نادي عمر وقال له: " لقد أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ". ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) [140] ، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا، ورد رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا! فقال النبي [صلي الله عليه وآله] " بئس الكلام هذا، بل هو أعظم فتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون علي أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله. [ صفحه 109] الظنونا)؟! " [141] فقال المسلمون: " صدق الله ورسوله، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا " [142] . إقرأ مرة أخري عزيزي القارئ خطاب ذلك الرجل لنبي الله العظيم، عندما قرأ عليه عليهم السلام (إنا فتحنا لك فتحا مبينا): " ما هذا بفتح... ". وأنت قد علمت أن الذي كانت له الجرأة علي رسول الله، وكان دائما لا يخشي في الحق لومة لائم، والذي كان متصدرا الاعتراض علي النبي صلي الله عليه وآله يوم الصلح... إنما عمر بن الخطاب. فمن يا تري ذلك الرجل الذي اضطر الراوي إخفاء اسمه، ذلك الرجل الشجاع الذي لا يخشي لومة لائم، فقال رادا علي النبي صلي الله عليه وآله: " ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت،

وصد هدينا... "؟! من هو يا تري؟! لعل هناك فاروقا آخر لا نعلمه!

عمر و صلاة النبي علي ابن أبي المنافق

من المواقف العمرية التي كان يري فيها تناقض أفعال النبي صلي الله عليه وآله مع القرآن: موقفه من النبي صلي الله عليه وآله عندما عزم أن يصلي علي جثمان ابن أبي بن أبي سلول. يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب: " لما توفي ابن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه، وقال له: إذا فرغت منه فآذنا. فلما فرغ منه آذنه به، فجاء [صلي الله عليه وآله] ليصلي عليه، فجذبه عمر فقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي علي المنافقين، فقال لك: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)؟! [143] فاعتراض عمر علي النبي صلي الله عليه وآله في هذه الواقعة صريح لا يقبل التأويل، وادعاء الاجتهاد في هذه المسألة يثير السخرية ممن يدعيه، وممن ينسب هذا التصرف العمري إلي غيرته الدينية... [ صفحه 110] فعليه.. إما أن يقبل أن غيرته علي الدين تفوق غيرة النبي صلي الله عليه وآله، أو أن غيرة عمر هذه قد أخرجته عن دائرة اعتبار مقام النبوة، فصار يري النبي صلي الله عليه وآله مناقضا أو مخالفا لكتاب الله!! ومن عبارته: " أليس نهاك الله أن تصلي علي المنافقين؟! " يتضح ذلك جليا، لأن نهي القرآن عن شئ لازمه مخالفة الذي لا يعمل بهذا النهي. فالقرآن - كما يظن عمر - قد نهي النبي صلي الله عليه وآله عن الصلاة علي المنافقين، ولكن النبي صلي الله عليه وآله صلي علي المنافق ابن أبي.. فيكون بالتالي قد

خالف النبي صلي الله عليه وآله القرآن الكريم - كما يظن أبو حفص - ولذا لم يتورع عن جذب النبي صلي الله عليه وآله من ثوبه والاعتراض علي صلاته!! فهذا إلهام آخر يخبر عمر بمخالفة النبي الكريم للقرآن، فيبدو النبي صلي الله عليه وآله في هذا الموقف مخطئا ومذنبا، ويظهر أبو حفص مصيبا موافقا للحق والصواب! فهل يبقل العقل هذا؟! أم هل يؤيد القرآن ذلك؟!! ولما اشتد اعتراض عمر علي النبي صلي الله عليه وآله في أمر الصلاة قال له النبي صلي الله عليه وآله: " أخر عني يا عمر إني خيرت، قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فلو أعلم أني إن زدت علي السبعين غفر الله له لزدت "، [فابتعد عمر عن سبيل النبي صلي الله عليه وآله] فصلي رسول الله عليه، ومشي خلفه، وقام علي قبره... [144] . فكل هذه الأفعال التي أتي بها النبي صلي الله عليه وآله تبدو في نظر عمر مخالفات للقرآن، ولهذا جذب النبي صلي الله عليه وآله من ثوبه ناهيا إياه عن مخالفة القرآن، في جرأة لم يتصف بها إلا عمر، ولكن لم يعبأ النبي صلي الله عليه وآله به ولا باعتراضاته، فصلي عليه كما رأيت. علي أن هذا الأمر كان بعيدا عن إدراك وأفهام عمر، وذلك لسببين: أولا: من أين لعمر أن النبي صلي الله عليه وآله قد نهي عن الصلاة علي المنافقين، وعلي القيام علي قبورهم في ذلك الوقت؟! فالآية التي استدل بها عمر علي منع الصلاة علي موتي المنافقين والقيام علي قبورهم ليس فيها إشارة إلي منع الصلاة عليهم ولا نهي عن القيام علي

قبورهم، وإنما تبين عدم فائدة الاستغفار لهم، ولو بلغ سبعين مرة، ولهذا قال. [ صفحه 111] النبي صلي الله عليه وآله لعمر: " فلو أعلم أني إن زدت علي السبعين غفر الله له لزدت " ولذا صلي النبي صلي الله عليه وآله وقام علي قبره. فاستدلال عمر بتلك الآية علي منع الصلاة علي المنافقين ليس في محله، بل خطأ هو بليغ سقط فيه ابن الخطاب. وأما آية المنع عن الصلاة علي المنافقين والنهي عن القيام علي قبورهم فلم تكن قد نزلت قبل صلاة النبي صلي الله عليه وآله علي ابن أبي، فعمر قد فهم من آية عدم فائدة الاستغفار منع الصلاة، فقال للنبي صلي الله عليه وآله: أليس قد نهاك الله أن تصلي علي المنافقين؟! فمتي نهي الله نبيه عن الصلاة علي المنافقين قبل الصلاة علي ابن أبي؟! فلعلها آية في القرآن نسيها أو خالفها النبي صلي الله عليه وآله ولم ينسها أو يخالفها ابن الخطاب!! ولعله من إلهامه الذي يفتقر إليه النبي صلي الله عليه وآله! فقوله تعالي: (ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره) هو النهي عن الصلاة علي أموات المنافقين والقيام علي قبورهم، وهذه الآية نزلت بعد صلاة النبي صلي الله عليه وآله علي ذلك المنافق، ولم يقع نهي صريح [145] . يقول عبد الله بن عمر: "... فجاء النبي [صلي الله عليه وآله] ليصلي عليه [أي علي ابن أبي] فجذبه عمر، فقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي علي المنافقين، فقال لك: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)؟! [قال عبد الله بن عمر:] فنزلت [بعد ذلك]: (ولا

تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره) [146] إذا، فقد نزلت هذه الآية بعد تمام الصلاة، كما هو واضح. أما الأمر الثاني: الذي قصرت أفهام عمر عن إدراكه، فهو الحكمة التي تضمنتها صلاة النبي صلي الله عليه وآله علي ابن أبي المنافق.. فمن المعروف أن النبي صلي الله عليه وآله - في سبيل استئلاف الناس وترغيبهم في الإسلام - كان يبذل قصاري جهده ومنتهي سعيه ويبخع نفسه من أجل أن تشملهم نعمة الإسلام،. [ صفحه 112] لرحمته الشديدة بهم ورأفتهم عليهم، فرحمة النبي صلي الله عليه وآله بالناس وحكمته أوجبت عليه استئلاف قوم ابن أبي بهذه الصلاة، ذلك أن النبي صلي الله عليه وآله لم يقصد بهذه الصلاة ابن أبي علي وجه الخصوص، لعلم النبي صلي الله عليه وآله السابق بعدم فائدة الاستغفار له، وإن بلغ فيه السبعين. علي أن النبي صلي الله عليه وآله طبقا لما جاء في الحديث لم ير أن باب الاستغفار قد أغلق، وأنه قد نهي عن الاستغفار، فقال: " فلو أعلم إن زدت علي السبعين غفر الله لزدت... "، هذا من ناحية. ومن ناحية أخري فابن أبي كان يظهر الإسلام. إذا، فهو من حيث الظاهر معدود من المسلمين، والرسول بصلاته علي ابن أبي لم يخالف الدين في شئ، كما ظن عمر، بل أجري حكم الظاهر في الإسلام فصلي علي ابن أبي ومشي خلفه وقام علي قبره، مع العلم أن منع الصلاة علي المنافقين لم يصدر إلا بعد الصلاة وتمامها، كما علم. هذا فيما يختص بشخص ابن أبي وما فعله النبي صلي الله عليه وآله تجاهه، غير أنه كان للنبي صلي الله عليه وآله حكمة ومرمي آخر لا

ينتبه إليه إلا من كانت له فطنة النبوة، ولهذا لم يدركها عمر ومع عدم إدراكه هذا لم يسلم لنبي الإسلام العظيم ولم يفوض الأمر إليه تبعا للقرآن، فكان ما كان. فما هي حكمة النبي صلي الله عليه وآله من صلاته علي هذا المنافق؟ يقول ابن حجر: " إنما فعل ذلك له علي ظاهر حكم الإسلام واستئلافا لقومه، مع أنه لم يقع نهي صريح. وروي أنه أسلم ألف رجل من الخزرج " [147] [والخزرج: هم قبيلة ابن أبي]. إذا، فحكمة النبي صلي الله عليه وآله في هذا الفعل هي استئلاف قوم ابن أبي وترغيبهم في الإسلام، وقد حدث هذا، إذ أسلم منهم لذلك ألف رجل.. ولهذا أسف أبو حفص وندم، وقال: " أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط، أراد رسول الله [صلي الله عليه وآله] أن يصلي علي ابن أبي فأخذت بثوبه، فقلت له: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال لك: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن تغفر الله لهم). فقال رسول الله: خيرني ربي، فقال: (استغفر لهم [ صفحه 113] أو لا تستغفر لهم) فاخترت " [148] . إذا، فعمر لم يدع الإلهام فيما صنع مع النبي صلي الله عليه وآله، بل اعترف بما ارتكبه من خطأ وهفوة في الإسلام لا نظير لها، فليذهب إذا الإلهام أدراج الرياح، وليبق الاعتراف بالخطأ فضيلة لأبي حفص.

ضرب عمر لمبعوث رسول الله

غير أنه لم تكن هذه الهفوة هي الوحيدة التي صدرت من جانب أبي حفص تجاه رسول الله صلي الله عليه وآله، فعندما أمر النبي صلي الله عليه وآله أبا هريرة بقوله: " إذهب، فمن لقيته يشهد أن لا إله إلا الله

مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة ". فكان أول من لقيه عمر، فسأله عن شأنه، فأخبره بما أمره به رسول الله صلي الله عليه وآله. يقول أبو هريرة: " فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لإستي، فقال: إرجع يا أبا هريرة، فرجعت إلي رسول الله، فأجهشت بكاء، وركبني عمر وإذا هو علي أثري، فقال لي رسول الله: ما لك يا أبا هريرة؟ فقلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال: إرجع. فقال رسول الله [صلي الله عليه وآله]: يا عمر! ما حملك علي ما فعلت؟ ملء الفراغ قال: يا رسول الله، أبعثت أبا هريرة بأن من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه يبشره بالجنة؟! فقال رسول الله: نعم. قال: لا تفعل، فإني أخشي أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون... "! وهذه المرة كان عمر الآمر والنبي صلي الله عليه وآله مأمورا ومطيعا! وانعكس قوله تعالي (أطيعوا لله وأطيعوا الرسول)! [149] فعمر - كما أوضحنا سالفا - لم يكن يأنس في النبي صلي الله عليه وآله العصمة. وهذا مما فتح الباب واسعا لاعتراضاته علي النبي صلي الله عليه وآله، بل إنه قد نهي النبي صلي الله عليه وآله عما يريد فعله! [ صفحه 114] وكان عمر يحمل بين جنبيه إحساسا يجعله علي قرار النبي صلي الله عليه وآله في الأمر والنهي، وإن كان هذا الإحساس يبلغ أحيانا أوجه، فيكون أبو حفص الآمر والنبي صلي الله عليه وآله المأمور! وإلا فليس لنا تفسير لقول عمر للنبي صلي الله عليه وآله: " لا تفعل فإني أخشي... "، فهذه عبارة تبين بكل وضوح أن عمر أجلس نفسه في ذلك

المقام الذي أشرنا إليه: مقام الآمر والناهي لرسول الله. وبقوله: " إني أخشي... " يبين إحساسه بعدم قصوره عن النبي صلي الله عليه وآله في شئ، وكأنه يقول لرسول الله الكريم: إن كنت تري تبشير الناس بالجنة - حين يستيقنون من وحدانية الله - أمرا لا بأس فيه. فأنا أري أنه ليس صحيحا! إذا، فقد تساوت كفته مع كفة النبي صلي الله عليه وآله!! وهو بقوله: " لا تفعل " يبين إحساسه بصواب رأيه وعدم صواب قول النبي صلي الله عليه وآله! وليس هذا فحسب، إذ يتضمن ذلك الإحساس أيضا إحساسه بالأمر والنهي للنبي صلي الله عليه وآله، وهنا تترجح كفة عمر!... فلو كان الأمر مجرد نظر من عمر ورأي ليس له قوة الأمر لأخذ شكلا آخر، ولكن القرائن تشير إلي أن عمر لم يكن يحمل في نفسه إلا الشعور بالأمر والنهي، ولم يتعقب أبا هريرة ويلحق به إلا لينهي النبي صلي الله عليه وآله عن هذا الأمر! وضربه لأبي هريرة بتلك الصورة لأكبر دليل وأدل قرينة علي ذلك، لأن النزعة الآمرة والناهية في نفس عمر جعلته يشعر بوقوع حتي أبي هريرة في الغلط، واشتراكه في اجتراح الخطأ. وإحساس عمر تجاه النبي صلي الله عليه وآله يتضح عملا في تصرفه مع أبي هريرة بهذه الصورة. علي أن هذا الإحساس العملي تجاه النبي صلي الله عليه وآله لا يظهر من عمر إلا في شخص رسول رسول الله، وذلك لاستضعافه المسكين أبا هريرة. ولما كان هذا الإحساس منه تجاه النبي صلي الله عليه وآله يغور في أعماقه دون الظهور إلا في ألفاظه وأقواله تراه يتضح في الاعتراضات والمخالفات التي لا يسمح عمر الآمر والناهي بإخفائها في أعماقه..

ولهذا قال للنبي صلي الله عليه وآله " لا تفعل " بكل ارتياح. ولو كان عمر قانعا بقوله تعالي في شأن مقام النبي صلي الله عليه وآله: (وما ينطق عن الهوي. إن هو إلا وحي يوحي) [150] ، ولو فهم منه عصمة النبي صلي الله عليه وآله وأن قول [ صفحه 115] النبي صلي الله عليه وآله وحي من الله تعالي.. أقول: لو كان قد استيقن عمر ذلك، لم يكن ليتفوه بكل ما تفوه به، ولما عارض أبدا. غير أن القوم - كالمعهود - يسعون إلي تصحيح ما صدر من عمر مهما كان، ولو أدي ذلك إلي انتقاص من مقام النبي صلي الله عليه وآله، حتي يبقي مقام عمر محفوظا من حيث لا يشعرون! فلو كان عمر رأي أن الأصلح عدم تبشير الناس.. فإما أن يكون النبي صلي الله عليه وآله عالما بهذا الأصلح، أو لم يكن عالما... فإن كان النبي صلي الله عليه وآله يعلم بالأصلح ويأمر بغيره فقد خالف الوحي، لأن الوحي لا يأمر إلا بالأصلح، ويكون النبي صلي الله عليه وآله قد أمر بما أملي عليه هواه، وهذا يخالف قوله تعالي: (وما ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحي يوحي). وإن كان لا يعلم بالأصلح فالقائل بهذا عليه أن يسعي للعودة إلي حظيرة الإسلام بالتوبة. ثم ماذا نقول في ضرب عمر أبي هريرة؟! وأي صلاح في ذلك الضرب؟! وأين عمر من قوله تعالي: (محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم)؟! أم أن أبا هريرة في نظر عمر لم يكن ممن هم مع محمد رسول الله صلي الله عليه وآله، فكان شديدا عليه؟! غير أننا لا نملك إلا التعجب

ممن يصحح تصرفات عمر هذه.. والله المستعان.

عمر ورزية يوم الخميس

ويستمر سيل الاعتراضات العمرية علي أقوال وأفعال النبي صلي الله عليه وآله، ويبلغ شأوا بعيدا في " يوم الخميس " يوم كان النبي صلي الله عليه وآله علي فراش الاحتضار ينتظر لحظات الموت! ولقد كان لعمر في ذلك الموقف أصلب الاعتراضات وأشدها ضد النبي صلي الله عليه وآله وأقواله، وهذا الموقف العجيب نشاهده في قصة يوم الخميس، أو كما يسميها ابن عباس ب " رزية يوم الخميس ". [ صفحه 116] ولقد وقعت هذه الحادثة قبل وفاة النبي صلي الله عليه وآله بأربعة أيام، إذ توفي صلي الله عليه وآله بعدها في يوم الاثنين. أخرج البخاري، عن عبد الله بن مسعود، عن ابن عباس: قال: " لما حضر رسول الله (ص)، وفي البيت رجال كان فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (ص): هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي [صلي الله عليه وآله] قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) قال لهم: " قوموا ".. - قال ابن مسعود -: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم " [151] وروي هذا الحديث مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أيضا [152] لقد ذكر أن عمر قال: " إن النبي قد غلب عليه الوجع ". وفي الحقيقة أن هذه العبارة ليست هي التي ذكرها عمر علي التحقيق واصفا بها رسول

الله صلي الله عليه وآله، وإنما هي معني ما تفوه به ابن الخطاب في رده علي طلب النبي صلي الله عليه وآله! وهذا ما يؤكده حديث أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري، حيث يروي عن ابن عباس أنه قال: " لما حضر رسول الله الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله [صلي الله عليه وآله]: ائتوني بداوة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال: فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب علي رسول الله (ص). ثم قال [أي عمر]: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله! فاختلف من في البيت واختصموا، فمن قائل: قربوا يكتب لكم النبي، ومن قائل ما قال عمر [أي الكلمة التي تعني أن الوجع قد غلب علي النبي صلي الله عليه وآله]. فلما أكثروا اللغط واللغو. [ صفحه 117] والاختلاف، غضب (ص) فقال: قوموا " [153] . إذا، فعمر لم يقل في رده علي النبي صلي الله عليه وآله: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وإنما قال كلمة تحمل هذا المعني مع احتوائها علي معان أخر.. فما هي تلك الكلمة التي أحجم يراع الرواة عن إثباتها علي صفحات القرطاس؟! يروي البخاري في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: " يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! ثم بكي حتي خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: هجر رسول الله (ص)! قال (ص): دعوني! فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه! وأوصي عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،

(قال): ونسيت الثالثة "! [154] فالشئ الواضح في تلك الأحاديث أن المبادر بالرد علي رسول الله صلي الله عليه وآله اطرادا هو عمر بن الخطاب، والناس تبع له فيما يقول.. وهذا واضح في عبارة " ومنهم من يقول ما قال عمر "، وعبارة " ومن قائل ما قال عمر " فعمر إذا، هو المبادر إلي الرد علي رسول الله الكريم، والناس إنما نسجوا علي منواله. ثم كانت الكلمة التي استعاض عنها الرواة بذكر معناها، وهي هجر رسول الله، حيث أوردها البخاري في الحديث الأخير، ولكنه عبر عنها بما قاله الناس، مع علمنا بأن الناس كانوا يقولون ويرددون ما كان يقوله عمر. إذا، فالذي قال في البدء ونسج الناس علي منواله هو عمر بن الخطاب لا غير. إن صحة هذه الحادثة وهذه الرزية مما لا شك فيه ولا يشوبها الريب. ثم إن فظاعة الواقعة جعلت القوم يبذلون المهج عبثا في الحصول علي تفسير لائق يدفع تهمة الرد. [ صفحه 118] والاعتراض عن الفاروق الذي واجه النبي صلي الله عليه وآله واتهمه بالهجر والهذيان والخطرفة التي تعتري المريض وفاقد الوعي!! وقد ذكر عمر أن النساء اللائي كن حاضرات في ذلك الوقت قلن من خلف الستار: " ألا تسمعون ما يقول رسول الله (ص)؟! قال عمر: إنكن صويحبات يوسف، إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه!قال [عمر]: فقال رسول الله [صلي الله عليه وآله] دعوهن فإنهن خير منكم " [155] . إن شدة الاعتراض العمري وسوء التصرف تجاه أمر النبي صلي الله عليه وآله الذي بدر منه، ورده الواضح لسنة النبي صلي الله عليه وآله جعل القوم في ذهول عن مقام النبوة، ودفعهم صعوبة الموقف إلي زهق

الأرواح في سبيل الحصول علي اعتذار عما صدر من ابن الخطاب! فماذا قال المعتذرون في تبرير شدة عمر علي النبي صلي الله عليه وآله في هذا الأمر؟ لبيان ما أورده المعتذرون عن عمر ومن تابعه في تلك المعارضة.. ننقل ما دار بين الشيخ سليم البشري - شيخ الأزهر الشريف في زمانه - والسيد شرف الدين الموسوي في مسألة رزية يوم الخميس هذه، إذ يمثل هذا الحوار القمة في البحث العلمي القائم علي الإنصاف والعدل وبيان الحقيقة، بعيدا عن الأغراض وتتبع العورات والمساءات. ولا غرو، إذ كان الرجلان من جهابذة علماء المسلمين، وقد كان الحوار بحق مثالا يقتدي في بحث الأمور الخلافية بين من اختلفت مشاربهم من الفرق الإسلامية، وهم ينتمون إلي هذا الدين الحق، لم ينقطع بينهم الأصل الرابط حتي يتعسر عليهم الاتفاق. يقول الشيخ سليم: " لعل النبي عليه السلام حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وإنما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير. فهدي الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة، فمنعهم من إحضارها. فيجب - علي هذا - عد تلك الممانعة في جملة موافقاته لربه تعالي، وتكون من كراماته رضي الله عنه ". هكذا أجاب بعض الأعلام... لكن الإنصاف أن قوله صلي الله عليه وآله: " لن تضلوا بعده " لا يخفي أن الإخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الإخبار إنما هو من نوع الكذب الواضح الذي. [ صفحه 119] يجب تنزيه الأنبياء عنه، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولي من إحضارها. علي أن في هذا الجواب نظرا من جهات أخر، فلا بد هنا من اعتذار آخر.. حاصل ما يمكن أن يقال [فيه]:

إن الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب حتي لا تجوز مراجعته ويصير المراجع عاصيا، بل كان أمر مشورة، وكانوا يراجعونه صلي الله عليه وآله في بعض تلك الأوامر لا سيما عمر، فإنه كان يعلم من نفسه أنه موفق للصواب في إدراك المصالح وكان صاحب إلهام من الله تعالي، وقد أراد التخفيف عن النبي صلي الله عليه وآله إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع. وقد رأي رضي الله عنه أن ترك إحضار الدواة أولي.. وربما خشي أن يكتب النبي صلي الله عليه وآله أمورا يعجز الناس عنها فيستحقون العقوبة بسبب ذلك، لأنها تكون منصوصة لا سبيل إلي الاجتهاد فيها، ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب لكونه في حال المرض فيصير سببا للفتنة، فقال " حسبنا كتاب الله " لقوله تعالي: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم)! وكأنه رضي الله عنه أمن من ضلال الأمة حيث أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة. هذا جوابهم، وهو كما تري! لأن قوله صلي الله عليه وآله: " لن تضلوا " يفيد أن الأمر أمر عزيمة وإيجاب، لأن السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة بلا ارتياب. واستياؤه [صلي الله عليه وآله] منهم وقوله لهم: " قوموا! " حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر علي أن الأمر إنما كان للإيجاب لا للمشورة. [فإن قلت: لو] كان واجبا ما تركه النبي صلي الله عليه وآله بمجرد مخالفتهم، كما أنه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين. فالجواب: أن هذا الكلام لو تم فإنما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة علي النبي [صلي

الله عليه وآله] بعد معارضتهم له عليه السلام. وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي [صلي الله عليه وآله] به وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال، إذ الأصل في الأمر [ صفحه 120] إنما هو الوجوب علي المأمور، لا علي الآمر، لا سيما إذا كانت فائدته عائدة علي المأمور خاصة، والوجوب عليهم هو محل الكلام لا الوجوب عليه [صلي الله عليه وآله]. علي أنه يمكن أن يكون واجبا عليه أيضا، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم وبقولهم: " هجر "، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوي الفتنة، كما قلت حرسك الله. وربما اعتذر بعضهم، بأن عمر رضي الله عنه ومن قالوا يومئذ بقوله لم يفهموا من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال علي سبيل الاستقصاء، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلا، وإنما فهموا من قوله: " لن تضلوا " إنكم لا تجتمعون علي الضلال بقضكم وقضيضكم، ولا تتسري الضلالة بعد كتابة الكتاب إلي كل فرد من أفرادكم. وكانوا رضي الله عنهم يعلمون أن اجتماعهم بأسرهم علي الضلال مما لا يكون أبدا، وبسبب ذلك لم يجدوا أثرا لكتابته، وظنوا أن مراد النبي [صلي الله عليه وآله] ليس إلا زيادة الاحتياط في الأمر، لما جبل عليه من وفور الرحمة، فعارضوه تلك المعارضة، بناء منهم أن الأمر ليس للإيجاب وأنه إنما هو أمر عطف ومرحمة ليس إلا، فأراد التخفيف عن النبي [صلي الله عليه وآله] بتركه إشفاقا منهم عليه [صلي الله عليه وآله]. هذا كل ما قيل في الاعتذار عن هذه البادرة، ولكن.. من أنعم النظر فيه جزم ببعده عن الصواب، لأن قوله

صلي الله عليه وآله " لن تضلوا بعده " يفيد أن الأمر للإيجاب - كما ذكرنا - واستياؤه منهم دليل علي أنهم إنما تركوا من الواجبات ما هو أوجبها وأشدها نفعا، كما هو معلوم من خلقه العظيم. ويختم الشيخ سليم رحمه الله قوله قائلا: فالأولي أن يقال في الجواب: هذه قضية في واقعة كانت منهم علي خلاف سيرتهم، كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، لا نعرف وجه الصحة فيها علي سبيل التفصيل، والله الهادي إلي سواء السبيل. يقول الإمام شرف الدين الموسوي: قلت قد استفرغ شيخنا وسعه في الاعتذار عن هذه المعارضة، وفي حمل المعارضين فيها إلي الصحة، فلم يجد إلي ذلك سبيلا. لكن علمه واعتداله وإنصافه كل ذلك أبي عليه إلا أن يصدع برد تلك الترهات،، ولم يقتصر في تزييفها علي وجه واحد، حتي استقصي ما لديه من الوجوه، شكر الله حسن بلائه في [ صفحه 121] ذلك.

تزييف الاعتذار من نواح أخر

وحيث كان لدينا في تزييف تلك الأعذار وجوه أخر أحببت يومئذ عرضها عليه، وجعلت الحكم فيها موكولا إليه. فقلت: قالوا في الجواب الأول لعله [صلي الله عليه وآله] حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وإنما أراد اختبارهم لا غير. فنقول - مضافا إلي ما أفدتم -: إن هذه الواقعة إنما كانت حال احتضاره - بأبي وأمي - كما هو صريح الحديث، فالوقت لم يكن وقت اختبار، وإنما كان وقت إعذار وإنذار ونصح تام للأمة، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة، مشغول بنفسه ومهماته ومهمات ذويه، ولا سيما إذا كان نبيا. وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره؟ علي أن قوله [صلي الله عليه وآله] حين أكثروا اللغو

واللغط والاختلاف عنده: " قوموا " ظاهر في استيائه منهم، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم وأظهر الارتياح إليها. ومن ألم بأطراف هذا الحديث - ولا سيما قولهم: " هجر رسول الله " - يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمرا يكرهونه، ولذا فاجأوه بتلك الكلمة وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف، كما لا يخفي. وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة، وعدها رزية دليل علي بطلان هذا الجواب. قال المعتذرون: إن عمر كان موفقا للصواب في إدراك المصالح، وكان صاحب إلهام من الله تعالي. وهذا مما لا يصغي إليه في مقامنا هذا، لأنه يرمي إلي أن الصواب في هذه الواقعة إنما كان في جانبه، لا في جانب النبي [صلي الله عليه وآله]، وأن إلهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمين [صلي الله عليه وآله]. وقالوا: بأنه أراد التخفيف عنه [صلي الله عليه وآله]، إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب [ صفحه 122] إملاء الكتاب في حال المرض. وأنت تعلم أن في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبي وبرد فؤاده وقرة عينه وأمنه علي أمته [صلي الله عليه وآله] من الضلال. علي أن الأمر المطاع والإرادة المقدسة مع وجوده الشريف إنما هما له. وقد أراد (بأبي وأمي) إحضار الدواة والبياض وأمر به فليس لأحد أن يرد أمره أو يخالف إرادته (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). علي أن مخالفتهم لأمره في تلك المهمة العظيمة، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده كان أثقل عليه وأشق من إملاء ذلك الكتاب الذي يحفظ أمته من الضلال. ومن

يشفق عليه من التعب بإملاء كتاب كيف يعارضه ويفاجئه بقول هجر؟! وقالوا: إن عمر رأي ترك إحضار الدواة والورق أولي مع أمر النبي [صلي الله عليه وآله] بإحضارهما.. وهل كان عمر يري أن رسول الله [صلي الله عليه وآله] يأمر بالشئ الذي يكون تركه أولي؟! وأغرب من هذا قولهم: وربما خشي [عمر] أن يكتب النبي [صلي الله عليه وآله] أمورا يعجز عنها الناس، فيستحقون العقوبة بتركها! وكيف يخشي من ذلك مع قول النبي [الكريم]: " لا تضلوا بعده "؟! أتراهم يرون عمر أعرف منه [صلي الله عليه وآله] بالعواقب، وأحوط منه وأشفق علي أمته؟! كلا، [أم كان عمر يري أن النبي صلي الله عليه وآله يكلف الناس فوق طاقتهم ووسعهم (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)]. وقالوا: لعل عمر خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب لكونه في حال المرض، فيصير سببا للفتنة.. وأنت تعلم أن هذا محال مع وجود قوله (ص) " لا تضلوا "، لأنه نص بأن ذلك الكتاب سبب للأمن عليهم من الضلال، فكيف يمكن أن يكون سببا للفتنة بقدح المنافقين؟! [ صفحه 123] وإذا كان خائفا من المنافقين أن يقدحوا في صحة الكتاب، فلماذا بذر لهم بذرة القدح حيث عارض ومانع وقال: " هجر "؟! وأما قولهم في تفسير قوله: " حسبنا كتاب الله ": إنه تعالي قال: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقال عز من قائل: (اليوم أكملت لكم دينكم) فغير صحيح، لأن الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، ولا تضمنان الهداية للناس. فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما؟! ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للأمن من الضلال، لما وقع في هذه الأمة من

الضلال والتفرق ما لا يرجي زواله. وقالوا في الجواب الأخير: إن عمر لم يفهم من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أمته من الضلال، وإنما فهم أنه سيكون سببا لعدم اجتماعهم - بعد كتابته - علي الضلال. (قالوا): وقد علم رضي الله عنه أن اجتماعهم علي الضلال مما لا يكون أبدا، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب، ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة. وفيه - مضافا إلي ما أشرتم إليه -: أن عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم، وما كان ليخفي عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس، لأن القروي والبدوي إنما فهما منه أن ذلك الكتاب لو كتب لكان علة تامة في حفظ كل فرد من الضلال. وهذا المعني هو المتبادر من الحديث إلي أفهام الناس. وعمر كان يعلم أن الرسول (ص) لم يكن خائفا علي أمته أن تجتمع علي الضلال، إذ كان يسمع قوله (ص): " لا تجتمع أمتي علي الضلال، ولا تجتمع علي الخطأ "، وقوله: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق... " (الحديث)، وقوله تعالي: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) [156] ، إلي كثير من نصوص الكتاب والسنة الصريحة بأن الأمة لا تجتمع بأسرها علي الضلال.. فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خاطر عمر أو غيره أن النبي (ص) حين طلب الدواة [ صفحه 124] والبياض كان خائفا من اجتماع أمته علي الضلال. والذي يليق بعمر أن يفهم من الحديث ما يتبادر منه [إلي] الأذهان،

لا ما تنفيه صحاح السنة ومحكمات القرآن علي أن استياء النبي (ص) منهم المستفاد من قوله: [قوموا] دليل علي أن الذي تركوه كان من الواجب عليهم. ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث - كما زعموا - لأزال النبي (ص) شبهته، وأبان لهم مراده منه، بل لو كان في وسع النبي [صلي الله عليه وآله] أن يقنعهم بما أمرهم به لما آثر إخراجهم عنه. وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلة علي ما نقول. والإنصاف أن هذه الرزية لمما يضيق عنها نطاق العذر، لو كانت - كما ذكرتم - قضية في واقعة، كفلتة سبقت، وفرطة ندرت.. لهان الأمر، وإن كانت بمجردها بائقة الدهر وفاقرة الظهر.. والحق أن المعارضين إنما كانوا ممن يرون جواز الاجتهاد في مقابل النص، فهم فيهذه المعارضة وأمثالها إذا مجتهدون، فلهم رأيهم، ولله تعالي رأيه " [157] . فهذه كانت رزية يوم الخميس التي وقف فيها عمر أمام أمر النبي صلي الله عليه وآله أصلب وقفة، ولم يترك أمر النبي صلي الله عليه وآله ليخرج إلي حيز التنفيذ. ورأيت كيف اعتذر المعتذرون عن ابن الخطاب فيما فعل، وشاهدت مصارع تلك الاعتذارات الواهية. علي أنه هناك ثلاث مسائل تكفي واحدة منها لمنع عمر عن الاعتراض علي النبي صلي الله عليه وآله: أولا: علم النبي الكريم، إذ أنه علم إلهي لا يرقي إليه عمر بأي حال من الأحوال، لا سيما في مجال الدين وفي طريقة بيانه للناس وتبليغه لهم، فلا عمر له رشح من علم النبي الكريم، ولا هو أعرف منه بطريقة تبليغ دين الله حتي يعارض هذه المعارضة، وكأنه يصر علي أن الحق معه والباطل مع رسول الله الكريم! ثانيا:

تلك العصمة التي يتمتع بها النبي صلي الله عليه وآله، إذ أنها مانعة بلا ريب من أن يقوم النبي صلي الله عليه وآله بعمل يقع به موقع الطعن والرد والاعتراض من جانب عمر ومن لف لفه، ولا سيما في مجال تبليغ الوحي وهداية الناس. ولذا ما إن نري أحدا عارض النبي صلي الله عليه وآله في مسألة من المسائل فلا بد أن نحكم. [ صفحه 125] بلا ريب أن المعارض قد ارتكب مخالفة ومعصية، مهما كان قدره، عمريا كان أو بكريا، هاشميا كان أو علويا، لأن الناس مقابل طاعة النبي صلي الله عليه وآله سواسية لا تفاوت بينهم، فكلهم واجبة عليهم طاعته والتسليم لأمره، وحرام عليهم مخالفته ومعصيته في شئ، بل يكون ذلك أولي لمن وصف بالصحبة وعاشر النبي صلي الله عليه وآله عن قرب، سواء في طفولته أو بعد نبوته، ففي كلا الزمانين ما كان النبي صلي الله عليه وآله إلا موصوفا بالصدق والأمانة. وكان المتوقع أنه لما أمر النبي صلي الله عليه وآله بالإتيان بالدواة والبياض لكتابة ذلك الكتاب كان علي عمر وجماعته أن يتسابقوا جميعا متزاحمين بالأكتاف للفوز بأداء هذه الطاعة الأخيرة في حياة النبي صلي الله عليه وآله. ولكن ذلك لم يحدث، فقد تثاقلوا عن طاعته وتسابقوا إلي معصيته، وقالوا " هجر رسول الله! "، يقول خطرفة ويهذي هذيانا. والله المستعان علي ما يقولون. ثالثا: إن قول الله تعالي: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) لا يتيح لعمر أو غيره أن يقول للنبي صلي الله عليه وآله: (لماذا؟)، فضلا عن شد حزام المعارضة والمناقشة، فهذه الآية لم تستثن عمر من الخروج عن طاعة النبي صلي الله عليه وآله، فعمر

الذي قال: " حسبنا كتاب الله، عندنا القرآن " يعلم إذا بهذه الآية جيدا، ولكن عمر لم يكن يري عيبا في رد ما يكره من أوامر النبي صلي الله عليه وآله، ولم يكن يري مانعا من أن يجتهد ضد النصوص كتابا وسنة، وقد أوضحنا ذلك فيما مر عليك من كلام. ونحن نتساءل: لقد عارض عمر النبي صلي الله عليه وآله في كتابة ما أراد قبل أن يكتب النبي صلي الله عليه وآله منه شيئا، فهل كان يعلم عمر بفحوي هذا الكتاب ومحتواه؟! وكيف علم بذلك؟ ومتي؟ وماذا كان الكتاب؟! أم لم يكن يعلم فعارض عن جهل؟! ونسأل ثانية: هب أن عمر كان عالما بما يريد النبي صلي الله عليه وآله كتابته، فلماذا عارض ذلك الأمر، وقد علم أنه سبب لنجاة وهداية الأمة؟ فهل كان عمر يعلم أنه سيتضرر من كتابة ذلك الأمر علي وجه الخصوص؟! أم ماذا يا أولي الألباب؟!. [ صفحه 129]

خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

اشاره

إن أهل السنة يعتبرون أن أبا بكر هو اللائق لتولي منصب الخلافة بعد النبي صلي الله عليه آله، وعلي ذلك اتحدوا واجتمع رأيهم لذلك نفوسهم. لهذا فهم يقدحون بشدة في كل من لا يقبل خلافة الصديق، ويعتبرون ذلك قدحا في دينه، ربما أخرجوه عن دائرة الإسلام. ولكن هذا أشبه برأيهم في عدالة الصحابة بقضهم وقضيضهم، إذا أن هذا الرأي لم يبنوه علي أسس قوية وأدلة مقنعة. وقد رأينا أن واقع الصحابة وسيرتهم لا تسمح بإعطاء هذه العدالة لكافتهم دون بحث وتفحص لأحوالهم. وخلافة الصديق كذلك، إذ أن الأدلة التي ساقوها لإثبات خلافته من بعد النبي صلي الله عليه وآله لا تقنع من تفحصها وألم بجوانبها، لأن هذه الأدلة بكلمة واحدة لا

تدل علي أحقية أبي بكر بالخلافة، إذ أنها أدلة أزهق القوم فيها أنفسهم لإيجادها بعد وقوع الحادثة في السقيفة. ومعني هذا أن هذه الأدلة لم تمهد الطريق إلي خلافة أبي بكر، بل إن خلافة الصديق هي التي خلقت هذه الأدلة ومهدت لها الطريق إلي أفكار الناس، وإنما صنعت لتبرير ما تمخض عن سقيفة بني ساعدة. وعلي أية حال فهي أدلة لا تقوي علي الوقوف أمام أدلة المخالفين لخلافة الصديق، لأن أدلتهم أقطع في الدلالة وأقوي في الحجة. ونحن نعلم أن طاعة أولي الأمر قد فرضت ووجبت علي كل المؤمنين، وعليه [ صفحه 130] فالخلافة تعد من أصول الدين وأساسه، ولا يجوز إذا الاستدلال عليها بأدلة لا تفيد إلا الظن، لأن الوجوب لا يبني إلا علي اليقين. والدليل الظني لا يكتفي به في الموضع اليقيني [158] . فالواجب لكي يؤدي طبقا لما أريد، ولكي ينجز في زمانه أو مكانه المعين له، لا بد أن يتشخص بأدلة واضحة سهلة الفهم والإدراك علي مستوي أضعف الناس عقلا، لأن صعوبة فهم الواجب هي نوع من تكليف النفس بما لا يطاق، والناس كلهم مطالبون أمام الله بما أمروا به أو نهوا عنه، والتكليف بما لا يطاق محال علي الشارع. إذا فلا بد من الوضوح الذي يفيد اليقين عند بيان الواجب، وذلك لسد باب الظن فيه، حتي تقوم الحجة علي كافة الناس لا علي بعضهم. فأهل السنة وزعموا أن لديهم أدلة تؤيد أحقية الصديق في الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وآله، وهي تنحصر في ثلاثة.. وسنبحثها جميعا في ما يأتي من أبواب، حتي يصرح الحق عن محضه ويبين لذي عينين. ويكون البحث طبقا للنقاط التالية: [ صفحه 131]

استخلاف النبي لأبي بكر في الصلاة

اشاره

يقول

أهل السنة إن النبي صلي الله عليه وآله، في أيام مرضه الذي توفي فيه، استخلف أبا بكر ليصلي بالناس، فصلي أبو بكر بهم صلاة الفجر من يوم الاثنين - يوم وفاته صلي الله عليه وآله - فكان أبو بكر بهذا هو آخر من صلي بالناس والنبي صلي الله عليه وآله علي قيد الحياة، فصار لأبي بكر بهذه الصلاة خصوصية أهلته لتولي أمر المسلمين من بعد النبي صلي الله عليه وآله. فقالوا: إن استخلاف النبي صلي الله عليه وآله لأبي بكر علي الناس لكي يصلي بهم فيه إشارة إلي الخلافة الكبري، وتولي أمور المسلمين بعد رسول الله صلي الله عليه وآله. فقد قاس القوم الخلافة العظمي علي الخلافة الصغري، وهي صلاة أبي بكر بالناس بأمر النبي صلي الله عليه وآله، فاستدلوا بذلك علي اختياره خليفة للناس من جانب النبي صلي الله عليه وآله، فاختاره الناس خليفة مجمعين عليه لهذا السبب نفسه. وهذا - كما تري - دليل لا يفيد إلا الظن، إذا أنهم قد بنوه علي القياس، ولا يقين في القياس كما هو معلوم. وهذا من قوادح هذا الدليل. يقول القوم: "... وقد وقع قياس الإمامة الكبري - وهي الخلافة العامة - علي إمامة الصلاة... والحق أن أمره [صلي الله عليه وآله] إياه بإمامة الصلاة كان إشارة إلي تقدمه في الإمامة [ صفحه 132] الكبري " [159] وقد روي القوم في هذا الأمر أحاديث عن عائشة أم المؤمنين، تذكر فيها كيفية أمر النبي صلي الله عليه وآله لأبي بكر ليصلي بالناس.

الحديث المروي في صلاة أبي بكر

روي البخاري عن عائشة أنها قالت: " لما مرض النبي [صلي الله عليه وآله] مرضه الذي مات فيه، أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا

أبا بكر فليصل. قلت: إن أبا بكر رجل أسيف. إن يقم مقامك يبكي، فلا يقدر علي القراءة. قال: مروا أبا بكر فليصل. فقلت مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة: " إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل "، فصلي. وخرج النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم، يهادي بين رجلين، كأني أنظر إلي رجليه تخطان في الأرض. فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صل، فتأخر أبو بكر وقعد النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم إلي جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير " [160] ولهذا الحديث طرق أخري، وسيتم بحثها من حيث السند أولا، ومن حيث مدلول المتن ثانيا.. أما في بحث السند فنكتفي بالبحث الذي نشر عن أصح روايات هذا الحديث، في ضمن سلسلة الأحاديث الموضوعة، في مجلة " تراثنا " [161] تحقيق العلامة السيد علي الميلاني، في (العدد الثالث [162] السنة السادسة / رجب 1411 ه). يقول السيد الميلاني: " لقد نقلنا الحديث بأتم ألفاظه وأصح طرقه عن الصحاح [ صفحه 133] . مسند أحمد، وكما ذكرنا من قبل، فإن معرفة حاله بالنظر إلي هذه الأسانيد، تغنينا عن النظر فيما رووه في خارج الصحاح عن غير من ذكرنا من الصحابة. [وسنبحث الحديث من ناحية السند أولا، ومن ناحية المتن ثانيا].

بحث السند

لقد كانت الأحاديث المذكورة عن: عائشة بنت أبي بكر. عبد الله بن مسعود. عبد الله بن عباس. عبد الله بن عمر. عبد الله بن زمعة. أبي موسي الأشعري بريدة الأسلمي. أنس بن مالك. سالم بن عبيد. فنحن ذكرنا الحديث عن تسعة من الصحابة، وإن لم يذكر الترمذي إلا ستة، حيث قال بعد إخراجه عن عائشة: " وفي الباب عن عبد الله

بن مسعود، وأبي موسي، وابن عباس، وسالم بن عبيد، وعبد الله بن زمعة. لكن العمدة حديث عائشة... بل إن بعض ما جاء عن غيرها من الصحابة مرسل وأنها هي الواسطة. فلنبدأ أولا بالنظر في الأساتيذ من غبرها ممن ذكرناهم:

حديث أبي موسي الأشعري

أما الحديث المذكور عن أبي موسي الأشعري، والذي اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أحمد، ففيه: [ صفحه 134] 1 - أنه مرسل، نص عليه ابن حجر وقال: " يحتمل أن يكون تلقاه عن عائشة " [163] . 2 - أن الراوي عنه (أبو بريدة) وهو ولده كما نص عليه ابن حجر [164] وهذا الرجل فاسق أثيم له ضلع في قتل حجر بن عدي، حيث شهد عليه - في جماعة - شهادة زورأدت إلي شهادته [165] وروي أيضا أنه قال لأبي العادية - قاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه -: " أأنت قتلت عمار بن ياسر؟ قال: نعم. قال: فناولني يدك. فقبلها وقال: لا تمسك النار أبدا "! [166] 3 - والراوي عنه " عبد الملك بن عمير ": وهو (مدلس) و (مضطرب الحديث جدا) و (ضعيف جدا) و (كثير الغلط). قال أحمد: " مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته، وما أري له خمسمائة حديث، وقد غلط في كثير منها " [167] . وقال إسحاق بن منصور: " ضعفه أحمد جدا " [168] . وقال ابن معين " مخلط " [169] . وقال أبو حاتم: " ليس بحافظ، تغير حفظه " [170] وعنه: " لم يوصف بالحفظ " [171] . وقال ابن خراش: " كان شعبة لا يرضاه " [172] . [ صفحه 135] وقال الذهبي: " أما ابن الجوزي فذكره وحكي الجرح، وما ذكر

التوثيق " [173] . وقال السمعاني: " كان مد لسا " [174] ، وكذا قال ابن حجر [175] . وعبد الملك هذا هو الذي ذبح عبد الله بن يقطر أو قيس بن مسهر الصيداوي، وهو - أي الصيداوي - رسول الإمام الحسين عليه السلام إلي أهل الكوفة، فإنه لما رمي بأمر من ابن زياد من فوق القصر وبه رمق أتاه عبد الملك بن عمير فذبحه، فلما عيب عليه ذلك قال: " إنما أردت أن أريحه "! [176] ثم الكلام في أبي موسي الأشعري نفسه، فإنه من أشهر أعداء مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد كان يوم الجمل يقعد بأهل الكوفة عن الجهاد مع الإمام علي عليه السلام، وفي صفين هو الإمام عليه السلام عن الخلافة. وقد بلغ به الحال أن كان الإمام عليه السلام يلعنه في قنوته مع معاوية وجماعة من أتباعه [177] . ثم إن أحمد روي هذا الحديث في فضائل أبي بكر، بسنده عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة، عن أبي موسي الأشعري، عن أبيه كذلك [178] .

حديث عبدالله بن عمر

وأما الحديث المذكور عن عبد الله بن عمر، فالظاهر كونه عن عائشة كذلك. كما رواه مسلم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الملك بن عمر، عن عائشة... ولكن البخاري رواه بسنده عن الزهري، عن حمزة عن أبيه، قال: " لما اشتد برسول الله وجعه... ". وعلي كل حال، فإن مدار الحديث علي: [ صفحه 136] محمد بن شهاب الزهري: وهو رجل مجروح عند يحيي بن معين [179] وعبد الحق الدهلوي. وكان من أشهر المنحرفين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومن

الرواة عن عمر بن سعد اللعين [قائد جيش يزيد لقتل الحسين عليه السلام]. قال ابن أبي الحديد: " وكان الزهري من المنحرفين عنه. وروي جرير بن عبد الحميد، عن محمد بن شيبة، قال: " شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا فنالا منه، فبلغ ذلك علي بن الحسين، فجاء حتي وقف عليهما، فقال: " أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلي الله، فحكم لأبي علي أبيك. وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كبر أبيك " [180] . قال: روي عاصم بن أبي عامر الجبلي، عن يحيي بن عروة، قال: " كان أبي إذا ذكرعليا نال منه " [181] . قال الذهبي في ترجمة عمر بن سعد [قائد جيش يزيد]: وأرسل عنه الزهري وقتادة. قال ابن معين: " كيف يكون قتل الحسين ثقة؟! " [182] . وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في ترجمة الزهري من " رجال المشكاة ": " إنه ابتلي بصحبة الأمراء وقلة الديانة. وكان أقرانه من العلماء والزهاد يأخذون عليه وينكرن ذلك منه، وكان يقول: أنا دون شرهم [يعني الأمراء]، فيقولون [أي أقرانه من العلماء والزهاد]: ألا تري ما هم فيه وتسكت؟! ". وقال ابن حجر في ترجمة الأعمش: " حكي الحاكم عن ابن معين أنه قال: أجود الأسانيد الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، فقال له إنسان: الأعمش مثل الزهري! فقال: تريد أن يكون الأعمش مثل الزهري؟! الزهري يري العرض والإجازة ويعمل لبني [ صفحه 137] أمية، والأعمش فقير، صبور، مجانب للسلطان، ورع، عالم بالقرآن " [183] . " ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه " [184] [والكاتب

له في الحقيقة هو الإمام السجاد عليه السلام، كما في " تحف العقول عن آل الرسول "، كتب إليه يعظه]: " إن ما كتمت واحتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي... جعلوك قطبا أداروا بك رحي مظالمهم، جسرا يعبرون إليك إلي بلاياهم، وسلما إلي ضلالتهم، داعيا إلي غيهم، سالكا سبيلهم. احذر فقد نبئت، وبادر فقد أجلت... " [185] . ثم الكلام في عبد الله بن عمر نفسه: فإنه ممن امتنع عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان، وقعد عن نصرته، وترك الخروج معه في حروبه، ولكنه لما ولي الحجاج بن يوسف الحجاز من قبل عبد الملك جاء ليلا ليبايعه، فقال له: " ما أعجلك؟! فقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يقول: من مات وليس يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية!! فقال له: إن يدي مشغولة - عنك يكتب - فدونك رجلي، فمسح علي رجله وخرج!! ". [عبد الله بن عمر، صحابي معروف، وهو ابن الخطاب، يبايع الحجاج بن يوسف بيعة الذليل، إذ مد له الحجاج رجله ليبايعه، وهو يري فيه إمام زمانه، ويمتنع عن بيعة العزة والكرامة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، زوج البتول، وابن عم الرسول، ولا يري فيه إمامه، أو ولاية تلزمه، أو تخرجه عن ميتة الجاهلية، وهكذا فالصحابة كلهم عدول، ويا لله ويا للعدالة!!].

حديث عبدالله بن زمعة

وأما حديث عبد الله بن زمعة، فقد رواه أبو داود عنه بطريقين. والمدار في كليهما [ صفحه 138] علي " الزهري " وقد عرفته [أنظر التحقيق في حديث عبد الله بن عمر].

حديث عبدالله بن عباس

وأما حديث عبد الله بن عباس - الذي رواه ابن ماجة وأحمد، الأول رواه عن: إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس. والثاني رواه عن: يحيي بن زكريا بن أبي إسحاق، عن الأرقم، عنه - فمداره علي: أبي إسحاق، عن الأرقم.وقد قال البخاري: " لا نذكر لأبي إسحاق سماعا عن الأرقم بن شرحبيل " [186] . وأما أبو إسحاق السبيعي.. فقد " قال بعض أهل العلم: كان قد اختلط، وإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه " [187] . و " كان مدلسا " [188] . وكان يروي عن عمر بن سعد قاتل الحسين عليه السلام (ع). وكان يروي عن شمر بن ذي الجوشن الملعون [189] [قاطع رأس الحسين عليه السلام]. وفي مسند أحمد مضافا إلي ذلك: 1 - سماع " زكريا " من " أبي إسحاق " بعد اختلاطه، كما ستعرف. 2 - " زكريا بن أبي زائدة "، قال أبو حاتم: " لين الحديث، كان يدلس ". ورماه بالتدليس أيضا أبو زرعة وأبو داود وابن حجر... وعن أحمد: " إذا اختلف زكريا وإسرائيل فإن زكريا أحب إلي من ابن إسحاق. ثم قال: ما أقربهما، وحديثهما عن أبي إسحاق لين سمعنا منه بآخره " [190] [أي آخر أيامه، يريد: بعد اختلاطه]. [ صفحه 139] أقول: فالعجب من أحمد يقول هذا وهو مع ذلك يروي الحديث عن زكريا، عن أبي إسحاق في " المسند " كما عرفت، وفي "

الفضائل "! [191] نعم، رواه لا عن هذا الطريق، لكنه عن ابن عباس، عن العباس، فقال مرة: " حدثنا يحيي بن آدم "، وأخري: " حدثنا أبو سعيد مولي بني هاشم "، عن قيس بن الربيع، عن عبد الله بن أبي السفر، عن أرقم بن شرحبيل، عن العباس بن عبد المطلب: " أن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم قال في مرضه: " مروا أبا بكر يصلي بالناس، فخرج أبو بكر، فكبر، ووجد النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم راحته فخرج يهادي بين رجلين، فلما رآه أبو بكر تأخر، فأشار إليه النبي: مكانك. ثم جلس رسول الله [صلي الله عليه وسلم] إلي جنب أبي بكر، فاقترأ من المكان الذي بلغ أبو بكر من السورة " [192] . لكن مداره علي قيس بن الربيع الذي أورده البخاري في الضعفاء [193] . وكذا النسائي [194] . وابن حبان في المجروحين [195] . وضعفه غير واحد، بل عن أحمد أنه تركه الناس، بل عن يحيي بن معين تكذيبه [196] .

حديث عبدالله بن مسعود

أما الحديث المذكور عن عبد الله بن مسعود، فأخرجه النسائي، ورواه الهيثمي وقال: " رواه أحمد وأبو يعلي ". [ صفحه 140] وفي مسنده عن الجميع " عاصم بن أبي النجود " قال الهيثمي: " وفيه ضعف " [197] . قلت: " وذكر الحافظ ابن حجر، عن ابن مسعود: كان كثير الخطأ في حديثه. وعن يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب. وعن أبي حاتم: ليس محله أن يقال هو ثقة، ولم يكن بالحافظ. وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من اسمه عاصم سيئ الحفظ. وعن ابن خراش: في حديثه نكرة. وعن العقيلي: لم يكن فيه

إلا سوء الحفظ. والدار قطني: في حفظه شئ. والبزار: لم يكن بالحافظ. وحماد بن سلمة: خلط في آخر عمره.وقال العجلي: كان عثمانيا " [198] .

حديث بريدة الأسلمي

أما حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أحمد بسنده عن بريدة، عن أبيه.. فمع غض النظر عما قيل في رواية ابن بريدة - سواء كان " عبد الله " أو سليمان " - عن أبيه [199] ففيه عبد الملك بن عمير، وقد عرفته [أنظر: بحث حديث أبي موسي الأشعري].

حديث سالم بن عبيد

أما حديث سالم بن عبيد الذي أخرجه ابن ماجة: 1 - فقد قال فيه ابن ماجة: هذا حديث غريب. 2 - وفي سنده نظر... فإن " نعيم بن أبي هند " تركه مالك ولم يسمع منه، لأنه كان [ صفحه 141] يتناول عليا رضي الله عنه [200] . و " سلمة بن نبيط " لم يرو عنه البخاري ومسلم. قال البخاري: اختلط بآخره [201] . 3 - ثم إن " سالم بن عبيد لم يرو عنه في الصحاح، وما روي له من أصحاب السنن غير حديثين، وفي إسناد حديثه اختلاف! قال ابن حجر: " سالم بن عبيد الأشجعي "، من أهل الصفة، ثم نزل إلي الكوفة. وروي له من أصحاب السنن حديثين صحيح في العطاس، وله رواية عن عمر فيما قاله وصنعه عند وفاة النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم وكلام أبي بكر في ذلك. أخرجه يونس بن بكير في زياداته.روي عنه هلال بن يساف، ونبيط بن شريط، وخالد بن عرفطة [202] . وقال أيضا: " الأربعة - سالم بن عبيد الأشجعي له صحبة وكان من أهل الصفة، يعد من الكوفيين. روي عن النبي في تشميت العاطس، وعن عمر بن الخطاب، روي عنه خالد بن عرفجة - ويقال ابن عرفطة - وهلال بن يساف ونبيط بن شريط. وفي إسناد حديثه اختلاف " [203] . أقول: يظهر

من عبارة ابن حجر في كتابيه، ومن مراجعة الرواية عن الهيثمي [204] أن حديث سالم بن عبيد حول صلاة أبي بكر هو الحديث الذي عن عمر فيما قاله وصنعه عند وفاته صلي الله عليه [وآله] وسلم.. لكن ابن ماجة ذكر بعضه، كما نص عليه الهيثمي، وظاهر عبارة ابن حجر " في الإصابة " عدم صحة إسناده، ولعله المقصود من قوله في " تهذيب التهذيب ": " وفي إسناد حديثه اختلاف "، إذ القدر المتيقن منه ما يرويه نبيط بن شريط عنه، وهذا الحديث من ذلك. [ صفحه 142]

حديث أنس بن مالك

أما حديث أنس بن مالك، فمنه ما عن الزهري عنه، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. والزهري من قد عرفته. [أنظر: بحث حديث عبد الله بن عمر]. مضافا إلي أن الراوي عنه عن البخاري هو شعيب، وهو: شعيب بن حمزة كاتب الزهري وراويته [205] . ويروي عن شعيب: أبو اليمان، وهو الحكم بن نافع. وقد تكلم العلماء في رواية أبي اليمان من شعيب، حتي قيل: " لم يسمع منه ولا كلمة " [206] . والراوي عن الزهري عند أحمد: سفيان بن حسين، وقد اتفقوا علي عدم الاعتماد علي روايته عن الزهري، فقد ذكر ذلك ابن حجر عن: ابن معين وأحمد والنسائي وابن عدي وابن حبان... وعن يعقوب بن شيبة: " في حديثه ضعف ". وعثمان بن أبي شيبة: " كان مضطربا في حديثه قليلا ". وعن ابن خراش: " كان لين الحديث ". وعن أبي حاتم: " لا يحتج به ".وعن ابن سعد: " يخطئ في حديثه كثيرا " [207] . هذا وقد روي الهيثمي فقال: " رواه أحمد، وفيه سفيان بن حسين، وهو ضعيف في الزهري.

وهذا من حديثه عنه " [208] . ومنه ما عن حميد بن أنس، وقد أخرجه النسائي وأحمد، وحميد هو: حميد بن أبي حميد الطويل، وقد نصوا علي أنه كان " مدلسا "، وعلي " أن أحاديثه عن أنس مدلسة " [209] وهذا الحديث من تلك الأحاديث. [ صفحه 143] مضافا إلي أن الراوي عنه - عنه أحمد - هو سفيان بن حسين، وقد عرفته [في بحث أنس بن مالك هذا نفسه، فراجع]. هذا، وسواء صحت الطرق عن أنس أو لم تصح، فالكلام في أنس نفسه: فأول ما فيه كذبه، وذلك في قضية الطائر المشوي، حيث كان رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم قد دعا الله سبحانه أن يأتي بعلي عليه السلام وكان يترقب حضوره، فكان كلما جاء علي عليه السلام ليدخل علي النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم قال أنس: " إن رسول الله علي حاجة "! حتي غضب رسول الله [صلي الله عليه وآله] وقال له: " يا أنس، ما حملك علي رده؟! ". ثم كتمه الشهادة بالحق، وذلك في قضية مناشدة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الناس عن حديث الغدير وطلبه الشهادة منهم به، فشهد قوم وأبي آخرون - ومنهم أنس [210] - فدعي عليه فأصابتهم دعوته.. ومن المعلوم أن الكاذب لا يقبل خبره، وكتم الشهادة إثم كبير قادح في العدالة كذلك.

حديث عائشة

أما حديث عائشة.. فقد ذكرنا أنه هو العمدة في هذه المسألة: لكونها صاحبة القصة. ولأن حديث غيرها إما ينتهي إليها، وإما هو حكاية عما قالته وفعلته. ولأن روايتها أكثر طرقا من رواية غيرها، وأصح إسنادا من سائر الأسانيد، وأتم لفظا وتفصيلا للقصة.. وقد أوردنا الأهم من تلك الطرق، والأتم

من تلك الألفاظ. وأما البحث حول ألفاظ ومتون الحديث - عنها - فسيأتي في الفصل اللاحق، مع النظر في ألفاظ حديث غيرها [البحث حول ألفاظ ومتون الحديث، لم ينقل هنا من مصدره]. [ صفحه 144] أما البحث حول سند حديثها، فيكون تارة بالكلام علي رجال الأسانيد، وأخري بالكلام علي عائشة نفسها. أما رجال الأسانيد... فإن طرق الأحاديث المذكورة عنها تنتهي إلي: 1 - الأسود بن يزيد النخعي. 2 - عروة بن الزبير بن العوام. 3 - عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. 4 - مسروق بن الأجدع. ولا شئ من هذه الطرق بخال عن الطعن والقدح المسقط عن الاعتبار والاحتجاج.

حديث عائشة عن الأسود

كان الأسود من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام [211] والراوي عنه في جميع الأسانيد المذكورة هو إبراهيم بن يزيد النخعي، وهو من من أعلام المدلسين.. قال أبو عبد الله الحاكم - في الجنس الرابع من المدلسين -: قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين، فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا. قال: " أخبرني عبد الله بن محمد بن حمويه الدقيقي، قال: حدثني جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، قال: " حدثني خلف بن سالم، قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فاشتبه علينا تمييز الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي، لأن الحسن كثيرا ما يدخل بينه وبين الصحابة أقواما مجهولين، وربما دلس عن مثل عتي بن ضمرة وحنيف بن المنتجب ودغفل بن حنظلة وأمثالهم. وإبراهيم أيضا يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل متي بن نويرة وسهم بن منجاب وخزامة الطائي، وربما دلس عنهم " [212] . والراوي عن إبراهيم هو: "

سليمان بن مهران الأعمش "، والأعمش معروف [ صفحه 145] بالتدليس [213] ، ذلك التدليس القبيح القادح في العدالة. قال السيوطي - في بيان تدليس التسوية -: " قال الخطيب: وكان الأعمش وسفيان الثوري يفعلون مثل هذا. قال العلائي: فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقا وشرها. قال العراقي: وهو قادح فيمن تعمد فعله، وقال شيخ الإسلام: لا شك أنه جرح، وإن وصف به الثوري والأعمش فلا اعتذار... " [214] . قال الخطيب: " التدليس للحديث مكروه عند أهل العلم. وقد عظم بعضهم الشأن في ذمه، وتبجح بعضهم بالبراءة منه " [215] . ثم روي عن شعبة بن الحجاج قوله: " التدليس أخو الكذب " وعنه: " التدليس في الحديث أشد من الزنا ". وعنه: " لأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس ". وعن أبي أسامة: " خرب الله بيوت المدلسين، ما هم عندي إلا كذابون ". وعن ابن المبارك: " لأن نخر من السماء أحب إلي من أن ندلس حديثا ". وعن وكيع: " نحن لا نستحل التدليس في الثياب فكيف في الحديث؟! ". فأذن يسقط هذا الحديث بهذا السند الذي اتفقوا في الرواية به، فلا حاجة إلي النظر في حال من قبل الأعمش من الرواة. لكن مع ذلك نلاحظ أن الرواي عن الأعمش عند البخاري وأحمد - في أحد طرقهما - وعند مسلم والنسائي هو " أبو معاوية ". وهذا الرجل أيضا من المدلسين: قال السيوطي: " فائدة: أردت أن أسرد أسماء من رمي ببدعة ممن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما: وهم: إبراهيم بن طهمان، أيوب بن عائذ الطائي، ذر بن عبد الله المرهبي، شبابة بن سوار، عبد الحميد بن

عبد الرحمن... محمد بن حازم أبو معاوية الضرير، ورقاء بن عمر اليشكري... هؤلاء رموا بالإرجاء، وهو تأخير القول في الحكم علي مرتكب الكبائر [ صفحه 146] بالنار... " [216] . وذكر ابن حجر عن غير واحد أنه " كان مرجئا خبيثا، وأنه كان يدعو إليه " [217] . والراوي عن " الأعمش " عند ابن ماجة وأحمد في طريقه الآخر هو وكيع بن الجراح، وفيه: أنه كان يشرب المسكر، وكان ملازما له " [218] . ثم إن الرواي عن أبي معاوية في أحد طرق البخاري هو: حفص بن غياث، وهو أيضا من المدلسين [219] . مضافا إلي أنه كان قاضي الكوفة من قبل هارون، وقد ذكروا عن أحمد أنه: " كان وكيع صديقا لحفص بن غياث، فلما ولي القضاء هجره " [220] . أما الحديث عن عروة بن الزبير: فإن عروة بن الزبير ولد في خلافة عمر، فالحديث مرسل، ولا بد أنه يرويه عن عائشة. وكان عروة من المشهورين بالبغض لأمير المؤمنين عليه السلام - كما عرفت من خبره مع الزهري، والخبر عن ابنه - حتي إنه حضر يوم الجمل علي صغر سنه [221] . وقد كان هو والزهري يضعان الحديث في تنقيص الإمام والزهراء الطاهرة عليهما السلام، فقد روي الهيثمي عنه حديثا - وصححه - في فضل زينب بنت رسول الله [صلي الله عليه وآله]، جاء فيه أنه كان يقول: " هي خير بناتي ". قال: " فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إليه فقال:ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص حق فاطمة؟! فقال: لا أحدث به أبدا " [222] . والراوي عنه ولده " هشام " في رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة... وهو

أيضا من المدلسين، فقد قالوا: " كان ينسب إلي أبيه ما كان يسمعه من غيره. وقد ذكروا أن مالكا كان لا يرضاه، قال ابن خراش: بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه [ صفحه 147] لأهل العراق. قدم الكوفة ثلاث مرات قدمة كان يقول: حدثني أبي قال: سمعت عائشة، وقدم الثانية فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقدم الثالثة فكان يقول: أبي عن عائشة " [223] وهذا الحديث من تلك الأحاديث. وأما الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: فإن الراوي " عن عبيد الله " عند البخاري ومسلم والنسائي هو " موسي بن أبي عائشة "، وقد قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي [224] يقول: " تريبني رواية موسي بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله في مرض النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم " [225] . وعند أبي داود وأحمد، هو: الزهري، لكن عند الأول يرويه عن عبيد الله، عن عبد الله بن زمعة. والزهري من قد عرفته سابقا. هذا مضافا إلي ما في عبيد الله بن عبد الله نفسه... فقد روي ابن سعد عن مالك بن أنس قال: " جاء علي بن حسين بن علي بن أبي طالب إلي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يسأله عن بعض الشئ!! وأصحابه عنده وهو يصلي، فجلس حتي فرغ من صلاته، ثم أقبل عليه عبيد الله. فقال أصحابه: امتع الله بك، جاءك هذا الرجل وهو ابن ابنة رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وفي موضعه، يسألك عن بعض الشئ، فلو أقبلت عليه فقضيت حاجته، ثم أقبلت علي ما أنت فيه! فقال عبيد الله لهم: هيهات، لا بد لمن

طلب هذا الشأن من أن يتعني " [226] .

حديث عائشة عن مسروق بن الأجدع

وفيه: 1 - " أبو وائل " وهو " شقيق ابن سلمة " يرويه عن " مسروق "، وقد قال عاصم بن [ صفحه 148] بهدلة: " قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك: علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلي ثم صار عثمان "!! [227] 2 - " نعيم بن أبي هند " يرويه عن " أبي وائل " عند النسائي وأحمد بن حنبل. و " نعيم " قد عرفته سابقا. [أنظر: بحث حديث سالم بن عبيد]. ثم إن في أحد طريقي أحمد عن " نعيم " المذكور: " شبابة بن سوار "، وقد ذكروا في ترجمته أنه كان يري الإرجاء ويدعو إليه، فتركه أحمد وكان يحمل عليه. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه [228] ، وقد أورده السيوطي في القائمة المذكورة.. [أنظر: بحث حديث الأسود عن عائشة] وحكي ابنه في ترجمته ما يدل علي بغضه لأهل بيت النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم [229] . هذا، ويبقي الكلام في عائشة نفسها... فقد وجدناها تريد كل شأن وفضيلة لنفسها وأبيها ومن تحب من قرابتها وذويها.. فكانت إذا رأت النبي صلي الله عليه وآله يلاقي المحبة من إحدي زوجاته ويمكث عندها ثارت عليها... كما فعلت مع زينب بنت جحش، إذ تواطأت مع حفصة أن أيتهما دخل عليها النبي صلي الله عليه وآله فلتقل: " إني لأجد منك ريح مغافير، حتي يمتنع أن يمكث عند زينب ويشرب عندها عسلا " [230] . وإذا رأته يذكر خديجة عليها السلام بخير ويثني عليها، قالت: " ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق؟! قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا

منها " [231] . وإذا رأته مقدما علي الزواج من امرأة حالت دون ذلك بالكذب والخيانة، فقد حدثت أنه صلي الله عليه وآله أرسلها لتطلع علي امرأة من كلب قد خطبها، فقال لعائشة: " كيف رأيت؟ [ صفحه 149] قالت: ما رأيت طائلا! فقال: لقد رأيت خالا بخدها اقشعر كل شعرة منك علي حدة..فقالت: ما دونك من سر " [232] . ولقد ارتكبت ذلك حتي بتوهم زواجه صلي الله عليه وآله، فقد ذكرت: أن عثمان جاء النبي [صلي الله عليه وآله] في نحو الظهيرة، قالت: " فظننته أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة علي أن أصغيت إليه " [233] . أما بالنسبة إلي من تكرهه.. فكانت حربا شعواء من ذلك مواقفها من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام... فقد " جاء رجل فوقع في علي وعمار رضي الله تعالي عنهما عند عائشة، فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئا. وأما عمار فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يقول: لا يخير بين اثنين إلا اختار أرشدهما " [234] وكانت تقول: " قبض رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم بين سحري ونحري " [235] . وعندما يخرج [صلي الله عليه وآله] إلي الصلاة - وهو يتهادي بين رجلين - تقول عائشة: " خرج يتهادي بين رجلين أحدهما العباس " فلا تذكر الآخر، فيقول ابن عباس: " هو علي، ولكن عائشة لا تقدر أن تذكره بخير " [236] . فإذا عرفناها تبغض عليا إلي حد لا تقدر أن تذكره بخير، ولا تطيب نفسها به... وتحاول إبعاده عن رسول الله صلي الله عليه وآله... وتدعي لأبيها ولنفسها ما لا أصل له... بل لقد حدثت

أم سلمة بالأمر الواقع فقالت: " والذي أحلف به، إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، قالت: عدنا رسول الله [صلي الله عليه وآله] غداة بعد غداة فكان يقول: جاء علي؟!! - مرارا - قالت: أظنه كان بعثه في حاجة. قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب، فكنت أدناهم إلي الباب، [ صفحه 150] فأكب عليه فجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله " [237] . وإذا عرفنا هذا كله - وهو قليل من كثير - أيقنا أن خبرها في أن صلاة أبيها كانت بأمر النبي صلي الله عليه وآله، وأنه صلي الله عليه وآله خرج فصلي خلفه - كما في بعض الأخبار عنها - هو من هذا القبيل. ومما يؤكد ذلك اختلاف النقل عنها في القضية، وهي واحدة.

هل صلي أبوبكر بالناس

إن صلاة أبي بكر المعنية هذه هي المسائل التي تحيط بها الشكوك من جميع النواحي. وما روي في هذا الأمر يشير، بما لا يخفي علي صاحب بصيرة، إلي أن أبا بكر لم يصل تلك الصلاة، وذلك لأنه لم يكن موجودا بالمدينة، ولم يأت إلا بعد أن بلغه خبر وفاة النبي صلي الله عليه وآله. يقول ابن الأثير: " ولما توفي [صلي الله عليه وآله] كان أبو بكر بمنزله بالسنح وعمر حاضر، فلما توفي [صلي الله عليه وآله] قام عمر فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم توفي! وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلي ربه كما ذهب موسي بن عمران. ليرجعن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، زعموا أنه مات.

وأقبل أبو بكر، وعمر يكلم الناس، فدخل علي رسول الله صلي الله عليه[وآله] وسلم، وهو مسجي في ناحية البيت، فكشف عن وجهه... " [238] . كما روي الطبري: " توفي رسول الله [صلي الله عليه وآله]، وأبو بكر بالسنح وعمر حاضر " [239] . وروي أيضا: " وأقبل أبو بكر حتي نزل علي باب المسجد حين بلغه الخبر [خبر وفاة النبي صلي الله عليه وآله] وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلي شئ حتي دخل علي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، فأقبل حتي كشف وجهه " [240] . وهكذا يتضح أن أبا بكر يكن بالمدينة عندما توفي النبي صلي الله عليه وآله، ولم يأت إلا بعد أن [ صفحه 151] بلغه خبر الوفاة. وقد ذكر أن أبا بكر صلي الناس صلاة الصبح من يوم الاثنين، وتوفي النبي صلي الله عليه وآله عند ارتفاع الضحي. ولم يكن أبو بكر بالمدينة حيث كان في بيته بالسنح التي تبعد ستة عشر فرسخا عن المدينة. ولكن السؤال الأهم هو: متي ذهب أبو بكر إلي السنح؟ يقول الطبري: " لما قبض النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم كان أبو بكر غائبا،فجاء بعد ثلاث " [241] . إذا، فغياب أبي بكر عند وفاة النبي صلي الله عليه وآله من المسلمات التي لا تقبل الانكار، علي أن أبا بكر غاب " ثلاثا ". وهذه الثلاث لا يمكن أن يكون تمييزها " أشهر " أو " أيام "، لأن التمييز هنا يجب أن يكون مؤنثا، إذ العدد " ثلاث " وليس " ثلاثة ".. ولذا فإما أن يكون التمييز ثلاث سنوات أو ثلاث ليال. وبالطبع لم يكن أبو بكر قد غاب ثلاث

سنوات، إذا فقد غاب ثلاث ليال، علي أن حساب الوقت بالساعات لم يكن معروفا في ذلك الوقت. وعلي هذا فقد غاب أبو بكر ثلاث ليال ولم يأت إلا بعد بلوغه خبر وفاة النبي صلي الله عليه وآله، أي لم ير أبو بكر النبي صلي الله عليه وآله منذ ثلاث ليال إلا بعد وفاته عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.. فكيف يكون صلي بالناس صلاة الصبح؟! ولو كان أبو بكر قد صلي بالناس حقيقة، فتكون صلاته هذه قبل ثلاث ليال من وفاة النبي صلي الله عليه وآله. والسؤال الطبيعي هو: من الذي كان يصلي بالناس في مدة غياب أبي بكر؟ فإن كان النبي صلي الله عليه وآله هو الذي صلي بالناس، فيكون النبي صلي الله عليه وآله بصلاته هذه قد عزل أبا بكر، لو كان قد خلفه علي الناس بالصلاة. ولو كان يصلي في هذه المدة أحد آخر غير النبي صلي الله عليه وآله فإنه يكون هو الخليفة بعد النبي صلي الله عليه وآله، لو كانت الخلافة بالصلاة.. هذا إن كان أبو بكر بالسنح منذ ثلاث ليال. وأما إن لم يكن بالسنح فهو أيضا لم يكن بالمدينة ولم يصل بالناس، ذلك لأنه كان لأبي بكر غيبة أخري عن المدينة. إذ أنه كان قد أمر مع عمر وكبار الصحابة بالانضواء [ صفحه 152] تحت لواء أسامة بن زيد الذي ولاه النبي صلي الله عليه وآله علي جيش، وأمره بالسير لغزو الروم بمؤتة، وقد خرج أسامة بجيشه قبل يومين من وفاة النبي صلي الله عليه وآله إلي منطقة الجرف في خارج المدينة، وضرب معسكره هناك. وكان أبو بكر وكبار الصحابة جنودا عسكروا جميعهم بالجرف. يقول ابن الأثير في تاريخه

" الكامل ": " في محرم من هذه السنة ضرب صلي الله عليه [وآله] وسلم بعثا إلي الشام، وأميرهم أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين... وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، منهم أبو بكر وعمر... وخرج أسامة فضرب بالجرف معسكرا، وتمهل الناس. وثقل رسول الله،ولم يشغله شدة مرضه عن إنفاذ أمر الله " [242] . [ صفحه 153]

اجماع الصحابة علي أبي بكر

اشاره

اعتبار أهل السنة لهذا الدليل هو وليد اعتبار الدليل الأول، فهم يقولون إنه لما علم الصحابة باستخلاف النبي صلي الله عليه وآله لأبي بكر في الصلاة - وهي الإمامة الصغري - فقد فهموا من ذلك إمامة أبي بكر الكبري، فاجتمعوا عليه واختاروه خليفة لهم، يفزعون إليه بعد النبي صلي الله عليه وآله، ولهذا تمت البيعة منهم لأبي بكر دون اختلاف أو اختصام. ولما كان الاجماع حجة فقد صحت خلافته، وصارت بذلك حجة علي جميع المسلمين في بقاع الأرض. يقول المناوي " قال أصحابنا في الأصول: يجوز أن يجمع عن قياس، كإمامة أبي بكر هنا، فإن الصحب أجمعوا علي خلافته - وهي الإمامة العظمي - ومستندهم القياس علي الإمامة الصغري، وهي الصلاة بالناس بتعيين المصطفي " [243] . وهكذا صاغ القوم دليل الاجماع إثباتا لخلافة أبي بكر الصديق، كما صاغوا قبله دليل الاستخلاف في الصلاة. لقد لجا القوم إلي القول بالإجماع، فإلي أي لجأ لجأوا وعلي أي دليل اعتمدوا؟ استبدلوا والله القياس بالنص، والظن باليقين. وصاغوا من ذلك أركانا شيدوا عليها خلافة [ صفحه 154] الصديق، ولعمر الله لهو بنيان أسس غير أساسه، واعتقاد لا مستند له إلا القياس والظن. إن القول بالإجماع في خلافة أبي بكر الصديق لا يرضي

به المحققون والواقفون علي حوادث السقيفة، ولا يعيرون هذا القول اهتماما. إن القول بالإجماع هنا قول لا يثير إلا التعجب والحيرة ممن يقول بذلك، لا سيما عندما نعلم أن القائلين بالإجماع هذا هم من أصحاب الأسماء العلمية كالمناوي وابن تيمية المعروف بشيخ الإسلام وغيرهما، فمنهم يتعجب الإنسان بحق، ويقف أمدا يتفكر في كلامهم وقولهم في الاجماع، ويسعي بكل جهد ليجد مبررا لإصرار هؤلاء علي القول بالإجماع في خلافة الصديق، ويبذل ما لديه من أعذار لكي تحتفظ تلك الأسماء بمقامها في المحافل العلمية، ولكن دون أن يجد لذلك سبيلا فيعلم أنه هو التسرع منهم في إبداء الرأي دون النظر في مصادر الخبر، ودون التحقيق فيما يقولون. وربما فاحت من هذا الرأي الرائحة الأموية التي أزكمت الأنوف ردحا من الزمان، فاستحال عليها أن تتنسم العطر النبوي في علي عليه السلام وأهل بيته الكرام. يقول المناوي: ".. فإن الصحابة أجمعوا علي خلافته " [244] ، أي خلافة الصديق. ويقول ابن تيمية: " كل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن مخاصمة في أمامة الثلاثة " [245] . ولكن، كيف هذا؟! فالخصام والنزاع الذي نشب في يوم السقيفة لم يكن له سبب سوي الخلافة والإمامة، وهو خلاف خصام من الظهور بمكان لا يخفي علي طلاب علم التاريخ، فكيف بشيوخه؟! ونحن عندما نري كتب الأخبار والسير تعج بالإشارات إلي الاختلاف والخصام في مسألة الخلافة، نشعر بالخجل من قوله هؤلاء العلماء! إن الأنصار عندما سبقوا المهاجرين إلي السقيفة، لم يكن عزمهم أداء الواجب [ صفحه 155] لأبي بكر بالبيعة له، بل يسارعوا إلي هناك إلا لتنصيب سيدهم ورئيسهم سعد بن عبادة خليفة لرسول الله، فالأنصار لم تكونوا

يرون لأبي بكر حقا في أمر الخلافة، فكيف أجمعوا علي بيعته؟! روي: " أن عمر الخطاب لما سمع بخبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة أتي منزل النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إلي. فأرسل إليه: إني مشتغل، فقال عمر: قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه فأعمله الخبر...قال عمر: فأتيناهم وكنت قد زورت كلاما أقوله لهم " [246] . فلو كانت خلافة الصديق قامت علي الاجماع فهذا يفيد أن حقه في الخلافة أمر قد سملت به الجموع من قبل وسكنت له فيما مضي النفوس، ولهذا لم يكن عمر مضطرا لأن يزور كلاما ليقوله للأنصار في أمر الخلافة، وإلا فلماذا قول الزور إذا؟! إن ما اضطر عمر لتزوير الكلام هو ما علمه من مخالفة الأنصار لهم في أمر الخلافة، وهو واضح. فقد روي: أن الحباب بن المنذر - وهو من كبار الأنصار - كان لهم عندما اجتمعوا في السقيفة: " يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ علي خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، وأنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنما ينظر الناس ما تصنعون. ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم،فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير " [247] . ولما جاء أبو بكر وعمر إلي السقيفة، احتجا علي الأنصار بأدلة تجعل الاجماع علي أبي بكر ليس أولي من الاجماع علي علي عليه السلام، بل تجعل الاجماع علي زوج البتول عليه السلام علي قمة الأولوية. لماذا؟ لأن أبا بكر وعمر احتجا علي الأنصار بقرابتهم من رسول الله، إذ أنهما عشيرته. [ صفحه 156] وعترته! إذا،

فبأي شئ كانت لأبي بكر هذه الأولوية، فيكون بها الاجماع؟ ومن له الحق في الاحتجاج بالقرابة من النبي النبي صلي الله عليه وآله؟ ومن هم عترته؟ ولما سمع الأنصار مقالة أبي بكر، قال الحباب: " يا معشر الأنصار، املكوا علي أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين. أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة [أي فتية]. فقال عمر: إذا، ليقتلك الله!فقال [الجباب]: بل إياك يقتل " [248] . فاقرأ أيها القارئ وتدبر ما ذكرنا، فأين شاهد الاجماع علي خلافة أبي بكر؟ وإن لم يكن في هذا الكلام شئ ينفي الاجماع علي خلافة الصديق سوي قول الحباب: " فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور " لكان هذا القول وحده مفحما لمن يدعي إجماع المسلمين علي الخليفة الأول. ثم إن من أشهر المخالفين لخلافة أبي بكر هو الإمام علي عليه السلام وزوجته البتول بنت الرسول النبي صلي الله عليه وآله. وهذا مما لا يخفي إلا علي مكابر ينكر الواقع وحقائق الأشياء، بل لقد خالف أبا بكر في خلافته كل بني هاشم وغيرهم من الصحابة. فهذا هو البخاري يشهد بذلك، إذ يقول عن الزهراء الطاهرة عليها السلام: " فما زالت غضبي عليها - أي علي أبي بكر وعمر - حتي توفيت. ولم يبايع علي ولا أحد من بني هاشم ستة أشهر حتي توفيت فاطمة [عليها السلام] " [249] . ولا أدري والله! أي إجماع ينعقد ولم يكن

فيه هؤلاء،؟! بل ويأبي الاجماع انعقادا وليس فيه علي، ولم تؤيده فاطمة بنت النبي عليها السلام. وكيف لإجماع - لو فرض أنه منعقد [ صفحه 157] بدونهم - أن يكون حجة علي غيرهم، فضلا أن يحتج به عليهم؟!، وأي دين يستقيم دون علي أبنائه، ودون أن يكونوا هم مصادره وهم موارده؟! ولعمري، فإن عمر بن الخطاب المؤيد: الأول لأبي بكر والمهندس الحاذق لخلافة فلتة كفلتة الجاهلية، وقي الله المسلمين شرها "، قوله: " كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقي شرها، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له... "إلي أن قال: " وإنه قد كان من خبرنا حين توفي نبية (ص) أن الأنصار خالفونا " [250] . ونحن بعد إثبات مخالفة الآخرين، إذا الحجة بهم كاملة، ودعوي الاجماع بدونهم باطلة. ولكن لا بأس بإيراد ذكرهم، فلعل الغافلين عن هذا الأمر أن يعوه. بعد أن وصل خبر خلافة أبي بكر إلي بني هاشم اعتصموا في بيت علي عليه السلام، رفضا لخلافة ابن أبي قحافة، فاعتصم معهم: " المقداد بن عمرو، وخالد بن سعيد، وأبو ذر الغفاري، والبراء بن عازب، وابن التيهان، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، وحذيفة بن اليمان " [251] ، إضافة إلي: " الزبير بن العوام، وطلحة "، [252] فلقد كانا من المخالفين لبيعة الصديق ومن المتخلفين عنها. ولهذا، توعد عمر المتخلفين في بيت الزهراء عليها السلام، وقال: " والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها علي فيها! فقيل له: إن فيها فاطمة! فقال وإن!!! وأرسل قنفذا مولي أبي بكر إلي علي [عليه السلام] ليدعوه. فقال:

يدعوك خليفة رسول الله. [ صفحه 158] فقال علي (ع): لسريع ما كذبتم رسول الله! فلما عاد قنفذ إلي أبي بكر وأخبره بقول علي (ع) قال عمر لأبي بكر: لا تهمل هذا المتخلف عنك في البيعة. فأرسل قنفذا إلي علي (ع) مرة أخري، فقال لعلي [عليه السلام]: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع. فقال علي [عليه السلام]: سبحان الله، لقد ادعي ما ليس له! فقام عمر ومعه جماعة وأتوا بيت فاطمة ودقوا الباب، فلما سمعت [فاطمة] أصواتهم نادت بأعلي صوتها: " يا أبت! يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن أبي الخطاب!! ". ثم أخرجوا عليا (ع) ومضوا به إلي أبي بكر.. فقال له: بايع! فقال علي [عليه السلام]: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولي بالبيعة لي. فقيل له: لست متروكا حتي تبايع. فقال: إن أنا لم أفعل فم؟ قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. فقال: إذن والله تقتلون عبد الله وأخا رسول الله. فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أهو رسول الله فلا! وأبو بكر ساكت.. فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال: لا أكرهه علي شئ، ما كانت فاطمة إلي جنبه؟! فلحق علي [عليه السلام] بقبر رسول الله يصيح وينادي:: " (ابن أم! إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) "!! [253] فهل بعد هذا يستطع أحد أن يعتمد قول المناوي وابن تيمية وغيرهما أو يذهب مذهبهم في ادعاء الاجماع في خلافة أبي بكر الصديق؟! أوليس قولهم هذا مثيرا للعجب حقا؟! وبأي شئ نفسره غير اتباع السياسة والتعصب والتقليد الذي يخفي عن الأبصار. [ صفحه 159] الحقيقة ويعمي عليها؟! إن مخالفة الإمام علي عليه السلام وبني

هاشم وعدد كبير من الصحابة كان أمرا معلوما للجميع ومشهورا بين الناس في ذلك الوقت، إذ أن القوم قد أخذوا الإمام عنفا للبيعة. وفي ذلك كتب إليه معاوية خطابا يذمه بذلك، فرد عليه الإمام قائلا: " وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتي أبايع. ولعمر الله، لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما علي المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولا مرتابا بيقينه " [254] . وبهذا نعلم أن القول بالإجماع علي خلافة الصديق أمر لم يكن ليطوف بخيال القوم في ذلك الوقت، لأنهم شاهدوا بالإجماع أن الإمام عليا عليه السلام أخذ بالنعف، وكان يقاد لبيعة أبي بكر كما يقاد الجمل المخشوش، كما يقول ابن آكلة الأكباد وأصبح يذم الإمام عليه السلام بذلك. وبهذا يرسل مخالفة الإمام لأبي بكر إرسال المسلمات، مبطلا بذلك دعوي الاجماع في خلافة ابن أبي قحافة. فالقول بإجماع الناس علي خلافة أبي بكر الصديق قول التاريخ ولا يسنده الدليل، وإنما هو قول لا يعدو أن يكون استهبالا للعقول وتحريفا للكلام وليا لأطراف الحقائق، وإضلالا لبسطاء الناس. فما وقع في التاريخ، وما حدث في أركان السقيفة، وما حبلت به كتب الأخبار واليسر يصرح بخلاف ادعاء القوم الاجماع في خلافة أبي بكر. وأنا أوجه كلامي هذا إلي أولئك الشباب الأحرار من عشاق الحقيقة والبحث والتحقيق بعيدا عن العصبية والتقليد، وأدعوهم أن ينظروا بعقولهم إلي هذا الأمر ويبحثوه، فهل كان هنالك من إجماع؟! وأما أولئك ألذين شاخوا علي ثدي التقليد، وتوشحوا بقلائد العصيبة فأنكروا العقل والجانب الاختياري في الإنسان وأماتوا فيه الاحساس بالواقع والقدر المعقول من الحرية، وجعلوه يهرم علي أوهام متوارثة.. فلا

كلام لي معهم، فدعهم في تعصبهم وتقليدهم وجبرهم يعمهون، إذ أنه ليس في وسعي أن أسمع الصم.. (إنك تهدي من [ صفحه 160] أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) النبي صلي الله عليه وآله.

دلالة الحديث علي صلاة أبي بكر

لقد علمت أن أهم روايات الحديث في روايات كل الصحاح ومسند أحمد قد سقطت عن الاعتبار من حيث السند، إذ وضح السند، إذ وضح ضعف أهم تلك الروايات المخرجة فيها. وأما متن الحديث، من حيث الدلالة فقد ساورته إشكالات عديدة تمنع الاحتجاج به كدليل علي مسألة من أهم المسائل الأصولية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بمصير الإنسان الأخروي، ألا وهي مسألة الإمامة والخلافة من بعد النبي عليه وعلي آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. إذ لا شك في أن طاعة أولي الأمر من الواجبات التي ألزم بها الإنسان. ولمعرفتهم لا بد من إقامة أدلة تنفي الظنون وتثبت اليقين في هذه المعرفة، لأنه لو قادتنا الأدلة الظنية إلي غيرهم، معتمدين علي الظن في إمامتهم، فأداء واجب الطاعة لهم لا يجزي، لا سيما إذا توفرت الأدلة الأقوي علي إمامة من يخالفهم. إشكال علي المتن: فإشكالات هذا الحديث، هي إشكالات نضح بها وعاء الاعتقاد بخلافة الصديق، لا فأبعدت قصة الحديث عن مسرح الواقع الحقيقة.. وأرجو أن لا يتسرع مؤيد والخلافة البكرية العمرية بنبذ ما رأينا في هذا الأمر وما أثبتنا في هذه السطور حوله من قول، قبل التدبر فيما قلنا وقبل تعقل ما ذهبنا إليه، إذ أن هذا أقل الإنصاف وأدني العدل. فعلاوة علي دلالة الحديث الظنية - إذ أنه لا يعدو أن يكون قياسا قيست فيه الخلافة العامة علي الخلافة الصغري، وهي إمامة الصلاة، مما لا يوجب القطع باليقين بهذا - فإننا شاهدنا مخالفة

أجلة الصحابة وإعراضهم عن بيعة أبي بكر الصديق. وقد مر ذكرهم بأسمائهم، فأعد البصر كرتين ينقلب إليك مستيقنا من مخالفتهم للصديق ورفضهم لبيعته. فهذا إشكال واضح، إذ كيف لم يفهم هؤلاء الصحابة الأجلاء من تلك الإمامة الصغري - لو سلمنا بحدوثها يومئذ - دلالتها علي الإمامة الكبري أو الخلافة؟! [ صفحه 161] وكيف سهل علي النووي أدراك هذا الأمر وإثبات خلافة الصديق به علي رغم غيابه عن مسرح الحوادث في ذلك الوقت، ولم يسهل علي هؤلاء الصحابة الذين خالفوا أبا بكر ولم يبايعوه، وهم شهود الحوادث في زمانهم؟؟! فانظر أبي سعيد الخدري، قال: " سمعت البراء بن عازب يقول: فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم معتجرون بالأزر الصنانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده، فمسحوها علي يدي أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبي. فأنكرت عقلي، وخرجت اشتد حتي انتهيت إلي بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة! فقال العباس: تربت أيديكم إلي آخر الدهر " [255] . فدلالة صلاة أبي بكر التي حكمتها عائشة أم المؤمنين علي الخلافة الكبري أمر لم يطف بأذهان الصحابة، ولم يفهموه من صلاة أبي بكر. والبيعة التي تمت من البعض بعد الخلاف الحاد وسل السيوف لم يكن سببها قياس الخلافة الكبري علي إمامة الصلاة أو الخلافة والخصام - بالبيعة للصديق، غير أن بعض الصحابة خالفوه إلي آخر أيامهم. وهل كان لم يبايع أبا بكر قط، ولم يكن يري له إمامة صغري فضلا عن أن يفهم منها الإمامة الكبري، إذ لم يكن يجتمع مع الشيخين في

عيد أو جمعة، وكان لا يفيض بإفاضتها [256] . يقول ابن الأثير: " ثم تحول سعد بن عبادة إلي داره فيق أياما، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا.. [ صفحه 162] فقال: لا والله، حتي أرميكم بما في كنانتي وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني. وإن اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم، حتي أعرض علي ربي. فقال عمر: لا تدعه حتي يبايع. فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبي، ولا يبايعكم حتي يقتل، وليس بمقتول حتي يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته " [257] . إن ما لم يفهمه المخالفون لأبي بكر من الصحابة - وهم شهود عيان في عصرهم، وأقرب عهدا ومكانا من تلك الحوادث، وأفضل من يدرك مفهوم الإمامة الصغري -. كيف يدركه دونهم من ابتعد زمانه عن زمان النبي صلي الله عليه وآله بأكثر من ألف عام؟! يقول ابن تيمية: " الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد لكل ولي أمر. وليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة [يعني حياة النبي صلي الله عليه وآله] علي بعض الأمة يصلح أن يستخلف بعد الموت [أي بعد موت النبي صلي الله عليه وآله] فإن النبي [صلي الله عليه وآله] استخلف غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، كما استعمل ابن أم مكتوم الأعمي في حياته، وهو لا يصلح للخلافة بعد موته [صلي الله عليه وآله]، وكذلك بشير بن المنذر وغيره " [258] . وعلي هذا فصلاحية أبي بكر للاستخلاف في الصلاة لا دلالة فيها علي صلاحيته للخلافة بعد النبي صلي الله عليه وآله لإدارة شؤون الناس السياسية والاقتصادية... وغيرها، فلا تلازم بين الخلافتين. ولهذا لم يفهم

الإمام علي هذه الملازمة، بل صرح بأن أبا بكر قد تقمص ما لم له بقميص. يقول عليه السلام: " لقد تقمصها [يعني الخلافة] ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل، ولا يرقي إلي الطير " [259] . [ صفحه 163] إذا، فهذا رأي الإمام علي في خلافة الصديق، أمر لم يكن للصديق بل إن الصديق يعلم أن عليا عليه السلام أساس رصه والقطب الذي عليه يدور، فأين قول من حبه إيمان وبغضه نفاق من قياسات النووي والفخر الرازي وغيرهما؟!! فإما أن نتهم النووي ورفاقه بمجانبة الحق في ما ذهبوا إليه تأييدا لخلافة الصديق. ولكن بأي شئ استدل أبو بكر علي حقه في الخلافة؟ سنعلم ذلك مما قاله أبو بكر عند احتجاجه علي الأنصار في السقيفة. يقول أبو بكر: "... وخص الأولين من قومه بتصديقه، فهم أول من عبد الله في الأرض، وهم أولياؤه وعترته وأحق الناس بالأمر من بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ". فأبو بكر لم يتطرق إلي مسافة الصلاة وإمامة الناس باعتبار دليلا علي الخلافة، وإنما كان يري استحقاق الخلافة بأحد أمرين أو بالأمرين معا. أولا: تستحق الخلافة بالتصديق السابق للنبي صلي الله عليه وآله. ثانيا: تستحق الخلافة بالقرابة من النبي صلي الله عليه وآله. وهي حق للعترة كما جاء في صريح قوله، إذا أنهم أحق الناس بالأمر من بعده ولا ينازعهم فيه إلا ظالم. ولكن هذا استدلال احتج به أبو بكر علي نفسه، فمن ناحية التصديق والسبق بالإيمان فعلي أسبق منه في تصديق النبي صلي الله عليه وآله، وكان يخاطب النبي صلي الله عليه وآله بقوله: " يا نبي الله " وعمره اثنتا

عشرة سنة - انظر حديث الدار يوم الإنذار - [260] . وإما من ناحية القرابة، فلو كانت القرابة هي مدار استحقاق الأمر بعد النبي صلي الله عليه وآله فكلما اشتدت القرابة من النبي صلي الله عليه وآله الاستحقاق لهذا الأمر.. إذا، فعلي أشد قرابة من النبي صلي الله عليه وآله، فهو ابن عمه، وصهره، فيكون الإمام عليه السلام قد جمع القرابتين: قرابة الرحم وقرابة المصاهرة. وعلي هذا فعلي عليه السلام أقرب من أبي بكر، فكيف [ صفحه 164] استحقها أبو بكر بذلك دون الإمام عليه السلام؟! غير أن عمر ذهب أبعد من هذا، فصرح بأن الخلافة إرث لا يحق لأحد أن ينازعهم فيه - كما مر عليك -. إذا، فأمر لا يستحق بإمامة الناس في الصلاة، كما يقال، ولا هذه الصلاة من الأدلة علي ذلك، لأن الميراث لا يؤخذ بإمامة الناس في الصلاة، ولا يثبت بها، وهي ليست من شروطه كما هو معروف. علي أن أبا بكر الصديق قد وضع حدا لترهات القول باستحقاقه الخلافة بسبب إمامته في الصلاة بأمر النبي صلي الله عليه وآله، فأبو بكر يقول: " إن بيعتي فلتة، وقي الله شرها " [261] . إذا، فما هو الأمر الذي يكون فلتة؟! أليس هو الأمر الذي يتم من غير روية ولا تدبر؟! أليس هو الأمر المبتدع المجازف فيه؟! فإذا كانت خلافة الصديق فلتة وقي الله شرها، فلا يمكن أن تكون صلاته بالناس دليلا وإشارة إلي خلافته، لأن هذا الدليل وتلك الإشارة إلي خلافته تنفي أن تكون خلافته فلتة كما قال، لأن الدليل والإشارة علي شئ يهيئ النفوس ويعدها للتعرف علي ذلك الشئ واستقباله، فتنتبه العقول إليه لتهيئ المقدمات، فلا تكون فلتة فيخشي

منها الفتنة والشر، فكيف يدعي أن صلاة الصديق بالناس تدل علي استحقاقه الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وآله!! وهذا دليل جسمه فيما بعد المناوي. النووي وغيرهما أو من سبقهما، إذا أنهم وجدوا أنفسهم قد ورثوا الاعتقاد بخلافة الصديق، وصاروا يطوون في هذا الاعتقاد طريقا ذا اتجاه واحد، فاستنبطوا هذا الدليل من حكاية لم يكن لها واقع تطابقه، لإظهار صحة ما حدث أمام المخالفين، إذا لهم يكن هذا الاعتقاد موجودا في نفوس الصحابة والخليفة الأول. فهذا هو الخليفة الثاني يدعي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يستخلف أحدا، وبهذا ينفي القياس [ صفحه 165] المزعوم من أن قصد النبي صلي الله علي وآله من أمر أبي بكر بإمامة الناس في الصلاة أنما هو لبيان كونه الخليفة من بعده، فيكون قد خلفه عليهم بذلك.. يقول ابن هشام: " فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته لم يشك المسلمون أن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم قد استخلف أبا بكر، ولكنه قال عند وفاته: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني [يعني بذلك النبي صلي الله عليه وآله]. ولهذا شك المسلمون في خلافة أبي بكر، واعترف عمر بعدم استخلاف النبي لأبي بكر الصديق. ثم إن حديث صلاة أبي بكر هذا قد روته عائشة بنت محمد صلي الله عليه وآله قد خالفت أبا بكر وخلافته، وذهبت وهي عليه غاضبة ساخطة! فلو كان ما تنفرد بروايته عائشة بنت أبي بكر وحدها يصبح حجة علي الناس، فلماذا لا تكون معارضة الزهراء بنت محمد صلي الله عليه وآله لما روته حجة علي الناس؟! قالت البتول عاليها السلام في أمر الخلافة "

ويحهم! أني زحزحوها [تعني الخلافة] عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين؟! الطبن بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعه، وتنمره في ذات الله. وتالله لو تكافأوا علي زمام نبذه إليه رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم لاعتقله وسار به سيرا سجحا لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه، ولا [ صفحه 166] يترنم جانباه، ولا صدرهم بطانا، ونصح لهم سرا وإعلانا، غير متحل منهم بطائل إلا بغمر الناهل وردعة سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم فاستمع، وما عشت أراك الدهر عجبا، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلي أي لجأ لجأوا؟! وبأي عروة تمسكوا، لبئس المولي ولبئس العشير، بئس للظالمين بدلا! استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسن. ن صنعا (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).. ويحهم! (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون) " [262] أجل، لو كان ما تحكيه عائشة حجة فلم لا تكون الحجة في معارضة الزهراء لما تحكيه عائشة، والنبي صلي الله عليه وآله يقول: " فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها "؟! وها هي قد غضب علي هذه الخلافة التي أثبتوها بما حكت عائشة، فكيف لا يكون هذا الغضب النبوي دليلا علي بطلان ما أحكمته أم المؤمنين، لا سيما وقد خالف الصديق معظم الصحابة في مسألة الخلافة - وقد عرفت ذلك -؟! علي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يترك لأم المؤمنين

عائشة حجة في قول تحتج بها علي من يخالفها، ولا سيما علي فاطمة عليها السلام. لقد روي البخاري: " أن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم قام خطيبا علي منبره، فأشار نحو مسكن عائشة وقال: ها هنا الفتنة، ها هنا الفتنة، حيث يطلع قرن الشيطان "! [263] . فماذا نفهم من هذا الحديث الواضح الضريح الذي لا يقبل التأويل بغير ما حملته ألفاظه من معان ظاهرة يفهمها البدوي والحضري، وهذا وحده يكفي لإسقاط حديث أم المؤمنين عن صلاة أبي بكر بالناس. غير أن مسلما أورد هذا الحديث بألفاظ شدة، يقول: " خرج رسول الله [صلي الله عليه وآله] [ صفحه 167] من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا، حيث يطلع قرن الشيطان "! [264] . وعندما نظيف حديث البخاري إلي حديث مسلم، ثم نظيف إليها قصة وادي الحوأب وتحذير النبي صلي الله عليه وآله لها أن لا تكون التي تنجها كلاب الحواب، عندما قال لها ولأم سلمة؟!: أيتكن صاحبة الجمل الأدب، تنبحها كلاب الحوأب، فتكون ناكبة عن الصراط؟! ثم ضرب علي ظهر عائشة فقال: إياك أن تكونيها يا حميراء [265] أجل.. عندما نجمع تلك الحقائق علي صعيد واحد، نعلم أن أم المؤمنين قد تصدرت فتنة وأججت نارها، رغم أنها قد منعت وحذرت من ذلك. وعندما نعلم أنه لم يكن لها إلا عدو واحد، وأثبت التاريخ أنها حاربته وقادت الناس في قتاله يوم الجمل، وعرف فيما بعد بحرب الجمل، الذي عبرت به وادي الحواب.. نعلم أن النبي صلي الله عليه وآله ما قصد بقوله مشيرا إلي مسكنها: " ها هنا الفتنة، هاهنا الفتنة! " إلا فتنة محاربتها وعداءها لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين!

أجل، فعائشة لم تحارب أحدا غير الإمام علي حتي نقول إن النبي صلي الله عليه وآله: " قصد بهذه الفتنة محاربتها لذلك الآخر. وحرب عائشة للإمام علي من أشهر حوادث التاريخ، حتي غدي بين عائشة وحربها للإمام علي دلالة التزامية لا تنفك. ثم نعرج علي القول النبي صلي الله عليه آله: " ويح عمار! تقتله الفئة الباغية " فنعلم أن عمارا قتل بسيوف عائشة ومعاوية! فهل يشك أحد في تنكبها الصراط كما حذرها النبي صلي الله عليه وآله؟! ولا مجال لادعاء الاجتهاد، لأنه قد سبق وصف النبي صلي الله عليه وآله لذلك بأنه فتنة ورأس الكفر وقرن من قرون الشيطان ولا يثاب أحد علي هذا، بل... وسبب كل ذلك هو بغض عائشة أم المؤمنين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد علمت أن نفسها لا تطيب له بخير وإن لم يكن خير فشر. بعد أن وضح ذلك يجب أن نتوقف قليلا عند حكايتها لصلاة أبيها بالناس ولا نسارع [ صفحه 168] بقبولها، إذ أنها محفوفة بما يمنع ذلك. لقد علمت عائشة أن عليا عليه السلام هو الخليفة من النبي صلي الله عليه وآله. تقول أم سلمة مذكرة عائشة لعلها أن تثوب عن حرب أمير المؤمنين:... واذكري أيضا يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله في سفر له، وكان علي يتعاهد نعل رسول الله فيخصفها، وثيابه فيغسلها، فنقب نعله فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر، وقمنا أي الحجاب، ودخلا يحدثانه فيما أرادا إلي أن قالا: يا رسول الله، إنا لا ندري أمد ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعا. فقال لهما: أما إني قد أري مكانه، ولو

فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون. فسكتا ثم خرجا، فلما خرجا جئنا إلي رسول الله، فقلت له أنت، وكنت أجرا عليه منا: يا رسول الله، من كنت مستخلفا عليهم؟ فقال: خاصف النعل. فنزلنا فرأيناه عليا.. فقلت: يا رسول الله، ما أري إلا عليا! فقال [صلي الله عليه وآله] هو ذاك. قالت عائشة: نعم، أذكر ذلك.فقالت أم سلمة: فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟! " [266] . إذا فقد كانت عائشة تعرف خليفة رسول الله صلي الله عليه وآله من بعده، ولكنها تبغضه، ولا يسعها أن تري أباها بعيدا عن هذا المقام! ومسألة عائشة في أمر الخلافة لم تكن هي مجرد اختيار الأصلح، بل كانت تسعي لأن يبقي هذا الأمر بين قومها، ولذلك لم تكن عائشة راضية عندما تولي عثمان الخلافة. فقد روي أنها لما بلغها قتله قالت: " أبعده الله! قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله! يا معشر قريش، لا يسوءنكم قتل عثمان كما ساء أحيمر ثمود قومه. أحق الناس بهذا الأمر لذو الأصبع " - [ صفحه 169] تعني طلحة -... فلما جاءت الأخبار ببيعة علي عليه السلام، قالت: " تعسوا! لا يردون الأمر فيتيم أبدا " [267] . فانظر كيف هي حريصة علي أن يبقي الأمر في قبيلتها تيم. ولو كانت عائشة حريصة علي أن يتولي هذا الأمر طلحة فهل كانت قصة صلاة أبيها أبدا، بل حرصت علي جعل الخلافة في قومها أشد الحرص، وكانت قصة صلاة أبيها بالناس من ذلك الحرص، لا سيما وأنها عليا منافسه الأول. وقد روي الطبري: " إن عائشة لما انتهت إلي سرف راجعة في طريقها في مكة لقيها عبد ابن أم كلام، وهو عبد

ابن أبي سلمة، ينسب إلي أمه.. فقالت له: مهيم؟ قال: قتلوا عثمان، فمكثوا ثمانيا. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالإجماع، فجازت بهم الأمور إلي خير حجاز: اجتمعوا علي علي بن أبي طالب. فقالت: والله، ليت أن هذه [أي السماء] انطبق علي هذه [أي الأرض]، إن تم الأمر لصاحبك، ردوني، ردوني! فارتدت إلي مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما! والله لأطلبن بدمه " [268] فانظر إلي هذا التغيير المفاجئ الذي اعتري أم المؤمنين!! فقد كانت تقول عن عثمان: (قتله ذنبه)، (أقاده الله بعمله).. وذلك لأنها كانت تظن أن الفرصة قد تهيأت لأن تعود الخلافة إلي تيم، ولما لم يحدث ما ظنت، وعادت الخلافة إلي علي عليه السلام صار عثمان عندها مظلوما ولزمتها المطالبة بدمه! فهل بعد هذا يمكن الاعتماد علي قولها إن النبي صلي الله عليه وآله عين أباها إماما للناس في [ صفحه 170] الصلاة؟! علي أن صلاة أبي بكر بالناس لا دلالة فيها علي الخلافة، كما أوضح ابن تيمية، هذا إن كان أبو بكر قد صلي بالناس. ولكن، هل صلي أبو بكر بالناس حقا؟!! يقول ابن سيد الناس: " لما كان الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدي عشرة من مهاجره، أمر رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم. فلما كان من الغد، دعا أسامة بن زيد فقال: سر إلي موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش... فلما كان يوم الأربعاء، بدا برسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وجعه، فحم وصدع. فلما أصبح يوم الخميس، عقد لأسامة لواء بيده [الشريفة]، ثم قال: اغز بسم الله وفي سبيل الله. فخرج بلوائه معقودا، فدفعه

إلي بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص سعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريس.. فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام [وكان عمر زيد سبع عشرة سنة] علي المهاجرين الأولين؟! فغضب رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب علي رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر، وحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله، إن كان خليقا للإمارة وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير - أي مظنة لكل خير - فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم. [ صفحه 171] ثم نزل فدخل بيته، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدي عشرة. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم ويخرجون إلي المعسكر بالجرف. وثقل علي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، فلما كان يوم الأحد، اشتد برسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وجعه، فدخل أسامة في معسكره والنبي صلي الله عليه [وآله] وسلم مغمور، وهو اليوم الذي لدوه [269] فيه، فطأطأ أسامة فقبله والنبي صلي الله عليه [وآله] وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلي السماء ثم يضعهما علي أسامة، قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لي. ورجع أسامة إلي

معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وهو يموت، فتوفي عمر وأبو عبيدة، انتهوا إلي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وهو يموت، فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي ليلة من شهر ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف " [270] . لقد علمنا أن المسلمين ودعوا النبي صلي الله عليه وآله وخرجوا إلي معسكرهم بالجرف، وخرج أبو بكر مع كبار الصحابة برفقة المسلمين تحت لواء أسامة، إذ كانوا جنودا في الجيش، وكان ذلك في يوم السبت. وفي يوم الأحد اشتد مرض النبي صلي الله عليه وآله، فصار يحث الناس علي الخروج، فجاء أسامة وحده من معسكره لوداع النبي صلي الله عليه وآله، فدعا له النبي صلي الله عليه وآله، وعاد أسامة إلي معسكره وفي يوم الاثنين أمر أسامة الجيش بالرحيل، وقبل الذهاب جاءه خبر وفاة النبي صلي الله عليه وآله، ولكن لم يدخل المدينة في أول الأمر إلا أسامة وعمر وأبو عبيدة، وعندما تأكدوا من وفاة النبي صلي الله عليه وآله دخل سائر الجيش المدينة. وعلي هذا يكون أبو بكر قد بقي في المعسكر في الجرف منذ يوم السبت، حتي وفاة [ صفحه 172] النبي صلي الله عليه وآله في ضحي يوم الاثنين. فكيف يكون أبو بكر قد صلي صلاة الصبح في يوم الاثنين وهو معسكر في خارج المدينة بالجرف؟! وحتي في وجوده بالمعسكر فإنه لا يمكن أن يصلي بالناس، لأن قائد الجيش هو إمام الناس في الصلاة، كما هو معروف. وقد علمت أنه لما جاءهم خبر أم أيمن بوفاة النبي صلي الله عليه وآله لم

يدخل إلا أسامة وعمر وأبو عبيدة، وبقي أبو بكر في المعسكر، ولم يدخل إلا بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله. وهذا ما قاله الطبري وابن الأثير وسائر المؤرخين، إذ ذكروا أن أبا بكر لم يأت إلا بعد أن بلغه خبر وفاة النبي صلي الله عليه وآله. فإما أنه كان بالسنح عند أهله، وإما أنه قد بقي بالجرف حيث المعسكر.. فإن كان بالسنح فقد غاب ثلاث ليال حتي بلغه الخبر. وإن كان بالمعسكر فقد غاب يومين، ولم يدخل إلا بعد بلوغه الخبر أيضا، فدخل مع الجيش، ووجد عمر يقول ما كان يقول في ذلك الوقت من تهديده لمن يزعم أن النبي صلي الله عليه وآله قد مات، وإما أن يكون قد ترك المعسكر وذهب إلي السنح وبقي هناك حتي خبر الوفاة و هو الأرجح عندي. إذا، فالأمر واضح جدا لا يحتاج إلي عناء في التفكير لفهم جوانبه، فصلاة أبي بكر بأمر النبي صلي الله عليه وآله ما هي إلا من صناعة ووضع البشر، أملتها عليهم العصبية والقبلية والعداء لعلي عليه السلام وعترة خير الأنام. لقد ذكر أبو بكر بن عبد العزيز الجواهري [271] " أن رسول الله (ص) في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة علي جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير ". ولقد أبدي النبي صلي الله عليه وآله اهتماما بليغا بأمر هذه السرية، ولم تمنعه شدة مرضه من إنفاذ هذا البعث. وإن تعبئة وجوه وأعيان المهاجرين والأنصار مثل أبي بكر وعمر وطلحة والزبير تعكس مدي اهتمام النبي صلي الله عليه وآله بأمر هذا الجيش. وكل ما في إنما

هو اهتمام منه صلي الله عليه وآله [ صفحه 173] بانفاد بعث أسامة لكونه من أمر الله، إذا أراد الله تعالي أن يكون هذا البعث علي الوجه الذي أعده النبي صلي الله عليه وآله مشتملا علي أبي بكر وعمر بقيادة الشاب اليافع أسامة بن زيد. وكان أمر الله في إنفاذ هذا البعث أمرا لا يقبل التأني والتأخير، سواء أكان بسبب مرضه أو بسبب أي أمر آخر. وهذا كله يتضح من إصرار النبي صلي الله عليه وآله حتي آخر لحظات حياته علي إنفاذ البعث، بل وصل الأمر إلي لعن النبي صلي الله عليه وآله المتخلفين عن هذا الجيش. وأراد أسامة أن يعتذر للنبي صلي الله عليه وآله عن الخروج، والنبي صلي الله عليه وآله في هذه الحال من المرض، ولكن لم يكن للنبي صلي الله عليه وآله مجال لتأخير أمر الله تعالي ولقبول اعتذار أسامة. فقد روي أن أسامة دخل النبي صلي الله عليه وآله وقال له: " بأبي أنت وأمي، أتأذن لي أن أمكث أياما حتي يشفيك الله تعالي؟ ".. ولكن، لم يكن الأمر كما يتصوره أسامة، فأمر الله في هذه السرية لا يؤخره المرض. فقال النبي صلي الله عليه وآله: " اخرج وسر علي بركة الله ". وقال أسامة ظانا أن شدة مرض النبي صلي الله عليه وآله تعينه علي إقناع النبي صلي الله عليه وآله بتأخير السرية ولو أياما: " يا رسول الله، إن أنا خرجت وأنت علي هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة ". فقال النبي صلي الله عليه وآله: " سر علي النصر والعافية ". إذا، فلا مجال لتأخير أمر الوحي.. لكن أسامة ما يزال يعلق الآمال، ساعيا إلي إقناع النبي

صلي الله عليه وآله بالتأخر حتي يشفيه الله، فقال مشفقا: " يا رسول الله، إني أكره أن أسائل عنك الركبان ". أما النبي صلي الله عليه وآله فكان يعلم أن هذه السرية فوق التأخير، فكيف الالغاء؟! عندها تغيرت لهجة النبي صلي الله عليه وآله، فقال مظهرا لزوم الأمر النبوي: " انفذ لما أمرتك به ". ثم أغمي علي النبي صلي الله عليه وآله، بأبي هو وأمي. وعندما علم أسامة أن أمر السرية هذه لا مراجعة فيه، قام يعد نفسه للخروج، فخضع للأمر الإلهي وبدا في إعداد الجيش. وفي هذه الأثناء أفاق رسول الله صلي الله عليه وآله، ولكن لا شئ أمامه غير أمر هذه السرية وبعث أسامة، فقال آمرا: " أنفذوا بعث [ صفحه 174] أسامة ". وهذه المرة أصدر أمره للجنود وأفراد الجيش، إذ لا مناص من التنفيذ. ثم أردف النبي صلي الله عليه وآله بعبارة يخاطب بها من سولت لهم أنفسهم الطعن في تأمير أسامة، أو يخاطب بها أولئك الذين توسوس لهم أنفسهم إلغاء البعث هذا أو التخلف عنه، فقال النبي صلي الله عليه وآله مخاطبا إياهم: " لعن الله من تخلف عنه ". وهذا الحكم لا يختلف من حيث الزمان، سواء كان زمانه في حياة النبي صلي الله عليه وآله أو كان بعد وفاته، بالنسبة إلي من شملهم الأمر، إذ قد صدر الأمر وأردف بلعن المتخلفين علي نحو من الاطلاق والقطع، دون استثناء لأحد منهم بما فيهم أبو بكر وعمر. والمدقق في أمر هذه السرية يلحظ أشياء تلفت انتباهه، وتحرك فيه باعث التحقيق. إننا نلحظ في أمر هذا البعث: 1 - الاهتمام البليغ الذي أبداه النبي صلي الله عليه وآله بهذا البعث،

حتي أنه صلي الله عليه وآله لعن المتخلفين عنه في إصرار لم يعهد من النبي صلي الله عليه وآله سابقا. 2 - الوقت الذي أمر فيه بإنفاذ البعث، فالنبي صلي الله عليه وآله كان قد نعيت إليه نفسه وأخبر بدنو أجله، فما هي أهمية هذا البعث حتي يتشدد النبي صلي الله عليه وآله في إنفاذه في هذا الوقت بالذات، وهو نفس اليوم الذي توفي فيه النبي صلي الله عليه وآله؟! 3 - تعبئة وجوه وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار في هذه السرية، دون استثناء لأحد بما فيهم الصديق والفاروق، تحت إمرة الشاب اليافع ابن العشرين عاما أسامة بن زيد. 4 - عدم فتح باب الشوري لأصحابه في هذه السرية، وقد كان يستشيرهم في بعض الغزوات. ونحن قد علمنا أن النبي صلي الله عليه وآله التحق بالرفيق الأعلي قبل أن يخرج الجيش من معسكره بالجرف. فلنفرض ذهاب الجيش قبل وفاة النبي صلي الله عليه وآله، ووفاة النبي صلي الله عليه وآله بعد ذهابهم.. فكيف يكون حال عاصمة الإسلام ونسائها وأطفالها، والأعداء من المنافقين واليهود الحاقدين علي دين الإسلام يتربصون بالإسلام الدوائر، وقد أخلي النبي صلي الله عليه وآله [ صفحه 175] المدينة من الصحابة كافة، وارتحل هو إلي الرفيق الأعلي؟! ثم إننا نسأل: هل كان النبي صلي الله عليه وآله يري في أبي بكر الخليفة من بعده؟! ولكن لا يستقيم هذا الأمر لو كانت الإجابة بالإيجاب، وذلك لأمرين نلحظهما في بعث أسامة بن زيد: أولا: لقد أمر النبي صلي الله عليه وآله أبا بكر بالخروج في هذا الجيش، والنبي صلي الله عليه وآله كان يعلم بموته إذ أخبر بذلك. فلو كان النبي صلي الله عليه وآله

رأي في أبي بكر خليفته لأمره بالبقاء إلي جنبه حتي لا تخلو المدينة ممن يفزع إليه المسلمون، ويحفظ بيضة الإسلام في أصعب يوم في حياة المسلمين، وحتي لا يكون نساء المسلمين وأطفالهم في غياب آبائهم بلا راع لهم ولا حافظ لأعراضهم.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، فما دام النبي صلي الله عليه وآله مخلفا أبا بكر، فأبو بكر أحوج إلي نصح النبي صلي الله عليه وآله وإرشاده إرشادا خاصا يستعين به علي إدارة أمور المسلمين. وعلي كل فبقاء أبي بكر - لو كان هو الخليفة بعد النبي صلي الله عليه وآله - يستقيم وحكمة النبي الكريم، لا خروجه في هذا الجيش وهو خليفة المسلمين، فقد يناقض حكمة النبي صلي الله عليه وآله وحنكته السياسية في إدارة شؤون الدولة. ثانيا: فإن كان لا بد من خروج أبي بكر - وهو المنتخب من جانب النبي صلي الله عليه وآله خليفة له من بعده علي المسلمين - فعلي أقل تقدير كان علي النبي صلي الله عليه وآله أن يوليه هو الجيش ويجعله علي رأس الجنود، لا أن يرسله معهم جنديا مأمورا تحت إمارة أسامة بن زيد ذي العشرين عاما، إذ أن هذا لا يتفق ومقام الخلافة. فالخليفة هو خليفة النبي صلي الله عليه وآله في جميع مقاماته ومنها قيادة الجيش، فكيف صار خليفة المسلمين جنديا يرأسه فرد من رعيته، بل شاب صغير العمر؟! إن هذا ليبدو ليس من الحكمة في شئ، بل سيكون لذلك أسوأ النتائج، وقد رأيت كيف طعن البعض في تأمير أسامة. بل إنهم أرادوا عزل أسامة بعد ذلك، لأنه أمر علي كبار المهاجرين، فكيف لو أمر علي الخليفة؟! إذا، لكي لا يكون النبي صلي

الله عليه وآله بعيدا عن الحكمة والفطانة النبوية، علينا أن نسلم بأن [ صفحه 176] النبي صلي الله عليه وآله لم يكن يري في أبي بكر خليفة له من بعده. بل أراد النبي صلي الله عليه وآله بأمره أبا بكر وعمر بالذهاب في هذا الجيش تحت إمرة أسامة أن يتحقق غيابهما عن المدينة، فيكون قد أراد النبي صلي الله عليه وآله بذلك إبعاد أبي بكر وعمر عن أعتاب الخلافة ببيعة علي في غيابهما. ولهذا كان الطعن في تأمير أسامة، وكان التثاقل عن إمضاء الأمر النبوي حتي توفي النبي صلي الله عليه وآله، فأحكمت السقيفة وهدد علي عليه السلام بالقتل، كما رأيت. إذا، فالنبي صلي الله عليه وآله بأمره أبا بكر بالذهاب في هذا الجيش قد أراد إبعاده عن المدينة، لأنه لو كان هو الخليفة من بعده لأبقاه إلي جانبه واحتفظ به في المدينة. بيد أنه أراد بتأمير الشاب أسامة علي هذا الجيش وبأن يكون أبو بكر الشيخ تحت إمرته، أن يقطع الحجة علي من يقول - معارضا خلافة الإمام علي - بأنه صغير السن أو استصغره قومه، كما قال عمر لابن عباس! قال عمر لابن عباس مرة: " يا ابن عباس، ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه!قال ابن عباس: والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ " براءة " من صاحبك " [272] . إن النبي صلي الله عليه وآله كان يعلم بما يجول في نفوس القوم، ولهذا أراد بتأمير أسامة عليهم قطع الحجة وإبطال ادعائهم بصغر سن الإمام علي عليه السلام بالنسبة إلي الخلافة، ذلك أن تأمير أسامة عليهم - وهو في ذلك العمر - هو تمهيد من النبي الكريم

صلي الله عليه وآله لخلافة علي بن أبي طالب عليه السلام، ورغم ذلك فقد استصغره قومه، كما رأيت من قول عمر لابن عباس! علي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يأمر علي بن أبي طالب عليه السلام بالذهاب في هذا الجيش، كما هو بين لا ارتياب فيه.. فلأي شئ احتفظ النبي صلي الله عليه وآله بالإمام علي عليه السلام إلي جانبه؟ ألم يكن الخليفة أولي بهذا المقام؟ وقد يقول قائل: إن النبي صلي الله عليه وآله إلا ليغسله بعد موته. نعم، إذ ليس في ذلك شك، وقد أوصاه النبي صلي الله عليه وآله بذلك.روي ابن سعد عن علي عليه السلام قال: " أوصي النبي [صلي الله عليه وآله] أن لا يغسله أحد غيري " [273] . [ صفحه 177] وروي أنه قال: " أوصاني رسول الله (ص) فقال: إذا أنا مت فغسلني بسبع قرب " [274] . وروي الحاكم في مستدركه، والذهبي في تلخيصه، عن علي [عليه السلام]، قال: " غسلت رسول الله [صلي الله عليه وآله]، فجعلت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا " [275] . وروي عمر بن الخطاب، عن رسول الله [صلي الله عليه وآله] أنه قال لعلي: " أنت غاسلي ودافني " [276] . أجل، لقد أوصي النبي صلي الله عليه وآله الإمام عليا عليه السلام بأن يغسله إذا مات ويدفنه، فهذا صحيح. وقد عرفنا أن النبي صلي الله عليه وآله كان قد علم بموته، ورأينا كيف تشدد في أمر الجيش بالخروج، وفيه كبار الصحابة، أبو بكر وعمر وغيرهما، تحت لواء أسامة، ورأينا كيف كانت المدينة تخلو - بذهاب الجيش إلي مؤتة - من

كل الصحابة ومن النبي صلي الله عليه وآله نفسه، إذ توفي في نفس اليوم المقرر لخروج الصحابة في الجيش. لقد رأينا كل ذلك، وكان يمكن أن يمتد غياب الصحابة إلي ما يفوق الشهر، بغض النظر عن إمكانية استشهادهم. أجل، رأينا النبي صلي الله عليه وآله قد فعل كل ذلك.. فهل يا تري كان النبي صلي الله عليه وآله يترك دولة الإسلام مدة شهر أو عشرين يوما بلا خليفة حتي يعود أبو بكر؟! وهل يا تري كان يذهب النبي صلي الله عليه وآله ويترك الدولة الإسلامية الفتية الطرية العود بلا راع، وعلي بن أبي طالب عليه السلام فيها، بل هو الذي أبقاه فيها عامدا إلي ذلك وقد قال له من قبل: " أنت مني بمنزلة هارون من موسي؟! إذا، فلها رون أن يخلف موسي في قومه، كما هي الإرادة الإلهية المقدسة. ولعمر الله، هذا ما كان يرمي إليه النبي صلي الله عليه وآله، إذ لا معني لإرسال جيش عبئ فيه كل الصحابة مهاجريهم وأنصارهم بكريهم وعمريهم، ثم يحتفظ بعلي عليه السلام إلي جواره، ثم تخلو المدينة [ صفحه 178] من راع يرعاها، والنبي صلي الله عليه وآله يعلم ذلك، ثم لا يخلف عليا عليها خليفة علي المسلمين! لقد أراد النبي صلي الله عليه وآله إبعادهم، بإخلاء المدينة منهم، حتي يصفو له الجو ويخلف عليا عليه السلام. فعل ذلك لكي لا تتكرر رزية أخري كرزية يوم الخميس، يوم اجتمعوا حوله في حجرته صلي الله عليه وآله، فأراد أن يكتب لهم كتابا ينجون به من الضلال، فقال عمر وأفراده: هجر رسول الله! وإن الرجل قد غلب عليه الوجع! حسبنا كتاب الله، عندنا القرآن! فمنعوا بذلك كتابة الكتاب. لقد

اتهموا النبي صلي الله عليه وآله بالهجر والهذيان في يوم الخميس، وطعنوا في تأمير أسامة يوم السبت.. فماذا تراهم يقولون لو ولي عليهم عليا عليه السلام يوم الأحد؟! فلما رأي النبي صلي الله عليه وآله توالي الطعن منهم في أوامره، وعدم العمل بها، بل رأي أنهم طعنوا في عصمته.. أمرهم بالخروج عن المدينة في هذا البعث، وولي عليهم أسامة لكي يولي عليا في غيابهم، وإلا فلا معني لإرساله كل الصحابة في ذلك البعث وهو يعلم أنه سيموت، بأبي هو وأمي. [ صفحه 179]

الشوري

اشاره

إن حادثة السقيفة لهي من الحوادث التاريخية التي لا تخلو منها مصنفات التاريخ الإسلامي، إذ أنها من الحوادث التي لها أثر مشهود في ماضي وحاضر المسلمين. إنها من الحوادث التي لم يكن للتاريخ إلا أن يسجلها ويحفظها لأجيال المسلمين، إذ بها لبس الإسلام ثوبا واتخذ مسارا جديدا بعد حياة النبي صلي الله عليه وآله. فهل كان ما دار فيها وما تمخض عنها مبنيا علي أساس الشوري؟ وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل - إذ أنه سيأتي ذلك في محله - علينا أن نشهد مختصرا من حكاية تلك الواقعة، كما يرويها الطبري: " اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وتركوا جثمان الرسول [صلي الله عليه وآله] يغسله أهله، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد [صلي الله عليه وآله] سعد بن عبادة. وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فحمد الله وأثني عليه، وذكر سابقة الأنصار في الدين، وفضيلتهم في الإسلام، وإعزازهم للنبي [صلي الله عليه وآله] وأصحابه، وجهادهم لأعدائه، حتي استقامت العرب، وتوفي الرسول [صلي الله عليه وآله] وهو عنهم راض، وقال: استبدوا بهذا الأمر دون الناس. فأجابوه جميعا أن: قد وفقت الرأي، وأصبت

في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا [ صفحه 180] الأمر.. إلي آخر كلامه. فسمع عمر وأبو بكر بذلك، فأسرعا إلي سقيفة بني ساعدة مع أبي عبيدة بن الجراح، وانحاز معهم أسيد بن خضير، وعاصم بن عدي من بني العجلان " [277] . ما نفهمه من هذا - كما أشرنا سابقا - أن بني هاشم وبعض من انحاز إليهم من الصحابة لم يكن لهم وجود في السقيفة في ذلك اليوم، إذ أنهم كانوا مشتغلين بغسل وتجهيز جثمان النبي صلي الله عليه وآله. وبعد نزاع وخصام حاد، انتهي الأمر بتولي أبي بكر زمام الخلافة، وعرف بعد ذلك بالخليفة الأول، أو خليفة رسول الله صلي الله عليه وآله. عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: "... فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم معتجرون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها علي يدي أبي بكر، شاء ذلك أو أبي. فأنكرت عقلي، وخرجت اشتد حتي انتهيت إلي بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة!فقال العباس: تربت أيديكم إلي آخر الدهر " [278] . وقال بعضهم لبعض: " ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولي بمحمد.فقال العباس: فعلوها ورب الكعبة! " [279] . ونتيجة لما تمخض عن واقعة السقيفة، يقف اليوم كثير من المسلمين موقف المؤيد لما انتهج في السقيفة آنذاك لاختيار إمام المسلمين، باعتبار أن الشوري هي التي كانت حاكمة بين المتخاصمين في سقيفة بني ساعدة. وتقبلوا ما نتج عنها قبولا لا يقبل الرد باعتباره أمرا مسنودا

بآيات القرآن، من حيث إنه أمر بالشوري في مثل هذه الأمور، لقوله تعالي: (وأمرهم شوري بينهم) [280] ، ولقوله تعالي (وشاورهم في الأمر) [281] . [ صفحه 181] وسوف نبحث هذا الموضوع من خلال نقطتين: 1 - هل كانت الشوري هي الحاكمة بين المتنازعين في السقيفة؟ 2 - هل ترك النبي صلي الله عليه وآله تعيين خليفته لرأي الناس وحكم الشوري؟

السقيفة والشوري المزعومة

إن ما دار في سقيفة بني ساعدة، وما تمخض عن ذلك لم يكن قد قام علي أي نوع من الشوري وأسلوب التحاور، ذلك لأن الشوري - كما يفهمها الساذج من الناس والفطن منهم - تقوم علي أساس الاعتراف بحق الأطراف في المسألة المطروحة للشوري، وإبداء النظر باعتبارها مسألة تخص جميع الأطراف. فهذا هو الحق المعترف به لكل فرد، إما من حيث إن كل فرد خليفة بالقيام باعبائه، أو من حيث إنه محفوظ لكل فرد في المشاركة باختيار من يقوم به من بين الآخرين، دون أن يستبد به قوم دون قوم، أو فرد دون فرد. بيد أن السقيفة لم تكن علي هذا القرار، ولم تسر علي هذا المنهج. وهذا واضح جدا في عبارات المتخاصمين من أهل السقيفة، وفي طبيعة الجو الذي كان سائدا آنذاك. وواضح أيضا من حيث أن الأمر حصر في قوم دون شموله لقوم آخرين لا يقلون عنهم شيئا إن لم يفوقوهم في كل شئ، وأعني عليا عليه السلام وأصحابه من بني هاشم، كما عرفت. وعدم وجود هؤلاء في السقيفة - وهم بهذا المقام من بين أهل الحل والعقد - يؤكد النزعة الاستبدادية التي كانت طاغية علي أعضاء السقيفة، ويدحض كل ادعاء يتوسل بالشوري ليصف بها ما دار في السقيفة لاختيار الخليفة.

إن أبا بكر لم يكن يرمي من كلامه في يوم السقيفة إلي استشاره الطرف الآخر بقدر ما كان يرمي إلي بيان أحقيته هو في الأمر، من غير أن يكون للأنصار حق فيه، بل يتضح من كلامه أن المطالبة بتولي هذا الأمر من قبل الأنصار يدخل الأنصار في زمرة الظالمين. يقول أبو بكر: " إن رسول الله (ص) لما بعث عظم علي العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخالفوه وشاقوه. وخص المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، فهم أول من عبد الله في [ صفحه 182] الأرض، وهم أولياؤه وعترته، وأحق الناس بالأمر بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ".. وهذا كلام واضح العبارات والجمل، إذ لا يحتوي علي شاهد تري فيه الدعوة إلي الشوري. فالسابقون بالإسلام، وأولياء النبي صلي الله عليه وآله وعترته الكرام - في كلام أبي بكر - هم أهل هذا الأمر من بعد النبي الكريم، ولهم أن يخلفوه صلي الله عليه وآله دون غيرهم من الناس. بل يكون الناس ظالمين إذا اشرأبت أعناقهم وتطلعت نفوسهم إلي هذا الأمر ينازعون فيه أهله! ولكن، ماذا قالت الأنصار إزاء هذا الكلام الذي جردهم تماما من حقهم، بل وصفهم بالظلم، ووصف مطالبتهم بهذا الأمر بأنه منازعة لأهله بلا حق؟! قال الحباب بن المنذر يدعو قومه الأنصار إلي التمسك بحقهم كما يعتقد هو أيضا، يقول: " يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ علي خلافكم، ولا يصدرون إلا عن رأيكم. أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، إن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أميرومنكم أمير " [282] . وقال أيضا في

رده علي كلامهم: " يا مشعر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة - أي فتية -. فقال عمر: إذا، ليقتلك الله!فرد عليه الحباب: بل إياك يقتل " [283] . إذا، فالمسألة في نظر الأنصار ليست خاضعة للشوري، بل هي مسألة دار ومكان ونصرة للدين، إذ بهذا استحق الأنصار هذا الأمر. وإلا فالمسألة فيما يظهر من حوارهم مسألة اقتسام " منا أمير ومنكم أمير ". غير أن سعد بن عبادة سيد الأنصار لم يكن ليرضي [ صفحه 183] حتي بهذه القسمة الضيزي في رأيه، فقال رافضا إياها: " هذا أول الوهن " [284] فهذا سعد إذا لا يري لأبي بكر وعمر ومن حالفهم حقا في الخلافة، ولو كان علي مستوي الأمير. عندئذ تصدي عمر للدفاع عن حقه بعبارات لم تدع للأنصار حقا يطلب، فقال: " هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد! من ذا يخاصمنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة؟! " [285] ها هو عمر يقطع قول كل خطيب بنفيه الشوري. أجل، لم يأت عمر إلي السقيفة لمشورة الأنصار، بل جاء ليدفع كل من يخاصمه منهم في سلطان محمد! إذا، فليس للأنصار في هذا الأمر حق حتي يستشيرهم فيه أبو بكر أو عمر، وكيف يستشيرونهم فيما يرثانه من إرث تركه لهما رسول الله صلي الله عليه وآله؟! وهل في الإرث استشاره لإثبات

حق الوارث فيه؟!! لا وحاشا، فالخصم عندهما لا يخرج - وهو ينازع في ميراث محمد - عن حدود ثلاثة.. فهو إما سالك لطريق الباطل، أو مرتكب للذنب والإثم بأخذه إرث غيره ظلما، أو معرض نفسه في ذلك للموت والهلاك. إذا، فلا شوري مع الأنصار يراها عمر، ولا يثوب الأنصار في نزاعهم في هذا الأمر إلا بالباطل ولا يكون إلا الإثم ولا يحصدون إلا الهلاك. من هذا كله يتضح جليا أن مسألة اختيار الخليفة، والنزاع الذي دار في السقيفة بسببها لم تبن علي أي شوري مقصودة بالأصل في هذا الأمر، وإنما هو نزاع حدث بين طرفين متخاصمين في أمر مختلف فيه يري كل طرف منهما الحق إلي جانبه، ويسعي كل فريق للدفاع عن حقه المهدد بالغصب. إن هذه حقيقة تاريخية حرفت أو لم تفهم علي ما كانت عليه، إذ سعي المؤيدون لما تمخض عن نزاع السقيفة إلي تفسيرها بما يتطابق مع ما أيدوا من نتائج، فألبسوها ثوب الشوري وهي عنه عارية، حتي يقفوا أمام مخالفة المعارضين لنتيجة السقيفة، وربما [ صفحه 184] لإقناع أنفسهم أيضا بما ظنوا وحسبوا، لو يغنيهم الظن عن الحق شيئا. غير أن أبا حفص يدحض مزاعم هؤلاء فيما ادعوه من الشوري، فقد قال أيام خلافته: " كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، وإنما كانت كذلك، إلا أن الله قد وقي شرها. فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له " [286] فعمر إذا، يحذر من تكرار بيعة أبي بكر التي كانت فلتة من غير مشهورة، تحمل في طياتها الشر المستطير لولا لطف الله بعباده. وهذا لعمري هو الحق، إذ قد سلت السيوف وكادت أن تقع الفتنة، وكادوا أن يضربوا

عنق الإمام علي عليه السلام، ذلك أن ما يكون عن فلتة تحفه الفتن والشرور، فهو لا يمكن أن يكون صادرا عن مشورة يتمخض عنها الرضا والقبول، أو علي أقل تقدير يتمخض عنها الخضوع لرأي الأغلبية، فلا يكون بعد ذلك فلتة ولا تخشي الفتنة والشرور. ومن هذا نخلص إلي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يأمر بالشوري في مسألة اختيار الخليفة من بعده، وإلا لما حدث ما حدث من نزاع تمخض عن بيعة فلتة. وعدم أمر النبي صلي الله عليه وآله بالشوري في هذا الأمر لا يستنبط من عدم انتهاج أعضاء السقيفة لها فحسب، بل يفهم من أن تعيين الإمام وخليفة المسلمين من بعد النبي صلي الله عليه وآله هو أمر من صميم واجبات النبي الكريم، كما أشرنا إلي جانب من ذلك. ذلك أن النزاع بين الناس في مثل هذا الأمر مغروس في طبيعة وفطرة البشر، والقومية والقبلية هي التي تلد الناس. فالنزاع إذا، هو أمر ملازم لأبناء القومية والقبلية. ثم إن الوحي وضع حلا لكل نزاع يجول في نفوس الناس، ولهذا أمرهم بقوله (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول) [287] فلو رد المسلمون موضوع نزاعهم في السقيفة إلي الله والرسول فلا شك أنهم سيجدون حلا لهذا النزاع. [ صفحه 185]

ترك الأمر للناس والشوري

الذين يرون أن اختيار الخليفة الأول تم علي أساس الشوري يعتقدون بأن هذا الأمر مما يمكن الفصل فيه برأي الناس، فالشوري ليست سوي الحوار بين الأطراف وإبداء الرأي، واختيار الصائب في رأيهم من بين الآراء. وهم يستندون في قولهم هذا إلي قوله تعالي: (وأمرهم شوري بينهم) و (وشاورهم في الأمر). ولكن بقليل من التدبر وإعمال الفكر يستبين الأمر ويصرح الحق، ويتضح

لهم الخطأ فيما ذهبوا إليه. إن الشوري سواء كانت من قبل النبي صلي الله عليه وآله مع أصحابه، أو كانت بين الصحابة فيما بينهم.. ولا تفترض إطلاقا إلا في المسائل والأمور التي لم يفصل فيها الوحي، ولم ينزل فيها نص يبينها أو سنة تفسرها. بل يذهب الأمر أبعد من هذا، إذ مع حدوث النزاع في أمر من الأمور لا بد من مراجعة الوحي واللجوء إليه، إذ أنه تبيان لكل شئ. وعلينا أن نعلم أن ذلك الخلاف والاختلاف المتسع بين أفراد الأمة في مسألة الخلافة وإمامة المسلمين - منذ بدئه أيام السقيفة إلي يومنا هذا - يرجع إلي ترك اللجوء إلي الله والرسول لفض هذا النزاع. إذا، فهو من عند غير الله، ولذا نشاهد فيه اختلافا كثيرا. وهكذا كل أمر ينفرد الإنسان فيه برأيه، وهكذا كانت السقيفة وخلافة أبي بكر. وأما من حيث إن خلافة الصديق من صميم الرأي البشري.. فهذا ما يوضحه لنا أبو حفص: قال عمر لابن عباس: " يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (ص)؟ قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت له: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني! فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا علي قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها، فأصابت ووفقت " [288] فانظر إلي عبارة أبي حفص: " كرهوا "، وانظر إلي قوله: " فاختارت قريش [ صفحه 186] لأنفسها ".. ومن هذا نفهم جليا أن خلافة الصديق وما تلتها من خلافات إنما هي من صميم الرأي البشري. ولو كانت قريش قد وفقت وأصابت في ذلك لما وجدنا فيه اختلافا كثيرا، إذا أنه من عند غير الله، من قريش التي

كرهت خلاف ذلك! وهو اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم!! فلا يجوز إذا أن يفصل في مسألة من المسائل الأساسية في الدين بالرأي البشري. وحدوث النزاع في أي أمر يلزمنا بالرجوع إلي الله تعالي وإلي الرسول، لوضع حد للنزاع عن طريق الوحي الفيصل، يقول تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخرذلك خير وأحسن تأويلا) [289] . فحدوث النزاع في أي أمر يلزمنا بالنقاط التالية: 1 - مع حدوث النزاع لا يصح إبداء الرأي الخاص دون الرجوع إلي الوحي الإلهي. 2 - وجود الحلول الناجعة في القرآن والسنة لأي أمر يحدث فيه نزاع، ومن ثم يكون اختيار خليفة النبي صلي الله عليه وآله من الأمور التي كان من المفترض الرجوع فيها إلي الله ورسوله الكريم، لمعرفة الحق فيها. ولما كانت مسألة السقيفة من أكبر المسائل التي تشعب فيها النزاع حول اختيار وتعيين الخليفة كان الفصل فيها بالرأي البشري من الأخطاء الفاحشة، ولهذا فالشوري باطلة في هذا الأمر المتنازع فيه. والخلاصة أن الأمور الدين لم تترك للأهواء والآراء البشرية، مهما بلغت من الرفعة والعلو. ولهذا كانت حوادث السقيفة قد تمخضت عن فلتة، كما يقول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. كل ذلك لأن الرأي البشري هو الذي كان حاكما في السقيفة. وأما آية (وشاورهم في الأمر) فلم يقصد منها أمر النبي صلي الله عليه وآله باستشارة أصحابه في أمور الدين، لأنها أمور يصدرها الوحي. [ صفحه 187] يقول المراغي: " كان رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يشاور أصحابه في الكثيرمن الأمور، ولم يكن يشاورهم في

الأحكام، لأنها منزلة من عند الله " [290] . أجل، فاستشارته لهم ليست فيما أوضحه الوحي، ولا التي ينتظر أن ينزل فيها أمر من الله تعالي، بل لم يكن النبي صلي الله عليه وآله ينتظر الارشاد في حيرته إلي آراء الناس وتوجيهاتهم، إذ الآية قصد منها ملاينة الصحابة والرحمة بهم، وهي لطف من ضمن ألطافه تعالي بهم، لكي يحبب لهم الإيمان ويرغبهم في رسول الله ويعمق الدين في قلوبهم، والسياق الذي وردت فيه الآية إنما يشير إلي ذلك بوضوح. يقول تعالي: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين) [291] . في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالي خلق نبيه الكريم في التعامل مع أصحابه والذين من حوله، ويخبر بأن الغلظة والفظاظة - لو كانت - فمن شأنها أن تقطع حبال الوصال بينه وبين الناس، وتصيبهم بسببها نفرة من الدين. فالآية وضحت كيفية تعامل النبي صلي الله عليه وآله معهم، وهي تتمثل في: أولا: العفو عنهم ومسامحتهم فيما يصدر عنهم من أخطاء، والتجاوز عنهم في ذلك. ثانيا: الاستغفار لهم، أي طلب المغفرة لهم بالدعاء فيما أصابوه من ذنوب حتي تمتلئ قلوبهم محبة له، ويخلو ما قد يكون من انقباض، فتنبسط له ارتياحا. ثالثا: وشاورهم في الأمر، أي أعط لآرائهم أهمية، وحسسهم بارتباط الأمر بهم، حتي لا يشعروا منك باستبداد في الأمور، فقتل أهميتها في نفوسهم. كل ذلك فيما لم ينطق به الوحي، بل إذا عزمت فتوكل علي الله فيما عزمت عليه أنت بنفسك. ومن هنا يتجلي أن الشوري من النبي صلي الله عليه

وآله مع أصحابه لم تكن لافتقاره إلي الرأي [ صفحه 188] الصائب، لأن ما يفعله وما يقوله نبي الله هو الصواب سواء تحصل عن طريق الوحي أو لما اتصف به الأنبياء من الفطانة ورجاحة العقل. وإنما كانت الاستشارة في الغالب الأعم لتحقيق هدف سياسي وموضع استراتيجي، وهو نوع من ربط وتقوية الجبهة الداخلية، وإلا فالأمر ينزل عليه من السماء. وهذا هو ما فهمه سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، فإنهما لما شاهدا إلحاح المسلمين علي النبي صلي الله عليه وآله كاره لذلك - ومطالبتهم إياه بالخروج لمقابلة المشركين في خارج المدينة يوم غزوة أحد - والنبي صلي الله عليه وآله كاره لذلك - قالا للناس: " قلتم لرسول الله (ص) ما قلتم، واستكرهتموه علي الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه.. فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوي أو رأي فأطيعوه ".. وهذا القول عين ما جاءت به الآية، في قوله تعالي: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول). يقول صاحب الدر المنثور: " " عندما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال (ص): إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي " [292] . فالشوري لهم من النبي صلي الله عليه وآله ليست إدخالا لهم في أوامر وأحكام الوحي كما يظن كثير من الناس اليوم، بل هي لتحقيق وحدتهم وجمعهم علي أمر الله تعالي، لا سيما في الحروب والغزوات، لما تتضمنه من تكاليف ومشاق، فإذا شعروا أنهم قد شاركوا في صناعة الموقف العسكري أو الحربي كانوا أميل إلي الاندفاع فيه وتحمل تبعاته. فهاتان الآيتان: (وشاورهم في الأمر)، (وأمرهم شوري بينهم) لا يجوز أن تعتبرا دليلا علي الأمر بالشوري في اختيار

خليفة المسلمين، وذلك لسببين: أولا: إن مسالة اختيار الخليفة من المسائل التي وقع فيها نزاع، فلا تصح الشوري فيها لقوله تعالي: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول). ثانيا: إن مسألة تنصيب الخليفة من المسائل التي نطق فيها الوحي بحكمه وحسم الأمر فيها، لعدم قدرة الناس علي معرفة وتنصيب الخليفة، كما سيتضح أكثر فيما بعد إن شاء الله.. [ صفحه 191]

اولو الأمر هم أهل البيت

الاستخلاف واجب علي النبي

إن ما يجعل العقل أسير الحيرة والدهشة ما يذكره كثير من علماء المسلمين من عدم تعيين النبي صلي الله عليه وآله خليفة له من بعده، وإماما يتولي أمور المسلمين في غيابه. وفي الواقع إن هذا كلام لا ينتظر من أولئك الذين وصفوا بالعلم والمعرفة. وأنا أجزم بأن الذين يرددون هذا الكلام لم يكلفوا أنفسهم ولو قليلا من البحث والتحقيق حول مسألة تنصيب الإمام وتعيينه من جانب النبي صلي الله عليه وآله، إذ أنهم ركنوا إلي تقليد من سبقهم من العلماء، وتعودوا علي اجترار ما قالوا في هذا الأمر، دون أن يفطنوا إلي أن القول بهذا فيه اتهام شديد للنبي صلي الله عليه وآله بتركه الواجب وعدم تبليغ أمر الله بتعيين ولي الأمر من بعده! فإنه أمر تالله - يبعث إلي الدهشة والذهول العقلي، إذ كيف يصرف النبي صلي الله عليه وآله النظر عن تعيين خليفته من بعده، وكيف هان عليه هذا الأمر، ولقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وآله حينما نعيت إليه نفسه طفق يورد الوصية للمسلمين تلو الوصية في أمور شتي، مظهرا اهتماما عظيما بأمر الدين، ومبديا قلقا بليغا بحال المسلمين بعد وفاته؟! لقد حذر النبي صلي الله عليه وآله المسلمين من الاختلاف والفتن، ووعظهم غداة ومساء وهجيرا.. كل ذلك

لكي يبين لهم طريق النجاة والسلامة إذا ما أقبلت الاختلافات والفتن كقطع الليل.. فهل كان النبي صلي الله عليه وآله لا يري لولي الأمر من بعده أثرا في نجاة الناس من هذه الفتن ولم الشمل إذا ما حلت بدارهم الاختلافات؟! أم كان إدراكه صلي الله عليه وآله قد قصر - وحاشاه - عن [ صفحه 192] إدراك هذا الأمر، فأدركه أبو بكر وفهمه عمر ومعاوية؟! وفطن إليه بنو أمية وبنو العباس؟! وهل الأمر الذي صدر به الوحي موجبا طاعة أولي الأمر لم يكن النبي صلي الله عليه وآله يري أنه يوجب عليه تنصيب خليفة ووليا لأمر الناس؟! أم كان يري أن الله يكلف الناس فوق طاقتهم، فيوقعهم بعد نبيهم في الاختلاف والتنازع والفتن؟! لقد ثبت، بما لا يدع مجالا للريب، أن النبي صلي الله عليه وآله ما كان يخرج من المدينة لغزوة إلا ويعين عليها شخصا خليفة له ريثما يعود.. فهل كان يري أهمية الوالي علي المسلمين في غيابه القصير في حياته، ولم يكن يري له أهمية في غيابه الطويل بعد وفاته؟!! فما هذا القول؟! وأي عقل سليم يحكم بذلك؟! وأي حكمة يمكن لمسها فيه؟! وأي مصلحة تعود للمسلمين من فعل كهذا؟! وهل له نتيجة غير الخلاف والنزاع والخصام، كما حدث في سقيفة بني ساعدة... فاضطر ذلك العلماء للزج بأنفسهم في تبرير لا يسمن ولا يغني من جوع؟! وكما وضح لك أن عدالة كل الصحابة بقضهم وقضيضهم لا تصح، لانحراف البعض عن سواء السبيل، وارتكاب بعضهم ما حرم الله تعالي، ولهذا لا يمكن أن يوصي النبي صلي الله عليه وآله باتباع أي كان من الصحابة للنجاة والسلامة من الاختلاف والانحراف، ذلك لأن أمرا كهذا ينسب

إلي النبي صلي الله عليه وآله - بل إلي الوحي - فيه تجويز لارتكاب الأخطاء وفتح الطريق إلي النزاع والاختلاف. إن اختلاف الصحابة فيما بينهم أمر معلوم، وقتل بعضهم بعضا مسألة تعج بهاصفحات التاريخ، وانحراف الكثير منهم عن الحق تثبته كتب السير والأخبار [293] . ثم إننا علمنا أنه كان في زمان النبي صلي الله عليه وآله بعض المنافقين، علمت أحوالهم وخصالهم ووضح نفاقهم للمسلمين، ولكن كان هناك أيضا منافقون لم يعلم عنهم شئ ولم يعرف نفاقهم، ولم تنكشف أحوالهم وقد أخبر الله تعالي نبيه الكريم بذلك في قوله تعالي: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن [ صفحه 193] نعلمهم) [294] . ويمكنك أن تتصور خطورة الموقف الذي سيؤول إليه مصير الإسلام وهو بلا راع، عرضة لهؤلاء المنافقين المتمرسين بالنفاق، المبتعدين عن الأنظار والأفكار. إذا كان المنافق المعروف نفاقه أخطر علي المسلمين من الكافر المعروف كفره، فسيكون أولئك المنافقون الذين لم يكن المسلمون يعرفون عنهم شيئا أخطر من أولئك الذين عرفوا، وذلك لجهل المسلمين بهم، لشدة خفائهم إذ تمرسوا بالنفاق ومردوا عليه وأتقنوه. وعلي هذا الأساس لا يستطيع أحد يجردهم عن الصحبة للنبي صلي الله عليه وآله، يل كيف يجرد هم عنها وهو لا يعرفهم؟! بل سيثني عليهم وسيصفهم بالإخلاص والتقوي بلا ريب، بحكم ما يبدونه من مظهر ديني يضمن لهم مقاما بين الصحابة العدول، وبالتالي سيهبهم بكل ارتياح صفة العدالة والوثاقة!! فكيف نسد منافذ الخطر والضلال الصادر من من هؤلاء المنافقين في الباطن، المؤمنين العدول في الظاهر؟ ولهذا كله فمن المحال الممتنع أن يأمر النبي صلي الله عليه وباتباع كل من هب ودب ممن كانت له

صحبة معه من الناس في زمانه، وهو يعلم أن من بينهم وممن حولهم منافقين مستورين مردوا علي النفاق وصقلوا فيه. إذا فالقول بعدالة كافة الصحابة خطأ فاحش، والأمر باتباع كافتهم دون تمييز لهم عن طريق الوحي أمر ينطوي علي خطر بليغ يهدد الإسلام من أساسه، فلا يأمر به النبي صلي الله عليه وآله بحال من الأحوال. ولهذا تسقط كل الأحاديث التي تجعل من اتباع كافة الصحابة وسيلة للنجاة من الاختلافات والابتداع والإحداث في دين الله، كما وضح. وبعد ذلك كله.. فكيف لم يعين النبي صلي الله عليه وآله خليفة من بعده ويترك الناس يتناوشهم المنافقون من ظهر منهم ومن بطن، ويتر صدهم اليهود والنصاري الحاقد منهم علي الإسلام والكامن له؟!! [ صفحه 194] وكيف يسهل علي العقل الساذج القبول بأن النبي صلي الله عليه وآله مات بين السحر والنحر ولم يوص بشئ؟! وكيف تسكن النفوس النفوس إلي القول بأن النبي صلي الله عليه وآله لم يستخلف أحدا من بعده، وذهب لا يلوي من حال المسلمين في غيابه علي شئ؟!!! إن هذا كلام لا يلتفت إليه، إذ أنه تهمة لنبي الإسلام صلي الله عليه وآله. اتهموه بأنه ترك أمته بلا راع عرضة للاختلاف والنزاع والاقتتال، وهذا فيه اتهام له صلي الله عليه وآله بترك الواجب! اتهموه بها وهو صلي الله عليه وآله الرحيم بأمته، الرؤوف بالمؤمنين، الذي يأسي لهم ويحرص علي هداهم، كما قال عنه ربه تبارك وتعالي: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [295] . كل ذلك كان منهم في غفلة تصحيح ما نتج من حوادث السقيفة، فقالوا: لم يوص النبي صلي الله عليه وآله بشئ، ومن

هنا لا يكون عيب في أن يتولي الخلافة أي كان من الناس، حتي لو كان فاسقا أو خارجا طاعة الله تعالي. يقول التفتازاني: " ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة الله تعالي " [296] ويقول الباقلاني: " لا ينخلع الإمام بفسقه، وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يحب الخروج عليه " [297] ثم ذكر: " بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شئ مما يدعو إليه من معاصي الله ". وهذا إضراب عجيب من الباقلاني، فلو كان الخروج علي الإمام الفاسق غير جائز فكيف جاز ترك طاعته في بعض المعاصي؟! وهل وجوده علي كرسي الحكم - والحالة هذه - لا يعد معصية في ذاته؟ ولماذا بعض المعاصي؟! وكيف جاز تخويفه؟ وكيف يكون تخويفه؟ أوليس تخويفه هذا خروجا عليه؟!! ولو كان استطاعة الناس تخويفه وترك أوامره في بعض الأحوال بهذه السهولة فلم لا يعزلونه، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وهو فاسق؟! [ صفحه 195] ما هذه إلا خطرفة سببها تجويز إمامة الفاسق. وللسياسة في ذلك الوقت دور كبير في ظهوره هذه الفتاوي وانتشار تلك العقيدة: إمامة الفاسق! لقد ذكرنا أن القول بأن النبي صلي الله عليه وآله لم يستخلف أحدا علي المسلمين من بعده قول يحمل أخطر الاتهامات للنبي صلي الله عليه وآله، ذلك لأن أمر الله تعالي بطاعة أولي الأمر علي سبيل من الجزم والقطع، كما هو واضح في قوله تعالي: (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).. يوضح أن أولي الأمر طاعتهم واجبة كطاعة صلي الله عليه وآله. ووجوب طاعة أولي الأمر توجب. علي النبي صلي الله عليه وآله تعيينه، فالقول بأن النبي صلي الله عليه وآله

لم يستخلف اتهام له صلي الله عليه وآله بترك الواجب. إن العقل يحكم بأن الأمر بإطاعة أولي الأمر وإيجاب طاعتهم إنما هو علي قرار طاعة النبي صلي الله عليه وآله، مما يستوجب تعيينهم من قبل الله تعالي بوساطة نبيه الكريم، ولا يجوز ترك تعيينهم للناس، لأن ذلك ليس في مقدورهم، فمعرفة الناس لأولي الأمر - بدون أن يعرفهم الوحي لهم - يفرض أن الناس قادرون علي المعرفة من تجب طاعته من البشر، في حين أن الناس ليسوا قادرين علي ذلك. ولو كان الناس استطاعتهم معرفة من وجبت طاعته من البشر - نبيا كان أم غيره - لما احتاج النبي صلي الله عليه وآله إلي إبداء المعجزة حتي يعجز الناس بأمره ويصدقوه فيطيعوه. فالنبي صلي الله عليه وآله واجب الطاعة، ولكن اتهمه الناس بالكذب والسحر الجنون ولم يصدقوه، إذا فالناس لا يقدرون علي معرفة أولي الأمر، ولم ترك لهم تعيين أولي الأمر فستنتج المفاسد التالية: إما أن يولي الناس الفاسق، والله لم يأمر بطاعته، بل إنه لا يحب الفاسقين. وإما أن يشتد الخلاف عند اختيار ولي الأمر، وتقع الفتن من الناس، لعصبياتهم وقبلياتهم وغيرها من صفات حب الذات. والاختلاف ممنوع، والنزاع يجب إرجاعه إلي الكتاب والسنة لفضه. وأيضا إن هذا الواجب إن كان الناس مسؤولين عنه فيستلزم التكليف بما لا يطاق، لأنهم لا يعرفون أولي الأمر. وإن لم يكونوا مسؤولين عنه فيستلزم البعث في أفعال الله تعالي - تنزه الله عن ذلك - [ صفحه 196] حيث أمر أمر وجوب (كوجوب طاعة الله وطاعة الرسول) ومع ذلك لا يسأل عنه هل أنجز هذا الأمر الواجب أم لا؟ ولهذا فلما كان عجز الناس عن معرفة وتعيين أولي

الأمر يؤدي إلي تولية الفاسق أو وقوع الاختلاف والتناحر حول تعيين ولي الأمر، أو يكون التكليف بما لا يطاق، أو ينسب العبث إلي الله تعالي في فعله.. اتضح أن تعيين أولي الأمر لم يتركه الله لاختيار الناس، بل إنه مسند إليه تعالي.

من هم أولوالأمر

يقول الله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول). إنك تلحظ في هذه الآية أنه أمر فيها بأمر واحد إطاعة ثلاثة: الله تعالي ورسوله وأولو الأمر، بوساطة فعل الأمر: (أطيعوا)، وذلك في قوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، فماذا يمكن أن نفهم من ذلك؟ وماذا أراد الله تعالي بإشراك النبي صلي الله عليه وآله وأولي الأمر في أمر واحد بطاعتهما؟ علي أن الحال لا يختلف لو فصل الأمر ولم يجمع في فعل واحد. إن إصدار الأمر بطاعة الرسول صلي الله عليه وآله وأولي الأمر بهذه الصورة المشتركة في أمر واحد يؤكد لنا التساوي بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر. فلما كانت طاعة الرسول صلي الله عليه وآله واجبة قطعا فطاعة أولي الأمر واجبة قطعا أيضا. والعموم والإطلاق الواضح في الأمر بالطاعة لا يسمح باستثناء طاعة أولي الأمر وفصلها عن طاعة الرسول صلي الله عليه وآله بأي حال من الأحوال، أو بأي شرط من الشروط.. إذا طاعة أولي الأمر هي من الواجبات في الدين علي المؤمنين. ثم إن النبي صلي الله عليه وآله معصوم بلا شك، ولو علي قول من ينسب إليه العصمة في تبليغ الوحي، فهو معصوم إذا. وهنا نسأل: ما هي الحكمة في أن يكون النبي صلي الله عليه وآله معصوما؟ إن الله تعالي لم

يدع لنبي من الأنبياء مسؤولية التشريع ولم يسند إليهم تأسيس [ صفحه 197] الأحكام والشرع، فالله تعالي هو الذي يعلم ما ينفع الناس وما يصلحهم، ولهذا فهو الذي له أن يقوم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه غيره، وما علي الرسول إلا بلاغة بلاغا لا يخالجه الإبهام. والله تعالي بإسناد الأمر إلي ذاته العلية يريد أن يبلغ تشريعه الناس دون أي تغيير أو نقص، سواء كان عمدا أو سهوا. ولكن الرسول بشر، والبشرية مجمع الأخطاء والنسيان، فما هو العمل إذا ما أنزل عليه أمر الله ليبلغه كما أنزل عليه دون تغيير يؤدي إلي التغيير في طريقة وأسلوب التبليغ، فضلا عن أن يؤدي إلي تغيير الهدف والغاية؟ ولهذا عصم الله الأنبياء عن الخطأ عمدا أو سهوا، حتي لا يحدث ذلك التغيير تبعا للخطأ. وعلي هذا فكل ما يصدر عن النبي صلي الله عليه وآله هو الوحي بعينه، من حيث اللفظ والمعني تارة، ومن حيث المعني فقط تارة أخري. ولهذا فالنبي صلي الله عليه وآله (وما ينطق عن الهوي - إن هوإلا وحي يوحي) [298] . فإذا ثبت فالنبي صلي الله عليه وآله لا بد أن يدركه الموت يوما، وسيأخذ بزمام الأمر من بعده ألو الأمر الذين وجبت طاعتهم علي الناس مثله صلي الله عليه وآله، وإن كان الوحي لا يتنزل عليهم لاكتمال نزوله. إن العمل بهذا الوحي - طبقا لعمل النبي صلي الله عليه وآله به - لم ينته، بل هو باق ما بقي الزمان والمكان. ونحن نعلم أن حفظ كلام كما قيل دون تغيير هو أسهل بكثير من العمل به وتطبيقه علي مسرح الواقع الملموس، حيث المشاكل والمعضلات والمنعطفات الحرجة. إذا، كيف يتسني لأولي الأمر

القيام بهذه المهمة الأصعب بعد النبي صلي الله عليه وآله دون التعرض للخطأ، إن لم تكن لهم تلك العصمة التي كان يتمتع بها النبي صلي الله عليه وآله؟ وكيف يصل ما أراده الله إلي الناس عبر أولي الأمر دون خطأ وهم بشر؟ ونحن أوضحنا أن العصمة تحفظ الوحي النازل علي النبي صلي الله عليه وآله دون أن ينحرف عمدا أو سهوا، لفظا أو عملا، والله لا يسمح بشئ من ذلك الانحراف. فإن لم يكن أولو الأمر علي عصمة النبي صلي الله عليه وآله وقع ما لم يسمح به الله تعالي، وما لم [ صفحه 198] يرده في تبليغ الوحي. إذا، وجبت عصمة أولي الأمر كما وجبت عصمة الرسول صلي الله عليه وآله. علي أن وجوب الطاعة بالجزم والقطع إشارة إلي العصمة، فالعصمة أساس وجوب الطاعة، وبسبب هذه العصمة لا يختلف خطاب الله تعالي للناس - إذا قدر أن يخاطبهم مباشرة بتكاليفه وأوامره - عن مخاطبته إياهم عبر النبي صلي الله عليه وآله به. والسر في ذلك هو وصول خطاب الله ذاته إلي الناس بسبب العصمة التي للنبي صلي الله عليه وآله.. وهذا يعني - من ثم - أن فقدانها في أولي الأمر يؤدي إلي التغيير بلا ريب، وهو ما لا يريده الله تعالي.

نظر الإمام الرازي

يقول الفخر الرازي [299] " إن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر علي سبيل الجزم في هذه الآية. ومن أمر الله بطاعته علي سبيل الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه علي الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعة، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه،

فهذا يفضي إلي اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد، وإنه محال. فثبت أن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر علي سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته علي سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما. فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكورين في الآية لا بد أن يكونوا معصومين ". ثم يدلف الرازي إلي تحديد أولي الأمر المعصومين هؤلاء، حسبما يري ويظن، فيقول: " ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة، أو بعض الأمة، لأنا بينا أن الله تعالي أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا. وإيجاب طاعتهم قطعا ومشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين علي الوصول إليهم، والاستفادة منهم. وإننا نعلم بالضرورة أننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم... ". ولقد ذهب الرازي إلي أن أولي الأمر هم بعض الأمة، يتمثلون في أهل الحل والعقد [ صفحه 199] وبسبب بعد إجماعهم عن الخطأ - علي ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله: " لا تجتمع أمتي علي الخطأ " - تتحقق بذلك العصمة المطلوبة في أولي الأمر. قوله: إن مجموع الأمة ليس هم أولي الأمر واضح لا يحتاج إلي إثبات. وأما كون أولي الأمر هم بعض الأمة فأمر نتفق فيه مع الفخر الرازي، غير أن قوله: إن هذا البعض من الأمة - أي أولي الأمر - هم أهل الحل والعقد قول تكتنفه إشكالات عدة، تجعل عدة، تجعل قبوله أمرا مستحيلا. فأولها: إمكانية وقوع الإجماع ليست متحققة. ثانيها: من يعرفهم للأمة باعتبارهم أهل الحل والعقد؟! ثالثها: أين نتحصل علي عصمتهم؟! هل في الأفراد منهم أو في هيأتهم الاجتماعية؟! إن إمكانية تحقق وقوع الإجماع من المستحيلات في هذه الأمة، لا سيما في اختيار

القادة والرؤساء، ودونك الواقع يصرح مؤكدا ما نقول. نعم، من المحال أن تجتمع الأمة علي الخطأ بأسرها، لكن من المحال أن يتحقق إجماع الأمة بأسرها، وفرق شاسع بين الحالتين، فلو دعا بعض فالأمة إلي الحق فلا بد أن يوجد من يخالفهم من الناس سبب من الأسباب التي لا حصر لها، فالقومية، والعصبية، والنعرات القلبية، واختلاف الإدراك ووجهات النظر، والعناد، واللجاج... كلها منفردة أو مجتمعة تجعل من وقوع الإجماع أمرا لا يرجي تحققه بين الناس. وإن مسألة الخلافة من المسائل التي كان للأمة أن تجتمع عليها، لو كان للإجماع إمكانية الوقوع، مع قلة المجتمعين في السقيفة، وما كان لهم من الصحبة التي تجعلهم في مصاف أهل الحل والعقد في زمانهم. وعلي رغم ذلك فقد نشب الخلاف واستحال الإجماع، وسلت السيوف، وأخذ البعض بالقوة، وأغري آخرون بالمال.. فكيف للرازي أن يحلم بإجماع استحال أن يقع بين صحابة النبي صلي الله عليه وآله وهم الجيل الأول الذي عاصر النبي صلي الله عليه وآله، ليقع بين الناس في عصره أو ما تلاه من عصور، أو في هذا العصر الذي ازداد فيه تشعب العقائد وتشتت الأفكار؟!! [ صفحه 200] علي أن الانقسام المشاهد في كل فرقة من الفرق الإسلامية هو تصريح باستحالة تحقق الإجماع. ولا أري إمكانية وقوع الإجماع بين أهل السنة فيما بينهم، ولا بين الشيعة بانفرادهم، فضلا أن يقع الإجماع بينهما مجتمعين. فاجتماع الأمة بأسرها علي الخطأ ممكن، ولكن لا يمكن أيضا اجتماعها علي الحق بأسرها. إن واقعة صفين كانت بين أمة المسلمين، وقد كان الحق عند أحد الطرفين بلا شك، ولكن لم يجتمع المسلمون عليه كما لم يجتمعوا علي ما يقابله من الباطل، فنشبت بينهم الحرب، وقتل

بعضهم بعضا.. فلماذا يتكلم الإمام الرازي بكلام يبعد عن الواقع ويعطي مصدقا لآية قرآنية ليس له وجود؟! ثم كيف يتم التعرف علي أن أهل الحل والعقد هم هؤلاء؟! فالإشكال الذي أشكل به الإمام الرازي - وهو إشكاله بصعوبة التعرف علي الأئمة المعصومين، واستحالة الوصول إليهم - هو إشكال يرد عليه، إذ كيف يتم التعرف علي أهل الحل والعقد والوصول إليهم؟!. من الذي يقدمهم إلي الأمة بهذه الصفة؟! ونحن ليس لدينا في مجال التعيين إلا الإجماع أو الانتخاب والترشيح أو النص. فأما القول بضرورة الإجماع عليهم فنحن به محتاجون إذا إلي إجماعين: إجماع من الأمة يعرفنا بأهل الحل والعقد، وإجماع آخر يعرفنا بصواب ما يصدره أهل الحل والعقد من أحكام وأوامر ونواه، بحيث تلتزم الأمة بما يصدر عنهم. وبهذا تتضاعف المشكلة، لأن العبور من الإجماع الأول إلي الإجماع الثاني محال، لعدم إمكانية وقوع الإجماع الأول. فالجهد الذي قام به الإمام الرازي لإبعاد نفسه عن الاعتراف بالأئمة المعصومين علي قول الشيعة - لا سيما بعد الاعتراف الموفق منه بعصمة أولي الأمر - فهو جهد مقدر ومشكور علميا، لكنه ناقص ولا يحل المشكلة، فقد كان عليه أن يبين لنا معيار وملاك الاتصاف بأهلية الحل والعقد، وكيفية تعريف الأمة بهم، وعلي رغم أن ذلك تترتب عليه مشكلاته، غير أنه يتيح فرصة أطول لمن أراد السفسطة. [ صفحه 201] وأما الترشيح.. فكيف لنا أن نطمئن لمن جاء بهم الترشيح، وأنهم ممن يملكون أهلية الحل والعقد دون منازع؟! إن الانتخاب أو الترشيح قد يأتيان بالجاهل أو الفاسق أو المنافق أو بكل من هو بعيد عن هذه المسؤولية. والتجارب في ذلك كثيرة. ثم كيف نتصور عصمة أهل الحل والعقد علي رأي الإمام

الرازي، لا سيما وأنها ناتجة عن عدم اجتماعهم علي الخطأ؟! إن تحقق العصمة علي هذا القول الذي ذهب إليه الرازي يواجه بمشكلتين أساسيتين: الأولي: لا تتحقق هذه العصمة إلا بتحقق الاجماع، وقد أثبتنا عدم إمكانية وقوعه. الثانية: أن الاجماع - من حيث هو - أمر اعتباري، إذ أنه لا يعدو أن يكون سوي الهيئة الاجتماعية الاعتبارية للمجتمعين، فلو نسبت العصمة إلي هذه الهيئة فهي - لاعتباريتها - ليس لها وجود متحقق، بل هي عدم محض. فكيف تتعلق العصمة بشئ عدمي، والعصمة هي في الواقع معلول للعلم اليقيني الذي هو حاصل للمعصوم؟! وأما إذا نسبت إلي الأفراد من أهل الحل والعقد.. فمن ينسبها إليهم فلا بد له من دليل علي ذلك. ولو أنه تحصل عليه فسيتفق مع الشيعة في قولهم: إن أولي الأمر هو الأئمة المعصومون، أو يقول بقولهم من حيث لا يشعر بهذا الاتفاق. يقول الإمام الرازي: " إن الله تعالي أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين علي الوصول إليهم والاستفادة منهم. وإننا نعلم بالضرورة أننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم... ". أجل، فلو عصم الله تعالي أولي الأمر وأوجب طاعتهم علي الناس ثم ترك للبشر التعرف عليهم بوساطة أنفسهم فصحيح أننا عاجزون عن معرفتهم ولا يستقيم لنا ذلك، ولكن لا يقومه كلام الرازي بأن إيجاب طاعتهم مشروط بكون الناس عارفين بهم. لماذا؟! ذلك لأن أولي الأمر معصومون، كما ثبت، وأوجبت طاعتهم قطعا، كما هو واضح، [ صفحه 202] فلو ترك أمر تعيينهم والتعرف عليهم للناس فسيظل الناس عاجزين عن ذلك أبدا، ولا يمكنهم الوصول إليهم بأي حل من الأحوال، لما علم

أن الناس ليس في مقدورهم معرفة المعصوم الواجب الطاعة من البشر. إذا، فعجزهم أبدي في هذا الأمر، وعلي هذا يكون الله تعالي قد عصم وأوجب قطعا طاعة من ليس له طاعة علي الناس، لأن طاعته مشروطة بكون الناس عارفين، به وليس ذلك في وسعهم بتاتا. ولا يبقي بعد ذلك معني لعصمتهم ولا لوجوب طاعتهم، ولا يبقي إلا العبث - تنزه الله عن ذلك وعلا علوا كبيرا -. وعلي هذا فالشرط الذي ذكره الرازي في إيجاب طاعة أولي الأمر بكون الناس عارفين بهم شرط لا معني له، لأن الإمام الرازي يعلم جيدا أن الناس لا يمكنهم معرفة أولي الأمر ذوي العصمة، لو أسند أمر التعرف عليهم إلي هؤلاء الناس.. فيبقي عدم وجوب الطاعة أبديا ليس مؤقتا بشرط. ولكن ما أراد الله هذا. فهل أمر بطاعتهم لكي لا يطاعوا؟! أم أوجبها علي الناس قطعا وإطلاقا لكي يقف عجز الناس عن معرفة المعصومين أمام قطعها وإطلاقها؟!! إن الله سبحانه وتعالي ما عصم أولي الأمر إلا ليحفظ بهم الوحي، وما أوجب طاعتهم إلا ليهتدي الناس بهم. ولا يتم ذلك إلا إذا كانوا معروفين ومعينين للناس، حتي يؤدي لهم واجب الطاعة. ولهذا كله فلا يعقل أن يسند الله تعالي أمر تعيينهم إلي الناس، أو يترك التعرف عليهم لجهد الناس العاجزين في الحقيقة عن معرفتهم. إن الإمام الرازي غفل عن أن الله تعالي هو المتكفل بتعيين أولي الأمر وتعريفهم إلي الناس، فلما رأي وجوب الطاعة القطعي المطلق، وعجز الناس الأكيد عن معرفة أولي الأمر.. اضطر إلي تقييد الاطلاق بشرط لا معني له، فأبعد وابتعد. ثم عمد الرازي إلي إبطال قول من حمل معني " أولي الأمر " في الآية علي الأئمة

المعصومين من أهل البيت عليهم السلام. وأورد ثلاثة أدلة لإبطال هذا القول: والواقع أن المرء يقف مندهشا بين مقام الرازي العلمي وضعة قوله في إبطال قول من يفسر " أولي الأمر " بالأئمة المعصومين. [ صفحه 203] إن أصحاب هذا القول لا يعنون بالأئمة المعصومين إلا العلماء من عترة النبي صلي الله عليه وآله والأئمة من أهل بيته الكرام. فالرازي الذي علي عصمة أولي الأمر.. يصرفها عن الأئمة من عترة النبي صلي الله عليه وآله، فلمن يعطيها يا تري؟! لأهل الحل والعقد؟! ومن الذي يراه الرازي له أهلية الحل والعقد من الناس غير علي وفاطمة والحسن والحسين وأبنائهم علي مر العصور؟!! إنهم إلي العصمة أقرب من غيرهم، وحمل معني " أولي الأمر " عليهم أولي وأسلم من حمله علي أناس لا يمكن التعرف عليهم ولا سبيل إلي الوصول إليهم. يقول الرازي: " وأما حمل الآية علي الأئمة المعصومين - علي ما تقول الروافض - ففي غاية البعد، لوجوه: أحدها: ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة [أي مشروطة بكون الناس عارفين بهم] ". وأنا لا أدري.. أيكون الإمام الرازي لا يعلم بالأئمة المعصومين الذين يعنيهم الشيعة، ويحملون عليهم معني " أولي الأمر " في الآية؟! أم إنه يعلم بذلك ويعرف هؤلاء الأئمة، ولكنه لا يعرف لهم عصمة تجعلهم من أولي الأمر؟! علي أن قوله بأن طاعتهم مشروطة بكون الناس عارفين بهم قول قد اندفع بأن الله تعالي هو المتكفل بتعيين أولي الأمر وتعريفهم للناس، منذ إعلانه وجوب طاعتهم، بل منذ بدء الرسالة. ولهذا لا يبقي لشرط الرازي معني، ويبقي العموم والإطلاق. في الأمر يوجوب طاعتهم علي ما عليه الأمر بوجوب طاعة النبي صلي الله عليه وآله من

العموم والإطلاق. وأما كون الأئمة المعصومين هم العلماء من عترة النبي صلي الله عليه وآله فسيأتي إثباته في محله إن شاء الله. وأما دليل الثاني فيقول فيه: " إن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر، و " أولي الأمر " جمع، وعندهم - أي عند الروافض، ويعني بهم الشيعة - لا يكون في الزمان إلا إمام واحد، وحمل الجمع علي الفرد خلاف الظاهر ". وهذه من المسائل التي ارتعش فيها يراع الرازي، لأن ذكر " أولي الأمر " بلفظ الجمع في هذه الآية لا ينافي وجود إمام واحد في الفترة الزمانية الواحدة، ثم يليه الذي بعده [ صفحه 204] فيبقي في فترة زمانية واحدا، ثم يليه الذي بعده.. وهلم جرا إلي اثني عشر إماما. وإنما ورد ذكرهم بلفظ الجمع لاشتراكهم في حكم واحد، فجمعهم هذا الحكم لفظا لا زمانا، فإن كانوا مجتمعين فلهم هذا الحكم، وإن تفرقوا في الأزمان حسب التسلسل فلكل واحد منهم نفس هذا الحكم، وهو الأمر بوجوب طاعتهم. إذا، فلا تنافي بين الإمام الواحد في زمانه وبين ذكر " أولي الأمر " في الآية بلفظ الجمع. وأما حمل الجمع علي الفرد الذي هو خلاف الظاهر، فهو أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد بعينه من أفراده، دون قصد بيان حكم مشترك بين الأفراد. وهناك من النصوص ما يؤيد ذلك. فالأمر بطاعة الخلفاء واتباع سنتهم جاء علي قرار الأمر بطاعة أولي الأمر في الآية، يقول: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء.. ". فالخلفاء جمع، فلا يجوز أن يقال هو خلاف الظاهر لحمله علي الفرد، إذ أننا رأينا الخلفاء الأربعة قد جاء في كل زمان واحد منهم، فلم يتناف ذلك مع لفظ الجمع " الخلفاء

"، ولم يقل أحد بلزوم مجيئهم جميعا في زمان واحد، فأولو الأمر من هذا القبيل. وأما قوله في دليله الثالث فهو: " لو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم، لوجب في قوله تعالي: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول) أن يقال: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الإمام المعصوم "! فهذا شئ عجاب، إذ أن قوله تعالي: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول) لا يعارض كون أولي الأمر هم الأئمة المعصومين الذين يجب الرجوع إليهم عند النزاع والاختلاف بعد الرسول الأكرم. إن الله أمر برد النزاعات إلي نفسه وإلي الرسول، وهذا لا ينحصر في نزاع دون نزاع، بل يشمل كل النزاعات التي تحدث بينهم في حياة الرسول وبعد وفاته. إذا، فالنزاعات مستمرة بعد الرسول صلي الله عليه وآله، ولا بد من حلها طبقا للوحي وما يقول به الرسول صلي الله عليه وآله، فمن الذي سيتصدي لهذا الأمر من بعد النبي صلي الله عليه وآله؟! [ صفحه 205] ولو ترك الأمر لكل الناس في حل منازعاتهم فرجوعهم إلي الكتاب والسنة لا يكون غير رافع لنزاعاتهم فحسب، بل سيؤدي إلي شدة النزاع. وليس التقصير أو القصور في الكتاب والسنة، وإنما القصور في عقول الناس، وإدراكاتهم متباينة ومتفاوتة، والفرق التي نشاهدها - سواء في الماضي أو الحاضر - هي نتيجة لتلك الإدراكات المختلفة.. إذا، فالنزاع باق. والنزاع والاختلاف - كما نعلم - أمر ممنوع وغير مسموح به، وإن رفعه وتجنبه أمر واجب بنص القرآن، ولا يتم هذا إلا بالرجوع إلي أولي الأمر. وهذا مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب إذا. وعدم ذكر الرجوع إليهم عند المنازعات في الآية لا يتعارض مع وجوب

الرجوع إليهم. ولكن، ما هو السر في عدم ذكرهم في الآية الآمرة برد المنازعات إلي الله والرسول؟ إننا نعلم أن موضوع الإمام المعصوم نفسه من المسائل التي حدث فيها النزاع، كما رأيت في سقيفة بني ساعدة. كما أننا لا نشك في أن الله تعالي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو إذا عالم بوقوع النزاع الذي حدث في أمر الإمام في سقيفة بني ساعدة قبل نزول هذه الآية، ولهذا لا يمكن أن يأمر برد النزاعات إلي الإمام المعصوم، وهو متنازع فيه مع أنه قد عين وحدد. ونحن نعلم أن النزاع بطبيعة الحال لا ينتج إلا عن العصبية والقبلية، واتباع الهوي، أو التأويل الخاطئ للنصوص. ولأن الله تعالي لطيف بعباده يهيئ لهم دائما سبل الثوبة والأوبة، فأمرهم - رحمة منه وتذكيرا لهم - برد النزاع في الإمام المعصوم مرة أخري إلي الكتاب وما قاله الرسول في ذلك، عسي أن يتذكر الناس، أو يعلم الجاهل، أو ينتبه الغافل، أو تلين قناة المعاند اللاج، أو يطلع المتأول خطأ علي الصواب. وما دام الله قد أمر برد النزاعات إلي الكتاب والسنة، فحل هذه النزاعات لا محالة موجود فيهما. وما دام قد وقع النزاع في الإمام المعصوم فبيانه موجود في الكتاب والسنة، وإلا يكون رد النزاع إليهما لا معني له إن كانا لا يتضمنان الحل. ولما كان الكتاب والسنة فيهما الحل لما وقع من نزاع حول الإمام فمن المحال أن لا يكون النبي صلي الله عليه وآله قد [ صفحه 206] أعلمهم بذلك وبلغهم إياه، لأن التبليغ واجب عليه، بل التبليغ البين المزيل لكل إبهام وإيهام (وما علي الرسول إلا البلاغ المبين) [300] . علي أن الله تعالي يقول: (ولو

ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [301] ، فالرد إلي أولي الأمر فيما يجهل الناس حلوله - سواء كان نزاعا أو حكما من الأحكام - أمر ثابت. ولكن لوقوع النزاع فيهم أنفسهم أجل الأمر بذلك إلي بعد الثوبة والأوبة، بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله. وقد يشكل علينا بما قلنا بأن أخذ الناس مباشرة من الكتاب والسنة أمر لا يرتفع به النزاع ولا يزداد به الطين إلا بلة، فكيف يرجع الناس النزاع في أولي الأمر وهم غير معروفين لهم، والناس لا تدرك من القرآن والسنة إدراكا واحدا، فكيف تحل مسألة النزاع في أمر الإمام هذا؟ ونجيب: إننا قد ذكرنا أن الإمام المتنازع في أمره قد عين من قبل النبي صلي الله عليه وآله إذا، فهو موجود بين المتنازعين، فواجب عليه - بحكم إمامته - أن يبين لهم الأمر إذا أراد الناس أن يعلموه وردوا نزاعهم إلي الكتاب والسنة. فالإمام في هذه الحال لا بد أن يقيم الحجة والدليل علي إمامته وأحقيته في الأمر من الكتاب والسنة، إذ أنه بهما أعلم إذا، فهو - كفرد من أفراد الناس وطرف من أطراف النزاع - سيتكفل برفع النزاع حتي تثبت إمامته.. هذا إذا كان المتنازعون قد تأولوا خطأ، أو كانوا لا يعلمون. وأما إن كانت العصبية والقبلية والعناد واللجاج: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسرالمبطلون) [302] . ثم إن الإمام الرازي ركز علي العجز عن معرفة الإمام، سواء في عصره خاصة، أو ما يليه من عصور.. فهل يعني هذا أن العجز عن معرفة الإمام المعصوم كان في عصر الإمام الرازي فقط، وأنه بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله لم يكن الناس عاجزين عن

معرفة الإمام المعصوم [ صفحه 207] في ذلك الزمان؟ فنقول: إن كان الناس في تلك العصور، من بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله، عاجزين عن معرفة الإمام المعصوم.. فلماذا يحصر الرازي الكلام في عجز الناس عن معرفة الإمام المعصوم بعصره فقط أو بما بعده من عصور؟! وإن لم يكونوا عاجزين فكيف تولي الأمر من هو غير معصوم بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله؟!

نظر ابن جرير الطبري

أما الطبري فقد ذكر عند تفسيره هذه الآية: " والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمر من الله [تعالي] بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهي، وبعد وفاته في اتباع سنته، وذلك أن الله [تعالي] عم بالأمر بطاعته، ولم يخصص ذلك في حال دون حال، فهو علي العموم.. واختلف أهل التأويل في أولي الأمر الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الآية، فقال بعضهم: [هم] - الأمراء أصحاب السرايا علي عهد النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم. - وقال بعضهم: هم أهل العلم والفقه. - هم أبو بكر وعمر. ثم قال: " وأولي الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم، ومنها عن عبد الله عن النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم قال: علي المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فمن أمر بمعصية فلا طاعة. فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة علي أحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بطاعة ولي أمرنا.. كان معلوما أن الذين أمر الله بطاعتهم تعالي ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن

ولاهم المسلمون دون غيرهم من الناس.. وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر أو نهي - فيما لم تقم حجة وجوبه - إلا الأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم، فإن علي [ صفحه 208] من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية ". [303] إن من المسائل الهامة التي أثبتها وأقرها الإمام الرازي والطبري في تفسيريهما لهذه الآية هو أن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر علي نحو من القطع والجزم. وفي الواقع لا أظن مسلما يقول بغير ذلك، إذ أن الآية صريحة في إيجاب طاعتهم، بل إن الرازي قد ذهب إلي عصمة أولي الأمر، وهو الحق بلا ريب، وأشار الطبري إليها بقوله: " وأنه لا طاعة لأحد فيما أمر أو نهي - فيما لم تقم حجة وجوبه - إلا الأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم ". فالذي وجبت طاعته في أمر لم يقم الدليل علي وجوبه إذا أمر به لا بد أن يكون معصوما، لأن وجود الدليل يصون الإنسان عن الوقوع في الخطأ، ويهديه إلي الصواب، فإذا انعدمت العصمة والفرض عدم دليل علي الوجوب، فكيف نعلم أن المأمور به صواب وأمر واجب. ولما كانت طاعة الأئمة، في الأمر الذي ليس له دليل يشير إلي وجوبه، واجبة علي الناس علم أن أمرهم هذا حق وصواب ولا سبيل للخطأ إليه لعصمتهم، وإلا لما كانت طاعتهم واجبة، فالأمر بالباطل والخطأ أمر لا يصح ولا يجب، بل يحرم. إذا فطاعة الإمام في أمر لا دليل علي وجوبه هو لعدم نفوذ الخطأ والباطل إلي أمره هذا، وذلك لعدم نفوذ الخطأ إلي نفس الإمام، بسبب عصمته التي هي أساس فرض طاعته ووجوبها

علي الناس بلا دليل أو برهان علي وجوب أمره. ونفهم من هذا عدم جواز مسألة الإمام في أوامره ونواهيه، كما لا يجوز مسألة النبي صلي الله عليه وآله فيما يأمر به أو ينهي عنه، كل ذلك لعصمتها.. وبهذا يثبت الطبري أيضا عصمة أولي الأمر بقوله هذا. ثم رجح الطبري من بين آراء العلماء الرأي القائل بأن أولي الأمر هم الأمراء والولاة وأئمة المسلمين. وهذا صحيح لا قدح فيه، ولكنه أتبع ذلك بقوله: " ومن ولاهم المسلمون " ونفهم من ذلك أن الطبري يري أن هؤلاء الولاة والأئمة يعينهم المسلمون، وهذا أمر لا يصح أبدا. [ صفحه 209] إننا نصرف النظر عن العصمة التي أشار إليها الطبري إشارة، ولم يصرح بها كما صرح الإمام الرازي، ولكن.. هل أثبت الطبري وجوب طاعة الأئمة هؤلاء فيما أمروا به أو نهوا عنه ولو لم تقم الحجة علي وجوب أمرهم ونهيهم؟!! إذا، يكفي هذا في إبطال ما ذهب إليه من قدرة الناس من المسلمين علي معرفة الولاة والأئمة وتعيينهم. والسبب واضح، فإننا ذكرنا أن البشر ليس في مقدورهم معرفة من وجبت طاعته في أوامره ونواهيه - سواء كان بدليل أو بدون دليل - علي وجوب أمره. وإذا عجزوا عن معرفته فهم عاجزون عن تعيينه وتنصيبه، كما هو واضح، لأن معرفة من وجبت طاعته علي الناس هو فرع معرفة الواجبات. ولو كان الناس يعرفون الواجبات لما خالفوا منها شيئا، ولبطل إرسال الرسل لبيان الواجبات للناس وصار إرسالهم تحصيلا للحاصل. فالناس لجهلهم بما هو واجب أرسل الله تعالي إليهم الرسل والأنبياء ليهديهم إلي تلك الواجبات ويعرفهم بها، إذ فيها صلاحهم ونفعهم. ولكي يتحقق هذا الهدف الذي أراده الله - وهو إصلاح الناس

وهدايتهم - لا بد أن يضمن وصول أوامره ونواهيه الموصلة إلي تلك الغاية، فعصم الرسل ليسد باب التغيير والانحراف عن طريقهم، ثم أوجب طاعتهم. ولكن رأيناه أيضا أوجب طاعة أولي الأمر، فلو كانت الأخطاء تعتريهم فهل يصل إلي الناس ما أراده الله لهم من نفع وصلاح، بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله، وهم المتصدون لهداية الناس وإرشادهم إلي الغاية والهدف الإلهي؟ أبدا، فوجوب طاعتهم - مع ارتكابهم الأخطاء - هو مدعاة للانحراف عن المسير الذي رسمه الله تعالي بوساطة رسله المعصومين، فهنا تكمن عصمة أولي الأمر، وهنا سر وجوب طاعتهم، وهنا عجز الناس عن معرفة أولي الأمر.. فالمعصوم الواجب الطاعة لا يعلمه إلا الله، وتعيينه إذا مسند إليه، إذ أنهم الطريق الذي يطويه الوحي المعصوم ليصل إلي الناس سالما من أي خطأ، فإنه يجب أن يصل إليهم كما هو بعيدا عن الخطأ والباطل، ولا يتم ذلك إلا بعصمة الأنبياء وولاة الأمر من بعدهم. وقد يحتج علينا بما قاله الطبري: " فإن علي من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما [ صفحه 210] لم يكن لله معصية "، أو بما قاله الرازي: " إن الأمة مجمعة علي أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة ". لقد أورد الإمام الرازي هذا الكلام لإبطال القول بأن أولي الأمر هم الأمراء والولاة كما يقول الطبري. والرازي يرد هذا الكلام لأنه يجري وراء العصمة ويسعي لأن يجد من تتوفر فيه، فانتهي إلي أهل الحل والعقد لعدم اجتماعهم علي الخطأ، ولكن قد رأيت ما يكتنف هذا القول من إشكالات... فراجع. أما الطبري فيشترط وجوب طاعة أولي الأمر بأن

لا يكون ما أمروا به فيه معصية لله تعالي، وعندها يرتفع وجوب الطاعة علي الناس. إن معرفة كون أمرهم معصية أو غير معصية يحتاج إلي دليل وبرهان وحجة، وهذا يتناقض مع قوله: " إنه لا طاعة لأحد فيما أمر ونهي - فيما لم يقم حجة وجوبه - إلا الأئمة "، فهو في هذا الكلام يؤكد أن طاعتهم في الأمر والنهي، سواء توفر الدليل علي وجوبه أو لم يتوفر، واجبة قطعا.. فكيف يأتي مرة أخري ويشترط طاعتهم فيما لم يكن لله معصية؟! فمعرفة أن ذلك معصية أو غير معصية - أي معرفة أن طاعتهم واجبة أو غير واجبة لأنها معصية - تحتاج إلي حجة تبين الوجوب في الأمر أو النهي... فأين كلامه هذا من كلامه الأول؟! علي أن كلامه الأول هو الأصح، لأن طاعة أولي الأمر جاءت مساوقة لطاعة النبي صلي الله عليه وآله في العموم والإطلاق والوجوب والعصمة، فلا تقيد بشرط ولا يطالبون بالدليل فيما يأمرون به. والحديث الذي ذكره يختص بولاة الجور الذين يغصبون الحكم بالقوة، ويتسلطون علي الناس بالظلم، ولا يرتبط بأولي الأمر الذين جاء الأمر بطاعتهم في الآية القرآنية، فهم معصومون ووجوب طاعتهم عام مطلق غير مشروط. والرازي يؤيد ذلك بقوله: " ذلك لأن الله تعالي أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة، وهو قوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر أيضا ". [ صفحه 211] إذا، فالتقييد الذي جاء في الحديث ينافي الآية، ومن ثم فالحديث لا يتكلم عن الأئمة العدول أولي

العصمة، لعموم وجوب طاعتهم، كما وضح. ثم إن تقييد طاعة أولي الأمر بكون ما أمروا به ليس فيه معصية لله، يفرض قدرة الناس علي تشخيص الخطأ من الصواب، بإقامة الدليل علي ذلك من الكتاب والسنة.. وهذا لا يتوفر لكل إنسان، وأعلمية أولي الأمر وعصمتهم تنفي أمرهم بالمعصية. فلو كانت طاعة أولي الأمر لا تجب إلا فيما وضح بالكتاب والسنة أنه حق وصواب للزم من ذلك أن يكون كل فرد ملما وعارفا بمفهوم ومعاني وتأويل وتفسير القرآن والسنة، وهذا ليس صحيحا. وعلي أقل التقادير سيؤدي ذلك إلي الاختلاف والنزاع في تحديد كون هذا الأمر خطأ أو صوابا. والاختلاف ممنوع قطعا، وسيؤدي إلي تعطيل التنفيذ، وقد يؤدي إلي فتح الثغرات لمعصية الإمام في كل ما يأمر به. ولو فرض أن في استطاعة الجميع معرفة بعض الأدلة من ظاهر بعض الآيات لإثبات صحة وحقانية أو بطلان أمر الإمام.. فكيف تتم لهم معرفة الأدلة علي صحة أو بطلان ما أمر به الإمام في المسائل التي لا تتضح إلا بالاستنباط والاجتهاد؟! ونحن نعلم أن القدرة علي الاستنباط والاجتهاد لتحصيل الأحكام ليست لكل أحد، بل ليست للغالبية. ومن هنا يكون هذا الأمر مختصا بهؤلاء العلماء الذين هم أولو الأمر، وورثة الأنبياء، ولا أحد يعلوهم في العلم والمعرفة. فلو كان هذا الأمر مختصا بهم، والغالبية العظمي ليس لها إدراك ذلك.. فكيف يقنعون منهم بأن ذلك صواب وليس معصية؟! وكيف يقيمون لهم الدليل ويحتجون عليهم به علي صحة أوامرهم، وعامة الناس لا يدركون شيئا من ذلك؟! فإما أن يحملوهم علي الأمر والنهي بالقوة والعنف، ولا يبقي حينئذ معني لاشتراط وجوب الطاعة بكونه في غير معصية لله. أو يتركوهم عن تنفيذ الطاعة وأداء الواجب

في ذلك.. وبهذا يذهب الأمر بطاعتهم أدراج الرياح. فنحن إذا، محتاجون إلي التسليم لبعض أوامر أولي الأمر فيما لا ندركه، لفقداننا قدرة الاستنباط والاجتهاد. لكن التسليم في البعض وعدمه في البعض الآخر لا يتفق [ صفحه 212] وعموم الأمر بالطاعة وإطلاقه في الآية. كما أنه ليس من العقل في شئ، فلو سلم الناس لأولي الأمر فيما يصعب عليهم إدراكه وفهمه من القرآن والسنة.. فهذا التسليم ليس أولي من التسليم لهم فيما يسهل علي الناس إدراكه وفهمه من ظاهر القرآن، لأن قدرة أولي الأمر في إدراك ما صعب علي الناس إدراكه وما بعد عن أفهامهم يبث الطمأنينة والتسليم لهم فيما يأمرون به من أوامر يدركها الناس من ظاهر الآيات والسنة، إذ لا يقول أحد إن ما يدركه الناس من ظاهر القرآن يصعب إدراكه علي أولي الأمر. إذا، فالتسليم لأولي الأمر الظاهر دليله من الكتاب أو السنة أولي. ومن هنا فالتسليم لهم فيما صعب علي أفهام الناس والتسليم لهم فيما سهل علي الناس إدراكه من الظاهر ينفي اشتراط إقامة الدليل علي صحة أو بطلان ما أمر به أولو الأمر.. هذا من ناحية المقايسة بين أولي الأمر وعامة الناس من حيث العلم والأعلمية. وأما إذا ثبتت للناس ولايتهم وإمامتهم بالنص الإلهي وثبتت بذلك عصمتهم، فإن التسليم لهم يكون أحجي وأبلغ وأكمل في هداية الناس وصيانة الأمر، وهذا ما أراده الوحي من الأمر بطاعتهم وإيجابها. فقول الطبري بأن أولي الأمر هو الولاة والأمراء صحيح لا غبار عليه، ونضيف إليه قول الرازي بعصمتهم، فنخلص عندئذ إلي قول الشيعة بأنهم الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام.. وأما قول الطبري باختيار وتولية المسلمين لهم، وقول الرازي بأنهم أهل الحل والعقد.. فقد

وضح بطلان هذين القولين، وعدم استقامتهما شرعا وعقلا. وأما القول بأن أولي الأمر هم أبو بكر وعمر.. فهذا قول لا يصح من وجوه: أولا: إنهما يفتقدان العصمة ولا ينسبها أحد إليهما. وأولو الأمر قد ثبتت عصمتهم، ووجبت طاعتهم علي الناس. ثانيا: لو كانا هما المعنيين بأولي الأمر في الآية لوجبت طاعتهما، ولما خالفهما كبار الصحابة، ولما امتنع أكثرهم عن بيعة أبي بكر، ولما احتج بعضهم علي استخلاف عمر، ولما خالف سعد أبا بكر وامتنع عن بيعة الصديق ومات وهو مخالف لهما ولم يقتد بهما في [ صفحه 213] شئ، ولما خاصمتهما الزهراء وامتنعت عن بيعة الصديق وكانت تدعو عليه في كل صلاة تصليها عليها السلام. ولو كانا هما أولي الأمر لما جاز لعلي بن أبي طالب الامتناع عن بيعة أبي بكر، بل لما قال لهما ولأفرادهما: " بل أنتم أولي بالبيعة لي "، وقد مر عليك ذلك كله.

اولوالأمر هم أهل البيت

أن أولوية أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله في تولي أمور المسلمين، والانفراد بلقب " أولي الأمر " بعد النبي صلي الله عليه وآله دون غيرهم من الناس.. لهي أولوية تأخذ شكلها الطبيعي من عبارات الوحي بشقيه، فالنبي صلي الله عليه وآله لم يكن يري من هو أولي منهم بهذا المقام، بل لم يكن يراه لغير هم أبدا، إذ أننا نلمس ذلك في المقام، الذي حفظه النبي الكريم لهم. وليس ذلك من حيث الاحساس الأبوي الخاضع لقوانين النفس البشرية، وإنما هو أمر تلقاه النبي صلي الله عليه وآله متنزلا من مقامات الوحي الإلهي، موضحا السنخية والشبه الذاتي بين أهل البيت النبوي و بين محمد صلي الله عليه وآله ذلك لأن الأبوة مهبط لوحي العاطفة التي

كثيرا ما تتخطي الحق وتنطق عن الهوي ولهذا فقام أهل البيت لما كان مرتكزا علي الأمر القرآني بوجوب طاعتهم من حيث إنهم أولو الأمر، تري الشق القرآني يمثل أساسا منيعا لمقام العترة، وحينما تري وصف السنة لعترة النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام بأنهم الهداة الذين لا يضل من تمسك بهم تعلم طبيعة هذا المقام الصادرة من جانب الوحي الإلهي وعندئذ نعلم السنخية بين العترة ومحمد النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وبيان هذا المقام ليس له مسير غير قنوات الوحي الذي ينتظم كل نفس النبي صلي الله عليه وآله وكل حياته بحركاتها وسكناتها، ولهذا كان الاستحقاق للخلق العظيم الذي يبرئ النبي عليه وآله الصلاة والسلام من نزعات الأبوة البشرية في بيان مقام العترة. وعلي هذا الأساس فهو مقام لهم من صميم أنوار النبوة، بل مقام من مقاماتها، صاغه الوحي في عبارات لا تخفي علي من له مسكة من الادراك وقدر من ملكة التدبر. [ صفحه 214] (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) [304] ، فالأجر لا بد أن يكون علي قدر نوع العمل، ولذا فمودة أهل البيت لا بد أن تساوق من حيث القدر ما جاء به النبي الأكرم من نعمة الإسلام والرحمة التي ما أرسل إلا بها. ولو كان هناك أجر يضاهي ذلك غير مودة أهل البيت يمكن أن يكافأ به النبي صلي الله عليه وآله لكان هو الأجر.. وهذا أمر لو تدبرنا عظيم. إن هذا الأجر أدناه تسليم زمام الأمر في قيادة المسلمين وإدارة شؤونهم بعد النبي الأكرم لأهل بيته الذين ساوت مودتهم - من حيث إنها الأجر - نعمة الدين الإسلامي من حيث إنه عليه بهذه المودة. وهذا التساوي

السنخية والشبه القوي بين النبي صلي الله عليه وآله وهذا الدين الذي هو خلق النبي المعصوم وطريقة حياته صلي الله عليه وآله من ناحية.. والشبه القوي بين العترة الطاهرة والنبي صلي الله عليه وآله من ناحية أخري. ووجه الشبه بين العترة والنبي الأكرم هو تلك المودة، من حيث إنها واجبة في حق العترة، ومن حيث إنها الأجر الذي استحقه النبي صلي الله عليه وآله مقابل ما جاء به للناس من هداية ورحمة.. فمودة العترة كأجر ترضي النبي صلي الله عليه وآله بلا ريب، فهي في حقيقة الأمر مودة للنبي نفسه، فتدبر. ولكن، هل تصح هذه المودة مع المخالفة للنبي في نهجه؟ وهل يمكن تصورها مع مشاقة النبي صلي الله عليه وآله؟! أبدا. فلا يستطيع أحد ادعاء مودة النبي صلي الله عليه وآله وهو مخالف له. فهذه المودة لا تستقيم إلا باتباع النبي صلي الله عليه وآله، ولما كانت مودة النبي صلي الله عليه وآله هي في عترته.. فما هو أنسب أسلوب للمودة يمكن أن يحفظ به النبي صلي الله عليه وآله في عترته؟ أليس هو الاتباع للعترة والاقتداء بهم.؟ أجل، إن مودة النبي صلي الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السلام لا تغني إلا اتباع النبي الكريم باتباع أهل البيت من عترته، لأن هذا هو الذي يرضي النبي صلي الله عليه وآله ويسره لا غير. ولو كان ودهم يعني المحبة دون الاتباع فهذا لا يختص بأهل البيت النبي وحدهم، وإنما هو أمر مطلوب بين عامة المؤمنين الذين هم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد... [ صفحه 215] إذا، فلا يختص أهل البيت بذلك، ولكن إضافة إلي هذا المعني الشامل لكل المؤمنين يتوفر معني آخر يتميز

به ود النبي صلي الله عليه وآله عما سواه من ود بين المسلمين، وهو الاقتداء والاتباع بلا ريب، كما كان حب الله هو اتباع النبي صلي الله عليه وآله، إذ ليس لحب الله معني إذا قرن بمخالفة النبي صلي الله عليه وآله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [305] فحب الله يستلزم اتباع النبي صلي الله عليه وآله الذي هو سبب حب الله للتابعين، وهو رحمته. إن الهدف الأساسي والدائم للقرآن هو تهيئة وسائل وسبل الهداية والنجاة للناس بحكم أنه رحمة جاءت للناس عبر النبي صلي الله عليه وآله الذي ما أرسل إلا رحمة بهذا القرآن. ولا يمكن أن يحدد الله الأجر للناس مقابل هذا الدين وتلك الرحمة، ويكون هذا الأجر متضمنا للشقاء! فهذا الأجر الذي هو مودة العترة أحد قنوات هذه الرحمة الإلهية. كما لا يمكن أن تتحقق هذه الرحمة مع المخالفة.. إذا، لكي تنتقل الرحمة أيضا عبر هذا الأجر - أي مودة أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله - لا بد أن تعني تلك المودة الاتباع والاقتداء. وبهذا يتحقق الهدف الأساسي للدين، وهو هداية الناس وإرشادهم لما هو خير لهم وأبقي، لأن المخالفة عمدا أو تساهلا تبعد المخالف عن قنوات الرحمة تلك. ولهذا، لا يستقيم ودهم وحبهم مع مخالفتهم في أمر أو نهج، لأن في هذا إيذاءهم وإيلامهم بلا شك. ولا يلتئم وودادهم ووداد من صدر منه إيذاؤهم وإيلامهم ووداد من كانت منه شكواهم. ولهذا كانت مودة أهل البيت أعظم أجر يتلقاه النبي صلي الله عليه وآله من أمته.. لماذا؟ لأن النبي الأكرم - الذي هو عزيز عليه ما عنت المؤمنون، حريص عليهم في هدايتهم، رؤوف بالمؤمنين رحيم - لا

يسره شئ مثل أن يري أمته في نجاة وسلامة وفي أمن من عذاب يوم عظيم. ولذا كان اتباع الناس لأهل بيته في دينهم أجرا يتحقق به رضاه وسروره لما سيجده الناس من نجاة وسلامة. فالنبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته الكرام هم حملة هذا الدين، وهم العارفون به، والرافعون عنه ضلالات المضلين وأخطاء الجاهلين، وأحقاد الحاقدين، ونفاق المنافقين. وليس هذا [ صفحه 216] مختصا بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، وإنما هذه مهمة ومسؤولية كانت علي عاتقهم منذ أن أنزل الله تعالي قوله (وأنذر عشيرتك الأقربين) [306] فأراد الله بذلك إعدادهم لتلك المسؤولية التي انحصر القيام بها فيهم، استمرارا لمنهاج النبي صلي الله عليه وآله. ثم إن هذه المسؤولية نالها أهل البيت في مقابل الالتزام الذي تأسس يوم عرض النبي صلي الله عليه وآله هذا الدين علي عشيرته الأقربين، طالبا منهم العون والمؤازرة في مسؤولية القيام بتبليغه، علي أن تكون لمن يلتزم المؤازرة والمناصرة الخلافة والولاية علي الناس من بعد النبي صلي الله عليه وآله. فالتزم الإمام علي عليه السلام بذلك مؤسسا بالتزامه هذا مسؤولية عترة النبي الكريم الذين نشأوا وتربوا عليها أحسن تربية وأفضل تنشئة في كنف النبي صلي الله عليه وآله، يرفع إليهم كل يوم علما، إعدادا لهم واختصاصا بهذا المقام، باعتباره ثوابا وأجرا لما التزم به علي عليه السلام، مؤسسا بذلك المقام والمسؤولية الطبيعية لذريته من أبناء الرسول صلي الله عليه وآله. قال رسول الله صلي الله عليه وآله بعد أن جمع إليه أربعين نفرا من قريش من بني عبد المطلب: "... يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم

بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني علي أمري هذا، علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فقام علي عليه السلام: " أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ رسول الله وقال: إن هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا... " [307] . إذا، فهذه الأولوية في تولي أمر المسلمين بعد النبي الأكرم أمر ثابت للعترة، ولا يجوز لأحد أن ينافسهم فيه وينازعهم. والقبول بهذا الالتزام لنيل هذا المقام هو إشارة واضحة إلي الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلي الله عليه وآله.. فنالت ذلك العترة بالإيمان المبكر الذي شع في قلب سيدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهكذا ظل الأمر فيهم إيمانا خالصا لم تخالطه شوائب الشرك أو نزعات الشك التي أصابت البعض قبل إسلامهم وبعده. [ صفحه 217] ثم إنه لما حانت لحظة من لحظات الدفاع عن هذا الدين أمام افتراءات نصاري نجران، لم يستنفر الله تعالي لهذه المهمة العظيمة غير النبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته الأكارم. فهؤلاء نصاري نجران يحاجون النبي الكريم من بعد ما جاءه من العلم في أمر عيسي عليه السلام، فيأمره الله تعالي بمباهلتهم، ولكن بعد أن يدعو أهل بيته إذ أنهم شركاء في الأمر، فقال له تعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [308] . إن هذا الأسلوب في الدفاع عن الدين والذب عنه ليس في مقدور أي فرد من الناس، ذلك لأنه ليس فيه سلاح سوي سلاح الإيمان واليقين الصادق بما نزل به الوحي، بل ليس إيمانا مسبوقا بالشرك أو

يمكن أن يخالجه شك من بعد. وإن الدفاع عن هذا الدين بالسيف هو دفاع لا شك فيه، ولكن قد يكون المدافع لا يملك إلا سيفه وشجاعته وحميته، أو قد لا يملك إلا الرغبة في الغنائم ومكتسبات الحرب.. أما الوقوف أمام النصاري، ودعوتهم إلي التوجه إلي الله تعالي بالمباهلة - لتحديد الكاذب من الصادق في أمر الدين - فهو أمر يستوجب يقينا بهذا الدين وربه، لا يشوبه شئ. ولما كان الله تعالي لا يمكن أن يختار لهذا الأمر شخصا شاب إيمانه شك وريب أو نقص وضعف.. كان إيمان العترة في أوج كماله وتمامه، فانتدبهم الله تعالي للذب عن الدين بهذا السلاح الإيماني التصديقي. فدعا الحسن والحسين، لقوله " أبناءنا "، ودعا فاطمة لقوله " نساءنا "، ودعا عليا وجاء بنفسه لقوله " أنفسنا "، إذ قصد من قوله " أنفسنا " محمدا وعليا في آن واحد، وهو يوضح أنهما من نفس واحدة. وبهذا يؤكد الوحي تقدم أهل البيت في القيام بمسؤولية هذا الدين ولازم ذلك عدم أهلية غيرهم لهذه المسؤولية في هذه المقام المتقدم بالذات، أي مقام أولي الأمر. فالعامل في السفينة ليست له مهمة الربان فيها، وليس هو أهل لقيادتها، وإن حذق في وظيفته. وإنما هو أهل لما هو فيه من وظيفة ومسؤولية تدار من مقام الربانية. [ صفحه 218] ونسبة لهذه الأولوية في مقام القدوة والاقتداء، في جميع مناحي الحياة بلا استثناء، قال النبي صلي الله عليه وآله محذرا: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ". ويقول ابن حجر: " وفي قوله صلي

الله عليه [وآله] وسلم: فلا تقدموها فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.. دليل علي أن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما علي غيره " [309] . علي أن قوله صلي الله عليه وآله: " ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم " إشارة إلي أعلميتهم الأزلية، وبالتالي تقدمهم الأزلي علي غيرهم.. فلا ينتظر أن يتحقق لهم هذا التقدم لاحقا ثم به يتقدمون علي غيرهم فيما بعد. وبعد هذا كله.. كيف يمكن أن يتقدم أبو بكر وعمر علي باب مدينة علم الرسول؟! أو كيف يتأتي لمعاوية أن يفوق الإمام الحسن في علمه؟! أو يبذ ابنه يزيد السكير الإمام الحسين علما ومعرفة؟! فكيف تقدم هؤلاء علي العلماء من عترة النبي سيد الأنبياء، والنبي يناديهم في أخراهم: " واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين " [310] فواعجبي من القوم! فبعد هذا كله تقدموهم وجعلوهم في سوقة الرعية، لا يؤتم بهم في دين، ولا يقتدي بهم في عبادة!! وإنا لله وإنا إليه راجعون. إن أهل البيت أولو الأمر بلا مراء ولا جدال. إنه أمر حكم به النقل والعقل، ويحكم به العقل لو فقد النقل. ولكن لو ترك النقل وفقد العقل حكم لغيرهم الجهل.. وعندها لات ساعة مندم! علي أن العصمة التي يتمتعون بها، بل يلزم أن تكون لهم، تلك العصمة تبين هذا الأمر جليا وتحصر ولاية الأمر فيهم. وكل من نازعهم الأمر عبر التاريخ إنما هو قد أخذ. [ صفحه 219] ما ليس بحق له، وناقل رص البناء إلي غير أساسه، عامدا في مخالفة النصوص، أو مخطئا في تأويلاتها. وقبل أن نبين عصمة

الطاهرين وأبناء سيد الأنبياء والمرسلين علينا أن نوضح، في اقتضاب، العصمة في ذاتها ما هي؟!

ما هي العصمة؟

إن العصمة - كما ذكرنا سابقا - هي الأساس الذي تدور عليه الحجية، والقاعدة التي بني عليها وجوب الطاعة علي سبيل الجزم والقطع. والتلازم بين العصمة ووجوب الطاعة القطعي يحتم اتصاف من وجبت طاعته علي هذا النحو بهذه العصمة، التي يتحتم بها إبعاد أي احتمال لصدور الخطأ عن الذي وجبت طاعته قطعا. فما هي هذه العصمة؟ وما هو السر في التلازم بينها وبين هذا الوجوب القطعي في الطاعة؟ لقد تهيب كثير من الناس وصف البشر بالعصمة، وأدي تهيبهم هذا إلي التردد حتي في عصمة النبي صلي الله عليه وآله، فنفاها بعضهم عنه، ونسبها إليه بعضهم، وقيد بعضهم نسبتها إليه في حال تبليغه الوحي.. وسبب كل ذلك يعود إلي الجهل أو الفهم السيئ لمعني العصمة! فالعصمة ليست أمرا اكتسابيا حتي يصبح في متناول كل فرد، وإنما هي هبة من الله تعالي وهبها لبعض من عباده، لأداء مسؤولية إيصال الوحي إلي الناس، والإسهام في إرشادهم إلي سبيل المؤمنين، وسواء تهيب الناس نسبتها إليهم، أو لم يتهيبوا ذلك، فالله أعلم بمن يهب العصمة. إن العصمة في حقيقة الأمر هي وليدة الإيمان، الإيمان الذي يبلغ شأوا لا يبقي للشك إليه من سبيل. والإيمان في هذا المقام العالي لا يعني إلا الاقتراب المعنوي من حضرة الله تعالي، والولوج إلي ساحة النور الإلهي. فالله نور، والانغماس في هذا النور تتلاشي فيه ظلمات النفوس وتزول الحجب، ولا يبقي ما يعتم الرؤيا. وفي مقام [ صفحه 220] القربي هذا تمتلئ النفس باليقين، ليس امتلاء وعاء، وإنما استحالة إلي اليقين... بل عين اليقين.. فينكشف باليقين اليقين، ولا يري

من خلف اليقين، حيث لا شئ في عالم اليقين غير اليقين. فأين النفس وأهواؤها؟ وأين الشيطان وهمزاته؟! فهذا مقام ليس لهما إليه من نفوذ. إن شدة العلم اليقيني إنما هي في عالم اليقين كما وكيفا، فلا يغدو شئ غير معلوم، ولا تبقي حقيقة غير مشهودة. وعلم في هذه الشدة ليس للجهل فيه من نصيب أبدا. والأخطاء معاليل الجهل، وحيث لا جهل فلا خطأ، وحيث اليقين فكل شئ هناك صواب وحق صرف. ولهذا لا يمكن تصور هذه العصمة في هذا المقام مسبوقة بارتكاب المعاصي والأخطاء، أو معقوبة بها، لأن الإيمان الباعث لهذه العصمة هو إيمان مبكر جادت به العناية الإلهية، يلحق المعصوم قبل أن يأتي إلي هذا الوجود، إذ صنع علي عين الله منذ الأزل، وسبقت له من الله الحسني من قبل، فلا مجال المسبوقية المعاصي ولا معقوبيتها، لأن اليقين ملازم لهذه العصمة، - بل ملازم للمعصوم - ملازمة ذاتية لا تسمح بنفوذ مسببات ارتكاب المعاصي والأخطاء. وهكذا تشمل هذه العصمة حياة المعصوم كلها لا تتقيد فيها بحال دون حال، ولا سن دون سن.. فالمعصوم معصوم منذ الأزل حتي الأجل. ولقد رأينا نبي الله عيسي عليه السلام قد جعل وأوتي الحكم صبيا، وخاطب الناس وهو في حضن أمه. وهكذا الأنبياء جميعا، وهكذا أولو الأمر، إذ أنهم شركاؤهم في وجوب الطاعة الجازم، شركاؤهم في العلم الذي يرثون به الأنبياء، فهم العلماء وهم ورثة الأنبياء. فالرسول صلي الله عليه وآله لما كان يؤدي الرسالة، ويقوم بهداية الناس علي أساس هداية الوحي، عبر العصمة التي تؤمن أداء الوحي علي النحو الذي أنزل به.. علم أن العلم اليقيني الشامل الذي يتمتع به العلماء من خلفاء الرسول وأولي الأمر يسد مسد

الوحي في هداية الإمام، وهو بدوره يهيئ العصمة المطلوبة لمواصلة أداء الدور الرسالي علي النحو الذي [ صفحه 221] نزل به الوحي ومشي عليه النبي الأكرم صلي الله عليه وآله، دون تغاير وتفاوت، فالوحي النازل علي النبي صلي الله عليه وآله يتمثل في العلم اليقيني عند الإمام المعصوم، مع الاشتراك في العصمة اللازمة لتبليغ الرسالة، وإيجاب الطاعة بالقطع والجزم... فمن هم أهل البيت؟ وهل هم معصومون؟

اهل بيت النبي معصومون

إن عصمة أهل بيت النبوة عليهم السلام لهي من المسائل التي يحكم بها كل عقل سليم، لأنه ما دام قد ثبت أن أولي الأمر يلزم أن يكونوا معصومين، وثبت عقلا أنه ليس هناك من البشر من يرقي إلي هذا المقام غير أهل البيت.. فقد ثبتت بالضرورة عصمتهم. علي أن النقل قد أشار إلي عصمتهم بوضوح وصراحة، فهم العلماء الذين يرثون بعلمهم هذا إرث الأنبياء من العمة بوضوح وصراحة، عليهم من سبيل. وأما الأدلة التي تشير إلي هذه العصمة وتوضح اختصاصهم بمقام ولاية الأمر من بعد النبي صلي الله عليه وآله، فإليك منها ما يلي:

دلالة آية التطهير علي العترة من خلال العصمة

يقول الله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [311] . إن الأمر الذي لا شك فيه أن هذه آية من آيات القرآن الكريم، ونحن نعلم أن القرآن منزه عن اللغط واللغو في الكلام، فإن ذلك نوع من العبث والباطل الذي لا يخالط القرآن بأي حال من الأحوال. ولهذا فأي عبارة في القرآن الكريم وأي كلمة تضمنتها آياته لم توضع عبثا دون أن تحتوي علي معني له أثر أساسي في تشكيل معني الآية التي فيها تلك الكلمة. ولهذا لا يمكن مثلا أن نتجاوز كلمة (إنما) المذكورة في الآية التي نحن بصددها، ولا يمكن [ صفحه 222] أن نتجاوز التطهير بعبارة (تطهيرا)... لأنه لو كانت تلك العبارات خالية من معني أساسي فيه فائدة لكان إسقاطها من قبل الله تعالي واجبا، لأن الحق بعيد عن ذكر ما لا فائدة فيه في الكلام، فكان يمكن أن يكتفي مثلا في بدء الآية بقوله (يريد الله ليذهب عنكم الرجس...)، أي بدون ذكر (إنما) في البدء. أو كان يمكن أن يختم الآية

بقوله: (يطهركم)، بأن يقول (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم)، فكان يمكن أن تكون الآية بعد إسقاط العبارات كالآتي: (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم)، فما الإشكال في هذا؟! إذا المعني كما يبدو في الظاهر محفوظ، وهو تطهير أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم! ولكن هذا نظر من لم يعرف للقرآن قدره واكتفي منه بالسطح والقشور.. فالمعني أوسع من أن نلتمسه في ظاهر الألفاظ دون الغوص في أعماق معانيها، والتدبر في دقائقها ولطائفها. من الخطأ أن نكتفي من عبارة (يريد الله) بمفهوم الإرادة، دون تحديد أي إرادة هي، ومدي تعلقها بالمراد. كما أنه من الخطأ أن نكتفي من عبارة (ليذهب) بمعني الإبعاد، دون أن نتدبر في كيفيته، ودون أن نربطه بنوع الإرادة التي تم بها هذا الاذهاب. وعموما فمن الخطأ الفاضح أن لا نستخلص من معني الآية، بعد التدبر فيها، خصوصية تميز أهل البيت عن سائر الناس. وعندئذ تنكشف حقائق ما كنا لنراها لو قنعنا بشكل الحروف وصور الألفاظ من هذه الآية. إن الرجس هو كل قذر، حسا ومعني. والمعني منه هنا ما يتعلق بالنفس الإنسانية من قذارة الذنوب والمعاصي: سواء أكبرت فصارت شركا، أو صغرت فشملت ما دون ذلك. وإذهابها هو إبعادها وإزالتها وتطهير النفس منها تطهيرا لا يعقبه تقذر أو تلوث بها. ولكن، كيف يتم إذهاب الذنوب والمعاصي وقاذورات النفس من الأخطاء والقبائح؟ وبأي أسلوب يتم ذلك؟ إن تطهير النفس البشرية لهو من الأهداف الأساسية لهذا الدين، بل هدف لكل الأديان السماوية. وهو يتم في الغالب عن طريق أداء التكاليف التي أوجبها الله علي [ صفحه 223] الناس، لأن أداء التكاليف والالتزام بالأوامر والانصراف عن النواهي يوجب التطهير ومحو

الذنوب.. وعلي هذا يكون الله تعالي قد أراد إذهاب الرجس عن الناس، ففرض عليهم التكاليف ليتم لهم التطهير عن طريق الالتزام بالشرع والعمل به. إن هذه الإرادة التي تستتبع تطهير النفس البشرية لا تتحقق إلا بأداء التكليف والشرع، فهي إرادة يمكن أن تتعلق بالفعل البشري الاختياري، ويمكن أن لا تتعلق به، لأن سبيلها هو القيام بأداء التكليف في الواقع، ومرادها عبر هذه الواسطة هو التطهير، ولهذا يمكن أن يتحقق ما أراده الله، ويمكن أن لا يتحقق، لأن الإنسان مختار في أداء التكاليف دون جبر من الله تعالي، فإذا أدي ما عليه من تكليف علي النحو المطلوب طهر وذهبت ذنوبه فيتحقق ما أراده الله، وإذا لم يؤد ما عليه من تكاليف بقي في أدرانه النفسية ولا يطهر فلا يتحقق المراد، فالمسألة موصولة بموقف الإنسان من أداء التكاليف. ولا غضاضة في أن لا يقع ما يريده الله تعالي عن طريق الإرادة التشريعية، لأن مدار الإرادة هذه هو فعل المكلف الاختياري. ثم إن هذه الإرادة التشريعية لا تختص بأحد دون أحد أو قوم دون قوم، ذلك لأن كل الناس مطالبون بأداء التكاليف، فيكون الله تعالي قد أراد لهم جميعا التطهير من الذنوب والرجس. إذا، فهي إرادة شاملة لكل فرد من المسلمين، ولا يتحتم تحققها، لأن من الناس من يقوم بأداء التكاليف، ومنهم من لا يعبأ بذلك. ولكن كيف تستقيم عمومية الإرادة التشريعية هذه وشمولها لكل فرد وعدم اختصاصها بأحد من المسلمين مع الحصر الوارد في الآية الكريمة، والواضح في لفظة (إنما) التي تفيد الحصر كما هو معلوم؟ وكيف تستقيم تلك العمومية مع اختصاص الإرادة بالتطهير بفئة معينة من الناس؟ وكيف يستقيم أن تكون الإرادة تشريعية شاملة لكل فرد،

عبر أداء التكاليف ومن خلال القيام بالشرع، وقد اختص الخطاب بأهل البيت دون غيرهم من الناس، كما هو واضح في الآية؟! إن أهل البيت ليس وحدهم المطالبين بأداء التكاليف والالتزام [ صفحه 224] بالشرع، بل هو أمر شامل لهم ولغيرهم من الناس، والتطهير عن طريق القيام بأداء التكليف حق لكل فرد مكلف.. وهنا يجب أن نعلم أن الحصر الوارد في الآية واختصاص التطهير بأهل البيت ينفي أن تكون الإرادة هنا إرادة تشريعية تقتضي العموم، ولذا فهي إرادة من إرادات الله التكوينية التي تتعلق بما يصدر من الله تعالي من أفعال، ولا يتصور انفكاكها عن الفعل الصادر منه تعالي. فلا يريد الله تعالي بهذه الإرادة التكوينية شيئا إلا حدث.. فإرادته هي فعله، وفعله هو إرادته. وإرادة الشئ تكوينيا تعني إيجاده وخلقه وتحققه بلا انفصال.ويصور الله تعالي هذا المعني في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) [312] . فهذا هو الايجاد والخلق. وهذه الإرادة - كما وضح - تختلف عن تلك التشريعية، فالمكلف إذا صلي وصام مثلا يتم ما أراد له الله تعالي من تطهير، ولكن إذا لم يؤد ذلك لا يتحقق تطهيره. إذا، فالإرادة التكوينية هي إرادة خاصة لا تنفك عن المراد بتاتا. ولعدم عمومية هذه الإرادة، فهي تستقيم مع الحصر والتخصيص الوارد في الآية. ولعدم انفكاكها عن المراد فقد وقع إذا بها التطهير لأهل البيت عن الرجس والذنوب والمعاصي والقبائح. ومن وقع له ذلك التطهير بها يلزم أن يكون معصوما، وإلا فلا معني للتخصيص ولعدم انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد. ولهذا.. فأهل البيت معصومون، وهذا هو المطلوب. ثم إن هذا التطهير ما هو إلا ذلك العلم اليقيني اللدني الذي ليس

بينه وبين نفوس العترة أي تناف أو ثنائية تجعلهم كوعاء له، بل هو علم مازج النفس منهم تمازجا ذاتيا واتحدبها اتحادا معنويا، كما يتضح من عدم افتراقهم عن القرآن في حديث الثقلين. فالعترة هم - كما عرفهم النبي صلي الله عليه وآله - ويكون القرآن حياتهم لا غير، وما في ذلك إلا العصمة. ولما كان الله تعالي قد أنزل كل شئ بقدر معلوم يتطابق مع طاقة وسعة الشئ فإنه [ صفحه 225] سبحانه وتعالي لا يكلف نفسا إلا ما تسعه، ولا يفيض عليها إلا بقدر ما تطيقه. وليس الناس سواسية في ذلك.. ولهذا فالطاقة الروحية والسعة المعنوية لأهل بيت النبوة منذ الأزل هي التي جعلتهم في قدرة وسعة أرحب تحصلوا بها علي قدر من الإيمان لا يتوفر لأي فرد من سائر الناس، فهو إيمان أفيض عليهم طبقا لسعتهم وطاقتهم. ولازم الإيمان العالي هذا تقوي من سنخه وطبعه وقدره، ولازم هذه التقوي علم يوازيها: (واتقوا الله ويعلمكم الله) [313] ، فكان هذا العلم هو العلم اليقيني الذي تتحقق العصمة به. وفي الواقع لم يتم الأمر لهم علي هذا التسلسل الذي ذكرناه في بيان ذلك المقام، وإنما الأمر واحد كلمح بالبصر، ومنذ الأزل. وإنما الألفاظ هي التي تخلق الانفصال بين الإيمان والتقوي، وهذا هو العلم اللدني لأهل البيت. وهم بهذا العلم - كما أوضحنا في بحث العصمة - عرفوا حقائق الأشياء وقبيح الذنوب معرفة ذاتية لا وصفية، فنفرت منها نفوسهم، إذ لا تشابه: فهي نفوس عظم فيها الله وامتلأت به نورا.. فهل يبقي مجال للتفكير في اجتناب ظلمات المعاصي فضلا عن ارتكابها؟!!

دلالة حديث الثقلين علي عصمة العترة

إن حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة المستفيضة، وهو من الآثار التي وقفت بشدة أمام

أشد الناس تعصبا ضد أهل البيت. إن ابن تيمية المعروف بإنكاره لكل فضيلة من فضائل أهل البيت، والثائر علي كل منقبة من مناقبهم قد امتدت ثورته بلا حياء ضد فضيلة أهل البيت في حديث الثقلين! فلقد سعي الرجل بكل ما أوتي من بغض لعترة النبي صلي الله عليه وآله إلي نفي الأمر باتباع العترة في هذا الحديث، لعله يخفف من وزن الثقل الثاني فيه بإنكاره إياه. يقول ابن تيمية: " الحديث الذي في مسلم.. ليس فيه إلا الوصية باتباع الكتاب وهو [صلي الله عليه وآله] لم يأمر باتباع العترة [عليهم السلام]، ولكن قال: أذكركم الله في أهل بيتي "! [ صفحه 226] عجبا لك يا شيخ الإسلام! لقد رأينا أناسا اتبعوك في منهاجك وفتاواك، فهل أمر يا تري باتباعك ولم يؤمر باتباع العترة؟!! إن البغض يعمي ويصم، فليرهف ابن تيمية سمعه ويفتح بصره، حتي يسمع ويري افتضاحه. وقبل أن ينكشف أمر الشيخ، علينا أن نقرأ حديث الثقلين في صحيح مسلم: قال رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم: " ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدي والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ". إن هذا الحديث من الأحاديث القاصمة لكل من ناصب البيت النبوي العداء أو أظهر استهانة بأمرهم. كما إنه صرخة في مسامع من وضعوا أصابعهم في آذانهم أو استغشوا ثيابهم. كما أنه ذكري طيبة لمن آمن بالله وأخذ بالثقلين وألقي السمع وهو بصير. إن هذا الحديث مصيف ترتاح علي كلماته لهفات من

يكن لأهل العباءة والكساء الخيبري والمرط المرجل بالشعر الأسود محبة وودادا لا ينضبان، ألزمهم بالاتباع واتخاذ القدوة فيهم. أما ابن تيمية فقد صد ولج، وتعاطي فعقر، وفصل الثقلين وأبي إلا الشقاق. إن أول الحديث يفضح ابن تيمية ويهيل التراب علي رأسه، لقد ذكر ابن تيمية أن النبي صلي الله عليه وآله لم يأمر باتباع العترة، وبالتالي فهو ينكر أنهم الثقل الثاني! لا بأس، فليقل ما يشاء، ولكن عليه أن يثبت ما يقول. إن الرسول صلي الله عليه وآله قد قال في بدء الحديث: " وأنا تارك فيكم الثقلين "، فلو كان القرآن هو الثقل الأول، واستنكر ابن تيمية أن تكون العترة هي الثقل الثاني.. فعليه أن يدلنا علي ثقل ثان حتي لا يكذب النبي صلي الله عليه وآله حيث قال صلي الله عليه وآله: " وأنا تارك فيكم الثقلين ". فإما أن يكونا ثقلين حقا، أو يكون النبي صلي الله عليه وآله قد قال ما ليس بحق، وهو الكذب! وعلي هذا الأساس، فابن تيمية ينتظر من إنكاره الثقل الثاني أن يصدقه الناس ويتبعوه علي ذلك ويكذبوا النبي الصادق ويخالفوه!! [ صفحه 227] ولو قبل ابن تيمية باتباع القرآن وحده، فعليه أن يقبل النقص في دينه، لأن القرآن ثقل واحد، والنبي صلي الله عليه وآله قد ترك فينا ثقلين، أولهما القرآن الكريم وأنكر ابن تيمية الثاني. ولو كان لا بد لابن تيمية من ثقل ثان - وبالطبع لا بد له من ذلك - فمن ذا الذي يطمئن إليه ابن تيمية، في مقام الثقل الثاني، غير أبناء الرسول وأهل بيته؟ لقد ذهب ابن تيمية وما يعتقد، فعلي أتباعه أن يعلموا أن ابن تيمية لم يكن يري باتباع

العترة النبوية، علي الرغم مما قاله فيهم رسول الله صلي الله عليه وآله! عن زيد بن أرقم، قال: " قال رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم: من أراد أن يحيا حياتي ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد وعدني ربي، فليتول علي بن أبيطالب، فإنه لن يخرجكم من هدي ولن يدخلكم في ضلالة " [314] . وعلي عليه السلام هو رأس العترة وسيدها، وهو رأس الثقل الثاني بلا ريب، وتأتي من بعده ذريته من أبنائه العلماء. يقول النبي المصطفي صلي الله عليه وآله: " يا أيها الناس، إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل " [315] . وأرجو أن لا تكون قد ذهبت بابن تيمية الأباطيل، فتذهب باتباعه أيضا. إن حقانية اتباع العترة المحمدية لهو من بديهات العقول، فالرسول صلي الله عليه وآله لما علم أنه مجيب رسول به أخبر الناس بأنه ترك لهم الثقلين. ولا معني لهذه الوصية، ولا معني للثقلين لو لم يكن فيهما القدوة والاقتداء. ولا معني لتقديم القول في دنو الأجل لو لم يكن النبي صلي الله عليه وآله يريد توضيح مقام المتبع والمقتدي به من بعده. ولكن ابن تيمية لم يفهم ذلك، وبدلا من الفهم السليم واتباع ما ينبغي له اتباعه.. سار علي إرضاء الفطرة الأموية التي رضعها من صدر الدولة الأموية! ولو ظن ابن تيمية أن قول النبي صلي الله عليه وآله " أذكركم الله في أهل بيتي " ليس فيه إشارة إلي اتباعهم فهو مخطئ، إذ أن تذكير النبي صلي الله عليه وآله الناس بالله في أهل بيته ليس الغاية منه منع [ صفحه 228] الناس عن أذيتهم بهذا المعني الساذج الذي اختاره ابن

تيمية ضمنيا، وأذية أهل البيت لا يجب أن نفهمها مقتصرة علي ما يمسهم بالذات في نفوسهم، ولا تنحصر بما يضر بأبدانهم فحسب، بل إن ما يؤذي أهل البيت أكثر، وبالمعني الأبلغ، هو عدم اتباع الناس لهم، باعتبارهم يعلمون - كما علموا من النبي صلي الله عليه وآله - إنهم سفينة نجاة الأمة إذا اتبعوهم، وبهم هدايتهم إذا اقتفوا آثارهم، وسيصيب الناس الضلال إذا ما خالفوهم. فأهل البيت كالنبي صلي الله عليه وآله في حرصهم علي نجاة الناس وهدايتهم، وكالنبي صلي الله عليه وآله في رأفتهم بالمؤمنين ورحمتهم بهم.. ولهذا، فهم يألمون إذا خالفهم الناس، ويتأذون إذا لم يتبعوهم، وهذه أكبر أذية لهم من الناس. فاسمع كيف يتألم العترة علي عليه السلام من مخالفة القوم له، وهو يتعجب من ذلك أشد العجب: " فيا عجبي! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق علي اختلاف حججها فيدينها؟! لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي " [316] . ونحن نعلم أن مفارقة الناس ومخالفتهم لأهل البيت يؤلم العترة بلا ريب. ولما فهم من قوله: " أذكركم الله في أهل بيتي " وجوب تجنب إيذائهم ونهي النبي صلي الله عليه وآله الناس من إيلامهم تحتم إذا اتباعهم، لأن المخالفة تؤذيهم بلا شك، وإيذاؤهم ممنوع بالنصوص، فإنه لا يمكن أن تفرح الزهراء بمخالفة الناس لأمير المؤمنين علي عليه السلام، بل يشتد غضبها، وغضبها غضب النبي صلي الله عليه وآله، وغضبه غضب الله بلا ريب.. فلا حل لهذا إلا الاتباع الصادق لعترة النبي صلي الله عليه وآله. ونسأل شيخ الوهابية وأتباعه: ماذا أراد النبي صلي الله عليه وآله أن يكتب للناس عندما قال لهم: " هلم - أو قربوا

- أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده "؟! لو كان النبي صلي الله عليه وآله آمرا باتباع القرآن وحده فلم أخرج الناس من حجرته غاضبا لما قالوا: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله.. وقال لهم قوموا؟! فماذا أراد أن يكتب لهم في ذلك الوقت؟ بالتأكيد لم يكن النبي الكريم يريد كتابة وتدوين السنة، فهو إن لم يكتبها لهم في [ صفحه 229] خلال ثلاث وعشرين سنة من عمر الرسالة، ولم يتسع الوقت لذلك.. فكيف اتسع له الوقت لكتابتها وهو محتضر؟! ولو كان يريد أن يكتب لهم باتباع الكتاب وحده، فقد سبقه ابن الخطاب بذلك لما قال: " حسبنا كتاب الله "، ولكن لم يقبل منه، بل غضب لذلك وأخرجهم، كما عرفت. إن ما أراد النبي صلي الله عليه وآله كتابته للناس في لحظة احتضاره إذا هو الثقل الثاني، ليعمل به إلي جانب الثقل الأول من أجل أن تتحقق لهم النجاة من الضلال. ولما لم يكن ما أراده هو تدوين السنة فهو الوصية: العترة، بلا شك، إلي جانب القرآن. فالعترة هي الثقل الثاني، واتباعها هو اتباع القرآن. وهذا هو بعينه ما فهمه عمر، واعترف به لابن عباس، كما سيأتي. علي أن ما ذكرناه تؤيده روايات الحديث الأخري، وتشرح ما جاء في رواية مسلم: عن زيد بن أرقم، قال: " رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي. وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " [317] . كما روي أحمد بن حنبل أنه صلي الله عليه [وآله] وسلم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل

بيتي. ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " [318] . وبهذه الروايات الواضحة تتضح حقيقة أهل البيت، وتظهر عصمتهم في أجلي مظاهرها، وتصرح بها عبارات الحديث في بلاغة وفصاحة يعيها من تدبر وتفكر. " وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " إن التدبر في العبارة أعلاه يزيل كل شكوك تثار حول مسألة عصمة أهل البيت، وبه يزول كل ما أثاره الناصبون من غبار حول أهل البيت وعصمتهم. [ صفحه 230] إن من المعلوم الذي لا شك فيه أن كتاب الله تعالي معصوم لا يأتيه الباطل من أي ناحية، ولا يعتريه التغيير أو التبديل بتغير الزمان أو تبدل المكان، إذ هو صالح لكل مكان وأوان، ثم إنه الثقل الأول من الثقلين. وقد علمنا أن العترة النبوية هي الثقل الثاني، وأن العترة وكتاب الله هما كفتا ميزان الدين المتعادل، وقد أخبرنا صلي الله عليه وآله بأنهما لن يفترقا حتي يردا عليه الحوض. إن الافتراق الذي نفاه النبي صلي الله عليه وآله بين الثقلين وضح عدم إمكانية حدوثه، لأن أداة النفي " لن " تؤكد عدم إمكانية الحدوث، وعبارته صلي الله عليه وآله: " حتي يردا علي الحوض " تبين عدم الافتراق بين الثقلين إلي يوم القيامة، فهما متلازمان معا أبدا ما بقي الزمان والمكان. ولكن.. ما هو نوع المعية بين الثقلين؟! وما هي كيفية الملازمة بينهما؟ علما أن الملازمة إما أن تكون مادية، وهو تلاقي الأشياء بعضها ببعض، كتلاقي جسمين متباينين جنبا إلي جنب. ويكون تلاقي الثقلين علي هذا المعني هو اصطحاب العترة لصحائف الكتاب، سواء بحملها بالأيدي أو بوضعها بالقرب منهم. وبعبارة أوضح هو عدم بقاء أحدهم إلا وفي صحبته مصحف.

ولكن هذا المعني لا يستقيم ولا يتفق مع اختصاصهم برفقة القرآن، وذلك لوجوه: أولا: إن عدم مفارقة الكتاب بهذا المعني المادي لا يختص بأحد من الناس، بل حتي غير المسلمين يمكن لهم مرافقة القرآن بهذا المعني واصطحابه أينما حلوا. ولهذا فليس في ذلك خصوصية أو أفضلية لأهل البيت، إذ يشاركهم في ذلك جميع الناس. ثانيا: إن النفي يؤكد عدم الافتراق بين الثقلين إلي يوم ورود الحوض. وعدم مفارقة القرآن علي هذا المعني أمر محال، فالنوم والموت والمرض كل ذلك من مسببات الافتراق بين العترة والكتاب. إذا، فليس هو المقصود من عبارة: " لن يفترقا حتي يردا علي الحوض ". وما ذكرناه في ذلك بديهي للغاية. ولا يبقي إذا إلا المعني المعنوي للمعية والتلازم بين الثقلين، إذ بذلك تبقي المعية أبدا ويظل التلاقي بينهما حتي بلوغ الحوض، ولا يؤدي النوم أو المرض أو الموت حالتئذ [ صفحه 231] إلي أي نوع من الافتراق بين الثقلين. وبهذا نفهم أن القرآن بمعانيه وأحكامه وأوامره ونواهيه وحكمه وأسراره وأغواره وكل علومه من لوازم أنفس العترة، إذ أنهم حملة القرآن ومخازن أسراره والمؤتمنون عليه. وبهذا نستطيع بكل سهولة أن ندرك من هم أهل الذكر [319] ، ومن هم الراسخون في العلم [320] وهذا هو معني عدم الافتراق بين الثقلين، وهذه هي المعية بين العترة والكتاب والقرآن بهذا المعني يمثل صميم حياة وسيرة العترة من حيث الالتزام بالكتاب والعمل به. وعدم الافتراق المقصود هو - في حده الأدني - عدم مخالفتهم للقرآن في شئ ما دامت الحياة بل حتي ورود الحوض، بل هو تجسد كتاب الله تعالي فيهم بكل أبعاده وكل آفاقه. ومن هنا يتضح معني وجوب التمسك بهم كوجوب التمسك

بالقرآن. إذا، فهذا الانسجام من حيث المعاني بين الكتاب والعترة هو انسجام لا ينفك واتحاد لا يتجزأ. والتفكيك بينهما محال إلا لفظا وتصورا، وإلا فالثقلان في واقع الأمر هما ثقل واحد، لأن العترة وحياتها القرآنية شئ واحد كوحدوية أي فرد في حياته التي يعيشها، فلا يقال هذا فلان وهذه حياته كل علي حدة، فحياة فلان هي حياة، إذ هي طراز تفكيره وأخلاقه وسيرته وديدنه وتصرفاته التي يبنيها علي ما جبل عليه أو تعلمه منذ صغره. وعلي هذا، فلا بد أن يتحقق التشابه الكامل بين القرآن والعترة، ولا بد أن تتوفر صفاتهما بعضا لبعض ولا بد أن يشتركا في كل خصوصية وصفة. ولما كان القرآن لا يأتيه الباطل بأي نحو كان وقد تكفل الله بحفظه وصيانته في كل آن كانت العترة كذلك: لا يداخلهم الباطل في حياتهم، إذ قد حفظوا من قبل الله تعالي. ولا يتصور ذلك إلا بعصمتهم من الذنوب والآثام والأخطاء والقبائح. ولو كان فيهم شئ من ذلك - وهم لا يفارقون القرآن - وجب أن يكون في القرآن شئ من تلك القبائح أيضا لعدم افتراقهم إلي يوم القيامة.. ولهذا قال علي سيد العترة عليه السلام: [ صفحه 232] " أنا القرآن الناطق ". وقوله هذا فيه إشارة إلي وجوب اتباع الإمام كوجوب اتباع القرآن لا سيما الناطق منهما. ولهذا نري أن حديث الثقلين ينسجم تماما مع آية التطهير، الأمر الذي يؤكد نزولها فيهم، ويظهر بكل وضوح مدي خطأ المستصغرين لشأنهم، والجاهلين بأمرهم، والتاركين الاقتداء بهم، والمائلين عنهم إلي غيرهم. والرسول يقول: " واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين " [321] ، والله

يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم.

دلالة حديث السفينة علي عصمة العترة

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح: من ركبها نجا " [322] عن حنش بن المغيرة، عن أبي ذر. يقول ابن حجر: " وجاء من طرق كثيرة يقوي بعضها بعضا [قول النبي صلي الله عليه وآله]: " ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " [323] . إن صراحة التعبير، ووضوح معاني الألفاظ في حديث السفينة.. إلي جانب أنه يقطع العذر علي الناس في عدم الاقتداء بالعترة، وفي ترك اتباع أهل البيت النبوي، وإلي جانب أنه يقيم الحجة كاملة علي من ركبته العصبية، وامتطته الأهواء النفسية والنزعات القبلية.. فهو يقسم الناس إلي فرقتين لا غير: فرقة ركبت علي متن السفينة وسلكت سبيل المؤمنين، وفرقة أوت إلي الجبل ليعصمها من الطوفان فكانت من الغارقين، فصاروا لذلك حزب إبليس. والعجب ممن يريد بيانا أصرح مما سمعنا في اتباع العترة والاقتداء بأبناء محمد نبي الله صلي الله عليه وآله! وأي تأويل يجوز به اتباع غيرهم من بني آدم؟! وهل عاقبة المتأولين بعد ذلك [ صفحه 233] إلا أن يبتلعهم الطوفان؟! إن هذا الحديث أيضا يتعاضد بشدة مع آية التطهير وحديث الثقلين. وهذه الثلاثة متضافرة يؤيد بعضها بعضا، وهي متفقة في الهدف ومتسقة في المعني. إن آية التطهير قد أوضحت زكاء العترة الطاهرة عن كل ما يشين البشر من قبح، فأبانت عصمتهم صريحة واضحة، فجعلهم النبي صلي الله عليه وآله - مع كتاب الله تعالي - ثقلين متلازمين لا يختلفان ولا يفترقان. ولذلك صاروا - حتميا - مثل سفينة نوح، إذ وجه الشبه هو النجاة والسلامة..

علي أن الأولي بها نجاة الناس من الغرق في الماء، والثانية بها النجاة من الغرق في الضلال، وشتان ما بين النجاتين! إن من المسلمات التي أقرها هذا الحديث هي أن أهل البيت هم المعيار الذي يفرق به الحق عن الباطل، ويميز به الصالح من الطالح من الناس، ويتضح به الصواب من الخطأ. وبالتأكيد يلزم أن يكون المعيار في منأي عن كل باطل وخطأ، لأن مخالطة الباطل له واشتماله علي الخطأ يخرجه عن كونه معيارا لتشخيص الحق عن الباطل والصواب عن الخطأ، فالميزان الذي يستعمله التاجر في متجره للقياس والوزن لا يكون وزنه وقياسه صحيحا لو كان به عطب وخلل، وسيفقد بذلك معني كونه " الميزان ". وهذا هو معني قوله صلي الله عليه وآله لعلي عليه السلام: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ". فأهل البيت هم ميزان للحق والباطل: فما وافق ما هم عليه فهو حق، وما خالفه فهو باطل. وأي معني بخلاف ذلك لا يترك لهم خصوصية دون الناس. ولا وصف يليق بهذه الخصوصية إلا العصمة.. كل ذلك لإحاطتهم بما في القرآن من علوم فرض علي الناس العمل بها، بل لحياتهم القرآنية التي فيها روح النبوة وإخلاص العبودية لله عز وجل. ولقد أوضح ابن حجر ذلك جيدا، فقال: " سمي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم القرآن وعترته [الأهل والنسل والرهط والأدنون] ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون. وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية.. " [324] . [ صفحه 234] فأما من حيث إنهما معدن العلوم اللدنية فهذا يبين الاتحاد المعنوي للثقلين، فعلوم القرآن بأسرها هي نفسها علوم العترة ولا اختلاف،

ولهذا لا يفترقان أبدا. وأما من حيث إن الثقل مصون ومحفوظ، فهو واضح في القرآن: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [325] وأما حفظ وصون العترة فهو واضح من حيث إنهم لا يفارقون القرآن، وبالتالي لهم خصوصية حفظه فتمثلت في عصمتهم ليتم الانطباق وعدم الافتراق والاختلاف بينهما. وكل ذلك يبين بكل وضوح عصمتهم التي بها علو درجتهم علي الناس. ثم يقول ابن حجر: " ولذا حث صلي الله عليه [وآله] وسلم علي الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت " [326] . ولازم هذا أن الحكمة ليست في غيرهم بالنحو الذي فيهم، ولهذا قال رسول الله صلي الله عليه وآله: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "، إذ هم أهل البيت الذين خصوا بالعلوم والحكمة، ولهذا لا يجوز اتباع من خالفهم مهما كان عالما، حنفيا كان أو مالكيا، حنبليا كان أو شافعيا. ثم يقول: " ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلي الحوض، ويؤيده الخبر السابق: لا تعلموهم فهم أعلم منكم. وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله تعالي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " [327] . إن قوله: " وتميزوا بذلك عن بقية العلماء " فيه مقايسة لا تصح، فلا علم لهؤلاء العلماء إلا عن طريق العترة، فكل الناس متهافتون علي موائد علمهم، فهم العلماء بالحقيقة وغيرهم علماء بالمجاز، ولا قياس بين الحقيقة والمجاز، فالحقيقة أصل والمجاز فرع. [ صفحه 235] ويقطع ابن حجر العذر علي من اقتفي آثار غيرهم بقوله: " وفي أحاديث الحث علي التمسك بأهل البيت إشارة

إلي عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلي يوم القيامة، كما أن الكتاب كذلك، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض " [328] . نعم، إنهم أمان من الغرق في مفاوز الاختلاف والفتن ومحدثات الأمور، ولو كانوا ممن يصيبهم شئ من تلك الأشياء لما كانوا أمانا لأهل الأرض. أجل يا ابن حجر، لا يخلو الزمان منهم أبدا.. سواء في زمان أبي حنيفة، أو في زمان مالك والشافعي وابن حنبل. بل لا يخلو الزمان منهم فيما نحن فيه من زمان.. فكيف ولي الناس عنهم ويمموا صوب مذاهب أربعة؟! وكان فيهم الصادقون والكاظمون من أبناء الرسول وأحفاد البتول؟!! علي أن وجود المذاهب المتنوعة، والفرق المتعددة، وشدة الاختلاف بينها يدل بعينه علي عدم اقتفاء آثار العترة، ويدل علي الاكتفاء باتباع غيرها من الناس، ذلك لأن النتيجة الحتمية لاتباع العترة المحمدية في مسائل الدين وغيرها من نواحي الحياة هي الاتفاق علي كلمة سواء والاعتصام بالحق الذي لا يتعدد، وعندها تنصرم حبائل الاختلاف وتزول دواعي الشتات بين المسلمين. ولما كان الاختلاف في أمر من الأمور ينبئ عن عدم الاعتصام بحبل الله، فهو - إذا - من عند غير الله بلا ريب، لأن لازم قوله تعالي: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [329] أن التفرق والتشتت هو دليل علي عدم الاعتصام بحبل الله، وعلي مشاقة الرسول صلي الله عليه وآله ومخالفة أولي الأمر، وهم العترة كما وضح. بل لازم هذا القول هو الانحراف عن الثقلين. وبهذا يمكن أن نفهم بكل ارتياح ووضوح ما هو حبل الله الذي أمر الناس بالاعتصام به.. فهل يختلف قوله تعالي: (واعتصموا بحبل الله جميعا) مع قوله صلي الله عليه وآله: " إني تارك فيكم ما إن أخذتم به

لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي "؟! فهم إذا حبل الله الذي تنقطع به أسباب الاختلاف، ولهذا يقول النبي صلي الله عليه وآله: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي [ صفحه 236] أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا، فصاروا حزب إبليس ". وبهذا يتضح أن في اتباعهم النجاة، وفي خلافهم الغرق. وإنما هو البعد عن الدين والاختلاف فيه، وتنكب الطريق والانحراف عنهم إلي غيرهم، فمن خالفهم من الناس فلا ينضوي إلا في حزب إبليس. ولهذا كانوا هم معيار النجاة والسلامة، لأنهم خبراء سبيل المؤمنين، لعصمتهم وطهارتهم عن كل ما يتسبب في الضلالة والإضلال. والرسول صلي الله عليه وآله يبين ذلك بقوله، عن زياد بن مطرف: " من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد، فليتول عليا وذريته من بعده، فإنهم لنيخرجوكم من باب هدي، ولن يدخلوكم باب ضلالة " [330] . وهكذا.. فإن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يأمر إلا باتباع القرآن والعترة دون غيرهم من الناس كيف لا وهم مصدر الفضيلة، ونفاة الرذيلة، وهم أساس الدين ونور المهتدين، وهداة المؤمنين، وهم الصلة بين الناس وربهم، إذ لا طريق إليه إلا عبر واديهم والأخذ بأطرافهم وأسبابهم، وبهم رواء الصادي يوم الظمأ الأكبر، إذ أنهم سقاة حوض الكوثر. يقول جدهم محمد صلي الله عليه وآله: " يا أيها الناس، إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل " [331] . أجل، فكل ما خالف ما عليه أهل بيت: النبي صلي الله عليه وآله فهو باطل، وكل مذهب خالف ما هم عليه مجانب للحق ومفارق له.

يقول رسول الله صلي الله عليه وآله: " في كل خلف من أمتي من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. ألا وإن أئمتكم وفدكم إلي الله.. فانتظروا من توفدون " [332] . فهل يبقي بعد هذا عذر لمعتذر، أو مهرب لمتأول؟!! أبدا.. فقد قامت الحجة، [ صفحه 237] وصرح الحق عن محضه، وبانت معالمه.. و (كل نفس بما كسبت رهينة) [333] .

خلاصة البحث

إن الله سبحانه وتعالي ما أرسل رسوله محمدا صلي الله عليه وآله إلا لتبليغ الناس أمر الله تعالي وبيانه لهم، للعمل به علي الأساس الذي يريده الله تعالي منهم. وكل ما كان خلاف ذلك فهو باطل يخالف أمر الله. ولهذا لزم تبليغ الوحي الإلهي كما أراده الله تعالي، من غير انحراف في منهج الوحي أو تبديل لشئ منه. وقد تكفل الله تبارك وتعالي بعصمة نبيه الكريم وإنزال وحيه عليه. كل ذلك بنحو لا يتيح أي منفذ للخطأ والتغيير فيه حتي يصل إلي البشر عن طريق النبي الأكرم ما أنزل الله إليهم، لتنظيم شؤون حياتهم في كل مناحيها، ولتحقق الغاية المقصودة من الدين. ولما كان محمد صلي الله عليه وآله ميتا لا محالة، ومنصرفا عن هذه الحياة الدنيا، ولا بد للرسالة أن تستمر في هداية الناس إلي التي هي أقوم، ولا يتحقق ذلك إلا علي أساس الوحي كما أنزل وطبقا لمنهج النبي صلي الله عليه وآله المعصوم في التبليغ.. كان لا بد من شخص يقوم بأداء وظيفة النبي صلي الله عليه وآله في نقل مضامين الوحي وتبيان كلام الله تعالي كما أراده سبحانه إلي الناس، لهدايتهم به إلي نفس الغاية التي لا يتم بلوغها إلا عبر معصوم.

وإلا فسينحرف المسير بالوقوع في الخطأ وأهواء النفوس وهمزات الشيطان، فلا يصل الناس إلي الغاية التي أرادها الله لهم علي أساس الإرادة الشريعية. إذا، فلا بد من عصمة خليفة النبي صلي الله عليه وآله، ولهذا فأولو الأمر معصومون. وقد أقر الرازي ذلك وأشار إليه، كما عرفت. ولما كان ليس في مقدور الناس معرفة المعصوم من البشر، وكان لا بد من أخذ الوحي وأحكامه من المعصوم هذا.. كان لا بد أن يعينه الله لهم، إذ ليس في استطاعة الناس معرفته. [ صفحه 238] ولما لم يكن هناك أليق من أهل البيت، وثبت عن طريق النقل ما يشير إلي عصمتهم، كانوا هم ولاة الأمر وأئمة المسلمين المعصومين، وهم الخلفاء الذين أشارإليهم رسول الله صلي الله عليه وآله بقوله: " لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلي اثني عشر خليفة " [334] وطبقا لهذا الحديث فهم خليفة بعد خليفة، ولا يخلو الزمان منهم، كما قال رسول الله صلي الله عليه وآله: " في كل خلف من أمتي عدول.. " وقد مر عليك.

من هم أهل البيت

وبعد هذا التوضيح لعصمة أهل البيت عليهم السلام، تجب علينا الإجابة عن السؤال التالي: من هم أهل البيت الذين خصتهم آية التطهير بإذهاب الرجس عنهم بإرادة الله التكوينية.. فطهرت نفوسهم عن الذنوب والآثام، بانكشاف سوء هذه القبائح من تحت أنوار العلم اليقيني، فبدت مجسمة لهم عين اليقين، فعافتها نفوسهم الطاهرة، فأصبحوا بذلك هداة الناس وأمانا للأمة، فوجبت طاعتهم، وصاروا ولاة الأمر من بعد النبي صلي الله عليه وآله؟! أهم نساء النبي صلي الله عليه وآله خاصة دون أن يكون معهم رجل، أم هم نساؤه وعترته عليهم السلام، أم عترته الأدنون خاصة ممثلون في علي وفاطمة

والحسن والحسين عليهم السلام؟ لقد علمنا أن التطهير الذي حدث لأهل البيت بالإرادة التكوينية قد استوجب عصمتهم بتزكيتهم عن الرجس من الذنوب والمعاصي والأخطاء. فهل كانت نساء النبي صلي الله عليه وآله علي هذه العصمة وهذا التطهير من الأخطاء؟ الواقع أن الإثم أو الخطأ من واحدة منهن ينتقي علي أثره القول بأنهن أهل البيت المطهرون عن الإثم والأخطاء، المعصومون عن المعاصي. إن القرآن الكريم يؤكد وقوع أم المؤمنين عائشة وحفصة بنت عمر في إثم هددهما الله عز وجل علي أثره وأمر هن بالتوبة عنه، فقال لهما: (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير. عسي ربه إن طلقكن أن يبدله [ صفحه 239] أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا) [335] ، وهذا التهديد لتظاهرهما علي النبي الأكرم.وقوله تعالي لهما: (إن تتوبا إلي الله فقد صغت قلوبكما) [336] . فالله تعالي يأمرهما بالتوبة، ولا توبة إلا من ذنب، وذلك لإتيانهما ما لا يرضاه الله تعالي، وما يعد ميلا عن الحق. قال ابن عباس لعمر بن الخطاب: "... يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا علي النبي؟ فقال: تلك حفصة وعائشة " [337] . وقالت عائشة: " خاصمت النبي [صلي الله عليه وآله] فقلت: يا رسول الله، أقصد (أي أعدل)، فلطم أبوبكر خدي وقال: تقولين لرسول الله أقصد؟! وجعل الدم يسيل من أنفي " [338] . وقالت للنبي صلي الله عليه وآله: " أنت الذي تزعم أنك نبي؟!! " [339] . إذا، فصدور هذه الأخطاء من عائشة وحفصة يخرج نساء النبي صلي الله عليه وآله عن مفهوم أهل البيت، اللهم إلا أن يطلق عليهن هذا التعبير علي

سبيل المجاز، وهو خارج أيضا، لأن الله تعالي ما أراد بأهل البيت في الآية إلا المعني الحقيقي لهم. علي أن الأحاديث وردت تؤكد أن أهل البيت هم عترة النبي صلي الله عليه وآله دون نسائه. يقول الثعالبي: " والرجس اسم يقع علي الإثم والعذاب وعلي النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. قالت أم سلمة: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: هؤلاء أهل بيتي، وقرأ الآية، وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله؟ فقال: أنت من أزواج النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم، وأنت علي خير " [ صفحه 240] يقول الثعالبي: " والجمهور علي هذا " [340] . وقول النبي صلي الله عليه وآله لزوجته أن سلمة عندما طلبت الدخول في الكساء والانضمام إلي العترة: " أنت من أزواج النبي " يؤكد خروج نساء النبي صلي الله عليه وآله عن مفهوم أهل البيت. ثم إن مسلما قد روي بإسناده إلي عائشة زوجة النبي صلي الله عليه وآله: أن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم " خرج ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) " [341] . وروي أيضا في حديث طويل: " لما نزلت آية المباهلة دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي " [342] . ويقول الكنجي الشافعي:

" وهذا دليل علي أن أهل البيت هم الذين ناداهم بقوله:" أهل البيت "، وأدخلهم رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم في المرط " [343] . وعلي هذا، فأهل البيت هم علي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام، إذ هم الذين أدخلهم رسول الله صلي الله عليه وآله في المرط المرجل، كما عرفت. وروي الطبري عند تفسيره الآية، عن قتادة: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، فهم أهل بيت طهرهم الله تطهيرا من السوء، وخصهم برحمة منه. ويقول: عني بأهل البيت رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم. ذكر من قال ذلك: " عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم: نزلت هذه الآية في خمسة: في، وفي علي (رضي الله عنه)، وحسن (رضي الله عنه) وحسين (رضي الله عنه)، وفاطمة (رضي الله عنها)، (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ صفحه 241] ويطهركم تطهيرا). قالت عائشة.. وذكر حديث المرط المرجل من الشعر الأسود، مرويا عنها، وقد مر عليك ذكره. وعن أنس: إن رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلي الصلاة، فيقول: " الصلاة أهل البيت.. (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ". وعن أم سلمة، قالت: كان النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم عندي، وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم حريرة، فأكلوا وناموا، وغطي عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". [عن] أبي الحميراء، قال رابطت المدينة سبعة أشهر علي عهد النبي صلي الله

عليه [وآله] وسلم، قال: رأيت النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم إذا طلع الفجر جاء إلي باب علي وفاطمة فقال: الصلاة، الصلاة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وروي يونس بن إسحاق مثله. عن أبي عمار، قال: إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه.. فلما قاموا قال: إجلس حتي أخبرك عن هذا الذي شتموه: إني عند رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين، فألقي عليهم كساء له ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قلت: يا رسول الله، وأنا؟ قال: وأنت. فوالله إنها لأوثق عملي عندي. ثم ذكر حديث أم سلمة الذي فيه تجليلهم عليهم السلام بالكساء الخيبري، وقوله صلي الله عليه وآله: هؤلاء أهل بيتي. [عن] أم سلمة، قالت: جاءت فاطمة إلي رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها علي طبق، فوضعته بين يديه فقال: " أين ابن [ صفحه 242] عمك وابناك؟ فقالت: في البيت. فقال: ادعيهم. فجائت إلي علي، فقالت: أجب النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم أنت وابناك. قالت أم سلمة: فلما رآهم مقبلين، مد يده إلي كساء كان علي المنامة، فمده وبسطه وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمني إلي ربه فقال: هؤلاء أهل البيت، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". قال عامر بن سعد: قال سعد: قال رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم حين نزل عليه الوحي، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة، وأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: " رب، هؤلاء أهلي وأهل بيتي ". إن الروايات

في كون علي وفاطمة والحسن والحسين هم أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله وعترته الطاهرة الذين أنزل الله تعالي فيهم قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) يضيق بنا المقام عن إحصائها، وهي مما لا ينكرها إلا مخالف للطبع والفطرة، ناقض للدين وأصوله، مكابر في قوله وكلامه. والحق ما قاله الثعالبي في ذلك.. " والجمهور علي هذا "، وقد مر ذكره عليك. وأما ما روي من أهل البيت هم نساء النبي صلي الله عليه وآله خاصة ليس معهم رجل، ففيه: أولا: إنه غير مسند. ثانيا: إنه مقدوح المتن لمخالفته فصاحة القرآن وقواعد اللغة العربية، لأنه لو كان أهل البيت المذكورون في الآية هم نساء النبي صلي الله عليه وآله خاصة ليس معهن رجل - كما روي - لكان من الواجب أن لا يأتي الخطاب في الآية مذكرا علي التغليب. ولما كن نساء ليس معهن رجل كان يجب أن يقال: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن تطهيرا، وعندئذ فلا كلام فيما ذهب المخالفون. ولكن الحال ليس كذلك، فالخطاب في الآية للمذكر علي التغليب. علي أن الأحاديث التي مرت عليك تقطع قول كل خطيب في هذا الأمر. [ صفحه 243] وبهذا يتضح أن أهل البيت هم أهل العباءة الخمسة، وأن التطهير الذي تم لعترة النبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته من أصحاب الكساء الخيبري والمرط المرجل بالشعر الأسود، هو تطهير يختص بهم دون غيرهم من الناس. وهو بالإضافة إلي ذلك - قد تم علي أساس الإرادة التكوينية التي لا تنفك عن مرادها - فيكون بذلك قد حدث التطهير لهم وحصلت التزكية من الرجس والآثام والذنوب والمعاصي وكل قبيح.

وهذه هي العصمة، ذلك لأن التطهير الذي تم لهم هو تطهير معنوي بلا ريب. فلو كان تطهيرا عن طريق الإرادة التشريعية، فهو مما لا يختص بأحد من الناس. ولما كان قد اختص بأهل البيت النبوي فهو تطهير من نوع خاص لهم لا يفسر إلا بمعني العصمة، لعدم صدور الذنب والمعصية عنهم، إذا أنها قذارات وخبائث النفس. وبعد كل تلك الأحاديث الواردة في بيان أهل البيت النبوي لا يستطيع أحد أن يخرج واحدا من أهل العباءة باعتباره غير معدود في أهل البيت، كما لا يستطيع أن يضيف إليهم شخصا خارجا عنهم، سواء كان هذا الشخص من نسائه صلي الله عليه وآله أو الشيخين أو سائر الصحابة.. لأن قول النبي صلي الله عليه وآله بعد إجلاس الحسن والحسين وعلي وفاطمة علي الكساء ولفه حولهم: " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " نفهم منه أنه لو كان هناك أحد من أهل البيت بالمعني الحقيقي لدعاه النبي صلي الله عليه وآله وأجلسه إلي جانبهم واشتمله معهم بالكساء. ألا تري أنه في بعض الروايات، لما جاءت فاطمة انتظر النبي صلي الله عليه وآله حتي جاء الحسن، ثم انتظر حتي جاء الحسين، وهكذا حتي جاء علي عليه السلام، ثم خاطب النبي صلي الله عليه وآله بعد ذلك ربه قائلا: " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "، فنزلت الآية حين اجتمعوا جميعا علي البساط. ألا يدل ذلك علي أنه ليس هناك أحد غيرهم يشمله وصف أهل البيت النبوي؟! إن إعلان النبي صلي الله عليه وآله أن هؤلاء هم أهل البيت هو إعلان لأمر الوحي وتبليغ لأمر الله، فلو أعلن النبي صلي الله عليه وآله وبلغ هذا

الأمر قبل أن يكتمل تعدادهم وحضورهم أفلا يكون هذا التبليغ للوحي ناقصا مبتورا؟! بلي، لأن الناس يفهمون الوحي طبقا لتبليغه. [ صفحه 244] إذا، لا يمكن أن ندعي أن أهل البيت ليس هم أهل الكساء وحدهم، ثم نضيف إليهم شخصا آخر لم يكن موجودا إلي جانبهم في ذلك الوقت، وقت قول النبي صلي الله عليه وآله: اللهم هؤلاء أهل بيتي، ووقت نزول الآية. هذا إلي جانب عدم سماح النبي صلي الله عليه وآله لأم سلمة بالدخول معهم في الكساء.. قالت: " فقلت: يا رسول الله، وأنا؟ قالت: فوالله ما نعم، وقال: إنك إلي خير ". إذا، لم يكن تعداد أهل البيت ناقصا حتي يضاف إليهم من هو منهم ولم يكن موجودا، بل اكتمل العدد وانحصر الأمر في أهل الكساء وحدهم. وإذا خرجت أم سلمة دون أن تنال هذا الوصف فخروجها يعني خروج كل نساء النبي صلي الله عليه وآله. علي أن عائشة لما روت هذا الحديث ذكرت إدخال النبي صلي الله عليه وآله لأهل بيته دون أن تدعي دخولها معهم، فلو كان قد دخلت معهم في الكساء لما تركت ذكر ذلك، بل لتباهت به، لأنه شرف ومفخرة يتمناها كل شخص. غير أن مسلما روي ما يوضح عدم شمول معني أهل البيت لنساء النبي صلي الله عليه وآله.. فبعد أن روي حديث الثقلين، ذكر أن يزيد بن حبان ومن معه سألوا زيدا عن قول النبي صلي الله عليه وآله: " أذكركم الله في أهل بيتي "، قال يزيد بن حبان: فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: " لا وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلي أبيها وقومها. أهل بيته

أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده " [344] . وبهذا ينحسم الأمر والجدل في هذه المسألة، ويتضح خروج نساء النبي صلي الله عليه وآله عن معني أهل البيت النبوي. ثم إن عائشة وحفصة علي هذا الأساس لا يشملهما معني أهل البيت بلا ريب، فخروجهما عن هذا المعني إشارة ودليل علي خروج أبويهما أبي بكر وعمر لا محالة. ومما يؤكد ذلك عدم إنكارهما علي علي عليه السلام عندما قال مخاطبا إياهما والمهاجرين: " فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به - يعني النبي صلي الله عليه وآله - لأنا أهل البيت ". وهذا يعني بلا شك إخراج الشيخين وكل المهاجرين من دائرة الانتساب إلي أهل [ صفحه 245] البيت الذين جللهم النبي صلي الله عليه وآله بالكساء الذين الخيبري والمرط الأسود، وطهرهم الله تعالي وأذهب عنهم الرجس. علي أن العصمة التي أثبتناها لأهل البيت في قوله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) والتلازم بين أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله والقرآن بالمعني الذي أوضحه حديث الثقلين، لا يدع مجالا لإعطاء هذا الوصف النبوي لأحد غير أهل الكساء، لأن هذا الوصف ملازم لوصف العصمة، كما وضح. ولهذا كان الاتصاف بالعلم والتقوي، ولهذا كان الشرف، ولهذا كان التمسك بهم والأخذ منهم، ولهذا كانت النجاة من الضلالة بهم. يقول التفتازاني - بعد ذكره حديث الثقلين -: (نعم لاتصافهم بالعلم والتقوي، وشرف النسب، ألا يري أنه صلي الله عليه [وآله] وسلم قرنهم بكتاب الله، وكون التمسك بهم منقذا من الضلالة؟! ولا معني للتمسك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا من العترة " [345] أي لا معني للتمسك بالعترة إلا بالأخذ

منهم والسير علي نهجهم دون اللجوء إلي غيرهم. علي أن قول النبي صلي الله عليه وآله عندما نزلت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا): " نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي (رضي الله عنه) وحسن (رضي الله عنه) وحسين (رضي الله عنه) وفاطمة (رضي الله عنها) [346] يحسم الجدل. فذكره صلي الله عليه وآله عدد الذين نزلت فيهم الآية فيهم الآية، وإيراد أسمائهم جميعا لهو أقوي دليل علي أن نزول الآية في معني أهل البيت قد انحصر بهم وكفي. [ صفحه 249]

الخليفة بعد النبي علي

خلافة علي في آية الولاية

إن نزول آية الولاية في علي عليه السلام من الحقائق التي لا يكون إنكارها إلا مكابرة. و بدلالة هذه الآية علي خلافته عليه السلام تنكشف حقيقة الأمر، وتثبت خلافة الإمام بما لا يدع مجالا للشك أو الظن. وقدح القادحين في دلالة الآية علي خلافة الإمام إنما هو مشي ضد تيار الحقيقة، وتصلب في قبالة أوامر الله تعالي، وهذا مما لا يستمع إليه ولا يهتم به. يقول تعالي: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [347] . إن الولاية التي أسندها الله تعالي إلي نفسه ورسوله والذين آمنوا إنما هي ولاية عامة في دلالتها علي ما تحمله الكلمة من المعاني التي يمكن أن تتناسب مع المقام الإلهي، لأن بعض معاني " الولي " لا يصح أن يسند إلي الله تعالي ورسوله، ولهذا يجب صرفها عن هذه المعاني. فمن معاني الولي: الصديق، والتابع، والجار، والصهر، والنصير، والمتصرف في الأمر... ومعاني أخر لا تستقيم والمقام الإلهي. فأما دلالتها علي معني الصديق،

والتابع، والجار، والصهر فلا يصح أن تنسب إلي الله تعالي، فالله تعالي ليس صديق أو تابع أو جار (بالمعني الحقيقي) وهو سبحانه ليس صهر أحد من الناس، فلا يبقي إلا معني المتصرف والنصير والمحب. [ صفحه 250] فولاية الله تعالي، لكونها عامة فيما يليق به من معاني، يجب أن تفهم بهذا العموم، فالله تعالي طبقا لذلك يليق به أن يكون المتصرف، والنصير، والمحب، دون سائر المعاني. ولما كان معني الولاية في الآية مشتركا بين من نسب إليهم، فيلزم أن توضع جميع المعاني المشتركة في الاعتبار عند نسبتها إلي من دلت عليهم دون أي استثناء. ولهذا يجب اختيار المعاني التي يمكن نسبتها إلي الجميع دون اختلاف أو تفاوت، فمثلا لا يمكن أن نفسر الولاية بمعني (الصهر)، لأن نسبة ذلك المعني إلي الله تعالي لا تجوز، فتختلف نسبتها إلي الجميع بهذا المعني، لجواز نسبتها إلي النبي صلي الله عليه وآله وإلي الذين آمنوا. وعلي هذا الأساس يكون المعني المناسب لقوله تعالي: (إنما وليكم) هو أن المتصرف في أمركم، والناصر لكم، والمحب هو الله ورسوله والذين آمنوا. إن النصرة والمحبة من الله لرسوله والمؤمنين أمر واضح، والنصرة والمحبة من الرسول للمؤمنين أمر لا يخفي. ونصرة ومحبة المؤمنين بعضهم لبعض أمر أوضحه القرآن وبينته السنة في كثير من المواطن: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) [348] ، " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ". فهذه معان يشترك فيها المؤمنون كافة، ولا تنحصر في أفراد بعينهم ولا تختص بقوم دون قوم. ولكنا رأينا انحصار الآية واختصاصها بعبارة (إنما) المذكورة في ابتداء الآية.. ونحن علمنا أن النصرة والمحبة أمر عام وواجب بين المؤمنين بعضهم لبعض دون انحصار واختصاص. إذا، نسبة إلي انحصار

الآية لقوله (إنما) - وهي للحصر كما هو معروف ومضبوط في اللغة - يخرج معني النصير والمحب من معني الولي، لعمومهما بين المؤمنين، ويبقي معني " المتصرف " وحده. وهذا المعني يليق بالله تعالي، فهو المتصرف في شؤون الناس. وهو يليق بالنبي صلي الله عليه وآله، فهو أولي بالمؤمنين من أنفسهم في إدارة أمورهم. كما إنه يليق بالذين آمنوا. ومعني الذين آمنوا هنا ليس شاملا لكل المؤمنين، لانحصارية معني المتصرف فيمن لهم [ صفحه 251] حق التصرف في إدارة شؤون الناس، وهو الإمام والراعي. ثم إن الخطاب في قوله عليهم السلام (إنما وليكم) يمنع شمول حق التصرف للجميع، فالولي المتصرف هذا بسبب الخطاب يلزم أن يكون خارجا عن المخاطبين، لأنه لا يجوز أن يكون الفرد الواحد وليا ومولي أو مخاطبا به ومخاطبا في وقت واحد. ولا يجوز أن يكون الفرد الواحد وليا ومولي أو مخاطبا به ومخاطبا في وقت واحد، إذ أن هذا يستوجب الاتحاد بين المخاطب به والمخاطب، أو بين الولي والموالي، وهذا محال. فلو قال المعلم للتلاميذ: إنما رئيسكم الذين طالعوا دروسهم، فلا يمكن أن يكون كل المطالعين رؤساء، لأن الخطاب يحكم بوجود طرفين، رئيس ومرؤوس وهم سائر التلاميذ.. فالخطاب دائما يستلزم التفكيك بين الرئيس والمرؤوس، وقوله تعالي: (إنما وليكم) كذلك، فبسبب الخطاب يلزم التفكيك بين الولي والمخاطب به والموالي وهم المخاطبون، وهذا أمر بديهي وواضح. ولهذا لا يمكن أن يكون المعني بقوله: (إنما وليكم) هم كافة المؤمنين، للاستحالة في اتحاد طرفي الخطاب (مخاطب به ومخاطب). علي أن الصفات التي ذكرها الله تعالي في الآية واصفا بها (الذين آمنوا) تبين عدم شمول الأمر للجميع، فبقوله تعالي: (الذين يقيمون الصلاة) يخرج الذين لا يقيمونها

من المؤمنين، أو أولئك الذين لا يقيمونها علي الوجه المطلوب، لأن الله تعالي لم يقصد إلا المعني الأكمل في إقامة الصلاة، وليس صلاة كل المؤمنين كذلك. وبقوله: (ويؤتون الزكاة [349] وهم راكعون) يخرج أولا الذين لا يؤتون الصدقات بتاتا تكاسلا وإهمالا، أو جهلا بقدرها، ويخرج ثانيا الذين يؤدونها ولكن ليس في حال الركوع، بل يخرج من يؤديها في ركوعه بعد نزول الآية، لاختصاص الآية بالموقف الأول. لأن الموقف الأول سبب في نزول الآية، وأما الموقف الثاني فقد كانت الآية سببا في حدوثه. [ صفحه 252] ثم إن ذكر الركوع بالذات في الآية ليس المقصود منه الإشارة إلي أداء الصلاة وإقامتها علي نحو عام باعتبارها صفة لمن استحق الولاية علي الناس، لأن ذكر الصلاة بهذا القصد قد جاء في الأول صراحة في قوله: (الذين يقيمون الصلاة) ولهذا لا يتكرر مرة أخري، إذ لا فائدة من ذكره لوضوح القصد والمعني سابقا. وأما قوله: (الذين آمنوا) فلا يدل علي كافة المؤمنين، وذلك بالبيان الآتي: أولا: للحصر الذي في الآية الواضح من لفظة (إنما). ثانيا: لطبيعة الخطاب الذي في قوله: (إنما وليكم) إذ لا بد من طرفي الخطاب. ثالثا: لخصوصية التصرف، فهو ليس لكل فرد، بل هو لمن له الحق في ذلك، لأنه لو ثبت التصرف لكل فرد مؤمن، ففي أمر من يكون التصرف؟ ولو كان كل مؤمن متصرفا، فمن هو المتصرف في أمره منهم؟ ومن هو الراعي؟ ومن هم الراعية؟ إذ لا بد من هذه التفرقة بين هذين الطرفين في القضية. فقوله: (والذين آمنوا) جمع، ولكن بسبب الحصر وثبوت معني التصرف والخطاب يمنع أن تكون دلالته علي الجمع، لا سيما وأن وصف الذين آمنوا بإيتائهم الزكاة وهم في

حال الركوع يحصر المعني في فرد واحد، وهو الذي آتي الزكاة وهو علي تلك الحال، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام..، كما أكدت ذلك الروايات. ولله تبارك وتعالي حكمة في ذكر لفظ الجمع للدلالة علي فرد واحد، وهي التعظيم والإكبار. أو قل إنه لفظ جمع دل علي جمع علي نمط القضية الحقيقية، وهي القضية التي تشمل مصاديقها في الحال والمستقبل، فلفظ (الذين آمنوا) يشمل أولي الأمر وأصحاب الولاية والتصرف، وهم جماعة. فأين الغرابة في أن يأتي الوصف بالجمع؟! علي أن في القرآن أمثلة متوافرة فيها دلالة الجمع علي الفرد كقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)، فلفظ الناس جمع دل علي فرد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي بإجماع أهل التفاسير والأخبار. إذا، فالمعني ب (الذين آمنوا) هو علي بن أبي طالب عليه السلام، لنزول الآية فيه عندما تصدق بخاتمه في حال ركوعه، وهو بالمسجد يصلي. [ صفحه 253] يقول الآلوسي: " وغالب الأخباريين علي أنها نزلت في علي كرم الله وجهه ". ولقد ذكر الزمخشري نزولها في علي عليه السلام، ولتبرير مجئ الآية علي لفظ الجمع يقول: " جئ به علي لفظ الجمع، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله " [350] . وفي الذخائر: " ومنها قوله تعالي: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) نزلت فيه " [351] ، ويعني نزلت في علي عليه السلام. قال أبو ذر: " سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا، يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلي الله عليه وآله

ذات يوم فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره إليه - وكان يتختم بها - فأقبل السائل حتي أخذ الخاتم من خنصره، فتضرع النبي صلي الله عليه وآله إلي الله عز وجل يدعوه، فقال: اللهم إن أخي موسي سألك، قال: (رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرا من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيرا. ونذكرك كثيرا. إنك كنت بنا بصيرا) [352] فأوحيت إليه: (قد أوتيت سؤلك يا موسي). [353] اللهم إني عبدك ونبيك فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا، اشدد به ظهري. قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله صلي الله عليه وآله الكلمة حتي هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) ". أجل، فالآية قد نزلت في علي عليه السلام، وأوضحت ولايته وخلافته علي الناس من بعد نبي الله الأكرم، إذ هو المتصرف في شؤون وأمور الناس، وهو أولي بهم من أنفسهم. وهذا أمر أوضح من أن يحتاج إلي توضيح، فقد قال النبي صلي الله عليه وآله: " أولستم تعلمون، أو لستم [ صفحه 254] تشهدون أني أولي بكل مؤمن من نفسه؟! " [354] . فعبارة: " أولي بكل مؤمن من نفسه " تبين معني التصرف في إدارة الشؤون، والرئاسة والقيادة. ثم قال: " فمن كنت مولاه " أي فمن كنت أولي به من نفسه " فعلي مولاه " أي أولي به

من نفسه، لأن الرسول صلي الله عليه وآله قاس ولاية علي عليه السلام علي الناس بولايته صلي الله عليه وآله علي الناس، فأوضح النبي صلي الله عليه وآله بهذا القياس تساوي الولايتين من حيث المعني الذي في ولاية النبي صلي الله عليه وآله، ولهذا لا يمكن أن يفسر معني (وليكم) إلا بالمتصرف في أموركم، وبالقائد والرئيس والمسؤول عنهم.

علي ولي كل مؤمن بعد النبي

وهناك أحاديث لها طرق عديدة، تؤيد نزول هذه الآية في علي بن أبي طالب دون غيره من المؤمنين، وهي الأحاديث التي فيها بيان ولايته علي المسلمين من بعد النبي صلي الله عليه وآله، ومنها قوله عليه السلام: عن عمر بن حصين قال: " جهز رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم جيشا استعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضي في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه. وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم: إذا بعثنا - أي أمرنا بالرجوع - رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم أخبرناه ما صنع (وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر يبدأون برسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم)، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر أن علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا؟! فأعرض عنه رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم. ثم قام الثاني وقال مثل ذلك. ثم الثالث فقال مقالته، ثم الرابع فقال مثل ما قالوا.. فأقبل النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم، والغضب يبصر في وجهه، فقال: [ صفحه 255] " ما تريدون من علي؟! إن عليا مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي " [355] . وعن البراء بن عازب، قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم في سفر،

فنزلنا في غدير خم، فنودي الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم تحت شجرتين، فصلي الظهر، وأخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: " ألستم تعلمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلي. قال: ألستم تعلمون أني أولي بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلي. فأخذ بيد علي بن أبي طالب [عليه السلام] فقال: " من كنت مولاه، فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: " هنيئا لك يا ابن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولي كل مؤمن ومؤمنة " [356] . وقال وهب بن حمزة: سافرت مع علي فرأيت منه جفاء، فقلت لئن رجعت لأشكونه، فرجعت فذكرت عليا لرسول الله فنلت منه، فقال: " لا تقولن هذا لعلي، فإنه وليكم بعدي " [357] . إن أقوال النبي صلي الله عليه وآله: " وهو ولي كل مؤمن بعدي " " من كنت مولاه فعلي مولاه " " لا تقولن هذا لعلي! فإنه وليكم بعدي " وتهنئة عمر لعلي بعد ذلك بقوله: " هنيئا لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولي كل مؤمن ومؤمنة "... [ صفحه 256] أن أقوال النبي صلي الله عليه وآله هذه وما لم نذكره من أقول، يوضح بكل صراحة أن عليا عليه السلام هو ولي المؤمنين من بعد النبي صلي الله عليه وآله، وهو أولي بهم من أنفسهم. وقد فهم الناس ذلك في زمان النبي صلي الله عليه وآله كما وصح من تهنئة عمر لعلي عليه السلام، وكما وضح للحارث بن النعمان الفهري فما هي حكاية الحارث بن النعمان هذا؟ إنه لما بلغه خبر ولاية الإمام

علي، جاء إلي نبي الله عليه وآله السلام غاضبا لاجا في غيه وطغيانه، فقال: يا محمد! أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم رمضان فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتي رفعت بضبعي [358] ابن عمك تفضله علينا فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه؟! فهذا شئ منك أم من الله؟! فقال صلي الله عليه وآله: " فوالله الذي لا إله إلا هو إن هذا لمن الله عز وجل ". فولي الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلي راحلته حتي رماه الله سبحانه بحجر سقط علي هامته، فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالي: (سأل سائل بعذاب واقع. للكافرين ليس له دافع. من الله ذي المعارج) [359] . وجاء قوم إلي علي عليه السلام، فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم يوم غدير خم يقول: " من كنت مولاه فإن هذا مولاه " [360] . إن الحارث بن النعمان لو كان قد فهم معني الولي علي أنه المحب والناصر والصديق لما ثار ثورته تلك، ولما رجح العذاب علي صداقة ومناصرة ومحبة علي عليه السلام. ولكنه فهم [ صفحه 257] معني التصرف في شؤونه، وفهم أن عليا عليه السلام أولي به من نفسه.. ولهذا قال للنبي صلي الله عليه وآله: " حتي رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا ". ولهذا أقسم النبي صلي الله عليه وآله ذلك القسم لا ليؤكد له أن عليا محبكم وناصركم، وإنما لتأكيد أمر أخطر

وأكبر يغضب له أمثال الفهري هذا ويفضلون عليه العذاب، وإنما ذلك الأمر هو الإمامة والخلافة والولاية علي المؤمنين بعد النبي صلي الله عليه وآله.. ولذا أقسم النبي صلي الله عليه وآله ليؤكد أنه من الله تعالي. فلا يصح لمؤمن بالله ورسوله أن يشك في ولاية علي عليه السلام بمعني الخلافة والقيادة، إذ ليس لهذا الشك أي دليل ولا حجة، فعلي ولي الناس بعد النبي صلي الله عليه وآله مباشرة دون فصل. يقول الشيخ علي بن زيد العابدين أطال الله بقاءه: " روي أبو داود، قال: قال رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه: أنت ولي كل مؤمن بعدي. " وليست البعدية بعدية زمانية، كما يتبادر لبعض الأذهان، بل المقصود: ليس أحد أولي بالمؤمنين في الترتيب بعد رسول الله صلي الله عليه [وآله] وسلم في وجوده وبعده من علي كرم الله وجهه، فالبعدية بعدية ترتيبية لا زمانية ". وبعد أن تقرر هذا نعلم أن الولاية قد انحصرت في ثلاثة: الله تعالي، والنبي صلي الله عليه وآله، والذين آمنوا. ولما كان علي هو ولي المؤمنين بعد النبي صلي الله عليه وآله بلا فصل فيكون الذين آمنوا هم عليا عليه السلام. ولم يدع أحد الولاية علي المسلمين بالنص النبوي الإلهي غيره، فيكون النبي صلي الله عليه وآله قد شرح وبين معني (الذين آمنوا) بذكره ولاية علي من بعده. وكما وضح، فلا يصح أن يفسر معني الولاية هنا بالنصرة والمحبة، لأننا ذكرنا أن النصرة والمحبة للمؤمنين لا تختصان بعلي وحده، لكي يضطر النبي صلي الله عليه وآله إلي إعلان ذلك مرات ومرات، فهما صفتان يجب أن تتوفرا بين المؤمنين

كافة، وإلا فيجب أن يعني هذا أن أبا بكر وسائر الصحابة ليس لهم تلك النصرة وهذه المحبة نحو المؤمنين. وإن كانت لهم، فلماذا أعلن النبي صلي الله عليه وآله ذلك مختصا به عليا عليه السلام دون أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة؟ فهل كل هؤلاء ليس لهم محبة ونصرة للمؤمنين؟! أم أن المسألة تعني شيئا آخر غير هاتين الصفتين؟ [ صفحه 258] ولو فرض أن عليا عليه السلام مختص بهذا المحبة وتلك النصرة للمؤمنين دون غيره من الصحابة.. فلماذا انحصرت محبته للمؤمنين ونصرته لهم بعد زمان النبي صلي الله عليه وآله، كما يقول من يفسر الولاية بالمحبة؟! ألم، يقل النبي صلي الله عليه وآله لعلي: أنت ولي كل مؤمن بعدي، وقوله صلي الله عليه وآله لهم: إنه وليكم بعدي، فلازم هذا هو أن لا تكون لعلي محبة ونصرة للمؤمنين في زمان النبي صلي الله عليه وآله! إذا، فليس معني الولي في الآية وهذه الأحاديث هو الناصر والمحب، وإنما المعني هو المتصرف والمتولي أمر المسلمين من بعد النبي صلي الله عليه وآله. ولهذا قال النبي صلي الله عليه وآله في حديث طويل ذكره أحمد بن حنبل في مسنده عن عمر بن ميمون، وهو حديث يتضمن خصالا لم تكن لأحد غيره من الصحابة منها قوله: " وخرج رسول الله في غزوة تبوك، وخرج الناس معه، فقال له علي: أخرج معك؟ فقال: لا. فبكي علي [عليه السلام]، فقال له رسول الله [صلي الله عليه وآله]: " أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه ليس بعدي نبي. إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " [361] . وهذا من الأحاديث التي أوضح فيها النبي

صلي الله عليه وآله خلافة علي بكل صراحة ووضوح. فأنت تري أنه يمنح عليا كل مرتبة يمكن أن تكون لنبي إلا النبوة. والنبي صلي الله عليه وآله جامع لكل المراتب، وهي النبوة والإمامة والتصرف، فأعطاها لعلي مستثنيا منها النبوة، بقوله: إلا أنه ليس بعدي نبي. والنبي صلي الله عليه وآله لم يكن يعني باستخلاف علي علي المدينة أن يكون ذلك في لحظة غيابه غازيا فحسب بل يمتد هذا الاستخلاف إلي ما بعد وفاة و ذهاب النبي صلي الله عليه وآله، لأنه لو لم يكن يعني ذلك لنفي عنه النبوة، كان يقول: إلا أنه ليس معي نبي كما ليس بعدي نبي، لا بقوله: ليس بعدي نبي. فالنبي صلي الله عليه وآله إذا كان يتحدث عن زمان بعد زمانه، فيكون معني قوله صلي الله عليه وآله هو: لك يا علي كل ما لي من وظائف ومسؤوليات من بعدي إلا النبوة، لأنه ليس نبي بعدي. فالكلام عن المستقبل لا الحاضر وإن كان استخلافه له في المدينة في [ صفحه 259] حياته هو جزء من تلك الخلافة التي لا تأخذ شكلها العملي الكامل إلا بعد وفاة وذهاب النبي صلي الله عليه وآله. وقوله: وإنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.. يوضح ذلك جيدا، لأنه لو كان يعني استخلافه في حياته علي المدينة لكان الاستخلاف علي المدينة في حياة النبي الكريم من نصيب علي ومختصا به دوما، فتدبر في قوله: " إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " فالذهاب لم يقيد بمكان وزمان، فهو عام. إنه من البين أن الاستخلاف علي المدينة في حياة النبي الكريم لم يكن مختصا بعلي، فمقصود النبي صلي الله عليه وآله هو

أنه لا يجوز أن أنتقل إلي الرفيق الأعلي إلا وقد نصبتك خليفة علي المسلمين من بعدي، ولهذا أعلن النبي صلي الله عليه وآله عهده إليه بالخلافة في غدير خم عند عودته من حجة الوداع، وفي حجرته لحظة احتضاره، ثم ذهب النبي صلي الله عليه وآله وعلي قد نصب خليفة من بعده بوساطة النبي الكريم صلي الله عليه وآله نفسه، إذ لا ينبغي غير ذلك. ثم إن هارون كان خليفة موسي علي قومه، وهذا ما عناه النبي صلي الله عليه وآله بقوله لعلي: " أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي؟! " واستثني نبوة هارون، إذ لا نبي بعد محمد الخاتم صلي الله عليه وآله. إذا، فقوله: " أنت ولي كل مؤمن بعدي "، وقوله: " إنه وليكم بعدي " لا يعنيان إلا منزلة هارون يوم خلفه موسي عليه السلام علي قومه عند ذهابه إلي ربه، ومثل ذهاب موسي إلي ربه هو مثل التحاق النبي صلي الله عليه وآله بالرفيق الأعلي، ولهذا قال صلي الله عليه وآله: " لا ينبغي أن أذهب.. "، أي لا يصح مني أن أذهب إلي الرفيق الأعلي وأنا لم أعينك خليفة من بعدي علي قومي. ولهذا كان الحديث من أدلة خلافة الإمام علي عليه السلام، إذ لا يحتمل أي معني غير الخلافة. فلو قلت كان الاستخلاف علي المدينة فقط، فما هو إذا معني استثناء النبوة والنبي موجود؟! فهل كان النبي صلي الله عليه وآله يخشي - لو كان الإمام علي مدعي النبوة - أن يدعيها في حياته وعند استخلافه علي المدينة؟!! إن عاقلا لا يقول بهذا، كما هو بين جلي.

خلافة علي في حديث الدار والإنذار

كانت الرسالة في بدئها، وبدا التأسيس والتشييد لأركانها

وبناء أعمدتها، فأمر الله [ صفحه 260] تعالي نبيه صلي الله عليه وآله بإنذار ودعوة الأقارب من عشيرته والتماس العون فيهم، للقيام بنشرها والصدع بها بين الناس، ولهذا فلما نزل قوله تعالي: (وأنذر عشيرتك الأقربين) جمع النبي صلي الله عليه وآله إليه أعيان أهله من قريش، أولئك الذين كانت لهم الصولة والكلمة بين الناس في مجتمع العرب يومئذ، وفيهم أعمامه حمزة والعباس وأبو طالب. فلما اجتمعوا عنده، واستطعموا مما صنعه لهم، خاطبهم فقال لهم في حديث طويل: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني علي أمري هذا، علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم سنا، إذ قام وقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه [362] . فأخذ رسول الله برقبته، وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع! [363] وهكذا بدأ تشييد أركان الرسالة، بتعيين خليفة رسول الله الأكرم، ولا غرو، إذ في وجوده ضمان استمرارية الرسالة. إن استحقاق الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وآله يتحقق بالمؤازرة والمعونة للنبي الأكرم في أمر الدين ونشر دعوته، وهذا صريح في قوله صلي الله عليه وآله لبني عبد المطلب: " فأيكم يؤازرني علي [ صفحه 261] أمري هذا، علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟! ". ومن الأمور التي يجب الانتباه إليها هي أن عرض النبي صلي الله عليه وآله الخلافة علي بني عبد المطلب باشتراط العون والمؤازرة، ليس هو أمرا جاء علي

هوي النبي الأكرم، إنما هو أمر إلهي بلا ريب، لأنه من الواضح أن قبول مؤازرة النبي صلي الله عليه وآله في أمر الدين والدعوة إليه هو في الواقع قبول لهذا الدين وتحصيل للإيمان بالله تعالي وبرسوله صلي الله عليه وآله. ولهذا كان ثمن الخلافة في الواقع هو هذا الإيمان المبكر بدين الله، ولهذا نسب الله تعالي الولاية لرسوله معرفا إياه بصفة الرسالة المتضمنة للإيمان بالله، فلما أراد نسبتها إلي خليفة الرسول نسبها إليه معرفا إياه بعلة الاستحقاق وهي الإيمان، ولهذا قال: (والذين آمنوا)، وهو تعريف لهم بهذا الإيمان المبكر. ولهذا كان علي ولي كل مؤمن بعد النبي صلي الله عليه وآله. لقبوله العرض الذي كان ثمنه الإيمان في حقيقة الأمر.. وهكذا أولو الأمر. فهل تحقق هذا الإيمان في علي عليه السلام، عندما قبل مؤازرة النبي صلي الله عليه وآله في أمره الذي بعث به؟! بالتأكيد أن الإيمان كان قد اتخذ شكله في قلب علي عندما نهض معلنا مؤازرته لنبي الله الكريم. ولقد اطمأن النبي صلي الله عليه وآله لصدق علي ويقينه وإيمانه بهذا الدين يومئذ، فأعلن خلافته في الحين، وخاطب كبار القوم بالسمع والطاعة له باعتباره خليفته ووليه من بعده. ولهذا جاءت الإشارة إليه في الآية بعد الرسول صلي الله عليه وآله بعبارة: (والذين آمنوا)، أي في ذلك الوقت الذي كان علي قد قبل الإيمان فيه وقبل مؤازرة النبي الكريم فنال الخلافة. إن إيمان علي في ذلك الوقت ينضح به قلبه في خطابه للنبي الكريم بقوله: " أنا أعينك عليه يا نبي الله ". فانظر وتدبر في قوله " يا نبي الله " تراه قد أثبت في هذه العبارة النبوة لمحمد صلي الله عليه وآله،

وأقر له بكونه من جانب الله تعالي، بإضافة كلمة " نبي " إلي لفظ الجلالة " الله " سبحانه وتعالي، وعمره يومئذ عشر سنوات! وهذا يدل بوضوح علي كمال إيمانه ورجاحة عقله رغم صغر سنه. ونحن نعلم أن قلة العمر أو زيادته ليست معيارا لتحديد كمال العقل والإيمان. ودونك القرآن يصرح [ صفحه 262] بذلك، إذ أوتي يحيي عليه السلام الحكم وهو صبي، وجعل الله تعالي عيسي نبيا وهو رضيع، فهل كانا لا يعرفان ما الإيمان بالله في ذلك العمر؟! إذا، فلا ريب يخالج النفس في إيمان علي عليه السلام ورجاحة عقله يوم عين خليفة علي المسلمين في بدء الرسالة، لعدم كذب النبي صلي الله عليه وآله في قوله: " هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ". فهذه من الحوادث التي عادة ما يمر عليها الناس مرور الكرام، دون أن تخشع لها قلوبهم وتشهد بخلافة علي عليه السلام، رغم وضوحها وصراحتها.

خلافة علي في حديث الثقلين

إن حديث الثقلين من الأحاديث التي تبين حقيقة الخلافة بوضوح وجلاء، وتحكي عن استخلاف النبي صلي الله عليه وآله لعترته من بعده مبينا في عبارات صريحة طريق النجاة والسلامة من الضلال والانحراف عن سبيل المؤمنين. لقد خاطب النبي صلي الله عليه وآله الناس فقال لهم: " إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلي الأرض - وعترتي أهل بيتي. وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " [364] . إن المتدبر في هذا الحديث - لا سيما قوله صلي الله عليه وآله: " إني تارك فيكم خليفتين " - لا يجد في هذه العبارة، ولا يفهم منها سوي خلافة العترة. وهذا مما لا يحتاج

إلي كبير عناء، ولا يجوز لمسلم أن يتلو هذا الحديث دون أن يتدبر في معانيه وعباراته. إن استخلاف القرآن لا يعني بأي حال من الأحوال تركه بين الناس مصحفا مدونا ليأخذ كل فرد منه علي حدة حسبما يفهمه هو ويدركه، ويعمل علي أساس ذلك، لأن التعامل مع القرآن بهذا الأسلوب لا يؤدي إلا إلي التشتت والافتراق، فالتناحر والخصام والاختلاف. إن القرآن - وهو دستور الحياة الذي فرض علي الناس العمل به والعيش علي أساس هدايته - يحتاج إلي من يبينه للناس بيانا لفظيا وعمليا. والالتفات حول فرد [ صفحه 263] واحد لأخذ معاني ومفاهيم القرآن، ولكسب طريقة العيش علي أساسه.. هو أحجي وأبلغ في تحقيق التعاضد والوحدة والتماسك، بل هو الطريق الأوحد، للهداية إلي التي هي أقوم. وما دام الاختلاف والنزاع قد منعا بين الذين آمنوا، فأسبابهما وعللهما التي تؤدي إليهما أيضا ممنوعة بلا ريب. واحد هذه الأسباب التي تؤدي إلي الاختلاف هو الأخذ من القرآن حسبما يري كل فرد علي حدة، وكيفما شاء له فهمه الشخصي المتأثر بشتي العوامل ومختلف التأثيرات. إذا، فلا بد من شخص يتفق عليه الناس في أخذهم من القرآن عبره، وتتوحد في أمره ونهيه آراء الناس فيما يتعلق بأمور الدين، بل بأساسيات الحياة الأخري. وها هو الثقل الثاني، وها هم أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله.. إذا، فهم الخلفاء بعد النبي صلي الله عليه وآله لأخذ معاني ومفاهيم وأوامر ونواهي القرآن منهم، لأنه علي هذا يكون اتباعهم والاقتداء بهم في الواقع اتباعا لكتاب الله واقتداء بالثقل الأول، إذ هما لا يفترقان أبدا. إذا، فالخليفة الإجرائي والعملي واحد، وأما القرآن فهو الدستور والقانون الذي يستنطقه الخليفة في إدارة شؤون الناس

علي أساسه ويستنبط منه بما آتاه الله من علم اليقين. ولهذا أعلن النبي صلي الله عليه وآله في كثير من المواطن، بل طيلة مدة حياته منذ بدء الرسالة إلي يوم وفاته، خلافتهم وخلافة القرآن فيهم، إذ هما نفس واحدة بصورة لا تقبل الانفصال، ليكونا خليفتين في الواقع الخارجي بين الناس، فالخليفة الذي تركه وخلفه الرسول صلي الله عليه وآله من بعده للناس ليعتصموا به ولا يتفرقوا هو العترة النبوية ذات الخلق القرآني، بل العترة التي هي القرآن يمشي علي نسق النبي الأكرم. وإذا فصل القرآن عن ذات العترة تصورا وذهنا فهما شخص واحد في الحقيقة والواقع الخارجي، وهما شئ واحد بالذات لا غير. لقد أعلن النبي صلي الله عليه وآله ذلك في كثير من المواطن، مؤكدا خلافتهم وخلافة القرآن في خلافتهم، فأعلن ذلك مرة بصراحة في حجة الوداع بغدير خم، ومرة في حجرته والناس حوله في لحظة مرضه الذي مات فيه [365] ، فقال للناس خاتما حياته بإعلانه خلافة العترة، [ صفحه 264] مبتدئا خلافتهم بخلافة علي عليه السلام، فقال موصيا لهم: " أيها الناس، يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة لكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل، وعترتي أهل بيتي ". ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال: " هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتي يردا علي الحوض ". [366] وبهذا توج النبي الأكرم خلافة العترة بإعلانه خلافة القرآن في علي وخلافة علي في خلافة القرآن، ولا ننسي هنا قول النبي صلي الله عليه وآله لبني عبد المطلب: " فأيكم يؤازرني علي أمري هذا، علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟! " ولا

ننسي قبول علي هذا العرض الإيماني الإلهي، وقبوله المؤازرة. ومن الطبيعي أن يفي الله تعالي بوعده، ولا بد للنبي صلي الله عليه وآله أن يعطي عليا ثمن المؤازرة التي شهدت لها السماء: " لا فتي إلا علي، لا سيف إلا ذو الفقار "، وكان علي مع القرآن والقرآن مع علي، وكان هو الخليفة الأول في سلسلة خلافة العترة. وليس هذا الاعلان بجديد، فقد سمعناه في أول الدعوة، وها نحن نسمعه في اللحظات الأخيرة من أيام الداعي الأعظم. وبين البداية والنهاية كانت إعلانات عديدة، فقبل من قبل، وأبي من أبي، لشئ في نفس يعقوب! وإني لا أري في قبالة هذا الأمر الذي يبين معية علي والقرآن، والقرآن وعلي.. إلا البخوع والسرور بخلافة علي عليه السلام، عديل القرآن وقرينه. وما أجمل أن ينصاع المؤمن لأمر هكذا، لا لشئ سوي قوة الحجة وصراحة الدليل ولياقة أمير المؤمنين علي عليه السلام. وبعد هذا لا يجوز بأي حال من الأحوال اتباع الناس دون العترة، لأن النبي عليه السلام أمر باتباع العترة والتمسك بهم دون غيرهم من الناس، إذ أن الواجب التعبدي يلزم كل أحد باتباع العترة لأداء الطاعة لنبي الإسلام الكريم في أمره بذلك. وهذا الأمر النبوي باتباع علي عليه السلام وذريته يجب أن يدرك من خلال قوله تعالي: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم [ صفحه 265] حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [367] إن أمر النبي صلي الله عليه وآله المؤمنين باتباع علي عليه السلام وأهل بيته وعترته الكرام نابع من الحرص عليهم وصادر من الرأفة والرحمة بهم، لأن النبي صلي الله عليه وآله - وهو أعلم بسبيل النجاة والسلامة، ويود نجاة المؤمنين بلا ريب -

وجه الناس صوب العترة عدول القرآن وقرنائه، فقال: " ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ". ثم بين ذلك برفع يد علي عليه السلام معلنا أنه مع القرآن، والقرآن معه، بل لا يفترقان حتي يردا عليه الحوض، فهو يعني أن من أراد أن يرد علي الحوض يوم القيامة فعلية بعلي لأنه عليه السلام سبيل المؤمنين ونجاتهم.

عمر بن الخطاب يقول الحق

ولعمر بن الخطاب مواقف غلب فيها علي أهواء النفس وهمزات الشيطان، وأزال فيها عن الحق ما علق به من غبار، ولكن بعد انكسار الزجاجة وانسكاب ما كان فيها! قال عمر ابن الخطاب في أيام خلافته لابن عباس: " يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منكم؟ فقال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكم أدري، فإن أمير المؤمنين يدري. فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا علي قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها، فأصابت ووفقت! قال [ابن عباس]: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام، وتمط عني الغضب تكلمت. قال [عمر]: تكلم. قال ابن عباس: فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.. فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك إنهم أبوا أن تكون النبوة والخلافة.. فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة، فقال: (ذلك كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم). فقال عمر: هيهات يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل [ صفحه 266] منزلتك مني. قال ابن عباس: فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتك مني، وأن كانت باطلا

فمثلي أماط الباطل عن نفسه. فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما حرفوها عنا، حسدا وبغيا وظلما. فقال ابن عباس، أما قولك حسدا، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون. فقال عمر: هيهات هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول. قال ابن عباس: فقلت: مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " [368] . إن قول عمر: " كرهوا يجمعوا لكم النبوة والخلافة.. فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت " يفرض علينا طرح سؤال لا بد منه، إذ أن في قوله هذا نوعا من الابهام وتمويها للحقيقة.. فسؤالنا: من هم قوم أهل البيت الذين كرهوا أن يجمعوا النبوة والخلافة لهم؟ ومن هي قريش تلك التي اختارت لأنفسها فأصابت ووفقت؟! إن المطالع لحوادث السقيفة يعلم أن أولئك القوم هم المهاجرون من قريش، كما يعلم أيضا أن الذين كانوا في مقابلة الأنصار يوم السقيفة من المهاجرين لم يكونوا سوي أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف، فهؤلاء الثلاثة هم الذين كانوا من المهاجرين المتصدين لدفع الأنصار عن مقام الخلافة. وفي حوارهم مع الأنصار لم يقدم أبو بكر عليا معرفا إياه للأنصار علي أنه صاحب الحق في خلافة، بل قدم لهم عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ليختار الأنصار منهما واحدا. إذا، فهو بتقديمه هؤلاء الاثنين يصرف الخلافة عن علي وأهل البيت النبوي، كما هو واضح. ولما رفض عمر ذلك لم يقل لأبي بكر: قدم عليا فهو أحق، بل قال لأبي بكر: مد [ صفحه 267] يدك يا أبا بكر أبا عك، فمد يده وبايعه عمر. إذا، فلو كان قوم أهل البيت في قول عمر: " أتدري ما

منع قومكم منكم..؟! " هم الذين كرهوا اجتماع النبوة والخلافة لأهل بيت النبي صلي الله عليه وآله، فهؤلاء القوم هم المهاجرون بلا ريب. ولما لم يكن من المهاجرين في السقيفة غير أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف.. فهم القوم الذين كرهوا ذلك. بل عندما جاء عمر إلي بيت النبي صلي الله عليه وآله - والمسلمون قد تجمعوا هناك وعلي مشغول في غسل جسد النبي صلي الله عليه وآله الطاهر - أخبر عمر أبا بكر باجتماع الأنصار في السقيفة خفية، ولم يطلع عليا بذلك. وبهذا يتضح أن الذين كرهوا اجتماع النبوة والخلافة لأهل البيت وأن قريشا التي اختارت لأنفسها.. ليسوا سوي أبي بكر وعمر، فهما اللذان كرها واختارا، وهما اللذان استصغرا عليا عليه السلام علي الخلافة. فقد قال عمر لابن عباس: " يا ابن عباس، ما أري صاحبك (يعني عليا) إلا مظلوما "، غير أنه قال هذه المرة: يا ابن عباس، ما أظن منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه! قال ابن عباس: فقلت: والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ " براءة " من صاحبك " [369] ، يعني بذلك أبا بكر. وقد وضح لك من هم القوم الذين استصغروا عليا. بيد أن الصغر أو الكبر في العمر ليسا دليلا علي القدرة أو عدمها في القيام بأعباء المسؤوليات. والأمثلة كثيرة لتأييد ذلك، فقد ولي النبي صلي الله عليه وآله أسامة بن زيد قيادة الجيش في حرب الروم وله من العمر - علي أكثر التقديرات - عشرون عاما، وكان أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من المهاجرين والأنصار جنودا في ذلك الجيش يعلمون بأمر أسامة. فهل كان النبي صلي الله عليه وآله يولي الصغار

والأطفال علي كبار السن، ويسند إليهم قيادة الجيوش لعبا ولهوا؟! بل قال النبي صلي الله عليه وآله عن أسامة عندما طعن الناس فيه: " إنه لخليق للإمارة ".. فكيف [ صفحه 268] صار خليقا بها وهو صغير السن؟! وكيف صار علي صغيرا علي الخلافة غير خليق؟! فصغر العمر أو كبره ليس معيارا للعظمة أو القدرة علي القيام بالمسؤولية أبدا. إن الإمام علي عليه السلام لما أعلن مؤازرته للنبي صلي الله عليه وآله في " يوم الدار " لم يقل له النبي صلي الله عليه وآله: إجلس يا علي، فإنك صغير علي أمر الخلافة! بل أخذه من رقبته، وقال لكبار قريش، وفيهم حمزة والعباس وأبو لهب وأبو طالب: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فالقول بأن الإمام عليا صغير علي الخلافة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله هو: أولا: خلاف لما كان يراه النبي صلي الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي، فإذا أعلن الوحي خلافة علي في سن العاشرة، فما بالك به وهو في سن الثلاثين؟! ثانيا: أن القول بصغر الإمام علي الخلافة فيه ظلم شنيع للإمام، فهو علي أقل تقدير لا يقل من حيث العقل والحنكة والتدبير عن أسامة بن زيد شيئا، فظلم أن يوصف بذلك وهو الذي له من هذا العقل وهذه الحنكة والتدبير ما له. ولهذا قال عمر لابن عباس: ما أري صاحبك إلا مظلوما! إذ لو كان حقا صغيرا لما وقع الظلم هذا، ولكن.. كان القوم يعلمون في قرارة نفوسهم بعلو مكانه ورفعة مقامه وقدرته علي القيام بأعباء الخلافة. وقال عمر مرة لابن عباس: كيف خلفت ابن عمك؟ قال ابن عباس:

فظننته يعني عبد الله بن جعفر... فقلت: خلفته مع أترابه. فقال [عمر]: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت. قال [ابن عباس]: قلت: خلفته يمتح بالغرب [370] وهو يقرأ القرآن. قال [عمر]: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها.. هل بقي نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قال [ابن عباس]: قلت: نعم. قال [عمر]: أيزعم أن رسول الله [صلي الله عليه وآله] نص عليه؟ [ صفحه 269] قال ابن عباس: قلت: نعم وأزيدك، سألت أبي عما يدعي - أي النص علي الخلافة - فقال: صدق. فقال عمر: كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقدكان يربع في أمره وقتا، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك " [371] . نعم، وذلك عندما كان النبي صلي الله عليه وآله مريضا والحجرة غاصة بالناس من حوله، فقال لهم النبي صلي الله عليه وآله: " قربوا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ". فقال عمر: " إن الرجل قد غلب عليه الوجع، إن الرجل ليهجر! حسبنا كتاب الله، عندنا القرآن ". وردد الناس ما قال عمر! فقال لهم النبي صلي الله عليه وآله غاضبا: قوموا!.. ولم يكتب الكتاب الذي كان سيصرح فيه باسم علي عليه السلام، إذ أن عمر منعه من ذلك بما قاله من قول نسج الناس عليه، كما عرفت! علي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يترك التصريح لفظا باسم علي عليه السلام، كما مر عليك، إذ قال صلي الله عليه وآله: " ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي ".. ثم أخذ بيد علي وقال: " هذا علي مع القرآن،

والقرآن مع علي، لا يفترقان حتي يردا علي الحوض ". فكان من النبي صلي الله عليه وآله والوحي استخلاف علي والتصريح باسمه، وكان من قريش المنع والاعتراض وكراهة اجتماع النبوة والخلافة في أهل البيت! غير أن القوم لم يكتفوا بصرف الخلافة عن علي وعترة النبي صلي الله عليه وآله، بل أخذوا عليا عنوة لبيعة أبي بكر، فجئ به يساق - كما قال معاوية - كالجمل المخشوش، وهو يقول: " أنا عبد الله وأخو رسول الله "! فقيل له: بايع! قال [علي]: أنا أحق بهذا الأمر منكم. لا أبايع، وأنتم أولي بالبيعة لي. أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلي الله عليه [وآله] وسلم، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا. ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولي بهذا الأمر منهم، لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة؟ فإذا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم علي الأنصار، نحن أولي [ صفحه 270] برسول الله حيا وميتا، فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنك لست متروكا حتي تبايع! فقال له علي: احلب حلبا لك شطره، وشد له اليوم يردده عليك غدا. ثم قال: والله يا عمر، لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال أبو بكر: إن لم تبايع، فلا أكرهك. ثم قال [عليه السلام]: الله الله يا معشر المهاجرين! لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته، إلي دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت. ونحن أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المتطلع

لأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم لهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوي فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا عن الحق بعدا. فقال له بشير بن سعيد الأنصاري: لو كان هذا كلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك! " [372] . وهكذا ظل الإمام رافضا مهادنة أبي بكر ستة أشهر حتي رأي مصلحة الإسلام في الصبر والجلوس في بيته، ومهادنة القوم، كما يوضح ذلك هو بنفسه عليه السلام: يقول الإمام علي عليه السلام: " وأمسكت يدي حتي رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلي محق دين محمد صلي الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أري فيه ثلما وهدما تكون المصيبة له علي أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، وكما ينقشع السحاب ". وقال عليه السلام: " ولقد تقمصها (أي لبسها قميصا، يعني الخلافة) ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي: ينحدر عني السيل، ولا يرقي إلي الطير، فسدلت عنها ثوبا وطويت [ صفحه 271] عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر علي طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربه.. فرأيت أن الصبر علي هاتا أحجي، فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجي، أري تراثي نهبا... " [373] . ومعني هذا كله أن حادثة الظلم الذي أقر بوقوعه الفاروق في حق الإمام علي هي حقيقة تاريخية لا تخلو منها مدونات التاريخ، واعترف بها شهود العيان اعترافهم بالمسلمات. ومنها ما ضمنه معاوية بن أبي سفيان رده علي خطاب محمد بن

أبي بكر الصديق مشيرا إلي ذلك الظلم بشكل أوضح، يكشف ثقل الظلم الذي وقع علي أمير المؤمنين، بحيث اعترف به عمر بن الخطاب، لأن وقوعه ليس من قبيل ما ينكر أو يخفي. كتب محمد بن أبي بكر رضي الله عنه خطابا إلي معاوية، يردعه علي تطاوله علي أمير المؤمنين علي عليه السلام، ويبين فيه شأن الإمام ورفعة مقامه.. يقول فيه: " من محمد بن أبي بكر، إلي الغاوي معاوية بن صخر. سلام علي أهل طاعة الله، ممن هو سلم لأهل ولاية الله. أما بعد: فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته، ولا حاجة به إلي خلقهم، لكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم غويا ورشيدا، وشقيا وسعيدا. ثم اختار، علي علم، فاصطفي وانتخب منهم محمدا (ص)، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه علي أمره، وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا، مصدقا لما بين يديه من الكتب، ودليلا علي الشرائع، فدعا إلي سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وسلم: أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام). صدقه بالغيب المكتوم، وآثره علي كل حميم، ووقاه بنفسه من كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، و حارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع، حتي برز سابقا لا نظير له في جهاده، ولا [ صفحه 272] مقارب له في فعله. وقد رأيت تساويه، وأنت أنت، وهو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس نية، وأفضل الناس ذريه، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم. أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة، وعمه سيد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذاب عن رسول الله

(ص) وعن حوزته. وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان علي ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلبان عليه القبائل. علي هذا مات أبوك، وعلي ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق والشقاق لرسول الله (ص). والشاهد لعلي - مع فضله المبين وسابقته القديمة - أنصاره الذين معه، الذين ذكرهم الله تعالي في القرآن، فضلهم وأثني عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب، يجالدون حوله بأسيافهم، ويهرقون دماءهم دونه، يرون الحق في اتباعه والشقاء في خلافه. فكيف، يا لك الويل، تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله (ص) ووصيه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعا وأقربهم به عهدا، يخبره بسره ويطلعه علي أمره، وأنت عدوه وابن عدوه؟! فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكان أجلك قد انقضي، وكيدك قد وهي، وسوف يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده، وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور. والسلام علي من اتبع الهدي ". [374] فهذا كان خطاب محمد بن أبي بكر إلي معاوية، وقد وضحت لك عباراته وانكشفت معانيها. ووضح لك فضل أمير المؤمنين من حيث إنه أول الناس إيمانا برسول الله، ومن حيث إنه فاق غيره جهادا وارتباطا برسول الله، وهو الوارث له. كما وضح لك قدر معاوية [ صفحه 273] وشأنه.. فماذا قال معاوية في رده علي محمد بن أبي بكر؟! يقول ابن هند: من معاوية بن صخر إلي الزاري علي أبيه محمد بن أبي بكر. سلام علي أهل طاعة الله.

أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه، وما أصدق به رسول الله (ص) مع كلام كثير ألفته ووضعته لرأيك في تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف. ذكرت فيه فضائل ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته مع رسول الله (ص) ونصرته له ومواساته إياه في كل هول وخوف، فكان احتجاجك علي وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد ربا صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك. فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه (عليه الصلاة والسلام) ما عنده وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته، وقبضه الله إليه (صلوات الله عليه)، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه علي أمره، علي ذلك اتفقا واتسقا. ثم دعواه إلي بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادا به العظيم. ثم إنه بايعهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه علي سرهما، حتي قبضهما الله، وانقضي أمرهما. ثم قام ثالثهما عثمان فهدي بهما وسار بسيرتهما فعبته أنت وصاحبك حتي طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل حتي بلغتما فيه منا كما. فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فستري وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال حمله، ولا تلين علي قسر قناته، ولا يدرك ذو مدي أناته. أبوك مهد له مهاده، وبني ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يك جورا فأبوك استبد به، ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا. [ صفحه 274] لولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا

إليه، لكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا، فأخذنا بمثاله واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع. والسلام علي من أناب ورجع من غوايته وتاب. [375] وها هو خطاب معاوية في رده علي خطاب محمد بن أبي بكر، فتدبر في قوله: " فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا ". فما هو حق علي بن أبي طالب الذي كان لازما لمعاوية وأبي بكر وبقية الصحابة في حياة النبي صلي الله عليه وآله؟! ثم أين ذلك الحق بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله؟! وأما قوله: " كان أبوك وفاروقه أول ابتزه حقه وخالفه علي أمره " ففيه بيان الأساس الذي قامت عليه خلافة الصديق وعمر من بعده، والشاهد علي هذا الأساس معاوية نفسه تصريحا ومحمد بن أبي بكر إقرارا. وعلي هذا الابتزاز والمخالفة، تم الاتفاق والاتساق بين أبي بكر وفاروقه، كما أوضح معاوية. وإشارة معاوية إلي هذا توضح اشتراكه في ذلك، إذ أن أبا بكر هو الذي مهد وشيد له ملكه بسنه ابتزاز حق الإمام ومخالفته في أمره، بعد أن كان حقه لازما لهم في حياة النبي صلي الله عليه وآله. فما هي العلاقة والارتباط بين ما وقع من ابتزاز لحق الإمام ومخالفته علي أمره، وبين قول النبي الأكرم لأبي بكر: " لا أدري ما تحدثون بعدي "؟! وهكذا انشعب الإسلام بعد تلك الحوادث، وانشعب الناس علي أساس ذلك إلي قوم تعبدوا بما تمخضت عنه الحوادث بعد وفاة رسول الله في السقيفة، واقتدوا بأهل البيت السقيفي، وقوم ولوا الظهور لذلك وصوبوا نحو أهل البيت النبوي، يقتدون بعلي وأهل بيته عملا ولفظا، ويمزجون

حبهم للعترة باقتفاء الآثار منهم.. ليس كمن مزج حبهم باقتفاء آثار غيرهم من الفقهاء والعلماء وهم يخالفونهم في كثير من المسائل. فهلموا - أيها الناس - إلي سبيل المؤمنين من أهل بيت الرسول وأبناء البتول، فهم [ صفحه 275] أمان للناس من الغرق في مفاوز الضلال وشعاب الاختلاف. يقول علي عليه السلام: " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم؟! بنا يستعطي الهدي، ويستجلي العمي، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح علي سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم " [376] . ويقول عليه السلام: " حتي إذا قبض رسول الله صلي الله عليه وآله، رجع قوم علي الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا علي الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير مواضعه. معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، وقد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، علي سنة من آل فرعون، من منقطع إلي الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين " [377] . " فيا عجبي! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق علي الاختلاف حججها في دينها؟! لايقتفون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي! " [378] . والحمد لله علي منه وتوفيقه

پاورقي

[1] نهج البلاغة: من الخطبة 83 (الغراء).

[2] البقرة: 256.

[3] تخطرف الشئ: جاوزه وتعداه. لسان العرب 9: 79.

[4] النحل: 125.

[5] إبراهيم: 51.

[6] المائدة: 104.

[7] النجم: 28.

[8] الإسراء: 88.

[9] البقرة: 23. [

[10] الحجر: 9.

[11] التفسير الكبير للإمام الرازي 8: 174 - آل عمران 103 قوله تعالي: (واعتصموا...).

[12] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44، الباب

23.

[13] تاريخ الطبري 4: 304 - حوادث سنة إحدي وستين.

[14] نسبة إلي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

[15] الأحزاب: 40.

[16] المائدة: 3.

[17] النساء: 59.

[18] نهج البلاغة: من الخطبة رقم 3 (الشقشقية).

[19] تفسير الإمام الرازي 3: 370 - تفسير سورة المائدة.

[20] إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 5: 4.

[21] الموطأ، شرح الزرقاني 1: 25 - باب ما جاء في النداء للصلاة.

[22] شرح التجريد للقوشجي: مبحث الإمامة.

[23] تفسير القرطبي 18: 100 الكواكب الدراري 6: 127، إرشاد الساري 6: 210، عارضة الأحوذي 2: 305.

[24] نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح ص 300 - الخطبة 192.

[25] الإصابة 1: 7، الفصل الأول.

[26] الإصابة 1: 8، الفصل الأول.

[27] تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل لأبي حاتم الرازي المتوفي سنة 327 ه، ص 7 " الصحابة ".

[28] المستصفي في علم الأصول للإمام الغزالي 1: 260.

[29] أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 1: 10 المقدمة.

[30] جامع الأصول لابن الأثير 9: 410، الباب الرابع، في فضائل الصحابة، حديث رقم 6359.

[31] شرح المقاصد للتفتازاني 4: 310 - 311.

[32] صحيح البخاري: كتاب البيوع - النجش ج 4: 55.

[33] أسد الغابة في معرفة الصحابة، وسائر التراجم.

[34] أسد الغابة 3: 312 السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 120 وما بعدها.

[35] سيرة ابن هشام 3: 114، 4: 444.

[36] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 53 - باب 139، انظر كتاب السقيفة للجواهري ص 37.

[37] الأنفال: 15 - 16.

[38] تفسير القرطبي 7: 383.

[39] آل عمران: 153.

[40] الطبري 2: 201 غزوة أحد.

[41] التوبة: 25.

[42] المغازي للواقدي 3: 904.

[43] تاريخ الطبري 2: 201 غزوة أحد.

[44] تاريخ الطبري 2: 203 حوادث السنة الثالثة - غزوة أحد.

[45] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 74 -

فصل في ذكر المنحرفين عن علي، أنظر مسند أحمد 1: 194.

[46] مروج الذهب 2: 366، معجم البلدان 2: 314، أنساب الأشراف 2: 224.

[47] المناقب ص 114.

[48] صحيح مسلم: باب فضائل علي بن أبي طالب.

[49] دلائل النبوة للبيهقي 6: 457، الإصابة لابن حجر 2: 329.

[50] صحيح مسلم 1: 86 و 131 - كتاب الإيمان.

[51] دلائل النبوة 6: 243.

[52] سير أعلام النبلاء 3: 124.

[53] تاريخ الطبري 5: 179، تاريخ ابن الأثير 3: 216، الإمامة والسياسة 1: 52.

[54] الكامل لابن الأثير 3: 174.

[55] صحيح البخاري: كتاب الفتن - باب قول النبي: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، صحيح مسلم1: 44 - كتاب الإيمان.

[56] الكامل لابن الأثير 3: 487، شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 262 و 16: 193.

[57] صحيح مسلم 1: 61 - كتاب الإيمان.

[58] صحيح البخاري 5: 52 - كتاب الجهاد والسير - باب مسح الغبار عن الناس.

[59] راجع كتب السير والأخبار والتاريخ.

[60] التوبة: 101.

[61] صحيح البخاري 7: 208 - كتاب الرقاق، باب الحوض.

[62] نفس المصدر السابق.

[63] صحيح البخاري 4: 110 - كتاب بدء الخلق، باب قول الله تعالي (واتخذ الله إبراهيم خليلا...).

[64] صحيح البخاري 5: 125 - باب غزوة الحديبية - طبعة مصر علي النسخة الأميرية 1314.

[65] المستصفي من علم الأصول للغزالي 1: 261 - طبعة بغداد.

[66] النجم: 3 و 4.

[67] النساء: 82.

[68] الأنفال: 46.

[69] سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السئ في الأمة لمحمد ناصر الألباني ص 78 - 84.

[70] صحيح الترمذي 5: 44 - 45 باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع.

[71] الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 12 - 13، الفتوح لابن أعثم 1: 13، أعلام النساء 4: 114 - 115، شرح ابن

أبي الحديد2: 56 و 6: 11.

[72] صحيح البخاري 3: 108 / 1412 - كتاب الحج، باب التمتع والإقران.

[73] سنن البيهقي 3: 145، أحكام القرآن للجصاص 2: 310.

[74] الموطأ 1: 307، المغازي للواقدي 1: 310 - غزوة أحد.

[75] صحيح البخاري 4: 187، صحيح مسلم 8: 57، مسند أحمد بن حنبل 3: 84 و 94.

[76] مسند أحمد 1: 50.

[77] الحشر: 7.

[78] سنن البيهقي 4: 245.

[79] صحيح مسلم: كتاب الحج - باب التمتع والعمرة، صحيح البخاري 3: 109 / 1413 - كتاب الحج.

[80] صحيح مسلم 1: 467.

[81] الكامل في التاريخ لابن الأثير، حوادث سنة إحدي عشرة - ج 2.

[82] تاريخ الطبري، حوادث سنة إحدي عشرة - ج 2.

[83] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 16.

[84] تاريخ الطبري، وتاريخ الكامل لابن الأثير: ذكر حوادث سنة 51 ه.

[85] نهج البلاغة، شرح محمد عبده ص 306.

[86] نفس المصدر السابق ص 626.

[87] تاريخ الطبري 3: 476.

[88] كتاب النص والاجتهاد لشرف الدين الموسوي ص 293 - المورد 83، نقلا عن شرح النهج لابن أبي الحديد.

[89] صحيح البخاري 1: 170، صحيح مسلم 1: 312، سيرة ابن هشام 4: 292.

[90] فصلت: 42.

[91] النجم: 3 و 4.

[92] النساء: 59.

[93] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 15 - 161 - نقلا عن المدائني.

[94] أنظر مسند أحمد بن حنبل 4: 281، المستدرك علي الصحيحين 3: 130، 137، 142، خصائص النسائي 3، الإصابة لابن حجر ج 7 / القسم 1 ص 167.

[95] أنظر المستدرك علي الصحيحين 3: 167، الإصابة لابن حجر ج 1 / القسم 1 ص 266، كنز العمال 6: 220 - 221، 7:107، 111.

[96] صحيح البخاري 4: 64 - كتاب الاستئذان، صحيح مسلم: فضائل الزهراء

- ج 2، مسند أحمد بن حنبل 6: 282.

[97] الإصابة لابن حجر: ترجمة الزهراء (عليها السلام).

[98] كتاب الإستيعاب: ترجمة خديجة (عليها السلام).

[99] الطور: 21. [

[100] مسند أحمد 1: 101.

[101] الأحزاب: 33.

[102] كتاب الشرف المؤبد للنبهاني: أحوال الزهراء - نقلا عن البخاري.

[103] صحيح البخاري 5: 139 - طبعة 1314 ه مصر.

[104] صحيح البخاري: كتاب الخمس - باب فرض الخمس، وصحيح مسلم: كتاب الجهاد.

[105] فتوح البلدان للبلاذري 1: 41، كتاب السقيفة ص 97، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 110.

[106] المغازي للواقدي 1: 377 - 378. (5) الكامل في التاريخ 2: 174، تاريخ الطبري 2: 226.

[107] شواهد التنزيل للحسكاني 1: 388، الدر المنثور للسيوطي 5: 273 - 274، ينابيع المودة 119.

[108] طبقات ابن سعد 2: 316.

[109] الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص 21 - الشبهة رقم 7.

[110] كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري: ص 99 - 100.

[111] بلاغات النساء لابن طيفور ص 16 - 17.

[112] مسند أحمد بن حنبل 1: 155، كنز العمال 6: 396.

[113] كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 137 الملحقات.

[114] تاريخ الطبري 3: 202، الكامل لابن الأثير 2: 215.

[115] أنظر: كتاب السقيفة لابن أبي بكر الجواهري ص 101.

[116] كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للعلامة عبد العلي بن نظام الدين الأنصاري 2: 125 - الأصل الثاني.

[117] مجمع الزوائد: باب ما تركه الرسول (ص)، نقلا عن الطبراني في الأوسط.

[118] صحيح البخاري 1: 181 - كتاب الزكاة - باب ما يذكر في الصدقة للنبي.

[119] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 77.

[120] الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 عند ذكر حوادث السقيفة: أعلام النساء 4: 123 - 124.

[121] الإمامة والسياسة ج 1

- وفاة أبي بكر.

[122] تاريخ الطبري 3: 210، الإمامة والسياسة 1: 13.

[123] الموطأ 1: 307، المغازي للواقدي 1: 310 - غزوة أحد.

[124] الإمامة والسياسة ج 1 - وفاة أبي بكر، كتاب السقيفة للجواهري 41.

[125] الحشر: 7.

[126] الأحزاب: 36.

[127] صحيح البخاري 2: 81 - كتاب الشروط.

[128] السيرة الحلبية 3: 19 - قصة الحديبية، السيرة الدحلانية 2: 184 (التي بهامش الحلبية).

[129] تفسير جواهر الحسان للثعالبي 4: 181 - سورة الفتح.

[130] تفسير ابن كثير 4: 201 - سورة الفتح.

[131] تفسير الطبري 26: 107 - سورة الفتح.

[132] تفسير المراغي 26: 112 - سورة الفتح.

[133] تفسير جواهر الحسان للثعالبي 4: 180 - سورة الفتح.

[134] أنظر: تفسير الثعلبي - سورة الفتح.

[135] كتاب المغازي للواقدي 2: 606 - 607 - غزوة الحديبية.

[136] التكوير: 19 - 22.

[137] الحشر: 7.

[138] السيرة الحلبية 3: 23 - قصة الحديبية.

[139] صحيح البخاري: كتاب الجهاد - باب غزوة الحديبية - ج 3.

[140] الفتح 1.

[141] الأحزاب: 10.

[142] أنظر: السيرة الدحلانية: قصة الحديبية.

[143] صحيح البخاري 4: 18 - كتاب اللباس، و 3: 92 باب قوله تعالي (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم). والآية في سورة التوبة، الآية 80.

[144] نفس المصدر السابق، وكنز العمال 1: 170 / 858.

[145] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8: 423 - كتاب اللباس.

[146] صحيح البخاري 4: 18 - كتاب اللباس.

[147] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8: 423 - كتاب اللباس.

[148] كنز العمال 1: 247 / 4404.

[149] النساء: 59.

[150] النجم: 20 و 21.

[151] صحيح البخاري: كتاب المرضي - باب قول المريض قوموا عني، وكتاب العلم من صحيح البخاري ج 1.

[152] صحيح مسلم: كتاب الوصايا - ج 2: وأحمد بن حنبل في مسنده 1: 325 و 355.

[153] كتاب

السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري.

[154] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب جوائز الوفد، وصحيح مسلم: كتاب الوصية.

[155] كنز العمال 3: 138.

[156] النور: 55.

[157] كتاب النص والاجتهاد ص 159 وما بعدها - رزية يوم الخميس - أعذار المعارضيين وتزييقها - المورد 16.

[158] التفسير الكبير للرازي 8: 174.

[159] فواتح الرحموت، شرح مسلم الثبوت في علم الأصول 2: 239، بهامش المستصفي.

[160] شرح صحيح البخاري 2: 162 - باب من أسمع التكبير.

[161] مجلة تراثنا: نشرة فصلية تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم.

[162] فتح الباري 2: 130.

[163] فتح الباري 2: 130.

[164] تاريخ الطبري 4: 199 - 200.

[165] شرح نهج البلاغة 4: 99.

[166] تهذيب التهذيب 6: 411 وغيره.

[167] ميزان الاعتدال 6: 660.

[168] ميزان الاعتدال 6: 660، المغني 2: 407 تهذيب التهذيب 6: 412.

[169] ميزان الاعتدال 6: 660.

[170] تهذيب التهذيب 6: 412.

[171] ميزان الاعتدال 6: 660.

[172] ميزان الاعتدال 2: 660.

[173] الأنساب 10: 50 " القطبي ".

[174] تقريب التهذيب 1: 521.

[175] تلخيص الشافي 3: 35، روضة الواعظين: 177، مقتل الإمام الحسين عليه السلام للمقرم: 185.

[176] وقعة صفين 551 - 552 / طبعة مصر.

[177] فضائل الصحابة 1: 106.

[178] هو من شيوخ البخاري ومسلم، ومن أئمة الجرح والتعديل. اتفقوا علي أنه أعلم أئمة الحديث بعميمه وسقيمه. توفي سنة 302 ه، ترجم له في: تذكرة الحفاظ 2: 429، وغيره.

[179] شرح نهج البلاغة 6: 102.

[180] شرح نهج البلاغة 4: 102.

[181] الكاشف 2: 311.

[182] تهذيب التهذيب 4: 195.

[183] إحياء علوم الدين 2: 143.

[184] تحف العقول عن آل الرسول للشيخ ابن شعبة الحراني (من أعلام الإمامية في القرن الرابع) ص 198.

[185] ذكره في الزوائد، بهامش سنن ابن ماجة 1: 391.

[186] ميزان

الاعتدال 3: 27.

[187] تهذيب التهذيب 8: 56.

[188] ميزان الاعتدال 2: 72.

[189] تهذيب التهذيب 3: 285، الجرح والتعديل 1: 2 / 593.

[190] فضائل الصحابة 1: 106.

[191] فضائل الصحابة 1: 108 - 109.

[192] الضعفاء للبخاري 273.

[193] الضعفاء للنسائي 401.

[194] كتاب المجروحين: 2: 216.

[195] تهذيب التهذيب 8: 350، ميزان الاعتدال 3: 393، لسان الميزان 4: 477.

[196] مجمع الزوائد 5: 183.

[197] تهذيب التهذيب 5: 35.

[198] تهذيب التهذيب 5: 138.

[199] تهذيب التهذيب 10: 418.

[200] تهذيب التهذيب 4: 140.

[201] الإصابة 2: 5.

[202] تهذيب التهذيب 3: 381.

[203] مجمع الزوائد 5: 182.

[204] تهذيب التهذيب 4: 307.

[205] تهذيب التهذيب 2: 380.

[206] تهذيب التهذيب 4: 96.

[207] مجمع الزوائد 5: 181.

[208] تهذيب التهذيب 3: 34.

[209] أنظر: الفصل الأول من هذا الكتاب - ص 42.

[210] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 97.

[211] معرفة علوم الحديث 108.

[212] تقريب التهذيب 1: 331.

[213] تدريب الراوي 1: 221.

[214] الكفاية في علم الرواية 1: 188.

[215] تدريب الراوي 1: 278، وفي طبعة 1: 328.

[216] تهذيب التهذيب 9: 121.

[217] تذكرة الحفاظ 1: 308، ميزان الاعتدال 1: 336.

[218] تهذيب التهذيب 2: 358.

[219] تهذيب التهذيب 11: 111.

[220] تهذيب التهذيب 7: 166.

[221] مجمع الزوائد 9: 213.

[222] تهذيب التهذيب 11: 44.

[223] وهو محمد بن إدريس الرازي، أحد كبار الأئمة الحفاظ المعتمدين في الجرح والتعديل، توفي سنة 207 ه تقريبا.توجد ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2: 567، تاريخ بغداد 3: 73، وغيرها من المصادر الرجالية.

[224] تهذيب التهذيب 10: 314.

[225] طبقات ابن سعد 5: 215.

[226] تهذيب التهذيب 4: 317.

[227] تهذيب التهذيب 4: 264، تاريخ بغداد 9: 295.

[228] تهذيب التهذيب 4: 265.

[229] هذه من القضايا المشهورة، فراجع كتب الحديث والتفسير، في تفسير سورة التحريم.

[230] مسند أحمد 6: 117.

[231] طبقات ابن سعد

8: 115، كنز العمال 6: 294.

[232] مسند أحمد 6: 114.

[233] مسند أحمد 6: 113.

[234] مسند أحمد 6: 121.

[235] عمدة القاري 5: 191.

[236] مسند أحمد 6: 300، المستدرك علي الصحيحين 3: 138، ابن عساكر 3: 16، الخصائص 30، وغيره.

[237] الكامل في التاريخ 2: 323 - حوادث سنة إحدي عشرة، تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة، ج 2.

[238] تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة، ج 2.

[239] نفس المصدر السابق.

[240] تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة، ج 2.

[241] تاريخ ابن الأثير 1: 323 - حوادث سنة إحدي عشرة، طبقات ابن سعد، السيرة الحلبية والدحلانية - سرية أسامة بن زيد.

[242] فيض القدير، شرح الجامع الصغير 5: 521.

[243] فيض القدير، شرح الجامع الصغير 5: 521.

[244] منهاج السنة 3: 217 - 218.

[245] الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 328 - حوادث سنة إحدي عشرة.

[246] الكامل في التاريخ 2: 329 - حوادث سنة إحدي عشرة.

[247] الكامل التاريخ 2: 330.

[248] صحيح البخاري 5: 256، 288، صحيح مسلم 3: 52، 138.

[249] تاريخ الطبري 2: 446، وسيرة ابن هشام 1 658، السقيفة للجواهري ص 44.

[250] تاريخ اليعقوبي 2: 124 تاريخ ابن خلدون 3: 214، تاريخ أبي الفداء 2: 63.

[251] الكامل في التاريخ 2: 325، تاريخ الطبري 3: 198.

[252] الفتوح لابن أعثم 1: 13 الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 12 - 13، أعلام النساء 4: 114 - 115.

[253] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 183 - باب 28.

[254] أنظر: كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 46.

[255] الكامل في التاريخ 2: 330 - حوادث سنة إحدي عشرة، كتاب السقيفة ص 59: الإمامة والسياسة ص 17، معجم البلدان 2 317.

[256] تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة -

ج 2، تاريخ ابن الأثير: نفس الحوادث - ج 2 أيضا.

[257] منهاج السنة لابن تيمية 4: 91.

[258] نهج البلاغة: الخطبة رقم 3 (المعروفة بالشقشقية).

[259] مسند أحمد 1: 111 - 331: المستدرك 3: 132، كنز العمال 6: 392 / 8 600، تاريخ الطبري: ج 2، الكامل في التاريخ:ج 2: السيرة الحلبية 1: 381 - باب استخفائه صلي الله عليه وآله.

[260] أنساب الأشراف للبلاذري 1: 59، نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد 1: 132.

[261] أنظر: كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 100، كتاب بلاغات النساء لابن طيفور ص 29.

[262] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي عليها السلام.

[263] صحيح مسلم 2: 503.

[264] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 77.

[265] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 77.

[266] نفس المصدر نقلا عن أبي مخنف.

[267] تاريخ الطبري 3: 476.

[268] لدوه: جعلوا الدواء في جانب فمه.

[269] كتاب عيون الأثر لابن سيد الناس 2: 281 - 282 - سرية أسامة بن زيد بن حارثة.

[270] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 20 وما يليها - نقلا عن كتاب السقيفة.

[271] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 97.

[272] طبقات ابن سعد 2: 61 - القسم الثاني.

[273] كنز العمال 4: 54.

[274] مستدرك الحاكم 3: 59، وأخرجه الذهبي في تلخيصه، وقال: صحيح الإسناد إلي علي.

[275] كنز العمال 6: 155 - الحديث رقم 2583.

[276] تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة - ج 2، العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 258.

[277] كتاب السقيفة ص 46.

[278] تاريخ اليعقوبي 2: 124، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 21.

[279] الشوري: 38.

[280] آل عمران: 159.

[281] الكامل في التاريخ 2: 329 - حوادث

سنة إحدي عشرة.

[282] الكامل في التاريخ 2: 330 - حوادث سنة إحدي عشرة.

[283] تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدي عشرة - ج 2.

[284] تاريخ الطبري 2: 446 - حوادث سنة إحدي عشرة، سيرة ابن هشام 1: 658.

[285] صحيح البخاري 4: 119 - باب رجم الحبلي إذا أحصنت.

[286] النساء: 59.

[287] الكامل في التاريخ 3: 64 - حوادث سنة ثلاث وعشرين، وشرح نهج البلاغة، سيرة عمر: ص 107.

[288] النساء: 59.

[289] تفسير المراغي 25: 52 - سورة الشوري.

[290] آل عمران: 159.

[291] الدر المنثور 2: 90، تفسير الفخر الرازي 9: 66 تفسير القرطبي 4: 250.

[292] شرح المقاصد للتفتازاني 5: 302.

[293] التوبة: 101.

[294] التوبة: 128.

[295] شرح العقائد النسفية: 185 - 186.

[296] التمهيد للقاضي الباقلاني 181.

[297] النجم: 3 و 4.

[298] تفسير الإمام الرازي 10: 144.

[299] النور: 54، العنكبوت: 18.

[300] النساء: 83.

[301] الجاثية: 27.

[302] تفسير جامع البيان لابن جرير الطبري 5: 94 - 95.

[303] الشوري: 23.

[304] آل عمران: 31.

[305] الشعراء: 214.

[306] تاريخ الطبري 2: 217، الكامل في التاريخ 2: 22، السيرة الحلبية 1: 381.

[307] آل عمران: 61.

[308] الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89 - الباب الحادي عشر - نقلا عن الطبراني.

[309] الشرف المؤبد للنبهاني ص 31: وانظر: إسعاف الراغبين.

[310] الأحزاب: 33.

[311] يس: 82.

[312] البقرة: 282.

[313] المستدرك للحاكم 3: 128، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

[314] الصواعق المحرقة لابن حجر ص 105 (وقد مر عليك).

[315] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 145 - الخطبة رقم 84.

[316] مستدرك الحاكم 3: 148 - كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[317] مسند أحمد بن حنبل 3: 17، المستدرك للحاكم 3: 148 (حديث صحيح..).

[318] قال تعالي: " فاسئلوا أهل الذكر إن

كنتم لا تعلمون "، النحل: 43.

[319] وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، آل عمران: 7.

[320] أخرجه جماعة من أصحاب السنن مرفوعا إلي أبي ذر، وأورده النبهاني في الشرف المؤبد ص 31.

[321] كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة 1: 211.

[322] الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: الباب الحادي عشر - ص 234، مستدرك الحاكم 3: 151 عن كتاب معرفة الصحابة: النهاية لابن الأثير: باب الزاي مع الخاء.

[323] كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر - ص 149.

[324] الحجر: 9.

[325] الصواعق المحرقة: الباب الحادي عشر - ص 149.

[326] نفس المصدر السابق.

[327] نفس الصدر السابق.

[328] آل عمران: 103.

[329] كنز العمال للمتقي الهندي 6: 155 / 2578.

[330] الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر ص 105.

[331] الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر ص 90.

[332] المدثر: 38.

[333] صحيح مسلم 8: 5 - كتاب الإمارة.

[334] التحريم: 4 - 5.

[335] التحريم: 4.

[336] البخاري ومسلم، عند تفسير الآية.. أنظر التفاسير.

[337] إحياء القلوب للإمام الغزالي: آداب النكاح، وكتاب مكاشفة القلوب: الباب 94.

[338] نفس المصدر السابق.

[339] تفسير الثعالبي: سورة الأحزاب / ج 3.

[340] صحيح مسلم 3 / 1883.

[341] صحيح مسلم 4 / 1871.

[342] كفاية الطالب لمحمد بن يوسف الكنجي 22: 5 - 7 سورة الأحزاب.

[343] صحيح مسلم 15: 179 - 180 / كتاب فضائل الصحابة - بل فضائل علي بن أبي طالب.

[344] كتاب شرح المقاصد للتفتازاني 5: 302 - 303.

[345] هذا من الأحاديث التي أوردها الطبري في تفسيره عند تفسير الآية 22: 5.

[346] المائدة: 55 و 56.

[347] التوبة: 71.

[348] الزكاة في الآية بمعني الصدقة.

[349] تفسير الكشاف للزمخشري 1: 649.

[350] ذخائر العقبي ص 88.

[351] طه: 25 - 35.

[352] طه: 36.

[353] مسند أحمد بن حنبل

3: 532.

[354] الخصائص العلوية للإمام النسائي ص 23، المستدرك 3: 110 - 111 كتاب معرفة الصحابة، مسند أحمد 5: 632، كنزالعمال 6: 400.

[355] مسند أحمد بن حنبل 4: 281، حديث البراء بن عازب.

[356] كنز العمال للمتقي الهندي 6: 155، الإصابة لابن حجر العسقلاني 9: 319 / 579.

[357] الضبع: العضد.

[358] تفسير الثعلبي: تفسير سورة المعارج، أنوار الأبصار للشبلنجي المصري ص 11 والآيات من سورة " المعارج " 1 - 3.

[359] مسند أحمد 5: 419.

[360] مسند أحمد بن حنبل 1: 330، مستدرك الحاكم 3: 123 وقد صححه الذهبي، الخصائص للإمام النسائي ص 6.

[361] والمشهور من الروايات أن عليا قام ثلاث مرات يعلن مؤازرته للنبي صلي الله عليه وآله، والنبي صلي الله عليه وآله يقول له: إجلس، فلما كانت الثالثة أعلن له الخلافة والأخوة والإرث، وخاطب القوم قائلا: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، وما كان قول من النبي صلي الله عليه وآله لعلي. فلو كان علي ليس أهلا لها في ذلك الوقت، لما أعلن النبي خلافته ولو قام مائة مرة، فالنبي صلي الله عليه وآله مأمور بأداء الوحي، ولذا فاعلان خلافة علي سواء بعد الثلاثة أو بعد الأولي إنما هو منصميم الوحي بلا ريب.

[362] مسند أحمد 1: 111، ص 159 بسند معتبر ثقة عن ثقة وأيضا في ص 331 عن ابن عباس، مستدرك الحاكم 3: 132، كنز العمال 6: 392 / 6008 و 396 / 6045 و 397 / 6056، الخصائص ص 6، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 255، تاريخ الطبري 2: 217، تاريخ ابن الأثير 2: 22، تاريخ أبي الفداء 1: 116 السيرة الحلبية 1: 381، تاريخ دمشق 1: 103.

[363] مسند

أحمد بن حنبل 5: 182.

[364] الصواعق المحرقة ص 89 - الباب الحادي عشر.

[365] نفس المصدر ص 57. الباب التاسع.

[366] التوبة: 128.

[367] الكامل في التاريخ: 3: 24 - حوادث سنة 23، سيرة عمر، السقيفة لأبي بكر الجوهري: ص 52 ونقله ابنأبي الحديد شرح النهج 2: 57.

[368] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 105.

[369] الغرب: الدلو العظيمة. والمتح: جذب حبل الدلو، تمد بيد وتأخذ بيد علي رأس البئر. والماتح: الذي يملأ الدلو من أسفل البئر.

[370] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 97.

[371] السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 60 - 61.

[372] شرج نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 25 - الخطبة رقم 3 (الشقشقية).

[373] مروج الذهب للمسعودي 2: 59: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 283: جمهرة رسائل العرب 1: 457.

[374] نفس المصدر السابق.

[375] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 36.

[376] نفس المصدر السابق 2: 48.

[377] نفسه 1: 145.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.