حكم البناء علي القبور

اشارة

عنوان : حكم البناء علي القبور في الشريعة الإسلامية

پديدآورندگان : مجمع جهاني اهل بيت ( ع )(پديدآور)

مقدمة

منذ زمن الرسول(صلي الله عليه وآله) وحتّي أيام ابن تيمية المتوفّي عام (708 ه_) وتلميذه ابن القيم المتوفّي سنة (751 ه_)، سبعة قرون ونصف مضت علي المسلمين وهم لا يعرفون في اُمورهم الشرعية مسألة تثير التشنج والخصومة بينهم باسم مسألة البناء علي القبور، حتّي جاء ابن تيمية فأفتي بعدم جواز البناء علي القبور. حيث كتب، يقول: «اتفق أئمة الإسلام علي أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي علي القبور، ولا يشرع اتّخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها... الخ» [1] . ثمّ جاء بعده ابن القيّم الجوزية حيث كتب، يقول: «يجب هدم المشاهد التي بُنيت علي القبور، ولا يجوز ابقاؤها بعد القدرة علي هدمها وابطالها يوماً واحداً» [2] . ثمّ جاء بعدهم محمد بن عبدالوهاب المتوفّي سنة (1206 ه_) فحوّل التشدّد والخشونة إلي مذهب فقهي يعتمد علي التكفير والاتهام بالشرك والتهديد بهدر الدم وسبي الذراري لكل من ارتكب سبباً من أسباب التكفير عنده، وما أكثرها! بل ولكل من خالفه في تكفير المتهمين بالكفر عنده. ويُعد اعتناق حاكم الدرعية محمد بن سعود لأفكار محمد بن عبدالوهاب، أهم عامل أدّي إلي ذيوعها وانتشارها وتجميع القوي البدوية من أجل نصرتها وتطبيقها والسعي لحمل المناطق المجاورة علي التقيّد بها. ومنذ ذلك الوقت وحتّي يومنا هذا أصبحت مسألة بناء المشاهد علي القبور من أبرز ما يشنّع به الوهابيون علي سائر المسلمين، وسيفاً يُشهر للاتهام بالكفر والشرك، وسبباً من أسباب الصراع وضياع وحدة المسلمين. ونظراً لأهمية هذه المسألة وحساسيتها الشديدة، فقد تكفلت هذه الدراسة ببحثها من جهاتها المختلفة، ورائدنا فيها هو بيان الحقيقة ودرء خطر

التمزّق عن المسلمين، ومكافحة نزعة التكفير بينهم، وحماية وحدتهم وشوكتهم من التصدّع.

المسألة في ضوء القرآن الكريم

إذا جئنا إلي القرآن الكريم نستنطق رأيه في المسألة محل البحث، نجد فيه جملة من الآيات التي تساعدنا علي استخلاص الموقف القرآني بشأنها; وهي: 1 _ قوله تعالي: (وَكَذلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إذْ يَتَنَازَعُونَ بَ_يْنَهُمْ أمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُ_نْيَاناً رَبُّهُمْ أعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) [3] . وجه الاستدلال بالآية أنّها أشارت إلي قصّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس فقال بعضهم: نبني عليهم بُنياناً، وقال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجداً. والسياق يدل علي أن الأوّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه وتدل علي بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدل علي إمضاء الشريعة لهما، بل إنّها طرحت قول الموحدين بسياق يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعاً (لنتّخذنّ) نابعاً من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرد البناء، وإنّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلّ علي أن اُولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة. قال الرازي في تفسير (لنتّخذنّ عليه مسجداً) نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد [4] . وقال الشوكاني: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا علي أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون علي أمر من عداهم، والأوّل أولي. قال الزجاجي: هذا يدلّ علي أنّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور، لأن المساجد للمؤمنين [5] . وإذا

بقينا نحن والآية فقط فهي تتناول قبور نخبة من الصالحين الذين بلغ علوّ شأنهم حدّاً بحيث أصبحوا موضعاً لعناية القرآن الكريم ومدحه لهم وذكره إيّاهم، وهي تفيد في نتيجتها جواز الصلاة عند قبورهم، وجواز بناء المساجد والمشاهد عليها. وممّا لا شك فيه أن شأن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، أرفع من شأن اُولئك الفتية من النخبة الصالحة، فإذا جازت الصلاة في قبور هؤلاء والبناء عليها، فبالأولي جواز ذلك بالنسبة إلي الأنبياء والأئمة(عليهم السلام). 2 _ قوله تعالي: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَي القُلُوبِ) [6] . والاستدلال بالآية يتم بعد بيان أمرين: ألف _ ما هو معني ومفهوم الشعائر؟ ب _ هل أن قبور الأنبياء والأولياء من الشعائر؟ وهل أن تعظيمها والبناء عليها من شعائر الله؟ أما الأمر الأوّل: فالشعائر: جمع شعيرة، قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: «الشعائر: المعالم للأعمال، وشعائر الله: معالمه التي جعلها مواطن العبادة، وكلّ معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة، وواحد الشعائر شعيرة، فشعائر الله أعلام متعبداته، من موقف أو مسعي أو منحر، من شعرت به، أي علمت. قال الكميت: نقتلهم جيلاً فجيلاً نراهم شعائر قربان بهم يتقرب [7] . وقد استخدم القرآن الكريم هذه الكلمة ثلاث مرّات عدا هذه الآية، ففي سورة البقرة، قال تعالي: (إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِاللهِ) [8] ، فبيّن مصداقين من مصاديق الشعائر الإلهية، وفي سورة الحج بيّن مصداقاً آخر، إذ قال سبحانه: (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) [9] . وفي سورة المائدة، قال تعالي: (يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ...) [10] . فيتلخص من ذلك أن القرآن

الكريم بيّن في آيتين ثلاثة مصاديق للشعائر الإلهية كلّها مرتبطة بالحج، ونهي في آية اُخري عن الاستخفاف بها، وأمر في آية رابعة بتعظيمها. وهذه الآيات وإن كانت واردة في الحج إلاّ أنّها مع ذلك لم تطرح مفهوماً خاصاً به، وإنّما طرحت مفهوماً عاماً ينطبق علي مصاديق عديدة أشارت تلك الآيات إلي بعضها ممّا له صلة بالحج، ولم تفد أنها مصاديق حصرية لا ينطبق مفهوم الشعائر إلاّ عليها خاصة. بل إنّها علي العكس من ذلك اشتملت علي ما يفيد عدم الانحصار، فآية الصفا والمروة، قالت إنّهما: (من شعائر الله) وآية البُدن، قالت: (جعلناها لكم من شعائر الله) بما يفيد أن مفهوم الشعائر عام، وأنّ هذه بعض مصاديقها كما هو المستفاد من حرف «من» الدال علي التبعيض، كما أنّ آية تعظيم الشعائر تناولتها بما هي مفهوم عام وحثّت علي تعظيمها، وهكذا آية (لا تحلّوا شعائر الله...). قال العلاّمة الطباطبائي: «الشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالي لطاعته...» [11] . وقال الفخر الرازي: «وأما شعائر الله فهي أعلام طاعته، وكلّ شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله.. وشعائر الحج معالم نسكه.. ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبيّن بها إحدي الفئتين من الاُخري، والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الاعلام..» [12] . وقال في مورد آخر: «واعلم أن الشعائر جمع، والأكثرون علي أنها جمع شعيرة. وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعني مفعلة، والمشعرة المعلمة، والإشعار الإعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علماً علي شيء أو علم بعلامة جاز أن يسمي شعيرة، فالهدي الذي يهدي إلي مكة يسمي شعائر، لأنها معلمة

بعلامات دالة علي كونها هدياً. واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله، وفيه قولان: الأولّ: قوله: (لا تحلّوا شعائر الله) أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدّها لعباده وأوجبها عليهم، وعلي هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه، غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر الله دين الله. والثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلي هذا القول ذكروا وجوهاً: (الأول:) المراد لا تحلّوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد.. (والثاني): قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجّون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون الشعائر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالي: (لا تحلّوا شعائر الله). الثالث: قال الفراء: كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل الله تعالي: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها علي سبيل الكمال والتمام. الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلّد ليعلم أنها هدي، وهو قول أبي عبيدة، قال: ويدل عليه قوله تعالي: (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) هذا عندي ضعيف لأنه تعالي ذكر شعائر الله ثمّ عطف عليها الهدي، والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه» [13] . فاتّضح أن تخصيص الشعائر بمصاديق محدّدة لا يتّسق مع الشواهد القرآنية، وأنّ سياق الآيات يساعد علي كونها مفهوماً عامّاً يقبل الانطباق علي كل أمر يكون علامة علي الدين ومعلماً من معالمه. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل. أما الأمر الثاني: فإنّ الصفا والمروة إن كانت من شعائر الله فمّما لا شكّ فيه أن اُموراً اُخري كثيرة يصدق عليها هذا العنوان لكونها من علامات الدين ومعالمه، وليس لنا أن نتوقّع

من القرآن الكريم أن يستقصي كل مصاديق هذا العنوان ويطلق علي كلّ واحد منها تسمية الشعائر، حتّي يكون الأمر توقيفياً لا نتعداه إلي غيره ممّا يشترك معه في ملاك واحد، بل إنّ القرآن الكريم أشار إلي المفهوم العام للشعائر وحدّد بعض مصاديقه، ولم يدل دليل منه علي أن المصاديق المذكورة فيه حصرية توقيفية، وظل المفهوم سارياً في كل مصداق ينطبق عليه، فصح أن تكون الكعبة والمسجد النبوي، واُصول الشريعة من الصوم والصلاة والحج والزكاة، وأعلام الدين ورموزه من الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) من جملة شعائر الله، التي يجب تعظيمها والامتناع عن الاستخفاف بها. وممّا لاشكّ فيه أن شخص النبي الأعظم(صلي الله عليه وآله) هو من أعظم هذه الشعائر والمعالم، وأ نّه أبرز من يجب تعظيمه منها، ويُلحق به من كان له موقع في الرسالة ومزية في الدين، بحيث يُعد عَلَماً من أعلام الهداية ويكون تعظيمه تعظيماً للدين. ومادام التعظيم يعود في أصله إلي الدين لا إلي شخص النبي(صلي الله عليه وآله)، فمقتضي ذلك عدم تقييده بظرف معيّن، فيكون التعظيم مطلوباً في زمان حياة النبي(صلي الله عليه وآله) وبعد وفاته، وممّا لاشك فيه أن تعظيم النبي(صلي الله عليه وآله)الذي هو من أبرز مصاديق تعظيم شعائر الله سبحانه، يكون في زمان ما بعد حياته(صلي الله عليه وآله)بصور متعددة طبقاً لما هو المتعارف بين العُقلاء، كالاحتفال بذكري مولده الشريف، وصيانة الآثار التاريخية المتعلقة به من خطر الاندثار، والحرص علي إبقائها حيّة ماثلة أمام الأجيال المتعاقبة. ويبدو من بعض الشواهد أنّ الشريعة الإسلامية قد راعت هذا الجانب في بعض أحكامها، كحكمها بلزوم الصلاة علي النبي وآله في بعض الموارد، والاستحباب المؤكد في أكثر الموارد، وحكمها بأداء السلام والتحية عليه(صلي الله

عليه وآله) في الفصل الأخير من الصلاة، وإلزام المؤمنين بمودّة قرباه، حيث يلاحظ في مجموع هذه الأحكام عدّة عناصر، يأتي في مقدمتها تعظيم النبي(صلي الله عليه وآله) الذي هو من حيث الأصل تعظيم للإسلام والدين وليس تعظيماً لشخص معين. وحينئذ، فتعهّد قبر النبي(صلي الله عليه وآله)بالبناء والعمران ونحو ذلك، ممّا يلتئم تمام الالتئام مع الاتجاهات العامة للشريعة الغرّاء في إحياء شعائر الله وتعظيم النبي(صلي الله عليه وآله) وأهل بيته، وحيث إن شخص النبي(صلي الله عليه وآله)ليس هو العنصر الملحوظ في هذه الاتجاهات، وإنّما العنصر الملحوظ فيها تعظيم شأن الدين والرسالة، وهو عنصر قائم في زمان حياة النبي(صلي الله عليه وآله) وزمان ما بعد حياته، في النبي وفي سائر أعلام الهداية من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، بل حتّي في الصُلحاء والأولياء والعلماء الأبرار من كل زمان ومكان، لذا فإنّ حكم التعظيم لا يختصّ بشخص النبي ولا بزمان حياته (صلي الله عليه وآله)، المتبادر من اطلاق: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَي القُلُوبِ) وإن كان النبي(صلي الله عليه وآله) ومن بعده أهل بيته هم المصاديق البارزة لذلك. 3 _ قوله تعالي: (قُلْ لا أسْأ لُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَي) [14] . وهذه الآية أوضح من أن تحتاج إلي بيان، فهي تدل علي أن محبّة قربي الرسول واجب علي الاُمة الإسلامية، كوجوب دفع الأجر للعامل علي من اُسدي له عمل معيّن. وهو وجوب مطلق لم يقيّد بزمان دون آخر، ولا مكان دون مكان، ولا كيفية دون اُخري، ومقتضي ذلك وجوب إبراز هذه المودّة في كل مكان وزمان وبكلّ الكيفيات والأشكال المتعارفة، وممّا لاشكّ فيه أن تعهد قبر شخص ما بالبناء والإعمار والتجديد من جملة المصاديق

العرفية لهذه المودّة، بحيث لو أن شخصاً ما لم يظهر طيلة حياته محبّته لآل الرسول(صلي الله عليه وآله) بالاشكال الاُخري، لكان واجباً عليه اظهارها من خلال تأدية هذا الشكل، باعتباره المصداق الذي ستبرأ به ذمّته من عهدة التكليف الشرعي بمحبّة آل الرسول(صلي الله عليه وآله)، وبهذا يتّضح أن البناء علي قبور الأئمة(عليهم السلام)، ليس جائزاً ولا مستحبّاً فقط، وإنّما قد يكون في بعض الحالات واجباً أيضاً. وهذا سلوك ذائع منتشر بين الاُمم والمجتمعات البشرية، أنّهم يعبرون عن وفائهم وولاءهم لقادتهم ومؤسسي حضاراتهم بتشييد الأضرحة علي قبورهم، وتعهدها المستمر بالزيارة والعمران والصيانة، وإهداء أكاليل الزهور إليها، وبناء النصب التذكارية لهم. فيتلخّص من البحث في هذه الآيات الثلاث، أن مسألة البناء علي القبور تحضي بدعم قرآني أكيد يتمثّل في ثلاث آيات، ليس هناك ما يناقضها في الدلالة من شواهد القرآن وآياته، مع ملاحظة أن هذه الآيات الثلاث تتناول في دلالتها قبور الأولياء والعظماء ممّن يعدّون رموز الدين ومعالم الرسالة، ولا تشمل سواهم من سائر الناس.

المسألة في ضوء السنة النبوية الشريفة

وإذا جئنا إلي السنّة النبوية وجدناها تنطوي علي مجموعة من الآثار تختلف في دلالتها، إلاّ أنّها مع ذلك ليس فيها ما يساعد علي القول بحرمة البناء علي القبور، وهانحن نستعرض أشهر هذه الآثار ونناقشها واحداً تلو الآخر. منها: ما روي عن علي(عليه السلام) أن رسول الله(صلي الله عليه وآله) كان في جنازة فقال: «أيكم ينطلق إلي المدينة فلا يدع بها وثناً إلاّ كسره، ولا قبراً إلاّ سوّاه، ولا صورة إلاّ لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال عليّ: أنا أنطلق يا رسول الله، قال: فانطلق، ثمّ رجع فقال: يا رسول الله لم أدع بها وثناً

إلاّ كسرته ولا قبراً إلاّ سوّيته ولا صورة إلاّ لطختها» [15] . والذي ينظر في هذه الرواية بعين التحقيق يجدها محفوفة بالشكوك من عدة جهات: أهمّها غموض الظرف الزماني أو المكاني للحادثة، فإنّ هذه الحادثة لا تنسجم مع فترة ما قبل الهجرة بحيث يبعث النبي من مكة إلي المدينة من يحطّم الأصنام فيها، لأن الظروف في مكة لم تكن تسمح للنبي(صلي الله عليه وآله)، بتشييع من يموت من المسلمين، والظاهر من الحديث المذكور، أن النبي(صلي الله عليه وآله) تحدث مع أصحابه بلهجة الحاكم الذي يملك قدرة سياسية كافية، بحيث يستطيع فرد مبعوث عنه أن يقوم بعمل من قبيل تحطيم الأصنام وتسوية القبور وتلطيخ الصور في المدينة. فلابد وأن تكون الحادثة قد وقعت في سنوات الهجرة إلي المدينة والإقامة فيها يوم كانت للنبي(صلي الله عليه وآله) دولة وقدرة سياسية نافذة. ولكننا إذا دققنا في الخبر وجدناه لا ينسجم مع هذه الفترة. فمقتضي الخبر أن الأصنام لازالت موجودة في المدينة، بينما المعروف أن أهل المدينة من الأوس والخزرج قد أسلموا منذ الوهلة الاُولي وأن سلطة النبي(صلي الله عليه وآله) كانت متوطدة الأركان فيها، باستثناء ما كان من عمل المنافقين، ولم يعرف عن المنافقين مظاهر وثنية، وحينئذ لا معني لقول الراوي عن المبعوث الأوّل للنبي(صلي الله عليه وآله)، انّه هاب أهل المدينة فرجع، فهل كان أهل المدينة علي هذا الحد من التمسك بالوثنية، بحيث يهابهم هذا المبعوث النبوي؟ وهل في التاريخ مايشهد لمثل هذا القول؟ وإذا كانت الحالة بهذه الدرجة فمكافحتها تتطلب عملاً أوسع من جهد شخص واحد، فكيف نتصور أن شخصاً واحداً يُطلب منه أن يقوم بعمل واسع وحسّاس من هذا القبيل؟ وكيف نصدّق أن شخصاً واحداً

قد قام بذلك فعلاً ورجع في ساعات قلائل علي ماهو الظاهر من الرواية؟ ومن الممكن أن نتصور أن أهل المدينة قد تقبّلوا من المبعوث النبوي تحطيم الأصنام، لكنهم من المستبعد جدّاً أن يتقبلوا منه بهذه السهولة تلطيخ التماثيل والتصرف في قبور آباءهم وأجدادهم. فهذه مسألة عاطفية حسّاسة لا تذعن لها النفوس إلاّ بعد تمهيد وترويض وإعداد سابق، ومن المألوف جداً أن يحصل فيها في بادئ الأمر إنكار واعتراض، بينما يظهر من كلام الراوي أن المبعوث النبوي قد جاب المدينة وحطّم الأصنام ولطّخ التماثيل وغيّر حالة القبور لوحده في ساعات قلائل دون اعتراض أحد من الناس، خلافاً لما هو المعروف من عدم وجود أصنام في المدينة أيام وجود النبي فيها، وعدم قدرة شخص واحد علي القيام بمثل هذا العمل، وعدم كفاية الساعات القلائل لإنجازه، وعدم اذعان النفوس لمثل هذا الأمر بالتصرف في القبور بمثل هذه السهولة والتسليم السريع. وقد يكون هياب المبعوث الأوّل ونكوله عن الإقدام لأجل هذه الجهة، وهو يشهد لحساسية أهل المدينة تجاه عمل يمس قبور أسلافهم وذويهم، ومقتضي هذا الشاهد أن يواجه المبعوث الثاني شيئاً من اعتراض الناس، وأن يكون عمله مقروناً بشيء من الصخب والضجيج، وأن يراجعوا النبي(صلي الله عليه وآله) في هذا الأمر بعد ذلك وأن يشتهر الأمر ويذيع بين الرواة والمؤرخين، ولا تنحصر روايته بالإمام علي(عليه السلام) كما في مسند أحمد، وسيأتي الحديث عن رواية مشابهة وردت في مصادر الإمامية لدي دراستنا للمسألة في ضوء نصوص أئمة أهل البيت(عليهم السلام). إن الإمام علي(عليه السلام) قد بعث في أيام حكومته في الكوفة أبا الهياج الأسدي، وهو رئيس شرطته، ليقوم بمثل هذه المهمة في الكوفة. قال أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع، حدثنا

سفيان عن حبيب عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي(عليه السلام): «أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته» [16] . وأبو الهياج الأسدي هو صاحب شرطة الإمام آنذاك، وإيكال المهمة إليه يعني ايكالها إلي قوي مسلّحة كافية، وهذا هو المتناسب مع هذه المهمة. ومن الطبيعي أن تنتقل التشكيكات من الرواية السابقة إلي رواية أبي الهياج لاعتمادها علي تلك، وحيث لم نقبل تلك لتطرق الشك إليها من جهات متعددة، فمن الطبيعي أن لا تقبل رواية أبي الهياج الأسدي المبتنية عليها، لأن الإمام علي(عليه السلام) ربط بين أمره لأبي الهاج بهذه المهمة وبين أمر النبي(صلي الله عليه وآله) له بمثلها في المدينة في حادثة تشييع الجنازة، وما يجري من التشكيك علي تلك ينسحب علي هذه، إضافة إلي ما يعتري رواية أبي الهياج من ضعف خاص بها، وذلك لثبوت ضعف اثنين من رواته عند أئمة الجرح والتعديل من أهل السنّة، وهما سفيان الثوري وحبيب بن أبي ثابت. فقد قال الذهبي عن سفيان: أ نّه كان يدلِّس عن الضعفاء [17] . وقال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلّس، فلمّا رآني استحيي وقال: نرويه عنك؟ [18] . وقال في ترجمة يحيي بن سعيد بن فروخ: قال أبو بكر وسمعت يحيي يقول: جهد الثوري أن يدلّس عليّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه [19] . والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة. وقال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيي بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن

إياس، ولم يسمع من سعيد بن أبي البردة، وقال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي، وقال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية [20] يضع ماله حيث يشاء، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً [21] . وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلّساً، ربّما يروي عن اُناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم. أما حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار، فقد قال ابن حبّان عنه أنّه: كان مدلّساً، وقال العقيلي: غمزه ابن عون، وقال القطّان: له غير حديث عن عطاء، لا يُتابع عليه وليست محفوظة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: كان مدلّساً [22] . وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر: كان كثير الإرسال والتدليس، مات سنة (119 ه_). ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل: لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، وقال: لم يُعِلْه ابن الجوزي إلاّ بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن أبي ثابت [23] . هذا ما ورد في كتب الرجال في جرح اثنين من رواة الحديث، أما أبو وائل الأسدي شقيق ابن سلمة الكوفي، فقد كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيّهما أحبُّ إليك عليّ أم عثمان؟ قال: كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان [24] . ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيدالله بن زياد، قال ابن أبي الحديد: قال أبو وائل: استعملني ابن زياد علي بيت المال بالكوفة. هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها،

ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم أيضاً، وعند التعارض يقدم الجارح علي المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال. ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لراويه أعني أبا الهياج في الصحاح والمساند حديث غير هذا، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل علي المدلّسين والمضعّفين؟ وغاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان لزوم تسوية القبور، ولا تدلاّن علي منع بناء الأضرحة والقباب عليها، ولو قلنا بدلالتهما علي لزوم تسوية القبور مع الأرض لكان ذلك مما يتنافي مع سيرة المسلمين منذ الصدر الأوّل، كما سيأتي توضيحه، وحتّي اليوم، باستثناء ما جاء به ابن تيمية وأتباعه في القرن الثامن الهجري وما بعده، وسيأتي أن المذاهب الأربعة لأهل السنّة لا تقول بما يقوله ابن تيمية من لزوم تسوية القبور بالأرض، بل تري استحباب ارتفاع تراب القبر بمقدار شبر عن الأرض [25] . وكل ذلك يدعونا إلي حمل الحديثين المذكورين علي معني محتمل آخر غير التسوية مع الأرض، وهو التسوية بمعني التسطيح في مقابل التسنيم، ولذا قال القرطبي معلقاً علي الحديث: «قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة، وقد قال به بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلي أن هذا الارتفاع المأمور بازالته هو مازاد علي التسنيم ويبقي للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبيّنا محمّد(صلي الله عليه وآله)، وقبر صاحبيه رضي الله عنهما علي ما ذكر مالك في الموطأ وقبر أبينا آدم(عليه السلام) علي ما رواه الدارقطني» [26] . وحينئذ، فعلي فرض صحة الحديثين وثبوت نسبتهما إلي النبي(صلي الله عليه وآله) لابد من تأويلهما تأويلاً يتناسب مع السيرة القطعية للمسلمين منذ أيام النبي(صلي الله عليه وآله) في المدينة وحتّي أيامنا هذه، ولو وجب علينا العمل بكلام السلفية

لكان أوّل مايجب القيام به هدم قبر النبي(صلي الله عليه وآله) وصاحبيه، والتسطيح هو التأويل المناسب الذي ركن إليه كثير من علماء المذاهب الأربعة كما سيأتي. بعد مناقشة هاتين الروايتين نأتي إلي مناقشة طائفة من الروايات التي ذُكر فيها نهي النبي(صلي الله عليه وآله) عن البناء علي القبور واعتمد الوهابيون عليها في الافتاء بحرمة البناء علي القبور ووجوب هدم المشاهد المقامة عليها. وهي الروايات التي ذكر فيها أن رسول الله(صلي الله عليه وآله) قد نهي «أن يجصّص القبر وأن يقعد عليه، وأن يُبني عليه» وهذا الحديث قد رُوي عن جابر بأسانيد ومتون مختلفة [27] ، ورُوي مضمونه أيضاً عن أبي سعيد الخدري واُمّ سلمة [28] . وبعد طي البحث السندي في هذه الروايات وقصر البحث علي جانب المتن، لابد من ملاحظة ما قرّره علماء الاُصول من أن النهي حقيقة في التحريم، وقد يُفسر بالكراهة إذا وجدت قرينة خاصة تصرفه عن التحريم. وإذا بقينا نحن وظاهر هذه الروايات فقط فهي ظاهرة في التحريم، إلاّ أن هناك قرينة خارجية تصرفها عن ذلك وهو عمل الصحابة وسيرة المسلمين القطعية علي تمييز القبر عن الأرض بارتفاع عنها بمقدار شبر، بلا نكير من أحد منهم حتّي جاء ابن تيمية فكان أوّل من أنكر ذلك، وهو في القرن الثامن، دون أن يسبقه إلي ذلك أحد، ولو كان وفياً لمبدأه في الرجوع إلي السلف في هذه المسألة لكان عليه التسليم لما عليه الصحابة والتابعون من عدم حرمة البناء علي القبر، وهذه كتب الحديث عند أهل السنّة من الصحاح والسنن والمسانيد لم يرد في أي منها عنوان لباب من الأبواب باسم «تحريم البناء علي القبور» وهذه السيرة القطعية تشكل قرينة علي أن المسلمين

منذ الصدر الأوّل قد فهموا من النهي المذكور في هذه الروايات علي أنه نهي كراهة لا تحريم. والكراهة بالعنوان الأولي قد ترتفع إذا ما تزاحمت مع عناوين ثانوية أكثر أهمية، كما إذا صار البناء علي القبر سبباً لاجتماع الناس عند صاحب القبر لاظهار المودّة له والتأسّي به والتأثّر بسيرته الإيمانية وحفظ الشعائر الإسلامية، كما هو الشأن في قبور الأنبياء والأئمة والأولياء التي غالباً ما تكون سبباً لهداية الناس إلي الله سبحانه وتعالي. وهذه النتيجة تنسجم مع النتيجة التي تم استنباطها من آية الشعائر وآية المودّة وآية اتّخاذ المسجد علي قبور أهل الكهف التي أفادت بأن البناء علي قبور الأنبياء والأئمة والأولياء _ دون عامة الناس _ موجب لتعظيم الشعائر الإلهية واظهار المودّة لأهل البيت(عليهم السلام) وحفظ آثار الأولياء كمنارات للهداية والتغيير والتذكير بالله سبحانه وتعالي. قال السيد محسن الأمين في ردّه علي الاستدلال بهذه الأحاديث لإثبات حرمة البناء علي القبور ما نصّه: «.. ثالثاً: أن النهي أعم من الكراهة والتحريم، وهب أنه ظاهر في التحريم، لكن كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة، مضافاً إلي فهم العلماء منه الكراهة هنا يضعف هذا الظهور. قال النووي في شرح صحيح مسلم: في هذا الحديث كراهة تجصيص القبر والبناء عليه، وتحريم القعود، هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء.. (إلي أن) قال، قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه. وأما البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نصّ عليه الشافعي والأصحاب. قال الشافعي في الاُم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما بُني، ويؤيد الهدم قوله: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته». انتهي. والحق الكراهة في الكل، كما هو مذهب أئمة

أهل البيت(عليهم السلام)وفقهائهم، لعدم ظهور النهي في مثل هذه المقامات في التحريم مع كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة، هذا إذا لم يترتب علي بناء القبر منفعة ولم يكن تعظيمه من تعظيم شعائر الدين لكونه قبر نبي أو ولي أو نحو ذلك، لما ستعرف من توافق المسلمين من عهد الصحابة إلي اليوم علي تعمير قبور الأنبياء والأولياء ومنها قبر النبي(صلي الله عليه وآله)وحجرته التي دفن فيها، وكراهة البناء والتجصيص مذهب الشافعي كما عرفت، إلاّ أن يكون البناء في مقبرة مسبلة، مع أن بعضهم قال: إن الحكمة في النهي عن التجصيص كون الجص اُحرق بالنار، وحينئذ فلا بأس بالتطيين كما نصّ عليه الشافعي، انتهي. نقله السندي في حاشية سنن النسائي، وذلك يناسب الكراهة، لكن الشافعي حرم القعود، مع أنه مسوق مع البناء والتجصيص في هذه الأخبار بسياق واحد، فالأولي فيه الكراهة ويدل عليها ما مر من الرواية عن علي أنّه كان يقعد علي القبر، وكذلك حمل الشافعي عدم زيادة التراب وعدم رفع القبر كثيراً علي الاستحباب. قال السيوطي في شرح سنن النسائي: قال الشافعي والأصحاب: «يستحب أن لا يزاد القبر علي التراب الذي اُخرج منه» لهذا الحديث، يعني حديث: «أو يزاد عليه» لئلا يرتفع القبر ارتفاعاً كثيراً. أما ما حكاه عن الأئمة أ نّه رآهم بمكة يأمرون بهدم ما يُبني فلعله لزعمهم أنّها مسبلة، وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أ نّه لا دليل علي الوقف والتسبيل، وأ نّه يجب حمل البانين علي الصحة حتّي يعلم الفساد، ولم يعلم، وحينئذ فيكون الهدم محرماً لأنّه تصرف في مال الغير بغير اذنه، أما ما أيّد به النووي من قوله: ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته فلا تأييد فيه، لما

عرفت من أن المراد به النهي عن التسنيم وعدم جواز إرادة الهدم من التسوية، ومن ذلك يظهر أن استشهاد بعض الوهابيين في رسالة (الفواكه العذاب) بقول النووي، «قال الشافعي في الاُم... الخ» شاهد عليه لا له، فإنّ الشافعي يقول بكراهة البناء إذا كان في ملكه، والوهابيون يحرمونه مطلقاً، وقد استشهد صاحب الرسالة أيضاً بكلام الأذرعي وابن كج الذي لا يرجع إلي دليل غير مجرد التهويل بقوله: إنه مضاهاة للجبابرة والكفار، وأي فائدة في قال فلان وقال فلان. ومما مرّ _ ويأتي _ يظهر الجواب عن المحكي عن عمر من أمره بتنحية القبة «أي الخيمة» عن القبر، وقوله: دعوه يظله عمله، فإنّه بعد تسليم ثبوته وحجيّته محمول علي الكراهة أو صورة عدم النفع، فيكون تضييعاً للمال كما يرشد إليه قوله: دعوه يظلّله عمله، أي لا نفع له في ذلك وإنّما ينفعه عمله. ويعارضه... رواية البخاري أ نّه لمّا مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة علي قبره سنة. رابعاً: أنّ هذه الأحاديث، مع الغض عن ضعف أسانيدها ودلالتها واضطراب متنها، منصرفة إلي غير ما يكون تعميره وتشييده والبناء فوقه من تعظيم شعائر الله وحرماته لكون صاحبه نبياً أو ولياً أو صالحاً، ولكونها بنيت لمصالح في الدين مهمة، منها: أن تكون علامة ومناراً للقبر الذي ندب الشرع إلي زيارته وحفظاً له عن الاندراس، وقد علّم رسول الله(صلي الله عليه وآله)قبر عثمان بن مظعون بصخرة وضعها عليه. روي ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك، أنّ رسول الله(صلي الله عليه وآله)أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة. قال السندي في الحاشية: أيوضع عليه الصخرة ليتبيّن بها. وفي الزوائد: هذا إسناد حسن وله شاهد من حديث المطلب بن أبي وداعة

رواه أبو داود، انتهي. وفي وفاء الوفا [29] : روي أبو داود باسناد حسن عن المطلب بن عبدالله بن حنطب عن بعض الصحابة، لما مات عثمان بن مظعون ودفن، أمر النبي(صلي الله عليه وآله) رجلاً أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله(صلي الله عليه وآله) وحسّر عن ذراعيه، قال الراوي: كأنّي أنظر إلي بياض ذراعي رسول الله(صلي الله عليه وآله)حين حسّر عنهما، ثمّ حمله فوضعه عند رأسه وقال: «أتعلّم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي»، قال: ورواه ابن شبة وابن ماجة وابن عدي عن أنس، والحاكم عن أبي رافع، وروي قبل ذلك عن محمد بن قدامة عن أبيه عن جدّه: لما دفن النبي(صلي الله عليه وآله) عثمان أمر بحجر فوضع عند رأسه... الحديث. ثمّ حكي عن عبدالعزيز بن عمران أنّه قال: سمعت بعض الناس يقول: كان عند رأس عثمان بن مظعون ورجليه حجران، وهو يرشد إلي جواز فعل كل ما يكون علامة ومناراً للقبر «قال» وعن شيخ من بني مخزوم يدعي عمر قال: كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين فلحد له رسول الله(صلي الله عليه وآله) وفضل حجر من حجارة لحده، فحمله رسول الله(صلي الله عليه وآله) فوضعه عند رجليه، فلمّا وُلي مروان بن الحكم المدينة مرّ علي ذلك الحجر فأمر به فرمي به وقال: والله لا يكون علي قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به فأتته بنو اُمية فقالوا: بئسما صنعت، عمدت إلي حجر وضعه النبي(صلي الله عليه وآله)فرميت به بئسما عملت فمر به فليرد. فقال: أما والله إذا رميت به فلا يرد! ثمّ قال [30] : وروي ابن زبالة عن ابن شهاب وغيره أنّ

رسول الله(صلي الله عليه وآله) جعل أسفل مهراس [31] علامة علي قبر عثمان بن مظعون ليدفن الناس حوله (إلي أن قال) فلمّا استعمل معاوية مروان بن الحكم علي المدينة حمل المهراس فجعله علي قبر عثمان، انتهي. وكفي بهذا الفعل دليلاً علي ما كان عليه مروان من الاستهانة بالدين، وكأن الوهابية في هدمهم قبور الأئمة والصحابة والصالحين أرادوا الاقتداء به... وقد ورد أنّ فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه وآله) كانت تزور قبر حمزة ترمّه وتصلحه وقد تعلمته بحجر، وذلك يدل علي استحباب مرمة القبر وحفظه من الاندراس وعمل ما يكون علامة ودليلاً عليه، فإذا ثبت استحباب ذلك فكلما كان أبلغ في حفظه وعدم اندراسه كبناء القبة عليه كان أولي بالاستحباب، فإن هذا بمنزلة العلة المنصوصة، ومنه يعلم أن القبور يمتاز بعضها عن بعض بامتياز أصحابها في الدين. وعدم بناء القباب ونحوها في ذلك العصر للعسر الحاصل للمسلمين واحتياجهم إلي صرف الأموال إن وجدت فيما هو أهم، من الجهاد وإعاشة المسلمين، فلا يقاس به العصر المتأخر عن ذلك الذي اتّسعت فيه أحوال المسلمين، وكما كان النبي(صلي الله عليه وآله) وأصحابه يقنعون من العيش بالبلغة، وبيوتهم لاطئة مبنية باللبن وسعف النخل ومسجده المعظم عريش كعريش موسي، وخطبته في الجمعة والعيد أولاً إلي جذع ثمّ عمل له منبر ولم يكن المنبر يمتاز كثيراً عن الجذع بغير الهيئة، فلما قويت شوكة الإسلام واتّسعت حال المسلمين واستولوا علي كنوز كسري وقيصر تغيرت حالهم في اللباس والمأكل والمشرب والمسكن، ووسعوا المسجدين النبوي والمكي وأجادوا بناءهما وبناء الحجرة الشريفة وسائر المساجد، ولم يكونوا بشيء من ذلك عاصين ولا مبدعين، كذلك بنوا علي قبور عظماء الدين تعظيماً لشأنهم كما فهموه من أحكام دينهم

تصريحاً وتلويحاً. ولو سلمت الكراهة في سائر القبور لا تسلم في قبور الأنبياء وعظماء الشهداء كحمزة سيد الشهداء. ومنها: أن تكون حفظاً للقبر الذي ثبتت حرمته في الشرع عن دخول الدواب والكلاب ووقوع القاذورات عليه، والقبور الشريفة اليوم في البقيع وغيره بعدما ارتكبه الوهابيون من الأعمال الوحشية في حقّها معرض لذلك كلّه. ومنها: استظلال الزائرين بها من الحر والقر عند ارادة الزيارة والصلاة بجانبها التي ثبت رجحانها بشرف المكان والدعاء عندها وقراءة القرآن الذي ثبت أنه أرجي للإجابة وأوفر في الثواب ببركتها وبركة من حلّ فيها، والتدريس فيها، والقاء المواعظ وغير ذلك من الفوائد، فهي بهذا الاعتبار داخلة في المواضع المعدة للطاعات كالمساجد والمدارس والرباطات. ومنها: أن في بنائها وتشييدها تعظيماً لشعائر الإسلام وارغاماً لمنكريه. خامساً: انّها _ مع الغض عمّا ذكر _ مهجورة متروكة لم يعمل بها أحد من المسلمين قبل الوهابية ومن ضارعهم من عهد الصحابة إلي يومنا هذا، وما هذا حاله من الأحاديث لا يعمل به ولا يعول عليه ولو فرض صحة سنده باعتراف الوهابية فضلاً عن غيرهم، ففي الرسالة الاُولي من رسائل (الهدية السنّية) المنسوبة لعبدالعزيز ابن محمد بن سعود [32] : أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به، فإنّهم قالوا: إنّ الحديث الصحيح الذي يعمل به إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، انتهي. وأي شذوذ عن قواعد الشرع أعظم من مخالفة عمل المسلمين من الصدر الأوّل إلي اليوم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وسائر المسلمين، وأي علّة أكبر من ذلك ومن عمل بها أو ببعضها لم يحملها إلاّ علي الكراهة، أو خصّها بما لا يكون تعميره من إقامة شعائر الدين كقبور الأنبياء

والأولياء والصالحين. أما عدم العمل بها فمن وجوه: أحدها: أ نّ الكتابة المشتمل عليها بعضها لم يعمل بها أحد كما ستعرف في فضلها. ثانيها: أنّ قبور الأنبياء التي حول بيت المقدس، كقبر داود(عليه السلام)في القدس وقبور إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب ويوسف(عليهم السلام)الذي نقله موسي(عليه السلام) من مصر إلي بيت المقدس في بلد الخليل، كلّها مبنية مشيدة قد بُني عليها بالحجارة العادية العظيمة قبل الإسلام وبقي ذلك بعد الفتح الإسلامي إلي اليوم. فعن ابن تيمية في كتابه (الصراط المستقيم): أنّ البناء الذي علي قبر إبراهيم الخليل(عليه السلام)كان موجوداً في زمن الفتوح وزمن الصحابة، إلاّ أنّه قال: كان باب ذلك البناء مسدوداً إلي سنة الأربعمائة. ولا شكّ أن عمر لما فتح بيت المقدس، رأي ذلك البناء ومع ذلك لم يهدمه، وسواء صح قول ابن تيمية أ نّه كان مسدوداً إلي الأربعمائة أو لم يصح لا يضرّنا، لأنه يدل علي عدم حرمة البناء علي القبور، وقد مضت علي هذا البناء الأعصار والدهور وتوالت عليه القرون ودول الإسلام ولم يسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدين وغيرهم قبل الوهابية أ نّه أنكر ذلك أو أمر بهدمه أو حرمه أو فاه في ذلك ببنت شفة علي كثرة ما يرد من الزوار والمترددين من جميع أقطار المعمورة. وبذلك يظهر بطلان زعم الوهابية! أن البناء علي القبور حدث بعد عصر التابعين، وقول ابن بليهد: إنّه حدث بعد القرون الخمسة» [33] . وهكذا يتّضح من مجموع ما تقدم عدم وجود مستند نبوي يساعد علي القول بحرمة البناء علي القبور.

المسألة في ضوء الفقه السني

اشاره

وإذا جئنا إلي الفقه السنّي متمثلاً بالمذاهب الأربعة والمذهب الظاهري وجدناه بعيداً كل البعد عن فتوي السلفية بتحريم البناء علي القبور. ولكي

نميّز هذه الفتوي تمييزاً دقيقاً في ضوء مذاهب الجمهور، لابد لنا من استحضار نصوص السلفية وأدلتهم وإجراء مقارنة بينها وبين ما عليه هذه المذاهب. فقد مضي كلام ابن تيمية الذي يدّعي فيه اتفاق «أئمة الإسلام علي أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي علي القبور» وكلام ابن القيّم، الذي يفتي فيه بوجوب هدم المشاهد المشيّدة علي القبور، وقال الشيخ عبدالله بن بليهد في جواب رسالة وُجهت إليه بهذا الشأن في عام (1344 ه_) في المدينة المنورة: «أما البناء علي القبور فهو ممنوع، إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه، ولهذا أفتي كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين علي ذلك بحديث علي، أنّه قال لأبي الهياج: أبعثك...» [34] . وحصيلة هذا الكلام ترجع إلي أدلّة ثلاثة، لابد من مناقشتها في ضوءمتبنيات مذاهب الجمهور _ فضلاً عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)_ وهي:

الاجماع المدعي في كلام ابن تيمية و ابن بليهد

وهو ادعاء غريب جداً عن الواقع بلحاظ التاريخ وبلحاظ الفقه الإسلامي معاً. فبلحاظ التاريخ نجد أنّ عمل المسلمين، من جميع المذاهب والبلدان والفئات والطبقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، قد تواصل علي عدم الحرمة منذ صدر الإسلام وحتّي الآن باستثناء ما ظهر من السلفية في القرن الثامن الهجري. كما تقدّم في ذكر قبور الأنبياء حول بيت المقدس التي حافظ عليها المسلمون بعد الفتح. يضاف الي ذلك ما هو معروف في بناء الحجرة الشريفة النبوية ووجود المسجد علي قبر حمزة في المائة الثانية، وأن قبر سعد بن معاذ في دار ابن أفلح وأن عليه جنبذة أي قبة في زمن عبدالعزيز بن محمد الذي هو من أهل المائة الثانية بتصريح السمهودي [35] . ويقول السيد محسن الأمين العاملي عن تاريخ البناء علي القبور: «إنّها قد بنيت الأبنية علي القبور

في عهد الصحابة ومن بعدهم، قبل المائة الخامسة وأوّلها قبر النبي(صلي الله عليه وآله) فإنّه قد دفن في حجرة مبنية ودفن فيها صاحباه. ويظهر من السيرة النبوية لأحمد ابن زيني دحلان أنّ ذلك كان يشبه وصية منه(صلي الله عليه وآله) حيث قال [36] : واختلفوا في موضع دفنه(صلي الله عليه وآله)فقال أبو بكر: سمعت رسول الله(صلي الله عليه وآله)يقول: «ما مات نبي قط إلاّ يدفن حيث تقبض روحه» فقال علي(عليه السلام): «وأنا أيضاً سمعته»، رواه الترمذي وابن ماجة وفي رواية الموطأ «ما دفن نبي قط إلاّ في مكانه الذي توفي فيه». انتهي. ولو كان البناء علي القبور محرماً وواجب الهدم لهدمها الصحابة قبل دفنه(صلي الله عليه وآله) فيها أو دفنوه(صلي الله عليه وآله) في مكان لا بناء فيه، إذ لا يتصور فرق بين البناء السابق واللاحق، ولم يقل أحد بالفرق، ولو كانت بمنزلة الأصنام _ كما يزعم الوهابيون _ لم يكن فرق بين البناء السابق واللاحق، مع أنهم قد بنوها لاحقاً، بني عليها عمر بن الخطاب حائطاً وهو أوّل من بناها، وبَنَتْ عائشة حائطاً بينها وبين القبور وكانت تسكنها وتصلي فيها قبل الحائط وبعده، وبذلك يبطل قولهم بعدم جواز الصلاة عند القبور، وبناها عبدالله بن الزبير ثمّ سقط حائطها فبناه عمر بن عبدالعزيز، ثمّ لما وسّع المسجد في خلافة الوليد بني علي البيت حظاراً، وفي رواية أنّه هدم البيت الأوّل ثمّ بناه، وبني حظاراً محيطاً به وتولّي ذلك عمر بن عبدالعزيز وأزّر الحجرة بالرخام، ثمّ اُعيد تأزيرها في زمن المتوكل الخليفة العباسي، ثمّ جدد في زمن المقتفي، ثمّ عمل في زمنه للحجرة مشبك من خشب الصندل والأبنوس علي رأس جدار عمر بن عبدالعزيز، ثمّ لما

سقط حائط الحجرة في دولة المستضيء اُعيد بناؤه، ثمّ لما احترق الحرم الشريف سنة (654 ه_) شرعوا في تجديد الحجرة الشريفة في دولة المستعصم آخر ملوك بني العباس واُكمل تعميرها من آلات وصلت من مصر في عهد الملك المنصور ايبك الصالحي وأخشاب من صاحب اليمن الملك المظفر، ثمّ اُكمل تعميرها في أيام المنصور قلاوون الصالحي صاحب مصر فعملت أول قبة علي الحجرة الشريفة وهي القبة الزرقاء بناها أحمد بن عبدالقوي ناظر قوص سنة (678 ه_) ثمّ جددت في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، ثمّ في أيام الملك الأشرف سنة (765 ه_)، ثمّ جددت في دولة الظاهر جقمق سنة (852 ه_)، ثمّ جدد بناء الحجرة الشريفة سنة (881 ه_) في دولة الملك الأشرف قاتباي صاحب مصر وعمل عليها قبة سفلية تحت القبة الزرقاء، ثمّ لما احترق الحرم الشريف ثانياً سنة (886 ه_) اُعيد بناء الحجرة الشريفة وعمل عليها قبة عظيمة بدل القبة الزرقاء والتي تحتها وذلك في دولة الملك الأشرف قاتباي، ثمّ جدد بناؤها سنة (891 ه_) في دولة الملك الأشرف ولم يزل ملوك بني العباس يجددون ما انهدم منها، وكذلك ملوك بني عثمان وقد جددت في عهد السلطان عبدالمجيد منهم. ومما بُني في عهد الصحابة وبعده قبل المائة الخامسة ما ذكره السمهودي في (وفاء الوفا): أنّ عقيلاً لما حفر بئراً في داره وجد حجراً مكتوباً عليه: «هذا قبر اُمّ حبيبة» فدفن البئر وبني عليه بيتاً، وأنّ ابن السائب: قال دخلت البيت فرأيت القبر. وبني الرشيد قبة علي قبر أمير المؤمنين(عليه السلام)، كما عن عمدة الطالب وغيره، وكان الرشيد في المائة الثانية، ثمّ تتابع البانون في بنائها إلي اليوم، وفيها يقول الحسين بن

الحجاج الشاعر الفكاهي المشهور المتوفّي سنة (391 ه_) في مطلع قصيدة: يا صاحب القبة البيضاء علي النجفِ من زار قبرك واستشفي لديك شفي وعن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: أنّ الكاظم(عليه السلام) دفن في مقابر الشونيزية خارج القبة وقبره هناك مشهور يُزار وعليه مشهد عظيم، فيه القناديل وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد، انتهي. فيدل علي وجود قبة عند دفن الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو سنة (182 ه_) وعلي وجود مشهد في عصر الخطيب المولود سنة (392 ه_) ولابد أن يكون حدوثه قبل عصره. وذكره المؤرخون وعلماء الأثر وجل من كتب في التراجم: أنّ الأئمة زين العابدين والباقر والصادق(عليهم السلام) دفنوا في قبة الحسن(عليه السلام)والعباس رضوان الله عليه بالبقيع، وكانت وفاة زين العابدين(عليه السلام)سنة (59 ه_)، ووفاة الإمام الباقر(عليه السلام) في أوائل المائة الثانية في العشر الثاني منها، ووفاة الإمام الصادق(عليه السلام) سنة (148 ه_)، كما ذكروا بناء القباب والمشاهد علي جملة من القبور قبل المائة الخامسة، مثل: أنّ الإمام علي بن موسي الرضا دفن في القبة التي دفن فيها هارون الرشيد بطوس في دار حميد بن قحطبة الطائي، ويظهر أنّ الذي بني تلك القبة علي الرشيد هو ولده المأمون، وكان كما عن السيوطي أمّاراً بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء. انتهي. وكان عصره حافلاً بالعلماء وأئمة الدين منهم: الإمام علي بن موسي الرضا إمام أهل البيت ووارث علوم جده وآبائه الذي كان يصدر المأمون عن رأيه، وعمل له الرسالة الذهبية، ومسائله له مشهورة في مشكلات علوم الدين، ولما رآه يتوضأ والغلام يصب علي يديه الماء قال له: «يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربّك أحداً» فصرف الغلام، فلو كان البناء علي القبور محرماً لنهاه

عن بناء القبة علي قبر الرشيد مع أ نّه لم ينهه، بل أوصي أنّ يدفن في تلك القبة: ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد من أئمة المذاهب الأربعة وسفيان ابن عيينة وغيرهم، ولم ينقل أنّ أحداً أنكر عليه مع أ نّهم أنكروا عليه القول بخلق القرآن وصبروا علي الحبس والضرب ولم يوافقوه عليه. ومثل: أن نهشل بن حميد الطوسي بني قبة علي قبر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور المتوفّي سنة (220 ه_) بالموصل، وأنّها بُنيت قبة علي قبر بوران بنت الحسن بن سهل المتوفاة سنة (271 ه_) وأنّ معز الدولة البويهي المتوفّي سنة (292ه_) دفن أولاً في داره، ثمّ نقل إلي مشهد بني له في مقابر قريش، إلي غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبع ويطول الكلام باستقصائه، وكل ذلك يكذب مازعمه الوهابية من أن البناء علي القبور حدث بعد المائة الخامسة، ويبيّن أنهم يرسلون الكلام علي عواهنه ويكيلون الدعاوي جزافاً، ويدل علي مبلغهم من العلم وجهلهم بالتاريخ. وعن تاريخ الخلفاء للسيوطي: أنّ المتوكل في سنة (236 ه_) أمر بهدم قبر الحسين(عليه السلام)، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته وخرّب وبقي صحراء، وكان المتوكل معروفاً بالنصب، فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه علي الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك: تالله إن كانت اُمية قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبره مهدوما أسفوا علي أن لايكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما وعن المسعودي: أنّ المتوكل أمر في سنة (236 ه_) المعروف بالديزج بالمسير إلي قبر الحسين بن علي وهدمه وازالة أثره وأنّ يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب

لمن يقدم علي ذلك، فكل خشي عقوبة الله فأحجم، فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين(عليه السلام) فحينئذ أقدم الفعلة علي العمل، ولم يزل الأمر علي ذلك حتّي استخلف المنتصر، انتهي. وهذا صريح في أنّ قبر الحسين(عليه السلام) كان مبنياً بناءً عالياً مشيّداً، لقوله: «فهدم أعالي القبر» وأنّ هدم قبور عظماء الدين كان معلوماً عند المسلمين قبحه ومغروساً ذلك في نفوسهم، فلذلك لم يقدم الناس علي هدم قبر الحسين(عليه السلام) مع بذل الرغائب، ولذلك قبّح جميع المسلمين فعل المتوكل وكتبوا هجاءه علي الحيطان، وعدّ فعله هذا من قبائحه الشنيعة وذمّه بذلك كل من كتب في التاريخ، فالوهابية اقتدوا في أعمالهم بالمتوكل المعروف بالنصب الذي ساء جميع المسلمين بعمله هذا كما ساؤوا جميع المسلمين بعملهم، ثمّ أخذه الله تعالي أخذ عزيز مقتدر فسلّط عليه الأتراك فقتلوه برأي ولده المنتصر شرّ قتلة. ومن ذلك كلّه يعلم أن البناء علي القبور لاحقاً وسابقاً غير محرّم، وأ نّه راجح إذا كان علي قبر نبي أو ولي أو عالم أو عابد أو غيرهم ممّن يكون تعظيمه من تعظيم شعائر الله تعالي، وهذا الوجه مما يهدم كل أساس بني عليه الوهابية شبهاتهم، ولا يرتاب فيه إلاّ مكابر معاند، فإنّك إذا أحطت علماً بما سردناه عليك من تاريخ بناء الحجرة الشريفة النبوية من مبدأ أمرها إلي يومنا هذا، وما بُني علي قبور الصحابة والأئمة والأولياء والصلحاء والشعراء والاُمراء وبعض النساء وغيرهم، علمت أنّ المسلمين عموماً من الصدر الأول إلي اليوم من جميع النحل والمذاهب الإسلامية متّفقون علي جواز البناء علي القبور وعقد القباب عليها، عدي الوهابية فإنّهم مخالفون لما عليه الاُمّة الإسلامية جمعاء، ولمذهب السلف الذين يتغنون دائماً بأ نّهم متبعون له،

حيث علمت أن الصحابة جميعاً ومنهم الخلفاء الأربعة اتّفقوا علي دفنه(صلي الله عليه وآله) في بيته وحجرته التي كان يسكنها مع زوجته عائشة وهي مبنية مسقفة، ولو كان البناء علي القبور غير جائز لما خفي علي الصحابة عموماً، ولو حرم ابتداء لحرم استدامة، ثمّ دفن أبو بكر وعمر مع النبي(صلي الله عليه وآله) في تلك الحجرة وعدّ ذلك أعظم منقبة لهما، ثمّ بنت عائشة حائطاً في تلك الحجرة بينها وبين القبر الشريف، وقد رويتم أ نّه(صلي الله عليه وآله)قال: خذوا ثلثي دينكم عن عائشة، ثمّ جدد بناء الحجرة الشريفة عمر بن الخطاب وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز صالح بني اُمية وعادلهم وزاهدهم ومعيد رونق الخلافة بعدما صارت ملكاً عضوضاً ورافع السبّ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ورادّ فدك إلي أولاد فاطمة تورعاً، ثم تتابع ملوك الإسلام واُمراؤهم في بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر وخلفاً عن سلف، متقربين بذلك إلي الله راجين ثوابه مفتخرين به أمام رعاياهم، وكان في أعصارهم وفي المدينة المنورة من العلماء والصلحاء وأهل الفضل والدين ما لا يحصي عددهم، ولم يسمع من أحد أ نّه لامهم علي هذا الفعل أو خطّ_أهم فيه أو منعهم منه من العلماء الذين كانت لهم الكلمة النافذة عند الملوك والاُمراء، وليس ترك ذلك شيئاً مخلاً بسلطنتهم وسياستهم للملك حتّي يخافهم العلماء فيه، بل هو أمر ديني محض لا يخالفهم فيه ملك ولا أمير، ولا يخرج قصد الملوك والاُمراء في ذلك عن أحد أمرين: طلب الثواب منه تعالي، والفخر عند الناس، وكلّ ذلك لا يتم لهم مع نهي العلماء عنه وتحريمه. فإذا لم يكن هذا الأمر

_ الذي اتّفق عليه الصحابة من صدر الإسلام والتابعون وتابعو التابعين وعلماء المسلمين وعامّتهم وملوكهم وصعاليكهم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل _ قطعياً ولا اجماعياً، ففي أي حكم في الشريعة يمكن دعوي القطع والاجماع؟! وإذا لم يكن للسلف قدوة في مثل هذا، ففي أي شيء يقتدي بهم ويقول المرء عن نفسه أ نّه سلفي علي عادة الوهابيين؟! إن حرمة قبور الأنبياء والصلحاء بل كل مسلم، وفضلها وشرفها وبركتها ملحق بالضروريات عند الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين لا يرتاب في ذلك أحد، وإذا كان لها حرمة ومنزلة وشرف وبركة عند الله تعالي وجب أو رجح فعل كل مايوجب احترامها وتعظيمها; من زيارتها، والبناء عليها، وحفظها عن دوس الأقدام وروث الدواب والكلاب وغير ذلك، لأنّ ذلك من تعظيم شعائر الله وحرماته، وحرم كل ما يوجب إهانتها واحتقارها وامتهانها; من هدمها وهدم حجرها وقبابها، وجعلها معرضاً لوطء الأقدام وروث الدواب والكلاب ووقوع القاذورات، فإنّ ذلك كلّه لاشك أ نّه اهانة لها ولأهلها. فإذا ثبت ذلك وجب طرح كل حديث ناه عن البناء علي القبور أو آمر بهدمها لو فرض وجوده، أو تخصيصه بغير قبور الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء، لأنّ ذلك إهانة لهم، وقد دلّ العقل والنقل علي حرمة إهانتهم ووجوب تعظيمهم أحياء وأمواتاً. لا يقال: إنّما يكون تعظيم تلك القبور راجحاً لو لم يكن كفراً وشركاً بكونه عبادة لها كعبادة الأصنام. لأنا نقول: بعدما ثبت أن لها شرفاً وحرمة عند الله تعالي، بما بيّناه لا يكون تعظيمها عبادة لها ولا كفراً ولا شركاً، بل تعظيمها تعظيم لله تعالي وعبادة له كتعظيم الكعبة والحرم والحجر الأسود والمساجد والمقام وكل شيء أمر الله بتعظيمه من المخلوقات، وقياس ذلك بعبادة

الأصنام التي لم يجعل الله لها حرمة بوجه من الوجوه قياس فاسد كما أوضحناه مراراً. لا يقال: إنّما يكون بناؤها والبناء عليها تعظيماً لها لو لم يرد النهي الموجب لكونه محرماً، ولا تعظيم بمحرم، وإنّما يكون هدمها وهدم ما بُني عليها إهانة لو لم يرد الأمر به الموجب لكونه طاعة، وهو عين الاحترام لها ولأصحابها بتنفيذ ما أمر الله به فيها. لأنا نقول: كون بنائها والبناء عليها في نفسه احتراماً لها ولأصحابها، وهدمها وهدم ما بُني عليها في نفسه إهانة لها ولأصحابها، عرفاً مع قطع النظر عن ورود النهي والأمر ممّا لا يشك فيه أحد، وبعدما ثبت بالدليل القطعي السابق وجوب احترامها وحرمة إهانتها لا يمكن أن يكون النهي عن البناء والأمر بالهدم شاملاً لها، بل هو إما مطروح، أو خاص بغيرها أو مصروفاً إليه، لأن الظن لا يعارض اليقين [37] . وهذا الذي يقوله السيد العاملي معترف به من قبل أعلام السلفية والوهابية، فنجد ابن القيم الجوزية ينصّ علي مواضع من القبور والمشاهد التي تُزار من قبل المسلمين، وذكر أنّ في دمشق كثيراً منها استطاع شيخه ابن تيمية من تحطيمها [38] . وحينما تصدي سليمان بن عبدالوهاب للردّ علي أخيه محمد ابن عبدالوهاب في كتاب له باسم (الصواعق الإلهية) ذكّره مراراً عديدة بأنّ ما تستنكره من المسلمين ظاهرة مستمرّة في الاُمّة منذ أكثر من (700) عام، وأنّ ابن القيم قد أذعن بأ نّ غالب الاُمّة تفعله، وأ نّه ما أعزّ من تخلّص منه، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره [39] . وأذعن به الصنعاني المتوفّي (1186 ه_) في كتابه تطهير الاعتقاد، حيث ذكر: «بأن هذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً،

بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ وفيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالبها لا تخلو عن قبر أو مشهد، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلي ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا» [40] . ثمّ أجاب عنه جواباً تكفّل السيّد العاملي بالردّ عليه وإبطاله في كتابه المذكور آنفاً. وليس لأحد أن يقول: إن انتشار هذه الظاهرة لا يدل علي إمضاء علماء تلك الأعصار لها، لأنّ هذه الظاهرة ليست سياسية حتّي نفترض خشية العلماء من الحكّام في إبراز رأيهم فيها، وإنّما هي ظاهرة عبادية يُفترض أنّ الناس لا يقدمون عليها إلاّ بعد أخذ رأي العلماء فيها، وليس هناك ما يبرّر للعلماء كتم الحقيقة الشرعية التي ائتمنوا عليها، وبالتالي فانتشار مثل هذه الظاهرة يكشف عن إمضاء العلماء لها. هذا ما كان من أمر المسألة بلحاظ التاريخ، أما أمرها بلحاظ الفقه فأوضح من ذلك بكثير، فقد قال ابن قدامة في (الكافي): «ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما روي الساجي: أن النبي(صلي الله عليه وآله)رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولأنّه يعلم أ نّه قبر فيتوقّي، ويترحّم عليه. ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها، لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون، ولأنّه يعرف قبره فيكثر الترحّم عليه». ثمّ قال: فصل، في كراهة بناء القبور وتجصيصها «ويكره البناء علي القبر وتجصيصه، والكتابة عليه، لقول جابر: نهي رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن يجصّص القبر، وأن يبني عليه وأن يقعد عليه. رواه مسلم. زاد الترمذي: وأن يكتب عليها. وقال: حديث صحيح، ولأنّه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميّت إليه» [41] . وقال في المقنع: «ويرفع القبر عن الأرض

قدر شبر، مسنّماً... ويكره تجصيصه والبناء عليه...» [42] . وقال النووي في منهاج الطالبين: «ويرفع القبر شبراً فقط والصحيح أن تسطيحه أولي من تسنيمه» [43] . وفي متن أبي شجاع لأحمد بن الحسين الاصفهاني: «ويسطّح القبر، ولا يُبني عليه ولا يجصص» [44] . وقال محمد بن إبراهيم الشيرازي في(المهذب): «ولا يزاد في التراب الذي اُخرج من القبر، فإن زادوا فلا بأس. ويشخص القبر من الأرض قدر شبر لما روي القاسم بن محمّد، قال: دخلت علي عائشة فقلت: اكشفي لي عن قبر رسول الله(صلي الله عليه وآله)وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، ويسطّح القبر ويوضع عليه الحصي، لأن النبي(صلي الله عليه وآله) سطّح قبر ابنه إبراهيم(عليه السلام) ووضع عليه حصي من حصي العرصة، وقال أبو علي الطبري: الأولي في زماننا أن يسنّم، لأنّ التسطيح من شعار الرافضة، وهذا لا يصحّ، لأنّ السنّة قد صحّت فيه فلا يعتبر بموافقة الرافضة... ويكره أن يجصّص القبر، وأن يبني عليه أو يقعد أو يكتب عليه، لما روي جابر، قال: نهي رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن يجصّص القبر وأن يُبني عليه، أو يقعد وأن يكتب عليه، ولأنّ ذلك من الزينة» [45] . وقال ابن جزي في القوانين الفقهية: «ولا يرفع القبر إلاّ بقدر شبر» واختلف في جواز تسنيمه ولا يدفن في قبر واحد ميتان...» [46] وقال ابن رشد في بداية المجتهد: «وكره مالك والشافعي تجصيص القبور، وأجاز ذلك أبو حنيفة». وقال القرطبي في الكافي في فقه أهل المدينة: وقال الإمام مالك في المدونة: «أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يُبني عليها» [47] . وقال الكاشاني في بدائع الصنائع: ويكره تجصيص القبر وتطيينه، وكره أبو

حنيفة البناء علي القبر وأن يعلم بعلامة، وكره أبويوسف الكتابة عليه; ذكره الكرخي، لما روي عن جابر بن عبدالله عن النبي(صلي الله عليه وآله)أنّه قال:«لا تجصّصوا القبور ولا تبنوا عليها ولا تقعدوا ولا تكتبوا عليها» ولأن ذلك من باب الزينة ولا حاجة بالميّت إليها، ولأنه تضييع المال بلا فائدة فكان مكروهاً» [48] . وفي الفقه علي المذاهب الأربعة: «ويندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر شبر ويجعل كسنام البعير باتّفاق ثلاثة، وقال الشافعية: جعل التراب مستوياً منظّماً أفضل من كونه كسنام البعير، ويكره تبييض القبر بالجبس أو الجير». ثمّ قال: «يكره أن يُبني علي القبر بيت أو قبة أو مدرسة أو مسجد أو حيطان تحدق به _ كالحيشان _ إذا لم يقصد بها الزينة والتفاخر، وإلاّ كان ذلك حراماً، وهذا إذا كانت الأرض غير مسبلة ولا موقوفة; والمسبلة هي التي اعتاد الناس الدفن فيها، ولم يسبق لأحد ملكها; والموقوفة هي ما وقفها مالك بصيغة الوقف، كقرافة مصر التي وقفها عمر; أما المسبلة والموقوفة فيحرم فيهما البناء مطلقاً، لما في ذلك من الضيق والتحجير علي الناس، وهذا الحكم متّفق عليه بين الأئمة، إلاّ أن الحنابلة قالوا: إن البناء مكروه مطلقاً، سواء كانت الأرض مسبلة أو لا، والكراهة في المسبلة أشد» [49] . هذه كلمات أعلام الجمهور في المسألة ; ومع وضوحها وتصريحها بعدم حرمة البناء علي القبور يستطيع القارئ أن يسأل ابن تيمية وابن القيّم وابن بليهد عن مصدر ادعائهم الاجماع علي حرمة البناء علي القبور؟ وأي اجماع هذا الذي لا يعرفه أئمة المذاهب الأربعة ولا من جاء بعدهم من فقهاء الجمهور؟ ولو كان هذا الاجماع موجوداً حقاً فلماذا يقول ابن بليهد: «ولهذا أفتي كثير من العلماء

بوجوب هدمه»، فاللازم طبقاً للاجماع المدّعي أن يفتي جميع العلماء بذلك، فتوقف البعض عن ذلك يكشف عن عدم ثبوت الاجماع المذكور. وقد اتّضح عدم وجود قائل بذلك قبل ابن تيمية، فلا أرضية للمناقشة حول وجود أم عدم ذلك الاجماع أصلاً.

رواية أبي الهياج الأسدي

وقد أوردنا فيما مضي علي الاستدلال بها جملة من الاشكالات وها نحن نورد عليها اشكالات اُخري أوردها السيد محسن الأمين العاملي، مقتصرين علي ما ذكره منها في جانب المتن دون ما أورده عليها في جانب السند، حيث كتب يقول: «وأما متنه ففيه، أولاً: أنّه شاذ انفرد به أبو الهياج، بل قال السيوطي في شرح سنن النسائي [50] أ نّه ليس لأبي الهياج في الكتب إلاّ هذا الحديث الواحد، انتهي. ثانياً: «أ نّه لا دلالة فيه علي شيء ممّا زعموه من عدم جواز البناء علي القبور، بل هو وارد في الأمر بالتسطيح والنهي عن التسنيم فإنّ المشرف وإن كان معناه العالي إلاّ أنّ التسنيم نوع من العلوّ أو معنيً من معانيه. ففي القاموس: الشرف _ محركة _: العلوّ، ومن البعير سنامه، فالمشرف يشمل باطلاقه أو بوضعه العالي بالتسنيم وبغيره، إلاّ أن قوله: «إلاّ سويته» قرينة علي إرادة التسنيم من الإشراف، لأن التسوية التعديل. ففي المصباح المنير: استوي المكان: اعتدل وسويته: عدلته. وفي القاموس: سوّاه: جعله سوياً، فقوله: «إلاّ سويته» يعني أنّ المراد من الإشراف ما يقابل التسوية وليس هو إلاّ التسنيم فإن مطلق العلوّ لا يقابل التسوية، لجواز أنّ يكون عالياً مستوياً فلا يناسب مقابلة العالي بالمستوي، بل اللازم أن يقول ألا جعلته لاطئاً أو نحو ذلك، وارادة الهدم من التسوية غير صحيحة ولا يساعد عليها عرف ولا لغة، لأن التسوية ليس معناها الهدم ولا

تستعمل فيه إلاّ بأن يقال سويته بالأرض أو نحو ذلك.. مع أن التسوية بالأرض ليست من السنّة بالاتّفاق، للاتفاق علي استحباب رفع القبر عن الأرض في الجملة. وعلي كل حال، فلا دلالة فيه علي عدم جواز البناء علي القبور ولا ربط له بذلك، فيجعل علوّ القبر نحو شبر ويجعل عليه حجرة أو قبة، والحاصل: أ نّه سواء جعلنا معني قوله: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته ولا قبراً مسنّماً إلاّ سطحته وأزلت سنامه» كما هو الظاهر، «أو ولا قبراً عالياً إلاّ وطيته»، لا ربط لذلك بالبناء علي القبور. وما ذكرناه في معني الحديث هو الذي فهمه منه العلماء وأئمة الحديث. روي مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز [51] بسنده عن ثمامة، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوّي، ثمّ قال: سمعت رسول الله(صلي الله عليه وآله)يأمر بتسويتها، ثمّ روي حديث أبي الهياج ومن الواضح أن قوله: فأمر فضالة بقبره فسوي، أي سطّح ولم يجعله مسنّماً، وكذا قوله: سمعت رسول الله(صلي الله عليه وآله) يأمر بتسويتها أي تسطيحها، وليس المراد أ نّه أمر به فهدم لأنّه لم يكن مبنياً، ولا المراد أ نّه أمر به فسوي مع الأرض، لأن ذلك خلاف السنّة للاتفاق علي استحباب تعليتها عن الأرض في الجملة كما عرفت، فتعين أن يراد به التسطيح، فكذا خبر أبي الهياج الذي عقبه به مسلم وساقه مع هذا الحديث في مساق واحد، وذلك دليل علي أنّه حمل قوله: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته» علي معني: ولا قبراً مسنماً إلاّ سطحته. وقال النووي في الشرح: قوله «يأمر بتسويتها» وفي الرواية الاُخري «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته» فيه: أنّ السنّة

أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنّم، بل يرفع نحو شبر ويسطح، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، انتهي. فحمل التسوية علي التسطيح وعدم رفع القبر كثيراً كما تري. ومن العجيب! أن أحد الوهابيين في رسالته المسماة ب_ (الفواكه العذاب) إحدي رسائل الهدية السنّية الحاوية لمناظرة مؤلفها النجدي مع علماء الحرم الشريف بزعمه، في عهد الشريف غالب سنة (1211 ه_) استدل علي عدم جواز البناء علي القبور بحديثي فضالة وأبي الهياج المذكورين، مع أ نّهما _ كما عرفت _ واردان في التسطيح ولا مساس لهما بعدم جواز البناء، حتّي لو سلمنا أن حديث أبي الهياج يدل علي عدم الرفع كثيراً كما فهمه النووي في كلامه السابق، فلا دلالة له علي عدم جواز البناء علي القبور فلو جعل علوّ القبر نحو شبر وبُني عليه حجرة لم يكن ذلك منافياً للحديث المذكور كما عرفت، ولكن هؤلاء يسردون الأحاديث ويجعلونها دالة علي مرادهم بالسيف ومن أبي كفر وأشرك. معزا ولو طارت. وقال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري [52] : روي أبو داود باسناد صحيح أنّ القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت علي عائشة فقلت لها: اكشفي لي عن قبر النبي(صلي الله عليه وآله)وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. أي لا مرتفعة ولا لاصقة بالأرض كما بينه في آخر الحديث، انتهي. ثمّ قال القسطلاني: ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض، لأن السنّة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها، ولا يخالف ذلك قول علي(عليه السلام): «أمرني رسول الله(صلي الله عليه وآله) أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته» لأنّه لم يرد تسويته بالأرض،

وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، نقله في المجموع عن الأصحاب، انتهي. وقال الترمذي: باب ماجاء في تسوية القبور ولم يقل في هدم القبور، ثمّ أورد حديث أبي الهياج وظاهر أ نّه لم يحمل التسوية فيه إلاّ علي التسطيح، لأن ذلك هو معناها لغة وعرفاً ولا ربط له بعدم جواز البناء عليها، مع أنّ الوهابيين في الرسالة الآنفة الذكر أوردوا هذا الذي ذكره الترمذي دليلاً علي عدم جواز البناء» [53] .

دعوي تسبيل البقيع في كلام ابن بليهد

وقد مرّ أن تحريم البناء في المسبلة لم يقل به الحنابلة الذين ذهبوا إلي أنّ البناء مكروه مطلقاً سواء كانت الأرض مسبلة أو لا، وإن كانت الكراهة في المسبلة أشد، وحينئذ فدعوي ابن بليهد لا تستند إلي أمر مسلّم متّفق عليه بين المذاهب الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أنّ الدعوي بحد ذاتها غير ثابتة تأريخياً، وقد قال السيد محسن الأمين العاملي في ذلك: «إنّ دعوي تسبيل البقيع دعوي بلا دليل، إذ لم ينقل ناقل أنّ أحداً وقفها لذلك فهي باقية علي الإباحة الأصلية، ولو فرض وقفها مقبرة فليس علي وجه التقييد بعدم جواز الانتفاع بها إلاّ بقدر الدفن وعدم جواز البناء زيادة علي ذلك حتّي علي قبر عظيم عند الله يصون البناء قبره عمّا لا يليق وينتفع به الزائرون لقبره ويستظلون به من الحر والقر عند زيارته وقراءة القرآن والصلاة والدعاء لله تعالي عند قبره الثابت رجحانه، ولا أقل من الشك في كيفية الوقف لو فرض محالاً حصوله فيحمل بناء المسلمين فيه علي الصحيح لوجوب حمل أفعالهم وأقوالهم علي الصحة مهما أمكن. وكذا لو فرض محالاً أننا علمنا أ نّها كانت مملوكة فلا مناص لنا عن حمل البناء فيها علي الوجه

الصحيح الذي هو ممكن لا يعارضه شيء، وحينئذ فيكون هدمها ظلماً محرماً وتصرفاً في مال الغير بغير رضاه، وقد وقفها البانون وجعلوها مسبلة لانتفاع المسلمين الزائرين واستظلالهم بها وعمل البر فيها من الدعاء والصلاة وغيرها، فهدمها ظلم للبانين والمسلمين ومنع لهم عن حقّهم فما أوردوه دليلاً لهم هو دليل عليهم، علي أنّ كتب التواريخ والآثار دالة علي أن أرض البقيع كانت مباحة أو مملوكة لا مسبلة. ففي وفاء الوفا للسمهودي [54] روي ابن زبالة عن قدامة بن موسي أن أوّل من دفن رسول الله(صلي الله عليه وآله) بالبقيع عثمان بن مظعون، قال: وروي أبو غسان عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه: لما توفي إبراهيم ابن رسول الله(صلي الله عليه وآله) أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون، فرغب الناس في البقيع وقطعوا الشجر فاختارت كل قبيلة ناحية، فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها. قال: وروي ابن أبي شبة عن قدامة بن موسي كان البقيع غرقداً [55] فلمّا هلك عثمان بن مظعون دفن بالبقيع وقطع الغرقد عنه، انتهي. فهذا نصّ علي أن البقيع كان مواتاً مملوءاً بشجر الغرقد فاتّخذه المسلمون مدافن لموتاهم ورغبوا فيه حين دفن النبي(صلي الله عليه وآله)ولده إبراهيم فيه، فإمّا أن تكون كل قبيلة ملكت قسماً منه بالحيازة، أو بقي علي أصل الإباحة، فأين التسبيل والوقف؟ وفيه أيضاً: قال ابن شبة فيما نقله عن أبي غسان، قال عبدالعزيز: دفن العباس بن عبدالمطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل [56] ، انتهي. فدلّ علي أن قبر العباس وقبور أئمة أهل البيت كانت في دار عقيل، فأين التسبيل والوقف؟ وأي شيء سوغ التخريب والهدم؟

وما قيمة هذه الفتوي المزيفة المبنية علي هذا السؤال. وفيه أيضاً: روي ابن زبالة عن سعيد بن محمد بن جبير أ نّه رأي قبر إبراهيم عند الزوراء، قال عبدالعزيز بن محمد: وهي الدار التي صارت لمحمد بن زيد بن علي [57] ، انتهي، وذلك يدل علي أن هذه الدار كانت مملوكة. وفيه أيضاً: عن ابن شبة عن عبدالعزيز أن سعد بن معاذ دفنه رسول الله(صلي الله عليه وآله) في طرف الزقاق الذي يلزق دار المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمر، وإنّما تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري وهي الدار التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصي البقيع عليها جنبذة [58] ، انتهي. وفي القاموس: الجنبذة، وقد تفتح الباء أو هو لحن، كالقبة، انتهي، وهذا صريح في أنها كانت داراً مملوكة وكان عليها قبة [59] .

المسألة في ضوء نصوص أئمة أهل البيت

وإذا جئنا إلي النصوص المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)وجدناها تؤيد ماترويه المذاهب الإسلامية الاُخري عن النبي(صلي الله عليه وآله)في هذه المسألة، وها نحن نورد نماذج منها: فقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «.. ويرفع القبر فوق الأرض أربع أصابع» [60] . وروي عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنّه قال: «لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه» [61] . ونقل الكليني في الكافي بسنده عن السكوني، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «بعثني رسول الله(صلي الله عليه وآله) إلي المدينة فقال: لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سويته ولا كلباً إلاّ قتلته» [62] وروي أيضاً بسند آخر أنّه(عليه السلام) قال: «بعثني رسول الله(صلي الله عليه وآله) في هدم القبور وكسر الصور» [63] . والمشهور ضعف الحديثين الأخيرين من حيث

السند [64] ، وهما من حيث المضمون يشبهان الحديث المروي عن أمير المؤمنين من طرق أهل السنّة الذي مرّت مناقشته، ويشبهان كذلك حديث أبي الهياج الأسدي. ولكن متنهما أفضل من متن تينك الحديثين لخلوّهما من بعض الاشكالات التي ذكرناها عليهما فيما مضي، ولكن مع ذلك يرد علي متن الحديث الثالث اشتماله علي قتل الكلب، وهو ممّا لا وجه شرعي له. والحديث الرابع أفضل هذه الطائفة متناً، ففيه يقول الإمام علي(عليه السلام): بعثني رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولم يقل إلي المدينة بالنحو الذي يثير التساؤل عن مكان صدور الحديث لعدم تناسب الحديث مع مكان يكون خارج المدينة، والحديث الرابع يمتاز عن البقيّة بخلوّه عن هذا الاشكال، وامتيازه الآخر عدم ذكر الأصنام الذي قلنا فيما سبق عدم تناسب ذكر الأصنام مع ظرف المدينة في زمان حكم النبي(صلي الله عليه وآله)فيها. وامتيازه الثالث بورود كلمة «هدم القبور» الصالحة لتفسير كلمة التسوية الواردة في الأحاديث الاُخري «ولا قبراً إلاّ سوّيته» فإنّ الهدم ينسجم مع بناء عال من جهة، ولا يستلزم مساواة القبر مع الأرض من جهة ثانية، ويلتئم بالنتيجة مع الأحاديث الدالة علي استحباب ارتفاع القبور مقدار أربعة أصابع عن الأرض بالنحو الذي يفيد أنّ عبارة «ولا قبراً إلاّ سوّيته» لا تعني التسوية مع الأرض، وإنّما المقصود بها ارادة التسطيح ونفي التسنيم.

المسألة في ضوء الفقه الإمامي

يتّفق الفقه الإمامي مع فقه الجمهور في كراهة البناء علي القبر، وعدم حرمته ويمتاز عنه بأمرين: أوّلهما: رفض تسنيم القبر بوصفه بدعة لا أصل تشريعي لها. وفيهم من قال بكراهته. وثانيهما: التفريق في كراهة البناء علي القبر بين عامة الناس وبين الأنبياء والأئمة والعلماء والصلحاء، حيث حكموا بارتفاع الكراهة عن البناء علي قبورهم، بل باستحباب

ذلك بالنسبة لهم دون سائر الناس. قال الشيخ الطوسي في الخلاف: «تسطيح القبر هو السنّة، وتسنيمه غير مسنون، وبه قال الشافعي وأصحابه، وقالوا هو المذهب [65] إلاّ ابن أبي هريرة فإنّه قال: التسنيم أحبّ إليّ، وكذلك ترك الجهر ب_ «بسم الله الرحمن الرحيم» لأنّه صار شعار أهل البدع [66] وقال أبو حنيفة والثوري: التسنيم هو السنّة [67] . دليلنا: اجماع الفرقة وعملهم. ورووا عن النبي(صلي الله عليه وآله) أنّه سطح قبر إبراهيم ولده [68] وروي أبو الهياج الأسدي [69] قال: قال لي علي(عليه السلام): «أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله(صلي الله عليه وآله) لاتري قبراً مشرفاً إلاّ سويته، ولا تمثالاً إلاّ طمسته [70] » [71] . وقال العلاّمة الحلّي: «ثمّ يطم القبر ولا يطرح فيه من غير ترابه إجماعاً، لأنّ النبيّ(صلي الله عليه وآله)نهي أن يزاد في القبر علي حفيرته، وقال: لا يجعل في القبر من التراب أكثر ممّا خرج منه. ومن طريق الخاصة قول الصادق(عليه السلام): إن النبي(صلي الله عليه وآله) نهي أن يُزاد علي القبر تراب لم يخرج منه [72] وقال الصادق(عليه السلام): لا تطيّنوا القبر من غير طينه [73] ويستحب أن يرفع مقدار أربع أصابع، لا أزيد، ليعلم أنّه قبر فيتوقّي ويترحّم عليه، ورفع قبر النبي(صلي الله عليه وآله) قدر شبر [74] وقال رسول الله(صلي الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته [75] . ومن طريق الخاصة رواية محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام)، قال: ويلزق الأرض بالقبر إلاّ قدر أربع أصابع مفرجات [76] ومن طريق الخاصة رواية محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام): وربّع قبره [77] ، ولأن قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة

مسطّحة، وهو يدل علي أنّه السنّة، وأنّه أمر متعارف». وقال السيّد العاملي في (مفتاح الكرامة): «وفي المبسوط و التذكرة الإجماع علي كراهية البناء علي القبور. وفي الذكري: إنّ الأخبار الواردة في ذلك رواها الصدوق والشيخ وجماعة المتأخّرين في كتبهم ولم يستثنوا قبراً، ولا ريب أنّ الإمامية مطبقة علي جواز البناء علي قبور الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)والصلاة عندها، انتهي. وفي (جامع المقاصد): إنّ كراهية التجصيص والتجديد فيما عدا قبور الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)لإطباق السلف والخلف علي فعل ذلك بها، ومثله قال في (المسالك) و(المدارك) و(مجمع البرهان) و(المفاتيح) مع زيادة استفاضة الروايات بالترغيب في ذلك في (المدارك)، بل في الأربعة الأخيرة: إنّه لا يبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء أيضاً، استضعافاً لخبر المنع والتفاتاً إلي تعظيم الشعائر لكثير من المصالح الدينيّة، بل في (مجمع البرهان): إنّ ذلك معروف بين الخاصّة والعامّة، انتهي. والشيخ في المسبوط خصّ الكراهة التي نقل الإجماع عليها بالمواضع المباحة، وفي المنتهي خصّها بالمباحة المسبّلة وقال: أمّا الأملاك فلا، انتهي. لكن الأخبار مطلقة، ولعلّ هذا البناء الذي نقل الإجماع علي كراهته وعبّر به جماعة هو التظليل المذكور (النهاية)، و(مختصر المصباح)، و(الوسيلة)، و(السرائر)، لكن التظليل أعمّ لحصوله بالمدر والوبر والأدم، وفي (المنتهي): المراد بالبناء علي القبر أن يتّخذ عليه بيتاً أو قبّة، وفي (الذكري): إنّ الكاتب قال: لا بأس بالبناء علي القبر وضرب الفسطاط يصونُه ومَن يزوره [78] . وقال الشيخ النجفي في الجواهر في سياق تعداد مكروهات الدفن: ومنها: تجصيص القبور، للاجماع المحكي في صريح المبسوط والتذكرة، وعن نهاية الأحكام والمفاتيح وظاهر المنتهي عليه، مضافاً إلي قول الكاظم(عليه السلام) في خبر أخيه [79] : «لا يصلح البناء عليه، ولا الجلوس، ولا تطيينه» وخبر الحسين بن زيد عن

الصادق عن آبائه(عليهم السلام) [80] عن رسول الله(صلي الله عليه وآله)في حديث المناهي أنّه: نهي أن تجصّص المقابر، ونحوه خبر القاسم بن عبيد [81] المروي عن معاني الأخبار رفعه عن النبي(صلي الله عليه وآله): انّه نهي عن تقصيص القبور، قال: وهو التجصيص. وربّما يشعر به أيضاً خبر ابن القداح عن الصادق(عليه السلام) [82] قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): بعثني رسول الله(صلي الله عليه وآله) في هدم القبور وكسر الصور» وقد سبق في حديث آخر [83] : «لا تدع صورة إلاّ محوتها، ولا قبراً إلاّ سويته» وكذا قول الصادق(عليه السلام) [84] : «كل ما جعل علي القبر من غير تراب القبر فهو ثقل علي الميت». وقضية ما سمعت عدم الفرق بين التجصيص ابتداء أو بعد الاندراس، إلاّ أنه حكي عن جماعة منهم المصنف والشهيد والمحقق الثاني عن الشيخ ذلك، فكره الثاني دون الأوّل، ومال إليه جماعة، جمعاً بين ما تقدم وبين خبر يونس بن يعقوب [85] قال: لما رجع أبو الحسن موسي(عليه السلام) من بغداد ومضي إلي المدينة ماتت له ابنة بفيد فدفنها، وأمر بعض مواليه أن يجصص قبرها، ويكتب علي لوح اسمها، ويجعله في القبر. قلت: الذي رأيته في المبسوط كالمحكي عنه في النهاية والمصباح، ومختصره أنّه لا بأس بالتطيين ابتداءً بعد إطلاقه كراهة التجصيص، وكأنه لذا لم ينقل ذلك في المختلف عن الشيخ، لكنهم لعلهم فهموا الاتحاد بين التطيين والتجصيص، كماعن التذكرة والمنتهي، وقد يؤيد ببعد وجدان الجص بقلعة فيد التي هي في طريق مكة، ولا ريب في بعده بالنسبة إلي عبارات الشيخ من حيث ذكره كلاً منهما مستقلاً برأيه، علي أنه قد يدعي دخوله حينئذ بالتجديد الذي ذكره مستقلاً. وكيف كان، فلا إشكال

في كراهة التجصيص بقسميه للاطلاق المتقدم مع قصور المعارض له من وجوه، وعدم الشاهد علي الجمع المذكور، كاحتمال الجمع بينهما بارادة تجصيص باطن القبر في الأول وظاهره في الثاني، بل هو أولي بالبطلان من سابقه كما لا يخفي، فالأولي الحكم بكراهة التجصيص مطلقاً، وحمل الخبر علي إرادة الجواز، أو علي أن المراد به التطيين بطين القبر بناء علي عدم كراهته حملاً لما دل علي النهي [86] عنه علي التطيين بغير طين القبر أو غير ذلك من الأغراض التي لا نعلمها، وربّما يقوي في الظن أنّه لمخافة نبش بعض الحيوانات للقبر، كما يتفق وقوعه كثيراً، إذ لا ريب في ارتفاع الكراهة حينئذ، ولعله لذا كان ذلك في بلادنا _ وهو النجف _ متعارفاً الآن، أو يقال: إن هذا من خصائص الأئمة وأولادهم(عليهم السلام) لئلا تندرس قبورهم، فيحرم الناس من فضل زيارتهم، ولعله لذا قال في المدارك تبعاً لغيره بعد أن ذكر كراهة التجصيص: ينبغي أن يستثني من ذلك قبور الأنبياء والأئمة(عليهم السلام). ثمّ إنه لا فرق فيما ذكرنا من الكراهة بين كون القبور في الأرض المباحة والمملوكة وإن كان ربمّا استظهر من معقد إجماع المبسوط تخصيصها بالأول، كما عن المنتهي فيه أو فيما يشبهه مع زيادة الوصف بالمسبلة، إلاّ أن الأقوي خلافهما إن كان كذلك لاطلاق الأدلّة من غير معارض». ثمّ قال: «ثمّ إنّه قد استثني في جامع المقاصد من كراهة التجصيص والتجديد قبور الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) كالمدارك قالا: لإطباق السلف والخلف علي فعل ذلك بها، بل في المدارك ولاستفاضة الروايات بالترغيب في ذلك، كما أنه فيها أيضاً لا يبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء استضعافاً لخبر المنع، والتفاتاً إلي تعظيم الشعائر، ولكثير من المصالح الدينية. قلت:

قد يقال إن قبور الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) لا تندرج في تلك الاطلاقات حتّي تحتاج إلي استثناء، كماهو واضح، وأيضاً فاللائق استثناؤها من كراهة البناء علي القبور، كما في الذكري وغيرها، والمقام عندها، لا التجصيص والتجديد. اللهم إلاّ أن يراد منهما ذلك، إذ لا إطباق من الناس عليهما، ولا استفاضة للأخبار فيهما، ولا مصالح دنيوية ولا اُخروية في كل منهما، لحصول الغرض والمراد بمعرفة مكان القبر، ثمّ اتّخاذ قبة ونحوها، فيبقي معروفاً لمن أراد الزيارة والتوسل والدعاء وغير ذلك، وهذا الذي قد أطبقت الناس عليه، وكان معروفاً حتّي في زمان الأئمة(عليهم السلام)،كما في قبر النبي(صلي الله عليه وآله) وغيره، وهو المراد بعمارة القبر في خبر عمار البناني [87] عن الصادق عن آبائه(عليهم السلام)عن النبي(صلي الله عليه وآله): يا أبا الحسن إنّ الله تعالي جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وان الله تعالي جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، ويحمل المذلّة والأذي فيكم، ويعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلي الله تعالي ومودّة منهم لرسوله، يا علي! اُولئك المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنة، يا علي! من عمر قبوركم وتعاهدها فكأ نّما أعان سليمان علي بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّي يرجع من زيارتكم كيوم ولدته اُمّه، فابشر وبشّر أوليائك ومحبّيك منّا السلام وقرة العين بما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم كما تعيّر الزانية بزناها، اُولئك شرار اُمّتي، لا ينالهم شفاعتي، ولا يردون حوضي. وحاصل الكلام: أن استحباب ذلك

فيها كاستحباب المقام عندها وزيارتها وتعاهدها كاد يكون من ضروريات المذهب إن لم يكن الدين، فلا حاجة للاستدلال علي ذلك، نعم قد يلحق بقبور الأئمة(عليهم السلام) قبور العلماء والصلحاء وأولاد الأئمة(عليهم السلام) والشهداء ونحوهم، فتستثني أيضاً من كراهة البناء ونحوه كما تقضي به السيرة المستمرة مع ما فيه من كثير من المصالح الاُخروية، لكنه لا يخلو من تأمّل لاطلاق أجلاء الأصحاب من دون استثناء» [88] .

الفتوي الشاذة و فجائع التطبيق

ومن خلال ما مضي اتّضحت حقيقة الفتوي الشاذة التي اعتقدها الوهابيّون، وتبيّن عدم اتّكائها علي أساس من الكتاب والسنّة، وأنّها مخالفة لما عليه المسلمون، منذ صدر الإسلام وحتّي الآن. والآن نريد أن ننظر إلي هذه الفتوي من زاوية جديدة هي زاوية الفجائع الإنسانية التي ارتكبها الوهابيّون بسببها. ففي سنة (1216 ه_) جهّز سعود بن عبدالعزيز جيشاً عظيماً من أعراب نجد وغزا به العراق، وحاصر كربلاء ثمّ دخلها عنوة وأعمل في أهلها السيف، ولم ينج منهم إلاّ من فرّ هارباً، أو اختفي في مخبأ، أو تحت حطب ونحوه، ولم يعثروا عليه، ونهبها وهدم قبر الحسين(عليه السلام)واقتلع الشباك الموضوع علي القبر الشريف ونهب جميع ما في المشهد من الذخائر، ولم يرع لرسول الله(صلي الله عليه وآله) ولا لذريّته حرمة، وربط خيله في الصحن الشريف، وطبخ القهوة ودقّها في الحضرة الشريفة... لقد أعاد بأعماله ذكري فاجعة كربلاء ويوم الحرّة وأعمال بني اُمية والمتوكل العباسي... وقال العلاّمة السيد جواد العاملي _ صاحب مفتاح الكرامة، وقد كان معاصراً لتلك الأحداث في النجف _ قال: وفي الليلة التاسعة من شهر صفر سنة (1221 ه_) قبل الصبح هجم علينا سعود الوهابي في النجف ونحن في غفلة حتّي أن بعض أصحابه صعد السور وكادوا يأخذون البلد

فظهرت لأمير المؤمنين(عليه السلام) المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة، فقتل من جيشه كثير ورجع خائباً. قال: وفي جمادي الآخرة سنة (1222 ه_) جاء الخارجي الذي اسمه سعود إلي العراق بنحو من عشرين ألف مقاتل أو أزيد، فجاءت النذر بأنّه يريد أن يدهمنا في النجف الأشرف غيلة، فتحذرنا منه وخرجنا جميعاً إلي سور البلد، فأتانا ليلاً فرآنا علي حذر قد أحطنا السور بالبنادق والأطواب فمضي إلي الحلة فرآهم كذلك، ثمّ مضي إلي مشهد الحسين(عليه السلام) علي حين غفلة نهاراً فحاصرهم حصاراً شديداً فثبتوا له خلف السور، وقتل منهم وقتلوا منه ورجع خائباً وعاث في العراق وقتل من قتل، وقد استولي علي مكة المشرفة والمدينة المنورة وتعطل الحج ثلاث سنين. قال: وفي سنة (1225 ه_) احاطت الأعراب من عنزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الأشرف ومشهد الحسين(عليه السلام) وقد قطعوا الطريق ونهبوا زوّار الحسين(عليه السلام) بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان وقتلوا منهم جماً غفيراً، وأكثر القتلي من العجم، وربّما قيل إنّهم مائة وخمسون، وبقي جملة من الزوار في الحلة ما قدروا أن يأتوا إلي النجف، فبعضهم صام في الحلة وبعضهم ذهب إلي الحسكة، والنجف كأنها في حصار والأعراب ممتدة من الكوفة إلي فوق مشهد الحسين(عليه السلام)بفرسخين أو أكثر. انتهي [89] . ولم يكن فعله في الحجاز بالقليل ولا المخفي: فلما استولي علي مكة المكرمة بادر جنده من الوهابيين بالمساحي فهدموا أولاً ما في المعلي من القبب وهي كثيرة، ثمّ هدموا قبة مولد النبي(صلي الله عليه وآله) ومولد أبي بكر وعلي وقبة السيدة خديجة. وفي تاريخ الجبرتي: أنهم هدموا أيضاً قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي هي أعلي من الكعبة. وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين

فهدموها، وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون ويبالغون في شتم القبور، ويقولون: إن هي إلاّ أسماء سميتموها! حتّي قيل إن بعضهم بال علي قبر السيد المحجوب. وأما أهل مكة فمشوا معهم خوفاً فما مضي ثلاثة أيام إلاّ ومحوا تلك الآثار، ثمّ نادوا بابطال تكرار صلاة الجماعة في المسجد، وأن يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء من شاء، وأن يصلي الجمعة المفتي، ثمّ أمر باحراق النارجيلات وآلات اللهو بعد كتابة أسماء أصحابها عليها ليعرف من أطاعه، ووكّل بذلك جماعة من قومه ومنع شرب التتن والتنباك وحمل الناس علي ترك الاستغاثة بالمخلوقين وبناء القباب علي القبور وتقبيل الأعتاب وغير ذلك مما يرونه بدعة أو شركاً. وكان ينزل من المحصب قبل الفجر ليحضر صلاة الصبح، فسمع المؤذنين يؤذنون الأذان الأول ويصلون علي النبي(صلي الله عليه وآله) ويقولون: يا أرحم الراحمين ويترضّون عن الصحابة، فقال هذا شرك أكبر ومنعهم منه، ثمّ أمر علماء مكة أن يدرسوا عقيدة محمد بن عبدالوهاب المسماة كشف الشبهات فلم تسعهم المخالفة، ثمّ طلب قبائل العرب الذين حول مكة فبايعوه وأخذ منهم أموالاً كثيرة زعم أنها نكال، ووضع في القلعة مائتين من بيشة وأمّر عليهم فهيد، أخا سالم بن شكبان [90] . وفي المدينة المنورة سنة (1231 ه_) وفيها أخذ الوهابي كلما في الحجرة النبوية من الأموال والجواهر وطرد قاضيي مكة والمدينة، وأقام لقضاء مكة الشيخ عبدالحفيظ ولقضاء المدينة بعض علمائها ومنعوا الناس من زيارة النبي(صلي الله عليه وآله). وقال الجبرتي: لما استولي الوهابيون علي المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة، لكنهم لم يهدموا قبة النبي(صلي الله عليه وآله)وحملوا الناس علي ما حملوهم

عليه بمكة، وأخذوا جميع ذخائر الحجرة النبوية وجواهرها حتّي أنّهم ملؤوا أربع سحاحير من الجواهر المحلاة بالماس والياقوت العظيمة القدر، ومن ذلك أربع شمعدانات من الزمرد، وبدل الشمعة قطعة من ماس تضيء في الظلام، ونحو مائة سيف لا تُقوّم قراباتها ملبّسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ماس وياقوت ونصابها من الزمرّد واليشم ونحو ذلك ونصلها من الحديث الموصوف وعليها أسماء الملوك والخلفاء السالفين، وطرد الوهابية أغوات الحرم والقاضي الذي كان قد توجه لقضاء المدينة واسمه (سعد بك) وخدّام الحرم المكي وقاضي مكة فتوجه مع الشاميين. وقال الجبرتي في حوادث سنة (1222 ه_) في هذه السنة أخبر الحجاج المصريون أنهم منعوا من زيارة المدينة المنورة [91] . وقد تكرّر هجوم الوهابيين علي أطراف العراق سنة (1345 _ 1346 ه_) بقيادة فيصل الدويش يقتلون وينهبون، وكان نتيجة ذلك أن اشتكي العراقيون إلي الحكومة الانجليزية وقالوا لها: إما أن تردعهم أو تترك العراقيين وإيّاهم ليدافعوا عن أنفسهم، فخابرت معتمدها في البحرين ليخابر السلطان ابن سعود، فكان جوابه: أنّه لا علم له بما جري وسيسأل فيصل الدويش عن ذلك، ومازال فيصل الدويش يشن الغارات علي أعراب العراق المجاورة لنجد فينهب مواشيهم ويقتل فيهم، وقد قرأنا اليوم في الجرائد خبر هجومه عليهم ونهبه وقتله لهم ومطاردة الطيارات البريطانية والجند العراقي لجنوده، وأن السلطان ابن سعود أرسل لحكومة العراق يحذرها منه ويقول: إنه خارج عن طاعته وغير قادر علي ردعه. ولما دخل الوهابيون إلي الطائف هدموا قبة ابن عباس، كما فعلوا في المرة الاُولي، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قباب عبدالمطلب جد النبي(صلي الله عليه وآله) وأبي طالب عمّه وخديجة اُمّ المؤمنين، وخربوا مولد النبي(صلي الله عليه وآله)ومولد فاطمة الزهراء(عليها السلام)، ولمّا

دخلوا جدّة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها، كما خربوا قبور من ذكر أيضاً، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها وجدّة ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها، ولما حاصروا المدينة المنورة هدموا مسجد حمزة ومزاره لأنهما خارج المدينة، وشاع أنهم ضربوا بالرصاص علي قبة النبي(صلي الله عليه وآله)، ولكنهم أنكروا ذلك. ونحن نتساءل: أنّه علي فرض صحّة هذه الفتوي وتوفر شرائط الحجّية فيها، فهي مع ذلك تبقي فتوي فقهية تُلزم مقلدي المجتهد الذي أفتي بها في حدود دائرتهم المذهبية، ولا تلزم سائر المسلمين من المذاهب الاُخري ممن يرون خلافها، ولا تبيح لمقلدي هذه الفتوي تطبيقها بالعنف والقسوة علي مزارات ومقابر سائر المسلمين، وما دام الجميع يعملون باجتهادات فقهية لا بضرورات شرعية معصومة حتمية الصواب، فما هو المبرّر الذي يتيح لهذا الطرف الاعتداء علي مقابر ومزارات الطرف الآخر، الذي أباح له اجتهاده الخاص به إقامة تلك المزارات والمقابر بالكيفية التي هي عليها؟ أليس المجتهد بالشروط المقررة للاجتهاد مأجور ومعذور علي كل حال؟ أليس المجتهد غير ملزم باجتهاد الآخرين؟ ومع أنّ التاريخ لا يشهد لاجتهاد محمد بن عبدالوهاب فيما ذهب إليه من آراء شاذه، وكان أخوه سليمان أوّل المنكرين لاجتهاده _ فضلاً عن آراءه _ وردّ عليه ادّعاءه متابعة آراء ابن تيمية وابن القيم. وأكدّ بأن أخاه لم يفهم كلامهما ومرادهما وأنّهما لا يقصدان ما يقوله ويريده، وذلك في كتابه الشهير «الصواعق الإلهية في الرد علي الوهابية». ولكننامع ذلك نقول: حتّي لو فرضنا اجتهاده من جهة وصحة فتواه من جهة ثانية، فإنّ ذلك لا يبرر له تطبيقها علي سائر المسلمين بتخريب مقابرهم وتهديم مزاراتهم مادام هؤلاء يعملون باجتهادهم لا بأهوائهم، ولو جاز ذلك للزم منه

الهرج والمرج، فما أكثر ما يراه مذهب فقهي معين من عمل المذاهب الاُخري باطلاً فاسداً، ولو جاز لمقلدي هذا المذهب تطبيق فكرتهم علي سائر المسلمين لما قامت للإسلام قائمة ولأصبح المسلمون من شدّة الصراع أثراً بعد عين.

الخلاصة

والخلاصة أنّ البناء علي القبور لم يثبت مانع شرعي عنه لا في الكتاب ولا في السنّة ولا في الفقه بمذاهبه المختلفة، ولا في عمل المسلمين طيلة سبعة قرون، وأنّ نصوص أئمة أهل البيت(عليهم السلام)ومذهبهم الفقهي لا يختلف في ذلك عن سائر المذاهب سوي التمييز بين قبور الأنبياء والأئمة والصالحين عن قبور سائر الناس بارتفاع الكراهة عن البناء علي القسم الأوّل، وربّما استحبابه ودخوله تحت عنوان تعظيم الشعائر، وثبوت الكراهة في البناء علي قبور سائر الناس. واتّضح أن السلفية قد شذّت عن سائر المسلمين بتحريم ذلك، والحكم بوجوب هدم ما بُني علي القبور، ثمّ إنّ الوهابية قد بلغت ذروة الشذوذ حينما طبقت هذا الرأي علي مزارات ومقابر سائر المسلمين ممّن لا يتبعونها بالتقليد، وشنّت من أجل ذلك غارات وغزوات وسلسلة من الاعتداءات علي مزارات ومقابر سائر المسلمين بحجة تطبيق فتوي السلفية فيها.

پاورقي

[1] مجموعة الرسائل والمسائل: 1/59 _ 60، ط مصر باشراف محمد رشيد رضا.

[2] زاد المعاد: 661.

[3] الكهف: 21.

[4] تفسير الرازي: 11/106 _ دار الفكر _ 1415 _ 1995 م.

[5] فتح القدير: 3/277 _ عالم الكتب.

[6] الحج: 32.

[7] مجمع البيان: 1/476، ط القاهرة، دار التقريب.

[8] البقرة: 158.

[9] الحج: 36. [

[10] المائدة: 2.

[11] الميزان: 14/409.

[12] التفسير الكبير: 4/177.

[13] التفسير الكبير: 11/128.

[14] الشوري: 23.

[15] مسند أحمد: 1/87، ط دار صادر بيروت.

[16] مسند أحمد: 1/96، 129، 145، 150.

[17] ميزان الاعتدال، الذهبي: 2/169 برقم 3322.

[18] تهذيب التهذيب، ابن حجر: 4/15 في ترجمة سفيان.

[19] تهذيب التهذيب، ابن حجر: 11/218.

[20] العبد المعتق.

[21] تهذيب التهذيب، ابن حجر: 4/115.

[22] المصدر السابق: 2/179.

[23] المصدر السابق: 1/148 برقم 106.

[24] تهذيب التهذيب: 4/362.

[25] الفقه علي المذاهب الأربعة: 1/535.

[26] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 10/380.

[27] صحيح مسلم،

كتاب الجنائز: 3/62، والسنن للترمذي: 2/208، ط المكتبة السلفية، وصحيح ابن ماجة: 1/473، كتاب الجنائز، وسنن النسائي: 4/87 _ 88، وسنن أبي داود: 3/216، باب البناء علي القبر; ومسند أحمد: 3/295 و 332، ورواه أيضاً مرسلاً عن جابر: 399.

[28] انظر: سنن ابن ماجة: 1/474، مسند أحمد: 6/299.

[29] وفاء الوفا: 2/85.

[30] وفاء الوفا: 2 /100.

[31] في القاموس: المهراس حجر منقور يتوضأ منه (المؤلف).

[32] رسائل الهدية السنّية: 21 ط المنار بمصر.

[33] كشف الإرتياب: 378 _ 384.

[34] انظر نصّ السؤال والجواب في كتاب كشف الارتياب للسيد محسن الأمين العاملي: 359 _ 360.

[35] كشف الارتياب: 383.

[36] السيرة الحلبية: 2/400. ط مصر.

[37] كشف الإرتياب في اتّباع محمد بن عبدالوهاب: 383 _ 391.

[38] اغاثة اللهفان: 1/192، ط دار الكتب العلمية.

[39] الصواعق الإلهية، تحقيق دار الهداية: 142.

[40] كشف الارتياب: 361، نقله عن تطهير الاعتقاد: 17 ط المنار.

[41] موسوعة المصادر الفقهية، جمع علي أصغر مرواريد: 8/2016.

[42] موسوعة المصادر الفقهية، جمع علي أصغر مرواريد: 6 / 1847.

[43] المصدر السابق: 1702.

[44] المصدر السابق: 1666.

[45] موسوعة المصادر الفقهية جمع علي أصغر مرواريد: 7/1653.

[46] المصدر السابق: 6/1052.

[47] موسوعة المصادر الفقهية، جمع علي أصغر مرواريد: 6/759.

[48] موسوعة المصادر الفقهية، جمع علي أصغر مرواريد: 6/759.

[49] الفقه علي المذاهب الأربعة 1/535 _ 536.

[50] شرح سنن النسائي: 286.

[51] صحيح مسلم: 4/212، كتاب الجنائز بهامش ارشاد الساري.

[52] ارشاد الساري، شرح صحيح البخاري: 2/468.

[53] كشف الإرتياب: 368 _ 370.

[54] وفاء الوفا، السمهودي: 2/84.

[55] شجر مخصوص ولذلك قيل بقيع الغرقد.

[56] وفاء الوفاء / السمهودي: 2/96.

[57] وفاء الوفاء: 2/85.

[58] المصدر السابق: 2/100.

[59] انظر كشف الارتياب: 368 _ 373.

[60] الوسائل: 3/192، أبواب الدفن، باب 31 ح 1، وهناك أحد عشر حديثاً آخر بهذا المضمون مروية عن

الإمام الصادق والإمام الكاظم والإمام علي(عليهم السلام).

[61] المصدر السابق: 210، أبواب الدفن باب 44 ح 1 وفي الباب عدّة أحاديث اُخري بهذا المضمون.

[62] المصدر السابق: 209، أبواب الدفن باب 43 ح 2.

[63] كشف الارتياب: 211، ابواب الدفن باب 44 ح 6.

[64] مرآة العقول: 22/440 _ 441، ط طهران.

[65] الاُم: 1/273، ومختصر المزني: 37، والمجموع: 5/297، والمغني لابن قدامة: 2/380 _ 381، وكفاية الأخيار: 1/104.

[66] المجموع: 5/297.

[67] الهداية: 1/94، والمبسوط: 2/62، واللباب: 135، وشرح فتح القدير: 1/472، والمجموع: 5/297، والمغني لابن قدامة: 2/380.

[68] الاُم: 1/273، ومختصر المزني: 37.

[69] أبو الهياج، حيان بن حصين الأسدي الكوفي، روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)وعمّ_ار، وكان كاتباً له، وروي عنه جرير ومنصور ابناه وأبو وائل والشعبي، وثّقه ابن حبان والعجلي، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب: 3/67.

[70] سنن الترمذي: 3/336، الحديث 1049، وصحيح مسلم: 2/666، الحديث 969، وسنن النسائي: 4/88 باختلاف يسير في الألفاظ، والخلاف: 1/706 _ 707.

[71] سنن البيهقي: 3/410.

[72] الكافي: 3/202، ح 4، التهذيب: 1/460 ح 1500.

[73] الكافي: 3/201 ح 1، التهذيب: 1/460 ح 1499.

[74] فتح العزيز: 5/224، سنن البيهقي: 3/410 _ 411.

[75] صحيح مسلم: 2/666، ح 969، سنن أبي داود: 3/215 ح 3218، سنن البيهقي: 4/3، سنن الترمذي: 3/366 ح 1049.

[76] الكافي: 3/195 ح 3، التهذيب: 1/315 ح 916، 458 / 1494، وفيهما: ويلزق القبر بالأرض.

[77] الكافي: 3/195 ح 3، التهذيب: 1/458 ح 1494.

[78] مفتاح الكرامة: 2/856.

[79] وسائل الشيعة: الباب 44 من أبواب الدفن ح 1.

[80] المصدر السابق: ح 4.

[81] المصدر السابق، ح 5.

[82] الوسائل، الباب 44، من أبواب الدفن، ح 6.

[83] المصدر السابق، الباب 43، ح 2.

[84] المصدر السابق، الباب 36 ح 3.

[85] وسائل الشيعة: الباب 37

ح 2.

[86] الوسائل، الباب 44 من أبواب الدفن.

[87] الوسائل، الباب 26، كتاب المزار، ح1، لكن رواه عن أبي عامر الكناني.

[88] جواهر الكلام: 4/334 _ 341.

[89] راجع كشف الارتياب: 13 _ 14.

[90] كشف الارتياب: 21 _ 23.

[91] كشف الارتياب: 34 _ 35.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.