الزياره و التوسل‌

اشارة

‏سرشناسه : عبدالحميد، صائب
‏عنوان و نام پديدآور : الزياره و التوسل/ صائب عبدالحميد
‏مشخصات نشر : قم: مركز الرساله، ۱۴۲۱ق. = ۱۳۷۹.
‏مشخصات ظاهري : ص ۱۶۰
‏فروست : (سلسله المعارف الاسلاميه‌۳۸)
‏شابك : 964-319-238-5۱۸۰۰ريال ؛ 964-319-238-5۱۸۰۰ريال
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : عربي
‏يادداشت : كتابنامه به‌صورت زيرنويس
‏موضوع : زيارت
‏موضوع : توسل
‏شناسه افزوده : مركز الرساله
‏رده بندي كنگره : BP۲۶۲/ع‌۲ز۹
‏رده بندي ديويي : ۲۹۷/۷۶
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۷۹-۱۶۶۳۶

مقدمة المركز

الحمد لله رب العالمين.. وصلي الله علي سيدنا محمد وآله الطاهرين.. وبعد.. إن زيارة قبر النبي الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم وقبور الأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام والأولياء والصالحين من هذه الأمة، وشد الرحال إليها، والتوسل والاستشفاع بهم، تعد من ربات التي ندب الشرع إليها، وقررتها السيرة العملية للرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأكدت النصوص الإسلامية عند سائر فرق الأمة علي شرعيتها وثبوتها، ومارسها المسلمون منذ عهد الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والصحابة الأولين فالتابعين لهم بإحسان ثم في أدوارهم المتتابعة إلي يومنا هذا. وليست الزيارة حالة من حالات التعامل الجامد مع أكوام الحجارة والتراب، كما يصفها البعض، وإنما هي صيغة واعية تمارسها الأمة لتعبر عن عمق ارتباطها بخط الأولياء، وتنطوي علي تأصيل حالة الولاء والحب لرموز مسيرتها، وتستبطن مزيدا من العطاءات العقائدية والتاريخية والتربوية التي تشد الأمة إلي عقيدتها وتاريخها وقادتها الرساليين. فمن معطياتها العقائدية أنها تمثل حالة من حالات الانشداد إلي الله سبحانه، ذلك لان الزائر إنما ينوي في زيارته التقرب إلي الله تعالي، ويشتغل ضمن الآداب المسنونة في الزيارة بالصلاة والدعاء والتضرع والتوسل وقراءة القرآن وغيرها من الأوراد والآداب التي تعكس حالات الاذعان إلي الإرادة الإلهية القاهرة، و إخلاص العبودية للواحد الحق، [ صفحه 6] فضلا عن أن نصوص الزيارات والأدعية الخاصة بالزيارة، تمثل مدرسة تلقن المسلمين أصول العقيدة الاسلامية والانفتاح علي جميع مفرداتها ومضامينها. ثم إن من القبور ما يمثل معلما من معالم الرسالة وشاهدا من شواهد التاريخ، فزيارة قبر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم تعمق علاقة الزائر الروحية بالرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وتعزز فهمه لأبعاد شخصيته و مكارم أخلاقه و إخلاصه لله، و دوره في تبليغ الرسالة و تجسيد معانيها، وتفتح ذاكرته علي تاريخ الرسالة بكل ما يزخر به من أحداث تعود بوعيه إلي الأصالة التاريخية في مسيرة الأمة وما فيها من دروس وعبر. ومن معطياتها التربوية أنها تبعث في نفس الزائر حالة التذكير باليوم الآخر حيث يستحضر في وعيه حتمية الموت والموقف بين يدي الله تعالي، فيمتلئ وجدانه ومشاعره بفيض من قيم الخير والفضيلة والصلاح، ويندفع باتجاه تنمية نزعات نفسه الخيرة وردعها عن سبيل الغي وترويضها علي طلب الخير. ومن معطياتها الجهادية والسياسية استلهام مواقف الجهاد الفاعلة في تاريخ الإسلام، والتعاطي مع قيم الشجاعة والبطولة، والادانة للسياسات الظالمة في تاريخ الأمة، والحفاظ علي ديمومة العطاء الثوري لدماء الشهداء. من هنا فقد أقدم مركزنا علي نشر هذه الدراسة المستوفية والموجزة لتسهم في تعزيز أدلة الزيارة والتوسل في ضمير الأمة، والتحقق من كونها سنة ثابتة علي طول المسيرة التاريخية، مع ما توفرت عليه من مناقشة علمية جادة لما أثير حولها من شبهات لتكون دافعا يشد الأمة بقدوتها ويربطها بتاريخها المشرق ورسالتها الخالدة. والله سبحانه من وراء القصد وهو المسدد للصواب.. مركز الرسالة [ صفحه 7]

المقدمة

في مرافئ الحياة، كل مرافئها، أقامت الشريعة السمحة مآذن تحث علي خير العمل، ومنابر للدرس والارشاد، ومشاعل تنير الجوانب والمداخل وبين النواحي والأطراف.. ذلك هو شأن الشريعة، وسبيلها إلي مقاصدها في إحياء الأنفس، ولم شتات المجتمعات، وإعمار الأرض، وتسوية الطريق إلي أحسن العواقب بعد الموت، وبعد فناء الدنيا.. وليست تعرف الشريعة فيصلا بين عبادة المرء ربه، وبين ممارساته شؤونه الخاصة والعامة، فردا له كيانه الخاص، وعضوا في أسرة وفي مجتمع. فليس في الشريعة شيء من العبادات أو القربات من شأنه أن ينعزل بالمرء عن تلك المقاصد والسبل.. ليس فيها خرافة يهوم بها الانسان بعيدا عن واقعه كعضو في مجتمع، وكفرد سائر إلي غاية هي مصيره الأبدي.. ليس فيها ما يحنط مشاعره، ويجمد أحاسيسه، ويميت خلقه.. وكل ما انتهي بالمرء إلي نتائج خطيرة كهذه فهو ليس من الشريعة في شيء، وإن اتخذ له من بعض أحكامها عنوانا.. و زيارة القبور لا تشذ عن هذه القواعد العامة ولا يخرج عن إطارها، ومثلها [ صفحه 8] التوسل بالأنبياء والصالحين، فإذا كانت الشريعة قد أباحت ذلك، أو حثت عليه، كما ستثبت مباحث هذا الكتاب، فإنه داخل في إطارها، جار علي مسارها، باتجاه أغراضها ومقاصدها. ولما كان للشريعة مسارها، فهي كلما شرعت فعلا، أو أقرته، رسمت له حدودا، ووضعت له آدابا، بها فقط ينضبط هذا الفعل في مسارها، وسيخرج عن هذا المسار بقدر خروجه عن تلك الحدود والآداب.. كما ستنتزع من الفعل شرعيته إذ ما استبطن غايات أخري خارجة عن أهداف الشريعة ومقاصدها. وقليل من الناس هم الذين يستحضرون غايات العبادات وأهدافها الكبري التي تتجاوز حدود الطاعة المتمثلة بالأداء الصحيح لها الملتزم بأحكامها وآدابها، فكم من بين مئات الألوف من الحجيج الذين يؤدون كل عام فريضة الحج، يستحضر وهو يؤدي مناسكه ما في كل واحدة من هذه المناسك من دروس تربوية وأهداف دينية واجتماعية كبيرة ؟ بل كم من هؤلاء من ينظر إلي الوراء، إذا غاب عنه النظر إلي أمام، ليستحضر المواقف التاريخية الكبيرة التي امتزجت بهذه المناسك منذ تشريعها ؟ والظاهرة ذاتها قريبة جدا في شأن زيارة القبور، قبور الأنبياء والأئمة الأطهار وكبار الصالحين كانت، أم عموم المقابر، فالزيارة وإن كانت بذاتها ذات أثر شرعي، وأن قصدها لوحدها لا يحبط العمل، بل لا يحرم صاحبه الأجر والثواب، فإن الصحيح أن الشريعة لم تشرع الزيارة لذاتها، بل لعوائد كثيرة تعود علي الميت، كما تعود علي الحي، وأن من يفقه هذا لهو أفضل بكثير من الطراز الأول، مع فرض تساويهما في صدق النية وحسن الالتزام بأحكام الشريعة وآدابها. [ صفحه 9] فكم هو شاسع الفرق بين أن يقف المرء عند قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بسكون وهيبة وخشوع، يصلي ويسلم عليه وعلي آله بأكمل الصلوات والتحيات، ويرتل المشروع من الدعاء، عارفا بمقام النبي الكريم، مستحضرا عظمته وعظمة ما أداه من أثر في إحياء بني الانسان، مجددا معه عهد الاقتداء بسلوكه العظيم.. وبين أن تغيب عنه كل هذه المعاني الجليلة. فلا بد إذن من فقه بالعبادات، فقه بأحكام الشريعة كلها، الفقه الكافي في المحافظة علي صورتها، كأقرب ما تكون إلي الكمال.. ولابد إلي جانب هذا الفقه من وعي بأبعاد هذه الأحكام وأهدافها ومقاصدها العامة التي لاجلها بالدرجة الأولي شرعت، أو التي ستنعكس عنها. ومن بين هذه الأهداف المقصودة من وراء الزيارة تركيز ضرورة الاقتداء بهؤلاء العظماء، وتجديد العهد معهم، وتعضيد المعرفة بحقوقهم، ولا شك في أن هذا الهدف مقصود لوحده في الشريعة، وقد أمرت به وحثت عليه، وجعلت له أبوابا ومداخل كثيرة، وهذه واحدة من تلك الأبواب والمداخل، بل لعلها من أهمها، لما تزرعه في الزائر من شعور بالقرب الأكيد من النبي أو الامام المزور. والأمة إنما تحيا بأسباب، ومن أهم أسباب حياتها هو تمجيدها عظمائها، وإحيائها ذكرهم، الامر الذي سيجعلهم أحياء فيها علي الدوام، وإن بعدت بهم القرون. وبهذا الفقه والوعي يندفع الضجيج الذي يثيره البعض حول مشروعية الزيارة، بحجة ما يصدر من كثير من الزائرين من أخطاء تمتزج بأعمالهم في الزيارة، فإذا كانت هذه الأخطاء يجب تجنبها، وهو كذلك، فإنها أيضا لا تكون [ صفحه 10] بحال من الأحوال ذريعة إلي تحريم عمل مشروع، كللته الشريعة بأغراض سامية، ووعدت أصحابه بجزيل الثواب إذا ما حفظوا حدوده وآدابه.. وما يقال في الزيارة يقال في التوسل والاستشفاع. ومن هنا تأتي أهمية الكتابة في موضوع كهذا.. فهو موضوع تتعدد فيه أطراف الحوار والجدل، بين الفعل و مشروعيته، و بين فضائله و أهدافه وعوائده، وبين حدود وآداب عرفتها الشريعة ينبغي تجديد الارشاد إليها والتذكير بها، وبين شبهات علقت بأذهان البعض، لسبب أو لآخر، فحاولوا قطع السبيل إلي عمل مشروع، وتشويه صورته، عن خطأ في الفهم أحيانا وعن تقليد وإصرار واتباع للهوي أحيانا أخري.. وقد نهض هذا الكتاب بذلك كله في أوجز عبارة وأركزها.. وقد جاء في قسمين: تناول الأول منهما مباحث الزيارة في أربعة فصول. وتناول الثاني مباحث التوسل في مدخل وفصلين. آملين أن يحقق أغراضه التي من أجلها كتب. والله من وراء القصد وهو الهادي إلي سواء السبيل. [ صفحه 13]

الزيارة وأدلتها

الزيارة - مشروعيتها - أهدافها - فضيلتها الزيارة لغة واصطلاحا

اشاره

الزيارة، من الزور، والزور: أعلي الصدر. وزرت فلانا: تلقيته بزوري، أي بصدري.. أو قصدت زوره، أي صدره. وزاره يزوره زورا، وزيارة، وزوارة: عاده.. وزار فلان فلانا: مال إليه. والزورة: المرة الواحدة. ورجل زائر، وامرأة زائرة، من قوم زور، وزوار، وزور. والأخيرة اسم للجمع. والزور: الذي يزورك، يقال: رجل زور، وقوم زور، وامرأة زور، ونساء زور، يكون للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد لأنه مصدر.. وفي الحديث: إن لزورك عليك حقا. وقد تزاوروا: زار بعضهم بعضهم. والتزوير: كرامة الزائر، وإكرام المزور للزائر.. يقال: زوروا فلانا: أي [ صفحه 14] أكرموه.. وقد زور القوم صاحبهم تزويرا، إذا أحسنوا إليه. وأزاره: حمله علي الزيارة. واستزاره: سأله أن يزوره [1] . وتطلق الزيارة ويراد بها، عندما يبحث عن حكمها، زيارة القبور غالبا.

الزيارة في التشريع

في القرآن الكريم

إذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصا بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها: 1 - في قوله تعالي في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله: (إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا علي أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) [2] . قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا علي أمرهم هم المسلمون، وهذا يدل علي أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور. وهذا هو الراجح عند أهل التفسير علي قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون علي أمر من عداهم. قالوا: الأول أولي [3] بل قال بعضهم [ صفحه 15] إن الملك الذي عثر عليهم كان مؤمنا [4] . وأيا كان القائل فالمسجد إنما يتخذ ليؤتي علي الدوام، ينتابه الناس، سواء المعاصرون منهم لقصته أو الأجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزارا يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجدا يذكرون اسم الله فيه. ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الأسبق تاريخا في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الأولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم. 2 - قوله تعالي في النهي عن القيام عند قبور المنافقين (ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره) [5] . لا خلاف في أن المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة علي الميت، يدل عليه السياق وسبب النزول، أما موضع الاستدلال لدينا علي المطلوب فهو قوله تعالي: (ولا تقم علي قبره) فقد ذهب كثير من المفسرين إلي أن المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلي عموم الأوقات. قال البيضاوي، والآلوسي، والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة [6] . فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات علي الكفر، كما هو في ذيل الآية [ صفحه 16] نفسها (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) ففيه دلالة واضحة علي أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات علي الاسلام. إذن ففي هذه الآية أيضا دلالة علي مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي قبر الميت بعد دفنه. 3 - قوله تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [7] . جاء في أسباب النزول أن الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة والذين ارتضوا التحاكم إلي الطاغوت فرارا من التحاكم إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فلو أنهم جاءوا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم علي ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم. وقيل: إنها نزلت في قوم من المنافقين، قال الحسن: اثني عشر رجلا اجتمعوا علي أمر مكيدة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ثم دخلوا عليه لذلك الغرض، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلي الله عليه وآله وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه، فليقوموا وليستغفروا الله حتي استغفر لهم فلم يقوموا، فقال: ألا تقومون ؟ فلم يفعلوا، فقال صلي الله عليه وآله وسلم: قم يا فلان، قم يا فلان، حتي عد اثني عشر رجلا، فقاموا وقالوا: كنا عزمنا علي ما قلت، ونحن نتوب إلي الله من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا. فقال: الآن أخرجوا عني، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة، وكان الله أسرع إلي الإجابة [8] . [ صفحه 17] فهذا ما كان في حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، يأتيه المذنب، فيستغفر، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلي الله عليه وآله وسلم، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لان إجلال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول) [9] حيث مضت سيرة المسلمين علي وجوب العمل بها عند قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، والأثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية علي الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم. ومثل ذلك ورد في الأثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، في عهد الصحابة وبعده، سنورد أمثلة منها في المباحث اللاحقة، ونكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في رده علي أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أستقبل القبلة وأدعوا، أم استقبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي الله تعالي يوم القيامة ؟ ! بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله تعالي، قال الله تعالي: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [10] وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد [ صفحه 18] استنكر علي أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قائلا: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالي أدب قوما فقال: ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) الآية... وذم قوما فقال: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) الآية... وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. وعلي هذا قال السبكي: دلت الآية علي الحث علي المجيء إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيما له. قال: والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتي قبره صلي الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالي. وحكاية العتبي - وهو من مشايخ الشافعي - مشهورة، وقد شهد أعرابيا جاء إلي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فتلي هذه الآية واستغفر وانصرف.. وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله [11] .

في السنة النبوية

في هذا المبحث فقرتان: الأولي: في اثبات مشروعية الزيارة في السنة النبوية. [ صفحه 19] والثانية: ممارسة النبي صلي الله عليه وآله وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلي الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة، فقد تكفل بها الفصل الثاني من هذا الكتاب. يلاحظ أن زيارة القبور بشكل عام مرت في عهد الرسالة بثلاث مراحل [12] : مرحلة الإباحة استمرارا لما كان عليه أهل الشرائع السابقة، كما أشارت إليه آية سورة الكهف، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهاية لهذه المرحلة، وتبتدئ المرحلة الثانية، وهي مرحلة المنع من الزيارة، وكان هذا المنع معللا كما سيأتي في الحديث النبوي، وأخيرا مرحلة الإباحة وتجديد العمل بها وفق الآداب التي أقرها الاسلام. هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلي الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي، وغيرهم [13] . وهو واضح في أن المسلمين كانوا يزورون القبور، ثم نهاهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن زيارتها، ثم أذن لهم بعد ذلك بالزيارة. وفي رواية ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ما يتضمن علة النهي أو بعضها، ففيها أنه صلي الله عليه وآله وسلم قال: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرا [14] . [ صفحه 20] والهجر - بضم الهاء - الكلام القبيح الذي ينبغي هجره لقبحه. قال الراغب الأصفهاني: الهجر، الكلام القبيح المهجور لقبحه، وفي الحديث: ولا تقولوا هجرا.. وأهجر فلان، إذا أتي بهجر من الكلام عن قصد.. وهجر المريض، إذا أتي ذلك من غير قصد [15] . وفي لسان العرب: الهجر، القبيح من الكلام، والهذيان.. والهجر الاسم من الاهجار، وهو الافحاش، وكذلك إذا أكثر الكلام في ما لا ينبغي.. وفي التنزيل العزيز: (مستكبرين به سامرا تهجرون) أي تقولون القبيح. وقرئ (تهجرون) أي تهذون. ثم قال: وأما قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرا فإن أبا عبيد ذكر عن الكسائي والأصمعي أنهما قالا: الهجر الافحاش في المنطق، والخنا.. ومعني الحديث: لا تقولوا فحشا [16] . وفيه دلالة علي أن الناس كانوا عند زيارة القبور يقولون ما لا ينبغي من الكلام، فأباح النبي صلي الله عليه وآله وسلم الزيارة، وحرم الهجر من الكلام. يؤيده ويزيده وضوحا وتحديدا قوله صلي الله عليه وآله وسلم: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا ما يسخط الرب [17] . فهي رواية تفسر الهجر بما يسخط الرب. وقد تكون رواية بالمعني للحديث الأول نفسه. وحديث آخر في هذا السياق جاء فيه: من أراد أن يزور قبرا [ صفحه 21] فليزره، ولا يقول إلا خيرا، فإن الميت يتأذي مما يتأذي منه الحي [18] . ومن حديث بريدة: كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلي المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية [19] . وهكذا يؤسس الاسلام لأدب الزيارة، لاغيا ما كان متعارفا في عادات الجاهلية. وبعد ذلك كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يزور القبور بنفسه، ويعلم المسلمين ماذا يقولون عند زيارتها، فاصلا بين ما ينبغي وبين ما لا ينبغي من القول.

النبي و سلم يزور القبور

1 - أخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، والحاكم، والبغوي حديث بريدة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة [20] . قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد، وابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة، [ صفحه 22] وأم سلمة. وحديث بريدة حديث حسن صحيح [21] ولكلام الترمذي تتمة تأتي في محلها. وفي قوله صلي الله عليه وآله وسلم: أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ثم حثه علي زيارة القبور، دليل صريح علي جواز قصد قبر معين بالزيارة. 2 - أخرج الحاكم عن بريدة، قال: زار النبي صلي الله عليه وآله وسلم قبر أمه في ألف مقنع، فلم ير باكيا أكثر من يومئذ [22] . قال الذهبي: صحيح علي شرطهما - أي البخاري ومسلم -. ومثله عن أبي هريرة: زار النبي صلي الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكي وأبكي من حوله [23] . 3 - من حديث طلحة بن عبيد الله، قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء حتي إذا أشرفنا علي حرة واقم، فلما تدلينا منها وإذا قبور ممحية، قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه ؟ قال: قبور أصحابنا فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا. الحديث رواه أبو داود في (السنن) [24] وفيه دلالة صريحة علي الخروج بقصد زيارة قبور بعينها، لمنزلة اختصت بها، وليس لأجل التذكير بالآخرة فقط، وإلا لكانت الزيارة لأقرب المقابر في المدينة وافية بالغرض، أو لوقف صلي الله عليه وآله وسلم عند القبور الأولي التي قال فيها قبور أصحابنا، والحديث كله صريح بأن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان قاصدا زيارة قبور الشهداء، وراء حرة واقم، وهي في طرف [ صفحه 23] المدينة الشرقي. وحرة واقم هذه هي التي حصلت فيها وقعة الحرة سنة 62 ه، بين أهل المدينة المنورة وكلهم من الصحابة وأبنائهم، وبين جيش الحاكم الفاجر يزيد بن معاوية. 4 - ثبت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه كان يخرج مرارا إلي البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك، أخرج مسلم من حديث عائشة، أنها قالت: كلما كان ليلتها من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلي البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. الحديث [25] . 5 - أخرج ابن أبي شيبة: أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأحد علي رأس كل حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبي الدار [26] . 6 - وفاطمة في حياة أبيها: ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء البتول عليها السلام انها كانت في حياة أبيها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تخرج في كل جمعة لزيارة قبر عمها حمزة بن عبد المطلب، فتصلي وتبكي عنده. أخرجه البيهقي، والحاكم [27] ، وقال الحاكم معقبا علي الحديث: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات، وقد استقصيت في الحث علي زيارة القبور تحريا للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنة مسنونة، وصلي الله علي محمد وآله أجمعين [28] . [ صفحه 24]

اهداف الزيارة

ماذا يجد الزائر في سريرته وهو يزور القبور، أو يتوجه لزيارتها ؟ ! ما هي الدوافع التي تحركه صوب هذا الفعل ؟ وعلي نحو أكثر تحديدا، هل عرف التشريع شيئا من الأهداف التي يرجي تحققها من خلال زيارة القبور، أو زيارة قبر بعينه ؟ هذا بدوره إن وجد سيكشف عن فضائل الزيارة وما يرتجي منها من ثمرات في دنيا المرء وأخراه. إن كل الأهداف المتعلقة بالزيارة هي مستفادة بشكل مباشر من السنة النبوية المطهرة، ومن ذلك يمكن أن نجمل هذه الأهداف بما يلي: 1 - الخشوع وتذكر الموت والآخرة، وهذه أهداف لا غني لمؤمن عنها، ومهما كان عليه أن يستحضرها في كثير من أوقاته، غير أن أشياء بعينها ذات أثر مباشر في استحضار هذه المعاني، ستكون لها أهميتها الكبيرة بحسب مقدار ما تحققه من ذلك.. ولا شك في أن الوقوف بين القبور بتأمل، أو عند قبر خاص، له أكبر الأثر في إحياء تلك المعاني في القلوب، وعلي نحو ربما لا يضاهيه فيه فعل آخر، إلا تشييع جنازة ميت والوقوف عنده ساعة دفنه. وفي تحقق هذه المعاني من وراء الزيارة جاء حديث نبوي كثير، منه: - قوله صلي الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور، فمن شاء أن يزور قبرا فليزره، فإنه يرق القلب، ويدمع العين، ويذكر الآخرة.. ولا تقولوا هجرا. أخرجه أحمد والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي [29] . [ صفحه 25] - قوله صلي الله عليه وآله وسلم: فزوروا القبور فإنها تذكر - أو تذكركم - الموت. أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم [30] . - وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: زر القبور تذكر بها الآخرة. صححه الحاكم في المستدرك [31] . - وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن فيها عبرة. أخرجه أحمد والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي [32] . - قوله صلي الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة. أخرجه ابن ماجة [33] . 2 - الدعاء للميت: هذا السلوك الأخلاقي الرفيع، الذي يحفظ كرامة المسلم في مجتمعه حتي بعد موته، ويربي في المسلمين روح الإخاء والحب والمودة وأداء حقوق الآخرين التي لا تنقطع برحيلهم من الدنيا، لهو واحد من الجوانب التربوية والاجتماعية الراقية التي تميز بها نظام الأخلاق في الاسلام. ويشغل الدعاء للموتي عند زيارتهم المساحة الأكبر في أدب الزيارة، [ صفحه 26] كما هو ملاحظ في النصوص المأثورة في زيارة القبور. - فكثيرا ما كان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم يقف عند قبور المسلمين فيقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويأمر أصحابه بذلك متي مروا بالقبور أو قصدوها بالزيارة [34] . - وقال صلي الله عليه وآله وسلم مؤكدا هذا المعني: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، واجعلوا زيارتكم لها صلاة عليهم واستغفارا لهم [35] . - وكثيرا ما جمع صلي الله عليه وآله وسلم بين الهدفين: السلام علي الميت، والعبرة، ومنه قوله المشهور والوجيز المذكور أولا في هذه الفقرة: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. - ومنه قوله صلي الله عليه وآله وسلم: ألا فزوروا إخوانكم، وسلموا عليهم، فإن فيها عبرة [36] . - وفي المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام الجمع بين الغرضين، فقد كان عليه السلام إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات.. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم.. الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، والحمد لله الذي منها خلقنا.. وإليها معادنا، وعليها يحشرنا.. طوبي لمن ذكر المعاد، وعمل [ صفحه 27] الحسنات، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عز وجل [37] . 3 - أداء حقوق الموتي: وهذا ما نلحظه بوضوح في فحوي الخطاب في الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر: ألا فزوروا إخوانكم، وسلموا عليهم ففيه إشارة في غاية الوضوح إلي أن لإخواننا الموتي حقوقا علينا، ينبغي علينا أداؤها بزيارتهم والتسليم عليهم، ولمزيد من الترغيب في ذلك يذكرنا النبي صلي الله عليه وآله وسلم بأن ذلك سيعود علينا أيضا بالنفع الكبير: فإن فيها عبرة. ولا شك في أن لبعض الموتي حقوقا خاصة علي البعض، تتأكد معها الزيارة، وكلما تعاظمت الحقوق أصبح لهذه الزيارة شأن أكبر ومرتبة أرفع.. ولا شك في أن للنبي صلي الله عليه وآله وسلم علي أبناء أمته أثبت الحقوق وأعظمها، الامر الذي يجعل قصد أحدهم زيارته صلي الله عليه وآله وسلم من القربات المهمة في حياته. وهذا ما أكده حديث أهل البيت عليهم السلام في هذا الشأن: فعن الإمام الرضا عليه السلام: إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء، زيارة قبورهم.. الحديث [38] . 4 - قصد القربي والثواب: القربي والثواب، المترتبان قطعا، مع خلوص النية وصحة الفعل، علي الزيارة التي يؤديها المسلم تحت أي واحد من العناوين المتقدمة، قد يكون هو الآخر بنفسه غرضا للزيارة وعنوانا لها، فيقصد المسلم التقرب إلي الله تعالي ونيل الثواب بزيارة قبور المؤمنين، أو قبر واحد بعينه. وذلك لما انطوت عليه الزيارة من فضائل ومستحبات لا تنفصل عنها. [ صفحه 28] فالزيارة وإن كانت بقصد القربي فإن مقاصدها الرئيسية الثلاثة متحققة فيها علي أي حال، من العبرة، والدعاء للميت، وأداء حقه. أما زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين فهي من القربات الأكيدة، كما ستأتي في ذلك الأحاديث الشريفة وكلمات الاعلام من علماء المسلمين. وفي (شفاء السقام) جعل الزيارة من حيث مقاصد الزائرين أربعة أقسام، فذكر الثلاثة الأولي التي استفدناها نحن من الحديث الشريف مباشرة، ثم جعل الرابع: التبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.. وقال: مقصودنا أن زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة، وقد صرح به [39] .

فضل الزيارة و عوائدها علي الزائر والمزور

هكذا تعود الزيارة بفضائل جمة علي الفرد الزائر، وعلي المجتمع الذي تسود فيه هذه القربة، من خلال تحقيق فرصة لا غني عنها في احياء القلوب بذكر الله تعالي، وبذكر الموت والآخرة، وعلي مستوي قد لا يحققه شيء آخر إلا نادرا.. وفي هذا المعني جاء حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه [40] . وتحقق، من ناحية أخري، روح احترام حقوق المؤمنين، بعضهم لبعض، [ صفحه 29] أحياء وأمواتا، وأدائها. ولهذا ما لا يخفي من الآثار الايجابية علي الفرد والمجتمع. ومن ناحية ثالثة فإن زيارة الأنبياء والأئمة والصالحين تزيد وتعمق أواصر الارتباط بهم، وتجدد في النفوس روح الاقتداء بهم، وإحياء آثارهم الجليلة علي الانسانية، وأعمالهم الصالحة، ومكارم أخلاقهم.. وقد لا ينهض أي عمل آخر بما تنهض به الزيارة من تقوية شعور الزائر بقربه من المزور، وما يوفره ذلك من مقدمات الاقتداء التام، وإحياء الذكر علي الدوام. ومن ناحية رابعة فإن تعهد أضرحة الأنبياء والصالحين بالزيارة سيضمن الاعتناء بهذه الأضرحة وعمارتها، وبالإضافة إلي ما يحققه ذلك من ذكري في القلوب، فإنه يعد علامة واضحة علي حياة الأمة وعمق اتصالها بقادتها الذين بذلوا حياتهم في صناعة مجدها وماضيها، وهذه من المعالم الحضارية المهمة التي تعني بها سائر الأمم. هذا غير الثواب الجزيل الذي يعود علي الزائر من زيارته التي يرعي فيها السنن والآداب التي وضعها الاسلام لهذه القربة: عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: من مر علي المقابر فقرأ قل هو الله أحد إحدي عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الاجر بعدد الأموات [41] . وعنه صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبر أبويه أو أحدهما كل جمعة غفر له [42] . وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنه قال: من دخل المقابر، فقال: اللهم رب هذه الأجساد البالية، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك [ صفحه 30] مؤمنة، أدخل بها روحا من عندك وسلاما مني استغفر له كل مؤمن مات منذ خلق الله آدم. وعن ابن أبي الدنيا أنه من قال ذلك كتب له بعدد من مات من ولد آدم إلي أن تقوم الساعة حسنات [43] . هذه بإيجاز صورة عن فضائل الزيارة وعوائدها علي الزائر، وسيأتي لاحقا حديث كثير في فضل زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار، والتي من أبرزها نيل شفاعتهم يوم القيامة.. وأكبر بها من عائدة. أما عوائد الزيارة علي الأموات فهي من أهم ما أوصت به الشريعة أداء لحقهم، لما ينالهم منها من فضل وبركات. وقد تقدم حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو يأمر أصحابه بزيارة قبور إخوانهم وأن يجعلوا زيارتهم دعاء للأموات واستغفارا لهم، وقد كان هو صلي الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك. وفي حديث أنس بن مالك: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ العذاب، ورفعه. وعن أنس أيضا أنه سأل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا، ونحج عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم ؟ فقال: نعم، ليصل ذلك إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه [44] . ومن حديث عثمان بن عفان: مر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن، فقال صلي الله عليه وآله وسلم: استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل [ صفحه 31] صححه الحاكم والذهبي [45] . والحديث في هذا الشأن كثير وكثير، وهو يعطف بنا علي موضوع مهم، موضوع ليس فيه خلاف بين أهل الأديان قاطبة، ألا وهو موضوع الحياة بعد الموت، وما اصطلح عليه بالبرزخ. والذي عليه اتفاق كلمة المسلمين أن الروح في البرزخ تعيش نصيبها من الآخرة، إما في نعيم، وإما في شقاء، وذلك منذ المساءلة بعد الموت، وحتي يوم البعث والنشور. وقد تحدث القرآن الكريم عن حقيقة حياة الشهداء بعد موتهم، فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [46] . وقال تعالي: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) [47] . والنبي صلي الله عليه وآله وسلم يقول: ما من أحد منكم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتي أرد عليه السلام [48] . وليس الامر خاصا بالأنبياء والشهداء، فالأرواح من حيث هي أرواح سواء في ما تتعرض له من أسباب البقاء، والاخبار متواترة في تعرضها للنعيم أو الشقاء [ صفحه 32] بعد الموت، تأنس إذا ذكرت بخير، ويعود عليها ما يهدي إليها من الأعمال الصالحة بالنفع والبركة - والحديث في هذا كثير وكثير - نذكر غير ما تقدم: - قوله صلي الله عليه وآله وسلم: ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به [49] . - وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليها إلا عرفه ورد عليه السلام [50] . - وعنه صلي الله عليه وآله وسلم وقد جاءه رجل فسأله: إن أبي مات وعليه حجة الاسلام، أفأحج عنه ؟ قال صلي الله عليه وآله وسلم: أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه، أقضيته عنه ؟ قال: نعم. قال: فاحجج عن أبيك [51] . هكذا ينتفع موتانا بدعائنا واستغفارنا لهم، وما نهديه إليهم من ثواب الأعمال الصالحة، ويستأنسون بالتسليم عليهم، وبقراءة القرآن عندهم، فما أحري أن نذكرهم بذلك كله، ونحن المحتاجون إلي مثله في غد، ولا ندري لعله منا قريب، ومهما بعد عنا فإننا سائرون إليه وإنه لبالغنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. [ صفحه 33]

زيارة الرسول و أهل البيت

في الحديث الشريف زيارة قبر رسول الله

اشاره

إذا كان في زيارة الميت من تجديد العهد معه والاحساس بالقرب منه ما لا يخفي من الأثر، وإذا كان في زيارة العظماء إحياء لروح التأسي والاقتداء.. فإن ذلك كله أولي أن يكون مع سيد البشر وخاتم الأنبياء صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة الهداة من أهل بيته الذين أمر بحبهم والاقتداء بهم.. وإذا كان في زيارة القبور عائدة ثواب علي الزائر، فإنها في زيارة النبي وآله أكبر وأكبر. وفي كل هذه الابعاد جاء عنه صلي الله عليه وآله وسلم وعنهم عليهم السلام حديث كثير، يعلمون الأمة فيه شيئا من آداب الاسلام ومن مفاتح أبواب الخير. وربما وقع الكلام في أسانيد بعض هذه الأحاديث، مما اضطرنا إلي الإطالة [ صفحه 34] نسبيا في مناقشة أسانيد وطرق ما اعتمدناه هنا، حتي إذا حققنا القدر الكافي من الدلالة علي صحة الاحتجاج بهذه الأحاديث، ملنا إلي الاختصار والتركيز. ونبدأ هنا بما ورد عنه صلي الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف:

الحديث 001

اشاره

قال صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري وجبت له شفاعتي [52] . والكلام أولا في سند الحديث: قال الدارقطني: حدثنا القاضي المحاملي، ثنا عبيد بن محمد الوراق، ثنا موسي بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: الحديث.. وهذا الاسناد صحيح، رجاله ثقات، بلا خلاف، وإنما وقع الكلام في عبيد الله بن عمر، وهو ثقة أيضا، غير أن بعضهم رواه عن عبد الله، أخي عبيد الله، وهو دون أخيه [53] ، وبهذا تمسك من ذهب إلي تضعيف الحديث. غير أن الثابت في جميع نسخ سنن الدارقطني عبيد الله مصغرا، وهكذا رواه الدارقطني في غير السنن أيضا، وكذلك أورده أبو اليمن زيد ابن الحسن في كتابه ( إتحاف الزائر وإطراف المقيم المسافر في زيارة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم). وهكذا [ صفحه 35] رواه أيضا الحافظ أبو الحسين القرشي في كتابه (الدلائل المبينة في فضائل المدينة). وهكذا أيضا رواه الخلعي عن الدارقطني، وأورده ابن عساكر عن الخلعي، كلهم يذكرون عبيد الله مصغرا. فاتفقت الرواية بهذا الاسناد عن عبيد الله [54] . وهكذا في رواية البيهقي بإسناده الذي يلتقي مع إسناد الدارقطني في عبيد بن محمد الوراق، وفيه عبيد الله المصغر [55] . وعبيد الله هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، من صغار التابعين، ولد بعد سنة 70 ه، سمع الحديث من سالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، ونافع مولي عمر، وكان ملازما له، وقد سئل أحمد ابن حنبل عن مالك بن أنس، وأيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر، أيهم أثبت في نافع ؟ قال: عبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية [56] . وقد ورد الحديث بنحو هذا اللفظ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب من طريق آخر، أخرجه البزار في مسنده، قال: حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري حلت له شفاعتي. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف [57] . والغريب من الحافظ ابن كثير وهو يتصدي لجمع المسانيد والسنن أنه لا [ صفحه 36] يروي هذا الحديث في مسند ابن عمر إلا من هذا الطريق، طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ويترك الطريق الذي اعتمده الدارقطني، والآخر الذي اعتمده البيهقي [58] ، أما محقق كتاب ابن كثير، هذا، فلم يزد علي أن أورد تعليقة الهيثمي في تضعيف الغفاري، دون أن يذكر طريقا آخر للحديث [59] . وأما صاحب (موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف) فقد أخرج الحديث بلفظه عن سنن الدارقطني، و (الكني والأسماء) للدولابي، و (مجمع الزوائد) للهيثمي، و (تلخيص الحبير) لابن حجر، و (الدر المنثور) للسيوطي، و (إتحاف السادة المتقين) للزبيدي، و (كنز العمال) للمتقي الهندي، و (تذكرة الموضوعات) للفتني، و (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) للسيوطي، و (الكامل في الضعفاء) لابن عدي [60] ولم يشر إلي رواية البيهقي في (السنن الكبري) ولا في (شعب الايمان) المؤيدة لرواية الدارقطني، وهما من مصادركتابه [61] .

الحديث بلفظ آخر

وقد جاء بإسناد آخر، وبلفظ مقارب جدا للأول، وفيه عبيد الله المصغر أيضا: قال السبكي: ورواه عن موسي بن هلال جماعة، منهم: جعفر بن محمد البزوري: قال العقيلي في كتابه: ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا جعفر بن محمد [ صفحه 37] البزوري، ثنا موسي بن هلال البصري، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي قال السبكي: هكذا رأيته في نسخة عبيد الله [62] . غير أن الطبعة المحققة من كتاب العقيلي (الضعفاء الكبير) قد جاء فيها عبد الله مكبرا، دون أن يشار إلي النسخة التي فيها عبيد الله [63] . وقد روي بعضهم هذا النص عن عبد الله، وفيها: محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، ثنا موسي بن هلال العبدي، عن عبد الله ابن عمر بالتكبير، فرده جماعة، منهم الحافظ يحيي بن علي القرشي، وذكر أن الصواب عبيد الله. ومنهم: الحافظ ابن عساكر، قال: المحفوظ عن ابن سمرة عبيد الله [64] . ويشهد لذلك كله رواية مسلمة الجهني عن عبيد الله العمري المصغر: أخرج الطبراني عن مسلمة بن سالم الجهني: حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من جاءني زائرا، لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة [65] . وذكره آخرون بهذا الاسناد، منهم: يحيي بن علي القرشي، عن الخلعي. وصححه سعيد بن السكن [66] وحديث مسلمة الجهني أخرجه ابن كثير وذكر فيه عبد الله بدل عبيد الله [67] . [ صفحه 38] وأخرجه الهيثمي أيضا، واكتفي في التعليق عليه بالقول: فيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. ومنه يظهر أن الذي عند الهيثمي عبيد الله الثقة، ولذا اكتفي بتضعيف مسلمة ولم يذكر عبد الله، ولو كان قد وقع في إسناده لما ترك ذكره، ولما اكتفي في تضعيف الحديث بتضعيف أحد رواته دون الآخر. وضعف مسلمة لا يقدح في كونه قد رواه عن عبيد الله، فلم يكن مسلمة مدلسا، ولا وضاعا، غاية ما في الأمر أنه لم يتقن الحفظ، أو نحو ذلك من أسباب التضعيف. من كل هذا تصبح الرواية عن عبيد الله هي الراجحة، وبعد هذا فإن الجمع بين الروايتين ممكن جدا، فلا مانع من أن يكون بعضهم قد روي الحديث عن عبد الله مرة، وعن عبيد الله مرة أخري، فهما أخوان عاشا في طبقة واحدة، وكلاهما حدث عن نافع، غاية ما في الأمر أن عبيد الله أرفع درجة وأثبت في الحديث من أخيه. ومع هذا فلم يكن عبد الله عندهم ساقط الحديث أو متروكا، بل فيهم من مدحه وأثني عليه: فقد قال فيه أحمد بن حنبل: صالح. وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه. وقال ابن عدي: لا بأس به، صدوق. وقال يحيي بن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال: إنه في نافع صالح. وفي القول الأخير تزكية خاصة لأحاديثه عن نافع، وهذا الحديث منها. وقال ابن عمار الموصلي: لم يزكه أحد إلا يحيي بن سعيد.. وقال أحمد بن يونس: لو رأيت هيأته لعرفت أنه ثقة.. وقال الخليلي: ثقة، غير أن الحفاظ لم يرضوا [ صفحه 39] حفظه، وقول ابن معين فيه إنه صويلح، إنما حكاه عن إسحاق الكوسج، وأما عثمان الدارمي فقال عن ابن معين: صالح ثقة. وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح حتي غلب علي ضبط الاخبار والحفظ للآثار، تقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك [68] . وهذا غاية ما قيل فيه من التضعيف، غير أنه معارض بما سبق أولا، وبالخصوص في أحاديثه عن نافع، ومردود ثانيا بإخراج مسلم له مقرونا بغيره، في المتابعات [69] ، كما أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة. وقد أورد له ابن أبي شيبة في مسنده حديثا، فقال: هذا حديث حسن الاسناد [70] . وعلي هذا فالحديث في درجة الصحيح، وإذا انحصرت روايته في عبد الله وحده فهو حديث حسن، لا ينزل عن هذه الدرجة، والعمل بالحديث الحسن مما لا خلاف فيه. ويشهد لذلك أيضا ما نقله السبكي عن عبد الحق [71] ، قال: رواه عبد الحق رحمه الله في الاحكام الوسطي والصغري وسكت عنه، وقد قال في خطبة الاحكام الصغري إنه تخيرها صحيحة الاسناد، معروفة عند النقاد، قد نقلها الاثبات، وتداولها الثقات. وقال في خطبة الوسطي وهي المشهورة اليوم بالكبري: إن سكوته عن [ صفحه 40] الحديث دليل علي صحته [72] . تلخص لدينا من هذا البحث أربعة أحاديث يقوي بعضها بعضا، وهي: 1 - من زار قبري وجبت له شفاعتي وهو حديث صحيح، أو حسن. 2 - من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي. 3 - من جاءني زائرا، لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة. والأحاديث الثلاثة مروية عن عبيد الله المصغر بطرق عديدة، ومثلها عن عبد الله. 4 - قوله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري حلت له شفاعتي وهو المحفوظ من رواية عبد الله بن إبراهيم الغفاري. وفي الباب حديث خامس عن ابن عمر أيضا، رواه الدارقطني في سننه وفي العلل، وأحمد في مسنده: 5 - عن جعفر بن محمد الواسطي، ثنا موسي بن هارون، ثنا محمد بن حسن الختلي، ثنا عبد الرحمن بن المبارك، ثنا عون بن موسي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زارني إلي المدينة كنت له شفيعا وشهيدا [73] . وقال موسي بن هارون، وهو الرجل الثاني في سند الحديث: ورواه إبراهيم [ صفحه 41] ابن الحجاج، عن وهب، عن أيوب، عن نافع مرسلا [74] . هذا من حيث إسناد الحديث وتوابعه وشواهده.

والكلام ثانيا في دلالة الحديث

ولا غموض في دلالة هذا الحديث وشواهده، ولا غبار عليها، فقوله صلي الله عليه وآله وسلم: وجبت أو حلت معناه ثبتت وحقت ولزمت، وأنه لابد منها. وقوله صلي الله عليه وآله وسلم وجبت له شفاعتي أو ما جاء في نحو هذا اللفظ يعني أن الزائرين سيدخلون لزوما في من تناله شفاعته صلي الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، وهذا المعني يتضمن البشري بأن زائر قبر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم إذا كان صادقا في قصده لن يموت إلا علي الاسلام. ونعمت البشري... أو أن يراد به الزائر لقبره قربة واحتسابا تناله شفاعة خاصة، غير تلك الشفاعة العامة التي تنال عموم المسلمين، بسبب الزيارة وبفضلها. وفي كلا الدلالتين من الفوز والفضل الكبير ما هو جدير في احتلال مكانة مهمة في اهتمامات المؤمن، وهو يتحري القربة عند الله والزلفي لديه، انه لفوز حقيق أن يتنافس فيه المتنافسون.

الحديث 002

اشاره

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زارني بعد موتي كان كمن هاجر إلي في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إلي بالسلام، فإنه يبلغني. [ صفحه 42] من حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، رواه الإمام جعفر الصادق عن آبائه، عن علي عليه السلام عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قال الشيخ الطوسي: محمد ابن أحمد بن داود [75] عن أبي أحمد إسماعيل بن عيسي بن محمد المؤدب [76] ، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عبد الله القرشي [77] ، قال: حدثنا محمد بن محمد بن الأشعث بن هيثم بمصر [78] ، قال: حدثنا أبو الحسن موسي [79] بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إلي في حياتي، فإن لم تستطيعوا، فابعثوا إلي بالسلام فإنه يبلغني [80] . وهذا حديث إسناده جيد، فهو حديث حسن إن لم يكن صحيحا، لعدم التصريح بوثاقة إسماعيل المؤدب وإبراهيم القرشي، فهو حديث قائم بنفسه صالح للاحتجاج علي ما تضمنه من استحباب زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم.

وله شواهد

الأول: شاهد قوي من حديث حاطب بن أبي بلتعة عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: [ صفحه 43] من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي. رواه الدارقطني عن أبي عبيد، والقاضي أبي عبد الله، وابن مخلد، قالوا: ثنا محمد بن الوليد البسري، ثنا وكيع، ثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون، عن الشعبي والأسود بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة [81] . وهكذا رواه البيهقي في (السنن) و (شعب الايمان) والشوكاني في (نيل الأوطار) [82] . وقد جاء الحديث بهذا الاسناد المضاعف في كثير من مراتبه، معرفا بالرجل من آل حاطب، أخرجه ابن عساكر بالاسناد نفسه: ثنا وكيع بن الجراح، عن خالد وابن عون، عن هارون بن قزعة مولي حاطب، عن حاطب [83] . وعن هذا الحديث قال الذهبي: إنه أجود أحاديث الزيارة إسنادا. وأقره السخاوي في المقاصد الحسنة والسيوطي في الدرر المنتثرة [84] . والثاني: حديث الإمام علي عليه السلام أيضا: أخرجه أبو الحسين يحيي بن الحسن ابن جعفر الحسيني في كتاب أخبار المدينة قال: ثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبو أحمد الهمداني، ثنا النعمان بن شبل، ثنا محمد بن الفضل سنة ست وسبعين، عن جابر، عن محمد بن علي، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار [ صفحه 44] قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فكأنما جفاني [85] . فالحديث شاهد قوي للأول، وإنما جاءه ضعف الاسناد من النعمان ابن شبل. الثالث: حديث أبي هريرة: عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي، ومن زارني كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة [86] . وفي الباب ما أخرجه أبو داود بإسناده عن سوار بن ميمون، عن رجل من آل عمر، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: من زار قبري أو قال: من زارني كنت له شفيعا أو قال: شهيدا الحديث [87] . وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا [88] . وسوار بن ميمون روي عنه شعبة، ورواية شعبة عنه دليل علي وثاقته عنده، كما هو الأصل عند شعبة. بقي الكلام في جهالة رجل من آل عمر والامر فيه - كما يقول السبكي - قريب، لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين [89] . ومن طريق آخر: ثنا هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة. أخرجه البيهقي في شعب الايمان والعقيلي في الضعفاء الكبير. [ صفحه 45] وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات [90] وحين ذكره العقيلي في الضعفاء لم يزد عن أن نقل فيه قول البخاري: لا يتابع عليه [91] . وقد قيل إن في هذا الاسناد تصحيفا، فهو رجل من آل حاطب [92] كالذي أوردناه أولا عن الدارقطني من رواية هارون بن قزعة نفسه عن رجل من آل حاطب، عن حاطب.

الحديث 003

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا. من حديث أنس بن مالك، أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي وابن الجوزي والشوكاني وغيرهم. قال ابن أبي الدنيا: حدثني سعيد بن عثمان الجرجاني، ثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك، أخبرني أبو المثني سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة وفي رواية: كنت له شهيدا أو قال: شفيعا. نقل ابن الجوزي حديث ابن أبي الدنيا هذا في كتابه مثير العزم الساكن إلي أشرف الأماكن ومن خطه نقله السبكي [93] . [ صفحه 46] وأخرجه البيهقي بإسناده ويلتقي مع الأول في إسماعيل بن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسبا إلي المدينة كان في جواري يوم القيامة [94] . وللحديث إسناد آخر، فيه: أبو عوانة موسي بن يوسف القطان، ثنا عباد بن موسي الختلي، ثنا ابن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك، مطابقا للنص الأول. فدارت الطرق الثلاثة علي ابن أبي فديك، وسليمان بن يزيد الكعبي، فأما سليمان الكعبي، وهو التابعي الراوي عن أنس، فقد طعن عليه أبو حاتم الرازي، فقال: منكر الحديث، ليس بقوي، غير أن ابن حبان ذكره في الثقات [95] . وأما محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فهو مجمع علي وثاقته [96] . ومن هنا فإن هذا الحديث لا يهبط عن درجة الحسن الغريب. وله بعد ذلك شواهد، منها: 1 - حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام بإسناده، قال: قال رسول الله عليه السلام : من أتاني زائرا كنت شفيعه يوم القيامة [97] . 2 - حديث ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: من زارني في مماتي كان كمن زارني [ صفحه 47] في حياتي، ومن زارني حتي ينتهي إلي قبري كنت له يوم القيامة شهيدا - أو قال - شفيعا، أخرجه العقيلي [98] . 3 - حديث ابن عمر عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: من زارني إلي المدينة كنت له شهيدا - أو - شفيعا. أخرجه الدارقطني في السنن [99] .

الحديث 004

اشاره

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي. أخرجه الدارقطني في السنن من حديث مجاهد عن ابن عمر [100] ، وبالاسناد نفسه أخرجه: البيهقي والطبراني، وأبو يعلي، وابن عساكر، والشوكاني [101] ، كلهم بالاسناد عن: أبي الربيع الزهراني، عن حفص بن أبي داود، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وليس في أحد من رجال إسناد هذا الحديث من كلام، فأما حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان القارئ صاحب القراءة المعتمدة عند سائر المسلمين، والمعروفة بقراءة حفص عن عاصم فهو أخص الناس بعاصم بن أبي النجود شيخ أصحاب القراءات. وقد مال بعض أهل الجرح والتعديل إلي تضعيف عاصم في الرواية، وهو أمر [ صفحه 48] مستغرب، إذ كيف اعتمدوا بكل اطمئنان وبالاجماع، راويته لقراءة القرآن كله عن عاصم، ثم يعدونه في الضعفاء في رواية الحديث ؟ ! فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، قال البيهقي بعد أن أخرج الحديث: تفرد به عاصم، وهو ضعيف. وضعفه ابن حبان أيضا [102] .

وهنا مسألتان

الأولي: إن الضعف المنسوب إلي حفص بن سليمان لا يتجاوز حدود الضبط، أو الرواية عن الضعفاء، لكنه قد أسند هذا الحديث إلي ثقات مجمع علي وثاقتهم عند أهل الجرح والتعديل: ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر. وبه تزول الشبهة الثانية، أما الأولي فإنها مهما بلغت فلا تصل إلي درجة الكذب والوضع، كيف وقد أجمعوا علي قبول روايته قراءة عاصم وأطبقت عليه الأمة ؟ والمسألة الثانية: إن ابن حبان ذكر رجلين باسم حفص بن سليمان، أحدهما المقرئ وهو هذا، والآخر حفص بن سليمان، وهو ابن أبي داود المذكور في الاسناد، وهو ثقة ثبت. قال السبكي: فإن صح مقتضي كلام ابن حبان زال الضعف المذكور [103] . ثم إن هذا التضعيف الوارد في حفص المقرئ مردود مرة أخري، بغير الاجماع علي أخذ قراءته، فقد دفع عنه الضعف أحمد بن حنبل في روايتين عنه: - قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن حفص بن سليمان المنقري - وهو [ صفحه 49] المقرئ - فقال: هو صالح. - وقال حنبل بن إسحاق: قال أبو عبد الله (أحمد بن حنبل): ما كان بحفص بن سليمان المنقري بأس [104] .

وللحديث متابعات

لم يتفرد حفص بهذا الحديث كما وهمه البيهقي، فقد ورد الحديث عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد عن ابن عمر من طريق آخر عن سبط ليث بن أبي سليم وزوجته: قال سبطه الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم: حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي [105] . وبهذه الرواية يزول كل ضعف ينسب إلي الحديث، والاختلاف الوارد في اللفظ بين: من حج فزار قبري كما في رواية حفص، وبين من زار قبري لا تمس في دلالة الحديث علي استحباب زيارة قبره الشريف وفضيلتها، والنص بعدها متطابق تماما.

وللحديث شواهد، منها

1 - حديث النعمان بن شبل، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني، ذكره ابن عدي وقال: لا [ صفحه 50] أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل، ولم أر في أحاديثه (يعني عن مالك) حديثا غريبا قد جاوز الحد فأذكره [106] . وأخرجه الدارقطني في (أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في الموطأ) وهو كتاب ضخم [107] . وهكذا تتعاضد الأحاديث، وفيها صحاح وحسان بملاحظة المتابعات والشواهد، في الدلالة علي استحباب زيارة قبر سيد المرسلين صلي الله عليه وآله وسلم وعلي ما فيها من فضل كبير. 2 - حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام: رواه الكليني، عن علي بن محمد بن بندار، عن إبراهيم بن إسحاق، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبي حجر الأسلمي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من أتي مكة حاجا ولم يزرني إلي المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائرا وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين، مكة والمدينة [108] ، لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجرا إلي الله عز وجل حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر [109] . وعنه روي الشيخ الطوسي في (التهذيب) شطر الحديث، بالاسناد نفسه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من أتي مكة حاجا ولم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائرا وجبت له شفاعتي، ومن وجبت [ صفحه 51] له شفاعتي وجبت له الجنة [110] . وروي الطوسي متابعا له: عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبان، عن السندي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله عليه السلام: من أتاني زائرا كنت شفيعه يوم القيامة [111] .

في حديث أهل البيت

اشاره

بعد أن قرأنا جملة من الحديث النبوي الشريف في زيارة القبر الشريف، نقرأ في حديث أهل البيت عليهم السلام بعض ما جاء في زيارته صلي الله عليه وآله وسلم، ثم بعض ما جاء في زيارتهم عليهم السلام.

في زيارة قبر رسول الله خاصة

1 - حديث الإمام علي عليه السلام: قال الإمام علي عليه السلام: من زار قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كان في جواره [112] . - وفي حديث مرفوع إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم ما يشهد لهذا الحديث ويوافقه: رواه الشيخ الطوسي، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيي، عن سلمة، عن علي بن سيف بن عميرة، عن طفيل بن مالك النخعي، عن إبراهيم بن أبي يحيي، عن صفوان بن سليمان، عن أبيه، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: من زارني في حياتي [ صفحه 52] وبعد موتي، كان في جواري يوم القيامة [113] . 2 - حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام: رواه الشيخ الطوسي بالاسناد عن الحسن بن الجهم، عن الامام أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: جاء الإمام الصادق عليه السلام يوم عيد الفطر إلي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فسلم عليه، ثم قال: قد فضلنا الناس اليوم بسلامنا علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم [114] . 3 - وحديثه عليه السلام: مروا بالمدينة فسلموا علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من قريب، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد [115] . 4 - وحديثه عليه السلام: صلوا إلي جانب قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين تبلغه أينما كانوا [116] . وقوله عليه السلام في أول الحديث: صلوا يريد الصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، بقرينة ما بعدها. 5 - حديث الإمام الكاظم عليه السلام: رواه الشيخ الطوسي مسندا، قال: أتي هارون المدينة المنورة ومعه عيسي بن [ صفحه 53] جعفر، فاستدعي الإمام موسي الكاظم لصحبته، فقصدوا قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فتقدم هارون فسلم عليه وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن عم فتقدم الإمام الكاظم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه، أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدي بك أن يصلي عليك فقال هارون لعيسي: سمعت ما قال ! قال: نعم، قال هارون: أشهد أنه أبوه حقا [117] . 6 - حديث الإمام الجواد عليه السلام: قال الشيخ الطوسي: محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن يحيي العطار، عن محمد بن أحمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عمن زار النبي صلي الله عليه وآله وسلم قاصدا، قال: له الجنة [118] . وسيأتي في آداب الزيارة عنهم عليهم السلام ما يستدل به أيضا علي استحباب زيارة قبره صلي الله عليه وآله وسلم وحثهم عليها وتذكيرهم بفضيلتها.

في زيارة مراقدهم

في حديث أهل البيت عليهم السلام من الحث علي زيارة مراقدهم والترغيب فيها والتذكير بحكمتها وعوائدها ما يغني المحتاج، وهذه طائفة منتخبة منها: 1 - من حديث الإمام علي عليه السلام: رواه الشيخ الطوسي عن محمد بن أحمد بن داود، [ صفحه 54] عن محمد بن علي بن الفضل، قال: أخبرني الحسين بن محمد الفرزدق، قال: حدثنا علي بن موسي بن الأحول، قال: حدثنا محمد بن أبي السري إملاء، قال: حدثني عبد الله بن محمد البلوي، قال: حدثني عمارة بن زيد، عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز، قال: أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله ما لمن زار قبر أمير المؤمنين وعمر تربته ؟ قال: يا أبا عامر، حدثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عليه السلام: ان النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال له: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها ؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إن الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعا من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وان الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذي فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقربا منهم إلي الله، [ و ] مودة منهم لرسوله، أولئك - يا علي - المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غدا في الجنة... الحديث [119] . ولعل في هذا الاسناد ضعف من جهة البلوي وعمارة بن زيد، ولكن في الأحاديث التالية ما يعضده ويقويه.. 2 - من حديث الإمام الحسن السبط عليه السلام: عن سعد بن عبد الله الأشعري، عن أحمد ابن محمد بن عيسي، عن محمد بن خالد البرقي، عن القاسم بن يحيي، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: بينا الحسن بن علي عليه السلام في حجر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال: يا [ صفحه 55] أبه، ما لمن زارك بعد موتك ؟ فقال: يا بني، من أتاني زائرا بعد موتي فله الجنة، ومن أتي أباك زائرا بعد موته فله الجنة، ومن أتي أخاك زائرا بعد موته فله الجنة، ومن أتاك زائرا بعد موتك فله الجنة [120] . وفي إسناد هذا الحديث ثلاثة هم من كبار أئمة الحديث وحفاظه ونقاده: الأول طرف الاسناد الأقصي، عبد الله بن سنان، والثاني والثالث، هما طرفه الأدني، سعد ابن عبد الله الأشعري، وأحمد بن محمد بن عيسي. وأما ما جاء في تضعيف محمد بن خالد البرقي، فليس بقادح فيه بعد العلم بما أقروا به من منزلة البرقي في العلم والأدب والمعرفة بالاخبار وعلوم العرب [121] ، هذا أولا، وثانيا بعد معرفة أن أحمد بن محمد بن عيسي لا يروي عن رجل متهم، ولا يتساهل في الرواية عن الضعفاء والمتهمين، فكان لا يروي إلا عمن يعتقد وثاقته. وهو يعد شيخ القميين ووجههم وفقيههم، غير مدافع [122] . ومن أجل هذا أيضا يشفع الضعف المروي في الحسن بن راشد [123] . وبعد هذا فالحديث مشفوع بالحديث الآتي أيضا، وهو مطابق له متنا. 3 - من حديث الإمام الحسين السبط عليه السلام: محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن الحسن الكوفي، قال: حدثنا محمد بن علي بن معمر، قال: حدثنا محمد بن مسعدة، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي نجران، عن علي بن شعيب، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال: بينا الحسين عليه السلام قاعد في حجر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم [ صفحه 56] ذات يوم، إذ رفع رأسه إليه فقال: يا أبه، قال: لبيك يا بني، قال: ما لمن أتاك بعد وفاتك زائرا لا يريد إلا زيارتك ؟ قال: يا بني، من أتاني بعد وفاتي زائرا لا يريد إلا زيارتي فله الجنة، ومن أتي أباك بعد وفاته زائرا لا يريد إلا زيارته فله الجنة، ومن أتي أخاك بعد وفاته زائرا لا يريد إلا زيارته فله الجنة، ومن أتاك بعد وفاتك زائرا لا يريد إلا زيارتك فله الجنة [124] . 4 - من حديث الإمام الباقر عليه السلام: محمد بن أحمد بن داود، عن الحسن بن محمد بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا الحسن بن متيل الدقاق وغيره من الشيوخ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، قال: حدثني الحسن بن علي بن فضال، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فإن إتيانه يزيد في الرزق، ويمد في العمر، ويدفع مدافع السوء. وإتيانه مفترض علي كل مؤمن يقر له بالإمامة من الله [125] . 5 - من حديث الإمام الصادق عليه السلام: محمد بن أحمد بن داود، عن الحسن بن محمد ابن علان، عن حميد بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يزيد، عن علي ابن الحسن، عن عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي عليهما السلام لكان تاركا حقا من حقوق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، لان حق الحسين عليه السلام فريضة من الله تعالي واجبة علي [ صفحه 57] كل مسلم [126] . ولا ريب في أن تكون لزيارة الإمام الحسين عليه السلام مثل هذه المزية، ذلك أن للحسين عليه السلام خصوصية فريدة، في دوره الفريد في تاريخ الاسلام، فلقد كان في حركته العظمي من أجل إحياء الدين وكشف أسطورة السلاطين العابثين، تجسيدا حيا للفاروق الأعظم الذي لم يدع برزخا بين الولاء الحق لرسالة السماء الصافية، وبين التحايل علي الدين لدي طائفة الحكام وحواشيهم، والذل والخنوع والرضا بالدون لدي سائر الناس.. لذا فإن زيارته التي تستحضر هذا البعد الأساس، هي مصداق الولاء لله ولرسوله ولأوليائه ولدينه الحنيف، من ناحية، ومصداق البراءة من سلاطين الجور وشياطين الانس من ناحية أخري. ومن هنا أكثر أئمة أهل البيت عليهم السلام من الحث علي زيارته، وافرادها بفضائل خاصة قد لا نجد نظيرها في ما ورد في زيارة غيره من الأئمة عليهم السلام [127] . ونجد البعد الأساس في الزيارة المتمثل في الاعتراف بالحق وتجديد العهد وأداء الأمانة، صريحا في حديث الإمام الرضا عليه السلام الآتي: 6 - من حديث الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام: محمد بن أحمد بن داود، عن أبيه، قال: حدثنا محمد بن السندي، عن أحمد بن إدريس، عن علي بن الحسين النيسابوري، عن عبد الله بن موسي، عن الحسن بن علي الوشاء، قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء، زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة [ صفحه 58] في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة [128] . هذه هي فلسفة الزيارة في أوجز عبارة. [ صفحه 59]

الزيارة في تراث السلف

اشاره

إذا كانت مفردة السلف تتسع لأجيال عديدة، بل هي لغويا تمتد منذ جيل الآباء صعودا حتي عهد الرسالة، فإننا نقتصر منها هنا علي الطبقات العليا، وتحديدا حتي منتصف القرن الثالث، لتشمل عهد الرسالة وعهود الصحابة وأئمة أهل البيت عليهم السلام والتابعين وأئمة الحديث والفقه انتهاء بأئمة المذاهب الأربعة. هذه الطبقات التي عاصرت السنن رواية وتدوينا وأسست للفقه وسائر علوم الدين، وإليها ينتهي احتجاج المسلمين بطوائفهم كافة، لنري كيف كانت زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء والصالحين تمثل جزءا من ثقافة الأمة الأصيلة علي امتداد تلك الطبقات. وليس غرضنا فيه الاستقصاء، بل الاكتفاء بما فيه إثبات المطلوب. وقبر حمزة كان مزارا للصالحين من الصحابة والتابعين.. وقبر الكاظم موسي مقصدا لمن أدرك وفاته وعاش بعده.. وقبر الرضا علي بن موسي كان ملاذا لأهل العلم والصالحين مذ كان القبر.. كل ذلك سنقرأه لاحقا.. ونقرأ أن قبر أبي حنيفة كان ملاذا للشافعي، يأتيه كل يوم، داعيا ومستشفعا ومتوسلا.. وأن [ صفحه 60] قبر معروف الكرخي (المتوفي 200 ه) كان عندهم (الترياق المجرب) يقصده المحتاج والمكروب من كل مكان. ونقرأ عند الغزالي والنووي والفاخوري وآخرين: أن الزائر حين يودع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ويفرغ من زيارته، يستحب له أن يخرج كل يوم إلي البقيع، ويخص يوم الجمعة، يأتي المشاهد والمزارات، فيزور العباس، ومعه الحسن بن علي، وزين العابدين، وابنه محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، ويزور أمير المؤمنين عثمان، وقبر إبراهيم ابن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وجماعة من أزواج النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وعمته صفية، وكثيرا من الصحابة والتابعين.. ويقول: سلام عليكم بما صبرتم، فنعمي عقبي الدار، سلام عليكم، دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. ويقرأ آية الكرسي وسورة الاخلاص. أو يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم [129] . والآن إلي نماذج من فعل السلف في طبقاتهم الأولي:

في عهد الصحابة

اشاره

1 - الزهراء البتول عليها السلام تزور قبر أبيها المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم: من حديث الإمام علي عليه السلام: لما رمس رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، جاءت فاطمة، [ صفحه 61] فوقفت علي قبره، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعته علي عينيها، وبكت، وأنشأت تقول:ماذا علي من شم تربة أحمد أن لا يشم مدي الزمان غوالياصبت علي مصائب لو أنها صبت علي الأيام عدن لياليا [130] . 2 - أعرابي يزور قبر المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم: من حديث علي عليه السلام: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمي بنفسه علي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وحثا من ترابه علي رأسه، وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان في ما أنزل عليك: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر قد غفر لك [131] . 3 - عمر يزور قبر غريمه أخرج المحب الطبري حديثا طويلا في ما اتفق بالأبواء بين عمر وقد خرج حاجا في نفر من أصحابه، وبين شيخ استغاث به هناك، فلما انصرف عمر من حجه ونزل ذلك المنزل، استخبر عن الشيخ، فقيل له إنه قد مات. فوثب عمر [ صفحه 62] مسرعا، مباعدا بين خطاه، حتي وقف علي قبره، فصلي عليه، ثم اعتنقه وبكي [132] . فقد هب عمر مسرعا لزيارة قبر شخص بعينه، ثم اعتنقه وبكي، أما الصلاة المذكورة فالمراد بها الدعاء، وهو الظاهر، وقد يراد بها الصلاة علي الميت. 4 - بلال يزور قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم في أيام عمر سأل بلال عمر أن يقره بالشام، قال: وأخي أبو رويحة الذي آخي بيني وبينه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ففعل ذلك عمر. ثم إن بلالا وهو بالشام رأي في منامه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال ! أما آن لك أن تزورني يا بلال ؟ فانتبه حزينا وجلا، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتي قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه. فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام فجعل يضمهما ويقبلهما. فقالا له: نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وكان بلال قد ترك الاذان بعد وفاة رسول الله، فاستجاب لهما، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه. فلما أن قال: الله أكبر، الله أكبر ارتجت المدينة.. فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها بأهلها، فلما أن قال: أشهد أن محمدا رسول الله خرجت حتي العواتق من خدورهن، وقالوا: أبعث رسول الله ؟ ! فما رئي يوم أكثر باكيا وباكية بالمدينة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم [133] . ولهذا الخبر إسناد جيد، نذكره لتشكيك منكري شد الرحال للزيارة فيه، اتباعا [ صفحه 63] للهوي، لا متابعة لأصول النقد العلمي. فقد أسند الخبر إلي: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، قال: حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: الخبر... وليس في هذا الاسناد من يطعن عليه في سائر كتب الرجال. وروي الحديث بهذا الاسناد من طريقين، ومداره علي (محمد بن الفيض الغساني) وهو الذي يرويه عن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، ومحمد بن الفيض هذا هو المولود سنة 219 ه، والمتوفي سنة 315 ه، قال السبكي: روي عن خلائق، وروي عنه جماعة منهم: أبو أحمد بن عدي، وأبو أحمد الحاكم، وأبو بكر المقرئ في معجمه [134] . هكذا صنع بلال، وهو أحد السابقين إلي الاسلام، صاحب السيرة المعروفة، وفي عهد عمر، والصحابة متوافرون في المدينة المنورة. 5 - أمير المؤمنين علي عليه السلام يزور قبر خباب: خباب بن الأرت، من السابقين الأولين إلي الاسلام، وكان مع علي عليه السلام بالكوفة وقد مرض مرضا طويلا فلم يشهد معه صفين، فلما رجع أمير المؤمنين عليه السلام من صفين، وقف علي قبره وأحسن عليه الثناء. قال زيد بن وهب: سرنا مع علي حين رجع من صفين، حتي إذا كنا عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال: ما هذه القبور ؟، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن خباب بن الإرث توفي بعد [ صفحه 64] مخرجك إلي صفين فأوصي أن يدفن في ظاهر الكوفة، فدفن الناس عنده، فقال علي رضي الله عنه: رحم الله خبابا، أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ثم دنا من قبورهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف فارط [135] ، ونحن لكم تبع عما قليل لاحق، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، طوبي لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، وأرضي الله عز وجل [136] . 6 - عائشة تزور قبر أخيها: عن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر. فقلت لها: أليس كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نهي عن زيارة القبور ؟ قالت: نعم، كان نهي، ثم أمر بزيارتها. صححه الذهبي [137] . 7 - محمد بن الحنفية يزور قبر الحسن السبط عليه السلام: وقف محمد بن الحنفية علي قبر الإمام الحسن عليه السلام فخنقته العبرة، نطق فقال: [ صفحه 65] رحمك الله يا أبا محمد، فلئن عزت حياتك، فلقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدي، وخامس أصحاب الكساء، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الاسلام، فطبت حيا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك [138] . 8 - أبو أيوب الأنصاري يزور قبر المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم: اتفق الحاكم والذهبي علي صحة الخبر المروي في زيارة أبي أيوب الأنصاري قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أيام ولاية مروان علي المدينة، أي قبل سنة 64 ه، إذ أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه علي القبر، فأخذ مروان برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع ؟ فأقبل عليه، فإذا أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، إني لم آت الحجر، إنما جئت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: لا تبكوا علي الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا علي الدين إذا وليه غير أهله [139] . وفيه أكثر من دلالة: الأولي: إن علماء الصحابة وأجلائهم كانوا يعرفون صحة الزيارة، ويستحبونها، وهو ما صرح به الترمذي في تعليقته المشار إليها، وستأتي بنصها الكامل لاحقا. [ صفحه 66] والثانية: إن رجالات بني أمية كانوا ينهون عن ذلك ويستنكرونه. والثالثة: إنها إشارة مفيدة إلي تاريخ النهي عن الزيارة وجذوره الأولي، ولعل هذا الخبر الثابت يكشف لنا عن أقدم ما ورد في النهي عن الزيارة وورود القبر الشريف، وهي ممارسة سياسية، مارسها هذا الوالي الأموي أيام حكومتهم. يؤكد هذا جواب أبي أيوب الأنصاري لمروان، وفيه التصريح الواضح بأن بني أمية ليسوا من أهل الدين الامناء عليه، بل إنما يخشي علي الدين منهم، وهذا الذي يصنعه مروان واحدة فقط من الأحدوثات التي أحدثها وسيحدثها الأمويون في الدين.

الفائدة

هذه الأخبار ونظائرها لا تمثل أحداثا منفردة في تاريخ الصحابة، وإنما هي أخبار دونت دون سواها لما وافقها من خصوصية، ساعدت علي انتشارها، وما هي إلا شواهد علي واقع الحال الذي كان يعيشه جيل الصحابة والذي لم نعرف عنه في مصدر واحد، ولا في حديث واحد - ولو موضوع - نهيا عن زيارة قبر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أو أحد من الصحابة بعد وفاتهم. وعدم وجود النهي وحده قاطع بالاثبات، تؤكده هذه الاحداث المروية لما فيها من خصوصيات أفردتها عن العرف السائد. وتؤيده السيرة الثابتة للصحابة والتابعين أنهم إذا أرادوا الخروج من المدينة أتوا قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم للوداع، وإذا دخلوا المدينة ابتدأوا بزيارته والسلام عليه. وهذا أمر ثابت أشهر من أن يحتاج إلي برهان، ولم ينكره أحد ممن له خلاف في [ صفحه 67] بعض شؤون الزيارة وأحوالها.

بعد الصحابة

اشاره

1 - عمر بن عبد العزيز استفاض عن عمر بن العزيز أنه كان يبرد البريد من الشام ليسلم له علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. نقل ذلك أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم النبيل، المتوفي سنة 280 ه في كتابه المناسك وقد جرده من الأسانيد ملتزما فيه الثبوت، قال: كان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلي المدينة ليقرئ النبي صلي الله عليه وآله وسلم السلام، ثم يرجع. وذكره ابن الجوزي أيضا في كتابه الذي أفرده لمثل هذه الأخبار، وأسماه مثير العزم الساكن إلي أشرف الأماكن، قال السبكي: نقلته من خطه [140] . ودلالته واضحة ليس علي استحباب الزيارة وحسب، بل علي شد الرحال لاجلها أيضا. ومثله في الدلالة ما ثبت عن بلال رضي الله عنه. 2 - الإمام جعفر الصادق عليه السلام: وقد سأله أحد أصحابه: إنا نأتي المساجد التي حول المدينة، فبأيها أبدأ ؟ قال عليه السلام: أبدأ بقبا، فصل فيه، وأكثر، فإنه أول مسجد صلي فيه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في هذه العرصة، ثم ائت مشربة أم إبراهيم فصل فيها، فهو مسكن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ومصلاه، ثم تأتي مسجد الفضيخ فتصلي فيه، فقد صلي فيه [ صفحه 68] نبيك، فإذا قضيت هذا الجانب أتيت جانب أحد فبدأت بالمسجد الذي دون الحرة فصليت فيه، ثم مررت بقبر حمز بن عبد المطلب عليه السلام فسلمت عليه، مررت بقبور الشهداء... الحديث [141] . وفيه أمر صريح بزيارة قبر سيد الشهداء حمزة خاصة ثم قبور سائر الشهداء رضوان الله عليهم أجمعين. 3 - الشافعي يزور قبر أبي حنيفة أخرج الخطيب البغدادي وغيره، عن علي بن ميمون صاحب الشافعي، قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجئ إلي قبره في كل يوم، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلي قبره وسألت الله تعالي الحاجة عنده، فما تبعد حتي تقضي [142] . وفيه زيادة علي الزيارة، العمل بالتوسل والاستشفاع. 4 - أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وقبر موسي بن جعفر عليه السلام: الحسن بن إبراهيم، أبو علي الخلال، شيخ الحنابلة في وقته، كان يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسي بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالي لي ما أحب [143] . [ صفحه 69] 5 - أبو بكر بن خزيمة وقبر الرضا عليه السلام: قال أبو بكر محمد بن المؤمل: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة (223 - 311 ه)، وعديله أبي علي الثقفي (244 - 328)، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلي زيارة علي بن موسي الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه - يعني ابن خزيمة - لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا [144] . وكل ذلك شاهد علي التوسل والاستشفاع، بعد القصد إلي الزيارة. 6 - أئمة المذاهب الأربعة وسائر أهل العلم: عند ذكر الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم من حديث بريدة عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة أشرنا إلي أن للترمذي تعقيبا علي الحديث، وهذا هو نصه: قال الترمذي: حديث بريدة حديث حسن صحيح، والعمل علي هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأسا، وهو قول: ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق [145] . وابن المبارك: هو عبد الله بن المبارك بن واضح، وصفه الذهبي بالامام، شيخ الاسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته.. سمع من هشام بن عروة، [ صفحه 70] والأعمش، وموسي بن عقبة، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وابن جريج، وهذه الطبقة، وحدث عنه: معمر، والثوري، وعبد الرزاق الصنعاني، وابن أبي شيبة وهذه الطبقة، ولد سنة 118، وتوفي سنة 181 ه في مدينة هيت - من مدن غرب العراق - ودفن فيها.. ونقل الذهبي لبعض الأفاضل في زيارة قبره:مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظا وليس بناطق [146] .وإسحاق: هو إسحاق بن راهويه قرين أحمد بن حنبل، وكان أحمد يسميه الامام، ويقول: لا أعرف له في الدنيا نظيرا، ولقبه الذهبي بشيخ المشرق، سيد الحفاظ ولد سنة 161 ه، وتوفي سنة 238 ه، وله في سير أعلام النبلاء ترجمة واسعة [147] . - وقد تقدم عن الشافعي زيارته قبر أبي حنيفة، وتوسله به، ومداومته علي ذلك، ويأتي في (التوسل) توسل أحمد بالشافعي. - وقال مالك بن أنس: لا بأس بمن قدم من سفر، أو خرج إلي سفر أن يقف علي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيصلي عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر. فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبور فيسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا [ صفحه 71] يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده. قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلموا، قال: وذلك رأيي. قال الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء، لان الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم [148] .

وفيه فائدتان

الأولي: أن جمهور الناس في القرن الثاني للهجرة، حيث عاش مالك، كانوا متفقين علي المداومة علي زيارة قبر المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، يصنعون ذلك مرارا، ويدعون عند قبره علي الدوام، وهم جيل اتباع التابعين، الذين ورثوا عن التابعين عاداتهم وعباداتهم. والثانية: أن مالكا، كان يجيز القصد إلي الزيارة، ويحبذه، فيدعو المسافر أو القادم إلي التوجه لزيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم قاصدا لذلك. وهذا ما قاله الباجي في شرح كلام مالك، مؤكدا أن قصد الزيارة هو المبرر الذي اعتمده مالك في جوازها، بل استحبابها، قائلا: لان الغرباء قصدوا ذلك. أما عن رأي مالك، كما قال السبكي، فهو أن الزيارة قربة، ولكنه علي عادته في سد الذرائع يكره منها الاكثار الذي قد يفضي إلي محذور. وهذا واضح في كلام مالك الآنف الذكر، وهو يحبذها للغرباء والمسافرين. وأما أئمة المذاهب الثلاثة الأخري، فهم يقولون باستحبابها واستحباب [ صفحه 72] الاكثار منها، لان الاكثار من الخير خير، وكلهم مجمعون علي استحباب الزيارة [149] . ونذكر ثانية بما أسلفناه عن الشافعي، وما سيأتي عن أحمد. 7 - أحمد بن حنبل وزيارة قبر الحسين عليه السلام: في ما ذكره ابن تيمية حول جسد الحسين عليه السلام، قال: ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتي كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتي أنه في مسائله: (مسائل في ما يفعل عند قبره) أي قبر الحسين عليه السلام، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير، في زيارة المشاهد [150] . فهو يثبت زيارة الناس قبر الإمام الحسين عليه السلام زمن أحمد وغيره، ويثبت أن أحمد لم ينكر عليهم الزيارة، بل يثبت أنه قد كتب في ما ينبغي أن يفعله الزائر لقبر الحسين عليه السلام، مراعاة للسنة في الزيارة. هذا مع أن ابن تيمية هو أشد المنكرين للسفر بقصد الزيارة، وهذه واحدة فقط من هفواته، ولأجل هذا أفردنا هذا برقم خاص، مع أنه داخل في الفقرة السابقة. 8 - رواية العتبي المتوفي 228 ه في زيارة الاعرابي من جميل الأثر في زيارة سيد البشر صلي الله عليه وآله وسلم ما رواه محمد بن عبيد الله بن عمرو ابن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان الأموي، وكان صاحب أخبار وراوية للآداب، وقد حدث عن سفيان بن عيينة. وقد أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في [ صفحه 73] (مثير العزم الساكن إلي أشرف الأماكن) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) والقسطلاني بأسانيدهم عن: محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وإني جئتك مستغفرا ربك من ذنوبي مستشفعا فيها بك. ثم بكي وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم استغفر وانصرف. وقد نظم أبو الطيب أحمد بن عبد العزيز بن محمد المقدسي فيها أبياتا وضمنها البيتين، فقال: أقول والدمع من عيني منسجم لما رأيت جدار القبر يستلم والناس يغشونه باك ومنقطع من المهابة أو داع فملتزم فما تمالكت أن ناديت من حرق في الصدر كادت له الأحشاء تضطرم (يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم) وفيه شمس التقي والدين قد غربت من بعد ما أشرقت من نورها الظلم حاشا لوجهك أن يبلي وقد هديت في الشرق والغرب من أنواره الأمم وأن تمسك أيدي الترب لامسة وأنت بين السماوات العلي علم إلي قوله: [ صفحه 74] لئن رأيناه قبرا إن باطنه لروضة من رياض الخلد تبتسمطافه به من نواحيه ملائكة تغشاه في كل يوم ما يوم تزدحم لو كنت أبصرته حيا لقلت له لا تمشي إلا علي خدي لك القدم [151] .

خاتمة في كلمات أئمة الحنابلة خاصة في الزيارة

أفردنا أئمة الحنابلة خاصة في هذا الموضع لأنه أوقع في الرد علي متأخريهم، ابتداء بابن تيمية، الذين ذهبوا إلي تحريم السفر بقصد الزيارة وعده من مصاديق الشرك، أو الكفر. 1 - أبو الفرج ابن الجوزي (597 ه) صنف كتابا بعنوان (مثير العزم الساكن إلي أشرف الأماكن) وعقد فيه بابا في زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وقد تقدمت عنه نقول كثيرة. وفي كتابه الآخر مناقب الإمام أحمد بن حنبل ذكر أخبارا عديدة في زيارة قبر أحمد بن حنبل، يفيد مجموعها أنها عادة الحنابلة، وأنها لديهم من القربات المهمة التي لا يفرطون بها [152] وذكر في كتابه (المنتظم) أنه قد قصد زيارته في سنة 574 ه وتبعه خلق كثير يقدرون بخمسة آلاف إنسان [153] . وهذه بعض نصوص ابن الجوزي، تعكس صورة واضحة عن ثقافة الزيارة عند الحنابلة: [ صفحه 75] - عن أبي الفرج الهندبائي، قال: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل، فتركته مدة، فرأيت في المنام قائلا يقول لي: تركت زيارة إمام السنة ؟ ! [154] . - عن أبي طاهر ميمون، قال: رأيت رجلا بجامع الرصافة في شهر ربيع الآخرة من سنة ست وستين وأربعمئة، فسألته، فقال: قد جئت من ستمئة فرسخ، فقلت: في أي حاجة ؟ قال: رأيت وأنا ببلدي في ليلة جمعة كأني في صحراء أو في فضاء عظيم، والخلق قيام، الزيارة والتوسل - صائب عبد الحميد - ص 75 - 82 وأبواب السماء فتحت، وملائكة تنزل من السماء تلبس أقواما ثيابا خضرا، وتطير بهم في الهواء، فقلت: من هؤلاء الذين اختصوا بهذا ؟ فقالوا لي: هؤلاء الذين يزورون أحمد بن حنبل.. فانتبهت، ولم ألبث أن أصلحت أمري وجئت إلي هذا البلد وزرته دفعات، وأنا عائد إلي بلدي إن شاء الله [155] . - قال ابن الجوزي: وفي صفر سنة 542 ه رأي رجل في المنام قائلا يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له. قال: فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره، وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس [156] . - الله يزور أحمد بن حنبل كل عام ! ! كما نقل ابن الجوزي عن أبي بكر بن مكارم ابن أبي يعلي الحربي، قال: وكان شيخا صالحا، أنه رأي في منامه أنه أتي قبر [ صفحه 76] أحمد يزوره علي عادته، فرأي القبر قد التصق بالأرض ولم يبق منه إلا القليل، فقال: هذا من كثرة الغيث.. فسمع أحمد من القبر يقول له: لا، بل هذا من هيبة الحق عز وجل، لأنه عز وجل قد زارني، فسألته عن سر زيارته إياي في كل عام، فقال عز وجل: يا أحمد، لأنك نصرت كلامي، فهو ينشر ويتلي في المحاريب. يقول الحربي: فأقبلت علي لحده أقبله، ثم قلت: يا سيدي، ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك ؟ فقال لي: يا بني، ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، لان معي شعرات من شعره.. ثم قال: ألا ومن يحبني لم لا يزورني في شهر رمضان ؟ [157] . وليست العبرة في صحة هذه الأخبار أو عدم صحتها، إنما العبرة في ملاحظة أن ثقافة الزيارة عند الحنابلة لا تختلف كثيرا عنها عند الصوفية، إلا في ممارسات خارجية قد يصنعها بعض الصوفية دون الحنابلة.. مع ملاحظة أن دعاة السلفية من المنتسبين إلي مذهب أحمد بن حنبل حين حاربوا هذا النمط من ثقافة الزيارة قد وجهوا حملاتهم علي التراث الصوفي خاصة، وتراث الطوائف الاسلامية الأخري عامة، وغضوا الطرف كاملا عما تراكم في تراثهم من ذلك. ولا ريب في أن الاحداث التي دونها ابن الجوزي في (المنتظم) في هذا الموضوع كانت صحيحة، وفيها حدثان كان فيهما شاهدا ومعايشا، وثمة حقيقة أخري يثبتها، ويشاركه فيها ابن كثير، قد تفوق كل ما تقدم ذكره في ما تعارف عليه الحنابلة في الزيارة.. [ صفحه 77] ففي ترجمة أبي جعفر بن أبي موسي (ت 470 ه) إمام الحنابلة في وقته، وقد دفن عند قبر أحمد، قال ابن الجوزي: كان الناس يبيتون هناك كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيشون فيبيعون المأكولات، وصار ذلك فرجة للناس - أي فرجا - ولم يزالوا كذلك إلي أن جاء الشتاء فامتنعوا.. وقال ابن كثير: دفن إلي جانب الإمام أحمد ، فاتخذت العامة قبره سوقا كل ليلة أربعاء، يترددون إليه [158] . وكل ما تقدم يكشف بوضوح عن عقيدة شيخ الحنابلة في وقته أبي الفرج بن الجوزي في الزيارة، بل في شد الرحال إليها، الذي سيأتي بحثه لاحقا.. ولنتابع مع آخرين من أقطاب الحنابلة.. 2 - موفق الدين ابن قدامة المقدسي (620 ه): يصرح باستحباب زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ويستدل لذلك بما رواه الدارقطني وأحمد من حديث ابن عمر وأبي هريرة [159] . 3 - نجم الدين بن حمدان الحنبلي (695 ه): ويسن لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه، وله ذلك بعد فراغ حجه، وإن شاء قبل فراغه [160] . 4 - ابن تيمية (728 ه): وابن تيمية الذي أنكر السفر بقصد الزيارة، لم ينكر أصل الزيارة، فأثبتها للحاج وأدخلها في المناسك، فقال في مناسكه: باب زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم: إذا أشرف علي مدينة النبي صلي الله عليه وآله وسلم قبل الحج أو بعده... فإذا [ صفحه 78] دخل المسجد بدأ برجله اليمني... ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فيستقبل الجدار، ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر علي رأسه ليكون قائما وجاه النبي، ويقف متباعدا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون.. [161] . ويأتي في الفقرة اللاحقة ما يثبت خطأ ما ذهب إليه ابن تيمية في تجنب مس القبر والمنبر.

التبرك

زيادة في تقرير صحة الزيارة وكونها قربة، فقد ثبت في الكثير من سير الصحابة والتابعين وكبار السلف أنهم كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وبقبره ومنبره. والأثر في هذا كثير، نكتفي منه بالنزر اليسير الشاهد علي المطلوب: 1 - قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ويتبرك بمسه ويقبله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالي. قال: لا بأس به [162] . ويؤيد ذلك عن أحمد الرواية الآتية: 2 - عن الحافظ أبي سعيد بن العلا، وهو معاصر لابن تيمية، قال: رأيت في كلام [ صفحه 79] الإمام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر [163] وغيره من الحفاظ: أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك. قال: فأريناه التقي ابن تيمية، فصار يتعجب من ذلك، ويقول: عجبت من أحمد، عندي جليل ! ! قال ابن العلا: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به ! أخرج هذا ابن الجوزي وابن كثير [164] ، وهما من أشد الناس اتباعا لأحمد وتعظيما له، وان ابن كثير خاصة من أشد الناس متابعة لابن تيمية. 3 - وروي ابن حجر العسقلاني عن أحمد أنه لا يري بأسا في تقبيل منبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقبره [165] . 4 - محمد ابن المنكدر، وهو من أعلام التابعين، توفي سنة 130 ه، كان يجلس مع أصحابه في المسجد النبوي الشريف، فكان يقوم ويضع خده علي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم في هذا [ صفحه 80] الموضع، يعني في النوم. ذكرهما عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) [166] وقد ترجم له ترجمة وافية، وأثني عليه ثناء بالغا، وعده، نقلا عن نقاد الرجال، من أجدر التابعين من طبقته ممن يؤخذ منه حتي مراسيله إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وأرخ مولده ببضع وثلاثين للهجرة، وهو خال عائشة، وكان خصيصا بها، وحين توفيت كان هو ابن نيف وعشرين سنة [167] . 5 - وأما التبرك بآثار رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهو أمر شائع، وشواهده يطول ذكرها، نكتفي منها بواحد، عالي الاسناد، صريح الدلالة: أخرج الذهبي من حديث التابعي الكبير عبيدة السلماني المتوفي سنة 72 ه، وهو من أجل التابعين وأفاضل أصحاب الإمام علي عليه السلام، ومن أئمة الحديث والقضاء، وكانوا لا يختلفون في أنه أقضي من شريح [168] . قال الذهبي: قيل لعبيدة السلماني: إن عندنا من شعر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم شيئا من قبل أنس بن مالك. فقال عبيدة: لان يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء علي ظهر الأرض. وعقب الذهبي قائلا: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية علي كل ذهب وفضة بأيدي الناس، ومثل هذا ما يقوله هذا الامام بعد [ صفحه 81] النبي صلي الله عليه وآله وسلم بخمسين سنة، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه ؟ فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك، أكنت تعده مبذرا أو سفيها ؟ ! كلا.. فأبذل مالك في زورة مسجده الذي بني فيه بيده، والسلام عليه عند حجرته في بلده، وتملا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمنا حتي يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم. وقبل حجرا مكرما نزل من الجنة، وضع فمك لاثما مكانا قبله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلي الله عليه وآله وسلم إلي الحجر ثم قبل محجنه، لحق لنا أن نزدحم علي ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله. قال: وقد كان ثابت البناني إذا رأي أنس بن مالك أخذ بيده فقبلها، ويقول: يد مستها يد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. فنقول نحن إذا فاتنا ذلك: حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلي الله عليه وآله وسلم لاثما له.. فإذا فاتك الحج، وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فم مس بالتقبيل حجرا قبله خليلي صلي الله عليه وآله وسلم [169] . وفي كلام الذهبي هذا تعريض واضح بابن تيمية وأتباعه، وهو يحث علي شد الرحال لزيارة قبره، وبذل الأموال من أجل ذلك، بل من أجل الحصول علي شيء من آثاره، ولو شسع نعل كان له. وخلاصة القول: إن التبرك بمس قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ومنبره وآثاره أمر معروف [ صفحه 82] عند متقدمي السلف، مشهود بينهم، وسائر الفقهاء لا يخالفون في هذا، غير أن بعضهم كان يري أن التأدب مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقتضي أن لا يدنو الزائر من قبره كثيرا، بل يقف أمامه علي فاصلة، بكل إجلال، كما لو كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم قائما أمامه، وهو رأي لا نكارة فيه لمن يري هذا من التأدب، وهو بعد لم يستند إلي أدلة تجعل منه السنة الثابتة في الزيارة، إن القائلين به أيضا كانوا يستثنون من غلبته شدة الشوق، فقبل القبر أو المنبر، أو رمي بنفسه عليهما، ولا ريب أن بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كانوا يصنعون معه مثل هذا في حياته في حالات الشوق الشديد الذي لا يمتلك معه المرء نفسه، وقد كان ذلك مما يبعث في نفسه الشريفة الارتياح، ويزيده لهم محبة، وعليهم رحمة وشفقة. كما اتفقوا أيضا علي أن من فعل ذلك لغرض التبرك وحده، فلا بأس به، ولا نكارة عليه. وإنما كرهوا أن يكون ذلك تصنعا، وأن يتخذه المرء عادة وسنة، دون أن يكون ذلك مصحوبا بشوق حقيقي. وهو المستفاد مما نسب إلي الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام - علي فرض صحة إسناده - وقد رأي رجلا يفعل ذلك مرارا وفي كل يوم، فقال له: ما يحملك علي هذا ؟. قال: أحب التسليم علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم. فقال له زين العابدين عليه السلام: هل لك أن أحدثك عن أبي ؟. قال: نعم. قال عليه السلام: حدثني أبي، عن جدي، أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي وسلموا حيث ما كنتم، [ صفحه 83] فسيبلغني سلامكم وصلاتكم [170] . وأخرج عبد الرزاق في (المصنف) نحو هذا عن الحسن بن علي عليهما السلام. وليس في هذا الكلام إنكار لأصل الزيارة، لا سيما بعد أن ثبت أنهم يفعلونها، وأنهم مجمعون علي صحتها وكونها قربة، ولكنه لما رأي الرجل قد جاوز الحد في صنيعه عند القبر، مكررا ذلك غداة كل يوم كما جاء في صدر الخبر، الامر الذي يبعد معه احتمال كونه يصنع ذلك كله بشوق حقيقي خال من التصنع، أنكر عليه ذلك، وأراد تعليمه أن السلام يبلغه ولو من بعد، دون الحاجة إلي هذا القدر من التصنع المكرر يوما بعد آخر. ويشهد لهذا أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام، منها: - حديث الإمام الباقر عليه السلام عن أبيه علي بن الحسين نفسه، أنه كان يقف علي قبر النبي ويلتزق بالقبر [171] . - وأن الإمام الصادق عليه السلام كان يأتي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيضع يده عليه. وسيأتي بكامله مع أحاديث أخري مماثلة في (آداب الزيارة). - وحديث الإمام الصادق عليه السلام: مروا بالمدينة فسلموا علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من قريب، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد [172] . - وقوله عليه السلام: صلوا إلي جانب قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين [ صفحه 84] تبلغه أينما كانوا [173] . وسيأتي في (آداب الزيارة) أن الأئمة عليهم السلام وسائر أهل العلم كانوا يعلمون الناس سننا وآدابا خاصة في الزيارة، ليتمسك بها الناس، فلا يتجاوزونها. وشأن الزيارة في ذلك شأن سائر العبادات والقربات المحفوفة بالسنن والآداب. [ صفحه 85]

آداب الزيارة ورد الشبهات المثارة حولها

آداب الزيارة

اشاره

كغيرها من الأعمال التي يتقرب بها إلي الله تعالي، لابد أن تكون للزيارة سنن وآداب، ينبغي التزامها، والعمل بمقتضاها والحذر من مجاوزتها وإغفالها لما قد يجره ذلك عن خروج من السنن أحيانا، ومجاوزة للآداب أحيانا أخري. وقد تقدم في (زيارة القبور وفضيلتها) عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه نهي أن يقول الزائر هجرا، أي أن يأتي بالكلام الذي لا يستقيم مع روح الدين الاسلامي ومقاصده. ولما كانت زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء الصالحين مما عمل به المسلمون منذ الصدر الأول، واستمروا عليه، فقد وجد الأئمة عليهم السلام وسائر الفقهاء لزاما تعليم الناس فقه الزيارة وسننها وآدابها، حفاظا علي صورة الدين الحنيف، وعلي صورة هذه الشعيرة من شعائره، فورد عنهم في هذا أثر كثير، يؤكد [ صفحه 86] بالمرتبة الأولي إجماعهم علي أنها من سنن هذا الدين، وأنها من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلي الله تعالي.. ونكتفي هنا بإيراد نماذج منتخبة، تحقق الغرضين معا، شرعية الزيارة، ثم سننها وآدابها. 1 - في حديث حسن الاسناد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها، ثم تأتي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ثم تقوم فتسلم علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر، وأنت مستقبل القبلة، ومنكبك الأيسر إلي جانب القبر، ومنكبك الأيمن مما يلي القبر، فإنه موضع رأس رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك محمد بن عبد الله، وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لامتك وجاهدت في سبيل الله وعبدت الله مخلصا حتي أتاك اليقين، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأديت الذي عليك من الحق، وأنك قد رؤفت بالمؤمنين، وغلظت علي الكافرين، فبلغ الله بك أفضل شرف محل المكرمين. الحمد لله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة، اللهم فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقربين وعبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين وأهل السماوات والأرضين ومن سبح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين علي محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيك وخاصتك وصفوتك وخيرتك من خلقك، اللهم أعطه [ صفحه 87] الدرجة والوسيلة من الجنة وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم إنك قلت: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وإني أتيت نبيك مستغفرا تائبا من ذنوبي، يا رسول الله إني أتوجه بك إلي الله ربي وربك ليغفر ذنوبي. قال: وإذا كان لك حاجة فاجعل قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك واسأل حاجتك، فإنها أحري أن تقضي إن شاء الله [174] . وفي الحديث ما هو صريح بالتوسل والاستشفاع بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم. أما استدبار القبر الشريف أثناء الدعاء فقد ورد مثله في أحاديث أخر، كما ورد أيضا استقباله في الدعاء، مما يدل علي جواز الامرين، وليس في أيهما مخالفة لأدب الزيارة أو أدب الدعاء. 2 - من حديث الإمام موسي بن جعفر، عن أبيه، عن جده الباقر عليهم السلام، قال: كان أبي علي بن الحسين عليهما السلام يقف علي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيسلم عليه، ويشهد له بالبلاغ، ويدعو بما حضره، ثم يسند ظهره إلي المروة [175] الخضراء الدقيقة العرض مما يلي القبر، ويلتزق بالقبر، ويسند ظهره إلي القبر ويستقبل القبلة، فيقول: اللهم إليك ألجأت أمري، وإلي قبر محمد عبدك [ صفحه 88] ورسولك أسندت ظهري، والقبلة التي رضيت لمحمد صلي الله عليه وآله وسلم استقبلت... في دعاء طويل [176] . 3 - عن محمد بن مسعود، قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام انتهي إلي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فوضع يده عليه، وقال: أسأل الله الذي اجتباك واختارك وهداك وهدي بك أن يصلي عليك، ثم قال: (إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) [177] . 4 - عن الإمام الصادق عليه السلام: إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فأت المنبر وامسحه بيدك، وخذ برمانتيه، وهما السفلاوان، وامسح عينيك ووجهك به، فإنه يقال إنه شفاء العين. وثم عنده فاحمد الله وأثن عليه، وسل حاجتك، فإن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ومنبري علي ترعة من ترع الجنة [178] ، ثم تأتي مقام النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فتصلي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصل علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد الرسول صلي الله عليه وآله وسلم [179] . وهو صريح بجواز التبرك بمنبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم. 5 - نص زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم في (الفقه علي المذاهب الأربعة). وردت عن أعلام المذاهب الأربعة نصوص عديدة في زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، [ صفحه 89] اختار منها صاحب كتاب (الفقه علي المذاهب الأربعة) نصا موجزا نسبيا، يتلوه الزائر عند قبر المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، وهو: السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول الله، فقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في أمر الله حتي قبض الله روحك حميدا محمودا، فجزاك عن صغيرنا وكبيرنا خير الجزاء، وصلي عليك أفضل الصلاة وأزكاها، وأتم التحية وأنماها، اللهم اجعل نبينا يوم القيامة أقرب النبيين إليك، واسقنا من كأسه، وارزقنا من شفاعته، واجعلنا من رفقائه يوم القيامة، اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبينا عليه السلام، وارزقنا العود إليه يا ذا الجلال والاكرام [180] . وفي الفقرة الأخيرة ما يدل علي استحبابهم القصد لزيارته صلي الله عليه وآله وسلم ، غير مقرون بقصد آخر اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبينا عليه السلام، وارزقنا العود إليه.

استقبال القبر واستدبار القبلة

تقدم في حديثي الامامين زين العابدين والصادق عليهما السلام استحباب استقبال القبلة وجعل القبر الشريف وراء الكتف حال الدعاء عنده، وقد أشرنا هناك إلي ورود ما يدعو إلي استقبال القبر الشريف حال الدعاء والاستشفاع، وعندها تكون القبلة وراء كتف الزائر. ومما ورد في هذا: 1 - عن أبي حنيفة، قال: جاء أيوب السختياني، فدنا من قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فاستدبر القبلة، وأقبل بوجهه إلي القبر، فبكي بكاء غير متباك [181] . [ صفحه 90] 2 - مالك بن أنس: في مناظرة مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور في المسجد النبوي الشريف، قال أبو جعفر لمالك: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ؟ قال مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي الله تعالي يوم القيامة ؟ ! بل استقبله، واستشفع به فيشفعه الله تعالي [182] . 3 - مذهب الشافعي وأبي حنيفة، والمنقول عن ابن عمر: استقبال القبر واستدبار القبلة. قال الخفاجي في (نسيم الرياض): استقبال وجهه صلي الله عليه وآله وسلم واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور، ونقل عن أبي حنيفة. وقال ابن الهمام: ما نقل عن أبي حنيفة أنه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: أن من السنة أن يستقبل القبر المكرم ويجعل ظهره للقبلة. قال: وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة [183] . وقد تقدمت رواية أبي حنيفة عن أيوب السختياني بما يوافقه. 4 - إبراهيم الحربي [184] : قال في مناسكه: تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسط القبر، وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته [185] .

في آداب زيارة مراقد الأئمة

إن من تمام الوفاء بالعهد لهم عليهم السلام زيارة قبورهم.. رغبة في زيارتهم، [ صفحه 91] وتصديقا لما رغبوا فيه، كما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في ما تقدم، من أجل ذلك، وحفظا لسنن الشريعة وآدابها، لا نجد واحدا منهم عليهم السلام إلا وقد ورد في آداب زيارته وما يقال عنده ما فيه غني لقاصديهم، تعليما وتأديبا، وما في حفظه براءة من كل محدث مبتدع من الأمور التي قد تصدر هنا أو هناك عن بعض زوار القبور، لجهالة أو لغفلة، وفيه البراءة أيضا من كل ما لا يليق بمقاماتهم الشريفة.. ولكون هذه الآداب والتعاليم متشابهة، نكتفي بذكر القليل منها: 1 - في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام فتوضأ واغتسل وامش علي هنيئتك، وقل: الحمد لله الذي أكرمني بمعرفة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ومن فرض طاعته، رحمة منه وتطولا علي بالايمان.. الحمد لله الذي سيرني في بلاده، وحملني علي دوابه، وطوي لي البعيد ودفع عني المكروه حتي أدخلني حرم أخي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم... الحمد لله الذي جعلني من زوار قبر وصي رسول الله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأشهد أن عليا عبد الله وأخو رسوله. ثم تدنو من القبر وتقول: السلام من الله والتسليم علي محمد أمين الله... ثم ذكر تسليما يعدد فيه خلال وخصال النبي صلي الله عليه وآله وسلم الحميدة، ثم التسليم علي أمير المؤمنين بنحو ذلك ويكثر من الصلوات عليهما وعلي آلهما، في ذكر طويل [186] . [ صفحه 92] غير أن هناك نصا آخر مختصرا جامعا لزيارته عليه السلام روي عن الامامين الصادق والكاظم عليهما السلام، جاء فيه: تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام: السلام عليك يا ولي الله، أنت أول مظلوم، وأول من غصب حقه، صبرت واحتسبت حتي أتاك اليقين.. وأشهد أنك قد لقيت الله وأنت شهيد.. عذب الله قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب.. جئتك عارفا بحقك، مستبصرا بشأنك، معاديا لأعدائك ومن ظلمك، ألقي علي ذلك ربي إن شاء الله، يا ولي الله إن لي ذنوبا كثيرة فاشفع لي إلي ربك عز وجل، فإن لك عند الله مقاما محمودا، وأن لك عند الله جاها وشفاعة، وقال تعالي: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي) [187] . فالاغتسال قبل الدخول، ثم الدخول بوقار واحترام وتواضع، والوقوف أولا عن بعد وأداء السلام اللائق بعد تقديم الحمد لله تعالي والثناء عليه بما هو أهله، ثم الدنو من القبر، وتجديد السلام بأليق الألفاظ وأجمعها لخصاله، ثم الاستشفاع به إلي الله تعالي علي هذا النحو المذكور، وما يدور في مضمونه، تلك هي صورة الزيارة التي نقرأها في تراث أهل البيت عليهم السلام، مع ما ورد من جواز مس القبر تبركا به. ثم يحسن بعد ذلك أداء الوداع لصاحب القبر المزور قبل الخروج، كما يودع لو كان حيا، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفي، ومما يقال فيه بعد تجديد السلام والعهد بالولاء: اللهم إني أسألك أن تصلي علي محمد وآل محمد، ولا تجعله [ صفحه 93] آخر العهد من زيارته، فإن جعلته فاحشرني مع هؤلاء الميامين الأئمة [188] . 2 - وهكذا ورد أيضا مع كل زيارة، فبعد أداء الزيارة للإمام الحسن عليه السلام: تقف عند قبره كوقوفك عليه عند الزيارة، وتقول: السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا مولاي ورحمة الله وبركاته، استودعك الله وأسترعيك، وأقرأ عليك السلام، آمنا بالله وبالرسول وبما جئت به ودللت عليه، اللهم اكتبنا مع الشاهدين.. ثم تسأل الله حاجتك وأن لا يجعله آخر العهد منك [189] . 3 - وفي زيارة قبر الإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام ورد التأكيد أولا علي الاغتسال بماء الفرات، ثم تراعي الخطوات الآنفة، مع ملاحظة ما يخصه عليه السلام من وقائع وأحداث: إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام فائت الفرات واغتسل بحيال قبره، وتوجه إليه وعليك السكينة والوقار حتي تدخل إلي القبر، من الجانب الشرقي، وقل حين تدخله: السلام علي ملائكة الله المنزلين ويكرر السلام علي ملائكة الله ببعض خصالهم فإذا استقبلت قبر الحسين عليه السلام، فقل: السلام علي رسول الله ويستغرق في السلام والصلاة عليه، ثم علي أمير المؤمنين عليه السلام، ثم الإمام الحسن عليه السلام، ثم الإمام الحسين عليه السلام، ثم سائر الأئمة ثم تأتي قبر الحسين فتقول: السلام عليك يا ابن رسول الله ويستغرق في التسليم عليه بأجمل خصاله، وكل خصاله جميلة، ويؤكد الولاء له، والبراءة من أعدائه ثم اجلس عند رأسه وقل: صلي الله عليك، [ صفحه 94] أشهد أنك عبد الله وأمينه، بلغت ناصحا وأديت أمينا، وقتلت صديقا، ومضيت علي يقين، ولم تؤثر عمي علي هدي، لم تمل من حق إلي باطل.. أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، واتبعت الرسول وتلوت الكتاب حق تلاوته، ودعوت إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... ثم تحول عند رجليه وتخير من الدعاء، وتدعو لنفسك. ثم تحول عند رأس علي بن الحسين وتسلم عليه بما يليق بشأنه ثم تأتي قبور الشهداء وتسلم عليهم ثم ترجع إلي القبر - قبر الحسين عليه السلام - ... وإذا أردت أن تودعه فقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأقرأ عليك السلام.. اللهم لا تجعله آخر العهد منا ومنه ثم يدعو له بالدرجة العالية الرفيعة [190] . وعلي هذا النحو سار أئمة أهل البيت عليهم السلام في تعليم المسلمين سنن الزيارة وآدابها بعد أن كانوا قد علموهم فضيلتها، ورغبوهم فيها، وحثوهم عليها. فحري بنا التزام هذه السنن والآداب، والحذر من مجاوزتها وفقا لذوق خاص أو استحسان عقلي، فكثيرا ما ينزلق الذوق الخاص والاستحسان بصاحبه إلي ما لا أصل له في الشريعة، وأحيانا إلي ما يتناقض مع سنن الشريعة وآدابها، ولنا في ما ثبت عنهم عليهم السلام كفاية في نيل فضيلة الزيارة وشرفها، فلو كانوا يرون في غير ذلك فضلا لذكروه، وكفي بهذا حجة للمتمسك بالسنن، وكفي به زاجرا للخارج عنها. [ صفحه 95]

شبهات حول الزيارة

اشاره

لم يناقش أحد في مشروعية الزيارة، بل الاتفاق حاصل علي استحبابها وكونها قربة، لما ثبت فيها من النص والسيرة والأثر، وإن ناقش بعضهم في النص، فإنه لم ينكر أصل الزيارة ومشروعيتها، وإنما وقع من بعضهم التمسك بشبهات داحضة تتصل ببعض الشؤون المتعلقة بالزيارة، وتنحصر هذه الشبهات في ثلاثة:

حرمة شد الرحال إلي غير المساجد الثلاثة

لقد ثبت في الفصول الثلاثة المتقدمة أن زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم بعد موته في نفسها مستحبة، وأنها من القربات: أولا: لأنها داخلة في عموم زيارة القبور التي حثت عليها السنة النبوية المطهرة. ثانيا: لما ورد فيها علي نحو الخصوص من تأكيد الفضيلة والاستحباب. فكيف إذا ما توقفت الزيارة علي السفر ؟ وهل يجوز السفر من مكان بعيد بقصد زيارته صلي الله عليه وآله وسلم بالمرتبة الأولي ؟ ليس يخفي أن بين الفعل وبين المقدمة التي يتوقف عليها الفعل ملازمة عقلية، فلا يمكن أن يتحقق الحج ما لم يتم السفر إلي ديار الحج. وفي الاحكام الواجبة يذهب أكثر الفقهاء إلي أن مقدمتها واجبة أيضا، وهو [ صفحه 96] المراد بالقاعدة الفقهية المشهورة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [191] أما الذين لا يرون إفراد المقدمة بحكم، فلأنهم ذهبوا إلي أنه بين المقدمة وذي المقدمة ملازمة عقلية محضة لا تستدعي جعل أمر مولوي [192] . والملازمة العقلية ثابتة بين المندوب وملازمه، من هنا ذهب أكثر الفقهاء إلي أن المقدمة التي يتوقف عليها الحكم المستحب هي مستحبة أيضا، تبعا للقول بأن المتلازمين تلازم العلة والمعلول يجب أن يأخذا حكما متماثلا.. وأدني ما يقال إن الملازم للمندوب لابد أن يكون مباحا، فلا يمكن أن يكون محرما أو مكروها وهو شرط لازم لاتيان المستحب. ولما كانت زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم مستحبة في نفسها، وقد توقفت علي السفر إلي حيث مرقده الشريف، فلا بد أن يكون السفر بقصد الزيارة مباحا، إن لم يكن مستحبا هو الآخر. ومن ناحية ثانية: فإن النصوص الواردة في الزيارة تثبت أن السفر بقصد الزيارة قربة، أيضا، ذلك: 1 - لان النص علي الزيارة يتضمن السفر أيضا، إذ الزيارة تستدعي الانتقال إلي مكان المزور، قريبا كان أو بعيدا، فالزيارة إذ كانت تعني الحضور عند المزور فقد استدعت الانتقال إلي المكان الذي هو فيه، وهو السفر، وإذا كانت الزيارة تعني الانتقال إلي المزور بقصد الحضور عنده، فالسفر بهذا القصد هو المنصوص عليه إذن في كل ما تقدم من الأحاديث الحاثة علي الزيارة. [ صفحه 97] 2 - ولان السفر بقصد الزيارة هو ظاهر الطلب وموضع الحث في بعض النصوص: - كما في قوله تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) فمجيؤهم إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم هو متعلق التوبة والرحمة، فلم يطلب منهم الاستغفار وحده، بل طلب أولا مجيئهم إلي الرسول ثم الاستغفار بحضرته ليستغفر لهم هو صلي الله عليه وآله وسلم، وهذا أمر صريح بالسفر إلي الرسول، وقد رأينا الاتفاق علي أن مشروعيته ثابتة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما كانت ثابتة في حياته. - وكما في قوله صلي الله عليه وآله وسلم: من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي فإنه صريح في السفر بقصد زيارته صلي الله عليه وآله وسلم، لا يشترك معها قصد آخر. - وهكذا كل حديث يقول فيه صلي الله عليه وآله وسلم: من زارني - أو - من زار قبري فإنه عام يدخل فيه القريب والبعيد. هذه المقدمة كافية لوحدها في إثبات بطلان ما تمسك به البعض في تحريم السفر بقصد الزيارة، إضافة إلي ما تنطوي عليه شبهتهم من تهافت واضح.. وهي شبهة قائمة علي فهم حرفي خاطئ لقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصي. فقال هؤلاء: هذا يعني أن السفر إلي غير هذه الأماكن الثلاثة حرام ! وأن السفر بأي قصد غير قصد هذه الأماكن الثلاثة تعظيما، والصلاة فيها حرام ! ! قال بهذا نفر من المفرطين في السطحية في فهم النص، فلما انتصر له ابن تيمية [ صفحه 98] أصبح هو مذهب دعاة السلفية حتي اليوم.. [193] . وهذه الشبهة مردودة، أولا: بما تقدم في الفصول السابقة. وثانيا: بالمقدمة الآنفة الذكر. وثالثا: بالحديث الذي تمسكوا به نفسه. فالحديث يقول: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد. والاستثناء هنا يعود إما إلي المساجد، فيكون المعني: لا يجوز شد الرحال لشيء من المساجد تعظيما لها، إلا المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث.. وهذا هو الراجح، لأنه لا يتعارض مع أوامر الشريعة، أو حثها علي شد الرحال إلي أماكن كثيرة وبمقاصد كثيرة، كما لا يتعارض مع واقع السيرة النبوية الشريفة وسيرة المسلمين، كما سيأتي. أو أنه استثناء من شد الرحال، فيكون المعني: لا يجوز شد الرحال إلي شيء من الأماكن إلا المساجد الثلاثة.. وهذا هو الذي تمسك به أصحاب هذه الشبهة. وليس لهذا الكلام معني إلا أن يراد به قصد مكان من الأماكن تعظيما له بذاته، ولذلك جعلوا النذر بالسفر إلي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس ملزما.. وعلي هذا المعني سوف يخرج كل سفر إلي أي مكان من الأماكن، لا بقصد تعظيمه بذاته، بل لخصوصية فيه، من حكم النهي.. فشد الرحال إلي مكان ما لغرض طلب العلم، ليس هو تعظيما للمكان المقصود بذاته.. وشد الرحال إلي مواقع الجهاد أو لحماية الثغور أو لصلة الرحم ونحو ذلك، ليس فيه شيء من تعظيم الأماكن المقصودة، فليست هذه الأماكن هي علة السفر لعظمة شأنها، وإنما هي غاية السفر لخصوصيات فيها. [ صفحه 99] وهكذا يقال في شأن الزيارة، فلم يكن موقع القبر هو علة السفر، وإنما علة السفر هو من فيه، فهو بهذا خارج أيضا عن حكم النهي. ولا يمكن قبول أي تفسير آخر للحديث يحرم السفر إلي أي مكان غير المساجد الثلاثة بأي قصد كان، فالسفر في طلب العلم قد يرقي إلي الوجوب الكفائي أحيانا، وكم شد الرحال تابعون كبار في طلب حديث واحد عند رجل في مكان ناء.. والهجرة قد تجب أحيانا، كما كان في الهجرة من مكة إلي المدينة، ولقد هاجرت أسرة ابن تيمية نفسه من حران إلي دمشق فرارا بحياتهم من المغول.. وهكذا القول مع الجهاد وسد الثغور وصلة الرحم، وإسداء النصح، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من المقاصد التي حثت عليها الشريعة. وهذا ما يفسر ورود الحديث بصيغة أخري ليس فيها نهي ولا تخصيص، فقد جاء في رواية معمر عن الزهري: تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد أخرجه مسلم [194] . وقد قال بعض العلماء: الصحيح إباحة السفر لزيارة القبور والمشاهد، وجواز القصر فيه [195] ، لان النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان يأتي قباء ماشيا وراكبا، وكان يزور القبور، وقال: زوروها تذكركم الآخرة. وأما قوله صلي الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد فيحمل علي نفي الفضيلة، لا علي التحريم، وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر، ولا يضر انتفاؤها [196] . [ صفحه 100] والمراد بنفي الفضيلة هو أن المساجد الأخري متساوية في الفضل، فلا معني لتفضيل بعضها علي بعض. وقال الغزالي في آداب السفر: القسم الثاني أن يسافر لأجل العبادة، إما لجهاد، أو حج.. ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته. ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله عليه السلام : لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصي لان ذلك في المساجد، فإنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتا عظيما بحسب اختلاف درجاتهم عند الله تعالي. قال: أما البقاع فلا معني لزيارتها سوي المساجد الثلاثة، وسوي الثغور للرباط بها، فالحديث ظاهر في أنه لا تشد الرحال لطلب بركة البقاع إلا إلي المساجد الثلاثة [197] . ثم تمسك أصحاب هذه الشبهة بأن السلام والدعاء يصل الموتي من بعد، فلم يبق في الزيارة إلا قصد الأماكن، وهو منهي عنه في الحديث. وهذا مردود، أولا: بأن الزائر لا يقصد البقعة بذاتها، وإنما يقصد زيارة من فيها. وثانيا: هو مردود أيضا بفعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقد كان يخرج إلي البقيع مرارا، كما تقدم في حديث عائشة، ويخرج إلي قبور الشهداء خارج المدينة، ليسلم عليهم [ صفحه 101] ويدعو لهم، وقد كان يكفيه ذلك من مكانه لو كان الامر كما يقولون، فلم كان يخرج إلي القبور ويقف عندها، ويأمر أصحابه بزيارتها ؟ هذا وقد وضع أصحاب هذه الشبهة فتاوي مختلفة، كشف عنها السبكي وكشف زورها [198] .

ان السفر بقصد الزيارة بدعة

وهي مترتبة علي الشبهة الأولي.. قال ابن تيمية، موهما كعادته، أنه ينقل عن أهل العلم إجماعهم، (قالوا: ولان السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولاجماع المسلمين). ثم أسند قوله هذا إلي ابن بطة وحده في (الإبانة الصغري). وسيسوقه هذا القول إلي التكذيب بكل الأحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وقد صنع ذلك، فقال: (ليس عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديثا ثابتا أصلا) [199] وقال أيضا: (والأحاديث الكثيرة المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، بل موضوعة، ولم يرو الأئمة ولا أصحاب السنن المتبعة كسنن أبي داوود والنسائي ونحوهما فيها شيئا) [200] . [ صفحه 102] وفيه: 1 - إن الأحاديث التي مر ذكرها في زيارة قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وحتي القسم الأخير منها لم يقع في أسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع، فكيف يقال انها كلها موضوعة ؟ ! 2 - لقد عاد ابن تيمية نفسه إلي كتب السنن المتبعة، ولابد له أن يعود فهي مبثوثة بين أيدي الناس، وليعترف أن الحديث في زيارته صلي الله عليه وآله وسلم قد أخرجه الدارقطني وابن ماجة ! [201] وفيه رد لقوله الأول. 3 - ومن كلام ابن تيمية نفسه في كتاب آخر له نأتي علي نقيض ما اعتمده هنا، ينفيه ويثبت ضده، فهو حين كان في معرض الحديث عن موضع رأس الحسين عليه السلام وتخطئة من يذهب إلي أنه دفن في عسقلان أو القاهرة، قال: (فإذا كانت تلك البقع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء لان البدن هناك، كان دليلا علي أن الناس في ما مضي لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شيء من هذه البقاع). ثم قال: (ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتي كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتي أن في مسائله [202] : (مسائل في ما يفعل عند قبره) - أي قبر الحسين عليه السلام - ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد) [203] . 4 - في اعتماد ابن تيمية علي ابن بطة مسألتان: [ صفحه 103] الأولي: ان لابن بطة كتابه المعروف ب (الإبانة الكبري) وقد أثبت فيه خلاف ما نقله عنه ابن تيمية في حق قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، نقله عنه السبكي [204] . والثانية: إن ابن بطة وإن كان قد وصفوه بالصلاح غير أنهم وصفوه أيضا بالضعف والاضطراب الكثير. قال الذهبي: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط.. وقال: قال عبيد الله الأزهري: ابن بطة ضعيف، وعندي عنه (معجم البغوي) ولا أخرج عنه في الصحيح شيئا. ونقل الخطيب البغدادي عن الأزهري قوله في ابن بطة: ضعيف، ضعيف، ضعيف، ليس بحجة [205] . ثم إن ابن تيمية لم يذكر أحدا من الذين قال عنهم أنهم قالوا غير ابن بطة هذا ! ! ومن ناحية أخري فقد بقي لابن تيمية والقائلين بقوله في الموضوع حجتان: الأولي في غاية الطرافة، إذ يقول: إن النبي ليلة الاسراء لم يذهب لزيارة قبر إبراهيم الخليل ! ! فهل في هذا ما يحتج به علي نفي مشروعية الزيارة ؟ وهل كل شيء لم يفعله النبي في رحلة الاسراء لم يعد مشروعا ؟ فهو صلي الله عليه وآله وسلم في رحلته تلك لم يدع أحدا إلي عبادة الله تعالي ! ولا كسر صنما ! ولا وصل رحما، ولا عاد مريضا، ولا دخل مسجدا ! ! فعل يحتج بذلك ذو منطق ؟ لقد كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم في شغله، في ما هو فوق ذلك كله، في رحلة قاده فيها جبرئيل إلي حيث قاده، ثم عاد به إلي مضجعه ولما يبرد بعد. [ صفحه 104] انها واحدة من أساليب التهويل والاستحواذ علي السامع والقارئ من المقلدين خاصة. والثانية داحضة هي الأخري، وهي تمسكه بالحديث لا تجعلوا قبري عيدا وقد اعتمد فيه الرواية المنسوبة إلي الحسن بن الإمام الحسن عليه السلام، وقد رأي رجلا عند قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم يدعو له ويصلي عليه، فقال له: لا تفعل فإن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني. وعن هذا الخبر قال الذهبي: مرسل [206] . وتقدم مثله عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، وفي إسناده رجل مجهول، وقد تقدم الحديث فيه. وحديث لا تجعلوا قبري عيدا أخرجه أبو داود في سننه [207] ، وفي إسناده عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي، قدح فيه غير واحد من أهل الجرح والتعديل: قال فيه أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفا فيه، ولم يكن في الحديث بذاك. وقال البخاري: في حفظه شيء، وقال أيضا: يعرف حفظه وينكر. ومثله قال أبو حاتم الرازي، وزاد: هو لين، ليس بالحافظ. ووثقه يحيي بن معين.. وقال أبو زرعة: لا بأس به.. ومثله قال النسائي. وقال ابن عدي: روي عن مالك غرائب. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان [ صفحه 105] صحيح الكتاب، وإذا حدث من حفظه ربما أخطأ.. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم.. [208] وهكذا اختلفوا فيه اختلافا كثيرا، يظهر منه أن الغالب عليه الضعف والخطأ في الحفظ، لكنه لم يتهم بوضع وكذب. والنتيجة أن هذا الحديث لم يرد بطريق صحيح، فلا معني لاحتجاج ابن تيمية به وهو يرد أحاديث الزيارة بدعوي أنها لم ترد بطرق صحيحة. وعند قبول الحديث لكون رواته غير متهمين بالوضع، مع أنه ورد في أكثر من طريق وان اختلف اللفظ يسيرا، فلا يصح تفسيره منفردا عن الأحاديث الأخري المتعلقة بموضوع زيارة قبره الشريف وزيارة سائر القبور، فالاجتزاء سيؤدي إلي تشويه الحقيقة، وظهورها بمظاهر متعددة، والحكم الموضوعي يقتضي النظر والتدبر في ما يتعلق بموضوع البحث من حديث وأثر للخروج بالتصور الجامع للموضوع وأبعاده، عندئذ لا يصح تفسير العيد هنا بمطلق الوفود أو اجتماع الناس عند القبر لقصدهم زيارته، مع وجود الأحاديث التي تحث علي الزيارة، وتأييد ذلك بالأثر الثابت.. وقد تقدم الجمع بين بعض هذه الأحاديث والآثار عند مناقشة الخبر الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام بهذا الشأن. ولهذا أيضا أورد بعض العلماء تفاسير أخري للمراد بقوله صلي الله عليه وآله وسلم : لا تجعلوا قبري عيدا.. - أن يكون المراد الحث علي كثرة زيارة قبره صلي الله عليه وآله وسلم وأن لا يهمل حتي لا يزار إلا في بعض الأوقات، كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين.. ويؤيده ما جاء في الحديث نفسه: ولا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم [ صفحه 106] حتي تجعلوها كالقبور التي لا يصلي فيها. - أو أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، كما هو الحال في بعض المشاهد التي جعل الناس يوما معينا لزيارتها، وزيارة قبره صلي الله عليه وآله وسلم ليس فيها يوم بعينه، بل أي يوم كان. - أو أن يكون المراد أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يؤتي إلا للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه [209] . - أو أن الحديث في غير ذلك، إذ إن الذي جاء في حديث الحسن المثني: لا تجعلوا بيتي عيدا ولم يذكر القبر، والقرينة علي ذلك ما جاء بعده ولا تجعلوا بيوتكم قبورا [210] . ولأجل التناقض بين ما يفهم من حديث الحسن المثني وهو الفهم الذي اعتمده المنكرون للزيارة، وبين ما ورد في الزيارة من الحديث والأثر، علق الذهبي علي حديث الحسن السابق الذكر قائلا: ما استدل حسن في فتواه بطائل من الدلالة، فمن وقف عند الجمرة المقدسة ذليلا، مسلما مصليا علي نبيه، فيا طوبي له، فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحب، وقد أتي بعبادة زائدة علي من صلي عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلي عليه واحدة صلي الله عليه عشرا، ولكن من زاره - صلوات الله عليه [ صفحه 107] - وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يشرع، فهذا فعل حسنا وسيئا، فيعلم برفق، والله غفور رحيم. فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلا وهو محب لله ولرسوله، فحبه المعيار الفارق بين أهل الجنة وأهل النار. فزيارة قبره من أفضل القرب، وشد الرحال إلي قبور الأنبياء والأولياء، لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد فشد الرحال إلي نبينا مستلزم لشد الرحل إلي مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلي حجرته إلا بعد الدخول إلي مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله ذلك وإياكم، آمين [211] .

ان الزيارة تفضي إلي الشرك

قد يجاوز بعض الجهلاء الحد حين يغلبه الوجد، ولا فقه له ولا علم، فيسجد للقبر، وهذا أمر منكر لا يقره أحد بأي عذر، والواجب تعليم الجاهل وزجره عن هذا ونظائره من الافعال التي لا تستقيم مع الشرع، ولا مع أدب الزيارة، ولهذا ونظائره أوجب الله تعالي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب علي العالم أن يظهر علمه، وإلا لعنه الله وأبعده عن ساحة رضاه. أما ابن تيمية فقد جعل هذا ذريعة إلي تحريم الذهاب إلي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم بقصد الزيارة حتي من قرب، قائلا: إن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالي: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا [ صفحه 108] سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ثم صوروا علي صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها... قال: وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك. واحتج أيضا بحديث النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وعلي هذا قال: كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر [212] . وهذا مما لا يحتج به ذو معرفة، فهل كان علي الله تعالي أن لا يبعث نبيا، سدا للذرائع، إذا كانت أمة سالفة قد عبدت نبيها وألهته ؟ ! أم عليه تعالي إذا بعث نبيا ألا يميته ؟ ! وإذا أماته أن يرفعه إلي السماء لئلا يدفن بين أمته فيتخذون قبره مسجدا ؟ ! لقد بينت الشريعة التوحيد وحدوده، والشرك وحدوده، وحتي الشرك الأصغر، ليجتنبه الناس ولا يخلطون بعباداتهم، وطاعاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم شيئا مما يدخل تحت عنوان الشرك، ليبقي الواجب واجبا، والمندوب مندوبا، والمباح مباحا، كل علي صورته المشروعة، وما يظهر من بدع في طريق الناس وأساليبهم يرد عليهم، كما قال صلي الله عليه وآله وسلم: من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد. وقد أمر النبي صلي الله عليه وآله وسلم المؤمنين بزيارة قبور إخوانهم، فهل يعني أنه أباح لهم إقامة الأوثان عليها والسجود لها؟ [ صفحه 109] لقد أمرهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم بها بعد أن علمهم آدابها وسننها، ونهاهم عن المحرم فيها، وهذا هو الأصل في الزيارة في غيرها. ولقد كان النصاري حتي قبل ظهور نبينا صلي الله عليه وآله وسلم يشركون بالله في صلواتهم فيجعلونه ثالث ثلاثة، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا، فهل من واجب الموحد فيهم أن ينهاهم عن الصلاة لما خالطها من شرك ! ! أم الواجب عليه تبيين حدودها وآدابها ونفي كل ما خالطها من بدع وضلالات ؟ أم كان علي خاتم الأنبياء أن يحرم الصلاة سدا للذرائع ؟ ! هذا مما لا يقوله عاقل.. غير أن عادة ابن تيمية التهويل في الأمور، وإغراء الناس بالايهام والمغالطة والتلبيس، وقد يسوق هذا إلي الكذب والافتراء، وكثيرا ما وقع فيهما ! ! وها هو الآن يرتكبهما في قوله: (كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر). وافتري علي مالك بن أنس وكذب فيه المالكية كلهم، ومذهبهم قائم علي هذا، وقد نقلوه عن إمامهم مالك بأسانيدهم العالية عن أوثق أصحابه وأكثرهم معرفة به.. وحتي لو صح مدعاه، ولا يصح، فإنما هو عليه، لا له، ففيه شهادة بزيارتهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم والدعاء عنده، ولا يضر في ذلك استقبال القبر عند الدعاء أو استدباره واستقبال القبلة. وقد قدمنا علي الهيئتين كثيرا من أثر السلف. ويغض ابن تيمية الطرف عن كل ما لا يوافق هواه من أثر السلف.. وحين يختلف من السلف اثنان يتمسك هو بمذهب المروانية منهم ويهجر من خالفه، ولو كان من أشرف الصحابة، وأكثرهم علما.. فلقد وقع النزاع في شيء من هذا عند القبر الشريف بين مروان بن الحكم وبين [ صفحه 110] أبي أيوب الأنصاري: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع ؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: نعم، إني لم آت الحجر، إنما جئت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. ثم قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: لا تبكوا علي الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا علي الدين إذا وليه غير أهله ! أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الحاكم والذهبي [213] . نعم، صدق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لا تبكوا علي الدين إذا وليه أهله.. ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله.. ومن غريب اختلاقات ابن تيمية هنا قوله: فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء، لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا، فيتخذ قبره وثنا ! وهذا تهويل وافتراء، فما كان شيء من هذا يدور في خلد أحدهم وإنما دفنوه هناك لقولهم إن الأنبياء يدفنون حيث قبضوا، بل رفعوا القول إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، قال المؤرخون: لما توفي النبي اختلفوا في موضع دفنه، فقال قائل: في البقيع، فقد كان صلي الله عليه وآله وسلم يكثر الاستغفار لهم.. وقال قائل: عند منبره.. وقال قائل: في مصلاه.. فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت النبي صلي الله عليه وآله وسلم [ صفحه 111] يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي [214] . هذه رواية ابن إسحاق والواقدي، أما في رواية أبان بن عثمان الأحمر فإن قائل ذلك هو علي عليه السلام، قال أبان: وخاض المسلمون في موضع دفنه، فقال علي عليه السلام: إن الله سبحانه لم يقبض نبيا في مكان إلا وارتضاه لرمسه فيه، وإني دافنه في حجرته التي قبض فيها فرضي المسلمون بذلك [215] . وأيا كان القائل، فإن ما ذكره ابن تيمية لم يكن ليخطر ببال أحدهم علي الاطلاق، ناهيك عما تنطوي عليه كلمته من تصور الاجماع أو ما هو قريب به ! ! تلك هي شبهاتهم، لا تقوم إلا علي الذوق الخاص الذي لا يستقيم مع منطق متجرد، ولا يسنده دليل.. [ صفحه 115]

التوسل أقسامه وأدلته

التوسل لغة واصطلاحا

توسل إلي الله بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل. ووسل فلان إلي الله وسيلة: إذا عمل عملا تقرب به إليه. وتوسل إليه بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه. والوسيلة: القربة.. والدرجة.. والمنزلة عند الملك. وفي حديث الآذان: اللهم آت محمدا الوسيلة هي في الأصل ما يتوصل به إلي الشيء ويتقرب به، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالي، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة. وقيل: هي منزلة من منازل الجنة. هكذا قال ابن منظور [216] . وقال الراغب: الوسيلة: التوصل إلي الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة بتضمنها لمعني الرغبة، قال تعالي: (وابتغوا إليه الوسيلة). وحقيقة الوسيلة إلي الله تعالي - كما قال الراغب - مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة [217] . وقد ورد لفظ الوسيلة في القرآن الكريم في موضعين: الأول: في قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) [218] . [ صفحه 116] قال أهل التفسير: أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات، فكأنه قال: تقربوا إليه بما يرضيه من الطاعات [219] . قال الرازي: الوسيلة، فعيلة، من وسل إليه إذا تقرب إليه. قال لبيد الشاعر:أري الناس لا يدرون ما قد أمرهم ألا كل ذي لب إلي الله واسلأي متوسل. فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلي المقصود [220] . واستنتج السيد الطباطبائي مما تقدم في معني الوسيلة أنها ليست إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلي جنابه تعالي، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر، إلا أن يطلق العلم والعمل علي نفس هذه الحالة. وفي الترابط بين المفردات الثلاثة: تقوي الله وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله الواردة في الآية عرض السيد الطباطبائي صورة رائعة متماسكة، خلاصتها أن الامر بابتغاء الوسيلة بعد الامر بالتقوي، ثم الامر بالجهاد في سبيل الله بعد الامر بابتغاء الوسيلة، هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه [221] . فابتغاء الوسيلة إذن وهو التماس ما يقرب العبد إلي ربه، أخص من التقوي العامة في اجتناب المعاصي والعمل بالطاعات. [ صفحه 117] والموضع الثاني: في قوله تعالي: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) [222] . والآية هنا في معرض الرد علي أقوام يعبدون الملائكة، أو يؤلهون المسيح وعزيرا عليهما السلام، فقالت الآية ان أولئك الذين تدعونهم من ملائكة وأنبياء إنما هم في أنفسهم يبتغون إلي ربهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه [223] . والوسيلة هنا لم تخرج عن معناها الأول، فهي التوصل والتقرب. وربما استعملت بمعني ما به التوصل والتقرب، ولعله الأنسب بالسياق [224] . ومن كل ما تقدم يعلم أن التوسل إنما هو اتخاذ الوسيلة المقصود، ومعه يكون الأنسب في معني الوسيلة أنها ما يتم به التوصل والتقرب. هذا هو التوسل في معناه اللغوي الجامع. أما التوسل إلي الله تعالي في معناه الاصطلاحي، فهو أن يتقرب العبد إلي الله تعالي بشيء يكون وسيلة لاستجابة الدعاء ونيل المطلوب [225] وهو ما جاء به قوله تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) فهم بعد استغفارهم يتخذون من استغفار الرسول لهم وسيلة لنيل توبة الله عليهم ورحمته إياهم. وهذا توسل بدعاء الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في حياته. [ صفحه 118] ولم ينحصر أسلوب التوسل المأمور به شرعا، أو الآخر الذي أباحته الشريعة، بهذا اللون بل تعددت أساليبه بتعدد الوسائل المعتمدة فيه، كما سيأتي في مبحث أقسام التوسل. ومن هنا يمكن ملاحظة أكثر من مصطلح آخر قد يكون مرادفا للتوسل بهذا المعني، منها: 1 - الاستشفاع: أو التشفع، وهو اتخاذ الشفيع إلي الله تعالي لاستجابة الدعاء ونيل القرب والرضا. وقد كان الاستشفاع بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وبدعائه في حياته ثابت في سلوك المسلمين وثقافتهم، كما هو ثابت أيضا بعد وفاته، والاجماع قائم علي تحقق شفاعته صلي الله عليه وآله وسلم لامته يوم القيامة. والشفيع بمثابة الوسيلة في الدعاء وطلب القربي. 2 - الاستغاثة: وهي طلب الإغاثة من المستغاث به، إلي المستغاث والمغيث وهو الله تعالي. 3 - التوجه: وهو التوجه إلي الله تعالي بما له وجه عنده. 4 - التجوه: وهو مثل التوجه، فهو سؤال الله تعالي بما له وجاهة عنده. فالوسيلة في التوسل، هو الشفيع في الاستشفاع، وهو المستغاث به في الاستغاثة، وهو المتوجه به في التوجه، والمتجوه به في التجوه. ولا عبرة في اختلاف الألفاظ أو الاختلاف فيها، ما دام المعني واحدا، وهو سؤال الله تعالي بالنبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم أو بغيره مما له عند الله تعالي منزلة مقطوع بها. [ صفحه 119]

اقسام التوسل

اشاره

التوسل في معناه واحد، لا يمكن تقسيمه من هذا الوجه، غير أنه من حيث تعيين المتوسل به - أي الوسيلة - يتعدد بتعدد الوسائل، فليس كل شيء يصلح أن يكون وسيلة إلي الله تعالي، وإنما هناك وسائل أمر الشارع ببعضها وشرع البعض الآخر علي نحو الإباحة أو الاستحباب. وأقسام التوسل بهذا الاعتبار هي:

التوسل بالله تعالي

الله تبارك وتعالي أقرب إلي المرء من نفسه، وأعلم به من نفسه، وأرحم به من كل شيء، فهو (الرحمن الرحيم) وهو (أرحم الراحمين) فجاز التوسل به تعالي إليه لنيل رضاه، وهو في نهاية اليقين به تعالي والوثوق به والاعتماد عليه. وقد جاء في دعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم عند النوم: اللهم إني أعوذ برضاك من [ صفحه 120] سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك [226] . وفي هذا الباب يدخل كل دعاء يكون الله جل جلاله هو المخاطب فيه، فقولك: اللهم اغفر لي ذنبي، اللهم ارحمني، اللهم إني أسألك رضاك وغير ذلك إنما هو توسل بالله تعالي لنيل المغفرة، والرحمة، والرضوان. ومن مفاتح هذا الباب: قوله تعالي: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) [227] . وقوله تعالي: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) [228] . - ومما يظهر فيه معني التوسل من هذا القسم، الدعاء المأثور: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجأة عقوبتك، ومن جميع سخطك [229] . - وكم هي جلية عظمة هذا القسم من التوسل، لما يتميز به من درجات اليقين بالله والاحساس الأكبر بالقرب منه، كما نلمسه في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام : لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمنني عليك، ولا حصن يحجبني عنك، ولا ملاذ ألجأ إليه منك.. ولا أستشهد علي صيامي نهارا، ولا أستجير بتهجدي ليلا... ولست أتوسل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلت من [ صفحه 121] وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك [230] . فهو عليه السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه، وينحي كل وسيلة، رغم إمكان الاستشفاع والتوسل، كما هو واضح في قوله: ولست أتوسل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلت من وظائف فروضك فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدم طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرط في أداء شيء من وظائف الفروض. إنه يجعل الله تعالي هو شفيعه وهو وسيلته إلي القرب منه ونيل رضاه. - ومن دعائه عليه السلام: وأشبه الأشياء بمشيتك، وأولي الأمور بك في عظمتك، رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك [231] . - وله عليه السلام أيضا: ويا غوث كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد [232] . - وقوله عليه السلام أيضا: وبك استغاثتي إن كرثت [233] . - وقوله عليه السلام: وأستجير بك اليوم من سخطك، فصل علي محمد وآله وأجرني [234] . - وقوله الذي يحقق هذه المعاني كلها: فناديتك يا إلهي مستغيثا بك، واثقا بسرعة إجابتك، عالما أنه لا يضطهد من آوي إلي ظل كنفك، ولا يفزع من لجأ إلي معقل انتصارك [235] . [ صفحه 122]

التوسل بأسماء الله الحسني و صفاته جل جلاله

قال تعالي: (ولله الأسماء الحسني فادعوه بها) [236] . وهو أمر صريح بدعاء الله تعالي بأسمائه الحسني، وغالبا ما يأتي الدعاء بالأسماء الحسني علي صيغة التوسل والاستغاثة، وهو إذ يؤكد أن الدعاء هو توسل واستغاثة بالله تعالي إليه ولنيل المطلوب لديه، يضيف أسلوبا جديدا من أساليب التوسل والاستغاثة.. قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لله تسعة وتسعون اسما، من دعا الله بها استجيب له [237] . - وقد جاء في دعائه صلي الله عليه وآله وسلم: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث. - وفي قوله صلي الله عليه وآله وسلم يعلم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول: يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين، ولا إلي أحد من خلقك [238] . - ومن حديثه صلي الله عليه وآله وسلم: ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله [ صفحه 123] همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا. قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمها ؟ يريدون هذه الكلمات. قال: ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها [239] . - وأخرج الترمذي من حديث بريدة: أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي [240] . - وأخرج الترمذي أيضا من حديث أنس بن مالك أنه كان جالسا مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ورجل يصلي، فدعا الرجل: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والاكرام، يا حي يا قيوم) فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: تدرون بم دعا الله ؟ دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي [241] . - ومن حديث محجم بن الأدرع، أخرجه الحاكم: دخل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المسجد، فإذا هو برجل قد صلي صلاته وهو يتشهد ويقول: اللهم إني أسألك بالله الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم. فقال صلي الله عليه وآله وسلم: قد غفر له، قد غفر، قد غفر له قال الحاكم: صحيح علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي [242] . [ صفحه 124] والحديث في مثل هذا وأشباهه كثير جدا. وفي الدعاء النبوي الشريف: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم [243] ، اللهم إني أسألك باسمك المخزون المكنون [244] ، اللهم إني أسألك بأسمائك الحسني [245] . - وفي دعاء الإمام السجاد عليه السلام: فأسألك اللهم بالمخزون من أسمائك [246] . - وفي دعاء الإمام الباقر عليه السلام: اللهم إني أسألك باسمك العظيم الأعظم، الأعز الاجل الأكرم، الذي إذا دعيت به علي مغاليق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دعيت به علي مضايق أبواب الأرض للفرج انفرجت... الدعاء [247] . والتوسل بأسماء الله الحسني كثير جدا في الدعاء المأثور، وعليه إجماع المسلمين، لا يخالف فيه أحد. - ومن صريح التوسل بصفاته: دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون [248] . - ودعاؤه أيضا: اللهم صل علي محمد وآله، وشفع في خطاياي كرمك.. اللهم ولا شفيع لي إليك فليشفع لي فضلك [249] . [ صفحه 125] - وفي الدعاء النبوي الشريف: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك [250] . اللهم إني أعوذ بنور وجهك الكريم وكلماتك التامة [251] .

التوسل بالثناء علي الله والصلاة علي النبي وآله

وهو أن يستفتح الداعي دعاءه بحمد الله تعالي بما هو أهل له من الحمد، والثناء عليه، وأن يصلي علي النبي محمد وآله صلي الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك أقرب في استجابة الدعاء ونيل المطلوب. قال الإمام الصادق عليه السلام: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة حتي يبدأ بالثناء علي الله عز وجل والمدح له، والصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ثم يسأل الله حاجته [252] . وقال: إن العبد لتكون له الحاجة إلي الله تعالي فيبدأ بالثناء علي الله والصلاة علي محمد وآله حتي ينسي حاجته، فيقضيها من غير أن يسأله إياها [253] . وفي حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يزال الدعاء محجوبا حتي يصلي علي وعلي أهل بيتي [254] . وفي حديث الإمام علي عليه السلام: كل دعاء محجوب حتي يصلي علي محمد وآل [ صفحه 126] محمد [255] . من هنا تجد الحمد لله والثناء عليه والصلاة علي النبي وآله تتصدر الكثير من الأدعية المأثورة، ولعل أوضح ما تكتشف فيه هذه الظاهرة هي أدعية الإمام السجاد عليه السلام في الصحيفة السجادية التي تكاد كلها تستهل بالحمد والصلاة، بل إن الصلاة علي النبي وآله تتصدر الغالبية العظمي في فقراتها. ومن صريح دعائه متوسلا بالصلاة، قوله عليه السلام: وصل علي محمد وآله صلاة دائمة نامية، لا انقطاع لأبدها، ولا منتهي لأمدها، واجعل ذلك عونا لي، وسببا لنجاح طلبتي، إنك واسع كريم [256] .

التوسل بالقرآن الكريم

كما ورد سؤال الله تعالي بأسمائه وصفاته وأفعاله، ورد أيضا سؤاله جل شأنه بالقرآن الكريم، وهو كتابه المنزل وكلامه المحكم. عن عمران بن الحصين: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: اقرأوا القرآن، واسألوا الله تبارك وتعالي به، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس [257] . فكما يفيده عموم اللفظ من إرادة القربة ونيل الثواب والمنزلة بقراءة القرآن، فإنه يفيد أيضا جواز سؤال الله تعالي به، وتقديمه بين يدي الدعاء. وفي حديث الإمام علي عليه السلام ما يبين ذلك، قال عليه السلام: واعلموا أن هذا القرآن هو [ صفحه 127] الناصح الذي لا يغش... فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلي الله تعالي بمثله [258] . وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: واجعل القرآن وسيلة لنا أشرف منازل الكرامة... اللهم صل علي محمد وآل محمد واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار... وهون بالقرآن عند الموت علي أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين.. [259] . وفي حديث أهل البيت عليهم السلام: اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسني، وما يخاف ويرجي، أن تجعلني من عتقائك من النار [260] . ومما لا نزاع فيه أن القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة. قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: تعلموا القرآن فإنه شافع يوم القيامة [261] . وقال صلي الله عليه وآله وسلم: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة [262] . وفي حديث الإمام علي عليه السلام في القرآن، وقد تقدم طرف منه، يقول: واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه [263] . [ صفحه 128]

التوسل بالأيام المباركة

الأيام التي جعل الله تعالي لها شأنا خاصا هي الأخري باب من أبواب التوسل والاستشفاع. فقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في شهر رمضان المبارك: اللهم إني أسألك بحق هذا الشهر [264] .

التوسل بالاعمال الصالحة

إذا كان المراد بقوله تعالي: (وابتغوا إليه الوسيلة) هو إتيان الطاعات المقربة إلي الله تعالي، كما تقدم عن المفسرين، فالطاعات إذن هي الوسيلة إليه تعالي هنا، وبها يتوسل العبد لنيل القربة والمنزلة عند بارئه. ولم يقتصر التوسل بالاعمال الصالحة علي أدائها فقط، بل تضمن أيضا التوسل بها إلي الله تعالي بالدعاء رجاء لنيل المطلوب، من كشف الغم والهم، أو رفع الدرجة، ونيل الرضوان. وهذا المعني منطو في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعد أن بنيا البيت العتيق، إذ قدما عملهما المبارك بين يدي الدعاء، قال تعالي: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبلمنا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) [265] . [ صفحه 129] وروي البخاري وغيره حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقص علي أصحابه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسلوا بأعمالهم الصالحات ففرج عنهم، قال صلي الله عليه وآله وسلم: بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم المطر، فآووا إلي غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي علي فرق [266] من أرز، فذهب وتركه، وإني عمدت إلي ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلي تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز ! فقلت له: اعمد إلي تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق.. فساقها.. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرج عنا... فانساحت عنهم الصخرة. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون [267] من الجوع فكنت لا أسقيهم أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فلم أزل أنتظر حتي طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا.. فانساحت عنهم الصخرة حتي نظروا إلي السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، [ صفحه 130] وأني راودتها عن نفسها، فأبت، إلا أن آتيها بمئة دينار، فطلبتها حتي قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه ! فقمت وتركت المئة دينار.. فإن كنت تعلم اني فعلت ذلك من خشيتك، ففرج عنا... ففرج الله عنهم فخرجوا [268] . ولم يكن النبي صلي الله عليه وآله وسلم يريد بهذا الحديث أن يمتع أصحابه بقصة من قصص الغابرين، إنما كان يريد ما فيها من دروس وعبر، فهي بعد ما تتركه من أثر وثيق في شحذ الأرواح وزيادة اليقين، تؤدي دور التعليم لواحد من سبل الخلاص من الشدائد، ألا وهو التوسل بالاعمال الصالحات. وفي بعض التفاسير أن المراد بأصحاب الرقيم في قوله تعالي: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) [269] هم هؤلاء النفر الثلاثة. قال الطبرسي، في ذكر الوجوه الواردة في معني الرقيم: وقيل أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسد عليهم، فقالوا: ليدع الله تعالي كل واحد منا بعمله حتي يفرج الله عنا، ففعلوا، فنجاهم الله. قال: رواء النعمان بن بشير، مرفوعا [270] . - وفي هذا الباب أيضا التوسل بالكشف عن الاعتقاد المرضي عند الله جل شأنه، كالذي يستفاد من قوله تعالي: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) [271] فقدموا الايمان وسيلة بين يدي دعائهم. [ صفحه 131] وفي ذلك من دعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام شيء كثير: - ففي دعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم قوله: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الاحد.. [272] . وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: اللهم أني أسألك بأني أشهد أنك الله لا إله إلا أنت [273] . - وفي دعاء الإمام زين العابدين صلي الله عليه وآله وسلم: ووسيلتي إليك التوحيد، وذريعتي أني لم أشرك بك شيئا ولم أتخذ معك إلها [274] .

التوسل بدعاء الغير

للمؤمن عند الله تعالي كرامة.. من هنا جعل الله للمؤمن شفاعة في إخوانه وذويه من المؤمنين يوم القيامة، بل في الدنيا أيضا، ففي الحديث الشريف: قد أجرنا من أجرت أم هانئ [275] لما استجار بها قوم من المشركين يوم الفتح، والجوار معروف في الاسلام ومحفوظ. ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن في الغيب من الدعوات المجابة، ومن الدعوات التي يستحب للمؤمن فعلها. ففي الحديث الشريف: إن دعوة المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب [276] . [ صفحه 132] بل قد جاء في الحديث الشريف الحث علي التوسل بدعاء بعض المؤمنين بأعيانهم، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إن رجلا من أهل اليمن يقدم عليكم.. يقال له أويس، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم [277] . وقصة عمر بن الخطاب في طلب أويس القرني والتماس دعوته مشهورة [278] . في ترجمة أويس، قال الذهبي بعد أن ذكر عدة أحاديث في التماس عمر دعاءه، قال: نادي عمر بمني علي المنبر: يا أهل قرن.. فقام مشايخ، فقال لهم عمر: أفيكم من اسمه أويس ؟ فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار، لا يألف، ولا يؤلف. قال: ذاك الذي أعنيه، فإذا عدتم فاطلبوه، وبلغوه سلامي وسلام رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. قال: فقال أويس - لما بلغه ذلك -: عرفني، وشهر باسمي ؟ ! اللهم صل علي محمد وعلي آله، السلام علي رسول الله، ثم هام علي وجهه، فلم يوقف له بعد ذلك علي أثر دهرا، ثم عاد في أيام علي عليه السلام، فاستشهد معه بصفين، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة [279] . وكل هذا صريح في التوسل بدعاء المؤمن، فهو مرتبة من مراتب التوسل. وأشرف المؤمنين علي الاطلاق هو سيد البشر أجمعين محمد المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، وقد أمر الله تعالي بالتماس دعوته وإتيانه لطلب دعائه [ صفحه 133] واستغفاره. قال تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [280] . وقال تعالي: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) [281] . والتوسل بدعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم مشهور بين الصحابة. قال ابن تيمية: وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله لنا أن يمسكها عنا. فرفع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم علي الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال، وأقلعت، فخرجنا نمشي في الشمس [282] . ذلك كان بعد أن سألوه الاستسقاء، فاستسقي لهم، فسقاهم الله مطرا غزيرا.. روي البخاري ومسلم: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال [ صفحه 134] وانقطعت السبل، فادع لنا الله تعالي يغيثنا، فرفع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا [283] أي أسبوعا كاملا. وفي سنن أبي داود، عن جبير بن مطعم، قال: أتي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الانعام، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك علي الله، ونستشفع بالله عليك. قال صلي الله عليه وآله وسلم: ويحك، أتدري ما تقول ؟ ! إنه لا يستشفع بالله علي أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك [284] . فقد أنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر عليه قوله نستشفع بك علي الله. وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أنس بن مالك: جاء أعرابي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينط، وأنشد:أتيتك والعذراء تدمي لبانها وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقي بكفيه الفتي لاستكانة من الجوع هونا ما يمر ولا يحلي ولا شيء مما يأكل الناس عندنا سوي الحنظل العامي والعلهز الفسلوليس لنا إلا إليك فرارنا وأين فرار الناس إلا إلي الرسل فقام رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يجر رداءه حتي صعد المنبر، فرفع يديه، ثم قال: اللهم [ صفحه 135] اسقنا.. وذكر الدعاء، ثم قال فما رد النبي يده حتي ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق ! فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتي أحدق بها كالإكليل، وضحك النبي حتي بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبي طالب، لو كان حيا قرت عيناه، من ينشدنا قوله ؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل يطوف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضلكذبتم وبيت الله نبزي محمدا ولما نطاعن دونه ونناضلونسلمه حتي نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أجل فقام رجل من كنانة، رضي الله تعالي عنه، فقال: لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر إلي قوله: فكان كما قال عمه أبو طالب أبيض ذو غرر فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت [285] . وقال ابن تيمية: وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال: إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم حيث يقول: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل [286] . [ صفحه 136] وهذا مما لا خلاف فيه.

التوسل بالأنبياء والصالحين

وفي هذا القسم من التوسل أقسام، هي: أ - التوسل بدعائهم في حياتهم، وقد تقدم في الفقرة السابقة. ب - التوسل بهم في حياتهم. ج - التوسل بهم وبدعائهم بعد موتهم. والقسمان الأخيران (ب، ج) مما وقع فيه الكلام الذي يستدعي مزيدا من النقد والمطارحة، لذا فقد أفردنا له الفصل الآتي، مستوعبين خلاله الشبهات المثارة حول هذين القسمين من التوسل وردودها. [ صفحه 137]

التوسل بالأنبياء والصالحين

اشاره

تقدم أن هذا القسم من التوسل ينقسم إلي ثلاثة أقسام، كما تقدم بحث القسم الأول منه وهو التوسل بدعائهم في حياتهم، ويتكفل هذا الفصل بحث القسمين الآخرين:

التوسل بالأنبياء والصالحين في حياتهم

المراد هنا التوسل بالأنبياء والصالحين بأنفسهم وذواتهم، لما لهم عند الله من شأن ومنزلة، وأمثلته مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في حياته كثيرة. - فقد تقدم قول الاعرابي للنبي صلي الله عليه وآله وسلم: (فإنا نستشفع بك علي الله، ونستشفع بالله عليك) ورد النبي صلي الله عليه وآله وسلم عليه قوله الأخير (نستشفع بالله عليك) مقرا قوله الأول (فإنا نستشفع بك علي الله). وهو صريح في جواز الاستشفاع بالنبي نفسه إلي الله تعالي، لمنزلته الشريفة عنده ومقامه المحمود لديه. - كما تقدم ذكر أبيات أبي طالب في الاستشفاع بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، وليس [ صفحه 138] بدعائه وحسب، وإقرار النبي صلي الله عليه وآله وسلم هذه الأبيات واستبشاره بها. - وفي الصحيح الثابت أيضا توسل الأعمي بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في دعاء علمه إياه النبي صلي الله عليه وآله وسلم بنفسه.. عن عثمان بن حنيف: إن رجلا ضريرا أتي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال صلي الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، وهو خير لك. قال: فادعه. إلي هنا يظهر من الحديث أن الرجل كان يتوسل بدعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم له، غير أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم سينقله إلي أسلوب آخر من أساليب التوسل، فبدلا من أن يدعو له بالشفاء، علمه دعاء يدعو به صاحب الحاجة نفسه.. يقول الحديث: فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلي ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في. قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وما طال بنا الحديث حتي دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط [287] . ابن تيمية روي هذا الخبر عن البيهقي، ثم قال: (قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه، بطوله. ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن [ صفحه 139] حنيف). ثم واصل ابن تيمية قائلا: (قلت: وقد رواه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة، من طريقين، وشبيب هذا صدوق روي له البخاري) [288] . وقال أيضا: (وقد روي الطبراني هذا الحديث في المعجم) ثم ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر إلي أن قال: (قال الطبراني: روي هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر - واسمه عمير بن يزيد - وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمير عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسي: والحديث صحيح). قال: (قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمير) [289] . لكنه مع هذا كله، ومع وضوح النص النبوي، يقول: فهذا طلب من النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجهه بنبيه إلي الله، وهو كتوسل غيره من الصحابة به إلي الله، فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته ! [290] . ويستنتج من ذلك وأمثاله مما تقدم ذكره أن الصحابة كانوا يطلبون من النبي الدعاء، وهذا مشروع في الحي [291] . وفي هذا مصادرة علي الحقيقة غير خافية، ففرق كبير بين أن يطلب أحد الدعاء من النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فيدعو له، وبين أن يطلب منه الدعاء، فيعلمه أن يدعوا بنفسه ويتوسل في دعائه بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم، وسيلة وشفيعا. ففي الأول يتولي النبي صلي الله عليه وآله وسلم [ صفحه 140] الدعاء للسائل الذي توسل بدعائه له، وهو مرتبة من مراتب التوسل، وفي الثاني يتولي المرء نفسه الدعاء متوسلا بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم نفسه. والامر واضح، لا سيما وفي الحديث عبارة صريحة تقول: يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلي ربي في حاجتي. فهو توجه صريح بمحمد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، وتوسل به نفسه إلي الله تعالي، ولا يؤثر علي هذا المعني ما جاء بعده من قوله اللهم فشفعه في لان هذه هي غاية التوسل والتوجه والاستشفاع، سواء كان توسلا بالدعاء، أو كان توسلا بذات النبي صلي الله عليه وآله وسلم. كما أن قول الاعرابي المتقدم الذكر (ادع لنا) الذي يفيد التوسل بدعائه صلي الله عليه وآله وسلم لا يلغي دلالة قوله: (فإنا نستشفع بك علي الله) بعد إقرار النبي صلي الله عليه وآله وسلم هذا القول الذي هو صريح بالتوسل بذاته الشريفة. ومثله في صراحة التوسل بذاته الشريفة قول أبي طالب الذي استبشر به النبي صلي الله عليه وآله وسلم: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل ومثل هذا في الدعاء كثير، نكتفي منه بما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة، أن يقول: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم نقل بعض أهل العلم أنهم قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه [ صفحه 141] وبحق ممشاه إلي الصلاة، والله تعالي قد جعل علي نفسه حقا، قال الله تعالي: ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين) [292] ونحو قوله: (كان علي ربك وعدا مسؤولا) [293] . وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال له: يا معاذ أتدري ما حق الله علي العباد ؟. قال: الله ورسوله أعلم. قال صلي الله عليه وآله وسلم: حق الله علي العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد علي الله إذا فعلوا ذلك ؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم. وقد جاء في غير حديث: كان حقا علي الله كذا وكذا كقوله: من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها - في الثالثة أو الرابعة - كان حقا علي الله أن يسقيه من طينة الخبال. قيل: وما طينة الخبال ؟ قال: عصارة أهل النار [294] . وكل هذا دليل علي صحة التوسل بالصالحين أنفسهم، وليس بدعائهم وحسب. بل في هذا الحديث دلالة واضحة علي جواز التوسل بهم بعد موتهم، فقوله صلي الله عليه وآله وسلم: بحق السائلين لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليه السلام إلي يوم السائل هذا، بل يستوعب الملائكة ومؤمني الجن أيضا، ولا يمكن حصره [ صفحه 142] بالسائلين هذا اليوم أو من الاحياء، إذ لا دليل علي هذا يحمله الحديث، ولا مخصص له من خارجه أيضا، وسيأتي الكلام في هذا في الفقرة اللاحقة. كما أن في الحديث شاهد آخر علي التوسل بالاعمال الصالحة: بحق ممشاي هذا....

التوسل بالأنبياء والصالحين بعد موتهم

وهذا هو أكثر ما وقع فيه الخلاف، لا سيما من قبل ابن تيمية ومقلديه من سلفية ووهابية، والتحقيق يثبت أنهم ليسوا علي شيء في ما ذهبوا إليه، وليس لهم إلا الرأي الذي لا يشفع له دليل، بل الدليل الذي لا يستطيعون إنكاره قائم علي خلاف ما يقولون، وسنري هنا كيف يجادل ابن تيمية في أدلة هذا القسم بعد أن يثبت صحة كل واحد منها، دون أن يستند علي شيء البتة.. وبعد أن قدمنا الكلام في دلالة الحديث السابق بحق السائلين عليك علي التوسل بالموتي، إذ ليس في الحديث ولا خارجه ما يفيد حصره بالاحياء، نشرع باختصار كلام ابن تيمية في هذا الموضوع، والرد عليه، مقدمين في الرد ما أثبت صحته بنفسه. يقسم ابن تيمية التوسل بالأنبياء والصالحين إلي ثلاث درجات، ويقطع بحرمتها جميعا، وهي: الدرجة الأولي: أن يسأل الميت حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. [ صفحه 143] يقول: وهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل [295] . ومعني هذا أن السائل يسأل الميت، نبيا كان أو من الأولياء الصالحين، حاجته، معتقدا أن هذا المسؤول هو الذي بيده الامر، وهو الذي سيستجيب دعاءه ويعطيه مراده. ومثل هذا الاعتقاد لا ينسب إلي المؤمنين، ولا يراود مؤمنا عاقلا، لكن قد يزاوله بعض الجهال من عوام الناس، لسذاجة فيهم، دون معرفة بحقيقة هذا الامر ومآله، والواجب أن يعلم هؤلاء ويرشدوا بالأساليب المناسبة لقدراتهم العقلية ولاستعداداتهم النفسية، دون الوصول بهم إلي التكفير. أما إذا كان يفعله الغلاة، من أي فريق كانوا، فالغلاة قد أخرجهم غلوهم من الايمان قبل أن يخرجهم توسلهم هذا، فأولي أن يستتابوا علي اعتقاداتهم الفاسدة أولا، فهي الأصل في هذا وغيره. الدرجة الثانية: وهي أن لا تطلب منه الفعل، ولا تدعوه.. ولكن تطلب أن يدعو لك، كما تقول للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلي الله عليه وآله وسلم الدعاء، فهذا مشروع في الحي، وأما الميت من الأنبياء والصالحين فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا. ولا اسئل لنا ربك.. فلم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث. ثم استدل علي كلامه بأن المسلمين حين أجدبوا زمن عمر بن الخطاب، [ صفحه 144] استسقي عمر بالعباس، وقال: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) ولم يجيئوا إلي قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع لنا واستسق لنا [296] ثم أطال الكلام بما ليس له في الموضوع صلة، إذ طفق يتكلم طويلا عن بناء القبور واتخاذها مساجد والتبرك بها [297] . والتحقيق يثبت خلاف هذا الرأي ويكشف عن ثغرات هذا الاستدلال.. بدءا: إن الاستدلال باستسقاء عمر بالعباس لا ينهض دليلا علي الرأي المذكور، لعدة وجوه: الأول: إذا كان هذا يمثل قناعة عمر بالتوسل بالحي، فليس فيه دلالة علي حرمة التوسل بالميت. الثاني: إذا كان موقف عمر هذا يدل علي عدم صحة التوسل بالميت، فليس فيه دلالة علي أن هذه هي قناعة كل الصحابة حتي المشاركين له في هذا الاستسقاء. فإذا حمل إقرارهم قول عمر علي أنه إجماع سكوتي يدل علي صحة رأيه، فهو من ناحية: إنما يدل علي إقرارهم التوسل بالحي الذي تم بالفعل، ولا يدل علي نفي التوسل بالميت.. هذا إذا عد الاجماع السكوتي حجة، والاختلاف فيه كبير جدا.. فقد أنكر الاجماع السكوتي طائفة كبيرة من الفقهاء، فلم يعدوه إجماعا ولا حجة، وهذا هو مذهب المالكية، وهو قول الشافعي، وداود الظاهري إمام [ صفحه 145] الظاهرية، وإليه ذهب الآمدي، والفخر الرازي، والبيضاوي [298] . وقد انتقده ابن حزم نقدا لاذعا، فقال: إن القول بمثل هذا الاجماع يعني إيجاب مخالفة أوامره صلي الله عليه وآله وسلم ما لم يجمع الناس عليها ! ! وهذا عين الباطل.. بل إذا تنازع الناس رددنا ذلك إلي ما افترض الله تعالي علينا الرد عليه من القرآن والسنة، ولا نراعي ما أجمعوا عليه مع وجود بيان السنة [299] . ويجب أن يضاف إلي هذا أن هناك حقيقة واقعة جديرة بالاهتمام والملاحظة في أحداث كهذه، ألا وهي هيبة السلطان وصعوبة الرد عليه، لا سيما عمر في زمان حكومته، وأمره هذا أشهر من أن يستدعي سوق الأدلة والبراهين. هذا كله فيما لو دلت الواقعة علي تحقق إجماع سكوتي، وغاية ما يدل عليه هذا الاجماع لو كان متحققا فعلا إنما هو الاجماع علي جواز التوسل بالحي وبدعائه، وهذا أمر معلوم بغير هذه الواقعة.. ولا تتحمل هذه الواقعة أي دلالة زائدة علي هذا، لما سيأتي من عمل بعض الصحابة بعد عمر بالتوسل بالميت. الثالث: إن كلمات عمر في هذه الواقعة تتجاوز مسألة التوسل بالدعاء إلي التوسل بنفس الشخص وذاته، فهو يقول في أول كلامه: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا). فهو صريح في التوسل بالعباس نفسه، وليس بدعائه فقط، كما أراد أصحاب الرأي المتقدم، فالحديث صريح في أن عمر هو الذي كان يدعو، وليس العباس، ولم يرد في أي من طرق هذا [ صفحه 146] الخبر أن عمر قال للعباس (ادع لنا) ! ويزيد في هذا وضوحا ما ذكره ابن الأثير في هذه الحادثة بعد ذكرها، إذ قال: فسقاهم الله تعالي به - أي بالعباس - وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلي الله، والمكان منه. قال: ولما سقي طفق الناس يتمسحون بالعباس، ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين [300] . إذن هو توسل بالعباس نفسه لقرابته من النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وليس توسل بدعائه، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخري فهو عري عن الدلالة علي عدم صحة التوسل بالميت أو بدعائه، وذلك: 1 - لما تقدم من انحصار دلالته علي ما ثبت في موضوعه. 2 - لما سنورد بعضه مما ثبت عن الصحابة أنفسهم من التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وبدعائه بعد وفاته.. - نبدأ ذلك بالتذكير بما تقدم في القسم الأول من حديث الإمام علي عليه السلام ، ومن حديث عمر بن حرب الهلالي، في زيارة اثنين من الاعراب بمحضر من كل منهما، وتوسلهما بدعائه صلي الله عليه وآله وسلم. - وشاهد ثالث أقره ابن تيمية نفسه [301] ، وأخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وفيه: أنه أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب، فجاء رجل قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، [ صفحه 147] فقال: يا رسول الله، استسق الله لامتك، فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله في المنام، فقال: أئت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنهم مسقون، وقل له: عليك الكيس، الكيس فأتي الرجل عمر فأخبره [302] . وهذا وحده - بعد أن أقره ابن تيمية - كاف في دفع شبهته، وفي رد احتجاجه بتوسل عمر بالعباس علي نفي جواز التوسل بدعاء الميت، ثم بالميت نفسه. - وأخرج السبكي من حديث عائشة، أنه أصاب المدينة قحط، فقالت: انظروا قبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كوي إلي السماء حتي لا يكون بينه وبين السماء سقف. ففعلوا، فمطروا حتي نبت العشب، وسمن الإبل حتي تفتقت من الشحم، فسمي ذلك العام: (عام الفتق) [303] . وبهذا، بل ببعضه ثبتت صحة التوسل بدعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم بعد موته. الدرجة الثالثة: التوسل بالجاه والحرمة.. قال ابن تيمية: لم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام، فإنه أفتي أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، إن صح الحديث في النبي صلي الله عليه وآله وسلم ! قال: ومعني الاستفتاء: قد روي النسائي والترمذي وغيرها أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: [ صفحه 148] اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوسل بك إلي ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم فشفعه في فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة علي جواز التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا، والكلام لابن تيمية: وليس في التوسل دعاء المخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة بالله، لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجة، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك... الحديث، ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه.. والله تعالي قد جعل علي نفسه حقا.. إلي أن قال: وقالت طائفة: ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره.. ثم أخذ ينتصر لهذا الرأي الأخير، قائلا: وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه، ومثل لذلك بحديث الاعرابي: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله لنا أن يمسكها عنا. قال: فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه، ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه.. وكذلك معاوية بن أبي سفيان، استسقي بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلي الله... ثم ختم بقوله: ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية، والدعاء مخ العبادة [304] . [ صفحه 149] والخلط والتمويه والتناقض واضح في أكثر من موضع من هذا الكلام، نبدأ بالكشف عنه قبل تقديم الأدلة علي المطلوب. 1 - قد خلط بين التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وبين التوسل بالجاه، فالفرق واضح بين قولك: يا محمد، يا رسول الله إني أتوجه بك إلي الله وبين أن تقول اللهم بحق السائلين عليك أو اللهم بحق محمد صلي الله عليه وآله وسلم فالأول توجه وتوسل به، والثاني توجه وتوسل بحقه وجاهه ومنزلته، فهذان نوعان من التوسل بالأنبياء والصالحين يدخلان في هذا القسم، وقد حمل ابن تيمية الأول علي الثاني، وهو حمل غير صحيح. 2 - خلط هنا كما خلط من قبل بين التوجه بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وبين طلب الدعاء منه، والفارق واضح، ولا يخفي أنه صنع هذا تمويها، ليس إلا، ولذلك تراه عندما استدل بحديث الاعرابي أتي بفقرة منه وترك قوله الذي قدمناه آنفا: يا رسول الله إنا نستشفع بك علي الله هذا القول الذي أقره النبي صلي الله عليه وآله وسلم. 3 - ناقض نفسه في النقل عن العلماء، ثم لجأ إلي تقسيم الدعاء إلي استسقاء وغيره تمويها علي الأذهان لا غير، لأنه عاد فجمع كل أصناف الدعاء (ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا في غير ذلك من الأدعية). فقد نقل أولا عن العلماء قولهم بجواز التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته، ثم عاد يقول: ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ! ! ونأتي هنا علي ما ينقض دعواه هذه بأدلة أقر هو بصحة بعضها، ولم يذكر البعض الآخر بإثبات أو نفي: [ صفحه 150] - أثبتنا ونؤكد أن ابن تيمية لم يجد نصا يستفيد منه النهي عن التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم، فطفق يحمل بعض النصوص ما لا تحتمل، وسنراه هنا كيف يدير ظهره لنص ثبتت صحته لديه بنحو لا غبار عليه: إنه ينقل بطرق يعرف صحتها عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف أنه يعلم الناس التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في عهد عثمان بن عفان، ثم يشفعه بأخبار مماثلة عن السلف.. يقول: روي البيهقي أن رجلا كان يختلف إلي عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليه بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلي ربي ليقضي لي حاجتي ثم أذكر حاجتك، ثم رح حتي أروح معك.. فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتي بعد عثمان بن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله علي عثمان فأجلسه معه علي الطنفسة، وقال: انظر ما كانت لك من حاجة، فذكر حاجته، فقضاها له. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان لينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتي كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكن سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وقد جاءه ضرير وشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أو تصبر ثم ذكر الحديث المتقدم. [ صفحه 151] قال البيهقي - والكلام ما زال لابن تيمية -: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، ورواه أيضا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف. ثم ذكر ابن تيمية لهذا الحديث أسانيد كثيرة، وصححها، إلي أن قال : وروي في ذلك أثر عن بعض السلف، مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب (مجاني الدعاء) بإسناده: جاء رجل إلي عبد الملك بن سعيد بن أبجر، فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ. فقال الرجل: ما هو ؟ قال: الدبيلة [305] . فتحول الرجل، وقال: الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلي الله عليه وسلم تسليما، يا محمد، إني أتوجه بك إلي ربك وربي يرحمني مما بي. قال: فجس بطنه، فقال: برئت، ما بك علة.. أضاف ابن تيمية قائلا: فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في (منسك المروذي) التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في الدعاء [306] . هكذا يشهد علي بطلان رأيه، وبطلان دعواه السابقة في أنه لم ينقل عن أحد من السلف التوسل به صلي الله عليه وآله وسلم بعد موته، هذه الدعوي التي أصر عليها، وصدر بها لكتابه [ صفحه 152] (التوسل الوسيلة) [307] . وبهذا يثبت أنه لم يكن علي شيء في ما ذهب إليه، غير إصرار علي رأي باطل تشهد الأدلة الثابتة علي بطلانه. والحق أن الذي ثبت عن السلف أكثر من ذلك بكثير، ولم يقتصروا علي التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم بعد مماته، بل توسلوا بغيره ممن يرون فيه الصلاح ويعتقدون بأن له عند الله جاها وشفاعة. التوسل بأهل البيت عليهم السلام: علي رأس الصالحين والأبرار يأتي الأئمة الأطهار من أهل بيت النبي صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وفي بعض المأثور عنهم عليهم السلام في قوله تعالي: (وابتغوا إليه الوسيلة) أن الامام منهم عليهم السلام هو الوسيلة [308] . وهو إشارة واضحة إلي كونهم من أكبر مصاديق الوسيلة التي يتقرب بها إلي الله تعالي، من خلال مودتهم وموالاتهم اللازمتين لصحة الاعتقاد. وفي الدعاء المأثور في التوسل بهم عليهم السلام، وهو المعروف بدعاء التوسل، نقرأ: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة محمد صلي الله عليه وآله وسلم، يا أبا القاسم يا رسول الله يا إمام الرحمة، يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلي الله، وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيها عند الله إشفع لنا [ صفحه 153] عند الله.. يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين يا علي بن أبي طالب، يا حجة الله علي خلقه يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلي الله وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيها عند الله، إشفع لنا عند الله.. يا فاطمة الزهراء، يا بنت محمد، يا قرة عين الرسول، يا سيدتنا ومولاتنا، إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلي الله، وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهة عند الله، إشفعي لنا عند الله [309] ، ويمضي مع سائر أئمة أهل البيت عليه السلام بالعبارات نفسها. ونختتم هذا القسم من الكتاب بذكر شواهد مما ثبت عن علماء السلف في هذا، بعد التذكير بما سبق ذكره من كلام مالك للمنصور وحثه علي التوسل بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم واستقبال قبره في الدعاء.. - الشافعي: أيام كان ببغداد، قال: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجئ قبره كل يوم، فإذ عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلي قبره، وسألت الله تعالي الحاجة عنده، فما تبعد أن تقضي [310] . وقال ابن حجر: كان الشافعي - أيام كان ببغداد - يجيء إلي ضريح أبي حنيفة يزوره فيسلم عليه، ثم يتوسل إلي الله تعالي به في قضاء حاجته. ولما بلغ الشافعي أن أهل المغرب يتوسلون بما لك لم ينكر عليهم [311] . - أحمد بن حنبل: ثبت أن أحمد توسل بالشافعي حتي تعجب ابنه عبد الله، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن [312] . [ صفحه 154] - أبو علي الخلال: شيخ الحنابلة في وقته، يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسي بن جعفر، فتوسلت به، إلا سهل الله تعالي لي ما أحب [313] . - إبراهيم الحربي: قال في قبر معروف الكرخي: قبر معروف الترياق المجرب، أي في قضاء الحوائج [314] . وقال ابن خلكان: وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب [315] . ومثل ذلك نقله الشعراني في (الطبقات الكبري) [316] . - أبو الفرج ابن الجوزي: نقل ابن الجوزي أخبارا كثيرة جدا في زيارة قبر أحمد والتبرك والتوسل به، منها: عن عبد الله بن موسي، قال: خرجت أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد، فاشتدت الظلمة، فقال أبي: يا بني، تعال حتي نتوسل إلي الله تعالي بهذا العبد الصالح حتي يضيء لنا الطريق، فإني منذ ثلاثين سنة ما توسلت به إلا قضيت حاجتي، فدعا أبي وأمنت علي دعائه، فأضاءت السماء كأنها ليلة مقمرة حتي وصلنا إليه [317] . وهكذا يثبت أن التوسل بأقسامه المذكورة كلها عمل صحيح، ورد بعضه في القرآن الكريم، وبعضه في الحديث الشريف، علمه النبي صلي الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه، [ صفحه 155] وعمل به أصحابه من بعده، وعمل به التابعون ومن بعدهم، إلي يومنا هذا.. كما يثبت أن ما أثير حول التوسل من شبهات هي شبهات داحضة لم يتمسك أصحابها بدليل، غير المخالفة والعناد، والدليل قائم بضد ما يقولون.. وأن ما يصاحب عمل بعض عوام الناس من أخطاء صغيرة أو كبيرة، ينبغي تصحيحها، وإرشادهم إلي الصحيح الثابت في التوسل، وأن هذا لا يصح ذريعة لتحريم سنة صحيحة ثابتة. والحمد لله أولا وآخرا. وهو المقصود والمعبود وحده، ولا مقصود ولا معبود سواه.

پاورقي

[1] مفردات القرآن / الراغب (زور)، لسان العرب / ابن منظور (زور).
[2] سورة الكهف: 18 / 21.
[3] انظر: مجمع البيان / الطبرسي 5: 710، التفسير الكبير / الرازي 11: 106، فتح القدير / الشوكاني 3: 277، الميزان / الطباطبائي 13: 267.
[4] الدر المنثور، وعنه الميزان 13: 286 في رواية قال عنها: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.
[5] سورة التوبة: 9 / 84.
[6] أنوار التنزيل / البيضاوي 1: 416، وروح المعاني / الآلوسي 10: 155، روح البيان /البروسوي 3: 378.
[7] سورة النساء: 4 / 64.
[8] مجمع البيان 3: 105، تفسير الرازي 5: 167 - 168.
[9] سورة الحجرات: 49 / 2. [
[10] شفاء السقام / السبكي: 69 - 70.
[11] شفاء السقام: 81 - 82.
[12] علي أساس ما ورد في كتب الجمهور.
[13] صحيح مسلم - كتاب الجنائز - 2: 366 / 107، سنن الترمذي 3: 370 / 1504، السنن الكبري للنسائي 1: 653 / 2159، المستدرك 1: 530 / 1385، مصابيح السنة 1: 568 / 1239.
[14] المعجم الكبير / الطبراني 11: 202 / 11653، والمعجم الأوسط 3: 343 / 2730، مجمع الزوائد / الهيثمي 3: 58.
[15] معجم مفردات ألفاظ القرآن (هجر).
[16] لسان العرب (هجر).
[17] مجمع الزوائد 3: 58، رجاله رجال الصحيح.
[18] الروض الفائق في المواعظ والرقائق: 22، وعنه: الغدير 5: 245.
[19] سنن ابن ماجة 1: 485 / 1547.
[20] صحيح مسلم 2: 366 / 107 - كتاب الجنائز -، سنن الترمذي 3: 370 / 1054، السنن الكبري / النسائي 1: 653 / 2159، المستدرك علي الصحيحين 1: 530 / 1385، مصابيح السنة / البغوي 1: 568 / 1239. ولا يخفي أن الغرض من ذكر مثل هذا الحديث هو الاستدلال علي مشروعية زيارة القبور بفعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقوله، وقد ذهب أصحابنا وجمع من علماء الجمهور إلي أن والديه صلي الله عليه وآله وسلم كانا مؤمنين وهما من أهل الجنة.
[21] سنن الترمذي 3: 370 / 1054.
[22] المستدرك 1: 531 / 1389.
[23] المستدرك 1: 531 / 1390.
[24] سنن أبي داود 2: 218 / 357 - كتاب المناسك - باب زيارة القبور.
[25] صحيح مسلم 2: 363 / 102 - كتاب الجنائز -، وسنن ابن ماجة 1: 485 / 1546.
[26] أخرجه الأميني في الغدير 5: 258 عن ابن عابدين في رد المختار علي الدر المختار 1: 604 - 605.
[27] السنن الكبري للبيهقي 4: 78، المستدرك علي الصحيحين 1: 533 / 1396.
[28] المستدرك علي الصحيحين 1: 533 / 1396.
[29] مسند أحمد 4: 119 / 13075، 140 / 13203، السنن الكبري 4: 77، المستدرك 1: 532 / 1393.
[30] صحيح مسلم 2: 365 / 106 - كتاب الجنائز -، مسند أحمد 3: 186 / 9395، سنن ابن ماجة 1: 501 / 1572، سنن أبي داود 3: 218 / 3234، سنن النسائي 1: 654 / 2161، المستدرك 1: 531 / 1388.
[31] المستدرك 1: 533 / 1395.
[32] مسند أحمد 3: 427 / 10936، السنن الكبري 4: 77، المستدرك 1: 530 / 1368.
[33] سنن ابن ماجة 1: 492 / 1571.
[34] انظر: صحيح مسلم / 102 و 103 - كتاب الجنائز -، مسند أحمد / 8661، سنن الترمذي 3 : 370 / 1053، سنن البيهقي 4: 79.
[35] المعجم الكبير / الطبراني 2: 94 / 1419، مجمع الزوائد 3: 58.
[36] مجمع الزوائد 3: 58.
[37] العقد الفريد 3: 11، الغدير 5: 249.
[38] تهذيب الأحكام 6: 78 - 79 / 3.
[39] شفاء السقام 86 - 87.
[40] المستدرك علي الصحيحين 1: 526 / 1373.
[41] كنز العمال / 42596 رواه الدارقطني، إتحاف السادة المتقين 10: 371.
[42] مجمع الزوائد 3: 59، كنز العمال / 45486، 45487.
[43] الغدير 5: 257.
[44] أخرجها الأميني في الغدير 5: 257 عن مراقي الفلاح: 121.
[45] المستدرك علي الصحيحين 1: 526 / 1372.
[46] سورة آل عمران: 3 / 169 - 170.
[47] سورة البقرة: 2 / 154.
[48] مسند أحمد 2: 527، السنن الكبري للبيهقي 5: 245.
[49] إتحاف السادة المتقين 10: 365، كنز العمال / 42601.
[50] إتحاف السادة المتقين 10: 365، الحاوي للفتاوي / السيوطي 2: 302.
[51] سنن الدارقطني 2: 260، السنن الكبري / البيهقي 4: 256.
[52] سنن الدارقطني 2: 278 / 194، السنن الكبري / البيهقي 5: 245، شعب الايمان / البيهقي 3: 49، الأحكام السلطانية / الماوردي: 109، نيل الأوطار / الشوكاني 5: 108.
[53] هو عبد الله بن عمر بن حفص، بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمري، خرج مع محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن المثني في ثورته علي المنصور، فحبسه المنصور أخرجه عنه، توفي سنة 171 وقبل 173 ه. ويأتي الكلام في أقوال أهل الجرح والتعديل فيه لاحقا.. تهذيب التهذيب 5: 285 - 286.
[54] انظر: شفاء السقام / السبكي: 2 - الطبعة الثانية / حيدر آباد الدكن - 1402 / 1982.
[55] شعب الايمان / البيهقي 3: 490.
[56] سير أعلام النبلاء 6: 304 - 305.
[57] مجمع الزوائد 4: 2.
[58] انظر: جامع المسانيد والسنن 28: 130 / 244.
[59] جامع المسانيد والسنن 28: 130.
[60] موسوعة أطراف الحديث 8: 286.
[61] انظر: المصدر نفسه 1: 21 رقم 145 و 146.
[62] شفاء السقام: 6.
[63] الضعفاء الكبير 4: 170 ترجمة موسي بن هلال، وشفاء السقام - الطبعة الرابعة (محققة): 70.
[64] شفاء السقام: 8.
[65] المعجم الكبير / الطبراني 12: 255 / 13149.
[66] انظر: شفاء السقام: 16 - 20 الحديث الثالث.
[67] جامع المسانيد والسنن 28: 259 / 513.
[68] تهذيب التهذيب، 5: 285 / 564.
[69] شفاء السقام: 9.
[70] تهذيب التهذيب 5: 285 / 564.
[71] وهو عبد الحق بن عبد الرحمن الأندلسي الإشبيلي، ابن الخراط. وصفه الذهبي بالامام الحافظ البارع المجود العلامة، كان فقيها حافظا، عالما بالحديث وعلله، عارفا بالرجال. له مصنفات متقنة في الاحكام والحديث وغيرها. توفي سنة 580 ه (سير أعلام النبلاء 21: 189 - 199).
[72] شفاء السقام: 10 - 11.
[73] مسند أحمد 2: 74، سنن الدارقطني 3: 287 / 194، وشفاء السقام: 29 عن العلل للدارقطني.
[74] شفاء السقام: 29.
[75] شيخ القميين في وقته، ولم ير أحد أحفظ ولا أفقه ولا أعرف بالحديث منه. رجال النجاشي: 384 رقم 1045.
[76] لم يذكر بتضعيف ولا توثيق. معجم رجال الحديث 3: 164.
[77] لم يذكر بتضعيف ولا توثيق. معجم رجال الحديث 1: 285 رقم 269.
[78] ثقة سكن مصر. رجال النجاشي: 379 رقم 1013.
[79] من أصحاب التصانيف، له كتاب (جامع التفاسير) وكتاب (الوضوء). رجال النجاشي 410 / 1019.
[80] تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي 6: 3 / 1.
[81] سنن الدارقطني 2: 287 / 193.
[82] السنن الكبري 5: 245، شعب الايمان 3: 488، نيل الأوطار 5: 108.
[83] مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور 2: 406.
[84] المقاصد الحسنة: 413، الدرر المنتثرة: 173، شفاء السقام الطبعة الرابعة المحققة: 103 هامش 3.
[85] عن شفاء السقام: 39 الحديث الرابع عشر، وأخرجه عبد الملك النيسابوري الخركوشي في شرف المصطفي: 421 و 466.
[86] شفاء السقام: 35 - 36 الحديث العاشر.
[87] سنن أبي داود 1: 12.
[88] سنن الدارقطني 2: 278 / 193، السنن الكبري / البيهقي 5: 245.
[89] شفاء السقام: 30.
[90] الثقات / ابن حبان 7: 580.
[91] الضعفاء الكبير 4: 361 رقم 1973.
[92] انظر: شفاء السقام: 32.
[93] شفاء السقام: 36 - 37 - الحديث الحادي عشر.
[94] شعب الايمان 3: 490 / 4158. ونيل الأوطار / الشوكاني 5: 109، والتاج الجامع للأصول 2: 190.
[95] الثقات / ابن حبان 6 / 395.
[96] روي عنه الشافعي وأحمد والحميدي وغيرهم من هذه الطبقة، وأخرج حديثه الستة. (تهذيب التهذيب 9: 52 / 62).
[97] الكافي / الكليني 4: 548 / 3 كتاب الحج، أبواب الزيارات، باب زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم.
[98] الضعفاء الكبير / العقيلي 3: 457.
[99] سنن الدارقطني 2: 278 / 194.
[100] سنن الدارقطني 2: 278 / 192.
[101] السنن الكبري / البيهقي 5: 246، المعجم الكبير 12: 310 / 13497، مختصر تاريخ دمشق 2: 406، نيل الأوطار 5: 108.
[102] الكامل في الضعفاء 3: 789 - 790، السنن الكبري 5: 246، المجروحين / ابن حبان 2: 250.
[103] شفاء السقام: 24 - 25.
[104] شفاء السقام: 25.
[105] أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير 12: 406 / 13496، وفي حاشية أخرجه المحقق عن المعجم الأوسط أيضا: 1: 201 / 157.
[106] الكامل لابن عدي: 7 رقم 2480 ترجمة النعمان بن شبل.
[107] شفاء السقام: 27 - 28 الحديث الخامس.
[108] أي وهو يؤدي مناسك الحج قربة إلي الله تعالي.
[109] الكافي / الكليني 4: 348 / 5.
[110] تهذيب الأحكام 6: 4 / 5.
[111] تهذيب الأحكام 6: 4 / 4.
[112] نيل الأوطار / الشوكاني 5: 109، مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور 2: 406.
[113] تهذيب الأحكام 6: 3 / 2.
[114] تهذيب الأحكام 6: 17 - 18 / 19.
[115] الكافي 4: 553 / 7، تهذيب الأحكام 6: 7 / 4.
[116] الكافي 4: 552 / 5.
[117] تهذيب الأحكام 6: 6 / 3، تاريخ بغداد 13: 31، وفيات الأعيان 5: 309، سير أعلام النبلاء 6: 273.
[118] تهذيب الأحكام 6: 14 / 9.
[119] تهذيب الأحكام 6: 22 / 7.
[120] تهذيب الأحكام 6: 20 / 1، و 40 / 1.
[121] انظر: رجال النجاشي: 335 / رقم 898.
[122] انظر: رجال النجاشي: 81 - 82 رقم 198.
[123] رجال النجاشي: 38 رقم 76.
[124] تهذيب الأحكام 6: 21 / 5، و 40 / 2.
[125] تهذيب الأحكام 6: 42 / 1.
[126] تهذيب الأحكام 6: 42 / 2.
[127] انظر: تهذيب الأحكام 6: 42 - 52 باب 16.
[128] تهذيب الأحكام 6: 78 - 79.
[129] الغدير / الأميني 5: 233 - 234 - تحقيق مركز الغدير - عن (وفاء الوفاء) للسمهودي 4: 1410.
[130] السيرة النبوية / ابن سيد الناس 2: 432، السيرة النبوية / زيني دحلان 2: 310، إرشاد الساري / القسطلاني 3: 352، أعلام النساء / عمر رضا كحالة 4: 113.
[131] وفاء الوفا / السمهودي 4: 1399، المواهب اللدنية / القسطلاني 4: 583.
[132] الرياض النضرة 2: 330.
[133] أسد الغابة 1: 307 - 308، ترجمة بلال بن رباح، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة بلال أيضا، وفي ترجمة إبراهيم بن محمد الأنصاري، انظر: مختصر تاريخ دمشق 4: 118 و 5: 265، وتهذيب الكمال 4: 289 / 782.
[134] شفاء السقام: 54 (الباب الثالث).
[135] أي متقدم.
[136] أسد الغابة (ترجمة خباب) 2: 143، العقد الفريد 3: 12.
[137] المستدرك 1: 532 / 1392.
[138] العقد الفريد 3: 13، الغدير 5: 25 / 9.
[139] المستدرك علي الصحيحين 4: 560 / 8571، وتلخيص الذهبي في ذيل الصفحة.
[140] شفاء السقام: 55.
[141] تهذيب الأحكام 6: 22 / 7.
[142] تاريخ بغداد 1: 123، مناقب أبي حنيفة / الخوارزمي 2: 199.
[143] تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 1: 120.
[144] تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني 7: 339.
[145] سنن الترمذي 3: 370 / 1054 (كتاب الجنائز - باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور).
[146] سير أعلام النبلاء 8: 378 - 421.
[147] سير أعلام النبلاء 11: 358 - 383.
[148] شفاء السقام: 70 - 71.
[149] شفاء السقام: 71.
[150] رأس الحسين / ابن تيمية: 209 مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.
[151] شفاء السقام: 62 - 63، مختصر تاريخ دمشق 2: 408، القسطلاني و المواهب اللدنية 4: 583.
[152] مناقب أحمد: 400، 563، 639، 642، 643، 677 وغيرها.
[153] المنتظم في أخبار الملوك والأمم 18: 248.
[154] مناقب أحمد: 6390، وأخرجه الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 4: 423.
[155] مناقب أحمد: 639.
[156] المنتظم 18: 55.
[157] مناقب أحمد: 607.
[158] المنتظم، والبداية والنهاية: أحداث سنة 470 ه.
[159] المغني / ابن قدامة 3: 788.
[160] نقله السبكي في شفاء السقام: 67 عن (الرعاية الكبري في الفروع الحنبلية).
[161] ذكره ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد علي السبكي: 7 المطبعة الخيرية، القاهرة. ط 1، بواسطة الزيارة في الكتاب والسنة / جعفر سبحاني: 28 - 29.
[162] أخرجه العز بن جماعة، كما في / وفاء الوفا 2: 424.
[163] مناقب أحمد / ابن الجوزي: 609، البداية والنهاية / ابن كثير: 10: 365 حوادث سنة 241 ه.
[164] فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3: 475 / 1609.
[165] أبو الفضل، محمد بن ناصر السلامي البغدادي، من أئمة الحنابلة في القرن السادس، وعنه أخذ أبو الفرج ابن الجوزي علم الحديث وعليه قرأ المسانيد، وكان مقدم أصحاب الحديث في وقته ببغداد. ولد سنة 467 وتوفي سنة 550 ه. سير أعلام النبلاء: 20: 265 - 270.
[166] سير أعلام النبلاء / الذهبي 5: 358 - 359.
[167] انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 5: 353 - 361.
[168] انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4: 40 - 44.
[169] سير أعلام النبلاء 4: 42.
[170] أخرجه السبكي عن القاضي إسماعيل في كتاب (فضل الصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم)، شفاء السقام: 79.
[171] الكافي 4: 551 / 2.
[172] الكافي 4: 552 / 5 - كتاب الحج - باب دخول المدينة وزيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم.
[173] الكافية 4: 553 / 7 تهذيب الأحكام 6: 7 / 4.
[174] الكافي 4: 550 - 551 / 1 - كتاب الحج - باب دخول المدينة وزيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، تهذيب الأحكام 6: 5 / 1 باب 3.
[175] المروة: الحجر البراق.
[176] الكافي 4: 551 / 2.
[177] الكافي 4: 552 / 4.
[178] الترعة: الباب الصغير.
[179] الكافي 4: 553 / 1، باب المنبر والروضة، تهذيب الأحكام 6: 7 / 5.
[180] الفقه علي المذاهب الأربعة 1: 713.
[181] شفاء السقام: 74، عن مسند أبي حنيفة، لأبي القاسم طلحة بن محمد بن جعفر.
[182] شفاء السقام: 69، ويأتي بتمامه في (التوسل).
[183] نسيم الرياض في شرح الشفا 3: 517، الغدير 5: 199.
[184] من كبار الحفاظ وأهل الفقه والزهد، سمع من أحمد بن حنبل وطبقته، وكان جلساؤه يفضلونه علي أحمد بن حنبل، مولده سنة 198، ووفاته سنة 285 ه، سير أعلام النبلاء: 3 : 356 - 372.
[185] شفاء السقام: 70.
[186] تهذيب الأحكام 6: 25.
[187] تهذيب الأحكام 6: 28.
[188] تهذيب الأحكام 6: 30.
[189] تهذيب الأحكام 6: 41.
[190] انظر: الكافي 4: 572 - 575، من حديث الإمام الصادق عليه السلام.
[191] راجع: شرح القواعد الفقهية / أحمد الزرقا: 486، والقواعد الفقهية / علي أحمد الندوي: 345.
[192] الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم: 67.
[193] انظر: كتاب الزيارة / ابن تيمية: 18 - 21، المسألة الثانية.
[194] صحيح مسلم - كتاب الحج - باب لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد.
[195] اي قصر الصلاة، إذ لا يجوز القصر في الاسفار المحرمة.
[196] المغني / ابن قدامة 2: 103.
[197] إحياء علوم الدين 2: 398 - كتاب آداب السفر - ط دار الوعي بحلب.
[198] راجع شفاء السقام: 126 - 127.
[199] كتاب الزيارة: 12 - 13 - المسألة الأولي.
[200] كتاب الزيارة: 38 - المسألة الرابعة.
[201] كتاب الزيارة: 19 - المسألة الثانية.
[202] يعني مسائل أحمد بن حنبل.
[203] رأس الحسين / ابن تيمية: 206 مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.
[204] شفاء السقام: 146.
[205] سير أعلام النبلاء 16: 529 - 533، تاريخ بغداد 10: 371 - 375.
[206] سير أعلام النبلاء 4: 484 ترجمة الحسن بن الحسن السبط عليه السلام.
[207] سنن أبي داود 1: 453 / 2042.
[208] تهذيب التهذيب 6: 46 - 48 / 99.
[209] راجع شفاء السقام: 80.
[210] هامش المحقق في / شفاء السقام: 187 - الطبعة المحققة.
[211] سير أعلام النبلاء 4: 484 - 485 ترجمة الحسن المثني.
[212] مجموع فتاوي ابن تيمية 27: 184 - 192، ونحوه في / زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 29 - 30.
[213] مسند أحمد 5: 423، والمستدرك 4: 560 / 8571.
[214] انظر: السيرة النبوية / ابن هشام 4: 256، السيرة النبوية / الذهبي 2: 481، والنص منه.
[215] إعلام الوري / الطبرسي 1: 27.
[216] لسان العرب (وسل).
[217] معجم مفردات ألفاظ القرآن (وسل): 560 - 561.
[218] سورة المائدة: 5 / 35.
[219] مجمع البيان 3: 293.
[220] تفسير الرازي 6: 225 - 226.
[221] الميزان 5: 328.
[222] سورة الإسراء: 17 / 57.
[223] انظر تفسير الرازي 10: 233 - 234، والميزان 13: 128.
[224] الميزان 13: 130.
[225] انظر: التوسل / جعفر السبحاني: 18، معاونية التعليم والبحوث الاسلامية، بدون تاريخ ورقم طبعة.
[226] خرجه الحافظ العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين) عن النسائي في اليوم والليلة / 1444 من حديث علي (ع) - الغزالي / إحياء علوم الدين 1: 554.
[227] سورة غافر: 40 / 60.
[228] سورة البقرة: 2 / 186.
[229] صحيح مسلم / 2739 من حديث ابن عمر. كذا خرجه العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين) 1: 546.
[230] الصحيفة السجادية / الدعاء 32.
[231] الصحيفة السجادية / الدعاء 10.
[232] الصحيفة السجادية / الدعاء 16.
[233] الصحيفة السجادية / الدعاء 20.
[234] الصحيفة السجادية / الدعاء 48.
[235] الصحيفة السجادية / الدعاء 49.
[236] سورة الأعراف: 7 / 180.
[237] الشيخ الصدوق / التوحيد: 195 / 9.
[238] أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 47 - 48.
[239] مسند أحمد 1 / 391، وابن تيمية / المصدر السابق: 48 - 49.
[240] الجامع الصحيح للترمذي 5: 515 / 3475.
[241] المصدر السابق / 3544.
[242] المستدرك 1: 400 / 985.
[243] كنز العمال / 3217 و 3877.
[244] الدر المنثور 4: 9.
[245] كنز العمال / 3782.
[246] الصحيفة السجادية / الدعاء 50.
[247] مصباح المتهجد / للشيخ الطوسي: 374.
[248] الصحيفة السجادية / الدعاء 16.
[249] الصحيفة السجادية / الدعاء 31.
[250] مسند أحمد 1: 96، 6: 201.
[251] سنن أبي داود / 5052.
[252] الكافي 2: 351 / 1.
[253] بحار الأنوار 93: 312.
[254] كفاية الأثر: 29.
[255] مجمع الزوائد 10: 160 وقال: رواه الطبراني في (الأوسط) ورجاله ثقات.
[256] الصحيفة السجادية / الدعاء 13.
[257] مسند أحمد 4: 445.
[258] نهج البلاغة، الخطبة 176، ص 260 - تحقيق صبحي الصالح.
[259] الصحيفة السجادية / الدعاء 42.
[260] الاقبال / لابن طاووس: 41.
[261] مسند أحمد / 22219.
[262] مسند أحمد / 6637.
[263] نهج البلاغة / الخطبة 176.
[264] الصحيفة السجادية / الدعاء 44، وله تتمة تأتي في محلها.
[265] سورة البقرة: 2 / 127 - 128.
[266] الفرق: القسم من الشيء إذا انفصل عنه.
[267] أي يتصايحون من الجوع.
[268] صحيح البخاري 4: 173 - كتاب الأنبياء، الباب 53.
[269] سورة الكهف: 18 / 9.
[270] مجمع البيان 6: 697 - 698.
[271] سورة آل عمران: 3 / 16.
[272] سنن الترمذي / 3475.
[273] الترغيب والترهيب / للمنذري 2: 485.
[274] الصحيفة السجادية / الدعاء 49.
[275] أخرجه مالك في (الموطأ) والبخاري ومسلم في الصحيحين، أنظر: سير أعلام النبلاء 2 : 313، 4: 420.
[276] مسند أحمد 5: 195.
[277] صحيح مسلم / 2542.
[278] انظر: سير أعلام النبلاء 4: 20 - 32.
[279] سير أعلام النبلاء 4: 32، تاريخ الاسلام 2: 174، 175.
[280] سورة النساء: 4 / 64.
[281] سورة المنافقون: 63 / 5.
[282] زيارة القبور: 41 - 42.
[283] صحيح البخاري / كتاب الاستسقاء، باب 643، صحيح مسلم / كتاب صلاة الاستسقاء.
[284] سنن أبي داود 4: 232 - كتاب السنة.
[285] دلائل النبوة 6: 140 - 142، شفاء السقام: 170 - 171.
[286] زيارة القبور: 42.
[287] مسند أحمد 4: 138. الجامع الصحيح للترمذي ح / 3578 - كتاب الدعوات، سنن ابن ماجة ح / 1385.
[288] التوسل والوسيلة: 101، 102، 103.
[289] التوسل والوسيلة: 105 - 106.
[290] التوسل والوسيلة: 92، وكتاب الزيارة / لابن تيمية أيضا: 47 - المسألة الرابعة.
[291] التوسل والوسيلة: 20، كتاب الزيارة: 86 - المسألة السابعة.
[292] سورة الروم: 30 / 47.
[293] سورة الفرقان: 25 / 16.
[294] زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 39 - 40.
[295] زيارة القبور: 18.
[296] زيارة القبور: 24 - 25.
[297] انظر: زيارة القبور: 26 - 37.
[298] راجع: الاحكام / للآمدي 1: 312، موسوعة الاجماع في الفقه الاسلامي / سعدي أبو حبيب 1: 31.
[299] المحلي 7: 165 - 166.
[300] أسد الغابة / ترجمة العباس.
[301] اقتضاء الصراط المستقيم: 373.
[302] المصنف / لابن أبي شيبة 12: 31 - 32.
[303] شفاء السقام: 172.
[304] زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 37 - 43.
[305] الدبيلة: دمل كبار تظهر في الجوف وتقتل صاحبها غالبا.
[306] انظر: التوسل والوسيلة: 97، 98، 101 - 103.
[307] التوسل والوسيلة: 18.
[308] انظر: الميزان في تفسير القرآن 5: 333 - 334.
[309] الكفعمي / البلد الأمين: 369، عن ابن بابويه.
[310] تاريخ بغداد 1: 123.
[311] الخيرات الحسان / لابن حجر: 94.
[312] الخيرات الحسان / لابن حجر: 94.
[313] تاريخ بغداد 1: 120.
[314] تاريخ بغداد 1: 122، وصفوة الصفوة / لابن الجوزي 2: 321 / 260.
[315] وفيات الأعيان 5: 232.
[316] الطبقات الكبري 1: 72.
[317] مناقب الإمام أحمد بن حنبل / لابن الجوزي: 400، 563.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.