اهل البيت في الحياة الاسلامية

اشارة

اهل البيت عليهم السلام في الحياة الاسلامية الامامة
پديدآور: حكيم، محمدباقر1939-2003م.,Hakim, Muhammad Baqir
ناشر: موسسه تحقيقات و نشر معارف اهل البيت (ع)
يادداشت: كتابنامه به صورت زيرنويس

المدخل

المناسبة الحمد لله والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، والصلاة والسلام علي أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام،والصلاة والسلام علي سيدنا ومولانا بقية الله في أرضه (عجل الله تعالي فرجه الشريف)، والسلام علي شهداء الاِسلام في كل مكان منذ الصدر الاول للاِسلام وحتي شهداء هذا العصر. في البداية أتقدم بالتعازي الحارة، لمناسبة ذكري شهادة سيدنا ومولانا أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، حيث صادفت هذه الذكري يوم أمس ونحن وإن كنا ننتمي إلي الاِسلام وإلي النبي وأهل بيته الكرام بصورة عامة،ولكننا ننتمي إلي هذا الاِمام الهمام الذي كان له دور عظيم في حياتنا وحياة المسلمين عموماً، فإن الاِمام [ صفحه 4] الصادق عليه السلام واتته ظروف خاصة مكنته من القيام بعمل عظيم علي مستوي العالم الاِسلامي وعلي مستوي بناء الجماعة الصالحة المتمثلة بأتباع أهل البيت عليهم السلام، حيث كان الاِمام الصادق عليه السلام الاِمام الثالث من أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين طال بهم عهد الاِمامة نسبياً وكان أطول أئمة أهل البيت عليهم السلام عمراً، باستثناء سيدنا ومولانا الاِمام الحجة (عجل الله تعالي فرجه الشريف)، وقد قام الاِمام الصادق عليه السلام باعتبار هذه الخصوصيات من ناحية، والظروف السياسية المحيطة به من ناحية أخري، وهي ضعف الدولة الاَموية وبداية تأسيس الدولة العباسية، كل هذه الظروف وما يشبهها هيأت له فرص نادرة تمكن فيها الامام عليه السلام من أن يديم حركة الائمة عليهم السلام في الدفاع عن الاِسلام والقيام بواجبات الاِمامة تجاه الاَمة الاِسلامية، وبصورة خاصة تأسيس وبناء الحوزات العلمية، وتوسيع نشاطها في العالم الاسلامي، حتي أصبح الاِمام الصادق عليه السلام عنواناً لها ـ أيضاً ـ والاستاذ الذي تربت عليه المدارس الاِسلامية، وأخذ منه مختلف علماء الاِسلام وعلي مختلف مذاهبهم. الحديث عن الاِمام الصادق عليه السلام حديث واسع، ونحن نعيش هذه الاَيام ذكري شهادته، ولذلك أحاول أن أبدأ بموضوع مهم بمناسبة هذه الذكري، يرتبط بأئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا الموضوع وهو بحث [ صفحه 5] دور (أهل البيت في الحياة الاِسلامية) بصورة عامة، ولازال ذلك أمنية في نفسي أن أوفق لتناوله بصورة واسعة نسبياً، ولكن (ما لايدرك كله لا يترك كله) و(لا يترك الميسور بالمعسور)، وقد يتيسر لنا الحديث هنا بصورة عامة ومحدودة حول هذا الموضوع. ومن هذا المنطلق سوف أشير إلي عدة أبعاد، وأحاول في هذا المجلس الشريف أن أتناول هذه الاَبعاد حول أهل البيت عليهم السلام، لاَن هذا المجلس الشريف ـ وببركة أنفاس الشهداء والعلماء وأرواحهم الطاهرة، وإخلاص الاَخوة الاَعزاء الذين لازالوا يتفضلون علينا بالحضور في هذا المجلس والمشاركة فيه ـ أصبح مجلساً ثقافياً مهيئاً لتناول مثل هذه الموضوعات الفكرية والعقائدية. وسوف أكتفي فيه هذه الليلة بذكر موضوع البحث وبعض خصائصه علي أن نبدأ إذا وفقنا الله تعالي في تناول هذا البحث في الليالي الآتية، كلما سنحت الفرصة لذلك. [ صفحه 6]

موضوع البحث

أهل البيت عليهم السلام كما نعرف كان دورهم الاَساس هو الاِمامة وامتداداً للرسالة الاِلهية الخاتمة التي جسدت التكامل في وحدة النبوة والاِمامة، وكان وجودهم تعبيراً عن امتداد هذه الرسالة في خط الاِمامة، هذا هو العنوان العام في دور أهل البيت عليهم السلام، ولكن هذا العنوان العام قد يعتريه شيء من الغموض، مما نحتاج فيه إلي هذا البحث، وهذا الغموض هو أن المتبادر إلي الاَذهان دائماً أن الاِمامة هي: عبارة عن (الخلافة) المتمثلة بولاية الاَمر وقيادة التجربة الاِسلامية والحكم الاِسلامي، ومن ثم فقد يأتي هذا السوَال إذا كانت الامامة هي عبارة عن الخلافة والولاية والحكم، فأهل البيت عليهم السلام قد حرموا من هذه الخلافة كما نعرف، باستثناء فترات محدودة وقصيرة جداً في التاريخ الاِسلامي، وهي فترة أمير المؤمنين عليه السلام وخلافة الاِمام الحسن عليه السلام وهي مدة قصيرة جداً، وإن كنا ننتظر الخلافة المطلقة لهم التي يقوم بأعبائها إمامنا وسيدنا الحجة بن الحسن (عجل الله تعالي فرجه الشريف)، وبإستثناء ذلك فأن هذه القرون العديدة التي مضت في تاريخ الاِسلام وهي حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن، وما يمكن أن نفترض من قرون أخري تأتي حتي يظهر سيدنا الاِمام الحجة (عجل الله تعالي فرجه الشريف)، ويتولي أهل البيت عليهم السلام هذا الدور، لم يتسلم أهل البيت (الخلافة)، فهل أن ذلك [ صفحه 7] كان تعطيلاً لدورهم في الحياة الاِسلامية طيلة هذه المدة الطويلة، حتي يظهر أمرهم في المستقبل؟! أو أن الاِمامة ودور أهل البيت عليهم السلام هو أوسع وأشمل من قضية تولي الحكم وإدارة هذا الحكم، وأن تولي إدارة الحكم هو أحد الاَدوار والاَبعاد في دورهم عليهم السلام الواسع في حياة الاِسلام والمسلمين؟ هذا هو السوَال الذي يشرح العنوان. ونحن نحاول في هذا البحث أن نبين الاَبعاد والاَدوار الواقعية المتعددة لاَهل البيت عليهم السلام في الحياة الاِسلامية العامة، مضافاً إلي دور الخلافة وقيادة التجربة الاِسلامية وولاية الاَمر. وهنا يحسن بنا أن نشير إلي أن هذا الموضوع هو من الاَبحاث التي يمكن أن يكتب الباحثون فيها موسوعة كاملة، نسميها بـ (موسوعة أهل البيت عليهم السلام)، ولدي أمل أن أكتب ذلك، إلا أن هذا البحث بالخصوص إنما هو في إطار التخطيط النظري له، والاَمل المستقبلي أن أكتب عدة كتب، كل كتاب قد يشتمل علي عدة اجزاء، لبيان هذه الاَدوار، وأحد النماذج لهذه الكتب هو كتاب (دور أهل البيت عليهم السلام في بناء الجماعة الصالحة) الذي يعبر عن دور واحد من هذه الاَدوار، وقد وضعت الاَطار النظري والتخطيطي لاِنجازها، كما [ صفحه 8] أشرت إلي بعض موضوعاتها في هوامش الكتاب المذكور، ولكن لا أعرف هل أن الوقت يساعدني علي ذلك، ولاسيما مع ظروفي الخاصة، أو هل أن الاَجل الذي ننتظره دائماً يسمح لنا بذلك كي أتمكن أن أقوم بهذه المهمة أو لا؟ وقد طرح عليَّ بعض الاَخوة الاَعزاء من وسطين مختلفين، أحدهما من وسط الحوزة العلمية، والآخر من وسط الجامعة، أن أقوم بشرح أفكاره علي مستوي الفهرست والمنهج العام لهذا الموضوع، من خلال مجموعة من المحاضرات، لتشكل الاِطار العام لهذا البحث، وإذا هيأ الله تعالي لنا الفرصة لكتابته تفصيلاً، فنعما هو، وإلا فلعله يوجد في الكثير من الاَعزاء من الكتاب والباحثين والعلماء من تتهيأ له هذه الفرصة، إذا رأي في هذا البحث فائدة ومنفعة، وإني أعتقد أن فيه فائدة ومنفعة كبيرة جداً، ولاسيما في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه مذهب أهل البيت عليهم السلام من الاَسماء البارزة التي يتطلع لها المسلمون من ناحية، والبشرية جمعاء من ناحية أخري، ولاسيما بعد هذه المسيرة العظيمة المعطاء، مسيرة الشهداء والتضحيات، وقيام الدولة الاِسلامية في هذا البلد الكريم إيران (بلد أهل البيت) علي يد علماء الاِسلام وعلي يد العالم الرباني الاِمام الخميني قدس سره، [ صفحه 9] بحيث أصبح اسم أهل البيت عليهم السلام ومدرستهم والقواعد العلمية لهذه المدرسة المتمثلة بالحوزات العلمية رمزاً من رموز هذا العصر، ومعْلَماً من معالمه، بسبب هذا التحول الكبير الذي تحقق في الاَوضاع الاجتماعية والسياسية لهذه المدرسة ولهذا الخط الشريف. ولا أريد في هذا الحديث أن أدعي أنني سوف أتي بشيء جديد مهم في المضمون، فقد يكون الكثير من المضامين والموضوعات التي سوف نتناولها بالبحث، من الموضوعات التي تناولها الباحثون في كتبهم وأبحاثهم، علي أني لا أعلم ذلك لاَني ـ بسبب ضيق الوقت ـ لم أوفق إلي مراجعة البحوث ذات العلاقة بهذا الموضوع إلا بشكل محدود جداً، ومن ذلك بعض بحوث الشهيد الصدر، أو ما تبقي لدي من مخزون في الذاكرة للمصادر الاَصلية (القرآن الكريم والحديث الشريف [1] ولكن الجديد هو أن تنظيم هذه الاَبحاث وترتيبها ومنهجيتها وتكميلها وتطويرها في بعض الموارد هو الشيء الجديد وهو شيء مهم الذي نحتاجه في هذه المرحلة. [ صفحه 10]

تقسيم البحث

ونبدأ هذا البحث أولاً: بتمهيد يتركب من خطين رئيسين، لابد من الحديث فيهما قبل الشروع في أصل الموضوع: أولا: الحديث عن النظرية الاِسلامية في موقع أهل البيت عليهم السلام في الرسالة الاِسلامية، وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي لابد أن نتناولها في التمهيد من أجل الدخول في هذا البحث. ثانياً: هو تشخيص الاَهداف والاَدوار العامة لاَهل البيت علي المستوي النظري مع الاِشارة إلي أدلة هذه الاَهداف والاَدوار من الكتاب الكريم والسنة التي وردتنا من النبي صلي الله عليه وآله وعن أهل البيت عليهم السلام.

نظرية الامامة

أما فيما يتعلق بالاَمر الاَول وهو بيان (النظرية)، يلاحظ بأن الرسالات الاِلهية السابقة كانت تعتمد في إدامتها واستمرارها وبقائها علي مجموعة من الاَنبياء الذين يأتون بعد كل نبي من الاَنبياء اُولي العزم، يتحملون مسوَولية هذه الرسالة علي مستوي التطبيق والتنفيذ والتفسير، ولكن الرسالة الخاتمة التي هي أعظم هذه الرسالات [ صفحه 11] وأفضلها، وأراد الله لها الاِستمرار والبقاء إلي آخر الحياة البشرية، يلاحظ فيها أنها رسالة لا يوجد فيها نبي بعد رسول الله صلي الله عليه وآله، لما نص عليه القرآن من قوله تعالي (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبًآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ...) [2] وكذلك ما ورد عن رسول الله صلي الله عليه وآله وتواتر عنه صلي الله عليه وآله لدي المسلمين من قوله لعليٍّ عليه السلام: (... أما ترضي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّأنه لا نبيّ بعدي) [3] . إذن، فهذه الرسالة ـ من ناحية ـ هي أعظم الرسالات الاِلهية، ويراد لها الاِستمرار والدوام أكثر مما يراد للرسالات الاِلهية الاَخري، ولكن من ناحية أخري نجد أن هذه الرسالة لم توضع لها ضمانات للاِستمرار والبقاء من خلال إرسال الاَنبياء التابعين، كما وضعت ضمانات للرسالات السابقة التي جاء بها الاَنبياء اُولي العزم، حيث أن هوَلاء الاَنبياء التابعين كانوا يقومون بمهمة إدامة زخم تلك الرسالة ومتابعة الاِشراف علي تطبيقها ودعوة الناس إليها، لاَن عمر الرسول [ صفحه 12] ـ بصورة عادية ـ يبقي محدوداً بالنسبة إلي عمر الرسالة نفسها، ولا يستمر عمره ـ عادة ـ باستمرار الرسالة نفسها، ولذلك كان الله تعالي يرسل الاَنبياء التابعين من أجل أن يديموا حركة الرسالة ومسيرتها. هذا السوَال هو الذي يفرض الحديث عن قضية ضرورة وجود الاِمامة، وموقع ودور أئمة أهل البيت عليهم السلام من الرسالة الخاتمة، حيث شاء الله تعالي أن يكون استمرار الرسالة الخاتمة عن طريق نظرية (الامامة)، وأن تكون هذه الاِمامة في أهل البيت سلام الله عليهم. وهذا الموضوع وإن كان يحتاج إلي بحث وشرح واسع، وسوف أشير إليه في حدود الاِثارة وبعض خطوطه العامة فيما يأتي ـ إن شاء الله تعالي ـ حيث نحاول معالجة ثلاثة أسئلة رئيسية: الاَول: ما هي ضرورة وجود الاِمامة في الرسالة الخاتمة. الثاني: لماذا كان استمرار الاِمامة في الرسالة الخاتمة في خصوص أهل البيت عليهم السلام؟ ولمَ يوضع هذا الدوام بصيغة أوسع وأشمل من هذه الاَسرة الشريفة وهم (أهل البيت)، ووضعت الاِمامة والاِختصاص في خصوص (آل النبي محمد صلي الله عليه وآله). الثالث: لماذا اختصت الاِمامة بخصوص الاَئمة الاِثني عشر المعروفين من أهل البيت عليهم السلام. [ صفحه 13] وجواب كل واحد من هذه الاَسئلة نحتاج فيه إلي بيان بعدين: أحدهما: تفسير هذه الظاهرة، لاَن الظواهر الاِلهية والاِسلامية بصورة عامة ليست ظواهر اعتباطية، أو مجرد قضايا تعبدية، وإنما هي ظواهر لابد أن يكون وراءها حكمة ومصالح تفسر هذه الظواهر. والبعد الآخر: هو الاِستدلال علي ثبوت هذه الظاهرة في الاِسلام وهذا الاِختصاص بأهل البيت عليهم السلام، وهو بحث تناوله علمائنا في مختلف العصور، عندما كانوا يتناولون عقيدة الاِمامة. وهذا التصور النظري الخاص للاِستمرار، من الاِمتيازات التي اختصت بها مدرسة أهل البيت عليهم السلام علي المدارس الاَخري، لاَن المدارس الاَخري تدعي أن الرسالة الاِسلامية كان استمرارها بطريق أوسع، ولم يكن الاِختصاص بأهل البيت عليهم السلام. هنا نحتاج ـ أيضاً ـ من الناحية النظرية أن نتبين هذا الموقع الخاص لاَهل البيت عليهم السلام في قضية استمرار وإدامة هذه الرسالة. فأولاً: نحتاج بالنسبة إلي النظرية أن نتبين دور الاِمامة وضرورتها في الرسالة الخاتمة من أجل ملاَ هذا الفراغ ببيان خصوصياته وهو فراغ ضرورة استمرار الرسالة، حيث اُريد لهذه الرسالة الخاتمة أن تكون رسالة أبدية تنتهي بعمر البشرية. [ صفحه 14] وثانياً: نحتاج أن نتبين اختصاص أهل البيت عليهم السلام بهذا الدور دون غيرهم من الناس، وتفسير هذا الاختصاص، وهل أنه هو مجرد اصطفاء غيبي دون وجود تفسير له علاقة بحركة البشرية والحياة الاجتماعية، أو أن هذا الاِصطفاء له علاقة بهذه الحياة البشرية والاِرتباط بين الاَمر الاَول والثاني. وثالثاً: نحتاج أن نتبين اختصاص أهل البيت عليهم السلام بخصوص هذا العدد المحدود، وهو الاَئمة الاِثني عشر عليهم السلام. هذا كله في ما يتعلق بموضوع أصل النظرية، وهو الاَمر الاَول الذي سوف نتناوله في فصول ثلاثة علي المستوي النظري. الاَول: البحث في ضرورة (الاِمامة) وموقعها في الرسالة الاِسلامية. الثاني: في اختصاص (الاِمامة) بخصوص (أهل البيت عليهم السلام). الثالث: في اختصاص أهل البيت بالاِئمة الاَثني عشر من أهل البيت.

الاهداف والادوار

أما فيما يتعلق بالاَمر الثاني وهو الاَهداف والاَدوار العامة لاَهل البيت عليهم السلام، بعد أن نعرف أن لاَهل البيت عليهم السلام هذا الموقع الخاص. [ صفحه 15] وفي هذا البحث سوف نلاحظ أن هناك سبعة أهداف وأدوار رئيسية وأساسية، يمكن أن نستنبطها من حديث أهل البيت عليهم السلام، عند الرجوع إلي أحاديثهم عليهم السلام عن دورهم في حياة المسلمين، وهذا البحث سوف نشرحه من خلال تسمية الاَدوار، وبيان النصوص ذات العلاقة بتشخيص هذه الاَدوار أو حقيقتها: الدور الاَول: حفظ الحياة الانسانية، لما ورد في شأن الاِمامة وأهل البيت عليهم السلام بأنهم أمان لاَهل الارض. الدور الثاني: قيادة التجربة والحكم الاِسلامي وولاية الاَمر. الدور الثالث: المرجعية الدينية والفكرية للمسلمين. الدور الرابع: المحافظة علي الشريعة الاِسلامية، وبقاء هذه الرسالة محفوظة ومنزهة عن التحريف والتزوير. الدور الخامس: المحافظة علي وجود الاَمة الاِسلامية ووحدتها وحيويتها. الدور السادس: بناء الجماعة الصالحة، ولذلك فإن موضوع بناء الجماعة الصالحة يكون أحد الاَدوار والاَهداف التي استهدفها أهل البيت عليهم السلام في الحياة الاِسلامية. الدور السابع: تجسيد القدوة والاَسوة في السلوك الاِسلامي [ صفحه 16] الراقي، وإيجاد المثال الخارجي له. وقد يستحق كل واحد من هذه الاَدوار بحثاً أو كتاباً مستقلاً، ولكننا في هذا الاِستعراض سوف نحاول التلخيص والاِقتصار علي القضايا الرئيسية مع الاِشارة إلي أدلتها وذكر العناوين التي يمكن أن تكون مجالاً للبحث التفصيلي مع الاِشارة إلي بعض المصادر التي تناولت هذه الاَبحاث التفصيلية.

المواقف

وإلي جانب هذين الاَمرين أو الخطين من البحث (النظرية والاَدوار) يوجد بحث ثالث ـ أيضاً ـ مهم، وهو استعراض (المواقف) والاِنجازات المهمة الرئيسية التي اختص أو تميز بها كل واحد من هؤلاء الاَئمة الاِثني عشر إلي جانب المساهمة في الاَدوار المشتركة وتحقيق الاَهداف العامة، حيث يمكن تقسيم البحث في هذا الموضوع علي عدد الاَئمة أنفسهم، وبيان الاَدوار من خلال المواقف الخاصة لهم والتي كان لها بطبيعة الحال أثر مهم في الوقت نفسه في تحقيق الاَهداف العامة المشتركة. وبعد هذا العرض، نأتي إلي معالجة الاَسئلة الذين أثرناها في الاَمر. [ صفحه 21]

ضرورة الامامة

اشاره

السؤال الاَول: لماذا كان من الضروري أن تستمر الرسالة الاِسلامية من خلال (الاِمامة)، مع أن هذه الرسالة هي رسالة خاتمة، ثم لماذا لم يكن هذا الاِستمرار بهذه الصورة في الرسالات السابقة، بل كان من خلال النبوات التابعة؟ أما عدم الاِستمرار من خلال النبوات التابعة، فلاَن الاستمرار للنبوة في الرسالات السابقة كان أمراً طبيعياً، وذلك للوصول بالرسالة والاِنسانية معاً إلي مرحلة التكامل الرسالي والاِنساني، فكان من الضروري أن يأتي أنبياء تابعون للرسالة الاِلهية التي يرسل الله تعالي بها نبياً من الاَنبياء أولي العزم، لاَن الرسالات الاِلهية كانت تتعرض إلي التحريف فيها لدرجة تفقدها دورها الرسالي المطلوب من ناحية، كما أن الرسالات لم تبلغ التكامل الرسالي المفروض الذي بلغته في الرسالة الخاتمة من ناحية أخري، والاِنسانية لم تبلغ مرحلة التكامل الرسالي في ثبات الاَصول والمباديء الاَساسية للرسالات الاِلهية في [ صفحه 22] مسيرتها من ناحية ثالثة، فنحتاج إلي هذه النبوات التابعة التي قد يندمج فيها دور النبوة والاِمامة في بعض الاَحيان، وقد ينفصل حسب طبيعة المرحلة والزمان، فنشاهد أنبياء دون إمامة لاِبلاغ الرسالة وبيان أو كشف ما تعرضت له من تحريف أو أوصياء دون نبوة، ليكون دورهم هو مواصلة دور النبوة السابقة المحدود. أما في الرسالة الخاتمة وبعد فرض تكاملها الرسالي والاِنساني معاً، سواء علي مستوي النظرية أو ثبات الاَصول والمباديء الاَساسية للرسالة، فنحن لسنا بحاجة إلي أنبياء تابعين، ولذا أنقطعت النبوة [4] . وأما لماذا كان هذا الاِستمرار من خلال خط الاِمامة في الرسالة الخاتمة؟ فقد أشرنا في حديثنا إلي أنه قد يبدو لاَول وهلة أن الحاجة في الرسالة الخاتمة إلي الاِستمرار والبقاء ـ بسبب أهميتها وجلالتها وسموها وامتيازاتها علي الرسالات السابقة ـ أكثر من الحاجة بالنسبة [ صفحه 23] إلي الرسالات السابقة، لاَنها الرسالة الاَهم والاَعظم، فكيف لا تحتاج إلي من يتابعها، مع أن الرسالات الاَقل إحتاجت إلي مثل هذه المتابعة؟ والسبب في ذلك هو أن هذه الرسالة، وإن أصبحت من حيث مضمونها ومحتواها الرسالي رسالة خاتمة وكاملة، ولا تحتاج عندئذ إلي متابعة علي مستوي (الاَنبياء) لبيان أصل الرسالة وثبت الاَصول، لاَن النبي صلي الله عليه وآله أكملها في بلاغها وعرضها علي الناس، وقد صرح القرآن الكريم بذلك: (...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اْلاِِسْلـَمَ دِينًا...) [5] إذن، فالرسالة الخاتمة من هذه الناحية لا تحتاج إلي إكمال علي مستوي البلاغ والتبشير والاِنذار الذي يتحمله الاَنبياء عادة، لمعالجة الاِنحرافات وتثبيت الاَصول والاَسس، نعم قد تحتاج إلي إكمال بيان بعض التفاصيل، ولكن ذلك وحده لا يحتاج إلي الاِمامة ودورها الكبير في النظرية الاِسلامية. كما شاء الله سبحانه وتعالي أن تختص الرسالة الاِسلامية من بين الرسالات الاَخري بضمانات ووسائل الحفظ من الضياع والتحريف [ صفحه 24] المطلق في مضمونها، وذلك من خلال عدة عناصر أساسية ومهمة، يأتي في مقدمتها القرآن الكريم، والمحافظة عليه من التحريف والزيادة والنقصان، ببركة قيام النبي صلي الله عليه وآله بتدوينه ووجود العدد الكبير من الصحابة الاَفذاذ الصالحين وفي مقدمتهم الاِمام علي عليه السلام، الذين تمكنوا من حفظ القرآن في الصدور، وغير ذلك من الاَسباب الغيبية أو المادية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) [6] ولاشك أن لوجود أهل البيت عليهم السلام دور مهم وعنصر أساس ـ أيضاً ـ في ذلك [7] . وهي بذلك لم تعد بحاجة إلي نبوات تابعة، ولكن مع ذلك كله، تبقي الرسالة الاِسلامية الخاتمة بحاجة إلي وجود متابعة لهاعلي مستويات أخري، ومن أجل ذلك كان وجود الاِمامة وإستمرار الرسالة من خلالها ضرورة لازمة. وبصدد توضيح ذلك، أشير إلي ثلاث نقاط رئيسية، لابد من الاِهتمام بها ومتابعتها وبحثها بدقة: [ صفحه 25]

الامامة والاختلاف في العبادة

النقطة الاَولي: أن الاَنبياء عندما يرسلهم الله سبحانه وتعالي إلي عباده كانوا يقومون بمهمات ذات بعدين رئيسيين: أحدهما: البلاغ والاِنذار لهؤلاء الناس فيبيّنوا الرسالة بتفاصيلها المطلوبة، وهذا ما قام به رسول الله صلي الله عليه وآله في الرسالة الخاتمة، وقام به الاَنبياء السابقون ـ أيضاً ـ في الرسالات الاَخري. ثانيهما: مواجهة ظاهرة الاِختلاف في المجتمع الاِنساني والعمل علي حله، لاَن الله تعالي يقول: (...فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ...) [8] . وتدخل مهمة التزكية والتطهير ومهمة التعليم، كنتيجة لهاتين المهمتين الرئيسيتين. إذن، قضية الاِختلاف هي قضية مهمة جداً يواجهها الاَنبياء في عملهم وحركتهم، والاِختلاف هنا هو أختلاف في المثل العليا التي يتخذها هؤلاء الناس للعبادة وفهمهم للحياة والكون وحركتهم [ صفحه 26] الاجتماعية، حيث يتخذ هؤلاء الناس لهم الآلهة المصطنعة ـ والمثل المحدودة، أو التكرارية [9] والاَسماء المزيفة المستلهمة من القوي الموجودة في هذا الكون، أو الشهوات والاَهواء والميول، أو الطغاة والمستكبرين والمترفين، أو من تقليد الاَباء والاَجداد ـ يعبدونها من دون الله. ولما كان عمر الرسول محدوداً ـ عادة ـ لايستوعب الزمان الكافي لحل هذا النوع من الاَختلاف خارجياً، بحيث يمكّنه من إزاحة جميع العوائق والموانع التي تقوم أمام الرسالة في حركتها الاجتماعية والاِنسانية، تصبح الرسالة بحاجة إلي قيادة معصومة للحركة الاجتماعية وإدامة العمل لحل هذا النوع من الاِختلاف، وهذه الحاجة ثابتة في كل الرسالات الاِلهية، فكيف إذا كانت الرسالة رسالة خاتمة طويلة، يراد لها أن تعم الاَرض كلها، وتزيل جميع الآلهة المصطنعة، والاَمثلة التي يبتدعها الاِنسان وتنتصب في وسط الطريق. لذا كانت الحاجة قائمة لوجود القائد وهو الاِنسان الكامل الذي نعبر عنه بالاِمام، ليقود معركة تحرير الاِنسان من كل هذه الآلهة [ صفحه 27] والقيود، وتحقيق العبادة المطلقة لله تعالي، دون غيره من الآلهة، وهو المثل الاَعلي للحق، لاَن معركة التحرير هذه تحتاج إلي شخص يتصف بالاستيعاب الكامل والرؤية الواضحة للرسالة من ناحية، والشعور العالي بالمسؤولية أمام الله تعالي في إدامة المعركة والاِدارة القوية في إدارة المعركة التي تعتمد علي جهاد النفس من ناحية أخري. وهذا السبب هو ما أشار إليه الشهيد الصدر قدس سره في حديثه حول ضرورة الاِمامة بعد الرسول، وقد أعطي الاِمامة مضموناً شاملاً، يتحد مع النبوة أحياناً، عندما تكون الحاجة إلي النبي والقائد معاً، ويفترق عنها أحياناً أخري، عندما تكون الحاجة إلي القائد وحده، ولكنه علي أي يرتبط بهذه المهمة الخاصة وهي قيادة المعركة، وهو ما عبر عنه الشهيد الصدر قدس سره بقيادة المعركة التي يواجهها الاَنبياء في المجتمعات الاِنسانية، لاِزالة كل الاَمثلة المزيفة والآلهة المصطنعة الذي يخترعها الاِنسان ويبتدعها، سواء كانت هذه الاَمثلة المصطنعة والآلهة المزيفة عبارة عن طواغيت يحكمون بين الناس أو كانت شهوات وهوي يتحكم في مسيرة هؤلاء الناس، أو كانت أفكار منحرفة يختلقها الاِنسان ويبتكرها، فيجعلها مثالاً له يقتدي ويهتدي به، فيتحول إلي [ صفحه 28] إله يعبده من دون الله، كما قال تعالي: (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَآ أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَـنٍ...) [10] فهي معركة إزاحة هذه الآلهة المصطنعة عن طريق الهدي والصلاح والخير الذي يقوده الاَنبياء [11] . وهذه المعركة عمرها أطول من عمر النبي، فإن عمر الرسول مهما طال زمانه، لا يستوعب زمان الاِختلاف، لاَن الله تعالي جعل قضية الاِختلاف بين الناس سنّة من السنن الطبيعية التي تحكم حركة التاريخ في كل الاَدوار، فقضية الاَختلاف، قضية قائمة لا يختلف فيها زمان عن زمان، ولا تنتهي هذه القضية إلا بنهاية حركة البشرية، والقرآن الكريم يشير إلي ذلك ـ أيضاً ـ في قوله تعالي: (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةً وَلاَيَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ...) [12] . إذن، فالمعركة ضد الاِختلاف تحتاج إلي من يقودها، وزمنها أطول من زمن النبي، ولو كانت هذه المعركة تنتهي بزمن النبي كان يمكن [ صفحه 29] للنبي أن ينهي المعركة ولا نحتاج إلي من يقودها من بعده، ولكنه لما كانت هذه القضية هي سنّة تحكم حركة التاريخ، فنحتاج إلي من يقود هذه المعركة، معركة إزاحة الآلهة المزيفة والمصطنعة أمام الحركة التكاملية للاِنسان. وقيادة هذه المعركة تارة تكون من قبل نبي يقوم بدور الاِمام ـ أيضاً ـ كما في كثير من الاَنبياء السابقين التابعين، وأخري تكون من قبل الاِمام الذي لا يتصف بعنوان النبوة لعدم الحاجة إليها، ولما كانت الرسالة الاِسلامية هي الرسالة الخاتمة، الكاملة، المحفوظة، ونبوة محّمد صلي الله عليه وآله لا نبوة بعدها، اقتضي أن يكون الدور للاِمامة التي لا تتصف بالنبوة. والشواهد علي هذه الحقيقة عديدة وليست مجرد الآيات القرآنية التي أشرت إليها، وإن كانت تكفي هذه الآيات أن تكون شاهداً ودليلاً عليها، ولكن الواقع التاريخي شاهد ـ أيضاً ـ علي هذه الحقيقة، فإن ظاهرة الاَختلاف ظاهرة قائمة وثابتة في التاريخ الاِنساني ـ كما ذكرنا ـ كما أنها ظاهرة ثابتة في التاريخ الاِسلامي في زمن النبي وبعده، ولا يمكن لاَحد من الناس أن ينكرها أو يخفيها، وهذه القضية ليست مجرد قضية نظرية، وإنما هي قضية ذات واقع قائم في المجتمع [ صفحه 30] الاِنساني والاِسلامي كله، وهذا هو ما نواجهه ـ أيضاً ـ في هذا العصر والزمان.

الامامة والاختلاف في التأويل

النقطة الثانية: إن الرسالات الاِلهية تواجه ـ عادة مع غض النظر عن الاِختلاف الاَول الذي ذكرناه في النقطة الاَولي ـ بعد ثبوتها ورسوخ أقدامها نوعاً آخر من الاِختلاف وهو الاِختلاف في تفسير هذه الرسالة، وفهم مداليها وتأويلها وتجسيد المصاديق الخارجية فيها، وهذا نوع آخر من الاِختلاف، أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة التي تحدث فيها عن أهل الكتاب وما اختلفوا فيه من تأويل الكتاب، منها قوله تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَـبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أُوْلََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلـَلَةَ بِالْهُدَي وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَي النَّارِ - ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَـبِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيدٍ) [13] . [ صفحه 31] وقوله تعالي: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِيَ إِسْرََءِيلَ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـهُم مِنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَي الْعَـلَمِينَ - وَءَاتَيْنَـهُم بَيِّنَـتٍ مِنَ الاََْمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [14] كما أن بعض الآيات القرآنية أشارت ـ أيضاً ـ إلي كلا النوعين من الاِختلاف، كما في قوله تعالي: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنـتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَي اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [15] . وهذا النوع من الاِختلاف هو معركة أخري تخوضها الرسالات الاِلهية ـ عادة ـ وهو غير الاِختلاف الناشيء من تحريف أصل الرسالة بمعني ضياع بعض معالمها المهمة، والذي حفظ في الرسالة الاِسلامية، فهو تحريف في التطبيق والفهم، ويحتاج ـ أيضاً ـ إلي قيادة [ صفحه 32] معصومة في فهمها الكامل للرسالة وفهم مضمونها وآفاقها، وفي معرفتها لتفاصيلها التي لايمكن ـ عادة ـ للنبي أن يبينها لجميع الناس ـ كما تدل علي ذلك شواهد كثيرة [16] ـ وكذلك معصومة في حرصها علي الرسالة وقيمها ومُثلها ومبادئها وصبرها واستقامتها في هذا الطريق، وتحمّلها لمسؤوليتها وأعبائها. وقد كان يتم ذلك ـ أيضاً ـ عن طريق النبوات التابعة من الرسالات الاِلهية الاَخري، أو الاَوصياء الذين كانوا يتحملون هذا الدور من الاِمامة ـ أيضاً ـ وأما في الرسالة الخاتمة فقد تمحّض هذا الاَمر في دور الاَمامة. وهذا النوع من الاِختلاف هو الذي يفسر لنا ما ورد في أحاديث عديدة عن رسول الله صلي الله عليه وآله، عندما كان يتحدث مع علي عليه السلام، وغيره عن مستقبل الايام في التاريخ الاِسلامي وتطورات الاَحداث فيه، حيث كان هناك معركتان إحداهما علي التنزيل كان يقودها رسول الله صلي الله عليه وآله في مواجهة المشركين وأهل الكتاب، ومعركة أخري هي معركة علي [ صفحه 33] التأويل الذي كان يخبر الرسول عن دور الاِمام علي عليه السلام في قيادتها، فقد روي سعيد بن المسيب، عن سعيد بن مالك أن النبي صلي الله عليه وآله قال: «يا عليّ أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي، تقضي ديني وتنجز عدتي وتقاتل بعدي علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل، يا عليّ حبّك إيمان وبغضك نفاق ولقد نبّأني اللّطيف الخبير أنه يخرج من صلب الحسين تسعة من الاَئمة، معصومون مطهّرون، ومنهم مهديّ هذه الاَمة، الّذي يقوم بالّدين في آخر الزمان كما قمت به في أوله» [17] . إذن، فهذه المعركة هي قضية حقيقية قائمة في التاريخ الرسالي والتاريخ الاِسلامي وقد ذكرها القرآن الكريم علي مستوي تاريخ الاَنبياء ـ أيضاً ـ وأكدتها الاَحداث التي جرت بعد رسول الله صلي الله عليه وآله كحقيقة من الحقائق التاريخية، أخبر بها رسول الله صلي الله عليه وآله في مستقبل الاَيام. [ صفحه 34]

الامامة والولاية

النقطة الثالثة: إن الرسالة الخاتمة إمتازت بإمتيازات عديدة لم تشبهها الرسالات الاِلهية السابقة وكان من جملة الاِمتيازات في الرسالة الخاتمة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ هو أن الله تعالي شاء أن يحفظ هذه الرسالة بمضمونها الرسالي بصورة كاملة من خلال القرآن الكريم، ولذا لم تحتاج إلي النبوات التابعة، أما الرسالات السماوية الاَخري فقد تعرضت للتحريف والضياع، لاَسباب يطول الحديث فيها [18] . وكان أحد الاِمتيازات المهمة ـ أيضاً ـ هو أنها تمكنت من أن تقيم الدولة الاِسلامية (الكيان السياسي الاِسلامي) في المجتمع الاِنساني في عصر صاحب الرسالة وبعده. فقد دعت الرسالات السابقة إلي إقامة الحق والعدل بين الناس وإلي تحكيم ما أنزل الله تعالي بين الناس، فقد قال القرآن الكريم في سياق الحديث عن نزول التوراة: (...وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ)، وقال في سياق الحديث عن نزول [ صفحه 35] الاِنجيل: (...وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ)، كما قال في سياق الحديث عن نزول القرآن الكريم: (...وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ) [19] . إذن، فقضية الدعوة إلي إقامة الحكم بين الناس ليست خاصة بخصوص الرسالة الاِسلامية، بل أن قضية إقامة الحكم بما أنزل الله بين الناس هي قضية ترتبط بكل الرسالات الاِلهية، ولكن شاء الله تعالي في حركة وتاريخ هذه الرسالات الاِلهية أن يقوم الحكم بين الناس كحالة سياسية اجتماعية خارجية، نعبّر عنها بقيام الدولة الاِسلامية، شاء الله تعالي أن يقوم ذلك في خصوص تاريخ الرسالة الخاتمة، دون بقية الرسالات الاَخري. فنوح عليه السلام لم يتمكن من تحقيق قيام دولة إسلامية، ولو بمستوي الاِسلام الذي جاء به نوح عليه السلام. كما أن إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الاَنبياء لم يتمكن أن يقيم هذا الكيان السياسي الاِسلامي، وموسي عليه السلام شاء الله تعالي أن يقبضه إليه قبل أن يتمكن من إقامة هذا الكيان السياسي الاِسلامي، بعد أن كان قد مهد [ صفحه 36] له بإخراج بني إسرائيل من سلطة فرعون، وجاء بألواح التوراة، ليحقق ذلك، ولكنهم رفضوا الاِستمرار في المسيرة ودخول الاَرض المقدسة، لتحقيق هذه المهمة الاِلهية الصعبة، فكتب الله عليهم أن يتيهوا في الاَرض أربعين سنة [20] . وكذلك الحال في النبي عيسي عليه السلام، حيث رفعه الله قبل أن يحقق هذا الهدف الاِسلامي العظيم. ولم يتمكن الحواريون من أن يقوموا بذلك ـ أيضاً ـ فولدت الرهبانية والاِنعزال، وانحرفت المسيحية علي يد بولس، عندما تحولت إلي الحكم والسلطان والقيصرية. وشاء الله تعالي أن يكون ذلك من امتيازات نبوة محمد صلي الله عليه وآله. إذن، فهذا من الامتيازات الخاصة التي امتازت بها الرسالة الاِسلامية [21] . [ صفحه 37] إذن، فعندما تكون من خصائص هذه الرسالة وجود هذه الدولة، فهذه الدولة تحتاج إلي قيادة تقودها، وهذه القيادة لابد أن تكون في منذ البداية معصومة، لتتخذ الدولة صيغتها الاِسلامية الكاملة في [ صفحه 38] التطبيق المتميزة عن الصيغ الاَخري، وهذا إنما يتحقق من خلال الاِمامة. لاَن مثل هذه الدولة، ومثل هذه التجربة لا يمكن أن تقاد وبصورة كاملة وصحيحة، بحيث تحقق كل الاَهداف التي جاءت بها الرسالة، إلاّ بمثل هذه القيادة التي نعبّر عنها بالاِمامة. وهنا ينفتح أمامنا باب بحث الخلافة الاِلهية، فأن بحث الخلافة الذي هو من الاَبحاث الكلامية المهمة التي يتناولها علماؤنا، ويستدلون فيها علي تشخيص من يتولي الخلافة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله ويقوم بإدارة هذه الدولة، هذا البحث فيه بعدان: بُعد يرتبط بالجانب العقائدي وهو إستمرار الرسالة في الاِمامة وعصمة هذه الاِمامة كعصمة الرسالة وهو ما نريد أن نشير إليه في هذه الحديث، وبُعد آخر يرتبط بالجانب التاريخي والسياسي والنصوص التي وردت في ذلك، والتحولات الاجتماعية والظروف السياسية التي اقترنت بهذا الموضوع، وهذا البعد له حديث آخر غير هذا الحديث [22] . [ صفحه 39] إذن، فنحن عندما نتحدث عن موضوع الخلافة، وأن هذه الخلافة لابد أن يقوم بها الاِمام المعصوم، وتكون تجسيداً واستمراراً للحكم الاِلهي النبوي، عندما نتحدث عن هذا الموضوع، لا نتحدث عن أمر تاريخي ذهب مع الزمن وانتهي وقته، وإنما نتحدث عن أمر عقائدي، يرتبط بفهمنا للاِسلام وللرسالة الاِسلامية، ولتكامل هذه الرسالة، وهذا قضية مهمة جداً. إذن، فالنقطة الثالثة في ضرورة الاِمامة، هي ضرورة وجود قيادة معصومة للحكم الاِسلامي والكيان السياسي. لاَن هذا الكيان السياسيي من أجل أن يكون قادراً علي تطبيق الحق والعدل علي البشرية بصورة كاملة ودقيقة، تتناسب مع الهدف الكبير لهذه الرسالة الاِسلامية، لابد له من وجود قائد معصوم لهذا الكيان السياسي الاِسلامي حتي يمكن تحقيق هذا الهدف الكبير، ولذلك نعتقد بظرورة الاِمامة المعصومة من أجل تحقيق هذا الهدف.

العصمة والامام المهدي

نحن نعتقد أنه بسبب عدم تولي الاِمامة المعصومة لقيادة الحكم الاِسلامي لتحقيق هذا الهدف العظيم في إقامة الحق والعدل الكامل، [ صفحه 40] شهد التاريخ الاِسلامي هذا القدر الكبير من الاِنحراف في مجال تطبيق العدل والحق، بحيث جعل الرسالة الاِسلامية كلها في موضع الشك والريب بسبب الظلم والاستبداد والطغيان الذي مارسه الحكام المسلمون في عدة قرون من الزمن، في العهود الاَموية والعباسية والعثمانية، ولولا الفترة القصيرة للقيادة المعصومة لرسول الله صلي الله عليه وآله وللاِمام علي عليه السلام التي تمكنت أن تبين الوجه الناصع الحقيقي لطبيعة الحكم الاِسلامي، لكان مواجهة هذه الشبهة واقعياً وعملياً أمراً عسيراً، ولاسيما وأن فترة الخلافة الاَولي بعد رسول الله التي كانت تتسم بالاِعتدال النسبي، شهدت الاِضطراب والتذبذب في صيغة الحكم الاِسلامي، وفي النتائج المروعة التي انتهت إليها في خلافة الخليفة الثالث، ومن هنا كانت وجود فكرة الاِمام المنتظر(عج) الذي يملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فكرة مطروحة منذ البداية في الرسالة الاِسلامية وهي مما يجمع عليها المسلمون، وذلك من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير في الحكم والانتشار وفي الكيف والتطبيق الكامل للحكم الشرعي، وعندئذً تكون كل المساعي التي بذلها أئمة أهل البيت عليهم السلام وهم بعيدون عن قيادة الحكم الاِسلامي والتجربة الاِسلامية، وكذلك كل المساعي [ صفحه 41] الاَخري التي بذلها ويبذلها العلماء المجاهدون والمؤمنون في طول التاريخ الاِسلامي، كل هذه المحاولات إنما هي تمهيد لظهور هذه الدولة المباركة الكريمة التي تملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. [ صفحه 45]

الامامة في أهل البيت

اشاره

أما جواب السؤال الثاني: وهو أنه إذا سلمنا بضرورة استمرار خط الاِمامة بعد الرسالة الخاتمة، فلماذا كان خط الاِمامة مستمراً في خصوص أهل البيت عليهم السلام، وهذه الاَسرة الشريفة الطيبة، هل أن القضية مجرد قضية تشريف وتكريم لرسول الله صلي الله عليه وآله، فجعلت الاِمامة في أهله وأسرته، أو أن هناك شيئاً أهم وأعظم وأوسع من ذلك بالنسبة لاستمرار الاِمامة في أهل البيت عليهم السلام؟ كان يمكن أن يفترض نظرياً أن يكون الاَئمة المعصومون في أسرة ووسط آخر غير هذا البيت الشريف، كما عرفنا في التاريخ الاِنساني والرسالي وجود أسر وجماعات أخري كان فيها أئمة معصومون، كما هو الحال في إسحاق وإسماعيل من ذرية إبراهيم عليه السلام، وكما في الاَنبياء من ذرية يعقوب الذي يسمي في القرآن الكريم بإسرائيل، فأن هؤلاء كانوا يتصفون بالعصمة ـ أيضاً ـ وكان بعضهم له دور الاِمامة في حركته الرسالية، ومن ثم فلماذا كان إختصاص الاِمامة في خصوص [ صفحه 46] أهل البيت عليهم السلام، فهل أن القضية ـ كما أشرنا ـ هي قضية تكريم وتشريف لرسول الله صلي الله عليه وآله باعتباره الرسول الخاتم، فأراد الله تعالي أن يكرَّمه ويشرّفه بذلك، ويجعل ذلك نعمة منه سبحانه وتعالي علي هذا العبد الصالح الذي أفني كل وجوده في سبيل الاِسلام وفي سبيل الله وفي سبيل تكامل مسيرة الاِنسان، أو أن تكون القضية تعويض إلهي عن الجهود التي بذلها في سبيل الله والحق والعدل والاِنسانية، كما قد يفهم ذلك من قوله تعالي: (...قُل لاََّ أَسْــََلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي...) [23] فيكون أجراً له علي ذلك، وإنما اختص هذا الاَجر به دون بقية الاَنبياء الذين أكد القرآن علي أنهم لا يبغون أجراً علي رسالتهم إلا الاِيمان بالله تعالي، لاَن النبي صلي الله عليه وآله قد بذل جهداً لم يبذل مثله أحد من الاَنبياء، وقد تحمل من الآلام والمحن ما لم يتحمله أحد قبله ولا بعده... أو أن هناك شيئاً آخر غير موضوع التكريم والتشريف؟ هنا يمكن أن نشير بهذا الصدد إلي عدة نقاط ـ أيضا ـ مع قطع النظر عن الروايات التي وردت في هذا الموضوع والاِستدلال علي إمامة أهل البيت عليهم السلام من خلال النصوص الشريفة التي دلت علي [ صفحه 47] إمامتهم [24] .

التكريم والتشريف

النقطة الاَولي: هي قضية التكريم والتشريف التي أشرنا إليها في طرح السؤال، حيث نلاحظ من خلال القرآن الكريم ومسيرة التاريخ الرسالي لكل الرسالات الاِلهية أن الله تعالي شاء بلطفه وكرمه وفضله علي أنبيائه بأن يجعل من ذرياتهم أئمة وهداة يقومون بهذا الواجب الاِلهي تكريماً لهم ونعمة منه تعالي عليهم، وكان هذا التكريم في الوقت نفسه رغبة وأمنية من أمنيات الاَنبياء أنفسهم، تعبر عن حالة فطرية في الاِنسان الكامل هي الاِتجاه والرغبة إلي البقاء والاِستمرار من خلال ذريته، وقد أكد هذه الحقيقة الفطرية القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة في عدة مواضع [25] . [ صفحه 48] إذن، فهذه القضية هي قضية ترتبط بكلا الجانبين، الجانب الاِلهي الخالق المنعم الكريم الجواد المتفضل علي أنبيائه، المجيب لدعائهم وندائهم، وبالجانب الاِنساني العبودي، المتمثل بهؤلاء الاَنبياء الذين أخلصوا لله تعالي في العبودية ـ أيضاً ـ فأنه من جملة إخلاصهم وإحساسهم بالعلاقة الاَكيدة مع الله تعالي، إنهم كانوا يتمنون علي الله ويرجون منه ويدعونه في أن يجعل من ذرياتهم أئمة وهداة، يضمن لهم البقاء والاِستمرار في عبوديتهم لله تعالي ودورهم ومهمتهم في الحياة الاِنسانية. فهذا إبراهيم عليه السلام وهو شيخ الاَنبياء، عندما خاطبه الله تعالي وابتلاه بكلمات من عنده، فجعله إماماً للناس (وَإِذِ ابْتَلَيَ إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا...)، كان أول شيء يطرحه علي الله تعالي ويرجوه منه، عندما يحملّه الله تعالي هذه المسؤولية، هو أن تكون هذه الاِمامة في ذريته ـ أيضاً ـ (...قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّـلِمِينَ) [26] . وكذلك الحال في إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يقيمان دعائم البيت (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـعِيلُ رَبَّنَا [ صفحه 49] تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، هؤلاء في البداية يطلبون القبول من الله تعالي لهذا العمل العظيم، ثم يدعوانه تعالي أن يكونا مع ذريتهما من المسلمين المهتدين المنيبين إليه المقبولين لديه، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). ثم لا يكتفون بأن تكون هذه الذرية ذرية مسلمة مهتدية مقبولة، بل تترقي هذه الدعوة بأن يطلبوا أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمل مسؤولية النبوة والرسالة ـ أيضاً ـ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [27] . ولذلك كان رسول الله صلي الله عليه وآله يفتخر ويقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام) [28] يعني كان يري نفسه في تحمله لهذه الرسالة إن ذلك كان إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام عندما كان يرفع القواعد في البيت. [ صفحه 50]

الامامة في الذرية سنة

النقطة الثانية: إننا نلاحظ في دراستنا لتاريخ الاَنبياء والمرسلين، أن هذا التكريم قد تحول إلي سنّة من السنن الواضحة في التاريخ الرسالي، وذلك عندما نرجع إلي القرآن الكريم ومفاهيمه وآياته وتصوره لحركة الرسالات الاِلهية والاَنبياء، ومن ذلك ما نقرأه في قوله تعالي: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـتٍ مَّن نَشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَـرُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُـحْسِنِينَ - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّـلِحِينَ - وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَي الْعَـلَمِينَ - وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَي صِرَطٍ مُسْتَقِيمٍ) [29] فعندها نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن إبراهيم عليه السلام وكيف جعل الله تعالي في ذريته النبوة، ويذكر مجموعة من أسماء الاَنبياء من ذريته بدون ترتيب زماني، ثم يشير إلي أمرين يمكن أن نفهم منهما هذه السنة التاريخية: [ صفحه 51] أحدهما: الاِنتقال بالاِشارة إلي نوح عليه السلام (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) ليربط هذا التاريخ بما قبل إبراهيم عليه السلام. ثانيهما: تعميم النعمة علي الآباء والذريات والاَخوان، مما يفهم منه القانون العام (وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ). وهكذا ما ورد في سورة مريم، عندما تحدث القرآن الكريم عن مجموعة من الاَنبياء: إبراهيم وبعض ذريته وإدريس قبل إبراهيم ثم يختم الحديث بالقانون العام (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَهِيمَ وَإِسْرََئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عَلَيْهِمْ ءَايَـتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [30] . والشيء نفسه ـ أيضاً ـ يذكره القرآن الكريم في سورة الحديد، ولكن علي نحو الاِشارة، وذلك عندما يتحدث عن نوح وإبراهيم عليهما السلام، حيث جعل في ذريتهما النبوة، قال تعالي: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَـسِقُونَ) [31] . [ صفحه 52] وموارد أخري لا يسع المجال لتفصيلها. إذاً فهذه من السنن التي كانت تحكم مسيرة الرسالات الاِلهية، فلا نري غرابة في أن هذه السنّة تجري ـ أيضاً ـ في هذه الرسالة الخاتمة، بل هي امتداد لسنّة إلهية، شاء الله أن يجعلها حاكمة علي مسيرة الاَنبياء والمرسلين منذ بداية الرسالات الاِلهية وإلي نهايتها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاِمامة بدأت من نوح عليه السلام ـ كما يذهب إلي ذلك العلامة الطباطبائي قدس سره وشهيدنا الصدر قدس سره ـ فقد نري أن التأكيد في القرآن الكريم علي نوح وإبراهيم عليهما السلام، وجعل النبوة في ذريتهما، إنما هو إشارة إلي قضية الاِمامة واستمرارها في ذرية هذين النبيّين، ولا سيما أن النبي صلي الله عليه وآله هو ـ أيضاً ـ من ذرية إبراهيم عليه السلام، حيث أنه ينتمي إلي إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ونبينا هو دعوة إبراهيم عليه السلام، وبذلك تصبح القضية مرتبطة تماماً بهذه السلسلة المباركة للاَنبياء من ناحية، وهذه السنّة التي كتبها الله تعالي في الرسالات الاِلهية، وهي سنة التكريم والتشريف لهم، والنعمة الاِلهية عليهم. النقطة الثالثة: التي يمكن أن يشار إليها بهذا الصدد وهي أن قضية التشخيص في أهل البيت عليهم السلام، ليست مجرد عملية تكريم. [ صفحه 53]

حكمة الامامة في الذرية

وتشريف وفضل ونعمة أنعم بها الله تعالي علي أنبياءه، بل أن وراء ذلك أموراً أخري، يمكن أن نلاحظها عندما نريد أن ندرس هذه الظاهرة؟ وهي أمور ذات أبعاد: غيبية، وتاريخية، ورسالية، وإنسانية. وهذه الاَبعاد التي يمكن أن نلاحظها من خلال دراستنا للقرآن الكريم ومراجعتنا ومطالعتنا للرسالة الاِسلامية قد تفسر النقطتين السابقتين، ببيان الحكمة في هذا التكريم الاِلهي وهذا الاِتجاه الفطري في الاِنسان الذي تحول إلي سنة في مسيرة الاَنبياء، والله سبحانه وتعالي أعلم.

البعد الغيبي

أما ما يتعلق بموضوع البعد الغيبي، فهنا نلاحظ أن الله تعالي خلق الاِنسان بصورة وحقيقة ميزه فيها علي بقية المخلوقات، وجاء التعبير عن ذلك بالنفخ فيه من روح الله، قال تعالي: (ثُمَّ سَوَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاََْبْصَـرَ وَالاََْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون) [32] فالاِنسان ليس موجوداً مادياً متمحضاً في الجانب المادي فقط، وإنما فيه عنصر غيبي، وهذا العنصر الغيبي امتياز، شاء [ صفحه 54] الله تعالي أن يتعامل معه ـ أيضاً ـ من خلال الغيب، بمعني أن هناك الكثير من الاَسرار في حركة الاِنسان وحركة التاريخ الاِنساني ترتبط بالغيب، ولم يشأ الله تعالي أن يكشف هذه الاَسرار للاِنسان في هذا العالم، ولكن قد يكون لهذه الاَسرار أثر في تكامل حركة الاِنسان في حياته الدنيوية التي لها إرتباط ـ أيضاً ـ بالغيب في هذا العالم المشهود، وكذلك التكامل في حياته الاَخروية، لاَن الحياة المادية الدنيوية لهذا الاِنسان هي حياة محدودة، والحياة الحقيقية ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ إنما هي الحياة الآخرة، (وَمَا هذه الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاََْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [33] وهي الحياة الممتدة الطويلة الاَبدية الخالدة، وهذه الحياة الحقيقية هي حياة غيبية. فهناك الكثير من الاَسرار ذات العلاقة بالاِنسان، وحياة هذا الاِنسان لم تكشف لهذا الاِنسان، ولها تأثير في حياته في العالم الآخرة، بل ومن خلال حركة الاِنسان ـ أيضاً ـ في هذه الدنيا. وهذا الاَمر لابد أن نؤكد عليه دائماً في تفسير الكثير من الظواهر الاِنسانية، فانه لا يمكن أن نفسر الظواهر الاِنسانية بالتفسيرات المادية [ صفحه 55] فقط، لوجود الجانب الغيبي في الاِنسان، ومن ثم فلابد أن نفترض وجود جانب من التفسير يرتبط بهذا الغيب. وهذا الاَمر ليس مجرد فرضية واحتمال عقلي، وإنما يمكن أن نجد له شواهد من القرآن الكريم ـ أيضاً ـ فقد أشار القران الكريم إلي هذا الجانب الغيبي في الاِنسان وحركته التكاملية ـ كما ذكرنا ـ ومن ثم فيمكن أن نفترض في أهل البيت عليهم السلام ـ كما ورد في النصوص والروايات عن النبي صلي الله عليه وآله وعن أهل البيت عليهم السلام ـ وجود أسرار غيبية ترتبط بجعل الاِمامة بأهل البيت عليهم السلام،لها تأثير في حركة الاِنسان وتكامل هذه الحركة. أما الشواهد القرآنية التي تتحدث عن ارتباط الحركة التكاملية للاِنسان بالغيب، فهو ما نلاحظه في مجموعة من المؤشرات: الاَول: ما ذكرناه من أن الله تعالي خصّ الاِنسان من دون جميع الكائنات بهذا الوصف الخاص وهو أنه نفخ فيه من روحه. إذن، فهذا الاِنسان موجود ومخلوق يختلف عن بقية الكائنات التي لم توصف بمثل هذا الوصف، وترتبط بالله تعالي هذا الربط في جانب الخلقه. الثاني: ما يشير إليه القرآن الكريم في مجال خلق الاِنسان من أن الله تعالي عندما خلق الاِنسان، أخذ عليه عهوداً ومواثيق في عالم [ صفحه 56] الغيب، وليس في عالم الشهود والعالم المادي، كما يبدو ذلك من القرآن الكريم، قال تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيَ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيَ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَي شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَـفِلِينَ) [34] يعني أن الله تعالي انتزع من ظهور هؤلاء الناس ذريات، ثم بعد ذلك أشهدهم علي حقيقة من الحقائق الرئيسية في الكون والحياة وهي (الربوبية). وهذه الشهادة، لا ندركها الآن كأفراد نعيش الحالة المادية، فلا ندرك ونتذكر هذا الجانب من الشهادة والعهد والميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالي علي بني آدم في ذرياتهم، وشهدوا واعترفوا بذلك، وأنه سوف يحاسبهم الله تعالي في يوم القيامة ـ أيضاً ـ علي هذه الشهادة، لئلا يقول الاِنسان في يوم القيامة إني كنت غافلاً عن ذلك، فتكون الحجة لله. نحن الآن لاندرك ذلك بصورة مشهودة، فهو أمر غيبي في خلق الاِنسان، نعم قد ندرك بفطرتنا وبوجداننا هذه الحقيقة المعبرة عن هذا الجانب الغيبي وهذا الاِعتراف بالحقيقة الاِلهية، عندما تكون [ صفحه 57] الفطرة سليمة، ولكن هذا المشهد الذي يشير إليه القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة لا نحس به في حالتنا المادية ـ وإن كنا ندرك الحقيقة في وجداننا وفطرتنا، من خلال إيماننا بالله تعالي والاِعتراف بالربوبيه له تعالي ـ وإنما هو مشهد غيبي يتحدث عنه القرآن الكريم في أصل خلق الاِنسان، ومن ثم فهناك عنصر غيبي يتحكم في هذا الجانب. الثالث: والذي يمكن أن نستنبطه من القرآن الكريم ـ أيضا ـ هو حديث القرآن الكريم الواسع والكثير، الذي يمتد في عدد كبير من الآيات والمناسبات والآفاق حول (الاِصطفاء) و (الاِجتباء) في حركة التاريخ. القرآن الكريم في آيات كثيرة ومنها قوله تعالي: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَيَ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَي الْعَـلَمِينَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [35] يتحدث عن ظاهرة الاِصطفاء كظاهرة غيبية، وقضية من القضايا الاِلهية الغيبية التي لا تخضع للتفسيرات المادية سارية ـ أيضاً ـ في [ صفحه 58] حركة التاريخ، اصطفي الله تعالي آدم اصطفاءاً خاصاً، واصطفي نوحاً، ثم اصطفي إبراهيم وآل إبراهيم، ثم اصطفي عمران وآل عمران، وكذلك أكد القرآن الكريم أن هذا الاِصطفاء ليس أمراً واقفاً علي هذه الاَسماء وهذه الجماعات، وإنما هي قضية ذات إمتداد في الذرية، ذرية بعضها من بعض، يعني حركة تاريخية تتحرك في التاريخ الاِنساني، يمكن أن نسميها حركة الاِصطفاء، وكذلك قد تكون حركة في الاَسرة أو في الجماعة والاَمة. إذن، فلماذا لا يمكن أن نفترض وجود هذه الحركة وهذا العامل الغيبي في إصطفاء الله تعالي لآل محمد صلي الله عليه وآله، وهو ـ أيضاً ـ ما يشير إليه القرآن الكريم في مثل قوله تعالي: (...إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [36] ويتم تأكيد ذلك ـ أيضاً ـ في آية المباهلة وغيرها. إذن، فيمكن أن يكون هذا سرّاً من الاَسرار الاِلهية الغيبية التي لها دلالات معروفة ـ كما سوف نشير إلي بعضها ـ ولكن لها ـ أيضاً ـ دلالات وآثار في حركة التاريخ، وتكامل الاِنسان الدنيوي لا نعرفها في فهمناالمادي المحدود لحركة التاريخ، ويكون لها ـ أيضاً ـ أبعاد في [ صفحه 59] مستقبل حياة الاِنسان الاَخروية.

البعد التاريخي

البعد الثاني: البعد التاريخي، وقد أشار الشهيد الصدر قدس سره ـ في ما كتبه حول خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء ـ إلي هذا البعد التاريخي، إذ يذكر إننا نلاحظ في تاريخ الاَنبياء والرسالات الاِلهية أن الله تعالي اختار الاَوصياء والقادة ـ كما يعبّر الشهيد الصدر قدس سره ـ من أؤلئك الاَقربين للاَنبياء من أقاربهم أو ذرياتهم، وهذا نص كلامه: (في تاريخ العمل الرباني علي الاَرض نلاحظ أن الوصاية كانت تعطي غالباً لاَشخاص يرتبطون بالرسول القائد إرتباطاً نسبياً أو لذريته [37] . وهذه الظاهرة لم تتفق في أوصياء النبي محمد صلي الله عليه وآله فحسب، وإنما هي ظاهرة تاريخية اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل ويشير الشهيد الصدر قدس سره كشاهد علي هذه الحقيقة إلي الآيات القرآنية، كقوله تعالي: [ صفحه 60] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ...) [38] وكذلك قوله تعالي: في الآيات السابقة 38 ـ 78 من سورة الاَنعام. إذن، فهذه ظاهرة تاريخية، ومن ثم فقد طبقت ـ أيضاً ـ علي رسالة النبي صلي الله عليه وآله، بأعتبار أن الرسالة الخاتمة وإن كانت هي رسالة كاملة وبكمالها تتميز علي الرسالات السابقة، ولكن هذه الرسالة الخاتمة هي في الحقيقة إمتداد لتلك الرسالات الاِلهية، والنبي صلي الله عليه وآله جاء من أجل أن يصدِّق تلك الرسالات، ثم يهيمن عليها، وقد ورد في أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله ما يؤكد ذلك، وأن ما تشهده هذه الرسالة الخاتمة يتطابق تماماً مع ما شهدته الرسالات السابقة حتي جاء التعبير في مقام التطبيق الكامل قوله صلي الله عليه وآله: (لتركبن سنّة من كانت قبلكم حذو النعل بالنعل...) [39] . [ صفحه 61] إذن، فإذا كانت هذه الظاهرة هي ظاهرة تاريخية في الرسالات الاِلهية، وهو أن تكون الوصاية في أقرباء النبي القائد، فلماذا تختلف الرسالة الاِسلامية ـ بعد فرض ضرورة الاِمامة واستمرارها ـ عن هذه الظاهرة التاريخية التي هي موجودة في كل الرسالات الاِلهية؟! ولكن هذه الظاهرة التاريخية تحتاج إلي تفسير تاريخي، ولعل ذلك ـ والله العالم ـ لاَحد أمرين:

الجذر التاريخي و دوره

الاَمر الاَول: أن الوصي والاِمام عندما يكون له هذا الجذر التاريخي والاِرتباط النسبي بالرسالة، يكون إحساسه بالاِنتماء إليها وشعوره بالمسؤولية تجاهها، متجذراً بدرجة عالية جداً، وذلك حينما يري في نفسه فرعاً من شجرة طيبة أصيلة، تمتد في جذورها الرسالية عبر القرون في التاريخ الرسالي والاِنساني، وتمده بالعزم والاِرادة والصبر والصمود والقدرة علي تحمل المحن والآلام والشدائد والاِنتصارات والتقدم والبركة الاِلهية التي شهدتها هذه الشجرة الطيبة في تاريخها. ويؤكد هذا التفسير عدة مؤشرات، يمكن أن نلاحظها في القرآن [ صفحه 62] الكريم: الاَول: تأكيد القرآن الكريم علي الجذر التاريخي للرسالة الاِسلامية، مع أن الرسالة الاِسلامية هي أفضل الرسالات الاِلهية، وهي الرسالة المهيمنة عليها ـ كما ذكرنا ـ وهي الرسالة الخاتمة، ورسولها أفضل الاَنبياء علي الاِطلاق، ومع ذلك كله كان القرآن الكريم يؤكد علي هذا الجذر التاريخي والاِنتماء للاَنبياء السابقين، ولاسيما إبراهيم عليه السلام الذي ينسب إليه القرآن الكريم الاِسلام في مواضع عديدة، منها قوله تعالي: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ - وَوَصَّي بِهَا إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاِّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ - أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ إِلهاً وَحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [40] . بل أن إبراهيم عليه السلام هو الذي سمي الاَمة الخاتمة بهذا الاَسم منذ البداية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: (وَجَـهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ [ صفحه 63] أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّـكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللهِ هُوَ مَوْلَـكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [41] . الثاني: ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالي: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [42] فقد ذكرنا سابقاً أن وجود رسول الله كان بدعوة من إبراهيم عليه السلام، وقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله يفتخر بأنه كان دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام. الثالث: ذكْر القرآن الكريم لقصص الاَنبياء وتأكيده أن أحد الاَهداف لذلك هو تثبيت النبي، وطلب الصبر والثبات منه تأسياً بالاَنبياء السابقين (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...) [43] . [ صفحه 64] الاَمر الثاني: أن سنة الله في التاريخ تكامل الرسالات الاِلهية تدريجياً، وهي تمر عبر الرسالات المتعددة التي يكمل بعضها بعضاً، كذلك الحال في تكامل الرسل والاَنبياء والمرسلين، فانها يمكن أن تكون ـ أيضاً والله العالم ـ سنة تمر عبر التكامل في الجذر التاريخي للحركة الوراثية للنبي والاستمرار في الذرية وأهل البيت. وهذه السنة هي سنة قائمة في كثير من مظاهر الطبيعة مخلوقاته عزَّ وجلّ، فالشجرة الطيبة القوية المثمرة هي الشجرة ضاربة الجذور في الاَرض، بخلاف الشجرة الخبيثة. وكذلك الكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة التي ضربها الله مثلاً لها، فأنها هي التي تكون لها أصول وجذور. قال تعالي: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمآءِ - تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاََْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، وهذا بخلاف الكلمة الخبيثة، فهي كالشجرة الخبيثة، قال تعالي: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاََْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ) [44] . [ صفحه 65]

البعد الرسالي

البعد الثالث: البعد الرسالي، وما يترتب علي ذلك من تحقيق مصالح الرسالة وإعداد الاَفراد لمهماتها ومسؤولياتها، وتحمل أعبائها الثقيلة. فقد عرفنا في جواب السؤال الاَول أن عمر الرسول ـ عادة ـ يكون أقصر من عمر الرسالة وأعبائها ومهماتها، وهذا ما شاهدناه ـ أيضاً ـ في الرسالة الاِسلامية، فقد كان عمر رسول الله صلي الله عليه وآله محدوداً بالنسبة إلي أعبائها ومهماتها، حيث توفي رسول الله بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من البعثة الشريفة، وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها، والاِنجازات العظيمة التي حققها في هذه المدة القصيرة، فقد بقيت أعباء الرسالة الاِسلامية العالمية قائمة وموجودة إلي حد كبير في مجال التفهيم والتوضيح وفي مجال التطبيق والتنفيذ، حيث لم تتجاوز المساحة التي انتشر فيها الاِسلام الجزيرة العربية، من حيث الحركة والقدرة والسيطرة، وأن كان قد خاطب رسول الله بها الاَقوام المجاورين للجزيرة، أو دخل في بعض المعارك العسكرية معهم. بل كانت بعض الجيوب والمناطق في الجزيرة العربية نفسها لا [ صفحه 66] زالت غير مستكملة في التفاعل مع الرسالة الاِسلامية، كما يشير القرآن الكريم إلي ذلك في الحديث عمن يطلق عليهم اسم الاَعراب، من اؤلئك الناس الذين كانوا يعيشون في البوادي ولم يتعلموا الاِسلام أو يتخلقوا بأخلاقه. أو المؤلفة قلوبهم من ضعفاء الاِيمان والاِعتقاد من العرب الجاهليينالذين استسلموا للواقع السياسي والاجتماعي للهيمنة الاِسلامية والنصر الاِلهي، فأعلنوا دخولهم في الاِسلام، وإن لم يبلغ الاِيمان قلوبهم. أو اؤلئك المنافقين الذين أظهروا الاِسلام، ولكن أضمروا الكفر والعصيان والتمرد، ويشير القرآن الكريم إلي هذه النماذج في كثير من الموارد، ومنها في سورة التوبة والحجرات والمنافقين. وأفضل شاهد علي هذه الحقيقة السياسية والاجتماعية هو ما شاهده المسلمون من حركة الاِرتداد بعد وفاة رسول الله مباشرة في بعض مناطق الجزيرة العربية، أو مواقف بعض الاَشخاص والجماعات السلبية من أهل بيته. وإذا كان الوضع الثقافي والسياسي في الجزيرة العربية بهذه الصورة، فكيف الحال في خارجها، ومع هذا الوضع لا يمكن أن [ صفحه 67] نفترض بأن مهمات الرسالة قد انتهت بنهاية عمر الرسول صلي الله عليه وآله، وإكمال عملية البلاغ العام. نعم يمكن أن نقول بأن رسول الله صلي الله عليه وآله قد أنهي مهمة التبيين وإقامة الحجة ومهمة التأسيس وإقامة القواعد الاجتماعية ومهمة إيجاد الجماعة الاِنسانية التي يمكنها أن تتحمل هذه الاَعباء بصورة عامة. وعندئذٍ، فلابد من وجود الاِمامة، لتحمل هذه الاَعباء الثقيلة الاَخري بعده ـ كما ذكرنا سابقاً ـ ولكن تحمل هذه الاَعباء الثقيلة يحتاج إلي إعداد كامل يتناسب مع طبيعة وحجم هذه الاَعباء الضخمة التي سوف يتحملها هؤلاء (الاَئمة) بعد النبي صلي الله عليه وآله. وهنا يمكن أن نقول بأن عملية الاِعداد هذه التي يراد إنجازها من أجل تحمل هذه الاَعباء، إنما يمكن أن تتم في داخل البيت الرسالي بصورة أفضل وأكمل من إنجازها في خارج البيت الرسالي. وهذا ما أشار إليه الشهيد الصدر قدس سره في قوله: (فاختيار الوصي كان يتم عادة من بين الاَفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة ولم يروا النور إلا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الاِطار السليم لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره [ صفحه 68] الرباني. وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الاِطار، فلا أثر لها في حساب السماء قال تعالي: (وَإِذِ ابْتَلَيَ إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّـلِمِينَ) [45] . فالذرية عادة تكون قابلة ومهيئة للاِعداد الرسالي بصورة أفضل في حركة التاريخ الاِنساني [46] . [ صفحه 69]

الاعداد والواقع التاريخي

وهذه الفكرة إذا أردنا أن ننظر إليها من خلال الواقع التاريخي الذي عاشته الرسالة الاِسلامية، نراها ـ أيضاً ـ فكرة متطابقة تماماً مع هذا الواقع التاريخي، حيث نري أن الوصي الذي كان هو الاِمام علي عليه السلام قد احتضنه رسول الله صلي الله عليه وآله وهو طفل صغير، حيث تذكر بعض النصوص أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان قد تكفله بالتربية قبل البعثة، من خلال التخفيف من مسؤوليات الاِنفاق ـ أو المسؤوليات الاقتصادية إذا صح التعبير ـ عن أبي طالب. وبدأ الرسول صلي الله عليه وآله في هذه المرحلة بتربية علي عليه السلام، وبذلك ـ أيضاً ـ يجمع المسلمون ـ تقريباً ـ أن علياً عليه السلام كان أول من أسلم، وأنه لم يعرف في حياته عبادة الاَصنام أو عبادة غير الله سبحانه وتعالي، وهذا أمر يجمع عليه المسلمون، ولذلك عندما يذكر اسمه جمهور المسلمين، يخصونه بدعاء (كرّم الله وجهه)، وهم بذلك يشيرون إلي هذه الخصوصية لعلي عليه السلام، وهذه الخصوصية إنما كانت ـ أيضاً ـ [ صفحه 70] بحسب النظر إلي الظروف التاريخية ومن هذه الزاوية، بسبب إعداد رسول الله صلي الله عليه وآله لعلي عليه السلام. طبعاً، العنصر الغيبي، في الاِصطفاء والاِعداد ـ كما ذكرنا ـ قائم في نفسه مع العناصر الاَخري، ولكن من هذه الزاوية وهذا الجانب نري ـ أيضاً ـ هذه الحقيقة قائمة. مضافاً إلي ذلك، ما تشير إليه النصوص التاريخية وتؤكده روايات بعض الاَشخاص ـ حتي ممن لم يكن يميل إلي علي عليه السلام من الناحية الروحية والنفسية ـ من إعداد رسول الله صلي الله عليه وآله لعليّ عليه السلام علمياً ومعنوياً، فيما كان يسارّه في ليله ونهاره، لاَن عليّاً عليه السلام كان قريباً من رسول الله صلي الله عليه وآله، بحيث كان يأخذ منه العلم والاَخلاق في كل مناسبة، بل في كل وقت. والكلمة معروفة عن النبي صلي الله عليه وآله، وعن عليّ عليه السلام بهذا الشأن، أما عن النبي، فهي عندما قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) [47] وأما [ صفحه 71] عن عليّ عليه السلام، فهي عندما قال: (علمني رسول الله صلي الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب) [48] . هذه الحقيقة إذا أردنا أن ننظر إليها من الناحية التاريخية والمادية، نراها كانت قائمة من خلال هذا الاِقتراب في دائرة عليّ عليه السلام من النبي صلي الله عليه وآله، حيث تربي في حضن رسول الله صلي الله عليه وآله وهو ابن عمه، تزوج من ابنته، فكان رسول الله صلي الله عليه وآله يدخل إلي بيت عليّ كما يدخل إلي بيته، وعليّ يدخل علي رسول الله كما يدخل إلي بيته. هذه العلاقة كانت موجودة بدرجة عالية، الاَمر الذي أثار ـ أحياناً ـ غيرة بعض نساء النبي صلي الله عليه وآله أو حساسية، أو أي تعبير آخر يمكن أن نقوله أو نعبر عنه في هذا المقام بصورة مناسبة [49] . [ صفحه 72] إذن، فمن الناحية الواقعية والخارجية ـ أيضاً ـ نشاهد بأن التاريخ يؤكد علي هذه العملية وهذه الفكرة والنظرية، وكان لها واقع خارجي في الرسالة الاِسلامية من خلال إعداد عليّ عليه السلام، وقد تحدث عليّ عليه السلام شخصياً فيما روي عنه ذلك، كما تحدث أئمة أهل البيت ـ أيضاً ـ عن ذلك، وهو ما سوف نشير إليه ـ إن شاء الله ـ في بعض الاَبحاث الآتية. [ صفحه 73]

الاعداد والنظام العام

ومن الطبيعي ـ أيضاً ـ أن نفترض، كما نفترض في عقائدنا بأن هؤلاء الاَئمة يمكن أن تتحقق لهم الاِمامة دون هذا الاِعداد، لاِن الله تعالي قادر علي كل شيء، ولا يمنعه شيء من إلهام الاَشخاص والاَفراد ـ لحكمة ـ بكل المعلومات دون ذلك الاِعداد السابق، هذا الشيء يمكن أن نفترضه، وفيه الكثير من الواقع والحقيقة بالنسبة إلي الكثير من الاَفراد الذين عرفهم التاريخ [50] ولكن في الوقت نفسه يمكن أن نفترض أن النظام العام في الحركة الاِجتماعية للاِنسان يراد لها أن تسير في الكثير من الموارد، حسب النظام العام، وليس من المفروض لها دائماً أن تكون خارجة عن النظام العام، إلا بقدر الحاجة إلي هذا الاِستثناء، كما هو الحال في موارد المعجزة مثلاً، وهذا يعني أنه مادام الاِعداد ممكناً حسب النظام العام، فسوف يتم كذلك ويكون الاِستثناء عند الحاجة والضرورة، فيتم الاِعداد من خلال نظام آخر وهو النظام الغيبي. إذن، فالطريق الطبيعي للاِعداد الاَفضل والتأهيل الاَكمل إنما يكون في دائرة البيت القريب، ويمكن أن نري هذا الشيء في معالم أخري من التاريخ، وفي مفردات وصور عديدة. وهذه الظاهرة نراها قد تجسدت ـ أيضاً ـ في الاَسر العلمية الشريفة في تاريخ جماعة أهل البيت عليهم السلام، حيث قامت بأعمال شريفة في هذا التاريخ، وتحملت مسؤوليات كبيرة في مختلف أدوار التاريخ. [ صفحه 74] فأننا عندما ننظر إلي تاريخ ما بعد الغيبة الصغري، بل حتي في تاريخ زمن أئمة أهل البيت عليهم السلام نلاحظ أن هناك ظاهرة كانت موجودة وقائمة في جماعة أهل البيت، وهي ظاهرة وجود الاَسر العلمية، مثلاً أسرة زرارة بن أعين، هذه الاَسرة كانت تعّرف كأسرة بحيث كان جميع رجالها ثقات، أو أسرة بني فضّال هذه الاَسرة كانت ـ أيضاً ـ تعّرف كأسرة، أو أسرة الاَشعريين الذين أقاموا اُسس العلم في مدينة قم المقدسة، أمثال سعد الاَشعري وأسرته، وهكذا نلاحظ أسرة بني بابويه الذين كان لهم دور عظيم جداً كأسرة، حيث عندما نرجع إلي التاريخ نجد أن هؤلاء يمثلون عدداً كبيراً جداً من العلماء والفضلاء الذين كانوا يتحملون هذه المسؤوليات، وهكذا يتسلسل هذا الاَمر، ولا أريد الآن أن أطيل الحديث في ذكر الشواهد، ولكن عندما يرجع الاِنسان إلي التاريخ، يجد أن هذا الاَمر كان من الاَمور الواضحة جداً في جماعة أهل البيت عليهم السلام وفي علماء أهل البيت، بحيث كانت هناك أسر علمية تتوارث هذا العلم جيلاً بعد جيل حتي أوصلت هذا العلم إلي هذا العصر، وهذا التوارث إنما كان باعتبار هذه الخصوصية، وهي إن عملية الاِعداد والتربية التأهيل في إطار البيت الواحد تكون أسهل [ صفحه 75] مما تكون هذه القضية في خارج البيت الواحد [51] .

البعد الاجتماعي

البعد الرابع: البعد الاجتماعي، وهو ما يترتب علي الاِختصاص بأهل البيت من مصالح اجتماعية في التأثير علي حركة الاَمة وهدايتها وارتباطها بالرسالة الاِسلامية وصاحبها، حيث أن هذه الاِمامة التي تريد أن تقوم بهذه المسؤوليات الكبيرة أو الضخمة في المجتمع الاِنساني تحتاج إلي مؤهلات اجتماعية، كما تحتاج إلي المؤهلات الروحية والفكرية. كما أن الناس في حركتهم الاجتماعية والروحية والنفسية يتأثرون بمثل هذا العامل الاِنساني، وينظرون إلي الشرف والاِصالة في [ صفحه 76] الاِنتماء وتكامل الاَسرة والعائلة والعشيرة والقبيلة نظرة معنوية وإنسانية واجتماعية خاصة. أما بالنسبة إلي حاجة الاِمامة إلي المؤهلات الاجتماعية، فهو من الاَمور التي يشار إليها في أبحاث علم الكلام. من قبيل أن لا يكون في النبي أو الاِمام نقص في الاَعضاء مخلاً بوضعه الاجتماعي، أو أن لا يكون النبي أو الاِمام وضيعاً في المجتمع الاِنساني أو من عائلة وضيعة وغير شريفة، أو ممتهنا لحرفة ومهنة وضيعة، إلي غير ذلك من القضايا التي يشار إليها في علم الكلام عند الحديث عن مواصفات الاَنبياء والاَئمة الذين يتحملون هذه المسؤولية. وأما بالنسبة إلي تفاعل الناس وتأثرهم بهذا العامل الاجتماعي، فهو أمر مشهود في تاريخ الاَمم والمجتمعات الاِنسانية السابقة واللاحقة يتفاضلون فيه، ويفتخرون ويتأثرون به، لاَنه عامل إنساني واقعي في الحركة التاريخية وله تأثير إيجابي في حركة الاَمم وبناء المجتمع، وإن لم يكن من العوامل المؤثرة في تكامل الاِنسان كفرد عند الله تعالي، أو مما يدخل في حسابه يوم القيامة، كما تشير إلي ذلك النصوص الدينية، ومنها قوله تعالي: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [ صفحه 77] فَلاََ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ) [52] ولكنه علي أي حال من العوامل المؤثرة في حركة التاريخ الاِنساني والعلاقات الاِنسانية [53] .

خلفيات البعد الاجتماعي

ولعل مرجع هذا العامل إلي عدة قضايا، نفسية، واجتماعية، وفطرية. اما القضية النفسية، فهي تأثر الاِنسان روحياً بمعالم العز والشرف والكرامة والمنجزات العلمية والاجتماعية. وأما القضية الاجتماعية، فهي ـ ما أشرنا إليه في البعد الثالث ـ من أن التأهيل والاِعداد في بيوت الشرف والكرامة والعز والطهارة، يكون بصورة طبيعية لتحمل المسؤوليات، وإنها تنبت الشرف والكرامة والعز والطهارة بموجب السنة والقاعدة القرآنية (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ [ صفحه 78] يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا...) [54] وهو أمر يدركه الناس من خلال رؤيتهم للتاريخ وحركة النظام العام للمجتمع الاِنساني، وإن كان قد يشذ بعضهم عن هذه القاعدة. ولذا ورد التأكيد في الاِسلام، في عدة موارد علي هذا الاِتجاه في الزواج وفي المشورة، وفي المصاحبة والصداقة والمعاشرة. وأما الجانب الفطري، فهو يرتبط بنظرة الاِنسان الفطرية التي أكدتها الشريعة الاِسلامية، وهي أن تكامل المجتمع الاِنساني بصورة عامة يقوم علي تكامل الاَسرة والعائلة والقبيلة. وهذا بحث اجتماعي مهم له مجال آخر، ولكن بنظرة إجمالية يمكن أن نقول: أن الاِسلام يري أهمية تكامل الاَسرة وارتباطها وامتدادها التاريخي في القبيلة والعشيرة، وإن ذلك هو الطريق الاَفضل لتكامل المجتمع الاِنساني بصورة عامة، إذا أردنا تنظيم هذا المجتمع بصورة صحيحة ومحكمة وقوية. وإن هذا التنظيم القوي، يعتمد علي عنصرين رئيسيين: العنصر الاَول: هو إحكام علاقات الاَسرة التي يفترض أن يتم إحكامها، كما حث الاِسلام علي ذلك من خلال الزواج والعلاقات [ صفحه 79] الزوجية القائمة علي أساس الحقوق المتبادلة، وتهيئة ظروف الاِستقرار والسكن والمودة والرحمة، وكذلك من خلال الاِرتباط بين العشائر والقبائل والاَسر المختلفة، ولذلك كان من الاِتجاهات في تكوين الاَسرة أن يتزوج الاِنسان من خارج دائرة الاَقربين، لاِيجاد حالة التكامل الاجتماعي العام بين المفردات الرئيسية في المجتمع، وهي القبائل والاَسر، وقد يكون في ذلك ـ أيضاً ـ تكامل جسمي (فسيولوجي)، كما يذكره الاَطباء، ولكن فيه ـ أيضاً ـ تكامل اجتماعي من الناحية الاجتماعية، لاَن إيجاد الروابط بين القبائل والاَسر يكسر الحواجز النفسية والاجتماعية الموجودة بين هذه القبائل والعشائر والاَسر التي قد تكون معيقة لتكامل المجتمع وحركته عندما تصبح كبيرة وعالية، وتمنع من وحدة المجتمع وتخلق العصبية العشائرية أو الاجتماعية، وبذلك تصبح الاَسرة والعشيرة أحد الاَعمدة الاَساسية والرئيسية في البناء القوي للمجتمع في نظرية الاِسلام. العنصر الثاني: هو قضية بناء العشيرة والقبيلة نفسها، حيث يمكن أن يقال بأن هناك إتجاه في الاِسلام إلي تثبيت دعائم العلاقات الاَسرية والقبلية والعشائرية، لا إلي تفكيكها وإضعافها، وذلك من خلال ما ورد في التأكيد علي صلة الاَرحام، بدرجة تصل ـ أحياناً ـ إلي [ صفحه 80] مرحلة الاِلزام في الوجوب والحرمة، حسب اختلاف هذه الصلة ودرجتها، فان قطيعة الرحم حرام، ووجود أصل الصلة واجب من الواجبات الشرعية. وكذلك ـ من خلال ما يشير إليه القرآن الكريم ـ في قضية التوارث، حيث أن التوارث في المال وضع في إطار علاقات الاَرحام، لقوله تعالي: (...وأُولُواْ الاََْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَـبِ اللهِ...) [55] وحتي وصل بها الاِسلام إلي العلاقات البعيدة نسبياً، من قبيل علاقة الولاء، وهي عندما يدخل الاِنسان في ولاء أسرة من الاَسر وتتقطع سلسلة الاَقرباء من المواريث، فيتحول الميراث إلي الاَولياء، أي إلي اؤلئك الذين يكونوا قد دخلوا في العشيرة عن طريق علاقة الولاء، إذن، هذا يعّبر عن إتجاه لتحكيم هذه الاَواصر وربط بعضها ببعض. وكذلك نلاحظ أن من التشريعات الموجودة في النظرية الاِسلامية التي تؤكد هذا الاِتجاه، قضية وقف الذرية، فأن الوقف علي أقسام ـ كما يعرف الاَخوة الاَعزاء والاَفاضل الدارسين للفقه ـ وأحد أقسام الوقف هو الوقف الذي يوضع لخصوص الذرية، أي يتسلسل في [ صفحه 81] الورثة، ويتحول في طبقات الورثة، حسب شرط الواقف، أو يشركهم فيه، بكل طبقاتهم ومراتبهم، فان هذا الحكم يؤشر علي أن الاِسلام يتجه إلي تحكيم أواصر العشيرة والاَسرة الواحدة.

الاسلام والعلاقات العشائرية

وكذلك المفاهيم الواسعة التي طرحها القرآن الكريم في تفسير المفردات الاجتماعية وطبيعة علاقاتها، من تقسيم الاِنسان إلي شعوب وقبائل قال تعالي: (يَـَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَـكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَـكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [56] فأن الناس وإن كانوا قد خلقوا من ذكر وأنثي، ولكنهم قد قسموا إلي شعوب وقبائل، لتقوم علاقات التعارف والتعاون بينهم، فهو تقسيم معترف به إسلامياً. وهكذا عندما يتحدث القرآن الكريم عن موضوع (الولاء)، حيث يشير ـ أيضاً ـ إلي أن قضية الولاء في داخل العشيرة أمر طبيعي مثل ولاء الاَباء والاَبناء والاِخوان، فهو ولاء مقبول، ولكنه يجب أن يكون في إطار ولاء الله تعالي، ولا يصح أن يخرج عن حالة الولاء لله تعالي، [ صفحه 82] أو أن يكون في مقابل الولاء لله تعالي، وأعطي القرآن الكريم عناوين عديدة لذلك في التأكيد علي هذا النوع من الولاء في آيات عديدة (...وأُولُواْ الاََْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَـبِ اللهِ...) [57] ، وكذلك التأكيد عليه في مجال الاِنفاق علي ذوي القربي ـ كالتأكيد علي الاِنفاق علي المساكين والمحتاجين ـ كمورد من موارد الاِنفاق. وفي الجملة نلاحظ في الكثير من معالم الشريعة الاِسلامية وجود هذا الاِتجاه في تحكيم أواصر العشيرة والاَسرة والقبيلة، لا علي تفكيكهاوإضعافها. وهذا التحكيم ـ كما ذكرت ـ إنما يكون صحيحاً في إطار الشيء الاَعظم والاَهم من العلاقة، وهو حب الله سبحانه وتعالي، والولاء لله تعالي والاِرتباط به ولا يكون خارجاً علي ذلك، وفي داخل هذا الاِطار العام، كما أكد عليه قوله تعالي: (قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّي [ صفحه 83] يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ) [58] . وبهذا نري أن الاِسلام عندما أراد بناء المجتمع، وضع أحد الاَسس التي تحكم هذا البناء الاجتماعي وتجعله أكثر ترابطاً هو إحكام هذه العلاقات الاَسرية بين هؤلاء الناس، وحاول في الوقت نفسه أن يعالج خطر تحول العشيرة إلي صنم يعبد من دون الله بإسلوبين: أحدهما: تأكيد أن يكون هذا الولاء ضمن إطار الولاء لله تعالي. والآخر: هو كسر الحواجز الاجتماعية والنفسية التي قد تنمو بين الشعوب والقبائل من خلال الحث علي التعارف بينها والزواج والاِتصال والمساواة في القيمة الاِنسانية. وهذا الاَمر في الواقع يمكن أن يذكر كأحد العناصر المهمة في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية، ولذلك نري المجتمع ينظر إلي ابن الاَسرة وإلي ابن البيت الذي يكون قريباً من صاحب البيت ينظر له ويتفاعل معه، نظرة تختلف عن نظرته إلي الاَجنبي عن ذلك البيت، وهذه الحقيقة من الحقائق القائمة اجتماعياً. ولذلك نحن ننظر إلي الزهراء عليها السلام في قربها لرسول الله صلي الله عليه وآله من خلال [ صفحه 84] أمور كثيرة، ولكن أحد هذه الاَمور التي ننظر فيها الي الزهراء عليها السلام هي هذا القرب من رسول الله صلي الله عليه وآله [59] . إذن، فهذا الاِنتماء يعطي الوصي والخليفة والاِمام موقعاً (اجتماعياً) متميزاً في الحركة الاجتماعية، ولعل ذلك أحد العوامل والاَسباب في هذا الاِمتداد. [ صفحه 87]

الائمة الاثنا عشر

اشاره

وهنا قد يثار سؤال ثالث يرتبط بهذا الموضوع، وهو أنه إذا كان استمرار الاِمامة في أهل البيت عليهم السلام ضرورياً، فماذا عن تعين عدد الاَئمة الهداة في الاِثني عشر إماماً فقط، دون أن يكون باب الاِمامة مفتوحاً في أهل البيت بصورة عامة، كما يذهب إلي ذلك بعض فرق الشيعة، كالاِسماعيلية والزيدية، فما هو تفسير هذه الظاهرة التي يتبناها خصوص الاِمامية الاِثني عشرية، حيث أنهم يتبنون ضرورة استمرار النبوة في الاِمامة، كما يتبنون استمرار ضرورة أن تكون هذه الاِمامة في خصوص أهل البيت، ويتبنون في الوقت نفسه أن تكون الاِمامة في أثني عشر دون التوسع في أعداد الاَئمة؟ وعندما أتحدث عن الاِمامة ـ طبعاً ـ أتحدث عن الاِمامة المعصومة التي تكون في هذا العدد الخاص، فما هو تفسير هذه الظاهرة؟ وفي هذا الموضوع يوجد جانبان من البحث: [ صفحه 88]

ادلة العدد المحدود

الجانب الاَول: جانب يرتبط بعلم الكلام، وهوجانب مهم جداً، يذكر في هذا المجال مجموعة من الاَدلة والقرائن التي تؤكد هذه الحقيقة، وسوف نتناول ـ إن شاء الله في القسم الثاني من البحث ـ هذه الاَدلة والقرائن، ولكن أشير إلي بعض عناوينها: أولاً: هناك نصوص عديدة يجمع عليها المسلمون وردت عن النبي صلي الله عليه وآله، تؤكد أن الخلفاء بعد رسول الله هم هذا العدد، أي أثني عشر خليفة [60] ، وهذه النصوص يمكن أن يستدل بها علي ثبوت هذه الحقيقة. ثانيا: أن هناك نصوص أخري ـ أيضاً ـ وردت عن أهل البيت عليهم السلام تؤكد هذه الحقيقة [61] (وأهل البيت أدري بما فيه)، أي أن علياً عليه السلام لا يشك أحد من المسلمين في صدقه ومعرفته، وهكذا بالنسبة إلي فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، لا يشك أحد من المسلمين في صدقهم وعلمهم ومعرفتهم، فعندما ترد النصوص عن أئمة أهل [ صفحه 89] البيت عليهم السلام تجدهم موضع الاِحترام والتصديق المطلق من قبل المسلمين، وهي تؤكد ـ أيضاً ـ هذه الحقيقة، وهذا يمكن ـ أيضاً ـ أن يشكل قرينة ودليلاً وبرهاناً علي صحتها. ثالثاً: يؤكد ذلك ـ أيضاً ـ شخصية أئمة أهل البيت عليهم السلام التي تتميز هذه الشخصية بمواصفات لا نعرف لها نظيراً في التاريخ الاِسلامي، في خصائصها ومواصفاتها، والحديث في هذا الموضوع ـ كما قلت ـ له مجاله الخاص، وسوف نشير إلي هذه الخصائص والمواصفات، بحيث يتبّين بصورة واضحة أن هؤلاء الاَئمة الاثني عشر يتصفون بمواصفات وخصائص لا يشبههم فيها أحد من الناس. رابعاً: أن دراسة الجماعة الصالحة ـ التي ألتزمت بهذه العقيدة وآمنت بها ـ في خصائصها ومواصفاتها وطبيعة حركتها ونموها وتطورها المستمر في خطها البياني يؤكد ـ أيضاً ـ هذه الحقيقة، وهذا بحث يحتاج إلي شرح وتوضيح، يأتي في محله ـ كماقلنا ـ إن شاء الله. وهذه الاَمور الاَربعة نؤجل البحث فيها إلي وقت آخر. [ صفحه 90]

تفسير العدد المحدود

ولكن يبقي عندنا الجانب الآخر، وهو ما نريد أن نبحثه في عرض النظرية وهو تفسير هذه الظاهرة مع قطع النظر عن هذه الاَدلة، ما هو تفسير أن يكون العدد محدوداً بهذه الصورة، مع أن الرسالة الاِسلامية رسالة خاتمة، والاَمة الاِسلامية أمة باقية حتي تقوم الساعة؟ ولماذا توضع الاِمامة محصورة بعدد معيّن من الناس، ويكون هذا العدد هو أثني عشر؟ هذه القضية تحتاج إلي تفسير كبقية الظواهر الكونية والاجتماعية، بما ينسجم مع نظام الحكمة الاِلهية، ومع قطع النظر عن الاَدلة السابقة المشار إليها التي نستدل بها في علم الكلام، من أجل تصديق هذه الظاهرة، وبيان نسبتها إلي الاِسلام وإلي الرسالة الاِسلامية. في تفسير هذه الظاهرة يمكن أن نشير إلي أمرين رئيسيين:

التفسير الغيبي للظاهرة

الاَمر الاَول: هو الاَمر الغيبي، فقد ذكرنا في حديثنا عن النظرية وهنا ـ أيضاً ـ نذكر ذلك، وسوف نبقي نؤكد هذا الموضوع أن الرسالة الاِسلامية وكل الرسالات الاِلهية هي ظواهر غيبية، مرتبطة بعالم [ صفحه 91] الغيب، وحياة الاِنسان الذي أرسلت إليه هذه الرسالات ـ أيضاً ـ فيها جانب غيبي، لاَن الله تعالي وإن كان قد خلق الاِنسان من طين لازب، ومن ثم ففيه هذا العنصر المادي، فهو لحم وعظم ودم، وغير ذلك مما يتمثل فيه الجانب المادي في الاِنسان، ولكن الله تعالي قد خص الاِنسان بخصوصية دون غيره من المخلوقات المنظورة، وهو أنه نفخ فيه من روحه، وهذه الخصوصية لا نراها في أي موجود آخر يتحدث عنه القرآن الكريم، وقد تكون موجوده في مخلوقات عالم الغيب التي لا نعرفها، وهي خارج النظام الكوني المشهود. كما أن حياة الاِنسان ليست مختصة بهذه الحياة المادية وهي الحياة الدنيا، وإنما الحياة الحقيقة لهذا الاِنسان الدائمة الاَبدية المستمرة هي الحياة الآخرة وهي حياة غيبية. ثم أن هذه الحياة الدنيوية فيها جانب غيبي في مستقبل زمانها وتاريخها، وهو ما تشير إليه بعض الآيات والروايات العديدة عن أهل البيت، من (الرجعة) التي قد تمثل دورة ومرحلة جديدة للحياة الاِنسانية، تعبر عن الكمال فيها [62] . [ صفحه 92] إذن، فالرسالة رسالة غيبية، والاِنسان نفسه فيه جانب غيبي، وحياة الاِنسان ـ أيضاً ـ فيها جانب أعظم وأهم وهو الجانب الغيبي، فعنصر الغيب لابد أن ننظر إليه دائماً عندما نريد أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بالاِنسان وحركته، ولا يمكن أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بحركة الاِنسان بالتفسيرات المادية المحضة، أو المدركة والمشهودة وحدها، وإنما يمكن أن يكون وراء الكثير من الظواهر القائمة في حياة الاِنسان أسباب وعناصر غيبية، لا يمكن للاِنسان أن يعرف كل أبعادها وكل خصوصياتها. وفي هذه الظاهرة يمكن أن نفترض وجود العنصر الغيبي ـ أيضاً ـ لاَن الله سبحانه وتعالي يصطفي من عباده من يشاء وله في أولياءه أحكام خاصة، ذات علاقة بهؤلاء الاَنبياء، وقد أشار القرآن الكريم إلي ذلك في عدة آيات. كما أن هذا الاَمر ليس أمراً غريباً في تاريخ الرسالات الاِلهية، فمثلاً [ صفحه 93] نلاحظ أن الاَنبياء اُولي العزم كانوا خمسة، وقد يطرح هذا السؤال: لماذا لم يكونوا ستة أو سبعة أو عشرة، أي لماذا كان إختصاص النبوة بهذه الدرجة العالية خاصة بهذا العدد من الاَنبياء المعيّن، فنحن نعرف من خلال حركة النبوات أن الاَنبياء اُولي العزم الذين أشار إليهم القرأن الكريم هم خمسة (نوح، وإبراهيم، وموسي، وعيسي، ونبينا محمد صلي الله عليه وآله)، قال تعالي: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّين مِيثَـقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَـقًا غَلِيظًا) [63] ونري أن هذه ظاهرة في النبوات أشار إليها القرآن الكريم، قد لا نعرف لها تفسيراً محدداً إلا التفسير الغيبي في رؤية حركة التاريخ الرسالي. وهكذا نلاحظ ذلك في الكثير من الظواهر التي نراها في الاِسلام من قبيل اختصاص العبادات بهذه العبادات الخاصة، ولم تكن هناك عبادات أخري، واختصاص الصلوات اليومية الواجبة بالصلوات الخمسة، واختصاص هذه الصلوات الخمسة بالركعات السبعة عشر، إلي غير ذلك مما نراه من اختصاصات في الاَعداد، الذي يمكن أن يكون له تأثير في حياة الاِنسان الدنيوية والاَخروية، ولكنه تأثير في [ صفحه 94] الغيب غير المنظور والمعروف لنا بصورة كاملة، كما أن ظاهرة وجود الاَعداد المعّينة الخاصة في الاِصطفاء ليست ظاهرة مختصة بهذه القضية وفي هذه الاَمة حتي يقال أن هذه ظاهرة غريبة، وإنما توجد ظواهر أخري مماثلة لها في الاَمم السابقة. ومن هذه الظواهر التي تقرب هذا المعني، ظاهرة النقباء الاِثني عشر في بني إسرائيل، والذين يشير إليهم القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالي: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَـقَ بَنِيَ إِسْرََءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَوةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لاََُّكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـََاتِكُمْ وَلاََُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاََْنْهَـرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ) [64] . وقضية النقباء الاِثني عشر ـ أيضاً ـ هذه قد تكون المثال لما يجري في الاَمة الاِسلامية الخاتمة، حيث أشرت في حديث سابق ما ورد عن رسول الله صلي الله عليه وآله من تطابق الاَحداث في الاَمة الاِسلامية بما يجري في الاَمم السابقة حذو النعل بالنعل، كما جاء في تعبير بعض [ صفحه 95] النصوص أو القذة بالقذة كما جاء في بعض آخر منها، وهي نصوص متواترة يرويها جميع المسلمين بهذا المضمون. وقد تكون ظاهرة الاِثني عشر إمام متطابقة مع تلك الظاهرة التي شهدتها أمة بني إسرائيل التي هي ـ أيضاً ـ من الاَمم المصطفاة والمنتخبة والتي فضّلها الله سبحانه وتعالي في بعض أدوار التاريخ، وجعل منهم أنبياءً وملوكاً، وخصهم ـ أيضاً ـ بهذه الظاهرة الاَثني عشرية ـ إذا صح التعبير ـ في خصوصية بني إسرائيل، وهي نكتة أخري يمكن أن تؤكد الجانب الغيبي، أو تضيف إليه بعداً آخر. وكذلك يؤكد هذه الظاهرة في بعدها الغيبي، ما ورد في شأن انتخاب رسول الله صلي الله عليه وآله للنقباء الاِثني عشر من الاَنصار في بيعة العقبة، من قوله صلي الله عليه وآله ـ علي ما رواه ابن إسحاق وابن سعد ـ: (اخرجوا إليّ إثني عشر منكم، يكونوا كُفلاء علي قومهم كما كفلت الحواريون بعيسي بن مريم ولا يجدن أحدكم في نفسه أن يؤخذ غيره فانما يختار لي جبريل) [65] . وبذلك يشير هذا الحديث إلي خصوصيتين: إحداها: ذات علاقة بالعدد المذكور من تاريخ الاَنبياء، وهو عدد [ صفحه 96] الحواريين الاِثني عشر، الذي يؤكد ـ أيضاً ـ هذه الظاهرة، وقد ورد تأكيد هذا العدد فيهم في روايات أخري. ثانيها: أن هذا الاختيارهو اختيار غيبي، يرتبط بقرار إلهي يبلغه جبرائيل عليه السلام. إذن، فهذا الجانب الغيبي يمكن أن يكون تفسيراً لهذه الظاهرة.

التفسير التاريخي للظاهرة

الاَمر الثاني: الذي يمكن أن نذكره بهذا الصدد في تفسير هذه الظاهرة، هو أمر له بعد مادي، بُعد في فهم حركة التاريخ، وتفسير هذه الحركة، وذلك بأن نفترض بأن المدة (الاعتيادية) لهؤلاء الاَئمة الاَثني عشر الذين تحدث عنهم رسول الله صلي الله عليه وآله (الاَئمة الاَطهار من أهل البيت عليهم السلام) هي بين (350 ـ 400) سنة، إذا كانت أعمارهم أعمار اعتيادية بالنسبة إلي الظروف التي كان يعيشها الناس في الآباء والاَبناء. وإذا كان الاَمر كذلك، فيمكن أن نقول أن هذه المدة تمثل الدورة الزمنية التي يمكن أن يتم فيها إعداد الاَمة الخاتمة إعداداً كاملاً في جميع أبعادها، بحيث تصبح أمة مؤهلة لاِستلام الخلافة الاِلهية كأمة [ صفحه 97] وجماعة، وذلك عندما تصبح أمة متكاملة اجتماعية بدرجة يكون التكامل فيها كصفة ثابتة، وتنتقل بذلك ـ حينئذٍ ـ إدارة الحياة الاجتماعية من الاَشخاص المنتجبين الاَصفياء الذين كانوا ينتخبون لها كأنبياء وأئمة للقيام بدور الخلافة والحكم إلي الاَمة الجماعة، أي عندما تبلغ الاَمة مرحلة دور الوحدة الاِنسانية الكاملة في تطبيق الرسالة الاِلهية، ودور تجسيد إرادة المستخلِف الذي هو الله الذي يؤهلها لهذه الخلافة الاِلهية، بعد أن كانت البشرية قد مرت بأدوار الوحدة الفطرية والاِختلاف في العبادة والاِختلاف في الرسالة، ويبقي دور الاِمامة فيها ـ عندئذٍ ـ دور المحافظة علي هذا التكامل والشهادة والرقابة علي مسيرة الاَُمة وإقامة الحجة علي الناس، وكذلك المحافظة علي العلاقة والرابطة بين السماء والاَرض في حفظ النظام والحياة..إلي غير ذلك من الخصوصيات الاَخري التي أشارت إليها النصوص الشريفة [66] . [ صفحه 98]

منهج البحث التاريخي للاعداد

وهذا الموضوع وهو الدورة الزمنية لاِعداد الاَمة، وإن كان يحتاج إلي بحث تاريخي واجتماعي واسع له مجال آخر، ولكن أشير هنا إلي بعض أبعاده وخطوطه النظرية والمنهجية كمحاولة لتفسير هذه الظاهرة الرسالية. الاَول: بحث نظرية الاَدوار التي مرت بها البشرية في الوحدة والاِختلاف وعوامل الوحدة والاِختلاف فيها، ومنهج الرسالات الاِلهية في معالجة هذه الاَدوار، وتوضيح الهدف الرئيس لها وهو إقامة الوحدة البشرية علي أساس الرسالة الاِلهية ودعائم الحق والعدل المطلق. وهذا الهدف هو ما أكدته الرسالات الاِلهية والقرآن الكريم وبشر به جميع الاَنبياء، ومنهم نبينا محمد صلي الله عليه وآله، وذلك في الاَخبار عن قيام المهدي عليه السلام من أهل البيت الذي يحقق هذا الهدف، فيملاَ الاَرض [ صفحه 100] قسطاً وعدلاً، وهو ما تفرضه ـ أيضاً ـ طبيعة الرسالة الخاتمة الاِسلامية، التي لابد أن تحقق في إطارها الخاص ومرحلتها الخاصة هذا الهدف الاِنساني الاِلهي الكبير، مع ملاحظة أن هذا الهدف لم يتحقق ـ كما أشرنا سابقاً ـ في زمن صاحب الرسالة وهو النبي الاَعظم صلي الله عليه وآله [67] .

الاهداف الرسالية الثلاث

الثاني: أن تحقيق هذا الهدف الكبير في حركة الرسالة الاِسلامية، يحتاج إلي تحقيق ثلاثة أمور: الاَمر الاَول: إبلاغ هذه الرسالة للناس لهدايتهم بصورة طبيعية، بحيث تقام الحجة في عملية الاِبلاغ علي الناس، وتتحرك عملية الاِبلاغ لتصل إلي البشرية كلها ولو بصورة تدريجية، ولعل هذا هو ما يعبر عنه الاِسلام بقضية الظهور علي الدين كله (هُوَ الَّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ [ صفحه 101] الْمُشْرِكُونَ) [68] . والاَمر الثاني: هو فرض القدرة والسلطة والهيمنة الاِسلامية علي البشرية كلها تدريجياً، من خلال حركة القوة والقدرة لاِقامة الحق والعدل التي تواكب حركة الهداية والاِرشاد وإقامة الحجة علي الناس، لاَن فرض القدرة بالسلطة لابد أن يكون بعد إقامة الحجة علي الناس وإبلاغ الرسالة لهم، وهو أمر آخر مطلوب في الحركة الرسالية، كما حدث ذلك بالنسبة إلي الرسالة الاِسلامية في زمن النبي، حيث أن النبي صلي الله عليه وآله قام بأقامة الحجة علي الناس أولاً، ثم بعد ذلك قام بالتحرك السياسي والعسكري من أجل فرض هيمنة الحكم الاِسلامي وإقامة الحق والعدل بين الناس، وعندها تحققت الهيمنة للاِسلام علي الجزيرة العربية بصورة عامة في زمانه، وإن لم تكن هذه الهيمنة ـ أيضاً كما أشرنا سابقاً ـ هيمنة كاملة، ولكنها كانت هيمنة عامة للاِسلام علي الجزيرة العربية في هذه المدة المحدودة، ولعل هذه الهيمنة السياسية العامة هي المقصودة بقوله تعالي ويكون الدين كله لله ـ والله العالم ـ قال تعالي: (وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّي لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [69] . [ صفحه 102] الاَمر الثالث: المطلوب إنجازه في الرسالة الخاتمة هو تطبيق الحق العدل علي الناس تطبيقاً كاملاً علي مستوي الفرد والجماعة معاً، حيث يمكن أن نفترض بأن الحجة تقام علي الناس وتفرض الهيمنة العامة بعد ذلك للمؤسسة السياسية التي نعبر عنها بالدولة أو الحكومة علي الناس، ولكن لا يتحقق التطبيق الكامل للشريعة الاِسلامية علي جميع هؤلاء الناس، كما كان ذلك الاَمر في زمن رسول الله صلي الله عليه وآله في حدود الجزيرة العربية، فأن رسول الله صلي الله عليه وآله تمكن من فرض الهيمنة الاِسلامية كدولة وقوة يخضع لها الناس في حدود الجزيرة العربية، بعد أن أقام الحجة عليهم، ولكن الكثير من هؤلاء الناس كان يرتكب الآثام ـ أيضاً ـ ويحرف قوانين الحق والعدل التي شرعها الاِسلام، كما أشار القرآن الكريم إلي ذلك عند الاِشارة إلي حركة المنافقين، وإلي مجتمع الاَعراب ومخالفات بعض المسلمين من المؤلفة قلوبهم، أو ضعفاء الاِيمان، أو ضعفاء الاِرادة والاِلتزام، حيث كان ترتكب مثل هذه القضايا حتي في زمن رسول الله صلي الله عليه وآله، وقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله يعلن ـ أحياناً ـ إنكاره وبراءته مما كان يرتكب في زمانه من هذه المخالفات، إذ لم يطبّق الحق تطبيقاً كاملاً علي جميع هؤلاء الناس حتي في حدود الجزيرة العربية. وهذا التطبيق الكامل هو الذي نعبر عنه في ثقافتنا وثقافة [ صفحه 103] المسلمين بصورة عامة بقيام دولة الحق في زمان يخرج فيه الاِمام المهدي عليه السلام فيملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. ويؤكد ذلك فكرة (الرجعة) التي أشرنا إليها سابقاً، حيث يفهم من بعض النصوص أنه عندما تكتمل الدورة الاِنسانية لاِعداد الجماعة البشرية، ويتحقق هذا الهدف العظيم الذي جاءت به الرسالات الاِلهية، تبدأ البشرية بدورة جديدة يتجسد فيها حضور الاَنبياء والاَوصياء والاَولياء والاَئمة كلهم، ليمارسوا دورهم الطبيعي في الحياة الاِنسانية بصورة كاملة، وفي مجتمع إنساني متكامل، ويشهد فيه الكافرون والمنافقون النصر الاِلهي الذي حققه الله تعالي لاَنبيائه وأوليائه، قال تعالي: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاََْشْهَـدُ) [70] .

دراسة حركة الرسالة

اشاره

الثالث: القيام بدراسة تاريخية لحركة الرسالة الاِسلامية، منذ زمن النبي صلي الله عليه وآله والخلفاء الراشدين والخلافة الاَموية والعباسية وحتي نهاية هذه المدة المفترضة (350 ـ 400) عاماً، ومتابعة (المؤشرات) [ صفحه 104] الاِيجابية والسلبية في هذه المدة التاريخية ذات العلاقة بهذا الهدف الرباني، وهو تطبيق الحق والعدل بصورة كاملة، بحيث تصبح الاَمة رشيدة في هذا التطبيق ومؤهلة لهذه الخلافة الاِلهية، حيث يتبين من هذه الدراسة أن هذه المدة المفترضة كانت كافية للوصول بالاَمة إلي هذه الدرجة العالية من الرشد والاِعداد والتهيؤ لتحمل هذه المسؤولية العظمي، لو كانت الاَمور جرت علي ما أمر الله به، من استلام الاَئمة الاَثني عشر للاِمامة خارجياً بكل أبعادها، ومنها الحكم الاِسلامي والمرجعية الفكرية والدينية الكاملة للمسلمين، واستثمار فرص الهداية والبلاغ الاِلهي. ونشير ـ هنا ـ إلي نماذج من هذه المؤشرات التي يمكن متابعتها في هذه الدراسة التاريخية:

موازنة حركة الهداية والسلطة

المؤشر الاَول: مدة الثلاث والعشرين عاماً التي قضاها رسول الله صلي الله عليه وآله في إبلاغ الرسالة الاِسلامية والتي تمكن فيها من فرض الهيمنة الاِسلامية علي الجزيرة العربية، ومسيرة الدعوة الاِسلامية فيها والاِنجازات التي حققها النبي صلي الله عليه وآله في هذه المدة الزمنية علي [ صفحه 105] المستويات الثلاثة، إقامة الحجة، وفرض السلطة، وإقامة الحق والعدل، مقاسة بالعالم. ويلاحظ في هذا المؤشر بصورة دقيقة مجموعة خصوصيات: الاَولي: إن قيادة الحكم كانت قيادة معصومة بكل أبعادها، وهي في الوقت نفسه كانت قيادة مؤسسة تحملت آلام محنة وبلاغ الرسالة في بدايتها وقدسية الرسول والرسالة عند انتصار الرسالة. الثانية: السرعة الفائقة التي تمكن أن يحقق فيها رسول الله صلي الله عليه وآله هذه الاِنجازات الفريدة علي المستويات الثلاثة السابقة: ومن هذه الاِنجازات: تأسيس مشروع الاَمة الواحدة المتعددة الاَطراف والخصوصيات، من جماعات متفرقة ومتناحرة ومختلفة دينياً وثقافياً، والتي حولها إلي أمة واحدة تتمتع بمعنويات عالية، تمكنت من إدامة الزخم الرسالي، وتحمل الكثير من أعباء حمل الرسالة والجهاد من أجل فرض سيطرتها. ومنها: تأسيس الدولة الاِسلامية، المشروع التطبيقي الفريد في تاريخ الرسالات الاِلهية، كما أشرنا إليه فيحديث سابق [71] . ومنها: فرض الهيمنة علي الجزيرة العربية كلها، والدخول في [ صفحه 106] فتح أبواب الهيمنة علي المناطق المجاورة لاِخضاعها. ومنها: إقامة الحجة علي الاَمم المجاورة من خلال مخاطبته لها بالاِسلام، بصورة أولية من خلال الرسائل والمبعوثين. ومنها: إبلاغ الرسالة وإكمال بيانها للناس، من خلال تلاوة القرآن الكريم وحفظه وبيانات السنة النبوية العامة والخاصة، وإلي غير ذلك من الاِنجازات. الثالثة: المقارنة الدقيقة في البحث والاِستنتاج وموازنة تحقيق الاَهداف بين حركة الهداية وإقامة الحجة علي الناس، وفرض الهيمنة السياسية علي الجماعة، حيث نلاحظ: أولاً: إن رسول الله كان يبذل في البداية كل الجهود من أجل الهداية بدون استخدام القوة، وكان يقدم التضحيات الغالية من أجل ذلك، ثم يبدأ بعملية استخدام القوة كعامل لاِزالة الحواجز أمام حركة الهداية. ثانياً: إن الهداية، وإن كانت تحتاج إلي تضحيات وتواجه صعوبات وفترة زمنية كبيرة نسبياً، ولكنها كانت في الوقت نفسه تمثل أحد العوامل المهمة في إيجاد تسهيلات أمام حركة فرض السيطرة السياسية، وتسليم الناس للاِسلام وقبول الرسالة الاِسلامية. ولذلك كانت الفترة المكية لحركة الرسول أطول زماناً من الفترة [ صفحه 107] المدنية، والنتائج لفرض السيطرة السياسية للفترة المكية كانت محدودة جداً، ولكنها كان لها تأثير مهم في النتائج التي حققها رسول الله بعد ذلك في الفترة المدنية، من تسهيل فرض السيطرة فيها علي الجزيرة العربية، ومنها مكة المكرمة نفسها. وكذلك نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الجهود الكبيرة التي بذلها الرسول في معالجة قضية أهل الكتاب، وتحمله المعاناة من أجل مخاطبتهم وإقامة الحجة عليهم، كان لها دور كبير في تحقيق نتائج الهيمنة السياسية علي مناطقهم المنيعة (هُوَ الَّذِيَ أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ مِن دِيَـرِهِمْ لاََِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوَاْ أَنَّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللهِ فَأَتَـهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَـأُوْلِي الاََْبْصَارِ) [72] .

القيادة غير المعصومة

المؤشر الثاني: هو حركة الدولة الاِسلامية في مدة الخلفاء الثلاثة الذين تولوا السلطة بعد الرسول والتي تم فيها إبعاد الاِمام عليّ عليه السلام من قيادة التجربة الاِسلامية بصورة عامة، والدولة الاِسلامية [ صفحه 108] بصورة خاصة، ولكنها مع كل ذلك كانت تتصف بدرجة معينة من الاِلتزام الديني العام والقرب الزمني من عهد رسول الله صلي الله عليه وآله، بحيث كان يعبر عنها الاِمامعليّ عليه السلام ـ أحياناً ـ بما روي عنه من قوله: (ووالله لاَسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاَّ عليَّ خاصة) [73] شك، وكان يقدم فيها المشورة إلي الخلفاء ويشترك في إدارة بعض الاَمور فيها، وكان يشارك فيها أخيار الصحابة وصلحائهم وخاصتهم، أمثال سلمان الفارسي ـ الذي يعبر عنه الرسول صلي الله عليه وآله بسلمان المحمدي ـ وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن مسعود، وغيرهم كثير... حيث تمكنت هذه الدولة في فترة ربع قرن من الزمان من أن تفرض هيمنتها علي جزء كبير من العالم المتحضر في ذلك العصر (الدولة الفارسية) بكامل أجزاءها والقسط الاَعظم من (الدولة الرومانية) وقسم كبير من إفريقيا. وحركة الهداية وإقامة الحجة في هذه الفترة الزمنية، وإن لم تكن في مستواها المطلوب، قد واكبت حركة الهيمنة والسلطة، ولكنها كانت حركة قائمة وتحضي باهتمام مناسب من الدولة، ولاسيما وأن النبي كان قد شَرَعَ فيها قبل وفاته. [ صفحه 109] ولكن هذه الحركة الرسالية (حركة إقامة الحجة) لو كانت بالمستوي المطلوب، لاَمكن أن يتحقق إنجاز أعظم علي مستوي تثبيت القواعد والدعائم في هذه المنطقة، ولاَمكن فرض السيطرة الكاملة ـ أيضاً ـ علي جميع أجزاء الدولة الرومانية. ولكن بسبب التلكؤ في حركة الهداية من ناحية، وإقصاء الاِمام عليّ عليه السلام عن قيادة الحكم من ناحية أخري، بقيت الجيوش الاِسلامية تواجه مقاومة داخلية وخارجية، أي في داخل الجزيرة العربية من خلال حركة الاِرتداد والتمرد والاَختلاف في تفسير النصوص الاِسلامية، أو من خارج الجزيرة في مناطق إيران وتركيا وإفريقيا، وغيرها من المناطق التي وقعت تحت سيطرة الجيوش الاِسلامية، وكذلك كانت تواجه مقاومة خارجية من الدولة الرومانية في آسيا وعمقها الجغرافي في اُروپا وبعض مناطق إفريقيا. ومن ناحية ثالثة كانت الاختلافات الداخلية التي بدأت ونمت وتجذرت في زمن الخليفة عثمان بسبب الاِنحرافات في السلطة، ثم تفجرت في زمن الاِمام عليّ عليه السلام عليه والاِمام الحسن عليه السلام من بعده بسبب تمرد معاوية علي السلطة الشرعية، كل هذه العوامل كانت وراء التلكؤ في حركة الهداية. وهذا هو ما تنبأت به الزهراء عليها السلام في خطبتها المعروفة حول [ صفحه 110] الخلافة والبيعة والمطالبة بحقوقها [74] وما تنبأ به سلمان الفارسي ـ أيضاً ـ في تلك المناسبة عندما كان يردد قول: (والله لو وليتموها عليَّاً لاَكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم). وقد كان في النموذج الذي قدمه الاِمام عليّ عليه السلام في السنوات الاَربع من حكمه، بالرغم من إنشغاله بالحروب الداخلية، أفضل دليل علي ما كان يمكن أن يتحقق علي مستوي الخط الثالث من حركة الرسالة، وهو التطبيق الكامل للاَحكام الشرعية.

مشاكل الدولة و تراجعها

المؤشر الثالث: حركة الدولة الاِسلامية في عهد الاَمويين [ صفحه 111] والعباسيين، فانه بالرغم من وجود فوارق رئيسية بين العهدين لا مجال لبحثهما [75] . فأنه بالرغم من القوة والمنعة اللتان كانتا تتمتعان بهما، ولاسيما في العهد العباسي والتطور الكبير الذي شهده في القدرة المادية والتنظيم الاِداري والمدني، إلا إن حركة الدولة فيهما كانت تتصف ـ بصورة عامة ـ بصفتين سلبيتين رئيسيتين: إحداهما: أن القضية الاَولي والهم الاَعظم للدولة في هذين العهدين كان هو فرض السلطة السياسية وبسط الهيمنة المادية والحصول علي الاِمكانات والثروات علي الاَرض، سواء في داخل الدولة الاِسلامية أو في خارجها، وهو ما نعبر عنه نظرياً بالاِتجاه إلي تحويل الدولة إلي دولة كسروية وقيصرية، وبذلك تخلت الدولة ـ لا الاَمة ـ عن مشروعها الرسالي الاَساس. ثانيهما: الصراعات الداخلية وأولوية القضاء علي الخصوم السياسيين الداخليين، سواء التقليديين منهم أو الاَقربين، وممارسة عمليات القمع السياسي، حتي لو لم يكن ذا طابع عسكري مسلح، الاَمر الذي أدي إلي إضعاف القدرة الاِسلامية، وتبديد الطاقات [ صفحه 112] والاِمكانات التي كانت تملكها الاَمة. ومن الظواهر والنتائج التي تؤشر علي هذه الحقيقة: 1ـ ظاهرة القمع الوحشي لحركة الاِصلاح ـ الخروج علي الدولة ـ المبررة شرعاً في الواقع أو الظاهر والتي بدأت بنهضة الاِمام الحسين عليه السلام واستمرت بصور متعددة، مثل حركة المدينة المنورة ووقعة الحرة، وحركة ابن الزبير، وحركة التوابين والمختار الثقفي، وحركة زيد بن علي وأولاده، وحركة الحسين بن علي صاحب فخ، وقبله محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن المثني. 2ـ ظاهرة التوقف، ثم تراجع الدولة الاِسلامية في حركة الفتح الاِسلامي علي أبواب أورپا الغربية وأفرقيا الجنوبية وأسيا الوسطي والجنوبية. 3ـ ظاهرة انتشار الهدي في بعض المناطق داخل الدولة الاِسلامية أو المجاورة لها علي أيدي المشردين والمطاردين السياسيين من أهل البيت وأبنائهم وشيعتهم، كما في بعض مناطق الغرب العربي وإفريقيا السوداء وبلاد الترك والديلم، وغيرها من البلاد. 4ـ ظاهرة سيطرة القبائل والشعوب حديثة العهد علي مقدرات الدولة، لاَسباب التترس بها في الصراعات الداخلية. [ صفحه 113] 5ـ ظاهرة الحروب والغزوات ذات الطابع العدواني والمكاسب المادية في الغنائم والاِماء، الاَمر الذي أدي إلي بروز ظاهرة الدفاع عن النفس في الشعوب المجاورة، وتنافي المشاعر القومية والطائفية. 6ـ ظاهرة الاِنشقاقات العنيفة في داخل السلطة الواحدة والبيت الواحد، مثل بعض الاَحداث التي وقعت في زمن الاَمويين والعباسيين، ومنها اقتتال المأمون والاَمين ولدي هارون الرشيد. وإلي غير ذلك من الظواهر السيئة البعيدة عن الاِسلام وأهدافه وقيمه ومثله. وبذلك يمكن أن نفهم الكثير من المواقف والاِدانات التي كانت تصدر عن أهل البيت بالنسبة إلي هذه الظواهر. مثل رفض وإدانة التعاون مع حكام الجور. وظاهرة رفض المشاركة في الحروب والغزوات وإدانتها، مع التأكيد علي وجوب المرابطة والدفاع. وظاهرة الطعن بشرعية أموال الغنائم وتملك الاِماء في هذه العمليات العدوانية. وكذلك يمكن أن نفهم السبب في وقوف الجيوش الاِسلامية المنظمة والقوية عاجزة أمام القبائل الاَورپية الوحشية وغير المنظمة المستقرة في مجاهل أورپا والاِكتفاء بالاِستقرار في الاَندلس وحدها، [ صفحه 114] ثم التراجع عنها. وكذلك السبب في وقوفها عاجزة أمام قبائل المغول الوحشية وغير المنظمة في مجاهل آسيا، ثم التراجع أمامها، بحيث أدي إلي سقوط أكثر العالم الاِسلامي بيدهم. وكذلك السبب في تحول الدولة الاِسلامية إلي يد الدولة المغولية في إيران أو العثمانية في تركيا...الخ.

الاستنتاج

إن دراسة هذه الاَمور الثلاثة الرئيسية مع خصائصها وظواهرها ومؤشراتها، سوف ينتهي بنا إلي هذا التصور ـ الذي ذكرناه ـ في تفسير ظاهرة الاَئمة الاِثني عشر، وهو أن مدة إمامة هؤلاء الاَئمة بحسب تقدير الحكمة والعدل الاِلهي في هداية الناس، تمثل دورة زمنية مناسبة لاِعداد الاَمة وتأهيلها للقيام بهذا الواجب الاِلهي، وهو الخلافة لله تعالي في الاَرض كأمة وجماعة، وتكون بذلك مصداقاً لقوله تعالي: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) [76] ولقوله تعالي: (الَّذِينَ إِن مَكَّنَّـهُمْ فِي الاََْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلوَةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوةَ [ صفحه 115] وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَـقِبَةُ الاَُْمُورِ) [77] وبذلك يعم العدل ويقوم القسط بين الناس ويحكم الحق فيهم ويتحقق الوعد الاِلهي لهم (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاََْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُـمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...) [78] . إن هذه الدراسة، سوف توضح أن زخم الهدي والصلاح الذي تركه رسول الله في أصحابه لو استمر بالطريقة التي شرعها الله تعالي، وبلغها رسول الله لاَمته وبذل كل جهده لاَقامة الحجة عليها، بحيث تحفظ فيها موازنة حركة الهداية مع حركة السلطة، كان كفيلاً بتحقيق هذا الهدف الكبير في هذه المدة الزمنية، هذا الزخم الذي رأينا أثره وفعله وتأثيره في العالم المحيط بالمسلمين ـ بالرغم من الاِنحراف الذي تعرّضت له في المسيرة في أهم موقع لها ـ بحيث تداعت أركان الدولة الفارسية بأكملها، وكادت أن تسقط به ـ أيضاً ـ أركان الدولة الرومانية، وهما الدولتان المتحضرتان القويتان في ذلك العصر، وتفتح فيه أبواب القبائل الوثنية المشتتة في العالم، في مدة لا تزيد علي ربع [ صفحه 116] قرن من الزمن، كل ذلك لتحقق، لو كانت القيادة لهذا الزخم الرسالي الاِلهي قيادة ربانية مدعومة بمسيرة الهدي والصلاح وإقامة الحجة علي الناس، وتذليل النفوس والقلوب قبل تذليل الاَجساد والقوي المادية؟! إن تنسيق حركة الهدي مع حركة الهيمنة وتقدمها علي حركة القدرة والسلطة، قد يؤجل بسط الهيمنة المادية بعض الوقت، ولكنه سوف يفرض تصاعداً حتمياً مثمراً في الخط البياني لمسيرة الخطوط الثلاثة، الاَمر الذي يؤدي إلي تحقيق هذا الهدف الحتمي الاِلهي العظيم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاََْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّـلِحُونَ - إِنَّ فِي هذا لَبَلَـغًا لِقَوْمٍ عَـبِدِينَ - وَمَا أَرْسَلْنَـكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَـلَمِينَ) [79] . كما أن (عملية) بسط العدل والحق المطلق والهيمنة الكاملة لها وحل جميع معالم وصور الاِختلاف بين الناس التي أشارت إليها آية سورة النور السابقة، قد تحتاج إلي وقت أطول من وقت عملية إقامة الحجة وعملية بسط الهيمنة السياسية، لاَنها أكثر تعقيداً من العمليتين الاَخيرتين، ولكن هذا الوقت المفترض وهذه المدة المحدودة تكفي [ صفحه 117] ـ بأذن الله ـ في تحقيق كل ذلك، كما تشير إليه هذه الملاحظات [80] . وعندما يتحقق هذا الهدف الكبير قد ينتهي بذلك بعض أدوار الاِمامة المعصومة، بعد أن تكون الاَمة قد بلغت الرشد في حركة الهداية، وأصبحت معصومة كأمة، وتمت سيطرة الاِيمان والدين سياسياً حتي لا تكون فتنة ويقوم القسط بين الناس، ووضعت أوزار الخلافات والخصومات، وأصبحت العبادة لله تعالي وحده دون غيره، لايشرك بعبادته أحد من الناس، وتصبح الحجة لله البالغة علي الناس، ويبدأ دور جديد للاِمامة المعصومة هو دور (الرجعة). ولكن شاء الله تعالي أن تجري الاَمور بطريقة أخري، لمزيد من الاِمتحان والاِبتلاء والاِختبار لهذه الاَمة، ولمزيد من التكامل الاِنساني من خلاله مما جعل المدة أطول، فكانت الغيبة الصغري والكبري. [ صفحه 118] (...إِنَّ اللهَ بَـلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا) [81] .

پاورقي

[1] وقد أعانني في تخريج النصوص من مصادرها الاَصلية ولدي العزيز الفاضل السيد محمد صادق الحكيم.
[2] الاَحزاب: 40.
[3] البحار21 :208، حديث 1، مستدرك الحاكم3 :109، صحيح البخاري3 :58، راجع كتاب المراجعات:119، مراجعة رقم 28، وقد ذكر فيه مصادر علماء المسلمين.
[4] عالجنا هذا الموضوع في بحثنا حول خصائص الرسالة الاِسلامية (العالمية، الخاتمية، الخلود)، ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة البحث المذكور.
[5] المائدة:3.
[6] الحجر:9، عالجنا هذا الموضوع في بحث ثبوت النص القرآني من كتابنا علوم القرآن:99.
[7] أشرنا إلي هذا الدور في بحث التفسير عند أهل البيت عليهم السلام الذي نشر جانب منه في كتابنا علوم القرآن:307.
[8] البقرة:213.
[9] إصطلاح إستخدمه الشهيد الصدر قدس سره في بحثه حول التفسير الموضوعي، عندما طرح فكرة المثل الاَعلي في العبادة:184. [
[10] النجم:23.
[11] التفسير الموضوعي:195ـ 196.
[12] هود: 118 ـ 119.
[13] البقرة:174 ـ 176.
[14] الجاثية:16ـ 17.
[15] البقرة:213.
[16] ذكرنا هذه الحقيقة مع بعض شواهدها في بحثنا عن التفسير في زمن النبي (علوم القرآن) وفي بحثنا عن التفسير عند أهل البيت، وسوف نتناول هذا الموضوع مرة أخري بصورة تفصيلية في البحث عن المرجعية الفكرية لاَهل البيت عليهم السلام.
[17] البحار36 :331، حديث 190، وقد ورد مضمون القتال علي التأويل والقتال علي التنزيل في عدد من النصوص التي رواها الفريقان.
[18] لا أريد أن أتعرض هنا إلي جميع إمتيازات الرسالة الخاتمة علي الرسالات السابقة، وقد أشرت إلي بعض هذه الاِمتيازات في بحث (العالمية والخاتمية والخلود) في رسالة الاِسلام، ولكن أريد أن أشير هنا إلي الاِمتيازات التي هي محل الشاهد في بحثنا هذا.
[19] المائدة:44و45و47.
[20] وقد أشار إلي ذلك القرآن الكريم في سورة المائدة الآيات 21 ـ 26.
[21] هذا بحث عميق وفيه الكثير من التفاصيل، وقلت انني أشير هنا إلي العناوين الكلية، ومن هذه التفاصيل تفسير ظاهرة قيام الدول التي أقامها بعض الاَنبياء، كداود وسليمان عليهما السلام، وغيرهما من الاَنبياء الذين أقاموا دولاً، وأشار القرآن الكريم إلي ذلك، عندما يتحدث عن تفضيل ونعم الله علي بني إسرائيل بقوله تعالي: (...إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا...)، المائدة:20، فأن بعض هؤلاء الاَنبياء أقاموا دولة، ولكن هذه الدولة التي أقاموها تختلف بحسب مضمونها وهويتها وخصوصياتها عن هذه الدولة الاِسلامية التي أقامها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ليس بحسب سعتها ودائرة وجودها وتفاصيلها، بل بحسب الهوية والمضمون ـ أيضا ـ وهذا بحث أشرت له بصورة موجزة ـ أيضاً ـ في بحث (العالمية والخاتمة والخلود) كصفات للرسالة الاِسلامية.
[22] سوف نتناوله بشي من التفصيل، عندما نتحدث عن دور أئمة أهل البيت في قيادة الحكم الاِسلامي.
[23] الشوري:23.
[24] هذا البحث له محله الخاص، وهو بحث كلامي عقائدي له أساليبه وأدلته وبراهينه الخاصة به ـ أيضاً ـ نتناوله في محله، وإنما نريد في هذا البحث أن نفسر هذه الظاهرة، ظاهرة تعيين الاِمامة وتشخيصها في خصوص أهل البيت عليهم السلام تفسيراً ينسجم مع الاَطر العامة التي جاء بها الاِسلام، وأكدها القرآن الكريم، وترتبط ـ أيضاً ـ بمسيرة الاِنسان وتكامله.
[25] هذا بحث قرآني واجتماعي مهم يرتبط بدراسة علاقة الاِنسان بذريته، وشعوره بالبقاء والخلود من خلالها.
[26] البقرة:124.
[27] البقرة:127 ـ 129.
[28] البحار12 :92، حديث 1.
[29] الاَنعام:83 ـ 87.
[30] الآية:58.
[31] الآية:26.
[32] السجدة:9.
[33] العنكبوت:64.
[34] الاَعراف:172.
[35] آل عمران:33 ـ 34، وهناك آيات عديدة، يمكن أن يجدها الباحث في مادة الاِصطفاء والاِجتباء وغيرها، في المعجم المفهرس.
[36] الاَحزاب:33.
[37] الاِسلام يقود الحياة| خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء:166، كما في لوط عليه السلام الذي كان يرتبط بإبراهيم، أو في يوشع الذي كان يرتبط بموسي، أو يرتبطون به وبذريته، كما هو الحال في إسحاق وإسماعيل ويعقوب وذرية يعقوب التي أشرنا إليها.
[38] الحديد:26.
[39] البحار28 :8، حديث11، عن تفسير القمي، وجاء هذا الحديث في كتب الفرقين إما بلفظه أو بمضمونه، مثل مجمع البيان5 :49، وكمال الدين:576، طبعة مكتبة الصدوق، وصحيح البخاري:باب 50 من كتاب الاَنبياء، وصحيح مسلم الحديث 6 من كتاب العلم، سنن بن ماجه باب 17، من كتاب الفتن...الخ.
[40] البقرة: 131 ـ 133.
[41] الحج:78.
[42] البقرة:129.
[43] الاَحقاف:35.
[44] إبراهيم: 24 ـ 26.
[45] البقرة:124، الاِسلام يقود الحياة| خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء:167.
[46] صحيح أنه قد نشاهد ـ أحياناً ـ في داخل البيت الرسالي أشخاصاً يشذّون عن المسيرة وعن الاِرتباط بالرسالة، كما يذكر القرآن الكريم بعض النمادج. ومن هذه النماذج ابن نوح عليه السلام، عندما يذكره القرآن الكريم كنموذج لخروج ولد لرسولٍ عن أهداف الرسالة ومسيرتها. ونموذج آخر يذكره القرآن الكريم، له بعد آخر من الخروج وهو أب إبراهيم ـ كما يعبّر عنه القرآن الكريم ـ الذي قد يكون هدف القرآن الكريم من التأكيد عليه هو تفسير موقف (أبي لهب) من النبي صلي الله عليه وآله وسلم باعتباره قريباً لرسول الله وعمه، ومع ذلك خرج علي هذه الرسالة، وهو الشخص الوحيد الذي ذكره القرآن الكريم بالاسم من المشركين، أو أراد به بعض أقرباء الرسول الذين كانوا بمستوي الاَعمام في الحالة النسبية والاِرتباط برسول الله صلي الله عليه وآله. ونموذج ثالث يذكره القرآن الكريم هو زوج نوح ولوط، كمثل لما يمكن أن تقفه الزوجة من صاحب الرسالة، فانها وإن لم تكن من ذريته وبيته، ولكنها عادة ما تكون تحت تأثير عمله.
[47] البحار28 :199، حديث 6،وجاء في مستدرك الصحيحين3 :126، عن ابن عباس ما لفظه، قال: قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاِسناد، وكذلك جاء في كنز العمال11 :600، حديث 32890، و614، حديث 32978، و32979، و13:147، حديث 36463.
[48] البحار26 :29 ـ 30، حديث 36 و 37، و33 عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، في تفسير الفخر الرازي الكبير، في ذيل تفسير قوله تعالي: (ان الله اصطفي آدم ونوحاً...)، (آل عمران:33)، قال: علي (عليه السلام): علمني رسول الله(صلي الله عليه وآله) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب، قال: فاذا كان حال المولي هكذا فكيف حال النبي(صلي الله عليه وآله)، وكذلك جاء الحديث في كنز العمال13 :114، حديث 36372.
[49] لهذه البيوت الطاهرة خصوصيات، قد يعجز الاِنسان عن اختيار الاَلفاظ المناسبة المؤدبة تجاهها، عندما يريد أن يتحدث عن بعض علاقاتها، ولكن علي أي حال التاريخ يشهد في كثير من النصوص، بأن هذا الاِقتراب من عليّ عليه السلام، وعناية رسول الله صلي الله عليه وآله لعليّ عليه السلام في هذا الجانب ـ جانب الاِعداد والتعليم والتأهيل لتحمل هذه المسؤولية ـ كان يثير في كثير من الاَحيان الحسد أو الغيرة أو غير ذلك من الاِنفعالات حتي في دائرة الاَشخاص القريبة لرسول الله صلي الله عليه وآله.
[50] مثل يحيي وعيسي عليهما السلام وغيرهما من الاَنبياء، ومثل الاِمام الجواد والاِمام الهادي عليهم السلام وغيرهما.
[51] في العصور المتأخرة كانت هناك أسر علمية أخري من قبيل أسرة آل بحر العلوم، وإسرة آل كاشف الغطاء، أسرة آل شيخ راضي، وآل الجواهري، وآل الصدر، وآل شبر، وهكذا أسرة الشيخ الاَنصاري ـ من بناته ـ وقبلهم الشيخ المجلسي، والوحيد البهبهاني، وغيرهم الكثير. ولا ينبغي أن يذهب الظن إلي أن هذا الاعداد لايمكن أن يتم إلاَّ من خلال ذلك، بل قد نجد في التاريخ أشخاص متميزين في التقوي والعلم والشجاعة لم يعرفوا بأنهم من أبناء هذه الاَسر، ولكن المقصود أن الاَسرة تمثل عاملاً طبيعياً للاعداد.
[52] المؤمنون:101.
[53] تذكر بعض النصوص استثناءاً في التأثير لنسب رسول الله صلي الله عليه وآله في يوم القيامة، وهو أمر يحتاج إلي بحث علمي واجتماعي لهذه النصوص، لا مجال له في حديثنا في الوقت الحاضر.
[54] الاَعراف:58.
[55] الاَنفال:75.
[56] الحجرات:13.
[57] الاَنفال:75.
[58] التوبة:24.
[59] ذكرت في محاضرة سابقة، أن الزهراء عندما أرادت أن تستثير المسلمين تجاه مظلوميتها، تحدثت في البداية عن حقوقها المغتصبة، في الخطبة المعروفة التي يتحدث عنها خطباء المنبر، ولكن في حركة أخري دخلت الزهراء عليها السلام إلي المسلمين من هذا المدخل، أي مدخل أنها ابنة رسول الله، ويجب ان تحمي باعتبار هذه القرابة وهذه الصلة برسول الله، وعندما تحدثت مع الاَنصار الذين كانوا قد دخلوا مع رسول الله صلي الله عليه وآله في ميثاق وعهد بأن يحموا رسول الله وأهله، وقد تخلفوا عن هذه الحماية بعد وفاته، تحدثت معهم من هذا المدخل وخاطبتهم بصورة خاصة (ايها بني قبله)، وهذا المنطلق يعبّر عن حقيقة كانت قائمة في الحالة الاجتماعية حينذاك.
[60] راجع بحار الاَنوار36 :226 ـ 373، باب نصوص النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي الاَئمة عليهم السلام، وصحيح البخاري5 :90 و92، صحيح الترمذي2 :35، وغيرها من الصحاح.
[61] البحار36 :373 ـ 414.
[62] الرجعة فكرة ورد تأكيدها في روايات أهل البيت عليهم السلام إلي حد التواتر أو التظافر، وأشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالي: (قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَي خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) غافر:11، ويوجد فيها تفاصيل لا تبلغ حد القطع واليقين، ولا مجال لبحثها في هذا العرض، ولعلنا نوفق لذلك في كتاب آخر لهذه الموسوعة، نتناول فيه عدد من القضايا والاَفكار.
[63] الاَحزاب:7.
[64] المائدة:12.
[65] كنز العمال:103، برقم:465.
[66] هذا الموضوع يحتاج إلي مزيد من البحث والتوضيح لخصوصياته وتفاصيله، قد نوفق لتناوله عند تناول موضوع (الرجعة)، حيث يتبين من خلال ذلك البحث تفسير عدة قضايا مهمة: 1 ـ حقيقة الرجعة.
[67] وقد تناولنا جانباً مهماً من هذا البحث في كتابنا (المجتمع الاِنساني في القرآن الكريم)، كما أشار إلي بعض جوانبه الشهيد الصدر قدس سره في أبحاثه الاجتماعية، ومنها (خلافة الاِنسان وشهادة الاَنبياء) والسنن التاريخية في محاضرات (التفسير الموضوعي).
[68] التوبة:33.
[69] الاَنفال:39.
[70] غافر:51.
[71] يراجع ـ أيضاً ـ في ذلك بحثنا حول (العالمية والخاتمية والخلود) من خصائص الرسالة الاِسلامية، وبحثنا حول الهجرة ومعطياتها.
[72] الحشر:2.
[73] نهج البلاغة:خطبة 74.
[74] (...والله لو تكافَّوا عن زمام نبذه رسول الله صلي الله عليه وآله إليه لاعتلقه، ولسار بهم سيراً سجحا، لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولاَوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه ولاَصدرهم بطاناً، قد تحيّر بهم الرَّيُّ غير متحلّ منه بطائل إلاّ بغمر الماء وردعة شررة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والاَرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ...أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريثَ ما تنتج ثمَّ احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافاً ممقراً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون، غبَّ ما سنَّ الاََوَّلون، ثمَّ طيبوا عن أنفسكم أنفساً، وطأمنوا للفتنة جأشا، وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وزرعكم حصيداً فياحسرتي لكم، وأني بكم، وقد عميت (قلوبكم) عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.)، البحار43 :158 ـ 159، حديث 8.
[75] تناولناها في بعض محاضراتنا حول الاِمام الصادق عليه السلام، وسوف نتحدث عنها ـ إن شاء الله ـ عند الحديث عن أدوار أئمة أهل البيت عليهم السلام ومواقفهم.
[76] آل عمران:110.
[77] الحج:41.
[78] النور:55.
[79] الاَنبياء:105 ـ 107.
[80] لقد كانت هذه النتائج هي التي أشارت إليها الزهراء عليها السلام في خطبتها المعروفة، وسلمان الفارسي في تعليقته ـ كما أشرنا إلي ذلك ـ وبهذا الصدد تنقل طريفة تعبر عن جانب من هذه الرؤية، وهي أن أحد المستشرقين البريطانيين الذين كانوا يصطحبون القوات البريطانية في فتحها للعراق في الحرب العالمية الاَولي، دخل إلي مسجد الكوفة بعد الفتح وشاهد بناءه المتواضع ومواضع الاِمام علي (عليه السلام) فيه وفي الكوفة، فعلق علي ذلك بما معناه (أن لمعاوية وابن ملجم ـ قاتل الاِمام علي ـ فضل كبير علي الاَمة البريطانية، إذ لولاهما لرأيت مسجد الكوفة هذا يعج بالقبعات البريطانية المؤمنين).
[81] الطلاق:3.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.