بنور فاطمة اهتديت

اشارة

بنور فاطمه اهتديت
مولف: حسن، عبدالمنعم
موضوع اصلي: امامت
موضوع فرعي: شيعه شدگان
زبان: عربي
نوع مدرك: كتاب چاپي
محل نشر: لبنان، بيروت
ناشر: دار الخليج العربي
تاريخ نشر: ١٤٢٠ ق، ١٩٩٩ م
نوبت چاپ: ٢
تعداد صفحات: ٢٧٨
قطع و اندازه: وزيري
نوع جلد: گالينگور
محل در كتابخانه: ٧٢/٢/٠/٣٤
شماره اختصاصي: « ١٣٥٢ »

الاهداء

إلي بضعة المصطفي وقرة عينه... إلي التي ترعرعت في بيت الوحي وتربت في حضن أعظم الأنبياء... إلي الصديقة الطاهرة المطهرة المعصومة.. وصاحبة المواقف الفاصلة.. إلي المظلومة المقهورة المهضوم حقها.. إلي الشمعة التي أخذتني إلي حيث الهداية.. وفتحت لي آفاق نور الولاية.. سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء (ع).. وإلي حفيدها الأمل المرتجي وكاشف الدجي. العدل المنتظر المهدي الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف الإمام الثاني عشر والخاتم الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا.. راجيا القبول [ صفحه 7]

المقدمة

فجأة أحسست ببرودة تلفح وجهي وبرعدة تنتاب أوصالي في يوم حار من أيام فصل الصيف الذي يتميز به السودان، ورغم درجة الحرارة العالية في ذلك اليوم إلا أنني شعرت بأنها تدنت إلي ما دون الصفر. برهة مرت ثم شعرت بدف ء الحقيقة... وبنور ينكشف أمامي وبهالة قدسية تلفني، وإذا بالحجب التي أثقلت كاهلي قد انزاحت، ولمع برق الحقيقة أمام ناظري، وإذا بي أبدأ أول خطواتي في الاتجاه الصحيح. كانت أصعب لحظات العمر هي وقت اكتشاف عمق المأساة التي كنا نعيشها، والتي كانت نتاجا طبيعيا للجهل المركب الذي كان يغشي عقولنا... خصوصا وأن هذه المأساة كانت متمركزة في اعتقادنا وديننا. أن يجد الإنسان نفسه مخطئا في تقدير أمور حياته اليومية مثل لون الدراسة التي يجب أن يدرسها أو الوسيلة التي يجب أن يتنقل بها.. فليس في ذلك كثير أسي وتندم... لكن أن يخطئ الطريق إلي الله سبحانه وتعالي... أن يسلك طريقا غير الذي وصفه الله تعالي إلي الجنة، فهذا خطير بل جنون وتهور. ذلك ما وجدت عليه - وللأسف - السواد الأعظم من المسلمين أثناء تجربتي هذه والتي لا أدعي أنها الأولي أو الأخيرة ولا حتي المتميزة... وهذا ما توصلت إليه بعد بحثي وتنقيبي بين ثنايا تراثنا الديني وتاريخنا الإسلامي. أسجل هذه التجربة شهادة للتاريخ دون بحث عن منفعة شخصية أنالها سوي رضا الله تعالي، وحتي أساهم بمجهودي المتواضع هذا في إحقاق الحق، وحتي يسجل كحلقة جديدة من حلقات انتصار مذهب الحق " مذهب أهل البيت (ع) " ومن سلك منهجهم وتمسك بهداهم وهم " الشيعة ". [ صفحه 8] وليس المقصود من هذا البحث النيل من شخص معين أو إثارة الفتنة، أو البحث عن التفرقة بين المسلمين كما يحلو لبعض الجهلة أن يسمونها، إنما هو نقاش عقائدي القصد منه الكشف عن الحقائق ولفت الانتباه إلي الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة من مرارة الذل والهوان بعد انحرافها عن الصراط المستقيم ونبذها كتاب الله تعالي وسنة رسوله... كما إنها خطوة لتوحيد الأمة تحت راية الحق والالتفاف حول محور الدين الحقيقي الأصيل المتمثل في نهج أهل البيت (ع). وما أنا إلا عبد فقير من عباد الله انكشفت أمامه الحقائق وشعر بمرارة الخداع وذل التجهيل الذي مورس عليه باعتباره أحد أفراد الأمة الإسلامية، عشت وترعرت في بيئة سنية يتعبد أهلها بمذهب الإمام مالك - تلك غالبية أهل السودان - كانت أكبر همومي تتمثل في الزواج لكي أنجب أبناء أغذيهم بما ورثته من آبائي من تدين وأربيهم علي خلاف ما يجري في البلاد الإسلامية الآن من تكريس لسلبيات الحضارة المادية الزائفة في نفوس أبنائنا. كنت أحلم أن يكونوا أبناء من خدام شرع الله ودينه - ذلك الدين الذي درسناه في مناهجنا الدراسية - وكما ألفينا عليه آباءنا في مجتمعنا دون أن نبحث هل هو ما أمرنا الله به أم أن هنالك أنباء وهنبثة خفيت علينا. أما السودان فهو بلد تأصلت فيه الروح الدينية فامتاز بالفطرية في أخلاق شعبه وكافة جوانب الحياة فيه وبقوة الوازع الديني، بالإضافة إلي حبه الواضح لأهل البيت (ع) ويظهر ذلك في ثقافته، وسنتطرق إلي ذلك أثناء بحثنا. دخل الإسلام السودان عبر الطرق الصوفية - هذه الحقيقة التي أنكرها الوهابيون حقدا وحسدا - وأعتقد أن للدولة الفاطمية في مصر اليد الطولي في انتشار الإسلام في السودان، خصوصا وأن الطرق الصوفية تقوم أساسا علي محبة أهل بيت النبوة (ع) والولاء لهم، ولقد انعكس ذلك علي ثقافة وتدين الشعب السوداني. والذي [ صفحه 9] أصبح الآن علما يشار إليه وأملا للمسلمين باعتباره بوابة المسلمين علي إفريقيا. في هذا المجتمع عشت... وعلي طبائع أهله وخلقهم الرفيع تربيت، مسقط رأسي قرية في شرق السودان اسمها مسمار، هناك ولدت وكانت سنوات عمري الأولي في تلك القرية التي تحتضنها الصحراء المترامية الأطراف. نشأت وسط أسرة متواضعة.. انتقلت إلي هذه القرية من قرية أخري في شمال السودان وتحديدا منطقة الرباطاب التي تتألف من مجموعة من القري المتناثرة حول نهر النيل. قريتنا الأصلية تسمي " الكربة ". وقرية مسمار هي في الأساس محطة لقطار السكة الحديد الذي يأتي من العاصمة الخرطوم متوجها إلي الشرق حيث مدينة بورسودان أهم ميناء في السودان... وبالرغم من أن سكان صحراء شرق السودان أغلبهم من قبائل البجا والهدندوة إلا أن " مسمار " كانت مأهولة بالشماليين وتحديدا من الرباطاب الذين انتقلوا من منطقتهم إلي الشرق بسبب أو بآخر... ووالدي كان أحد أولئك. ترعرعت في هذه القرية وأنا صغير يحوطني أبي برعاية واهتمام وكان عندي المثل الأعلي.. لقد كان إمام المسجد وشيخ القرية.. له مكانة خاصة عند سكانها كانت تعطيني الاحساس بالأمن والسعادة خصوصا عند ما أذهب معه إلي مسجد القرية المتواضع للصلاة اليومية وصلاة الجمعة. أو صلاة العيد التي تكون عادة خارج القرية، كانت سعادتي لا تحدها حدود وأنا أري أبي يجهز نفسه للصلاة في أيام العيد.. عندما يلبس جلبابه الأبيض وعباءته (والعباءة في السودان لا يلبسها إلا وجهاء البلد). ثم يتعطر بعطره الخاص الذي غالبا ما ينالني منه نصيب ثم نخرج من المنزل وفي الخارج ينتظرنا جمع غفير من أهالي القرية فنمضي إلي حيث موقع الصلاة في موكب خاشع يرتفع فيه صوت التهليل والتكبير. وعند الوصول إلي الموقع يأخذ أبي مكانه كإمام للجماعة ويصلي بهم صلاة العيد وبعد التسليم يلتف حوله المصلون للاستماع [ صفحه 10] للخطبة وكنت أحرص أن أكون أقرب الناس إليه حتي إذا انتهت الخطبة أسرع الجميع نحوه يتسابقون للتهنئة بالعيد. ويبلغ إحساسي بالنشوة حده ربما لأنني أحظي ببعض الاهتمام وأنا ألاصق أبي في هذه اللحظات وبجواري أخي الصغير. حفرت في ذاكرتي مثل هذه اللحظات. ربما لأنني كنت أري في تقديس والدي تقديسا لشخصي... ربما ولكن ظلت صورة والدي واهتمام الناس به في ذهني دونما أن أحاول إخراجها عبر التحدث مع الآخرين. ولم أعرف سر تقديس الآخرين لوالدي إلا بعدما بدأت أفهم الحقائق شيئا فشيئا. والدي من نسل العباس عم الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ويقال لمجموعة من ينتسب إليه " عبابسة " باعتبار أن العباس عم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وكانت له عند الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) حظوة، ويروون أن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) قال " الفضل كله لي ولعمي العباس " وعند العبابسة كان والدي وإخوانه هم الخلفاء المتصدون للقضايا والأمور الدينية. إضافة إلي شئ آخر كان يتمتع به الوالد جعل له تلك المكانة في أفئدة الناس وهو ارتباطه بالطريقة الختمية التي تعتبر من الطوائف الصوفية الكبري في السودان وكان والدي من المقربين والمساعدين لمرشد هذه الطائفة في منطقتنا وهو من الأشراف الذين ينتسبون إلي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). وأبناء الشرق عموما كبقية أهل السودان من المحبين لأهل بيت النبوة. وكل من يتقرب إلي الرسول بجهة من الجهات يحترمونه ويعظمونه تعظيما للرسول الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) لذلك تجدهم كثيرا ما ينخرطون في الطرق الصوفية التي تعتمد كثيرا علي الإخلاص في المودة لأهل البيت كما يرون. اجتمعت لوالدي هذه الأشياء مع قوة شخصيته، وتدينه، والتزامه. فكنت أحس بهيبته وأنا بعد صبي ربما لا أميز جيدا لكن شخصيته وكينونته نقشت علي قلبي وتركت أثرا بالغا علي، حتي أنني كنت أقلده في كل شئ. لقد كان يعطي أوراقا [ صفحه 11] كتبت عليها أدعية وآيات قرآنية للعلاج تسمي (محاية) لشرب مائها أو التبخر بها فصرت أفعل مثله وأمسك الورقة والقلم وأكتب عليها أحرفا غير مفهومة وأعطيها لإخواني إذا اشتكي أحدهم مرضا. دخلت المدرسة وكان ترتيبي الأول دوما وطيلة بقائي في هذه القرية وكانت تكتمل فرحتي عندما أري أثر السعادة في وجه والدي فأسرع إليهما كل مرة بالبشري. وأبي يشجعني للمحافظة علي هذا المستوي دون الوصول إلي الغرور مع تحذيره الدائم من حسد الآخرين والإصابة بالعين. كنت قد بلغت التاسعة من عمري حين مرض والدي مرضا شديدا نقل علي أثره إلي مدينة بورتسودان للعلاج هناك تصحبه أمي. حينها شعرت بفراغ كبير.. لقد فقدت شيئا عظيما داخل قلبي. كما افتقده بيتنا، فوهج نوره ووجوده كان يملأ البيت كأي رب أسرة يفيض بعاطفته علي أهله وأولاده فيكسوهم بحنانه... بات إخوتي وأهل القرية جميعا، يترقبون العودة.. يعدون الليالي والأيام. وبعد فترة ترقب وانتظار... جاءنا الخبر يحمله عمي شقيق أبي.. لقد انطفأ ذلك السراج المضئ وانقلب بيتنا إلي بيت حزن يضج بالبكاء والنحيب وتوافدت جموع المعزين من أهل القرية بسرعة غريبة وتجمهروا أمام البيت. كنت مذهولا وكلما اقترب منا شخص يزداد نحيبا ويضمني وأخي الصغير إليه.. لم نبق كثيرا في مسمار بعد وفاة الوالد وانتقلنا إلي منطقتنا الأصلية " الكربة " وهنا أتممت دراستي الابتدائية، ثم انتقلنا إلي مدينة بورتسودان لظروف الدراسة والمعيشة فإخوتي بعضهم يعمل وبعضهم يدرس في المدارس فكان لا بد من الانتقال إلي مدينة تتوافر فيها مقومات هذه الأمور. بدأت في بورتسودان مرحلة جديدة من حياتي بين صخب المدينة وأجوائها التي [ صفحه 12] تختلف تماما عن القرية. درست المتوسطة والثانوية ولم يكن لي هم في هذه الفترة سوي إنهاء الدراسة الجامعية والتخرج والانطلاق في الحياة حتي أستطيع مساعدة إخوتي في إعالة الأسرة. مضت السنوات سراعا وأصبحت علي أعتاب التخرج من الثانوية. امتحنت للشهادة فأحرزت نتيجة تؤهلني لدخول جامعة القاهرة بالخرطوم التي أصبحت فيما بعد جامعة النيلين. واخترت كلية الحقوق. كان اهتمامي الاجتماعي يفوق اهتمامي الأكاديمي ووجدت نفسي في هذا الجانب حيث تعرفت علي الكثيرين واستفدت من التجارب. بعد ذلك أصبحت رئيسا للاتحاد العام للطلاب السودانيين بالولاية الشمالية وكنت سعيدا بذلك لعلي أخدم الطلاب وأقدم شيئا يكون ذخرا لي في آخرتي خصوصا وأن أغلب الناس باتوا يعيشون في غفلة والساعة تقترب ولا ندري متي يدركنا الموت حينها لن تنفعنا تقوي آبائنا إلا بمقدار ما استفدنا مما قدموه لنا من نصح وإرشاد وتربية قويمة. استقر بي المقام في العاصمة " الخرطوم " لأبدأ الدراسة الجامعية... وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيدا يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل.. كان متدينا يعيش حياة سعيدة رغم أنه لا يملك شيئا من الوسائل المادية للسعادة وربما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة. كنا نزوره باستمرار - لإعجابنا الكثير به وبخلقه وزهده - ونجلس معه ونحاوره كثير من قضايا الدين والموت والآخرة، كان ينبوعا من العلم، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحا إيمانية ودفعة معنوية مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا... كنا نعجب من تدينه الذي ينبع من إخلاص قلما تجده عند أحد خصوصا في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادية وأصبح الدين لعقا علي ألسنة الناس يحوطونه ما درت [ صفحه 13] معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.. إحساسنا ونحن نتحدث إليه أننا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في بدر وأحد وحنين... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا، كان كثير الصوم.. دائم العبادة لله تعالي.. أحيانا نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائما قانتا يدعو الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل، كلمات يناجي بها ربنا عز وجل هي بلا شك ليست لبشر عادي، لأبدأنها من قول الرسول " صلي الله عليه وآله وسلم) ولكن عجبا لم نسمع بها من قبل، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسية ولا في كتبنا الإسلامية... فنضطر إلي سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنه دعاء الصباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فنوجم مبهوتين. كثيرا ما كان يثير الحديث عن أهمية التدين والدين والبحث عن سبل النجاة قبل أن يأتي الأجل المحتوم وهذا الحديث كان يثير فينا إحساسا بالمسؤولية يؤرقنا فكنا نتحاشي فتح الحوار معه من الأساس. إلي أن جاء يوم ابتدأنا معه حوارا صريحا - بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها - حول هذا الدين الذي يتعبد به إلي الله تعالي، وأول معلومة ثبتت لدينا أنه جعفري إمامي اثنا عشري " شيعي "! وانطلقنا معه في حوارات قوية باعتبارنا متمسكين بمذهب أهل السنة والجماعة أولا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن علي آثارهم سائرون) وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجته قوية بينة مدعمة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، ولم يعتمد في طول حواره معنا علي كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به بل كان يرشدنا إلي مصادر أهل السنة والجماعة لنجد صدق ادعائه، ورغم أن حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزة داخلية إلا أننا كنا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئا... وعندما نجتمع بعيدا عنه كنا نأسف لحاله ونصفه بأنه مسكين - رغم تدينه المخلص - بدأ [ صفحه 14] أول خطواته نحو هاوية الجنون لكونه شيعي... إلي أنه أثبت لنا بعد حوار دام سنتين تقريبا بأننا كنا من المجانين الغافلين وأقام علينا الدليل والحجة بصحة ما هو عليه، فما كان منا في النهاية إلا التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق. (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (سورة النساء: آية / 65). [ صفحه 17]

لماذا هذا الكتاب

ذهبت في يوم من الأيام إلي أحد أصدقائي لزيارته فأخذنا الحديث إلي حيث الشيعة والتشيع، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع... وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شاب في مقتبل العمر... ألقي علينا تحية الإسلام ثم جلس وبدأ يستمع ونحن نواصل الحوار، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة، ثم تدخل في النقاش بقوله: - يبدو أن بعض الفرق الضالة أثرت عليك يا أخي! وأخذ يتفنن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة علي كل الطوائف الإسلامية عدا الوهابية، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابي وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلي ركبتيه من القصر... قبل أن يتم كلامه ارتفع أذان المغرب توقفنا عن النقاش حتي نصلي ثم نعود بعد الصلاة. بعد الصلاة بادرني قائلا: - من أي الفرق أنت؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة!. قلت: تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه. فما كان منه إلا أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته. قلت له - وقد تجمع بعض أقارب صديقي حولنا - إذا كان لديك إشكال تفضل بطرحه بأدب ولنجعله مناظرة مصغرة أو حوارا - وهو سلاحهم الذي يهددون به الآخرين اغترارا منهم بقوة مقدرتهم علي الاحتجاج -. وافق المغرور، فقلت له: - من أين نبدأ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين؟ فوافق أيضا وبدأ الحوار والجميع يستمع. قلت: - ما تقولون في الله خالق الكون وصفاته. قال: - نحن نقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا تجوز عبادة غيره. قلت: - وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك؟. قال: - الجميع يقول بذلك ولكن تطبيقهم خلاف قولهم إذ أنهم في الواقع [ صفحه 18] مشركون لأنهم يتوسلون بالأموات ويخضعون لغير الله ويشركون به في طلب الحاجات، والخضوع لغير الله وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالي. قلت: حسنا طالما الجميع يقول بأن الله واحد أحد فرد صمد ولا يجوز عبادة غيره بأي حال من الأحوال فهذا جيد ويخرج الجميع من دائرة الشرك، إلا إذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير الله أو يشركون بعبادته أحدا حينها يكونون مشركين. أما ما يفعلونه من أفعال مثل التوسل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك في شئ، لأن العبادة تعني الخضوع والتذلل لمن نعتقد أنه إله مستقل في فعله لا يحتاج إلي غيره، أما مجرد الخضوع والتذلل والاحترام فلا يعتبر عبادة وقد أمرنا به القرآن كالتذلل للوالدين والمؤمنين، بل إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، بناء علي ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسل بهم وتعظيمهم شركا بالله لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلون عن الله، بل هم عباد أكرمهم الله بفضله، فعطاؤهم من الله وليس لهم قدرة ذاتية مستقلة. قال: - ولماذا يسألون الله مباشرة؟ هل هناك مانع وهو القائل (أدعوني أستجب لكم)؟ (سورة غافر آية / 60). قلت: - أيضا قال تعالي (وابتغوا إليه الوسيلة) [1] ثم إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلي الدكتور؟ ألم يقل الله تعالي في كتابه (وإذا مرضت فهو يشفين) [2] أليس من أسمائه الشافي؟. قال: - هذه ضرورة في الحياة. قلت: - أيضا تلك سنة وسبب به تبتغي الحاجات.... والتفت إلي الحاضرين وقلت: - هل تجدون في كلامي هذا خطأ، فأقروا بما قلت وزاد أحدهم وكان [ صفحه 19] صوفيا: - هذه الأشياء موجودة من زمن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وسار عليها الصحابة والتابعون وكل المسلمين إلي أن جاء ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه. قال الوهابي: - إنكم تتحدثون بلا علم، والوقت ضيق الآن فلنأخذ من الموضوع شيئا نتناقش حوله وفي وقت آخر أكون مستعدا لنتحاور أكثر من ذلك. قلت: - عندي سؤال أخير حول التوحيد ماذا تقولون في صفات الله؟ قال: - نحن لا نقول إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن. قلت: - وبماذا وصف نفسه؟ هل قال بأنه جسم يتحرك أو أن له يدا وساقا وعينان؟. قال: - نحن نقول بما جاء في القرآن لقد قال تعالي: (يد الله فوق أيديهم) وكثير من الآيات الأخري التي تصف الله لنا فنقول إن لله يدا بلا كيف. قلت: - إن قولك هذا يستلزم التجسيم والله ليس بجسم وهو ليس كمخلوقاته، ثم ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها وأنتم نحتم أصناما بعقولكم وظلت في أذهانكم تعبدونا لقد جعلتم لله يدا وساقا وعينين ومساحة يتحرك فيها (ما لكم لا ترجون لله وقارا) [3] وبكلمة إن الآيات التي ذكرتها مجازية وترمز لمعان أخري. قال: - نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن. قلت: - ما رأيك في من يكون في الدنيا أعمي هل يبعث كذلك أعمي؟ قال: - لا!. قلت: - كيف وقد قال تعالي (ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة [ صفحه 20] أعمي) [4] وأنتم تقولون لا مجاز في القرآن. ثم إنه بناء علي كلامك إن يد الله ستهلك وساقه وكل شئ مما زعمتموه - والعياذ بالله - عدا وجهه ألم يقل البارئ جل وعلا (كل شئ هالك إلا وجهه) [5] و (كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [6] . قال: - هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله. قلت: - كلام الله وحدة واحدة لا تتجزأ، وإذا استدللتم به علي صحة قولكم، يحق لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول، وأنتم تستدلون علي مجئ الله مع الملائكة صفا يوم القيامة كما فهمتم من القرآن. قال: - ذلك ما قاله الله تعالي في القرآن. قلت: - المشكلة تكمن في فهمك للقرآن، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات فلا تتبع المتشابهات فتزيغ، وإلا أين كان الله حتي يأتي؟ قال: - هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها. قلت: - دعك من هذا ألا تقولون أن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء. قال: - نعم ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث. قلت: - إذا أين هو الله الآن؟!! قال: فوق السماوات. قلت: وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض. قال: بعلمه. [ صفحه 21] قلت: - إذا الذات الإلهية شئ وعلمه شئ آخر. قال: - لا أفهم ماذا تقصد! قلت إنك قلت إن الله في السماء وبعلمه يعلم بنا ونحن في الأرض، إذا الله شئ وعلمه شئ آخر. سكت متحيرا.. واصلت حديثي: - أو تدري ماذا يعني ذلك إنه يعني الشرك الذي تصفون به الآخرين، لأن الفصل بين الذات الإلهية والعلم واحد من اثنين إما أن العلم صفة حادثة فأصبح الله عالما بعد أن كان جاهلا وإما أنها صفة قديمة وهي ليست الذات كما تدعون فيعني الشرك لأنكم جعلتم مع الله قديما، أو يأخذنا قولكم هذا إلي أن الله مركب، والتركيب علامة النقص والله غني كامل سبحانه وتعالي عما يصفه الجاهلون. عندما وصلت إلي هذا الموضع من الكلام قال أحد الحاضرين: - إذا كانوا يقولون بذلك فالله ورسوله منهم براء، ثم التفت إلي قائلا: - ما تقول أنت حول هذا الموضوع ومن أين لك بذلك. بينت لهم أن ما أقوله هو كلام أهل البيت (ع) وهو كلام واضح تقبله الفطرة ولا يرفضه صاحب العقل السليم ويؤكد عليه القرآن، وأتيتهم ببعض خطب الأئمة حول التوحيد منها خطبة الإمام علي (ع) يقول: " أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكما الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده ومن قال " فيم " فقد ضمنه ومن قال " علام " فقد أخلي منه... " [ صفحه 22] ثم شرحت لهم مقصود الخطبة. قال بعض الحاضرين: والله إنه كلام بليغ سلس ومحكم. ثم اتفقت كلمتهم حول هذا الشاب المسكين أنه مخطئ في اعتقاده ويجب عليه مراجعة حساباته حتي لا يذهب إلي نار جهنم. ثم دار النقاش حول الرسالة والرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) والذي يدعون أنهم أولي الناس به وقد ثبت لي أنهم أبعد ما يكون عن نبي الرحمة (صلي الله عليه وآله وسلم) وعن معرفته فكيف يكونون أولي الناس به؟ وبالحوار انقطعت حجته وأصبح محل تهكم الآخرين، وقبل أن نختم الحوار سألني محاولا استفزازي: شيخنا ما رأيكم في الصحابة الذين نعتبرهم نحن من أولياء الله الصالحين؟ فقلت له: يا شيخ... أول الدين معرفته، وأنت لم تعرف الله فكيف تعرف أولياءه؟! وتواعدنا لمواصلة الحوار يوما آخر، وفي ذلك اليوم جاء بوجه آخر ويبدو أنه أخذ جرعة قوية من مشايخه - وابتدأ هذه المرة بالشتم والسب أمام جمع من الحاضرين، وطالبهم بعدم الجلوس معي، ولا أبالغ إذا قلت أنه ظل ما يقارب الساعتين يسب ويشتم ويصرخ ويلوح بيده مهددا ومتوعدا بقتلي جهادا في سبيل الله، ولا أدري من أين تعلم الجهاد وهو عمليا محرم عندهم خصوصا ضد الطواغيت، ولعله لم يكن ملتفتا إلي أن دم الحسين (ع) ما زال يغلي في عروق الشيعة... مع ذلك - ويعلم الله - فإنني لم أرد عليه لأنني علي بصيرة من ديني وتعلمت من سيرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كيف أنه صبر علي أذي كفار قريش، وكيف أمروا صبيانهم بملاحقته وإيذائه وطلبوا من الناس ألا يستمعوا إليه وهكذا التاريخ يعيد نفسه. لأجل ذلك عزيزي القارئ أقدم كتابي هذا إنه الحق يصرخ لنصرته، لقد رأيت في عيون الذين حضروا حواري هذا التلهف لمعرفة الحقيقة، وما زلت أراها في عيون كل الأحرار الذين يدفعون ثمن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق. وعندما يشعر الإنسان قبل ذلك بلذة الانتصار علي النفس الأمارة بالسوء ويبصر نور الحق شعلة براقة أمام ناظريه... يتمني أن يشاركه الآخرون هذا النور فيبين [ صفحه 23] لهم طريق ذلك... وهذا الكتاب ما هو إلا إثارة لدفائن العقول وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء، والأجداد وسندان سياسة التجهيل التي مارسها العلماء في حق الأبرياء مثل هذا الشاب الذي أجريت معه الحوار، إن هنالك الكثير ما يزال علي فطرته يريد الحق ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسك بما اعتقده من باطل وأصبح جزء من كيانه يدافع عنه بتعصب مانعا الحقيقة أن تتسرب إلي عقله. لقد من الله علي بالهداية بفضله وأدخلني برحمته إلي حيث نور الحق، وشكرا لهذه النعمة يجب علي أن أبلغ للناس ما توصلت إليه. لذلك أسطر هذه المباحث وأكتب هذا الكتاب إنه شعلة حق أخذتها من فاطمة الزهراء (ع) وأقدمها لكل طالب حق، ولكل باحث عن الحقيقة. ومن الأشياء التي ملأتني حماسا أكثر للكتابة ما أراه وأسمع به يوميا من هجوم شرس يشنه أعداء الإسلام علي الأمة، ومحاولاتهم المستمرة لتشويه صورة الدين الإسلامي النقية البيضاء التي أنزلت من قبل الله تعالي للبشرية وذلك بإثارة الفتن بين الطوائف الإسلامية ودعم الطفيليات الشيطانية التي غرست في جسد الأمة علي حين غفلة، فكانت وبالا عليها. وستري عزيزي القارئ ذلك واضحا إذا تعرفت علي سر الافتراءات التي يرو جونها ضد أنصار الحق (الشيعة). وحتي تضيع هوية المسلمين كما يريد أعداؤهم كان لا بد من وجود بعض أدعياء الدين في أوساطنا، يتحدثون به وهم أبعد الناس عنه، ويحملون المعاول لهدم الأمة من الداخل ومن أبرز هؤلاء ما يسمون بالوهابية " قرن الشيطان الذي خرج من نجد كما تقول الأحاديث الشريفة " بثقافتهم التي تقوم علي تكفير الجميع إلا أذيالهم، والمتتبع لسياستهم في تعاطيها مع واقع الأمة يدرك أنها ما كانت إلا لضرب الإسلام وتجريده من روحه وخصوصياته، لقد رأيناهم في السودان وهم يحرمون العمل السياسي في فترة زمنية معينة، ويلخصون كل شريعة السماء في حدود لا تتجاوز إطالة [ صفحه 24] اللحية واللبس القصير... وما أشبه، مع وضع كل أعمال المسلمين في قائمة الشرك كان هذا هو مشروعهم الحضاري للأمة... ولكن عندما رفعت الشعارات الإسلامية كمنهج للحكم، وأصبحت هنالك جماعة إسلامية تتبني العمل السياسي كضرورة دينية ملحة التفتنا، فإذا بنا نري المنابر السياسية المعارضة تنصب في مساجد الوهابية بالسودان والعمل الذي كان حراما أصبح واجبا، بينما كنا في فترة سابقة نري حانات الخمر أكثر من أفران الخبز دون أن تحرك الوهابية ساكنا، ولكن قوي الاستكبار تعرف كيف تحرك خيوطها التي جعلتها متشابكة داخل الأمة. ونراهم اليوم تركوا كل شئ وصاروا يلفقون التهم والافتراءات علي شيعة أهل البيت (ع) ويسخرون كل إمكانياتهم ضد الشيعة.... يكذبون عليهم... يؤولون كلامهم يخفون حقيقتهم، ولا أدري أين هم من القرآن الحكيم الذي نراهم يلقلقون به دائما وهم أبعد الناس عنه لأنهم لم يتدبروا آياته. كما لم يسعوا إلي إنزال الفكر القرآني إلي أرض الواقع فها هو القرآن يصدح (ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). ويقول تعالي (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).. فأين هم من هذا الأدب الرفيع، ولا نجد لهم هما وهم يمارسون الدعوة سوي التكفير والتشهير والكذب والافتراء، والحديث حول الوهابية يطول ولنا معهم وقفة في مجال آخر إن شاء الله. لهذه الأسباب وغيرها ارتأيت أن أكتب هذا الكتاب لأساهم في دفع الشبهات التي علقت في أذهان البعض ضد التشيع باعتباره الإسلام الصافي الذي به فقط تكون النجاة أمام الله سبحانه وتعالي، وهو بحث للجميع لم أبحث فيه عن التكلف وتركيب المصطلحات التي يصعب علي فئة من الناس فهمها وليس القصد منه استعراض العضلات بقدر ما هو مشعل نور لمن أراد الاستبصار والوصول إلي الحقيقة وإخراج العقل من سجن الأوهام إلي حيث حلاوة الإيمان ولذته. [ صفحه 27]

البحث في التاريخ ضرورة

البحث في التاريخ ضرورة

اشاره

ونحن ندخل في خضم هذا البحث لا بد من سبر أغوار التاريخ والتعرف علي مجريات الحوادث فيه... لكن هنالك بعض الفئات التي تعتقد أنها بلغت مرحلة من التقوي والورع تثير شبهة تبلورها في شكل أسئلة تبرر التقاعس في البحث عن الحقيقة! وهي... لماذا نبحث في شئ مضي وما هي الفائدة من إثارة مواضيع من زمان غابر؟ وأين هي الخلافة التي اختلف فيها علي (ع) مع أبي بكر؟! وأسئلة أخري تصب في هذا الاتجاه توحي بأحد أمرين إما انحراف فكري عند صاحبها، أو غبار وجهل يلفه.. وحتي تنقشع حجب الشبهات عن البعض سأتحدث في محورين: الأول التاريخ في القرآن، والثاني تأثير التاريخ علي حاضرنا ومستقبلنا كأمة إسلامية الواجب عليها بناء حضارة تقارع الحضارة المادية المهيمنة ثم أعقب بنماذج من انحرافات الأمم السابقة في القرآن الحكيم.

التاريخ في القرآن

المتأمل في القرآن الحكيم يجد أنه كثيرا ما يتحدث عن قصص الماضين... وبلا شك هذا ليس لغوا زائدا ولا هو كما يدعي البعض لتسلية النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فقط، بل هو بيان لثبات السنن الإلهية فيما يخص الصراع بين الحق والباطل، ولو كانت هذه القصص خاصة بالرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فقط لما كان منها فائدة تذكر بعد انتقاله إلي الرفيق الأعلي. والله تعالي يقول (نحن نقص عليك أحسن القصص) [7] ويقول (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكرا) [8] ويقول (فاقصص [ صفحه 28] القصص لعلهم يتفكرون) [9] ويقول عز وجل (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) [10] .... وغيرها من الآيات الواضحة التي تلفت انتباهنا للتفكر والتدبر في التاريخ، وهذه النتيجة لا تحتاج إلي تفكر بل هي من البديهيات المسلمة ولكن البعض يرفضها بحجة أنها إثارة للفتن وكأنما القرآن هو المثير للفتنة (أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها) [11] . وإنني علي يقين بأنه لو كان هنالك كتاب منزل من السماء بعد القرآن لقص علينا ما جري بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) علي أهل بيته من ظلم واضطهاد وتنحية عن مراتبهم التي رتبهم فيها الله عز وجل، ولكن شاء الله بحكمته وإرادته أن يكون محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء والمرسلين والقرآن هو الدستور الحاكم إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبما أن الأمة تفرقت شيعا وطوائف وجب البحث في قضايا التاريخ عن جذر هذه الانحرافات الموجودة في الأمة، وفي نهاية هذا الفصل سنذكر أمثلة من الانحرافات التي حدثت في الأمم السابقة والتي يمكن أن نجد لها مصداقا في واقع الأمة الإسلامية.

التاريخ ضرورة للحاضر

تفصل بيننا وبين النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حقبة زمنية طويلة نحتاج فيها للتاريخ شئنا أم أبينا فهو ضروري لفهم شريعة السماء، وكل ما نتعبد به وصل إلينا عبر التاريخ، القرآن والسنة والحديث والسيرة والفقه وغيرها فكيف يتسني لنا طي هذه المسافة الزمنية التي تجاوزت الأربعة عشرة قرنا إذا لم نبحث التاريخ... بلا شك إن العقلاء لا يقرون إهمال التاريخ وطيه وإغفال العبر والدروس التي يمكن استخلاصها منه. [ صفحه 29] ونحن أمة تهئ نفسها للانطلاق فلا بد لنا من النظر إلي التاريخ بعقل مستبصر ببصائر الوحي... لا نقبله بعلاته علي أساس أنه مقدس فنقدسه بأجمعه تقديسا أعمي ولا نرفضه كليا، لأن تقديس التاريخ يقودنا إلي تكريس سلبيات السابقين لأننا نقدسهم فنتأسي بهم كما فعلت السلفية وهي نظرية لكنها في الواقع تصبح منهجا للعمل ينعكس علي سلوكنا. كيف يمكننا أن نقدس معاوية مع تقديسنا لعلي (ع) وهل يعقل أن نجعل الحسين بن علي ويزيد بن معاوية في كفة واحدة؟ إن التقديس الأعمي للتاريخ يجعلنا لا نفرق بين الظالم والمظلوم، بين القاتل والمقتول ولا بين الطاغية والمجاهد. وبما أننا عرضة للخطأ ونحن نسعي لحمل أمانة السماء يجب علينا أن نتلافي المزالق التي وقع فيها السالفون، ولا يمكن لنا أن نتلافاها إلا بتشخيصها وهذا يتطلب وضعها تحت مجهر البحث والتنقيب... ولأن تقديسنا ليزيد يعني إعطاءنا الشرعية له وبالتالي لكل طاغية في كل زمان، لا بد لنا من رفض يزيد ليس لأنه ابن معاوية إنما لانحرافه عن الجادة فوجب علينا أن نفترق عنه وننزع قناع العظمة الذي ألبسه له من قدسه. كما لا يمكننا إلغاء كل التاريخ أو الانتقاء منه بأهوائنا وشهواتنا ورغباتنا لأننا بإلغائه نلغي سنن القرآن والسنة بل كل الإسلام. إذا عزيزي القارئ يجب علينا أن نتبصر أحداث ونقف علي المنعطفات التي مرت عليها الأمة وأن نحدد من يصلح لنا قدوة من غيره حتي نستفيد لحاضرنا فنتقدم لمستقبل مشرق، وبلا شك أمة لا تفرق بين علي (ع) ومعاوية ولا بين الحسين (ع) ويزيد أمة لن تتقدم بل هذا أحد أهم الأسباب لتخلفنا الراهن. وفيما أنا بصدده لا استغناء عن التاريخ الذي له المدخلية الأولي في فهم الانحراف الذي حدث في الأمة فتنكبت الطريق وبعدت عن الصواب... أما أولئك [ صفحه 30] الذين ينادون بعدم البحث في التاريخ بحجة إثارة الفتن وعدم جدوائية ذلك يخافون من انكشاف الواقع وفضح مأسي الأمة التي اختارتها بكامل إرادتها وهي تبتعد عن نهج الحق. ولا يهمنا ونحن نبحث عن الحقيقة في صفحات التاريخ أن تتساقط الشخصيات ويتعري البعض من هالته القدسية المصطنعة حوله، لأنه لا ترجيح للشخصيات في ميزان الحق إلا لمن أخلص له والتزم به وحجتي إن شاء الله مما حفظه لنا التاريخ.

نماذج من انحرافات الأمم السابقة في القرآن الحكيم

اشاره

ذكر القرآن الكريم مرارا وتكرارا قصص الأنبياء والرسل السابقين لعلم الله تعالي بما سيجري في هذه الأمة كما جري في الأمم السالفة وأكد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ذلك بحديثه الصحيح " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتي لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصاري؟ قال: فمن! ". وعندما تتجول عزيزي القارئ في ربوع الآيات الكريمة وهي تقص عليك قصص السالفين ستجدها تتحدث في إطارين رئيسيين: الاطار الأول: - تثبيت أن سنة الصراع بين الحق والباطل مستمرة ما دامت السماوات والأرض. ومما لا يخفي علي الجميع خصوصا أولئك الذين استناروا ببصائر الوحي من القرآن الحكيم أن هنالك حقا وباطلا فلا يوجد حق نسبي ولا باطل نسبي.. إما حق أو باطل وما بينهما مساحة للباطل (فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون) [12] خصوصا وأن الصراعات التي تدور تكون بعد تبيين الحق، وكما سنري فإن القرآن بدقته وبلاغته يبين لنا هذه الحقائق. وإليك بعض الآيات الواردة في [ صفحه 31] هذا الشأن: (تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسي بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) [13] . تتحدث الآية الكريمة عن عدة أمور:

عن الرسل والرسالات عموما

إن كلمة رسول ورسل عندما تأتي في سياق الآيات المباركة غالبا ما يدور حديثها حول أمر يرتبط بالرسالة، والاقتتال الذي يحدث بعد الرسل بين قومهم إنما هو انقلاب علي الرسالة، وظلال كلمة الرسول في مثل هذه الآية توحي بأن ظاهر الاختلاف ليس حول شخص الرسول إنما في رسالته يقول تعالي (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم) [14] وبما أن رسولنا الأكرم (صلي الله عليه وآله) يدخل ضمن دائرة الرسل فإن الآية التي يدور الحديث حولها تشمل سيدنا محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم). خاصة وأن الآية السابقة تؤكد علي صفة الرسالية وأنه (صلي الله عليه وآله وسلم) مرسل كما كان غيره مرسلين (وإنك لمن المرسلين) [15] ويقول تعالي حاكيا عن لسان حبيبه محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) (قل ما كنت بدعا من الرسل [16] وبتقريب أكثر فإن السنن التي كانت في السابقين لن تتوقف عند أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم). [ صفحه 32]

وعن التفضيل بين الرسل

حتي لا يدعي مدع بأن الأفضلية لها دور في حماية الناس من الاختلاف بعد أفضل الأنبياء والمرسلين، وكثيرا ما أسمع من البعض أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء وأفضلهم فكيف تختلف أمته من بعده؟. أقول: صحيح أن نبينا الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) هو أفضل الأنبياء وأكملهم ولكن ذلك لا يجعل أمته خارج دائرة السنن الإلهية وهذا ما أكد عليه القرآن يقول تعالي (سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) [17] ويقول (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) [18] . إن حدوث الاختلاف من بعده لا يقدح في أفضليته، إنه كغيره من الرسل الذين جاؤوا لأقوامهم حتي يخرجوهم من الظلمات إلي النور ولكن كل قوم كذبوا رسولهم وانقلبوا علي رسالته من بعده وهو (صلي الله عليه وآله وسلم) ليس بدعا من الرسل كما أوضحنا بل إن نبينا (صلي الله عليه وآله وسلم)، أوذي أكثر من غيره كما جاء عنه (صلي الله عليه وآله وسلم)، فلماذا لا يكون الاختلاف من بعده أكبر وأخطر من الاختلاف الذي كان في أقوام الرسل السابقين. يقول ابن كثير (وقال هاهنا تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض منهم من كلم الله) يعني موسي (ع) ومحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) [19] وبناء علي قوله هذا يكون الاختلاف بعد الرسل يشمل أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم). من خلال الآية الكريمة نري أن الاختلاف دائما ما يكون بعد أن تأتيهم البينات [ صفحه 33] ويعرفوا الحق ويتبينوا الأمر بواسطة الرسول، ومعني ذلك أنه لا يجدي التمسك بشماعة التبرير المعروفة باسم " الاجتهاد ". والواقع العملي في أمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) يرينا أن الاختلاف وقع فيها كالأمم السابقة وبعد أن بين لهم الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) معالم الصراط المستقيم ونصحهم وهو القائل " ما من شئ يقربكم إلي الجنة ويبعدكم عن النار إلا وأمرتكم به ". يقول سيد قطب في تفسير الآية (ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ووحدة الرسالة التي جاؤوا بها كلهم لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف أتباع الرسل حتي ليقتتلون من خلاف) [20] .

و ان نتيجة هذا الاختلاف

أن فريقا تمسك بالحق فآمن وآخر حاد عنه فكفر، وذلك يعني أنهم ليسوا في مرتبة واحدة أو أنهم جميعا علي الحق. لكن لماذا يكون الاختلاف بعد البينات؟ هذا ما تكفلت بالإجابة عليه مجموعة من الآيات التي تكررت في القرآن الكريم ليؤكد الله سبحانه وتعالي استمرار السنن في الأرض ويبين طبيعة الإنسان الظلمانية التي تنجذب دائما لرغباته وأهوائه وجهله.. يقول تعالي: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) [21] ، (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) [22] ، (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) [23] ، (وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) [24] . نجد أن الآيات القرآنية تربط دائما بين الاختلاف والبغي، و (معناه) في اللغة [ صفحه 34] كما جاء في لسان العرب لابن منظور: التعدي، وبغي الرجل علينا بغيا: عدل عن الحق واستطال ومعان أخري تدل علي سوء النية وهي كما لا يخفي مغايرة لمعني الاجتهاد الذي أصبح صكا يعصم كل المنحرفين عن المسألة والمحاسبة

كما نجد في هذه الآيات

أن الاختلاف يكون بين الذين أوتوا الكتاب أي أنهم عالمون بالحق ويدركون جهته ولكنه البغي فتأمل أيها المؤمن وتدبر، تلك آيات الله (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) [25] . الاطار الثاني: كثيرا ما يضع الفرد منا مباني يبني عليها طريقة تفكيره وتقييمه للأحداث وفي الغالب يكون نقاشنا لأي قضية من زاوية عاطفية أو بمنطق موروث مقدس لا يعطي للآخرين فرصة للحوار والنقاش، ومثال ذلك الحديث الذي يدور حول الصحابة الذين عاشوا مع الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وبقوا حتي وفاته وامتدت أعمار بعضهم إلي أمد طويل هل يمكن وضعهم في ميزان العدالة لتصنيفهم أم أنه لا يجوز لنا ذلك باعتبارهم عاشوا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأخذوا منه الدين ولا يمكن نقدهم؟! لا أريد مناقشة نظرية عدالة الصحابة عند أهل السنة والجماعة الآن إنما ذلك متروك للأبواب الآتية التي سنناقش فيها ما حدث منهم بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أما الآن فنحن بصدد أخذ بصائر من القرآن الكريم تفيدنا في بحثنا هذا ونستدل بقصتين تفصيليتين من الأمم السابقة ذكرتا في القرآن ثم نحاول أن نتدبر فيهما لنخرج بقاعدة كلية تعيننا في مسيرتنا هذه. [ صفحه 35]

بلعم بن باعوراء مع نبيه موسي

يقول تعالي (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها لكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) [26] . يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات " هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء كان يعلم الاسم الأكبر وآتاه الله آياته وهو من العلماء من أتباع موسي (ع) بعثه إلي ملك مدين يدعوه إلي الله فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسي (ع)! " ويواصل ابن كثير في سرد قصته ويقول: " إن بني عمه أتوا إلي بلعم وقالوا له إن موسي رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد موسي ومن معه قال إن دعوت الله أن يرد موسي ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتي دعا عليهم " موسي وأتباعه " فسلخه الله مما كان عليه " وفي قوله تعالي (لو شئنا لرفعناه بها) يقول ابن كثير " أي لرفعناه من الدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي أتيناه إياها (ولكنه أخلد إلي الأرض) أي مال إلي زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل علي لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من (أولي البصائر والنهي " [27] . يظهر جليا من خلال الآيات وكلام ابن كثير حولها أن بلعم هذا بلغ درجة من الإيمان والتقوي والورع حتي أعطي آيات الله والاسم الأعظم وذلك يعني أنه عالم كبير وكان من أتباع موسي (ع) ولكنه مال إلي أهوائه وشهواته واغتر بالدنيا فأضحي كالكلب. هذه القصة ذات الأسلوب البليغ في السرد تعطينا بصيرة مهمة جدا نستطيع من [ صفحه 36] خلالها أن نبدأ التوغل في عمق التاريخ بلا وجل، فها هو القرآن ينسف قاعدة العدالة المطلقة والقدسية لغير المعصوم، وهذه الآيات دلالتها واضحة علي أن الإنسان مهما بلغ في العلم والتقوي بإمكانه في أي لحظة أن يخلد للأرض ويكفر بنعم الله تعالي وهذه نقطة مهمة إذ كثيرا ما تثار قضية عدالة الصحابة وأنهم لا يمكن أن يخونوا أمانات الله والرسول! وإذا سألتهم ما الدليل؟ قالوا: عاشوا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وجاهدوا معه، ولكن القرآن الحكيم الذي فيه نبأ من كان قبلنا وفصل الذي بيننا وخبر ما بعدنا بين هذا الأمر، حتي ولو فرضنا محالا أن جميع الصحابة بلغوا مرحلة من التقوي والورع فإنه يبقي هنالك إمكان بعدم التزامهم بالحق حتي آخر نفس في حياتهم... والحال أننا لم نسمع بأن أحدهم كان يملك الاسم الأعظم!!. يبقي الأصل القرآني " إن جميع الخلق ما عدا المعصومين معرضون للزلزلة والابتلاء ومن ثم النجاح أو الفشل فيه فالانتقال من جهة الحق إلي الباطل حتي ولو بلغوا أعلي درجة من التقوي والمقياس الحقيقي هو الاستقامة في طريق الحق والالتزام به كاملا ". بعد هذا لا أظن أن أحدا يحتاج أن يمد عنقه قائلا بعدم إمكان تخلي بعض الصحابة عن الحق في أي لحظة من دون أن ينكر حقيقة وقاعدة قرآنية، ولكن بالإمكان السؤال عن مصداق ذلك في أمة نبينا محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) والتفصيل متروك لمحله. يقول محمد علي الصابوني في تفسير آخر هذه الآية (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) أي أقصص علي أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون) [28] فهلا تدبرنا واتعظنا. [ صفحه 37]

السامري و هارون مع بني إسرائيل

قال الله تعالي (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتي يرجع إلينا موسي، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري، قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) (طه / 83 - 97). قبل أن نبدأ في شرح قصة السامري الذي انقلب علي خليفة موسي " هارون (ع) " هنالك ملاحظة هامة نلحظها في القرآن الكريم وهي (التركيز علي قصص بني إسرائيل) تري لماذا هذا التركيز؟ لا بد من وجود حكمة تقتضي ذلك. في الواقع هناك شبه كبير بين بني إسرائيل وأمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولعل أبرز نقاط التشابه كما سيتضح من خلال الأحداث التاريخية ما جري لموسي وهارون (ع) من بني إسرائيل وما جري لمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وعلي (ع) من هذه الأمة وقول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي " له مغزي ودلالات عظيمة، وما أورده ابن قتيبة في تاريخه الإمامة والسياسة يبين لنا جانبا من التشابه بين الأمتين... يقول في معرض قصة طلب عمر من علي (ع) البيعة لأبي بكر " بقي عمر ومعه قوم أمام بيت فاطمة (ع) فأخرجوا عليا فمضوا به إلي أبي بكر فقالوا له: بايع فقال: إن لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله... إلي أن قال ابن قتيبة: فلحق علي بقبر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصيح ويبكي وينادي: يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا أن يقتلوني [29] وهذا ما قاله هارون [ صفحه 38] لموسي (ع). أما السامري كما ورد في التفاسير ومجمل الكتب التي أوردت قصص الأنبياء فإنه ربيب جبرائيل تعهده منذ الصغر حينما كان فرعون يقتل كل ذكر يولد في بني إسرائيل، ويوم نزل جبرائيل (ع) حتي يأخذ موسي إلي الميقات أخذ السامري قبضة من أثره وألقي به في جسد العجل المصنوع من الحلي فأصبح له خوار. وما يهمنا من القصة أن السامري كان من أصحاب موسي (ع) وكما هو واضح بلغ مرتبة عظمي حتي قال (بصرت بما لم يبصروا به) وكان له من العلم ما لم يكن لغيره وحظي بمشاهدة جبرئيل واستطاع بكل ذلك أن يضل بني إسرائيل الذين اتبعوه باعتبار أنه ذو مكانة... فسولت له نفسه الأمارة بالسوء فكان عمله الباطل الذي أضل به القوم... السؤال الآن، هل يمكن أن نجد في تاريخ الأمة الإسلامية وواقعها بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) مصداقا لمثل هذا الانحراف؟ مع علمنا التام بأنه لا يوجد أحد من صحابة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يحلم برؤية جبرئيل علي حقيقته ومعرفته وامتلاك بعض الأسرار الإلهية المكنونة في أثره... صحيح أن جبرئيل كان يأتي للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في صورة رجل يسأله عن أمور الدين ولكن ما كان الصحابة يعرفونه إلا بعد مغادرته وبيان الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فأين كان السامري وأين هم الصحابة؟. وعند البحث في جذور انحراف الأمة بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ستري مدي تطابق الأحداث التاريخية مع القصص القرآنية خصوصا قصة بني إسرائيل. وفي ختام هذا الفصل (أعرض عليك عزيزي القارئ سببين رئيسيين يذكرهما القرآن لأنهما يمنعان الإنسان من الاهتداء إلي الحق، أو الالتزام به بعد معرفته، وهذان السببان يعترضان أي إنسان في أي مكان وأي زمان. [ صفحه 39] أولا: تقديس ما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا وهي مشكلة كبيرة ذمها القرآن باعتبارها عائقا وحائط صد منيع يجب تجاوزه خصوصا في مسألة الاعتقاد والتي نسأل عنها باعتبارها تكليفا عينيا بعيدا عن الانتماءات الأسرية والاجتماعية وغيرها... يقول تعالي: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) [30] . (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون، قل أولو جئتكم بأهدي مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) [31] . (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلي عذاب السعير) [32] . وغيرها من الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع. ثانيا: الاستكبار بعد معرفة الصواب وهذه المشكلة كانت السبب الرئيسي في عدم اتباع الأمم لرسلهم وهي التي أخرجت إبليس من رحمة الله تعالي... يقول تعالي: - (ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلي عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) [33] . [ صفحه 40] (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) [34] . (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [35] . (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتي يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين) [36] . هذه بعض العوائق التي تقف حائلا بيننا وبين معرفة الحق واتباعه... والبحث الآتي بين طيات هذا الكتاب يحتاج لإزاحة مثل هذه الحجب وغيرها حتي يري الإنسان الحقيقة كرؤيته للشمس في واضحة النهار والله المستعان. [ صفحه 43]

الشيعة و التشيع

الشيعة و التشيع

مجرد كلمة شيعي تعني لدي الكثير من الناس السب والشتم والضلال... هكذا علموهم... وهكذا فرضوا عليهم سياجا من الجهل، يقولون لا تبحث عنهم... لا تقرأ لهم. وعدنا إلي عهد معاوية حيث سب علي (ع) علي المنابر سنة، وتزداد المكافأة الملكية كلما أمعنت في لعن أبي الحسن وأهل بيته (ع)... كلا نحن لم نعد ولكن الصراع الأيديولوجي هو الذي امتد إلي يومنا هذا، ما زال علي يسب، فقط تغير العنوان فأصبح الشيعة.. أما عوام الناس فدورهم فقط تلقي الأوامر " من أحبارهم "، وهم تحت مظلة السنة والجماعة وهل هنالك من يرفض أن يكون مع السنة والجماعة... ولكن أي سنة هي وأي جماعة؟ هل هي سنة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) أم أنها سنة من غير وبدل سنة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ وحتي لانتوه نتوقف قليلا لمعرفة هذه العناوين والمسميات، ماذا تعني الشيعة ومن هم... وما هي السنة والجماعة وذلك في لمحة موجزة.. 1 - التشيع لغة هو المشايعة أي المتابعة والمناصرة والموالاة [37] في القرآن الكريم: (وإن من شيعته لإبراهيم). واصطلاحا يراد بهم أتباع وأنصار آل البيت (ع) وهم الذين ناصروهم في كل محنهم وسلكوا مسلكهم ووالوهم، يقول ابن خلدون " اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف علي أتباع علي وبنيه " [38] . تضاربت الآراء والأقوال لدي البعض حول بداية التشيع فهنالك من يري أن الشيعة تكونوا بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وممن يذهب إلي هذا ابن [ صفحه 44] خلدون في تاريخه فقد قال: إن الشيعة ظهرت لما توفي الرسول وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش ولما كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعلي ويرون استحقاقه علي غيره ولما عدل به إلي سواه تأففوا من ذلك... الخ [39] ومنهم أيضا اليعقوبي في تاريخه وهو يقول ويعد جماعة المتخلفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الأولي للتشيع ومن أشهرهم سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبد المطلب [40] . وهناك من يري أن التشيع نشأ أيام الخليفة الثالث عثمان ومنهم من يقول أنه تكون أيام خلافة علي (ع) ورأي آخر يقول بظهور التشيع بعد واقعة الطف. كل هذه الأقوال لا تثبت أمام التحقيق في كتب التاريخ والحديث والتفسير، وربما يكون أقربها إلي الصواب الرأي القائل بأن التشيع بدأ بوفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ولكن يواجه هذا الرأي بسؤال وهو كيف يمكن أن تتبلور هذه الفكرة في ظرف أقل من أسبوع؟ إلا إذا كانت موجودة بالفعل ولكن الأحداث هي التي جعلتها تأخذ مكانها في الواقع الخارجي. أما الشيعة وغيرهم من المحققين من المذاهب الأخري فإنهم يذهبون إلي أن التشيع ولد حينما ولدت الرسالة علي عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وإنه هو الذي غرسه في النفوس عن طريق الأحاديث التي وردت علي لسانه (صلي الله عليه وآله وسلم) وكشفت عما لعلي (ع) من مكانة في مواقع متعددة رواها إضافة إلي الشيعة ثقاة أهل السنة، ولقد وردت كلمة شيعة علي لسان الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وإليك نماذج من النصوص التي وردت: 1 - في الدر المنثور للسيوطي ج 8 ص 589. [ صفحه 45] روي عن ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فأقبل علي (ع) فقال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة " فنزل قوله تعالي (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية). 2 - ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الأول الآية الحادية عشر: - عن ابن عباس قال: - لما أنزل الله العالي (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي (ع) " هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضابا مقمحين ". 3 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج 2 ص 61. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ". ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير قوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)... الخ الآية: أ - تفسير الطبري ج 3 / 146. ب - روح المعاني للآلوسي ج 3. ج - كفاية الكنجي الشافعي ص 244 - 246. وغيرها من المصادر. والشواهد التاريخية كثيرة علي ذلك، فكل الحوادث التي شارك فيها علي (ع) أو الحسن والحسين (ع) تصف أصحابهم بأنهم من شيعتهم. والشيعة الآن هم الذين يوالون أهل البيت (ع) ويأخذون منهم معالم دينهم أصولا وفروعا باعتبار أنهم حملة السنة، والامتداد الطبيعي لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وبذلك يكونون هم الذين اتبعوا سنة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) [ صفحه 46] والتزموا بتمسكهم بأئمة أهل البيت (ع) كما أمرهم (صلي الله عليه وآله وسلم)، والخلاف بينهم وبين أهل السنة ليس خلافا حول المسميات إنما القضية تختص بمنهج كل منهما وأيهما يمثل رسالة السماء. أما بالنسبة لأهل السنة والجماعة فالسنة في اللغة تعني الطريقة والمنهاج. واصطلاحا تعني كل ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير ويسمي السنة مذهبهم " أهل السنة والجماعة " ويقصدون بذلك أنهم أصحاب الطريقة المحمودة ولم يعرف هذا الاسم إلا مؤخرا حيث كان يعبر عن منهج أصحاب السقيفة في مقابل المناوئين لهم وهم علي وشيعته. وظلال اسم أهل السنة والجماعة توحي بأن الشيعة هم المخالفون للسنة الشريفة ولكن سنري من الذي اتبع سنة المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) حقا ومن الذي حرف وبدل وغير.

التشيع و الفرس

رغم أن التشيع هو عمق الإسلام وجوهره إلا أننا نجد بعض المأجورين يحاولون ربط التشيع بالفرس علي نحو يحمل في طياته أنه شئ طارئ في الجسد الإسلامي اختلط بثقافة أهل فارس قبل الإسلام... وفات هؤلاء أن التشيع كان قبل أن يدخل الإسلام إلي فارس كما سبق وأن بينا أن ولادة التشيع كانت مع بزوغ فجر الرسالة المحمدية، ودخل إلي بلاد فارس من العراق ولبنان وغيرها من الدول العربية. ووجد فيها رجالا حملوا الأمانة كما كان سلمان الفارسي (رض). وحتي تعم الفائدة نذكر لإخواننا السنة.. أن أغلب علمائهم من فارس ومنهم البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والرازي والقاضي البيضاوي وغيرهم من فطاحل أهل السنة والجماعة. والآن الكل يدعي تمسكه بسنة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والفيصل هو أن نضع كلا الطائفتين في الميزان ونري. [ صفحه 47]

ظلال التشيع في السودان

بعد أن انتبهت من الغفلة وبدأ نور الحقيقة يكشف عن الواقع التفت إلي مجتمعي في السودان الذي يتميز بالبساطة والفطرية والأخلاق الدينية، فوجدت أن هنالك أشياء أخري بدأت تظهر لي بعد استبصاري وهو أن الخلفية الثقافية التي بني عليها الشعب السوداني نمط سلوكه وطريقة تفكيره خلفية شيعية بلا أدني شك، لاحظت ذلك في كل مفردة من مفردات الحياة العامة في الشارع السوداني بل إن معظم معتقداتهم تهتف بأن للتشيع جذورا عميقة في السودان وأذكر أن أحد الإخوة قال لي: - إن الصوفية ثمرة التشيع أو هم فرعان لأصل واحد بل الصوفية هم الشيعة في ثوب سني فقلت له: إذا السودان بلد شيعي انحرف به التيار. وباطلاعي علي التاريخ وجدت إشارات تبين هذه الحقيقة، وأعتقد أن الدولة الفاطمية التي قامت في مصر لها الأثر في ذلك، إذ أن حوض النيل الذي يربط بين مصر والسودان كان من العوامل المساعدة لانتقال التشيع إلي السودان في عهد الدولة الفاطمية وهي دولة شيعية.. وحب أهل البيت (ع) وما يرتبط بهم من عقائد بصورة مجملة من الثوابت الفكرية المشتركة بين مصر والسودان ومقامات أهل البيت (ع) في مصر وتسيير القوافل من السودان لزيارتها شاهد علي ذلك حتي قال أحد المشايخ في السودان ويدعي محمود البرعي وله قصائد كثيرة في مدح أهل البيت (ع) في إحدي قصائده " مصر المؤمنة بأهل الله " ويقصد أنها مؤمنة بأهل البيت (ع). ولا أحد ينكر عمق المحبة لأهل البيت (ع) في مصر والسودان، وأنا لا أستطيع أن أحصر كل تلك المظاهر ذات الجذور الشيعية ولكن ما وجدناه من آثار يدل علي أن الشيعة انتقلوا إلي السودان يوما ما وكرسوا في نفوس الأجيال محبة أهل البيت (ع) دون أن يعلنوا عن عمق معتقدهم وربما يكون ذلك تخوفا بعد أن تذوق الشيعة الأمرين علي طول التاريخ. [ صفحه 48] ومما نستظهره من كتب التاريخ أن اعتماد الدولة الفاطمية في جيشها كان علي السودانيين وكان الحرس الخاص لخلفائها منهم، يقول ابن الأثير في تاريخه وهو يصف ما فعله صلاح الدين الأيوبي في أعوان الفاطميين إن مؤتمن الخلافة - كان من السودانيين - حاول أن يقضي علي صلاح الدين الأيوبي قبل أن يسيطر تماما علي البلاد ويهلك الحرث والنسل فعلم صلاح الدين بما دبر له فتربص بمؤتمن الخلافة واسمه جوهر حتي قتله ثم يقول ابن الأثير فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة، فحشدوا وجمعوا فزادت عدتهم علي خمسين ألفا وقصدوا حرب الأجناد ". وقع القتال " وكثر القتل في الفريقين فأرسل صلاح الدين إلي محلتهم المعروفة بالمنصورة فأحرقها علي أموالهم وأولادهم وحرمهم فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين فركبهم السيف وأخذت عليهم أفواه السكك... (إلي أن يقول) فأبادهم بالسيف ولم يبق منهم إلا القليل الشريد " [41] . إذا لقد كان للسوادنيين حظوة في عهد الفاطميين ولم يكن ما حدث لهم إلا لأنهم تبنوا مشروع الدولة الفاطمية وهو الدعوة لأهل البيت (ع) ومقاومتهم لصلاح الدين الأيوبي المناوئ للشيعة أكبر دليل علي ذلك " وقد كانت الثورة ضد صلاح الدين من قبل الجند الفاطمي وأكثرهم من السودانيين " [42] . ويبدو لي أن لغلظة صلاح الدين وتحامله علي الشيعة [43] دور في اختفاء المظهر ولصلاح الدين الأيوبي الكثير من المجازر وسفك الدماء وانتهاك حرمات شيعة أهل البيت (ع) يقول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه الشيعة والحاكمون ص 192 عن صلاح الدين الأيوبي أما سياسته مع الأسرة المالكة " الفاطميين " فقد كانت سياسة القمع والنذالة والخسة بأبشع صورها فقد قبض علي سائر من بقي من أمراء الدولة وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، وحبس بقايا العلويين في مصر وفرق بين الرجال والنساء حتي لا يتناسلوا، وأعاد يوم قتل الحسين (عاشوراء) عيدا كسنة بني أمية والحجاج. [ صفحه 49] الشيعي المعلن، ولا أشك كما ذكرت أن التوجه في السودان كان شيعيا ولكن بمرور الزمن وتوافد التجار العرب باتجاهاتهم المختلفة والخوف من سطوة الأيوبي كل ذلك كان له الأثر في تغيير الأجيال اللاحقة. إن معرفة وصلة السودانيين بأهل البيت (ع) تتجلي في عدة مظاهر منها [44] . الولاء الديني والسياسي إن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني ينتمي إلي طوائف صوفية تقود العمل السياسي والديني والتي غالبا ما يكون زعماؤها ممن ينتسبون إلي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)، والارتباط العاطفي لهذا القطاع العريض بهذه الطرق علي أساس أنهم ينتسبون إلي أهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولا توجد طريقة صوفية في السودان يجهل منتسبوها أهل البيت (ع) بل ويكنون لهم حبا واحتراما جما وللدلالة علي ذلك نشير إلي بعض ما ورد في كتب الشريف يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية كنموذج حي لما أسلفنا: - (اللهم إنما نحمدك بجميع محامدك السنية ونسألك بذاتك وصفاتك والكتب القديمة والأديان. أن تصلي وتسلم علي محمد وآله وصحبه في كل طرفة عين، وعلي صالح آبائه وأزواجه وأبنائه والإخوان، وعلي إمام الأئمة علي وسيدتنا فاطمة اللذين تخيرت منهما الذرية، وابنيهما سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الأمة الحسنان، وعلي أئمتنا علي زين العابدين ومحمد باقر العلوم الدينية وجعفر الصادق وموسي الكاظم قادة الإنس والجان وعلي الرضا ومحمد الجواد الهداة الهادية المهدية وعلي الهادي والحسن العسكري الخالص وارثي أسرار النبوة وعلوم القرآن وإمامنا المهدي صاحب البشارة الفاطمية الذي لا خير في العيش ولا في الحياة بعده لأهل الإيمان (نقلا عن المولد الكبير ص 72 الشريف يوسف الهندي). ولم يكتف المؤلف [ صفحه 50] بذكر أهل البيت (ع) ضمن مؤلفاته النثرية بل ضمنهم مجموعة من قصائده نذكر قصيدة جاء فيها: الحسنين والإمام والزهراء في القتام++ زين العابدين تمام القادات الهمام الكاظم للكلام والراضي بالقسام++ الهادي للأنام والباقر للظلام آل البيت يا غلام أصل الدين والنظام++ في المبدأ والختام بهم نيل المرام ويقول في أخري: - سفن النجاة للملا بشهادة النص الأتم++ هم النهي هم البهي هم التقي أهل الشيم هم الشفاعة في غد هم السقاية في الملم++ هم الهداية حاضرة والنور والقصد الأعم الطيبون الطاهرون من سوء أرجاس اللمم والبيت الأخير دليل علي اعتقاد الشاعر بعصمة أهل البيت (ع) عن اللمم فضلا عن غيرها من الذنوب والكبائر. وهنالك الكثير من شعراء الصوفية الذي تخصصوا في مدح آل البيت (ع) وهذا أحدهم يسمي البرعي ومعروف في السودان يقول: - هم أهل البيت الواضح سرهم++ زرهم بمحبة لتنال من برهم سيدي الحسين الثائر درهم++ وعلي زين العابدين حبرهم جعفرنا الصادق مع موسي صدرهم++ أستاذنا الباقر في العلم بحرهم في البر وبحرهم لله درهم++ [ صفحه 51] بعض الأسماء المنتشرة في السودان إن أهل البيت (ع) اختصوا بألقاب لم تكن معروفة من قبلهم وارتبطت بهم ارتباطا وثيقا وتناقلها محبوهم وأتباعهم جيلا بعد جيل وصارت أسماء متداولة وهي المرتضي (علي) والزهراء وبتول (فاطمة) حسن وحسين زين العابدين (السجاد)، الباقر، الصادق، الكاظم رضا الهادي والمهدي وهذه الأسماء نجدها منتشرة في السودان بكثرة تلفت النظر. وربما يكون انتشار اسم المهدي نسبة لمحمد أحمد المهدي الذي قام بثورة ضد الأتراك وطردهم من السودان وكون حكومة إسلامية وذلك باعتبار أنه المهدي المنتظر، وأيا كان سبب انتشار الاسم يبقي جذر الاعتقاد بولاية أهل البيت (ع). وكل الأسماء المذكورة نجدها في السودان أكثر من الدول العربية الأخري مما يدلل علي عمق محبة السودانيين لأهل بيت النبوة (ع). 3 - كما أن هنالك العديد من القبائل التي تدعي انتسابها لأهل البيت (ع) ولا يعنينا البحث عن صحة مدعاهم وإنما نورد ذلك لدلالته علي صدق قولنا حول عمق معرفة ومحبة الناس لأهل البيت (ع) ومن هذه القبائل العبدلاب ويذكرون أن نسبهم ينتهي إلي الإمام محمد التقي بن علي الهادي، وقبيلة الركابية التي يرجع نسبها كما يذكرون إلي الإمام موسي بن جعفر الكاظم وهنالك أيضا قبيلة الجعافرة التي تنتسب إلي الإمام جعفر الصادق (ع)... وغيرها من القبائل. 4 - الثقافة الشعبية: إذا أراد أحد السودانيين أن يعبر عن مدي مظلوميته وبالغ الحيف الذي وقع به يقول: (أنا مظلوم ظلم الحسن والحسين) وربما لا يدرك البعض رغم ترداده لهذه المقولة من الذي ظلم الحسن؟ ومن الذي ظلم الحسين؟ وكيف ظلما إنما هو يردد جزءا من الموروث الثقافي الشعبي في السودان، ومن ناحية أخري لا يكاد أحد منا في صغره لم يسمع شيئا من أبويه أو جدية عن سيف علي الكرار وشجاعة حيدر الكرار وشعر المدائح السوداني يفيض بهذه المعاني. [ صفحه 55]

بنور فاطمة اهتديت

حوار في بداية الطريق

كنت قلقا جدا وأنا أحاول تجنب أي حوار مع ابن عمي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسد في سلوكه أدبا وأخلاقا ومنطقا مما جعلني أفكر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة رغم قناعتي بأن ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة، أو ربما نزوة عابرة جعلته يتبني هذه الأفكار الغربية. قلقي كان نابعا من تخوفي لأن أتأثر بفكرته أو ربما أجد أنها تجبرني علي الاعتراف بها وبالتالي أخالف ما عليه الناس وما وجدت عليه آبائي وسأكون شاذا في المجتمع وربما اتهمت بأني مارق من الدين كما أتهم. ولكني تجاوزت كل ذلك وقررت أن أخوض معه حوارا لعلني أجد منفذا أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه خصوصا وأنني قرأت كتبا لا بأس بها ضد الشيعة والتشيع ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله فبدأت معه الحوار. قلت له: الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيا فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغير مذهبك غدا؟ قال: الآية الكريمة تقول (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل وقد أفرغت وسعي وتوصلت إلي أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت (ع) والدليل علي صحته أن الأدلة التي يسوقها أصحابه مما اتفق عليه جميع المسلمين. قلت: لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟ قال: أولا: من قال لك أنه لا يوجد غيري! وثانيا وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا علي صحة أو خطأ ما توصلت إليه، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحق ومن ثم اتباعه ولا شأن لي بغيري لأن الله يقول (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (سورة المائدة / 5). [ صفحه 56] قلت له: لو افترضنا صحة مذهب الشيعة ذلك يعني أن 90 % من المسلمين علي خطأ لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنة والجماعة. فأين هذا التشيع من عامة الناس؟ قال: الشيعة ليست بهذه القلة التي تتصورها، فهم يمثلون غالبية في كثير من الدول، ثم إن الكثرة والقلة ليست معيارا للحق بل القرآن كثيرا ما يذم الكثرة يقول تعالي (ولكن أكثركم للحق كارهون) (سورة الزخرف: آية / 78) ويقول (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (سورة الأعراف: آية / 17) (وقليل من عبادي الشكور)، (سورة سبأ: آية / 13)، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا علي أنهم علي حق. أما التشيع كمنهج سماوي فهو موجود بدليل أنني شيعي، وإذا وجه الإشكال إلي عدم انتشار التشيع فهذا يتوجه أيضا لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في أول دعوته وحتي وفاته إذ أن الإسلام لم يكن منتشرا ومع ذلك فهو الحق المنزل من قبل الله تعالي. قلت متعجبا: وهل تريدني أن أسلم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متدينين طريقهم غير الذي أمر به الله. ابتسم قائلا: أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين فالله أعلم بهم ولكن أذكرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد يقول تعالي: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) (سورة البقرة: آية / 170). شعرت بأن الحوار قد أخذ منحي عاما وأن حجته بدت في هذا المجال قوية ومدعمة بآيات قرآنية فقررت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت نقدها من الكتب وتركتها كورقة أخيرة في النهاية لأني علي ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص، ولأغير مجري الحديث إلي حيث أريد قلت له: [ صفحه 57] حسنا ماذا تقول الشيعة؟! هنا اعتدل في جلسته وقال: الشيعة يقولون أن هذا الدين الخاتم لا يجوز لنا أخذه إلا عن طريق أئمة أهل البيت (ع) ويعتبرون أن هذا هو عين التمسك بسنته (صلي الله عليه وآله وسلم) وهو المطلوب من كل إنسان. قلت ساخرا: كلنا نتبع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولا أحد يري أنه خلاف ما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام. قال: الأمر ليس مجرد ادعاء إنما يجب إثبات ذلك بالدليل، ونحن كشيعة نري أن المسألة الأساسية التي ابتليت بها الأمة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والتي اختص بها علي (ع) كوصي وخليفة ومن بعده أئمة أهل البيت (ع)، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسية، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين أما ما أخذ من غيرهم فلا نقول أنه باطل مطلقا ولكنه حق مخلوط بباطل ونحن مأمورون بأخذ الحق فقط دون غيره. قلت: وما جدوائية البحث حول قضية مرت عليها قرون وهل يفيدونا إذا ما كان علي هو الخليفة أم أبو بكر؟! سكت قليلا ثم قال: عندما ننظر يا أخي لكل مشكلة يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتي نحللها، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي طالب وأعطيت لغيره بلا حق، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمة والآن أنا أمامك أقول لك أن الشيعة علي حق وأنت تري خلاف ذلك، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ومن الذي خالف... هنا أخذتني العزة وقررت الهجوم عليه من كل جانب فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعا: - إذا أنتم تشككون في الصحابة؟! [ صفحه 58] أجاب بهدوء: نحن لسنا في مقام التشكيك في أحد ما نقوله أن كل من اتبع الحق من الصحابة أو غيرهم علي رؤوسنا نقدسهم نحترمهم وكل من خالف النهج السماوي القويم فلن نسمح لأنفسنا أخذ معالم ديننا منه. - لا أريدك أن تناقشني في عموميات! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)! أتدري ماذا يعني ذلك؟ يعني أن نشكك في كل ديننا. فكيف تجوزون لأنفسكم ذلك وأرجو ألا تستعمل معي التقية المعروفة عندكم. أجاب: أولا: التقية شرعية من الكتاب والسنة ولها مجالها، وهي ليست واجبة في كل الأحوال إنما لها ظروفها الخاصة، وأنا لا أمثل كل الشيعة، بإمكانك أن تطلع علي كتب الشيعة فلن تجد غير كلامي هذا، أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلي مستوي التشكيك في الدين إلا إذا كان الدين عندك ملخصا في الصحابة.. قاطعته: إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين. قال: بحثنا الآن حول نقلهم وهذا أول الكلام وبيت القصيد أنتم تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل وتبدأون عملية معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخرة بعد عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لأن منهم من كان منافقا وآخر كان لا يفقه شيئا... وهكذا، أضف إلي ذلك من الذي قال أن الجميع قد بايع أبا بكر، ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أول المعترضين كان عليا (ع) ومعه مجموعة من الصحابة... قلت: لو كان الأمر كما تدعون لنصر الله عليا وخذل أبا بكر وهذا دليل علي أن الله اختار للأمة أبا بكر. قال: بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن الله بها العباد. إن الله يبين الطريق للناس فقط ثم يدعهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والله لا يجبر الناس [ صفحه 59] وإلا نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب، ونتيجة كلامك هذا أن أي شخص يتحكم في رقابنا يجب أن نهتف له ونعتبره تأييدا من الله وهذا ما لا يعقل. ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا: إنكم تغالون في أهل البيت وتقولون أنهم معصومون، كما أنكم تبيحون زواج المتعة وتجمعون في الصلاة وتصلون للحجر والأخير رأيته بعيني يعني لم أقرأه في كتاب فقط. قال: أخي هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ولكن من المنهجية أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكيا، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصا غير مؤمن بالله إلي الإسلام لن تبدأ معه بكيفية الوضوء والصلاة بل لا بد من إقناعه بوجود الله تعالي ثم النبي ثم تفرع علي ذلك. فأطلب منك أخي أن تبحث بتجرد وستري نور الحقيقة. انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجب من هذه الثقة التي يملكها، وفكرت في البحث ولكن ليس لكي أقتنع وإنما لأملك أدلة أقوي أدحض بها حججه، وبعد فترة قررت ألا أدخل معه في نقاش حتي أكون بعيدا عن المشاكل وحتي لا أتأثر بهذه الأفكار الغريبة والتي أري شخصا عن قرب يتبناها. ثم كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث.

البداية

" تسرون حسوا في ارتغاء وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم علي مثل حز المدي ووخز السنان في الحشي، وأنتم الآن تزعمون لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلي قد تجلي لكم كالشمس الضاحية أني ابنته، أيها المسلمون!! أأغلب علي إرثي. يا بن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا أفعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول (وورث سليمان [ صفحه 60] داوود) وقال فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال (وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله) وقال (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين) وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون إنا أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك. نعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون.

بنور فاطمة اهتديت

كلمات كالسهم نفذت إلي أعماقي. فتحت جرحا لا أظنه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الانحدار ما استطعت!. ولكنها انهمرت وكأنها تصر علي أن تغسل عار التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرف علي مأساة الأمة وتلك كانت هي البداية لتحديد هوية السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل. كان ذلك في الدار التي يقيم فيها ابن عمي الشيعي! جئت لتحيته والتحدث معه عن أمور عامة... لحظة ثم لفت انتباهي صوت خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلا " وهذه الخطبة وردت في مصادر السنة والشيعة وقد ألقتها فاطمة الزهراء لتثبيت حقها في فدك، ثم بدأ الخطيب في إلقاء الخطبة. إلي حين استماعي لهذا الشريط لم أكن علي استعداد للخوض في قضايا خلافية مذهبية. قد عرفنا أن الأخ - ابن عمي - شيعي وسألنا الله أن يهديه، وكنا نتحاشي الدخول معه في نقاش بقدر استطاعتنا. وذلك بعد الحوار الذي مر في بداية هذا الفصل. ولكن أبي الله سبحانه وتعالي إلا أن يقيم علينا حجته. [ صفحه 61] بصوت هادئ جميل بدأ الخطيب في الخطبة وتدفق شعاع كلماتها إلي أعماق وجداني، وضح لي أن مثل هذه الكلمات لا تخرج من شخص عادي حتي ولو كان عالما مفوها درس آلاف السنين، بل هي في حد ذاتها معجزة. كلمات بليغة.. عبارات رصينة، حجج دامغة وتعبير قوي.. تركت نفسي لها واستمعت إليها بكل كياني وعندما بلغت خطبتها الكلمات التي بدأت بها هذا الفصل لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي. وتعجبت من هذه الكلمات القوية الموجهة إلي خليفة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ومما زاد في حيرتي أنها من ابنة رسول الله فماذا حدث؟ ولماذا.. وكيف؟!! ومع من كان الحق وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟ وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزت مشاعري حينها وقررت الخوض في غمار البحث بجدية مع أول دمعة نزلت من آماقي.. وفي هذا المنحي لا أريد أن أسمع من أحد، فقط أريد خيط البداية أو بداية الخيط لأنطلق، ولم تكن الخطبة مقصورة علي ما ذكرته من فقرات بل هي طويلة جدا وفيها الكثير من الأمور التي تشحذ الهمة لمعرفة تفاصيل ما جري وظروفه الموضوعية المحيطة به. انتهي الشريط، كفكفت دموعي محاولا إخفاءها حتي لا يحس بها ابن عمي، لا أدري لماذا؟ ربما اعتزازا بالنفس، ولكن هول المفاجأة جعلني أنهمر عليه بمجموعة من الأسئلة وما أردت جوابا، إنما هي محاولة للتنفيس وكان آخر أسئلتي إذا كان ما جاء في بعض مقاطع الخطبة صحيحا فهل كل ذلك من أجل فدك قطعة الأرض؟! أجابني: عليك أولا أن تعرف من هي فاطمة ثم تبدأ البحث بنفسك حتي لا أفرض عليك قناعتي وأول مصدر تجد فيه بداية الخيط صحيح البخاري، وناولني الكتاب فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها.

ماذا بين ابي بكر و فاطمة؟

أخرج البخاري في صحيحه الجزء الخامس (ص 82) في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال: عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) [ صفحه 62] أرسلت إلي أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " لا نورث من تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال... إلي أن يقول البخاري فأبي أبو بكر أن يدفع إلي فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة علي أبي بكر في ذلك فهجرته ولم تكلمه حتي توفيت وعاشت بعد النبي (صلي الله عليه وسلم) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا وصلي عليها ولم يؤذن بها أبا بكر ". وأورد مسلم في صحيحه ذات الواقعة مع تغيير طفيف في الألفاظ يقول " فغضبت فاطمة " بدل كلمة وجدت [45] . من هاتين الروايتين وغيرهما نستخلص الآتي أولا: هذه الحادثة التي وقعت بين فاطمة بنت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والخليفة الأول حقيقة لا يمكن تكذيبها ولا الإعراض عنها لأنها مثبتة في متن أكثر الكتب صحة واعتمادا عند أهل السنة والجماعة بل في كل المصادر التاريخية والحديثية كما سيأتي بيانه لاحقا. ثانيا: إن الحادثة لم تكن خلافا عابرا أو سوء تفاهم بسيط بل هي مشكلة كبري هذا ما نلمسه من كلمة " فوجدت فاطمة علي أبي بكر " أو بتعبير مسلم " فغضبت فاطمة " فالغضب والوجد معناهما واحد، محصلة أن فاطمة غضبت غضبا شديدا علي أبي بكر.. بالرغم من قول الخليفة بأن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) قال " لا نورث " ولكن فاطمة غضبت. ثالثا: إن غضب الزهراء كما أنه لم يكن قليلا في حدته لم يكن قصيرا في مدته بل استمر حتي وفاتها كما يقول البخاري نقلا عن عائشة " فهجرته ولم تكلمه حتي توفيت " وهذا معني جلي في أن حالة الغضب والخلاف استمر إلي وفاتها بل إلي ما [ صفحه 63] بعد ذلك إذ أن أبا بكر لم يصل عليها ودفنت ليلا سرا بوصية منها كما سنبين. رابعا: غضب الزهراء لم يكن منصبا فقط علي أبي بكر بل شمل الخليفة الثاني بدليل عدم ذكره ضمن المصلين عليها، وسيتضح أثناء البحث أن موقف أبي بكر وعمر واحد يعني موقف الزهراء منهما وموقفهما منها، يقول ابن قتيبة في تاريخه " دخل أبو بكر وعمر علي فاطمة فلما قعدا عندها حولت وجهها إلي الحائط.. إلي أن يقول فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتعملان به؟ قالا: نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضاها فقد أرضاني ومن أسخطها فقد أسخطني؟.. قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه، ثم قالت: والله لأدعون عليكما في كل صلاة أصليها " [46] . كل هذه الحقائق جعلت الدنيا مظلمة لدي.. وفور توصلي إليها قفز إلي ذهني ألف سؤال وسؤال.. لا أدري ماذا أفعل وكيف أفكر وإلي من ألجأ؟!! إنها بضعة المصطفي الصديقة فاطمة، أقرأ فإذا بها عاشت بعد أبيها في حالة غضب إلي أن ماتت... كيف ولماذا!! الطرف الآخر الذي غضبت عليه الزهراء إنه الخليفة الأول.. الصديق.. الخليل لقد كان يحب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) - كما علمونا - أكثر من نفسه.. فكيف يفعل بالزهراء شيئا يغضبها؟. كيفما كانت التساؤلات ومهما كان التبرير هاهي فاطمة (ع) كما وجدت بين طيات الكتب غاضبة علي الخليفتين.. وكما سأبين لك عزيزي القارئ في الفصول القادمة.. وبرغم كل الحواجز قررت مواصلة البحث والتنقيب علي ألا أجعل بين [ صفحه 64] نفسي والحقائق حجاب الخوف أو الرهبة أو التبرير ومضيت في طريق ربما كان شائكا في بدايته ولكني بفضل بركات الصديقة الطاهرة وصلت إلي شاطئ اليقين، ومعها - روحي فداها - كانت البداية المفجعة والنهاية الممزوجة بحلاوة الإيمان وقمة المعرفة. وسأبدأ معك عزيزي القارئ محطة فمحطة ولننطلق من تعريف شخصية فاطمة (ع) من خلال فضائلها التي سطرها الوحي بأحرف من نور وكللها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بصدق حديثه وهو الصادق المصدق فكانت كلماته حول فاطمة ذات دلالات ومعان نحاول أن نستقصيها في هذه الصفحات وبلا شك لن نستوعب كل ما جاء من مناقب وفضائل عن الزهراء (ع) لكني سأحاول سرد ما يفيدنا في بحثنا هذا ومن ثم نتعرف علي الحقائق المحيطة بفاطمة (ع) والتي بنورها وبركاتها اهتديت وخرجت من ظلمات الجهل إلي رحاب نور أهل البيت (ع).

فاطمة في القرآن

كثيرة هي الآيات التي تحدثت عن قدسية الزهراء (ع) ومكانتها السامية سنختار هنا بعضا منها. الآية الأولي: قوله تعالي (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (سورة الأحزاب: آية / 33). تشمل هذه الآية المباركة فيمن تشمل السيدة فاطمة الزهراء (ع) بل هي محور الآية وأساسها.. لأنها نزلت في أهل بيت النبوة، ولنا حديث مع أولئك الذين حاولوا إدخال البعض من غير أهل البيت في نطاق الآية، وما يهمنا الآن هو أن الزهراء معنية بهذا الخطاب الإلهي.. ولقد فصلت السنة في سبب نزول الآية وفيمن جاءت. لقد أورد مسلم في صحيحه أن الآية محل النقاش نزلت في خمسة: النبي (صلي [ صفحه 65] عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) وذلك في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت وهو الحديث المعروف بحديث الكساء كما أنه اشتهر عند أهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بأهل العباءة أو الكساء وهذا من المتسالم عليه بين كل المسلمين خصوصا في مجتمعنا السوداني. وسنزيدك من المصادر التي تؤكد أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وعليا وفاطمة والحسنين هم المقصودون بالآية في البحوث القادمة إن شاء الله ولكن دعنا الآن نتدبر الآية، ومن خلالها نتعرف علي شخصية فاطمة (ع). إن المتأمل في كلمات الآية يتوصل إلي أن المخاطبين بهذه الآية، وفاطمة أحدهم مطهرون معصومون من كل رجس، وتقريب ذلك تصدير الآية بأقوي أدوات الحصر علي الاطلاق (إنما) مما يعني أن هذا الأمر خاص بجماعة معينة محددة لا يتعداهم إلي غيرهم، ثم يأتي البحث عن الإرادة الإلهية التي ذكرت في الآية (إنما يريد الله...) هي إرادة المولي عز وجل (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لك كن فيكون) فلا يمكن بحال تخلف إرادته تعالي. أما الرجس في اللغة فمعناه كل ما يلوث الإنسان سواء كان لوثا ظاهريا أو باطنيا والذي يعبر عنه بالإثم.. والرجس في هذه الآية هو اللوث والنجاسة الباطنية لأن الابتعاد والطهارة من النجاسة الظاهرية وظيفة دينية عامة لجميع المسلمين وذلك لشمول التكليف للجميع ولا خصوص لأهل البيت حتي ترد هذه الآية بحصرها وتوكيدها لنفي الرجس الظاهري عن أهل البيت. إنما جاءت لبيان فضيلة لهم خصهم بها الله سبحانه وتعالي وأخبر عنها في كتابه العزيز. ثم يأتي التأكيد (ويطهركم تطهيرا) إن النظرة العميقة للآية تجعلنا لا نشك لحظة واحدة في عصمة أهل البيت الذين ذكروا فيها ومنهم فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) فهي معصومة مطهرة من كل رجس ظاهرا وباطنا وسيأتيك التأكيد [ صفحه 66] علي ذلك. الآية الثانية: قوله تعالي: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) (سورة الشوري: آية / 23). لقد جعل الله سبحانه وتعالي أجر الرسالة مودة أهل البيت ومنهم فاطمة الزهراء، فالآية نزلت في قربي الرسول وهم علي وفاطمة والحسن والحسين كما نقل ذلك أعلام الحديث والتفسير مثل الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ج 2 ص 130 والحاكم النيسابوري في المستدرك [47] . إنها العظمة والرفعة.. لقد وزن الله تعالي الرسالة المهيمنة علي كل الرسالات بمودة القربي.. لقد استحقت فاطمة هذا الوسام الإلهي بجدارة ويكفينا لتأكيد ذلك تسطيرها ضمن آيات الذكر الحكيم.. إنه رصيد يضاف لمناقب الزهراء وفضائلها وإلي المزيد. الآية الثالثة: قوله تعالي (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) (سورة آل عمران: آية / 61). لم يختلف المسلمون أن هذه الآية أيضا من مختصات أهل البيت فهي نزلت يوم مباهلة نصاري نجران وقد أمر الله تعالي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ معه عليا وفاطمة والحسن والحسين (ع). فكانت هذه الآية وذلك مما ذكره مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب [48] وهكذا مثلت فاطمة كل نساء الأمة وكانت المباهلة بمثابة تثبيت للرسالة، ولأهمية الحديث وعظمته في مسيرة [ صفحه 67] الإسلام كان المباهل بهم مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) هم علي وفاطمة وابناهما.. مع أن الآية ذكرت نساءنا بصيغة الجمع إلا أن التمثيل المقدس كانت فاطمة فقط دون غيرها من النساء ولا حتي نساء النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فتأمل عزيزي القارئ وانطلق بعقلك لتدرك مكانة الزهراء وعظمتها وما أظنك بقادر. آيات أخري: يقول تعالي (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) إلي قوله تعالي (إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا) (سورة الإنسان: آية / 5 - 22)، هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين بمناسبة قصة صيامهم ثلاثة أيام وتصدقهم في تلك الأيام الثلاثة بطعامهم علي المسكين واليتيم والأسير بينما هم في أشد الحاجة إلي الطعام لإفطارهم.. ولقد ذكر جمع كبير من المحدثين والمفسرين أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء الأربعة. منهم الزمخشري في كشافه.. والفخر الرازي في تفسيره [49] . إن نزول هذه الآيات في علي وفاطمة والحسنين ينبوع أخر لكرامتهم ومكانتهم عند الله.. إذ أن الخالق جل وعلا خاطبهم من عليائه بصيغة الأمر الذي أبرمه وفرغ منه (فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا...) إلي آخر الآيات هذه هي حقيقة الزهراء فاطمة وتلك هي مكانتها عند الله. يطول بنا المقام لسرد كل ما جاء عن فاطمة في القرآن ولقد جمع أحد العلماء الآيات التي نزلت في فضل فاطمة وأهل البيت فبلغت (258) آية من الذكر الحكيم. [ صفحه 68] ومع ذلك لو لم تأت إلا آية التطهير أو المباهلة لكفي بها موعظة لقوم يؤمنون فهذا قرآن عظيم في كتاب مكنون تنزيل العزيز الحميد.

فاطمة بلسان أبيها

ملاحظتان قبل الانطلاق في أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عن فاطمة: الملاحظة الأولي: إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حينما يتحدث عن فاطمة فإنه لا ينطلق من عاطفة الأبوة وهو القائل فيه البارئ عز وجل (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي) وهو (صلي الله عليه وآله وسلم) في عموم حديثه عن الأشخاص لا يعطي أحدا أكثر مما يستحقه تبعا لعاطفته وحتي لو كان ذلك الإنسان ابنته. لأننا لو قلنا بذلك لطعنا في نبوته وكلماته القدسية التي نؤمن جميعا بأنها حجة لا زيغ فيها ولا هوي.. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: " كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شئ سمعته من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلي فيه وقال: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ". إن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) لا ينطق إلا صدقا وعدلا فلنضع كلماته عن الزهراء نصب أعيننا ونحن نقرأ عن موقفها بعد وفاته ولا نترك للشيطان سبيلا يتسلل منه.. لان فهمنا لهذه النقطة يمهد لنا السبيل لفهم موقف فاطمة (ع). الملاحظة الثانية إنه (صلي الله عليه وآله وسلم) ركز في شخصية فاطمة علي قدسيتها وخلوصها لله تعالي وقربها منه (صلي الله عليه وآله وسلم) بحيث يجعلك تأخذ الاحساس بأنها [ صفحه 69] جزء منه ما يصيبه كأنما أصابها وما يصيبها كأنما أصابه وأنها تمثله جسدا وموقفا.. تعبر عنه وهو المعبر عن إرادة الله تعالي وذلك في مجمل أحاديثه عن فاطمة " من أسخط فاطمة فقد أسخطني " " من أغضب فاطمة قد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ".. وعلي هذا المنوال. ولقد استوقفني كثيرا محور كلام الرسول عن ابنته والذي كان يدور حول غضبها وسخطها ورضاها وكأنه - بأبي وأمي - يلمح للأمة بمصيبتها وابتلائها في موقفها من الزهراء.. وهذا لا ولن يخفي علي ذوي الألباب المتفتحة والقلوب المفعمة بحب النبي وآله فلماذا يا تري كان التركيز علي هذا المحور بالذات؟! هل يعقل أن يكون ذلك بلا سبب؟! ألا يحمل هذا في طياته دلالات عميقة وإشارات واضحات. لقد كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أبلغ العرب حين يتكلم وأكثر الناس حكمة حينما يفصح كما كان أحسنهم إنصافا للناس. لقد هيأ الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الناس حتي يصدقوا الزهراء حين تنطق وهيأهم لأن يتحاشوا غضبها إذا غضبت وأخبرهم أن أذاها أذي له وهكذا مهمة الأنبياء تربية الأمم حاضرا أثناء حياتهم وتهيئتهم لاستقبال الحوادث المستقبلية بعد رحيلهم.. والنبي وهو أعظمهم خص الزهراء وهو الصادق الأمين بهالة قدسية تحرم علي الآخرين هتكها.. ولم يكن ذلك لقرابتها منه بل لأنها أخلصت للحق وذابت في بوتقته فكانت مقياسا ومعيارا للذين سيأتون بعد أبيها (صلي الله عليه وآله وسلم) وتجلت حكمة الرسول في أحاديثه المختلفة للأمة التي كانت تنظر لواقع المستقبل وهي تحمل في طياتها بصائر تتضح من خلالها الرؤية، وتحكم بها علي أحداث الواقع في أي زمان ومكان. والأمثلة علي ذلك كثيرة، لقد تحدث النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب (ع) حينما قال " علي مع القرآن والقرآن مع علي " لأن معاوية سيأتي يوما ما ويرفع المصاحف علي أسنة الرماح طالبا التحكيم بالقرآن كما حدث [ صفحه 70] في صفين حينها ستعرف أين جهة الحق والصدق لأن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ترك المعيار فعلي والقرآن لا يفترقان.. كذلك عندما قال (صلي الله عليه وآله وسلم) لعمار " تقتلك الفئة الباغية " فإنه (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يترك مجالا للاعتذار لأولئك الذين قاتلوا في صف معاوية ضد علي ومعه عمار بن ياسر وهكذا أحاديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تنطلق من الحاضر لتشخص داء الأمة في المستقبل. كل ذلك يجعلنا ننظر إلي غضب الزهراء بقدسية وإلي موقفها بتعقل. إنه غضب من أجل الحق وموقف صدق ضد الانحراف. إننا ننزه الزهراء من أن تغضب في سبيل شئ غير الحق إنه غضب مقدس وصرخة حق مدوية وبعد قليل سينكشف الغطاء وتري لماذا كان هذا الغضب. وإليك بعضا مما قاله المصطفي في ابنته ربيبة الوحي فاطمة الزهراء (ع): 1 - " فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ". رواه البخاري في صحيحه باب مناقب قرابة الرسول ج 4 ص 281 دار الحديث القاهرة [50] . 2 - " إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ". رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة. وفي رواية " فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها " [51] . 3 - قال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (ع): " إن الله يغضب لغضبك ويرضي لرضاك " رواه الحاكم في المستدرك علي الصحيحين كتاب مناقب الصحابة ص 154 وقال عنه حديث صحيح الإسناد ولم [ صفحه 71] يخرجاه [52] . 4 - جاء في صحيح البخاري كتاب بدء الخليقة في باب علامات النبوة ج 4 ص 250 بسند عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي ما تخرم مشيتها مشية النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت فقلت لها لم تبكين؟! ثم أسر إليها حديثا فضحكت فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي قبض النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فسألتها فقالت: أسر إلي أن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكيت فقال: أما ترضي أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك [53] . وأورد الترمذي في سننه كتاب المناقب عن حذيفة قال: " أتيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فصليت معه المغرب فصلي حتي صلي العشاء ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال: من هذا حذيفة؟ قلت: نعم قال: ما حاجتك غفر الله لك ولأمك؟ ثم قال: إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " [54] . وجاء في المستدرك ج 2 ص 294 بسنده عن عائشة قالت لفاطمة: ألا أبشرك؟ إني سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول " سيدات نساء أهل الجنة أربع [ صفحه 72] مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسيا بنت مزاحم ". وقال عنه الحاكم النيسابوري حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " يقصد بخاري ومسلم ". وجاء في كنز العمال ج 7 ص 111 أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. وذكر محي الدين الطبري حديث أفضل أربع نساء فضلهم الله في ذخائر العقبي ص 44 وأضاف وأفضلهم فاطمة. 5 - عن عائشة أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قالت: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها [55] . 6 - أورد السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالي (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام) قال: وأخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) " لما أسري بي إلي السماء أدخلت الجنة فوقفت علي شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها ولا أبيض ورقا ولا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت إلي الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلي ريح الجنة شممت ريح فاطمة ". وروي الحاكم في المستدرك ج 3 ص 156 بسنده عن سعد بن مالك قال: قال (صلي الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل (ع) بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أسري بي فعلقت خديجة بفاطمة فكنت إذا اشتقت إلي رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة ". 7 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): ابنتي فاطمة حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث. وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار، ذكره ابن حجر في صواعقه ص 160 كما أخرجه النسائي وجاء في تاريخ بغداد أيضا ج 12 ص 331. [ صفحه 73] 8 - في صحيح الترمذي ج 2 ص 319 عن عائشة أم المؤمنين قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).. قالت: وكانت إذا دخلت علي النبي قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها الحديث. رواه أيضا أبو داوود في صحيحه ج 33 في باب ما جاء في القيام. ورواه الحاكم أيضا في مستدرك الصحيحين ج 3 ص 154. 9 - جاء في مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 275 كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إذا سافر جعل آخر عهده فاطمة وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة.. وذكر ذلك الحاكم في المستدرك ج 1 ص 489 ورواه البيهقي في سننه. 10 - قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي وفاطمة والحسنين: " أنا سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم " رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج 2 ص 442 والحاكم في المستدرك ص 149 وابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 11 و ج 5 ص 523. 11 - في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 190 أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة نادي مناد من بطنان العرش: " يا أهل الجمع نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم حتي تمر فاطمة بنت محمد علي الصراط فتمر مع سبعين ألف جارية من الحور العين كمر البرق " ذكره الحاكم في المستدرك ج 3 ص 153. كانت جولتنا مع أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) حول فاطمة قصيرة مقارنة بما ورد في حقها ولكن هذا القدر يكفي للعاقل حتي يتعرف علي الزهراء (ع) التي أحاطتها العناية الإلهية من قبل ميلادها وكانت في جنة الخلد... هنالك كان المبدأ كما في رواية الإسراء والجنة هي النهاية كما علمت وما بين الانطلاقة الأولي من الجنة والمنتهي فيها كانت حياة الزهراء عظيمة تنبض بكل معاني القيم النبيلة.. فهل من [ صفحه 74] الممكن أن يكون هناك نشاز في منتصف الطريق؟! يقينا لا، لذلك أوصي الرسول بفاطمة كثيرا وحذر الناس من غضبها الذي يعني غضبه بل وغضب الله عز وجل كما مر وشهدت لها عائشة بأنها أصدق الناس لهجة فهي الصديقة كما أن العناية الإلهية كان لها الدور المباشر في صياغة شخصية الزهراء فصار أذاها أذي الرسول الذي يعني أذي الرسالة ونزل الوحي يجلجل بالتطهير كما جاء في آية التطهير وتأكيدا علي قدسية المسير ومباركة الرب لعمل فاطمة وأهل بيتها كانت سورة الإنسان.... وحتي نزداد يقينا بارتباط الزهراء بالوحي واستقامتها كانت المباهلة ثم الزواج المبارك الذي تم في السماء قبل أن يتم في الأراض بأمره سبحانه وتعالي. ورعاية الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الخاصة بفاطمة حتي إنه عند قدومها يقبلها ويجلسها في مجلسه وكذا العكس.. ولا يخرج (صلي الله عليه وآله وسلم) في سفر إلا أن يكون آخر من يودعه ابنته وأول من يسلم عليه عندما يعود.. هي سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، إذا كل فعل تفعله هو فعل أهل الجنة وكل موقف تقفه هو موقف أهل الجنة ولو نظرت في الجنة لرأيت نعيما وملكا كبيرا ويأتي المنادي غضوا أبصاركم حتي تجوز فاطمة وتستقر في مقام محمود منه انطلقت وإليه تعود. هذه المسيرة المقدسة، وهذه العظمة ألا تدفعنا للوقوف إجلالا وإعظاما لشخصية قدستها السماء وبارك مسيرتها أبوها صاحب رسالة السماء؟ كل ذلك ألا يجعلنا نتوقف قليلا أمام مواقفها؟ يبدوا لي أننا حتي نستوعب كل ذلك نحتاج إلي عقل سليم وقلب مفرغ من الغرور والاستكبار والهوي لقد جسدت الزهراء تعاليم الوحي.. وسارت وفق هداه فكانت من الجنة إلي الجنة وما بين ذلك غضبها هو غضب الله فتأمل وتفكر وتدبر. [ صفحه 75]

موقف الزهراء هو الفيصل

في الأحداث التاريخية يلعب العقل دورا كبيرا في استخلاص النتائج والاعتبار بها والاستفادة منها ومن ثم الانطلاق لتحديد موقف معين تجاه تلك الأحداث. والتاريخ الإسلامي كتاب الثقافة الذي حفظ لنا تراثا ضخما، ما زالت الأمة تعيش علي معينه.. وطوال تاريخ أمتنا الإسلامية مرت أحداث عظام مثلت منحي لهذه الحضارة التي قامت أسسها علي تعاليم الوحي بشقيه القرآن والسنة. وبما أن التاريخ ثبت لنا مجموعة من الأحداث يجب علينا نحن اليوم النظر فيها بعين الإنصاف، كما يجب علينا التعقل لنستخلص منها عبرا تعيننا لتحديد اتجاه السير الصحيح خصوصا وأن الأمة وبعد وفاة النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) شهدت اختلافا كبيرا امتدت آثاره إلي يومنا هذا. وقضية الزهراء (ع) ومأساتها لم تكن لتنفك عن أمر الرسالة الإسلامية، وموقف الزهراء (ع) لا يمكن أن يمر عليه العاقل المهتم بأمر الإسلام مرور الغافلين، بل لا بد من التوقف عنده والسؤال، هل كان موقف فاطمة (ع) يعني شيئا في مسيرة تحديد هويات الاتجاهات المختلفة؟ ذلك ما سنعرفه الآن، ولكن هناك مقدمة ضرورية قبل الإجابة علي هذا السؤال وهي: نحن في تحديدنا للمواقف المتعددة يجب وقبل كل شئ معرفة صاحب الموقف معرفة تامة لأن ذلك يعيننا لتشخيص وتحليل الموقف تماما وهذا شئ طبيعي وعقلائي، فمثلا عندما يقف الرسول موقفا معاديا لشخص آخر فإننا تلقائيا ندين الطرف الآخر الذي وقف منه الرسول موقفا عدائيا لأننا علي يقين بأن الرسول هو المقياس للفصل بين الحق والباطل وبالتالي إذا وقف في وجه شخص آخر فذلك الشخص علي خطأ لا يحتاج منا إلي بيان ولكن هذا احتاج منا إلي مقدمات تجاوزناها سلفا وهي عصمة الرسول وحجية قوله وفعله وتقريره وهذه الحجية لا تكون إلا إذا كان قوله (صلي الله [ صفحه 76] عليه وآله وسلم) وفعله وتقريره حقا ولا يمكن أن يكون بحال من الأحوال باطلا لأن القول بخطأ النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يستلزم الطعن في القرآن الذي أمر بطاعة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) دون قيد أو شرط، بل ليس الطاعة فقط وعدم المخالفة إنما عدم الحرج في قضائه (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).. من هذه الخلفية نكون علي اطمئنان بكل موقف يقفه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إذ أن معرفتنا للشخصية تجعلنا نقيم الأحداث بشكل سليم بأفضل ما يكون. والزهراء (ع) رفضت أن تبايع الخليفة.. وعارضته بأشد ما يكون وتركت آثار معارضتها إلي الآن إذ أنها أمرت بدفنها ليلا وسرا (ولم يكشف عن مكان قبرها إلي الآن)، فما مدي تأثير هذا الموقف الذي جوبه بأشد أنواع العنف، في سير الرسالة وما مدي حجيته علينا نحن المسلمين اليوم. وإن ذلك يستدعي التعرف علي شخصية الزهراء بصورة تفصيلية خصوصا فيما يختص بالحجية " يعني هل فعلها حجة لها أم عليها " وذلك من الناحية التشريعية وإلا قد مر عليك فضائل الزهراء ومناقبها.

عصمة الزهراء

المتتبع للنصوص الواردة في القرآن والسنة الشريفة عن أهل البيت (ع) بما فيهم الزهراء (ع) لا يجد سوي الاقرار بعصمتهم وعلو شأنهم عن الذنوب والمعاصي، وإليك لمحات من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تثبت عصمة أهل البيت (ع) وطهارتهم وقد مر عليك ذكر بعضها. لقد مرت عليك عزيزي القارئ آية التطهير ودلالتها علي عصمة أهل البيت المقصودين في الآية وفاطمة منهم ونورد الأدلة التالية تعزيزا لقولنا بعصمة فاطمة (ع): 1 - قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عنها " إن الله يغضب لغضبها [ صفحه 77] ويرضي لرضاها "، هذا القول للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) تلازمه العصمة لأنه من المستحيل أن يناط غضب الزهراء بغضب الله سبحانه وهي غير معصومة... لأن القول بعدم عصمتها يعني إمكانية وقوعها في الزلل والخطأ وربما تغضب لغير الحق، والرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في كلامه إطلاق بلا تقييد يعني أن الزهراء (ع) لن تغضب إلا لشئ يغضب الله بسببه ومن كان غضبه يعني غضب الله فهو لن يفعل إلا الحق ولن يخطئ أو يميل إلي الباطل طرفة عين وبالتالي يمثل غضبه الحق، وفي الواقع إن هذا الحديث يدلل أن للزهراء مكانة عظيمة لا تدرك بالعقول. ولبيان هذه العظمة التي من تجلياتها عصمتها (ع) أكد الرسول تكرارا عليها كقوله (صلي الله عليه وآله وسلم) " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما رابها " [56] إن أذي الرسول يعني أذي الرسالة، أذي القيم والمبادئ، لأنه (صلي الله عليه وآله وسلم) هو محور الحق بل هو الحق الذي يجب أن نقتبس منه، إن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يمثل الإرادة الإلهية وهو قطب الرحي الذي به يعرف الموحد من المشرك والكافر إذ أن الله تعالي غيب لا ندركه بعقولنا وأوهامنا والارتباط به تعالي يكون عبر رسله وأنبيائه. لذلك كان مبعث الأنبياء وتولية الأوصياء. ولذلك لا يكون الرسول إلا معصوما حتي لا يفترق عن الحق لحظة واحدة وبالتالي تكون كل تصرفاته حق وأذيته تعني التحدي للرسالة والإرادة الإلهية ولبيان هذه الحقيقة يقول القرآن الكريم (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) (سورة الأحزاب: آية / 57) وأكرر القول إن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما يتحدث عن شخص أو يدلي بأي حديث فمن منطلق مسؤوليته تجاه الرسالة وبالتالي يستبعد أي مجاملات أو تقريظ بلا حق، والمتفق عليه أن قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وفعله وتقريره حجة يعني شرع نتعبد به قربة إلي الله تعالي. وقد قال عليه وآله الصلاة [ صفحه 78] والسلام فاطمة بضعة مني يعني هي جزء لا يتجزأ من كيانه وروحه وهو كما قلنا محور الحق والشرع وبالتالي تكون الزهراء (ع) أيضا كذلك، لذلك جعل الرسول أذاها أذاه وكل شئ يريبها يريبه وهو المعصوم الذي لا تميل به الأهواء ومن يكون جزءا منه يؤذيه ما يؤذيه فهو أيضا مؤهل أن يكون معصوما. وبهذا التقريب نري عصمة الزهراء (ع) جلية وواضحة فقط تحتاج إلي وجدان صاف سليم وعقل مستنير. 2 - قوله تعالي (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) إن كل الأنبياء السابقين لم يطلبوا أجرا من أقوامهم إنما كان قولهم (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا علي رب العالمين) لقد ذكر ذلك في القرآن علي لسان الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب [57] ولكن نبينا الأعظم أمره الله عز وجل بأن يسأل أمته المودة في القربي ولكن لا لكي يستفيد هو بل لتستفيد أمته، لأنه ليس بدعا من الرسل ليطالب بأجر لرسالته من دون الرسل، كما أنه ليس من المتكلفين كما جاء علي لسانه قوله تعالي (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) [58] ، ودليلنا علي أن الفائدة من هذا الأجر الذي طلبه منا تعود علينا نحن قوله تعالي (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا علي الله) [59] ، وبنظرة أخري إلي آيات القرآن الحكيم نجد أن هذا الأجر المتمثل في مودة القربي هو السبيل إلي الله تعالي في قوله عز وجل (ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلي ربه سبيلا) [60] ، وهو الذكري للعالمين كما يقول تعالي (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكري [ صفحه 79] للعالمين) [61] إذا مودة القربي هي الذكري وهي السبيل الذي يقول عنه تعالي (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) والسبيل إلي الله لا بد أن يكون قويما لا عوج فيه يعني باتباعه نضمن أننا علي الصراط المستقيم ونهايتنا الجنة بمعني أقرب لا بد أن يكون معصوما وقد تجسد في القربي وهم أهل البيت (ع) كما هو المسلم به عند جميع المسلمين فيما يرتبط بنزول الآية في أهل البيت (ع) وفاطمة عماد ذلك البيت فوجب أن تكون معصومة لأنها أحد مصاديق ذلك السبيل. 3 - فاطمة (ع) ومريم (ع): فيما سبق من روايات وضح لنا أن فاطمة الزهراء (ع) هي سيدة نساء العالمين وهي سيدة نساء الجنة. وما إليه من أحاديث تثبت أن الزهراء (ع) أفضل النساء من الأولين والآخرين، ومن جملة النساء الكمل مريم الصديقة (ع) أم النبي عيسي (ع) لقد ارتقت مريم سلم الكمال حتي اصطفاها الله تعالي وطهرها، بل وخاطبها الوحي كما جاء في القرآن الكريم يقول تعالي (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين) (سورة آل عمران: آية / 42) لقد طهر الله مريم واصطفاها وهذه هي العصمة بعينها، ولا يمكن بمجال أن يكون الفاضل أقل درجة من المفضول فإذا ثبتت عصمة مريم (ع) فبالأولي إثبات عصمة الزهراء (ع) لأنها أعلي رتبة وأخص درجة بما عرفت عنها ومدح الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لها. لقد أوردنا ما أوردناه لإثبات عصمة الزهراء (ع) أو لا أقل بيان قدسيتها بحيث يمتنع صدور فعل قبيح منها يخالف الشرع أو يرضي طموحا شخصيا لها. ورغم قناعتي بأن الكثير من المسلمين لا يحتاجون إلي مزيد من الكلام حول طهارتها وقدسيتها إلا أنني تأكيدا للحجة علي المعاندين والمغالطين أطلت الحديث عن هذا الموضوع ولأنه سيكون المعتمد الأساسي في الإجابة علي سؤال عريض سيواجهنا وتجب الإجابة عليه. [ صفحه 80] ألا وهو أين نقف نحن بالنسبة لموقف الزهراء من أبي بكر؟ وكيف المخرج؟ هل يجوز لنا القول بأن الزهراء (ع) مخطئة؟ أما بالنسبة للسؤال الأخير فلا يحق لنا ذلك بل إن القول به يعني الكفر بالله وبآياته وبرسوله، ويبدو لي أن الإجابة علي بقية الأسئلة واضحة ولا تحتاج إلي كبير عناء. ولكن قبل أن أنهي الحديث عن هذا الموضوع، الذي أترك فيه المجال لأصحاب العقول المنيرة والضمائر الحية ليحددوا فيه الموقف، أعرج علي حديث شغلني كثيرا وأنا أقيم موقف الزهراء (ع) من الخليفة أبي بكر وغضبها وعدم السماح له ولعمر بالصلاة عليه حتي وهي ميتة، ألا وهو الحديث المشهور (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). حسنا لقد أصبح أبو بكر خليفة للمسلمين بعد انتقال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الرفيق الأعلي. والخليفة هو الإمام وقد جاء في الحديث أن من لم يعرفه يموت ميتة كميتة الجاهلية. وفاطمة (ع) ليس فقط لم تعرف الخليفة بل عارضته وهاجمته وغضبت عليه وأمرت أن لا يصلي عليها فكيف المخرج من هذه المعضلة؟! فإما أن تكون فاطمة ماتت ميتة جاهلية والعياذ بالله وهذا ما لا يقول به مؤمن برسالة أبيها (صلي الله عليه وآله وسلم) وإما أن تكون في موقفها علي حق وبالتالي تنسف كل شرعية للخلافة القائمة آنذاك وهو ما قامت عليه الأدلة والبراهين فثبتت نقلا وعقلا كما بينا وسنبين المزيد إن شاء الله تعالي.

بماذا طالبت الزهراء؟

اشاره

لقد جاء في البخاري ومسلم وغيرهما من المصادر أن الزهراء طالبت بفدك ولا شك ولا ريب أنها كانت تطالب بشئ تعتبره ملكا لها أو حقا شرعيا خاصا بها. لقد طالبت فاطمة بالإضافة إلي فدك بحقوق أخري سنذكرها.. لكنها أظهرت [ صفحه 81] فدك باعتبار أن ملكيتها آلت إليها بوجود الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وقبل وفاته وبالتالي لا ربط لها بقضية الميراث التي زعموا أن الرسول خارج عنها. أما فدك فقد قال عنها ياقوت هي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة وفيها عين فوارة ونخيل كثير [62] وقصتها أن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) بعث إلي أهل فدك وهو بخيبر منصرفه منه يدعوهم إلي الإسلام فأبوا فلما فرغ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من خيبر قذف الله الرعب في قلوبهم فبعثوا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصالحونه علي التصرف فقبل منهم [63] . وفي فتوح البلدان: فكان نصف فدك خالصا لرسول الله لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. لقد كانت فدك ملكا لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ومعلوم أن من حقه التصرف في ملكه وقد كان ذلك حينما منحها لقرة عينيه فاطمة كما جاء في شواهد التنزيل للحسكاني وميزان الاعتدال للذهبي ومجمع الزوائد للهيثمي والدر المنثور للسيوطي واللفظ للأول عن أبي سعيد الخدري: لما نزلت (وآت ذا القربي حقه) دعا النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فاطمة وأعطاها فدك [64] . إذا فدك كانت ملكا وحقا لفاطمة الزهراء ولا يجوز بحال من الأحوال منعها هذا الحق وهي هي كما علمت.. فكيف يجرؤ أحد علي منعها ما أعطاه لها الرسول بأي حق كان ذلك؟ لقد قالوا أن الأنبياء لا تورث - ورغم عدم ثبوت ذلك فإن فدك لم تكن من التركة حتي يحتج عليها بهذا الحديث، ولقد تدرجت الزهراء في [ صفحه 82] مطالبتها بحقوقها حتي تتضح الأمور لذي عينين غير أن بعض الأحاديث جاءت مجملة غير مفصلة تختلط فيها لدي القارئ أوراق القضية فيظن أن فدكا كانت ميراثا وكذلك سهم ذي القربي في حين أن كل ذلك غير الميراث، وحتي تتضح الرؤية دعنا نفصل بعض الشئ في هذا الأمر. لقد طالبت فاطمة أولا بما أعطاه لها الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم ثانيا بإرث الرسول وثالثا بسهم ذي القربي، بسهم ذي القربي، وإليك بعض الكلام في هذه المطالبات.

المطالبة باسترداد فدك التي لها ملكيتها

جاء في فتوح البلدان: إن فاطمة (رض) قالت لأبي بكر الصديق (رض) أعطني فدك فقد جعلها رسول الله لي، فسألها البينة فجاءت بأم أيمن ورباح مولي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فشهدا لها بذلك، فقال: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل ومرأتين [65] . وفي رواية أخري: " شهد لها علي بن أبي طالب فسألها شاهدا أخر فشهدت لها أم أيمن "، وإن عشت أراك الدهر عجبا فاطمة (ع) التي نزلت آيات القرآن تطهرها وتعصمها تكذب وتسأل البينة. إنها سيدة نساء العالمين. الصديقة الطاهرة التي بلغت درجة من العصمة والطهارة حتي صار غضبها غضب الرب ورضاها، رضاه لقد قبل المسلمون شهادة أبي بكر في حديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فكيف لا يقبلون ادعاء الزهراء بأن فدكا ملكها؟ لقد تجلت حكمة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) حينما أكد علي مكانة الزهراء وصدقها في الأحاديث المتقدمة خاصة ما جاء علي لسان عائشة بنت أبي بكر لقد قالت ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها أي فاطمة (ع). لقد وقفت حائرا أمام هذا الموقف! أين أقف؟! هل أضرب بكلام الوحي وقول [ صفحه 83] الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عن فاطمة عرض الحائط، وأؤيد تكذيب القوم لها! أم ماذا أفعل؟ بلا شك لن أجعل كلام الرسول هذرا ولن أضعه وراء ظهري كما أنني لن أبرر ما فعلوه حينما صدوا الزهراء عن حقها.. لقد استولي أبو بكر علي فدك كما استولي علي غيرها من الأملاك والحقوق الخاصة بالرسول (صلي الله عليه وآله وسلم).. ولا أري مبررا وجيها يدعوه لمنع الحق عن أصحابه إلا أن يكون هنالك أمر آخر ربما خفي علي وعليك أيها القارئ العزيز لكن مجريات الأحداث ستبين لك ما هو غامض!!

مطالبتها بارث الرسول

عن أبي الطفيل بمسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داوود وتاريخ الذهبي وتاريخ ابن كثير وشرح النهج واللفظ للأول قال: لما قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أرسلت فاطمة إلي أبي بكر: أنت وارث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أم أهله؟ قال: فقال: " لا، بل أهله "، قالت: فأين سهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) [66] . وفي رواية عن أبي هريرة في سنن الترمذي: أن فاطمة جاءت إلي أبي بكر وعمر (رض) تسأل ميراثها من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقالا: سمعنا رسول الله يقول " إني لا أورث "، قالت والله لا أكلمكما أبدا، فماتت ولا تكلمهما " [67] . وغيرها من الروايات الكثيرة التي تتحدث عن منع أبي بكر فاطمة ميراثها من الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أبيها، بما في ذلك الحديث الذي بدأنا به هذا البحث. [ صفحه 84]

المطالبة بسهم ذي القربي

لقد منعوها ملكها الخالص " فدك " وجاؤوها بحديث " الأنبياء لا يورثون " الذي قال فيه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة " المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده " وقال " إن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده، ذكر ذلك أعظم المحدثين حتي أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا علي ذلك في احتجاجهم بالخبر برواية الصحابي الواحد، وقال شيخنا أبو علي: لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم، واحتجوا بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " [68] . عندما لم يجيبوها في كل ذلك طالبتهم بسهم ذي القربي، فقد جاء عن أنس بن مالك أن فاطمة أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي ظلمتنا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربي. ثم قرأت عليه قوله تعالي (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربي) فقال لها أبو بكر بأبي أنت وأمي السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين منه، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا قالت: فلك هو ولأقربائك؟! قال: لا، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين، قالت: ليس هذا حكم الله [69] . وفي فتوح البلدان وطبقات ابن سعد وتاريخ الإسلام للذهبي وشرح النهج عن أم هاني قالت: إن فاطمة بنت رسول الله أتت أبا بكر (رض) فقالت: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما بالك ورثت رسول الله دوننا؟! قال: يا بنت رسول الله ما ورث أبوك ذهبا ولا فضة، فقالت: سهمنا بخيبر وصافيتنا فدك. [ صفحه 85] ولفظ طبقات ابن سعد: فسهم الله الذي جعله لنا وصافيتنا بيدك. وفي لفظ ابن أبي الحديد وتاريخ الإسلام للذهبي: قال: ما فعلت يا بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فقالت: بلي إنك عمدت إلي فدك وكانت صافية لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فأخذتها، وعمدت إلي ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا [70] . لقد طالبت الزهراء (ع) بحقوقها كاملة فلم تحصل منها علي شئ ولا أدري لماذا منعت وردت! إما لأنها كذبت في دعواها وحاشا لمن وعي كلام رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وآمن بالوحي حقا أن يدعي عليها مثل هذه الفرية وقد علمت حرص الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في الحديث عن فاطمة (ع) حتي لا تذهب المذاهب بالقوم وكيف يمكن أن تكذب وهي المطهرة بنص القرآن والمعصومة والصادقة في سيرتها كما جاء في الروايات وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضي لرضاها؟ إنها الزهراء (ع) ميزان الحق الذي به يعرف الباطل وأي خطأ وخطل يرتكب من يحاول أن يشكك في حقها الذي طالبت به؟ لأن ذلك يعني الشك في قول الله تعالي وقول رسوله. وليس هناك مجال لمدح يدعي أنها كانت جاهلة بحقوقها وأنها ربما لم تسمع بأنها لن ترث أباها وأن ملكها يمكن أن يتصرف فيه الخليفة كيف يشاء. إذ أن من المستحيل أن يغفل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيان ذلك لابنته الزهراء (ع)، وهي المعنية بالأمر في الدرجة الأولي دون سائر المسلمين.. وزوجها هو علي بن أبي طالب الذي قال عنه الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) " أنا مدينة العلم وعلي بابها " [71] ، وقد أكد علي (ع) دعوي فاطمة (ع) حينما قال أبو بكر: قال [ صفحه 86] رسول الله " لا نورث ما تركناه صدقة " فقال علي: (وورث سليمان داوود) وقال يرثني ويرث من آل يعقوب) قال أبو بكر: هو هكذا وأنت والله تعلم مثل ما أعلم فقال علي: هذا كتاب الله ينطق! فسكتوا وانصرفوا [72] . إذا فاطمة كانت تدرك تماما ما تفعله وعن علم كامل بحقوقها وإلا لماذا استمر غضبها إلي حين وفاتها ولم تتراجع بل احتجت علي أبي بكر بأن الأنبياء يورثون من القرآن الحكيم في خطبتها التي خطبتها أمام الخليفة الأول وذلك بعد منعها منحتها وإرثها وحقها في الخمس. جاء في شرح النهج وبلاغات النساء لأحمد بن طاهر البغدادي: لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر علي منعها فدك لاثت خمارها علي رأسها واشتملت جلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي دخلت علي أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتي إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة علي رسول الله ثم قالت: أنا فاطمة بنت محمد أقول عودا علي بدء، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ثم استرسلت في خطبتها إلي قولها: ثم أنتم الآن، تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون. [ صفحه 87] وفي معرض خطبتها الغراء تواصل الزهراء احتجاجها بما جاء من القرآن عن ميراث الأنبياء فقالت: أفعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله تبارك وتعالي: (وورث سليمان داوود) وقال الله عز وجل في ما قص من خبر زكريا (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال عز ذكره (وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله) وقال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين) وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج نبيه (صلي الله عليه وآله وسلم) منها أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان. أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي أفحكم الجاهلية تبغون... [73] . إن للزهراء من منازل القدس عند الله عز وجل ورسوله والمؤمنين ما يوجب الثقة التامة في صحة ما تدعي والطمأنينة الكاملة بكل ما تنطق به، ولا تحتاج - عليها السلام - في كلامها إلي شاهد... ودعواها بمجردها تكشف عن صحة المدعي به كشفا تاما بلا نقصان.. ومع ذلك فقد جاءت - كما ذكرنا - بشاهد لا أظن أنهم يحتاجون إلي شاهد معه وهو علي (ع) أخو النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي لا يفارق الحق والقرآن أبدا.. ولكن رفضت شهادته ولعمري إن شهادة علي أولي من شهادة خزيمة التي جعلها الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) كشهادة عدلين... ولو تنازلنا فسلمنا أن شهادة علي (ع) كشهادة رجل واحد من عدول المؤمنين فلماذا لم يطلب أبو بكر من فاطمة اليمين فإن حلفت وإلا ردت دعواها؟! لوجوب الحكم بالشاهد واليمين كما رواه مسلم في أول كتاب الأقضية عن ابن عباس قال: قضي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بيمين وشاهد، ونقل في الكنز عن الدارقطني عن ابن عمار قال: قضي الله في الحق بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقه وإن جاء [ صفحه 88] بشاهد واحد حلف معه. ومما يحير الألباب أن تكذب فاطمة وترد دعواها ولا تقبل شهادة علي كل ذلك حرصا منهم علي منعها منحة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بعد أن جعلوها من متروكات الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يعني من حق ورثته. لكنهم جاؤوا بحديث " الأنبياء لا يورثون " واحتجت عليهم الزهراء في خطبتها بأنها تستحق ميراث رسول الله فذكرت من الأدلة القرآنية ما يروي الظمأ ويبين الحق وتلت الآيات التي ورث فيها الأنبياء وكون حكمها عاما يشمل ابنة النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم عرجت علي آيات الميراث العامة والتي خوطب بها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فكان الأولي أن تطبق عليه ثم علي سائر المسلمين، يقول السيد عبد الحسين الموسوي: " إن توريث الأنبياء منصوص عليه بعموم قوله عز من قائل (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) وقوله تعالي (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) إلي آخر آيات المواريث وكلها عامة تشمل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فمن دونه من سائر البشر فهي علي حد قوله عز وجل (كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم). وقوله سبحانه وتعالي (فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر) وقوله تعالي (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) الآية. ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وكل مكلف من البشر لا فرق بينه وبينهم، غير أن الخطاب فيها متوجه إليه ليعمل به وليبلغه إلي من سواه، فهو من هذه الحيثية أولي في الالتزام بالحكم من غيره كذلك آيات الميراث تخص الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) كغيره من سائر الناس عملا بظاهر الآيات الكريمة " [74] . أما كون الأنبياء السابقين قد ورثوا المال فهذا ما نجده في ظاهر الآيات التي [ صفحه 89] تحدثت عن زكريا (ع) وغيره من الأنبياء كما ذكرت الزهراء في الخطبة ولعل هنالك من يدعي أن ميراث الأنبياء كان العلم دون المال ولكن ذلك خلاف الظاهر من الآيات إذ أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلا علي ما ينتقل من الموروث إلي الوارث كالأموال ولا يستعمل في غير المال إلا علي طريق المجاز والتوسع، ولا يعدل عن الحقيقة إلي المجاز بغير دلالة وقرينة... وبالجملة لا بد من حمل الإرث في الآيات القرآنية التي تتحدث عن ميراث الأنبياء علي إرث المال دون العلم وشبهها حملا للفظ يرثني علي معناه الحقيقي المتبادر إلي الذهن إذ لا قرينة علي كون المراد في الآيات توريث العلم ومن يدعي ذلك عليه الإثبات وعلي فرض أن الأنبياء ورثوا العلم لأبنائهم وذويهم فهلا سمعوا العلم عمن ورثه عن النبي (صلي الله عليه وآله سلم) وأخذوا بكلام هؤلاء الورثة ورثة علم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الذين هم أعلم بأحكام الدين من غيرهم واتبعوهم أمنا من الضلال " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي ". ومما يثير التساؤل ميراث زوجات النبي في بيوته التي اختص بها نساءه، عائشة كيف تسني لها البقاء في بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) مع أنه وعلي حسب مدعاهم لا يورث ولم يثبت أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ملكها هذا البيت في حياته كما أن أباها الخليفة الأول لم يطالبها ببينة وانتقلت إليها ملكية البيت بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصبحت هي المتصرفة فيه حتي أن أبا بكر وعمر طلبا منها الإذن حتي يدفنا بجوار رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كما أنها منعت من دفن من هو أكثر نصيبا منها علي فرض أنه من الميراث لأنها ترث التسع من الثمن باعتبارها إحدي تسع أزواج مات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وهن في عصمته، وللزوجة كما هو معلوم ثمن الميراث إن كان له ولد بينما يرث الحسن (ع) عن طريق أمه فاطمة (ع) أكثر منها ومع ذلك ينقل لنا اليعقوبي في حادثة وفاة الحسن بن علي (ع) " ثم أخرج نعشه يعني الحسن يراد به قبر رسول الله (صلي الله عليه وآله [ صفحه 90] وسلم)، فركب مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص فمنعا من ذلك حتي كادت تقع الفتنة وقيل أن عائشة ركبت بغلة شهباء، وقالت: " بيتي لا آذن فيه لأحد " [75] . والقرآن الحكيم يثبت أن هذه البيوت التي أودع فيها زوجاته هي له دون الزوجات في قوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (سورة الأحزاب: آية / 53) فنسبة البيوت إلي النبي واضحة فهو الأصل وزوجاته عرض علي هذه البيوت ولا يعترض قائل بأن الله تعالي يقول أيضا (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) لأن كلمة (بيوتكن) هنا تشمل البيت الذي كان في زمن حياة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والذي تنتقل إليه الزوجة عادة بعد وفاة زوجها... فالزوجة إما ترجع إلي بيت أهلها أو تبقي في بيت زوجها والأخير لا يتم إلا عن أحد طريقين إما أنها تملكته في حياة زوجها أو أنها ورثته عنه والثاني غير ممكن بالنسبة لزوجات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عند من يؤمن بحديث لا نورث أما الأول فلم يثبت أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نحل البيوت لأزواجه، في حين أن فدكا نحلت لفاطمة الزهراء كما جاء في تفسير آية (وآت ذا القربي حقه) قالوا لما نزلت هذه الآية دعا النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فاطمة وأعطاها فدك [76] . إذا كلمة (بيوتكن) لا دلالة فيها علي ملكية زوجات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لبيوته بل الآية الأولي واضحة في نسبة البيوت للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وهي المقيدة للآية الثانية في حال حياة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). لقد طالبوا الصديقة الطاهرة بالبينة ولم يطالبوا غيرها بذلك... ما السبب؟! ذلك ما ستكشف عنه الأحداث كما سنفصل. [ صفحه 91]

فدك الرمز

اشاره

تعرفنا علي الزهراء من خلال القرآن فكانت المثال الأعلي للإيمان والتقوي والورع والزهد والعصمة.. تجلت لنا أسمي معاني الايثار في الزهراء ومع أهل البيت (ع).. يجودون بطعامهم للمسكين واليتيم والأسير لقد مدحها الله مع أبيها وبعلها وبنيها فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ووصفهم بأنهم الموفون بالنذر الخائفون من يوم كان شره مستطيرا وهو تعالي القائل عن لسانهم (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا) ثم جعل سبحانه وتعالي مودتهم أجرا للرسالة والنبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن ابنته فتفيض كلماته لتعطي الزهراء (ع) هالة من القدسية يتوقف عندها كل القديسين والأولياء إجلالا لعظمتها، فاطمة (ع) هذه الشامخة المدركة تماما أنها ما خلفت إلا للآخرة.. إنها كانت من الصنف الذي لا يقيم لحطام الدنيا وزنا وهي التي أهدت حتي ثياب عرسها لسائلة مسكينة ليلة زفافها كما جاء في التاريخ [77] ... وهي من علمت أخي القارئ من خلال استعراض آيات الذكر الحكيم التي نزلت فيها إضافة إلي كلام أبيها وسيرتها العطرة... فاطمة الزهراء (ع) التي عرفتها هي أكبر من أن تطالب بقطعة أرض. يا تري لماذا كان إصرارها علي المطالبة بحقوقها المادية المتمثلة في فدك وغيرها من الخمس والميراث؟! إنها لم تكن حريصة علي امتلاك شئ مآله إلي الزوال في هذه الدنيا ومن المستحيل أن ندعي علي الزهراء بأنها قلبت الدنيا علي الخليفة الأول من أجل شئ يرتبط بالدنيا.. لا سيما أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به. لا بد من أن يكون هنالك شئ عظيم استهدفته الزهراء من مطالبتها بفدك، من مجمل الأحداث التي اطلعت عليها أثناء بحثي توصلت إلي مغزي مطالبة فاطمة بفدك [ صفحه 92] ومن ثم اتخاذها ذلك الموقف من الخلفاء وغضبها ودفنها ليلا وسرا. بعيد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) مباشرة حدث الاختلاف حول الخلافة، البعض ينادي بخلافة علي (ع) وأهل البيت وآخرون يرون شرعية ما جري في السقيفة من تولية لأبي بكر.. إن الأحداث بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أخذت بعدا آخر ولم تكن فدك فيها إلا حلقة من حلقات الصراع بين أصحاب السقيفة وأهل البيت (ع) المعارضين لها بقيادة علي وفاطمة (ع).. وكان بيت فاطمة هو ملتقي تلك المعارضة يقول ابن قتيبة في تاريخه " إن أبا بكر رضي الله عنه تفقد قوما تخلفوا عن بيعته في دار علي " وفاطمة " فأبوا أن يخرجوا فدعا عمر بالحطب، يريد منهم أن يبايعوا بالإكراه والقوة، وقال: والذي نفس عمر بيده. لتخرجن أو لأحرقنها علي من فيها. فقيل له يا أبا حفص إن فيها فاطمة فقال: وإن.. فوقفت فاطمة رضي الله عنها علي بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضرا منكم تركتم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا " [78] . لقد أطلقت فاطمة (ع) صوت المعارضة وحملت مشعل الحقيقة لتبين للجماهير التي اشتبه عليها الأمر وطالبت بفدك وأثبتت بذلك للتاريخ كله أن خلافة تقوم في أول خطوة لها بالاعتداء علي أملاك رسول الله صلي ليست امتدادا له بقدر ما هي انقلاب عليه كما هو الشأن في كل الانقلابات التي تتم في العالم حيث تتم مصادرة أملاك السابقين وأي شخص يتجرد من العصبية المذهبية ويفهم أوليات السياسة يدرك مغزي مصادرة (فدك) وإخراج عمال فاطمة منها وبالقوة أو كما يعبر صاحب الصواعق المحرقة " انتزاع فدك من فاطمة ". ولم تكن " فدك " قطعة الأرض، هي مقصد فاطمة (ع) بل الخلافة الإسلامية التي كانت حقا لزوجها علي بن أبي طالب كما سنبين ويمكن [ صفحه 93]

تلخيص اسرار المطالبة بفدك في الآتي

1 - إن فاطمة كغيرها من البشر تطالب بحقها سواء كان ذلك نحلة أو هبة من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أو ميراثا أو حقوقا شرعية كالخمس، ومن هذا الحق الطبيعي انطلقت الزهراء لتعري القوم وتكشف عن حقيقتهم، والحكمة كانت تقتضي أن تكون المبادرة من الزهراء (ع) بعد أن استولي الحاكم الجديد علي جميع امتيازات الهاشميين.. وكانت مطالبة علي بن أبي طالب وبقية الهاشميين بحقوقهم صعبة في ظل تلك الظروف التي رفض فيها هؤلاء مبايعة الخليفة وإمضاء ما جري في السقيفة وأي محاولة منهم للتحرك كانت تعني إعطاء الطرف الآخر المبرر للتصفية التي كانت تلوح في الأفق من خلال كلمات جماعة السقيفة وهم يتشاورون ويبحثون عن طريقة يجبرون بها الهاشميين وعلي رأسهم علي (ع) علي البيعة. 2 - لقد رأت الزهراء في المطالبة بفدك فرصة طيبة للإدلاء برأيها حول الخلافة وكانت لا بد من أن تدلي بتصريحاتها أمام الجماهير فاختارت المسجد المكان المناسب حيث معقل الخلافة هنالك وحيث كان أبوها يلقي الحديث تلو الحديث عن فضلها ومكانتها عند الله وصدقها وزهدها وقدسيتها، ولذلك عرفت نفسها في الخطبة قائلة " واعلموا أني فاطمة وأبي محمد " وانطلقت في مهمتها الرسالية لتظهر حال ومآل الخلافة، وتكشف الحقائق ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة. 3 - كانت الخلافة المغتصبة هي محط أنظار البتول الطاهرة (ع) فجاءت مطالبتها الحثيثة بفدك وغيرها من الحقوق وبعدها يفسح لها المجال لتطالب بالأمر الذي اختص به زوجها وهو ولاية أمر المسلمين.. وأصبحت فدك ترتبط بالخلافة بلا فاصل كما تحول محتواها وكبر معناها فلم ينحصر في قطعة الأرض المحدودة بل صار معناها الخلافة والبلاد الإسلامية كاملة.. وذلك ما وضحه حفيدها الإمام موسي بن جعفر الكاظم (ع) حينما ألح عليه [ صفحه 94] الرشيد العباسي في أخذ فدك، قال له الإمام: ما آخذها إلا بحدودها، قال الرشيد: وما حدودها، قال (ع): الحد الأول عدن والحد الثاني سمرقند والحد الثالث إفريقية والحد الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية فقال له الرشيد، فلم يبق لنا شئ فتحول من مجلسي - أي إنك طالبت بالرقعة الإسلامية في العصر العباسي بكاملها - فقال الإمام: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها. فدك إذا هي التعبير الثاني عن الخلافة الإسلامية والزهراء (ع) جعلت فدك مقدمة للوصول إلي الخلافة. ذكر ابن الحديد في شرحه قال: سألت علي بن الفارقي مدرس مدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار والمدافعة بشئ، لأنه يكون قد سجل علي نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلي بينة ولا شهود " [79] ومما يؤكد دعوانا في أن الخلافة كانت في الهدف الأساسي ما جاء في الإمامة والسياسة من قول ابن قتيبة.. " وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) علي دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله لقد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر، ما عدلنا به فقال علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم " [80] . [ صفحه 95] لقد كان لفاطمة (ع) موقف واضح من الخلافة حتي أن بيتها كان عند جماعة السقيفة هو مركز المعارضة حتي قال عمر في روايته لما جري في السقيفة بعد أن ذكر أنها فتنة ولكن الله وقي شرها المسلمين يقول: وإن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة [81] . تجمع الهاشميون في بيت فاطمة (ع) وأعلنوا معارضتهم لما جري في السقيفة ومعهم بعض الأنصار الذين كانوا يهتفون: لا نبايع إلا عليا كما ينقل ابن الأثير ثم يقول " وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة، وقال الزبير: لا أغمد سيفا حتي يبايع علي فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر " [82] . وجاء في تاريخ اليعقوبي " أن البراء بن عازب جاء فضرب الباب علي بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم بويع أبو بكر فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولي بمحمد. فقال العباس: فعلوها ورب الكعبة [83] . وينقل أيضا أنه قد " تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس والفضل بن العباس والزبير والمقداد وسلمان وعمار " " وبلغ أبا بكر وعمر أن هذه الجماعة قد اجتمعت مع علي في منزل الزهراء فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فأتوا في جماعة حتي هجموا علي الدار " [84] . إذا لقد تابعت الزهراء أحداث المعارضة بكل تفاصيلها لأنها انطلقت من بيتها، وكما هو معلوم تختلف أدوار المعارضة من شخص إلي آخر، واتكأت فاطمة (ع) علي شخصيتها الطاهرة المقدسة التي عرفهم بها القرآن والرسول فأعلنت المعارضة كما هو [ صفحه 96] واضح من النصوص التاريخية التي استعرضناها، وكانت المطالبة بفدك، لكن القوم أبوا إلا أن يسدوا كل المنافذ التي كانت تفتح لإيصال كلمة الحق للناس، ومع ذلك يظل موقف الزهراء نورا به يستكشف الحق لمن أراده حقيقة. لقد كانت الفترة ما بين وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي حين وفاة ابنته فاطمة الزهراء (ع) منحني خطيرا في تاريخ الأمة الإسلامية ترك بصماته واضحة لمن ألقي السمع وهو شهيد. وكان لفاطمة (ع) الدور الرئيسي في هذه الفترة وفي مقابل ذلك لم يسكت أصحاب السقيفة مكتوفي الأيدي وهم يرون الزهراء (ع) تفعل ما تفعل فكان لا بد لهم من محاولة إسكات هذه الصرخة فجرت الأحداث ساخنة كما تذكرها كتب التاريخ والسير.

الخلفاء و اقتحام الدار

بلغ الصراع أعلي قمة له بين أصحاب السقيفة والهاشميين ومن نادي بخلافة علي (ع) حينما تحصنوا بدار فاطمة (ع) وأعلنوا رفض الخلافة وكان لا بد للسلطة آنذاك أن تتخذ خطوات عملية أكثر تطورا حتي لا تتفاقم الأمور وتسير علي غير ما يشتهون خصوصا وأن الطرف المقابل المعارض وعلي رأسه علي وفاطمة (ع) له من القدسية ما يلهب في الآخرين الحماس والتحرك لمواجهة الحكومة. وفي مسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حيث مقر الحكم بدأت المشاورات والتخطيط لإجبار المعارضين علي البيعة وكما هو معلوم فإن بيت فاطمة يفتح مباشرة علي المسجد ولا باب لهم إلا هذا كما سيأتي في حديث سد الأبواب إلا باب علي (ع). لقد كانت فكرة أصحاب السقيفة تتلخص في ضرورة إجبار هؤلاء علي البيعة حتي لو اضطرهم ذلك لقتالهم وقتلهم. [ صفحه 97] جاء في كتاب الإمامة والسياسة ".. فأتي عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك " يعني علي (ع) " بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولي له: إذهب فادع لي عليا، قال فذهب إلي علي فقال له ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي لسريع ما كذبتم علي رسول الله فرجع فأبلغ الرسالة قال: فبكي أبو بكر طويلا فقال عمر: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة... " [85] . لقد كان الاصرار قويا من عمر وهو يلفت نظر أبي بكر إلي تخلف علي (ع) عن البيعة حتي أنهم هددوه بالقتل يقول ابن قتيبة " فقالوا له: بايع، فقال: إن لم أفعل فمه قالوا: إذا والله الذي لا إله هو نضرب عنقك! " [86] . لقد استفحل الأمر بين الجبهتين حتي أنه وكما ينقل لنا اليعقوبي لو وافي عليا أربعون من المخلصين لكان لأمر الخلافة حديث آخر ولكن لم يجد علي من يعينه، يقول اليعقوبي " وكان خالد بن سعيد غائبا فقدم فأتي عليا فقال هلم أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولي بمقام محمد منك واجتمع جماعة إلي علي بن أبي طالب يدعونه إلي البيعة له، فقال لهم: أغدوا علي غدا محلقين الرؤوس فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر " [87] . ولم تبق وسيلة أمام السلطة إلا اقتحام الدار وإجبار من فيها حتي ولو كانت هذا الدار هي تلك الدار المقدسة التي يقطنها أهل البيت (ع) ولم يشفع أهل الدار دون أن تحرق وتنتهك حرمتها، وهذا ما جري عندما تفقد أبو بكر قوما تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه " فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده: لتخرجن أو لأحرقنها علي من فيها فقيل له يا أبا حفص: إن فيها فاطمة؟ قال: وإن " [88] . [ صفحه 98] لقد حاولوا أن يلفتوا انتباه الخليفة الثاني الذي كان شديدا في الأخذ لبيعة أبي بكر ولكنه كان في كامل وعيه وهو ينوي الاحراق وإشعال النار في بيت بنت المصطفي، لقد نظم الشاعر حافظ إبراهيم الحادثة قائلا: وقولة لعلي قالها عمر++ أكرم بسامعها أكرم بملقيها أحرقت دارك لا أبقي عليك بها++ إن لم تبايع وبنت المصطفي فيها من كان غير أبي حفص يفوه بها++ أمام فارس عدنان وحاميها لقد استقبلتهم الزهراء (ع) من وراء الباب صارخة إلي أين يا بن الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم [89] . لم يكن أمام القوم إلا الخلافة، فاقتحموا تلك الدار وأدخلوا فيها الرجال. يقول اليعقوبي " وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتي هجموا علي الدار " [90] . لا أدري كيف طاوعتهم أنفسهم لهتك ستر هذه الدار التي كان الرسول يقبض حلقتها عند كل صلاة صائحا " الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " [91] . من أين أتتهم الجرأة لكشف ذلك البيت الذي كان يخرج رسول الله في أسفاره منه ثم يكون أول محطة له عند عودته. هذا البيت الذي كان يقدسه الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ويأمر الناس بتقديسه.. ولكنها الخلافة.. الرئاسة... الملك. لقد أغلق رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كل الأبواب التي كانت تفتح علي مسجده إلا باب هذا البيت.. فكيف يكون هو نفسه هدف الهجوم من [ صفحه 99] الرجال.. لقد جري كل شئ علي مرأي ومسمع الخليفة أبي بكر إذ أن المنبر ليس ببعيد عن موقع الأحداث التي جرت في بيت فاطمة (ع) بل إن أبا بكر يعترف بأن الدار قد تم اقتحامها بأمره ويعتبرها إحدي أفعاله التي تمني لو أنه لم يقم بها، يقول في مرض موته: " إني لا آسي علي شئ من الدنيا إلا علي ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد غلقوه علي حرب " [92] . في اليعقوبي: "... وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ولو كان أغلق علي حرب " [93] . في هذين النصين يبرز واضحا اعتراف الخليفة الأول بأن دار فاطمة قد اقتحمت بأمره ولعل كلمتي " أكشف " " وأفتش " دلالتهما بينة خصوصا وأن الدار المقصودة معقل المعارضة، وملتقي الهاشميين فالكشف والتفتيش أقرب المعاني المعبرة عن مراد السلطة آنذاك والكشف معناه كما في لسان العرب لابن منظور رفعك الشئ عما يواريه ويغطيه وبالتأكيد علي حسب كلام أبي بكر لم يكن ذلك برضاهم وإلا لتغير التعبير لأن رفع الشئ عما يواريه وإظهاره يكون من جانب الكاشف، والمكشوف هنا بيت العصمة والطهارة بيت فاطمة التي قالت لأبي بكر وعمر عندما التقيا بها " أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتعملان به؟ قالا نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضي فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني، قالا نعم، سمعناه من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قالت فإني أشهد الله [ صفحه 100] وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه فبكي أبو بكر. حتي كادت نفسه تزهق وهي تقول: " والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها " [94] . شئ عظيم هذا الذي فعلوه مع الزهراء حتي أصبحت تدعو علي الخليفة الأول في كل صلاة لقد تفننوا في إرعاب قلب بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، عندما جاء عمر والرجال لإحراق الدار وجمعوا الحطب كانت أول من تلقتهم خلف الباب وصرخت ونادت بأعلي صوتها: يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة " [95] . ومع ذلك اقتحموا الدار وخلف الباب فاطمة، وذلك ما أقر به أبو بكر في قوله " وليتني لم أفتش بيت فاطمة وأدخله الرجال " ولا ينفع الندم لأن فاطمة (ع) حينما قال أبو بكر هذا كانت قد وصلت إلي أبيها وشكت إليه لأنها ماتت وهي واجدة عليه كما مر. لقد ظلل علي الأجواء التوتر ورائحة الدم تملأ المدينة وشبح التصفية يطارد أهل البيت (ع) وفاطمة رمز المعارضة لا يبعد أن يصيبها وابل من غضب أصحاب السقيفة، وهذا ما جري للأسف الشديد فهم اقتحموا الدار وفيه فاطمة، وأحرقوا الباب وخلفه فاطمة. وأنا أتابع هذه الأحداث أثناء بحثي لم يهمني إلا فاطمة.. ولضبابية الرؤية التي كانت في كتب القوم صرت أبحث بتلهف هنا وهناك وأتصيد المعلومات لأن الذين كتبوا التاريخ لا بد لهم من أن يحفظوا ماء وجه المقدسين لديهم فلا يبرزوا إلا بعض الحقائق عنهم. وكان يهمني مصير فاطمة، لأنها عندي كانت تعني مصير الرسالة، ووجدت الطامة الكبري، واكتملت لدي الصورة عندما رجعت إلي أحفادها " أهل البيت (ع) " [ صفحه 101] وعرفت ما جري ولكن قبل أن أصل إلي هذه الحقيقة لفت انتباهي أن جمهرة من العلماء ذكرت اسم المحسن كأحد أبناء الإمام علي من فاطمة لكن بعضهم اكتفي بذكره دون إشارة إلي موته والبعض الآخر قال أنه مات صغيرا أو حين ولادته وثالث قال أنه ولد سقطا في زمن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وتساءلت عن سبب هذه الضبابية والتعتيم علي زمن وكيفية وفاة المحسن بعد أن ثبت كونه من جملة أولاد علي من فاطمة الزهراء (ع)، وتبين لي مع الأسف أن كل ذلك - من هؤلاء المؤرخين - كان محاولة منهم للجمع بين حقيقة كونه من جملة أولاد الزهراء من جهة وصرف مسألة العنف الذي بسببه أسقطت الزهراء محسنا، فكانت الضبابية، ولكن تواتر الأحداث مضافا إليها الروايات القائلة بإسقاط الزهراء أثناء الهجوم يؤكد حقيقة واحدة وهي أن فاطمة كانت تحمل في بطنها جنينا سماه النبي محسنا وهو في بطن أمه.. هذا الجنين لم ير النور قط، وإليك الأحاديث التي جمعناها في هذا الصدد: - قال الطبري وابن الأثير "... وقد ذكر أنه كان له (الإمام علي) منها (فاطمة) ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيرا " [96] . - قال يونس: سمعت ابن إسحاق يقول: " فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا، فذهب محسن صغيرا ". وقال ابن إسحاق، فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا مات صغيرا " [97] . - قال ابن حزم الأندلسي: تزوج فاطمة علي بن أبي طالب فولدت له الحسن والحسين، والمحسن مات المحسن صغيرا " [98] . - جاء في تاج العروس ولسان العرب: شبر وشبير ومشبر هم أولاد هارون [ صفحه 102] وبها سمي علي (رض) أولاده يعني حسنا وحسينا ومحسنا " [99] . وهناك روايات تتحدث عن إسقاط المحسن قال المسعودي " وضغطوا سيدة النساء بالباب حتي أسقطت محسنا " [100] . إنه ولد ثالث للزهراء اسمه محسن، كما يذكر صاحب " ذخائر العقبي في مودة القربي " ويقول عنه أنه مات صغيرا ".. واسم محسن جديد علي مسامعي لم أسمع به وما ورد في الحسن والحسين غير قليل فلماذا لم يرد شئ تفصيلي عن الابن الثالث لفاطمة الزهراء (ع)؟! بعد التنقيب والبحث اكتشفت لماذا يذكر المحسن كثيرا.. إذ أن ذكره يستتبع أمورا تهد الجبال هدا.. وإليك شذرات مما وجدته وبعدها نحاول ربط الأحداث ببعضها لتتعرف علي سر المحسن بن علي ثم نعرج علي أهل البيت (ع) لنرسم الصورة كاملة: جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني: قال إبراهيم بن سيار بن هاني النظام إن عمر ضرب بطن فاطمة حتي ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: احرقوا دارها بمن فيها [101] . وقال ابن حجر العسقلاني في ترجمة أحمد بن محمد بن السري بن يحيي أبي دارم المحدث أبو بكر الكوفي، قال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته: كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب حضرته ورجل يقرأ عليه " أن عمر رفس فاطمة حتي أسقطت بمحسن [102] . إذا لقد أسقطت فاطمة عليها السلام الابن الثالث محسن وذلك يعني أنه قتل ولم يمت.. [ صفحه 103] في الواقع إن الأحداث الساخنة التي كانت آنذاك كان لا بد من أن يتخللها مثل هذه المصائب الفظيعة التي لم يذكرها المؤرخون السنة صراحة والسبب معلوم كما ذكرنا ولكن شعاع الحق يرفض إلا أن يتسلل من بين ثنايا ذكر ما جري أو بالأحري ذكر ما يحبون ذكره مما جري. لقد ذكروا كما رأينا أن عمر كان يصر علي أبي بكر أن يأخذ المتخلفين عن البيعة بالقوة ثم إنه هو الذي أخذ الرجال إلي باب دار فاطمة ومعه الحطب لحرق الدار إن هم رفضوا الخروج وعند وصولهم إلي باب الدار كان أول ما تلقتهم فاطمة (ع) خلف الباب كما ذكرت آنفا وللتأكيد أورد لك هذين النصين وعليك عزيزي القارئ أن تنتقل بروحك وعقلك إلي تلك الفترة التاريخية لتتصور ما يمكن أن يجري، قال أحمد بن يحيي البلاذري: إن أبا بكر أرسل إلي علي يريد البيعة، فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة فتلقته فاطمة علي الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرقا علي بابي؟ قال: نعم " [103] . وعن نفس الحادثة ينقل ابن عبد ربه الأندلسي: بعث إليهم - يعني المتخلفين عن البيعة - أبو بكر عمر ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار علي أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب: أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم [104] . لقد تصدت فاطمة (ع) لعمر من خلف الباب لعل قلوب الرجال تخشع عندما تسمع صوت امرأة قال عنها الرسول أنها سيدة نساء العالمين وربما لتكون عليهم الحجة أبلغ لقول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم): " من آذي فاطمة فقد آذاني " ولذلك صرخت كما ينقل ابن قتيبة: يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك. [ صفحه 104] ومع ذلك اقتحموا الدار بشهادة أبي بكر في تأسفه علي الثلاثة اللاتي ود أنه لم يفعلهن.. وقال "... وأدخله الرجال " كما، مر، قال اليعقوبي " فأتوا في جماعة حتي هجموا علي الدار " ولو لم يتم الهجوم ما كان هنالك داع لتأسف أبي بكر الذي جاء متأخرا. لقد اقتحموا وإن شئت فقل هجموا علي دار البتول الزهراء (ع) وكانت أول من تلقاهم خلف الباب، والهجوم والاقتحام عادة يكون بلا استئذان ولا رحمة ومما لا شك أن كل شئ يعترض تلك الهجمة الشرسة لا بد أن يتحطم ويبعد عن الطريق.. ولكن بكل أسي ولوعة كان ذلك الشئ بضعة الرسول ووصيته فاطمة (ع) فضربت حتي أسقط جنينها، هذه هي الحقيقة التي حاول القوم إخفاءها فتسللت من بين مجريات الأحداث وظهرت علي صفحة التاريخ نقطة سوداء في جبين الأمة.. كان هذا القدر كاف لكي أجمع باقي خيوط القضية كاملة منذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي حين موت الزهراء (ع)، أو استشهادها.. نعم لقد انتقلت إلي جوار ربها مظلومة مقهورة بسبب ما جري لها من ضرب ورفس أدي إلي إسقاط جنينها المحسن ومن ثم مرضت إلي أن لحقت بأبيها تشكو له ما جري عليها. بعد ذلك توجهت إلي أحفادها لكي استمع منهم تفاصيل ما جري وهم أدري بما جري لجدتهم الزهراء (ع) وهناك تجلت لي الحقائق.. ولكن كانت تكمن عقدتي في أن ذلك يجعلني ألجأ إلي الروايات عن أهل البيت (ع) عن طريق الشيعة. فسألت نفسي.. ولماذا لا آخذ بقولهم لقد عرفت من كتب السنة أن فاطمة غضبت علي الخليفتين حتي ماتت ولم تأذن لأبي بكر أن يصلي عليها ثم إنها طالبت بالخلافة لعلي (ع)، وكان بيتها مركز المعارضة.. كما علمت أن بيتها كان مستهدفا من السلطة التي قررت إجبار من في البيت علي البيعة وإن أبوا فالقتل والإحراق ونفذوا ما خططوه وهجموا علي الدار وكان خلف الباب الزهراء تذكرهم برسول [ صفحه 105] الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ووصاياه ومع ذلك اقتحموا الدار وفاطمة تصرخ ورأيت بين طيات نفس الكتب أن هنالك من يقول بأن فاطمة ضربت وأسقط جنينها كما مر ومهما يكن صنف القول فتسلسل الأحداث يرجح وقوع ما جري. لكل ذلك لم أجد أن عقلي يمانع في الأخذ بقول الأئمة من أهل البيت (ع) حول ما جري من أحداث أدت إلي وفاة فاطمة (ع) فكتب السنة ليست أولي بالأخذ منها بكتب الشيعة لأن هذا أول الكلام الذي يحتاج إلي دليل لسنا في صدده الآن. وسأنقل لك عزيزي القارئ تمام الأحداث كما تراءت لي عند أهل البيت (ع)، لقد تحدث أحفاد الزهراء وبينوا مفصلا ما جري بعد أحداث السقيفة.. رواياتهم تقطر ألما وحسرة علي هذه الأمة التي لم تحفظ رسول الله في أهله.. أغضبت الزهراء وأسقطت ابنها المحسن وقتلت زوجها غدرا وابنها الأكبر المجتبي الحسن سما وابنها الحسين ذبحا. يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق حفيد الزهراء سليل النبوة " ولا يوم كيوم محنتنا بكربلاء، وإن كان يوم السقيفة وإحراق النار علي باب أمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة وزينب وأم كلثوم وفضة، وقتل محسن بالرفسة أعظم وأدهي وأمر ". إنني لن أستعرض كل ما ذكره أئمة أهل البيت (ع) حول الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لأن ذلك يحتاج منا إلي مجلدات، لقد أكثر أهل البيت في بيان ذلك حتي تتعرف الأمة علي أصل المأساة التي سببت الفرقة والشتات.. وسآخذ بعضا من هذه الروايات لتكتمل الصورة أمام القارئ العزيز. لقد جرت أحداث السقيفة وتنصيب الخليفة أبي بكر وأهل البيت مشغولون بمصابهم في وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وبالذات الإمام علي (ع) الذي أوصاه الرسول ألا يلي غسله غيره. انتهي أمر الخلافة التي لم يشارك في مشاوراتها علي بن أبي طالب فكان موقفه [ صفحه 106] الذي علمته وسيأتيك مزيد من التفصيل عنه، فلقد رفض البيعة وبدأ يذكر الناس بالعهود والمواثيق، يقول سلمان الفارسي " فلما أن كان الليل حمل علي (ع) فاطمة علي حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتاه في منزله فذكرهم حقه ودعاهم إلي نصرته فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون رجلا، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم ليبايعوا علي الموت فأصبحوا فلم يواف منهم أحد إلا أربعة: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام، فعل ذلك مرتين وعندما رأي غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل علي القرآن يجمعه " [105] . ورفض أن يبايع. أرسلوا إليه ليبايع وبدأت من هنا المواجهة الساخنة بعد أن أمر عمر بجمع الحطب أمام بيت فاطمة مهددا بالإحراق إن لم يبايع علي، جاؤوا ليجبروا أهل البيت علي البيعة، وقفت فاطمة خلف الباب لعل القوم يراعوا حرمتها وحريمها فلم ينفع فيهم ذلك قال الإمام الكاظم (ع) وهو موسي بن جعفر الصادق - وهو يصف ما جري - لما حضرت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الوفاة دعا الأنصار وقال يا معشر الأنصار لقد حان الفراق إلي أن قال: ألا إن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ". قال الراوي فبكي الإمام الكاظم " أبو الحسن (ع) طويلا وقطع بقية كلامه وقال: هتك - والله - حجاب الله هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله " [106] . كما جاء عن الإمام الباقر (ع) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو يتحدث عن الزهراء: وحملت بالحسن فلما رزقته حملت بعد أربعين يوما بالحسين ثم رزقت زينب وأم كلثوم وحملت بمحسن فلما قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله [ صفحه 107] وسلم) وجري ما جري يوم دخول القوم عليها دارها. أسقطت ولدا تماما - وهو محسن - وكان ذلك أصل مرضها ووفاتها صلوات الله عليها. وورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لما أسري بالنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قيل له: إن الله يختبرك في ثلاث وصار يعددها إلي أن قال: وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها وتضرب وهي حامل ويدخل عليها وعلي حريمها ومنزلها بغير إذن ثم يمسها هوان ولا تجد، مانعا وتطرح ما في بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب ". ويقول الإمام الصادق (ع) واصفا بعض ما جري: وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار علي باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها وضرب فاطمة ورفس بطنها وإسقاط محسنها ". وقوله (ع) وهو يصف ما جري لأهل البيت في رواية طويلة أخري يتحدث فيها عما فعله القوم.. ".. وجمعهم الجزل والحطب علي الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وإضرامهم النار علي الباب وخروج فاطمة إليهم وخطابها لهم من وراء الباب: ويحكم ما هذه الجرأة علي الله ورسوله "، قال عمر: ما علي إلا كأحد المسلمين فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعا ". وهجومهم علي الدار وركل عمر للباب برجله حتي أصاب بطنها وهي حامل لستة أشهر وإسقاطه إياه وصياح أمير المؤمنين لفظة: يا فضة مولاتك فاقبلي منها ما يقبله النساء، فقد جاء المخاض من الرفسة ورد الباب فأسقطت محسنا، وقال (ع): فإنه لاحق بجده رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فيشكو له " [107] . [ صفحه 108]

استشهاد الزهراء

ما أقسي لحظات فراق الأحبة، خصوصا إذا كان للعلاقة جذور تضرب في عمق القيم والمثل وتسقي بالوحي.. علاقة لا كسائر العلاقات.. علاقة بين نبي عظيم وابنة صديقة طاهرة من لحمه ودمه، ابنة ذابت في حب أبيها وليس حبا للأبوة فقط إنه حب من نوع آخر لا ندرك كنهه أنا وأنت.. لماذا؟! لأنها متبادلة بين أب اختاره الله باعتباره أعظم وأشرف خلق الله وهو المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وابنة طهرها الله وعصمها إذا هو حب منشؤه حب الله وطاعة الله.. لقد انفصمت عري هذه العلاقة بانتقال الأب والمربي إلي الرفيق الأعلي، وترك الرسالة الإلهية من خلفه وقد أناط استمرارها تلك بالطرف الباقي الآخر، الابنة الزكية التي تدخلت الإرادة الإلهية مباشرة حتي في زواجها فكان الزوج عليا بن أبي طالب أفضل من يحفظ الرسالة في شخص فاطمة (ع) وغيرها. لكن القوم ما فهموا معني الرسالة والرسول، وما وعوا معني النبوة والوحي بل لم يقدروا الله حق قدره فاعترضوا علي حكمه وتجاوزوا قوله.. ومن ثم اعتدوا علي مقام النبوة، وأبوا إلا يجرعونا وكل المحبين لله ولرسوله الغصة تلو الأخري، وتأبي الدمعة إلا أن تتسلل مصحوبة بألم هائل، إنها الزهراء وما أدراك ما الزهراء!! من يوم ما تعرفت علي مأساتها وأنا أشعر بمسحة كآبة تمر بوجداني وحزن عميق يلفني عند ذكر اسمها فالقوم لم يراعوا فجيعتها بأبيها فاغتصبوا حقها وقبل ذلك ارتقوا مركبا صعبا هم ليسوا أهلا له ثم أرادوا إتمام ذلك ولو بالقوة فكان ما كان. بقيت الزهراء حزينة منكسرة في بيتها تبكي وتشكو همها إلي الله عز وجل وتنتظر يومها الموعود فقد أخبرها المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) بأنها أول أهل بيته لحوقا به كما مر... فضلت تبكي وتبكي إلي أن جاء " شيوخ " أهل المدينة يظهرون لعلي انزعاجهم وتأذيهم من بكاء فاطمة ويطالبونه بأمرها بالكف عن ذلك [ صفحه 109] أو تخييرها بين البكاء ليلا فقط أو نهارا فقط، فبني لها أمير المؤمنين علي (ع) بيتا خارج المدينة سمي " بيت الأحزان ". هناك واصلت مأساتها. ويوما فيوما راحت تذبل تلك الزهرة اليانعة. وأخذ المرض منها مأخذا، يقول الإمام الصادق (ع)... (فأسقطت محسنا ومرضت من ذلك مرضا شديدا وكان ذلك هو السبب في وفاتها).. كيف لا يكون كذلك وهي ابنة ثمانية عشر عاما.. لقد اكتملت عليها المصائب بضربها واقتحام دارها فكانت البداية والنهاية... وصارت طريحة الفراش تنتظر أجلها الذي اقترب منها سريعا وبجانبها علي (ع)، يقول الإمام زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين (ع) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أوصت علي بن أبي طالب (ع) أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها، وكان يمرضها بنفسه وتعينه علي ذلك أسماء بنت عميس علي استمرار بذلك. لقد يئست الزهراء من أهل المدينة الذين طلبت نصرتهم فلم ينصروها لقد سئمتهم وزهدت في مروءتهم فبلغ بها الأمر ألا تريد رؤيتهم في مرضها الأخير.. يكفيها علي ليقف بجانبها وهي علي هذه الحالة في اليوم الأخير قبيل رحيلها نامت الزهراء (ع) في ساعة من ساعات ذلك اليوم وإذا بها تري أباها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في المنام في قصر من الدر الأبيض فلما رآها (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: هلمي إلي بنية فإني إليك مشتاق!! فقالت: والله إني لأشد شوقا إليك فقال لها: أنت الليلة عندي. انتبهت من غفوتها وبدأت الاستعداد للحوق بأبيها.. إن هي إلا ساعات تقضيها في هذه الدنيا الفانية ويتحقق قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لها قبيل انتقاله... وأكده لها بعد انتقاله إنها النبوة ومن ذلك كان يقين فاطمة بقرب النهاية.. بينما الفرح يغمرها لارتحالها إلي العالم الأبدي حيث الرضوان الأكبر وجنة [ صفحه 110] عرضها السماوات والأرض يعتصرها ألم من ناحية أخري. سوف تترك الزهراء (ع) الزواج العطوف وحيدا بعدها، وفراخا لم تنبت أجنحتهم بعد وزهورا لم تتفتح. إنهم أفلاذ كبدها... ستغادرهم وتتركهم لهذه الحياة التي تحمل الكثير الكثير من المأسي خصوصا لهؤلاء، إنهم آل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أكثر الناس بلاء وأعظمهم امتحانا.. وإن بعض شذاذ الآفاق ونبذة الكتاب يتربصون بهم.. ستودعهم وهي تنظر إلي ذلك المستقبل غير المجهول لأبنائها وزوجها.. إنها تنظر بعين أبيها الباصرة بإذن الله إلي الغيب حيث يضرب علي بالسيف غيلة وهو في محرابه ويقتل الحسن سما والحسين تمزيقا بسيوف بدأ سلها في وجه أهل البيت (ع) منذ وفاة النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم). كل ذلك يدور في خلد الزهراء وهي تمشي نحو الماء متكئة علي الحائط من شدة الضعف لتغسل أطفالها وثيابهم أخر غسلة وهي ترتعش وكأنها تودعهم.. لا أدري عمق شعورها آنذاك، إن من جملة أسمائها (الحانية) لأنها كانت القمة في الحنان والعطف علي أبنائها. دخل الإمام علي (ع) البيت ووجدها علي رغم علتها تمارس أعمالها وتخدم في البيت. رق لها قلب الإمام وهي بهذه الحالة فأخبرته بأنه آخر أيامها وأخبرته بما رأته وسمعته من النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أثناء نومها وعادت إلي فراشها ثم قالت له: يا ابن عم!! إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أدري ما بي إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي... قال لها علي (ع): أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، قالت: يا ابن عم! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني.. فقال علي (ع) معاذ الله! أنت أعلم بالله وأبر وأتقي وأكرم وأشد خوفا من الله من أن أوبخك بمخالفتي وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله وقد [ صفحه 111] عظمت وفاتك وفقدك فإنا لله وإنا إليه راجعون وبكيا جميعا ساعة، وأخذ الإمام رأسها وضمها إلي صدره ثم قال: أوصني بما شئت، فإنك تجدينني وفيا أمضي لما أمرتني به وأختار أمرك علي أمري. فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء.. يا ابن عم، أوصيك أولا: أن تتزوج بابنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لا بد لهم من النساء ثم قالت، وأوصيك إذا قضيت نحبي فغسلني ولا تكشف عني فإني طاهرة مطهرة وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وصل علي، وليصل معك الأدني فالأدني من أهل بيتي وادفني ليلا لا نهارا إذا هدأت العيون ونامت الأبصار، وسرا لا جهارا وعف موضع قبري ولا تشهد جنازتي أحدا ممن ظلمني. لقد أرادت الزهراء (ع) مواصلة الجهاد بعد مماتها فكانت وصيتها الاعلان الأخير لموقفها الصامد والمستمر من وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وحتي مرضها وتريده باقيا إلي ما شاء الله.. تدفن بنت المصطفي سرا. ليلا لا يصلي عليها إلا أهل بيتها والمخلصون لهم!!. في لحظاتها الأخيرة طلبت ثيابا جديدة ثم دعت سلمي امرأة أبي رافع وقالت لها هيئي لي ماء وطلبت منها أن تسكب لها الماء وهي تغتسل ثم لبست ملابسها الجديدة وأمرت أن يقدم سريرها إلي وسط البيت واستلقت عليه مستقبلة القبلة وقالت إني مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد. تقول أسماء بنت عميس: لما دخلت فاطمة البيت انتظرتها هنيئة ثم ناديتها فلم تجب فناديت: يا بنت محمد المصطفي، يا بنت أكرم من حملته النسا، يا بنت خير من وطأ الحصي، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدني، فلم تجب، فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها فإذا بها قد قضت نحبها شهيدة صابرة مظلومة محتسبة ما بين [ صفحه 112] المغرب والعشاء فوقعت عليها أقبلها، وأقول يا فاطمة إذا قدمت علي أبيك (صلي الله عليه وآله وسلم) فأقرئيه مني السلام. فبينا هي كذلك وإذا بالحسن والحسين دخلا الدار وعرفا أنها ميتة فوقع الحسن يقبلها ويقول: يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني، والحسين يقبل رجلها ويقول يا أماه أنا ابنك الحسين، كلميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت. ثم خرجا إلي المسجد وأعلما أباهما بشهادة أمهما فأقبل أمير المؤمنين إلي المنزل وهو يقول: بمن العزاء يا بنت محمد؟ وقال: (اللهم إنها قد أوحشت فآنسها، وهجرت فصلها، وظلمت فاحكم لها يا أحكم الحاكمين). وخرجت أم كلثوم متجللة برداء وهي تصيح: يا أبتاه يا رسول الله الآن حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده، وكثر الصراخ في المدينة علي ابنة رسول الله، واجتمع الناس ينتظرون خروج الجنازة، فخرج إليهم أبو ذر وقال: انصرفوا إن ابنة رسول الله أخر إخراجها هذه العشية. وأخذ أمير المؤمنين في غسلها، وعلل ذلك حفيدها الإمام الصادق (ع) يقول: إنها صديقة فلا يغسلها إلا صديق كما أن مريم لم يغسلها إلا عيسي (ع)، وقال (ع): إن عليا أفاض عليها من الماء ثلاثا وخمسا وجعل في الخامسة شيئا من الكافور، وكان يقول: اللهم إنها أمتك وبنت رسولك وخيرتك من خلقك، اللهم لقنها حجتها، وأعظم برهانها وأعل درجتها، وأجمع بينها وبين محمد (صلي الله عليه وآله وسلم). وحنطها من فاضل حنوط رسول الله الذي جاء به جبرائيل إذ أخبرهما النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) سابقا: يا علي ويا فاطمة هذا حنوط من الجنة دفعه إلي جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما.. اقسماه واعزلا منه لي ولكما، فقالت فاطمة: ثلثه لك والباقي ينظر فيه علي (ع) فبكي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وضمها إليه وقال: إنك موفقة رشيدة مهدية ملهمة، يا علي قل في الباقي، فقال: نصف منه لها، والنصف لمن تري يا رسول الله قال هو لك. [ صفحه 113] وكفنها في سبعة أثواب، وقبل أن يعقد الرداء عليها نادي: يا أم كلثوم، يا زينب، يا فضة، يا حسن، يا حسين، هلموا وتزودوا من أمكم الزهراء، فهذا الفراق واللقاء الجنة. حقا إنها لحظات وداع لشمعة انطفأت وطالما احترقت لتنير للآخرين.. ما أعظم الرزية وما أجل المصيبة. أقبل الحسنان (ع) يقولان: واحسرة لا تنطفئ من فقد جدنا محمد المصطفي وأمنا الزهراء؟ إذا لقيت جدنا فأقرئيه منا السلام وقولي له: إنا بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا. قال أمير المؤمنين (ع) وإذا بهاتف من السماء ينادي يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السماء فرفعهما عنها وعقد الرداء عليها. وجاءت أهم اللحظات.. لحظة تنفيذ بند الوصية المهم ذلك البند الذي سيظل شاهدا علي موقف الزهراء إلي القيامة. إنها لحظات الدفن التي يجب أن تكون سرا وقبلها الصلاة علي الجنازة الذي كان محددا فيها ألا يكون فيه شخص ممن ظلم الزهراء. هكذا كانت الوصية. جن الليل.. نامت العيون وهدأت الأبصار. وجاء في جوف الليل نفر قليل من الهاشميين ومن المحبين الذين وقفوا مع علي وفاطمة موقفا إيجابيا وهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، صلي عليها الإمام علي (ع) ومعه هذه العصبة القليلة المباركة.. ثم دفنها ولما وضعها في اللحد قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلي ملة رسول الله محمد بن عبد الله، سلمتك أيتها الصديقة إلي من هو أولي بك مني، ورضيت لك بما رضي الله لك. ثم قرأ (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري). ثم إنه (ع) سوي في البقيع سبع قبور، أو أربعين قبرا لكي يضيع بينها قبر [ صفحه 114] الزهراء (ع)، ولما عرف شيوخ المدينة دفنها، وفي البقيع قبور جدد أشكل عليهم الأمر فقالوا: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور لنخرجها ونصلي عليها، فبلغ ذلك عليا (ع) فخرج مغضبا عليه قباؤه الأصفر الذي يلبسه عند الكريهة وبيده ذو الفقار، وهو يقسم بالله لئن حول من القبور حجر ليضعن السيف فيهم، فتلقاه عمر ومعه جماعة فقال له: ما لك، والله يا أبا الحسن لننبشن قبرها ونصلي عليها. فقال علي (ع) وهو غاضب: أما حقي فتركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفسي بيده لئن حول منه حجر لأسقين الأرض من دمائكم، فتفرق الناس [108] . وأسدل الستار عن أول محطة سقطت الأمة في امتحانها، وغادرت الزهراء مشتاقة للقاء ربها وأبيها ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاما عظاما.. انتقلت لتشكو إلي الله سبحانه وتعالي ليحكم لها علي من ظلمها وتركت لنا أعلام هداية ومنارات فرقان.. رحلت وخلفت فينا سرها. سرها الذي دفن في قبرها الذي دفنت فيه سرا. إنه سر سهل ممتنع لا تطوله كل العقول ولا يمتنع عن جميع العقول، سر لا يطوله إلا من أشرق في قلبه نور فاطمة وارتشف من ضياه عقله فانفتح علي الحق والخير ونفر من الظلم والانحراف. ورغم أنني تجرعت كأس ألمها إلا أنه بالنسبة لي كان ممزوجا بالحلاوة. شربت منه فأشرقت لي فاطمة بنورها فكانت الدليل إلي الصراط المستقيم. وما أعظم شأنها. حقا إنها فاطمة بنت محمد زوج علي.

الزهراء صرخة مدوية عبر التاريخ

لقد انتقلت الزهراء (ع) إلي بارئها هناك حيث جنة عرضها السماوات والأرض تنتظر يوم القيامة يوم الحساب.. ولكنها تركت صرخة تجلجل وتدوي لتحرك [ صفحه 115] الضمائر الميتة وتهز الوجدان وتنفض غبار الغفلة والشهوات والتكبر عن العقول.. صرخة ألم ولوعة أما صرخة الألم فهو نتاج ما لحقها من أذي وضرب وإسقاط جنين وأما اللوعة فهي مما اقترفته الأمة تجاه الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ورسالته التي لم تحفظ.. لقد غادرت الزهراء وتركت سهمين في صدر التاريخ ينزفان دما الأول انتقالها وهي لم تكمل عقدها الثاني أما الآخر فهو دفنها ليلا سرا حتي أن قبرها الذي تهفو إليه قلوب الملايين لا يعرف له موضع.. حسرة وما أعظمها من حسرة إنها إشارة الزهراء لننطلق في تلمس الحقائق، ثمانية عشر ربيعا فقط وكانت أول أهل بيته (صلي الله عليه وآله وسلم) لحوقا به.. تري لماذا... صحيح أن الموت حق علي كل العباد ولكن ألا يقفز إلي الذهن السؤال عن سبب الموت؟ كلنا عندما نفقد عزيزا في ريعان شبابه ويأتينا الخبر بموته نسأل مباشرة وكيف مات؟! وهذا ما يريده الله عز وجل منا لنصل إلي عمق المأساة، سؤال فطري.. ما الذي جعل الزهراء (ع) تنتقل بهذه السرعة وغيرها يمتد به العمر إلي ما شاء الله.. وعندما نسأل أنفسنا هذه الأسئلة سنكتشف الحقيقة... أولا حزنا علي فقد الحبيب المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم علي غصب الحقوق ثم اعتداء وضرب وإسقاط الحقوق حقوقها وحقوق زوجها وأبنائها وحقوق الأمة الإسلامية ويتوج ذلك كله الاعتداء الصارخ بالإحراق والضرب والرفس ومن ثم إسقاط " المحسن " ألا يكفي هذا لأن تهد الجبال هدا.. إن الزهراء (ع) قاست كل ذلك لا لكي تجني فائدة شخصية ولكن لتثبيت دعائم الإسلام.. هكذا يريد الله تعالي أن يكشف لنا عن الحقائق عبر حياة أوليائه. والسهم الآخر دفنها سرا.. إن الزهراء (ع) بنت النبوة ربيبة الوحي تخدم الرسالة حية وميتة.. لقد أمرت ألا يصلي عليها رمز الشرعية في السقيفة وأن تدفن ليلا سرا حتي لا يعلم قبرها فيبقي التساؤل عن سر ذلك قائما حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا.. كل الشخصيات الهامة، وكل الصالحين نعرف قبورهم ويقصدها من يقصدها إلا الصديقة الطاهرة أم أبيها تري لماذا؟!! إنها أيضا رسالة الرسالة لمن يؤمن بالرسالة وذكري لقوم يعقلون. [ صفحه 119]

الامامة و الخلافة

تمهيد

لم أكن أتصور بأنني سأجد هذا الزخم الهائل من الأحاديث والآيات التي تؤيد وتدعم دعوي الشيعة. فبعد حواري مع ابن عمي، والذي أخذ منحي آخر معي متوخيا الحذر بعد أن علمت بظلامة الزهراء (ع)... أعطاني ثلاثة كتب قرأتها، كان الأول لدكتور أعلن ولاءه لأئمة أهل البيت (ع) بعد أن كان من علماء أهل السنة والجماعة، والكتاب الثاني " المراجعات " وهو مناظرة قيمة جرت بين عالم شيعي وهو السيد عبد الحسين شرف الدين وآخر سني كان زعيما للأزهر الشريف هو الشيخ سليم البشري، وكتاب آخر عن تأريخ الشيعة وظلم الحكام لهم علي امتداد التاريخ، وحقا كان لكتاب " ثم اهتديت " للدكتور التيجاني السماوي الدور الأكبر في تحفيزي للبحث كما أنه كان دافعا لقراءة كتاب المراجعات بدقة وعناية ولا أظنني سأجد كتابا علي أديم الأرض أكثر قوة وحجة ومنطقا من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حجج الشيخ البشري بأدب ووقار. وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول - محاولا الاستهزاء به كردة فعل طبيعية إنه مختلق وإن هذه المناظرة أساسا لم تقم، فأجابه الأخ: - يا شيخنا فلنفرض جدلا أن هذه المناظرة لم تكن، وأن هذه الشخصيات لا وجود لها في الحقيقة ما رأيك فيما ورد في الكتاب من الأدلة، نحن كلامنا ليس حول الشخصيات وما يهمنا محتوي الكتاب إذا كنت تملك ردا عليه فتفضل (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وإلا فالزم الصمت... فصمت صاحبنا. والحال إننا نثق بأن هذه المناظرة والحوار بين السيد عبد الحسين والشيخ سليم حدثت حقيقة، والشخصيتان علمان بارزان في سماء الأوساط الدينية عند الشيعة والسنة. وسوف أقدم مجموعة من الأدلة تأخذ بأعناقنا شئنا أم أبينا إلي اتباع أهل البيت (ع) والاقتداء بهم دون غيرهم من الخلق لأنهم خلفاء رسول الله (صلي الله عليه [ صفحه 120] وآله وسلم) وإن الهدي في اتباعهم وأخذ الدين منهم وموالاتهم وإن الضلالة في موالاة غيرهم ولن آتي بدليل من خارج الكتب المعتمدة لدي أهل السنة والجماعة حتي نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم. وموضوع بحثنا كما هو واضح الإمامة والخلافة التي قيل فيها: لم يسل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة، وهي جذر الخلاف القائم بين الشيعة والسنة ومن عندها تفرع حتي وصل إلي أصغر الجزئيات فهل الإمامة نص وتعيين أم هي شوري واختيار من قبل المحكومين؟.

بالشوري ام بالتعين؟

مفهوم الشوري عند أهل السنة والجماعة غير واضح

الحق إن الكلام حول خلافة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) غير واضح عند الإخوة أهل السنة فتارة يقولون بالشوري وأخري يعطون الشرعية للنص، ومع ذلك لا نجد مستندا شرعيا ولا دليلا يؤيد دعواهم، وقد تمسكوا بآيتين وردتا في القرآن الكريم اشتبه علي القوم سبيل فهمهما كما سنبين. ولم نجد عندهم مفهوما واضحا للشوري ولا حدودا ولا تفاصيل سواء من القرآن أو السنة، لأن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) انتقل إلي الرفيق الأعلي ولم يوضح شيئا - كما يظنون - عن أخطر فتنة يمكن أن تتعرض لها الأمة وهي الخلافة بحسب منهجهم، وهو الذي يحمل علي عاتقه تبليغ خاتمة الرسالات ولم يترك فيها كبيرة ولا صغيرة يحتاجها الناس إلا وبينها لهم حتي أحكام التخلي فكيف بقيادة الأمة ونظام الحكم في الإسلام؟ بل إن القول في الشوري عندهم عبارة عن اجتهادات لعلماء رسموا مفهومها الديني بناء علي ما جرت عليه الأحداث، فقالوا يجوز لولي الأمر أن يعين خليفته كما فعل أبو بكر، ويمكن أن تنعقد البيعة لأحدهم بمبايعة فرد واحد [ صفحه 121] كما بايع العباس عليا بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وكما بايع عمر أبا بكر، ومنهم من قال إن الشوري تنعقد بأهل الحل والعقد ولكن دون توضيح من هم أهل الحل والعقد ومن الذي يعينهم، وبعضهم جمع بين كل ذلك وتاه في ظلمات بعضها فوق بعض... وكل ذلك تقول علي الدين لا يؤيده دليل عقلي ولا نقلي اللهم إلا الآيتان الشريفتان وهما أجنبيتان عن المقام ولا يمكن تثبيت هذه الشوري المزعومة بهما. الآية الأولي: قوله سبحانه وتعالي: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل علي الله) (سورة آل عمران: آية / 159). استدلوا بهذه الآية علي أصل الشوري وقالوا إن الخلافة والإمامة بالشوري في حين أن الآية واضحة في خلاف مرادهم إذ أنها تخاطب الحاكم الذي استقرت حكومته وتوجهه لمشاورة الرعية لأنه هو الذي يشاور، ونفس الآية تشير إلي أن هنالك ثمة رئيس (حاكم) بعد أن يمحص الآراء والأفكار يأخذ بالنافع منها ثم يعزم هو علي ما ارتآه بعد المشاورة متوكلا علي الله.. كذلك تبين الآية أن الأمر هنا غير الحكومة، فبدون الحاكم لا وجود للشوري لأنها تحتاج إلي حاكم يكون قيما عليها ليعزم ويتوكل علي الله، وبناء علي هذه الآية لا تتم الشوري إلا بولي الأمر الذي يفصل في موضوعها، وعلي ذلك لا دلالة للآية علي الشوري التي بها يتم اختيار ولي الأمر لأن وجوده مكمل لنفس الشوري، ويتوقف اختياره علي وجوده ضمن الجماعة المكونة للشوري، وهذا يلزم الدور وهو باطل، والدور يعني تثبيت وجود شئ بوجود شئ آخر يتوقف وجوده علي وجود الشئ الأول مثل قضية الدجاجة والبيضة أيهما أول فالبيضة يتوقف وجودها علي الدجاجة وكذلك الدجاجة وما أشبه!! الآية الثانية: قوله تعالي: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم) (سورة الشوري: آية / 38) إن الآية الكريمة حثت علي الشوري فيما يمت إلي شؤون [ صفحه 122] المؤمنين بصلة، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم، أما كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهو أول الكلام، إذ لا ندري هل هو من شؤونهم أم من شؤون الله سبحانه وتعالي وعلي فرض أن ذلك من شؤونهم فمع هذا لا يصح الاستدلال بهذه الآية في موضوع تعيين الإمام والخليفة إذ لا يقال أنه يجوز قيام الشوري الشرعية دون ولي الأمر كما ذكرنا في الاستدلال بالآية السابقة، والآية في الواقع عامة تولت تفصيلاتها آية (وشاورهم في الأمر...) أما الآية موضع البحث فقد جاءت تتحدث عن صفات المؤمنين والرسول (صلي الله عليه وآله) أحدهم بل أكملهم وأتقاهم وهو ولي الأمر المستقر له الوضع، فلا يمكن أن لا تكون له كلمة الفصل، وواضح من الآية أنها نزلت بلحاظ وجود ولي الأمر بينهم لا بعدم لحاظه ومن يدعي غير ذلك فعلية الإثبات. إذا علمت ذلك نقول أنه بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إما كان هناك ولي أمر فلا داعي للشوري لتنصيبه، وإما لم يكن فيحتاج إلي شوري شرعية حتي يتم تنصيبه. والشوري الشرعية تحتاج إلي ولي أمر قيم عليها يأخذ بالنافع بعد المشاورة ويعزم عليه وبدونه تكون الشوري غير شرعية فلا يلزم بها أحد من المسلمين. وبناء علي ذلك لا بد من النص علي الإمام (ولي الأمر) وهذا ما يثبته التاريخ والعقل ومرويات الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والقرآن وفيها ما يشبعك.

التعيين ضرورة

جاء في سيرة ابن هشام. لما دعا الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) بني عامر للإسلام وقد جاؤوا في موسم الحج إلي مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك علي أمرك ثم أظهرك الله علي من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): [ صفحه 123] " الأمر لله، يضعه حيث يشاء " [109] . لقد بين الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أن الأمر لله تعالي وهذا القرآن الذي نتلوه ليل نهار يؤكد ذلك أيضا بقوله تعالي: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [110] . والاصطفاء الإلهي لحمل عب ء تبليغ الرسالة والحفاظ عليها سنة إلهية لن تتغير ولن تتبدل، قال الله سبحانه وتعالي (إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) [111] ويقول جل وعلا (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) [112] ، ويؤكد سبحانه وتعالي أن الأمر ليس بيد أحد مهما بلغ من الوعي فأضاف إلي نفسه تعالي الاختيار والجعل يقول تعالي (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) [113] (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [114] . وهذا الجعل ليس بأمر الأمة بل بأمر الله (بأمرنا) ولا يعقل أن يكون الضمير في " أمرنا " شامل للأمة إذ ليست هي التي توحي إلي الأئمة فعل الخيرات وإقام الصلاة... كما أن الأمة ليست هي المعبودة (وكانوا لنا عابدين) ولا هي صاحبة الآيات (بآياتنا يوقنون). وضرورة التعيين أمر يعلمه كل إنسان بوجدانه وعقله، لضرورة وجود خليفة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يقوم مقامه في كل واجباته، ويكاد يكون ذلك من [ صفحه 124] البديهيات وإلا أي ضمانة يمكن لها أن تحفظ لنا ديننا وتمثل بوصلة لبيان الانحراف الذي ربما يحدث بعد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كما حدث في الأمم السابقة؟ من الذي تركن إليه الأمة ليواصل مسيرة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وكيف يتأتي للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أن ينتقل للرفيق الأعلي دون أن يعين خليفته؟ أمن العقل أن يترك أمر الخلافة والإمامة في أيدي الناس الذين قد تتغلب عليهم شهوة السلطة والزعامة؟ ذلك لأن طبيعة البشر تهوي به إلي أسفل ولا يكفيها وجود شريعة محفوظة في الكتب، بل لا بد من تجسيد تلك الشريعة في إنسان يتمتع بتفوق تشريعي (معصوم) يعطيه صلاحية تطبيق الشريعة علي الناس (منصوص عليه) إذ لا بد لكل قانون من مطبق نافذ الكلمة وإلا عاد القانون حبرا علي الورق " [115] . إن الخالق الذي من أجل كمال كل مخلوق وفر له الوسائل الضرورية وغيرها كي يعبر من حدود النقص والضعف إلي منازل الكمال، كيف يمكن أن يستثني من ذلك القيادة بعد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والتي تعتبر عاملا مهما لرقي الإنسان معنويا وروحيا. والتعيين أمر تنبه له أبو بكر عندما كتب وصيته التي نصب فيها عمر خليفة من بعده وأمر الناس بالسمع والطاعة له... ومع أنه كان علي فراش الموت عند كتابته لذلك إلا أن عمر كان حريصا علي تنفيذ الوصية في حين أنه كان المعترض الأول علي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما أراد كتابة وصيته وهو مريض وقال " إنه يهجر " ويقول أمير المؤمنين علي (ع) في شأن تعيين أبي بكر لعمر " فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها ". كما أن عائشة أقرت بضرورة التعيين عندما ضرب عمر وبقي علي الفراش ينتظر الأجل المحتوم إذ أرسلت إليه أن أوص من يخلفك ولا تترك أمة محمد بعدك هملا. [ صفحه 125] وبدون راع، وأشار عبد الرحمن بن عوف علي عمر بذلك أيضا. والواقع العملي يثبت أن الخلفاء جاؤوا بالتنصيب وبلا شوري حتي شوري الستة كانت بالتعيين كما ستري.

علي بن ابي طالب اول خليفة للنبي

اشاره

طفحت كتب أهل السنة والجماعة بالأحاديث التي تبين أن أهل البيت (ع) هم خلفاء الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وحملة دين الله بعده، وغير المتمسك بهم ضال وذلك بإخبار النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن اختيار الله تعالي لهم، وسنري من خلال ما نستدل به أن الأمر لا ينحصر في حبهم فقط والتبرك بهم إنما موالاتهم واتباعهم والتسليم لهم. وكثيرا ما يقول لي البعض نحن نحب أهل البيت (ع)... أقول إن حب أهل البيت (ع) مجردا عن ترتيب أثر علي ذلك لا يجدي، فحبهم يستتبع أن نسلك مسلكهم ونتبع منهجهم ونوالي أولياءهم هذا هو الحب يقول تعالي (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (سورة آل عمران: آية / 31) وأهل البيت (ع) هم حملة رسالة السماء وبهم يعرف الحق من الباطل والمتمسك بهم هو الملتزم بمنهجهم السائر علي دربهم. والإمام علي (ع) هو الإمام الأول والخليفة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)... ذلك ما توصلت إليه من خلال ما تواتر من الأحاديث حول تنصيبه إماما للأمة وعن أفضليته علي جميع الصحابة، رغم أن أعداءه أخفوا مناقبه حسدا وأخفاها شيعته خوفا إلا أنه ظهر من بين ذلك ما ملأ الخافقين يقول أحمد بن حنبل " ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب " [116] ومع ذلك سأختار بعض الأحاديث التي تثبت له الولاية والخلافة: [ صفحه 126]

حديث الغدير

في حديث طويل " أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد جمع الناس يوم غدير خم (موضع بين مكة والمدينة - الجحفة) وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع وكان يوما صائفا حتي أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر، وجمع الرحال وصعد عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين: ألست أولي بكم من أنفسكم؟ قالوا: " بلي، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله ". إن حديث الغدير من أوضح أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) بيانا وأعمقها دلالة وأقواها بلاغة ولقد أورده السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية (النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم) لبيان أن ولاية علي (ع) التي قرنها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بولايته هي امتداد لها وكما كان (صلي الله عليه وآله وسلم) أولي بالمؤمنين من أنفسهم كذلك علي بن أبي طالب، مما يدل علي أن النبي ما أراد الولاية بمعني الحب إنما أرادها بمعني الإمامة لوجود القرينة المقالية فقد بدأ الحديث بولاية نفسه علي المؤمنين ثم قرنها بولاية علي فالولاية بمعني الأولي من المؤمنين بأنفسهم. هذا الحديث لا شبهة في صحته وهو من الأحاديث المتواترة التي لم يستطع علماء أهل السنة والجماعة رده فبحثوا له عن تخريج ومعني يتناسب مع ما تهواه أنفسهم فاضطروا إلي تفسير الموالاة بمعني الحب وهذا المعني لا ينسجم ومفهوم الحديث القاضي بولايته وإمامته علي الناس بعد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وخلافته له بصورة واضحة وجلية، ولا يمكن لشخص يملك عقلا سليما ووجدانا صحيحا أن يقنع بقول علماء أهل السنة والجماعة، فهم كأنما يقولون أن الرسول (صلي الله وآله وسلم) ومعه هذه الأعداد الهائلة من الحجاج والذين يبلغ عددهم ما يقارب المائة وعشرين ألف... أوقف من معه وأرسل في طلب من سبقه ليأتي راجعا وانتظر من كان بعده يوقفهم في تلك الصحراء والشمس تلفح الوجوه ليقول لهم [ صفحه 127] أيها الناس " أحبوا " عليا فإنه ابن عمي وزوج ابنتي. أي أحمق هذا الذي يؤمن بهذا القول والله إنها لضحالة في التفكير وسذاجة في استعمال أساليب المكر والخداع وخبث ينم عن عداء حقيقي لعلي بن أبي طالب (ع). وقد تتبع صاحب موسوعة " الغدير " العلامة الأميني رواة هذا الحديث من الصحابة فبلغ عددهم " 110 صحابي " فيهم أبو هريرة وأسامة بن زيد وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله والزبير بن العوام وزيد بن الأرقم وغيرهم " [117] ومن التابعين بلغ عدد الرواة (84) ولم يترك حتي العلماء في القرون الأولي وكذلك الشعراء [118] . ولقد أورد الحديث أحمد بن حنبل في مسنده وأضاف " فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولي كل مؤمن ومؤمنة " [119] . كما أورده الحاكم في مستدركه ج 3 ص 110 وقال عنه صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولأهمية أمر الإمامة والولاية في الرسالة وباعتبارها جزءا أساسيا لا تكتمل الرسالة بدونه جاء الأمر من الله تعالي بتبليغ ذلك للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فكان حديث الغدير كما جاء في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (سورة المائدة: آية / 67) قال: والعاشر - أي من الوجوه التي قالها المفسرون في نزول الآية: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب (ع) ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولي كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي " [120] . [ صفحه 128] وبهذا تتضح أهمية الولاية كجزء من الرسالة من دونها تفقد الرسالة أهميتها كما تنطق الآية. ومما يؤكد قولنا اختصاص علي بالولاية دون غيره من الصحابة وذلك في قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (سورة المائدة: آية / 55) يقول الرازي والطبري المقصود من الذين آمنوا أمير المؤمنين علي (ع) كما أورده السيوطي في الدر المنثور وكذلك كنز العمال. والآية ظاهرة في إمامته ومعني الولي في هذه الآية لا بد أن يلائم الحصر في الله عز وجل وفي رسوله وفي علي وظهور أداة: إنما في الحصر تشير إلي تفسير واحد لكلمة الولي وهو مالك الأمر ونحوه مما يناسب الاختصاص.

حديث المنزلة

جاء في البخاري " كتاب بدء الخلق " في باب غزوة تبوك أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج إلي تبوك واستخلف عليا (ع) فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء، فقال: ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي " [121] . ولا يخفي علي المتأمل الدلالة الواضحة لخلافة علي (ع) والتي كخلافة هارون (ع) إلا أن النبوة ختمت بمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وقد ألمعنا في نقاشنا لقصص بني إسرائيل إلي وجه الشبه بين خلافة هارون لموسي (ع) وكيف أضل السامري القوم، وبين خلافة علي (ع) التي انقلب عليها المسلمون ووضعوا الأمر في غيره فتأمل.

حديث الانذار

لما نزلت آية (وأنذر عشيرتك الأقربين) علي رسول الله (صلي الله عليه وآله [ صفحه 129] وسلم) جمع بني عبد المطلب علي طعام ثم قال: إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ووارثي فلم يقم أحد. قال علي: وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه قال النبي: إجلس، قال ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتي كانت الثالثة فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع " [122] . والحديث لا يحتاج مني إلي توضيح فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار.

حديث الراية

حاول أحدهم أن يثبت لي وهو يحاورني أفضلية الخلفاء الثلاثة علي علي (ع) قلت له: هناك حديث واحد كاف لبيان الفرق بين علي (ع) وأبي بكر وعمر، روي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: بعث النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أبا بكر (رض) إلي بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد ثم بعث عمر (رض) فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح فقال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم): " لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله علي يديه كرارا ليس بفرار، فدعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عليا وهو يومئذ أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ الراية فامض بها حتي يفتح الله عليك " [123] . من خلال هذه الرواية نستشف من هو الأفضل وإلا لماذا ميز الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عليا (ع) بهذه الصفات التي جاءت في الحديث وهو من أوتي جوامع الكلم وفصاحة اللسان وبلاغة اللسان وبلاغة التعبير خصوصا ما جاء في آخر الكلام " ليس بفرار " [ صفحه 130] إشارة إلي فرار من سبقه من ساحة الوغي وقد استحي ابن كثير من ذكر ذلك فذكرها الطبري في تاريخه بكل وضوح عندما قال: " فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يجبنه أصحابه ويجبنهم ". ولقد أورد الحديث البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما قيل في لواء النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وباب فضل من أسلم علي يديه رجل. كما جاء في صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير غزوة ذي قرد وفي كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي. وأنا لا أريد أن أفضل أحدا علي أحد دون دليل ولكني أري نفسي ملزما بتفضيل من فضله الله، ولقد جاء في سيرة ابن هشام: " عندما نزلت سورة براءة بعث بها الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ثم أرسل عليا في أثره فأخذها منه فلما رجع أبو بكر قال: هل نزل في شئ؟ قال: لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي " [124] . ولأن الحديث عن فضائل علي ومكانته يطول سنورد ملخص ما جاء به ابن حجر العسقلاني المعروف عند أهل السنة والجماعة في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة: مما أورده: حديث الراية المتقدم. حديث الانذار. عندما نزلت آية التطهير (إنما يريد الله أن.....) أخذ الرسول رداءه ووضعه علي علي وفاطمة والحسن والحسين وتلي الآية. نومه في فراش النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما هاجر. حديث المنزلة. [ صفحه 131] سد الأبواب إلا باب علي (ع) فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره. قول الرسول من كنت مولاه فعلي مولاه. قول عمر " لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن ". قول علي " سلوني سلوني عن كتاب الله تعالي فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار ". قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسب أبا تراب " يعني عليا "، فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فلن أسبه سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبوة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فأتاه الحديث ونزلت الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) فدعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال اللهم هؤلاء أهلي. قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ". قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) " ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي ". قوله (صلي الله عليه وآله وسلم) " وإن تؤمروا عليا وما أراكم فاعلين - أقول: صدق الرسول الكريم (صلي الله عليه وآله وسلم) - تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم " [125] . [ صفحه 132]

مناظرة للمامون العباسي في فضل علي

(العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي ج 5 ص 92 - 101) ولو أردنا التحدث عن مناقب وفضائل أمير المؤمنين علي (ع) لاحتاج ذلك إلي مجلدات وما أوردناه فيه الكفاية لذي عينين ونختم هذا المطلب بمناظرة الخليفة العباسي المأمون واحتجاجه علي الفقهاء في زمانه حول فضل علي (ع) بالرغم من أن المأمون وكل الخلفاء العباسيين كانوا ممن ينصبون العداء لأهل البيت (ع) إلا أنهم في البداية عندما تسلموا زمام الأمور ولتوطيد أركان حكمهم كانوا ينادون بالرضا من آل محمد وكانت ثورتهم علي الأمويين تحت هذا الشعار ولكن الملك عقيم.. ما إن استقر وضعهم حتي بدأوا في محاربة آل محمد (ع) وشيعتهم وكانوا أعظم من بني أمية في عداوتهم لأهل البيت (ع)، جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: بعث المأمون إلي يحيي بن أكثم قاضي القضاة وعدة من العلماء وأمره أن يحضر معه مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه ما يقال ويحسن الجواب، فأتموا العدد وغدوا عليه قبل طلوع الفجر وبدأ معهم الحوار في مواضيع شتي ثم قال: إنني لم أبعث إليكم لهذا ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه ودينه الذي يدين الله به، قالوا: فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله فقال المأمون: إن أمير المؤمنين يدين الله علي أن علي بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأولي الناس بالخلافة، قال إسحاق (أحد الفقهاء) قلت: يا أمير المؤمنين) إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة، فقال يا إسحاق: اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سل، قلت من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق أخبرني عن الناس بم يتفاضلون حتي يقال فلان أفضل [ صفحه 133] من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة، قال: صدقت. قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم إن المفضول عمل بعد وفاة الرسول بأفضل من عمل الفاضل علي عهد الرسول، أيلحق به؟ قال إسحاق: فأطرقت، فقال لي: يا إسحاق لا تقل نعم فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة قلت: أجل يا أمير المؤمنين لا يلحق المفضول علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الفاضل أبدا، قال. يا إسحاق فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر وعمر فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنهما أفضل منه، لا والله ولكن قس إلي فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان فإن وجدتها مثل فضائل علي فقل أنهم أفضل منه، لا والله، ولكن قس إلي فضائله فضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالجنة فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه، ثم قال: يا إسحاق أي الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت الإخلاص بالشهادة قال: أليس السبق إلي الإسلام؟ قلت: نعم قال أقرأ ذلك في كتاب الله تعالي: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) إنما عني من سبق إلي الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليا إلي الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم، قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال، قلت: علي أسلم قبل أبي بكر علي هذه الشريطة فقال: نعم فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) دعاه إلي الإسلام أو يكون إلهاما من الله، قال إسحاق: - فأطرقت فقال لي: يا إسحاق لا تقل إلهاما فتقدمه علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتي أتاه جبرئيل عن الله تعالي. قلت: أجل بل دعاه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: يا إسحاق، فهل يخلو [ صفحه 134] رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حين دعاه إلي الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت. فقال: يا إسحاق لا تنسب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي التكلف فإن الله يقول عن الرسول (وما أنا من المتكلفين) قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله، فقال: فهل صفة الجبار جل ذكره أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت: أعوذ بالله! فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق إن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم، وقد كلف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) دعاء الصبيان إلي ما لا يطيقونه، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ ولا يجوز عليهم حكم الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ أتري هذا جائزا عندك أن تنسبه إلي الله عز وجل؟ قلت أعوذ بالله قال: يا إسحاق فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عليا علي هذا الخلق أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالي أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟ قلت: بلي قال: فهل بلغك أن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته، لئلا تقول إن عليا ابن عمه؟ قلت: لا أعلم، ولا أدري فعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟ قلت: لا. قال: فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلي الإسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل الله، قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت: من أي وقت؟ قال: في أي الأوقات شئت؟ قلت: بدر قال: لا أريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعلي يوم بدر، أخبرني كم قتلي بدر؟ قلت نيف وستون رجلا من المشركين. قال: فكم قتلي علي وحده؟ قلت لا أدري. قال: ثلاثة وعشرون أو اثنان وعشرون والأربعون لسائر الناس. قلت يا أمير المؤمنين، كان أبو بكر مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في عريشه، قال: ليصنع ماذا؟ قلت: يدبر، قال: ويحك! يدبر دون رسول الله أو معه شريكا أم افتقارا [ صفحه 135] من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي رأيه، قال: أي الثلاثة أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أو أن يكون معه شريكا أو أن يكون برسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) افتقار إلي رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين كل الجيش كان مجاهدا. قال: صدقت، كل مجاهد ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وعن الجالس أفضل من الجالس، أما قرأت في كتاب الله (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم علي القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسني وفضل الله المجاهدين علي القاعدين أجرا عظيما). قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل علي من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم قال: إقرأ علي: (هل أتي علي الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فقرأت منها حتي بلغت (يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) إلي قوله: (ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) قال: علي رسلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت: في علي. قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نطعمكم لوجه الله؟ قلت: أجل قال وسمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت: لا قال: صدقت، لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته، يا إسحاق ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟ قلت: بلي يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله، أكان عندك كافرا، قلت: أعوذ بالله قال: أرأيت لو أنه قال ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا أكان كافرا؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق أري بينهما فرقا. يا إسحاق أتروي الحديث؟ قلت: نعم قال: فهل تعرف حديث الطير [126] ؟ قلت: نعم قال: فحدثني به. [ صفحه 136] قال فحدثته الحديث. يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأما الآن فقد بان لي عنادك، إنك توافق أن هذا الحديث صحيح قلت: نعم، رواه من لا يمكنني رده. قال: أفرأيت أن من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أن أحدا أفضل من علي، لا يخلو من إحدي ثلاثة: من أن تكون دعوة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عنده مردودة عليه، أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول، فأي الثلاثة أحب إليك؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق لا تقل منها شيئا، فإنك إن قلت منها شيئا استتبتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت: لا أعلم، وإن لأبي بكر فضلا. قال: أجل، لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه، فما فضله الذي قصدت إليه الساعة؟ قلت: قول الله عز وجل: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فنسبه إلي صحبته، قال: يا إسحاق، أما إني لا أحملك علي الوعر من طريقك، إني وجدت الله تعالي نسب إلي صحبة من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله (فقال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) الآية. قلت: إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن ينسب إلي صحبة من رضيه كافرا جاز أن ينسب إلي صحبة نبيه مؤمنا وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث، قلت: يا أمير المؤمنين إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) قال: يا إسحاق تأبي الآن إلا أن أخرجك إلي الاستقصاء عليك، أخبرني عن حزن أبي بكر، أكان رضي أم سخطا؟ قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وغما أن يصل إلي رسول الله شئ من المكروه قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضي الله أم سخطا؟ قلت: بل رضي لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهي عن رضي الله عز وجل وعن طاعته، قلت: أعوذ بالله. قال: أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضي لله؟ قلت: بلي قال: أو لم تجد أن القرآن يشهد أن [ صفحه 137] رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال له: " لا تحزن " نهيا له عن الحزن، قلت: أعوذ بالله. قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك لعل الله يردك إلي الحق ويعدل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به. وحدثني عن قول الله (فأنزل سكينته عليه) من عني بذلك: رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله قال: صدقت. قال فحدثني عن قول الله عز وجل: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) إلي قوله (ثم أنزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين) أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعا انهزموا يوم حنين فلم يبق مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شئ، حتي أعطي الله لرسوله الظفر فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة ثم من حضره من بني هاشم. قال: فمن أفضل: من كان مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في ذلك الوقت وأنزل عليه السكينة، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينة! قال: يا إسحاق، من أفضل، من كان معه في الغار أم من نام علي فراشه ووقاه بنفسه، حتي تم لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالي أمر رسوله أن يأمر عليا بالنوم علي فراشه وأن يقي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فأمره رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بذلك. فبكي علي رضي الله عنه. فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): ما يبكيك يا علي أجزعا من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك، أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم قال: سمعا وطاعة وطيبة نفس بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتي مضجعه واضطجع، وتسجي بثوبه. وجاء المشركون من قريش فحفوا به، لا يشكون أنه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه. وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف النفس ولم يدعه ذلك إلي الجزع، كما [ صفحه 138] جزع صاحبه في الغار، ولم يزل علي صابرا محتسبا. فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتي أصبح فلما أصبح قام، فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كنت مغررا بنفسك منذ ليلتنا. فلم يزل علي أفضل، ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتي قبضه الله إليه. يا إسحاق هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أروه ففعلت. فقال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث هل أوجب لعلي أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشئ جري بينه وبين علي وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال: وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت: أجل قال: فإن زيد بن حارثة استشهد قبل الغدير، كيف رضيت لنفسك بذلك؟ أخبرني لو رأيت أبنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولي ابن عمي أيها الناس، فاعلموا ذلك. أكنت منكرا عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟ فقلت: اللهم نعم. قال: يا إسحاق: أتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، ويحكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابا إن الله جل ذكره قال في كتابه: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ولم يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم يا إسحاق أتروي حديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسي "؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته وسمعت من صححه ومن جحده. قال: فمن أوثق عندك من سمعت منه فصححه أو من جحده؟ قلت: من صححه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ بالله. قال: فقال قولا لا معني له فلا يوقف عليه؟ قلت أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسي لأبيه وأمه؟ قلت: بلي. قال فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه؟ قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبيا وعلي غير نبي؟ قلت: بلي. قال: فهذان الحالان معدومان من علي وقد كانا في هارون، فما معني قوله " أنت مني بمنزلة [ صفحه 139] . هارون من موسي " قلت له: إنما أراد أن يطيب بذلك نفس علي لما قال المنافقون إنه خلفه استثقالا له. قال: فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معني له؟ قال فأطرقت قال: يا إسحاق له معني في كتاب الله بين. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حكاية عن موسي أنه قال لأخيه هارون: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) قلت: يا أمير المؤمنين إن موسي خلف هارون في قومه وهو حي، وإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خلف عليا كذلك حين خرج إلي غزاته. قال: كلا ليس كما قلت. أخبرني عن موسي حين خلف هارون، هل كان معه حين ذهب إلي ربه أحد من الصحابة أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أوليس استخلفه علي جماعتهم قلت: نعم قال: فأخبرني عن رسول الله حين خرج إلي غزاته، هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان؟ فأني يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل علي استخلافه عليا لا يقدر أحد أن يحاجج فيه. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حين حكي عن موسي قوله: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسي، وزيري من أهلي، وأخي أشد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا ونذكره كثيرا أمر أن يدخل في هذا شيئا غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأن يكون لا معني له. قال: فطال المجلس وارتفع النهار فقال يحيي بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير وأثبت ما لا يقدر أحد أن يدفعه.

اهل البيت هم اولو الامر بعد النبي

الحديث 001

قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال عليا من بعدي وليوال وليه، وليقتد بأهل [ صفحه 140] بيتي من بعدي، فإنهم خلقوا من طينتي ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي [127] هل هنالك أوضح من ذلك حجة علينا... دلالة واضحة ومعان بينة وأوامر جازمة، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

الحديث 002

اشاره

قال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض ". وقال أيضا: " يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه هدي ونور وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " وسئل زيد بن أرقم " راوي الحديث "، فهل نساؤه من أهل بيته قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر أو الدهر ثم يطلقها فترجع إلي أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده " [128] . ولو لم يكن لدينا سوي هذا الحديث لكفي لإثبات خلافة أهل البيت (ع) وإمامتهم وأنهم عدول القرآن لا يفترقون عنه وأن المتمسك بهما معا لن يضل أبدا والمفرط بهما أو بواحد منهما ضال بلا شك. وقد حاول البعض أن يضع في مقابله حديث " كتاب الله وسنتي " والعجب كل العجب أن علماءهم عندما يروون هذا الحديث يكتبون في ذيله متفق عليه والحال أن حديث "... وسنتي " حديث مرسل لا سند له، وأول من رواه مالك في موطئه مرفوعا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولم يروه غيره من أصحاب الصحاح [ صفحه 141] المعتبرة بينما حديث " كتاب الله وعترتي " متواتر لدي الفريقين تسنده أحاديث أخري بألفاظ مختلفة. والحق يقال إن واضعي الحديث " المحترفين هذا الفن " أبدعوا وأجادوا وهم يصنعون في مقابل كل حديث حول أهل البيت (ع) حديثا يرفع من شأن غيرهم والأمثلة كثيرة سنذكر بعضها إن شاء الله. ولا أدري كيف يتمسكون بهذا الحديث وأول من خالفه عمر بن الخطاب في رزية يوم الخميس المعروفة والتي سيأتي ذكرها.. حينما قال " حسبنا كتاب الله " وهو بنفسه الذي فرض حظرا علي الصحابة في رواية أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) كما أحرق أبو بكر الأحاديث المكتوبة حتي لا تختلط بالقرآن علي حد زعمهم وغيرها من الحوادث التي تثبت عدم الاعتراف بالسنة كما هو متعارف عليه الآن. وحديث العترة يثبت فيما يثبت عصمة أهل البيت (ع) لأن الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه يعني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل القرآن تماما، ولو كان هنالك ثمة احتمال ولو ضئيل جدا بافتراق أهل البيت (ع) عن القرآن لما أكد لنا الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في كلامه أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض، وبهذا المعني نفهم آية التطهير التي نزلت في أهل البيت (ع). (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ولقد أجمعت مصادر التفسير والحديث علي نزول هذه الآية في خمسة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين كما جاء في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت (ع) [129] . والآية ناطقة بعصمة أهل البيت (ع) مما يؤهلهم دون غيرهم للقيام بدور الإمامة لحفظ الشريعة الإسلامية وممارسة دور الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) القيادي في الأمة والذي لا يتأتي إلا لمعصوم مصطفي من السماء وهذا ما لخصته آية التطهير والتي [ صفحه 142] صدرت بأداة الحصر " إنما " وهي من أقوي أدوات الحصر، وفيها إذهاب الرجس عن أهل البيت (ع) والرجس يعني مطلق الذنوب والآثام والأدناس، والقيام بالتطهير بإرادة الله تعالي.. كل ذلك مؤداه عصمة أهل البيت (ع). ومن أوضح الواضحات التي لا تقبل الجدل عندنا في السودان أن أصحاب الكساء أو أصحاب العباءة هم الخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير كما تواتر في الأحاديث.

حوار حول العصمة في حديث الثقلين

جري حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول عصمة الإمام قال لي: أنتم مغالون تبالغون في حب أهل البيت (ع) حتي ادعيتم أنهم معصومون ومفوضون بالتشريع ونحن لا نري سوي عصمة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). قلت: أولا أهل السنة والجماعة لا يقولون بأن النبي معصوم في كل شئ بل في أمر التبليغ فقط، ولا ندري كيف يحددون ويصنفون الأمور الواردة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أي منها من الدين وأي من غيره وذلك بخلاف قول الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي المطلقة ولا فرق في ذلك بين أمور التشريع وغيرها. أما عصمة أهل البيت فالآية واضحة في دلالتها يقول تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) الآية. أضف إلي ذلك مجموعة الأحاديث التي نستشف منها بوضوح دلائل العصمة وحسبك في ذلك حديث الثقلين بعد أن ثبتت صحته لدي جمهور المسلمين سنة وشيعة. قال: هذا الحديث لا يدل علي العصمة فهو فقط يخبرنا بالرجوع لأهل البيت. قلت: بل الحديث أوضح من أن يبحث فيه عن العصمة إذ أن صحة الحديث يؤكد عصمتهم وإليك البيان، وسألته: - ما قولك في القرآن؟ قال: - ماذا تقصد؟! قلت: - هل يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟ قال: - لا. قلت: - إن اقتران أهل [ صفحه 143] البيت (ع) بالكتاب والتصريح بعدم الافتراق عنه يدل علي عصمتهم. إذ أن صدور أي مخالفة للشريعة منهم سواء كان عمدا أم سهوا أم غفلة يعتبر افتراقا عن القرآن، لو قلنا بأنهم يفترقون عنه ولو للحظة فهذا تكذيب للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي أخبر عن الله عز وجل بعدم وقوع الافتراق وتجويز الكذب علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) متعمدا مناف لعصمته حتي في مجال التبليغ وقد أكد علي الحديث في أكثر من موضع. أضف إلي ذلك أن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) اعتبر التمسك بهم عاصما من الضلالة دائما وأبدا كما هو مقتضي ما تفيده كلمة لن التأبيدية فإذا كان هنالك مجال لضلالتهم ولو للحظة فكيف يكون التمسك بهم عاصما. هذا عن العصمة أما ما قلته عن التفويض فلا أحد من الشيعة يقول به، إنما هو قول أعداء الدين الذين حاولوا تشويه الصورة النقية للتشيع، وأنت إذا أردت أن تتعرف علي معتقدات الشيعة فيجب عليك الاطلاع عليها من كتبهم وأقوال علمائهم لا من كتب وأقوال المناوئين لهم الذين لا يتورعون عن الكذب والافتراء، ومعروف عند الشيعة أن الأئمة يقولون بما قاله الرسول (صلي الله عيه وآله وسلم)، وها هو الإمام أمير المؤمنين علي (ع) يقول " علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب " فهم لا يقولون بالتفويض بل أهل السنة والجماعة هم الذين فوضوا الصحابة في التشريع حتي أمضوا اجتهادات الصحابة الواضحة مقابل النصوص المؤكدة. بعد هذا الحوار أخذ صاحبي يبحث له عن مخرج وبدأ يقفز بالحديث هنا وهناك ويحاول أن يجد ثغرة يصطادني بها وعندما لم يجد قال لي: - يا أخي أنا مفوض أمري إلي الله نحن أهل تسليم. قلت: - التسليم لا يكون إلا للحق، أما التفويض لله فلا يلغي إرادتك ويجمد عقلك. إذا كنت تصبوا إلي الحقيقة واصل بحثك عنها ثم فوض الأمر إلي الله يهديك [ صفحه 144] إلي الصراط المستقيم، أما أن تكون لا تدري أعلي حق أنت أم علي غيره ثم تفوض الأمر هذا تبرير لا يقبل شرعا ولا عقلا. وتركته وذهبت. بقي أن نبين بعض المصادر التي ذكر فيها حديث الثقلين: - صحيح مسلم فضائل علي (ع). صحيح الترمذي ج 5 ص 662 - 663. صحيح أحمد بن حنبل ج 3 ص 17 - ج 5 ص 182 ومواضع متعددة. مستدرك الحاكم ج 3 ص 109 وكتاب معرفة الصحابة ص 27 وغيرها من المصادر.

الحديث 003

قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم): " مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ". مستدرك الحاكم ج 2 ص 343 وغيره من المصادر مثل كنز العمال وتاريخ البغدادي ورواية أخري تعضدها جاءت في مستدرك الحاكم ج 3 ص 149 " أهل بيتي أمان لأمتي " ما أبلغ تعبير النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث الذي يشبه أهل البيت (ع) بسفينة نوح التي حملت المؤمنين برسالته ومن لم يؤمن بها أخذته أمواج الطوفان حتي ابنه الذي قال كما جاء في القرآن (... سآوي إلي جبل يعصمني من الماء) (سورة هود: آية / 43) لم ينج من تلك الأمواج وأصبح من الهالكين، واليوم أمواج الفتن تتلاطم ويذهب ضحيتها أولئك الذين لم يركبوا في سفينة النجاة التي أخبر بها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)... وكل الذين يقدمون الأعذار والتبريرات لعدم تمسكهم بأهل البيت (ع) وركوبهم سفينة النجاة هم كابن نوح الذي اعتبر الجبل عاصما له من الغرق دون السفينة، والفرق أن الجبال تعددت في وقتنا الحاضر وأكثرها علوا عند من يفكر فيها جبل " عدالة الصحابة " فهل يا تري يعصمهم من الأمواج الهادرة؟! وحتي نعطر أجواء هذا البحث نعرج علي القرآن الكريم لنستضئ بنوره [ صفحه 145] ونقتبس منه بعض المعاني يستفيد منها من يريد أن يصل إلي الحق. الآية الأولي: مباهلة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) للنصاري. قال الله سبحانه وتعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) (سورة آل عمران: آية / 61). تواتر لدي الفريقين نزول هذه الآية - كما بينا في حديثنا حول الزهراء (ع) - في علي وفاطمة والحسنين، جاء في صحيح مسلم " ولما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال: اللهم هؤلاء أهلي ". قال الفخر الرازي في تفسيره " وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق علي صحتها بين أهل التفسير والحديث " [130] إن القرآن بدقته وبلاغته يعطي لأولي الألباب بصيرة وتوجيها من أقصر الطرق وأيسرها والآية المذكورة تحمل دلالات عظيمة وتفصل معاني الاصطفاء والاختيار الإلهي في أقصر العبارات وأبلغها. وكما جاء في الأحاديث لم يأخذ الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) معه أبا بكر وعمر كما أنه لم يأخذ عائشة أو غيرها من زوجاته.. لم يأخذ إلا هذه العصبة المباركة والتي لم يكن اختيارها اعتباطيا أو عاطفيا في وقت تمر فيه الرسالة بمنعطف تاريخي وهي تواجه نصاري نجران وتتحداهم إنما كان اختيارا ربانيا كما عبر عنه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بقوله: لو علم الله تعالي أن في الأرض عبادا أكرم من علي وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصاري. ويأتي البعض لإقناعنا بأن الصحابة أفضل من أهل البيت (ع) وكيف يكون ذلك وهذا الاقتران بين النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته من كل مورد وكما [ صفحه 146] ورد في الآيات مما يؤكد بأنهم الامتداد الرسالي له (صلي الله عليه وآله وسلم). وهنالك ملاحظة جديرة بالالتفات إليها، وأذكرها لأصحاب العقول المستنيرة الباحثة دوما عما هو أحق بالاتباع... وهي موقعية علي (ع) في آية المباهلة فهو ليس من أبناء النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كالحسن والحسين كما أنه بالطبع لا يدخل في قائمة النساء ومع ذلك أتي به النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولا نجد له مكانا إلا نفس النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) (وأنفسنا وأنفسكم) هذه المفردة القرآنية تعتبر عليا الحالة التجسيدية الكاملة لشخصية الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وهذا ما أكده الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في حديثه " علي مني وأنا من علي " فتدبر!! الآية الثانية: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...) [131] . لا يختلف اثنان من وجوب طاعة أولي الأمر كما جاء في هذه الآية التي قرنت طاعتهم بطاعة الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) وهؤلاء القادة الواجبة طاعتهم علي سبيل الجزم لا بد أن يكونوا في مصاف الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) من وجود الصفات والخصائص الربانية إلي وجوب الاقتداء والتمسك بهم وهذا يستوجب عصمتهم.. لأنه يستحيل أن يأمرنا الله تعالي علي سبيل الجزم بطاعة من يحتمل خطؤه وعصيانه، لأنه مفترض الطاعة بلا استثناء ولا حدود، والاتباع في حالة الخطأ منهي عنه، فكيف يجتمع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد؟ فيثبت من ذلك أن من أمر الله بطاعتهم علي سبيل الجزم وجب أن يكونوا معصومين وذلك ما توصل إليه الفخر الرازي في تفسيره فأثبت عصمة أولي الأمر ولكنه في محاولة يائسة حاول صرف المعني عن أهل البيت (ع) إلي أهل الحل والعقد ولا نجد من هو أجدر من أهل من الأمة والذين لم نجد لهم تعريفا ثابتا أو فهما [ صفحه 147] واضحا في الشرع الذي أمرنا بطاعتهم. البيت (ع) لما ذكرنا من أمر الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لنا باتباعهم وأنهم معصومون وإلي غير ذلك مما تقدم ذكره فهم أولو الأمر المعنيون بالآية. وبهذا تكون الحقيقة قد تجلت لمن يريد الأخذ بها وإن معالم طريق الخلاص باتت واضحة وسبيل النجاة منحصر في اتباع أهل البيت (ع) وعلي الأقل فإن هذا ما قادني إليه الدليل - أهل البيت الذين اصطفاهم الله لحمل أعباء الرسالة بعد رسوله الأمين (صلي الله عليه وآله وسلم) مستحفظا بعد مستحفظ أوصياء معصومون يحافظون علي سير الشريعة في خطها المستقيم وينفون عنها كل الشبهات ويقفون بقوة أمام محاولة تحريفها من قبل المنافقين والحاقدين، والتاريخ يشهد لهم بذلك وواقعنا أيضا وسنبين ذلك لاحقا. عندما كنت أحاور ذلك السلفي الذي أجريت معه المناظرة المذكورة في أول الكتاب وفي أثناء حوارنا لمعت عيناه فجأة وكأنه عثر علي ضالته وفاجأني بسؤال معتقدا أنه سيضعني في زاوية حرجة... سؤال من ظن أنه بلغ منتهي العلم والحكمة، قال: من قال لكم أن الأئمة اثنا عشر ولماذا هذا العدد بالذات؟ وضحك!! قلت له: يا أخي بالنسبة للعدد فلو فتحنا هذا الباب لمعرفة الحكمة من العدد سأجر إليك أسئلة لا قبل لك بها فلماذا كان الخلفاء أربعة فقط؟ ولماذا اختار موسي سبعين رجلا لميقات ربه ولم يكونوا ثمانين؟ ولماذا خلق الله سبع سماوات وسبعا من الأرض ولم تكن كل واحدة منهما عشرة مثلا ولماذا كان عدد نقباء بني إسرائيل اثنا عشر ولماذا يقول تعالي (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما) ولم يكونوا خمسة عشر وهكذا... أضف إلي ذلك أن الآيات والروايات التي وردت عن أهل البيت (ع) كافية لتوجهنا للأخذ منهم ونحن لم نجد سوي الشيعة متمسكة بهم وهنالك تعلم بعدد الأئمة ولا ضرورة للاحتجاج عليك بعدد الأئمة من مصادركم لأن الموضوع فرعي ومع ذلك وبلطف من الله تعالي لإظهار الحق ولإقامة الحجة لم تخل مصادر أهل السنة والجماعة من [ صفحه 148] الأحاديث التي تحدد عدد الأئمة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، وصدفة كنت أحمل أحد مجلدات موسوعة تجمع ما جاء في الصحاح الستة من أحاديث وفتحت باب الإمارة وقرأت عليه عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش " وقلت له: هل سمعت؟ فبهت الذي كفر.. وانتفض انتفاضة قوية وكأنه قد مس بطائف من الشيطان، وقال: من أين لك هذا الحديث؟! فذكرت له المصادر وأذكرها هنا تتمة للفائدة: صحيح البخاري كتاب الأحكام ج 9 ص 729. صحيح مسلم ج 3 كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش. صحيح الترمذي ج 4 ص 501. سنن أبي داوود كتاب المهدي ص 508. مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 398. وهذا الحديث جعل علماء أهل السنة يعيشون في تخبط ومشكلة كبيرة لن يخرجوا منها ولن يجدوا لها حلا إلا عند أتباع أهل البيت (ع) وهم الشيعة المعروفون ب " الاثني عشرية ".. ولقد حاول البعض أن يجد تفسيرا معقولا للحديث علي أرض الواقع فمنهم من عد أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وتوقف، ومنهم من زاد عليهم الحسن بن علي ثم تحير، وبعضهم أضاف إليهم معاوية وبني أمية فلم يوفق لضبط العدد وآخر أصبح انتقائيا يختار كما يتراءي له وهكذا... والأمر لا غموض فيه ولا لبس عند شيعة أهل البيت ذلك بعد أن علمنا حقهم في الولاية والخلافة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وليس من المعقول أن يخرج هذا العدد خارج دائرتهم وقد جاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي الباب (94) عن المناقب بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته [ صفحه 149] فأقرئه مني السلام ثم جعفر بن محمد ثم موسي بن جعفر ثم علي بن موسي ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم القائم اسمه اسمي وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي " المهدي " ذلك الذي يفتح الله تبارك وتعالي علي يديه مشارق الأرض ومغاربها ". أما النصوص الواردة من مصادر الشيعة عن طريق أهل البيت (ع) فهي متواترة وواضحة بخصوص هذا الشأن، ولم يرع أحد من الأمة أنه أحد الأئمة الاثني عشر كما قال أهل البيت (ع) عن أنفسهم والتاريخ يخبرنا عن سيرتهم بل أعداؤهم اعترفوا بمكانتهم السامية وعلمهم الغزير وأخلاقهم الرفيعة وهم كما جاء في الحديث آنف الذكر: 1 - علي بن أبي طالب. 2 - الحسن بن علي. 3 - الحسين بن علي. 4 - علي بن الحسين الملقب بزين العابدين والسجاد. 5 - ثم ابنه محمد بن علي الملقب بالباقر. 6 - ثم ابنه جعفر بن محمد الملقب بالصادق. 7 - ثم ابنه موسي بن جعفر الملقب بالكاظم. 8 - ثم ابنه علي بن موسي الملقب بالرضا. 9 - ثم ابنه محمد بن علي الملقب بالجواد. 10 - ثم ابنه علي بن محمد الملقب بالهادي. 11 - ثم ابنه الحسن بن علي الملقب بالعسكري. 12 - ثم ابنه محمد بن الحسن ويدعي المهدي والقائم والحجة. هؤلاء هم أولو الأمر الذين فرض الله علينا طاعتهم في القرآن (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وعرفنا منزلتهم (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (سورة آل عمران: آية / 34). [ صفحه 151]

الانقلاب

اشاره

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (سورة آل عمران: آية / 144) [ صفحه 153]

ماذا حدث؟

اختزلت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) ما حدث بكلمات بليغة في خطبتها الرائعة، قالت: " فلما اختار الله لنبيه (صلي الله عليه وآله وسلم) دار أنبيائه ومأوي أصفيائه، ظهرت فيكم حسكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر... ". عبارات رصينة تلحظ الانقلاب الذي جري بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي لم يأل جهدا في بيان حدود الشريعة ولم يسكت عن أمر الخلافة وأوضح للأمة ما يجب أن تتمسك به بعد انتقاله إلي الرفيق الأعلي - كما بينا - ولكن أبي البعض إلا أن يخالف أوامر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ليدخل الأمة في نفق مظلم ومتاهات تتخبط فيها إلي يومنا هذا اللهم إلا من أنعم الله عليه بمعرفة أهل البت (ع) حق المعرفة. وما أن تحاول الخوض في غمار أحداث الانقلاب إلا ويظهر لك من تمسح بلباس الدين ليخرج من جيبه بطاقة الفتنة ويشهرها في وجهك، أو يخرج لك صنم " عدالة الصحابة "، لكي تتوجه إليه تاركا المقاييس الإلهية الحقيقية التي تميز بها الحق عن الباطل.. وعندما يضطر أحدهم لمناقشة قضية الخلافة يطوي هذه سريعا قائلا: إن المسلمين والصحابة اتفقوا علي خلافة أبي بكر التي كانت بالشوري الإسلامية! أقول بإمكانكم اليوم الهروب من الحقيقة بسبب العاطفة اللامنطقية والتعصب الأعمي ولكن لا بد أن يكشف الغطاء هنالك في يوم المحشر وحينها ستقولون (يا ليتني كنت ترابا). [ صفحه 154] ومع هذا يسخر الله من يسبر أغوار التاريخ ليخرج لنا الحقيقة، وستكون كتب القوم شاهدة علي وهن ما يعتمدونه من تصويب كل ما فعله الصحابة المقدسون. وقبل مناقشة ما جري في السقيفة من أحداث الشوري المزعومة يجدر بنا أن نتحدث عن أهم نظرية أسس عليها أهل السنة والجماعة قاعدتهم التي انطلقوا منها لأخذ معالم دينهم وهي " نظرية عدالة الصحابة " وبئس ما أسسوا (أفمن أسس بنيانه علي تقوي من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه علي شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله والله لا يهدي القوم الظالمين) [132] . هذه النظرية التي تخالف منطق القرآن والعقل بل وتناقض صريح الأحاديث الشريفة الواردة في كتب التاريخ والسيرة جعلت الأمة تتيه وتتخبط وأحيانا تجمد وتقف حائلا بين الناس والحق، فهؤلاء الصحابة بأنفسهم يهدمون هذه النظرية من أساسها بأقوالهم وأفعالهم، أما ما وضع من فضائل مكذوبة لهم فلا يحتاج أمرها إلي ذكاء خارق لمعرفة ضعفها ووهنها سندا ومتنا وذلك لمخالفتها الواقع، ولو لم تكن إلا هذه النظرية لكفي بها تمييعا وتضعيفا لمعتقد أهل السنة والجماعة الذي لا يفرق بين المسلم والكافر ولا بين المؤمن والمنافق.

مع عدالة الصحابة

اشاره

الصحابي عند أهل السنة والجماعة هو كل من لقي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) مؤمنا به ولو ساعة من النهار ومات علي الإسلام، وبالطبع لم يبق بمكة والطائف أحد سنة عشر إلا أسلم وشهد مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع. وإنه لم يبق في الأوس والخزرج أحد في آخر عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إلا ودخل في الإسلام، وألحق بهذا الكم الهائل من أمروا في الفتوح بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) كل هؤلاء يدخلون تحت مصطلح الصحابي بمفهوم [ صفحه 155] أهل السنة، ويرون أنهم كلهم عدول كما قال ابن عبد البر في مقدمة كتابه الإستيعاب، " والصحابة يشاركون سائر الرواة في كل ذلك إلا في الجرح والتعديل فإنهم كلهم عدول " وقال ابن حجر " اتفق أهل السنة علي أن الجميع عدول " وغير ذلك من أقوال علمائهم ويرون زندقة من يناقش أحوالهم.

القرآن و عدالة الصحابة

القرآن الكريم يقف عكس هذا الكلام تماما وينقضه وكذلك العقل الذي لم يهبه الله لنا إلا لتصديق الوحي ومن ثم الانطلاق لمعرفة الحقائق، وما جري بين أولئك الصحابة يجعلنا نقف حياري أمام أفعالهم المخالفة للدين في زمن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته وما فعلوه في أهل بيته. والمتتبع لآيات الذكر الحكيم بعيدا عن التعصب والالتفاف إعراضا عن الحقيقة يدرك أن في الصحابة منافقين مردوا علي النفاق، ورموا فراش الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) بالإفك وحاولوا اغتياله وفيهم المرتابون وأن القلة منهم مؤمنة بحق وقد أطلق عليهم القرآن صفة الشاكرين (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) [133] (ولا تجد أكثرهم شاكرين) [134] ويقول (وقليل من عبادي الشكور) [135] . ونفس هؤلاء الأصحاب قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عنهم أنهم يوم القيامة يختلجون دونه فيقول: " أصحابي، أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ". ومما لا شك فيه أن المنافقين والمرتابين والذين سينقلبون علي أعقابهم عاشوا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وصلوا خلفه وصحبوه في حله وترحاله، وهذه بعض الآيات التي تتحدث عن حال بعضهم وهم حول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): - قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (سورة الحجرات: آية / 14). [ صفحه 156] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (سورة التوبة: آية / 45). - (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) (سورة التوبة: آية / 81). - (ذلك بأنهم أتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) (سورة محمد: آية / 28 - 30). - (ها أنتم تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (سورة محمد: آية / 38). - (ومنهم من يستمع إليك حتي إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا، أولئك الذين طبع الله علي قلوبهم واتبعوا أهواءهم) (سورة محمد: آية / 16). - (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل هو أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (سورة التوبة: آية / 61). - (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) (سورة التوبة: آية / 25). أقول أضف إليها قوله تعالي: - - (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلي فئة، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (سورة الأنفال: آية / 16).. فتأمل!.. [ صفحه 157] وهنالك فئة كبيرة من المنافقين لم يتناساها القرآن وأشار إليها بوضوح في أكثر من مورد وهي جماعة لا يستهان بها.. ولكن للأسف ونحن ندرس التاريخ في مدارسنا لم نعلم منهم إلا عبد الله بن أبي سلول، وكلما ذكر النفاق في عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قفز إلي ذهني هذا المنافق مع أن القرآن يركز عليهم بشدة وذلك لا يكون إلا إذا كانت حركة النفاق قوية جدا داخل المجتمع الإسلامي ولولا ذلك لم يولها القرآن هذا الاهتمام. والعجب كل العجب أن هذا التيار المنافق سكنت حركته بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ولا ندري لماذا؟ فهذه الفئة المنافقة إما أنها آمنت بعد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) علي يد الخلفاء الثلاثة، وإما وجدت الوضع ملائما في عهدهم فقفزت إلي أعلي مراكز السلطة وامتلكت قرار الأمة، والأخير أقرب، وما جري بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) دليلنا علي ذلك: ما أن أجمع المسلمون علي تنصيب علي (ع) بعد مقتل عثمان حتي برز النفاق من جديد ليقود الحرب ضد خليفة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فخاض علي الحروب المتتالية - الجمل، صفين، النهروان، وأخيرا استشهد ليعود الأمر كما كان عليه وتتسلط جبهة النفاق علي رقاب المسلمين من جديد. وهذه بعض من الآيات تبين مدي قوة جبهة النفاق في عهد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). - (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) (سورة التوبة: آية / 64). - (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلي عذاب عظيم) (سورة التوبة: آية / 101). [ صفحه 158] - الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله والله عليم حكيم) (سورة التوبة: آية / 97). - (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم) (سورة التوبة: آية / 98). - (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) (سورة التوبة: آية / 67). - (وعد الله المنافقين والمنافقات نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) (سورة التوبة: آية / 68). - (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا) (سورة الفتح: آية / 6). هذا قليل من كثير ولو تصفحنا كتاب الله لتعرفنا علي مزيد من صفات المنافقين والمنافقات ولما احتجنا إلي كل هذا التكلف حتي نصنع هالة قدسية لكل من صاحب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). وهنالك كما لا يخفي علي الألمعي علاقة بين حركة التيار المنافق والحروب التي جرت في عهد الإمام علي (ع)، ونظرة إلي أحاديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حول صفات المنافقين تصل إلي السر الذي جعل الجيوش تتحرك لقتال علي (ع) قال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق). هذا المعيار أوضح من أن يحتاج إلي بيان، إذ أن من صفة المنافق بغض علي (ع) وأعظم مصداق للبغض في أعلي مراتبه الحرب.. [ صفحه 159] ولقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " [136] . ولقد كان ذلك معروفا في عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي قال أبو ذر: " ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب " [137] . السنة وعدالة الصحابة: - قال (صلي الله عليه وآله وسلم): - " ليردن علي أناس من أصحابي الحوض حتي إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك " [138] . يا قوم ما لكم كيف تحكمون؟ من أين لكم بهذه الخزعبلات التي يرفضها القرآن والسنة؟ لماذا نظل نبرر كل انحراف؟ وإلي متي نغض الطرف عما حدث؟ حتي هؤلاء الصحابة شهدوا علي أنفسهم بأنهم أحدثوا الكثير بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كما جاء في البخاري " عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت: طوبي لك صحبت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة! فقال: يا بن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده " [139] . وقال أنس بن مالك " ما عرفت شيئا مما كان علي عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) غير الصلاة وقد ضيعتم ما ضيعتم منها. وقال الزهري دخلت علي أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت " [140] . [ صفحه 160] وروي أنس بن مالك أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتي تلقوا الله ورسوله علي الحوض، قال أنس فلم نصبر " [141] وإليك هذه الحادثة التي توضح حال هؤلاء الصحابة مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) " عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: أقبلت عير من الشام تحمل طعاما ونحن نصلي مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الجمعة فانفض الناس إلا اثني عشر رجلا فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما). وغير ذلك من الأحداث التي تبين الحالات المتباينة بين الصحابة، ولكن أهل السنة وخاصة علماءهم أبو إلا يطمسوا الحقيقة ويستغفلوا العامة بلعبهم علي وتر العاطفة وارتباط الناس بدينهم فجعلوا الصحابة أصلا من أصول الدين لا يجوز النقاش فيه أو السؤال عنه أو الطعن فيه بينما يمكنك الحديث عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بكل ارتياح، وأصبح عندهم الأمر عكسيا الأصل (النبوة) صار فرعا والفرع (الصحابة) أصبح أصلا، (وعند نقدك لأحد الصحابة تتهم بالزندقة وعندما تدافع عن عصمة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يثبتون بشتي الطرق أنه يخطئ ويسهو ويصيبه السحر وأن عمر بن الخطاب يفكر ويقدر أفضل منه) [142] ، والمسلمون منقادون لعلمائهم بدون تعقل ودراية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) [143] . فخاضوا بهم في متاهات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالي، وكثيرا ما يشتبه البعض في الاستدلال علي عدالة جميع الصحابة بقوله تعالي (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) مع أن الآية تتحدث عن المؤمنين فقط وتحصر [ صفحه 161] رضي الله سبحانه وتعالي فيهم، والاستدلال بقوله تعالي (المؤمنين) علي أنهم جميع الصحابة محل نظر يضاف إلي ذلك أن هنالك منافقين قد بايعوا رسول الله علي هذه الواقعة ومن ضمنهم كما ذكر المؤرخون عبد الله بن سلول المنافق المعروف فهل يا تري تشمله هذه الآية؟ إذا قلنا بالنفي فالمعني الواضح أن الآية لا تشمل كل من بايع وإنما المؤمنين منهم وبالتالي فهي مخصصة ولا يصح أصلا الاحتجاج بها لأنها أخص من المدعي، وإثبات إيمان كل الصحابة يحتاج إلي دليل سابق علي ذلك. ثم إن الله تعالي يقول في آية أخري (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه) والآية صريحة بإخبارها أن هنالك من ينكث وبهذا يكون رضا الله تعالي ما دام الإيمان والاستقامة وعدم الانتكاث، وحديث إبراء المتقدم يؤكد علي ذلك.

الصحابة عند شيعة اهل البيت

أما أهل البيت وشيعتهم " فيرون أن لفظ الصحابي ليس مصطلحا شرعيا وإنما شأنه شأن سائر مفردات اللغة العربية، والصاحب في لغة العرب بمعني الملازم والمعاشر ولا يقال إلا لمن كثرت ملازمته، والصحبة نسبة بين اثنين، ولذلك لا تستعمل الصاحب وجمعه الأصحاب والصحابة في الكلام إلا مضافا، كما ورد في القرآن الكريم (يا صاحبي السجن) و (أصحاب موسي) وكذلك كان يستعمل في عصر الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) مضافا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أو مضافا إلي غيره مثل قولهم (أصحاب الصفة) لمن كانوا يسكنون صفة مسجد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم استعمل الصحابي بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بلا مضاف إليه وقصد به أصحاب النبي، وصار اسما لهم، وعلي هذا فإن (الصحابي) و (الصحابة) من اصطلاح المتشرعة وتسمية المسلمين، وليس اصطلاحا شرعيا. [ صفحه 162] أما عدالتهم فإن مدرسة أهل البيت (ع) تري تبعا للقرآن أن في الصحابة منافقين ومرتابين... الخ كما بينا بالآيات والأحاديث، والصحبة عندهم ليست بهذا المفهوم الذي أسس عليه أهل السنة دينهم، وعندما يتحدثون عن الصحابة يضعون نصب أعينهم آيات الذكر الحكيم وقول إمامهم علي (ع) عندما سئل أمن المعقول أن تكون عائشة وطلحة والزبير علي باطل قال: " ويحك يا رجل لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله ". وهكذا فالشيعة يقدسون ما قدسه الله ويلتزمون بالولاء لمن التزم بقيم السماء ويتبرؤون من أعداء الله ورسوله وأهل بيته المنصوص عليهم، ولهم أدعية يقرؤونها ويدعون بها لأصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) المخلصين ومن أشهرها ما ورد في الصحيفة السجادية للإمام الرابع للشيعة علي بن الحسين " زين العابدين (ع) ". "... اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا إلي وفادته وسابقوا إلي دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأرواح والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منظومين علي محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته... الخ الدعاء.

مصيبة الامة

والمصيبة التي منيت بها هذه الأمة هي عدم كتابتها للحديث وذلك بفضل ذكاء أبي بكر وعمر الحاد اللذين شددا في منع نشر كلمات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فتأخر زمان التدوين لينتهز معاوية الفرصة ويغدق في العطاء للوضاعين للحديث ويوسع عليهم لضرب خصومه السياسيين وعلي رأسهم علي (ع) الذي أمر معاوية بسبه علي المنابر، استفاد معاوية من هذا المنع وأجزل في الدفع لوعاظ السلاطين لكي [ صفحه 163] يختلقوا له مجموعة من الفضائل والمناقب للخلفاء الثلاثة في مقابل فضائل لعلي (ع)، وعلي امتداد التاريخ لم يبق حديث في فضائل أهل البيت (ع) إلا وألفوا في مقابله فضيلة لأعدائهم، ومثال ذلك حديث " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " والذي كان في مقابل حديث " النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ". قلت لأحدهم وهو يحاورني: إن كان حديث أصحابي كالنجوم صحيحا أفلا يعتبر علي منهم فيحق لي اتباعه؟ قال: علي من أكابر الصحابة! قلت له: إذا أنا أقتدي بعلي (ع) الذي رفض بيعة أبي بكر وقاتل عائشة وطلحة والزبير ولو ظفر بطلحة والزبير أثناء القتال في صفوف أعدائه لقتلهم، وكنت سأقاتل مع علي (ع) لو كنت حاضرا في حرب صفين ولو تمكنت من معاوية لقتلته، وكنت سأجهز علي عمرو بن العاص وهو يظهر سوأته لعلي (ع) حتي لا يقتله! أليس من حقي أن أقتدي بأي صحابي كما تدعون؟!... ألا ساء ما يحكمون.

حديث العشرة المبشرين المزعوم

ما بدأت حوارا مع أحد ما جري بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلا وبادرني " إنهم مبشرون بالجنة " مستندا إلي حديث العشرة المبشرين بالجنة كما يزعمون وإنه لعمري حديث لا يحتاج مني إلي كثير عناء لإثبات وهنه ومخالفة متنه لواقع الأحداث التاريخية، وهو لا يعدو أن يكون إحدي الأكاذيب التي وضعت كغيرها من الفضائل، وأورده هنا كنموذج لمأساة الأمة. العشرة المبشرون بالجنة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح. هذا الحديث الضعيف سندا كما بين فطاحل العلم يكذبه متنه كذلك ولا ندري لماذا اشتهر هؤلاء العشر بالتبشير بالجنة وحصرت فيهم مع أن النبي (صلي الله [ صفحه 164] عليه وآله وسلم) بشر غيرهم كآل ياسر والحسن والحسين وأبي ذر، والقرآن أيضا يبشر كل من آمن وعمل صالحا ثم اهتدي بالجنة. إن هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بمثل هذه الروايات الموضوعة لم يفطنوا إلي وضوح كذب الأحاديث إذ أنها لو كانت وردت عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حقيقة لسمعنا في التاريخ احتجاج عمر بها مثلا في السقيفة كدعاية انتخابية لأبي بكر يسند بها انتخابه له. وياليتني أجد من يوضح لي هل من الممكن أن يكون عبد الرحمن بن عوف أحد رواة هذا الحديث معتقدا بصحته ومع ذلك يسل سيفه علي علي (ع) يوم شوري الستة قائلا: بايع وإلا تقتل؟ ويقول لعلي (ع) بعدما انتقضت البلاد علي عثمان: إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي إنه قد خالف ما أعطاني. وهل أبو بكر وعمر المبشران بالجنة هما اللذان ماتت الصديقة بضعة المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) وهي واجدة عليهما؟ وهل هما اللذان قالت لهما: إني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه؟ وهل أبو بكر هذا هو الذي أوصت فاطمة (ع) أن لا يصلي عليها وأن لا يحضر جنازتها؟ وهل كان عمر يصدق هذه الرواية وله إلمام بها وهو يناشد مع ذلك حذيفة اليماني العالم بأسماء المنافقين ويسأله عن أنه هل هو منهم؟ وهل كان طلحة والزبير يؤمنان بقول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وهما يؤلبان علي عثمان ويشاركان في قتله؟ وهما اللذان خرجا علي إمامهما وخليفة المسلمين المفروض عليهما طاعته بعد أن عقدت له البيعة فنكثا بيعته وأسعرا عليه نار البغض وقاتلاه وقتلا. أو ليس طلحة والزبير هما اللذان ارتكبا من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في هتك حرمته ما لم يرتكبه أحد، حينما أخرجا زوجته عائشة تسير بين العساكر في البراري والفلوات غير مبالين في ذلك ولا متحرجين؟!! [ صفحه 165] وغير ذلك الكثير مما يؤكد أن الحديث مكذوب علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من أصله ولا تحتاج معرفة ذلك إلي كبير عناء.

السقيفة

حتي نتعرف علي حقيقة ما جري يوم تنصيب أبي بكر خليفة للمسلمين لا بد لنا من أن نتصفح أحداث ذلك اليوم ومن ثم نحدد هل هي الشوري كما يدعون: جاء في طبقات ابن سعد " عندما انتقل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الرفيق الأعلي اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وتبعهم جماعة من المهاجرين [144] . ولم يبق حول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) إلا أقاربه الذين تولوا غسله وتكفينه وهم: علي والعباس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد وصالح مولي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأوس بن خولي الأنصاري، ولخص عمر بن الخطاب خبر السقيفة فقال: إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة " سقيفة بني مساعدة " وخالف عنا علي والزبير ومن معهما فقلت لأبي بكر: إنطلق بنا إلي إخواننا الأنصار فانطلقنا حتي أتيناهم فإذا رجل مزمل، قلنا من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثني علي الله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة. قال عمر: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر فلما أردت أن أتكلم قال: علي رسلك فكرهت أن أغضبه، فقام فحمد الله وأثني عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال: أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له [ صفحه 166] أهل (وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) [145] (وهم أوسط دارا ونسبا) (ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين) فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلما قضي أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ". قال عمر فارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك قال أبو بكر: بل أنت يا عمر فأنت أقوي لها مني وكان عمر كما ينقل الطبري أشد الرجلين وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ففتح عمر يد أبي بكر وقال: إن لك قوتي مع قوتك فبايع الناس واستثبتوا البيعة وتخلف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال: لا أغمده حتي يبايع علي فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقال عمر: خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر قال فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان " [146] . يقول عمر ثم نزونا علي سعد حتي قال قائلهم قتلتم سعدا فقلت: قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوي من مبايعة أبي بكر " [147] . هكذا كانت أحداث السقيفة، مهزلة تاريخية عاد الناس فيها إلي جاهليتهم حتي قال أحدهم لعمر " والله لنعيدنها جذعة " وهو نفسه القائل " أنا جذيلها المحكك... ". إن ما جري في السقيفة لعبة سياسية ومسرحية درامية وضع لها السيناريو وحبكت خيوطها قبل تنفيذها، ولم يكن المنطق فيها للقيم والمبادئ بل لنعرات جاهلية. ولم نر فيها وجودا للمهاجرين سوي هذا الثلاثي أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وهو ما يحتاج إلي تفسير فلماذا هؤلاء بالذات دون غيرهم وكما يقول عمر لقينا [ صفحه 167] رجلان صالحان شهدا بدرا فأخبرانا بخبر السقيفة ولم يذكر اسميهما. فمن هما وما هو السر في اختيارهما لهؤلاء. ثم إن وجود هذا الثلاثي في المدينة غير شرعي لأنهم مأمورون بإنفاذ الجيش الذي أعطي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أمر القيادة فيه لأسامة كما سيأتينا خبره. وماذا كان يضير هؤلاء الثلاثة إذا عملوا علي تهدئة الأوضاع حتي يدفن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) خصوصا وأن فيهم أبا بكر، وعلي حد زعمهم له المكانة التي كان يمكن استغلالها لذلك أم أن الأمور ستصبح علي خلاف ما يشتهون؟!. أما الحضور الكمي لهذه الشوري فلا أظن أنه كان كبيرا خصوصا لو علمنا أن هذه السقيفة مكان لا يتسع بأي حال من الأحوال إلي عدد كبير أضف إلي ذلك غياب عدد كبير من أصحاب النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وعلي رأس أولئك علي والهاشميون لأنهم كانوا في شغل عن الأمر بمصيبة وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) التي تناساها الخليل الصديق وهو يسعي وراء الخلافة. يقول عمر " إنه كان من خبرنا حين توفي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة " [148] . أي شوري هذه التي لم يحضرها باب مدينة العلم الفاروق الأكبر والصديق الأول علي بن أبي طالب (ع)، ومن أين تستمد شرعيتها وكل سكان المدينة آنذاك ناهيك عن الدولة الإسلامية لم تجمع علي ترشيح أبي بكر. وحتي الذين بايعوا لم يكن دافعهم إلي ذلك شخصية أبي بكر فهنالك من بايع لموازنات سياسية كما فعلت الأوس عندما بايعت أبا بكر قال بعضهم وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر " [149] . [ صفحه 168] احتج أبو بكر علي القوم قائلا: لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا واحتج عمر قائلا: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته.. إذا كان هذا هو المعيار فأهل بيت النبوة وعلي رأسهم علي (ع) أولي، الذي قال عندما سمع احتجاجهم: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ". وقد عبر أحد الشعراء عن هذا الموقف بقوله: فإن كنت بالشوري ملكت أمورهم++ فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربي حججت خصيمهم++ فغيرك أولي بالنبي وأقرب وأخيرا قال عمر عن بيعة أبي بكر " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك غير أن الله وقي شرها " [150] . وأنا أقول كانت فلتة مزقت الأمة تمزيقا وأبعدتها عن الصراط المستقيم.

علي والخلافة

أعلن علي (ع) والعباس والهاشميون رفضهم لبيعة أبي بكر من الوهلة الأولي وظلوا في بيت فاطمة (ع) معارضين، ولقد حاول أبو سفيان الاصطياد في الماء العكر، جاء في الطبري " لما اجتمع الناس علي بيعة أبي بكر قال أبو سفيان: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش، وأقبل وهو يقول: والله إني لأري عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم أين المستضعفان علي والعباس وقال: أبا حسن أبسط يدك أبايعك والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا " [151] ، لكن [ صفحه 169] عليا (ع) رفض عرضة لأنه كان يعلم نوايا أبي سفيان وبني أمية المعادية للإسلام فقال له: " إنك والله طال ما بغيت الإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك " [152] ، وقد هدأ أبو سفيان بعد أن ولي أبو بكر ابنه يزيد [153] . الإمام علي (ع) كان يدرك أن الأمة الإسلامية في مفترق طرق والناس تتجاذبهم الأهواء وأي محاولة لتصحيح الانحراف بحرب مسلحة يمثل خطرا يهدد بيضة الإسلام التي يحافظ عليها علي (ع) وهو الأمين عليها. ولقد بين أهل البيت (ع) لماذا لم يعارض علي (ع) الخلفاء بالسيف قال الإمام الصادق (ع) في جواب سؤال وجهه إليه بعض أصحابه: ما منع أمير المؤمنين أن يدعو الناس إلي نفسه ويجرد علي من ابتزه حقه سيفه؟ فقال: تخوف أن يرتدوا وأن لا يشهدوا أن محمدا رسول الله ". والتاريخ يعلن لنا معارضته لما كان يجري فإننا لا نعلم لعلي (ع) دورا سياسيا بارزا علي عهد الخلفاء ولم نسمع له خبرا في كل الحروب بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وهو المشهود له بمواقفه الجهادية في حياة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). وعندما طلب منه عبد الرحمن بن عوف في شوري الستة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين رفض الأخيرة مما يشكك في مطابقة سيرة الشيخين " أبي بكر وعمر " لسنة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ولو كان يعتقد بمطابقتها لسيرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، فلماذا يرفضها إذن؟. وفي أكثر من موقع يبين الإمام علي (ع) حقه في الخلافة وانحصار الإمامة في أهل بيت النبوة (ع) يقول " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم بنا يستعطي [ صفحه 170] الهدي ويستجلي العمي، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح علي سواهم ولا تصلح الولاة في غيرهم " [154] . وفي كلام له يقول: (أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا والأشدون برسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) نوطا فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم لله والعود إليه يوم القيامة " [155] . ويقول (ع) عن أهل البيت " هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه.. لا يقاس بآل محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) في هذه الأمة أحد ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة " [156] . كما جاء في نفس المصدر قوله " نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحلم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة " [157] . أحد العلماء من الذين يدعون حب أهل البيت (ع) جري بينه وبين بعض الإخوة حوار قال لهم: " إن لعلي ولاية أعطاها له الله سبحانه وتعالي، ولو كانت خلافة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) له، لتمكن من السيطرة عليها بدعاء منه، ولا يستطيع أحد أن يحتل مكانه ". من الواضح أن هذا القول الضعيف البين الوهن لا يمكن أن ننفي به مسألة الانقلاب علي علي (ع)، لأن ذلك يقودنا إلي عدة أسئلة منها كيف ذبحوا الأنبياء [ صفحه 171] السابقين وهم أولياء الله بلا خلاف، وكيف أوذي أفضل الأنبياء وأكملهم وحبيب إله العالمين محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) ولماذا تكسر رباعيته وينهزم الجيش يوم أحد ألم يكن في إمكانه بدعاء منه أن يهزم جميع المشركين. إن الأنبياء والأولياء جاؤوا لهداية الناس دون جبر أما المعجزة والكرامة فليست لقهر العباد بالقوة للسير علي الصراط المستقيم، وإنما كانت لإتمام الحجة وبيان حقيقة مكانة الأولياء عند الله تعالي، ولو كان كل انحراف يواجه بالتدخل الغيبي لإرجاع الناس إلي الحق لما كان هنالك معني للابتلاء ولا معني للثواب والعقاب، يقول تعالي (ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين) (سورة يونس: آية / 99). إن الإمام والخليفة يعرف بالنص من النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وعلي الناس الالتزام بنصرته، كما الكعبة تعرف بحج الناس إليها فيأتونها ولا تأتي لأحد، جاء في أسد الغابة عن علي (ع) قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " أنت بمنزلة الكعبة، تؤتي ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك - يعني الخلافة - فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتي يأتوك " [158] . ولقد اختصر أمير المؤمنين علي (ع) وجهة نظره في خطبته المعروفة بالشقشقية يقول فيها: - " أما والله لقد تقمصها فلان [159] وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل ولا يرقي إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر علي طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربه!. فرأيت أن الصبر علي هاتا أحجي فصبرت وفي العين قذي وفي الحلق شجي، [ صفحه 172] أري تراثي نهبا، حتي مضي الأول لسبيله فأدلي بها إلي فلان [160] بعده ثم تمثل بقول الأعشي: - شتان ما يومي علي كورها++ ويوم حيان أخي جابر فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشد ما تشطرا ضرعيها - فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت علي طول المدة وشدة المحنة حتي إذا مضي لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشوري! متي اعترض الريب في مع الأول منهم، حتي صرت أقرن إلي هذه النظائر! ولكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن إلي أن قام ثالث القوم [161] نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلي أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته ".

خلافة علي...

اشاره

بعد وفاة عثمان لم يكن للأمة مناص من الاتجاه إلي من يحملهم علي جادة الطريق كما قال عمر، إذ أن الفساد السياسي وصل إلي قمته وصارت أموال المسلمين في يد الطلقاء، كان لا بد للأمة أن تبحث عمن يذكرهم بسيرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بعد إعراض دام سنوات أوصلهم إلي ما أوصلهم إليه.. جاءت الخلافة إلي علي (ع) وهي تحبو محملة بجراحات مثخنة من جراء اجتهادات السابقين، لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه... [ صفحه 173] أخيرا انكشف الغطاء وعرفوا الحل " ولا أبقي الله الأمة لمعضلة ليس لها أبو الحسن " اجتمعوا عليه وطلبوا منه أن يقبل الخلافة، أشار عليهم أن يبحثوا عن غيره لأنه كان يعلم بأنهم لن يستطيعوا معه صبرا علي الحكم بالحق، وأنه لن يخاف في الحق لومة لائم كما قال في الأموال التي وزعها عثمان علي محبيه وهي ملك للمسلمين عامة، " والله لو وجدته قد تزوجت به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق ". هكذا سيكون علي ولن يعجب هذا الحال بعض الذين تعودوا علي العطايا والهبات الملكية زمن الخلفاء إضافة إلي الذين لا يرغبون في شخص علي (ع) حاكما. فألبوا الناس علي قتاله، وحكم علي (ع) المسلمين في فترة اتسمت بالحروب التي كانت فيصلا بين الحق والباطل وقد أخبره الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) " تقاتل علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل ". يقول الإمام علي (ع) في أمر مبايعته: " فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب، حتي لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر " نكثت طائفة ومرقت أخري وقسط آخرون " [162] كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) بلي: " والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها " الشقشقية.

حرب الجمل

كان طلحة والزبير ذوا حظوة حتي عهد عثمان، وكانا يطمعان في الكثير علي عهد علي (ع)، وعندما لم يجدا بغيتهما عند إمام العدل أضمرا في نفسيهما أمرا وطلبا [ صفحه 174] الإذن من علي (ع) بعد أن بايعاه بالذهاب إلي مكة للعمرة فأذن لهما وهو يعلم ما يضمران وقال لأصحابه: " والله ما أرادا العمرة ولكنهما أرادا الغدرة " ولحقا بعائشة في مكة وحرضاها علي الخروج.

عائشة بنت ابي بكر

في النصف الثاني من حقبة خلافة عثمان بن عفان كانت السيدة عائشة " من أشد الناس علي عثمان حتي أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله لم يبل وقد أبلي عثمان سنته.. وقالوا أنها كانت أول من سمي عثمان نعثلا (اسم أحد اليهود بالمدينة)، وكانت تقول اقتلوا نعثلا! قتل الله نعثلا [163] . وكما تنقل إلينا المصادر التاريخية كانت السيدة عائشة بمكة، خرجت إليها قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق، لقيها ابن أم كلاب (أحد معارفها) فقالت له: ما فعل عثمان قال: قتل! قالت: بعدا وسحقا. ولكن ما نعجب له هو مسيرها بجيش جرار لقتال علي (ع) لأنه قتل عثمان كما تزعم، فكيف تطالب بقتل عثمان ثم تقود الجيوش للأخذ بثأره؟! يقول الطبري عندما لقيت عائشة ابن أم كلاب الذي أخبرها بمقتل عثمان قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور خير مجاز، اجتمعوا علي علي بن أبي طالب فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت علي هذه إن تم الأمر لصاحبك، ردوني، فانصرفت إلي مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال لها ابن أم كلاب: ولم! فوالله إن أول من أمال [ صفحه 175] حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر " [164] . وللرجل كل الحق في تعجبه هذا، ولكن بنظرة سريعة لتاريخ عائشة مع علي (ع) نجد أنها لم تكن علي توافق معه منذ عهد رسول الله، وكلماتها التي ذكرناها آنفا تدلل علي مدي بغضها لعلي (ع) والذي ترجم إلي الحرب والتأليب والتحريض بل وقيادة جيش لقتاله، وقد تقدم قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " ونفس هذه المصادر التي ذكرت الحديث تخبرنا عن بغض عائشة لعلي (ع) حتي أنها كانت لا تطيق ذكر اسمه [165] وينقل الإمام أحمد بن حنبل " إن أبا بكر جاء مرة واستأذن علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وقبل الدخول سمع صوت عائشة عاليا وهي تقول للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم): والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك مني ومن أبي تعيدها مرتين حتي ضربها أبوها " [166] . مجموعة من الصفات النفسية كانت وراء موقف عائشة من أهل البيت (ع) حتي أنها صرحت بعدم حبها للحسن (ع) عندما أرادوا دفنه عند جده المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) فخرجت عليهم قائلة (لا يدفن في بيتي من لا أحب)، ولعل أبرز تلك الصفات غيرتها العجيبة والتي لم تخف علي الجميع ولقد درسناها في مناهجنا الدراسية. وهنالك عوامل أخري كثيرة كانت السبب في خروج عائشة علي علي (ع) لعل أهمها موقف علي وأهل البيت (ع) من خلافة أبيها، ووقفة الزهراء في وجهه أيضا ومعلوم أن الزهراء (ع) زوجة علي (ع) وأم الحسن والحسين وفوق ذلك هي البنت الوحيدة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) من خديجة زوجته الأولي التي كانت تغير منها عائشة حتي وهي في العالم الآخر... فتأمل، لم نجد ما يبرر خروج عائشة علي [ صفحه 176] الإمام علي (ع) بل وجدنا أن ذلك خلاف الشرع وفقا للدليل النقلي والعقلي وإجماع الأمة. إن عائشة بخروجها تكون مخالفة لصريح الآيات القرآنية التي تأمر نساء النبي بالاستقرار في بيوتهن (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) وقد عمل كل نساء النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بذلك ما عدا عائشة. كما أن خروجها علي الخليفة الشرعي فيه إشكال بغض النظر عن كونها امرأة مأمورة بالبقاء في بيتها وذلك منهج أهل السنة والجماعة، والإمام علي (ع) أجمعت عليه الأمة كخليفة للمسلمين فلا يجوز لها الخروج عليه وقتاله إذ أن ذلك يعتبر خروجا عن الدين بقولنا وبقولهم. ثم إن العقل يحكم بتناقض موقفها فهي تارة تطالب بقتل عثمان وعندما يحدث ذلك تطلب ثأره، هذا شئ غريب وموقف غير مفهوم يحتاج إلي تأمل حتي نستطيع أن نحدد موقفنا... خصوصا وإنه قد قيل أن نصف الدين عند الحميراء. وقد أخبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بخروجها كما جاء في المستدرك قال: ذكر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة فقال: انظري يا عائشة أن لا تكوني أنت " ثم أخبر أن التي تخرج ستنبحها كلاب الحوأب. وعندما نبحت عليها الكلاب قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب قالت: ما أظنني إلا راجعة فقال الزبير: لا بل تقدمي ويراك الناس قالت: ما أظنني إلا راجعة سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب " [167] . وهي في حياة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) نراها كما جاء في الآيات المباركة من سورة التحريم والتي فصلت في أمر زوجات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) [ صفحه 177] وبينت لنا أن نساء الأنبياء ليس من الضرورة أن يكن علي قدر من الإيمان، بل يمكن أن يصرن علي خلاف ما عليه أزواجهن من الأنبياء وليس ذلك بالأمر المستبعد والله تعالي يضرب لنا الأمثال لعلنا نعقل (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [168] . هذا المثل جاء في سورة التحريم التي تتحدث عن بعض أفعال عائشة مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول تعالي (إن تتوبا إلي الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا) [169] . الآيات كما قال عمر نزلت في عائشة وحفصة كما ذكر البخاري [170] . ويهددهن الله تعالي بالطلاق (عسي ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا) [171] . وأنا لا أريد الحديث عن سيرتها تفصيلا لأن المقام مقام جهاد وحرب وقيادة جيوش وهو خاص بالرجال ولكن لكي تتضح الرؤيا أوردنا ما أوردناه. أحد الأصدقاء كان يحاور بعض الوهابية عن جهاد المرأة فاحتدم النقاش بينهما وتعصب الوهابي في وجه هذا الأخ صارخا: " الجهاد للمرأة غير جائز ويعتبر تبرجا وهو حرام " فقال له: " إذا لماذا خرجت أمكم يوم الجمل ". هذه هي أطراف حرب الجمل، علي (ع) خليفة المسلمين وولي أمرهم من جهة والجهة الأخري علي قيادتها عائشة وطلحة والزبير. وقد كانت عائشة هي القائد الفعلي لجيشها وكانت تتصرف فيه وكأنها [ صفحه 178] الخليفة الشرعي. وأظنها بدأت تتوهم بأن في إمكانها أن تحل محل أبيها، ومما يؤيد ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد " أن عائشة كتبت وهي في البصرة إلي زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها: من عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر زوجة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فأقم في بيتك وخذل الناس عن ابن أبي طالب وليبلغني عنك ما أحب فإنك أوثق أهلي عندي. والسلام. فأجابها الرجل: من زيد بن صوحان إلي عائشة بنت أبي بكر أما بعد فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر: أمرك أن تقري في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنع خلاف ما أمرني الله به، فأكون صنعت ما أمرك الله به وصنعت أنت ما به أمرني، فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك لا جواب له. هكذا كانت عائشة وهي تحارب الإمام المفترض الطاعة بمنظورنا وخليفة المسلمين المجمع عليه دون باقي الخلفاء بمنظور أهل السنة والجماعة، وانتصر عليها أمير المؤمنين وعقر ناقتها وسار فيها بسيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مع أهل مكة إذ قال لهم " اذهبوا فأنتم الطلقاء " وأرسلها علي (ع) إلي المدينة سالمة.

صفين

اشاره

لن أتحدث عن صفين في تفاصيلها إنما موضوعنا حول قيادة الجيش الذي حارب عليا (ع) من صفين، لأن القيادة تبين لنا الفاصل بين الجيشين وأيهما الحق وأيهما الضلالة. وفي صفين يكفي أن تعلم أن قيادة الجيش المقابل لمعاوية كانت متمثلة في علي (ع) حتي تحكم علي معاوية ومن معه أنهم علي خطأ فادح، ومع ذلك كان وجود عمار بن ياسر في جيش علي (ع) تذكرة ودلالة علي أن الفئة الباغية معاوية وأصحابه إذ أنه من المتفق عليه قول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لعمار " يا عمار تقتلك الفئة الباغية " ولقد استشهد عمار في صفين كما هو معلوم. [ صفحه 179] لم أقف علي قول يفصل في حادثة إسلام معاوية وفي اعتقادي أن معاوية لم يجد له مكانا وسط المسلمين إلا بعد توليته الشام من قبل عمر الذي أطلق له العنان دون المحاسبة التي اشتهر بها وذلك تتمة للصفقة بين أصحاب السقيفة وبني أمية كما تقدم ذكره عندما أراد أبو سفيان أن يحرض عليا (ع) علي القتال. وعمر يريد أن يستمر الهدوء علي عهد خلافته فأسكت بني أمية بالشام وهم لا يهمهم كيف تكون الدولة الإسلامية بقدر ما يهتمون بوجود مكانة لهم في هذا الواقع الذي فرض عليهم ودخلوا فيه اضطرارا لا إيمانا برسالة الإسلام ونبوة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولقد وضح ذلك جليا عندما تسلموا زمام السلطة فحاربوا عليا وأبناءه لأنهم امتداد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وبما أن معاوية لا يستطيع أن يسب محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم) لجأ إلي سب علي (ع) وجعل ذلك سنة عند خطباء دولته، والرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول " من سب عليا فقد سبني " [172] . والنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أوضح من هو معاوية كما جاء في تاريخ الطبري قال: رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): أبا سفيان مقبلا علي حمار ومعاوية يقود به ويزيد أخوه يسوق قال: اللهم العن الراكب والقائد والسائق ". أما شخصية معاوية بمنظار علي (ع) فسوف نجدها في رسائله لمعاوية حيث جاء في رد للإمام علي علي خطاب أرسله معاوية: " أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة نمقتها بضلالك وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده، وقد دعاه الهوي فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطا وضل خابطا " [173] . في رسالة أخري له يقول الإمام: " ومتي كنت يا معاوية من ساسة الرعية وولاة [ صفحه 180] أمر الأمة؟ بغير قدم سابق ولا شرف باسق ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء وأحذرك أن تكون متماديا في غرة الأمنية مختلف العلانية والسرية. ولقد دعوت إلي الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي واعف الفريقين من القتال، لتعلم أينا المرين علي قلبه والمغطي علي بصره! فأنا أبو الحسن قاتل جدك وأخيك وخالك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقي عدوي ما استبدلت دينا ولا استحدثت نبيا وإني لعلي المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين " [174] .

رسالة محمد بن ابي بكر لمعاوية

كتب محمد بن أبي بكر إلي معاوية: - بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبي بكر إلي الغاوي معاوية بن صخر. سلام علي أهل طاعة الله ممن هو مسلم لأهل ولاية الله. أما بعد: - فإن الله جل جلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت ولا ضعف في قوته ولا حاجة به إلي خلقهم إلي أن قال: فكان أول من أجاب للرسول وآب وصدق ووافق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره علي كل حميم فوقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (الضيق الشديد) ومقامات الروع حتي برز سابقا لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو المبرز السابق في كل خير أول الناس إسلاما وأصدق الناس نية وأطيب الناس ذرية وأفضل الناس زوجة وخير الناس ابن عم وأنت اللعين ابن اللعين ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله، وتجهدان علي إطفاء نور الله وتجمعان علي ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتحالفان فيه القبائل، علي ذلك [ صفحه 181] مات أبوك، وعلي ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم أنصاره الذين ذكروا في القرآن فأثني الله عليهم من المهاجرين والأنصار فهم معه عصائب وكتائب حوله: يجادلون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتباعه والشقاء في خلافه، فكيف يالك الويل تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ووصيه وأبو ولده، وأول الناس اتباعا وآخرهم به عهدا، يخبره بسره، ويشركه في أمره وأنت عدوه وابن عدوه؟ فتمتع ما استطعت بباطلك وليمدد لك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضي وكيدك قد وهي وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده، ويئست من رحمته وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور وبالله وأهل رسوله الغناء والسلام علي من اتبع الهدي " [175] . هذه الرسالة تتطابق وواقع معاوية الحقيقي في التاريخ، معاوية الذي جمع حوله الهمج والرعاع حتي أنه صلي بأهل الشام الجمعة يوم الأربعاء وأرسل لعلي (ع) إني جئت بقوم لا يفرقون بين الجمعة والأربعاء، إضافة إلي المصلحيين والدهاة أمثال عمرو بن العاص. ومما يثير العجب أن تجد كتابا باسم (رجال حول الرسول) يتحدث كاتبه عن عمار بن ياسر فيثبت أنه صحابي جليل به عرف أن الفئة الباغية فئة معاوية وبعد ذلك بصفحات يتحدث عن عمرو بن العاص - قادة الفئة الباغية فيثبت أيضا أنه صحابي جليل!! والحديث عن عمرو بن العاص - داهية معاوية ويده اليمني - طويل ومتشعب ويكفينا دوره العجيب في قضية التحكيم التي لعب فيها دهاؤه ومكره الدور الكبير لتكون السبب المباشر لخروج الخوارج. [ صفحه 182] ولقد رفض عمرو مشاركة معاوية إلا مقابل جزء من دنيا معاوية فقبل معاوية أن يشتري منه دينه مقابل نصف دنياه. يقول المسعودي " وكان عمرو بن العاص قد انحرف عن عثمان لانحرافه عنه وتولية مصر غيره فنزل الشام، فلما اتصل به أمر عثمان وما كان من بيعة علي كتب إلي معاوية يهزه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان وكان فيما كتب إليه: ما كنت صانعا إذا قشرت من كل شئ تمتلكه فاصنع ما أنت صانع، فبعث إليه معاوية فسار إليه، فقال له معاوية. بايعني، قال: لا والله لا أعطيك من ديني حتي أنال من دنياك، قال: سل، قال: مصر طعمة، فأجابه إلي ذلك وكتب له به كتابا، وقال عمرو بن العاص في ذلك ". معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل++ به من دناكم فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فارع صفقة++ أخذت بها شيخا يضر وينفع [176] . وجاء في تاريخ الطبري أن عمرو بن العاص قال لمعاوية " أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكن إنما أردنا هذه الدنيا فصالحه معاوية وعطف عليه " [177] . هؤلاء هم قادة جيش معاوية في صفين باعوا دينهم بدنياهم وحاربوا إمام زمانهم وخليفة المسلمين ومع ذلك يأتي من يقول أن معاوية وعمرو بن العاص صحابة ويجب التسليم!! وما جري من عمرو بن العاص ومعاوية في المعركة يبين مدي جبنهم وحرصهم علي الحياة الدنيا، يقول المسعودي " ثم نادي علي: يا معاوية علام يقتل الناس بيني وبينك؟ هلم أحاكمك إلي الله. فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقال عمرو لمعاوية: قد أنصفك الرجل، فقال له معاوية: [ صفحه 183] ما أنصفت وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله أو أسره، فقال له عمرو: ما يجمل بك إلا مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدي وحقدها عليه. ثم إن معاوية أقسم علي عمرو لما أشار عليه بهذا أن يبرز إلي علي فلم يجد عمرو من ذلك بدا، فبرز فلما التقيا عرفه علي فرفع السيف ليضربه به، فكشف عمرو عن عورته وقال: مكره أخوك لا بطل. فحول علي وجهه عنه وقال: قبحت، ورجع عمرو لصاحبه " [178] . دنا عمار بن ياسر من عمرو أثناء المعركة فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك طالما بغيت في الإسلام عوجا " [179] . لقد كانت شخصيات الصحابة مكشوفة لدي بعضهم وكل واحد يعرف نفسيات الآخر ولقد تجلي ذلك في الحروب المتتالية وهذا واقع لا يمكن أن ننكره ويجب علينا أن نميز فيه بين الفاسق والمؤمن. والحديث عن معاوية وصاحبه عمرو يطول بحيث لا يسع المجال لعرض تاريخهما الحافل بالعجائب ونقتصر علي التذكير ببعض غرائب معاوية التي لا يستطيع أحد نكرانها.

بعض افعال معاوية

- اغتصابه الخلافة بالقهر. - قتل حجر بن عدي وأصحابه لأنهم رفضوا سب علي (ع) والبراءة منه ووقفوا في وجه من يفعل ذلك وقد قالت عائشة لمعاوية: الله الله في حجر وأصحابه وعاتبته وقالت: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: يقتل بعدي [ صفحه 184] بعذراء (بالشام) سبعة رجال يغضب الله وأهل السماء لهم [180] . وقال الإمام علي (ع): " يا أهل الكوفة سيقتل منكم سبعة نفر هم خياركم بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ". - جعل سب علي (ع) سنة يتبرك بها غربانه في أقطار حكومته. - سفك دماء شيعة الإمام الطاهر علي (ع) واستباحة أموالهم وأعراضهم وقطع أصولهم بقتل ذراريهم وأطفالهم وحتي نسائهم، ولا أدري أين كان ابن آكلة الأكباد والرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يوصي الأمة بهم خيرا. - اجتهاده وإلحاقه زياد ابن أبيه وقد قال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الولد للفراش وللعاهر الحجر. - نقض كل المواثيق والعهود التي أبرمها مع الإمام الزكي الحسن بن علي (ع) بعد أن عقد معه صلحا، إلا أن معاوية وعندما هدأت له الأمور خطب في أهل الكوفة وقال: يا أهل الكوفة إني ما قاتلتكم علي الصلاة والزكاة والحج. ولقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلي رقابكم [181] إلي أن قال: وكل شرط شرطته وكل شئ أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به ". - وختم صفحته السوداء مع الحسن (ع) بدس السم إليه فلقي الحسن (ع) ربه شهيدا مظلوما، ولما سقي السم، وقام لحاجته ثم رجع فقال: لقد سقيت السم عدة مرات فما سقيت مثل هذه لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أقلبه بعود في يدي. وكان معاوية قد أطمع جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن (ع) بالزواج من يزيد ابنه ثم طلب منها دس السم للحسن (ع)، ولما استشهد الحسن (ع) أرسل لها قائلا: إنا [ صفحه 185] نحب حياة يزيد ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه. - أما أعظم ما فعله فهو استخلافه يزيد وهو الخمير السكير، وسيأتيك خبره مع وجوه الصحابة وأفضال القوم. إن بني أمية يبحثون عن هذه الفرصة منذ أن علاهم محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) بالسيف ونصره الله عليهم وهم مشركون وأظهره علي جزيرة العرب بعد أن أكرمه بالنبوة وحباه بالرسالة، ولا يخفي عداء بني أمية لبني هاشم، فكيف بهم إذا كان النبي من بني هاشم والأوصياء والخلفاء منهم، وما كان في خلد معاوية يوم استقرت له السلطة وتم له الملك أن يتخذ ابنه ولي عهده ويأخذ له البيعة ويؤسس حكومة أموية مستقرة في أبناء بيته، فلم يزل يروض الناس لبيعة يزيد سبع سنين يرسل للأقطار بعد أن بويع له بالشام وسافر معاوية بنفسه إلي المدينة ومكة ساعيا وراء البيعة لابنه. ونختم المطلب بقول الحسن البصري عندما سئل عن معاوية، قال: - أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها أمرها بغير مشورة منها وفيهم بقايا الصحابة وذوي الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا ويل له من حجر " قالها مرتين " [182] أقول ربما يداري الرجل بعض أفعال معاوية وإلا فالموبقات كثيرة حدث عنها ولا حرج. [ صفحه 189]

كربلاء امتداد للسقيفة

كيف يرون معاوية و يزيد

في إحدي المرات التقي بعض الإخوة الشيعة مع مجموعة وهابية صدفة وكنت موجودا ولم تكن الرؤية واضحة لدي وإن كانت ملامح الصواب بدأت تلوح لي، ويبدو أن هؤلاء الوهابية كان لهم حوار سابق مع الشيعة فبدأوا معهم النقاش حول قضية الحسين (ع) وكربلاء ورأيت الوهابية وقد احتوشوا الإخوة والشرر يتطاير من أعينهم وكأنهم يريدون القتال، تحدث أحد الشيعة عن عدم أحقية معاوية في تنصيب يزيد خليفة للمسلمين فذكر اسم معاوية مجردا من الترضي عليه فصرخ أحدهم في وجهه قائلا: - قل رضي الله عنه هل هو أخوك حتي تذكره مجردا؟!. فرد عليه الشيعي: هل أنت وأنا أفضل من علي (ع) وأكثر فهما منه؟ فشمر أحدهم عن ساعديه وكأنه ينوي ضربه وهو يقول: إسمعوا هذا هو ديدن الشيعة يشككون في كل شئ وهذا الرجل يسألنا سؤالا بديهيا والإجابة عنه واضحة فلا أحد يري أن هنالك أفضل من علي سوي الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم. فالتفت إليه الشيعي وقال، أولا فليتكلم أحدكم، ثانيا: إذا أردت الحديث فافهم أولا ما أقول ثم تحدث، وثالثا إذا كان علي (ع) أفضل منا وهو كذلك بلا شك فهو أدري منا بالأصول أليس كذلك؟! قالوا بحذر: نعم فقال لهم: علي حارب معاوية، ليس فقط لم يترض عليه كما تطالبونني بل قاتلة أشد قتال ولو ظفر به لألحقه بأجداده، قال أحدهم وهو يمضغ مسواكا: نقول كما قال السلف تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم ألسنتنا، ونحن نري معاوية صحابيا جليلا وأنه فعل خيرا عندما نصب يزيد ونري أن خروج الحسين بن علي كان خطأ منه وقد تاب يزيد. [ صفحه 190] قال الشيعي: قولك فنعصم منها ألسنتنا لا ينطبق عليك لأنك الآن تقول أن معاوية صحابي جليل إذا لقد أخطأ علي في حربه لمعاوية ثم من قال لك أنك لن تسأل عن تلك الدماء. لا بد أن يكون لكم موقف تجاه ما جري، فهما جهتان إحداهما علي حق والأخري علي باطل ووقوفك الآن في وجهي اشتراك في تلك (الفتنة) كما تدعي. أما عن الحسين بن علي فهو لم يخطئ كما تقول فهو كما قال عنه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): سيد شباب أهل الجنة وهو من أهل بيت النبوة وتعلم من جده كيف ينصر الحق، ويزيد تعلم من أبيه ما تعلم كما نقلت إلينا كتب التاريخ، قاطعه أحد الوهابية: يجب علي المسلمين أن يقتلوا هؤلاء الشيعة أينما وجدوهم فإنهم فتنة. قال له أحد الشيعة وهو يبتسم: هكذا دائما كان أعداء الشيعة بأسم الحق يقتلون الحق وباسم الفتنة يحجبون الناس عن الحقائق وبالنتيجة أنت لا تفترق عن سلفك كثيرا، إنك تربية ذلك المنهج الذي تبناه معاوية ويزيد وآل أمية ومن إليهم. عندما وصل الحوار إلي هذا الحد أخذت أحدهم علي جانب وأخبرته بأني لست شيعيا ولكني أسمع بهم فمن هم وماذا يقولون ولماذا تهاجمونهم بهذه الطريقة. فقال لي: يا أخي أبعدك الله عن أمثال هؤلاء إنهم مشركون زنادقة يسبون الصحابة ويقولون أن جبرائيل خان الأمانة وأعطي الرسالة لمحمد وهي في الأساس لعلي ابن أبي طالب كما أنهم يعبدون الحجارة ويقولون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان... قلت مندهشا: من الذي قال لك؟! قال مفتخرا: نحن نعرفهم جيدا.. أحسست بغثيان بسبب كذب هؤلاء القوم. لقد قرأت بعض كتب الشيعة التي ألفها كبار علمائهم ورأيت بعض الإخوة الشيعة، لم أقرأ أو أسمع ما قاله هذا الوهابي. [ صفحه 191] ولا أدري كيف يدعون نصرة الحق وهم يكذبون بل يبالغون فيه إلي حد يؤسف له، صرخت في وجهه بلا وعي مني: ألا يمكنك أن تنصر الحق الذي تدعيه بدون أن تكذب وتفتري علي القوم. فارتبك متلعثما: كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! قلت: أنت الذي أجبرتني علي ذلك أنا قرأت للشيعة وجلست معهم وأعرف جيدا ما يقولون وما ذكرته لي بعيد عنهم كل البعد فهم يوقرون الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أكثر مني ومنك ويحترمون المقدسات الدينية ويؤمنون بالله ويدعونه ليل نهار، ثم إن كلامك هذا متناقض فهم إذا كانوا يؤمنون بجبرائيل كونه يحمل وحي الرسالة للرسول فكيف يعبدون الحجر، ثم إن مثل هذه التهم صارت قديمة لا يصدقها أحد والناس أكبر وعيا من أن تنطلي عليهم هذه الأكاذيب. قال: يبدوا أنك منهم! قلت: لست شيعيا ولو كنت فلا شئ يمنعني من التصريح بذلك لكنني الآن فقط عرفتكم، أنتم لا تستطيعون الدفاع عن باطلكم إلا عن طريق الكذب، ومما يحزنني أنني كنت أعتقد بأن أنصار السنة " الوهابية " هم أكثر الناس ورعا وتقوي، لكن الآن تجليتم لي بحقيقتكم. أدرت له ظهري كيما أرجع إلي الإخوة فقال لي: علي كل حال يجب ألا تتأثر بكلام هؤلاء فإن في حديثهم سحرا يؤثر، ضحكت وقلت له: هذا ما قالته قريش للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما جاء بالقرآن، ورجعت إليه مرة أخري قائلا له: - دعنا من كل ذلك فأنا أسألك حول قضية الحسين بن علي كمسألة واضحة ماذا تقولون فيها؟ سكت وكأنه يبحث عن إجابة ثم قال: لماذا تبحثون عن هذه الأشياء؟! قلت: أجب علي سؤالي ودع عنك السبب. قال: معاوية صحابي جليل، ويزيد كان أميرا علي المسلمين والحسين خرج علي ولي أمر زمانه، ولو كان يزيد قد أخطأ فربما يكون قد تاب فلا داعي لأن نتحدث حوله ونشهر به. قلت مختتما هذا الحوار الذي لن يثمر عن شئ: أنت بهذا تلغي الآيات القرآنية التي شهرت بقابيل ونمرود وفرعون والسامري... وغيرهم من الطغاة أعداء الرسالات، [ صفحه 192] وبقولك هذا تبرر لكل مخطئ في هذه الدنيا لأنه ربما يتوب، وبهذه العقلية تعطل الدين ويصبح كل التاريخ بلا فائدة، كلمة أخيرة أقولها لك أنتم لا ترتقون لمستوي الدفاع عن شريعة السماء لأنها لا تحتاج إلي مراوغة وكذب وافتراء وحديثي معك الآن إذا لم أصبح بسببه شيعيا فهو يبعدني عنكم أكثر فأكثر. وحاول أن يعتذر قائلا: علي كل حال نصيحة لك لا تقرأ لهؤلاء ونحن سنكون بالمرصاد لهم. قلت: إذا كانوا علي حق فالله ناصرهم وإن كانوا علي باطل فأنتم أكثر بطلانا منهم، وتركته وانصرفت راجعا إلي الإخوة فوجدت أن الوهابية لم تزل تدافع عن يزيد ومعاوية فتركتهم وانصرفت إلي بعض أشغالي أسفا علي حال هؤلاء المساكين الذين يرددون ما يقوله أحبارهم بلا وعي ولا فهم.

مع الحسين

قضية الحسين (ع) من أولي القضايا التي أخذت مساحة من دواخلي وعمقت جرحا أحسست به منذ اللحظة الأولي التي بدأت فيها الحقائق تتكشف مزيحة جهلا ووهما كنا نعيشه بإيعاز وتخطيط ذكي من أولئك الذين حرفوا الحقائق وفقا لأهوائهم ورغباتهم وبتنا نحن نعيش في قصور من زجاج نحلم بأن يعيد التأريخ نفسه لنعيش تلك الحياة المعصومة التي كان يعيشها الصحابة والرعيل الأول من التابعين الذين عاشوا في صدر الإسلام، ولا ننسي دور علمائنا الذين ظلوا يرددون ما وجدوه في التاريخ دون نظر وتحليل لما جري فيه. وقضية الحسين (ع) من القضايا التي أراد أعداء الإسلام أن لا تبرز للناس لأنها تمثل حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل وتعتبر من أنصح صفحات التاريخ في قضية الجهاد والتضحية في سبيل رسالة السماء. [ صفحه 193] كثيرا ما كنت أسمع في مجتمعي السوداني أن فلانا (مظلوم ظلم الحسن والحسين) ولكن من ظلمهم وكيف؟ وما هو أساس ذلك الظلم؟ وهل الحسن والحسين من الشخصيات الهامشية في الإسلام حتي لا نقف عند ما جري لهم من هذه الأمة التي لم تحفظ النبي فيهم؟!. غاية ما تعلمناه في مدارسنا أنه كانت هنالك مذبحة في منطقة كربلاء بطلها الحسين بن علي بدون ذكر لأسباب أو نتائج، ويبدو أن أهل السنة والجماعة لديهم قناعة بفتوي شريح القاضي " الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده " أو أنهم يدفنون رؤوسهم في الرمال حياء مما فعله سلفهم (الصالح) في أهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). استوقفتني قضية الحسين (ع) كثيرا كما استوقفتني قضية أمه الزهراء وأنا أبحث عن جهة الحق، قرأت وسمعت عن قصة الحسين (ع) وعشت معه تارة أبكي وأخري ألعن فيها من ظلمه وتارة أتأمل في واقع أمة كهذه، لم أسمع بمثل هذه البشاعة من قبل، أو سمعت ولكن كالعادة مخدرا بمقولة أن ما جري في صدر الإسلام مرورا بالأمويين والعباسيين لا يجب علينا أن نبحث فيه، ولا أن نتساءل ما هو جذر المشكلة، لأن ذلك سيقودنا إلي نتائج ربما تخدش في أولئك المقدسين مما يجعل غضب الرحمن يصب علينا صبا. وقضية الحسين (ع) ستضعنا أمام أسئلة كثيرة وعلامات استفهام الإجابة عليها ستفضي بنا إلي أن الحسين كقضية لم يقتل في كربلاء، بل إن أصل القضية يرجع إلي ما بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) هنالك كانت البداية، والنهاية كانت بجسد الحسين (ع) ليظهر يزيد بن معاوية أحقادا بدرية كما جاء في التاريخ فحينما جاؤوه برأس الحسين (ع) قال: ليت أشياخي ببدر شهدوا++ جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا++ ثم قالوا يا يزيد لا تشل قد قتلنا القرم من ساداتهم++ وعدلنا ميل بدر فاعتدل [ صفحه 194] إن القضية ليست خروج الحسين (ع) ضد أمير المؤمنين كما تسميه حاشية الضلالة عبدة الدينار والدرهم الذين باعوا دينهم من قبل لأبيه وأتموا الصفقة بقتلهم ابن بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، إن القضية قضية عداء طبيعي بين الحق والباطل وعداء تاريخي بين الهاشميين والأمويين، وما يزيد إلا امتداد لأبيه الذي اكتسب شرعيته وملكه من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي اشتهر بقساوته ومساءلته للولاة فيما عدا معاوية " كسري العرب " كما يقول عنه عمر لما عرف به من حبه للبذخ والترف واهتمامه بالمظاهر، وهكذا كان معاوية في وضع مريح جعله يمتلك امبراطورية مسلحة بالشام ادخرت لنصرة الباطل فظهرت في صفين ضد علي ابن أبي طالب وفي النهاية أصبحت مقرا لحكم بني أمية. والحديث عن كربلاء ذو شجون، وما جري فيها من أحداث يقرح الجفون ويفطر الفؤاد، لقد خرج أبو عبد الله الحسين (ع) ليصلح في الأمة ويعيدها إلي رشدها وذلك بإرجاعها إلي المنبع الحقيقي المتمثل في خلفاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته المنصوص عليهم، وها هو يقول قبل خروجه " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلي الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ". لم تلتزم الأمة بوصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في استخلاف علي فابتلاها الله تعالي برجل كمعاوية سلط علي رقابهم مراهقا فاجرا هو ابنه يزيد كما نجد في التاريخ الذي يحدثنا عن شخصية يزيد فيقول ابن كثير " كان يزيد صاحب شراب وفيه أيضا إقبال علي الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات ". وقال صاحب الأغاني " كان يزيد أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوي المغنين وأظهر الهتك وشرب الخمر ". وجاء في أنساب الأشراف " كان يزيد أول من أظهر شرب الشراب والاستهتار [ صفحه 195] بالغناء والصيد واتخاذ القيان والغلمان والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعافرة بالكلاب والديكة ". هذا يسير مما وجدناه في كتب التاريخ عن شخصية يزيد ولو لم يفعل إلا قتله الحسين وأهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وسبيه النساء الهاشميات لكفاه ليصاب بلعنات من السماء تلحقها لعنات من التاريخ الذي لم يحفظ لنا عن يزيد إلا الانحراف والمجون واللهو، وقتل الأبرياء والتسلط علي رقاب المسلمين إلي أن أهلكه الله، ولا عجب أن يظهر من يدافع عن يزيد ويكتب كتابا ويطبعه باسم " حقائق عن أمير المؤمنين يزيد " فالتاريخ يعيد نفسه وسيستمر الصراع بين الحق والباطل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن مما يؤسف له حقا أن هنالك من يصدق هذه الترهات والخرافات ومحاولات الدفاع عن شخصيات سقط عنها القناع ولم يرحمها التاريخ.

من هو الحسين

لولا أن منهج البحث يتطلب التعرض لسيرة يزيد لما تطرقت لذكر شئ منها، ويكفي أن نتعرف علي شخصية الحسين (ع) لندرك أن من قتله أو سكت علي قتله أو رضي الله بذلك أو أسس أساس هذا الظلم والجور علي أهل البيت (ع) هم أعداء للدين وللإسلام. لقد جاء في الصحاح، الحديث المتواتر لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا ". إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق إلا صدقا وعدلا كرس في العقول مفهوم حب أهل البيت (ع) وليس ذلك بسبب القرابة الدموية كما بينا، إذ أنه لا يعقل وكيف تكون عواطفه مرتكزات تنطلق منها الأمة لتحديد معتقداتها وهو المبلغ لرسالة السماء وكل كلمة تنطق بها تمثل مفردة يجب النظر إليها بعين الاعتبار، ولقد قرن الرسول (صلي [ صفحه 196] الله عليه وآله وسلم) حب الحسين بحب الله بلا قيد ولا شرط وذلك لا يكون إلا إذا كان الحسين يجسد الإرادة الإلهية والامتداد للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في مسؤولية تحمل الرسالة والدفاع عنها، ولذلك قال الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم): " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " وأهل الجنة في سن واحدة وفيها من كل الأمم من يستحقها ومع ذلك فهما سيدا أهل الجنة!. ماذا نعرف عن الحسن والحسين اللذين يستحقان هذه المرتبة العالية " سيادة أهل الجنة "؟ سؤال وجهته إلي أكثر من شخص تحير في الإجابة عليه " هل الله سبحانه وتعالي جعل الجنة لأقرباء النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بدون عمل وإنجاز يستحقون به ذلك!!! إن الحسن والحسين إمامان أوصي بهما النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لأنهما من الأئمة الذين سيقع عليهم عب ء مواصلة المسيرة الرسالية علي أن تلتف حولهم الأمة لتأخذ منهم معالم دينها. والحسين من أهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير والمباهلة إنه الإمام البر التقي النقي ابن بنت المصطفي وثالث أولي الأمر المفروض علينا طاعتهم... يذبح في كربلاء كما يفعل بالكبش ومع ذلك غيبوا الحقيقة عن الناس أرادوا لنا أن نعيش في جهل... أن لا نقرأ خلف السطور في كتب التاريخ... لماذا سمحت الأمة لنفسها أن تقتل أهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ومن الممهد لذلك؟ لأن ظلم الحسين يجعلنا نتساءل عن ظلم الحسن والذي يعني التحدث عن معاوية وذلك يقودنا بالبحث عما أسموه بالفتنة في عهد عثمان وهذا بلا شك سيؤدي إلي هدم السقيفة علي رؤوس أصحابها، وهذا ما يخشاه علماؤنا الأفاضل. إن الحسين لم يقتل في كربلاء وحدها... يقول العلامة السيد هادي المدرسي: إن للحسين قضيتان. " قضية الجسد المقطع وقضية الحق المضيع " صحيح أن جسد الحسين قطع في كربلاء وفصل الرأس عن الجسد.. ولكن الحق مضيع منذ اعتلي أبو بكر منصة الحكم بلا حق وأبعد أبا الحسن عليا (ع) الخليفة الشرعي... وعندما بلغ [ صفحه 197] الأمر بالأمة أن يتسلط عليها شارب الخمر وراكب الفجور ضحي الحسين بنفسه وأهل بيته لينبه الأمة إلي خطورة ما هي عليه وإلي ذلك يشير الإمام الحسين (ع) عندما أرادوا منه أن يبايع يزيد وهو في المدينة قال: " نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد شارب الخمر وقاتل النفس ومثلي لا يبايع مثله ". وشئ متوقع أن تسمع الأمة بأن يذبح ابن بنت نبيها فلا تنصره، فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر يأمر بجمع الحطب حول بيت أم الحسين (ع) ليحرق أو يعطوه الشرعية وها هو عمر بن الخطاب يقف علي باب دارها مهددا بالحرق حتي ولو كانت بنت المصطفي فيه كما مر.. فالقضية لها خلفية تاريخية منذ وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، فالجرأة التي جعلت أولئك يتطاولون علي أولياء الله ويتخذون منصب الخلافة هدفا يهون في سبيله التنازل عن رسالة الإسلام حتي ولو أدي ذلك إلي قتل علي وفاطمة (ع) وهتك ستار بيت النبوة والنيل من بيت نزل فيه الوحي ومنه انطلقت الرسالة... كل هذا لا بد أن يترجم يوما في صورة قبيحة ستظل نقطة سوداء في جبين الأمة وصفحة دموية في تاريخها ألا وهي واقعة الطف التي كان أبطالها هم أهل ذلك البيت الذي هتك حرمته الخلفاء بما أحدثوه من أمور مع أن العهد قريب والرسول لما يقبر أما في زمن يزيد فقد أحكمت القبضة للكفار والمنافقين وبدأوا يقطفون ثمار السقيفة، وتجلت أهدافهم لمحو رسالة السماء في أقبح صورها ظهر عاشوراء 61 ه. رفض الإمام الحسين عقد البيعة ليزيد وبدأ في الاستعداد وتحرك إلي مكة التي أتته فيها الكتب والرسائل من أهل الكوفة يطلبون منه القدوم، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فاجتمع عليه أهل الكوفة وبايعه ثمانية عشر ألفا، فلما علم يزيد بذلك عزل واليه علي الكوفة نعمان بن بشير وولي عبيد الله بن زياد طالبا منه تتبع مسلم وقتله فقدم عبيد الله وتتبع الشيعة فثار عليه مسلم ولكن أهل الكوفة خذلوه عندما مارس معهم ابن زياد سياسة الترغيب والترهيب وبقي مسلم وحيدا يقاتل حتي قتل في [ صفحه 198] تفاصيل مأساوية وقتل معه كبير الشيعة هناك هاني بن عروة وأرسل ابن زياد برأسيهما إلي يزيد. توجه الحسين إلي العراق بعد استلامه رسالة من مسلم قبل قتله تفيد بعدد من بايع وانتظارهم له، وقد حاول البعض أن يثني الحسين (ع) عن الخروج إلا أنه كان يقول: " والله لو أنني كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتي يقضوا في حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود علي السبت " وكما يقول ابن كثير يقول " لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي يعني مكة " لقد كان يعلم أن القوم غير تاركيه حتي يبايع ولكنه كان مستعدا للتضحية فداء لهذا الدين ولا يبايع مثل يزيد، يقول الإمام الحسين (ع): " الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله، خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة، ما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف وخير لي مصرع أنا لاقية، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر علي بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقربها عينه وينجز بها وعده. من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا نفسه علي لقاء ربه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله ". وانطلق غير مبال بأولئك الذين جبنوا عن مجابهة الباطل وسكتوا عن نصرة الحق، انطلق ولسان حاله يقول: إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني، وفي الطريق لقي الفرزدق فاستخبره الخبر فقال: إن القوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك. أرسلت الجيوش لتقطع عليه الطريق وطلبوا منه إما البيعة أو القتل فرفض الإمام (ع) البيعة وقدم لهم خيارات أخري رفضوها ثم خطب الحسين في ذلك الجيش " أيها الناس إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: من رأي منكم سلطانا [ صفحه 199] جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله (صلي الله عليه وآله سلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا علي الله أن يدخله مدخله... إلي أن قال: وأنا أحق من غير ". رفضوا رجوعه أو التوجه إلي يزيد وتركوه يسير مجانبا الطريق حتي يرسلوا لابن زياد ليدلي برأيه، لقي الحسين (ع) رجلا من أهل الكوفة فقال له: " فالا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك ".

نزول الركب المقدس في كربلاء

حطت الركاب في كربلاء ومنع أهل البيت (ع) الماء وجاء الأمر من عبيد الله بن زياد إلي عمر بن سعد قائد الجيش الرسمي للوالي: أما بعد فإني لم أبعثك إلي حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه علي الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما وإن أبوا فازحف عليهم حتي تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك يستحقون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم... وليس عهدي في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ولكن علي قول من قال: لو قد قتلته فعلت هذا به! إن أنت مضيت لأمرنا فيك جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا والسلام. أحاطوا به يوم عاشوراء - بأبي وأمي - ولم يكن معه إلا بضعة وسبعون نفسا ما بين طفل وشاب وشيخ وامرأة، خطب في أعدائه وحاول وعظهم وهدايتهم إلي سبيل الرشاد ولكن هيهات لقد ختم الله علي قلوبهم وحقت عليهم كلمة العذاب، وقد قال فيما قال: " تبا لكم أيتها الجماعة وترحا! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم! وحششتم علينا نارا اقتدحناها علي عدونا وعدوكم فأصبحتم إلبا لأعدائكم علي أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم [ صفحه 200] والجأش طامن، والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الدبا وتداعيتم علينا كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفها وضلة... فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الآفاق ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئي السنن. ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين... بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذه الأسرة علي قلة العدد وخذلان الناصر،. أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس، حتي تدور بكم دور الرحي وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله " فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إني توكلت علي الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي علي صراط مستقيم ". ثم رفع يديه إلي السماء وقال: " اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير ". ثم قال (ع): والله لا يدع الله أحدا منهم إلا انتقم لي منه قتلة بقتلة وضربة بضربة وإنه لخير لي ولأهل بيتي وأشياعي. هذا هو كلام أبي عبد الله الحسين (ع) فاقرأ وتأمل تحس فيه بشفافية الروح المؤمنة وتدرك معني الرسالية مما يؤكد أن ثورة الحسين لم تكن لتغيير نظام حاكم فقط إنما صرخة لتنبيه الأمة للانحراف العقائدي وابتعادها عن أوصياء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولكن من يستمع.. أصر القوم علي تنفيذ جريمتهم وبدأوا القتال الذي تطايرت فيه الأيدي وتساقطت الرؤوس ولم يرحم كبير ولا صغير مثل أصحاب الإمام حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وغيرهم.. أولئك الذين فهموا ماذا تعني نصرتهم للحسين (ع) وهم علي علم بقتلهم فكانوا يتفانون في الدفاع عن ابن رسول الله. [ صفحه 201] في عز القتال ووسط ذلك الجو الملتهب بحرارة المعركة يصلي الإمام صلاة الخوف مع أصحابه فيقف أحد الأصحاب لحمايته ويستقبل السهام بصدره دفاعا عن حجة الله علي خلقه حتي إذا أصبح جسمه كالقنفذ من كثرة السهام سقط علي وجه الأرض متمتما " هل وفيت يا بن رسول الله ". وبدأ الشهداء يرتمون في أحضان الحور العين الواحد تلو الآخر، الهاشميون وأبناء علي (ع) وأبناء الحسن، ثم أبناء الحسين وكان آخرهم طفلا رضيعا للحسين (ع) أخرجه لهم ليجودوا عليه بقطرة ماء بعد أن صار يتلوي من العطش، وقد جف ثدي أمه فاستقبله القوم بالسهام حتي ذبح في حجر أبيه. وبقي الحسين وحيدا يلقي تارة نظرة إلي مخيم النساء بعد قليل سيصرن سبايا وهن بنات رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وتارة ينظر إلي القوم الذين احتوشوه استعدادا لقتله ويبكي! سألته أخته زينب لماذا البكاء؟ قال: أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي هل رأيتم إنسانا يبكي علي عدوه الذي يظلمه؟!.. لم يكن هذا إلا من الأنبياء. ثم قاتلهم حتي قتل ونفذوا وصايا ابن زياد، ففصلوا الرأس عن الجسد ثم أمروا بالخيل لتطأ صدره الشريف. هذه بعض تفاصيل رزية الأمة وما أعظمها من رزية بكت لها السماوات قبل الأرض، وبكي لها الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) يوم ولادة الحسين (ع)، وستظل ذكراها تدمي القلوب، وصدق رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حينما قال " إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تطفأ أبدا ". ما زالت ذكري أبي عبد الله (ع) عند شيعته محفوظة رغما عن أنوف بعض الجهلة الذين صاروا علي منابر العلماء يتحدثون عن الدين وهو منهم براء في غفلة من الناس. [ صفحه 202] ابن زياد ما يزال جاثما علي صدر الأمة باسم جديد وشريح القاضي ما زال يفتي بلسان حديث: بكفر ونجاسة شيعة أبي عبد الله الحسين (ع) وطهارة اليهود ووجوب الصلح معهم [183] ، بل هم أفضل من شيعة الحسين (ع)، وما يزال التضليل والكبت كما فعل قاتلوا الحسين (ع) عندما جاءوا بالسبايا وتساءل الناس من هؤلاء فقالوا أنهم سبايا من الديلم فشمت الناس بهم ووصل الأمر ببعضهم أن فكر في امتلاك إحدي السبايا كجارية وهن ربيبات بيت الوحي الذي حرمت علي أهله الصدقة وأمر الله بمودتهم، قال تعالي: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي). ولكن ما زالت خطبة زينب بنت علي (ع) تدوي في أسماع الشيعة وهي تخاطب يزيد الذي أدخل إليه رأس الحسين وهو متخذ مجلسا للشراب ووضع الرأس بين يديه فراح ثنايا الحسين بمخصرته وهو ينشد: لعبت هاشم بالملك فلا++ خبر جاء ولا وحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم++ من بني أحمد ما كان فعل خطبت عقيلة الهاشميين زينب بلسان يفرغ عن أبيها علي (ع) خطبة طويلة نختار منها هذا المقطع الذي جعل المجالس تعقد للحسين في أوساط شيعته إلي يومنا هذا وإلي ما شاء الله... قالت فيما قالت مخاطبة يزيد " فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تميت وحينا ولا تمحو ذكرنا ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله علي الظالمين ". رغم توارثنا لعادات بني أمية وقبولنا لها مثل الاحتفال بيوم عاشوراء الذي قتل فيه ابن بنت الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) نعيب علي الشيعة إقامتها لمجالس العزاء الحسينية، ولا دليل لدينا سوي ادعاء عمر بن الخطاب لحرمة البكاء وهو القائل " كل [ صفحه 203] الناس أفقه منك يا عمر ". لقد بكي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لقتل الحسين في يوم ولادته، كما بكته السماء بل حتي الجمادات كما جاء في كتب التاريخ، وبكاء النساء لمقتل حمزة أيضا وتشجيع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لهن وإعانتهن حينما قال: علي مثل حمزة فلتبك البواكي، ولقد أقام عليه أهل المدينة مآتم العزاء فلم نر مستنكرا لذلك فيما وصل إلينا. والمحاولات التي يبثها المغرضون اليوم حول البكاء علي الحسين ما هي إلا إحدي المحاولات لإسكات صوت الحق وإطفاء نور الله ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكري كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ولقالوا لنا اليوم أن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي (ع). ويكفي فخرا لمجالس الحسين أنها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة وتلهب في النفوس المؤمنة روح الجهاد ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين (ع) ليسري مفعولها السحري في الأرواح المؤمنة. لن أستطيع في هذه الوجيزة أن أستعرض كافة جوانب كربلاء ولكن يجب علي الأمة ألا تغلق علي نفسها مثل هذه الكنوز التي لا يعرفها إلا من هداه الله.

السجود علي التربة الحسينية

اشاره

هنالك مسألة مرتبطة بهذا البحث، كثير من الناس استشكل فيها علي الشيعة، ومن خلال تجربتي الشخصية لم أجد عند أحد دليلا شرعيا يؤيد إشكاله اللهم إلا ما يتناقله ببغاوات الوهابية فيما يرتبط بالتوحيد والشرك الذي هم أبعد الناس فهما له، والمسألة هي السجود علي التربة الحسينية... قال لي بعضهم " الشيعة يا أخي يعبدون الحجر ويصلون له " وكثيرا ما سمعت هذه الجملة لذا وجب علي توضيح الأمر حتي لا نصبح كالهمج الرعاع أتباع كل ناعق نميل مع كل ريح. [ صفحه 204] أولا: إن للسجود صيغتين:. أ - السجود للشئ. ب - السجود علي الشئ. أما الأول فهو حالة من حالات الشرك بلا خلاف، والشيعة تحرم ذلك البتة لأنه سجود لغير الله وهذا لا يحتاج مني إلي كبير عناء فلتراجع فتاوي علماء الشيعة في ذلك. أما الثانية فالكل يسجد علي شئ، والسجود لا يتحقق في الأساس إلا علي شئ. والشيعة يسجدون علي التربة وليس للتربة، ويكون السؤال لماذا التربة الحسينية بالخصوص؟ وهذا السؤال سنجيب عليه في نقطتين: الأولي فيما يختص بالتربة كما هي والثانية بخصوص التربة الحسينية.

علماء مدرسة اهل البيت

إن علماء مدرسة أهل البيت (ع) ومن أقوال أئمتهم يوجبون أن يكون موضع الجبهة في الصلاة من الأرض أو ما أنبتته الأرض مما لا يؤكل ولا يلبس في الغالب. أما فقهاء أهل السنة الأربعة فإنهم يجوزون السجود علي كل شئ بما في ذلك الأرض. وعلماء الشيعة لهم ما يؤيد قولهم من مصادر أهل السنة نذكر منها: - 1 - حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (بخاري ج 1 / 109). 2 - وقوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " جعلت لي الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا " (بخاري [ صفحه 205] ج 1 / 371، مسلم 1 / 371). 3 - وعن أبي سعيد الخدري في حديث جاء فيه: " وكان سقف المسجد من جريد النخل وما نري في السماء شيئا فجاءت قزعة فأمطرنا فصلي بنا النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي رأيت الطين والماء علي جبهته وأرنبته (صلي الله عليه وآله وسلم) " (بخاري ج 2 / 386). وكثير من الأحاديث التي تؤكد علي مسألة السجود علي التربة.

لماذا السجود علي التربة الحسينية

اشاره

أولا: السجود علي التربة الحسينية يمثل حالة من حالات السجود علي الأرض وإجماع المسلمين علي صحة السجود علي الأرض وترابها قائم فلا يوجد مبرر لاستثناء تربة الحسين (ع). ثانيا: إن أئمة أهل البيت (ع) كانوا يؤكدون علي مسألة السجود علي التربة الحسينية والإمام علي بن الحسين (ع) أول من سجد عليها وكل أئمة أهل البيت (ع) كان يسجدون عليها ويؤكدون علي " استحباب السجود عليها كما جاء عن الإمام الصادق (ع) " إن السجود علي تربة أبي عبد الله الحسين يخرق الحجب السبع ". وتربة الحسين عبارة عن تراب من كربلاء يخلط بالماء ويصب في قوالب ثم يجفف ويوضع في موضع الجبهة للسجود عليه. ثالثا: هنالك دلالات كبيرة في السجود علي تربة سيد الشهداء (ع) لا تخفي علي الألمعي منها [184] : - [ صفحه 206]

الدلالة العقائدية

عمر بن سعد غداة يوم عاشوراء صلي بجيشه صلاة الصبح جماعة ثم قتل الصلاة في ظهيرة نفس اليوم بقتله سيد الشهداء، ونحن بصلاتنا علي تربة الحسين نعلن أننا لا نصلي صلاة ميتة مثل صلاة عمر بن سعد وأميره يزيد وأبيه ومن ولاه، لا نحن نصلي صلاة الحسين وأبيه وجده وهذا ما يكرس مفهوم الولاء لأهل البيت (ع) عند شيعتهم ولهذا ركز الأئمة (ع) علي التذكير بتربة الحسين (ع) التي يعني السجود عليها تمام التسليم والخضوع لله بانتهاج نهج أوليائه.

الدلالة التاريخية

حاول البعض طمس معالم يوم الغدير الذي بويع فيه لعلي (ع) بالخلافة، وعاشوراء كانت في عهد بني أمية وما أدراك ما بنو أمية، والتربة الحسينية وثيقة تاريخية حية تحمل شواهد الجريمة التي نفذها الحكم الأموي يوم العاشر من محرم، وإذا كانت الأجهزة الظالمة عبر التاريخ قد مارست أساليب المصادرة لقضية كربلاء، وما زال امتدادهم إلي يومنا هذا، فإن الأئمة من أهل البيت (ع) رسخوا في وعي الأمة وفي وجدان الأجيال حالة التعاطي والارتباط بقضية الحسين (ع) من خلال الإحياء والرثاء والبكاء والزيارة وفي هذا المسار تأتي مسألة التأكيد علي التربة الحسينية.

الدلالة الجهادية

التربة الحسينية إحدي صيغ التجذير للوهج الثوري والجهادي في حس الجماهير المسلمة، وهذا ما تحتاج إليه كل الأمة الإسلامية، خاصة ونحن نعيش فترة يواجه فيها المد الإسلامي بكل أنواع الحروب، والتعامل مع هذه التربة ليس تعاملا مع كتلة ترابية جامدة وإنما هو تعامل مع مزيج متحرك من مفاهيم الثورة وقيم الجهاد ومضامين الشهادة، فمع كل ذرة من ذرات هذه التربة صرخة جهادية ونداء ثوري ومفهوم استشهادي لا يقوي الزمن بكل امتداداته ولا تقوي الأجهزة المتسلطة بكل إمكاناتها أن تجمد تلك الدلالات فالتربة الحسينية عقيدة وجهاد وثورة وحركة واستشهاد. [ صفحه 207]

في دائرة النور

اشاره

(الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار، نور علي نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم) (سورة النور: آية / 35) [ صفحه 209]

من ركام الباطل الي النور

من وسط ركام الباطل المظلم أسرعت إلي حيث النور وانكشف الغطاء عن البصر إثر الحجة تلو الأخري والدليل يضاف إليه دليل والعقل يستنير ولا سبيل إلا أهل البت (ع)، ودخلت دائرة النور والنور لا يري إلا بنفسه،. وسنا بريق كنوز أهل البيت يخطف الأبصار. تأسفت لحال من لم يوفقه الله للاهتداء إليهم، ونظرة عامة إلي منهجهم وكلماتهم وأحوالهم كافية للتدليل علي أنهم هم أمناء الله علي وحيه المنزل علي نبيه (صلي الله عليه وآله وسلم) هذه الأمانة العظمي التي لا يمكن أن يتحملها من يعتريه الشيطان بين الفنية والأخري ولا يؤدي حقها من كان كل الناس أفقه منه ولا يستطيع حفظها من آثر هواه وهوي عشيرته علي التمسك بأبسط مفردات الحق. أهل البت (ع) كلماتهم نور لم أسمع بها عند الآخرين، منهجهم في تربية الأمة وتوجيهها يجعلك تحس بمعني خلافة الله في الأرض، لم يشهد التاريخ بأنهم تعلموا علي أيدي أحد بل الكل يدعي الرجوع إليهم وما الفقهاء الأربعة إلا نتاج جامعة الإمام الصادق العلمية في المدينة المنورة والتي تخرج منها أيضا جابر بن حيان بعلم الكيمياء الذي أخذه من الإمام الصادق (ع)، ولا يسعني أن أستعرض ولو قطرة من بحار علومهم التي أخذ منها شيعتهم فكان تفوقهم علي من سواهم في جميع المجالات، وموسوعة واحدة من مصادرهم الحديثية تكفي لتلتهم كل ما عند أهل السنة والجماعة من مصادر، وبحار الأنوار بمجلداته العشرة بعد المائة دلتنا علي ذلك وحقا إنه بحار من أنوار العلم. وقد سعي المفسدون في الأرض إلي تشويه صورة مذهب أهل البيت (ع) وحاولوا ممارسة التضليل الإعلامي، ومن جملة ذلك الطعن في نهج البلاغة الجامع لبعض خطب ورسائل وكلمات أمير المؤمنين (ع) وهو هو بمتنه الذي أعجز البلغاء وإن [ صفحه 210] ما جاء فيه كاف لبيان صحة النسبة لأمير المؤمنين وعلي هؤلاء أن يأتونا بخطبة واحدة قالها أحد الخلفاء أو كلمة قصيرة تشبه الخطب الواردة في نهج البلاغة. قيل لأحد الإخوة أن نهج البلاغة وضعه الشريف الرضي فقال لهم إذا هو إمام مفترض الطاعة!! ولأهل البيت (ع) تراث عظيم كان من الممكن أن تستفيد منه الأمة ولكنها أبت إلا نفورا، وإحدي معاجزهم التي بهرتني، ذلك المنهج في الدعاء وكيفية التقرب إلي الله تعالي والأدب الرفيع في مخاطبة الرب سبحانه، والقارئ للصحيفة السجادية وهي صحيفة كلها أدعية للإمام الرابع علي بن الحسين السجاد (ع) يتعجب لماذا لم يهتم علماء السنة بهذه الصحيفة هل لأنها واردة عن أحد الأئمة أهل البيت؟ أم ماذا!!. أحد الإخوة الذين استبصروا، كان يميل للوهابية بعد أن عملوا علي تزريقه أفكارهم ومعتقداتهم وقبل أن ينغمس معهم تماما من الله عليه بأحد الأصدقاء والذي أعطاه بعض مؤلفات الشيعة ليقرأها، ولقد سمع من قبل عن الشيعة وحذر منهم، فطلب مني ومن بعض الإخوة جلسة حوار حول التشيع وما إليه فرحبنا به وجلسنا فدار النقاش حول معتقدات الشيعة وبعد نقاش طويل تنفس قائلا: هذا الكلام حق لا لبس فيه ولكن لماذا يقولون عن الشيعة كل هذه الأقاويل؟! قلت له: كما أن للحق أنصارا يعملون علي نصرته. فإن للباطل جنودا وشياطين يوحون إليهم، ولا يمكن أن يعتمد الباطل لا علي باطل. قال هذا الأخ وعلامات الأسف والتأثر واضحة عليه: لقد قالوا لنا إن الشيعة يخالفون المسلمين في كل شئ حتي الصلاة. كان وقت صلاة المغرب قد حان فقلت: الآن بإمكانك أن تصلي معنا لتري هل صلاتنا تختلف كما يدعون. توضأنا وصلينا وكان اليوم يوم خميس وبعد الصلاة وكما هو معروف عند الشيعة يستحب قراءة دعاء كميل وهو دعاء علمه أمير المؤمنين علي (ع) لأحد [ صفحه 211] أصحابه وهو كميل بن زياد النخعي والشيعة يواظبون علي قراءته. قرأنا ذلك الدعاء وأحسست بانفعال هذا الأخ بالدعاء، حينها تألمت لهذه الأمة المحرومة من هذه الكنوز التي لم يبخل بها أهل البيت (ع) خصوصا فيما يختص بالأدعية التي تجعل الإنسان في عالم آخر وهو يناجي ربه. بعد الدعاء رأيت الدموع في عينيه وهو يقول بحرقة: خدعونا وقالوا لنا أن الشيعة لا يعرفون الصلاة والله نحن ما عرفنا الصلاة ولم نفهم الصلاة.

فقرات من ادعية اهل البيت

من دعاء الصباح لاميرالمومنين

" اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه، يا من دل علي ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته وجل عن ملاءمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه وأيقظني إلي ما منحني من مننه وإحسانه، وكف أكف السوء عني بيده وسلطانه.. ". " افتح اللهم لنا مصاريع الصباح بمفاتيح الرحمة والفلاح وألبسني اللهم من أفضل خلع الهداية والصلاح واغرس اللهم بعظمتك في شرب جناني ينابيع الخشوع وأجر اللهم لهيبتك من آماقي زفرات الدموع وأدب اللهم نزق الخرق مني بأزمة القنوع... ".

من دعاء يوم عرفة للامام

" الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع [ صفحه 212] وهو الجواد الواسع فطر أجناس البدائع وأتقن بحكمته الصنائع لا تخفي عليه الطلائع ولا تضيع عنده الودائع جازي كل صانع ورايش كل قانع وراحم كل ضارع ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع وهو للدعوات سامع وللكربات دافع وللدرجات رافع وللجبابرة قامع فلا إله غيره ولا شئ يعدله وليس كمثله شئ وهو السميع البصير اللطيف الخبير وهو علي كل شئ قدير، اللهم إني أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك مقرا بأنك ربي وأن إليك مردي ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب آمنا لريب المنون واختلاف الدهور والسنين... " اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك حتي لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، اللهم اجعل غناي في نفسي واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والنور في بصري والبصيرة في ديني ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني وانصرني علي من ظلمني. إلهي كيف أعزم وأنت القاهر وكيف لا أعزم وأنت الآمر إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني علك بخدمة توصلني إليك... كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتي يكون هو المظهر لك متي غبت حتي تحتاج إلي دليل يدل عليك ومتي بعدت حتي تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيبا وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا... ".

مناجاة الشاكرين للامام زين العابدين

بسم الله الرحمن الرحيم " إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي [ صفحه 213] أياديك، وهذا مقام من أعترف بسبوغ النعماء، وقابلها بالتقصير، وشهد علي نفسه بالإهمال والتضييع، وأنت الرؤوف الرحيم البر الكريم، الذي لا يخيب قاصديه، ولا يطرد عن فنائه آمليه، بساحتك تحط رحال الراجين، وبعرصتك تقف آمال المسترفدين، فلا تقابل آمالنا بالتخييب والايئاس، ولا تلبسنا سربال القنوط والإبلاس، إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إياي ثنائي ونشري، جللتني نعمك من أنوار الإيمان حللا، وضربت علي لطائف برك من العز كللا، وقلدتني مننك قلائد لا تحل، وطوقتني أطواقا لا تفل، فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر، وشكري إياك يفتقر إلي شكر، فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد، إلهي فكما غذيتنا بلطفك وربيتنا بصنعك، فتمم علينا سوابغ النعم، وادفع عنا مكاره النقم، وآتنا من حظوظ الدارين أرفعها وأجلها عاجلا وآجلا، ولك الحمد علي حسن بلائك وسبوغ نعمائك حمدا يوافق رضاك ويمتري العظيم من برك ونداك يا عظيم يا كريم، برحمتك يا أرحم الراحمين...

قبسات من نور آل محمد

إن الفقه الشيعي هو الشجرة الطيبة الراسخة الجذور المتصلة الأسس بالنبوة، والذي امتاز بالسعة والشمولية والعمق والدقة والقدرة علي مسايرة العصور المختلفة، والمستجدات المتلاحقة من دون أن يتخطي الحدود المرسومة في الكتاب والسنة ويعتمد الفقه الشيعي إضافة إلي الكتاب والسنة العقل والإجماع الكاشف عن وجود النص أو موافقة المعصوم. إن الشيعة الإمامية قدمت في ظل هذه الأسس الأربعة فقها يتناسب مع [ صفحه 214] المستجدات، جامعا لما تحتاج إليه الأمة، ولم يغلق باب الاجتهاد [185] عندهم، بل ظل مفتوحا طيلة القرون الماضية إلي يومنا هذا، فأنتج عبر العصور فقهاء عظاما، وموسوعات كبيرة لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلا، والمقام لا يتسع لبسط الكلام عن الفقه الجعفري كما أن مفهوم الاجتهاد عند الشيعة غير ما هو عند السنة، فليراجع معالم المدرستين ج 2. إلا أن هنالك بعض الاختلافات بين الفقه الجعفري وفقه أهل السنة والجماعة حاول البعض أن يتخذها ذريعة ليرمي التشيع بكل فرية وتشويه، وأنا لست بصدد بيان كل مواقع الاختلاف، ولكني سأختار بعض المفردات عند الفقه الشيعي يثير حولها الجاهلون شبهات لاتهام الشيعة، سأطرحها لأبين رأي الدين فيها ثم أترك للقارئ الحكم. وقبل ذلك أقول أن الاختلاف ليس في الفروع فقط، بل هنالك خلافات جوهرية في الأصول العقائدية.. فالحديث عن التوحيد يطول، يلتقي فيه أهل السنة مع الشيعة ويفترقون، فالله سبحانه وتعالي في كتب أهل السنة والجماعة والتي بلورها الوهابيون في كتبهم يمشي ويتحرك من مكان إلي آخر وينزل ويصعد ويضحك وله يدان وقدمان وساق... الخ حتي أبتعد الناس عن ربهم. أذكر هنا أن أحد الشباب الذين خدعوا بالوهابية جري حوار بينه وبين أحد الإخوة وكان محور حديثهما التوحيد وكان هذا الوهابي مصرا علي أن لله مكانا وحيزا يوجد في العرش فوق السماوات، فقال له الأخ: يعني إذا اخترعت صاروخا يسير أسرع من الضوء واتجهت به إلي السماء هل بإمكاني الوصول إلي مكان الله ووجوده هناك؟ [ صفحه 215] قال: نعم!.. فضحك الأخ وقرر الصمت. هذا حال التوحيد الذي من أجله بعث الأنبياء عند القوم، أما الشيعة فإن أئمتهم لم يتركوا لهم مجالا ليشطوا عن الحق والمعرفة الصحيحة كما فعل غيرهم، وإنما تركوا لهم كنوزا من المعارف الإلهية نزل بها الوحي علي النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) ويكفي من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن علي بن أبي طالب (ع) يقول في إحدي تلك الخطب مبينا حقيقة التوحيد: " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته، ووتد الصخور ميدان أرضه. أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال (فيم) فقد ضمنه ومن قال (علام) فقد أخلي منه كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم... الخ " [186] . وهنالك الكثير من المفارقات بين المدرستين تحتاج إلي مجلدات لاستقصائها وعلي الجميع أن يبحث ليلقي الله علي حجة وسأذكر بعض المفردات الفقهية الخلافية لنري مع من الحق.

التقية

ما أكثر ما شنع خصوم الشيعة عليهم في التقية التي غاب معناها عن أذهانهم ورسموا لها معاني من مخيلتهم الخربة فصاروا يتهمون بها الشيعة والتشيع، وعندما [ صفحه 216] أوضح هنا معني التقية وشرعيتها لا أنتصر للشيعة ومعتقداتهم بقدر ما أنصر القرآن ومفاهيمه التي تمسك بها الشيعة فكان صحة ما يعتقدون به فرعا لأصل صحة القرآن الذي غابت بصائره عن العقول النجدية فتاهت حتي أنها تكاد لا تفقه الفرق بين الطهارة والنجاسة. البعض يردد أقوال الآخرين دون تمحيص ومعرفة غافلين عن خطورة استهزائهم بما لا يعلمون فيستهزئون من حيث لا يشعرون بالحق والقرآن وذلك ستكون عاقبته وخيمة، وما أكثر ما سمعت " أن الشيعة منافقون لأنهم يعتقدون بالتقية وهي تعني النفاق وإظهار خلاف الباطن " ضاربين بذلك الآيات القرآنية وسيرة الأنبياء عرض الحائط. وقبل استعراض أدلة شرعية التقية من القرآن والسنة كما جاء في كتب أهل السنة والجماعة، والتي أري أن الشيعة أعلم بها من أهلها، نتحدث عن معني التقية وظروفها. إن الشيعة ومنذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكام والمتصدين لهموم الأمة باعتبار أن أئمتهم هم الحافظون للشريعة، لذلك كرست الحكومات كل جهودها لضربهم. لهذا السبب ولغيره عرف الشيعة بالتقية دون غيرهم من الفرق الإسلامية التي كان علماؤها ومن ورائهم العامة يؤيدون كل سلطان عادل أو جائر، بينما يصور لنا الإمام الباقر (ع) حال الشيعة آنذاك يقول: " وكان من أعظم ذلك وأكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع) فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل علي الظنة وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلي زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (ع) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتي أن الرجل ليقال له زنديق وكافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ". [ صفحه 217] هذا هو الحال باختصار وعند عرضنا للأدلة سيتبين بإذن الله تعالي أن التقية حاجة فطرية وكلنا نستخدمها في حياتنا العملية خصوصا أولئك الذين يواجهون الطواغيت في كل مكان، يعلمون بأهميتها في مسيرتهم الجهادية. والتقية في اللغة معناها الحذر، قال ابن منظور في لسان العرب توقيت واتقيت، أتقيه تقي وتقية وتقاء: يعني حذرته. أما التقية شرعا كما عرفها الشيخ الأنصاري من - كبار علماء الشيعة المتقدمين - في كتابه المكاسب (التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق). وشرعية التقية تؤخذ من الكتاب والسنة كمصدرين للتشريع وستجد أن العقل يؤيد مشروعيتها.

اما من الكتاب العزيز

قوله تعالي (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة) آل عمران / 28). وواضح من قوله تعالي (إلا أن تتقوا منهم تقاة) شرعية التقية وأن المؤمن إذا خاف من الكفار يجوز له مداراتهم تقية منه ودفاعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك. يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: (المسألة الرابعة) اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها: " الحكم الأول " إن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف علي نفسه وماله فيداريهم بلسانه وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب. [ صفحه 218] " الحكم الثاني " هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل. " الحكم الثالث " إنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما ما يرجع ضرره إلي الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار علي عورات المسلمين فذلك غير جائز. " الحكم الرابع " ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس. " الحكم الخامس " التقية جائزة لصون النفس. وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلي الله عليه وآله وسلم) " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " ولقوله (صلي الله عليه وآله وسلم) " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلي المال شديدة، والماء إذا بيع بألفين سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار علي التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم. " الحكم السادس " قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين، فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا، وروي عن عوف بن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلي يوم القيامة، وهذا القول أولي لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان [187] . يتضح من كلام الرازي دلالة الآية علي شرعية التقية، ويذكر ذات المعني ابن كثير في تفسيره [188] .

اما من السنة

فقد أورد الرازي نقلا عن البخاري في صحيحه من كتاب الأدب باب المداراة مع الناس عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): " إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم "، كما نقل - الرازي - أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: أما هذا المقتول فمضي علي يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه " [189] . كل ذلك يدلل علي مشروعية التقية وأنها حكم عام يشمل كل إنسان، وبضم حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " يكتمل المطلب. والتقية كحكم لها ضوابطها وحدودها والشيعة فيما يرتبط بفروع دينهم لا يحتاجون لغيرهم للأخذ منهم ولقد جئنا بالأدلة حتي لا يطلق البسطاء تهمهم بجهل. [ صفحه 220] وإليك روايات عن طريق أهل البيت (ع) وهم الحجة علي شيعتهم لا غيرهم: - عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال: اتقوا علي دينكم فاصحبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم من الناس كالنحل في الطير لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شئ إلا أكلته ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبوننا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنجلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان علي ولايتنا. - عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع): التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به. - وعنه أيضا: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية. - وقال الإمام الصادق (ع): " من لا تقية له لا دين له ". وهذا قليل من كثير ورد عن طريق أهل البيت (ع) وعرفنا أصله في القرآن، والعقل يذعن بذلك إذ أنه من البداهة أن التوقي والحذر مطلوبان في كل الأحوال، ولا تكون التقية بذلك نفاقا كما حاول البعض أن يعرفها وكيف يأمرنا الله بالنفاق. كما أنها لا تجعل من الدين وأحكامه سرا من الأسرار كما ذهب إليه بعض المستشرقين وأذيالهم، فكيف تكون السرية عند الشيعة، وهذه كتبهم ليس دونها حاجز أو حجاب، فليبحث الجميع وليفتش. هذه النجف أمامكم وتلك قم فارحلوا إليها وانزلوا علي مكاتبها فلن تجدوا دونكم سترا أو ممانعة، أي الكتب أحببت فهي تحت يدك وفي متناولها وفيها أمهات الكتب ومصادر الأحكام لم تبق مسألة إلا وفصلت ولم تطرح قضية إلا وحلت وعلماؤهم شهرتهم عمت أرجاء المعمورة. وفي الخاتمة أورد قصة لأحد الأصدقاء المهتدين، التف حوله عدد من الشباب يحاولون إجباره علي أن يعترف بأن التقية نفاق فقال لهم: عرفوا لي النفاق. قالوا: هو إضمار الكفر وإظهار الإيمان، قال لهم: أما التقية فهي إظهار الكفر وإضمار الإيمان كما جاء في القرآن فهل لديكم دليل بحرمة ذلك؟ فسكتوا. وقد قال الإمام علي (ع) [ صفحه 221] " لو سكت الجاهل ما اختلف حول الحق اثنان " [190] .

الوضوء

إن الوضوء واجب، وبنقصانه بلا سبب تكون الصلاة باطلة، هذا ما اتفق عليه المسلمون، إلا أن هنالك اختلافا في كيفيته والتي بلا شك يتوقف عليها صحة صلاة الجميع، والشيعة تبعا لأئمتهم يعتقدون بصحة الوضوء الذي يتعبدون به ووضوء غيرهم غير تام ولا تصح به الصلاة ولهم أدلتهم علي ذلك من القرآن والسنة. وبالرغم من أن هذه المسائل التي ذكرناها فرعية تتبع الأصل إلا أن بعض الكتاب والمرتزقة والمأجورين أبوا إلا أن يدخلوا الناس في مباحث فرعية لإلهائهم الناس عن الالتفات إلي الاختلاف في المنبع والذي يؤدي إلي الاختلاف في طعم الماء بسبب ذلك إلا أن علماء الشيعة لم يتوانوا في إثبات حتي فروع دينهم من كتب العامة. هنا تكمن قوة الحجة. هناك اختلاف بين مدرسة أهل السنة والجماعة ومدرسة أهل البيت (ع) حول حكم الأرجل في الوضوء بالإضافة إلي كيفية غسل الأيدي. أما الأخيرة فإن الشيعة يرون أن الغسل في اليدين يبتدئ بالمرفقين وينتهي بأطراف الأصابع ولا يسوغ الابتداء بأطراف الأصابع والانتهاء بالمرفقين، ولو فعل المتوضئ ذلك بطل وضوؤه وقد أخذوا ذلك من الممارسة العملية لوضوء الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي بينه الأئمة (ع) فيما ورد عنهم: سئل الإمام الباقر (ع) عن وضوء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فدعا بطشت أو بتور فيه ماء فغسل كفيه، ثم غمس كفه اليمني في التور فغسل وجهه بها واستعان بيده اليسري بكفه علي غسل وجهه، ثم غمس كفه اليسري في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمني من المرفق إلي الكف لا يرد الماء إلي المرفقين ثم غمس كفه اليمني في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه علي يده اليسري من المرفق إلي [ صفحه 222] الكف لا يرد الماء إلي المرفق كما صنع باليمني ثم مسح رأسه وقدميه إلي الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء " [191] . ومن خلال آية الوضوء نستطيع أن نتعرف علي الكيفية ثم نري ما هو حكم الأرجل ونأتي بالأدلة من الطريقين. يقول تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلي الكعبين) (سورة المائدة: آية / 6). قد يقال بأن دلالة الآية صريحة في بيان كيفية الوضوء ووجوب غسل اليدين بدءا بالأصابع وإنهاء بالمرفقين، ولكن بقليل من التأمل نقول أن اليد مشتركة بين الأصابع إلي الزند إلي المرفق وإلي الكتف، فإذا قيل اغسلوا أيديكم يكون مجملا ومبهما يحتاج إلي مفسر يعين حد المغسول به فجاءت إلي المرافق و (إلي) هنا لبيان حد المغسول به لا لبيان كيفية الغسل والآية ناظرة إلي ما هو متفاهم عرفا إذ أنه إذا قيل لشخص اغسل هذا البيت أو ضع عليه طلاء إلي السقف فهل يبدأ من تحت إلي أعلي أم العكس؟ ولعل فتاوي الأئمة الأربعة بالجواز لا بالوجوب في الابتداء بالأصابع يؤكد هذا المعني ولو كانت (إلي) جاءت لبيان كيفية الغسل لوجب علي الأئمة الأربعة أن يفتوا بوجوب ذلك. ولفظ (إلي) يستخدم أحيانا بمعني " مع " كقوله تعالي (ولا تأكلوا أموالهم إلي أموالكم). والشيعة اتبعوا بالإضافة إلي النص من هم أعرف بالقرآن من غيرهم.

حكم الارجل

أما حكم الأرجل فهو أوضح من مسألة كيفية غسل اليدين ومن خلال نفس الآية وهو وجوب المسح، ولا معني للقول بالغسل وهو مخالف للآية الكريمة بالإضافة إلي السيرة العملية لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وفيما يلي بيان ذلك. [ صفحه 223] في قوله تعالي (وأرجلكم) وردت قراءتان مشهورتان: - القراءة الأولي: (وأرجلكم) بالجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم (في رواية أبي بكر عنه) كما ذكر ذلك الرازي في تفسيره [192] وبناء علي هذه القراءة فالأرجل معطوفة علي الرؤوس فوجب مسحهما كما وجب ذلك في الرؤوس، يقول الرازي: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. أما القراءة الثانية وهي قراءة " وأرجلكم " بالنصب وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه كما ذكر ذلك الرازي، وبناء علي هذه القراءة يكون حكم الأرجل المسح أيضا، لأنها معطوفة علي الرؤوس المنصوبة محلا المجرورة لفظا فقوله تعالي (برؤوسكم) لها حالتان: - النصب محلا لأنها مفعول به. - الجر لفظا لأنها مسبوقة بحرف الجر. فالأرجل المعطوفة علي الرؤوس يجوز فيها حالتان. - النصب عطفا علي المحل. الجر عطفا علي اللفظ. والعطف علي المحل وارد في لغة العرب فيقال " ليس فلان بعالم ولا عاملا " بنصب عامل عطفا لها علي محل عالم. كما أنه لا يصح عطف الأرجل علي الوجوه والأيدي، حيث لا يجوز العطف علي الأبعد مع إمكان العطف علي الأقرب، وكذلك لوجود الفاصل الأجنبي، [ صفحه 224] فلا يصح أن يقال (ضربت زيدا ومررت ببكر وخالدا) بعطف خالد علي زيد لوجود الفاصل وهو " مررت ببكر " كذلك في آية الوضوء لا يصح عطف (أرجلكم) علي (وجوهكم وأيديكم) لإمكان العطف علي الأقرب وهو (رؤوسكم) ولوجود الفاصل الأجنبي وهو جملة (وامسحوا برؤوسكم).

اخبار من مصادر سنية توضح وجوب المسح دون الغسل

1 - في مسند الإمام أحمد عن علي قال " كنت أري باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتي رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما " [193] . 2 - أخرج الحاكم في المستدرك بسنده إلي رفاعة بن رافع عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " إنها لا تتم صلاة أحد حتي يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل يغسل وجهه ويديه إلي المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلي الكعبين " [194] ، قال الحاكم هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين، وقد أخرجه بخمسة أسانيد صحيحة. 3 - أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي مال الأشعري أنه قال لقومه اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): فلما اجتمعوا قال: هل فيكم أحد غيركم قالوا: إلا ابن أخت لنا، قال: ابن أخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء فتوضأ وتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثة وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه ثم صلي بهم " [195] . 4 - أخرج ابن ماجة في سننه قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) " لا تتم الصلاة لأحد حتي يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالي يغسل وجهه ويديه إلي المرفقين [ صفحه 225] ويمسح برأسه ورجليه إلي الكعبين " [196] . 5 - وأخرج أيضا عن الربيع قالت: أتاني ابن عباس عن هذا الحديث تعني حديثها الذي ذكرت أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) توضأ وغسل رجليه فقال ابن عباس: " إن الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح " [197] . هذا هو حكم الأرجل في الوضوء " المسح "، وقد قال ابن عباس للذين يقولون بالغسل: ألا تتدبرون القرآن لقد أبدل الله تعالي الغسل مسحا في التيمم وأسقط المسح في آية التيمم فما لكم لا تفقهون؟!... يقول تعالي في نفس آية الوضوء من سورة المائدة (وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضي أو علي سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (سورة المائدة: آية / 6) فتأمل..

الجمع بين الصلاتين

هو الجمع بين صلاتي الظهر والعصر ويسمي عند الفقهاء بالظهرين، والمغرب والعشاء ويسمي بالعشائين بالإضافة إلي صلاة الصبح. والأدلة علي ذلك كثيرة ومتواترة من القرآن الكريم وعن طريق المدرستين. يقول الله تعالي (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) (سورة الإسراء: آية / 78). - الدلوك: معناها الزوال. - الغسق: فيه قولان: أ - أول ظلمة الليل. [ صفحه 226] ب - شدة الظلمة في نصف الليل. - قرآن الفجر: صلاة الفجر. وبناء علي تفسير الغسق بأول الليل يكون النص قد حدد ثلاث أوقات للصلاة: الوقت الأول: الزوال وهو بداية الوقت للظهر والعصر معا. الوقت الثاني: أول الليل وهو بداية الوقت للمغرب والعشاء معا. الوقت الثالث: الفجر وهو الوقت الخاص بالصبح. وبناء علي تفسير الغسق بنصف الليل يكون النص دالا علي جواز الجمع فوقت الفرائض الأربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال إلي نصف الليل فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلي الغروب إلا أن الظهر قبل العصر، ويشترك المغرب والعشاء في الوقت من الغروب إلي نصف الليل غير أن المغرب قبل العشاء، أما فريضة الصبح فقد اختصها الله بوقتها المنوه به في قوله تعالي (وقرآن الفجر) [198] . يقول الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية " يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا ". إلا أن الرازي يعقب قائلا " إلا أنه دل الدليل علي أن الجمع جائز بعذر السفر وعذر المطر وغيره " [199] . ونحن نرد عليه قوله الأخير للأدلة التي تواترت عن طريق أهل السنة والجماعة والتي أكدت علي جواز الجمع مطلقا في الحضر ودون عذر، وأهل البيت (ع) قالوا أيضا بذلك وأهل البيت أدري بما فيه. [ صفحه 227]

الادلة من السنة

1 - عن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتي دخلنا علي أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر وهذه صلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) التي كنا نصلي معه [200] . 2 - عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: " إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) صلي بالمدينة سبعا وثمانية الظهر والعصر، والمغرب والعشاء " [201] . 3 - خطب ابن عباس يوما بعد العصر حتي غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة، الصلاة فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني الصلاة لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فقال عبد الله بن شقيق (راوي الحديث) فحاك في صدري من ذلك شئ فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته " [202] . 4 - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعا بالمدينة من غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته [203] . 5 - عن ابن عباس قال: جمع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال الراوي: قلت [ صفحه 228] لابن عباس: لم فعل ذلك. قال: كي لا يحرج أمته [204] .

الادلة من طريق اهل البيت

هذا هو حال الجمع بين الصلاتين كما هو واضح إطلاقه في كل الأحوال تخفيفا للأمة، وذلك ما جاءت به كتب أهل السنة والجماعة، أما ما جاء عن أهل البيت (ع) فكثير نختار منه: 1 - عن الإمام الصادق (ع) قال: صلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة، وإنما فعل ذلك رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ليتسع الوقت علي أمته [205] . 2 - عن الإمام الباقر (ع) قال: " إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة ". 3 - وبتفصيل أكثر يقول الإمام الصادق (ع) " إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتي يمضي مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات، فإذا مضي ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتي يبقي من الشمس مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتي تغيب الشمس ". وقال: " إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتي يمضي مقدار ما يصلي المصلي ثلاث ركعات، فإذا مضي ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتي يبقي من انتصاف الليل مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء إلي انتصاف الليل ". وسائل الشيعة. وهكذا تكون الصلاة خمس صلوات واجبة مفروضة في اليوم والليلة هي الفجر ووقته معلوم والظهر والعصر لهما وقت مشترك يجوز الجمع فيه علي أن يقدم الظهر [ صفحه 229] وأيضا للمغرب والعشاء وقت مشترك يجوز الجمع فيه علي أن يقدم المغرب علي العشاء، وهذا ما يؤمن به الشيعة ويعملون به، وهو الحق.

الزواج المنقطع المتعة

اشاره

باسم الشرف والكرامة أخذ البعض يطعن في أحكام الله التي شرعها في كتابه وبلغها نبيه محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) والتي التزم بها شيعة أهل البيت (ع) فكان جزاؤهم التشنيع والاتهام والإشاعات والكذب عليهم. وبلغ ذلك حده في زواج المتعة الذي جاء به القرآن وقال به النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وعلي مشروعيته أكد أهل البيت (ع). ولنا حديث حول هذا الموضوع، ولكن قبل ذلك نستعرض بعض الأدلة التي تحسم الأمر تماما إذا كان أهل السنة والجماعة يؤمنون بكلام الله تعالي وقول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)، ثم نعرج لنتعرف علي أقوال أولئك الذين ظنوا بأنهم بلغوا شأوا بعيدا من معرفة ما يضر المجتمع وما يصلحه.

الدليل القرآني

قوله تعالي: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) (سورة النساء: آية / 24). ذكر الرازي في تفسيرها [206] ، أنه روي أن أبي بن كعب كان يقرأ (فما استمتعتم به منهن) - إلي أجل مسمي - (فآتوهن أجورهن) وهذه أيضا قراءة ابن عباس والأمة ما أنكرت عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعا من الأمة علي صحة هذه القراءة، ويقل الرازي أثناء بحثه حول آية المتعة عن عمران بن حصين أنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالي ولم تنزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول [ صفحه 230] الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولم ينهنا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء [207] . ومثله يروي الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 4 / 436، كما قال بنزول هذه الآية في المتعة مجاهد فيما أخرج الطبري. وفي الدر المنثور عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية (آية المتعة) أمنسوخة قال: لا، وقال علي: لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زني إلا شقي " [208] . وأعتقد أن مفهوم هذه الآية حول المتعة واضح جدا ومن خلال سياق الآيات نستطيع أن نتعرف علي أنواع الزواج التي شرعت في الشريعة الإسلامية، وقد أكد علي ذلك تواتر الروايات التي جاءت تبين الآية، وتؤيدها مجموعة من الأحاديث التي جاءت في الصحاح. إلا أن علماء العامة وكما تعودنا منهم كثرة محاولات التضليل وتشويه صورة الشيعة، أنكروا المتعة وتبرأوا منها وهم يحسبون أنهم بذلك يضربون التشيع، وغفلوا أو ربما عن وعي أنهم بذلك قد ضربوا القرآن الحكيم وطعنوا في الحكمة الإلهية للتشريع، وكأنما أرادوا أن يفرضوا علي الله شريعة تلائم عقولهم التي لم تستوعب مضامين الرسالة وروحها، فصعب عليهم التعرف علي الحق والتسليم له، وكان بينها وبين الحقيقة حجاب التكبر والغطرسة وادعاء العلم، والله يعلم وهم من جهل مركب في طغيانهم يعمهون. أقول ذلك وأتألم لحال الأمة التي أصبح علماؤها أكثر الناس جهلا بأمور دينهم.. قرأت كتبهم واستمعت إلي علمائهم حول الزواج " المؤقت "، فوجدت أن أفضل من تحدث عنه قال إنه تقنين للزنا، وبقولهم هذا يكون الله تعالي ورسوله قد شرعا الزنا - حاشا الله ورسوله - حتي ولو صدقت دعواهم بنسخه أو تحريمه بعد تشريعه تكون هنالك فترة زمنية مارس فيها المسلمون الزنا مقننا.. [ صفحه 231] والآن لنر الأدلة المأخوذة من الصحاح، هل قالت عن المتعة أنها زنا؟!. عن عبد الله بن مسعود قال: " كنا نغزوا مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلي أجل معين " [209] . عن سلمة بن الأكوع عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا. تزايدا أو تتاركا " [210] . عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا: كنا في جيش فأتانا رسول الله (صلي الله عليه وآله سلم) فقال: " قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا " [211] . عن جابر بن عبد الله قال: " كنا نتمتع علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر حتي نهانا عمر عنها أخيرا يعني متعة النساء " [212] . عن جابر بن عبد الله قال: " تمتعنا متعتين علي عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الحج والنساء فنهانا عمر عنهما فانتهينا " [213] . كما ذكر الرازي أنه روي أن عمر قال علي المنبر: " متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهي عنهما متعة الحج ومتعة النكاح ". هذه وغيرها من الأحاديث والروايات تبين أن زواج المتعة زواج شرعي وأن تحريمه لم يكن من الله ورسوله إنما قال فيها الرجل " عمر " بما شاء، ونحن غير ملزمين بقول عمر الذي ارتآه ونقبل بشهادته فيما يخص حليتها، لأن القرآن أمرنا بأخذ ما قاله لنا الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وما شرعه أما ما قاله عمر إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله فنضرب به عرض الحائط، وهنالك من هو أعلم منه وكان [ صفحه 232] يرجع إليه في المعضلات وقد قال بحليتها وهو الإمام علي (ع) الذي ينقل قوله السيوطي في الدر المنثور " لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زني إلا شقي ". وهذا ينقلنا لنخوض قليلا في الحديث عن المجتمع، وما سببه تحريم زواج المتعة من مشاكل. إن مشكلة الجنس من أكثر المشاكل عمقا وتعقيدا وتأثيرا في المجتمع الإنساني بما تحمله من مضاعفات خطيرة تؤثر في مسار حياة الإنسان ومن أبرز هذه المضاعفات الانحرافات الجنسية وإشباع الغريزة بصورة غير مشروعة مما ينعكس سلبا علي المجتمع، بالإضافة إلي الانعكاسات النفسية والاكتئاب والانطواء وسائر التوترات التي تكون نتاجا للممارسة المنحرفة للجنس أو كبت هذه الغريزة والتي تعتبر متأصلة في تكوين الإنسان ولا تنفك عنه، وغير ذلك من المشاكل التي درسها علماء النفس والتربية والاجتماع والسياسة. والإنسان كما يحتاج للغذاء يحتاج للقنوات التي من خلالها يشبع غريزته الجنسية، وكما هو واضح في مجتمعاتنا - والسودان أبرز المصاديق - تأخرت سن الزواج نسبة لظروف كثيرة بعضها يرتبط بالناحية المادية وبعضها يرتبط بالاستعداد الذاتي للإنسان لتحمل مسؤولية تكوين العائلة، فأصبح الرجل يتزوج فوق سن الثلاثين، وبين هذه السن وسن البلوغ التي تبدأ معها الحاجة للجنس سنين طويلة فتبرز الحاجة إلي وجود حلول في هذه الفترة والحل ربما يكون بأحد أمرين: أما إسكات نداء الجنس بالوعظ والإرشاد والتخويف والتحذير وهذه الوسيلة ربما يكون لها تأثير في الواقع الخارجي ولكن تبقي المشكلة في داخل كيان الإنسان تحتاج إلي حل، والحل الآخر يكمن في الإباحة الجنسية وهذا ما لا يقبله عاقل يؤمن بالقيم الدينية والمثل والمبادئ الإنسانية كما أنه يترتب عليه مضاعفات خطيرة في حياة الإنسان وسلوكه إضافة إلي كثير من السلبيات علي مستوي الفرد والمجتمع. " أما الزواج الدائم إذا عالج قسما من المشكلة فهو لا يعالجها في مختلف مجالاتها فالمشاكل ليست كلها مشاكل مالية وطبقية أنما هنالك جوانب من المشكلة تتطلب حلا ". [ صفحه 233] يقول العالم النفسي " برتراندرسل ": (إن سن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتين في نحو الثامنة عشرة أو العشرين فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذا آثر الانقطاع للعلم مدي الحياة، وقل يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشباب. وأما في العصر الحاضر فالطلاب يتخصصون لعلومهم وصناعاتهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلي زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة والأعمال الصناعية والاقتصادية، ولا يتسني لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين، فهنالك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سن البلوغ وسن الزواج لم يحسب لها حساب في التربية القديمة، وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي والرغبة الجامحة وصعوبة المقاومة للمغريات، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطي؟ إننا إذا أسقطناها من الحساب فسيكون نتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل والصحة بين الشباب والشابات) [214] وفي الواقع إن كلمة المؤمنين علي (ع) لخصت معاناة الأمة من جراء تحريم الزواج المؤقت، قال علي (ع) " ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد ولولا نهي عمر ما زني إلا شقي ". هذه الرحمة الإلهية تعني أن المتعة تحمي الإنسان من كل المضاعفات الخطيرة التي تفرزها مشكلة الجنس، ولا تبقي للزنا أثرا في مجتمعاتنا إلا لدي من تجذرت عنده نزعات الشذوذ الخلقي، ومع المتعة لا يبقي أي داع لتحليل العادة السرية، كما أفتي بذلك بعض علماء الدين المعاصرين. [ صفحه 234] وقد وقع في يدي صدفة كتاب طبع في السعودية طباعة فاخرة عنوانه الإسلام والجنس يقول فيه الكاتب: " وفي حالات الاضطرار يجوز للمسلم ممارسة العادة السرية لأنه لا حرج في الدين " ولكن لم يبين لنا هذا العلامة حدود الاضطرار وملاكه ونحن نشاهد في بلداننا كل أنواع المحفزات من خلاعة وتبرج فهل نعمل بفتواه والرجل يعيش بعد البلوغ عشرين عاما بلا زواج؟!. في حواراتي المختلفة مع بعض الإخوة كثيرا ما يربطون المتعة بالزنا ويدور نقاشهم عن الآثار بعيدا عن أصل مشروعيتها. ولقد ثبت أنها شرعت، والحديث عن نسخها يفتقد للدليل القوي، وما جاء من روايات وأحاديث متهافته ومتضاربة لا يقوي علي النهوض لمستوي دليل في مقابل ما أوردناه، أما نهي عمر عنها فلا يجدي في مقامنا هذا كما بينا خصوصا وأن هنالك من نادي بحليتها من الصحابة. أما كون المتعة زنا، فهذا قول غريب يقودنا إلي إشكالات أشرنا إليها، والزنا هو ممارسة الجنس بصورة غير مشروعة والمتعة غير ذلك فهي لا تختلف عن الزواج إلا في بعض الآثار سنذكرها إن شاء الله.. وهنالك من يقول بعدم قبول المجتمع لها، أقول إن تشريع الله تعالي لا يخضع لمدي قبول المجتمع له أو رفضه، إنما يجب أن يخضع المجتمع لأحكام الله فتكون حاكمة عليه، وما أكثر رفض المجتمعات قديما وحديثا للأحكام السماوية؟! فاجأت أحدهم بالسؤال: هل تقبل أن يتزوج أبوك زوجة أخري وأمك موجودة؟ فأجاب بسرعة: لا! قلت: ولم وقد شرع الله له في القرآن أن يتزوج أربعة؟! وهنالك بعض الشبهات الجانبية تثار حول هذا الموضوع لا تقدح في صحته، أما التعامل مع هذا الحكم كيف يكون فذلك بحث آخر، مثلا ربما يقال أنه بعد انتهاء مدة عقد المتعة من الذي يضمن ألا تتزوج المرأة قبل تمام العدة؟ [ صفحه 235] أقول إن للشريعة الإسلامية والرسالات السماوية عموما مميزات تفوقت بها علي القوانين الوضعية لضبط المجتمع وأهم هذه الميزات والتي تعتبر ضمانة لعدم الاخلال بالقانون هي الإيمان والتقوي، إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية نزلت ليطبقها من يؤمن بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب، وإلا ما هو الضمان أن يكون الابن الذي يأتي من زوجتك هو من صلبك، وكيف يمكننا أن نثق بأن المرأة المطلقة اعتدت كامل أيامها، وكيف يتسني لك أن تعلم أنك ابن أبيك إن كثيرا من الأشياء تتحكم فيها القيم والمبادئ والأخلاق والإيمان والتقوي والورع وتبقي المشكلة في ذات الإنسان وليس في التشريع، وإذا فقد الالتزام النابع من الإيمان لم تكن الأحكام المجردة مانعة من انتهاك الحرمات وحدوث الفوضي، وهذا تشريع ملك اليمين فهل نعتبره زنا أيضا وأن المجتمع لا يقبله وبالتالي نلغيه؟ وبعد قرون نكتشف أن زواج الرجل بأربع زوجات لا يلائم المجتمع فنلغيه وهكذا. إن حلال محمد حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرام إلي يوم القيامة. وإليك بيان تفصيلي عن الزواج المؤقت الذي لا يفترق عن الزواج الدائم إلا في بعض الآثار.

ما المقصود بالزواج الموقت

(التشيع السيد عبد الله الغريفي ص 532) عقد زواج بين الرجل والمرأة ضمن شروط شرعية محددة من أهمها: - 1 - الايجاب والقبول. 2 - تحديد المدة ضمن صيغة العقد. 3 - تحديد المهر. 4 - إذن الولي إذا كانت البنت بكرا علي رأي الكثير من الفقهاء. 5 - انتفاء الموانع الشرعية من النكاح، كالنسب أو السبب أو الرضاع أو الاحصان أو العدة أو غير ذلك. [ صفحه 236] 6 - لا يجوز للمسلمة أن تتمتع بالكافر، كما لا يجوز للمسلم أن يتمتع بالمشركة غير الكتابية.

العناصر المشتركة بين الزواج الدائم والزواج المؤقت

1 - العقد الشرعي المشتمل علي الايجاب والقبول اللفظيين. 2 - الآثار الشرعية المترتبة علي العقد إلا ما استثنته الأدلة الخاصة. 3 - أحكام الأولاد واحدة في الزواجين. 4 - العدة واجبة علي المرأة مع الدخول وعدم اليأس في الحالتين وبالنسبة للوفاة تجب العدة حتي وإن كانت المرأة صغيرة أو يائسة أو غير مدخول بها.

عناصر الاختلاف بين الزواجين

1 - في الزواج المؤقت تحدد المدة والأجل وفي الدائم لا تحديد للمدة والأجل. 2 - في المؤقت يشترط ذكر المهر وفي الدائم لا يشترط ذلك. 3 - في المؤقت لا طلاق بل تبين المرأة بانتهاء المدة أو بهبة المدة لها أو الوفاة، وفي الدائم لا تبين المرأة إلا بالطلاق أو الوفاة إلا في الحالات الاستثنائية كالارتداد والفسخ فتبين المرأة بلا طلاق. 4 - في المؤقت لا توارث بين الزوجين إلا مع الشرط عن بعض الفقهاء، وفي الدائم يتوارث الزوجان إلا في حالات استثنائية كالقتل أو كون الزوجة غير مسلمة. 5 - في المؤقت لا نفقة للزوجة إلا مع الشرط ضمن العقد وفي الدائم تجب النفقة إلا في الحالات الاستثنائية كالنشوز. 6 - في المؤقت لا قسم للزوجة ولا تجب مضاجعتها ولا مقاربتها في كل أربعة أشهر مرة وفي الدائم يجب ذلك. 7 - في المؤقت تستحق المرأة المهر كاملا وإن لم يدخل بها إذا لم يكن ذلك بسبب مانع من قبلها، وفي الدائم لا تستحق المهر كاملا إلا مع الدخول. [ صفحه 237] هذا هو زواج المتعة كما شرعه الدين وهو رحمة الله تعالي للإنسان الذي خلق ضعيفا، وقد قال تعالي في سورة النساء بعد بيان أنواع الزواج المختلفة بما فيها الزواج المؤقت (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) [215] ولكن أبت الأمة كعادتها إلا أن تضيق علي نفسها كما فعلت أمة بني إسرائيل. ونتوج بحثنا بروايات

عن اهل البيت

عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر الباقر (ع) عن المتعة فقال: " نزلت في القرآن (فما استمتعتم به منهن... الآية) ". عن الإمام الصادق (ع): قال " المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنة من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ". عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: سألت أبا عبد الله هل نسخ آية المتعة شئ؟ قال: لا، ولولا ما نهي عنها عمر ما زني إلا شقي ". ونذكر هنا بعض الملاحظات للذي يدعي بأن آية المتعة منسوخة بقوله تعالي (والذين هم لفروجهم حافظون إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون) (سورة المؤمنون: آية / 5 - 7). أولا: إن هذه الآية جاءت في سورة المؤمنون وهي مكية وآية المتعة جاءت في سورة النساء وهي مدنية فكيف يكون المتقدم نزولا ناسخا للمتأخر!. أما ما ذكروه بأن الآية حددت نوعين من النكاح فقط: الزواج وملك اليمين.. فالمتعة أيضا زواج كما بينا والأمر واضح، وبالنسبة للروايات التي تحرم المتعة فهي غير صحيحة لتعارضها مع الأحاديث القائلة بحليتها كما أن أخبار التحريم أخبار آحاد، والنسخ لا يثبت بأخبار الآحاد، ثم إن هنالك تناقضا واضحا في روايات التحريم فبعضها يقول بأن التحريم صدر يوم خيبر وأخري في يوم الفتح وثالثة في تبوك ورابعة في عمرة القضاء وخامسة في حجة الوداع... الخ. [ صفحه 238] وأخيرا إن روايات التحريم معارضة بروايات أهل بيت النبوة (ع) المتواترة والدالة علي إباحة المتعة إلي يوم القيامة.

خاتمة

في ظل أمواج الفتن ما أحوج الإنسان إلي أن يجد سفينة النجاة لتأخذ به إلي بر الأمان، وما أحوجه إلي التعرف علي المعتقد السليم الذي من خلاله يستطيع أن يعيش واقع حياته اليومية باطمئنان حتي يلقي الله وقد وفي بعهده وميثاقه. وتبقي مشكلة التعصب الأعمي وعدم التسليم للحق والتمرد عليه تكبرا، مما يجعل بيننا وبينه حجابا إذا أردنا التمسك به والبحث عنه، إذ أنه لا بد من التأكد مما نحن عليه، علي ألا يكون التوارث أبا عن جد هو المرتكز لفهم فلسفة الحياة، ولا يمكن أن نحقق العبودية في أنفسنا وهي غاية الخلق [216] إلا عبر الطريق الذي أمرنا الله به ولا يمكن أن تكون الوراثة التي نبذها القرآن هي الضمانة لصحة ما نعتقده والمسلمون انقسموا لفرق ومذاهب كل يدعي وصلا بليلي، والظلمات كثيرة والنور واحد وهذا هو مقصود حديث الفرقة الناجية، فليصبح الإنسان كالمجنون وهو يبحث لكي يختار الصواب. إن الأمة الإسلامية تعيش تحديا حضاريا في كل الجوانب لم يترك العدو لها مجالا إلا وحاول من خلاله أن يبث سمومه، وفي واقعنا المعاش نجد الكثير من المذاهب التي تلبست بلباس الدين ودعت إليه بينما كانت تخدم مصالح الأعداء وتحمل في داخلها معاول هدم رسالة السماء، وأبرز مصداق لذلك الوهابية التي انتشرت في طول البلاد الإسلامية وعرضها مستغلة الظروف الاقتصادية في الدول النامية ولم تعتمد علي [ صفحه 239] المعتقد السليم ولا علي الفكر الصحيح أو المنطق في الحوار بل ظهرت عبر مؤسساتها وأموالها، جاعلة الدين كتلة جامدة لا تتفاعل وواقع الحياة، لذلك تتركها دوائر الاستعمار لتسرح بينما تصب علي الشيعة كل أنواع التضليل. هنالك كثير من الأسباب تقف حائلا بين المرء والحقيقة عليه أن يتجاوزها ولقد حاولت ذلك فكان الانتقال عبر محطات التاريخ للوقوف علي المنعطفات الخطيرة التي مرت بها الأمة الإسلامية فتفرقت شيعا وأحزابا، لم يكن همي سوي الحقيقة.. الحقيقة وحدها دون الالتفات إلي ما سيعترضني من مشاكل في سبيل ذلك، ولقد حاول البعض عندما انهزم بالدليل والبرهان أن يتهمني تارة بالشيوعية وهي التي لم يستطع نسفها غير علماء الشيعة بقيادة الشهيد الصدر فكيف يلتقي الشيعي مع الشيوعي اللهم إلا إذا اشتبهت الأحرف علي السامع وتارة يقولون عنا جمهوريين، هذه الجماعة التي ولدت فكرتها ميتة لأنها عارضت كل شئ القرآن والسنة والعقل، قامت باجتهاد فرد وانتهت بانتهائه من علي مسرح الحياة، أما التشيع فأنا لم أنتجه من محض خيالي، إنما وجدت أنه ولد حينما ولدت الرسالة، وشهد الأعداء قبل الأصدقاء بأهلية أهل البيت (ع) لتحمل أمانة السماء والتاريخ يشهد لهم بذلك فما ذنبي إذا كان الدليل يأخذ بعنقي إلي حيث النور، ومن يملك دليلا خلاف قولنا وإذا كان هنالك حق غير مذهب أهل البيت (ع) فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. وتارة أخري يتهموننا بأننا نسعي لإثارة الفتن، ولعمري متي كان البحث عن الحق إثارة للفتنة؟ ومتي كان كشف الزيف دلالة علي ذلك؟ أن الذين يوزعون هذه التهم إنما يبررون لأنفسهم ويحاولون الانتصار لها بعد هزيمتها داخليا. عندما بدأت بحثي لم يقم في نفسي أن أطرحه للآخرين وإنما هو تكليف شرعي وتلهف للكشف عن الحق الذي به قامت السماوات والأرض، وظمأ للارتواء من منابع الرسالة الصافية التي لم تكدرها الجاهلية بأنجاسها، ووجدته بحمد الله عذبا [ صفحه 240] ثجاجا في ولاية علي بن أبي طالب (ع) وأتباعه الذين قال فيهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) " والذي بعثني بالحق نبيا لو أن رجلا لقي الله بعمل سبعين نبي ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل البيت ما قبل الله منه عدلا ولا صرفا ". كما روي الإمام الصادق (ع) عن أبيه عن جده (ع) قال: مر أمير المؤمنين (ع) في مسجد الكوفة ومعه خادمة قنبر رجلا قائما يصلي فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا أحسن صلاة من هذا. فقال علي (ع): يا قنبر فوالله لرجل علي يقين من ولايتنا أهل البيت خير ممن له عبادة ألف سنة، ولو أن عبدا عبد الله ألف سنة لا يقبل الله منه حتي يعرف ولايتنا أهل البيت، ولو أن عبدا عبد الله ألف سنة وجاء بعمل اثنين وسبعين نبي ما يقبل الله منه حتي يعرف ولايتنا أهل البيت وإلا أكبه الله علي منخريه في نار جهنم " وغيرها من الروايات التي تجعل الإنسان يقف متأملا وهو يحاول أن يهتدي إلي الطريق. وعلي فرض عدم صحة هذه الروايات، يجب علي الإنسان دفعا للضرر المحتمل - كما يقولون - أن يبحث عن الحق أني كان، ولقد ادعي أهل البيت (ع) حق الولاية وتواتر المنقول عنهم أن أعمال العبد يتوقف قبولها علي ولايتهم وبدونها يسقط عمله. بينما لا نجد أن أحدا من الصحابة ادعي مثل هذا الحق وبالخصوص الخلفاء الثلاثة فالإيمان بهم بالتالي ليس من أصول الدين إنما هو أمر فرعي يحتاج إلي نقاش.

اخيرا

إن الاهتداء إلي الحق ليس عبقرية ذاتية، إنما نعمة من الله تعالي ينعم بها علي من يشاء من عباده، وما علي الإنسان إلا التوجه المخلص لله تعالي حتي يريه الحق حقا فيتبعه ويريه الباطل باطلا فيجتنبه، ولقد تكفل البارئ عز وجل بهداية المجاهدين فيه إلي سبله. [ صفحه 241]

خطبة فاطمة شعلة الحق

إنها خطبة يعجز الإنسان عن وصفها، ويؤمن ويصدق بأنها معجزة احتجت بها أمام الخليفة الأول أبي بكر، ودقة معانيها وقوة بيانها تؤكد صحة نسبتها للطاهرة المعصومة فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وأذكر جزءا منها في هذا المقام تتمة للفائدة. قالت سلام الله عليها: " الحمد لله علي ما أنعم، وله الشكر علي ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأي عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الادراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلي الخلائق بإجزالها، وثني بالندب إلي أمثالها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلي تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها علي طاعته، وإظهارا لقدرته، تعبدا لبريته وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب علي طاعته، ووضع العقاب علي معصيته ذيادة لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلي جنته. وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل [ صفحه 242] مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالي بمايل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة بمواقع الأمور. ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة علي إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير رحمته، فرأي الأمم فرقا في أديانها، عكفا علي نيرانها عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها [217] ، وجلي عن الأبصار غممها وقام في الناس بالهداية فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلي الدين القويم، ودعاهم إلي الصراط المستقيم. ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار فمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) من تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلي الله علي أبي نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم التفتت سلام الله عليها غلي أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله علي أنفسكم، وبلغاؤه إلي الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم. كتاب الله الناطق والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره مغتبطة به أشياعه، قائد إلي الرضوان أتباعه، مؤد إلي النجاة استماعه به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة. [ صفحه 243] فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفوس، ونماء للرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة والجهاد عزا للإسلام والصبر معونة علي استيجاب الأجر، والأمر والنهي عن المنكر مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين، تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر، تنزيها عن الرجس واجتناب القذف، حجابا عن اللعنة، وترك السرقة، إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأنه إنما يخشي الله من عباده العلماء. ثم قالت: أيها الناس اعلموا، أني فاطمة وأبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) أقول عودا وبدءا ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا، لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه (صلي الله عليه وآله وسلم) فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم آخذا بأكظامهم داعيا إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكت الهام، حتي انهزم الجمع وولوا الدبر، فتضري الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص وكنتم علي شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام تشربون [ صفحه 244] الطرق وتقتاتون القد والورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالي بمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتي يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزول وتفرون من القتال. ... ثم تنتقل الصديقة (ع) للحديث عن الانقلاب كما وضحنا ثم تحدثت عن منعها الإرث ولقد ذكرنا كلماتها في بداية البحث وبعد ذلك رمت بطرفها نحو الأنصار وقالت: يا معشر النقيبة وأعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي. أما كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أبي يقول: " المرء يحفظ في ولده "؟ سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما أحاول وقوة علي ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ فخطب جليل: استوسع وهنه واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبري، والمصيبة العظمي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، وفي ممساكم ومصبحكم، هتافا وصراخا، وتلاوة وألحنا، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم: [ صفحه 245] (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) أيها بني قيلة أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأي مني ومسمع ومنتدي ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تعينون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت. ألا وقد قلت ما قلت علي معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، لكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وبثة الصدر وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع علي الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون " [218] .

پاورقي

[1] سورة المائدة آية / 35.
[2] سورة الشعراء: آية / 80.
[3] سورة نوح: آية / 13.
[4] سورة الإسراء: آية / 72.
[5] سورة القصص: آية / 88.
[6] سورة الرحمن: آية / 26.
[7] سورة يوسف: آية / 3.
[8] سورة طه: آية / 99.
[9] سورة الأعراف: آية / 176. [
[10] سورة يوسف: آية / 111.
[11] سورة محمد: آية / 24.
[12] سورة يونس: آية / 32.
[13] سورة البقرة: آية / 253.
[14] سورة آل عمران: آية / 144.
[15] سورة البقرة: آية / 252.
[16] سورة الأحقاف: آية / 9.
[17] سورة الإسراء: آية / 77.
[18] سورة فاطر: آية / 43.
[19] تفسير ابن كثير ج 1 ص 263.
[20] في ظلال القرآن ج 1 ص 284.
[21] سورة البقرة: آية / 213.
[22] سورة آل عمران: آية / 19.
[23] سورة الشوري: آية / 14.
[24] سورة الجاثية: آية / 17.
[25] سورة آل عمران: آية / 19.
[26] سورة آل عمران: آية / 175 - 176.
[27] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 2 ص 23.
[28] صفوة التفاسير ج 1 ص 482.
[29] الإمامة والسياسة تاريخ الخلفاء: ج 1 ص 12.
[30] سورة البقرة آية / 170.
[31] سورة الزخرف: آية / 23 - 25.
[32] سورة لقمان: آية / 21.
[33] سورة الجاثية: آية / 7 - 8.
[34] سورة البقرة: آية / 87.
[35] سورة الأعراف: آية / 36.
[36] سورة الأعراف: آية / 40.
[37] تاج العروس ولسان العرب مادة شيع.
[38] تاريخ ابن خلدون الفصل 27 في مذهب الشيعة ص 348.
[39] المصدر السابق ج 3 ص 364.
[40] تاريخ اليعقوبي.
[41] الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 11، ص 346 - 347.
[42] الدولة الفاطمية في مصر د. جمال الدين سرور ص 132.
[43] يقول الدكتور محمد جمال الدين سرور في كتابه الدولة الفاطمية في مصر ص 135 لما أيقن صلاح الدين أن سلطته قد استقرت وجه اهتمامه إلي القضاء علي المذهب الشيعي في مصر فأنشأ سنة 566 مدرسة لتدريس المذهب الشافعي وأخري لتدريس المالكي وعزل قضاة الشيعة.. " ونفس الكلام يورده ابن الأثير في تاريخه ج 11 ص 366.
[44] مقاطع من دراسة للكاتب السوداني الطيب أحمد حسن في مجلة أهل البيت (ع) العدد الأول بيروت تحت عنوان أهل البيت (ع) تراث المسلمين في السودان.
[45] صحيح مسلم كتاب الجهاد باب قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لا نورث ص 153 وكذلك أورده البخاري في كتاب فرض الخمس باب فرض الخمس.
[46] الإمامة والسياسة " تاريخ الخلفاء " ص 12 - 13.
[47] كما أورد ذلك السيوطي في إحياء الميت والزمخشري في تفسيره الكشاف. والفخر الرازي في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة والبخاري وغيرها من المصادر.
[48] وجاء ذلك أيضا في مستدرك الصحيحين للحاكم ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 158.
[49] الكشاف ج 4 ص 670 ط بيروت، أسد الغابة لابن الأثير الشافعي ج 5 ص 530 - 531، تذكرة الخواص للسبط بين الجوزي وشواهد التنزيل للحاكم، الدر المنثور للسيوطي وغيرها من المصادر.
[50] ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 188.
[51] أورده ابن حجر في صواعقه أيضا ص 190 وقد جاء هذا الحديث بصيغ مختلفة تعبر عن نفس المعني في كثير من المصادر مثل مسند أحمد بن حنبل وكنز العمال والإمامة والسياسة لابن قتيبة... وغيرها.
[52] ورواه ابن الأثير في أسد الغابة ج 5 ص 522، وابن حجر في الإصابة ج 5 ص 156.. كما جاء في ميزان الاعتدال للذهبي وغيرها من المصادر.
[53] وذكره أيضا في باب مناقب قرابة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ج 4 ص 281 كما رواه مسلم في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده.
[54] ورواه ابن حجر في الصواعق ص 191 والحاكم في المستدرك ج 3 ص 151، كتاب مناقب الصحابة وقال عنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[55] رواه الحاكم في مستدركه ج 3 ص 160 وقال حديث صحيح علي شرط سلم.. كما ذكره ابن عبد البر في استيعابه ج 2 ص 751.
[56] لمعرفة مصادر هذه الأحاديث يرجي مراجعة فضائل الزهراء في هذا الكتاب.
[57] مراجعة الآيات 109 - 127 - 132 - 145 - 164 - 180) من سورة الشعراء.وقد جاء في صحيح البخاري في المناقب ج 4 ص 219 عن ابن عباس قال: إلا المودة في القربي، القربي قربي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم).
[58] سورة ص: آية / 86.
[59] سورة سبأ: آية / 47.
[60] سورة الفرقان: آية / 57.
[61] سورة الأنعام: آية / 90.
[62] بمادة (فدك) من معجم البلدان.
[63] سيرة ابن هشام 3 / 408 مغازي الواقدي ص 706 / 707 وشرح النهج 4 / 78.
[64] تفسير الآية 26 من سورة بني إسرائيل في شواهد التنزيل 1 / 338 - 341، والدر المنثور 4 / 177 وميزان الاعتدال 2 / 228 ومجمع الزوائد والكشاف وتاريخ ابن كثير 2 / 36، تفسير الطبري ج 15 ص 72 ط 2 ينابيع المودة.
[65] فتوح البلدان: 1 / 34 - 35.
[66] مسند أحمد 1 / 4 الحديث 14، وسنن أبي داوود 3 / 5 كتاب الخراج وتاريخ ابن كثير 5 / 289، وشرح النهج 4 / 81، وتاريخ الذهبي.
[67] سنن الترمذي 7 / 111، أبواب السير كما جاء في تركة الرسول كما جاءت بمسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أيضا ج 1 / 10 الحديث 60.
[68] شرح النهج 4 / 82 - 85.
[69] تاريخ الإسلام للذهبي 1 / 347، شرح النهج 4 / 81.
[70] فتوح البلدان 1 / 35 وطبقات ابن سعد 2 / 314 - 315 وشرح النهج 4 / 81 وتاريخ الإسلام للذهبي 1 / 346.
[71] أسد الغابة ج 4 ص 22، مستدرك الحاكم وشواهد التنزيل وتاريخ ابن عساكر وغيرها من المصادر.
[72] طبقات ابن سعد 2 / 315 وكنز العمال 5 / 365 كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال.
[73] بلاغات النساء: 12، 15، 16، 17.
[74] النص والاجتهاد السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي فقرة توريث الأنبياء.
[75] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 225.
[76] بتفسير الآية من سورة الإسراء في شواهد التنزيل 1 / 338 - 341 بسبعة طرق، والدر المنثور 4 / 177 وميزان الاعتدال 2 / 225 ط أولي وكنز العمال 2 / 158 ط أولي ومنقحة، والكشاف 2 / 446، وتاريخ ابن كثير 3 / 36.
[77] روي ذلك الشيخ عبد الرحمن الصفوري الشافعي في نزهة المجالس ج 2 ص 226 ط القاهرة.
[78] تاريخ الخلفاء ج 1 ص 12.
[79] شرح النهج ج 16 ص 284.
[80] الإمامة والسياسة ج 1 ص 12.
[81] الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 325.
[82] المصدر ج 2 ص 327.
[83] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 124.
[84] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 125 - 126.
[85] تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 ص 13.
[86] نفس المصدر ص 13.
[87] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126.
[88] الإمامة والسياسة ج 1 ص 12.
[89] تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 164.
[90] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126.
[91] المستدرك للحاكم ج 3 ص 158، مسند أحمد بن حنبل تفسير الطبري، شواهد التنزيل وغيرها من المصادر.
[92] تاريخ الطبري ج 2 ص 619.
[93] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115.
[94] الإمامة والسياسية ج 1 ص 13 - 14.
[95] المصدر السابق.
[96] الكامل لابن الأثير ج 3 ص 397، وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج 5 ص 153.
[97] دلائل النبوة للبيهقي ج 3 ص 161.
[98] جمهرة أنساب العرب ص 16 - 37. وذكر مثل ذلك كثير من الأعلام أمثال المحب الطبري في ذخائر العقبي وابن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 308 والعسقلاني في الإصابة ج 4 ص 471 واليعقوبي في تاريخه.
[99] تاج العروس ج 3 ص 389، ولسان العرب ج 4 ص 393. [
[100] إثبات الوصية ص 143.
[101] الملل والنحل ج 1 ص 57 إبراهيم بن سيار أحد أقطاب المعتزلة.
[102] لسان الميزان ج 1 ص 268. وأورده أيضا صلاح الصفدي في (الوافي بالوفيات) ج 6 ص 7 وقال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان وينقل عن محمد بن أحمد بن حماد الكوفي بعد أن أرخ موته (كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب الخ كما نقلنا.
[103] أنساب الأشراف ج 1 ص 586.
[104] العقد الفريد ج 5 ص 13.
[105] كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 31.
[106] بحار الأنوار: ج 22 ص 476 - 477.
[107] بحار الأنوار " موسوعة أحاديث لأهل البيت (ع) ج 53 ص 18 - 19. وأغلب الأحاديث التي أوردناها في هذا المجال من المصادر الحديثية لأهل البيت وكتاب مأساة الزهراء شبهات وردود للسيد جعفر مرتضي العاملي.
[108] فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفي أحمد الهمداني.
[109] السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 424.
[110] سورة الأنعام: آية / 124.
[111] سورة آل عمران: آية / 33 - 34.
[112] سورة فاطر: آية / 32.
[113] سورة الأنبياء: آية / 73.
[114] سورة السجدة: آية / 24.
[115] الفكر الإسلامي مواجهة حضارية - العلامة السيد محمد تقي المدرسي ص 250.
[116] مستدرك الحاكم ج 3 ص 107.
[117] الغدير ج 1 ص 14.
[118] المصدر ج 1 ص 62.
[119] مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 281.
[120] التفسير الكبير للرازي ج 12 ص 49.
[121] رواه مسلم أيضا في صحيحه كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل علي بن أبي طالب كما أورده أحمد بن حنبل وغيرهم.
[122] تاريخ الطبري ج 2 ص 63 - 64.
[123] البداية والنهاية ج 4 ص 187.
[124] السيرة النبوية ابن هشام ج 4 ص 189 ومثله في المستدرك ج 3 ص 51 وتفسير الطبري.
[125] الإصابة في تمييز الصحابة ص 507 - 508.
[126] أهدي إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) طير مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك - فجاء علي فأكل معه " أسد الغابة لابن الأثير " ج 6 ص 601، وأورده أحمد بن حنبل والحاكم.
[127] مستدرك الحاكم ج 3 ص 128 قال صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[128] مسلم في صحيحه باب فضائل علي بن أبي طالب ورواه بثلاثة طرق مستدرك الحاكم كتاب معرفة الصحابة ص 27، مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 17 - ص 16، الترمذي ج 5 ص 663 - 662.
[129] وجاء أيضا مثل ذلك في المستدرك ج 3 ص 147 وقال صحيح علي شرط البخاري ولم يخرجه.
[130] التفسير الكبير للرازي ج 8 ص 80.
[131] سورة النساء: الآية / 59.
[132] سورة التوبة: آية / 109.
[133] سورة الزخرف: آية / 78.
[134] سورة الأعراف: آية / 17.
[135] سورة سبأ: آية / 13.
[136] صحيح مسلم ج 1 ص 61 باب الدليل علي أن حب الأنصار وعلي من الإيمان.
[137] مستدرك الحاكم ج 3 / 129.
[138] البخاري باب الحوض كتاب الرقاق ج 4 / 95 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا.
[139] البخاري ج 5 ص 66.
[140] البخاري ج 1 ص 74.
[141] البخاري ج 2 / 135.
[142] أنظر البخاري ج 1 / 225 و ج 2 / 726.
[143] سورة التوبة: آية / 31.
[144] فقط أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
[145] تاريخ الطبري ج 2 ص 446.
[146] المصدر ص 444.
[147] المصدر ص 447.
[148] المصدر ص 446.
[149] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 2 / 2.
[150] الطبري ج 2 ص 445.
[151] الطبري ج 2 ص 449.
[152] المصدر السابق.
[153] المصدر السابق.
[154] نهج البلاغة ضبط صبحي الصالح ص 201.
[155] المصدر نفسه ص 231.
[156] المصدر السابق ص 47.
[157] المصدر السابق ص 162 - 163.
[158] أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 609 لابن الأثير نهج البلاغة خطبة 3.
[159] أبو بكر.
[160] عمر بن الخطاب.
[161] عثمان بن عفان.
[162] أصحاب الجمل - الخوارج - صفين بالتوالي.
[163] الطبري ج 3 / 477.
[164] الطبري ج 3 / 476 - 477.
[165] البخاري ج 1 ص 162 - ج 3 ص 135 - ج 5 ص 140.
[166] مسند أحمد بن حنبل ج 4 / 275.
[167] مستدرك الحاكم ج 3 ص 119 - 120.
[168] سورة التحريم: آية / 11.
[169] سورة التحريم: آية / 5.
[170] البخاري باب وإذ أسر النبي إلي بعض أزواجه.
[171] سورة التحريم: آية / 6.
[172] المستدرك ج 3 / 120.
[173] نهج البلاغة من رسائل أمير المؤمنين رقم 7.
[174] نفس المصدر رسالة 10.
[175] مروج الذهب ج 3 ص 20.
[176] المصدر ج 2 ص 363.
[177] تاريخ الطبري ج 3 ص 560.
[178] المسعودي ج 2 ص 369.
[179] تاريخ الطبري ج 4 ص 27.
[180] الإصابة في تمييز الصحابة ابن حجر العسقلاني ص 315.
[181] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 134.
[182] الطبري ج 4 ص 208 - ابن كثير ج 8 ص 33.
[183] فتوي بعض العلماء حول التطبيع مع اليهود مثل ابن باز.
[184] التشيع - السيد عبد الله الغريفي.
[185] المكلف إما مجتهد يستنبط الأحكام الشرعية أو محتاط أو مقلد لمرجع مجتهد جامع للشرائط المذكورة في كتب الفقه.
[186] نهج البلاغة الخطبة الأولي..
[187] التفسير الكبير للفخر الرازي ج 8 / 13.
[188] تفسير القرآن العظيم ج 1 / 308.
[189] تفسير الرازي ج 8 / 12.
[190] فليراجع كتاب إسلامنا في التوفيق بين الشيعة والسنة - التشيع - لعبد الله الغريفي.
[191] وسائل الشيعة ج 1 / 275.
[192] تفسير الرازي ج 11 / 161.
[193] مسند أحمد بن حنبل ج 1 / 95.
[194] المستدرك ج 1 / 242.
[195] مسند أحمد بن حنبل ج 5 / 342.
[196] سنن ابن ماجة ج 1 / 156.
[197] سنن ابن ماجة ج 1 / 156.
[198] التشيع - السيد عبد الله الغريفي.
[199] تفسير الفخري الرازي ج 21 / 27.
[200] البخاري ج 1 / 288.
[201] المصدر ج 1 / 186.
[202] مسلم ج 2 / 152 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
[203] مسلم ج 2 / 152 نفس الباب.
[204] المصدر ج 2 / 152.
[205] وسائل الشيعة ج 3 / 101.
[206] تفسير الرازي ج 10 / 51.
[207] المصدر ج 1 / 49.
[208] الدر المنثور للسيوطي ج 2 / 486.
[209] صحيح مسلم ج 2 باب نكاح المتعة وأخرجه البخاري ج 7 / 8.
[210] البخاري ج 7 / 25.
[211] البخاري ج 7 / 24 باب نكاح المتعة.
[212] مسند أحمد بن حنبل ج 3 / 304.
[213] مسند أحمد بن حنبل ج 3 / 356.
[214] الزواج المؤقت ص 11 محمد تقي الحكيم.
[215] سورة النساء: آية / 28.
[216] الآية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
[217] أي مبهماتها وهي المشكلات من الأمور.
[218] مقاطع من خطبة الزهراء من كتاب الإحتجاج للطبرسي.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.