ن سرشناسه : ميانجي، 1379 - 1304
عنوان و نام پديدآور : السجود علي الارض/ تاليف علي الاحمدي
مشخصات نشر :مشعر 1379.
مشخصات ظاهري : ص 145
فروست : ((علي مائده الكتاب و السنه)21)
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
يادداشت : عربي
يادداشت : كتاب حاضر در سالهاي مختلف توسط، شرين مختلف منتشر شده است
يادداشت : كتابنامه: بصورت زيرنويس
موضوع : سجده
رده بندي كنگره : 5/BP/الف 3س 3 1379
رده بندي ديويي : 297/353
شماره كتابشناسي ملي : م 80-6816
ص:1
ص:2
ص:3
ص:4
ص:5
والحمد للَّه رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.
ممّا لا ريب فيه أنّ الإسلام قام على عدّة ركائز ثابتة، ومن بينها الصلاة التي اعتبرت عمود الدين، والتي إن قُبلت قبل ما سواها وإن رُدّت ردَّ ما سواها. وعلى هذا الأساس كان التمسّك بها من قبل المسلمين والاهتمام بها أشدّ اهتمام.
ولكن مع وفاة الرسول الأكرم وافتراق المسلمين فِرقاً شتّى ظهرت الخلافات فيما بينها حول طريقة أداء الصلاة، كلّ يحاول إظهارصحّةصلاته واقتدائه برسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فلم يبق ركن من أركانها إلّاوظهر حوله الخلاف.
ص:6
كثيرة هي الكتب التي تناولت هذه الخلافات، وكثيرة هي الكتب التي حاولت معالجتها بطريقة أو بأُخرى، ولكنّ معظمها كانت سطحية التناول، فلم تخلُ من الانحياز والميل لفرقة دون اخرى، لكنّ القليل منها استطاع أن يعالج الموضوع بتجرّد وموضوعيّة، ويضع الحقائق أمام القارئ بعد أن يستقصيها من متون الكتب وبطون التاريخ، ومن بين هذه الكتب كان كتاب «السجود على الأرض» لآية اللَّه الشيخ علي الأحمدي.
ومن الملاحظ: أن العنوان هو قنطرة العبور لمعرفة الموضوع الذي يتناوله الكتاب ألا وهو السجود الذي يعتبر ركناً من أركان الصلاة، والذي ظهرت فيه الخلافات بين الفرق الإسلامية.
والملفت في هذا الكتاب الأسلوب الذي اعتمده الكاتب للوصول إلى الحقيقة عبر استعراض جميع الآراء مع اختلافاتها واستحضار جميع الأحاديث التي تناقلتها جميع الكتب عن رسول اللَّه وعن الصحابة وعن التابعين حول موضوع السجود وكيفيته، ومن ثمّ عرضها وتحليلها ومعرفة ناقليها ومدىصحّتها حتّى استطاع الوصول إلى الحقيقة التي لابدّ منها ولا شكّ فيها.
ونحن إذ نضع أمام القارئ الكريم هذا الكتاب نرجوا من المولى عزّوجل أن يوفّقنا إلى تأدية الرسالة عبر الأسس التي آلينا أن نطبّقها ونضع أنفسنا في خدمتها؛ ألا وهي نشر رسالة الحقّ
ص:7
المتمثلة بالدين الإسلامي، وإرشاد الأمة إلى الطريق القويم المتمثّل بخط آل البيت عليهم السلام عبر إعطاء الأولويات لجميع المؤلّفات الّتي نرى فيها ما يسهّل على هذه الأمة ويضع القارئ الكريم على الصراط المستقيم والحمد للَّه ربّ العالمين.
الناشر
ص:8
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد للَّه الذي منَّ على بني الانسان؛ إذ بعث فيهم رسولًا هادياً، وأرسل إليهم نبيّاً منذراً فأكمل به نعمته، وأتمّ به حجّته، وهداهم به إلى الصراط المستقيم، والطريق القويم؛ «ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بينة»، والصلاة على سيّد رسله وأشرف أنبيائه محمّد وآله الطيبين الطاهرين الذين هم عدل الكتاب وفلك نجاة لأولي الألباب وخزان علمه وكهوف كتبه.
وبعد:
هذه وجيزة في مسألة من المسائل الخلافية التي كثر الابتلاء بها، وكثر اللغط والحوار حولها، واشتدّت فيها العصبية حتى انجرّ الأمر فيها إلى البهت والفرية، كتبتها رجاء الإصلاح وإتمام الحجة، واللَّه المستعان وهو الموفّق والمعين.
علي الأحمدي
ص:9
- ما يسجد عليه في الصلاة؟
- التطورات الحاصلة في السجدة
- الأدوار الأربعة للسجود
- أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء
فتاوى الصحابة
فتاوى التابعين وتابعيهم
أقوال الفقهاء وكلماتهم
ص:10
لا خلاف بين المسلمين في وجوب السجدة في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، وإنّما الخلاف في فروعها وأحكامها من كيفيتها وأركانها وشرائطها وموانعها وأذكارها.
وقد تفاقم الأمر واشتدّ النزاع بين المسلمين فيما يصحّ السجود عليه، أي: فيما يضع المصلّي عليه جبهته:
فقال أئمّة المذاهب الأربعة- كما هو المشهور المنقول عنهم في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة- بجواز السجود على كلّ شي ء من تراب وحجر ورمل وحصى وصوف وقطن وغير ذلك، بل على ظهر إنسان آخر عند الزحام.
قال في بداية المجتهد: «ومن هذا الباب- أي إبراز اليد في السجود- اختلافهم في السجود على طاقات العمامة، وللناس فيه
ص:11
ثلاثة مذاهب: قول بالمنع، وقول بالجواز، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة، وقول بالفرق بين أن يمسّ شي ء من جبهته الأرض أو لا يمسّ منها شي ء، وهذا الاختلاف كلّه موجود في المذاهب وعند فقهاء الأمصار.
وقالت الإمامية الإثنا عشرية- تبعاً لأئمتهم أئمة أهل البيت عليهم السلام-: إنه لا يجوز السجود إلّاعلى الأرض من تراب ورمل وحصى وحجر، أو ما أنبتته الأرض غير مأكول ولا ملبوس، ويحتجّون لذلك بالأحاديث المنقولة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وبما رواه أئمة الحديث عن الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبيّصلى الله عليه و آله، وبما جرى عليه عمله وعملهم».
إنّنا إذا دقّقنا النظر في هذه المسألة، نرى أنّها قد مرّت بعدّة أدوار، وتطوّرت تطوّراً ملحوظاً على مدى العصور ابتداء من عصر الرسولصلى الله عليه و آله، وأنّها ممّا لعبت فيها عوامل التغيّر والتبدّل كما تلعب بكلّ موجود ممكن، ولم تكن تلك العوامل مقصورة على الخطأ في الاجتهاد أو سوء الفهم للحديث والسنّة، بل لعلّ البواعث السياسية والتعصّبات القومية والأهواء غير المُرضية قد أثّرت فيها أثرها أيضاً.
ص:12
ولا نبالغ إذا قلنا إنّنا في حين نرى السجدة ذات أحوال وشرائط خاصّة في بدء تشريعها، نعود فنرى فيها التغيّر التدريجي شيئاً فشيئاً حتّى تنقلب إلى حالة مباينة لما كانت عليه أوّلًا.
ويتّضح ذلك بالتدبّر التامّ في المأثور من أدلّتها وتأريخها وعمل النبيّ صلى الله عليه و آله والصحابة والتابعين وفتاوى الفقهاء والمجتهدين.
وقد قسّمنا التطوّرات الحاصلة إلى أدوار أربعة ورسمناها بالترتيب الآتي:
الدور الأول: السجود على الأرض من تراب ورمل وحصى وحجر ومدر لا غير.
الدور الثاني: السجود على الأرض وأجزائها ونباتها، وعلى الخمرة المصنوعة منها، وكذا الحصير والبسط المصنوعة من السعف ونحوه، وكان للخمرة في دورها حظ وافر وانتشار حتّى ملأت المساجد والبيوت كما سيأتي «ونحن نرى التقيّد بالسجود على الخمرة إلى زمن بعيد، وكان كلّ رجل من أهل مكة في العصر الحديث يؤدّي الصلاة في المسجد الجامع على سجادة هي في العادة طنفسةصغيرة لا تتسع إلّاللسجود فحسب، فإذا فرغ من الصلاة
ص:13
طواها وحملها على كتفه فكان خادم يحفظها لهم» «(1)».
وما زال النبيّصلى الله عليه و آله وأهل بيته يسجدون على الخمرة حتّى قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في حديث: «لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلي عليها و ...» «(2)» وفي هذا الدور أيضاً نرى أنّ جمعاً كبيراً من الصحابة والتابعين كانوا يتجنّبون السجود على غير التراب حتّى أنّهم يضعون التراب على الخمرة فيسجدون عليه احتياطاً فيصلاتهم ذهولًا عن عمل الرسولصلى الله عليه و آله أو خطأً في الاجتهاد «(3)».
وذكر أنّ الباعث لصنع الخمرة هو أنّ الرسول العظيمصلى الله عليه و آله والمسلمين كانوا يسجدون على التراب والحجر والمدر والحصى، ولكنّ الحرّ والبرد قد آذاهم وأحرقت الرمضاء وجوههم وأيديهم، وفي أيام المطر لطخ الماء والطين وجوههم وأيديهم (الأمر الذي دفعهم إلى فرش المساجد بالحصى) فشكى المسلمون إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما يلاقونه من ألم الرمضاء وبرودة الهواء (بحيث كانوا يعالجون إمّا بتقليب الحصى حتّى يخرج منها ما كان فيها من حرارة الشمس، وإمّا بتبريد الحصى في أيديهم حتّى يصلح لوضع الجبهة عليه) فلم يشكهم، ثمّ بعد مدّة رخّص لهم في الإبراد
ص:14
بالصلاة، أي: تأخيرها إلى وقت برودة الجوّ، ثمّصنعوا الخمرة بأمره صلى الله عليه و آله أو من عند أنفسهم فأقرّهم عليه، واستمر عمله صلى الله عليه و آله وعملهم عليه.
الدور الثالث: السجود على كلّ شي ء من الأرض وغيرها كالثياب بأنواعها من الحرير والقطن والصوف والكتّان والبسط من السجاجيد المنسوجة من الحرير والصوف والقطن.
الدور الرابع: عُدّ السجود على الثياب شعار التسنّن، وعدّ التقيّد بالسجود على التراب بدعة ومن شعار الشيعة- شيعة أهل البيت عليهم السلام- بل عدّ ذلك من الشرك والزندقة (معاذ اللَّه).
ص:15
ص:16
الأرض مباشرة «(1)».
4- كان عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي يرى وجوب السجود على الأرض مباشرة «(2)».
5- جابر بن عبداللَّه الأنصاري لا يرى السجود إلّاعلى الحصباء «(3)».
6- عثمان بن حنيف الأنصاري كان يسجد على الخمرة «(4)».
ص:17
7- وكان خباب بن الأرت متقيّداً بالسجود على الحصى «(1)».
8- كان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ينهى عن السجود على كور العمامة ويأمر بالسجود على الأرض مباشرة، وتبعه الأئمة من عترته عليهم السلام «(2)».
9- عبداللَّه بن عبّاس كان يفتي بوجوب لصوق الجبهة والأنف بالأرض «(3)»، ونسبت إليه الرواية في جواز السجود على الثياب كما يأتي.
10- ظاهر كلام الإمام مالك وغيره أنّ عمر بن الخطاب كان
ص:18
يفتي بعدم جواز السجود على غير الأرض اختياراً «(1)».
كما أنّ الظاهر من حديثي خباب وابن مسعود الآتيين أنّ الصحابة جلّهم كانوا متقيّدين بالسجود على الحصى.
11- وعن أبي هريرة وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وابن مسعود جواز السجود على الثياب والبسط والمسح، وستأتي الإشارة إلى أدلّتهم والكلام حولها «(2)».
12- عن مسيب بن رافع أنّ عمر بن الخطاب قال: «من آذاه الحرّ يوم الجمعة فليبسط ثوبه فليسجد عليه، ومن زحمه الناس يوم الجمعة حتّى لا يستطيع أن يسجد على الأرض فليسجد على
ص:19
ظهر رجل» «(1)».
ص:20
وفي لفظ «إنه كان يصلي على الحصير ويسجد على الأرض».
3- أفتى عطاء تلميذ الحبر ابن عباس بعدم جواز السجود على الصفا ولزوم السجود على البطحاء. قال ابن جريج: «قلت لعطاء: اصلّي على الصفا وأنا أجد إن شئت بطحاءَ قريباً منّي؟ قال:
لا، قلت: أفتجزي عنّي من البطحاء أرض ليس فيها بطحاء مدراة فيها تراب وأنا أجد إن شئت بطحاء قريباً منّي؟ قال: إن كان التراب فحسبك» «(1)».
وعن ابن جريج قال: «قلت لعطاء أرأيتصلاة الإنسان على الخمرة والوطاء؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن تحت وجهه ويديه، وإن كان تحت ركبتيه من أجل أنه يسجد على حر وجهه» «(2)».
وعن ابن جريج قال: «قال إنسان لعطاء: أرأيت إنصلّيت في مكان جدد أفحص عن وجهي التراب؟ قال: نعم» «(3)».
ص:21
عن ابن جريج قال: «قلت لعطاء: اصلّي في بيتي في مسجد مشيد أو بمرمر ليس فيه تراب ولا بطحاء؟ قال: ما أحب ذلك، البطحاء أحب إليّ، قلت: أرأيت لو كان فيه حيث أضع وجهي قط قبضة بطحاء أيكفيني؟ قال: نعم إذا كان قدر وجهه أو أنفه وجبينه، قلت: وإن لم يكن تحت يديه بطحاء؟ قال: نعم، [قلت] فأحبّ إليك أن أجعل السجود كلّها بطحاء؟ قال: نعم» «(1)».
4- عن ابن سيرين قال: «أصابتني شجّة في وجهي، فعصبت عليها فسألت عبيدة السلماني أسجد عليها فقال: إنزع العصاب» «(2)».
وليس الأمر بنزع العصاب إلّامن أجل منعه عن مباشرة
ص:22
الجبهة الأرض، فعبيدة أحد القرّاء ومن كبار التابعين يفتي بوجوب السجود على الأرض مباشرة.
5- كانصالح بن خيوان السبائي يحدّث وجوب السجود على الأرض عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وظاهر نقله الإفتاء بمضمون الحديث «(1)».
قال البيهقي بعد نقل الحديث: «إنّه- يعني صالح بن خيوان- ثقة من التابعين قال: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رأى رجلًا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته، فحسر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن جبهته».
6- قال الحارث الغنوي: «سجد مرّة بن شراحيل الهمداني حتّى أكل التراب جبهته، فلمّا مات رآه رجل من أهله في منامه كأنّ موضع سجوده كهيئة الكوكب الدريّ يلمع» «(2)».
7- عمر بن عبدالعزيز الخليفة الاموي، كان لا يكتفي بالخمرة
ص:23
بل يضع عليها التراب ويسجد عليه «(1)».
8- روي عن عروة بن الزبير أنّه كان يكره الصلاة على شي ء دون الأرض، وكذا روي عن غير عروة «(2)».
9- عن ابن عيينة قال: «سمعت رزين مولى ابن عباس يقول:
كتب إليّ عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس رضى الله عنه أن «ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة أسجد عليه» «(3)».
10- الحسن البصري قال: «لابأس بالسجود على كور العمامة».
وعنه قال: «أدركنا القوم وهم يسجدون على عمائمهم ويسجد أحدهم ويداه في قميصه» «(4)».
ص:24
وقد حمل البخاري هذا الكلام على الاضطرار.
11- عن أبي الضحى: أنّ شريحاً كان يسجد على برنسه «(1)».
12- كان عبدالرحمن بن يزيد يسجد على عمامته «(2)».
13- عن الزبير عن إبراهيم (النخعي) أنّه «سأله أيسجد على كور العمامة؟ فقال: أسجد على جبيني أحبّ إليّ» «(3)».
14- عن ابن جريج قال: «قلت لنافع مولى ابن عمر: أكان ابن عمر يكره أن يصلّي في المكان الجدد ويتتبّع البطحاء والتراب؟
قال: لم يكن يبالي» «(4)».
15- عن معمّر قال: «سألت الزهري عن السجود على
ص:25
الطنفسة فقال: لا بأس بذاك، كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة» «(1)».
16- عن الحسن قال: «لا بأس أن يصلي على الطنفسة والخمرة» «(2)».
17- عن ابن طاووس قال: «رأيت أبي بسط له بساط فصلّى عليه، فظننت أنّ ذلك لقذر المكان» «(3)».
18- عن ليث قال: «رأيت طاووساً في مرضه الّذي مات فيه يصلّي على فراشه قائماً ويسجد عليه» «(4)».
19- عن محمد بن راشد قال: «رأيت مكحولًا يسجد على عمامته فقلت: لم تسجد عليها؟ فقال: أتقي البرد على إنساني» «(5)».
ص:26
قال ابن بطال: «لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة عليها- أي: على الخمرة- إلّاما روي عن عمر بن عبدالعزيز أنّه يؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فيسجد عليها، وروي عن عروة ابن الزبير أنّه كان يكره الصلاة على شي ء دون الأرض، وكذا روي عن غير عروة» «(1)».
قال الشافعي في كتاب الامّ: «ولو سجد على جبهته ودونها ثوب أو غيره لم يجز السجود إلّاأن يكون جريحاً، فيكون ذلك عذراً، ولو سجد عليها وعليها ثوب متخرّق فماسّ شي ء من جبهته
ص:27
الأرض أجزأه ذلك؛ لأنّه ساجد وشي ء من جبهته على الأرض، وأحبّ أن يباشر راحتيه الأرض في البرد والحرّ، فإن لم يفعل وسترهما من حرّ أو برد وسجد عليهما فلا إعادة عليه ولا سجود سهو، ثم أطال الكلام في فروع المسألة فقال: وإنّه أمر بكشف الوجه ولم يؤمر بكشف ركبتيه ولا قدم» «(1)».
قال ابن حجر في فتح الباري 1: 414 في شرح حديث «كنّا إذاصلّينا مع النبيّصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود»: وفيه إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل؛ لأنّه علق بعدم الاستطاعة.
وقال الشوكاني في النيل في تفسير هذا الحديث: «الحديث يدل على جواز السجود على الثياب لاتّقاء حرّ الأرض، وفيه إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هي الأصل ليتعلّق بسط الثوب بعدم الاستطاعة» «(2)».
وقال في النيل في شرح حديث ثابت بنصامت: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قام يصلّي في مسجد بني عبدالأشهل وعليه كساء ملتفّ به يضع يده عليه يقيه برد الحصى»: الحديث يدلّ على جواز الاتّقاء بطرف الثوب الّذي على المصلّي ولكن للعذر، إمّا عذر المطر كما في
ص:28
الحديث، أو الحرّ والبرد كما في رواية ابن أبي شيبة «(1)».
قال الترمذي بعد نقله عن أبي سعيد: «إنّ النبيّصلى الله عليه و آله صلّى على حصير»: وفي الباب عن أنس والمغيرة بن شعبة قال أبو عيسى:
وحديث أبي سعيد حسن والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، إلّا أنّ قوماً اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً «(2)».
قال البيهقي في السنن الكبرى بعد نقل حديث جابر بن عبداللَّه الأنصاري: «كنت اصلّي مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصلاة الظهر، فآخذ قبضة من الحصى في كفّي حتّى تبرد وأضعها بجبهتي إذا سجدت من شدّة الحرّ. قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى في كفّ ووضعها للسجود وباللَّه التوفيق» «(3)».
أقول: من المعلوم أن لو كان السجود على الثوب جائزاً مطلقاً متّصلًا أو غير متّصل كالمنديل والسّجادة المصنوعة من القطن والصوف والحرير وغيرها وقتئذٍ لكان أسهل بمراتب من السجود على التراب والحصى والحجر المتّقدة بحرّ الشمس أو الباردة في المطر والشتاء.
ص:29
قال مالك: «يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم، وكان يقول: لا بأس أن يقوم عليها ويركع عليها ويقعد عليها ولا يسجد عليها ولا يضع كفّيه عليها، وكان لا يرى بأساً بالحصباء وما أشبهه ممّا تنبت الأرض أن يسجد عليها» «(1)».
وقال مالك: «لا يسجد على الثوب إلّامن حرّ أو برد كتّاناً أو قطناً. قال مالك: وبلغني أنّ عمر بن الخطاب وعبداللَّه بن عمر كانا يسجدان على الثوب في الحرّ والبرد. وقال مالك: لا بأس أن يقوم الرجل في الصلاة على أحلاس الدواب ... ويسجد على الأرض ويقوم على الثياب والبسط وما أشبه ذلك والمصلّيات وغير ذلك ويسجد على الخمرة والحصير» (راجع المدوّنة الكبرى 1:
74/ 75).
وقال في عون المعبود 1: 349 في شرح حديث أنس «كنّا نصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شدّة الحرّ فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه»: وفي الحديث جواز استعمال الثياب، وكذا وغيرها من الحيلولة بين المصلّي وبين الأرض لاتّقاء حرّها، وكذا بردها. قال الخطّابي: وقد اختلف
ص:30
الناس في هذا؛ فذهب عامّة الفقهاء إلى جوازه: مالك والأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه، وقال الشافعي: لا يجزيه ذلك كما لا يجزيه السجود على كور العمامة. ويشبه أن يكون تأويل حديث أنس عنده أن يبسط ثوباً هو غير لابسه (انتهى) قلت: وحمله الشافعي على الثوب المنفصل، وأيّد البيهقي هذا الحمل بما رواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: «فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه» قال: فلو جاز السجود على شي ء متّصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه».
وفي إرشاد الساري 1: 408 بعد نقله رواية أنس «كنا إذاصلينا مع النبيصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود» قال: «واحتجّ بذلك أبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق على جواز السجود على الثوب في شدّة الحرّ والبرد، وبه قال عمر ابن الخطاب وغيره، وأوّله الشافعية بالمنفصل أو المتّصل الّذي لا يتحرّك بحركته كما مرّ، فلو سجد على متحرّك بحركته عامداً عالماً بتحريمه بطلتصلاته لأنّه كالجزء منه».
وفي المدوّنة الكبرى 1: 73 و 75 و 76 و 80 نقل عن مالك فتاوى في المسألة وفروعها لا بأس بنقلها بطولها.
قال مالك: لا يسجد على الثوب إلّامن حرّ أو برد، كتّاناً كان أو
ص:31
قطناً، قال ابن القاسم قال: بلغني أنّ عمر بن الخطاب وعبداللَّه بن عمر كانا يسجدان على الثوب من الحرّ والبرد ويضعان أيديهما عليه، قلت لابن القاسم: فهل يسجد على اللبد والبسط من الحرّ والبرد؟ قال: ما سألنا مالكاً عن هذا، ولكنّ مالكاً كره الثياب، وإن كانت من قطن أو كتان فهي عندي بمنزلة البسط واللبود، فقد وسع مالك أن يسجد على الثوب من حرّ أو برد. قلت: أفترى أن يكون اللبد بتلك المنزلة؟ قال: نعم، إلى أن قال: وقال مالك: لا بأس أن يقوم الرجل في الصلاة على أحلاس الدواب التي قد حلّست به اللبود الّتي تكون في السروج ويركع عليها ويسجد على الأرض ويقوم على الثياب والبسط وما أشبه ذلك، ويسجد على الخمرة والحصير وما أشبه ذلك، ويضع يديه على الّذي يضع عليه جبهته.
وقال: وأخبرني ابن وهب قال: أخبرني رجل عن ابن عبّاس أنّ النبيصلى الله عليه و آله كان يتّقي بفضول ثيابه برد الأرض وحرّها، قال ابن وهب: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رأى رجلًا يسجد إلى جانبه وقد اعتمّ على جبهته، فحسر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن جبهته.
وقال وكيع: عن سفيان عن عمر- شيخ من الأنصار- قال:
رأيت أنس بن مالك يصلّي على طنفسة متربّعاً متطوّعاً وبين يديه خمرة يسجد عليها.
ص:32
وقال فيمن يسجد على كور العمامة، قال: أحبّ إليّ أن يرفعها عن بعض جبهته حتّى يمسّ بعض جبهته الأرض قلت: فإن سجد على كور العمامة؟ قال: أكرهه، فإن فعل فلا إعادة عليه. قال: وقال مالك: ولا يعجبني أن يحمل الرجل الحصباء أو التراب من موضع الظلّ إلى موضع الشمس فيسجد عليه. قال: وكان مالك يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم وكان يقول: لا بأس أن يقوم عليها ويركع عليها ويقعد عليها، ولا يسجد عليها ولا يضع كفّيه عليها، وكان لا يرى بأساً بالحصباء وما أشبهه مما تنبت الأرض أن يسجد عليها وأن يضع كفّيه عليها.
وقال مالك: أرى أن لا يضع الرجل كفّيه إلّاعلى الذي يضع عليه جبهته.
قال: وإن كان حرّاً أو برداً فلا بأس أن يبسط ثوباً يسجد عليه ويجعل كفّيه عليه.
قال الأحوذي في الشرح 1: 273 بعد ذكر الحديث في الصلاة على الحصير: «والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، إلّاأنّ قوماً من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً. قال في النيل:
وقد روي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وجابر بن عبداللَّه وعبداللَّه بن عمر وسعيد بن المسيّب ومكحول وغيرهما من التابعين استحباب الصلاة على الحصير، وصرح ابن المسيّب بأنها سنّة».
ص:33
كان عبدالرحمن بن يزيد يسجد على عمامته «(1)».
أفتى الامام مالك بن أنس باستحباب السجود على الأرض وما أنبتته «(2)».
قال ابن القيّم في زاد المعاد 1: 59: «كان النبيّصلى الله عليه و آله يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة، ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبدالرزاق في المصنّف من حديث أبي هريرة قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يسجد على كور العمامة وهو من رواية عبداللَّه بن محرز وهو متروك، وذكره أبو أحمد من حديث جابر ولكنّه من رواية عمرو بن شهر عن جابر الجعفي متروك عن متروك. وقد ذكر أبو داود في المراسيل: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رأى رجلًا يصلي في المسجد فسجد بجبينه وقد اعتمّ على جبهته، فحسر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن جبهته، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسجد على الأرض كثيراً، وعلى الماء والطين وعلى الخمرة المتّخذة من خواصّ النخل وعلى الحصير المتّخذ منه (انتهى)».
ص:34
هذا ملخّص ما وصل إلينا من عقائد الصحابة وأقوال العلماء في المسألة، فمنهم من قال بوجوب السجود على التراب والرمل والحصباء إن أمكن وإلّا فالأرض كلّها كما عن عطاء وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز.
ومنهم من قال بوجوب السجود على الأرض فقط مطلقاً كأبي بكر ومسروق وعبادة وإبراهيم النخعي.
ومنهم من قال بوجوب السجود على الأرض وما أنبتته اختياراً، وجواز السجود على الثياب للحرّ والبرد كابن عمر وعمر ومالك وأبي حنيفة وابن حجر والشوكاني وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأصحاب الرأي.
ومنهم من قال بوجوب السجود على الأرض وما أنبتته اختياراً، وجواز السجود على الثياب المتّخذة من القطن والصوف لحر أو برد مع استحباب السجود على الأرض كما عن الشافعي ومالك.
ومنهم من قال أو نسب إليه القول بجواز السجود على الأرض ونباتها والثياب بأنواعها كأبي هريرة وأنس ومكحول وعامة الفقهاء فيما بعد القرن الرابع.
وهنا قول قصد؛ وهو وجوب السجود على الأرض وما أنبتته
ص:35
اختياراً، وجواز السجود على غير الأرض ونباتها اضطراراً (دون مطلق الحرّ والبرد) وإن كان الاضطرار من غير جهة الحرّ والبرد.
فانتظر حتّى توافيك الأدلّة إن شاء اللَّه تعالى.
ص:36
ص:37
حديث «جعلت لي الأرض» ألفاظه وإسناده
حديث تبريد الحصى، شكوى الصحابة بحصيب المسجد
حديث تتريب الوجه
حديث السجود على كور العمامة
حديث لزوم الجبهة ولصوقها وتمكينها بالأرض
حديث عائشة وغيرها في عمل النبيصلى الله عليه و آله
أحاديث أهل البيت عليهم السلام
ماورد عن الصحابة والتابعين في ذلك في الأحاديث المرفوعة
حديث يشير إلى الدور المذكور
ص:38
وكيف كان، فقد استدلّ الإماميّة لمذهبهم بما ورد عن أهل البيت عليهم السلام بأسانيد متّصلة عن آبائهم عليهم السلام عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وبما رواه أهل السنّة في كتبهم من أقوال النبيّ صلى الله عليه و آله في ذلك وأفعاله، وبما نقلوه من أقوال الصحابة وأعمالهم.
1- يدل على وجوب السجود على الأرض قوله صلى الله عليه و آله «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» «(1)».
ص:39
وفي لفظ: «جعلت لنا الأرض كلّها مسجداً وطهوراً» «(1)».
وفي لفظ: «جعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً» «(2)».
وفي لفظ: «جعلت لك ولُامّتك الأرض كلّها مسجداً وطهوراً» «(3)».
وفي لفظ: «إنّ اللَّه جعل لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما كنت أتيمّم واصلّي عليها» «(4)».
وفي لفظ: «الأرض لك ولُامّتك طهوراً ومسجداً ...» «(5)».
ص:40
وفي لفظ: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها وطهوراً» «(1)».
وفي لفظ: «جعلت الأرض مسجداً ترابها وطهوراً» «(2)».
وفي لفظ: عن أبي امامة الباهلي: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:
«فضّلني ربّي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو على الامم بأربع قال: ارسلت إلى الناس كافّة، وجعلت الأرض كلّها لي ولُامتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلًا من امّتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره» الحديث «(3)».
لا إشكال في الحديث سنداً؛ لتواتره ونقل كبار الحفّاظ له في كتبهم المعتبرة، وأمّا دلالته فهو يدلّ على أنّ الذي يسجد عليه في الشريعة الإسلامية هو الأرض؛ لأنّ ما هو طهور هو الذي يكون مسجداً بحكم السياق؛ إذ الموضوع الّذي حمل عليه الطهور هو الّذي حمل عليه المسجد، فلو كان فرق بين موضوعي المحمولين لزم
ص:41
تكراره، فحينئذ كما أنّ الطهوريّة ثابتة لنفس الأرض، فكذا كونها مسجداً.
ولا ينافي ذلك استفادة معنى آخر من الحديث الشريف، وهو أنّ العبادة والسجود للَّه سبحانه لا يختصّ بمكان دون مكان، بل كلّ الأرض مسجد للمسلمين أينما كانوا وحيثما حلّوا وشاءوا، وليسوا كغير المسلمين الّذين خصّوا العبادة بالبيع والكنائس، وذلك لأنّه قد يستفاد من كلام واحد معان متعددة وأحكام كثيرة ونكات عديدة، بل هذا من بديع الكلام ولا سيّما كلام سيد الأنبياء وإمام الفصحاء والبلغاء، وقد اعطي جوامع الكلام، ونزل على لسانه القرآن الكريم، وربّي في حجور الفصاحة، وارتضع من ثدي الحكمة والبلاغة.
وقد استفاد هذا المعنى من هذا الحديث الجصّاص حيث قال:
«إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً» «(1)» وإلى هذا المعنى أشار ابن حجر في الفتح أيضاً في شرحه لهذا الحديث حيث قال: «وجعلت لي الأرض مسجداً» أي: موضع سجود لا يختصّ السجود منها بموضع دون غيره «(2)».
أقول: يعني لم يجعل المسجد بمعنى المصلّى مجازاً بل حمله على حقيقته، وإليه أشار أيضاً القسطلاني في شرح الحديث حيث قال:
ص:42
«مسجد أي: موضع سجود» «(1)» كما أنّه قال في باب التيمّم في شرحه للحديث: «جعلت لي الأرض طهوراً ... احتجّ به مالك وأبو حنيفة على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض، لكن في حديث حذيفة عند مسلم: «وجعلت لنا الأرض كلّها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» وهو خاص، فيحمل العام عليه، فتختصّ الطهورية بالتراب ... وفي رواية أبي امامة عند البيهقي «فأيّما رجل من امّتي أتى الصلاة فلم يجد ماءً وجد الأرض طهوراً ومسجداً» وعند أحمد «فعنده طهوره ومسجده» «(2)».
وفي البحر الرائق 1: 155 و 156 بعد نقل حديث «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» استدلّ به على جواز التيمّم على مطلق الأرض قال: لأنّ اللام للجنس فلا يخرج شي ء منها، لأنّ الأرض كلها جعلت مسجداً، وما جعل مسجداً هو الّذي جعل طهوراً (انتهى ملخّصاً).
وفي المعتصر من المختصر من مشكل الآثار 1: 16: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهنّ أحد قبلي:
أرسلت إلى الناس عامة ... وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً
ص:43
أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم (الحديث) واستدلّ بهذا على أنّ ما كان من الأرض مسجداً كان منها طهوراً .. الخ.
ويؤيّد ما ذكرنا (من كون المراد من المسجد محلّ السجود وأنّ ما هو طهور هو المسجد) ما تقدّم من لفظ الحديث «فأينما أدركت رجلًا من امّتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره» حيث يصرّح بأنّ المراد من المسجد في الحديث الشريف ليس هو المصلّى ليكون المراد كما تقدّم أنّه يصلي في أيّ مكان شاء ومتى أراد، بل المراد موضع السجود، أي: جعلت لي الأرض محلّ سجود، فمتىصلّى إنسان فعنده ما يسجد عليه وإن كان يستفاد الترخيص بالنسبة إلى مكان الصلاة أيضاً كما لا يخفى على المتدبّر.
ويؤيّد هذا المعنى أيضاً ما في شرح عون المعبود لسنن أبي داود 1: 182 حيث قال: «ومسجداً أي: موضع سجود، ولا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً من المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنه إذا جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد قاله الحافظ في الفتح (راجع الفتح 1: 369 وما بعدها) حيث جعل الشارح مفاد الحديث حقيقة فيما ذكرنا من السجود على الأرض، وجعل المعنى الآخر محتملًا مجازاً».
نعم في بعض الروايات إشارة إلى المعنى المجازي أيضاً منها
ص:44
قولهصلى الله عليه و آله كما عن حذيفة: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» «(1)» حيث خصّ الطهور بالتراب فقط دون سائر أجزاء الأرض. ومنها ما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
«الأرض كلّها مسجد إلّاالمقبرة والحمام» «(2)».
ويحتمل أن يكون وضع الوجه على الأرض مباشرة مأخوذ في حقيقة السجود لغة، وكذا عند أهل العرف، ويدل عليه ما رواه البخاري 5: 57: قال: «قرأ النبيصلى الله عليه و آله النجم فسجد، فما بقي أحد إلّا سجد إلّارجل رأيته أخذ كفّاً من حصى فرفعه فسجد عليه» «(3)» إذ الظاهر منه أنّ السجود هو الوقوع على الأرض بهيئة خاصة، ولذا قال الرجل «يكفيني منه» أي: يكفي من السجود الحقيقي لا أنّه نفسه، ولو كان السجود على غير الأرض كافياً لما كان التكلّف لازماً، لإمكان السجود على الثوب.
فالأصل في السجود أن يضع الانسان وجهه على الأرض، على ترابها ورملها وحصاها وحجرها ومدرها ونباتها غير مأكول ولا ملبوس، إلّاأن تعرض عناوين حكم الشارع فيها بجواز السجود على الثياب ونحوها كضرورة الحر والبرد والزحام، وسيأتي
ص:45
الكلام عليها إن شاء اللَّه تعالى.
وذلك هو الذي اعترف به الفقهاء كما تقدّم.
2- عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال: «كنت اصلّي مع النبيصلى الله عليه و آله الظهر فآخذ قبضة من الحصى فأجعلها في كفّي ثم أحوّلها إلى الكفّ الاخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد من شدّة الحر» «(1)».
وفي لفظ أحمد عنه قال: «كنت اصلي مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الظهر فآخذ قبضة من حصى في كفّي لتبرد حتّى أسجد عليها من شدة الحرّ».
وفي لفظ البيهقي عنه قال: «كنت اصلّي مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله صلاة الظهر فآخذ قبضة من الحصى في كفي حتى تبرد وأضعها لجبهتي إذا سجدت من شدة الحر».
ص:46
3- عن أنس قال: «كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه».
قال البيهقي بعد نقله حديث أنس: «قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى في الكفّ ووضعها للسجود وباللَّه التوفيق.
أقول: لو كان السجود على الثياب جائزاً لكان أسهل من التبريد جدّاً؛ إذ كما أنّ السجود على الثوب المتّصل سهل، فكذا حمل منديل أو خرقة طاهرة سهل لا ريب فيه.
فهذا الحديث كما يدلّ على عدم جواز السجود على الثوب المتّصل على ما فهمه الشيخ يدلّ أيضاً على عدم جواز السجود على غير الأرض مطلقاً.
4- عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شدة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكّنا» (لفظ البيهقي).
وفي لفظ مسلم: «عن خباب قال: أتينا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فشكونا إليه حرّ الرمضاء فلم يشكنا».
وفي لفظ: «شكونا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا». (عن خباب).
5- عن ابن مسعود: «شكونا إلى النبيصلى الله عليه و آله حرّ الرمضاء فلم
ص:47
يشكنا» كذا في لفظ ابن ماجة وسيرتنا: 127 عن نيل الأوطار، وفي لسان الميزان 2: 63 عن جابر «(1)».
فهذه الروايات تدلّ على أنّ الشاكي ليس هو خباب وجابر وابن مسعود فحسب، بل الصحابة عموماً لأنّهما بقولهما «شكونا» و «فلم يشكنا» إنّما يحكيان حال كثير من الصحابة كما لا يخفى.
قال ابن الأثير في النهاية في «شكى» بعد نقل حديث خباب كما أخرجناه عن مسلم: «والفقهاء يذكرونه في السجود؛ فإنّهم كانوا يضعون أطراف ثيابهم تحت جباههم في السجود من شدّة الحرّ فنهوا عن ذلك، وإنّهم لما شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم.
وقال السيوطي في حاشيته على سنن النسائي بعد ذكره ما نقلناه عن النهاية: «وقال القرطبي: يحتمل أن يكون هذا منهصلى الله عليه و آله قبل أن يؤمر بالإبراد الخ (النسائي 1: 247).
أقول: المستفاد من الروايات أنّ الصحابة شكوا إلى رسول
ص:48
اللَّه صلى الله عليه و آله ما يلقون من الحرّ والبرد حيث كانت تحترق جباههم وأيديهم- شكوا له- حتّى يرخص لهم في السجود على غير الأرض مما يدفع عنهم هذه المشاق والمتاعب، كالثياب المتصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد المصنوعة (بعد قرون) من القطن والكتّان والحرير وغيرها فلم يشكهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يعتن بشكواهم وهو الرؤوف المتحنّن الكريم العطوف، وليس ذلك إلّالعدم جواز السجود على غير الأرض».
6- قال أبو الوليد: «سألت ابن عمر عمّا كان بدء هذه الحصباء الّتي في المسجد قال: غمّ مطر من الليل فخرجنا لصلاة الغداة، فجعل الرجل يمر على البطحاء فيجعل في ثوبه من الحصباء فيصلّي فيه قال: فلما رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ذاك قال: ما أحسن هذه البساط، فكان ذلك أوّل بدئه» «(1)».
ص:49
ولفظ السمهودي: عن أبي الوليد قال: «سألت ابن عمر عن الحصباء الّذي في المسجد فقال: مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلّة، فجعل الرجل يأتي بالحصباء في ثوبه ويبسطه تحته، فلمّا قضى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: ما أحسن هذا».
تدلّ الرواية على أنّ الصحابة حتّى مع نزول المطر وابتلال الأرض، كانوا متعبّدين بالسجود على التراب والطين ولا يسجدون على شي ء سوى ذلك، بل الرسولصلى الله عليه و آله كان أيضاً متقيّداً بذلك ومتعباً نفسه الشريفة فيه، وذلك أيضاً يكشف عن عدم جواز السجود على غيرها.
بل نقل السمهودي: 656 أنّ المسجد بقي غير مفروش بالحصباء إلى زمن عمر بن الخطّاب «(1)».
ص:50
7- عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبداللَّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لا يجوز، قال:
السجود لا يجوز إلّاعلى الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّاما أكل أو لبس، فقلت له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: لأنّ السجود هو الخضوع للَّه عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس؛ لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللَّه عزّوجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل وأبلغ في التواضع والخضوع للَّه عزّوجلّ» «(1)».
8- روى عبدالرزّاق عن خالد الجهني قال: «رأى النبيّ صلى الله عليه و آله
ص:51
صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له النبي: ترّب وجهك ياصهيب» «(1)».
لم يذكر الراوي بماذا كان صهيب يتّقي التراب أن يصيب وجهه بكور عمامته أم بمنديل أم بثوب آخر، ولكنّه نقل فقط أمره صلى الله عليه و آله بالتتريب والأمر للوجوب، ولو أنه كان يتّقي ذلك بالسجود على حصير أو خمرة أو حجرصاف فيصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب والفضل، وذلك لما يأتي من جواز السجود على أجزاء الأرض غير التراب.
9- عن امّ سلمة امّ المؤمنين رضي اللَّه عنها قالت: «رأى النبيّ صلى الله عليه و آله غلاماً لنا يقال له: أفلح ينفخ إذا سجد فقال: يا أفلح ترّب» «(2)».
10- قال النبيصلى الله عليه و آله: «يارباح ترّب» «(3)».
وفي لفظ الاصابة: مر النبي بغلام لنا يقال له: رباح وهو يصلّي
ص:52
فنفخ فقال: ترّب وجهك (عن امّ سلمة رضي اللَّه عنها).
وفي رواية: فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: يارباح! أما علمت أن من نفخ فقد تكلم (راجع اسد الغابة).
هاتان الروايتان تدلّان على أفضلية التتريب إن كان موضع السجود من أجزاء الأرض، وإلّا فالأمر للوجوب على ما هو مقتضى القاعدة من إفادة الأمر للوجوب، هذا مع قطع النظر عن أنّ النفخ مبطل للصلاة أم لا كما تقدم في الحديث.
11- قال النبيّصلى الله عليه و آله كما روي عن امّ سلمة امّ المؤمنين رضي اللَّه عنها «ترّب وجهك للَّه» «(1)».
هذا الحديث يأمر بتتريب الوجه مطلقاً، وظاهره اللزوم والوجوب إلّافيما ثبت دليل على التخصيص كموارد الضرورة، أو كون المسجود عليه من نبات الأرض وأجزائها.
12- قال صلى الله عليه و آله لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» «(2)».
13- ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الأرض ويعفّر وجهه في التراب؛ لأنه من التذلل للَّه تعالى «(3)».
ص:53
14- عن أبي صالح قال: «دخلت على امّ سلمة فدخل عليها ابن أخ لها فصلى في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب فقالت امّ سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لغلام له يقال له يسار ونفخ «ترّب وجهك للَّه» «(1)».
15- روي عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه» يعني لا يسجد على كور العمامة «(2)».
16- روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته «(3)».
17- روىصالح بن خيوان السبائي: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رأى رجلًا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته، فحسر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن جبهته «(4)».
ص:54
18- عن عياض بن عبداللَّه القرشي قال: رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رجلًا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته «(1)».
وفي لفظ الاصابة: إنّ رجلًا سجد إلى جنب النبيّ صلى الله عليه و آله على عمامته فحسر النبي صلى الله عليه و آله عن جبهته.
19- عن النبي صلى الله عليه و آله: «إنّه نهى أن يسجد المصلّي على ثوبه أو على كمه أو على كور عمامته» «(2)».
أقول: النهي عن السجود على كور العمامة قد يحمل على أنّه من أجل كونه ثوباً محمولًا للمصلّي يتحرّك بحركته، ولكن لا وجه لهذا الحمل؛ لكونه احتمالًا محضاً من دون شاهد، فلا يترك من أجله إطلاق الحديث، مع أنّه لا خصوصية لكونه ثوباً متحرّكاً بحركته؛ إذ اتصال الثوب بالمصلّي وتحركه بحركته قيد اختلقته أذهاننا لا قيمة له في سوق الاعتبار.
وقد يقال بأن الاتّصال بالجبهة مانع عنصدق السجود عرفاً، فلو كانت العمامة أو الخشب أو الحصى أو الحجر أو التربة لاصقة
ص:55
بالجبهة فسجد المصلي كذلك، لا يصدق الوضع على الأرض، ولكنّه كما ترى؛ لأنّصدق السجود على الأرض ووضع الجبهة على الأرض أمر وجداني لا يحتاج إلى برهان، ولذا لو لصقت الحصى بجبهة المصلي لا يجب إزالتها ولا يلزم مسح الجبهة من أجل ذلك، بل ورد في روايات كثيرة النهي عن مسح الوجه في الصلاة لازالة التراب والحصى اللاصقة فيها (راجع المصنف 2: 42 و 43، ولسان الميزان 1: 488 و 489، وميزان الاعتدال 1 و 293، وكنز العمال 7 و 325) فلو كان اللصوق مانعاً عنصدق السجود لأمر بإزالتها ومسح الجبهة لأجلها لا أن يمنع عن المسح.
20- قالصلى الله عليه و آله: «إذاصلى أحدكم فليلزم جبهته وأنفه الأرض حتّى يخرج منه الرغم» «(1)».
من أرغم اللَّه أنفه أي: ألصقه بالرغم وهو التراب، هذا هو الأصل ثم استعمل في الذلّ والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره، فالمراد من قولهصلى الله عليه و آله: «حتّى يخرج منه الرغم» أي: يظهر ذلّه وخضوعه.
21- وعن ابن عباس أنه قال: «إذا سجدت فالصق أنفك
ص:56
بالأرض» وقال: «لاصلاة لمن لا يمسّ أنفه الأرض» «(1)».
22- وقال ابن عباس: «من لم يلزق أنفه مع جبهته الأرض إذا سجد لم تجزصلاته» «(2)».
الدلالة في الحديث الأول بالأولوية، إذ إيجاب الصاق الأنف يدل على إيجاب إلصاق الجبهة طبعاً، كما في قوله تعالى: «ولا تقل لهما افّ» حيث تدلّ على حرمة الإيذاء والعقوق بالأولوية، وأما الحديث الثاني فقدصرح فيه ابن عباس بحكم الجبهة وأنّ الصلاة تكون باطلة مع عدم الإلصاق.
23- روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «إذا سجدت فمكّن جبهتك وأنفك من الأرض» «(3)».
24- قالصلى الله عليه و آله لأبي ذر: «الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصلّ» «(4)».
25- عن رفاعة بن رافع مرفوعاً: «ثم يكبر فيسجد فيمكّن
ص:57
جبهته من الأرض حتّى تطمئن مفاصله وتستوي» «(1)».
26- روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله: «إذا سجدت فمكّن جبهتك وأنفك من الأرض» «(2)».
27- «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة» (عن سلمان رحمه الله) «(3)».
نقل العلامة المجلسي عن السيد في المجازات النبوية بعد نقل الحديث وشرحه: «والكلام يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد التيمّم منها في حال الحدث والجنابة والوجه الآخر أن يكون المراد مباشرة ترابها بالجباه في حال السجود عليها وتعفير الوجه فيها، أو يكون هذا القول أمر تأديب لا أمر وجوب، لأنه يجوز السجود على غير الأرض أيضاً إلّاأنّ مباشرتها بالسجود أفضل.
وقد روي أن النبيّصلى الله عليه و آله كان يسجد على الخمرة، وهي الحصير الصغير يعمل من سعف النخل (انتهى).
ذكرها المتّقي الهندي في باب السجود وإن كان مضمونها عاماً.
وفي البحار 85: 156 نقل الحديث عن دعائم الاسلام هكذا:
«عن علي عليه السلام أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: إن الأرض بكم برّة تيمّمون
ص:58
منها وتصلّون عليها في الحياة، وهي لكم كفاة في الممات، وذلك من نعمة اللَّه له الحمد، فأفضل ما يسجد عليه المصلي الأرض نقيّة».
28- «لا يقبل اللَّه صلاة لا يصيب الأنف من الأرض ما يصيب الجبين» «(1)».
29- «لا تقبلصلاة من لا يصيب أنفه الأرض (عن امّ عطية)» «(2)».
30- «لاصلاة لمن لا يمسّ أنفه الأرض ما يمسه الجبين» (عن عكرمة) «(3)».
31- «لا يقبل اللَّهصلاة لا يصيب الأنف منها ما يصيب الجبين» (عن عكرمة) «(4)».
32- «إذا سجدتّ فالصق أنفك بالأرض» (عن ابن عباس) «(5)».
33- «اسجدوا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض» «(6)».
ص:59
34- «عن امّ عطية قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إن اللَّه لا يقبل صلاة من لا يصيب أنفه الأرض» «(1)».
35- «لاصلاة لمن لم يضع أنفه بالأرض مع جبهته في الصلاة» «(2)».
36- «لاصلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض» «(3)».
37- «لاصلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين» «(4)».
38- روي عن عائشة قالت: ما رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله متقياً وجهه بشي ء، تعني في السجود «(5)».
هذا الحديث يدلّ على العمل المستمر لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وهو
ص:60
يدلّ على الوجوب؛ لأنه لو كان فضلًا لخالف في عمله مرة أو مرات لبيان عدم الوجوب، أو لصرح بذلك، ولنا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسوة حسنة، وما جاء به الرسولصلى الله عليه و آله يجب أخذه وإن كان بيانه بالعمل؛ لأنّ فعله صلى الله عليه و آله حجة كقوله يجب اتباعه.
39- عن أبي سعيد الخدري أنه رأى الطين في أنف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أثر السجود وكانوا مطروّاً من الليل «(1)».
وفي لفظ البخاري «حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأرنبته».
وفي لفظ البخاري أيضاً «رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يسجد في الماء والطين حتى أثر الطين في جبهته».
هذا الحديث أيضاً كحديث عائشة أُم المؤمنين يدل على اهتمامهصلى الله عليه و آله بالسجود على الأرض وعدم اتقاء الوجه عن مباشرة الأرض بشي ء حتى مع المطر والطين.
40- عن وائل قال: «رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض» «(2)».
ص:61
41- عن ابن عباس «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله سجد على الحجر» «(1)».
42- عن وائل قال: «رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده» «(2)».
وعنه أيضاً: «رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله وضع جبهته وأنفه على الأرض».
43- قال ابن عباس: «رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتّقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله» «(3)».
وفي لفظ: «لقد رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في يوم مطير وهو يتّقي الطين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سجد» (سيرتنا عن أحمد).
45- عن ثابت بنصامت قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى في بني عبدالأشهل وعليه كساء متلفّف به يضع يديه عليه يقيه برد الحصى» «(4)».
46- عن عبداللَّه بن عبدالرحمن قال: «جاءنا النبي صلى الله عليه و آله فصلّى
ص:62
بنا في مسجد بني عبدالأشهل، فرأيته واضعاً يديه على ثوبه» «(1)».
هذه الأحاديث الواردة عن ابن عباس الحبر وأبي سعيد ووائل وثابت وعبداللَّه بن عبدالرحمن الحاكية لعمل النبيّصلى الله عليه و آله في سجدته في يوم مطير في الماء والطين والبرد، تارة بأنه سجد على الطين ولم يق وجهه بشي ء، وأُخرى بأنه وقى يديه من دون تعرض للوجه، مع أنّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبيصلى الله عليه و آله في اتّقاء يديه بالكساء عن البرد والطين وتركهم ذكر الجبهة يكشف عن أنهصلى الله عليه و آله لم يق وجهه بشي ء حتى يذكره الرواة، وهذا التقيّد منهصلى الله عليه و آله يفيد الوجوب الأكيد كما لا يخفى.
47- عن أبي هريرة قال: «سجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في يوم مطير حتى أني لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته» «(2)».
هذه الأخبار المتقدّمة بأسرها إمّا آمرة بمسّ الأرض الظاهر في المباشرة في التيمم والسجود كماصرّح به في بعض الروايات، أو آمرة بالسجود عليها، وعلى كل حال ظاهرها لزوم المباشرة أو آمرة بمس الأنف ووضعه على الأرض فيفهم حكم السجود بالجبهة بالأولوية.
ص:63
20- عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: «لا تسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّاالقطن والكتان» «(1)».
21- وعنه عليه السلام أنه قال: «دعا أبي بالخمرة- السجادة الصغيرة من سعف النخل- فأبطأت عليه، فأخذ كفّاً من حصى فجعله على البساط فسجد عليه» «(2)».
22- وعنه عليه السلام أو عن أبيه عليه السلام أنه قال: «لا بأس بالقيام على المصلّى من الشعر والصوف إذا كان يسجد على الأرض فإن كان من نبات فلا بأس بالقيام عليه والسجود عليه» «(3)».
23- وعن الصادق أو أبيه الباقر عليهما السلام: «كان أبي- علي بن الحسين عليهما السلام- يصلّي على الخمرة يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها، فإذا لم تكن خمرة جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد عليها» «(4)».
24- روى عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام: عن الرجل يسجد وعليه العمامة لا يصيب وجهه
ص:64
الأرض قال: «لا يجزئه ذلك حتّى تصل جبهته الأرض» «(1)».
25- عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمد عليهما السلام قال: «السجود على ما أنبتت الأرض إلّاما أكل ولبس» «(2)».
26- وعنه عليه السلام: «لا يسجد إلّاعلى الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّاالمأكول والقطن والكتان» «(3)».
27- عن أحدهما عليهما السلام قال: «لا بأس بالقيام على المصلّى من الشعر والصوف إذا كان يسجد على الأرض، وإن كان من نبات الأرض فلا بأس بالقيام عليه والسجود عليه» «(4)».
28- عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصلّي على البساط والشعر والطنافس قال: لا تسجد عليه، وإن قمت عليه وسجدت على الأرض فلا بأس، وإن بسطت عليه الحصير وسجدت على الحصير فلا بأس» «(5)».
ولا يخفى على من له أدنى إلمام بكتب الامامية وأحاديث أئمة
ص:65
أهل البيت عليهم السلام أنّ أحاديثهم عليهم السلام مسندة إلى النبيصلى الله عليه و آله بسند واحد وهو أنّ الامام الذي يروي عنه الحديث رواه عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبيّصلى الله عليه و آله. مثلًا يروي جعفر بن محمد، عن أبيه محمد ابن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وقدصرح بذلك أئمة أهل البيت عليهم السلام في مواطن متعدّدة كثيرة، فلا يبقى إذن ريب لمتوهّم في إسناد أحاديثهم، فيزعم الارسال فيها، فيتركها ويطرحها- والعياذ باللَّه- من أجل ذلك.
وقدصرّحوا بلزوم السجود على الأرض وأجزائها ونباتها إلّا المأكول والملبوس وبطلان الصلاة مع السجود على غيرها، وليس ذلك رأياً من عند أنفسهم، بل رووا ذلك حديثاًصحيحاً وصريحاً عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.
29- وعن الصادق عليه السلام: «السجود على الأرض فريضة وعلى الخمرة سنة» «(1)».
أقول: روي هذا الحديث في البحار 85 عن كتاب العلل هكذا:
«السجود على الأرض فريضة وعلى غيرها سنة» وظاهره أنّ
ص:66
السجود على الأرض فرض من اللَّه عزّوجلّ، والسجود على غير الأرض (أو على الخمرة) مما سنّه الرسول صلى الله عليه و آله يعني أنّ الذي شرّع في السجود أولًا من اللَّه تعالى هو السجود على الأرض فقط، وأما السجود على النباتات أو على الخمرة التي هي أيضاً من النبات (إذ هي مصنوعة من سعف النخل) فهو ترخيص وتسهيل من اللَّه تعالى بلسان نبيه الأعظم صلى الله عليه و آله. وبعبارة اخرى إلحاق نبات الأرض بالأرض في هذا الحكم سنّة، ويشهد لهذا المعنى تقيّد النبيّصلى الله عليه و آله وتقيّد الصحابة بالسجود على الأرض وأجزائها من الحجر والحصى والرمل والتراب أوّلًا كما تقدّم، ثم رخّص لهم في السجود على النباتات ومنها الخمرة ثانياً «(1)».
قال ابن الأثير في النهاية في «السنّة»: إذا اطلقت في الشرع، فإنّما يراد بها ما أمر به النبيصلى الله عليه و آله ونهى عنه وندب إليه قولًا وفعلًا مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلّة الشرع الكتاب والسنّة، أي: القرآن والحديث (انتهى).
فعلى هذا يفيد الحديث أن السجود على الأرض قد ورد في الكتاب العزيز، مع أنّه ليس في ظاهر الكتاب ما يدلّ على وجوب
ص:67
السجود على الأرض، إلّاأن يقال: إنّ كلمة السجود يفهم منها وضع الجبهة على الأرض كما تقدم، أو يقال: إن السجود هو الخضوع والتطامن وجعل ذلك عبارة عن التذلل للَّه سبحانه وعبادته، وهو عامّ في الانسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان الأول: سجود اختيار؛ وليس ذلك إلّاللانسان (أو عام لجميع الموجودات بحسب ما يظهر بالدقة في القرآن الكريم) وبه يستحقّ الثواب، وهو مأمور به بنحو قوله تعالى: «فاسجدوا للَّه واعبدوا» وسجود جبر وتسخير؛ وهو في الانسان والحيوان والنبات وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: «وللَّه يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم».
وغاية الخضوع والتذلل للَّه تعالى بحقيقته هو وضع الجبهة على الأرض، فعندئذ إذا أطلق الأمر بالسجود في القرآن الكريم نستفيد منه المرتبة الكاملة، فهي الواجبة بحسب دلالة القرآن الكريم، وكفاية ما أنبتت الأرض ترخيص للعباد وتسهيل لهم مستفاد من قول النبيصلى الله عليه و آله وفعله «(1)».
وقد قيل في توجيه الحديث وجه ثالث: وهو أنّ السجود على الأرض ثوابه ثواب الفريضة، وعلى ما أنبتته ثوابه ثواب السنّة، أو
ص:68
أن المراد بالأرض الأعمّ منها وما أنبتته، والمراد من غير الأرض تعيين شي ء خاصّ للسجود كالخمرة واللوح أو الخريطة من طين قبر الحسين عليه السلام وهو بعيد، وإن كان يؤيّده في الجملة ما رواه في الكافي مرسلًا أنّه قال: «السجود على الأرض فريضة وعلى الخمرة سنة» «(1)».
ص:69
3- عن عبداللَّه بن عمر: أنّه كان يكره أن يسجد على كور عمامته حتى يكشفها «(1)».
4- كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود إذا خرج بلبنة يسجد عليها في السفينة «(2)».
5- عن عبادة بنصامت: أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته «(3)».
6- عن ابن عيينة قال: «سمعت رزين مولى ابن عباس يقول:
كتب إليّ عليّ بن عبداللَّه بن عباس رضى الله عنه: أن ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة أسجد عليه» «(4)».
ص:70
هذا الخبر يعطي تقيد عليّ بن عبداللَّه بالسجود على الحجر وتبركه بحجر المروة في سجوده فيصلاته، وسيأتي الكلام فيه فانتظر.
7- عن إبراهيم: إنه كان يصلّي على الحصير ويسجد على الأرض «(1)».
8- عن عبداللَّه بن عمر: أنه كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه، قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد وإنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتّى يضعهما على الحصباء «(2)».
9- عن عمر قال: إذا وجد أحدكم الحرّ فليسجد على طرف ثوبه «(3)».
10- عن عمر قال: إذا لم يستطع أحدكم من الحرّ والبرد فليسجد على ثوبه «(4)».
ص:71
السجود عند الضرورة
حديث عمر ومصادره
حديث أنس ومصادره
الضرورة تقدّر بقدرها
أحاديث أهل البيت عليهم السلام في ذلك
كلام ابن طاووس رحمه الله
كلام الأميني رحمه الله
ص:72
لقد رخّص الشارع الحكيم عند الضرورة بالسجود على غير الأرض وما أنبتته من غير المأكول والملبوس، كالثياب المصنوعة من الصوف والقطن والكتان، فإنّ الضرورات تبيح المحظورات، ولا يكلف اللَّه نفساً إلّاوسعها ولا يكلف اللَّه نفساً إلّاما آتاها وما جعل عليكم في الدين من حرج، وكلّ ما غلب اللَّه عليه فهو أولى بالعذر.
ومن الواضح أنّ الأحكام الاضطرارية تقدّر بقدر الضرورة، ولا يجوز التعدّي عنها، فمن لم يجد أرضاً من تراب وحجر ومدر ورمل، ولا نباتاً غير مأكول ولا ملبوس، فله أن يسجد على الثياب المتّصلة والمنفصلة وغيرها.
ولكنّ تحقق الاضطرار إنّما هو إذا لم يمكن تبريد الحصى ولا دفع
ص:73
الحرّ والبرد بشي ء.
ويدلّ على ما ذكرنا سوى القواعد الكلية المتقدّمة عدة من الأخبار وإليك قسماً منها:
1- عن عمر بن الخطاب قال: إذا لم يستطع أحدكم من الحرّ والبرد فليسجد على ثوبه «(1)».
2- قال أنس: كنّا نصلي مع النبيصلى الله عليه و آله فيسجد أحدنا على ثوبه.
وفي لفظ قال: «كنّا نصلّي مع النبيّصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود».
وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه (نقله البخاري في باب السجود على الثوب من شدة الحرّ).
قال ابن حجر في الفتح 1: 414 في شرح الحديث: «وفيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل، لأنه علّق بعدم الاستطاعة». وكذا نجد البخاري والنسائي والدارمي وابن ماجة قد عنونوا الباب بالجواز عند شدة الحر والبرد، بل كذا فهم الصحابة والتابعون والفقهاء كما يستفاد من كلماتهم، وقد تقدم ذكرها.
ص:74
وفي لفظ أبي عوانة وتيسير الوصول: «كنّا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته في الأرض بسط ثوبه يسجد عليه»، و «كنا إذاصلينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سجدنا على ثيابنا مخافة الحر». وفي لفظ مسلم: «كنا نصلي مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه».
وفي لفظ: «كنّا إذاصلينا مع النبيصلى الله عليه و آله فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض من شدة الحر طرح ثوبه ثم سجد عليه».
لفظ سيرتنا «(1)».
واهتمامنا بشأن هذا الحديث ليس إلّالاهتمام المحدّثين الأعلام به، ولدلالته على جواز السجود على الثياب عند الضرورة وعدم
ص:75
جوازه في حال الاختيار كما فهمه المحدثون وشرّاح الحديث، ولعلّنا نعود إلى ذكر الحديث فيما بعد إن شاء اللَّه تعالى.
وبعد .. فإن للمناقشة في تشخيص حدّ الاضطرار مجال، لأنّ أنساً يذكر أنه هو بل الصحابة كما قال الحسن كانوا يسجدون على الثياب عند شدّة الحرّ، مع أنّه كان يمكن لهم دفع الحرّ إلى تبريد الحصى كما كان يفعل جابر، ونقل أنس أيضاً أنّه كان يفعله، فهل مع هذا تصدق الضرورة ليصحّ السجود على الثوب؟ إلّاأن يكون المدار على الحرج القليل والمشقة اليسيرة وهو مشكل، كيف وقد نقلوا- كما مرّ عن ابن عباس وثابت وعبداللَّه بن عبدالرحمن- أنّ النبيصلى الله عليه و آله اتّقى بثوبه يديه من الحر والبرد دون وجهه، ولعلهم اجتهدوا في تشخيص مقدار الضرورة فأخطأوا.
3- عن عيينة بيّاع القصب قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «أدخل المسجد في اليوم الشديد الحر فأكره أن أصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه؟ قال: نعم ليس به بأس» «(1)».
4- عن القاسم بن الفضيل قال: قلت للرضا عليه السلام: «جعلت فداك الرجل يسجد على كمّه من أذى الحر والبرد؟ قال: لا بأس به» «(2)».
ص:76
5- عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له: أكون في السفر فتحضر الصلاة وأخاف الرمضاء على وجهي كيف أصنع؟
قال: تسجد على بعض ثوبك، فقلت: ليس عليّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه وذيله، قال: أسجد على ظهر كفك فإنها إحدى المساجد» «(1)».
6- وعنه قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك الرجل يكون في السفر فيقطع عليه الطريق فيبقى عرياناً في سراويل ولا يجد ما يسجد عليه يخاف إن سجد على الرمضاء أحرقت وجهه؟
قال: يسجد على ظهر كفه فإنها إحدى المساجد» «(2)».
7- وعنه: «إنّه سأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل يصلي في حر شديد فيخاف على جبهته من الأرض قال: يضع ثوبه تحت جبهته» «(3)».
8- عبداللَّه بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يؤذيه حرّ الأرض وهو في الصلاة ولا يقدر على السجود؛ هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطناً أو كتاناً؟ قال: إذا كان مضطرّاً فليفعل» «(4)».
ص:77
9- عن عمار الساباطي قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يصلّي على الثلج؟ قال: لا فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه وصلى عليه» «(1)».
10- في تحف العقول: «وكل شي ء يكون غذاء الانسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود إلّا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولًا، فإذاصار غزلًا فلا تجوز الصلاة عليه إلّافي حال الضرورة» «(2)».
11- عن علي بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن الماضي عليه السلام عن الرجل يسجد على المسح والبساط؟ قال: لا بأس إذا كان في حال التقية» «(3)».
12- عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يسجد على المسح؟ فقال: إذا كان تقيّة فلا بأس» «(4)».
ويظهر من هذه الأحاديث الواردة عن طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ السجود على الثياب والمسوح في حال الاختيار كان شائعاً في
ص:78
زمانهم وصار من شعار التسنّن، كما أنّ السجود على الأرض كان من شعار أهل البيت حتّى رخص الأئمة عليهم السلام بالسجود على المسح والبساط لضرورة التقية حفظاً لدماء شيعتهم، ونعم ما قال بعض فقهاء الشيعة في ذلك ولا بأس بنقل كلامه:
قال علي بن طاووس رضى الله عنه في كتابه الطرائف: 170 الطبعة الحجرية: «ومن طرائف أُمور جماعة من الأربعة المذاهب (كذا) إنهم ينكرون على من يعفر وجهه في سجوده، وقد رووا فيصحاحهم عن نبيهم خلاف ما أنكروه وضدّ ما كذبوه، ورواه أيضاً مسلم فيصحيحه في المجلد الثالث بإسناده عن أبي هريرة قال في الحديث ما هذا لفظه: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ولأعفرن وجهه بالتراب ثم قال: في الحديث ما هذا لفظه: إنه رآه يفعل فأراد أبو جهل أن يفعل به ما عزم عليه فحال الملائكة بينه وبينه.
قال عبدالمحمود (يعني نفسه) فهل التعفير بدعة كما تزعمون وهل تراه إلّامن سنن نبيّهم التي لم يمنعه منها التهديد والوعيد، وهل ترى إنكار التعفير إلّابدعة من أبي جهل، فكيفصارت سنّة نبيهم بدعة وبدعة عدوّه الكافر سنّة؟ إن هذا من العجائب التي لا يليق اعتقادها بذوي الرأي الصائب».
وهل المناسب لحقيقة السجود وهي غاية الخضوع في مقابل
ص:79
عظمة اللَّه تعالى إلّاالتراب، فيضع الانسان وجهه عليه أو على غيره من سائر أجزاء الأرض في غاية تذلّل وعبودية وأقصى مسكنة واتضاع وافتقار له تعالى كما قال العلامة الفقيد الأميني رحمه الله:
«والأنسب بالسجدة التي إن هي إلّاالتصاغر والتذلل تجاه عظمة المولى سبحانه ووجاه كبريائه: أن تتخذ الأرض لديها مسجداً يعفر المصلي بها خده ويرغم أنفه لتذكر الساجد للَّه طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها وإليها يعود ومنها يعاد تارة أخرى حتى يتعظ بها ويكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتّى له خضوع روحي وذلّ في الباطن وانحطاط في النفس واندفاع في الجوارح إلى العبودية وتقاعس عن الترفع والأنانية ويكون على بصيرة من أنّ المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذل والمسكنة ليس إلّا.
ولا توجد هذه الأسرار قط وقط في المنسوج من الصوف والديباج والحرير وأمثاله من وسائل الدعة والراحة مما يرى للانسان عظمة في نفسه وحرمة وكرامة ومقاماً لديه ويكون له ترفعاً وتجبراً واستعلاءً وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع» «(1)».
وقد تقدم في روايات أهل البيت عليهم السلام بيان حكمة وجوب السجود على الأرض حيث قال الامام أبو عبداللَّه جعفر بن
ص:80
محمد عليهما السلام: «لأنّ السجود هو الخضوع للَّه عزوجل، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ... (الحديث)»، وهذه هي حكمة خلق اللَّه سبحانه للانسان حيث قال عز من قائل: «وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون».
ص:81
ما عالج به الصحابة (رض) ألم الحر والبرد في السجود
التبريد في اليد
التبريد بتقليب الحصى
أحاديث تقليب الحصى ومسحها
التبريد بالابراد بالصلاة
معنى الابراد
أحاديث الابراد ومصادرها
ص:82
اتّضح ممّا أسلفنا أنّ السجود منذ بدء تشريعه كان عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وقد أوجب ذلك متاعب للمسلمين في الحرّ والبرد، فشكوا إلى الرسولصلى الله عليه و آله فلم يشكهم ولم يرخّص في السجود على غير الأرض، فعالجوا ذلك بامور حتّى سهّل اللَّه عليهم بترخيصهم بالسجود على نبات الأرض غير المأكول ولا الملبوس، ونحن نذكر هنا بعض تلك الامور فنقول:
منها: ما مرّ من تبريدهم الحصى في أيديهم بتحويل الحصى من كفّ إلى كفّ أخرى حتّى تبرد فيضعونها حينئذ ويسجدون عليها.
ومنها: تقليبهم الحصى، فقد كانوا يقلّبون الحصى في موضع سجودهم ظهراً وبطناً حتى يخرج منها ما كان غير حارّ أو ما لم يكن في مواجهة الشمس، وقد ذكر ذلك في الأحاديث ونهوا عن
ص:83
كثرة التقليب، وإليك نبذاً من النصوص في ذلك:
1- عن أبي ذر رحمه اللَّه تعالى: «لا تمسح الأرض إلّامسحة وإن تصبر عنها خير لك من مائة ناقة كلّها سود الحدق» «(1)».
2- وعنه قال: «سألت النبيّ صلى الله عليه و آله عن كلّ شي ء، سألته عن مسح الحصى فقال: واحدة أو دع» «(2)».
3- عن عبداللَّه بن عياش بن أبي ربيعة قال: «مرّ أبو ذر وأنا أصلّي فقال: إنّ الأرض لا تمسح إلّامسحة واحدة» «(3)».
4- كان عبداللَّه بن زيد يسوّي الحصى مرة واحدة إذا أراد أن يسجد «(4)».
5- سمع النبي صلى الله عليه و آله رجلًا يقلّب الحصى في المسجد فلمّا انصرف قال: من الّذي كان يقلّب الحصى في الصلاة؟ قال الرجل: أنا يارسول اللَّه، قال: حظّك منصلاتك «(5)».
6- عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: فإنهم كانوا يشددون في
ص:84
المسح للحصى لموضع الجبين ما لا يشدّدون في مسح الوجه من التراب؟ قال: أجل ها اللَّه إذاً «(1)».
7- عن معيقيب قال: «ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله المسح في المسجد يعني الحصى قال: إن كنت لابدّ فاعلًا فواحدة» «(2)».
8- عن أبي ذر رحمه الله قال: «إذا أقيمت الصلاة فامشوا على هيأتكم وصلّوا ما أدركتم، فإذا سلّم الإمام فاقضوا ما بقي ولا تمسحوا التراب عن الأرض إلّامرة واحدة، ولئن أصبر عنها أحبّ إليّ من مائة ناقة سوداء الحدق» «(3)».
9- عن جابر بن عبداللَّه قال: «سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن مسح الحصباء فقال: واحدة، ولئن تمسكه عنها خير من مائة ناقة كلّها سود الحدق» «(4)».
10- عن أبي ذر رحمه الله يروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «إذا قام أحدكم للصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصباء» «(5)».
ص:85
ويفهم من هذه الروايات الّتي أوردناها وغيرها مما لم نورده مخافة الإطناب أن الصحابة كانوا يمسحون الحصى لإزالة التراب أو الغبار عنها أو يمسحونها ليسوّوها أو يمسحونها لتقليبها.
وقد نهوا عن نفخ موضع السجود في روايات كثيرة ورخّصوا في المسح مرة واحدة.
وأما المسح للتسوية فقد روي الأمر به عن أبي هريرة «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسوّ موضع سجوده ولا يدعه حتّى إذا هوى ليسجد نفخ، فلئن يسجد أحدكم على جمرة خير له من أن يسجد على نفخته» «(1)».
وأمّا المسح والتقليب فقد نهي عنه في الأخبار، ولعلّه ليس نهي تحريم بل نهي كراهة وتنزيه.
والذي تحصّل من هذه الأخبار أيضاً هو استمرار عمل النبيصلى الله عليه و آله والصحابة على السجود على الأرض، وكانوا يقاسون المتاعب في الحرّ والبرد يعالجون ذلك بتقليب الحصى ومسحها.
ومنها: الإبراد، يعني كانوا يدفعون وهج الحرّ بتأخير الظهر عن أوّل وقتها حتى تكثر الظلال ويطيب الهواء وتبرد الأرض
ص:86
وتسكن الحرارة.
وقد أثبت كبار الحفاظ أحاديث كثيرة في هذا الموضوع في كتبهم وأودعوها في أسفارهم ومسانيدهم، ونحن نذكر منها ما يسعه المجال ونستفيد منها أمرين:
الأول: عدم جواز السجود على غير الأرض.
الثاني: اتّضاح معنى الاضطرار بها، يعني كلّما أمكن السجود على الأرض ولو بالإبراد، فلا يجوز السجود على غير الأرض.
والإبراد هو انكسار الوهج والحر كما في النهاية قال: وأمّا الحديث الآخر: «أبردوا بالظهر» فالإبراد انكسار الوهج والحسرّ، وهو من الإبراد الدخول في البرد، وقيل: معناه صلّوها في أوّل وقتها من برد النهار، وهو أوله، أو بمعنى الاسراع والتعجيل.
قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث: قال مصنّف هذا الكتاب يعني عجّل عجّل وأخذ ذلك من التبريد، وقد أشار إليه ابن الأثير أيضاً كما تقدم.
فيكون حينئذ للإبراد معنيان: الأول: التأخير إلى أن يبرد الهواء، الثاني: التعجيل بها، وذلك أولًا بتخفيف النوافل أو تقديم النوافل على الزوال أو الاتيان بها بعدصلاة الظهر، وثانياً:
بتخفيف الظهر أيضاً بترك مستحباتها، ولكن يؤيّد المعنى الأوّل- أي: كون المراد تأخير الظهر عن أوّل وقتها حتّى يبرد الهواء-
ص:87
حديث زرارة. قال عبداللَّه بن بكير: «دخل زرارة على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال: إنّكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين ثمّ قلتم أبردوا بها في الصيف، فكيف الإبراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول، فلم يجبه أبو عبداللَّه عليه السلام فأطبق ألواحه وقال: إنّما علينا أن نسألكم وأنتم أعلم بما عليكم، وخرج ودخل أبو بصير على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال: إنّ زرارة سألني عن شي ء فلم أجبه وقد ضقت من ذلك، فاذهب أنت رسولي إليه فقل:صلّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، والعصر إذا كان مثليك».
وكان زرارة هكذا يصلّي في الصيف، ولم أسمع أحداً من أصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن بكير «(1)».
ويؤيّد هذا المعنى ما هو الظاهر من رواية ابن عبّاس في احتجاجه مع الحرورية قال: لمّا اجتمعت الحروريّة يخرجون على عليّ عليه السلام قال: جعل يأتيه رجل فيقول: ياأمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتّى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد الصلاة فلا تفتي حتّى آتي القوم «(2)».
ويشهد له ما في البخاري 1: 142، ومسند أبي عوانة 1: 347
ص:88
عن أبي ذر الغفاري قال: «كنّا مع النبيّصلى الله عليه و آله في سفر، فأراد المؤذّن أن يؤذّن للظهر فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: أبرد، ثمّ أراد أن يؤذّن فقال له: أبرد حتى رأينا في ء التلول الحديث».
وكيف كان، فهاك نصوص الأحاديث بألفاظها:
1- «إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا عن الصلاة؛ فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنم» «(1)» (عن ابن عمر).
2- عن أبي ذر قال: «أذّن مؤذّن النبيّصلى الله عليه و آله الظهر فقال: أبرد أبرد، أو قال: انتظر انتظر».
3- «ابردوا بالظهر، فإنّ شدة الحر من فيح جهنم». (عن أبي سعيد).
وفي لفظ: «إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا بالصلاة، فإنّ شدّة الحر من فيح جهنم». (الحديث عن أبي هريرة).
4- في حديث قال عمر لأبي محذورة حين أذّن له بمكة: «إنّ
ص:89
أرضكم معشر أهل تهامة حارّة فأبرد، ثم أبرد مرّتين أو ثلاثاً ثمّ أذّن ثمّ ثوّب آتك». (عن عكرمة بن خالد، واللفظ للمصنّف 1:
545).
5- «إذا كان اليوم الحارّ فأبردوا بالصلاة، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنم» «(1)».
وللعلامة المجلسي رحمه الله في معنى الإبراد كلام يشتمل على ما قدّمناه لا نطيل بنقله، فمن أراد الوقوف فليراجع البحار 83: 42 وما بعدها. وعلى كل حال فإنّ الإبراد أيضاً طريق إلى التخلّص من الحرّ في السجود وغيره.
ص:90
ص:91
السجود على نبات الأرض
السجود على نبات الأرض غير المأكول ولا الملبوس
أحاديث السجود على الخمرة ومصادرها
عمل النبي صلى الله عليه و آله والصحابة رضي اللَّه عنهم
أحاديث أهل البيت عليهم السلام
معنى الخمرة
أحاديث السجود على الحصير
أحاديث أهل البيت عليهم السلام فيه
تحقيق في المراد من ألفاظ الأحاديث
ص:92
تحصّل من جميع ما أسلفنا من الأدلّة القطعية من أقوال النبيّصلى الله عليه و آله وأفعاله وتصريحه وتلويحه وعمل الصحابة رضي اللَّه عنهم وفتاواهم وفتاوى الفقهاء أنّ السجود في بدء تشريعه كان على الأرض فقط إلّاعند الضرورة. ولكنّنا نستفيد من قسم آخر من الأدلّة القطعية المتواترة ترخيصهصلى الله عليه و آله لهم فيما بعد بأن يسجدوا على نبات الأرض غير المأكول والملبوس، وبعبارة أخرى ألحق نبات الأرض بالأرض وعدّه من أجزائها، فسهّل لهم بذلك أمر السجود ورفع عنهم الإصر والمشقّة وما لا طاقة لهم به، بل أجاز لهمصنع شي ء من النبات يحملونه معهم في بيوتهم ومساجدهم؛ وهو الخمرة تنسج من خوص النخل بقدر الوجه، فتوضع في المساجد والبيوت ويسجد عليها في الصلوات، فشاع ذلك وذاع وكثر وانتشر.
ص:93
وهذه النصوص وإن كانت كثيرة، ولكنّنا نورد منها هنا ما تيسّر لنا، ونكل الاستقصاء في جمعها إلى وقت آخر.
وها هي تلك النصوص بألفاظها:
1- عن أنس بن مالك قال: «كان رسول اللَّه يصلّي على الخمرة» «(1)».
2- عن ابن عباس «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يصلّي على الخمرة» «(2)».
3- عن ابن عمر «كان النبيّ صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة» «(3)».
4- عن عائشة «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يصلّي على الخمرة» «(4)».
ص:94
5- عن ام سلمة «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يصلّي على الخمرة» «(1)».
6- عن ميمونة «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الخمرة» «(2)».
7- عن امّ أيمن قالت: «قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ناوليني الخمرة من المسجد، قلت: إنّي حائض، قال: إنّ حيضتك ليست في يدك» «(3)».
8- عن أبي قلابة قال: «دخلت امّ سلمة فسألت ابنة ابنها عن مصلّى النبيّصلى الله عليه و آله فأرتني المسجد فإذا فيه خمرة، فأردت أن أنحّيها فقالت: إنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يصلّي على الخمرة» «(4)».
9- عن امّ سليم عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «أنّه كان يأتيها فيقيل عندها
ص:95
فتبسط له نطعاً فيقيل عندها، وكان كثير العرق فتجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير قالت: وكان يصلّي على الخمرة» «(1)».
وفي لفظ أحمد: 103: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدخل على امّ سليم فتبسط له نطعاً فيقيل عليه، فتأخذ من عرقه فتجعله في طيبها وتبسط له الخمرة فيصلّي عليها».
10- عن عائشة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لها: ناوليني الخمرة، قالت:
أنا حائض، قال: إنّها ليست في يدك».
وعنها في لفظ: «قالت: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ناوليني الخمرة، قلت: إنّي حائض، قال: ناولينيها، فإنّ حيض المرأة ليس في يدها ولا فمها».
وفي لفظ: «إنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال لعائشة: ناوليني الخمرة من المسجد فقالت: إني أحدثت، فقال: أوحيضتك في يدك؟» «(2)».
ص:96
11- عن عائشة: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان في المسجد فقال للجارية: ناوليني الخمرة، فقالت: إنّها حائض، فقال: إن حيضتها ليست في يدها، فقالت عائشة: أراد أن تبسطها فيصلي عليها» «(1)».
12- وعنها: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ناوليني الخمرة من المسجد، قالت: قلت إنّي حائض، فقال: إنّ حيضتك ليست في يدك» «(2)».
13- عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه و آله قالت: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي وأنا حذاءه، وربما أصابني ثوبه إذا سجد وكان يصلّي على الخمرة» «(3)».
14- عنها أيضاً: «تقوم إحدانا بالخمرة إلى المسجد فتبسطها
ص:97
وهي حائض» «(1)».
15- عنها أيضاً: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدخل عليها قاعدة وهي حائض فتبسط له الخمرة في مصلاه، فيصلّي عليها في بيتي» (في حديث طويل اختصرناه) «(2)».
16- عنها أيضاً قالت: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يضع رأسه في حجر أحدنا فيتلو القرآن وهي حائض، أو تقوم إحدانا بخمرته إلى المسجد فتبسطها وهي حائض» «(3)».
17- إنّ عثمان بن حنيف قال: «ياجارية ناوليني الخمرة، قالت:
لست اصلّي، قال: إنّ حيضتك ليست في يدك» «(4)».
18- إنّ ابن عمر كان يصلّي على خمرة تحتها حصير بيته في غير مسجد، فيسجد عليها ويقوم عليها «(5)».
19- عن ابن عمر: «إنّ جواريه يغسلن رجليه وهنّ حيّض ويلقين إليه الخمرة» «(6)».
ص:98
20- كان عمر بن عبدالعزيز يصلّي على الخمرة «(1)».
21- «قد كان بعض نساء النبيّ صلى الله عليه و آله تسكب عليه الماء وهي حائض وتناوله الخمرة» «(2)».
22- «ولا بأس أن تسكب الحائض على يد المتوضّي وتناوله الخمرة» «(3)».
وتوجد هذه الأحاديث في وسائل الشيعة 1: 595 عن المشايخ الثلاثة والمحاسن للبرقي وفي البحار 81: 108 فراجع وتدبّر.
وأخرج في الوسائل 3: 603 الأخبار الدالّة على جواز السجود على الخمرة وقد تقدم بعضها، وروى عن الكافي عن أبي جعفر عليه السلام: «سئل عن الصلاة على الخمرة المدنيّة فكتب:صلّ على ما كان معمولًا بخيوطة ولا تصلّ على ما كان معمولًا بسيورة» «(4)».
ص:99
وعن موسى بن جعفر عليهما السلام أنه قال: «لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلي عليها ...».
والخمرة- على ما نصّ عليه اللغويون وشارحوا كتب الحديث:- سجّادةصغيرة تنسج من خوص النخل بمقدار الوجه، وهاك نصوصهم:
قال في لسان العرب: «الخمرة حصيرة أو سجادةصغيرة تنسج من سعف النخل وترمل بالخيوط وقيل: حصيرة أصغر من المصلّى، وقيل: الحصير الصغير الذي يسجد عليه وفي الحديث:
«إنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يسجد على الخمرة، وهو حصيرصغير قدر ما يسجد عليه ينسج من سعف النخل. قال الزجّاج: سميت خمرة لأنّها تستر الوجه من الأرض». وفي حديث امّ سلمة: «قال لها وهي حائض: ناوليني الخمرة، وهي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصيرة أو نسيجة خوص ونحوه من النبات.
قال: ولا تكون خمرة إلّافي هذا المقدار، وسميت خمرة؛ لأنّ خيوطها مستورة بسعفها. قال ابن الأثير: وقد تكرّر في الحديث هكذا
ص:100
فسّرت. وقد جاء في سنن أبي داود عن ابن عبّاس قال: «جاءت فارة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على الخمرة التي كان قاعداً عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم». قال: «وهذاصريح في اطلاق الخمرة على الكبير من نوعها». وقال في النهاية: «وفي حديث امّ سلمة، قال لها وهي حائض: ناوليني الخمرة» هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات ولا تكون خمرة إلّافي هذا المقدار، وسميت خمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسعفها وقد تكرّر في الحديث إلى آخر ما مرّ من لسان العرب».
وفي القاموس: الخمرة بالضمّ، حصيرةصغيرة من السعف.
واكتفى السيوطي في تنوير الحوالك 1: 73 و 74، والنووي في شرحه علىصحيح مسلم 3: 211 بنقل كلام ابن الأثير وقال:
وصرّح جماعة بأنّها لا تكون إلّاقدر ما يضع الرجل حرّ وجهه في سجوده.
وفي تاج العروس: وهي حصيرةصغيرة تنسج من سعف النخل وترمل بالخيوط، ثمّ نقل كلام الزجاج المتقدّم عن لسان العرب.
وفي وفاء الوفا 2: 662 نقل عن الطبري وابن زيد أنّها سجادة أو سجادةصغيرة تنسج من سعف النخل ويرسل بالخيوط.
ص:101
وفي دائرة المعارف الاسلامية 11: 276 (كلمة سجادة) كلام في معنى الخمرة لا يخلو عن فائدة قال «ونحن نجد في الوقت نفسه أنه قد تردّد أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يؤدّي الصلاة على خمرة (البخاري كتاب الصلاة باب 21 ومسلم كتاب المساجد حديث 370، الترمذي كتاب الصلاة باب 129 وأحمد بن حنبل 1: 269 و 308 وما بعدها 320 و 358 و 2: 91 بعدها، والنسائي كتاب المساجد باب 43 وابن سعد 1: 160/ 2 والظاهر أنّ الخمرة لم تكن تختلف عن الحصير في المادّة، وإنما كانت تختلف عنه في الحجم، ويقول محمد بن عبداللَّه العلوي في حواشيه على ابن ماجة (كتاب الاقامة باب 63 و 64) إن الخمرة تتسع للسجود فحسب، وأما الحصير فكان طول الرجل.
وفي شرح عون المعبود لسنن أبي داود 1: 248 نقل عن الطبري وفتح الباري والأزهري وأبي عبيد الهروي وجماعة بعدهم: أنّها مصلّىصغير يعمل من سعف النخل، سميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حرّ الأرض وبردها فإن كانت كبيرة سميت حصيراً.
ويقرب من هذا المعنى ما في إرشاد الساري 1: 365، وشرح الأحوذي لجامع الترمذي 1: 126 و 272، وفتح الباري 1: 411 و 364، وهامش الترمذي 2: 151 و 152.
ص:102
وفي هامش البحار 76: 136: الخمرة حصيرةصغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط، وكان أصل استعمالها خمرة أي سترة وغطاء لرأس الكوز والأواني، ولمّا كانت ممّا أنبتت الأرض وكانت سهل التناول اتّخذها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مسجداً لجبهته الشريفة، فصارت السجدة على الأرض فريضة وعلى الخمرة سنّة، وليس للخمرة التي تعمل من سعف النخل خصوصية بالسنّة بل السنّة تعمّ كل ما أنبتت الأرض .. الخ.
أقول: والّذي تحصّل من التدبّر في كلام اللغويين والمحدّثين والفقهاء، هو أنّ الخمرة كانت تصنع من السعف أو نحوه، ولا تكون إلّا بمقدار الوجه، وإن اطلق أحياناً على ما هو أكبر من ذلك بالعناية والمجاز، وإلّا فما كان كبيراً حصير.
وأما بدءصنعها فهل كان من أجل تخمير الأواني أوّلًا، ثم اتخذها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله للسجود؛ لكونها أسهل تناولًا أم أنّهاصنعت لغاية السجود فقط؟ لم نقف على دليل يؤيّد أيّاً من الأمرين.
وكذا لم نقف على تأريخصنعها ولا على تأريخ توسعة الرسولصلى الله عليه و آله للمسلمين في السجود على نبات الأرض، نعم الثابت هو أنّ الترخيص كان في المدينة بعد مضي مدّة ليست بقليلة كما يظهر من الأخبار المتقدّمة.
ص:103
ومن المقطوع به أنّه لا خصوصيّة للخمرة، بل هي أحد افراد النبات الّذي يصحّ السجود عليه؛ إذ المنقول متواتراً هو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يسجد على الحصير، فقد روى أنس بن مالك «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلى على حصير» «(1)».
وعن أنس قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح ثمّ يؤمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونقوم خلفه فيصلّي بنا، وكان بساطهم من جريد النخل» «(2)».
وعنه: أنّ جدّته مليكة دعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لطعامصنعته فأكل منه ثمّ قال: قوموا فاصلّي معكم، قال أنس بن مالك: فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس، فنضحته بماءٍ، فقام عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ... فصلى بنا» (الحديث) «(3)».
ص:104
وعن أبي سعيد الخدري: «أنّه دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوجده يصلّي على حصير يسجد عليه» «(1)».
وعن أنس بن مالك قال: «كان النبيّ صلى الله عليه و آله يزور امّ سليم أحياناً فتدركه الصلاة، فيصلّي على بساط لنا وهو حصير ينضحه بالماء» «(2)».
عن أبي سعيد قال: «صلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على حصير» «(3)».
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ ق 2: 159 عن أنس قال:
«رأيت النبيّ في بيت أبي طلحة يصلّي على بساط وقد تقدّم أن بساطهم وقتئذ كان من جريد النخل».
وفي نفس المصدر عنه قال:صلى بنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في بيت امّ سليم على حصير قد تغيّر من القدم، ونضحه بشي ء من ماء فسجد عليه».
عن عائشة: «إن النبيّ صلى الله عليه و آله كان له حصير يبسطه ويصلّي عليه» «(4)».
ص:105
وقد تقدّم من طرف أهل البيت عليهم السلام الترخيص بالسجود على النبات، ولا بأس بنقل أحاديث أُخرى في ذلك أيضاً:
روي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «لا بأس بالصلاة على البوريا والخصفة وكلّ نبات إلّاالتمرة» «(1)».
وعن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ذكر أن رجلًا أتى أبا جعفر عليه السلام وسأله عن السجود على البوريا والحصفة والنبات، قال: نعم» «(2)».
وعن إسحاق بن الفضيل أنّه سأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن السجود على الحصر والبواري فقال: «لا بأس، وأن يسجد على الأرض أحبّ إليّ؛ فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يحب ذلك أن يمكّن جبهته من الأرض، فأنا أحبّ لك ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحبّه» «(3)».
عن ياسر الخادم قال: «مرّ أبو الحسن عليه السلام وأنا اصلّي على
ص:106
الطبري وقد ألقيت عليه شيئاً أسجد عليه فقال لي: ما لك لا تسجد عليه أليس هو من نبات الأرض؟» «(1)».
عن هشام بن الحكم في حديث قال: «السجود على الأرض أفضل لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع للَّه عزوجل» «(2)».
عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الصلاة على البساط والشعر والطنافس قال: لا تسجد عليه وإذا قمت عليه وسجدت على الأرض فلا بأس، وإن بسطت عليه الحصير وسجدت على الحصير فلا بأس» «(3)».
عن عليّ عليه السلام «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آلهصلّى على حصير» «(4)».
والأخبار فيصلاته صلى الله عليه و آله وسجوده على الحصير كثيرة من أراد الوقوف عليها فليراجع السنن الكبرى للبيهقي 2: 421 عن أبي سعيد، والنسائي 2: 57، وإرشاد الساري 1: 405، وشرح النووي بهامشه 3: 164، وشرح الأحوذي لجامع الترمذي 1:
273، وعون المعبود 1: 249، وسيرتنا: 129 و 130، والرصف:
288، ومنحة المعبود 1: 85، وراجع الوسائل 3 باب السجود، والبحار 85: 144-/ 159، وسنن أبي داود 1: 177، وتيسير الوصول 1: 315.
ص:107
هذا .. ولا يخفى على المتدبّر أنّ كلمة «صلّى على بساط أو طنفسة أو عبقري أو طبري» لا تدلّ على أنهصلى الله عليه و آله قد سجد عليها؛ إذ يمكن أن يقف المصلي عليها ويسجد على التراب أو الخمرة أو نحوها كما تقدم أنه «يقوم على البردي ويسجد على الأرض». وأما كلمة «صلّى على خمرة» فتدل على السجود عليها، إذ الخمرة لا تسع إلّاالوجه، فالصلاة عليها لا معنى لها إلّاالسجود عليها، ولهذا الفرقصرح أبو سعيد بقوله: «فوجده يصلّي على حصير يسجد عليه» نعم قد تدلّ عبارة «صلّى على حصير» على السجود عليه في مقام لقرينة خاصة.
وهنا كلام للعالم الكبير والمحقّق الجليل السيد علي بن طاووس رضوان اللَّه تعالى عليه لا بأس بنقله، قال رحمه اللَّه تعالى في الطرائف الطبعة الحجرية: 169:
«ومن طريف ما رأيت إنكار بعض المسلمين على بعضهم السجود في الصلاة على سجّادةصغيرة تعمل من سعف النخل وتشديدهم في إنكار ذلك، وقد رأيت في كتبهم الصحاح عندهم يتضمّن أن نبيّهم فعل ذلك، وكتابهم يتضمّن لقد كان لكم في رسول اللَّه اسوة حسنة، فمن ذلك ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند ميمونة بنت الحارث الهلالية في الحديث
ص:108
الثالث من المتّفق عليه، وهي من أزواج نبيّهم المشكورات بلا خلاف بينهم قالت: كنت حائضاً لا أصلي وأنا مفترشة بحذاء مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو يصلّي على خمرته.
ومن ذلك ما رواه الحميدي أيضاً في كتابه المشار إليه في مسند ام سلمة بنت ملحان ام أنس بن مالك في الحديث الثاني من أفراد مسلم قالت: وكان النبيّصلى الله عليه و آله يصلي على خمرة وروى نحو ذلك في مسند عائشة، وفي مسند أبي سعيد الخدري، قال عبدالمحمود مؤلّف هذا الكتاب: قد أجمع أهل اللغة على أنّ الخمرة سجادةصغيرة تعمل من النخل».
ص:109
اجتهادات ومزاعم في جواز السجود على مطلق الثياب
الأحاديث والأدلّة لهم
الجواب عن تلك الأدلّة المزعومة
بحث حول الألفاظ الواردة في الأحاديث
ص:110
تقدّم في عدّ أقوال الصحابة والتابعين نسبة جواز السجود على الثياب من القطن بل على كلّ شي ء إلى جمع منهم كأنس بن مالك وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ومكحول والحسن وشريح وعبدالرحمن بن يزيد، وقد قدّمنا نصوصهم في ذلك ورووا في ذلك أحاديث، فلابدّ من نقل أدلّتهم التي خضع لها فقهاؤهم بعد وأطبقوا على الفتوى بمضمونها.
1- عن أبي هريرة: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسجد على كور عمامته» «(1)».
2- عن ابن عباس: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آلهصلّى في ثوب يتّقي بفضوله
ص:111
حرّ الأرض وبردها» «(1)».
3- عن المغيرة بن شعبة: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة» «(2)».
وفي لفظ: «كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرو، وكان يستحبّ أن تكون له فرو مدبوغة يصلّي عليها».
4- عن جعفر بن عمر أو غيره: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان في بيت وكف عليه، فاجتذب نطعاً فصلّى عليه» «(3)».
5- عن أنس: «كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه و آله فيسجد أحدنا على ثوبه» «(4)».
6-صلّى ابن عباس وهو بالبصرة على بساط، ثمّ حدّث أصحابه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يصلّي على بساطه» «(5)».
7-صلّى ابن عباس على طنفسة أو بساط قد طبق بيته «(6)».
ص:112
8- عن أبي وائل: «إنّ ابن مسعودصلّى على مسح» «(1)».
9- عن عبداللَّه بن عامر قال: «رأيت عمر بن الخطّاب يصلّي على عبقري» «(2)».
10- عن جابر «أنّه صلى الله عليه و آله كان يسجد على كور عمامته» «(3)».
11- عن ابن عبّاس: «رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي يسجد على ثوبه» سيرتنا: 131، عن أبي يعلى والطبراني في الكبير.
12- عن سعيد بن جبير: «إنّ ابن عباس أمّهم في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه على طنفسة قد طبقت البيت» «(4)».
هذه جملة ما وقفنا عليه من أدلّة القائلين بالجواز، ولكنّ التدبّر فيما تقدم من الأدلّة وما عمله الرسولصلى الله عليه و آله والصحابة يقضي بعدم إمكان الاعتماد على هذه الأدلّة؛ لوضوح الإشكال فيها من جهات:
الاولى: أنّ الأدلّة على فرض تماميتها سنداً ودلالة لا تقاوم ما مرّ من الروايات المتواترة والمتضافرة الدالّة على حصر جواز السجود بالأرض فقط، كقوله صلى الله عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجداً
ص:113
وطهوراً» وغيره من الأحاديث، وما مرّ من استمرار عمل الرسولصلى الله عليه و آله والصحابة رضي اللَّه عنهم على ذلك، وما مر من حصر جواز السجود على الثياب بحال الاضطرار فقط.
الثانية: إطباق كبار الفقهاء على حصر الجواز بصورة الاضطرار، بحيث أرسلوه إرسال المسلّمات كالبخاري والنسائي والدارمي وابن ماجة والنخعي والسلماني وصالح بن خيوان وعمر ابن عبدالعزيز وعروة بن الزبير والامام الشافعي والشوكاني وابن حجر والامام مالك وأعاظم الصحابة؛ لأنّهم خصوا السجود بالثياب بحال الضرورة كما تقدّم من أقوالهم مفصّلًا، بل ناقل حديث الاضطرار وهو أنس بن مالك هو أحد رواة حديث:
شكونا إلى النبي صلى الله عليه و آله حرّ الرمضاء فلم يشكنا، وكذلك ابن مسعود؛ فإنّه لا يرى السجود إلّاعلى التراب، فكيف ينسب إليهما الجواز على الاطلاق.
الثالثة: وقد أنكر البيهقي حديث السجود على كور العمامة حيث قال: «قال الشيخ: وأمّا ما روي في ذلك عن النبيصلى الله عليه و آله من السجود على كور العمامة، فلا يثبت شي ء من ذلك، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيصلى الله عليه و آله «(1)» وقد حمله مكحول على الاضطرار. وقد روى عن ابن راشد قال:
رأيت مكحولًا يسجد على عمامته، فقلت: لم تسجد عليها؟ فقال:
ص:114
أتّقي البرد على إنساني- أي: عيني- «(1)».
مضافاً إلى أن الراوي هو أبو هريرة وهو هو «(2)»، والراوي عنه عبداللَّه وسيأتي تضعيفه، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد نهى عن السجود على كور العمامةصريحاً كما مرّ.
قال في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 6: 281 حول السجود على كور العمامة: «وذهب الشيعة إلى عدم الجواز ووافقهم الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ لأنّه لم يثبت عن النبيصلى الله عليه و آله إنّه سجد على كور عمامته، وكان ينهى عن ذلك. نعم روى عبداللَّه ابن محرز عن أبي هريرة: إنّ النبيصلى الله عليه و آله سجد على كور عمامته، وهذا غيرصحيح؛ لأنّ عبداللَّه متروك الحديث كما قال ابن حجر وأبو حاتم والدارقطني. وقال البخاري: إنّه منكر الحديث وهو أحد قضاء الدولة، ولم يذكر علماء الرجال سماعه من أبي هريرة، وقال الحافظ ابن حجر: لم يذكر عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه سجد على كور عمامته ولم يثبت ذلك عنه في حديثصحيح» (راجع شرح المواهب للزرقاني 7: 321).
وقال النووي: «إنّ العلماء مجمعون على أنّ المختار مباشرة الجبهة
ص:115
للأرض، وأمّا المروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنّه سجد على كور عمامته» فليس بصحيح، قال البيهقي: فلا يثبت في هذا شي ء، وأمّا القياس على باقي الأعضاء أنّه لا يختصّ وضعها على قول وإن وجب ففي كشفها مشقّة بخلاف الجبهة.
وعلى كلّ حال هذا الحديث مردود عند العلماء وأهل التحقيق.
وحديث ابن عبّاسصريح في الاضطرار لمكان قوله: «يتّقي بفضوله حرّ الأرض وبردها» وروايته الاخرى تحمل عليه وإن كانت مطلقة لقوله: «رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي يسجد على ثوبه».
وحديث: المغيرة بن شعبة فيه ما لا يخفى من ضعف الرجل وضعف روايته به، وهو هو يعرفه العلماء شابّاً وكهلًا وشيخاً، وهو مع ذلك لم يصرّح بالسجود على الفرو؛ إذ الصلاة عليه أعمّ من أن يسجد عليه أو يضع شيئاً عليه كالخمرة ونحوها والتراب والحجر فيسجد عليها «(1)» وقد تقدّم عن إبراهيم النخعي: أنّه كان يقوم على
ص:116
البردي، ويسجد على الأرض، وكذا ما مرّ عن عمر بن عبدالعزيز، وغير ذلك مما مرّ من وضع شي ء على البساط والطنفسة والسجود عليه، وعلى كل حال لا ملازمة عقلية ولا عادية ولا عرفيّة بين الصلاة على الشي ء وبين السجود، إلّاإذا كان لا يسع إلّاالسجود فقط، وحينئذ فقوله «صلّى على الخمرة» يكون معناه سجد على الخمرة كما تقدّم.
وكذا الكلام في حديث جعفر الّذي فيه الصلاة على النطع، مع أنّ جعفر هذا لا نعرفه.
وأمّا حديث أنس «كنّا نصلي مع النبيّصلى الله عليه و آله فيسجد أحدنا على ثوبه» فمحمول على الاضطرار، بقرينة ما نقله البخاري عنه بعد الحديث المذكور «كنا نصلّي مع النبيّصلى الله عليه و آله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر في مكان السجود» وهذه توضيح وتفسير للحديث الأول كما لا يخفى، مع أنّ الحديث مطلق قابل للتقييد في نفسه. وقد حمل البخاري كلام الحسن في سجود الصحابة على العمامة والقلنسوة على الاضطرار كما تقدّم.
وحديث ابن عبّاس «إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان يصلّي على بساطه» فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة على الشي ء أعم من السجود
ص:117
عليه، وكذا حديث أنّ ابن عباس: «صلّى على طنفسة أو بساط قد طبق بيته» وكذا حديث أنّ ابن مسعود «صلى على مسح»، وحديث أنّ «عمر بن الخطاب يصلّي على عبقري».
الرابعة: أنّصلاتهم وسجودهم على البساط لا يدلّ على جواز السجود على الثياب كما تقدم من التصريح بأنّ البساط وقتئذٍ كان من جريد النخل أو الحصير، ولا إشكال في السجود على النباتات.
(راجعصحيح مسلم 1: 45، والسنن الكبرى للبيهقي 2: 432، والبداية والنهاية 6: 38، وسيرتنا: 129، ومسند أحمد 3: 212، وسنن الدرامي 1: 295 والرصف: 288).
وقد تنبّه لذلكصاحب دائرة المعارف الإسلامية حيث قال:
«إنّ الصلاة كانت تؤدّى على البسط» (انظر مثلًا الترمذي كتاب الصلاة باب 131 حيث ورد ذكر البساط، وكذلك ابن ماجة كتاب إقامة الصلاة باب 63، وأحمد بن حنبل 1: 222 و 372 و 3: 160 و 171 و 184 و 212)، ويلاحظ في الحديث الأخير أنّ هذا البساط كان يصنع من جريد النخل، ويضيف الترمذي أنّ معظم الفقهاء يجوّزون الصلاة على الطنفسة أو البساط، وكان ثمّة بساط من هذا القبيل مصنوع من جريد النخل، تؤدّى عليه الصلاة ...
وكان يعرف باسم الحصير (انظر مثلًا البخاري كتاب الصلاة باب 20، أحمد بن حنبل 3: 52 و 59 و 130 وما بعدها: 145
ص:118
و 149 و 164 و 179 و 184 وما بعدها: 90 و 226 و 291 وقد ورد هذا الحديث أيضاً في مسلم كتاب المساجد حديث 266، وعلّق النووي قائلًا: «إنّ الفقهاء بصفة عامة يصرحون بأن الصلاة يجوز أن تؤدّى على أيّ شي ء تنبته الأرض» «(1)».
وقدصرح أنس بن مالك بذلك في حديث «إن النبيصلى الله عليه و آله كان يزور ام سليم فتدركه الصلاة أحياناً، فيصلّي على بساطنا وهو حصير» (الحديث). وقال الأحوذي في شرحه 1: 273 في شرح حديث أنس: «كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يخالطنا حتى كان يقول لأخ ليصغير: يا أبا عمير ما فعل نغير قال: ونضح بساط لنا فصلى عليه» (راجع مسند أحمد 3: 119) «(2)» قال: قال السيوطي فسّر في سنن أبي داود بالحصير قلت: روى أبو داود في سننه 1: 177 عن أنس ابن مالك فنقل ما تقدّم ثم قال: وقال العراقي في شرح الترمذي:
فرّق المصنف بين حديث أنس في الصلاة على الحصير وعقد لكلّ منهما باباً، وقد روى ابن أبي شيبة في سننه ما يدلّ على أنّ المراد بالبساط الحصير بلفظ، فيصلّي أحياناً على بساطنا وهو حصير فينضحه بالماء. قال العراقي: فتبيّن أنّ مراد أنس بالبساط الحصير، ولا شكّ أنّه صادق على الحصير، ثمّ نقل رواية ابن عبّاس: «إنّ
ص:119
النبيّصلى الله عليه و آله صلّى على بساط» وضعفه.
ولعلّ المراد من الطنفسة والبردي والعبقري والفحل والوطاء والدرنوك والمسح معان تنطبق على المصنوع من النبات؛ إذ الطنفسة (بكسر الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء) البساط الذي له خمل وفي أقرب الموارد: البساط والثوب والحصير.
والبردي: الحصير كما في مصنّف عبدالرزاق 1: 397، أو نبات يعمل منه الحصير.
والعبقري ضرب فاخر من البسط. قال في ذيل أقرب الموارد:
العبقر كجعفر، أوّل ما ينبت من اصول القصب، فلعلّ العبقري هو المصنوع من القصب، أو لعله الحصير المنقوش «(1)» ويؤيّده ما تقدّم من أنّه لم يكن البساط وقتئذ إلّامن جريد النخل، وبه يردّ ما في النهاية: «ومنه حديث عمر أنّه كان يسجد على عبقري» قيل هو الديباج، وقيل: البسط الموشية، وقيل: الطنافس الثخان.
والفحل هو الحصير الّذي اسودّ. وفي النهاية: الفحل ههنا حصير معمول من سعف فحال النخل، وهو فحلها وذكرها الّذي تلقّح منه فسمّي الحصير فحلًا مجازاً.
ص:120
والمسح بكسر الميم: البلاس، وهو نسيج من الشعر، ولعلّه اطلق على البساط عموماً مجازاً.
والدرنوك: ستر له خمل وجمعه درانك، ومنه حديث ابن عبّاس «قال عطاء:صلّينا معه على درنوك قد طبق البيت كلّه» «(1)».
ولعلّ هؤلاء المجتهدين لم يفرّقوا بين «صلّى على البساط والثوب» و «سجد على البساط والثوب»، أو أنّهم شاهدوا عملًا ولم ينتبهوا إلى الاضطرار المرخّص له، أو رأوا السجود على الحصير أو البساط الذيصنع من جريد النخل أو على الخمرة، وقاسوا عليها غيرها من دون نظر إلى الفرق بين النبات وغيره كما مرّ عن الزهري من الاستدلال على السجود على الطنفسة بجوازه على الخمرة، أو سمعوا أنّ ابن عبّاس سجد على البساط ولم يتوجّهوا إلى أنّ البساط حينئذ كان من جريد النخل.
وبعد ذلك كلّه، فإنّه لا مناص في مقابل الأدلّة القطعية المتقدّمة إن لم يكن ما ذكرناه آنفاً هو الظاهر منها لا مناص إمّا من تأويل هذه الأحاديث، أو طرحها وقد قال محمد بن سيرين: «إنّ الصلاة على الطنفسة محدث» (سيرتنا: 134 عن مصنّف ابن أبي شيبة 2).
ص:121
أصبح السجود على الملبوس شعار أهل التسنّن
أصبح السجود على الأرض ونباتها من شعار الإمامية
السجود على تربة الحسين عليه السلام وأحاديث أهل البيت عليهم السلام
كلام كاشف الغطاء رحمه اللَّه تعالى
كلام العلّامة الأميني رحمه اللَّه تعالى
سنّة اللَّه ورسوله في التربة الحسينية على مشرفها السلام
اللَّه سبحانه يهدي إلى رسوله التربة
الرسول صلى الله عليه و آله يقبّل تربة الحسين عليه السلام
الرسول صلى الله عليه و آله يجعلها في قارورة
الرسول صلى الله عليه و آله يأمر بحفظها
الرسول صلى الله عليه و آله يشمها ويفيض عليها دمعه
ص:122
الدور الرابع:
اتّضح ممّا ذكرنا كيف كان بدء تشريع السجود، وأنّه إنّما شرع ليكون خضوعاً للَّه سبحانه وتعالى وتذلّلًا واستكانة لديه وتعفيراً للخدود والجباه بين يديه عزّوجلّ من أجل الابتعاد عن الكبرياء والأنانية، حتّى أنّ الرسول العظيم صلى الله عليه و آله لم يسمح لهم السجود على غير الأرض ولو في الرمضاء ولم يشكهم، حتّى رخص لهم في السجود على نباتها، الحاقاً لنباتها بها تسهيلًا على العباد ورفعاً للإصر والمشقّة عنهم.
هذا كلّه هو ما ساقنا إليه الدليل، وأخذت البراهين بأعناقنا إليه، وأطبقت عليه الأحاديث المتواترة المتضافرة، وجرت عليه السنّة، وعمل به الأصحاب وفقاً لما نزل به الكتاب: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».
ص:123
فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة وأمر محدث غير مشروع يخالف سنّة اللَّه وسنّة رسوله، ولن تجد لسنّة اللَّه تحويلا «(1)».
والفرقة الحقّة الإمامية لا يتديّنون ولا يقولون إلّابما نطق به الكتاب وجاء به من نزل عليه روح القدس، والتزم به وقرّره أهل البيت الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وجعلهم سفينة النجاة والأئمة الهداة وعدل الكتاب وقدوة اولي الألباب، وجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى الحقّ المبين والصراط المستقيم.
ولكن من العجب وإن عشت أراك الدهر عجباً، أنّ اتّجاه الفتاوى قد انقلب إلى الترخيص بالسجود على الحرير والصوف والقطن وكلّ شي ء خطأ في الاجتهاد، ثمّ ازداد الأمر شدّة حتّى انقلب ظهراً وبطناً، فعدّت السنّة بدعة والبدعة سنة، حتّى آل الأمر إلى تكفير شيعة أهل البيت عليهم السلام في العمل بالسنّة الإلهية ورميهم بالزندقة والشرك (وإلى اللَّه أشكو وهو المستعان).
هذا ما نلاقيه من إخواننا في الحرمين الشريفين من الاستخفاف والإهانة بدل الاكرام والحنان.
ص:124
تختّص الشيعة (الإمامية) بالقول باستحباب السجود على تربة قبر الحسين عليه السلام تبعاً لأئمتهم، بل اتّباعاً لمنهج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (ومنهج أهل البيت هو منهج الرسول صلى الله عليه و آله لا يخالفونه قيد شعرة أبداً) في تكريمه للحسين سيد الشهداء عليه السلام وتكريم تربة قبره عليه السلام.
فاللازم علينا إذن هو الاتيان ببعض الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام أوّلًا، وبيان منهج الرسولصلى الله عليه و آله ثانياً.
فهاك نصوص كلمات أهل البيتصلوات اللَّه عليهم:
1- قال الصادق عليه السلام: «السجود على طين قبر الحسين عليه السلام ينوّر إلى الأرضين السبعة، ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السلام كتب مسبّحاً وإنّ لم يسبّح بها» «(1)».
2- عن أبي الحسن عليه السلام: «لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلّي عليها، وخاتم يتختّم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر الحسين عليه السلام» «(2)».
3- كان لأبي عبداللَّه جعفر بن محمد عليه السلام خريطة من ديباجصفراء فيها من تربة أبي عبداللَّه عليه السلام، فكان إذا حضرته الصلاةصبّه
ص:125
على سجادته وسجد عليه قال عليه السلام: «إنّ السجود على تربة أبي عبداللَّه عليه السلام تخرق الحجب السبع» «(1)».
4- كان الصادق عليه السلام لا يسجد إلّاعلى تربة الحسين عليه السلام تذلّلًا للَّه واستكانة له «(2)».
5- سئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن استعمال التربتين من طين قبر حمزة وقبر الحسين عليهما السلام والتفاضل بينهما فقال عليه السلام: السبحة الّتي من طين قبر الحسين عليه السلام تسبّح بيد الرجل من غير أن يسبّح» «(3)».
6- قال الحميري: «كتبت إلى الفقيه أسأله هل يجوز أن يسبّح الرجل بطين القبر؟ وهل فيه من فضل؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت: تسبّح به، فما في شي ء من السبح أفضل منه» «(4)».
والظاهر أنّ المراد من القبر قبر الحسين عليه السلام، والألف واللام للعهد؛ لكون ذلك معهوداً مشهوراً عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم.
7- محمدبن عبداللَّه بن جعفر الحميري عنصاحب الزمان عليه السلام:
إنّه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر هل فيه
ص:126
فضل؟ فأجاب عليه السلام: «يجوز ذلك، وفيه الفضل» «(1)».
ولا غرو أن يجعل اللَّه سبحانه الفضل في السجود على تربة سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام وهو هو سيد شباب أهل الجنة وقرّة عين الرسولصلى الله عليه و آله ومهجة فاطمة البتول عليها السلام وابن أمير المؤمنين عليه السلام وأحد أصحاب الكساء، وهو وأخوه المراد من الأبناء في الكتاب الكريم في قصة المباهلة، وهو شريك أبيه وامّه في سورة هل أتى، وإحدى سفن النجاة للُامّة، وأحد الأئمة الكرام الهداة، وأحد الخلفاء الإثني عشر، وهو مصباح الهدى وسفينة النجاة.
ولا تخفى على من له أدنى حظّ من الحديث والتأريخ فضائله عليه السلام المأثورة عن الرسولصلى الله عليه و آله في أئمة أهل البيت عليهم السلام أجمع وفيه خاصّة، فأيّ مانع من تشريف اللَّه تعالى له وتكريمه إياه بتفضيل السجود على تربته؟
قال العلّامة كاشف الغطاء رحمة اللَّه عليه في كتابه «الأرض والتربة الحسينية» في بيان حكمة إيجاب السجود على الأرض واستحباب السجود على التربة الشريفة:
«ولعلّ السر في إلزام الشيعة الإمامية (استحباباً) بالسجود على التربة الحسينية، مضافاً إلى ما ورد في فضلها (إيعاز إلى ما مرّ
ص:127
من الأحاديث) ومضافاً إلى أنّها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملوثة والمملوءة غالباً من الغبار والميكروبات الكامنة فيها، مضافاً إلى كلّ ذلك، فلعله من جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية أن يتذكّر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الامام بنفسه وآل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ وتحطيم الجور والفساد والظلم والاستبداد.
ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فإنّه مناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الّذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبعة كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب» (انتهى كلامه طيّب اللَّه رمسه) «(1)».
وقال العلامة الأميني رحمه الله «(2)» ونعم ما قال (باختصار منّا): إنّ
ص:128
الغاية المتوخّاة للشيعة من اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً للشيعة، إنّما تستند إلى أصلين قويمين وتتوقف على أمرين قيّمين:
أولهما: استحسان اتّخاذ المصلّي لنفسه تربة طاهرة طيّبة يتيقّن بطهارتها من أيّ أرض أخذت ومن أيّصقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك شرع سواء لا امتياز لإحداها على الاخرى في جواز السجود عليها، وإن هو إلّاكرعاية المصلّي طهارة جسده وملبسه ومصلّاه، فيتّخذ المسلم لنفسهصعيداً طيباً يسجد عليه في حلّه وترحاله وفي حضره وسفره؛ إذ الثقة بطهارة كل أرض يحلّ بها ويتّخذها مصلّى لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات وباحات النزل والساحات ومحالّ المسافرين ومنازل الغرباء.
فأيّ مانع من أن يحتاط المسلم في دينه ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها يسجد عليها لدىصلاته حذراً من السجدة على النجاسة والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللَّه قطّ، ولا تجوّز السنّة السجود عليها بعد ذلك التأكيد التامّ البالغ على طهارة أعضاء المصلّي ولباسه، والنهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها، وكأنّ هذه النظرة كانت متّخذة لدى رجال
ص:129
الورع من فقهاء السلف، وأخذاً بهذه الحيطة كان التابعي الفقيه الكبير مسروق بن الأجدع يأخذ معه لبنة يسجد عليها كما مرّ، والذي ربّما يقال بأنّ مسروقاً من الصحابة كما في الإصابة.
هذا هو الأصل الأوّل لدى الشيعة، وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأوّلين، وأمّا الأصل الثاني فإنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضل بين الأراضي بعضها على بعض؛ إذ بالاضافات والنسب تصير للأراضي والأماكن والبقاع خصوصيّة ومزيّة.
ألا ترى أنّ الأماكن والساحات المضافة إلى الحكومات، وبالأخص ما ينسب منها إلى البلاط الملكي، لها شأن خاص؟
فكذلك الأمر بالنسبة إلى الأراضي والأبنية والديار المنسوبة إلى اللَّه تعالى فإنّ لها شؤوناً خاصّة وأحكاماً ولوازم وروابط لا مناص منها، ولابدّ لمن أسلم وجهه للَّه من أن يراعيها ويراقبها، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها.
فبهذا الاعتبار المتسالم عليه اعتبر للكعبة حكمها، وللحرم حكمه، وللمسجدين الشريفين جامع مكة والمدينة حكمهما، وللمساجد العامّة والمعابد في الحرمة والكرامة والتطهير والتنجيس ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء إليها والنهي عن بيعها.
فاتخاذ مكّة المكرمة حرماً آمناً وتوجيه الخلق إليها وحجّهم
ص:130
إيّاها من كلّ فجّ عميق وإيجاب كلّ تلكم النسك فيها، وكذلك عدّ المدينة المنورة حرماً إلهياً محترماً.
فالحكومة العالميّة العامّة القويّة إنّما هي حكومة «ياء النسبة»، وهي التي جعلت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقبّل الصحابي العظيم عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّيه كما جاء عن السيدة عائشة «(1)». وهي التي دعت النبيّصلى الله عليه و آله إلى أن يبكي على ولده الحسين السبط ويقيم كل تلكم المآتم ويأخذ تربة كربلاء ويشمّها ويقبّلها «(2)»، وهي التي جعلت السيّدة امّ المؤمنين تصرّ تربة كربلاء في ثيابها، وهي الّتي سوّغت للصدّيقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهرة وتشمّها، وهي الّتي حكمت على بني ضبّة يوم الجمل أن يجمعوا بعر جمل عائشة ام المؤمنين ويفتّونه ويشمّونه (ذكره الطبري).
وهي الّتي جعلت عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام يأخذ قبضة من تربة
ص:131
كربلاء لمّا حلّ بها فشمّها وبكى حتّى بلّ الأرض بدموعه «(1)»، وهي الّتي جعلت رجل بني أسد يشمّ تربة الحسين ويبكي «(2)».
... فبعد هذا البيان الصافي، يتّضح لدى الباحث النابه الحرّ سرّ فضيلة كربلاء المقدّسة ومبلغ انتسابها إلى اللَّه سبحانه وتعالى ومدى حرمتها وحرمةصاحبها دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى، فما ظنّك بحرمة تربة هي مثوى قتيل اللَّه وقائد جنده الأكبر المتفاني دونه، هي مثوى حبيبه وابن حبيبه والداعي إليه والدالّ عليه والناهض له والباذل دون سبيله أهله ونفسه ونفيسه، والواضع دم مهجته في كفّه تجاه إعلاء كلمته ونشر توحيده وتحكيم معالمه وتوطيد طريقه وسبيله.
لماذا لا يباهي به اللَّه وكيف لا يتحفّظ على دمه لديه، ولا يدع قطرة منه أن تنزل إلى الأرض لمّا رفعه الحسين بيديه إلى السماء؟
(راجع تأريخ ابن عساكر 4: 338، والحافظ الكنجي في الكفاية:
284).
ولماذا لا يبعث اللَّه رسله من الملائكة المقرّبين إلى نبيّه صلى الله عليه و آله بتربة كربلاء؟ ولماذا لا يشمّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقبّلها؟ ولماذا لا يذكرها طيلة حياته؟ ولماذا لا يتّخذها بلسماً في بيته؟
ص:132
فهلمّ معي أيها المسلم الصحيح أفليست السجدة على تربة هذا شأنها لدى التقرّب إلى اللَّه في أوقات الصلاة أولى وأحرى من غيرها ...؟
أليس أجدر بالتقرب إلى اللَّه وأقرب بالزلفى لديه وأنسب بالخضوع والخشوع والعبودية له تعالى أمام حضرته وضعصفحة الوجه والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن اللَّه ومظاهر قدسه ومجلى المحاماة عن ناموسه ناموس الإسلام المقدّس؟
أليس أليق بأسرار السجود على الأرض السجود على تربة فيها سرّ المنعة والعظمة والكبرياء للَّه جلّ جلاله ورموز العبودية والتصاغر بأجلى مظاهرها وسماتها؟
أليس أحقّ بالسجود تربة فيها بينات التوحيد والتفاني دونه؟
أليس الأمثل اتّخاذ المسجد من تربة تفجّرت عليها عيون دماء اصطبغت بصبغة حب اللَّه، وصيغت على سنّة اللَّه وولائه المحض الخالص؟
من تربة عجنت بدم من طهّره الجليل وجعل حبّه أجر الرسالة ...؟
فعلى هذين الأصلين نتّخذ نحن من تربة كربلاء قِطَعاً وأقراصاً نسجد عليها.
ص:133
... وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ... خلاف ما يذهب الجهّال بآرائهم وبهم ... (انتهى كلامه ملخصاً طيّب اللَّه رمسه) «(1)».
وبعد ... فلقد اتّضح بما ذكرنا من الأحاديث كون السجود على التربة الزكيّة مندوباً إليه في سنّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لما تقدّم من أن أئمة أهل البيت عليهم السلام كلّ ما يفتون ويحكمون به، فإنّما هو رواية عن آبائهم عليهم السلام عن الرسولصلى الله عليه و آله، فكلّ ما أفتى به جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام مثلًا، فهو يرويه عن أبيه أبي جعفر محمّد بن عليّ، وهو عن أبيه عليّ بن الحسين وهو عن أبيه الحسين بن علي، وهو عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وقدصرّحوا بذلك بل قالوا: إنّا لا نقول شيئاً برأينا من عند أنفسنا، وكلّ ما نقول مكتوب عندنا بخطّ عليّ أمير المؤمنين عليه السلام وإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
أضف إلى ذلك أنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام هم المرجع الوحيد العلمي للُامّة الإسلامية، وإذا أردت الوقوف على ذلك فعليك بكتاب المراجعات للسيد شرف الدين رضوان اللَّه عليه، وكتب الفضائل ككتاب ينابيع المودّة والفصول المهمة وكفاية الطالب
ص:134
ونور الأبصار وغيرها «(1)».
حينماصدرت هذه الأحاديث الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام، لم يكن السجود على الخمرة أو على التربة الزاكية الحسينية يعدّ شركاً وكفراً وبدعة عند المسلمين؛ إذ كان قد استمر العمل في عصر الرسول صلى الله عليه و آله والصحابة الكرام رضي اللَّه عنهم في السجود على الخمرة، ولمّا كان معروفاً عندهم التبرّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآثاره وآله وذويه (وقد أفردنا ذلك برسالة تنشرها مجلة الهادي) بحيث لا ريب في ذلك عند أيّ من الصحابة والتابعين وقتئذ، والحسين من آله وذويه، بل هو روحه ونفسه وبضعة منه، ولحمه لحمه، ودمه دمه، فكيف يشكّصحابي أو تابعي في فضل الحسين الشهيد عليه السلام وفي التبرّك به وبتربته؟
بل اتّضح من أدلّة تبرّك الصحابة برسول اللَّه وآثاره وآله وأقربائه، أنّ التبرّك بتربته عليه السلام لم يكن مورد شكّ وريب، كيف وقد قال السمهودي في كتابه وفاء الوفا 2: 544: «كانوا (يعني الصحابة وغيرهم) يأخذون من تراب القبر- يعني قبر النبيّصلى الله عليه و آله-
ص:135
فأمرت عائشة فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فسدّت» ومعلوم أنّ منعها لهم لم يكن إلّالأنّ أخذ التراب دائماً يوجب خراب البقعة المباركة، لا لأنّه شرك، لأنّه لو كان لذلك لصرّحت به ولأنكره الصحابة، كيف والآخذ هم فيهم الصحابي وغيره، وطبعاً بمرأى منهم وبمسمع
وفي وفاء الوفا أيضاً 1: 69 عن نزهة الناظرين للبرزنجي:
116 ط مصر في البحث عن حرمة المدينة وحكم إخراج ترابها قال: ويجب على من أخرج شيئاً من ذلك (يعني تراب المدينة) ردّه إلى محلّه، ولا يزول عصيانه إلّابذلك ما دام قادراً عليه. نعم، استثنوا من ذلك ما دعت الحاجة إليه للسفر كآنية من تراب الحرم وما يتداوى به منه، كتراب مصرع حمزة رضى الله عنه للصداع، وتربةصهيب رضى الله عنه لإطباق السلف والخلف على نقل ذلك.
وقد روي أنّ عمر بن الخطاب تبرّك وتوسّل بالعبّاس عمّ النبيّصلى الله عليه و آله في الاستسقاء، وتوسّل عبّاس رحمه اللَّه تعالى بعليّ أمير المؤمنين عليه السلام «(1)»، وتبرك مصعب بن الزبير بالحسين عليه السلام، فإذا كانوا يتبرّكون بآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأقربائه، فيكون التبرّك في السجود وغيره بتربة قبر الحسين عليه السلام من أوضح الواضحات عندهم.
ص:136
وقد روي أنّه قد دفن حمزة في أحد وكان يسمّى سيّد الشهداء، وصاروا يسجدون على تربته «(1)».
وروي أيضاً «(2)» «أنّ فاطمة عليها السلام بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت مسبحتها من خيوط صوف مفتل معقود عليه عدد التّكبيرات، وكانت تديرها بيدها تكبّر وتسبح حتّى قتل حمزة بن عبدالمطلب فاستعملت تربته واستعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلمّا قتل الحسين عليه السلام عدل بالأمر إليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية».
فهل يظنّ بمسلم يتبرّك بشعر الرسولصلى الله عليه و آله وظفره وسؤره وفضل وضوئه وسريره وكأسه ونعله ومسّه ومسحه وأصحابه الذين بايعوه وأقربائه- هل يظنّ به- أن لا يتبرّك بالحسين عليه السلام ودمه وتربته الطاهرة؟؟ حاشا ثمّ حاشا!!!
فثبت ممّا ذكرنا فضل السجود على تربة قبر الحسين عليه السلام لأحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واردة عن طرق أهل البيت عليهم السلام، ولما سنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقرّره، ولما اتّضح من التبرّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآثاره من تراب قبره ولباسه وكلّ شي ء ينتمي إليه وذويه.
هنا أيضاً مصادر جمّة تدلّ على سنّة اللَّه ورسوله في تربة
ص:137
الحسين عليه السلام خصوصاً ...
هذا ... وإنّ من منن اللَّه تعالى على شيعة أهل البيت عليهم السلام (أعني الامامية) أنّهم يتبعون في أقوالهم وأعمالهم سنّة نبيّهم وسيرة أئمتهم عليهم السلام علماً منهم بأنّهم عليهم السلام أحد الثقلين الّذين تركهما رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لا يفترقان أبداً حتّى يردا الحوض، لا يتعدّون ذلك ولا يتخلّفون أبداً، فيحترمون ما يحترمه النبيّصلى الله عليه و آله وعترته ويلتزمون ما التزمه هو وأهله، ويسلكون سبيله القويم وينهجون نهجه المستقيم.
فالشيعي الإمامي يرى أنّ اللَّه تعالى اهتمّ بهذه التربة الشريفة أشدّ اهتمام، واحترمها أجلّ احترام، حيث أرسل رسلًا من الملائكة فجاءوا إلى النبيّصلى الله عليه و آله بقبضة منها، فمن أجل ذلك يحترمها ويأخذها وإن شئت الوقوف على هذه المكرمة فعليك بمراجعة المصادر الآتية وغيرها؛ إذ قد استفاض فيها أنّ جبرئيل عليه السلام لمّا نزل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بخبر قتل الحسين عليه السلام أتى بقبضة من تربة مصرعهصلوات اللَّه عليه، وكذا غير جبرائيل عليه السلام من الملائكة أيضاً لمّا جاء إلى الرسولصلى الله عليه و آله بهذا الخبر المؤلم أتى إليه بقبضة من تربة كربلاء.
فعليك إذاً بمراجعة البحار 44: 229، عن أمالي الشيخ الطوسي رحمه الله، وكامل الزيارة لابن قولويه و 101: 118 و 127
ص:138
و 135، عن الأمالي والكامل والمصباح والمعجم الكبير للطبراني: 144 و 145، وذخائر العقبى: 174، وسير أعلام النبلاء 3: 194 و 195، وكنز العمال 13: 108 و 111 و 112، وتلخيص المستدرك للذهبي 4: 176 و 398، والخصائص للسيوطي 2:
125، والمناقب للمغازلي: 314، ومنتخب العمال 5: 110 و 111، ومفتاح النجاة: 134 و 135، ووسيلة المآل: 182، والعقد الفريد 2: 219، وميزان الاعتدال 1: 8، وتأريخ الرقة: 75، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 154، ونور الأبصار: 116، ومجمع الزوائد للهيثمي 9: 188 و 189 و 191، والغنية لطالبي طريق الحق 2:
56، ومقتل الحسين للخوارزمي 1: 158 و 159، والنهاية لابن الأثير 6: 230، والصواعق المحرقة: 190 و 191، والينابيع: 318 و 319، ومسند أحمد 6: 294، وتأريخ الإسلام للذهبي 3: 10، وطرح التثريب 1: 41، وأخبار الحبائك للسيوطي: 44، والمطالب العالية والمستدرك للحاكم 3: 176، والبداية والنهاية 6: 230، وأخبار الدول: 107، والفتح الكبير للنبهاني 1: 22، وتأريخ الإسلام للدمشقي 3: 11.
وهذه المصادر أخذناها عن هامش إحقاق الحق 11: 339 و 416 و 8: 142-/ 151، والبيان للعلّامة الخوئي: 561 عن أبي يعلى في مسنده، وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه عن
ص:139
مسند علي، والطبراني في الكبير عن امّ سلمة، ولم نأت بألفاظها لطولها وخروجها عن شرط الرسالة، فمن أراد فليراجع المصادر المذكورة أو هامش الإحقاق.
فيرى الشيعي الإمامي أنّ تربة أهداها الجليل إلى رسوله الأقدس صلى الله عليه و آله هديّة غالية عالية ثمينة لجديرة بأن يحترمها ويكرمها اتّباعاً لسنّة اللَّه تعالى.
ويرى الشيعي أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله لمّا تسلمها من جبرائيل عليه السلام قبّلها فيقبّلها. قالت امّ سلمة امّ المؤمنين رضي اللَّه عنها: «ثمّ اضطجع- رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبّلها، فقلت: ما هذه التربة يارسول اللَّه؟ قال: أخبرني جبرائيل أنّ إبني هذا يقتل بأرض العراق- يعني الحسين عليه السلام- فقلت لجبرائيل: أرني تربة الأرض الّتي يقتل بها فهذه تربتها» «(1)».
فالشيعة يقبّلونها عملًا بسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في التربة الشريفة في تقبيلها وتكريمها كما أنّهم يدّخرونها ويحتفظون بها تأسّياً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث يرون أنّهصلى الله عليه و آله يجعلها في قارورة ويعطيها امّ
ص:140
سلمة ويأمرها بحفظها قائلًا:
«هذه التربة التي يقتل عليها- يعني الحسين عليه السلام- ضعيها عندك، فإذاصارت دماً فقد قتل حبيبي- الحسين عليه السلام-» «(1)».
ويرى الشيعة أنّ الرسول صلى الله عليه و آله يشمّ التربة كما يشمّ الرياحين العطرة والمسك الطيب «(2)»، فيعتقد أنّ شمها قبل أن يهراق فيها دم
ص:141
الحبيب ابن الحبيب إنّما هو لعطور معنوية وعلاقات ربّانية وعناية إلهية بالنسبة إليها إمّا في نفسها، أو لما مضى عليها، أو لما يأتي في مستقبلها، فعمل الرسول صلى الله عليه و آله يوجد لكلّ مسلم حالة خاصة بالنسبة إليها، فلتسمّها أنت بما شئت من العناوين، ولعلّه صلى الله عليه و آله يشمّ منها ما يأتي عليها من الحوادث المؤلمة على أهل البيت عليهم السلام من إهراق دمائهم وسلب أموالهم وضرب متونهم وأسرهم، ولعلّه يشمّ منها ما يأتي عليها من اختلاف أولياء اللَّه إليها وسكونهم وعبادتهم ومناجاتهم وبكائهم فيها، ولعلّ ولعلّ ... ولمّا شمّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يملك عينيه أن فاضتا. قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «دخلت على النبيصلى الله عليه و آله ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يانبيّ اللَّه أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان؟! قال: بل قام عندي جبرائيل قبل فحدّثني أنّ الحسين يقتل بشطّ الفرات قال:
فقال: هل أشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا» «(1)».
ص:142
فالشيعة يقبّلونها كما قبّلها النبي الكريم صلى الله عليه و آله، ويشمّونها كما شمّها كأغلى العطور وأثمنها، ويدّخرونها كما ادّخرها، ويسكبون عليها الدموع كما سكب عليها دمعه اقتفاءً لأثرهصلى الله عليه و آله واتّباعاً لسنّة اللَّه وسنّة رسوله، ولكلّ مسلم في رسول اللَّهصلى الله عليه و آله اسوة حسنة، واهاً لها من تربة سكب عليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دمعه قبل أن يهراق فيها دم مهجته وحبيبه.
بل نقل أنّ علياً أمير المؤمنين عليه السلام لمّا نزل كربلاء في مسيره إلى صفّين، وقف هناك ونظر إلى مصارع أهله وذريّته وشيعته ومسفك دماء مهجته وثمرة قلبه، وأخذ من تربتها وشمّها قائلًا: «واهاً لك أيّتها التربة، ليحشرنّ منك أقوام يدخلون الجنّة بغير حساب وقال: طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبّة» «(1)».
وفي بعض تلكم الأحاديث أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لمّا شمّها وأهرق عليها دمعه الساكب قال: «طوبى لك من تربة»، وفي بعضها: «وهو يفوح كالمسك» و «كانت تربة حمراء طيّبة الريح» «(2)».
ص:143
أضف إلى ذلك كلّه ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من الاهتمام بهذه التربة الطيّبة الزاكية في النصوص الصحيحة الكثيرة في التبرّك بها في تحنيك الأطفال «(1)» وتقبيلها ووضعها على العين وإمرارها على سائر الجسد «(2)» والاستشفاء والتداوي بها «(3)». وفي حديث عن امّ أيمن عن النبيّ صلى الله عليه و آله في بيان فضل تربة الحسين عليه السلام:
«هي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة وإنّها لمن بطحاء
ص:144
الجنّة» «(1)» وكذا الأخبار الواردة في فضلها «(2)».
فبعدما قدمناه يتّضح أنّ تفضيل الشيعة السجود على التربة الحسينية على سائر ما يصحّ السجود عليه، إنّما هو لاحترام ما احترمه اللَّه تعالى وتكريم ما أكرمه، وهو إلزام بما سنّه اللَّه سبحانه ورسوله، لما نقل عن أهل البيت عليهم السلام من تعظيمها وتكريمها والسجود عليها وأخذ السبحة منها. والحمد للَّه رب العالمين.
ص:145
أشكر شكراً متواصلًاصديقي الكريم العالم الفاضل المتتبّع المحقّق العلّامة السيد جعفر مرتضى اللبناني العاملي حيث رغّبني وشوّقني وآزرني وأعانني على عمل هذه الوجيزة المتواضعة بجدّه وجهده في تكثير المصادر وترسيم المطالب وتهيئة المواد والإرشاد، وبعد ذلك كلّه في التصحيح والتنظيم، فجزاه اللَّه عن الاسلام وأهله خير الجزاء، ومتّعنا بوجوده وجوده، إنّه سميع مجيب.
علي الأحمدي