المشاهد المشرفه و الوهابیون

اشارة

سرشناسه : حائری، محمدعلی، 1326 - 1381.

عنوان قراردادی : کشف الشبهات .شرح

عنوان و نام پديدآور : المشاهد المشرفه و الوهابیون/ تالیف محمدعلی بن حسن الهمدانی السنقری الکردستانی (1293 - 1378 ھ.)؛ تحقیق لجنه منلعلما؛ باشراف السیدمحمدرضا الحسینی الجلالی.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهری : 128 ص.

شابک : 978-964-540-358-2

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : ابن تیمیه، عبدالسلام بن عبدالله، 590 - 652ق . کشف الشبهات -- نقد و تفسیر

موضوع : زیارت و زائران -- دفاعیه ها و ردیه ها

موضوع : زیارت و زایران -- نظر وهابیه

موضوع : توسل -- دفاعیه ها و ردیه ها

موضوع : توسل -- نظر وهابیه

موضوع : شفاعت (اسلام) -- دفاعیه ها و ردیه ها

موضوع : شفاعت (اسلام) -- دیدگاه وهابیه

موضوع : وهابیه -- دفاعیه ها و ردیه ها

شناسه افزوده : حسینی جلالی، سیدمحمدرضا، 1324 - ، ویراستار

شناسه افزوده : ابن تیمیه، عبدالسلام بن عبدالله، 590 - 652ق . کشف الشبهات. شرح

رده بندی کنگره : BP226/7/الف6ک50213 1390

شماره کتابشناسی ملی : 2629710

ص: 1

المؤلّف والكتاب

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

في بيوت أذن اللَّه أن تُرفعَ ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوب والأبصار

القرآن الكريم، سورة النور (24)، الآيتان ((36- 37))

الطبعة الاولى 1345 ه

باسم: المشاهد المشرّفة والوهابيون

الطبعة الثانية 1418 ه

محقّقة ومفهرسة

ص: 5

المؤلف

ولد في السابع من جمادي الاُولي عام 1293، وكان والده من علماء مدينة همدان في غرب إيران، فأخذ منه ومن جمع من علماء عصره وتعلّم اللّغات المختلفة منها «العبرية والسريانية، عند أحد القساوسة الذي أعتنق الإسلام، وهو فخر الإسلام صاحب ((أنيس الأعلام)) فكان يحاجج اليهود والنصاري، بما في كتبهم، وهدي الله جمعاً منهم إلي الإسلام علي يديه وهاجر إلي المحاضر العلمية، وأخذ منها ما يروي الغلة. ثمّ استقر في مدينة ((سنقر)) الكردستانية في إيران، لتبليغ الإسلام، فكانت له محاضر ومجالس ضخمة، وعلي يديه اهتدي جمع كثير من اصحاب المذاهب الاُخري لقوة حجّته وسلامة منطقه. وتوفي في شهر محرم عام 1378ه_ في زيارة له إلي العراق، له مؤلّفات عديدة، نشر بعضها.

ص: 6

هذا الكتاب

الّفه الشيخ العلامة السنقريّ، لمّا قام اصحاب الفرقة بهدم بعض المساجد والبيوت المنسوبة إلي زوجات النبي اُمهات المؤمنين وبعض الصحابة الكرام، وكذلك ما كان لأهل البيت النبويّ الطاهر وقرباه، من البيوت والمشاهد والقباب التي كانت تظلّل قبورهم، ويستظلّ بها الذين كانوا يصلون إلي هذه الأماكن لتجديد الذكري بأصحابها. مع أن القاصدين لهذه المواضع كانوا من طوائف المسلمين والمذاهب المختلفة وكلها تجوّز قصدها للتقرّب إلي الله عزّوجلّ بتجديد العهد مع الله بمشاهدة تلك الأماكن التي وقعت فيها حوادث السيرة النبويَّة، ووضعت فيها جثثت شهداء الإسلام، ومع أن الفقهاء للمذاهب يجوّزون زيارة تلك المواضف اعتماداً علي أدلة الكتاب والسنّة والإجماع إلاّ أن الدعاة حاولوا تحكيم رأيهم وفرض فتاواهم، علي سائر المسلمين، ولقد قاموا بهدم تلك البيوت، علي فتاوي من علمائهم. وقد ألّف علماء المسلمين في هذا كتباً قيّمة، للاستدلال علي بطلان تلك الفتاوي ومنها هذا الكتاب. وقد احتوي علي الإجابة عن كل الأدلّة التي ذكرها مؤسس الفرقة وإمامها في كتابه الموسوم ب_ ((كشف الشبهات)) وهو أهم كتبه في هذا الباب. قدّم المؤلّف لكتابه مقدمة قصيرة، مركّزاً علي أهم ما قصدهُ في جوابه هذا. ثمّ بناه علي مقامات ثلاثة: المقام الأول: في أنّ مجرّد دعاء شخص لشخص، ليس عبادة من الداعي، للمدعوّ، فالعبادة تحتاج إلي أكثر من مجرّد الدعاء، وهو قصد العبودية من الداعي والألوهية في المدعوّ: فالاستغاثة بالأنبياء والأئمة والأولياء يجعلهم وسائط إلي الله، لقربهم منه، ليس عبادة لهم، بل هو عبادة له، لأنّه أمرنا بهذا.

ص: 7

ومثل ذلك الاستشفاع بهؤلاء. ثم أثبت الأدلة علي ثبوت الشفاعة للنبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم))، وأجاب عن أدلّة الوهابيّة في إنكارها وكل ذلك في المقام الثاني. وأثبت أنّ الاستشفاع يتحقّق في الحيّ والميّت بلا فرق، لورود ذلك في الأدعية والزيارات المأثورة، كما عليها سيرة الأمة الإسلامية، مدي العصور والقرون الاُولي التي هي خير القرون، وعلي طول الأعوام المتعاقبة. ولأنّ الذين يزورهم المسلمون: أحياء في قبورهم يرزقون، بنصّ الكتاب والسنّة. وفيه الردّ علي التفريق بين الحياة والموت في شأن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم))والتوسّل به. وكذا الدعوي علي المسلمين كافة، بقصد الشرك وغيره من الباطل، رجماً بالغيب وافتراء وبهتاناً. وفي المقام الثالث: أتيت الأوامر الشرعيّة بالتوسل والاستغاثة وزيارة الأموات وبناء الضرائح والقباب. والجواب عن الشبهات بدعوي أن البناء تصرّف في الأرض المسبلة والوقف. وإثبات أنّ قباب آل البيت في البقيع، كانت ملكاً لهم، لا وقفاً مُسبّلا. والإجابة عن شبهة تسنيم القبور، وعن حرمة زيارة القبور. وفيه شيء من انتهاك اولئك لحرمات الأموال والدماء عندما سيطروا علي الحرمين والطائف. وفي الخاتمة: أورد المؤلّف الأحاديث النبوية التي دلّت علي ظهور هذه الفرقة، وحذّرت منها، وهي من ((دلائل النبوّة ومعاجزها)). إن المؤلّف العلامة، عرض جميع هذه المواضيع، بشكل هاديء، ومستند وقويّ، وأوجز في العرض بشكل رائع وواضح. وناقش بحجج علمية متينة، ممّا دلّ علي امتلاكه لأزمّة العلم والتحقيق.

ص: 8

ع_ملنا

وقد قمنا بإخراج الكتاب في حلّة حديثة، مع التعريف بالمؤلّف، وتوزيع الكتاب بشكل فنّي، ووضع العناوين اللازمة في مواقعها بين المعقوفتين. كما قمنا بتخريج الأحاديث المهمة للتسهيل والتوثيق. وعملنا فهارس للآيات والأحاديث والألفاظ تسهيلا علي المراجعين. والحمد لله علي إحسانه ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه إنّه ذو الجلال والإكرام. لجنة التحقيق

ص: 9

المقدمة

اشاره

الحمدُ لله الذي توحيدُه في تنزيهه، وغاية معرفته في تقديسه. تفرّد بالكبرياء والأحَديّة، وتسربل بالعظمة والمعبوديّة. والصلاة والسلام علي من اصطفاه الله واختاره واجتباه، ختم به النبوّة، وحباه بالوسيلة والشفاعة، فصدع بأمره في أُمّته، وقَرَنَ بين كتاب الله وعترته، بعد أن اختصّهم بفرض المودّة واتّباع الأُمّة. محمّد وآله الذين صلّي الله عليهم وسلّم تسليماً، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وبعدُ: فإنّي بعدما أسلفتُ شطراً من الكلام في الجواب عمّا كان قد نسجته أوهام ابن تيميّة في شبهاته، وأورده في «منهاج سُنّته» فقد ظفرت اليوم برسالة اُخري للمقتفي آثاره مرجع الوهّابيّين «محمد بن عبد الوهاب» الموسومة ب_ «كشف الشبهات» في التشكيك بالمتشابهات. فمحصّل الجواب عمّا نسجه بوهمه وتشكيكه في رسالته لمعني العبادة والشرك ; بأنّ دعآء الغير عبادة له، والتوسّل به عبوديّة له، منافية لتوحيد الله والإخلاص به.

ص: 10

الفرق بين الدعاء، والعبادة

هو أنّه لا ريب في أنّ مطلق الدعاء للغير ليس عبادة له ولا مطلق الاستغاثة والاستعانة به عبوديّة له ; ضرورة افتقار العباد في حاجاتهم ونيل أمورهم في عاديّاتهم، بل وفي عباديّاتهم، كما أمر الله تعالي بالتعاون علي البرّ والتقوي. وكذا لاشبهة في أنّ مطلق الخضوع والانقياد وخفض الجناح لغيره تعالي، ليس بعبادة له، ومنافية لتوحيد الله والإخلاص له تعالي. فلو كان مطلق التعاون والاستعانات والاستغاثات والتوسّلات شِركاً، لكان الوّهابيّون بذلك أوّل المشركين. ولو كان مطلق الخضوع والانقياد والخفض للغير شركاً في عبادة الله، لما أمر الله تعالي به، ولكان الأمر بالسجدة في قوله تعالي لملآئكته: ((أُسجُدُوالآدَمَ)) أمراً بالشرك؟! وكان لإبليس أن يعترض عليه سبحانه في ذلك، فيقول: ياربِّ لِمَ تأمُرني بالسجودِلِغيِرِك، وهوالشرك المنافي لتوحيدك والإخلاص لك! ولكان الاستدلال بذلك أولي من استدلاله بالقياس الفاسد. ولكان إبليس بامتناعه هذا من السجدة أوّل الموحّدين، كمازعمه جمع من الصوفيّة، وقاله بعضهم في «فصوص حكمه»، وتبعه أتباعه في شروحهم عليه، فالمدار علي الحقائق دون الصور! فلو كان مطلق الخضوع شركاً وعبادة للغير، لكان خضوع العبيد للموالي والرعايا للرؤساء والملوك، والزوجات للأزواج والتلميذ للمعلّم، كلّها خضوعاً لغير الله وشركاً به وعبادة لغيره! ولم يقل به أحد، ومعه لا يقوم حجر علي حجر. ولو كان ذلك شِرْكاً في عبادته، لكان تقبيل الحجر الأسود واستلامه عبادته! ولكان مسّ الأركان والتبرّك بها عبادتها!

ص: 11

ولكان أمر الله لبني إسرائيل في أريحا يوم دخول القرية بالخضوع لباب حطّة. وأمر الله نبيّه بخفض الجناح لمن اتّبعه من المؤمنين. وأمر الله عباده بالخفض للوالدين، والزوجة للزوج. كل ذلك أمراً بالشرك؟! ولكان يعقوب وولده بسجودهم ليوسف حين خرّواله ساجدين، وكلُّ من أُولئك في خضوعهم المأمورين به مشركين؟! وذلك لوضوح أنّ كلّ هذا إنّما هو عبادة الآمر بها، لا عبادتها إيّاها. سبحان الله. ما أجهل المعترضين علي الآيات، وما أغفلهم عن البيّنات. وما أشدّ إعراضهم عن المحكمات إلي المتشابهات.

حقيقة العبادة

فليس ذلك إلاّ لأنّ العبادة ليس المراد منها معناها اللغوي _ أعني مطلق الطاعة والدعاء _. بل إنّما حقيقة العبادة هي مجرّد الطاعة والامتثال لأمر الله الواجب وجوده، العظيم لذاته ; ونفسُ الانقياد وإتباعه بكلّ ما أمر به دعاءً كان أو نداءً أو خضوعاً أو سجدة أو توسّلا أو استشفاعاً إلي غير ذلك، ممّا يرجع إليه بالاعتبار اللفظي أو العقلي أو العادي. وتدور العبادة والشرك _ وجوداً وعدماً _ مدار الطاعة والانقياد بقصد الامتثال والاستقلال في المألوهية ; بمعني أنّ العبادة هي ما قُصد به الامتثال بداعي الأمر بها مطلقاً.

حقيقة الشرك

وأمّا الشرك: فهو تشريك الغير بالاستقلال في المعبوديّة، واتّخاذه دون الله أو مع الله بالألوهية. فما هذا التمويه والمغالطة؟! وما هذا الخلط الظاهر وخبط

ص: 12

العشواء؟! وما أغفلهم عن كلمات الله؟! وليتهم تعلّموا من إبليس ; حيث إنّه لم يَرَ الأمر بالسجدة للغير شرْكاً بالله منافياً لتوحيده تعالي. بل، ودري بها _ من حيث إنّها مأمور بها _ عين توحيده وعبوديّته، فلم يردّ علي الله بشيء من ذلك، إلاّ باختياره عصيانه ومخالفته، وسلوكه مسلك الاستكبار بحسده وعُتُوّه وكِبْره وغُلُوّه، ولذلك طغي وعصي وتمرّد وأدبر واستكبر فكفر.

منكر و الشفاعة

وأمّا الذين ينكرون ويجحدون ما جاء في مأثور السُّنّة ; من الاستشفاع إلي الله بالأنبياء والأولياء، فحق أن يُتلي فيهم قوله تعالي: ((أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَآ آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عظيماً)). فلا يُغرّنّك الانتساب إلي التوحيد، ولا تلاوة آيات الله المجيد. ولا تحكُمْ بأوّلِ ما تراهُ++ فأوّلُ طالع فجرٌ كذوبُ

هاهنا مقامات

الأوّل: بيان جواز مطلق الدعاء للغير والاستعانة بالغير، وأنّها لا تكون شركاً بالله وعبادة لغيره. الثاني: ثبوت الشفاعة _ من حيث الكبري _ للشافعين من الأنبياء والمرسلين، بل وغيرهم من المؤمنين، وأنّها تعّم الأحوال والنشآت دنياً أو آخرة ; حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً. الثالث: ثبوتها _ من حيث الصغري _ بالعمومات الواردة في الاستشفاعات والتوسّلات ; كتاباً وسُنّة وإجماعاً وعقلا.

ص: 13

ان مطلق الدعاء ليس عبادة و لا شركا

اشاره

قد ظهر ممّا تقدّم في معني العبادة والشرك ما يُعرف به فساد ما أدّعاه المتكلّف. (هل الدعاء عبادة؟) فقوله: «والدعاء مخّ العبادة...» إلي آخره. تمويه في استدلاله بالمغالطة الواضحة، وما أكتفي به حتّي بني عليها قذفه لعباد الله وموحّديه بالشرك والارتداد، وسعي في خراب العباد والبلاد، فهاك فصيح الجواب عنها بالإشارة إلي موضع تمويهه: أمّا قوله: «فإنّ الدعاء مُخّ العبادة». فمسلّم، كما هو المرويّ عن أئمّتنا _ سلام الله عليهم _ لكن هذه المغالطة غير مُجدية لدعواه، فإنّه إن جعلها صُغري لقياسه ; بأن يقول: الدعاء مُخّ العبادة، وكلّ

ص: 14

عبادة لغير الله شِرك. قلنا: وهل يخفي علي أحد أنّ قوله ذلك لا يصحّ منه إلاّ قضيّة شخصيّة، وهي دعاء الله، فإنّ دعاءه يكون مخّ عبادته ; من حيث معرفته والالتجاء إليه، والاعتراف بأنّه الإل_ه لواحد القادر المطلق. وأين هذا من دعائي ولدي، وأقول: يا فلان أعطني كذا، أو توسّط لي عند فلان بكذا. هذا، وإن زعم أنّها كلّيّة ; بمعني: أنّ كلّ دعاء من كلّ أحد لكلّ أحد في كلّ عنوان، هو عبادة له ومخّ العبادة. فهذا الزعم واضح البطلان، فلينظر إلي أصحابه وعلمائه وأُمرائه، فكم يدعو وينادي الرجل منهم غيره، ويستعين به في حوائجه في حَلّهم وارتحالهم، وسلمهم وحربهم، وقضائهم وسياستهم. فهل كلّ هذا عبادة لغير الله وشِرْك به؟! وهل كلٌّ منهم مشركون؟!

الاستغاثة بالوسائط

وأمّا قوله فيما استشهد به من قول الله في سورة القصص: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)). فقد دلّت الآية علي جواز الاستغاثة بالمخلوق في إبقاء الحياة ; وحفظ النفس من الهلكة; أولغيرذلك من الغايات، كمااستشهدبه هولذلك،وناقض به دعواه الأولي. وأمّا دعواه جواز حصرها في أمر الدنيا وفيما هو المقدور للعباد من الأحياء بزعمه وقياسه. فإنّما تردّها الآيات المطلقة التي استدلّ بها علي دعواه ; حسبما ادّعاه علي أنّ مطلق الاستعانة بالغير والابتهال إليه والتضّرع لديه شرْك به تعالي.

ص: 15

علي أنّه يردّها قوله تعالي في غير موضع من القرآن ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ)). حيث دلّت الآية علي لزوم الدعاء إلي الله في قضاء الحاجات، والنجاة من الهلكات منه سبحانه تعالي، وأنّ ما عداه شِرْك مُناف للإخلاص. وعليه يلزم التناقض بين الآيتين. ودفعه لا يكون إلاّ بدعوي: أنّ الاستعانة بالغير علي وجه الاستقلال والاستبداد _ بإلغاء ذي الواسطة _ فيكون شركاً مُنافياً للعبادة والخلوص، كما تقدّم في معني الشرك. وهذا من غير فرق بين جعل الواسطة في الأُمور المتعلّقة بهذه النشأة أو غيرها ; حيث إنّ الشرك حرام شرعاً وقبيح عقلا، وحكم العقل ليس قابلا للتخصيص ولا التبعيض، وقد قَبِله الشرع مع اتّحاد المناط في الحرمة.

ادلة المنع من الاستشفاع

فدعوي المتكلّف: أنّ الاستشفاع بغير الله شرك، مستدلاّ: تارة بقوله: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ)). وأخري بقوله تعالي: ((وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَن اِرْتَضَي)). ومرّة بقوله تعالي في سورة سبأ: ((وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)). وتارة بقوله تعالي في سورة طه: ((يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً)). وأُخري بقوله تعالي: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللهِ زُلْفَي)). إلي آخر ما استشهد به لدعواه.

ص: 16

الرد علي ذلك

فقد يردّها: أنّ الشفاعة من المعاني النسبيّة القائمة بالطرفين، نظير العقود والمعاملات القائمة بالموجب والقابل، فمتي لم يرضَ المُشفِّع، كما لو لم يشفع الشفيع، تقع الشفاعة لغواً. فعدم الشفاعة تارة لفقد المقتضي، أعني قابليّة الشفيع للشفاعة، أو المشفَّع له. أو لوجود مانع هناك ; أعني بلوغ المعصية إلي حدّ تمنع عنها حسبما نراه في المتعارفات الخارجية.

الادلة علي جواز الشفاعة

مضافاً إلي دلالة غير واحد من الآيات عليه، مثل قوله: ((إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح))الآية، حيث نهي الله نبيّه من الشفاعة في ولده ; لأنّه قد بلغ في المعصية والمخالفة مالا تصحّ معها الشفاعة له. ومثله قوله تعالي: أمّا في المنافقين ففي موضعين من القرآن: أحدهما: في سورة البراءة: ((إنْ تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)). والأُخري: في سورة المنافقين قوله تعالي: ((سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)). وأمّا في المشركين فقوله تعالي في سورة البراءة: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَي مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ))، فتأمّل في قوله ((مِنْ بعْدِ مَا تَبَيَّن)) ولا تغفل. وقال بعض المفسّرين في قوله تعالي في سورة المدثّر: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)): إنّ معناه لا شافع ولا شفاعة، فالنفي راجع إلي الموصوف والصفة معاً، والآية من باب ((لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً)) من حيث إنّها سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 17

بل، وإذا اشتدّ المانع تجافي الشفيع عن الشفاعة. وربّما ينقلب الشفيع خصيماً، كما في سورة نوح قوله تعالي: ((رَبِّ إنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً))، وهذا معني قوله: ((وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)) وقوله: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ))، فمتي صحّ الإذن صحّت الشفاعة، ومتي لم يأتِ الإذن تقع الشفاعة لغواً، والطلب من المشفَّع له باطلا. وهذا لا دخل له بحديث الشرك وتضمّن بعض الآيات غايتها الدالة علي أنّ العبادة للشفيع بإزاء شفاعته يكون شركاً باطلا، لا أنّ جعل الشفيع يكون كفراً وارتداداً. بل يكون أمراً راجحاً يحكم به ضرورة العقل، فضلا عن الشرع، كما سيجيء بيانه في المقام الثاني.

استدلال آخر لنفي الشفاعة

وأمّا الجواب عن(استدلاله ب_ )قوله تعالي في سورة مريم: ((لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)). فليس في ظاهر الآية أنّ المقصود منها خصوص أنّ المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم، أو خصوص أنّهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم. لأنّ المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلي الفاعل، كذلك يجوز ويحسن إضافته إلي المفعول. إلاّ أن نقول: إنّ حمل الآية علي الوجه الثاني أولي ; لأنّ حملها علي الوجه الأوّل يجري مجري إيضاح الواضحات، فإنّ كلّ أحد يعلم أنّ المجرمين الذين يُساقون إلي جهنّم وِرْداً، لا يملكون الشفاعة لغيرهم، فتعيّن حملها علي الوجه الثاني.

ص: 18

الآية صريحة في إثبات الشفاعة

بل الآية صريحة في الاستدلال بها للشفاعة لأهل الكبائر لقوله تعالي: ((إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ)) فكلّ من اتّخذ عند الرحمن عهداً بالتوحيد والإسلام أو الإيمان بالله، فهو ممّن يجب أن يكون داخلا تحت هذه الآية، فالآية بظاهرها حجّة عليهم، لالهم.

التقرب بالأصنام

وأمّا قوله تعالي عن المشركين في سورة زمر: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللهِ زُلْفَي)). فلوضوح أنّ المذمّة واللوم لم تكن علي اعتقاد الشفاعة أو التقرّب إلي الله زُلفي، بل علي العبادة الحقيقيّة منهم لأصنامهم، بأنّ لهم مع الله تعالي التصرّف الاستقلالي في الأكوان، وعلّلوها: بأنّا لا نقدر علي عبادة الله، فنكتفي بعبادة هؤلاء الأصنام.

الآيات المانعة عن الاستشفاع خاصة

وأمّا الجواب عن(الاستدلال ب_ )سائر الآيات كلّها: أنّها مختصّة بالكفّار ; جمعاً بينها وبين الأدّلة. فإنّها بين ما سيقت لذلك، ولدفع توهّم الاستقلال بالشفاعة، مع بيان عظمة الله وكبريائه، وأنّه لا يُدانيه أحد ليقدر علي تغيير ما يريده شفاعة وضراعة ; فضلا عن أن يدافعه عناداً أو مناصبة. كما في قوله تعالي: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ)). فالآية مُثبتة للشفاعة، و نظيرها الآيات السابقة التي استدلّ بها المتكلّف. وتؤكّدها الاستثناءات الكاشفة عن ثبوتها. قال الرازي في قوله تعالي: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ)): استفهام معناه الإنكار

ص: 19

والنفي، أي لا يشفع عنده أحد إلاّ بأمره، وذلك أنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الأصنام تشفع لهم، وقد أخبر الله عنهم: أنّهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا، ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلي الله زُلفي. فأخبر الله أنّه لا شفاعة عنده لأحد إلاّ من استثناه الله بقوله: ((إلاّ بإذنه)). ونظيره قوله في سورة النبأ: ((يَوْمَ يُقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَاباً)) إنتهي. وفي سورة النجم: ((وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمَواتِ لاَتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ إلاّ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَي)). وبين ما نزلت ردّاً للمشركين من عَبَدة الأصنام، ورغماً عمّا كانوا يزعمونه من الشفاعة لآلهتهم. كما في سورة بني إسرائيل: ((قلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا)). وكما في سورة السبأ في قوله تعالي: ((قُلِ ادْعُو الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة)) إلي قوله: ((وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ)). وَكَما في قوله تعالي في سورة الزمر: ((أَم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ - قُلْ للهِِ الشَّفَاعَةُ)). والعجب من المتكلّف حيث أعجبه التمسّك بهذه الآية في منع الاستشفاعات في غير موضع من كتابه. وهي كما تري، والمغالطة في إسقاطهم لصدر الآية كما عرفت. ومثلها ما في سورة يونس: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)). وفي سورة الروم: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُْمجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ

ص: 20

شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)). وفي سورة الأعراف: ((يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)). وفي سورة الكهف: ((وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)). وفي سورة الأنعام ((وَلَوْ تَرَي إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةِ بَاسِطُوا أَيدِيهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ...)) إلي قوله: ((وَمَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاء)) إلي غيرها فانها صريحة وافية للمقام. وبين ما سيقت للردّ علي مقالة اليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الأنبياء، وآباؤنا يشفعون لنا. فأجابهم الله بقوله تعالي في سورة البقرة: ((وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ)). وقال تعالي في هذه السورة: ((وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ)). قال المفسّرون: إنّ حكم هذه الآيات مختصّ باليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا، فآيسهم الله من ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم، والمراد به الخصوص. أقول: وهب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصيّة السبب، إلاّ أنّ تخصيص مثل هذا العامّ بمثل هذا السبب المخصوص، ممّا يكفي فيه أدني دليل ; وكيف بالدلائل القطعيّة القائمة للشفاعة؟! فيخصّص بها قطعاً. فسقط الاستدلال بالنكرة في سياق النفي تارة. وبعدم الانتصار اُخري.

ص: 21

وبعدم إجزاء نفس عن نفس ثالثة. وهكذا الكلام في نظائرها. وبين ما سيقت لبيان شدّة الموقف وأهواله، وأنّه _ يومئذ _ لا ينفع الكفّار بيعهم وخلّتهم وشفاعتهم _ بعضهم _ في دفع العذاب عن خليله أو مولاه: مثل ما في سورة الدخان قوله تعالي: ((يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْليً عَنْ مَوْليً شَيْئاً إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ)). وقوله في سورة البقرة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ)). قال الرازي: لما قال: ((وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ)) أوهم ذلك _ أي ألخُلّة والشفاعة مطلقاً _ فذكر تعالي عقيبه: ((والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ليدلّ علي أنّ ذلك النفي مختصّ بالكافرين، وعلي هذا التقدير تكون الآية دالّة علي إثبات الشفاعة في حقّ الفسّاق. وبين ما لبيان أنّ الشفاعة الثابتة مختصّة بالمرضيّين: كقوله تعالي في سورة طه ((يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)). وقوله تعالي: ((وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)) أي لمن ارتضي الله دينه، وسيأتي بيانه. أو لبيان أنّ المجرمين غير قادرين علي الشفاعة إذ لا يملكونها: كما في سورة مريم قوله تعالي: ((وَنَسُوقُ الُْمجْرِمِينَ إلَي جَهَنَّمَ وِرْداً - لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ)) ألا تنظر إلي قوله بعده: ((إلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)) إلي غير ذلك.

ص: 22

صفحة فارغة

ص: 23

ثبوت الشفاعة في العقيدة الإسلامية

اشاره

أعلم: أنّ الشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئاً، ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع الذي هو ضدّ الوتر، كأنّ صاحب الحاجة كان فرداً، فصار الشفيع له شفعاً، أي صارا زوجاً. وقد أجمع المسلمون كافّة علي ثبوت الشفاعة، خلافاً للخوارج وبعض المعتزلة، حيث خصّوها بزيادة المنافع للمؤمنين ورفع درجات المثوبين والمستحقّين. مع ضرورة حكم العقل بحسن العفو عن الكبائر وصريح الُمحْكمات من الكتاب والسُّنّة، كما سيجيء ذكرها. مع ما عرفت من الجواب عمّا تمسّك به المانع المتكلّف من المتشابهات.

ص: 24

الاجماع علي الشفاعة

ولو لم يقم الإجماع علي ثبوتها بهذا المعني، وكانت الشفاعة بحيث يصحّ إطلاقها علي مجرّد طلب الزيادة، لكنّا شافعين للرسول بقولنا: «اللّهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد». ضرورة أنّا لم نطلب له((صلي الله عليه وآله وسلم))إلاّ الزيادة في فضله. وحيث بطل هذا القسم تعيّن الثاني. لا يقال: إنّ ذلك إنّما كان لوضوح علوّ رتبة الشفيع علي المشفوع له وانحطاطهم عنه، وإنّ غرض السائل من الصلوات هو التقرّب بذلك إلي المسؤول ; وإن لم يستحقّ المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة. فإنّا نقول: إنّ الرتبة غير معتبرة في الشفاعة، ويدّل عليه لفظ الشفيع المشتقّ من الشفع. علي أنّا، وإن قطعنا أنّ الله يكرّم رسوله ويعظّمه ; سواء سألت الأُمّة ذلك أو لم تسئله، ولكنّا لم نقطع بأنّه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأُمّة ; علي وجه لولا سؤالهم لما حصلت الزيادة، ومع جواز هذا الاحتمال وجب أن يبقي جواز كوننا شافعين للنبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)). قال العلامة القوشجي: اتّفق المسلمون في ثبوت الشفاعة ; لقوله تعالي: ((عَسَي رَبُّك أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَاماً مَحْمُوداً))، وفُسّر بالشفاعة. قال: ثمّ اختلفوا: فذهب المعتزلة إلي أنّها زيادة المنافع للمؤمنين المستحقّين للثواب. وأبطله المصّنف: بأنّ الشفاعة لو كانت كذلك لكُنّا شافعين للنبيّ ; لأنّا نطلب زيادة المنافع له. والتالي باطل ; لأنّ الشفيع أعلي رتبة من المشفوع له. إنتهي.

ص: 25

وقال العلاّمة في «البحار» في ما حكاه عن النووي في «شرح صحيح مسلم» (1): إنّه قال: قال القاضي عياض: مذهب أهل السُّنّة جواز الشفاعة عقلا. ووجوبها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق((عليه السلام))، وجاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف ومن بعدهم من أهل السُّنّة عليها. ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجّوا بقوله تعالي: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)) وأمثاله، وهي في الكفّار. وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة وغيرها فهي صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. انتهي.

العقل يدل علي صحة الشفاعة

وأمّا العقل فقد قالت الفلاسفة في هذا المقام: إنّ واجب الوجود عامّ الفيض تامّ الجود، فحيث لا تحصل الشفاعة فإنّما هو لعدم كون القابل مستعدّاً، ومن الجائز أن لا يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود، فيكون ذلك الشيء كالمتوسّط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأوّل. ومثاله في المحسوس أنّ الشمس لا تضيء إلاّ للقابل المقابل، وسقف البيت لما لم يكن مقابلا لجِرْم الشمس، فلا جَرَمَ لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس، إلاّ أنّه إذا وضع طشت مملوّ من الماء الصافي، ووقع عليه ضوء الشمس، أنعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلي السقف، فيكون ذلك المآء الصافي متوسّطاً في وصول


1- شرح صحيح مسلم، للنووي 3/35 باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحّدين من النار.

ص: 26

النور من قُرص الشمس إلي السقف الذي غير مقابل للشمس. وأرواح الأنبياء والأوصياء والصالحين، كالوسائط بين واجب الوجود وبين الخلق. والتحقيق: أنّ المعصية ليست بما هي علّة للتعذيب والخلود، وإنّما هي المقتضي له لولا المانع ; من الاستشفاعات المنصوبة من الله الرؤوف المالك للشفاعة. كما يشهد به الكتاب والسُّنّة وبداهة حكم العقل مع قرينة شدّة الرأفة والرحمة منه تعالي. ولذلك فرّق الشارع بين نيّة الحسنة ونيّة السيّئة في الاستحقاق وعدمه، مع أنّهما في الاقتضاء سواء ; سبقت رحمته غضبه. فقد ظهر: أنّ الحديثين إنّما سيقا لبيان الاقتضاء: أمّا الأوّل: فبدليل قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)) في النبوي: ((لو لم ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها)). أمّا الثاني: فبضرورة ما في السباق من احتمال العثرات، وصريح ما ورد في الحَبْط من الآيات والعمومات، النافية لاستحقاق العقوبة علي نيّة السيّئات، وأنّها لا تكتب مالم يتلبّس بها. وبالجملة: فلو لم تكن المعاصي مقتضيات لما كان النادم عليها ماحياً لها تائباً عنها، كما صحّ: أنّ ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)). وقوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((من سرّته حسنته وسائته سيّئته فهو مؤمن)). وذلك لوضوح أنّ من ساءته سيّئة، فهو النادم منها التائب عنها الماحي لها، ومعه فلا غَرْوَ ولا عجب أن يجعل الله الأمر بالمودّة والتمسّك والتوسّل بذوي القربي من أهل بيت رسوله، مانعاً لتأثير المعصية، شافعاً فيها، توبة عنها، ماحياً لها، وإن رغم الراغمون، وخسر هنالك المبطلون.

ص: 27

تذبذب بين المعتزلة و الأشعرية

وليت شعري، ولا يكاد ينقضي تعجبي، من هؤلاء الإخوان، وما أدري أنّهم في إنكارهم للشفاعة أشعريّة أم معتزلة، وبأيّهما اقتدوا؟ وبأيّ ديانة دانوا فتديّنوا؟ فإن كانوا في الأُصول أشعرية فقد عرفت أنّ مذهبهم علي ثبوتها وإثباتها. وإلاّ فيرد عليهم ما يرد علي المعتزلة من المناقضة لأصلهم، فإنّ من قال بقاعدة التقبيح والتحسين، فقد التزم في المسألة موافقة الأشعريّين، فظهر أنّهم دانوا بالشفاعة من حيث لا يشعرون.

الآيات الدالة علي ثبوت الشفاعة

وأمّا الآيات: فقد قال الله تعالي في سورة الإسراء: ((عَسي رَبُّكَ أن يَبْعَثَكَ مَقاماً مَحْمُوداً)). وقال في سورة الضحي: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي)). وقال في سورة المؤمن: ((ألَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤمِنونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)). وقال تعالي في سورة يوسف حاكياً مقالة الأسباط: ((قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) إلي قوله: ((سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ)). وقال تعالي في سورة النساء: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً)). وقال تعالي في حكايته عن عيسي((عليه السلام)): ((إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ

ص: 28

فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). وقال تعالي حكاية عن إبراهيم: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). فقد دلّت الآيات كغيرها علي ثبوت الشفاعة لنبيّنا خاصّة وللملائكة والنبيّين والأولياء والصالحين عامّة وشفاعة القرآن أيضاً. حيث لا يجوز حمل هذه الآيات علي الكافر، فإنّه ليس أهلا للمغفرة بالإجماع. ولا يجوز حمله علي صاحب الصغيرة. ولا علي صاحب الكبيرة بعد التوبة ; لأنّ غفرانه لهم واجب عقلا عند الخصم، فلا حاجة له إلي الشفاعة. فلم يبقَ حمله إلاّ علي صاحب الكبيرة قبل التوبة.

الروايات الدالة علي ثبوت الشفاعة

ويؤيّد ذلك: ما رواه الرازي عن البيهقي: ((أن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) لمّا تلا هاتين الآيتين رفع يديه، وقال: إلهي أُمّتي أُمّتي، وبكي، فقال الله: يا جبرائيل إذهب إلي محمّد _ وربّك أعلم _ فَسَلْهُ ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، وسأله فأخبره رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) بما قال، فقال الله: يا جبرائيل إذهب إلي محمد وقل له: إنّا سنُرضيك في أُمّتك)) (1). وقوله((صلي الله عليه وآله وسلم)) في الصحيح: ((إدّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي)) (2).


1- التفسير الكبير للرازي.
2- مجمع الزوائد 7/5، مسند أحمد 2/313 و 3/20 بلفظ أخّرت، ولاحظ سنن ابن ماجة 2/1441، والترمذي 4/45، والحاكم في المستدرك 1/69 و 2/382.

ص: 29

وقوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((واُعطيت الشفاعة)) رواه البخاري (1). وصحّ أيضاً عنه فيما أخرجه بإسناده عن عمران بن حصين، قال: ((يخرج من النار بشفاعة محمّد((صلي الله عليه وآله وسلم)) فيدخلون الجنّة، ويسمّون الجهنّمّيين)) (2) إلي غير ذلك. وقال الرازي في قوله تعالي: ((وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)) إجلالا له حيث أكرمه بوحيه، وجعله سفيراً بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإنّ الله لا يردّ شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلي الغيبة ما ذكرناه (3). أقول: ومثلها في الدلالة قوله: ((الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ)) فإنّ هذه الآية نصّ صريح في المدّعي، ولا سيّما بقرينة ذكر الاستغفار الملازم لإسقاط العقاب وذكر ((الذين آمنوا)) و((الذين تابوا)) إلي غير ذلك. والمناقشة فيها: بأنّ قيد التوبة واتّباع السبيل مما هي قرينة علي ثبوت الشفاعة بالمعني الخاصّ وصرفها عن عموم الدعوي لأنّ التائب والمتّبِع للسبيل لا يفتقران إلي الشفاعة بالمعني العامّ. مدفوعة: بالنقض بقيد المغفرة الظاهرة في معني الحطّ والستر للذنب، وحلاّ: بأنّ القيدين هنا من باب ذكر بعض أفراد العامّ وأقسامه، فلا يُخصّص العامّ بها، وهذا ثابت في علم أُصول الفقه. ثم يدلّ أيضاً علي ثبوت الشفاعة للملائكة قوله تعالي في صفتهم في سورة الأنبياء: ((وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)).


1- صحيح البخاري 1/113 و 211، وصحيح مسلم 2/63، وسنن النسائي 1/211، والدارمي 1/323، ومسند أحمد 4/434.
2- صحيح البخاري 7/202 و 203 الرقاق، وصحيح مسلم 1/123 الإيمان، والترمذي 4/114، وسنن ابن ماجة 2/1443 الزهد، ومسند أحمد 4/434، وراجع مجمع الزوائد للهيثمي 10/379، وكنز العمال 14/408 و 506 و 513 و 541.
3- التفسير الكبير للفخر الرازي.

ص: 30

ووجه الاستدلال: أنّ صاحب الكبيرة هو المرتضي عند الله بحسب إيمانه وتوحيده، وكلّ من صدق عليه أنّه المرتضي عند الله بهذا الوصف وجب أن يكون من أهل الشفاعة، فإنّ الاستثناء من النفي إثبات. وإذا ثبت أنّ صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة، وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة نبيّنا محمد((صلي الله عليه وآله وسلم))بعدم القول بالفصل. ((لا يقال:)) إنّ صاحب الكبيرة فاسق، والفاسق ليس بمرتضيً بحسب فسقه وعصيانه. لأنا نقول: قد تبيّن في العلوم المنطقية أنّ المهملتين لا تتناقضان، فالمرتضي بحسب إيمانه لا ينافيه عدمه بحسب فسقه. وقال الرازي: اعلم أنّ هذه الآية أقوي الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر. وتقريره: هو أنه من قال: «لا إل_هَ إلاّ الله» فقد ارتضاه في ذلك، ومتي صدق عليه أنّه ارتضاه الله في ذلك فقد صدق عليه أنّه ارتضاه الله، لأنّ المركّب متي صدق فقد صدق _ لا محالة _ كلّ واحد من أجزائه، وإذا ثبت أنّ الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية. وقال في قوله تعالي: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))، كما نري في المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيّين. ثم قال: احتجّ أصحابنا بمفهوم هذه الآية، وقالوا: إنّ تخصيص هؤلاء بأنّهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلّ علي أنّ غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. وفي تفسير آخر: فما تنفعهم شفاعة الشافعين كما نفعت للموحّدين. وقال في قوله تعالي: ((عَسَي أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّك مَقَاماً مَحْمُوداً)): قال الواحدي: أجمع المفسّرون علي أنّه مقام الشفاعة كما قال النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)) في

ص: 31

هذه الآية ((هو المقام الذي أشفع فيه لأُمّتي)). ثمّ أخذ في بيان وجوه الاستدلال بها، وتضعيف ما فسّره البعض بآرائهم. ورواه أبو السعود في تفسيره عن أبي هريرة. وقال في قوله تعالي: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي)): عن تفسير وكيع قال: ولسوف يُشفّعك، يا محمّد، يوم القيامة في جميع أهل بيتك وفي أُمّتك، وتدخلهم الجنّة ترضي بذلك عن ربّك. وعن فردوس الديلمي قال: الشفعاء خمسة: القرآن والرحم والأمانة ونبيّكم وأهل بيت نبيكم. والعلاّمة أبو السعود في تفسيره عن سعيد بن جبير قال: يدخل المؤمن الجنّة، فيقول: أين أبي وولدي؟ وأين زوجي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: إنّي كنتُ أعمل لي ولهم، فيقال: أدخلوهم الجنّة بشفاعته وسبق الوعد بالإدخال. ثمّ قال في الجواب عن شبهة هؤلاء: والإدخال لا يستدعي حصول الموعود بلا توسّط شفاعة واستغفار، وعليه مبني من قال: إنّ فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب، والأوّل هو الأولي، لأنّ الدعاء بالإدخال فيه صريح، وفي الثاني ضمنيّ، إنتهي كلامه. وعن بشر بن ذريح البصري، عن محمّد بن عليّ((عليهما السلام)) في قوله تعالي: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي)) قال: قال: ((الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة)). وقال الرازي في هذه الآية: يعني به الشفاعة تعظيماً لنبيّه. قال: عن عليّ بن أبي طالب((عليه السلام)) وابن عبّاس: إنّ هذا لهو الشفاعة في الآية. يروي أنّه لما نزلت الآية قال((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((إذن لا أرضي وواحد من أُمّتي في النار)). ثمّ قال: واعلم أنّ الحمل علي الشفاعة متعيّن، ويدلّ عليهوجوه ذكرها هناك (1).


1- التفسير الكبير للرازي.

ص: 32

وفي «النهاية» لابن الأثير قال في ترجمة «وحا» من في حديث أنس: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي حتّي حكم وحاء)) (1) قال: وهما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يَبْرِيْنَ، ومثله قال في ترجمة «حَكَم». وفي مرفوعة جابر عنه((صلي الله عليه وآله وسلم)) في حديث له أنّه قال: ((أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، وفي ظلال الرحمن يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ولا فخر، ما بال قوم يزعمون أنّ رحمي لا ينفع، بل حتّي يبلغ حانكم أنّي لأشفع فأُشفّع)) الخبر إلي قوله: ((حتّي إنّ إبليس ليتطاوَل طمعاً في الشفاعة)) (2). وعن عبدالله بن عبّاس عن النبيّ أنّه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم علي جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئاً، إلاّ شفّعهم الله فيه (3). إلي غير ذلك من الآيات والروايات في إثبات عموم الشفاعة بما ورد من أعيان علماء السُّنّة والجماعة ومفسّريهم، مالا يحتمله هذا المختصر، فليراجع المطوّلات.

تموية في إنكار الشفاعة

وبعدما أسلفناه وما سيأتي في معني الاستشفاع بالأولياء، فلا يُصغي إلي شيء ممّا تكلّف به محمد بن عبد الوهّاب في رسالته من التمويه والمغالطة تبعاً لإمامَيْهِ ابن القيّم وابن تيميّة بقوله: فإن قال: إنّ النبيّ أُعطي الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله.


1- انظر كنز العمال 14/412.
2- مجمع الزوائد 10/376 و 380 عن الطبراني في الأوسط.
3- مسلم 3/53، والترمذي 2/247، وابن ماجة 1/477، والنسائي 4/75، مسند أحمد 3/66 كلهم في الجنائز، وانظر كنز العمال 15/581، ومجمع الزوائد 5/292.

ص: 33

فالجواب: إنّ الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا ; يعني به الشرك، وقال ((فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)). فإن كنت تدعو الله أن يشفّعه فيك فأطعه في قوله: ((فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)). وأيضاً فإنّ الشفاعة أعطاها غير النبيّ، فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون أتقول: إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟! فإن قلت هذا، رجعت إلي عبادة الصالحين. أقول: إعلم أنّ موضع المغالطة من كلامه، هو أنّه زعم أنّ الشفاعة هي شفع الغير مع الله في المسألة والدعوة لقضاء الحوائج. ولم يَدْرِ المسكين أنّ الشفاعة _ كما مرّ تعريفها في صدر المقام _ هو شفع الغير وضمّه مع المستشفع للذهاب إلي الله وتوجّههما معاً إليه سبحانه، ودعاؤنا الشفيع دعوته لذلك، لا ما توهّمه المغالط.

ليست الشفاعة بشرك

وبعدما ثبتت الشفاعة إجمالا وتفصيلا، كتاباً وسنةً، إجماعاً وعقلا، حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً، فقد علم بالضرورة من الشريعة: أنّها ليست بشرك. وأنّ الاستشفاعات والتوسّلات لا تنافي شيئاً من التوحيد ولا الإخلاص. وأنّ دعاء الصالحين والالتماس منهم إنّما هو لكي يدعو الله للعباد بالرحمة والمغفرة، فليس من الدعاء المنهيّ عنه. وإنّما الدعاء المنهيّ عنه في قوله تعالي: ((فَلاَ تَدْعوا مَعَ اللهِ أَحَداً)) هو أنّ العبد يقرن الصالحين بالله في دعائه، ويسألهما معاً في عرض واحد، وذلك بقرينة لفظ «مع»، وكما هو معني الشرك والتشريك في العبادة، فإنّ الإشراك هنا وضع

ص: 34

المعبوديّة في غير الله. كما في قوله: ((يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)). وقوله تعالي عن إبليس: ((إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)). قال الرازي: أي بإشراككم إيّاي مع الله في الطاعة. وقوله تعالي عن موسي: ((وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)). بجعله شريكاً له معه في النبوّة. وأمّا إذا لم يكن سؤاله حقيقة إلاّ من الله، ولم يكن له النظر مستقلاّ إلاّ إليه تعالي دون غيره، فيدعو الله ويسأله بوجه نبيّه، فهذا ليس من الشرك في شيء. يفصح منه لفظ الشرك المشتقّ من مادّة الإشراك بجعل الشريكين علي نمط واحد. فلو سأل العبد النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) أن يغفر له ذنبه، أو سأل النبيّ مع الله بقوله: يا ألله ويا نبيّ الله أغفرا لي ذنبي، كان ذلك شركاً منه. وأمّا لو سأله أن يسأل الله غفران ذنبه، فهذا من غفران الذنب الموعود من الله بالشفاعة، والسؤال منه تعالي، لا من النبيّ. وإنّما المسؤول من النبيّ التماس دعائه من الله تعالي ليسأله بوجهه.

صور من الأدعية المأثورة

وهذه دعواتنا المأثورة عن الأئمّة((عليهم السلام))، حيث نقول: ((اللّهمّ إن كانت الذنوب والخطايا قد أخلقت وجهي، فإنّي أسألك بوجه حبيبك محمّد)). وفي الدعاء عند النوافل الليليّة: ((اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمّد((صلي الله عليه وآله وسلم))، وأُقدّمهم بين يدي

ص: 35

حوائجي في الدنيا والآخرة، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين. أللّهمّ أرحمني بهم، ولا تعذبّني بهم...)) الدعاء. فليس المراد بالاستغاثات والتوسّلات إلاّ طلب الدعاء من المستغاث، كما في قوله عزّوجلّ في القدسيّات: ((يا موسي أُدعُني بلسان لم تعصِني به، فقال: يا ربّ وأين ذلك؟ فقال: بلسان الغير)). وأيضاً، فإنّ بني إسرائيل قد دعوا الله بلسان نبيّهم في مواضع من القرآن ; حيث حكي الله عنهم في قوله تعالي: ((لَنْ نَصْبِرَ عَلي طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ))الآيات. فأنِصفْ وراجع. أين هذا من دعاء الغير أو شركة الغير مع الله في الدعاء؟! سُبحانك إنْ هذا إلاّ بهتان عظيم. وكيف كان، فقد عرفت أنّ الآيات والروايات لاتدلّ علي النهي بشيء من ذلك كلّه، بل الآيات علي خلافه كما عرفت.

الاستشفاع بالأموات

ثمّ، ومن أوهن المناقشات والشفاعات والتوسّلات، هو المناقشة في جوازها بعد موت الشفيع. وذلك لثبوت جوازها مطلقاً ; من غير فرق بين النشآت. بعد صريح عبارته في رسالته بشفاعة الملائكة والأولياء والأفراط. وصريح الآيات بحياتهم المستقرّة بعد موتهم. ومع اتّحاد المناط في الغايات.

ص: 36

وحكم العقل بحسن الواسطة من غير تخصيص ولا تبعيض. وبالجملة: فقد أطنب الوهابيّة في شبهة العابد بالمعبود، وشبهة الزيارة بالعبادة ; حتّي صاروا بجمودهم وخضوعهم لشبهتهم هذه، كأنّهم آلة هدم الإسلام باسم الإسلام. قد أوضحنا الجواب عن الأُولي.

الزيارة والعبادة

وأمّا الثانية: فأمّا قوله فيما نسجه: «ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء التي لا يقدر عليها إلاّ الله...» إلي قوله: «وأمّا بعد موته _ يعني به النبيّ _ فحاشا إنّهم ما سألوه عند قبره، بل أنكر السلف...» إلي آخر كلماته. فأقول: وليت شعري ما هذا النكير؟! وما قياس الأنبياء والشهداء _ المصرّح بحياتهم المستقرّة في القرآن _ بسائر الموتي؟! وما معني إضافة الاستغاثة إلي العبادة؟! وما المانع من الاستغاثة عند قبور الأولياء؟! وما المراد بقوله: «لا يقدر عليها إلاّ الله»؟! وما هذا الخبط؟! ثمّ وما هذا التحاشي والخلط ودعوي الإنكار؟ أفعلي عمد تركوا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم؟ فإن كان المانع منها هو شبهة الشرك، فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

ص: 37

وقد تقدّم أنّ الساعي لحاجة إخوانه عند باب مولاه لا يرتفع عن مقام العبودية بشيء. فليست الشفاعة والاستشفاع إلاّ قسماً من الدعاء الشامل لجميع الناس، واختصاص الأولياء والخواصّ بها باعتبار قبولها. وقد ورد في باب زيارة النبيّ _ كما عن حُجّة الإسلام الغزالي _ قال: «ثمّ ترجع وتقف عند رأس رسول الله _ بين القبر والأُسطوانة اليوم _ وتستقبل القبلة...» إلي قوله: «ثمّ تقول: ((أللّهمّ إنّك قلت _ وقولك الحقّ.. ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ وَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً)). أللّهمّ إنّا قد سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وقصدنا نبيّك متشفّعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا، تائبين من زللنا))...» إلي قوله: ((أللّهمّ لا تجعله آخر العهد من قبر نبيّك ومن حرمك يا أرحم الراحمين)). ومعاذ الله أن يرفع المسلمون أحداً من هؤلاء المَزُورين عن مقام العبوديّة، أو يذكرهم في الدعاء بغير الاستشفاع والتوسّل. فأين وصمة الشرك؟! ثم وما حديث التبعيض والتخصيص؟! وهل ظفر المتكلّف بعد ما تقدّم في الشفاعات والتوسّلات بآية أو رواية تخصّص بها العمومات، أو تقيد بها المطلقات؟ أو يناقض بها ما صرّح به من قبل بقوله: «فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والأوليآء يشفعون، والأفراط يشفعون»؟! وليت شعري، فإن كان المناط في الشرك هو مجرّد التوسّل بالغير والاستشفاع به. فهو الموجود عيناً في الآخرة، كما ورد أنّ الناس يسألونهم الشفاعة يوم

ص: 38

القيامة، فيشفعون لهم عند الله، فيُشفَّعون فيهم. وإذا كانت المسألة والتوسّل موجوداً في النشأتين، والمناط قائم في المقامين. فمن أين جاءت هذه الخصوصية؟! علي أنّه يلزم منه أن يكون الباطل بما هو باطل ينقلب في الآخرة حقّاً، والحقّ بما هو حقّ يكون في الدنيا باطلا وشركاً. وهذا هو التناقض البيّن وصريح الانقلاب المحال.

المزورون أحياء في قبورهم

وإن كان المانع منهما هو الموت فقد أثبت محكم القرآن حياتهم المستقرّة حياةً مخصوصة بهم، فيسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم. ولا غرو في الحياة بعد الموت مع الإقرار بعموم قدرته تعالي، فجاعل الروح في النطفة يضعها في التراب وحيث يشاء. فلو كان خطاب الموتي ممّا يوجب عند الجاهل عبثاً، فلا يوجب كفراً وشركاً. وبالجملة: فإطلاق الموت وخصوصيّة كيفيّة عود الأجسام المختصّة بالقيامة، ممّا لا ينافي شيء منها لحياتهم المستقرّة الثابتة لهم بعد الموت. وعليه اعتقاد أعاظم المحققين من علماء السُّنّة والجماعة. ويعاضده الأحاديث المعتبرة كما لا يخفي. وكما في تفسير قوله تعالي: ((واسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا)). وكان الأُستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي يقول: إنّ الأنبياء لا تبلي أجسادهم، ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، ولقد التقي نبيّنا مع إبراهيم وموسي بن عمران. وقال الرازي في قوله تعالي: ((بَلْ أَحْيَاءٌ)):

ص: 39

«إنّهم في الوقت أحيآء كان الله أحياهم لإيصال الثواب إليهم، وهذا قول أكثر المفسّرين». ثمّ أخذ يستدلّ علي حياتهم المستقرّة بوجوه، سادسها: زيارة قبور الشهداء وتعظيمها إنتهي. علي أنّهم يسمعون السلام، ويفهمون الكلام. وأنّ النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) يبلغه صلوات المصلّين عليه، ويسمعهم، وهو يعلم بهم وبمقامهم، كما ورد في الصحاح: منها: ما عن سنن أبي داود، رواه عن أبي هريرة قال: قال((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتّي أردّ السلام)) (1). وعن صحيح النسائي عنه((صلي الله عليه وآله وسلم)) قال: ((إنّ لله ملائكة في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام)) (2). وفي مرفوعة ابن عبّاس عنه((صلي الله عليه وآله وسلم)) قال: ((أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ... _ إلي قوله _: فإنّ الله حرّم علي الأرض لحوم الأنبياء)) (3). وفي حديث آخر صحّ عنه قال: ((علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي)) (4). وفي آخر قال: ((إنّ الله وكّل ملَكاً يُسمعني أقوال الخلائق، يقوم علي قبري،


1- السنن الكبري للبيهقي 5/245 باب زيارة قبر النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم))، ومجمع الزوائد للهيثمي 10/162 عن الطبراني في الأوسط، وكنز العمال 1/491 عن أبي داود.
2- سنن النسائي 3/43 في نوع آخر من التشهّد.
3- سنن النسائي 3/91، وسنن الدارمي 1/369، وسنن ابن ماجة 1/345 و 524، ومستدرك الحاكم 1/278 و 4/560، والسنن الكبري للبيهقي 3/249، وكنز العمال 1/499 و 7/708.
4- لم أجده، لكن في مجمع الزوائد 4/2: من حجّ، فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي، رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

ص: 40

فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد إنّ فلان بن فلان يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فإنّ صلاتكم تبلغني)) (1). كما في المرويّ عن الدار قطني في السنن عنه((صلي الله عليه وآله وسلم)) أنّه قال: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) (2). وعن ابن عمر _ مرفوعاً عنه _ أنّه قال: ((من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) (3). وفي آخر: ((من زارني كنت شهيداً أو شفيعاً)). ثمّ إنّ هؤلاء المزورين من الأولياء والصالحين، إن هم إلاّ عباد الله الذين تشرّفوا بطاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم له جلّ شأنه، ولهم التقدّم بسابقتهم في الإسلام، واجتهادهم في الدين. وقد ورد في الشريعة المطهّرة والسُّنّة النبويّة من الرجحان في زيارة سائر المؤمنين من أهل القبور والتسليم عليهم، فكيف بهؤلاء؟! وهل يكون التسليم علي مثل هؤلاء الصالحين شِركاً وقد سلّم الله _ عزّوجلّ _ في كتابه علي آحاد من الأنبياء والمرسلين، فقال: ((سَلاَمٌ عَلَي نُوح فِي الْعَالَمِينَ سَلاَمٌ عَلَي إِبْرَاهِيمَ سَلاَمٌ عَلَي مُوسَي وَ هَرُونَ)). وقد سلّم علي يحيي وإلْياسين، وصلّي علي الصابرين من المؤمنين، وأمر رسوله بالسلام عليهم. وأوجب علي المسلمين كافّة أن يُخاطبوا نبيّهم في كلّ يوم خمس مرّات إلي يوم


1- مجمع الزوائد 10/162 عن الطبراني في الكبير والأوسط، وكنز العمال 1/494 عن الفردوس.
2- مجمع الزوائد 4/2 عن البزار.
3- مجمع الزوائد 4/2 عن الطبراني في الكبير والأوسط.

ص: 41

القيامة بالصلوات عليه فيقولوا: ((السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته)). وفرض السلام علي عباد الله الصالحين من جميع المؤمنين السالفين منهم واللاحقين. وأن لا يتمّ لأحد صلاته إلاّ بالصلوات علي نبيّه محمّد((صلي الله عليه وآله وسلم)) الطاهرين. ولَنِعْم ما قال الشافعي، كما روي عنه ابن حجر في «الصواعق»: يا آل بيتِ رسول الله حبُّكُمُ++ فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَهُ كفاكُمُ من عظيم الفخرِ أنّكُمُ++ من لا يصلّي عليكم لا صلاةَ لَهُ

دفاع الآلوسي البغدادي عن الوهابية

وأمّا ما ذكره ابن الآلوسي البغدادي فيما رّوج به أمر الوهابيين من «تاريخ نجد» _ في صفحة 48 _ قال: والذي اعتقدوه في النبيّ أنّ رتبته أعلي مراتب المخلوقين علي الإطلاق، وأنّه حيّ مرزوق في قبره حياة مستقرّة أبلغ من(حياة)الشهداء المنصوص عليها في التنزيل ; إذ هو أفضل منهم، وأنّه يسمع سلام من يسلّم عليه، وأنّه تسنّ زيارته غير أنّه لا تُشدّ إليه الرحال. ففيه أوّلا: أنّ صراحة الآيات الُمحكمة في التنزيل، كما تراها ممّا تعمّ النبيّ وغيره من الشهداء والأولياء ممّن قُتل في سبيل الله، فلا اختصاص لها بالنبيّ، وإلاّ لأفرده الله بالذكر دونهم. وإذا كان كذلك فيتبعها لا محالة آثارها ولوازمها، من السلام والدعاء والتوسّل، كما في حياتهم. وثانياً: أنّ المراد من الحياة الثابتة لهم بقوله تعالي: ((بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ

ص: 42

يُرْزَقُونَ)) إنّما هو الأكمل والأبلغ من الحياة البرزخيّة الثابتة لعموم الموتي، وذلك لوجهين: الأوّل: تخصيص الشهداء بالذكر هنا دونهم. والثاني: إفراد سائر الموتي بالذكر في آية أُخري، لقوله تعالي فيهم: ((وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)). وقال في حياة الكفّار منهم: ((أَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)) ; وذلك لأنّ حياة القيامة ليس فيها بُكرة ولا عشيّ. هذا مع رعاية الأفضليّة. وفي المعتبرة أنّه لما سُئل النبيّ عن تكلّم الموتي، فقال((صلي الله عليه وآله وسلم)) ((نعم إنّهم يتزاورون)). وشواهد المقام لا تُحصي. فقد ظهر فساد قوله في رسالته: ونحن أنكرنا الاستغاثة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، التي لا يقدر عليها إلاّ الله. فإنّك بعدما عرفت النصوص الصريحة من القرآن، مع تصريح هؤلاء الوهّابيين واعترافهم للأولياء والصالحين بحياتهم المستقرّة، وأنّهم فيها مرزوقون منعّمون، فرحون مستبشرون، متزاورون، ولمن حيّاهم بتحيّة، أو سألهم مسألة سامعون، وبهم عارفون، وإلي الله متضرّعون سائلون، فقد اعترفوا بالمقدور. وأمّا رفع الحاجة والسؤال في كلّ حال من الأحوال إلي الله القادر علي كلّ شيء فممّا ليس فيه إشكال.

السنة والسيرة في زيارة القبور

وأما شدّة إنكارهم لزيارة القبور والوقوف عليها والدعاء لديها. فالجواب عنه فضلا عمّا عرفت: هو البيان بدليل القرآن وجميع المأثور في

ص: 43

زيارة القبور وما ورد في فضلها، وأنها من السُّنّة، وما ورد من الأعمال والأدعية هناك. فضلا عن سيرة رسول الله في زيارته شهداء أُحد، وحضوره لزيارة مقابر البقيع، ووقوفه عليها في الترحيم والتسليم، وأمره وحثّه وترغيبه وتقريره عليها. كما ورد قوله: ((كنتُ قد نهيتُكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنّها تذكّركم الآخرة)) (1). وفي المروي عن الحاكم عن أبي ذر قوله: ((زر القبور تذكر بها الآخرة))، ومثله المرويّ عن أبي هريرة فيما سيأتي بيانه. وقد روي حجّة الإسلام الغزالي في الإحياء عن ابن أبي مليكة، قال: «أقبلت عائشة يوماً من المقابر، فقلت: يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن. فقلت: أليس كان رسول الله نهي عنها؟ قالت: نعم، ثمّ أمر بها». والسرّ في النهي الأوّل: أنه كان ذلك بدوَ الإسلام، وفي زيارة القبور وتذكار الموتي كان باعثاً علي الجبن عن الجهاد، حتّي إذا قوي الإسلام أمرهم بها. ومثله غير عزيز. وقد سُئل عليّ((عليه السلام)) في الخضاب عن قول النبيّ ((غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود)) فقال: ((إنّما قال((صلي الله عليه وآله وسلم)) ذلك والدين قلّ، فأما الآن وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار)). وفي الإحياء عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) ((زوروا موتاكم،


1- سنن النسائي 4/90 و 7/235، وفي مسلم 3/65 وفيه: تذكّر الموت، وكذا ابن ماجة 1/501، ومستدرك الحاكم 1/375، والسنن الكبري للبيهقي 4/76، وعقد البيهقي باباً لخصوص زيارة القبور في البقيع فلاحظ 5/249، ولاحظ مجمع الزوائد 3/58 و 4/26، وكنز العمال 5/108 و 377 و 859، وانظر 15/646 وما بعدها.

ص: 44

وسلّموا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة)). وفيه عن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان لا يمرّ بقبر أحد إلاّ وقف عليه، وسلّم عليه. وكانت فاطمة بنت النبيّ تزور قبر عمّها حمزة في الأيّام، فتصلّي وتبكي عنده. وفيه: قال قال النبيّ: ((من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعة غُفر له وكُتب بَرّاً)). وقال: قال رسول الله: ((ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه روحه حتي يقوم)). وقال: قال سليمان بن سحيم: «رأيت رسول الله في النوم قلنا: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك يُسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأردّ عليهم». وقد تواترت الأحاديث الصحيحة الواردة عن آل محمد وحثّهم علي زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالب((عليهم السلام)).

ابن تيمية يعترف بمشروعية الزيارة

وقال أحمد بن تيميّة في رسالته التي عملها في «مناسك الحج» (1): «فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام علي الميّت والدعاء له، كما يقصد بالصلاة علي جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنّة أن يسلّم علي الميّت، ويدعو له ; سواء كان نبيّاً أو غير نبيّ، وكما كان النبيّ يأمر أصحابه إذا زار القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار... إلي آخر الزيارة. قال: وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة.


1- صفحة 392.

ص: 45

وفي المنقول عن كتاب له في فتاواه ((مسألة 22)) (1) قال: «لو سافر إلي المسجد النبوي، ثم ذهب معه إلي قبا، فهذا يستحبّ، كما يستحبّ زيارة أهل البقيع وشهداء أُحد» انتهي كلامه. وأما الدعاء عندها فلقو له تعالي: ((وَلاَ تَقُمْ عَلَي قَبْرِهِ)). حيث ذكر المفسّرون _ كأبي السعود والإمام الرازي وغيرهم من أعاظم المفسّرين _: أنّ النبيّ كان من عادته إذا دُفن الميّت، وقف علي قبره ساعة، ودعا له. ففي الآية دلالة علي أنّ القيام علي القبور للدعاء عبادة مشروعة، ولولا ذلك لم يخصّ بالنهي عن الكافر.

اسلام السلفية والوهابية

وبها استدلّ أيضاً شيخ الوهّابية ومؤسّس ديانتهم أحمد بن تيمية فيما نقل عنه من كتاب له في فتاواه ((في جواب مسألة 518)) (2) قال: «فأمّا الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة علي الميّت ; يقصد بها الدعاء للميّت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله في حقّ المنافقين ((وَلاَ تُصَلِّ عَلَي أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَي قَبْرِهِ)) فلمّا نهي عن الصلاة علي المنافقين والقيام علي قبورهم، دلّ ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلّة الحكم علي أنّ ذلك مشروع في حقّ المؤمنين. والقيام علي قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن ; يُراد به الدعاء له.


1- ص186.
2- مجلد 4 ص306.

ص: 46

وهذا هو الذي نطقت به السُّنّة، واستحبّه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين». إنتهي كلامه علي غلوّهم فيه وغلوّه في تحريم إتيان القبور والوقوف عليها والدعاء لديها وقراءة القرآن عندها. وقد أورد الغزالي أيضا في «الإحياء» عن محمد بن أحمد المروزي، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر، فإنه يصل إليهم... إلي غير ذلك. وبالجملة: فإذا كان الأمر كذلك. فما معني تخصيص جواز زيارة القبور بالنبيّ خاصّة دون غيره. وما خصوصية الحاضر دون السفر إليه وشدّ الرحل نحوه؟! أليس هذا هو التقوّل بالغيب والفتوي في دين الله بالريب؟! هذا، وأصالة الجواز فيما لم يرد فيه النهي كما تراها في الكّل محكّمة، وليست بمخصّصة، وعلي مدّعيه الإثبات، ودونه خرط القتاد. أوليس قد صحّ ما ورد عن الغزالي عن النبي أنه قال: ((من وجد سعة ولم يغدُ إليّ فقد جفاني)). فإنّ وجدان السعة إنما هو يصح للمسافر الذي يشدّ الرحل إليه.

حديث لا تشد الرحال...

ومن العجب تمسّكهم في ذلك بحديث: ((لا تشدّ الرحال إلاّ إلي ثلاثة مساجد)) المروي عن أبي هريرة. مع أنّ ذكر المساجد في المستثني بعد تسليم الحديث وصحّته، دليل علي أنّ

ص: 47

المستثني منه هو خصوص المساجد، لا مطلق السفر ; أي لا تُشدّ الرحال إلي مسجد من المساجد، فيكون الحديث ناظراً إلي الأمر بشدّ الرحال إلي المساجد المعظّمة لإدراك جمعتها وجماعتها، وليس المراد النهي عن مطلق شدّ الرحل، وإلاّ لزم تخصيص الأكثر إذ لو أُخذ بعمومه لانتقض بمطلق الأسفار المباحة والمندوبة والواجبة، مع وجوب شدّ الرحل إليها، فليكن منها شدّ الرحال إلي المشاهد المشرّفة والبيوت التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسم الله، ولتعظيم شعائر الله. فإن قالوا هناك بالتخصيص قلنا فيها أيضاً، وإن قالوا بالتخصّص فكذلك قلنا فيها.

المؤلفات في جواز الزيارات

هذا مع ما روي بعض أجلّة الأعلام بما شاهد ممّا أُلّف وصُنِّف في هذا المقام. فمنها: كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام»، «شنّ الغارة علي من أنكر فضل الزيارة)) تأليف قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن، الشيخ الحافظ تقي الدين أبي الحسن السبكي، المطبوع بمصر _ القاهرة، المرتّب علي أبواب في إثبات حياة الأنبياء والشفاعة وفضل الزيارة والسفر إليها ومسنونيتها، وأنها من القربة، وأبواب في الاستغاثات والتوسّلات. ومنها: «الجوهر المنظّم في زيارة قبر النبي المكرّم» تأليف أحمد بن حجر الشافعي كذلك... إلي غير ذلك من المؤلفات.

تناقض التصرفات

وأما قوله فيما اعترف به من حياة النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)): «إنّه يسمع سلام من يسلّم

ص: 48

عليه»، فهذا كلام من ينقض فعلُهُ قولَهُ، ولا يعتقد بشيء مما يتفوّه به. وإلاّ، فلِمَ لم يُراعوا بالأمس حرمته في حرمه وضريحه، وقاتلوا وقتلوا من المسلمين حول حرمه وحماه ; ممّن يستغيث برسول الله ; وذلك بمرءيً منه ومسمع فيسمعه إغاثته بقوله: وا محمداه! (1). والناس إلي اليوم يُضربون علي قول: «يا رسول الله»!؟

لا فرق بين حياة الرسول و موته في تعظيمه

وأيضاً ما يرون هؤلاء في قول الله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ))، وكذا قوله تعالي: ((لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) الآية. هل هي من الأحكام الباقية إلي القيامة أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد كذبوا وخالفوا كتاب الله والسيرة المستمّرة وإجماع الأُمّة. وإلاّ فليخبرونا ما الوجه في ذلك؟ ولْيذعنوا أنها ليس إلاّ لحياته ولمعاملة الأُمّة معه معاملة الأحياء. والعجب ممّن يظهر التحاشي، وينكر إنكار السلف علي من قصد دعاء الله عند القبر، وقد شاع ما ورد في الكتب المعتبرة من فعل أعاظم الصحابة، من الشيخين وغيرهما إلي زمان التابعين والخلفاء. ولم يزالوا خلفاً عن سلف يتشرّفون بزيارة قبر النبي((صلي الله عليه وآله وسلم))، ويتبرّكون بحرمه وتقبيل قبره ومنبره من خارج الحرم، بعدما كانوايدخلون عليه في بُرهة من الزمان، وفي الحجرة عائشة ليس بينها وبين القبر إلاّ حائل من ستر أو بناء من جدار.


1- لقد انتشر نبأ قتل الوهابية للمسلمين اللاجئين بحرم رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) في جميع كتب التاريخ، فراجع.

ص: 49

ثمّ بنوا علي القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حول القبر، وبقي كذلك إلي أن بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرّفوهما حتّي التقيا ; لئلاّ يتمكّن أحد من استقبال القبر. هذا ولم تزل الحجرة مزاراً للمؤمنين معاذاً للاّئذين. ومن أحاط خبراً بتاريخ السلف وترجمة أحوال مهاجري الصحابة علم أنّهم كانوا كثيراً ما يقصدون المدينة لإدراك زيارة الحجرة المنوّرة. ولولا خوف الإطالة لأتيتُ علي ذكرهم ولملأتُ هذا الكرّاس من تراجمهم. هذا، ولم ينكر عليهم لا الشيخان ولا كبار الصحابة بشيء. وهذا أمير المؤمنين علي((عليه السلام)) أتي بعد موت النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) ووقف علي قبره الشريف، وخاطبه بقوله: ((طبت حيّاً، وطبت ميّتاً... إلي قوله: بأبي أنت وأُمّي أذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمّك...)) إلي آخر كلماته. ووقف أيضاً يوم دفنه فاطمةَ ((عليها السلام)) علي قبره، وخاطبه بقوله: ((السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة بفنائك، البائتة في الثري ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي...)) إلي آخر كلماته. وهذا حسين بن علي((عليهما السلام)) سبطه وفرخه ; لما أراد المسير إلي العراق، أتي قبر جدّه وضريحه ثلاثة أيّام، زائراً مودّعاً داعياً مصلّياً، سائلا منه التكليف لأمره وحرمه وصحبه ; مخاطباً إيّآه بقوله: ((يا جدّاه أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفته في أُمّتك)). هل ترون أنّه كان بذلك مخاطباً للأموات؟ أم كان يسأله من أمره وتكليفه؟ ولم يزل حتّي أجابه النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)) بقوله: ((اُخرج إلي العراق، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا...)) إلي آخر ما أجابه من أمر حرمه وعيالاته.

ص: 50

وبالجملة: فإن كان المراد من النكير مجرّد الزيارة للقبور والتبرّك بها والصلوات والدعاء عندها، فقد عرفت أنه أمر راجح مسنون، وستعرف الأمر بها في العمومات من الآيات والقرآن العظيم، فانتظر المقام الثالث. وإن أراد من ذلك عبادتها واتّخاذها _ معاذ الله _ آلهة تُعبد من دون الله، فحاشا، ثمّ حاشا من ذلك. حيث لم نَرَ ولم نشهد ولم نسمع أنّ أحداً من المسلمين اعتقد بشيء من ذلك، أو خطر بباله، فكيف بالشيعة الإماميّة، وهم أوّل الموحّدين، وأحوطهم في تقديس الله ربّ العالمين، وأدقّهم في تقديسه ومعرفته((صلي الله عليه وآله وسلم))، إذ ورثوا وأخذوا علومهم ومعارفهم عن مهابط الوحي والتنزيل؟! فما معني إنكار التبرّك بالقبور وزيارتها وتعاهدها، وبناء القِباب عليها والوقوف عندها؟! وأيّ وجه للرمي بأنّها وسيلة للشرك؟! وقد علمت أنّه ليس ذلك إلاّ للغايات الدينية، حفظاً لآثارهم وقبورهم الكريمة، وصيانة عن الاندراس والانطماس وفوات انتفاع المؤمنين بزيارتهم، والإسراج بها لتلاوة القرآن وذكر الله عندها. أو ما تقدّم أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع، وإلاّ لكان الوهّابيّون الخاضعون لشهواتهم العابدون لأهوائهم في معاصيهم كفّاراً. وإنّما العبادة هي الخضوع الخاصّ المقرون بالإخلاص عند أمر الله الواجب العظيم لذاته.

تعظيم ما أمر الله، هو من عبادة الله و طاعته

علي أنّ تعظيم المأمور به لتعظيم أمر الله _ عزّ وجلّ _ إنّما هو في الحقيقة

ص: 51

عبادة الله وتعظيمه تعالي ; من غير فرق بين أن يكون ذلك المأمور به إنساناً أو حجراً أو مدراً أو غيرها، كالأمر بالسجود لآدم فإنّه كان تعظيماً لأمر الله تعالي وعبادة له، كما أنّه كان للملائكة امتحاناً، ولآدم تشريفاً، فإنّ الغايات تتعدّد بالاعتبارات. وكذلك أمر الشارع بفرض الطواف علي أحجار البيت، وتقبيل الحجر الأسود واستلام الأركان والتزام المستجار. وإلاّ لكان الأمر بجميع ذلك أمراً بالشرك. فمن تبّرك بشيء لأمر الله، كان في الحقيقة عبادة الآمر به. وهذا عبدالله بن أحمد بن حنبل _ كما هو المروي عن كتاب «العلل والسؤالات» _ قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله، ويتبّرك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله. فقال: لا بأس به. فالتواضع والتبرّك والإكرام والاحترام لما هو معظَّم عند الله، إنّما هو من تعظيم الله. كما أنّ تعظيم بيوته ومساجده وقرآنه، بل والجلد والغلاف منه، إنّما هو لانتسابها إلي الله. فمن قبّل الحجر الأسود أو عظّم البيت أو استلم الأركان أو وجد شيئاً من آيات القرآن وكلماته ملقيً مهاناً، فبادر إليها برفعها وتعظيمها وتقبيلها، فإنّما قبّل آيات الله وعظّم شعائر الله وتبّرك بآثار ربّه أينما وجدها وحيثما رآها. فلها منزل علي كلّ أرض ++ وعلي كلّ دِمْنةِ آثارُ ونعم ما قال العامري:

ص: 52

أمرّ علي الديارِ ديارِ ليلي++ أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا وما حبُّ الديارِ شَغفْنَ قلبي++ ولكنْ حبُّ مَنْ سَكَن الديارا كلا، وليس استلام الحجر إلاّ لاستحضار(معني)المبايعة لله علي طاعته، والتصميم من المكلف لعزيمته علي الوفاء ببيعته ((وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)). ولذلك قال رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض ; يصافح بها خلقه، كما يصافح الرجل أخاه)). ول_مّا قبّله عمر، قال: «لأعلم إنّك حجر ; لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) يقبّلك لما قبّلتك» (1). فقال عليّ: ((يا عمرُ مَهْ بل يضرّ وينفع، فإنّ الله سبحانه أخذ الميثاق علي بني آدم حيث يقول: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَي أَنْفُسِهِمْ)) الآية، القمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معني قول الإنسان عند استلامه: ((أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته ; لتشهد لي عند ربّك بالموافاة)) (2). وكذلك التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم، إنّما هو لاستحضار طلب القرب من الله حبّاً لله، وشوقاً إلي لقائه، وتبرّكاً بالمماسّة، والإلحاح في طلب الرحمة. وهكذا أسرار السعي والهرولة بين الصفا والمروة والوقوفين


1- الحديث إلي هنا في صحيح البخاري 2/160، ومسلم 4/66، سنن النسائي 5/227، ولاحظ التخريج التالي.
2- أورد جواب علي((عليه السلام)) لعمر، الحاكم في المستدرك علي الصحيحين 1/458 وفي آخره: فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم، يا أبا حسن.

ص: 53

والرمي والهدي... إلي غير ذلك من الأحكام الشرعية، فإنّ لكلٍّ منها أسراراً إلهيّة وحكماً ومصالح روحية، كما هي المروية عن أهل بيت العصمة. والمسكين المحروم منها هو الجامد علي الظواهر، القاصر عن إدراكها.

زيارة القبور سنة نبوية و غايتها

وكما أن النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)) المشرّع لزيارة قبور المؤمنين المُسِنّ لها ; بتعاهدها والوقوف لديها والدعاء عندها، فقد أشار إلي بعض غاياتها ومصالحها فيما تقدّم من الصحيح بقوله: ((ألا فزوروها، فإنها تذكّركم الآخرة)). وفي حديث آخر المروي عن الحاكم عن أبي ذر: ((زر القبور تذكر بها الآخرة)). وما رواه الغزالي عن ابن أبي مليكة قال: ((زوروا موتاكم وسلّموا عليهم، فإنّ لكم فيهم عبرة)). إلي غير ذلك من الغايات. وذلك لأن الحضور عند المزور إنّما يمثّل للزائر شخصيات المزور بجوامع مآثره ومجامع صفاته وآثاره، ولا سيّما إذا كان المزور من أكابر الأولياء والشهداء ; ممّن له في الإسلام _ لهمّته وسابقته وعلمه وزهده وفتاواه _ مقامات تاريخية ومواقف كريمة ومزايا عظيمة. فتُلقي الزيارة علي الزائرين _ حينئذ _ أبحاثاً جليّة، علميّة مبدئيّة مَعاديّة أخلاقيّة اجتماعيّة، يعتبر بها حسبما يتجلّي له من الحكم والمصالح العائدة إلي النفس التي لا ينبغي تفويتها، ويجب علي الشارع الرؤوف الرحيم الحريص علي تربية الأُمّة التنبيه عليها. فالظاهريّة بجمودهم غَلَوا وأفرطوا فقتلوا حقائق الديانة، كغُلُوّ الباطنية في

ص: 54

تفريطهم واعتبارهم القشريّة لظواهر الكتاب والسُّنّة. فكأنّ الفريقين تظاهرا علي قتل الشريعة ظهراً وبطناً. مع أنّ الأحري لهم التحرّي إلي التوسّط والاعتدال، وسلوكهم في الدين مسلك النبيّ محمّد والآل.

بناء المشاهد والمزارات عمل شرعي

ثمّ بعدما عرفت الغايات الدينية لبناء القباب وزيارتها وتعاهدها، فلا يخفي عليك أنه ليس في بناء القباب وتعليتها تجديداً للقبر، وإنّما هو وضع علامة عليها بعيدة عنها ; لتكون كما عرفت دلالة وعَلَماً علي المزور، وحفظاً لبقاء الآثار، وتوصّلا لزيارة الأطهار، وإرغاماً لغير المسلمين من الكفّار، وتعظيماً لشعائر الله المندوب إليها بالرفع والتشييد، ومعاونة علي البّر لزوّارهم، واستكثاراً لتلاوة القرآن وذكر الله لديهم، وإهداء ثوابها لهم وإليهم. كلّ هذا تقرّباً بالمسنونات، وأداء لحقّ سابقتهم في الإسلام، ووقاية للزائرين من الحرّ والبرد. أو ليسوا من كبار الصحابة والتابعين ودعائم الدين وأئمّة المسلمين؟؟ ومن الواضح الغير الخفيّ أنّ التعظيم ليس لقبورهم بما هي حفرة وتراب، بل إنّما هو لذلك الشأن العظيم لهم في الإسلام. أو ليس عمر أوّل من بني قبر النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم))وسوّاه باللبن؟! واقتدي به بعده الخلفاء خلفاً عن سلف من تسقيفه وعمارة ما حوله؟! كما بني عثمان المسجد بعد ذلك بالحجارة المنقوشة إلي أن بنوه بأحسن بناء. أو ما كان قصد عمر والخلفاء من بعده هو التعظيم لشعائر الله. أو هل قصد عمر بفعله هذا عبادة قبره((صلي الله عليه وآله وسلم)) وجعله وسيلة للشرك

ص: 55

بربّه، حاشاه؟! هذا، ولم يكن وضع القباب علي القبور حادثاً في هذه القرون، بل كان ثابتاً في القرون السالفة من قبل الهجرة إلي أعصار الصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين. كما يظهر من تراجم الماضين وأحوالهم في الكتب المعتبرة، وأنّ للمعتبر بها وبالآثار الباقية منها لعبرة. فمنها قبر إبراهيم الخليل بفلسطين، وقبور سائر الأنبياء السالفين ببيت المقدس. وبمكّة في الحجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر، وفي تستر قبر دانيال... إلي غيرها من القبور وقبابها في أقطار العالم. وكذلك تعلية القبور في الإسلام، فهذا «صحيح البخاري» فيما رواه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان، وإنّ أشدّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتي يجاوزه. وقال: قال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة فأجلسني علي قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنّما كره ذلك لمن أحدث عليه. وقال نافع: كان ابن عمر يجلس علي القبر. وفيه أيضاً بإسناده إلي أبي بكر بن عباس عن سفيان التمار: أنه حدّثه: أنه رأي قبر النبيّ مسنَّماً. وهذا التاريخ يعلن بقبر العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ وبناء القبّة عليه، الباقية إلي أواخر القرن الأول، كما عن ابن خلّكان. وقد كان ينبغي لهم الأُسوة بإمضاء الشيخين وبقيّة الخلفاء. أو ليس إبقاء هذه الآثار في عصرهم _ مع قدرتهم وسلطنتهم علي تلك الأقطار والديار _ إمضاءً منهم وتقريراً لهم، وهي السُّنّة الباقية منهم؟! أو ليس النكير عليهم ومخالفتهم وترك سنّتهم بدعة وضلالة؟!

ص: 56

والحاصل: أنّ حرمة موتي المؤمنين وقبورهم مما ثبت شرعاً. وقد صحّ عن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) قوله: ((حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً)). وضرورة المسلمين بل الملّيّين، بل وجبلّة البشر علي زيارة قبور موتاهم وتعاهدها. فضلا عمّا ورد في الشريعة من وجوب احترام موتي المسلمين، كالآمرة بوجوب تغسيلهم وتكفينهم وتطييبهم، والرفق بهم، ودفنهم ومواراتهم. وحرمة إهانتهم بجسارة أو بجناية، أو بمثلة بأجسادهم، وهتك لقبورهم. كما ورد في مناهي النبيّ: من كراهة الجلوس علي قبر المؤمن ووطئه بإهانة. وحرمة سبّ الموتي، كما في البخاري في باب «ما ينهي عنها سبّ الاموات». ففي المعتبرة أيضاً قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)) ((من وطيء قبراً فكأنما وطيء جمراً)). وفيما أخرجه النووي في «الكنوز» (1) عن الديلمي: ((إياكم والبول في المقابر، فإنه يورث البرص)). وروي الرازي في تفسيره الكبير عن «الكشّاف» في حديث طويل، رواه عند قوله تعالي ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)) إلي قوله: ((ألا ومن مات علي حُبِّ آلِ مُحمّد فُتح في قبره بابان إلي الجنّة، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمة)). هذا كلّه في قبور سائر الموتي. فكيف إذا كان الميّت نبيّاً أو وصيّاً أو وليّاً أو أحداً من الصالحين؟؟

كرامات الأولياء من قبورهم

وحسبك ما يظهر منها من الكرامات وخوارق العادات، المشهودة المشهورة


1- في 52.

ص: 57

في كلّ عصر، ما يفتح أبواب معرفة الله الواهب لآثار صنعه، وعجائب قدرته وبركاته لأوليائه. وهذا هو الإمام الشافعي في المرويّ عن الشيخ في «اللمعات» حيث قال: «إنّ قبر الإمام موسي الكاظم((عليه السلام)) تِرياق مجرّب للإجابة» (1). وبالجملة: فمن المغالطة الواضحة والافتراء العظيم نسبة هؤلاء الزائرين في إقامة الصلوات والدعوات وقراءة القرآن والآيات في المشاهد المشرّفة والمقامات المتبرّكة، إلي عبادتها!! وإنّما هو البهتان العظيم والإفك الكبير. فليت شعري متي خصّ الله هؤلاء المفترين بعلم الغيب؟! وكيف اطّلعوا علي سرائر العباد وضمائرهم؟! ومن أين وقفوا علي نيّاتهم؟! أو ما علموا ودَرَوا أنّ لمكان المصلّي دخلا في الراجحية والمرجوحية من حيث الخِسّة والشرافة؟ أو مانهي النبيّ عن الصلاة في المزابل والمذابح ومبارك الإبل ومرابط الخيل وقُري النمل والأراضي السبخة وبيت فيه المسكر والطرق والشوارع؟! أو ليس لله أن يفضّل الناس بعضهم علي بعض؟ كما فضّل الرسل، وقال: ((وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعض)). وَفضّل بعض الناس علي بعض، فقال: ((وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْض)). وفضّل الرجال علي النساء، فقال: ((أَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَي النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ)). أوَ ما شرّف الله بقعة علي بقعة كما شرّف المساجد أيضاً علي البقاع، وكما شرّف


1- لم أجده، ولكن روي الذهبي في سير أعلام النبلاء 9/343 عن إبراهيم الحربي، قوله في قبر معروف الكرخي: إنه الترياق المجرّب.

ص: 58

المساجد الأربع علي سائر المساجد، وشرّف المسجدين علي غيرهما؟! أوَ لم يرد في الأحاديث: أنّ الأعمال يتضاعف أجرها لشرف المكان أو الزمان؟! أوَ لم يفضّل الله الأشهر الحُرُم علي سائر الشهور، وفضّل شهر رمضان عليها؟! أوَما صحّ أنّ النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) خطب خطبته التي خطبها آخر جمعة من شعبان في فضيلة شهر رمضان، ومنها قوله((صلي الله عليه وآله وسلم))فيها: ((شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات...)) إلي قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((من أدّي فيه فرضاً كان له ثواب من أدّي سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن قرأ فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)) الخطبة. وبالجملة: فقد شرّف الله بعض الأحجار علي بعض، والمقامات بعضها علي بعض، كما شرّف أحجار البيت والحرم والحجر الأسود وزمزم وركن الحطيم ومقام إبراهيم، فقال: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّيً)) أو ليست هي إلاّ صخرة عليها أثر قدم إبراهيم الخليل، وفيه قبر إسماعيل؟! أوَ ما قرأت قوله تعالي: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً))حيث أمضي الله سبحانه فعلهم، وهم المؤمنون، وعليه المفسّرون؟ وهذا وجه رغبة الشيخين في دفنهما مع الرسول في الروضة المنوّرة وجواره الشريف ; تبرّكاً بحرمته وشرفه وبركته. وكذلك حكم العقل في حرمة حرمه وقبره. فإنّ حرمة النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)) لا تذهب بعد موته ضياعاً. أفهل كان رغبتهما في الدفن عند رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) إلاّ التبرّك بعظمته وتعظيماً لمضجعه بجميع مراتب التعظيم؟!

ص: 59

ومن ذلك رغبة عائشة، وادّخارها مكان القبر لها لكنّها آثرت عمر لما استأذن منها. أوَ هل يستطيع المسلم أن يُنكر المقام العظيم في الإسلام لمثل هؤلاء الذين هُتكت حرمتهم بهدم قبابهم؟!

يفترون علي المسلمين

ثم، وهذا الافتراء منهم وإفكهم، كقياسهم الحلف والنذورات والهدايا وذبائح المسلمين الواقعة لله رب العالمين، بما كان يفعله المشركون. سُبحانك اللهم ونعوذ بك من هذا البهتان العظيم، وتفريق الكلمة وشقّ عصا الاُمّة من غير رويّة وبيّنة وحجّة. وما أجرأهم علي الله وعلي انتهاك حُرمات الله ورمي عباده الموحّدّين! وهل يخفي علي مثل هؤلاء الموحّدين من أعلام الدين: أنّ الحلف بغير الله علي وجه إرادته تعالي منه مما يوجب الخروج من رِبْقة المسلمين؟

الحلف عند المسلمين

فالأيمان الواقعة بغيره تعالي ممّا لا يُراد منها حقيقة القسم. وحاشا أن يقع منهم ذلك علي وجه إرادته تعالي، وإنما هو مجرّد العبارة وزيادة التأكيد. فإنّ مثل هذا الصادر كثيراً في كلمات أعاظم الصحابة غير عزيز، كما لا يخفي علي المتتّبع في كلماتهم. وهل الحلف ببيت الله وكلمات الله وآيات الله، أو بضريح النبيّ وشيبته ومنبره وتربته، إلاّ لمجّرد التثبّت والتأكيد؟!

ص: 60

فإن لم يحضروا بلاد الشيعة الموحّدين، ولم يطّلعوا علي سرائرهم، فهاهي بين أيديهم الكتب من فقه الإمامية وسائر المسلمين _ المطبوع منها وغير المطبوع _ التي ملأت أقطار العالم، فإنّ فيها ما يزجرهم عن هذا الافتراء العظيم. وهل جعل الله للمسلمين حرمة أعظم من حرمة بيته وكعبته؟! أوَ ما حرّم الله ظنّ السوء وسوء القول؟! وهل يخفي علي فحول العلماء والفقهاء _ من أهل الجمعة والجماعة وإمعان النظر في الأحكام _ أنّ الذبح لغير الله العظيم _ تعالي شأنه _ حرام؟ وهذه أبواب فقههم مصرّحة بأنّ النذر لا ينعقد إلاّ لله سبحانه، ولا الذبائح والقرابين إلاّ له جلّ شانه، ولا تحصل التذكية إلاّ باسمه _ تعالي اسمه _. فلو لم يخصّ النذر بالله وبإنشائه له تعالي لم ينعقد، كما أنه إذا لم يُستقبل بالذبيحة ولم يسمّ الله عليها لا تحلّ ; وتقع ميتة نجسة. وأمّا نسبتها بعد ذلك إلي النبيّ والوصيّ والوليّ، فإنّما هي لكي يصل الثواب إليهم، كما نقرأ القرآن ونهدي إليهم ثوابه، ونصلّي وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم، وفيه أجر عظيم. وكان النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) يذبح بيده، ويقول: ((أللّهمّ هذا عنّي وعمّن لم يضحِّ من أُمّتي)). وكان عليّ يضحّي عن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) بكبش، وكان يقول: ((أوصاني أن أُضحّي عنه دائماً)). كذلك النذر، فانه لا يقع لغير الله بل علي معني أنها صدقة منذورة لله يهدي ثوابها إلي أوليآء الله، وهذا لا يزيد عمن نذر لأبيه وأمه أو حلف أو عاهد أن يتصدق عنهما. كما أن اختيارهم لها الأماكن المشرفة ليس إلا لشرف المكان وتضاعف الحسنات فيها.

ص: 61

وبالجملة فان النذر عنهم، لا لهم. فاين تذهبون وأنّي تؤفكون؟ وما هذا الرمي بالباطل والإفك العظيم؟ سبحانك اللهم ما أحلمك! وكيف كان، فقد انقدح بما ذكرنا في المقامين: أنّ استدلال المموِّه المغالط بالمتشابه من آيات الشفاعة علي دعواه، غلط باطل، وخلط ظاهر فساده. كفساد استدلال المعتزلة والخوارج علي نفي الشفاعة بها تارة، واُخري بقوله تعالي: ((وَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))، ومرّة بقوله: ((مَآ لِلظَّالِمينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ)). فإنّ الآيات _ كما عرفت _ سوقها للكفّار، وأنّ الظالم علي إطلاقه هو الكافر بقرينة العهد وخصوصية مورد النزول. فسلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق، ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب ; بمعني أنّ نفي الشفيع الخاصّ لا ينافي إثبات مطلق الشفيع والشفاعة. وبداهة العلم بأنه تعالي ليس فوقه أحد، وكون الشفيع لا محالة دون المشفوع ممّا لا يوجب حملها علي نفي المجاب، إذ غايتها أنّها سالبة كلّية، ونقيضها السلب الجزئي الملازم للإيجاب الجزئي. فسوق الآيات لعموم السلب لا لسلب العموم. علي أنّا لا نسلّم عموم الأزمان والأحوال فيها ; لجواز اختصاصها بموردها. كما أن قوله تعالي: ((مَا لِلظَّالِمِينَ من أنصار)) وقوله: ((وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ)) ممّا لا تدلاّن علي دعواه، فإنّ نفي النصرة لاتستلزم نفي الشفاعة ; لانها طلب علي خضوع، وأما النصرة فربما ينبيء عن مدافعة ومكافئه.

ص: 62

صفحة فارغة

ص: 63

في ثبوت الأمر بالتوسلات والاستغاثات والاستشفاعات و فيه الأمر ببناء الضرائح والقباب المتعلقة بمشاهدهم

توسل آدم بالنبي

فقد صحّ حديث توسّل آدم بالنبيّ من قبل أن يخلقه الله، ويبعثه إلي الدنيا، وكذا غيره من الأنبياء. كما في آيات المواثيق عن الأنبياء بنبوّته((صلي الله عليه وآله وسلم)) قال الله تعالي: ((فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ)). وقال تعالي: ((وَإِذِ ابْتَلَي إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ)) فيما ورد التفسير به. فقد أجمع السنّة والجماعة علي حديث التوسّل حتّي ابن تيميّة وابن القيّم. وممّا ورد في التوسّل ما أورده الحاكم وصحّحه، قال: ((إنّ آدم لما اقترف

ص: 64

الخطيئة، قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفته؟ قال: لأنك لما خلقتني نظرت إلي العرش فوجدت مكتوباً فيه: «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله»، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفته أحبّ الخلق إليك)) (1). ويؤيّده: أنه لما سأل أبو جعفر المنصور الإمام مالكاً، فقال له: أأستقبل القبلة وأدعو الله، أو أستقبل قبر النبيّ؟ فقال له: يا أبا عبدالله، ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم!؟ (2). والقاضي أبو عمرو عثمان ابن أحمد رواه مرفوعاً عن ابن عبّاس، عن النبي أنه قال: ((لما اشتملت آدم الخطيئة، نظر إلي أشباح تضيء حول العرش فقال: يا ربّ إنّي أري أشباحاً تشبه خلقي، فما هي؟ قال الله تعالي: هذه الأنوار أشباح اثنين من ولدك: أحدهما محمد، أبدأ النبوّة بك، وأختمها به. والآخر أخوه وابن أخي أبيه، اسمه عليّ، أُأيّد محمّداً به، وأنصره علي يده. والأنوار التي حولهما أنوار ذرّيّة هذا النبيّ من أخيه هذا ; يزوّجه ابنته تكون له زوجة، يتصل بها أول الخلق إيماناً وتصديقاً له، أجعلها سيّدة النسوان، وأفطمها وذرّيّتها من النيران، فتقطع الأسباب والأنساب يوم القيامة إلاّ سببه ونسبه. فسجد آدم شكراً لله أن جعل ذلك في ذرّيّته فعوّضه الله عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته...)) إلي آخره. وما رواه القاضي زكريا الحنفي _ قاضي قسطنطينة في عصر السلطان محمد


1- المستدرك علي الصحيحين للحاكم 2/615.
2- ذكر ذلك القاضي عياض في الشفا بالتعريف بحقوق المصطفي وانظر شفاء السقام للسبكي، الباب الرابع، دفع الشبه للحصني ص140.

ص: 65

الفاتح _ ذكره في حاشية له علي «الكشاف» في تفسير قوله تعالي: ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَي آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ))، رُوي: أنّه الميثاق في المهدي من ولده، القائم في آخر الزمان. وتبعه تلميذه خرّم اُوغْلي في تعليقته عليه.

البيوت المرفوعة

ومنها: ما رواه الشيخ ابن بِطْريق في «العمدة» عن الشيخ الحافظ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن نعيم الثعلبي في كتاب «الكشف والبيان في تفسير القرآن»، روي بإسناده عن القابوسي، عن الحسين بن سعيد، عن أبان بن تغلب، عن نفيع بن الحارث، عن أنس بن مالك، عن بريدة. ورواه غيره _ من أعاظم أهل السُّنّة بطرقهم _ عن أنس وبريدة وابن عباس أنه قال: قرأ رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) ((في بُيُوت أذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآْصَالِ رِجَالٌ)). فقام إليْه رجل، وقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلي بيت عليّ وفاطمة، فقال: نعم، من أفاضلها. ثم ذكر: وبيت تقاصر عنه البيوت++ وطال عُلوّاً علي الفَرْقَدِ تحوم الملائكُ من حولِهِ++ ويصلح للوحي دار الندي بيان: الآية عقيب آية النور (1) أورده الحاكم في المستدرك علي الصحيحين 3/127، وفي مجمع الزوائد 9/114، وكنز العمال 13/148 وتكلموا حول إسناده. وقد أشبع الإمام المجتهد الحافظ أحمد بن محمّد بن الصديق الغماري الحسني المغربي المتوفي ((1380ه_)) البحث عنه، وأثبت صحّته في كتاب ((فتح الملك العليّ بصحة حديث باب مدينة العلم علي)) المطبوع طبعة ثانية بالقاهرة عام 1389ه_.

(2). والتقدير: أن المشكاة الثابتة في بيوت هذه صفتها.


1- أي قوله تعالي ((الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة)) الآية (
2- ) سورة النور: 24.

ص: 66

والرازي: أنّ التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله، وهو اختيار كثير من المحّققين انتهي. ولا شكّ أنّ البيوت أعمّ من المساجد، ومن بيت علم الله ووحيه وأنوار هدايته تعالي. كما أنها تعمّ الرجال ومساكنهم ومحلّ التعاهد إليهم. ويؤيّده: قرينة المشكاة، فإنّ مجرّد كون المشكاة في المساجد ممّالا معني محصّل لها، ولا فائدة مهمّة لذكرها. فالآية تمثيل لنور هدايته تعالي، وإعلانه عن شرافة أهل بيت نبيّه وأطائب عترته ; ممن خصّهم الله بعلمه ونور هدايته، ومن نصبهم لإرشاد عباده، ومثّل نور هدايتهم المقتبسة من نوره تعالي بالمشكاة، فالظرفية متعلّقة بالنور المذكور في صدر الآية، لمظهريّته عن نور الله تعالي، ولم تكن قيداً للمشبَّه، ولا خبراً عن رجال. ويؤيّد هذا التفسير للبيت: قوله تعالي: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)). وقد صحّ تفسيرها وتواتر من طرق السُّنّة والجماعة، نزولها في خصوص الخمسة ممّن اجتمع تحت العباء الخيبريّة. كما ورد في تفسير قوله تعالي: ((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)): أنّها ليس المراد منها ظاهرها، بل هي من الكنايات، كما هو المتعارف في المحاورات. ويؤِّيده أيضا قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((إنّ الله اختار من البيوتات أربعة، ثمّ تلا قوله تعالي: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَي آدَمَ ونُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ)). ويؤيّده قراءة أهل البيت «يُسبَّح» بالمبني للمفعول، والوقف علي «الآصال»، والابتداء ب_ «برجال».

ص: 67

وفي المعتبرة من طرق الخاصّة عن الإمام جعفر بن محمد((عليه السلام))أنه قال: ((إلتمسوا البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فإنّ الله أخبركم أنهم رجال)). ولما حضر قتادة قاضي قضاة البصرة عند الإمام أبي جعفر محمد ابن علي((عليه السلام))قال: «أصلحك الله يابن رسول الله، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقُدّام ابن عبّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قُدّامك؟ فقال أبو جعفر: ((أما تدري أين أنت؟! أنت بين يدي ((بيوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتاَءِ الزَّكَاةِ)) ونحن أُولئك)). فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك ما هي بيوت حجارة ولاطين». الخبر. فقد ظهر: أن البيوت أعمّ من ذلك.

معني رفع البيوت

كما أنّ الرفع بإطلاقه يعمّ جميع معانيه: فكما أنّ رفعها يكون بالسير إليها ; لأخذ علومهم ومعارفهم التي ورثوها عن لسان الوحي، وارتضعوها من ثدْي الرسالة. كذلك يكون بالتعهّد لمشاهدهم وضرائحهم، والتبّرك بها وتعظيمها، والدعاء عندها وبتعميرها وبنائها وتشييدها ; لقوله تعالي: ((رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا))، وقوله تعالي: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)). ويؤيّد هذا المعني من الرفع حديث أبي عامر البناني _ واعظ أهل الحجاز _ قال: أتيت أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق((عليهما السلام))، وقلت له: يابن رسول الله ما لمن زار قبره _ يعني أمير المؤمنين _ وعمّر تربته؟

ص: 68

قال: يا أبا عامر، حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه الحسين بن عليّ، عن عليّ((عليهما السلام)): أنّ رسول الله قال: ((والله لَتُقتلَنّ بأرض العراق وتُدفن بها. قلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك، بِقاعاً من بقاع الجنّة، وعَرَصة من عَرَصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده، تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذي، فيعمرون قبوركم، ويُكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلي الله ومودّة منهم لرسوله، أولئك _ يا علي _ المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زُوّاري غداً في الجنّة. يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنّما أعان سليمان بن داود علي بناء بيت المقدس. ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّي يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمّه. فأبشر وبشّر محبّيك من النعيم وقُرّة العين بما لاعين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولاخطر علي قلب بشر. ولكن حُثالة من الناس يعيِّرون زُوّار قبوركم كما تعيَّر الزانية بزنائها، أُولئك شرار أُمّتي، لا أنا لهم الله شفاعتي، ولا يردون حوضي)). رواه السيّد الإمام المعظّم الزاهد العابد، أبو المظفّر غياث الدين بن طاوس الحسيني بسلسلة إسناده، عن عمارة بن يزيد، عن أبي عامر البناني. ورواه غير واحد بإسناد آخر، كما رواه الشيخ العلاّمة عن محمد بن علي بن الفضل. فالحديث يدلّ علي تعمير القباب، وعليه استمرار طريقة الأصحاب.

الوسيلة إلي الله

ومنها: قال الله تعالي: ((يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)).

ص: 69

ولا شكّ أنّ حسن التوسّل إنّما يحكم به الأدلّة الأربعة ; من الكتاب والسُّنّة والإجماع والعقل، بل وعرف العادات في الملوك والسلاطين. وهل العبادات والطاعات إلاّ القُرُبات والوسائل لنيل المثوبات؟! أو لا تري أنّ لرفع الحاجات إلي الله وسائل واقعية، من الدعاء والإلحاح ونوافل الصلوات والصدقات وأنحاء القُرُبات ; من الذبائح والتوسّلات. وذلك لأنّها جرت عادة الله في الاُمور مجري العرف والعادة بتوسّط الأسباب والمسبّبات، فجعل للعقاقير دخلا في الاستشفاء بها وأثراً في عالم الطبيعة، وهو خالق الطبيعة وجاعل آثارها فيها. ولكلّ نفل من العبادة خواصّ وآثار تزداد لفاعلها آثارها، وهو تعالي يقدر علي إعطائها بدونها، مع علمه بحوائج عباده ولطفه الشامل لخلقه، وجواز قضائها وإنجاحها بعلمه من غير توسيط تلك الوسائل، ولولا ذلك لزم إلغاء كثير من العمومات الآمرة بها، ولكان الأمر بها لغواً وعبثاً، تعالي الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. مع أنّ المشهود من الإجابة بتوسيطها ضروريّ محسوس لا ينكره إلاّ مكابر. ولا يتخلّف المشروط بها إذا لم يكن محتوماً، وكان موافقاً لحكمته ومشيّته تعالي، كما أنّها ربّما تتخلّف إن بلغت المسمّي المحتوم، كما قال((عليه السلام)): ((يامن لا تبدِّل حكمته الوسائل)). ألم تَرَ أنّ الله قال لمريم++ وهزّي إليك الجذع تَسَّاقطُ الرُّطَبْ فلوشاء أن تجنيهِ من غير هزِّهِ++ جنتْهُ ولكن كلّ شيء له سببْ فمن شدّة رأفته تعالي بعباده جعل لهم وسائل بينه وبينهم ; ليتشفّعوا للمرتضين منهم بإذنه، وللمتّخذين عهد التوحيد والإيمان به بكرمه ورحمته، كما قال: ((وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي))، أو ((مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)).

ص: 70

فلا بأس بمن توسّل إلي الله بمعظَّم ; من قرآن أو نبيّ أو وصيّ أو وليّ ونحوها من آياته العظيمة، وسأل الله بحقّهم، فإنّ حقّ الشيء وحاقّه وسطه، وأوساطه، وهم الوسائط بين عباده. قال الجوهري: سقط فلان علي حاقّ رأسه ; أي وسط رأسه، وجئته في حاقّ الشتاء، أي وسطه. والفيروزآبادي: حقّه وحاقّه وسطه. والمخلوقيّة ممّا لا تمنع الوساطة، بل وإنّما تؤكّد العلاقة العابديّة والمعبوديّة، وتؤيد ربطها بها ربط المتضايفين، بل وهي الأنسب بمقام العبوديّة بما فيها من الإشارة إلي جلالة مولاه وعظمة معبوده. فتفسير بعضهم الوسيلة بخصوص الفرائض _ مع ما عرفت أنّها تعمّ الوسائل إلي الله كلّها _ تفسير بالرأي. قال ابن الأثير في «النهاية» في حديث الأذان: أللّهمّ آتِ محمّداً الوسيلة ; هي في الأصل ما يتوصّل به إلي الشيء ويتقرّب به، وجمعها وسائل. يقال: وَسَلَ إليه وسيلة وتوسّل، والمراد به في الحديث القرب من الله، وقيل: هي الشفاعة. انتهي. وفي تفسير «الكشف والبيان» لأبي إسحاق الثعلبي عن الإمام جعفر بن محمّد((عليهما السلام))أنّه قال: ((ابتغوا إليه الوسيلة: تقرّبوا إليه بالامام)). وهب أن المراد من الوسيلة الفريضة، أوليست المودة لذوي القربي من الفرائض؟! بل وأهمّها المسؤول عنها في قوله تعالي: ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)). وإذ قد تبيّن من الآيات ثبوت الشفاعة للمرتضين وللمتّخذين عهد توحيدهم وإيمانهم بربّ العالمين. وظهر: أنّ اتّخاذ العهد والارتضاء بحسب الإيمان ممّا لا يُنافي عدمها باعتبار

ص: 71

فسق المعصية، كما تقدّم، فلا توجب المعصية ارتداداً وكفراً، ولا تخرج العباد عن الارتضاء شيئاً، فقد ثبت أنّ المعاصي ليست علّة تامّة للتعذيب، وإنّما هي مقتضيات لولا المانع عن التأثير. فكما أنّ الله جعل بفضله وكرمه الندم عن المعصية توبةً وعفواً، فلا غرو أن جعل الله الأمر بابتغاء الوسيلة بأوليائه، وإيجاب فرض المودّة لذوي قربي نبيّه وأطائب عترته ولحمته، مانعاً لهارافعاً لتأثيرها، ماحياً لموضوعها، مقرّباً أولياءهم إلي الله، موجباً لنيل حوائجهم وإن رغم الراغمون، وهنالك يخسر المبطلون. ثمّ لا يخفي أنّ تفسيرهم الوسيلة هنا، ليس بأعجب من تفسيرهم ((الإمام)) في الحديث المتواتر عن النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهلية)) (1). حيث قالوا: إنّ المراد من الإمام القرآن؟ مع وضوح فساده، الظاهر من إضافة الإمام إلي الزمان، المضاف إلي ما صدق عليه الموصول في الحديث. مع أنّ القرآن إنّما هو الإمام المستمرّ الباقي، الذي لا يختصّ بزمان دون زمان. فلم يكن لتفسيرهم في المقامين وجه، فتدبّر.


1- وفي مسند أحمد 4/96: من مات بغير إمام...، وفي المستدرك علي الصحيحين للحاكم 1/77 و 117: ومن مات وليس عليه إمام...، ونقله في مجمع الزوائد 5/224، ورواه بلفظ بغير إمام في مجمع الزوائد 5/218، وبلف0: ليس لإمام... 5/219، ورواه في كنز العمال 1/103 بلفظ ((بغير إمام)) عن أحمد والطبراني، وبلفظ ((ليس عليه إمام)) في 1/207 وانظر 208 و 6/65، ولكن أكثر مصادر الحديث اثبتوها بألفاظ اُخري مثل ((بغير سلطان، أو أمير أو بغير طاعة، أو من فارق الجماعة، أو ليس في عنقه بيعة...، ولاحظ قوله((صلي الله عليه وآله)): يا علي، من مات وهو يبغضك مات ميتة جاهلية. رواه الطبراني في الكبير رواه في مجمع الزوائد 9/111 و 9/121 و122، وكنز العمال 11/611 و 13/159.

ص: 72

التوسل بالنبي

هذا، وقد صحّ حديث التوسّل بالنبيّ من أعيان الصحابة من قبل، بل والتوسّل بغير النبيّ من الصحابة. ومن ذلك حديث استسقاء عمر بن الخطاب بوجه عباس بن عبد المطلب عمّ النبي، وقوله: «أللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّك فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّك فاسقِنا». رواه البخاري في الصحيح. مع أنّ صحّة التوسّل بغير النبيّ ممّا يدلّ بالفحوي علي التوسّل بأطائب عترته وأهل بيته. ورواه ابن عبد البر في «الاستيعاب»، وغيره في غيره، وفيه: «فأرْختِ السماء عَزالِيَها (1) ، فأخصبت الأرض. فقال عمر: «هذه والله الوسيلة إلي الله والمكان منه».

تعظيم الشعائر

ومنها قوله تعالي في سورة الحجّ: ((وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ)). فسّر الشعائر بمعالم الدين وطرقه المنصوبة إلي الله تعالي وإلي معارفه، بل وإطلاقه شامل لكلّ ما يُشعر ويشير إليه تعالي ويعرّفه سبحانه. ففي «النهاية» لابن الأثير عن الأزهري قال: الشعائر المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها. وقال السيوطي: الشعار العلامة، فالبدنة _ وهي النُّسُك للحاجّ القارن _ من


1- العَزالي والعَزالَي: مصبّ الماء من القِرْبة ونحوها.

ص: 73

إحدي مصاديق الشعار، كما هو الظاهر من قرينة «من» التبعيضية، ودخولها علي منتهي الجموع. علي أن ذكر البعض ممّا لا ينافي ثبوت الآخرين، فتخصيص الشعائر بالهدْي والنُّسُك خاصّة دون غيره، تخصيص بلا دليل. فإن قلت: إنّ الدليل هو الجعل فيه دون غيره، فتكون النُّسُك مجعولا في الشعارية. قلت: لما كانت البدنة لذاتها مع قطع النظر من اعتبار النُّسكيّة للحجّ، غير ظاهرة في الشِّعاريّة، كما أنّ النعل وتقليدها أيضاً كذلك، فكانت _ لا جرم _ تحتاج إلي ما يصرفها إليها، وهو قرينة الجعل. كما أنّ الصفا والمروة والهرولة فيهما، ممّا هي بذاتها مفتقرة إليها، ولم تكن غنيّة عنها، فنصّ عليها بقوله تعالي: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله)). بخلاف ما إذا كان الشيء ظاهراً في الشعاريّة، فإنّه لا يحتاج إليها، فالتمسّك بإطلاق الشعار كاف في مصاديقه مالم يقم دليل علي خلافه في الشعاريّة. هذا، وأنت تري أنّ المشاهد والقِباب المشرّفة للأئمّة وأكابر الصحابة من عترة الرسول، بمظهريّتها عن أُولئك الأطائب، من آيات الله، وحملة علمه ووحيه وحماة دينه وشريعته والدعاة إليه، من أظهر مصاديق الشعائر؟ كيف، وهي البيوت التي ((أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)). كما أنّ الحليّ والحُلَل والزينة اللائقة بها فيها، مما يقصد بها الأُبّهة الدينيّة، تجاه الأجانب من منكري دين النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم))، ربّما تُعدّ أيضاً من الشعائر. هذا كلّه لأنّ تعظيم ما هو شعائر الله مما يرجع إلي تعظيم الله سبحانه، بل هو تعظيمه في الحقيقة، والإنفاق في هذه السبيل إنّما هو من امتحان القلب للتقوي تقوي القلب.

ص: 74

قال الرازي في قوله تعالي: ((أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي)): أي امتحنها ليعلم منه التقوي، فإنّ من يعظّم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسولا مُرسلا، يكون تعظيمه للمُرسِل أعظم، وخوفه منه أقوي. وهذا كما في قوله تعالي: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ)) ; أي تعظيم أوامر الله تعالي من تقوي القلوب. انتهي.

تعظيم حرمات الله

ومنها: قوله تعالي في سورة الحجّ: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)). والحرمة والحرمات والحرام ما لا يحلّ انتهاكه، وقيل: ما وجب القيام به، وحَرُم التفريط فيه. وتعظيمها ترك ملابستها تعظيماً لله سبحانه، وتكريماً وإجلالا لأمره ونهيه، ومنه المَشْعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام، كلّ هذا باعتبار وجوب رعاية القيام بتعظيمها وحرمة انتهاكها، والتبرّك بها بإضافتها إلي معظمها. وعقد الإحرام هو الالتزام بتروكه والإتيان بواجباته. والُمحرِم للحجّ هو الممنوع عمّا حرّمه الله عليه بدخوله في حرمه. وتكبيرة الإحرام ; لأنّ المصلّي يكون معها ممنوعاً من الكلام ومن سائر المنافيات. والمسلم محرم ; أي يحرم أذاه ; يعني بتسليمه إلي الله وخضوعه لوجه الله كأنه داخل في حرم الله. فحرمة هذه العناوين كلّها بسبب إضافتها التشريفية وانتسابها إلي مشرّفها ومظهريّتها عنه سبحانه.

ص: 75

ومنه قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)) في «أُحُد» كما في «صحيح البخاري» عن النبي لما طلع له «أُحد»، فقال: ((هذا جبل يُحبّنا ونحبّه. أللّهمّ إنّ إبراهيم حرّم مكّة وإنّي أُحرّم ما بين لابتيها، يعني المدينة)) (1). فتخصيصها بالمناسك دون غيرها تخصيص بغير دليل، والإطلاق كاف لشموله جميع المصاديق، كما تقدّم في الشعائر، وقرينة اتّصالها بآية النُّسك لا تزيد علي الإشارة إلي إحدي مصاديقها شيئاً، فكيف بتخصيصها بها؟! هذا وقد ورد في تفسير أهل البيت وباطن القرآن تفسيرها بهم((عليهم السلام))، كما عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر((عليهما السلام)) في المعتبر أنه قال: ((نحن حرمات الله الأكبر)). وفي المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق((عليهما السلام)) أنه قال: ((إنّ لله حرمات ثلاثاً ليس مثلهن: كتابه هو حكمته ونوره، وبيته الذي جعله قبلة للناس، وعترة نبيّكم)) (2). وفي المرفوعة عن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) قال: ((ستّة لعنتُهم ولعنهم الله، وكلّ نبيّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذّب بقدر الله، والمتسلّط بالجبروت، ليذلّ من أعزّه الله، ويعزّ من أذلّه الله، والمستحلّ لحرم الله، والمستحلّ لعترتي ما حرّم الله، والتارك لسُنّتي)).

الاعتصام بحبل الله

ومنها: قوله تعالي في سورة آل عمران: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً


1- صحيح البخاري 5/136 باب نزول النبي((صلي الله عليه وآله)) الحجر.
2- رواه الصدوق الإمامي في كتابه ((معاني الأخبار ص118 وانظر كتابه الخصال ص146 باب: لله عزّوجلّ حرمات ثلاث)).

ص: 76

وَلاَ تَفَرَّقُوا)). قال الرازي في هذه الآية: أمر الله بالتمسّك والاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله. واعلم أنّ كلّ من يمشي علي طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسّك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق، أمن من الخوف. ولا شك أنّ طريق الحقّ طريق دقيق، وقد زلقت أرجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيّناته، فإنّه يأمن من ذلك الخوف. فكأنّ المراد من الحبل ههنا كلّ شيء يمكن التوصّل به إلي الحقّ في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة. ثمّ عُدّ منها العهد في قوله تعالي: ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِي)). ومنها القرآن... إلي قوله: وروي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبلٌ ممدود من الأرض عترتي أهل بيتي)) والحديث متواتر بين الفريقين (1). وزاد فيما رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل، وأخرجه بإسناده عن ابن نمير، عن عبدالملك بن سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن


1- حديث الثقلين متواتر بحكم جمع من أعلام الحديث وهو علي كل حال مجمع علي صحته، فأورده مسلم في صحيحه 7/122 _ 123، وبشرح النووي 15/179 _ 181، وأحمد في المسند 3/14 و 17 و 26 و 59 و 4/371، والدارمي في السنن 2/432، والحاكم في المستدرك علي الصحيحين 3/109، وقال: صحيح علي شرط الشيخين و 3/148 وقال مثله، والبيهقي في السنن الكبري 7/30 و 10/114، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي 9/163، وكنز العمال 1/186 و 5/290 و 13/104 و 3/641 و 14/435، واقرأ بحثاً مفصّلا عن الحديث ومصادره ودلالته في مجلة ((علوم الحديث)) العدد الأول لسنة 1418ه_.

ص: 77

رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) أنه قال بعده: ((إنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض)). وقال: قال ابن نمير: قال بعض أصحابنا عن الأعمش أنّه قال: ((أُنظروا كيف تخلّفوني فيهما)). وفي رواية: ((ألا وإنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، وهما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزّوجلّ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ; سبب _ أو طرف _ منه بيد الله وسبب بأيديكم ; إن اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض كإصبعيَّ هاتين وجمع بين سبّابتيه)) الحديث. وعن تفسير «الكشف والبيان» لأبي إسحاق الثعلبي في هذه الآية، روي بإسناده، رفعه إلي الإمام جعفر بن محمد((عليهما السلام)) أنّه قال: ((نحن حبل الله الذي قال الله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)))). وفي حديث العنبري وقوله: ((يا رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) ما هذا الحبل الذي أمرنا الله بالاعتصام به وألاّ نتفرّق عنه؟ فأطرق مَليّاً، ثمّ رفع رأسه، وأشار بيده إلي عليّ بن أبي طالب، وقال: هذا حبل الله الذي من تمسّك به عُصم به في دنياه، ولم يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلي عليّ((عليه السلام))، فاحتضنه من وراء ظهره، وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله)) الحديث. وفي حديث محمد بن عبدالله المعمّر الطبري الناصبي _ بطبرية سنة 333 _ رواه في وفد اليمانيّين علي رسول الله، والحديث مشهور إلي قوله: ((فقالوا يا رسول الله بيّن لنا ما هذا الحبل؟ فقال((صلي الله عليه وآله وسلم)): هو قول الله: ((إلاّ بِحَبْل مِنَ اللهِ وَحَبْل مِنَ النَّاسِ))فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيّيّي، ولم يعلم تأويله إلاّ الله)) الحديث. فالآية كناية عن الالتزام بمودّة ذوي القربي من أهل البيت وأخذ العلم منهم

ص: 78

والتعظيم لآثارهم. ومثله «العروة الوثقي» فيما أخرجه أبو المؤيّد موفّق ابن أحمد، عن عبدالرحمن ابن أبي ليلي، قال: قال رسول الله لعليّ((عليه السلام)): ((أنت العروة الوُثقي)).

ابواب البيوت

ومنها: قوله تعالي: ((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)). والتقريب: أنّ الهداة من عترة الرسول إنّما هم أبواب مدينة علمه وخزنة وحيه ورسالته، لقوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، ولا تُؤتي البيوتُ إلاّ من أبوابها)) (1). والحديث متواتر اللفظ والمعني في طرق الفريقين. ورواه ابن بِطريق في ((العمدة)) بإسناده عن ابن المغازلي الواسطي الفقيه الشافعي في «المناقب» بإسناده عن علي بن عمر، عن حذيفة، عنه((صلي الله عليه وآله وسلم))، وفي غير: ((أنا مدينة الحكمة وعلي بابها))، ومن أراد الحكمة فَلْيأتِ الباب)). وفيما أخرجه المناوي عن الترمذي ((أنا دار الحكمة))، وفي بعضها ما رواه بإسناده عن ابن المغازلي، عن أحمد بن محمد بن عيسي سنة عشر وثلاث مائة معنعناً عن رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) أنه قال: ((يا عليّ أنا المدينة وأنت الباب، كذب من زعم أنه يصل المدينة إلاّ من الباب)).


1- أورده الحاكم في المستدرك علي الصحيحين 3/127، وفي مجمع الزوائد 9/114، وكنز العمال 13/148 وتكلموا حول إسناده. وقد أشبع الإمام المجتهد الحافظ أحمد بن محمّد بن الصديق الغماري الحسني المغربي المتوفي ((1380ه_)) البحث عنه، وأثبت صحّته في كتاب ((فتح الملك العليّ بصحة حديث باب مدينة العلم علي)) المطبوع طبعة ثانية بالقاهرة عام 1389ه_.

ص: 79

قال الرازي: فجعل الله إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسّك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية، فإن من أرشد غيره علي الوجه الصواب، يقول له: ينبغي أن تأتي الأمر من بابه، وفي ضدّه يقال: إنّه ذهب إلي الشيء من غير بابه. قال الله: ((فَنَبَدُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ))، وقال: ((وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً)). فلمّا كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ذكره الله ههنا. انتهي. فقد ظهر: أنّ الآية كناية عن التمسّك والتوسّل بأهل البيت.

اتخاذ المساجد

ومنها قوله تعالي في سورة الكهف: ((وَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)). دلّت الآية بالتقرير والإمضاء علي جواز العبادة عند قبور الأولياء والصالحين، بل وعلي اتّخاذها للمسجديّة تبريكاً للمكان. ففي «تفسير الجلالين» و«الكشّاف» وأبي السعود: ((أَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ))وهم المؤمنون ((لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)) يصلّي فيه المسلمون، ويتبرّكون بمكانهم، وفعل ذلك علي باب الكهف. انتهي. وممّا أخرجه المناوي في «الكنوز» (1) عن الديلمي عنه((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((إنّ بمسجد الخِيف قبرَ سبعين نبيّاً)) ورواه أيضاً في ((صفحة 105)) عن الطبراني. وفي ((صفحة 41)) فيما أخرجه عن الحكيم الترمذي في «النوادر» قوله((عليه السلام)): أنّ قبر إسماعيل في الحِجْر، ورواه أيضاً «صفحة 106)) عن الديلمي.


1- صفحة 57.

ص: 80

الوهابيون والشعائر

هذا كلّه، مع ما كان الأحري والأجدر بهؤلاء النجديّين _ في صيانتهم لشعائر الدين، ووجوب التحفّظ والرعاية لحرمة رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)) في أطائب عترته ولحمته وأركان أصحابه وأعاظم العلماء والشهداء من حملة وحيه وعلمه. إبقاء مآثرهم وضرائحهم وبقاعهم التي كان قد بناها المسلمون، أداءً لفرض المودّة وأجر الرسالة. كما كان الأوفق والأصلح لهم بجمع الكلمة واجتماع الأُمّة، التبيُّن والتثبُّت فيما بلغهم عن موحّدي المسلمين من الإفك العظيم، أو راموها بظنونهم فيهم، فرموهم بها. لا التهجّم عليهم بالهمجية بهدم قباب هؤلاء الأئمة وأطائب العترة، ففعلوا ما فعلوا، والتاريخ يعلن عمّا فعلوا، وأغضبوا الله ورسوله. كما كان الأوفي والأقرب بالنَّصف أن يكون لهؤلاء غنيً فيما استدلّ به السمهودي والسبكي والمدني والنووي والمناوي بالإجماع والكتاب والسُّنّة علي الزيارات والتوسّلات. وفيما أرسل إليهم الشيخ الوحيد والمصلح الكبير بذلك الكتاب الناصح المشفق ; بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القويّة، من الكتاب والسُّنّة وإجماع الأُمّة في جوامع ما عليه الإماميّة من التوحيد وتنزيهم عن إفك الشرك لو أنصفوا ولم يعودوا.

اهداف الفرقة

وكان الباعث لهم في الحقيقة إلي تعذيب المسلمين وإلقاء نار الشِّقاق في الموحّدين، هو ما تمكّن في نفوسهم من حبّ الاستئثار بالسطوة والسلطان،

ص: 81

وجشع استعمار البلاد، واسترقاق العباد ; من غير رأفة ولا رقّة ولا شفقة بإخوانهم في الدين، فضلا عن البشرية. فقاموا بمقتضاه وشمّروا علي هتك حرمات الله، ولقد جاؤوا بها شيئاً إدّاً ((تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً)). وأمّا بحسب الظاهر فبجهلهم وجمودهم:

شبهة تسنيم القبور

فتارة بشبهة التمسّك بحديث أبي الهياج المروي في صحيح مسلم في قوله: ((لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مُشرِفاً إلاّ سوّيته)) (1). مع وضوح فساد التمسّك به بما تقدّم من السيرة النبويّة، وما ورد من أمره((صلي الله عليه وآله وسلم))بزيارة القبور وحثّه(عليها)وتعاهدها والدعاء عندها. والنبيّ من لا ينطق عن الهوي ((إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَي)). كيف يأمر بهدم القبور من هو يأمر بزياتها؟! أم كيف يأمر بهدمها وهو يزورها، ويقف عليها، ويدعو الله عندها؟! علي أنّ تسوية القبور وتسطيحها وتعديلها المقابل لتسنيمها، المشتقّ من سنام البعير شرفه وعُلُوّه، كما يدلّ عليه قوله: مُشرِفاً، وإلاّ كان هذا القيد لغواً عبثاً. وعليه فالحديث يدلّ علي مرجوحيّة التسنيم للقبور الذي أخذته العامّة لها شعاراً، مع مخالفته فعل رسول الله بتسطيحه قبر ولده إبراهيم، وكما استشهد به لذلك شُرّاح الحديث كالقسطلاني وغيره. ويدلّ بمفهومه علي أفضلية ما ذهبت إليه الإماميّة، ووافقهم عليه الإمام


1- صحيح مسلم 3/61.

ص: 82

الشافعي من التسطيح. هذا، مع أنّ الحديث بمعزل عن ذلك كلّه لوروده مورد قبور عظماء الكفّار وتماثيلهم وآلهتهم هناك. وفي ذمّ اليهود والنصاري من كفّار الحبشة، وما كانوا عليه من اتّخاذهم لقبور صلحاء موتاهم كهيئة تمثال صاحب القبر أصناماً يعبدونها من دون الله. فأمر النبيّ عليّاً((عليه السلام))بطمس تلك الهياكل والتماثيل وهدمها وتخريبها ومحوها ومساواتها، ويدلّ عليه قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((ولا تدع تمثالا)).

اتخاذ القبور مساجد

ومثلها ما ورد من(الأحاديث)الناهية عن اتّخاذ القبور مساجد للصلاة. والمغالطة فيها، فإنّها _ كما تري _ مقيّدة بما كان(عليه)اليهود وغيرهم من المشركين، كانوا يمّثلون هناك الصور والتماثيل لصاحب القبر. أو ما كانوا يجعلون البارز من القبر قبلة يستقبلونها بأيّ جهة كانت، ويصلّون تجاهها، فنهي النبيّ عن ذلك. حتّي أنّه روي البخاري عن أنس قال: ((كان قِرامٌ لعائشة _ أي ستر خفيف _ سترتْ به جانب بيتها، فقال النبيّ: أميطي عنّا قِرامك، فإنّه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي)) (1). وكلّ هذا ممّا لا يُنكره أحد من المسلمين. ويدلّ علي الوجه الأوّل: ما رواه كلٌّ من البخاري ومسلم في صحيحه عن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)) أنّه قال: ((إنّ أُولَئِكَ إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات فبنوا علي قبره


1- صحيح البخاري 1/99.

ص: 83

مسجداً وصوّروا فيه تلك الصورة)) (1). وعلي الوجه الثاني: ما ورد أيضاً في الصحيحين عن عائشة عن النبي قوله: ((لعن الله اليهود والنصاري أتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2). ولذلك قالت عائشة: «ولولا ذلك أبرزقبره غير أنه خشي أن يُتّخذ مسجداً» (3). فالظاهر من الرواية _ بمساعدة ما فهمته عائشة منها، بحيث لم يُنكر عليها أحد ممّن روي الخبر عنها _: أنّ المنهيّ عنه إنّما هو خصوص الصلاة إلي القبر باتّخاذ البارز من القبر قبلة. لا مجرّد الصلاة عند القبر بالتوجّه إلي الكعبة. وقد عرفت صحّة الاتّخاذ بهذا المعني فيما مضي وستأتي الحجّة عليه من القرآن والسُّنّة الصحيحة. وهذا معني الحديث. ولولا ذلك لما كان الإبراز سبباً لحصول الخشية، فإنّ المخشيّ منه هو استقبال القبر بجعله واتّخاذه قبلة، وأمّا الصلاة إلي الكعبة فممّا لا يتوقّف علي البارز. ويؤكّد هذا المعني للحديث صريح ما رواه المناوي (4) ، وأخرجه عن ابن حِبّان في صحيحه: ((أنّ النبيّ نهي عن الصلاة إلي القبور)).

الصلاة في المقابر

ومثله في الوهن ما أوردوه من الشبهة في النهي عن الصلاة في المقابر.


1- صحيح البخاري 1/111 و 112 و 4/245، وصحيح مسلم 2/66.
2- صحيح البخاري 1/110 و112 و113، و2/91 و106، و4/144، و5/139 و140، و7/41، وصحيح مسلم 2/67.
3- لاحظ صحيح البخاري 2/91، ولاحظ ص106 و 5/139، وصحيح مسلم 2/67.
4- في ص169 من الكنوز.

ص: 84

وكذا كلّ ما يتشبّث به الوهّابيّون من المناهي حول عنوان القبر ; من التجصيص والتجديد والكتابة عليها، كما تراها بمعزل عمّا رموا به المسلمين. فإنّ المشاهد المشرّفة ممّا ليس هناك قبر بارز، وإنّما هو مجرّد الصندوق والشّباك الواقعين علي السرداب الأجنبي عن القبر ; ليكون حريماً وعلامة لا يوطأ ولا يُصلّي عليه، عملا بالنهي. هذا، مع أنّ النهي محمول علي الكراهة، بل ومخصوص بمافسّره شُرّاح الحديث. وقد قال ابن الأثير في «النهاية»، وإنّما النهي عن الصلاة في المقابر، لاختلاط ترابها بصديد الموتي، وإلاّ فإن صلّي في مكان طاهر منها صحّت صلاته. قال: ومنه الحديث: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر)) أي لا تجعلوها كالقبور، فلا تصلّوا فيها، فإنّ العبد إذا مات، وصار في قبره لم يصلّ، ويشهد له قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتّخذوها قبوراً)). انتهي كلامه. وهذا أحمد بن حنبل، فقد روي في مسنده ما يفسّر الحديثين المذكورين، كما روي عنه المناوي في «الكنوز». أمّا بالنسبة إلي العنوان الأوّل ; أي اتّخاذ القبور مساجد: فقد روي عن مسنده (1) عن النبي أنه قال: ((لا تجلسوا علي القبور ولا تصلّوا إليها)). وما روي فيه أيضا عن الطبراني في الحديث قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((لا تصلّوا إلي قبر، ولا علي قبر)). وأمّا بالنسبة إلي العنوان الثاني: فقد روي عن مسند أحمد (2) عن النبي قال: ((لاتتّخذوا بيوتكم قبوراً، صلّوا فيها)).


1- كنوز المناوي ص181، ومسند أحمد 4/135.
2- كنوز المناوي ص179، ومسند أحمد 4/114.

ص: 85

ومثله ما تقدّمه عن ابن الأثير. فلا يغني المتكلّف مطلق النهي، ولا النهي عن مطلق الاتّخاذ. نعم هكذا يُراد قتل الحقائق، ورمي عباد الله الموحّدين بسهم العصبية، فانظر وراجع وانتصف. فأين مناسبة هذه الروايات لما رامه الجاهل المعاند؟! ويا ليتهم دروا من الروايات مواردها، أو من التسوية والمساواة اشتقاقها. وليتهم إذا لم يدروا وقفوا، ولم يُفتوا.

البناء في الأرض المسبلة

كما أطالوا الكلام تارة حول الأرض المُسْبلة، وأفتوا بغير ما أنزل الله ; لشبهة أنّ البناء في المُسْبلة مانع عن الانتفاع بالمقدار المبني عليه، فهو غصب يجب رفعه، وبه أفتي قاضي قضاتهم علي هتك حُرُمات الله. ومن الواضح أنّ هذه المختصّات من الأبنية وغيرها في نظر الشارع الإسلامي، كأملاك لا يسوغ لغير مالكها أو من يقوم مقامه في التصرف فيها. مع ما تقدّم من وجوب حرمة المؤمن ميّتاً كوجوبه حيّاً، فيحرم هتك حرمته بهدم حرمه وقبره. وكيف التجرّؤ عليه بمجرّد دعوي التسبيل من غير حجّة ودليل؟ علي أنّ مقتضي القاعدة فيها ونظائرها التمسّك في الإباحة الأصليّة مالم يثبت هناك عروض الملكيّة، ودونه خَرْط القتاد. وحيث لم يقرع سمع أحد من المسلمين، ولم يوجد حديث أو تاريخ علي أنّ البقيع ممّا استملكها أحد، ثم وقفها أحد وسبّلها لدفن الموتي، فهي باقية بعدُ علي إباحتها، يحوزها من يشاء من المسلمين من غير أن يتعرّضه أحد، ومع الشكّ في

ص: 86

العروض يبقي استصحاب الإباحة الأصليّة سليمة عن المزاحم. ثمّ لو فرض مع هذا ثبوت الوقف قبل الحيازة _ ومن المحال ثبوته _ فلا ينفع المتكلّف بشيء، ولم يسمع منه ذلك إلاّ بعد إثباته وقوعه منه علي غير مجري عرف أهل المعرفة من المسلمين وعاداتهم في مجاري البرّ والخير، من الرعاية لحقّ العظيم في الإسلام والمحترمين من الصحابة والأولياء ; ممّن يكثر زوّارهم من المسلمين التالين لكتاب الله لديهم وإهداء ثوابها إليهم ; عملا بالسُّنّة المأثورة وقياماً لأداء حقّ عظيم شرفهم في الإسلام. كلاّ وليس في المسلمين أحد ممّن يوقف مقبرة للمسلمين علي غير الوجه الأمثل، لرعاية البرّ والطاعة، والأقرب بأداء الحقوق، والأوفي بتعظيم الشعائر. ولم تزل السيرة القطعية _ من أكابر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين إلي زمان الأئمة الأربعة والخلفاء، من الاُمويين والعبّاسيين، وجهابذة العلماء وأساطين الدين باقتدارهم وسلطنتهم وكمال تضلّعهم في إجراء السنّة ومحو البدعة طول هذه المدّة _ جارية في إبقاء ما ثبت من الأبنية، من غير نكير منهم في حين. وسيرتهم حجّة قاطعة لا يزاحمها شيء، ولم يحتمل أحد منهم أُحدوثة التسبيل أو توهّمه. سوي ماظهر في يومنا هذا من العلم المخزون والديانة المحتكرة في أعراب نجد! وهذا أحمد بن تيميّة(شيخ إسلام)مؤسّس الوهّابيّة وإمام زعيمهم، ممّن صرّح بسيرة هؤلاء. فحكم في باب الوضوء بغسل الرجلين تمسّكاً بها، بأن رعاية الأقرب في العطف في قوله تعالي: ((فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأرْجُلَكُم)) ممّا كان يوجب مسح الرجلين، لولا السيرة المستمرّة علي الغسل؟ وقد استدلّ قاضي قضاة الوهّابيّين بمكّة المكرمّة في الحين بعمل المسلمين علي

ص: 87

إمامة من قهر الناس، واستولي عليهم: بأنه علي ذلك جري المسلمون في غالب الأعصار. كما في ((صفحة 5)) في سؤال وجوابه في مدّعي الخلافة المطبوع في سنة ((1344)). وفي ((صفحة 9)) منها حيث قال: كما جري علي ذلك عمل المسلمين من بعد الخلفاء الراشدين. انتهي كلامه.

قبور أئمة البقيع ملك لبني هاشم

هذا، وقد تقدّم ما يشهد به التاريخ علي قُبّة العباس بن عبد المطلب، المحتوي علي قبور الأئمة الأربعة مع جدّتهم فاطمة بنت رسول الله علي قول، وفاطمة بنت أسد، في القرن الأوّل. وما يظهر منها أنه أوّل مقبرة في البقيع لبني هاشم بُنيت في دار عقيل بن أبي طالب المختصّة بهم، كما ذكره السمهودي عن عبد العزيز وكما يظهر منه: أنها كانت تُدعي يومئذ مسجد فاطمة. وروي عن الطبري عن الشيخ أبي العبّاس المرسي: أنه كان إذا زار البقيع وقف أمام قبلة قبّة العبّاس، وسلّم علي فاطمة. وفيما حكاه عن ابن جماعة: أنّ في قبر فاطمة قولين: أحدهما: أنه الصّندوق الذي أمام المصلّي... إلي قوله: وثانيهما: أنه المسجد المنسوب إليها بالبقيع ; أي البناء المربع في جهة قبلة قبّة العبّاس للمشرق، وهو المعنيّ بقول الغزالي: ويصلّي في مسجد فاطمة. انتهي كلامه. وروي عن المسعودي والسبط ابن الجوزي فيما نقله عن الطبري

ص: 88

المدني _ المولود بالمدينة سنة ثلاثين ومائة _ ما يؤيّد هذا المقام. وروي بإسناده عن زيد بن السائب، عن جدّه، أنّ عقيل بن أبي طالب بني علي قبر أُمّ حبيبة أُمّ المؤمنين بيتاً. قال: قال ابن السائب: فدخلت ذلك البيت ورأيت فيه ذلك القبر انتهي. وبالجملة: وبعدما عرفت _ كما تقدّم _ من الحجج الواضحة في الجواب عن الشبهات بالأحاديث المتشابهات. فبأيّ وجه تجرّؤوا علي هتك حرمات الله ورسوله في حَرَمه، وسَفْك دماء الصالحين من عترته، والموحّدين من أُمّته؟! فلا يستخفنّهم المَهَل والاستدراج، فإنّه _ عزّ وجلّ _ لا يخفره البدار، ولا يخاف عليه فوت الثار، وهو العالم بالعباد، وبالظالمين لبالمرصاد.

المقامات المهدومة

وهذه مساجد الله ومحاريبه والمزارات والمقامات والقِباب المهدومة بأيدي هؤلاء، أصبحت تشتكي إلي الله. وحرماته المهتوكة بظلمهم في الحرمين الشريفين والطائف، أمست تصرخ وتستغيث بعدل الله ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَي فِي خَرَابِهَا)) الآية. وإليك أسماء القباب الشريفة التي هدموها في الثامن من شوال سنة ((1344)) في البقيع خارجه وداخله: الأوّل: قبّة أهل البيت((عليهم السلام)) المحتوية علي ضريح سيدة النساء فاطمة الزهراء _ علي قول _ ومراقد الأئمة الأربعة: الحسن السبط، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهم الصلاة والسلام، وقبر العبّاس

ص: 89

ابن عبد المطلب عمّ النبيّ، وبعد هدم هذه القِباب دَرَست الضرائح. الثاني: قُبّة سيّدنا إبراهيم ابن النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)). الثالث: قُبّة أزواج النبي((صلي الله عليه وآله وسلم)). الرابعة: قُبّة عمّات النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)). الخامسة: قُبّة حليمة السعدية مرضعة النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)). السادسة: قُبّة سيّدنا إسماعيل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق((عليه السلام)). السابعة: قُبّة أبي سعيد الخدري. الثامنة: قُبّة فاطمة بنت أسد. التاسعة: قُبّة عبدالله والد النبيّ((صلي الله عليه وآله وسلم)). العاشرة: قُبّة سيّدنا حمزة خارج المدينة. الحادية عشرة: قبّة علي العريضي ابن الإمام جعفر بن محمد خارج المدينة. الثانية عشرة: قُبّة زكي الدين خارج المدينة. الثالثة عشرة: قُبّة مالك أبي سعد من شهداء أُحد داخل المدينة الرابعة عشرة: موضع الثنايا خارج المدينة. الخامسة عشرة: مصرع سيّدنا عقيل بن أبي طالب((عليه السلام)). السادسة عشرة: سيّدنا عثمان بن عفان. السابعة عشرة: بيت الأحزان لفاطمة الزهراء. ومن المساجد مسجد الكوثر، ومسجد الجنّ، ومسجد أبي القبيس، ومسجد جبل النور، ومسجد الكبش... إلي ما شاء الله. كهدمهم من المآثر والمقامات وسائرالدور والمزارات المحترمة، كما صرّح بها في ((المفاوضات)).

ص: 90

نهب الأملاك والأموال

هذا، بعدما نهبوا جميع ما فيها. كما قد نهبوا حرم النبيّ من قبل، ولم يراعوا حرمته، فأخذوا في تلك السنة ما كان في خزانة الرسول من الحُليّ والحُلَل، كما عن تاريخ عجائب الآثار للجبروتي. قال _ في ضمن تاريخ سنة 1223 _: ويقال: إنّه ملأ الوهّابي أربعة صناديق من الجواهر الُمحلاّة بالألماس والياقوت العظيمة القدر. من ذلك أربع شمعدانات من الزُّمُرُّد وبدل الشمعة قطعة الماس تضيء في الظلام. ونحو مائة سيف لا تُقوّم قِراباتها، ملبّسة بالذهب الخالص، ومنزّل عليها ألماس والياقوت، ونصابها من الزُّمُرُّد واليشم ونحو ذلك، ونصلها من الحديد الموصوف، وعليها أسماء الملوك والخلفاء، السالفين. وليت شعري بأيّ حقّ لهم، وبأي وجه نهبوا وأخذوا؟! وبأيّ حكم حكموا في أموال المسلمين، وخالفوا كتاب الله و(سُنّة)رسوله وسُنّة الشيخين؟! أو ماذُكر عند عمر بن الخطاب حُليّ الكعبة، فقال قوم: لو أخذته فجهّزتَ به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحُليّ؟! فَهمّ عمر بذلك، وسأل عنه أمير المؤمنين، فقال: ((إنّ القرآن أُنزل علي النبي والأموال أربعة: أموال المسلمين، فقسّمها بين الورثة، والفرائض والفيء، فقسّمها علي مستحقّيها، والخمس فوضعه حيث وضعه، والصدقات فجعلها حيث يجعلها. وكان حُليّ الكعبة فيها _ يومئذ _ فتركه الله علي حاله، ولم يتركها نسياناً، ولم يخفَ عنه مكاناً فأقرّه حيث أقره الله ورسوله)). فقال عمر: «لولاك لافتضحنا»، وترك الحُلْيّ بحاله.

ص: 91

سفك الدماء

ثمّ، وبعدما اجترؤوا علي هتك حرمات الله ورسوله بهدم قبابها ونهب ما فيها، تجاسروا علي سفك دماء المسلمين، وأشراف المؤمنين من الموحّدين، والسادة المنتجبين من قاطني حرم الله، ومجاوري الطائف من بيت الله. وما ذنبهم إلاّ التوحيد وقراءة القرآن المجيد، فسفكوا دماءهم، وأباحوا أموالهم وأعراضهم وحرائرهم بمرْأيً من الله ورسوله ونصب عينه. وهم يصرخون ويضجّون ويعجّون وينادون: يا ألله، يا محمّداه، يا رسول الله. وكان قد تألّف في هذه السنة ((1345)) وفد من أشراف الهند ومؤمنيهم، قاصدين إلي الحجاز بعنوان «جمعيّة خدّام الحرمين» ; وذلك ليتحقّقوا عظمة سلطان نجد والوهّابيّين عن مهاجماتهم للطائف والحرمين الشريفين. فسألوهم حول هذه العناوين عن مسائل ((89)) تسعة وثمانين. فكان نتيجة التحقيق من أمر الطائف ما ذكروه في الصحيفة الخامسة، نمرة ((ه_)) من منشورها بعنوان «المفاوضات الخطّيّة» المتبادلة المطبوعة في محروسة الهند، غضون يناير _ فبراير سنة ((1926)) _. قال: كلّ أحد حتّي السلطان ومستشاره اعترفوا بأنّ النجديين أعطوا أهل الطائف الأمان، ثمّ نهبوا تلك البلدة، وقتلوا بالرصاص الرجال والنساء. وأخرجوا بعض النساء وحبسوهنّ في بستان ثلاثة أيّام بلا طعام، وبعد ذلك أعطوا لكلّ مائة شخص منهم كيساً من دقيق. وجرّوا أجساد الموتي كما تُجرّ البهائم إلي الدفن بلا صلاة ولا تغسيل. وعذّبوا أناساً كثيرين لإخراج الكنوز. وأرسلوا الباقين حفاة عراة إلي مكّة. ونهبوا أموال المسلمين كغنيمة.

ص: 92

وأُمراء الطائف اليوم في مكّة فقراء، والمخدّرات اللواتي لم تكن غير السماء تري وجوههن، يشتغلن اليوم بغسل الحوائج وطحن الحنطة بحالة تفتّت الأكباد. والسلطان يظهر البراءة من هذه الفضائع، ويتمثّل في الجواب عنها بقصّة خالد ابن الوليد. ولكنّه في الوقت نفسه أخذ خمس الغنائم ومنهوبات المسلمين، ودخل جند ابن السعود مكّة سلماً لا حرباً. وهدموا المساجد والمزارات والقباب والمقامات، وصور أنقاضها لدينا، وسننشرها علي حِدَة مع إحصاء المساجد والمزارات والمقامات الجليلة المهدّمة.

هتك حرمة العقائد

قال: وأمّا حرمة المعتقدات فهي مفقودة في الحجاز، وليس للسلطان حرمة والناس يُضربون علي قول: «يا رسول الله»! والنجديّون إذا طافوا يدفعون الناس ويحقّرون المذاهب «المدارس». ودور الكتب أقفلها النجديّون أو بعضها. والسلطان أعطي قليلا منها إعانات زهيدة، بشرط تعلّم مباديء الوهّابيّة. والتي لا تفعل، لا تفتح. التدخين: يعاقِبون عليه عقاباً شديداً. ولكلّ نجديّ الحقّ بإنزال العقاب حسب مشيّته. والسلطان يتقاضي رسوم الدخان! ويغري الناس علي جلبه! حتّي إذا شرِبوه عاقبهم. انتهي. فاعتبر أيّها المنصف. أو لم يكن لبلاد المسلمين _ ولا سيّما لمجاوري حرم الله ورسوله ومن بحماه _

ص: 93

حرمة وأمن؟! أو لم يجعل الله لهم بشرف جوارهم احتراماً؟! أو لم يلعن الله ورسوله من حقّر مسلماً، أو استحلّ حرمةً، كما لعن المستحلين لحرمة عترته في الحديث المتقدّم؟! أو لم يلعن الله من أحدث في المدينة أو آوي محدثاً؟!

حرمة المدينة

ففي «الكنوز» للمناوي باب الميم قال: ((من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ)) أخرجه من مسند أحمد (1). وفيه عن صحيح ابن حِبّان: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله)) (2). وفي «جامع البخاري» قال: ((لو رأيت الظِّباء بالمدينة ترتع لما ذعرتها))، قال رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((ما بين لا بَتَيْها حرام)) (3). وفيه عن النبيّ: ((لا يكيد أهل المدينة أحد إلاّ إنماع كما ينماع الملح في الماء)) (4). وعن «الجمع بين الصحيحين» للحميدي، من الثامن والأربعين من أفراد مسلم، في الصحيح من مسند أبي هريرة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبيّ قال: ((المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوي مُحدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه عدلا ولا صرفاً)) (5).


1- مسند أحمد 4/55.
2- لاحظ مجمع الزوائد 3/307.
3- صحيح البخاري 2/221.
4- صحيح البخاري 2/222.
5- صحيح البخاري 2/221 و 4/67 و 8/10 و 8/148، وصحيح مسلم 4/115 و 217.

ص: 94

وزاد في حديث سفيان: ((وذمّة المسلمين واحدة يسعي بها أدناهم، فمن أحقر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفاً)). أقول: وبعد ذلك فإن أردت الحقيقة فأنسب حديث الانتحال إلي التوحيد تارة، والتشبّث بحديث أبي الهياج أُخري. ثمّ اعتبرهما بما ورد من النبيّ في الصحاح والقياس إلي بعض الأقلّ من هذه الصادرات، من الدماء المسفوكات وهتك الحرمات، فتجد الحقيقة كالشمس الضاحية.

منع الصلاة علي النبي

واعتبرها أيضاً بعد ذلك بحديث المنع من الصلوات علي سيّد الكائنات. فإنّ شيخهم وزعيمهم ممّن كان يكره الصلوات علي رسول الله، ويتأذّي من استماعها، ويمنع منها وإلاعلان بها علي المنارات في ليالي الجمعة. وكان بحيث لو سمعها ممّن جهر بها عاقبه بها، يزعم أنّها منافية للتوحيد. وقد سبقه إلي هذا عبد الله بن الزبير، فقطعها من الجمعة والجماعة، ومنع عنها أتباعه وأشياعه. قال ابن أبي الحديد فيما رواه عن المدائني، قال:قطع عبدالله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله جُمُعاً كثيرة، فاستعظم الناس ذلك. فقال: إنّي لا أرغب عن ذكره، ولكن له أُهيل سوء! إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم، فأنا أُحبّ أن أكبتهم (1).


1- لاحظ تاريخ اليعقوبي 2/261، ومروج الذهب 3/88.

ص: 95

إلي قوله: ولم يذكر رسول الله في خطبته ; لا يوم الجمعة ولا غيرها، عاتبه قوم من خاصّته وتشاءموا بذلك منه، وخافوا عاقبته. فقال: ما تركت ذلك علانية إلاّ وأنا أقوله سرّاً وأُكثر منه، لكن لما رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا واحمرّت ألوانهم، وطالت رقابهم. والله ما كنت لآتي سروراً وأنا أقدر عليه. والله لقد هممتُ أن اُحْظِرَ لهم حظيرة، ثم أُضرمها ناراً. فإنّي لا أقتل منهم إلاّ آثماً كفّاراً سحّاراً. لا أنماهم الله ولا بارك عليهم. بيت سوء لا أوّل لهم ولا آخر... إلي آخر ما كفر به. ومن بعده زياد ابن أبيه حيث خطب الخطبة البتراء، لم يحمد الله فيها، ولم يصلّ علي النبيّ وآله، كما في تفسير «مجمع البيان» سورة الكوثر (1). وأمّا محمّد بن عبد الوهّاب: فقد كان في مسجد الدرعية وعاصمة بلده ومركزه، وهو يقول في خطبته: من توسّل بالنبيّ فقد كفر. واعلم أن أمر ابن الزبير وابن سميّة أهون من أمر الرجل وأشياعه. فإنّ اعتذارهما فيما أنكراه من الصلوات إن كان من أهل محمّد، فقد كان الرجل إنكاره من محمّد نفسه. والعياذ بالله ممّن طبع الله علي قلبه وأعماه. مع ما عرفت من إجماع أهل القبلة علي وجوب التوسّل به، فكيف


1- لاحظ الصحاح للجوهري ((مادة: بتر)) 2/584، وكذلك لسان العرب.

ص: 96

بالصلوات عليه؟ فلعن الله منكري الضرورة من الدين، وجاحدي آيات القرآن المبين.

الله: يصلي في القرآن علي نبيه

وهذا كتاب الله الحَكَم الفَصْل. وقد صلّي الله وملائكته علي نبيّه، فقال تعالي: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)).

ص: 97

خاتمه: من دلائل النبوة: التحذير من الفتنة

اشاره

ومن معجزات نبيّنا الباقية. ما أخبر به _ زُهاءَ ألف سنة قبل هذا _ بظهور هذه الفتنة ممّن يسعي ويجدّ في هدم أعلام الدين وبقيّة النبيّين، وإطفاء مآثرهم وتخريب آثارهم ومشاهدهم وبقاعهم، وتعيير الصالحين من زوّارهم والمعاهدين لديهم، فلا يزداد بذلك أمر الله إلاّ عُلُواً ونوراً، كما أخبر الله تعالي به في قوله: ((وَيَأْبَي اللهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)):

احاديث تنبيء بالمنع عن الزيارة وبالعداء للمشاهد

(1). منها: ما صحّ لي روايته ورواه الحفّاظ وأجلّة الأثبات والثقات، وهو الحديث المتقدّم بإسنادهم إلي عمارة بن يزيد، عن أبي عامر البناني واعظ أهل الحجاز، عن الإمام جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه الحسين بن علي((عليه السلام))، عن أبيه عليّ، عن


1- لاحظ كتاب ((شفاء السقام)) للامام السبكي في الحث علي زيارة المشاهد وتعظيمها.

ص: 98

رسول الله((صلي الله عليه وآله وسلم))إلي قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((ولكن حثالة من الناس يُعيِّرون زوّار قبوركم، كما تعير الزانية بزنائها، أُولئك شرار أُمّتي لا أنا لهم الله شفاعتي، ولا يَرِدون حوضي)) (1). ومنها: ما رواه رئيس المحدّثين في المائة الثالثة مولانا الشيخ أبو جعفر محمّد بن قولويه (2) ، وأخرجه بإسناده عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب((عليهما السلام))، عن عقيلة أهل البيت عمّته زينب بنت علي بن أبي طالب، عن أبيها أمير المؤمنين((عليه السلام)). وأُخري روته عن أُم أيمن، عن رسول الله، عن جبرئيل، عن الله _ عزّوجلّ _ في حديث طويل يذكر فيه ما سيكون من أُمته، وما يجري منهم من بعده علي أهل بيته، من عظيم شهادة ولده وعترته في يوم الطفّ.... إلي قوله: ((ثمّ يبعث الله قوماً من أُمّتك لا يعرفه الكفّار، ولم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء، ويكون علماً لأهل الحقّ، وسبباً للمؤمنين إلي الفوز، وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مائة ألف مَلَك في كلّ يوم وليلة يُصلّون عليه، ويسبِّحون الله عنده، ويستغفرون الله لزواره، ويكتبون أسماءَ من يأتيه زائراً من أُمّتك متقرّباً إلي الله وإليك بذلك، وأسماءَ آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسَمون بميسم نور الله: «هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء»، فإذا كان يوم القيامة


1- رواه الطوسي الإمامي في تهذيب الأحكام 6/22 و 107، ورواه العلامة الحلي الإمامي في كتاب منتهي المطلب 2/890، والشهيد في الذكري ص69 و 155، وانظر الحدائق الناضرة 17/405، وجواهر الكلام 4/341 و 20/92، وانظر وسائل الشيعة 10/298، ومستدرك الوسائل 10/215.
2- رواه في كامل الزيارات ص265، وعنه في مستدرك الوسائل 10/229.

ص: 99

يطلع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشي منه الأبصار تدلّ عليهم ويُعرفون به. وكأني بك يا محمّد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا، ومعنا من ملائكة الله ما لا تُحصي، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتي ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده. وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك لا يريد به غير الله عزّوجلّ. ثم قال((صلي الله عليه وآله وسلم)): وسيجدّ أُناس ممّن حقّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل الله تعالي لهم إلي ذلك سبيلا)). وممّا رواه الإمام علي بن الحسين((عليه السلام)) أنها قالت في حديثها له يوم الطفّ وتسليتها إيّاه: ((يابن أخي لا يجزعنّك ما تري، فوالله إنّ ذلك لعهد معهود من رسول الله جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمّة لا يعرفهم فراعنة أهل الأرض، وهم معروفون في أهل السموات، وإنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة، فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة. وينصبون لهذا الطف عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره ولا يعفو رسمه علي كرور الأيّام والليالي. وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ عُلُوّاً)) (1). تنبيه: أُمّ أيمن في الحديث تعدّ من الثقات جدّاً، وهي المنعوتة في لسان النبيّ


1- لاحظ بحار الأنوار للمجلسي الإمامي 28/57.

ص: 100

أنّها امرأة من أهل الجنّة، وفيما أخرجه المناوي عن ابن عساكر قوله((صلي الله عليه وآله وسلم)): ((أُم أيمن أُمّي بعد أُمّي)).

احاديث في نجد و شروره

ومنها: مارواه حجّة الإسلام السيّد العلاّمة صدر الدين الحسيني العاملي الكاظمي، عن شيخ الإسلام أحمد بن زيني دحلان في كتابه «خلاصة الكلام»، رواه عن النبيّ أنه قال: ((سيظهر من نجد شيطان تتزلزل جزيرة العرب من فتنته)). ويؤيّد هذا الحديث في ذمّ نجد باعتبار أهله، أحاديث رواها أهل الحديث، تكون جواباً عن اعتذار العالم النجدي للعالم العراقي عن الصحيحة التي رواها البخاري عن ابن عمران: ((هنالك الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان)) (1). ومثله ما رواه في الصحيحين عن أبي هريرة عنه أنّه قال: ((رأس الكفر نحو المشرق، والفتنة ههنا حيث يطلع قرن الشيطان)) (2) وغيرها. فاعتذر عنهما: بأنّ ما ورد في ذمّ نجد ممّا لا يوجب الرمي به أهله: فمنها: ما رواه في «شرح السُّنّة» بإسناده عن عُقبة بن عامر، قال: ((أشار رسول الله بيده نحو اليمن، وقال: الإيمان يمانيّ ههنا، إلاّ أنّ القسوة وغلظ القلوب في الفدّادين، عند أُصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر)) (3).


1- صحيح البخاري 2/23 و 8/95، مسند أحمد 2/118 و 126، وسنن الترمذي 5/390.
2- صحيح البخاري 4/46 و93، و5/122، و8/95، وصحيح مسلم 8/180، ومسند أحمد 2/18 و 72 و 93 و 111.
3- صحيح البخاري 4/97، وانظر 4/154، و5/122، و6/178، وصحيح مسلم 1/51، ومسند أحمد 2/258، و2/270 و272 و408 و418 و426 و457 و484 و506، و3/332، و 4/118، و 5/273.

ص: 101

ويؤيّده: حديث عُيَيْنة بن حصين يوم عرض الخيل، وذلك لما أغضب النبيّ بما مدح به النجديّين، فغضب حتي ظهر الدم في وجهه فردّ عليه بقوله: ((كذبت، بل الجفاء والقسوة في الفدّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس...» إلي قوله: ((لعن الله الملوك الأربعة جمداً ومِخْوَساً ومشرحاً وأبضعة وأُختهم العمرّدة)) (1) الحديث. وقد أخرج المناوي بعض هذا الحديث في «الكنوز» عن الدار قطني (2) عنه((عليه السلام))قوله: ((الجفاء والقسوة وغلظ القلوب في الفدّادين)). وليكن هنا آخر كلامنا من هذه الرسالة. والحمد لله ربّ العالمين (3).


1- مسند أحمد 4/387، والمستدرك علي الصحيحين 4/81، ومجمع الزوائد 10/43، وكنز العمال 12/54.
2- الكنوز للمناوي 67 الكافي، لابي جعفر الرازي 8/70.
3- الفدّ: صوت الحدي للإبل، كنّي به عن الجمالين من أصحاب الإبل. أصحاب الوبر: أهل البوادي، فإنّ بيوتهم يتّخذونها منه. قال الجوهري: قرن الشمس أعلاها، وأوّل مايبدو منه في الطلوف والمراد منه شرقيّ المدينة. قال الفيروز آبادي: مِخْوَس _ كمِنْبر _ ومِشْرح، وجمد وأبضعة: بنو معدي كرب، الملوك الاربعة الذين لعنهم رسول الله ولعن أُختهم العمرّدة وفدوا مع الأشعث، فأسلموا ثمّ ارتّدوا، فقُتلوا يوم النجير فقال نائحتهم: يا عينُ إبكي للملوك الأربعة++ جمداً ومِخْوساً مِشَرْحاً أبضعة ونجد: يطلق علي نجد برق، ونجد خال، ونجد الثرا، ونجد عفر، ونجد العقاب، ونجد كب كب، ونجد اليمن. قال ياقوت الحموي: وبعض نجد اليمن في شرقي تهامة، وهي قليلة الجبال مستوية البقاع، ونجد اليمن غير نجد الحجاز، غير أنّ جنوبي نجدالحجاز يتّصل بشمالي نجد اليمن، وبين النجدين برّيّة ممتنعة. «معجم البلدان».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.