التوسل بالنبي وجهلة الوهابيون

اشارة

مولف:أبي حامد بن مرزوق
ناشر:مكتبة اشيق

خلاصة عقائد محمد بن عبدالوهاب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي عباده إلي الطريق الأقوم، المتفضل عليهم بنعمة الإسلام ودقائق الحكم، الناهي لهم عن التنازع في كتابه المحكم، والصلاة والسلام علي أشرف مبعوث إلي جميع الأمم، سيدنا محمد القائل " إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم " وعلي آله وأصحابه نجوم الاهتداء لكل فصيح وأعجم. فهذه خلاصة علمية في عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه جمعت أكثر درها المنقول والمعقول من تحقيق علماء الإسلام الأعلام، وشيدت صرحها بتاريخ الإسلام، ودعمتها بكثير من آيات الكتاب الحكيم وسنته عليه الصلاة والسلام، فجاءت بحمد الله حصنا منيعا لا يرام. وقد رد بعض أتباع الأئمة الأربعة عليه وعلي مقلديه بتآليف كثيرة جيدة، وممن رد عليه من الحنابلة أخوه سليمان بن عبد الوهاب، ومن حنابلة الشام آل الشطي والشيخ عبد الله القدومي النابلسي في رحلته، وكلها مطبوعة، في ناحيتين: زيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، والتوسل به وبالصالحين من أمته، وقالوا: إنه مع مقلديه من الخوارج. وممن نص علي هذا العلامة المحقق السيد محمد أمين بن عابدين في حاشيته " رد المختار علي الدار المختار " في باب: " البغاة " والشيخ الصاوي المصري في حاشيته علي الجلالين، لتكفيره أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) برأيه، ولا شك أن التكفير سمة الخوارج وكل المبتدعة الذين يكفرون مخالفي رأيهم من أهل القبلة، ولا تفيد هذه الخلاصة من مرق إلي الجهة الأخري، لأن العلماء قالوا إن البدعة إذا رسخت في قلب لا يرجع صاحبها عنها ولو رأي ألف دليل واضح وضوح الشمس يبطلها إلا إذا أدركته عناية الله، وإنما هي عاصمة إن شاء الله تعالي من لم يدخل في بدعهم. وتنحصر أمهات عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في أربع: تشبيه الله سبحانه وتعالي بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقيرهم النبي صلي الله عليه وسلم، [ صفحه 2] وتكفير المسلمين، وهو مقلد فيها كلها أحمد بن تيمية، وهذا مقلد في الأولي الكرامية ومجسمة الحنابلة، ومقتد بهما وبالحروزبين في الرابعة، ومخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقيرهم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وتكفير المسلمين أيضا. وثقة نقل دين الإسلام محصورة عندهم فيه وفي تلميذه ابن القيم وفي محمد ابن عبد الوهاب، فلا يثقون بأي عالم من علماء المسلمين ولا يقيمون له وزنا إلا إذا وجدوا في كلامه شبهة تؤيد هواهم، فدين الإسلام الواسع محصور علماؤه في الثلاثة، وأمة محمد صلي الله تعالي عليه وسلم المرحومة المنتشرة منذ توسع الفتح الإسلامي في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله تعالي عنه إلي عصرنا هذا في أكثر الربع العامر وهي أكثر الأمم جميعا أحبارا ومؤلفين، وهي أيضا ثلثا أهل الجنة كما في الحديث الصحيح محصورة فيهم وفي علمائهم الثلاثة، وكل من له إلمام بالعلم وطالع تآليف ابن القيم ورسائل ابن عبد الوهاب مجردا نفسه عن العاطفة متحليا بالإنصاف يجدهما مقلدين ابن تيمية في فهمه كله، مؤلهين هواه، ممتازا أولهما: بالمدافعة عن شواذ شيخه مدافعة معتوه، وما أجاد فيه الكتابة من الأبحاث العلمية أخذه من تحقيق من سبقه من علماء المسلمين وتشبع به ولم يعزه إلي محققيه (كما هي أمانة نقل العلم عن العلماء). والقارئ البسيط يظن تلك الإجادة منه، وإنما هو جماعة مطلع مقلد في جل الفروع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالي عنه، وفي بعضها وفي أصول الدين أحمد بن تيمية متعصب لهما تعصبا جنونيا. وابن عبد الوهاب نشأ في محيط عوام فانتحل شواذ ابن تيمية علي ما فيها من تضارب وتخبط والتهمها فصار بها إماما مجتهدا مجددا معصوما فهمه وكلامه عن الخطأ، مؤمنا موحدا كل من قلده، جهميا مشركا كل من خالف هواه، فيخرج بنتيجة واحدة وهي أن علم أصول الدين علي غزارة مادته وكثرة مباحثه وبعض الفروع محصور في فهم أحمد بن تيمية، وفهمه معصوم من الخطأ، وكلامه عندهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلماء الإسلام الأولون والآخرون علي كثرتهم ممثلون في شخصه، وحيث صار إماما قدوة للمفتونين به مع كونه من الخلف توفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. فإني سأنقل بحول الله تعالي وقوته كلامه في الأمهات الأربع من كتبه ورسائله ليراه الألباء فيتحققوا شذوذه عن السواد الأعظم، ثم أبطله مفصلا بالبراهين، وسيأتي شرح حال كل من الثلاثة. [ صفحه 3] حديث أخرجه الترمذي عنا ابن عباس رضي الله تعالي عنهما ورواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة الغفاري، رفعه في حديث " سألت ربي أن لا تجتمع أمتي علي ضلالة فأعطانيها " والطبراني وحده وابن أبي عاصم في السنة عن مالك الأشعري رفعه " أن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل علي أهل الحق، وأن لا تجتمعوا علي ضلالة " ورواه أبو نعيم والحاكم وابن منده ومن طريقه الضياء المقدسي عن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما رفعه: " أن الله لا يجمع هذه الأمة علي ضلالة أبدا، وأن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار " ورواه عبد بن حميد وابن ماجة عن أنس رفعه " إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم "، ورواه الحاكم عن ابن عباس رفعه بلفظ " لا يجمع الله هذه الأمة علي ضلالة ويد الله مع الجماعة، والجملة الثانية عند الترمذي وابن أبي عاصم عن ابن مسعود موقوفا في حديث " عليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة علي ضلالة، زاد غيره " وإياكم والتلون في دين الله ". قال المحدث العجلوني في كشف الخفا والإلباس: والحديث مشهور المنن وله أسانيد كثيرة وشواهد عديدة في المرفوع وغيره، فمن الأول " أنتم شهداء الله في الأرض "، ومن الثاني قول ابن مسعود رضي الله تعالي عنه " إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد " إه. وإني أبتهل إلي الله تعالي أن يحفظ علي وعلي جميع المسلمين الإيمان إلي يوم ألقاه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك. يا الله). [ صفحه 4]

في التجسيم

عقيدة مقلدي محمد بن عبد الوهاب في الله سبحانه وتعالي التجسيم، وهو مقلد فيه أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيه الكرامية ومجسمة الحنابلة وهم مع مقلدهم، ومقلده لا يصرحون به بل يبرأون منه. وقد صرح به ابن تيمية مرة علي منبر دمشق الشام فقال: ينزل كنزولي هذا، ونزل درجة من المنبر، وممن شاهد هذه القضية منه الفقيه الرحالة ابن بطوطة المغربي، ولكنهم يدندنون حوله ويلوكونه دائما بهذه الألفاظ: " في السماء، فوق سبع سماواته، علي عرشه، استوي بذاته، استوي حقيقة، علي عرشه بائن من خلقه "، فلو استظهروا بجميع أهل الأرض علي إثبات أي لفظ من هذه الألفاظ بإسناد صحيح عن أي واحد من أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة رضوان الله تعالي عليهم أجمعين، فضلا عن إثباته عن الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم، وحيث صارت لهم مادة تؤيدهم عليه فقد صرحوا به طبقا لسلفهم الكرامية ومجسمة الحنابلة، فيما طبعوه من كتبهم ك " كتاب السنة " المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وكتاب " النقض علي بشر المريسي " المنسوب لعثمان بن سعيد الدارمي و " طبقات ابن أبي يعلي "، وكتاب " السنة " جزء صغير مجزأ إلي ثلاثة أجزاء صغار، عنوانه علي الأول: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل، عني بتصحيحه والإشراف علي طبعه لجنة من العلماء تحت رئاسة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ، أمر بطبعه علي نفقته وجعله وقفا لله تعالي الملك عبد العزيز آل سعود بالمطبعة السلفية بمكة المكرمة لصاحبيها عبد الفتاح قتلان ومحمد صالح تصيف سنة 1349 ه، وعنوانه علي الثاني كتاب " السنة " تأليف عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وأهمل الثالث من العنوان. [ صفحه 5]

رد العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيي الحلبي علي ابن تيمية في الجهة

ذكر التاج السبكي في ترجمة العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيي بن جبريل الكلابي الحلبي المتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة رسالة له نفيسة في الرد علي ابن تيمية في مسألة الجهة، وساقها كلها = وهي في نحو ثلاثين صفحة مقدمته في نحو ست صفحات اقتطفت منها ما يأتي: قال: (فأقول) ادعي أولا أنه يقول بما قاله الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالي عنهم، ثم أنه قال ما لم يقله الله تعالي ولا رسوله ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا شيئا منه. فأما الكتاب والسنة فسنبين مخالفته لهما، وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فذكره لهم في هذا الموضع استعارة للتهويل وإلا فهو لم يورد من أقولهم كلمة واحدة، لا نفيا ولا إثباتا، وإذا تصفحت كلامه عرفت ذلك، اللهم إلا أن يكون مراده بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدته دون الصحابة. وأخذ بعد هذه الدعوي في مدحه صلي الله تعالي عليه وسلم وفي مدح دينه وإن أصحابه أعلم الناس بذلك، والأمر كما قاله وفوق ما قاله، وكيف المدائح تستوفي مناقبه، ولكن كلامه كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه: كلمة حق أريد بها باطل. ثم أخذ بعد ذلك في ذم الأئمة وأعلام الأمة، حيث اعترفوا بالعجز عن إداركه سبحانه وتعالي، مع أن سيد الرسل صلي الله تعالي عليه وسلم قال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك، وقال الصديق رضي الله تعالي عنه: العجز عن درك الادراك إدراك، وتجاسر المدعي علي دعوي المعرفة وإن ابن الحيض قد عرف القديم علي ما هو عليه ولا غرور ولا جهل أعظم ممن يدعي ذلك، فنعوذ بالله تعالي من الخذلان. ثم أخذ [ صفحه 6] بعد ذلك في نسبة مذهب جمهور أمة محمد صلي الله تعالي عليه وسلم إلي أنه مذهب فراخ الفلاسفة وأتباع اليونان واليهود، ستكتب شهادتهم ويسألون. ثم قال كتاب الله تعالي من أوله إلي آخره وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم من أولها إلي آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في الله تعالي، أنه فوق كل شئ وعلي كل شئ وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء. إبطال زعم ابن تيمية: أن الله فوق العرش حقيقة وقال في أثناء كلامه وأواخر ما زعمه: أنه فوق العرش حقيقة، وقاله في موضع آخر عن السلف فليت شعري أين هذا في كتاب الله تعالي علي هذه الصورة التي نقلها عن كتاب ربه وسنة نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم؟، وهل في كتاب الله تعالي كلمة مما قاله حتي يقول إنه فيه نص، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل البتة؟ وهذا مراده، فإنه جعله غير الظاهر لعطفه له عليه وأي آية في كتاب الله تعالي نص بهذا الاعتبار؟، فأول ما استدل به قوله تعالي " إليه يصعد الكلم الطيب "، فليت شعري أي نص في الآية أو ظاهر علي أن الله تعالي في السماء أو علي العرش؟، ثم نهاية ما يتمسك به أنه يدل علي علو يفهم من الصعود، وهيهات زل حمار العلم في الطين، فإن الصعود في الكلام كيف يكون حقيقة، مع أن المفهوم في الحقائق أن الصعود من صفات الأجسام؟، فليس المراد إلا القبول، ومع هذا لا حد ولا مكان. ثم أفاض العلامة المذكور في نقض ما احتج به ابن تيمية من المتشابه، وزعم أنه نص في أن الله تعالي فوق العرش حقيقة، وفي السماء، وعلي السماء، في نحو إحدي عشرة صفحة، ثم قال: فنقول له ما تقول فيما ورد من ذكر العيون بصفة الجمع وذكر [ صفحه 7] الجنب وذكر الساق الواحد وذكر الأيدي؟، فإن أخذنا بظاهر هذا يلزمنا إثبات شخص له وجه واحد عليه عيون كثيرة وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد وأي شخص يكون في الدنيا أبشع من هذا؟ وإن تصرفت في هذا بجمع وتفريق بالتأويل فلم لا ذكره الله تعالي ورسوله وسلف الأمة؟ وقوله تعالي في الكتاب العزيز " الله نور السماوات والأرض "، فكل عالم يعلم أن النور الذي علي الحيطان والسقوف وفي الطرق والحشوش، ليس هو الله تعالي ولا قالت المجوس بذلك. فإن قلت بأنه هادي السماوات والأرض ومنورهما، فلم لا قاله الله تعالي ولا رسوله ولا سلف الأمة؟. ثم أفاض معه أيضا في الآيات والأحاديث المتشابهة التي تمسك بها علي مدعاه، ثم قال له: هل تأمن من المجسم أن يقول لك ظواهر هذه كثيرة تعدت الحصر أضعاف أحاديث الجهة؟، فإن كان الأمر كما يقولون في نفي الجسمية مع أنه لم يأت في شئ من هذه ما بين خلاف ظواهرها لا عن الله تعالي ولا عن رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا عن سلف الأمة، فحينئذ يكيل لك المجسم بصاعك ويقول لك لو كان الأمر كما قلت لكان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدي لهم. وإن قلت: إن العمومات قد بينت خلاف ظواهر هذه، لم تجد منها نافيا للجسمية إلا وهو ناف للجهة، ثم ما يؤمنك من تناسخي يفهم من قوله تعالي: " في أي صورة ما شاء ركبك " مذهبه، ومن معطل يفهم من قوله تعالي: " مما تنبت الأرض " مراده، فحينئذ لا تجد مساغا لما نقض به من ذلك إذا الأدلة الخارجة عن هذه الألفاظ. [ صفحه 8] إلزامه له في قوله: إن مقالة الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدي لهم منها، بالكفر ثم صار حاصل كلامك: أن مقاله الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدي لهم، أفتراهم يكفرونك بذلك أم لا، ثم جعلت أن مقتضي كلام المتكلمين أن الله تعالي ورسوله وسلف الأمة تركوا العقيدة حتي بينها هؤلاء فقل لنا إن الله ورسوله وسلف الأمة بينوها ثم أنقل عنهم أنهم قالوا كما تقول إن الله تعالي في جهة العلو لا في جهة السفل، وإن الإشارة الحسية جائزة إليه، فإذا لم تجد ذلك في كتاب الله ولا في كلام رسوله صلي الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من العشرة ولا في كلام أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالي عنهم، فعد علي نفسك باللائمة، وقل لقد ألزمت القوم بما لا يلزمهم. ثم قلت عن المتكلمين إنهم يقولون ما يكون علي وفق قياس العقول فقولوه وإلا فانفوه، والقوم لم يقولوا ذلك بل قالوا صفة الكمال يجب ثبوتها لله تعالي وصفة النقص يجب نفيها عنه كما قاله الإمام أحمد رضي الله تعالي عنه، قالوا: وما ورد من الله تعالي ومن رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، فليعرض علي لغة العرب التي أرسل الله تعالي محمدا صلي الله تعالي عليه وسلم بلغتها كما قال تعالي: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " فما فهمت العرب فافهمه ومن جاءك بما يخالفه فانبذ كلامه نبذ الحذاء المرقع واضرب بقوله حائط الحش. [ صفحه 9]

عقيدة ابن تيمية التي خالف بها جماعة المسلمين

وأساء القول فيهم في تلقفها من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن ثم نعقد فصلا إن شاء الله تعالي عبد إفساد ما نزع به في سبب ورود هذه الآيات علي هذا الوجه، فإنه إنما تلقف ما نزع به في مخالفة الجماعة وأساء القول علي المسألة من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن، وسنبين إن شاء الله تعالي ضلالهم، ويعلم إذا ذاك من هو من فراخ الفلاسفة واليهود، ثم لو استحيي الغافل لعرف مقدار علماء الأمة رحمهم الله تعالي، ثم هل رأي من رد علي الفلاسفة واليهود والروم والفرس غير هؤلاء الذين جعلهم فراخهم؟، وهل اتكلوا في الرد علي هذه الطوائف علي قوم لا عقل لهم ولا بصيرة ولا إدراك؟، ثم يدرونهم يستدلون علي إثبات الله تعالي في الحجاب علي منكره بالنقل، وعلي منكري النبوة بالنقل، حتي يصير مضغة للماضغ وضحكة للمستهزئ، وشماتة للعدو وفرحا للحسود إه. ثم قال العلامة المذكور: ثم أفاد المدعي وأسند أن هذه المقالة (يعني في نفي الجهة لله تعالي) مأخوذة من تلامذة اليهود والمشركين، وذكر ابن تيمية إسنادها إلي لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلي الله عليه وسلم، فقال العلامة الراد: فيقال له: أيها المدعي أن هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود قد خالفت الضرورة في ذلك، فإنه ما يخفي علي جميع الخواص وكثير من العوام أن اليهود مجسمة مشبهة، فكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه مأخوذا عنهم؟، وأما المشركون فكانوا عباد أوثان، وقد بينت الأئمة أن عبدة الأصنام تلامذة المشبهة وأن أصل عبادة الصنم التشبيه، فكيف يكون نفيه مأخوذا عنهم، وأما الصابئة فبلدهم معروف وإقليمهم مشهور، وهل نحن منه أو خصومنا؟، وأما كون الجعد بن درهم من أهل حران، فالنسبة صحيحة، وترتيب هذا السند الذي ذكره سيسأله الله تعالي عنه، والله من رائه بالمرصاد، وليت لو أتبعه أن سند دعواه وعقيدته أن فرعون ظن أن إله موسي في السماء. [ صفحه 10]

مخالفة ابن تيمية لعماء الإسلام قاطبة

في تفسير قول الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف مجهول) ثم قال العلامة: ثم أخذ بعد ذلك في تصديق عزوته إلي المهاجرين والأنصار رضي الله تعالي عنهم، وشرع في النقل عنهم فقال: قال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالي ذكره فوق عرشه، فنقول له أول ما بدأت به الأوزاعي وطبقته ومن بعدهم، فأين السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟، وأما قول الأوزاعي فأنت قد خالفته ولم تقل به، لأنك قلت إن الله ليس فوق عرشه لأنك قررت أن العرش والسماء ليس المراد بهما إلا جهة العلو، وقلت المراد من فوق عرشه والسماء ذلك، فقد خالفت قول الأوزاعي صريحا مع أنك لم تقل قط ما يفهم، فإن قررت أن السماء في العرش كحلقة ملقاة في فلاة فكيف تكون هي بعد؟. ثم من أين لك صحة النقل عن الأوزاعي؟، وبعد مسامحتك في كل ذلك ما قال الأوزاعي: الله فوق العرش حقيقة، فمن أين لك هذه الزيادة؟. ونقل عن مالك بن أنس والثوري والليث والأوزاعي أنهم قالوا في أحاديث الصفات أقروها كما جاءت، فيقال له لم لا أمسكت علي ما أمرت به الأئمة بل وصفت الله تعالي بجهة العلو ولم يرد بذلك خبر؟، ولو بذلت قراب الأرض ذهبا علي أن تسمعها من عالم رباني لم تفرح بذلك، بل تصرفت ونقلت علي ما خطر لك وما أمررت ولا أقررت ولا امتثلت ما نقلته عن الأئمة. وروي قول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول فليت شعري من قال إنه مجهول بل أنت زعمت أنه لمعني عينته وأدرت أن تعزوه إلي الإمامين؟، ونحن لا نسمح لك بذلك، نم نقل عن مالك أنه قال للسائل: الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به فأخرج، فيقال له ليت شعري من امتثل منا قول مالك؟، هل امتثلناه [ صفحه 11] نحن حيث أمرنا بالإمساك وألجمنا العوام عن الخوض في ذلك؟، أو الذي جعله دراسته يلقيه ويلفقه ويلقنه ويكتبه ويدرسه ويأمر العوام بالخوض فيه، وهل أنكر علي المستفتي في هذه المسألة بعينها وأخرجه كما فعل مالك رضي الله تعالي عنه فيها بعينها؟، وعند ذلك يعلم أن ما قاله عن مالك حجة عليه لا له إه. منشأ اعتقاد الجهة لله تعالي قياس الخالق علي المخلوق وأؤمل من قاس قياسه فاسدا إبليس قد تقرر فيما تقدم أن هذه الطائفة مقلدي محمد بن عبد الوهاب مجسمة مكفرة، وأن مقلدهم محمد بن عبد الوهاب مقلد فيهما أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيهما الكرامية وطائفة من الحنابلة، وهذه الطائفة قال فيها ابن الجوزي الحنبلي: أنهم شانوا مذهب أحمد، وفضحوا ذاك الإمام بجهلهم، وإن مذهبه التنزيه ولكنهم اختلفوا وأنه أدرك منهم مشايخا، وأكثر من أدركه لا عقل له وصاحب الدار أدري بما فيها. وتحقق من رسالة العلامة أحمد بن يحيي الكلابي الحلبي في رده علي ابن تيمية إن ابن تيمية جازم بأن الله تبارك وتعالي في جهة العلو فوق العرش حقيقة مؤول للسماء بجهة العلو، وقد صرح بجهة العلو لله تبارك وتعالي في كتابه: " منهاج السنة "، مفسرا لقول الإمام مالك في: (الرحمن علي العرش استوي)، الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، بأنه معلوم جلوسه تبارك وتعالي علي العرش وكيفية جلوسه مجهولة، شاذا عن علماء الإسلام الأعلام الذين فسروه بأنه معلوم في لغة العرب، ولكن حيث كان الاستواء متعلقا بالله جل جلاله فكيفيته مجهولة، وقد صرح بالجسمية لله تعالي في كتابه العرش، كما ذكره صاحب " كشف الظنون " ناقلا له عن أبي حيان قال: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالي يجلس علي العرش وقد أخلي مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، كما ذكر ذلك أبو حيان [ صفحه 12] في النهر في قوله سبحانه وتعالي (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال التقي السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه إ ه. ومن تجرد عن العاطفة وطالع تآليفه وتآليف تلميذه ابن القيم، وقد طبعت بإنصاف، يجد فيها هذه المصائب كلها، التجسيم واعتقاد الجهة لله وتكفير المسلمين المخالفين لرأيه، وغير ذلك كما يجدها مملوءة بنسبة هذا الوضر إلي السلف الصالح افتراء وتلبيسا وتهويلا علي البسطاء فلو اجتمع معه الثقلان علي إثبات التصريح بالجهة لله تعالي بإسناد صحيح عن أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك، فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة الكرام رضي الله تعالي عنهم، فضلا عن إثباته عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم. ومن أثني علي هذا الرجل من المعاصرين له والمتأخرين عنه ونسبه إلي مذهب السلف الصالح، كالملا إبراهيم الكوراني علي قاعدة وجوب تحسين الظن بالمسلم، لا سيما من انتسب إلي العلم، لم يطلع علي تآليفه، وتضارب كلامه وتخليطه فيها، ومن دافع عنه وبرأه وجهل العلماء الذين ناظروه فأفحموه وردوا عليه بالتآليف فأجادوا، فهو إما جاهل مؤجر، كنعمان الآلوسي في كتابه " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " وأما جاهل مفتتن به، كصديق حسن خان ملك يهوبال، فإنه افتري علي أهل الحديث كلهم وعلي الأشاعرة بأنهم تيمية، أي يعتقدون أن الله تبارك وتعالي في جهة العلو في كتابه: الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح)، الذي شرح به في زعمه عقيدة المحدث شاه ولي الله الدهلوي المطبوع علي هامش، (جلاء العينين) قال فيه: ومن الذين أثبتوها (يعني الجهة لله) بالنقل أهل الحديث بأجمعهم والأشاعرة، وتسمية المتكلمين إياهم بالمجسمة والمشبهة تعصب منهم وتحكم إه. وقد بلغني أن صديق حسن هذا كان يجمع عنده طلبة العلم فيغدق عليهم المال، فيكتبون له ما يريد وينسبون إليه. ومحمد بن علي الشوكاني وسيأتي بسط حاله. [ صفحه 13]

جمهور الأمة الإسلامية علي تنزيه الله تعالي، عن مشابهة الحوادث

اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم علي أن الله تبارك وتعالي منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته. كلام أبي المعالي إمام الحرمين في " لمع الأدلة " في تنزيه الله تعالي عن مشابهة الحوادث كلام شارحها شرف الدين التلمساني قال أبو المعالي إمام الحرمين في كتابه: " لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة "، الرب سبحانه وتعالي تقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة، لا تحده الأفكار ولا تحويه الأقطار ولا تكتنفه الأقدار، ويجل عن قبول بالحد والمقدار، والدليل علي ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها، ولك ما يقبل الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر. وأطال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرحها الكلام علي ذلك إلي أن قال: والجواب الجملي عن الجميع، أي جميع متشابهات الكتاب والسنة التي تمسك بها مثبتو الجهة لله تعالي، إن الشرع إنما يثبت بالعقل فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتي بذلك لبطل الشرع والعقل معا إ ه. وقال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وأما القائلون بحقيقة الجسمية والحيز والجهة، فقد بنوا مذهبهم علي قضايا وهمية كاذبة تستلزمها وعلي ظواهر آيات وأحاديث تشعر بها، أما الأول فكقولهم: كل موجود فهو إما جسم أو حال في جسم، والواجب يمتنع أن يكون حالا في الجسم لامتناع احتياجه، فتعين كونه جسما وكقولهم: كل موجود إما متحيز أو حال في المتحيز، ويتعين كونه متحيزا لما مر، وكقولهم: الواجب إما متصل بالعالم وإما منفصل عنه، وأياما كان يكون في جهة منه، وكقولهم: الواجب إما داخل في العالم فيكون متحيزا أو خارج عنه فيكون في جهة [ صفحه 14]

آيات يستدل بها الوهابيون

منه ويدعون في صحة هذه المنفصلات وتمام انحصارها الضرورة، والجواب: المنع كيف وليس تركيبها عن الشئ ونقيضه أو المساوي لنقيضه، وأطبق أكثر العقلاء علي خلافها وعلي أن الموجود إما جسم أو جسماني، أوليس بجسم ولا جسماني، وكذا باقي التقسيمات المذكورة والجزم بالانحصار في القسمين إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم، ودعوي الضرورة مبنية علي العناد والمكابرة أو علي أن الوهميات كثيرا ما تشتبه بالأوليات. وأما الثاني فكقوله تعالي: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)، (الرحمن علي العرش استوي)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، (ويبقي وجه ربك)، (يد الله فوق أيديهم)، ولتصنع علي عيني)، (لما خلقت بيدي)، (والسماوات مطويات بيمينه)، (يا حسرتا علي ما فرطت في جنب الله) إلي غير ذلك، وكقوله عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله) فقالت: في السماء، فلم ينكر عليها وحكم بإسلامها، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينزل إلي سماء الدنيا - الحديث)، (إن الله خلق آدم علي صورته)، (إن الجبار يضع قدمه في النار)، (إنه يضحك إلي أوليائه)، (إن الصدقة تقع في كف الرحمن) إلي غير ذلك. والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست علي ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلي الله تعالي مع اعتقاد حقيقتها جريا علي الطريق الأسلم الموافق للوقف علي " إلا الله " في قوله تعالي: " وما يعلم تأويله إلا الله "، أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية، علي ما ذكر في كتب التفاسير وشروح الأحاديث، سلوكا للطريق الأحكم الموافق للعطف في (إلا الله والراسخون في العلم). فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصي بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق؟، كما كررت الدلالة علي وجود الصانع ووحدت وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع، وأكدت غاية التأكيد مع أن هذا [ صفحه 15] أيضا حقيق بغاية التأكيد والتحقيق، لما تقرر في فطرة العقلاء، مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلي العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلي السماء. أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة، حتي تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلي صلاحهم والأليق بدعوتهم إلي الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه، وكون الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة علي التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث، وتوجه العقلاء إلي السماء ليس من جهة اعتقادهم إنه في السماء بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء، إذ منها تتوقع الخيرات والبركات وهبوط الأنوار ونزول الأمطار إه. وقال بعضهم: ليس في ذلك دليل علي كونه في الجهة، وهذا لأنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلي الكعبة وليس هو في جهة الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلي موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة وليس هو في الأرض، وكذا حال السجود أمروا بوضع الوجوه علي الأرض وليس هو تحت الأرض، فكذا هنا بل تعبد محض وخضوع وخشوع إ ه. تحقيق نفيس في نفي الجهة عن الله تعالي للإمام حجة الإسلام الغزالي وقال حجة الإسلام الغزالي: في كتاب " الإقتصاد في الاعتقاد " إنه تعالي ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معني لفظ الجهة ومعني لفظ الاختصاص، فهم قطعا استحالة الجهة علي غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الخير إنما يصير جهة إذا أضيف إلي شئ آخر متحيز. فإن قيل نفي الجهة مؤد إلي محال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وذلك محال، قلنا: مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا منفصلا ولا متصلا به محال، وأن كل موجود [ صفحه 16] يقبل الاختصاص بجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال، فأما موجود لا يقبل الاتصال. ولا الاختصاص بجهة فخلوه عن طرفي النقيض غير محال وهو كقول القائل: يستحيل موجود لا يكون عاجزا ولا قادرا ولا عالما ولا جاهلا، فإن المتضادين لا يخلو الشئ عنهما فيقال له: إن كان ذلك الشئ قابلا للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما، أما الجدار الذي لا يقبل واحد منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة فخلوه عنهما ليس بمحال، فلذلك شرط للاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز، فإذا فقد هذا لم يستحل الخلو عن مضاديه إ ه. جواب نفيس للعلامة أبي عبد الله بن جلال عن قولهم: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم وسئل العلامة أبو عبد الله محمد بن جلال هل يقال: المولي تبارك وتعالي لا داخل العالم ولا خارج العالم. فأجاب بأنا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، والعجز عن الادراك إدراك، لقيام الدلائل الواضحة علي ذلك عقلا ونقلا. أما النقل: فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالي: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير). فلو كان في العالم أو خارجا عنه لكان مماثلا وبيان المماثلة واضح. أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له. وأما الثاني فلأنه إن كان خارجا لزم إما اتصاله وإما انفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلي مخصص. وأما السنة فقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: " كان الله ولا شئ معه وهو الآن علي ما كان عليه ". وأما الاجماع فأجمع أهل الحق قاطبة علي أن الله تعالي لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف. وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحا كليا مما مر في بيات الملازمة في قوله تعالي: (ليس كمثله شئ). والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط، لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما علي المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلا: الحائط لا أعمي ولا [ صفحه 17] بصير، فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما علي البدلية، وكما يقال في الباري أيضا: لا فوق ولا تحت، وقس علي ذلك إ ه. وقال الشيخ أبو حفص الفاسي في حواشي الكبري: لا شك أن المعتقد هو أن الله تعالي سبحانه ليس في جهة، وقد أوضح الأئمة تقريره في الكتب الكلامية بما لا مزيد عنه، فهو سبحانه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، وتوهم أن في هذا رفعا للنقيضين وهو محال، باطل، إذ لا تناقض بين داخل وخارج، وإنما التناقض بين داخل ولا داخل وليس خارج مساويا للداخل وإنما هو أخص منه، فلا يلزم من نفيه نفيه لأن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، والأعم لا يستلزم الأخص. فإن قيل بم ينفرد هذا الأعم الذي هو داخل عن الأخص الذي هو خارج. قلنا: ينفرد في موجود لا يقبل الدخول ولا الخروج ولا اتصال ولا انفصال، وهذا يحمله العقل ولكن يقصر عنه الوهم، وقصور الوهم منشأ الشبهة ومثار دعوي الاستحالة إ ه. احتجاج ابن تيمية علي إثبات الجهة الله تعالي وقد احتج ابن تيمية علي إثبات الجهة لله تعالي مقلدا سلفه المجسمة بقوله تعالي حكاية عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلي إله موسي وإني لأظنه كاذبا)، وقد ذكر ذلك في رسالته التي نقضها عصريه أحمد بن يحيي الكلابي مجملا فقال العلامة المذكور رادا عليه: ليت شعري كيف فهم من كلام فرعون أن الله تعالي فوق السماوات وفوق العرش، أما أن إله موسي في السماوات فما ذكره، وعلي تقدير فهم ذلك من كلام فرعون فكيف يستدل بظن فرعون مع إخبار الله تعالي عنه بأنه زين له سوء عمله وأنه حاد عن سبيل الله وأن كيده في ضلال، مع أنه لما سأل موسي عليه الصلاة والسلام بقوله: (وما رب العالمين) لم يتعرض موسي للجهة بل لم يذكر إلا أخص الصفات وهي القدرة علي الاختراع ولو كانت الجهة ثابتة لكان التعريف بها أولي الإشارة الحسية من أقوي [ صفحه 18]

اجوبة علماء اهل السنة

المعرفات حسا وعرفا، وفرعون سأل بلفظ ما فكان الجواب بالتحيز أولي من الصفة. وغاية ما فهمه من هذه الآية واستدل به فهم فرعون فيكون عمدة هذه العقيدة كون فرعون ظنها وهو مشيدها، فليت شعري لم لا ذكر النسبة إليه كما ذكر أن عقيدة سادات أمة محمد صلي الله تعالي عليه وسلم الذين نبزهم بالجهمية لمخالفتهم هواه متلقاة من لبيد بن الأعصم اليهودي إ ه. وقد بين عقيدته فارا من شناعة مشيخة فرعون عليه وعلي أسلافه محاولا إلصاقها بموسي، برأه الله تعالي من ذلك، وصلي عليه في رسالته: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " ص 134 قال: فلولا أن موسي أخبره أن ربه فوق العالم لما قال: (أطلع إلي إله موسي)، وفي ص 144 منها قال: وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وثرثر إلي أن قال: وكان ينكر أن يكون الله كلم موسي، أو لا يكون لموسي إله فوق السماوات. وقال في رسالته: " صفات الله وعلوه علي خلقه " ص 211 كذب فرعون موسي في قوله " إن الله فوق السماوات "، والمفسرون متفقون علي أن معني قوله (وإني لأظنه كاذبا) في أن له إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري). قد تحقق عن علماء الإسلام إن معتقدي الجهة لله تعالي قاسوا الخالق علي المخلوق وقد تحقق بما نقلته عن علماء الإسلام المحققين إن معتقدي الجهة لله تعالي قاسوا الخالق علي المخلوق، وأنهم من العوام لم تستسغ عقولهم استحالة الجهة علي الله تبارك وتعالي، وأنهم مؤولون كل ما يوهم جهة العلو لله تعالي من ظواهر الكتاب والسنة بما يوافق هواهم فيقولون: (استوي علي العرش) جلس عليه واستوي علي العرش بذاته، وحقيقته، وعلي عرشه بائن من خلقه، (وهو القاهر فوق عباده)، (ويخافون ربهم من فوقهم) بفوقية حقيقة و (آمنتم من في السماء) بأن [ صفحه 19] " من " معناها " الله " و " في " بمعني " علي " والسماء " بمعني " العرش " يعني " آمنتم الله علي العرش " فظفروا في التأويل ثلاث طفرات، وهكذا مفوضون فيما جاء من ذلك ضد رأيهم كقوله تعالي: (يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده)، وقوله تعالي: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) وملاقوا ربهم) و (يد الله فوق أيديهم) وقوله تعالي: (فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) وقوله تعالي: (وجاء ربك)، وقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: " إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبصقن في قبلته فإن ربه بينه وبين الجدار "، وقوله صلي الله تعالي عليه وسلم في الحديث القدسي: " إذا تقرب مني عبدي شبرا تقربت منه ذراعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة ". وهكذا فهم مؤولون مفوضون، والتأويل مباح لهم محظور علي غيرهم، ومع هذا الخبط ينبزون المنزهين لله تعالي عن مشابهة بالجهمية، سبحان واهب العقول. ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية وأن السماء محيطة تضبها من جميع جوانبها علي أنه قد ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية، وأن السماء محيطة بها من جميع جوانبها، وعليه فالعلو غير حقيقي بل هو نسبي، فما من علو لقوم إلا وهو سفل لآخرين، لأن الجهات التي هي الفوق والتحت واليمين إلي آخرها حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي علي رجلين، فإن الفوق ما يحاذي رأسه من فوق والباقي ظاهر، ولما يمشي علي أربع أو علي بطنه ما يحاذي ظهره من فوقه، وأن النملة إذا مشت علي سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض لأنه المحاذي لظهرها، والعجز عن إدراكه تعالي إدراك مأثور عن الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله تعالي عنه، وقد نقله العلماء في كتبهم: (والعجز عن إدراكه الصديق. قال هو الادراك والتحقيق) وقال آخر: (وكلما تخطره ببالك. فربنا منزه عن ذلك). [ صفحه 20]

في توحيد الألوهية، و توحيد الربوبية

توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية الذي اخترعه ابن تيمية وزعم أن جميع فرق المسلمين من المتكلمين عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الاقرار بأن الله خالق كل شئ وزعم أن هذا اعترف به المشركون، فكفر به جميع المسلمين وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب كما قلده في غيره، لم يطلع عليه العلماء المعاصرون له والمتأخرون عنه الرادون عليه ردا سديدا في كثير من شواذه، ولو اطلعوا عليه لرشقوه بسهام علومهم الصائبة. وقد كتب فيه العلامة المرحوم السيد أحمد بن زيني دحلان المتوفي سنة أربع وثلاثمائة وألف في رسالته (الدرر السنية في الرد علي الوهابية) نبذة وكتب فيه العلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري المتوفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف في كتابه (سعادة الدارين في الرد علي الفرقتين الوهابية والظاهرية) كلاما جيدا. وكتب فيه العلامة المرحوم الشيخ سلامة العزامي المتوفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف في كتابه (البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة) كلاما نفيسا نصه: (بيان أن منشأ الشبه الجهل بمعني الإيمان والعبادة شرعا) فاعلم أن الإيمان هو التصديق بما علم مجئ النبي صلي الله عليه وسلم به واشتهر بين الخاصة والعامة اشتهارا يلحقه بالضروريات، وأن الكفر - نعوذ بالله منه - هو إنكار شئ من ذلك بعد أن يعلم المنكر أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم جاء به، وأن معني العبادة شرعا هو الإتيان بأقصي الخضوع قلبا وقالبا، فهي إذن نوعان قلبية وقالبية، فالقلبية هي اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لا محالة لمن اعتقد فيه [ صفحه 21] ذلك، والقالبية هي الإتيان بأنواع الخضوع الظاهرية من قيام وركوع وسجود وغيرها مع ذلك الاعتقاد القلبي فإن أتي بواحد منها بدون ذلك الاعتقاد لم يكن ذلك الخضوع عبادة شرعا ولو كان سجودا، وإنما قال العلماء بكفر من سجد للصنم، لأنه أمارة علي ذلك الاعتقاد لا لأنه كفر من حيث ذاته، إذ لو كان لذاته كفرا لما حل في شريعة قط فإنه حينئذ يكون من الفحشاء والله لا يأمر بالفحشاء. وقد كان السجود لغير الله عز وجل علي وجه التحية والتكريم مشروعا في الشرائع السابقة وإنما حرم في هذه الشريعة، فمن فعله لأحد تحية وإعظاما من غير أن يعتقد فيه ربوبية كان آثما بذلك السجود، ولا يكون به كافرا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له، ويرشدك إلي ذلك قوله عز وجل في يعقوب نبي الله وامرأته وبنيه حين دخلوا علي يوسف: (وخروا له سجدا). قال ابن كثير تفسيرها: أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا علي الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلي شريعة عيسي عليه الصلاة والسلام، فحرم هذا في هذه الملة إ ه. المقصود منه، ويوضح لك ذلك أيضا أمره عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان سجودهم له عليه الصلاة والسلام عبادة للآمر عز وجل، وإكراما لآدم عليه الصلاة والسلام. بيان خطأ من قال من الملاحدة إن تعظيم الكعبة والحجر الأسود من الوثنية وجهل من قال بعدم التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعدم كفاية الأول في النجاة ومن هذا تعلم أن تعظيم البيت بالطواف حوله، وتعظيم الحجر الأسود باستلامه وتقبيله والسجود عليه ليس عبادة شرعا للبيت ولا للحجر وإنما هو عبادة للآمر بذلك عز وجل الذي اعتقد الطائف ربوبيته سبحانه، فليس كل تعظيم الشئ عبادة له شرعا [ صفحه 22] حتي يكون شرعا، بل منه ما يكون واجبا أو مندوبا إذا كان مأمورا به أو مرغبا فيه، ومنه ما يكون مكروها أو محرما، ومنه ما يكون مباحا، ولا يكون التعظيم لشئ شركا حتي يقارنه اعتقاد ربوبية ذلك الشئ أو خصيصة من خصائصها له، فكل من عظم شيئا فلا يعتبر في الشرع عابدا له إلا إذا اعتقد فيه ذلك الاعتقاد. وقد استقر في عقول بني آدم ما داموا علي سلامة الفطرة أن من ثبتت له الربوبية فهو للعبادة مستحق، ومن انتفت عنه الربوبية فهو غير مستحق للعبادة، فثبوت الربوبية، واستحقاق العبادة متلازمان فيما شرع الله في شرائعه وفيما وضع في عقول الناس، وعلي أساس اعتقاد الشركة في الربوبية بني المشركون استحقاق العبادة لمن اعتقدوهم أربابا من دون الله تعالي سبحانه، ومتي انهدم هذا الأساس من نفوسهم تبعه ما بني عليه من استحقاق غيره للعبادة، ولا يسلم المشرك بانفراد الله تعالي باستحقاق العبادة حتي يسلم بانفراده عز وجل بالربوبية، وما دام في نفسه اعتقاد الربوبية لغيره عز وجل استتبع ذلك اعتقاده في هذا الغير الاستحقاق للعبادة، وذلك كان من الواضح عند أولي الألباب إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد، فمن اعترف بأنه لا رب إلا الله كان معترفا بأنه لا يستحق العبادة غيره، ومن أقر بأنه لا يستحق العبادة غيره كان مذعنا بأنه لا رب سواه، وهذا الثاني هو معني (لا إله إلا الله) في قلوب جميع المسلمين. ولذلك نري القرآن في كثير من المواضع يكتفي بأحدهما عن الآخر، ويرتب اللوازم المستحيلة علي انتفاء أي واحد منهما، ليستدل بانتفائها علي ثبوته فانظر إلي قوله تعالي: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وقوله تعالي: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علي بعض) حيث عبر بالإله ولم يعبر بالرب. وكذلك في الميثاق الأول قال سبحانه: (ألست بربكم) ولم يقل بإلهكم، [ صفحه 23] واستفاض عن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم أن الملكين يقولان للميت في قبره (من ربك)؟ ويكتفيان بالسؤال عن توحيد الربوبية ويكون جوابه بقوله: (الله ربي) كافيا، ولا يقولان له إنما اعترفت بتوحيد الربوبية وليس توحيد الربوبية كافيا في الإيمان. وهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لذلك الجبار (ربي الذي يحيي ويميت)، فيجادله بأنه كذلك يحيي ويميت إلي أن حاجه خليل الله بما يكذب دعوي ربوبيته فتندحض دعوي استحقاقه للعبادة. وفيما حكي الله عن فرعون أنه قال مرة: (ما علمت لكم من إله غيري)، ومرة أخري: (أنا ربكم الأعلي). وبالجملة فقد أومأ القرآن العظيم والسنة المستفيضة إلي أن تلازم توحيد الربوبية والألوهية مما قرره رب العالمين، واكتفي سبحانه من عبده بأحدهما عن صاحبه لوجود هذا التلازم، والملائكة المقربون، وفهم الناس هذا التلازم حتي الفراعنة الكافرون، فما هذا الذي يفتريه أولئك المبتدعة الخراصون، فيرمون المسلمين بأنهم قائلون بتوحيد الربوبية دون توحيد العبادة وأنه لا يكفيهم ذلك في إخراجهم من الكفر وإدخالهم في الإسلام حتي تحقن دماؤهم؟ بل يستبيحون ذبح المسلم المسالم لهم وهو يقول: " لا إله إلا الله " ويقولون فيه إنه ما اعترف بتوحيد الألوهية، وإنما يعني توحيد الربوبية وهو غير كاف، فلا يقبلون ما دل عليه صريح كلامه، ويرفضون الاكتفاء بما اكتفي به الله من عبده يوم الميثاق الأول، وارتضته ملائكته حين يسأل العبد في قبره من الاعتراف بتوحيد الربوبية، حيث كان مستلزما لتوحيد الألوهية، وكان التصريح بما يفيد أحدهما تصريحا بما يدل علي الآخر، فالناطق بلا إله إلا الله معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعا، والقائل ربي الله معترف بكلا التوحيدين جميعا. والآن ألفت نظرك أيها المحقق إلي قوله تعالي: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.) الآية وهي في موضعين من كتاب الله تعالي ولم يقل إلهنا، وقول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم لمن سأله عن وصية جامعة: (قل ربي الله ثم استقم)، ولم يقل إلهي بكفاية توحيد الربوبية في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية بشهادة الله رسوله. وإلي قوله تعالي: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو)، وقول [ صفحه 24] رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله). وإلي قوله صلي الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين قتل من قال لا إله إلا الله إذ أهوي إليه بالسيف ظنه قالها تعوذا، والقرائين قوية علي هذه الظن كما يعلم من تفصيل القصة، (يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أشققت عن قلبه حتي تعلم أقالها أم لا؟) ولم يعتذر أسامة بأنه إنما عني توحيد الربوبية، وهو غير كاف في الدخول في الإسلام وحقن الدم به ولم يعن توحيد العبادة، ففي ذلك كله وغيره مما لم نذكره أبين البيان. لأن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر، وإنما جر هذا المبتدع ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معني العبادة شرعا كما يدل عليه استقراء موارد هذه اللفظة في كلام الله تعالي ورسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، فظن أن التوسل برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب علي أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع ولا ضر وليس لهم من الربوبية شئ ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبا يمطر منها علي عباده أنواع خيره، ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة. ومن أرفقه التوفيق وفارقه الخذلان ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف علم يقينا لا تخالطه ريبة أن مسمي العبادة شرعا لا يدخل فيه شئ مما عده من توسل واستغاثة وغيرهما، بل لا يشتبه بالعبادة أصلا فإن كل ما يدل علي التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم أو صفة من صفاتها الخاصة بها. ألا تري الجندي يقوم بين يدي رئيسه ساعة وساعات احتراما له وتأدبا معه فلا يكون هذا القيام عبادة للرئيس شرعا ولا لغة، ويقوم المصلي بين يدي ربه في صلاة بضع دقائق أو بعضها قدر ما يقرأ الفاتحة فيكون هذا القيام عبادة شرعا، وسر ذلك إن هذا القيام وإن قلت مسافته مقترن باعتقاد القائم ربوبية من قام له، ولا يقارن ذاك القيام هذا الاعتقاد إ ه. [ صفحه 25]

نص كلام ابن تيمية في التوحيد

في توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في كتبه في أربعة مواضع وقد اطلعت علي كلام لابن تيمية في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية مفرق في أربعة مواضع من كتبه أذكره كله ليراه القراء ثم أبطله: (1) - قال في الجزء الأول من فتاواه ص 219 في تفسير قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) والمعني أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده، أي لا ينجيه ويخلصه منك جده وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح، والجد هو الغني وهو العظمة وهو المال، (إلي أن قال) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين أحدهما توحيد لربوبية وهو أن لا معطي لما منع الله ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو. والثاني توحيد الإلهية وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع وأنه ليس كل من أعطي مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا عند الله منجيا له من عذابه، فإن الله تعالي يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب (إلي أن قال): وتوحيد الإلهية أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسل ويفعل ما يحبه ويرضاه، وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه أرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الإلهية ويستغفر الله علي ذلك وهو توحيد له فيقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) إه. (2) - وقال في الجزء الثاني من فتاواه ص 275: فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله تعالي الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه، ويحقق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعنا عند الاقتران كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس الخ)، فجمع بين الاسمين فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده إ ه. [ صفحه 26] (3) - وقال في الجزء الثاني من منهاج السنة ص 62 بعد ثرثرة ذم فيها جميع فرق المسلمين من المتكلمين مصرحا بأنهم عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله، ما نصه: فإنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا عنها إلي طرق أخري مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم، ودخلوا في بعض الباطل المبدع، وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية، وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية، وهو الاقرار بأن الله خالق كل شئ وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، وقال تعالي: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله، الآيات). وقال عنهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، فالطائفة من السلف تقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره، وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية، بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا فيكون الدين كله لله إ ه. (4): وقال في رسالة أهل الصفة ص 34: توحيد الربوبية وحده لا ينفي الكفر ولا يكفي إ ه. أقول: قد لبس ابن تيمية في تآليفه علي العامة وأشباههم من المتفقهة كثيرا بالسلف الصالح والكتاب والسنة لترويج هواه في سوقهم ولكنه في هذا الكلام صرح بهواه ولم يلصقه بهما ولا بالسلف وإني بحول الله وتوفيقه أكيل له بصاعه الذي لبس به علي البسطاء تكيلا حقيقيا وافيا، مبرهنا فأقول كلامه هذا في الأربعة المواضع بالطل باثنين وثلاثين وجها. [ صفحه 27]

اقول علماء اهل السنة في التوحيد

الوجه الأول الأول: لم يقل الإمام أحمد بن حنبل الذي انتسب إليه كذبا لأصحابه: إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا تعتبر معرفته لتوحيد الربوبية لأن هذا يعرفه المشركون، وهذا عقيدة الإمام أحمد مدونة في مصنفات أتباعه في مناقبه لابن الجوزي وفي غيره ليس فيه هذا الهذيان. الوجه الثاني الثاني: لم يقل أي واحد من أتباع التابعين لأصحابه إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، فلو اجتمع معه الثقلان علي إثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون. الوجه الثالث الثالث: لم يقل أي واحد من التابعين لأصحابه إن التوحيد ينقسم إلي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فلو اجتمع معه الثقلان علي إثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون. الوجه الرابع الرابع: لم يقل أي صحابي من أصحاب النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ورضي عنهم أن التوحيد ينقسم إلي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية لأن هذا يعرفه المشركون، وإني أتحدي كل من له إلمام بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع عنهم ولو برواية واهية. [ صفحه 28] الوجه الخامس الخامس: لم يأت في سنة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم الواسعة التي هي بيان لكتاب الله عز وجل من صحاح وسنن ومسانيد ومعاجم، أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان يقول لأصحابه ويعلمهم أن التوحيد ينقسم إلي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا يعرفه المشركون، فلو اجتمع معه الثقلان علي إثبات هذا الهذيان عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بإسناد ولو واهيا لا يستطيعون. الوجه السادس السادس: بل كتب السنة طافحة بأن دعوته صلي الله عليه وسلم الناس إلي الله كانت إلي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وخلع عبادة الأوثان، ومن أشهرها حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي اليمن فقال له: (ادعهم إلي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة - الحديث)، وروي الخمسة وصححه ابن حبان أنه صلي الله عليه وسلم أخبره أعرابي برؤية الهلال، فأمر بالصيام ولم يسأله النبي صلي الله عليه وسلم إلا عن الاقرار بالشهادتين، وكان اللازم علي هذيانه هذا أن يدعو النبي صلي الله تعالي عليه وسلم جميع الناس إلي توحيد الألوهية الذي جهلوه وأما توحيد الربوبية فقد عرفوه ويقول لمعاذا ادعهم إلي توحيد الألوهية، ويقول للأعرابي الذي رأي هلال رمضان هل تعرف توحيد الألوهية؟. الوجه السابع السابع: لم يأمر الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عباده بتوحيد الألوهية، ولم يقل لهم إن من لم يعرفه لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، بل أمر وهو: [ صفحه 29] الوجه الثامن الثامن: بكلمة التوحيد مطلقة، قال الله تبارك وتعالي مخاطبا نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله الله) وهكذا جميع آيات التوحيد المذكورة في القرآن مع سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن. الوجه التاسع التاسع: يلزم علي هذا الهذيان علي الله تبارك وتعالي لعباده حيث عرفوا كلهم توحيد الربوبية ولم يعرفوا توحيد الألوهية - أن يبينه لهم ولا يضلهم ولا يعذبهم علي جهلهم نصف التوحيد ولا يقول لهم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الإله هو الرب، والرب هو الإله الوجه العاشر العاشر: الإله هو الرب والرب هو الإله فهما متلازمان يقع كل منهما في موضع الآخر، وكتاب الله تعالي طافح بذلك، وكذلك سنته عليه الصلاة والسلام. قال الله تبارك وتعالي: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، وكان اللازم = علي زعمه = حيث كانوا يعرفون توحيد الربوبية ولا يعرفون توحيد الألوهية أن يقول الله: (اعبدوا إلهكم)، وقال الله تعالي: (ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه - الآية)، وكان اللازم = علي زعمه = حيث كان النمرود يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية أن يقول الله تعالي: (ألم تر إلي الذي [ صفحه 30] حاج إبراهيم في إلهه) وكان اللازم - علي زعمه = أن يقول الله في قوله تعالي: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) اتقوا إلهكم. وكان اللازم - علي زعمه = أن يقول الله في قوله تعالي: (إذ قال الحواريون يا عيسي بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء)، هل يستطيع إلهك، وكان اللازم - علي زعمه = أن يقول الله في قوله تعالي: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) ثم الذين كفروا بإلههم يعدلون لأن الرب يعرفونه، وهو شئ كثير في القرآن. الوجه الحادي عشر الحادي عشر: يلزم = علي زعمه = عدم تبيين الذي لا ينطق عن الهوي محمد صلي الله تعالي عليه وسلم للناس في دعوته لهم إلي الله تبارك وتعالي توحيد الألوهية الذي جهلوه وعدم تبيينه صلي الله عليه وسلم لهم ذلك، لا يخلو من أن يكون جهلا له أو كتمانا، وكلاهما مستحيل في حقه صلي الله تعالي عليه وسلم وكفر، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الوجه الثاني عشر الثاني عشر: زعمه أن المشركين يعرفون توحيد الربوبية، أي يعرفون أن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت غير صحيح في مشركي العرب وحدهم فضلا عن مشركي جميع الأمم، وقد أخبر الله عنهم في آيات كثيرة بأنهم أنكروا البعث أشد الانكار وأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، مرور الزمان، وقد اشتهر ذلك في أشعارهم. قال أحدهم: (أشاب الصغير وأفني الكبير كر الغداة ومر العشي)، واشتهر قولهم: (أرحام تدفع وأرض تبلع)، أيقول عاقل في هؤلاء مع هذا الكفر أنهم يعرفون توحيد الربوبية؟، ولو سلم أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فإن مجرد الاقرار به لا يسمي توحيدا عند علماء الإسلام، ولو كان الاقرار بالربوبية توحيدا = كما زعم = [ صفحه 31] لكان تصديق عتاة قريش النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وتكذيبهم بآيات الله تعالي توحيد ولا يقول بهذا عاقل. قال الله تعالي: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) ولو كان الاقرار بالربوبية توحيد = كما زعم = لكان علم عاد بالخالق لهم مع تكذيبهم آياته ورسوله هودا عليه الصلاة والسلام لما هددهم بالعذاب توحيدا، زاجرا لهم عن قولهم: (من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون)، ولا يقول بهذا عاقل، أيقول عاقل في فرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلي) وقال: (يا أيها الناس ما علمت لكم من إله غيري) وقال لملأه: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون)، لما أجابه موسي عليه الصلاة والسلام عن سؤاله عن حقيقة رب العالمين قائلا هو: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)، و (ربكم ورب آبائكم الأولين)، إنه يعرف توحيد الربوبية، أيقول عاقل في النمرود بن كنعان الذي ادعي الربوبية وحاج خليل الله عليه الصلاة والسلام في ربه وزعم أنه يحيي ويميت، إنه يعرف توحيد الربوبية؟، أيقول عاقل في الدهريين المنكرين وجود الإله وفي الثنوية المنكرين وجود إله واحد وفي الوثنية القائلين بكثرة الأرباب والآلهة وفي التناسخية وفي المزدكية والخرمية والبابية والماركسية، ويدعي في هذه الطوائف الضالة كلها إنها تعرف توحيد الربوبية؟، وكثير من سكان المعمورة دهريون طبائعيون إباحيون ملاحدة ينكرون وجود الرب، حتي من كان منهم متدينا بالمسيحية واليهودية كأهل أو ربا انسلخ أكثرهم منهما إلي الالحاد والإباحة ولا زال الالحاد والإباحة منتشرين في الأرض من بعد نوح عليه الصلاة والسلام، وعليهما أكثر سكان الربع العامر الآن. الوجه الثالث عشر الثالث عشر: قوله في تفسير قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين أحدهما: توحيد الربوبية والثاني توحيد الإلهية، كذب مكشوف يجوز علي الأغبياء، ولا يخلو فاعل بين من كونه [ صفحه 32] النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، بين أن التوحيد ينقسم إلي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أو الحديث نفسه بين نفسه، أو فهمه من الحديث ذلك، ولا شك أنه كذب مكشوف في الأول والثاني قطعا فإن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يبين في هذا الحديث أصلين عظيمين إلي آخر الهذيان، ولا الحديث بين ذلك، فانحصر فاعل بين في فهمه، وكان الواجب عليه للعامة وأشباههم التصريح بفهمه، بأن يقول لهم فهمت من هذا الحديث أصلين عظيمين الخ.. ولا يلبس عليهم بهذا الهراء، وباقي كلامه هنا ثرثرة لا تحتاج إلي تعليق. الوجه الرابع عشر الرابع عشر: يقال في قوله في الموضع الثاني (وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية) هل قال الإمام أحمد بن حنبل الذي يقدسه عند غرضه هذا الكلام؟. الوجه الخامس عشر الخامس عشر: هل قاله أحد من أتباع التابعين رحمهم الله تعالي؟. الوجه السادس عشر السادس عشر: هل قاله أحد من التابعين رحمهم الله تعالي؟. الوجه السابع عشر السابع عشر: هل قاله أحد من الصحابة رضوان الله عليهم؟. الوجه الثامن عشر الثامن عشر: هل قاله النبي صلي الله تعالي عليه وسلم؟. [ صفحه 33] الوجه التاسع عشر التاسع عشر: هل قاله الله تبارك وتعالي في كتابه العزيز؟. كتاب في تحريم علم المنطق الوجه العشرون العشرون: التضمن والالتزام من علم المنطق، وهو قد ألف كتابا في تحريمه، فقد صدق من قال فيه: إنه لا يدري ما يقول، وهو كثير التناقض في كلامه ولا يشعر. الوجه الحادي والعشرون الحادي والعشرون: يقال للمفتونين به وضحوا لنا هذا الكلام: (وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران كما في قوله: قل أعوذ برب الناس الخ. وهل كان السلف الصالح الذين يلبس بهم علي البسطاء يقولون هذا الهذيان ويعلمونه تلامذتهم؟، وهل قاله علماء الإسلام والمفسرون؟. الوجه الثاني والعشرون الثاني والعشرون: قوله في الموضع الثالث (فإنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه)، دعوي كاذبة مقلوبة عليه فيقال له: إنما المقصر عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه أنت وأشياخك المجسمة، مبنية علي إعجابه بنفسه وتأليهه هواه وازدرائه علماء الإسلام، وكل مائق يمكنه أن يقول: إن الناس [ صفحه 34] كلهم مخطئون: أو أن المتكلمين جميعا قصروا عن معرفة الأدلة العقلية الخ..، لأن الثرثرة لا ضريبة عليها، ولكن هل يضمن لهذره الصواب دائما؟. وكل من تصفح تآليفه يجد إعجاب برأيه وازدراءه للعلماء ماثلين أمام عينه في كل صفحة، والإعجاب واحتقار عباد الله من أوليات إبليس. الوجه الثالث والعشرون الثالث والعشرون: يقال له في قوله: (فعدلوا عنها إلي طرق آخر مبتدعة)، من أين لك إن علماء الإسلام كلهم عدلوا عن الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه إلي طرق أخري مبتدعة، ومشيت أنت وحدك عليها فعصمت من الطرق المبتدعة؟، أبنص صريح من كتاب الله تعالي أو من سنة نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم؟، فلو استظهر بالثقلين علي أن يجد فيهما ما يصوب رأيه ويخطئ علماء الإسلام، لم يظفر بذلك. الوجه الرابع والعشرون الرابع والعشرون: قوله (فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، كلام معمي ملبس فاسد مشتمل علي خمسة أوجه كلها فاسدة: (الأول) " فيها " أي الطرق التي ابتدعها علماء الإسلام = زعمه = من الباطل أي الكفر ومن للتبعيض أي بعض الكفر، ما أي الذي لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم بينهم وبين غيرهم، أي خرجوا عن توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات اللذين هما مع توحيد الربوبية مجموع الحق المشترك بينهم يعني جميع المسلمين، وبين غيرهم يعني نفسه، ودخلوا في بعض الباطل المبتدع، أي دخلوا في بعض الكفر المبتدع، (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، أي أخرجوا هذين القسمين من مجموع التوحيد الذي هو توحيد [ صفحه 35] الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وقد قلده محمد بن عبد الوهاب في هذا الموضع أيضا، فقسم التوحيد في بعض رسائله إلي ثلاثة أقسام، وتقدم في الموضع الأول والثاني والرابع من كلامه ما يدل صريحا علي أن التوحيد ينقسم إلي قسمين فقط: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فليتأمل الألباء هذا الخبط. (الثاني): الحق معني من المعاني لا يصح تبعيضه والباطل كذلك، فتقويم كلامه هذا = علي مقتضي زعمه = أن يقول: علماء الإسلام قاطبة خرجوا عن الحق الذي هو الإيمان، ودخلوا في الباطل الذي هو الكفر، أي كفروا، والعياذ بالله، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولم يقل عاقل من المسلمين إن الإيمان والكفر يتجزءان لذاتهما، فقد كفر المسلمين في أول هذا الكلام، وليس تكفيرهم بالتعبير بلفظ بعض في وسطه، وصرح بتكفيرهم في آخره كما سأحلله. (الثالث): قوله: (خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم) كلام يضحك منه المجانين قبل العقلاء، لأن معناه توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات بضاعة مشتركة بينه وبين علماء الإسلام فخرجوا هم عن هذه الشركة باختيارهم وتركوها له خالصة. (الرابع): وهو أشد فسادا مما قبله قوله: (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، فإنه يدل علي أن علماء الإسلام كلهم يعرفون أقسام التوحيد الثلاثة حق المعرفة، ومع ذلك أخرجوا منه قسمين عمدا وهما: توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وأبقوا لأنفسهم توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. (الخامس) قوله: (وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته) تلبيس فاسد فإن الله تبارك وتعالي لم يكلف عباده بمعرفة (إثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، ورسوله المبعوث رحمة للعالمين لم يأمر الناس لما دعاهم إلي الله بذلك، وإنما أمر الله عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأمرنا تعالي أن ندعوه بأسمائه الحسني ولم يأمرنا بإثبات حقائقها، وأمرنا باتباع نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم في جميع ما آتانا به من الأوامر واجتناب ما نهانا [ صفحه 36] عنه، وسلفنا الصالح الصحابة وأتباعهم وأتباع أتباعهم لما نشروا محاسن الدين الإسلامي علي المعمورة لم يأمروا الناس بإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ومن شك في هذا أو كابر فليبرز لنا نقلا صحيحا عنهم يدل لهذيانه هذا، ومقصوده به حقائق صفات الله فقط، لأنه يعتقد في ظواهر القرآن والسنة المتشابهة أنها صفات لله حقيقة، فيقول: إنه تعالي استوي علي عرشه حقيقة، وفوق العرش حقيقة، تقليدا لسلفه المجسمة، وقد تقدم رد ابن الجوزي عليهم بأن تسميتها صفات بدعة لم يقلها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا أصحابه، فأسماء الله تعالي مقحم بين المضاف والمضاف إليه. الوجه الخامس والعشرون الخامس والعشرون: قوله (ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الاقرار بأن الله تعالي خالق كل شئ، وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) وقال تعالي: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله - الآيات) وقال عنهم (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، صريح في تكفير المتكلمين، متناول أيضا للصحابة فمن بعدهم إلي يوم القيامة إلا من قال برأيه، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله (أي ومحمد رسول الله) فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله)، وصح عنه أيضا أنه قال (من صلي صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا)، وصح عنه أيضا أنه قال لمولاه أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أقتله بعد ما قال لا إله إلا الله) فقال يا رسول الله إنما قالها خوفا من السيف فقال له (فهلا شققت عن قلبه حتي تعلم أنه قالها لذلك)، وصح عنه أيضا أنه قال: (إني لم أو مر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، وصح عنه أيضا أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). ودلت نصوص الشريعة المستفيضة [ صفحه 37]

الدليل علي ان الصحابة و علماء التابعين كلهم متكلمون

علي أن الكفر أمر باطني لا يعلمه إلا الله فالحكم به علي واحد من المسلمين خطير جدا، فكيف الحكم به علي الأمة الإسلامية كلها؟، فهذا لا يتفوه به إلا من نزع من قلبه مخافة المنتقم الجبار، فقد برهن بهذا الكلام، علي أنه مقتد بأسلافه الحروريين الذين كفروا كثيرا من سادات المسلمين الصحابة رضوان الله عليهم والأمة الإسلامية جمعاء إلا من وافقهم علي هواهم، ولذلك جاء في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال فيهم: (هم شرار الخلق عمدوا إلي آيات نزلت في الكفار فحملوها علي المؤمنين)، فهو في المائة الثامنة مجدد الربوع البالية يحمل الآيات الواردة في الكفار علي المؤمنين كما حملها عليهم أسلافه كلاب النار، فالذي قال من العلماء إنه كفر ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين فقط، والذي قال منهم إنه طعن في الشريف أبي الحسن الشاذلي، والذي قال إنه طعن في رجال الصوفية جميعا، والذي قال إنه كفر إمام الحرمين أبا المعالي الجويني وتلميذه أبا حامد الغزالي، كلهم صادقون، لأن كلا منهم اطلع علي قبيحة من قبائحه المدسوسة المفرقة في كتبه ورسائله، ولم يطلعوا علي كلامه هذا ولو اطلعوا عليه لتحققوا إنه كفر الأمة الإسلامية جمعاء، متكلمين وفقهاء ومحدثين وصوفية، في مقدمتها سلفها الصالح الصحابة والتابعون وأتباعهم رضوان الله عليهم. فإن قيل: منطوق كلامه في حكمه بالشرك خاص بفرق المتكلمين فكيف عممته في الأمة الإسلامية كلها، فادعيت إنه متناول للصحابة والتابعين وأتباعهم وللفقهاء والمحدثين والصوفية؟. قلت: الصحابة وعلماء التابعين وأتباعهم ومن بعدهم من علماء المسلمين كلهم متكلمون، والدليل عليه عشرة أوجه: (الأول) علم الكلام علم قرآني فإنه مبسوط في كلام الله تعالي بذكر الإلهيات والنبويات والسمعيات والثلاثة مجموعة، مع ذكر ما يتوقف عليه وجود الصانع من حدوث العالم المشار إليه بخلق السماوات والأرض والنفوس وغيرها والإشارة إلي مذاهب المبطلين والطبائعيين وإنكار ذلك عليهم والجواب عن شبه المبطلين المنكرين لشئ من ذلك، إمكانا أو وجودا، كقوله تعالي: (كما بدأنا أول خلق نعيده)، وقوله [ صفحه 38] تعالي: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)، وقوله تعالي: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا)، وذكر حجج إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحكم لقمان وغير ذلك مما يطول ذكره، وتكلم فيه النبي صلي الله عليه وسلم كإبطاله اعتقاد الأعراب في الأنواء وفي العدوي وفي جوابه للأشعريين عن سؤالهم عن أول هذا الأمر، قال (كان الله ولم يكن شئ غيره - إلي آخر الحديث) وغير ذلك، وهو كسائر العلوم مركوز في طباع الصحابة الناصعة الصافية، ولاتفاقهم جميعا في العقيدة الإسلامية لم يحتاجوا إلي الكلام فيه رضوان الله تعالي عليهم أجمعين. تحقيق مطنب فيه للعلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد قال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: الأحكام المنسوبة إلي الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمي فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمي أصلية واعتقادية، وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلي أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلي البدع والأهواء، وكثرت الفتاوي والواقعات ومست الحاجة فيها إلي زيادة نظر والتفات فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام، وأقبلوا علي تمهيد أصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينا وتدوين المسائل بأدلتها والشبه بأجوبتها، وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه، والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات، تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها، وبعلم الكلام، لأن مباحثه كانت مصردة بقولهم الكلام في كذا وكذا، ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسألة كلام الله تعالي أنه قديم أو حادث، ولأنه يورث قدرة علي الكلام في تحقيق الشرعيات، كالمنطق في الفلسفيات، ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم [ صفحه 39] ما لم يكثر في غيره، ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه، كما يقال للأقوي من الكلامين هذا هو الكلام، واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات، فظهر أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية، وهذا هو معني العقائد الدينية، أي المنسوبة إلي دين محمد صلي الله تعالي عليه وسلم، سواء توقف علي الشرع أم لا وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين، وصار قولنا هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة إن الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها، وإن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر، وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعية الاعتقادية الشرعية الفرعية، وعلم الله تعالي، وعلم الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم بالاعتقاديات، وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما، ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن، وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم، كما أن علمهم بالعمليات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب، وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية، أو كان ملكة يتعلق بها بأن يكون عندهم من المأخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد علي ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة، وإلي المعني الأخير يشير قول المواقف إنه علم يقتدر معه علي إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، ومعني إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلي التحقيق، أو إثباتها علي الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين، أو إتقانها وإحكامها بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين إ ه. أقام الحجة علي أربعين رجلا من اليهود المجسمة (الثاني): قد تكلم الفاروق رضي الله تعالي عنه في علم الكلام. ناظر أبا عبيدة ابن الجراح بسرغ في القدر، لما أراد أن يرجع إلي المدينة بمن معه من أجل طاعون عمواس، فحجه ومناظرتهما مسطرة في صحيح البخاري، وقطع حيدرة كرم الله وجهه الخوارج بالحجة وقطع دهريا وأقام الحجة علي أربعين رجلا من اليهود المجسمة بكلام [ صفحه 40] نفيس مطنب، رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في الحلية، وقطع ابن عمه الحبر ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالحجة أيضا، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء السادة من الصحابة أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. والعلم = كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس = ليس بكثرة الرواية وإنما هو نور يقذفه الله تعالي في قلب من يشاء من عباده. قطع أياس بن معاوية القدرية (الثالث): قد قطع أياس بن معاوية القاضي القدرية، وقطع الخليفة العادل عمر عبد العزيز أصحاب شوذب الخارجي، وقطع ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك غيلان القدري، وقطعه أيضا داود بن أبي هند، وقطع الإمام أبو حنيفة الضحاك الخارجي حين دخل الكوفة وأمر بقتل الرجال واسترقاق النساء والصبيان، وقطع أيضا سبعين من الخوارج دخلوا عليه وأرادوا قتله فتابوا من مذهبهم، وقطع أيضا جماعة من الدهريين دخلوا عليه، وقطع أيضا شيخ الرافضة المسمي بشيطان الطاق، وناظر جهم ابن صفوان فألزمه الحجة. ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء السادة من التابعين أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. (الرابع): قد قطع الإمام أبو عمرو الأوزاعي غيلان القدري أيضا، وألف الإمام مالك رسالة في القدر في الرد علي القدرية، قالوا وهي من خيار الكتب الدالة علي سعة علمه، وناظر الإمام الشافعي حفصا الفرد المعتزلي فقطعه، وناظر أيضا بشرا المريسي فقطعه، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء الأئمة أنهم ليسوا بمتكلمين أو أنهم ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. (الخامس): قد صنف سيد المحدثين في زمانه محمد بن إسماعيل البخاري المتوفي سنة ست وخمسين ومائتين كتابا في خلق أفعال العباد، وصنف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام أحمد المتوفي في حبس الوثق سنة ثمان وعشرين ومائتين [ صفحه 41]

في الرد علي الجهمية

كتبا في الرد علي الجهمية وغيرهم، وصنف المحدث محمد بن أسلم الطوسي المتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين وهو من أقران الإمام أحمد أيضا في الرد علي الجهمية. ليس علم الكلام محظورها علي المحدث والفقيه وناظر الإمام أحمد بن حنبل المعتزلة في خلق القرآن، وقال الحنابلة إنه صنف كتابا في الرد علي الجهمية، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء الأئمة أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء، وليس علم الكلام محظورا علي المحدث والفقيه ولا علم الحديث محظورا علي المتكلم والفقيه. فإن قيل: قد ذم علم الكلام جماعة من السلف فروي عن الشعبي أنه قال من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيماء أفلس ومن حدث بغرائب الحديث كذب، وروي مثله عن مالك الإمام والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وأجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله: إنما أرادوا بالكلام كلام أهل البدع، لأن عصرهم إنما كان يعرف بالكلام فيه أهل البدع، وأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتي اضطروا إليه بعد، ويحتمل ذمهم له وجها آخر وهو أن يكون المراد به أن يقتصر علي علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلي معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أمر بفعله من شرائع الإسلام ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهي عنه من الأحكام، قال: وقد بلغني عن حاتم الأصم، وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل الدين والفقه فرعه والعمل ثمره فمن اكتفي بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفي بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفي بالفقه دون الكلام والعمل تفسق، ومن تفنن في الأبواب كلها تخلص. وقد روي مثل كلام حاتم هذا عن أبي بكر الوراق. وما ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في ذم علم الكلام والمتكلمين ليس علي إطلاقه وإنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة، كتابا وسنة، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة يستحيل ذم الشافعي له وقد كان يحسنه ويفهمه. [ صفحه 42] وقد ناظر بشرا المريسي وحفصا الفرد فقطعهما، وناظر أيضا إبراهيم بن إسماعيل بن علية في خبر الواحد وكان هذا ينكره فقطعه، وقال: ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمر للناس رضي الله عنه. رد علي المعتزلة فأجاد. (السادس): قد رد علي المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة من علماء السنة من أقران الإمام أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي والحسين الكرابيسي وعبد الله بن سعيد بن كلاب المتوفي بعد الأربعين ومائتين بقليل، ويمتاز الأول بإمامته أيضا في التصوف ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء العلماء أنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا عنها إلي آخر هذيانه، أوانهم ليسوا بمحدثين ولا بفقهاء. (السابع): قد صنف إماما أهل السنة والجماعة في عصرهما وبعده إلي يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الرد علي طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي قل بها حدهم وقلل عددهم، وصنف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الرد علي المبتدعة والمخالفين للإسلام علي تعاقب الأجيال. قام بالرد علي المبتدعة المخالفين للإسلام وقام كثير فحول الأشاعرة بالرد علي طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام بالتآليف الكثيرة والمناظرات العديدة بزوا بهما المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة كما بزوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجمين في الحلبتين ورفعوا لواء مذهب الأشعري علي المعمورة، أحسن قيام، وأبرزهم في نشره ثلاثة الأستاذ أبو بكر بن فورك وأبو إسحاق الأسفرائيني والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق والقاضي نشره في المشرق والمغرب وتلامذتهم، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وما تريدية لم يشذ عنها سوي نزر من المعتزلة ونزر من المشبهة وطائفة من الخوارج، [ صفحه 43] فهما الأمة الإسلامية، والأشعرية في عصره هم المقصودون المخصوصون بتكفيره هذا، لأنه موتور منهم، فقد قضوا علي مذهب سلفه المجسمة ببغداد بمحاوراتهم ودروسهم ومحاضرهم وقضوا عليهم في مدن خراسان والمشرق بالمناظرات والدروس والتآليف، وغضبوا غضبة مضرية لابن عبد السلام فقاموا علي الأشرف الأيوبي فأرجعوه إلي الحق خجلا، مستغفرا مما وقع منه في حق ابن عبد السلام من الجهل، وقاموا عليه بدمشق لما جهر ببعض شواذه فناظروه فأفحموه وردوا عليه بالتآليف فأجادوا وصدر في قمعه مرسوم السلطان محمد بن قلاوون، واحتمي بالأمراء لما طلب إلي مصر لمناظرته ومحاكمته فيما صدر منه فلم يحضر عند قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف، وقد حقق إحدي علامتي سلفه الخوارج وهي حمل الآيات الواردة في الكفار علي المسلمين، والثانية وهي قتل أهل الإيمان وترك أهل الأوثان وجدت فيه بالقوة، فلو وجد أنصارا يحاربون معه لاستحل دماء المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة، وقد استعاض عنها لما فقدها بالبضاعة التي لا يرتكبها إلا سفلة الناس، وهي السب والقذف والتكفير. فحول المحدثين من بعد أبي الحسن الأشعري إلي عصرنا هذا أشاعرة، وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك وفرق هذه البضاعة في كتبه ورسائله تضليلا ملبسا علي العامة وأشباههم بالسلف متقولا عليهم وعلي الأشعري وأتباعه، وفحول المحدثين من بعد أبي الحسن إلي عصرنا هذا أشاعرة وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك. ومن خصائص هذه الأمة المرحومة وتميزها عن جميع الأمم كثرة علمائها ومؤلفيها فلا تجد عالما محققا أو فقيها مدققا إلا وهو أشعري أو ماتريدي، وتآليفهم في العلوم المتنوعة من تفسير وحديث وأصول وفروع وغيرها شاهدة لهم، ولا تجد نفاجا مهذارا من المتأخرين إلا وهو سارق من درهم متشبع به، نعوذ بالله من نكران الجميل، لم يسجل التاريخ لمجسم أنه ناظر قدريا أو دهريا أو كتابيا، كما سجل للأشعرية والماتريدية ذلك، ولم يسجل للمجسمة أنهم ألفوا كتبا مبسوطة مبرهنة في الرد علي مخالفيهم [ صفحه 44] ومخالفي دين الإسلام كما سجل ذلك للأشعرية والماتريدية، ولم يسجل لهم إنهم كانت لهم مجالس بالبحث والمناظرة في الفروع ومسائل الخلاف، فضلا عن مجالس البحث والمناظرة في الأصلين كما سجل ذلك لغيرهم من علماء المسلمين في مدائن المعمورة، حينما كانت الأمة الإسلامية قوية رافعة ألوية مجدها علي المشرق والمغرب، ولم يسجل لفاضل حنبلي إنه أثني علي مجسم ثناء بليغا كما سجل ذلك لأبي الفضل التميمي الحنبلي علي القاضي الإمام أبي بكر الباقلاني، فقد قالوا حضر يوم موت القاضي أبي بكر الباقلاني، أبو الفضل التميمي الحنبلي العزاء حافيا مع إخوته وأصحابه، وأمر أن ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين: هذا إمام المسلمين. هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين. هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا علي الملحدين، وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة، فهل يقول من له مسكة من عقل ودين في الملايين من الأشاعرة والماتريدية من أمة محمد صلي الله عليه وسلم المرحومة أنهم كلهم ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين؟، وإنهم متكلمون قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابة فعدلوا عنها؟، إلي آخر هذيانه، وجاء هو وحده في القرون المتأخرة فعرفها، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان ومصارع الاعجاب بالنفس. يلزم من كلامه هذا إن المعتزلة عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه (الثامن): يلزم من كلامه هذا أن المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه ولم يعدلوا عنها إلي طرق أخري مبتدعة، فإنهم أول فرق المتكلمين نشأوا في آخر المائة الأولي للهجرة، فإن رأسهم عمرو ابن عبيد المتوفي سنة أربع وأربعين ومائة كان يجلس في حلقة سيد التابعين الحسن البصري الذي توفي سنة عشر ومائة، وقد زجر رضي الله تعالي عنه عمرو بن عبيد لما تيقن ضلاله فاعتزل عمرو مجلسه وجعل لنفسه حلقة جهر هو وأصحابه بعقائدهم فيها وناضلوا عليها واعتمدوا علي العقليات وتعمقوا فيها ورفضوا كثيرا من سنته عليه الصلاة [ صفحه 45] والسلام، وتأولوا الباقي منها مع كتاب الله علي ما يوافق أهواءهم فقالوا بمنزلة بين المنزلتين وبخلق القرآن، ونفوا صفات الله ونفوا رؤيته في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر والميزان والصراط وغير هذه من السمعيات الثابتة في السنة وسموا أنفسهم عدلية. وفي صدر المائة الثالثة عضدهم المأمون علي نشرها في الأمة بالقوة وبعده أخوه المعتصم وبعد هذا ابنه الواثق، فأكرهوا العلماء علي القول بخلق القرآن وامتحنوا كثيرا منهم بالحبس والضرب والقتل، ولم يقاوموا المعتزلة بالمناظرات الحاسمة، وقاومهم المحاسبي وابن كلاب، وإنهم محقون في عقائدهم وفيما صنعوه وأن الجماهير من علماء آخرون من أهل السنة دونهم في الشهرة بالتآليف الجيدة، الحسين الكرابيسي والحارث المسلمين، من نشأتهم إلي زمن الأشعري مبطلون، لأنهم لم يعرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه، فيوقفوا بها تيار ضلالهم الذي انتشر في الأمة الإسلامية هذه المدة، وقد قطع في أثنائها أبو محمد الأذرمي باطلهم، بمناظرة وجيزة أمام الواثق، لم ينحسم بها تيار ضلالهم ولا بمنع المتوكل لهم من امتحان العلماء وتعذيبهم، وفسحه لأهل السنة بنشرها في الأمة، فقد ارجعوا حربهم لأهل السنة بعدها إلي حلبتين، حلبة أقلام بالتآليف، وحلبة مناظرات فردية نحو سبعين عاما، حتي جاء أبو الحسن الأشعري فخرب في البصرة وكرهم، وصرع بالمناظرات والتآليف باطلهم، وأجهز عليهم في كل مكان من الأرض تلامذته وتلامذة تلامذته وأتباعه، فهل يقول من له مسكة من عقل ودين أنهم حيث مكثوا مائتي سنة ينشرون ضلالهم أهانوا في أثنائهم علماء الإسلام بالحبس والضرب والقتل عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتابه؟، وأن الآلاف المؤلفة من علماء الأمة في هذه المدة كلهم لم يعرفوها لأنهم لم يستطيعوا إيقاف تيار ضلالهم، إلا أبو محمد الأذرمي وأبو الحسن الأشعري وأتباعه فإنهم عرفوها، نعوذ بالله تعالي من زلقات اللسان وفساد الجنان. [ صفحه 46] لم يكفر الفقهاء ولا المحدثون المعتزلة مع ضلالهم وانحرافهم عن نهج السواد الأعظم ومع ضلالهم لم يكفر هم التابعون ولا أتباعهم ومع تعذيبهم للعلماء لم يكفرهم أيضا الفقهاء ولا المحدثون، وأقصي ما قاله فيهم أهل السنة جميعا: إنهم مبتدعة، وقد كان لهم مع انحرافهم عن نهج السواد الأعظم مواقف مشكورة في الرد علي الملاحدة والزنادقة الذين كثروا، فطعنوا في صدر الخلافة العباسية في الشريعة الإسلامية بشتي الوسائل، بالمناظرات والتآليف، وقد ظهر منهم في المذهبين الشافعي والحنفي أعيان من العلماء، ففي الشافعية القاضي عبد الجيار الهمداني المتوفي سنة خمس عشرة وأربعمائة، وأبو لحسن الماوردي البصري المتوفي سنة خمسين وأربعمائة، وأبو يوسف القزويني المفسر المتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي الحنفية أبو بكر الحصاص الرازي المتوفي سنة سبعين وثلاثمائة، والزمخشري المتوفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، والمطرزي المتوفي سنة عشر وستمائة. (التاسع): قد قصر هو عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه وعدل عنها إلي طرق أخري مبتدعة فقسم التوحيد إلي قسمين وثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أو هما مع توحيد الأسماء والصفات، ولم يقل الله هذا في كتابه العزيز ولا رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا السلف الذين يلبس بهم وزعم أن متشابهات القرآن والسنة كلها حقائق، وأن الله استوي علي العرش حقيقة، وأنه فوقه حقيقة، وجوز قيام الحوادث به جل وعلا، وزعم أن كلامه تعالي قديم بالنوع حادث بالجزئيات وأن عرشه تعالي كذلك وكل هذا لم يقله الله تعالي في كتابه ولا رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا المسلمون أجمعون. (العاشر): تحقق بجميع ما تقدم أنه جاهل بأصول الدين جهلا مركبا، وأنه قد حكم علي نفسه بالشرك وعبادة غير الله وهو لا يشعر، فصدق عليه المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت). [ صفحه 47]

في تفسير الآيات

..السادس والعشرون: حمله قوله تعالي: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، الواردة في المشركين علي المسلمين فاسد، ودعواه أن المشركين، مع إنكارهم البعث واتخاذهم الأنداد والولد له تعالي يعرفون توحيد الربوبية، تقدم إبطالها، ومعني الآية عند المفسرين ليسندن خلقها في الحقيقة ونفس الأمر أي الفطرة التي فطر الله الناس عليها إلي الله تعالي، فلو استظهر بالثقلين علي إثبات أنه صلي الله تعالي عليه وسلم سألهم عن ذلك فأجابوه بالقول لا يستطيعون. الوجه السابع والعشرون حمله قوله: تعالي (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) الواردة في المشركين علي المسلمين فاسد السابع والعشرون: حمله قوله تعالي: (قل رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) الواردة أيضا في المشركين علي المسلمين فاسد أيضا، لأنهم لو كانوا يعرفون توحيد الربوبية، = كما زعم = ما أمر الله تعالي نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم بسؤالهم عن الأرض ومن فيها لمن هي وعن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم وعمن بيده ملكوت كل شئ وهو يجيز ولا يجار عليه، ولكان الأمر بسؤالهم عن هذه الأشياء مع معرفتهم خالقها عبثا وأمرا بتحصيل الحاصل وهو محال منه تعالي ولو كانوا يعرفون توحيد الربوبية = كما زعم = ما كفروا به عز وجل وما أنكروا البعث وما اتخذوا له أندادا عبدوهم من دونه، ولو كانوا يعرفون توحيد الربوبية ما قال تعالي عنهم: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون)، أي فيما قالوا من إنكار البعث وفيما قالوا وفعلوا من الشرك باتخاذ الأنداد من دونه وغير هذا من أنواع الكفر، وإنما أمر الله سبحانه نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم بتوقيفهم علي هذه الأشياء التي لا يمكنهم في الفطرة والعقل [ صفحه 48] السليم إنكارها، وأن أنكروها في الواقع، تبكيتا وإقامة للحجة عليهم، ولا يمكنه أن يثبت عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه سألهم عن هذه الأشياء وأجابوه قولا، ولو استظهر بجميع أهل الأرض. الوجه الثامن والعشرون حمله قوله تعالي: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) الثامن والعشرون: حمله قوله تعالي (وما يؤمن أكثرهم بالله ولا وهم مشركون، الواردة في المشركين علي المسلمين فاسد أيضا، ومعناها عند المفسرين: (وما يؤمن أكثرهم بالله)، في إقرارهم بوجود الخالق (إلا وهم مشركون) باتخاذهم له أندادا عبدوهم من دونه أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، أو بقولهم واعتقادهم الولد له سبحانه، أو بقولهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، أو بغير ذلك. التعبير في جانب شركهم بالجملة الأشمية الدالة علي الثبوت والدوام الواقعة حالا لازمة والتعبير في جانب شركهم بالجملة الاسمية الدالة علي الثبوت والدوام الواقعة حالا لازمة، وفي جانب إيمانهم، أي إقرارهم بالجملة الفعلية الدالة علي التجدد، دليل علي أن شركهم دائم مستمر ملازم لهم، وأن إقرارهم غير دائم ولا مستمر، وإقرارهم بوجود الخالق الرازق المحيي المميت، مع ارتكابهم ما ينافيه مما تقدم من الأقوال والأفعال، دليل علي أنه لا يكون توحيدا = كما زعم = ولا إيمانا لا لغة ولا شرعا، فإن الإيمان لغة هو (التصديق بالقلب مطلقا)، وشرعا (تصديق النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فيما علم مجبيئه به بالضرورة)، أي فيما اشتهر كونه من الدين بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلي نظر واستدلال، ويكفي الاجمال فيما يلاحظ إجمالا، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا، وهذا هو المشهود وعليه الجمهور، والإقرار باللسان شرط في [ صفحه 49] إجراء الأحكام الدنيوية عند الإمام أبي منصور الماتريدي والأشاعرة وشطر منه عند أكثر الحنيفة، والعمل بالطاعات شرط في كماله عند الجمهور غير داخل في حقيقة، فليس الإيمان مجرد معرفة الله، بدون الاذعان والنطق باللسان = كما قال جهم بن صفوان = ولو كان مجرد المعرفة إيمانا بالله تعالي لكان إبليس مؤمنا لأنه عارف بربه يعرف أنه خالفه ومميته وباعثه ومعذبه، (قال رب بما أغويتني)، وقال: (انظرني إلي يوم يبعثون)، وقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، ولكان الكفار مؤمنين بربهم، إذا أنكروا بلسانهم قال تعالي: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)، فلم يجعلهم مع استيقانهم بأن الله تعالي واحد مؤمنين مع جحدهم بلسانهم. وقال تعالي: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون)، وقال تعالي: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق)، فلم تنفعهم معرفتهم مع إنكارهم. وقال تعالي (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، فلم تنفعهم معرفته صلي الله تعالي عليه وسلم مع كتمانهم أمره وجحودهم به، وليس الإيمان هو الاقرار باللسان فقط = كما قالت الكرامية = ولو كان هو الاقرار ما نفاه الله تعالي عن المنافقين في قوله تعالي: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)، وليس الإيمان مجموع الاعتقاد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان = كما قالت الخوارج والمعتزلة =، عليه كفر اعتقاد القلب ولا تعلق له باللسان والأركان إلا أنه لما كان أمرا باطنا لا يوقف التصديق اعتقاد القلب ولا تعلق له باللسان والأركان إلا أنه لما كان أمرا باطنا لا يوقف عليه ولا يمكن بناء أحكام الشرع عليه جعل الشرع العبارة عما في القلب بالإقرار أمارة عليه وشرطا لإجراء الأحكام الدنيوية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله) ومن أطلق اسم الإيمان علي غير التصديق فقد صرفه عما هو المفهوم [ صفحه 50]

استدلال المحققون علي أن الاعمال الصالحة خارجة عن حقيقة الايمان

منه في اللغة، ولو جاز ذلك لجار صرف كل اسم عن موضوعه في اللغة وفيه إبطال اللسان، ولم يصح حينئذ الاحتجاج بالقرآن. والدليل علي صحة ما ذكرنا جواب النبي صلي الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: (ما الإيمان؟) بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله = الحديث) وروي أن جبريل عليه السلام قال بعد ذلك: (فإذا قلت هذا فأنا مؤمن) قال (نعم) فلو كان الإيمان اسما لما وراء التصديق لكان تفسير النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إياه بالتصديق خطأ وقوله نعم كذبا والقول به باطل. واستدل المحققون علي أن الأعمال الصالحة خارجة عن حقيقة الإيمان بوجوه، أحدها أن الله سبحانه وتعالي فرق بين الإيماني وبين الأعمال في كثير من الآيات نحو قوله تعالي: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وقوله تعالي: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وقوله تعالي: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة)، وقوله تعالي: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله - الآية)، وغير هذه من الآيات. والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال: (إيمان بالله لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحج مبرور)، وكذا في حديث ابن مسعود رضي الله تعالي عن قلت أي الأعمال أفضل؟، قال: (الإيمان بالله ورسوله) قلت: ثم أي؟ قال (الصلاة لميقاتها) قلت ثم أي؟، قال (بر الوالدين)، ووجه ذلك أنه عطف الأعمال علي الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، وشرط الإيمان لصحة الأعمال في قوله تعالي: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)، والشرط غير المشروط لا محالة، وصح إيمان النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وإيمان أصحاب قبل مشروعية الصلاة والصوم والزكاة والحج غيرها، ولو كانت الأعمال من أركان الإيمان لم يكن الإيمان موجودا بدون أركانه. (الثاني): إن الله تعالي جعل محل الإيمان القلب فقال: (إلا من أكره وقلبه [ صفحه 51] مطمئن بالإيمان)، وقال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، وقال: (كتب في قلوبهم الإيمان)، ومعلوم أن القلب محل الاعتقاد لا محل العمل. (الثالث): أن الله قال أثبت الإيمان مع الكبيرة، قال تعالي: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص)، فسمي قاتل النفس عمدا عدوانا مؤمنا، والدليل علي أن الاقرار ليس بإيمان نفي الله الأيمن عمن قال من المنافقين آمنا، قال تعالي: (الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وقال تعالي: (قالت الأعراب آمنا، قل لو تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). ومن حيث المعقول أنه لا وجود للشئ إلا بوجود ركنه، والإنسان مؤمن علي التحقيق من حين آمن بالله إلي أن يموت بل إلي الأبد، وإنما يكون مؤمنا بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة ولا وجود للإقرار في كل لحظة، فدل أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله تعالي أوجب الاقرار ليكون شرطا لإجراء أحكام الدنيا، إذا لا وقوف للعباد علي ما في القلب فلا بد لهم من دليل ظاهر والله تعالي مطلع علي ما في الضمائر فتجري أحكام الآخرة علي التصديق بدون الاقرار، حتي أن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالي هو من أهل النار، ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عناد ولا تمكن فهو كافر عندنا، وعند الله تعالي مؤمن من أهل الجنة، إذا تقرر بهذا فالمتكلمون الذين عناهم خصوصا فحكم عليها بالشرك لزعمه تقصيرهم عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالي في كتاب وجهلهم توحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته وعبادتهم غيره، هم الأمة الإسلامية المعاصرة له المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة، لكونها كلها في أصول الدين علي مذهبي الأشعري والماتريدي. ولا يخفي علي كل من له مسكة من عقل ودين أنها صدقت النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في كل ما جاء به من عند الله عز وجل مما علم مجيئه به بالضرورة صدقت بقلوبها وأقرت بألسنتها وعملت بجوارحها. [ صفحه 52] أين الأمة الإسلامية وأين الطائفة التي لا تزال ظاهرة علي الحق إلي قيام الساعة فإذا كانت هذه الأمة التي انتشرت إذ ذاك في أكثر الربع العامر كلها في رأيه كافرة مشركة لأنها لم تعرف = في زعمه = توحيد الألوهية، فأين الألوهية، فأين الأمة الإسلامية وأين الطائفة التي لا تزال ظاهرة علي الحق إلي قيام الساعة؟ كما في خبر الصادق صلي الله تعالي عليه وسلم، ولا يتردد كل وقح مفتون به في جواب هذا السؤال أن يقول هي كلها أحمد بن تيمية ومقلدوه، ولا يتردد عاقل وقف علي كلامه هذا أنه حكم علي الملايين من أمة محمد صلي الله تعالي عليه وسلم بالكفر وما في قلوبهم لا يعلمه إلا الله، ولا يتردد أن يقول في حكمه هذا أنه باهت مرتكب جرما عظيما راجعا عليه، وهو تكذيبه لنصوص كتاب الله تعالي وصريح سنته عليه الصلاة والسلام الكثيرة، منها قوله صلي الله تعالي عليه وسلم لمولاه أسامة (هلا شققت عن قلبه حتي تعلم أنه قالها لذلك)، وقد فرع علي حكمه الفاجر قوله وهو: الوجه التاسع والعشرون كذبه وتلبيسه في جملة واحدة أربع مرات التاسع والعشرون: (فالطائفة من السلف تقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله)، وهو فاسد مشتمل علي خمسة أوجه كلها فاسدة: (الأول): افتراؤه علي طائفة من السلف سائلة للأشاعرة والماتريدية المعاصرين له افتراء مكشوفا مستحيلا لأن السلف يطلقون علي خير القرون كما في الحديث الصحيح: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته يشهدون قبل أن يستشهدوا ويحلفون قبل أن يستحلفوا ويظهر فيهم السمن وأقصي أمدهم آخر المائة الثالثة). [ صفحه 53] تورطه في الجهل بتفسير (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أربع مرات (الثاني) افتراؤه علي المعاصرين له افتراء مكشوفا مستحيلا بأن طائفة من السلف سألتهم قائلة: (من خلق السماوات والأرض)، والمسؤولون من الخلف، وعليهما. (الثالث): بين الطائفة السائلة وبين المسؤولين أكثر من أربعمائة سنة، وهذه المدة المديدة بينهما تحيل كون السائلين والمسؤولين في عالم الأشباح، وإنما يتعين فرض السؤال والجواب بينهما في عالم الأرواح وهو البرزخ والأرواح في هذا أما منعمة وأما معذبة فالمنعم منها مشغول بنعيمه والمعذب مشغول بعذابه فلا فائدة للسائل في سؤاله ولا للمجيب في جواب. (الرابع): لا وجود للطائفة السائلة ولا للمسؤولين في عالم الأشباح ولا في عالم الأرواح وإنما إعجابه برأيه وازدراؤه لعلماء الإسلام خيلا له سؤالهم، فهو وحد الطائفة المتخيلة للسؤال والمسؤولون المتخيلون في ذهنه هم المالكية والشافعية والحنفية وفضل الحنابلة المعاصرون له، وحقيقة هذا السؤال وتوضيحه هكذا: (أحمد بن تيمية الذي هو من الخلف يقول لكم يا مالكية ويا شافعية ويا حنفية ويا فضلاء الحنابلة) (من خلق السماوات والأرض)، والطائفة تطلق لغة علي الواحد إلي الألف، فقد لبس وكذب في جملة واحدة أربع مرات، كذب ولبس بلفظها المحتمل للجمع والواحد، وكذب ولبس أيضا في قوله: (من السلف) وهو من الخلف، وكذب ولبس أيضا في قوله: (تقول) بالتاء المعينة للفظ الطائفة للجمع، وكذب ولبس أيضا في قوله: (لهم) أي للمسؤولين المتخيلين والحقيقة إنما هي: وإذا ما خلا الجبان بأرض++ طلب الطعن وحده والنزالا فإن قيل مراده بالطائفة السلفية السائلة جماعة من التابعين، وبالمسؤولين المعتزلة [ صفحه 54] الذين وجدوا في زمانهم فهو علي هذا صادق، قلت: هذا باطل بوجهين: الأول: لو قربه من الحق قليلا لسمي من الطائفة السلفية السائلة ولو واحدا وسمي من المعتزلة المسؤولين ولو واحدا، فركوبه فيهما جادة الابهام التي لا يسلكها إلا الملبسون والكائدون للإسلام دليل واضح علي أنه لا سائل ولا مسؤول فهو المفتعل لهما جزما. الثاني: لو اجتمع معه الثقلان علي النقل عن أي واحد من التابعين وأتباعهم ولو بإسناده واه أنهم قالوا للمعتزلة (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك بل لو اجتمع معه الثقلان علي النقل عن أي صحابي من الصحابة الذين فتحوا البلدان ونشروا محاسن الدين الإسلامي علي المعمورة ولو بإسناد واه أنهم كانوا يقولون للمجوس أو لغيرهم من طوائف الكفار (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك، بل لو اجتمع معه الثقلان علي النقل عن سيد الكائنات صلي الله تعالي عليه وسلم ولو بإسناد واه أنه كان يقول للناس في دعوته لهم إلي الله (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك. (الخامس): المخاطب بسؤال المشركين في قوله تعالي (ولئن سألتهم)، هو النبي صلي الله تعالي عليه وسلم خاصة، وأن الشرطية المقرونة بلام القسم ممكن وقوع شرطها وهو سؤالهم عن ذلك، وعدم وقوعه أي عدم سؤالهم عن ذلك عربية فمدخولها جائز الأمرين مستقبل معني وأن كان ماضيا، ولم يرد أنه صلي الله تعالي عليه وسلم سألهم عن ذلك، ولذلك قال المفسرون إن المشركين يقولون: (الله) بالفطرة التي فطر الله تعالي الناس عليها، وهي العهد الذي أخذه عليهم في عالم الذر وبضرورة العقل السليم لا باللفظ، وعليه فقد تورط في الجهل أربع مرات: جعله نفسه في مقام النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وحمله الآية الواردة في المشركين علي المسلمين، وجعله مدخول إن الشرطية واجبا وهو جائز، وباللفظ، ولا يتردد العاقل في أن مخاطبة وسؤال المتخيل في الذهن يعد ضربا من الجنون. [ صفحه 55]

في التوسل والاستغاثة والاستعانة

عبادة للمتوسل به والمستغاث به والمستعان به الثلاثون: قوله: (وهم مع ذلك يعبدون غيره) فاسد أيضا ومعناه يقول أحمد بن تيمية الملبس بلفظ (الطائفة) والملبس أيضا المدعي أنه (من السلف) للمالكية والشافعية والحنفية ومستقيمي العقيدة من الحنابلة (من خلق السماوات والأرض فيقولون الله)، وهم مع اعترافهم بتوحيد الربوبية مشركون في رأيه لأنهم (يعبدون غيره)، أي يتوسلون بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وبالصالحين من أمته ويستغيثون ويستعينون بهم وكل من التوسل والاستعانة والاستغاثة عبادة غير الله تعالي في زعمه، وقد اعتمد في تكفير المسلمين بهذه الألفاظ علي إرادة نفع جاه المتوسل به أو المستغاث به مثلا قياسا علي عبدة الأوثان بجامع الإرادة المذكورة في كل، وهو قياس فاسد من ستة أوجه: إبطال قياسه الفاسد بستة أوجه (الأول) جهله حقيقة العبادة، فإن العبادة لغة: أقصي نهاية الخضوع والتذلل بشرط نية التقرب، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم، فقد تبين منه أن العبادة لغة لا تطلق إلا علي العمل الدال علي الخضوع المتقرب به لمن يعظمه باعتقاد تأثيره في النفع والضر أو اعتقاد الجاه العظيم الذي ينفعه في الدنيا والآخرة، وهي التي نهي الله سبحانه وتعالي عن أن تقع لغيره وكفر من لم ينته عنها، وما قصر عن هذه المرتبة لا يقال فيه عبادة لغير الله، وشرعا: امتثال أمر الله كما أمر علي الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم، فاعتبر فيها ما اعتبر في اللغوية من الخضوع والتذلل والتعظيم، فاللغوية غير مقيدة بعمل مخصوص والشرعية مقيدة بالأعمال المأمور بها فكانت جارية علي الأعم الأغلب في الحقائق الشرعية من كونها أخص من اللغوية، ومن أجل اختصاصها بالمأمور به خرجت عبادة اليهودي مثلا لأنه وإن تمسك بشريعة [ صفحه 56] إلا أنها لما كانت منسوخة كانت كأن لم تكن، وعبادة المبتدع في الدين ما ليس منه، فالله سبحانه لما نهي الكفار عما هم مشتغلون به من عبادة غيره، ووبخهم علي وضع الشئ في غير محله وتعظيمهم غير أهله وبين لهم بالدلائل الواضحة عدم صلوحية ما اتخذوه من دونه لما اتخذوه إليه، وكان الحامل لهم علي ذلك اتباع أهوائهم والاسترسال مع أغراضهم، وذلك مناف لعبوديتهم، إذا العبد لا يتصرف في نفسه بمقتضي شهوته وغرضه، وإنما يتصرف علي مقتضي أمر سيده ونهيه، قصد سبحانه أن يخرجهم عن داعية أهوائهم واتباع أغراضهم حتي يكونوا عبيدا لله تعالي اختيارا كما هم عبيد له اضطرارا، فوضع لهم الشريعة المطهرة وبين لهم الأعمال التي تعبدهم بها والطرق التي توصلهم إلي منافعهم ومصالحهم علي الوجه الذي ارتضاه لهم ونهاهم عن مجاوزة ما حد لهم حتي أن العبد إذا أخذ حظه من العمل المشروع لمصلحته فإنما أخذ من تحت الحد المشروع، وحصر الأعمال العبادية في أنواع التكاليف. فما كان منها مشروعا لمحض التعبد كانت صحته موقوفة علي نية التقرب وما يساويها، وما كان مشروعا لتحصيل المصالح لم تتوقف صحته بمعني الاعتداد به علي ذلك، لكنه لا يقع عبادة إلا مع النية المذكورة، ومن خرج عن هذا الحد وعبد الله تعالي بغير تلك التكاليف فعمله رد، وهذا هو المسمي بالبدعة لأنه اخترع طريقة في الدين لم يسبق لها مثال، وإنما يطل عمله لأنه لغير داعية الشرع بل لاتباع الهوي وهو مخالف لقصد الشارع من وضع الشريعة، وهو الإخراج عن دائرة الهوي والرجوع والانقياد لله في جميع الأحوال، والمخالف لقصد الشارع باطل، فتبين من هذا أن العبادة الشرعية هي التكاليف التي اشتملت عليها الشريعة، سواء منها ما كان معقول المعني أم غير معقول، إلا أن الثاني تتوقف صحته علي النية بخلاف الأول فإنه يصح بمعني يعتد به دونها، وإنما يتوقف كونه عبادة عليها، وأن ما خرج عن التكاليف الشرعية ليس من العبادة في شئ، وإن قصد فاعله به العبادة وإنما هو بدعة، وهل إخلاص العبادة لله تعالي من شوائب الحظوظ بأن يعمل العامل الطاعة امتثالا للأمر الوارد منه علي لسان رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم لا لرجاء ثواب ولا لخشية عقاب ولا لتحصيل غرض عاجل. ولا شك أن هذه أعلي مراتب العبادة وأجل طرق السعادة، شرط صحة فيها وهو [ صفحه 57] مقتضي تعريفها الذي ذكرته، وإليه ذهب جمع من العلماء فقالوا من عبد الله طمعا في الجنة أو خوفا من النار لم يعبده، لأنه جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة، والوسائل غير مقصودة لذاتها، إذ لو سقطت المقاصد أو توصل إليها بغيرها سقطت، وما كان هذا شأنه لا يستقيم أن يكون عبادة، ولهذا عد جماعة من السلف العامل للأجر عبد السوء وخديم السوء، أو شرط كمال وإليه ذهب جمع من العلماء منهم أبو إسحاق الشاطبي، وأطنبوا في ذلك، وخلاصة كلامهم أن مراعاة الحظ العاجل أو الأجل مع مراعاة المقاصد الأصلية التي راعاها الشارع لا يضر، وإنما المضر انفراد مراعاة الحظ عن امتثال الأمر، لأنه حينئذ عمل بالهوي المض، وطلب الحظ الأخروي كالعبادة خوفا من ناره أو طمعا في جنته ليس بشرك، إذ لا يعبد الحظ وأنما يعبد من بيده الحظ، وقصد الحظ الدنيوي فيها شرك أصغر وهو الرياء. وعلي هذا فشرط كونها عبادة نية التقرب للمعبود، فالسجود لا يكون عبادة ولا كفرا إلا تبعا للنية، فسجود الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه الصلاة والسلام عبادة الله، لأنه امتثال لأمره وتقرب وتعظيم له، والسجود للصنم كفر إذا قصد به التقرب إليه إذ هو عبادة لغير الله، وكذا يحكم عليه به عند جهل قصده أو إنكاره لأنه علامة علي الكفر، والسجود للتحية معصية فقط في شرعنا، وقد كان سائغا في الشرائع السابقة بدليل سجود يعقوب وبنيه ليوسف عليهم الصلاة والسلام، فتحقق من تعريفي العبادة لغة وشرعا أن العبادة التذلل والتعظيم للمعبود، وعليه فليس كل تعظيم عبادة، وإن ضابط التعظيم المقتضي للعبادة هو أن يعتقد له التأثير في النفع والضر، أو يعتقد له الجاه التام والشهادة المقبولة بحيث ينفع في الآخرة ويستنزل به النصر والشفاء في الدنيا. [ صفحه 58]

معني الوسيلة لغة

والتوسل لا يسمي عبادة قطعا ولا يقال فيه عبادة وإنما هي وسيلة إليها، وسيلة الشئ غيره بالضرورة (الثاني) الوسيلة لغة كل ما يتقرب به إلي الغير، وسل إلي الله تعالي توسيلا عمل عملا تقرب به إليه، فتحقق منه أن التوسل لا يسمي عبادة قطعا ولا يقال فيه عبادة وإنما هو وسيلة إليها، ووسيلة الشئ غيره بالضرورة وهو واضح، فإن التوسل لا تقرب فيه للمتوسل به ولا تعظيمه غاية التعظيم، والتعظيم إذا لم يصل إلي هذا الحد لا يكون الفعل المعظم به عبادة، فلا يطلق اسم العبادة علي ما ظهر من الاستعمال اللغوي إلا علي ما كان بهذه المثابة من كون العمل دالا علي غاية الخضوع منويا به التقرب للمعبود تعظيما له بذلك، التعظيم التام، فإذا اختل شئ منها منع الاطلاق، أما الدلالة علي نهاية الخضوع فظاهر، لأن مناط التسمية لم يوجد، ولأن الناس من قديم الزمان إلي الآن يخضعون لكبرائهم ورؤسائهم بما يقتضيه مقامه الدنيوي عندهم ويحيونهم بأنواع التحيات ويتذللون بين أيديهم ولا يعدون ذلك قربة ولا يطلقون عليه اسم العبادة، وإنما يرونه من باب الأدب، وما ذاك إلا لكون ذلك الخضوع لم يبلغ نهايته والعظيم الناشئ عنه لم يبلغ غايته، وبهذا ظهر الفرق بين التوسل والعبادة، علي أن (عبد) يتعدي بنفسه وتوسل يتعدي بحرف الجر. أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين وقد أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين، قياسه معاني هذا الألفاظ، توسل استعان، استغاث، تشفع، علي العبادة، وقياسه المؤمنين المتوسلين بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم مثلا علي عبدة الأوثان من دون الله بجامع إرادة الجاه في كل. فلينظر اللبيب إلي أين رماه جهله باللغة العربية، فإنه لو تأمل في قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، وأجراه علي ما تدل عليه اللغة لوجد معناه، اللهم إني أتقرب [ صفحه 59] إليك وأتحبب إليك، فهو دال بجوهره علي أن التقرب لله لا لمن يراد جاهه، ومن جهل الفرق بين عبد وتوسل كيف يصح له القياس في دين الله وإلحاق بعض الفروع ببعض، والقياس أصعب أنواع الاجتهاد، لكثرة ما يعتبر في أركانه من الشروط وما يرد عليه من المعارضات والمناقضات وغير ذلك من أنواع الاعتراضات، فلا يصفو مشربه إلا لأهل الاجتهاد ومن أحاط بمداركهم علي اختلاف مراتبهم، ومن قصر عن تلك المراتب لا يسوغ له الجزم بالحكم المأخوذ منه في دانق فكيف بالحكم المأخوذ منه في تكفير المسلمين.

حيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل

فالعبادة فيها معني زائد يناسب إناطة الحكم به (الثالث) حيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل، فالعبادة فيها معني زائد يناسب إناطة الحكم به، وهو اشتمالها علي الإعراض عن الله وإطلاق الإلهية علي غيره وإقامته مقامه وخدمته بما يستحق أن يخدم، وقد أشار إلي هذا المعني بعض فضلاء أهل السنة، وملخص كلامه: أن الشبهة الحاملة لعبدة الأوثان علي عبادتها هي أنهم استصغروا أنفسهم فاستعظموا أن يعبدوا الله مباشرة، ورأوا من سوء الأدب أن يشتغل الحقير من أول وهلة بخدمة العظيم، وقربوا ذلك بأمر مستحسن في العادة، وهو أن الحقير لا ينبغي له أن يخدم الملك حتي يخدم عماله إلي أن يترقي لخدمته، وقال: وهذه هي الحاملة علي التوسل إلي الله تعالي بمن له جاه عنده، إلا أن الشرع أذن في التوسل ولم يأذن في العبادة فكانت حاجة الكفار تندفع بما شرعه الله، إلا أن الله تعالي أعمي بصائرهم، ولو تنبهوا لأمر عادي آخر لأرشدهم، فإن الملك من ملوك الدنيا إذا استجاه له أحد بعظيم من وزرائه وتشفع له بذلك، ربما أقبل عليه وأخذ بيديه وقضي ما أراده منه، أما إذا عظم ذلك الوزير بما يعظم به الملك وعامله بمعاملته وأقامه في مقامه فيما يختص به الملك عن غيره، رجاء أن يقضي ذلك الوزير حاجته من الملك، فإن الملك إذا علم بصنيعه يغضب أشد الغضب، ولا يقتصر في العقوبة علي قطع الرجاء من الحاجة بل يفتك به وبالوزير إن أحب ذلك، فمثال التوسل الأول ومثال العبادة الثاني فتأمل هذا المثال فإنه [ صفحه 60] واف بواقعة الحال، وبالله التوفيق والاعتصام. القاعدة المشهورة المطردة وهي إن استواء الفعلين في السبب الحامل علي الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم (الرابع) القاعدة المشهورة المطردة وهي: أن استواء الفعلين في السبب الحامل علي الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم، يدل علي هاته القاعدة دلالة قطعية، أنه لو لم يكن الأمر كذلك بأن كان الاستواء في الحامل يوجب الاستواء في الحكم = كما ادعاه ابن تيمية = وقرره في قياسه التوسل علي العبادة والمتوسل علي عابد الوثن =، للزم إبطال الشريعة وتساوي الأعمال في الأحكام، واللازم باطل بالاتفاق وهو ضروري غني عن الاستدلال، وأما الملازمة فلما علم من أن الشريعة جاءت لإخراج العبد عن دائرة هواه حتي يكون بالاختيار عبدا لله، فالمعني الذي يراعيه المكلف ويحمله علي الفعل بالإقدام، إن كان مصلحة، أو الإحجام إن كان مفسدة، وإن راعته الشريعة له تفضلا من الله إلا أنها لم تستر سله مع أغراضه وأهوائه، فلم تبح له سلوك كل طريق يوصل إليها، بل أخذت بلجامه إلي الطرق النبي عينتها له ليتبين بذلك كونه عبدا لا يقدر علي شئ حتي إذا أخذ حظه من العمل أخذه من تحت يد الشريعة، فالأكل مثلا يحمل عليه دفع ألم الجوع وسد الرمق وهو يحصل بكل ما يؤكل من طاهر ونجس حلال أو حرام، وقد عينت الشريعة طريقة بالاختيار بالحلال الطيب الطاهر، ومثله الشرب الذي يحمل عليه دفع ألم العطش خصته أيضا بالحلال الطيب، فالآكل والشارب من الحلال الطيب لدفع الألم وسد الرمق، مساو للآكل والشارب من الحرام النجس للغرض المذكور، فلو كان الاستواء في الحامل موجبا للاستواء في الحكم لما اختلف الحكم فيهما، فكان الأول آتيا بواجب أو مباح والثاني آتيا بحرام، ولكان الواجب استواءهما في الحلية أو الحرمة. وكذلك الوطئ إذا وقع لقضاء الشهوة ودفع دغدغة المني، فإن الزاني والناكح والمالك يشتركون في هذا السبب، مع أن فعل الأخيرين مباح وفعل الأول محرم، فلو [ صفحه 61] كان الاشتراك في الحامل مفض إلي الاشتراك في الحكم لزم استواؤهم في الحل والحرمة. ومثل ذلك اكتساب الأموال واقتناؤها، فإن الشرع عين لتحصيلها طرقا مخصوصة علي وجوه مخصوصة، كالبيع والإجارة وما أشبه ذلك علي شرائط عينها فيها تنعدم بانعدامها، ولا يحصل الاكتساب بفقدها، وحرم في ذلك طريق الغصب، وما كان من الطرق علي غير الوجه المشروع، فالغاصب والمشتري مثلا مستويان في الحامل وهو الاكتساب ومختلفان في الحكم، ومثل ذلك يقع في العبادات المشروعة لقهر النفس والتوجه للواحد الحق فإنه عين لها طرقا مخصوصة يتقرب بها إليه فمن جاءه منها قربه وأسعده، ومن جاءه من غيرها طرده وأبعده وإن توجه بها إليه وقصده، فالعابد والمبتدع مشتركان في الحامل، وهو قصد التقرب مع اختلافهما في الحكم، فظهر بهذا صحة لزوم قلب الشريعة علي تقدير القول بتساوي الأحكام عند الاشتراك في الأغراض فيتعين بطلانه وإذا بطل لزم صدق نقيضه، وهو أن الاشتراك في الغرض لا يوجب الاشتراك في الحكم. قد أداه جهله حقيقة العبادة إلي قياس فاسد وقد أداه جهله حقيقة العبادة إلي قياس آخر فاسد وهو قياسه ما لا عبادة فيه من نذر وذبح وطلب دعاء علي ما فيه عبادة غير الله بجامع العبادة في كل. روي الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالي عنه، قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (تفترق أمتي علي بضع وسبعين فرقة أعظمها علي أمتي فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله)، وساق فيه إسنادا إلي الحسن البصري رضي الله تعالي عنه أنه قال: (أول من قاس إبليس)، قال (خلقتني من نار وخلقته من طين)، وأسند أيضا عن ابن سيرين رضي الله تعالي عنه أنه قال: (أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس) إ ه. [ صفحه 62] الجمع في هذا القياس الفاسد بغير علة شرعية (الخامس): الجمع هذا القياس الفاسد بغير علة شرعية، لأن إرادة نفع الجاه من الأغراض التي تدعو النفوس إليها، فمن اتبعها اتبع نفسه إذ قد أعطاها مطلوبها. مسأل التوسل من فروع القاعدة المتقدمة وما كان من الأغراض النفسانية قد علم أن الشرع جعل لبعضه طرقا توصل إليه وحظر عليه ما سواها، فجعل لإرادة نفع الجاه طريق التوسل، وحرم طريق العبادة، وحينئذ فمسألة من فروع القاعدة المتقدمة، وقد بين فيها أن تلك الأغراض لا يجمع بها القياس لأن الشرع لم يعينها للتعليل ولا المكلف يقصد بها اتباع الشرع، إذ ليس الحامل له علي ذلك الاتباع، فإن قيل: لا يسلم ابن تيمية أنه جمع في هذا القياس بالأغراض النفسانية، بل يزعم أنه جمع بعلة شرعية فإن تعليل العبادة الوثنية بنفع الجاه مما أومأ إليه القرآن الكريم في قوله تعالي: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي) وبها تمسك ابن تيمية ومقلده محمد بن عبد الوهاب في تكفير المسلمين المتوسلين وكرر الثاني لوكها في رسائله، فالجواب لا يتمسك بها فيه إلا غبي لأن العلة الشرعية المعتبرة في الجمع المراد بها علة الحكم من الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة لا علة نفس الفعل الحاملة لفاعله عليه. والقرآن العظيم إنما أشار إلي أن تعليلهم الذي عللوا به عبادتهم وحملهم عليها فاسد فهو باب التنبيه علي ضلالهم وإنما يكون من قبيل العلة الشرعية لو قال الله تعالي حرمت عبادة الأوثان لإرادة نفع الجاه منها، وأومأ إلي ذلك أو نبه بمسلك من مسالك العلة عليه ولم يقل ذلك ولم يشر إليه بحال، بل أشار في مواضع كثيرة إلي أن العلة في تحريمها وتكفير فاعلها عدولهم بها عن خالقهم المستحق لها ووضعهم الشئ في غير محله بإذلال نفوسهم المملوكة لغير مالكها وتعظيمهم من لا يملك دفع الضر عن نفسه، [ صفحه 63] ثم لا يلزم من الايماء إلي فساد تعليل العمل أن يكون ذلك الفساد هو علة النهي، لأن فساد تعليل العمل يرجع إلي التخطئة في عمل ذلك العمل علي ذلك القصد ولا إشعار فيه بحكم من توسل بنبي أو ولي أصلا. مما يدل علي فساد هذا القياس (السادس) مما يدل علي فساد هذا القياس، اشتراط العلماء قاطبة في صحة القياس كون المقيس غير غير منصوص عليه في الكتاب والسنة، والمقيس هنا = وهو التوسل = منصوص عليه كتابا وسنة، والقياس في مقابلة النص باطل بالإجماع، والتفرقة بين الحي والميت في جواز التوسل بالأول فيما يقدر عليه دون الثاني، لا وجه لها، لأن الحكم الشرعي منوط في هذه المسألة ببلوغ حد العبادة وعدمه، فإن بلغ الفعل إذا وقع لغير الله ذلك الحد كان كفرا وإلا فلا، سواء كان المتوسل به حيا أو ميتا، علي أنها مورطة للمفرق في مذهب القدرية، وجارة له إلي المذهب الماديين الذين ينكرون وجود الإله ويعتقدون فناء الأرواح، وقد أجمع أهل الأديان السماوية علي بقاء الأرواح. تهجمه علي قلوب كثير من المسلمين وحكمه عليهم بالشرك تهجمه علي قلوب المسلمين وحكمه عليهم بالشرك وتخبطه في تعريف العبادة وتغليطه العلماء المجيزين عطف الاتباع علي لفظ الجلالة في (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وأبطال كلامه وكلام ابن القيم: قال في المجلد الثاني من فتاواه ص 271: ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا فيجعله ندا الله، وإن كان قد يقول إنه يحبه لله، فمن جعل غير [ صفحه 64]

في وجوب اطاعة الرسول

الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهي عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصاري بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهي عنه ويحلله ويحرمه ويقيمه مقام الله ورسوله. فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالي: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا الله)، فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب ويكونان في أعمال القلب. وفي ص 274 منه قال: والعبادة أصلها القصد والإرادة والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها إه. في ص 304 منه قال: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة إ ه. وفي ص 305 منه قال: والعبادة أصل معناها الذل أيضا يقال طريق معبد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معني الذل ومعني الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالي بغاية المحبة فإن آخر مراتب الحب هو التتيم إ ه. وفي ص 306 قال: في قوله تعالي: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، أي حسبك وحسب من اتبعك الله، ومن ظن أن المعني، حسبك الله والمؤمنون معه، فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه في غير هذا الموضع إ ه. [ صفحه 65] تهجمه علي قلوب كثير من المسلمين وحكمه عليهم بالشرك أقول: قد هجم علي قلوب كثير من المسلمين في هذا الثرثرة من قوله: ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا إلي قوله: (فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب)، فحكم عليهم بالشرك وما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وبالغ في حكمه الفاجر بقوله: (وإن كان قد يقول إنه يحبه لله، فهو كافر عنده وأن قال أنه يحبه لله، فهو لا يصدق أقوال المسلمين وظواهرهم، ولا يكتفي منهم با اكتفي به رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم)، منهم في قوله: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، وقوله صلي الله عليه وسلم موبخا لمولاه أسامة لما قتل الأعرابي الذي كان مع المشركين بعد قوله: لا إله إلا الله حين رفع السيف عليه، معتذرا بأنه قالها خوفا من السيف، (هلا شققت عن قلبه حتي تعلم أنه قالها لذلك)، بل قال صلي الله تعالي عليه وسلم (من حلف باللات والعزي فليقل لا إله إلا الله). قال الإمام البخاري ولم ينسبه إلي الكفر، وأما ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، فقد قال الحافظ ابن حجر في فتحه، في شرح قوله صلي الله تعالي عليه وسلم، (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) فيه ما نصبه: والتعبير بقوله: (فقد كفر أو أشرك) للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك. ثم قال: فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا وعليه يتنزل الحديث المذكور إ ه. [ صفحه 66]

في معاني دعاء

" دعا " لفظ مشترك بين معان كثيرة وقوله: (ويدعوه)، أي يعبده بالتوسل به إلي الله، ودعا في لغة العرب لفظ مشترك بين هذه المعاني، العبادة كقوله تعالي: (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، والنسبة كقوله تعالي: (ادعوهم لآبائهم)، أي انسبوهم إليهم، والنداء كقوله تعالي: (وادعوا شهداءكم) أي نادوهم، والسؤال كقوله تعالي: (ادعوني أستجب لكم)، أي اسألوني، والدعوة إلي الشئ كقوله تعالي: (ادع إلي سبيل ربك بالحكمة)، والتمني ومنه: (ولهم ما يدعون)، والقول نحو قوله تعالي: (دعواهم فيها سبحانك اللهم)، والتسمية كقوله تعالي: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم) كدعاء بعضكم بعضا)، وليس في اللغة أن " دعا " تأتي بمعني " توسل ". وقد تقدم تحقيق أن معني التوسل غير معني العبادة لغة وشرعا، وأنه كفر المتوسلين بجاه الصالحين بالقياس الفاسد وإذن فلا سبيل له علي تفكيرهم في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في إجماع المسلمين ولا في اللغة، أنما سبيله فيه سبيل الشيطان وفساد قوله: (فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب ويكونان في أعمال القلب) ظاهر، فإن التوحيد والإشراك مصدران والمصدر معني من المعاني، فكل منهما عبارة عن المعني القائم بالقلب وهو الاعتقاد، ولم يقل عالم في اعتقاد القلب الذي هو معني أنه قول فضلا عن كونه أقوالا، ولم يقل فيه أنه عمل فضلا عن كونه أعمالا، وإنما العمل للجوارح الظاهرة. لم يأت بطائل في محاولة تعريف العبادة في المواضع الثلاثة ثم حاول تعريف العبادة في ثلاثة مواضع فلم يأت بطائل، فقوله في الأول منها: (والعبادة أصلها القصد والإرادة) غير موجود في القاموس وشرحه تاج العروس، [ صفحه 67] وأصل الشئ غير ذلك الشئ فأصل العبادة غير العبادة، فليس هذا تعريفا للعبادة، وقوله: (والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها) فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: التوكل محله القلب وهو من التوحيد ومن أعلي مقامات اليقين وأشرف أحوال المقربين، فإذا أكرم الله به عبدا وتحقق به فأخذه بالأسباب لا ينافيه، والعبادة وإن ارتكزت باعتبار ثمرتها وقبولها عند الله عز وجل علي الإخلاص فيها، والإخلاص محله القلب أيضا فهي باعتبار حقيقتها التكاليف الشرعية الظاهرة، لأنها فعل المكلف علي خلاف هوي نفسه تعظيما لربه، أو امتثال أمر الله كما أمر علي الوجه المأمور من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم لله، والإخلاص شرط في سائر العبادات، وحقيقته سلامته من وصفين: الرياء والهوي، والإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية، وهو وضده يتواردان علي القلب فهو محلهما. الثاني: يلزم من دخول التوكل فيها، إذا أفردت، أن يكون قسما منها مندرجا فيها كاندراج الاسم تحت الكلمة فإنه قسم منها وأخص منها. الثالث: يلزم من كونه قسيما لها إذا قرنت به أن يكون مقابلا لها، لأن قسيم الشئ هو ما يكون مقابلا للشئ ومندرجا معه تحت شئ آخر، كالاسم فإنه مقابل للفعل ومندرج معه تحت الكلمة التي هي أعم منهما، فتحقق من طرفي كلامه أن التوكل جزاء داخل تحت كل لا محالة فإن كان داخلا في العبادة فهي كل له، وإن كان قسيما لها فهو معها داخلان في توحيد الألوهية الذي اخترعه، فهو كل لهما، فقد حاول بهذا الكلام تعريف العبادة فأخطأه، ووقع وهو لا يشعر في علم المنطق الذي ذمه وحرمه. وقوله في الثاني: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) هراء، ليس بتعريف للعبادة أيضا وفساد قوله: (من [ صفحه 68] الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) ظاهر تقدم إبطاله، وليس قوله في الثالث (والعبادة أصل معناها الذل أيضا إلي آخر هذره) تعريفا للعبادة. إبطال زعمه عطف (ومن اتبعك) علي محل الكاف في (حسبك) وقوله في (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) أي حسبك وحسب من اتبعك الله متعين عنده أي محل " من " جر معطوفا علي محل الكاف في حسبك لأ الحسب = علي زعمه = مختص بالله عز وجل، ولا يجوز عطفه علي لفظ الجلالة، ولذلك قال: (ومن ظن أن المعني حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا)، والعطف بالواو عند جمهور النحاة لمطلق التشريك في الحكم فلا تدل علي ترتيب ولا مصاحبة. فالعلماء الذين أجازوا عطف (ومن اتبعك) علي لفظ الجلالة لم يقولوا والمؤمنون معه فلفظة (معه) مفتراة عليهم. وقوله: (كما قد بسطناه في غير هذا الموضع) حوالة علي مجهول، وهي إحدي تلبيساته، وقد أكثر منها في تآليفه فلا بسط ولا موضع، وعادة العلماء إذا كسل أحدهم عن تحقيق مسألة وحولها يقول قد بسطتها في كتابي الفلاني أو استوفيت تحقيقها في باب كذا فيعين المحول عليه. ثرثرة ابن القيم المسهبة الفاشلة في المدافعة عن رأي شيخه في " الحسب " وقد بسطها مؤله هواه تلميذه ابن القيم في أول هديه بما نصبه: وقال تعالي: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، أي الله وحده كافيك [ صفحه 69] وكافي اتباعك فلا يحتاجون معه إلي أحد، وهنا تقديران أحدهما أن تكون الواو عاطفة لمن علي الكاف المجرورة ويجوز العطف علي الضمير المجرور بدون إعادة الجار علي المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية. والثاني أن تكون الواو واو مع وتكون من في محل نصب عطفا علي الموضع فإن حسبك في معني كافيك، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب: حسبك وزيدا درهم، قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا++ فحسبك والضحاك سيف مهند وهذا أصح التقديرين، وفيها تقدير ثالث أن تكون من في موضع رفع بالابتداء، أي ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله، وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعني، وهو أن يكون من في موضع رفع عطفا علي اسم الله، ويكون المعني حسبك الله واتباعك وهذا وإن قال به بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوي والعبادة. قال الله تعالي: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد بنصره وبعباده، وأثني الله سبحانه علي أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب فقال تعالي: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالي لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله صلي الله تعالي عليه وسلم الله وأتباعك حسبك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالي بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه؟، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟، هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله تعالي: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا [ صفحه 70] الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلي الله راغبون)، ولم يقل وإلي رسوله بل جعل الرغبية إليه وحده، كما قال تعالي: (فإذا فرغت فانصب وإلي ربك فارغب) فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العباد والتقوي والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالي، ونظير هذا قوله تعالي: (أليس الله بكاف عبده)، فالحسب هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالي أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟، والأدلة الدالة علي بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ههنا إ ه. إبطال هذه الثرثرة ملخصا في ثلاثة مباحث أقول: تتلخص هذه الثرثرة في ثلاثة مباحث، تأييده عطف من علي محل الكاف الذي عينه شيخه، وزعمه بطلان عطفه علي لفظ الجلالة، وزعمه اختصاص الحسب بالله عز وجل، فتأييده لما عينه شيخه وزعمه أنه المختار وأن شواهده كثيرة وأن شبه المنع منه واهية، وباطل، فلم يبرهن علي كونه المختار، ولم يأت بشاهد واحد من شواهده الكثيرة التي ادعاها، ولم يبرهن علي وهي شبهة واحدة من شبه المنع منها التي ادعاها، بل قوله في التقدير الثاني إنه أصح التقديرين واستشهاده عليه بقول العرب: حسبك وزيدا درهم، وقول الشاعر: فحسبك والضحاك سيف مهند حجة دامغة زعمه بطلان التقدير الربع، واختصاص الحسب بالله عز وجل، أن إعادة الجار في المعطوف علي ضمير مجرور سواء كان الجار حرفا كقوله تعالي: (فقال لها وللأرض) و (وعليها وعلي الفلك)، وقولك مررت بك وبزيد، أو اسما كقوله تعالي: (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك)، وقولك حسبك وحسب زيد درهم، لازمة عند جمهور نحاة البصرة، وعلل لزومها بأن الجار والضمير المجرور كالشئ الواحد. فإذا عطف عليه بدون إعادة الجار فكأنه عطف علي بعض الكلمة. وقيل إن الضمير المجرور كالتنوين في شدة اتصاله بالكلمة فهو كجزء منها، فكما لا يصح العطف علي التنوين لا يصح العطف علي ما أشبهه، وقيل غير هذين، واقتصر [ صفحه 71] أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن في إعراب (ومن اتبعك)، علي كونه في محل نصب عطفا علي محل الكاف في حسبك باعتبار معناها، أو في محل رفع عطفا علي لفظ الجلالة، وضعف عطفه علي الكاف في (حسبك) قائلا فيه، لا يجوز عند البصريين، لأن العطف علي الضمير المجرور من غير إعادة الجار لا يجوز إه. فتقرر بهذا ضعف عطف (من) علي الكاف بدون إعادة الجار. وضعف تقديره الثالث أيضا وهو كون (من) في موضع رفع مبتدأ والخبر محذوف، أي فحسبهم الله، لأنه محوج إلي تقدير جملة واقعة خبرا له يكون بها معطوفا بعلي ما قبله عطف الجمل، وما لا يحوج إلي تقدير، وهو عطفه علي لفظ الجلالة عطف المفردات أولي مما يحوج إلي تقدير. وتقرر أيضا وظهر به قوة المبحث الثاني وهو عطفه علي لفظ الجلالة، وقوله في آخرها (والأدلة علي بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ههنا)، ودعوي جوفاء لم يبرهن علي بطلان هذا التأويل ولو بدليل واحد منها حتي يقربها من الصحة، فضلا عن كونها أدلة أكثر من أن تذكر ههنا، وما كتبه من الآيات ليس من الدليل في شئ، لأن الدليل هو المرشد إلي المطلوب والمطلوب هنا علي زعمه منع عطف (من) علي لفظ الجلالة. وهل أرشد الله فيما ثرثر به من كتابه تعالي الذي يلبس به هو وشيخه علي البسطاء إلي أن الحسب مختص به تعالي؟، فلا يسوغ إسناده لاتباع الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم بالعطف عليه، وهل أرشد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم في سنته التي يلبسان بها علي البسطاء إلي أن الحسب مختص بالله عز وجل؟، فلا يسوغ لكم يا أمتي إسناده إلي أصحابي، ولا يلزم من إسناده تعالي الحسب له والتشريك في تأييد رسول الله صلي الله تعالي وسلم بينه وبين المؤمنين في قوله تعالي: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، اختصاص الحسب به تعالي ومنع عطف (من) علي لفظ الجلالة عند العقلاء، بل هي دالة علي ضعف [ صفحه 72] مختاره وقوة عطف الاتباع علي لفظ الجلالة. ولا يلزم أيضا من ثناء الله تعالي علي الصحابة رضوان الله تعالي عليهم في تفويضهم أمورهم إليه تعالي في قولهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وعدم قولهم (ورسوله) اختصاص الحسب به تعالي، وحظر إسناده لاتباع الرسول المؤمنين بالعطف علي لفظ الجلالة، فاقتصارهم علي كفاية الله لهم وإن كان من أعلي مقامات التوحيد ليس بدليل علي اختصاص الحسب بالله، ومنع عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، وترك قولهم (ورسوله) عدم، والعدم ليس بدليل عند العقلاء، فترك قولهم (ورسوله) ليس بدليل علي منع عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، واختصاص الحسب به تعالي، ولا ملازمة ولا محال بين قولهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وعدم قولهم: (ورسوله)، ومدح الله تعالي لهم علي تفويضهم أمورهم إليه، وبين عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، فاستنكاره ذلك منكر، ولا ملازمة أيضا بين إفراد الاتباع الرب بالحسب وعدم تشريكهم بينه تعالي وبين رسوله صلي الله عليه وسلم فيه في هذه الآية، وبين تشريكه تعالي بينه وبين أتباع رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم في الحسب في آية الأنفال عند من يعقل، فله تعالي أن يشرك معه من شاء من عباده في الإسناد، وهو جل وعلا المتفرد بالإيجاد والتأثير، والتشريك بواو العطف كثير في كتاب الله وسنة رسوله. قال تعالي: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله)، وقال: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)، وقال: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)، وقال: (وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله). وفي الصحيحين أنه صلي الله تعالي عليه وسلم خطب الأنصار رضي الله عنهم في الجعرانة فقال: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي)، كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن. وفي الصحيحين أيضا أنه صلي الله تعالي عليه وسلم خطب المسلمين في حجة الوداع [ صفحه 73] يوم النحر فقال: (أي شهر هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم، قال: (أي بلد هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم، قال: (فأي يوم هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم. وفي صحيح الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قام علي الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت يا رسول الله: (أتوب إلي الله وإلي رسوله) صلي الله عليه وسلم، وقد تحقق بهذا أن استنكاره الثاني منكر، وأن قوله: (هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل) فاسد، وتشريكه تعالي في الايتاء بينه وبين رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، وإسناده الحسب إليه تعالي، وعدم إسناده للرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، وتشريكه أيضا في الايتاء بينه وبين رسوله صلي الله عليه وسلم وقصره تعالي الرغبة الكاملة عليه تعالي، وعدم إسناده للرسول صلي الله تعالي عليه وسلم في قوله تعالي: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله رسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله أنا إلي الله راغبون)، ليس بدليل علي اختصاص الحسب به تعالي، ولا بدليل علي اختصاص الرغبة به تعالي عند من يعقل، وإنما هو عدم دليل، فجعله تعالي الايتاء بينه وبين رسوله فيها، وإسناده للرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، في قوله تعالي: (وما آتاكم الرسول فخذوه)، ليس بدليل علي اختصاص الحسب به تعالي، وإسناده تعالي الحسب له وعدم إسناده لرسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، ليس بدليل أيضا علي اختصاصه به تعالي، فقوله: (فلم يقل إلي آخر الهراء..) عدم دليل لا دليل، وقصره تعالي الرغبة الكاملة عليه وعدم تشريك رسوله صلي الله عليه وسلم فيها، ليس بدليل علي اختصاصها به تعالي، فقوله: (ولم يقل وإلي رسوله إلي آخر الهراء..) عدم دليل لا دليل، فقد ورطه تقليده شيخه في عدم الدليل كثيرا. ومنشأ تغليط العلماء المجوزين عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، توهمه أن العطف يفيد المشاركة في حصول ذلك المهم بين الله وبين الاتباع، والمشاركة في ذلك تنافي توحيد الربوبية، والجواب عن توهمه بوجهين: الأول علي تسليم اختصاص بالحسب بالله عز وجل لا يلزم منه ضعف عطف الاتباع لفظ الجلالة، لأن إسناد هذا المهم إلي الله عز وجل علي أنه الخالق للأفعال كلها المؤثر فيها، وإسناد إلي الاتباع [ صفحه 74] علي أنهم السبب الظاهر فيها، وهذا لا يقدح في العقيدة ولا في جواز عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، فهو علي حد قوله تعالي: (وما رميت ولكن الله رمي)، الثاني قال الإمام الرازي: الكل من الله تعالي إلا أن من أنواع النصرة ما يحصل لأبناء علي الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء علي الأسباب المألوفة المعتادة فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين إ ه. وهو قريب من الأول وعليهما ففي الآية مدح عظيم للمؤمنين ودليل علي شرفهم، فيؤخذ منها أنهم إذا اجتمعت قلوبهم مع شخص لا يخذلون أبدا، وليس في ذلك اعتماد علي غير الله، لأن المؤمنين ما التفت إليهم إلا لإيمانهم، وكونهم حزب الله فرجع الأمر حقيقة إلي الله عز وجل. إني أتحدي كل متغال في ابن تيمية وإني أتحدي كل متغال في ابن تيمية أن ينقل نقلا صحيحا عن أي واحد من علماء السلف الصالح الذين يلبسون بهم علي البسطاء أنه قال لا يجوز عطف الاتباع علي لفظ الجلالة، لأن الحسب مختص بالله عز وجل. وقد ذكر المفسرون في تفاسيرهم عطف: (ومن اتبعك) علي لفظ الجلالة ولم يضعفوه، أولهم الإمام أبو جعفر بن جرير حكاه عن بعض أهل العربية قال واستشهد لصحته بقوله تعالي: (حرض المؤمنين علي القتال)، ومحيي السنة البغوي والنيسابوري والزمخشري وعزاه الفخر الرازي للفراء قائلا: إنه أحسن الوجهين، وصدر به القرطبي وعزاه للحسن البصري رضي الله عنه وقال: اختاره النحاس وغيره، وأبو حيان وقال إنه الظاهر، وعليه فسره الحسن البصري وجماعة، والبيضاوي ومحشيه الشهاب الخفاجي قائلا: وضعف في الهدي النبوي رفعه عطفا علي اسم الله وقال إنما هو عطف علي الكاف فإن المعني عليه، ولا وجه لا فإن الفراء والكسائي رجحاه وما قله وما بعده يؤيده، والنسفي والخازن والخطيب والشربيني وأبو السعود، وهؤلاء [ صفحه 75] الأفاضل مع التابعي الجليل الحسن البصري الذي قالوا فيه: إنه من أفصح أهل زمانه، ليسوا بشئ = في رأي ابن تيمية وتلميذه = ما دام الاعجاب واحتقار عباد الله ملازمين لهما، وزعمه في الثالث اختصاص الحسب بالله عز وجل باطل بالكتاب والسنة والاستعمال. إبطال زعمه اختصاص الحسب بالله بالكتاب والسنة والاستعمال أما الكتاب فقد قال تعالي في سورة المائدة: (وإذا قيل لهم تعالوا ما أنزل الله وإلي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، فقد أسند المشركون الحسب لعمل آبائهم الفاسد، فإن قيل هذا حكاه الله عن المشركين وقد ذمهم الله عليه، قلت: إنما ذمهم الله علي تقليدهم آباءهم في عبادة غير الله وإعراضهم عن الإيمان بالله وبرسوله صلي الله عليه وسلم، وذم آباءهم علي جهلهم وعدم اهتدائهم لطريق الحق، ولم يذمهم علي لفظ الحسب فقط، وإذا ثبت في كتاب الله إسناد الحسب لعمل المشركين الخبيث استقلالا فهل يقول عاقل باستحالة إسناده لعمل المؤمنين الطيب اتباعا. وقال تعالي في سورة التوبة: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم)، قال تعالي في سورة المجادلة: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير)، فهل يقول عاقل بجواز إسناد الحسب لجهنم استقلالا، وحظر إسناده للمؤمنين اتباعا؟، وهل يقول عاقل إن إسناده تعالي في هاتين الآيتين ما هو مختص به لجهنم لكرمها عليه، وحظر إسناده لسادة الأمة الإسلامية رضوان الله تعالي عليهم اتباعا لهوانهم عليه، سبحان واهب العقول. وأما السنة فقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فأن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) = أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال صحيح عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. [ صفحه 76] وقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم علي المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوي ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) = رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه، ولا يقول ذو عقل ودين إن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لما أسند الحسب لا كلات ولاحتقار المسلم أخاه كان غير عالم بأنه مختص بالله، وأن أحمد بن تيمية وتلميذه علما ذلك، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وأما الاستعمال فقد ذكره في أثناء كلامه قال: (كما تقول العرب حسبك وزيدا درهم): إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا++ فحسبك والضحاك سف مهند وبهذا تحقق بطلان قوله: (فإن الحسب لله وحده) فحسبه وشيخه جهلهما ما ذكرته من الأدلة. إبطال زعمه (الكفاية لله وحده) بالكتاب والسنة والاستعمال وبطلان قوله أيضا (والكفاية لله وحده) فإن الدليل علي عدم اختصاصها بالله عز وجل، الكتاب والسنة والاستعمال، أما الكتاب: فقد قال تعالي في سورة النساء مخاطبا نبيه صلي الله عليه وسلم ذاما أهل الكتاب علي تزكيتهم أنفسهم: (أنظر كيف يفترون علي الله الكذب وكفي به إثما مبينا)، فقد أسند تعالي الكفاية إلي افترائهم عليه، وقال تعالي في سورة الإسراء: (إقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا)، فقد أسند تعالي الكفاية لنفس المكلف، ومعلوم عند كل من له إلمام بالعربية أن كلا من افترائهم علي الله، والنفس فاعل كفي ومسند إليه، وزيدت الباء في فاعل كفي لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي. وأما إسناد الكفاية في سنته عليه الصلاة والسلام لغيره تعالي فكثير، فمنه قوله صلي [ صفحه 77] الله تعالي عليه وسلم: (كفي بالمرء إثما أن يحدث بكل ما يسمع) حديث صحيح = رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله: (كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) = رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن ابن عمرو بن العاص بإسناد صحيح =، وقوله: (كفي بالمرء من الشر أن يشار إليه بالأصابع) = حديث حسن رواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما =، وقوله: (كفي بالمرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع وكفي بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا) = حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه. وأما إسناد الكفاية لغيره تعالي في الاستعمال فقد تكفلت به كتب اللغة كالقاموس وشرحه، وتأتي كفي قاصرة بمعني (حسب) والغالب علي فاعلها أن يقترن بالباء لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي نحو: (وكفي بالله وليا وكفي بالله نصيرا)، ومتعدية لواحد بمعني (قنع) كقوله تعالي: (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف)، وقول الشاعر: قليل منك يكفيني ولكن++ قليلك لا يقال له قليل ومتعدية لاثنين بمعني (وقي) نحو (فسيكفيكهم الله)، (وكفي الله المؤمنين القتال). تلبيسه بالتوكل فرض في بحر لا ساحل له وقوله (كالتوكل) تلبيس وخوض في بحر لا ساحل له، والتوكل مشتق من لفظ الوكالة يقال وكل أمره إلي فلان، أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه، ويسمي الموكل إليه وكيلا، ويسمي المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه، وينتظم مقام التوكل من علم وعمل وحال، فالعلم أساسه، والعمل ثمرته، والحال التحقق به، وهو وسط بين طرفي العلم والعمل ومحل التوكل القلب، وهو من التوحيد، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل بالقلب ما دام العبد متحققا بأن التقدير من الله، فإن تعسر عليه شئ فتقديره تعالي، وإن اتفق له شئ فبتيسيره تعالي، وهو من أعلي مقامات اليقين، وأشرف أحوال المقربين، [ صفحه 78] وهو في نفسه غامض من حيث التعريف ولذلك اختلفت أقوال العلماء في حده. فمنها: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس، شاق من حيث العمل ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والإعراض عنها بالكلية طعن في السنة وقدح في الشرع فإن غالب المأمورات الشرعية مبناها علي الأسباب، والاعتماد علي الأسباب من غير أن تري أسبابا في تغير وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل، فإن العاقل كيف يعتمد علي شئ وهو لا يري به، وتحقيق معني التوكل علي وجه يتفق فيه مقتضي التوحيد والعقل والشرع في غاية الغموض والعسر لا يقوي علي كشفه إلا العلماء الربانيون، وما جاء في كتاب الله مثل قوله تعالي: (وعلي الله فليتوكل المؤمنون)، فهو بيان لفضيلة التوكل علي الله، وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه علي قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل علي الواحد القهار، وبهذا يعلم ما في كلامه من التلبيس والإجمال، ومثله فيهما قوله: (والتقوي)، ومحل التقوي أيضا القلب بدليل حديث الترمذي المتقدم في مبحث الحسب (التقوي ههنا)، وهي في اللغة بمعني الاتقاء وهو اتخاذ الوقاية، والتقوي جماع الخيرات، ومنتهي الطاعات، والرهبة من مباديها، وقد تسمي التقوي خوفا وخشية ويسمي الخوف تقوي. والاتقاء التحرز بطاعة الله عن عقوبته، وأصل التقوي اتقاء الشرك، ثم بعده اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده اتقاء الشبهات، ثم ندع بعده الفضلات، والمتقي من قام به هذا الوصف، وغاية التقوي البراءة من كل شئ سوي الله، ومبدؤها اتقاء الشرك بالله، وأوسطها اتقاء الحرام. وقد قيل فيها أقوال كثيرة، فمنها ما نسب لحيدرة كرم الله وجهه رضي عنه أنها، ترك الاصرار علي المعصية، وترك الاغترار بالطاعة، ومنها منا نسب إلي ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالي: (اتقوا الله حق تقاته)، هو أن يطاع فلا يعصي، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسي. وقيل هي مجانبة كل ما يبعدك عن الله، والمتبع هو الذي اتقي متابعة الهوي،. [ صفحه 79] وقيل: الاقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم قولا وفعلا. وقوله (والعبادة) صحيح، فهو جل وعلا المستحق لما المختص بها وحده وقد تقدم الكلام عليها مفصلا. وقوله (فالرغبة لله وحده) غير صحيح، ف (رغب) يتعدي (بفي) فيكون بمعني إرادة الشئ والحرص عليه والطمع فيه، ويتعدي (بعن) فيكون بمعني الإعراض عنه والزهد فيه، ويحتملهما قوله تعالي: (وترغبون أن تنكحوهن)، ويتعدي (بالي) فيكون بمعني الابتهال والضراعة والطمع، ومنه حديث الدعاء (رغبة ورهبة إليك) وقوله تعالي (ويدعوننا رغبا ورهبا)، أي طمعا وخوفا، وحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالي عنهما قالت يا رسول الله (إن أمي أتتني راغبة أفأصلها، قال نعم) يحتمل (في) و (إلي) أي طامعة. إبطال زعمه (الرغبة لله وحده) والرغبة الكاملة لله وقوله تعالي (إنا إلي الله راغبون) الذي احتج به علي اختصاص الرغبة به تعالي تضرع وطمع، بدليل ما قبله ولا حجة فيه علي اختصاص الرغبة به تعالي بدليل جواب (لو) المقدر، أي (ولو أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله، إلي آخرها) لكان خيرا لهم، ونزولها في المنافقين معلوم، ولا حجة أيضا في قوله تعالي: (وإلي ربك) وحده (فارغب) أي تضرع في السؤال، ولا تسأل غيره فإنه القادر علي إسعافك لا غيره، علي اختصاص الرغبة به تعالي وإنما دلت علي أن الرغبة الكاملة لله عز وجل، أي اجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه (وعلي الله فليتوكل المؤمنون). قال العلامة أبو البقاء في كلياته: ولم يشتهر تعديتها بإلي إلا أن تضمن معني الرجوع، ويكون معني الرغبة الرجاء والطلب إ ه. [ صفحه 80]

الانابة أعم من التوبة والأوبة

وقوله (والإنابة لله وحده) صحيح، وهي الرجوع إليه تعالي في جميع الأحوال، وهي أعم من التوبة والأوبة، لأن التوبة الرجوع عن المعصية إلي الله، والأوبة الرجوع عن الطاعة إليه تعالي، بأن لا يعتمد علي طاعته بل علي فضله وكرمه تعالي. السجود للصنم ليس بكفر لذاته وقوله (والسجود لله وحده) صحيح، والسجود في اللغة الخضوع والتطامن، وفي الشرع وضع الجبهة علي الأرض علي قصد عبادة الله، والتذلل معتبر في مفهومه العرفي دون اللغوي، والسجود للصنم ليس بكفر لذاته، وإنما كفر العلماء الساجد للصنم لأنه علامة اعتقاد إلهيته، ولو كان كفرا لذاته ما حل في شريعة أبدا، ولكان من الفحشاء، والله لا يأمر بالفحشاء، وقد أمر الله ملائكته عليهم الصلاة والسلام بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام، وقد كان سائغا لغير الله تعالي في الشرائع المتقدمة، بدليل سجود يعقوب وامرأته وأولاده ليوسف عليهم الصلاة والسلام، وهو ركن من أركان الصلاة، والصلاة عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بعد كلمة الشهادة. وقوله: (والنذر لا يكون إلا لله سبحانه وتعالي) تلبيس، كشفه إن حد النذر لغة الايجاب والالتزام، وحده بالمعني الأعم من الجائز عند المالكية: إيجاب امرئ علي نفسه لله تعالي أمرا، لحديث (من نذر أن يعصي الله تعالي فلا يعصه)، وإطلاق الفقهاء علي المحرم نذرا إ ه، ومثله في الشمول قول صاحب الروض المربع من الحنابلة: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالي شيئا غير محال بكل قول يدل عليه، وتقسيم الحنابلة له إلي ستة أقسام منعقدة دليل علي أنه ليس بقربة لذاته، ولا بعبادة. [ صفحه 81]

تقسيم الحنابلة النذر إلي ستة أقسام منعقدة

دليل علي أنه ليس بقربة لذاته ولا عبادة والحديث الذي أشار إليه المالكية = أخرجه الإمام أحمد والبخاري والأربعة عن عائشة رضي الله تعالي عنها = أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله تعالي فلا يعصه)، وهو متناول للإقسام الستة المذكورة في كتب الحنابلة، وينعقد نذر المعصية كشرب خمر عندهم علي الأصح، وإن حرم الوفاء به ويكفر من لم يفعله كفارة يمين ويقضي الصوم غير صوم يوم حيض، وهو من مفردات الإمام أحمد رضي الله عنه، ودال علي أن النذر في ذاته ليس بقربة ولا عبادة، ولو كان نذر تبرر تقسيمه. وحده بالمعني الخاص عند الشافعية: إيجاب العبد علي نفسه قربة لم يوجبها الله تعالي، وعند المالكية: التزام مسلم كلف قربة ولو غضبان، والتعريفان متحدان معني، فحقيقة النذر علي التعريفين اللغوي والشرعي: إيجاب الإنسان أو المسلم علي نفسه ما لم يوجبه الله تعالي عليه، والفقهاء الحنفية قالوا: من نذر نذرا مطلقا أو معلقا بشرط، وكان من جنسه فرض وهو عبادة مقصودة ووجد الشرط المعلق به لزمه الوفاء بما سمي، كصلاة وصوم وصدقة ووقف واعتكاف واعتاق رقبة وحج ولو ماشيا إ ه. ولا تخفي دلالة هذا الكلام علي كون النذر ليس بقربة لذاته، فتحقق بهذا اتفاق المذاهب الأربعة عليه، وتحققت مباينته للعبادة تمام المباينة بمقتضي تعريف كل منهما لغة وشرعا، فإن العبادة لغة: أقصي نهاية الخضوع والتذلل، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم، وشرعا: امتثال أمر الله كما أمر علي الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم. [ صفحه 82]

الفرق بين كون المسلم يوجب علي نفسه طاعة

لم يوجبها الله تعالي عليه وبين كونه يأتي بأقصي نهاية الخضوع والتذلل لله تعالي فالفرق بين كون العبد يوجب علي نفسه طاعة لم يوجبها الله تعالي عليه، وبين كونه يأتي بأقصي نهاية الخضوع والتذلل لله ويمتثل أمره تعالي فيأتي بما أمره به علي الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة الخ. يعرفه صغار الطلبة، ونهي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عنه في حديث الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله (أنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل)، وفي رواية: (لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا)، وفي رواية: (لا يأتي بخير) محمول علي من علم من نفسه عدم الوفاء بما التزمه، ومعني (لا يأتي بخير) أنه لا يرد شيئا من القدر كما في الرواية الأخري، ومعني (يستخرج به من البخيل) أن البخيل لا يأتي بالنذر تطوعا محضا مبتدئا وإنما يأتي به في مقابلة غرضه الذي علق نذره عليه. قال ابن الأثير وقد تكرر في أحاديث النذر ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره،؟؟ ير عن التهاون به بعد إيجابه. قال ولو كان معناه الزجر عنه حتي لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يرد قضاء فقال: (لا تنذروا) علي أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفون به عنكم ما؟؟ به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي بذر موه لازم لكم إ ه. والحديث الذي رواه أبو داود: قال نذر رجل علي عهد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتي النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول [ صفحه 83] الله صلي الله تعالي عليه وسلم لأصحابه (هل كان فيها من وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)، فقالوا: لا، قال: (فهل كان فيما عيد من أعيادهم؟)، قالوا: لا، فقال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)، يدل علي أن نذر الذبح في مكان لا وثن فيه ولا عيدا من أعياد الجاهلية جائز، وليس بعبادة للمنذور وهو النحر ولا للمنذور فيه وهو المكان. والحديث الذي رواه أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب علي رأسك بالدف قال (أوفي بنذرك) يدل علي أن النذر ليس بقربة لذاته ولا عبادة، لأن حكم الضرب بالدف دائر عند الفقهاء بين الجواز والكراهة والتحريم، وقد صار قربة بكونه علي رأس النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فرحا بقدومه من الغزو سالما والفرح بسلامته صلي الله عليه وسلم واجب ومن الإيمان، فلذلك أمرها صلي الله عليه وسلم بالوفاء بنذرها، زاد رزين في جامعه قالت: ونذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا = مكان يذبح فيه أهل الجاهلية = فقال (هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قالت: لا، قال: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟)، قالت: لا، قال: (أوفي بنذرك)، فأمرها بوفاء نذرها حيث كان في مكان لا وثن فيه ولا عيدا من أعياد الجاهلية. لو كان النذر والذبح لغير الله عبادة لذاتهما ما حلا في مكان أبدا ولو خاليا من أوثان الجاهلية وأعيادها فلو كان النذر والذبح لغير الله عبادة لذاتهما ما حلا في مكان أبدا ولو خاليا من أوثان الجاهلية وأعيادها، ولو كانا عبادة لغير الله لكان أمره صلي الله عليه وسلم لذلك الرجل بالنحر في بوانة، ولتلك المرأة بالذبح في ذلك المكان أمرا لهما بعبادة غير الله، ولتلك المرأة أيضا بالضرب بالدف علي رأسه أمرا لها بعبادته صلي الله عليه وسلم، برأه الله من ذلك وصلي عليه. [ صفحه 84] والنذر لمخلوق نبي أو ولي عند الحنابلة دائر بين الكراهة والتحريم ولا كفر ولا إشراك فيه، قال ابن مفلح في فروعه ج 3 ص 755: وذكر الآدمي البغدادي: نذر شرب الخمر ونحوه لغو فلا كفارة فيه ونذر ذبح ولده يكفر. وقال ابن رزين في نذر المعصية إنه لغو، قال: ونذره لغير الله كنذره لشيخ معين حي للاستغاثة به وطلب الحوائج منه كحلفه بغيره، وقال غيره هو نذر معصية كما قال شيخنا = (يعني ابن تيمية) = وقال في شرح دليل الطالب: (فائدة) قال الشيخ = (يعني ابن تيمية) =: النذر للقبور أو لأهلها كالنذر لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، والشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدق بما نذره من ذلك علي من يستحقه من الفقراء والصالحين كان خيرا له عند الله وأنفع. وقال من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلي ذلك المكان لم يجز ولا يجوز الوفاء به إجماعا ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه، ومن الحسن صرفه في نظيره من المشروع وفي لزوم الكفارة خلاف إ ه. قال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في أول رسالته الصواعق الإلهية في الرد علي الوهابية رادا علي أخيه بكلام ابن تيمية هذا: فلو كان الناذر كافرا عنده لم يأمره بالصدقة لأن الصدقة لا تقبل من الكافر بل يأمره بتجديد إسلامه ويقول خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله إ ه. النذر للولي عند الشافعية صحيح يجب صرفه إليه والنذر للولي الحي عند الشافعية صحيح يجب صرفه إليه ولا يجوز صرف شئ منه لغيره، والنذر لولي ميت إن قصد الناذر الميت بطل نذره لأن الميت لا يملك، وإن قصد قربة أخري كأولاده وخلفائه أو إطعام الفقراء الذين عند قبره أو غير ذلك من القرب صح النذر ووجب صرفه فيما قصده الناذر وإن لم يقصد شيئا لم يصح نذره، [ صفحه 85] إلا أن كانت عادة الناس في زمن الناذر ينذرون للميت ويريدون جهة مخصوصة وعلمها الناذر فينزل نذره عليها إ ه. ونذر ما لا يهدي للكعبة كالدراهم والثياب والطعام لنبي أو ولي عند المالكية صحيح، فإن قصد الناذر الفقراء الملازمين للمحل أو الخدمة وجب علي بعثه إليهم، وإن قصد به نفع الميت تصدق به حيث شاء، وإن لم يكن له قصد حمل علي عادة موضع ذلك الولي، ونذر ما يهدي للكعبة بغير لفظ هدي وبدنة كشاة وبقرة وجمل لولي يلزمه ولا يبعثه له بل يذبحه بموضعه ويتصدق به علي الفقراء ولا يأكل منه ولا يطعم غنيا، وله إبقاؤه حيا والتصدق عليهم بقدر لحمه ويفعل به ما شاء، وهذا إذا قصد به المساكين بلفظ أو نية، فإن قصد به نفسه وعياله ونحوهم فلا يلزمه، ولا يضر في قصد زيارة ولي استصحاب حيوان ليذبح هناك للتوسعة علي أنفسهم وعلي فقراء المحل من غير نذر ولا تعيين إ ه. النذر للمخلوق عند الحنفية لا يصح والنذر للمخلوق الحنفية لا يصح، ومع هذا لم يقولوا بكفر من نذر له إه، والله سبحانه هو المطلع علي كل مكان والعالم بسرائر عباده ونياتهم. فجعل ابن عبد الوهاب النذر والذبح لغير الله من أنواع العبادة في رسالته الأصول الثلاثة جهل فادح وقوله محتجا علي أن النذر لغير الله كفر،: ودليل النذر قوله تعالي: (يوفون بالنذر) فاسد من سبعة أوجه: الأول: جهله الدليل فإن الدليل هو المرشد إلي المطلوب ولا إرشاد في هذه الآية لرأيه أصلا لا في منطوقها ولا في مفهوما. الثاني: يستقيم دليله لو قال الله في كتابه: (النذر لغيري عبادة له ومن عبد غيري فقد كفر)، أو قال: (من نذر لغيري فقد كفر)، ولم يقل الله هذا في كتابه فقد وضع الآية في غير موضعها. [ صفحه 86] الثالث: لو نهي الله في كتابه عن النذر لغيره بصريح النهي لم يلزم منه كفر من نذر لغيره إجماعا، فكيف مع عدم نهيه عنه؟، وقد نهي الله في كتابه العزيز عن الربا والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وحرمتها في دين الإسلام معلومة بالضرورة، وقد أجمع أهل الحق علي عدم تكفير مرتكب واحد منها ما لم يكن مستحلا له. الرابع: جهله الأمر والنهي، والأمر والخبر، والفرق بينها وجهله الخبر والإنشاء والفرق بينهما، فإنه قال في أول كلامه: (وأنواع العبادة التي أمر الله بها)، وذكر سبعة عشر مثالا بعضها خبر وبعضها أمر وبعضها نهي، ثم قال في آخره: (وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها كلها لله فجعلها كلها أوامر)، وهذه الآية التي احتج بها علي كفر من نذر لغير الله خبر، وليست أمرا، والأمر قسم من أقسام الانشاء، والإنشاء مقابل للخبر وقسيم له وهما مندرجان تحت الكلام الذي هو جنسهما، ولو فرضت أمرا فإن أهل الحق مجمعون علي عدم تكفير من لم يمتثل أمر الله من المسلمين كتارك الصلاة مثلا ما لم ينكر وجوبه عليه، كما أنهم متفقون علي عدم تكفير مرتكب ما نهي الله عنه صريحا في كتابه من المسلمين كأكل الربا والزنا ما لم يستحله. الخامس: جهله تفسير الآية فإن الله تبارك وتعالي لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة مدح أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملونها فاستوجبوا بها ذلك النعيم بقوله: (يوفون بالنذر)، فهي مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم مشتملة علي نوع تفصيل ما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا، كأنه قيل: ماذا فعلوا في الدنيا حتي نالوا تلك الرتبة العالية؟، فقيل يوفون بما أوجبوه علي أنفسهم فكيف بما أوجبه الله تعالي عليهم، وبهذا تحقق أنه ليس فيها شبه دليل لرأيه لا في منطوقها ولا في مفهومها فضلا عن الدليل. السادس: لا يلزم من مدحه تعالي للأبرار علي وفائهم بما نذروه كفر من لم يوف ينذره أو نذر لمخلوق عند العقلاء. السابع: الآية وإن دلت علي وجوب الوفاء بالنذر مبالغة في وصف الأبرار بأداء [ صفحه 87] الواجبات لأن من وفي بما أوجبه علي نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفي، فلا يلزم من دلالتها علي ما ذكر كفر مسلم واحد لم يوف بما أوجبه علي نفسه من النذر لله تعالي أو نذر لمخلوق عند العقلاء فضلا عن تكفير جمع من المسلمين بذلك. وقوله في تكفير من ذبح لغير الله: ودليل الذبح قوله تعالي: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، باطل بخمسة أوجه: الأول: جهله الدليل فإنه المرشد إلي المطلوب والمطلوب في هذه الآية علي رأيه كفر من ذبح لغير الله، ولا إرشاد في منطوقها ولا في مفهومها إليه أصلا. الثاني: المأمور والمخاطب فيها بالإتيان بفروع الشريعة خالصة لله تعالي هو النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وقد أمر في سابقتها بأصولها بأن يبين للمشركين وأهل الكتاب ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعون أنهم عليه، فحمل أمرها وخطابها الموجه إليه صلي الله تعالي عليه وسلم علي من ذبح من أمته صلي الله تعالي عليه وسلم الغير الله وتكفيره بذلك تهجم علي كتاب الله قبيح جدا. الثالث: ليس فيها شبه دليل علي كفر من ذبح لغير الله لا في منطوقها ولا في مفهومها فضلا عن الدليل، وإن كانت أمته صلي الله تعالي عليه وسلم مأمورة بما أمر به صلي الله عليه وسلم من أصول الشريعة وفروعها. في معني النسك، خمسة أقوال للمفسرين الرابع: في معني النسك خمسة أقوال للمفسرين: فقيل كل ما يتقرب به إلي الله تعالي من صلاة وحج وذبح وغيرها، وقيل هو العبادة، وقيل هو أعمال الحج، وقال [ صفحه 88] مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي المراد به الذبيحة في الحج والعمرة، وقيل هو الذبح، وهذا والثلاثة قبله داخلة في الأول لأن ذبح الضحايا والهدايا مما يتقرب به إلي الله تعالي، فالآية دالة علي أن العبد مطلوب منه الإخلاص لله في جميع الطاعات، ويؤكده قوله تعالي: (لله رب العالمين لا شريك له)، والإخلاص محله القلب، ولا يعلم كون العبد أخلص في طاعته أم لا إلا عالم السر والنجوي، فقصره النسك فيها علي مطلق الذبح الذي هو خامس الأقوال فيها وتهجمه علي قلوب الذابحين ومقاصدهم وحكمه عليهم بالكفر تورط في وحل الجهل دفعات. وضع للحديث في غير موضعه الخامس: يستقيم دليله لو صرح تعالي فيها بقوله مثلا: (الذبح لغيري عبادة له ومن عبد غيري فقد كفر)، أو قال: (من ذبح لغيري فقد كفر وأشرك) ولم يقل الله تبارك وتعالي هذا في كتابه، فهو متهجم عليه، واحتجاجه علي كفر من ذبح لغير الله بقوله: ومن السنة: (لعن الله من ذبح لغير الله) وضع للحديث في غير موضعه، فاسد من ستة أوجه: الأول: جهله حقيقة الدليل فإنه المرشد إلي المطلوب والمطلوب في هذا الحديث علي زعمه كفر من ذبح لغير الله ولا إرشاد لكفر من ذبح لغير الله في منطوق هذا الحديث ولا في مفهومه فإن منطوقه لعن من ذبح لغير الله تعالي ومفهومه عدم لعن من ذبح الله تعالي. الثاني: يحتج علماء الإسلام بخبر الآحاد الذي هو ظني الثبوت، والدلالة الصحيح بقسميه والحسن بقسميه في مسائل الحلال والحرام لا في تكفير المسلمين، وهذا الذي وضعه في غير موضعه بعض حديث وجملته: (لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوي محدثا، ولعن الله من غير منار الأرض) = أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن علي رضي الله عنه = ولم يذكر الجامع الصغير درجته، والخطب سهل عند ابن عبد الوهاب، لأن التكفير الجزاف الذي أسسه لا ارتباط له [ صفحه 89] بكتاب الله ولا بالسنة فضلا عن درجة الحديث فيها ولا بما عليه السواد الأعظم، وإنما ارتباط بفهمه، فيه كفر من ذبح لغير الله، وبه يلزم تكفير كل من اللاعن لوالديه، والمؤوي للمحدث والمغير لمنار الأرض، وبه يلزم تكفير كل من لعنه النبي صلي الله عليه وسلم وهو في السنة كثير فمنه: (لعن الله الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور)، و: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) و: (لعن الله النائحة والمستمعة) و: (لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء) و: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) و: (لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون) و: (لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره إلا لدغتهم)، وبه يلزم تكفير الخمر ومال الربا والعقرب، وبه يلزم تكفير كل من خالفه ولو نبيا مرسلا، ولم يقل ذو عقل ودين بكفر أحد من المكلفين الذين لعنهم رسول الله صلي الله عليه وسلم غير الجاحد والمستحل لما هو معلوم في الدين بالضرورة، فضلا عن كفر الخمر ومال الربا والعقرب. الثالث: يلزم علي فهمه هذا تكفير جميع المسلمين من أول الإسلام إلي قيام الساعة جزما لأن من من ألفاظ العموم وغير نكرة متوغلة في الابهام لا تتعرف بالإضافة فتفيد العموم أيضا. فالآلاف المؤلفة من الغنم والبقر والإبل المذبوحة والمنحورة من أول الإسلام إلي زمننا وإلي قيام الساعة في المدن والقري والبادية يوميا للأكل، علاوة علي ما يذبح في الولائم والحفلات وللضيوف وفرحا بقدوم السلطان وغير ذلك من المقتضيات، كلها مذبوحة لغير الله قطعا. [ صفحه 90] لم يقل ذو عقل ودين بحرمة الذبح لهذه الأغراض، فضلا عن تكفير الأمة الإسلامية ولم يقل ذو عقل ودين بحرمة الذبح لهذه الأغراض فضلا عن تكفير الأمة الإسلامية من أولها إلي آخرها بها فليست داخلة في الحديث جزما وإذن... فالرابع: يتعين حمله علي من ذبح لغير الله معظما له بذكر اسمه علي الذبيحة، فهو مبين لقوله تعالي: (وما أهل به لغير الله) المذكور في مواضع من كتابه، المعطوف علي المحرمات. الخامس: يستقيم عند علماء الإسلام تكفير من ذبح لغير الله إذا ذكر اسم غير تعالي علي ذبيحته معظما له كتعظيم الله، ومحل التعظيم القلب، ولا يحكم عليه بالكفر إلا بعد تحقق التعظيم المذكور منه. السادس: يصح دليله لو قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من ذبح لغير الله فهو كافر)، ولم يقل النبي صلي الله عليه وسلم هذا فقد وضع سنته عليه الصلاة والسلام في غير موضعها، وصواب قول ابن القيم (والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالي) بالله، وهو صحيح علي مذهب الجمهور الذين يكرهون الحلف بغيره تعالي ولو معظما كالنبي صلي الله عليه وسلم والكعبة، غير صحيح علي مذهب أمامه الذي يتعالي فيه في غير هوي شيخه الذي أصمه وأعماه. واليمين بالنبي صلي الله عليه وسلم عند الإمام أحمد وأصحابه منعقدة يلزم الحانث فيها الكفارة، قالوا لأنه صلي الله تعالي عليه وسلم شطر الإيمان، وقد أقسم الله به في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون). [ صفحه 91]

تحقيق الكلام علي قوله تعالي ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي

قال الله تبارك وتعالي: (والذين اتخذوا من دونه أولياء) آلهة، تحقيق لحقية ما ذكر قبله من إخلاص الدين الذي هو عبارة عن التوحيد بيان بطلان الشرك الذي هو عبارة عن ترك إخلاصه، والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع علي الابتداء خبره جملة: (إن الله يحكم بينهم)، والأولياء المعبودون من دونه تعالي: الملائكة وعيسي وعزير والأصنام وغيرها. وقوله تعالي حاكيا عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي)، حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، وزلفي مصدر مؤكد علي غير لفظ المصدر ملاق له في المعني، أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالي بل شابوها بعبادة غير قائلين: ما نعبدهم لشئ من الأشياء إلا ليقربونا إلي الله تقريبا: (إن الله يحكم بينهم) وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وحذف هذا لدلالة الحال عليه (فيما هم فيه يختلفون) من الدين الذي اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك، وادعي كل فريق صحة دينه: (إن الله لا يهدي)، لا يوفق للاهتداء إلي الحق الذي هو طريق النجاة (من هود كاذب كفار)، راسخ في الكذب مبالغ في الكفر والمراد أن من أصر علي الكذب والكفر بقي محروما من الهداية، والمراد بهذا الكذب وصفهم لمعبوداتهم بأنها آلهة مستحقة للعبادة، والعلم الضروري حاصل بأن وصفهم لها بالإلهية كذب محض، وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلي الاعتقاد، وهو هنا كذلك لأن وصفهم لها بالإلهية كذب، واعتقادهم فيها الإلهية جهل وكفر. [ صفحه 92] ويحتمل أن يكون المراد به كفران النعمة، والسبب فيه أن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وذلك المنعم؟ هو الله سبحانه وتعالي وهذه المعبودات لا مدخل لها في الإنعام. فالاشتغال بعبادتها يوجب كفران نعمة المنعم الحق، فقد صرح الضالون بأنهم عبدوها من دون الله وعللوا عبادتهم لها بتعليل فاسد، وهو تقريبها لهم إلي الله أي عللوا فعلهم، وعلة القياس الشرعية أنما هي للحكم، أي بالتحريم أو الحلية مثلا، لا لنفس الفعل، كالحكم بحرمة شرب النبيذ قياسا علي الخمر بجامع الاسكار في كل منهما، وهذا عند علماء الأصول أوضح من الشمس متفق عليه، وإنما يكون تعليل المشركين فعلهم علة شرعية لو قال تعالي مثلا: حرمت عبادة الأصنام لإرادة نفع الجاه منها أو أومأ إلي ذلك أو نبه بمسلك من مسالك العلة عليه، ولم يقل تعالي ذلك ولم يشر إليه بحال، بل أشار تعالي في مواضع كثيرة إلي أن العلة في تحريمها وتكفير فاعلها عدولهم بها عن خالقهم المستحق لها ووضعهم الشئ في غير محله، ومنها قوله تعالي هنا: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)، فقد أخبر تعالي فيها بنفي الهداية عن الراسخ في الكذب المبالغ في الكفر منبها علي فساد تعليلهم ومداومتهم علي عبادة المخلوق بصيغة المبالغة، وابن تيمية صدقهم في تعليلهم الفاسد، فقاس المسلمين المتوسلين بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم عليهم، قال التوسل علي العبادة والمتوسل علي العابد للمخلوق، فأوغل في بيداء القياس الفاسد دفعتين بناهما علي تعليلهم الفاسد، وما بني علي الفاسد فاسد، ولم يصدق المسلمين في قولهم إنهم يحبون خليفة أو عالما أو شيخا لله تعالي، بل كفرهم وحمل عليهم قوله تعالي: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)، في كلامه الذي أبطلته سابقا، محققا مؤيدا رأي أسلافه الحروريين الحاملين للآيات الواردة في الكفار علي المسلمين، معلوم عند كل عاقل أن التوسل عمل، والعبادة عمل آخر وقد تقدم الكلام عليهما مفصلا موضحا. [ صفحه 93]

ابطال توحيد الألوهية

الوجه الحادي والثلاثون إبطاله زعمه: إن التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية (الحادي والثلاثون) قوله: (وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا فيكن الدين كله لله - إلي آخر الثرثرة)، افتراء علي كتاب الله عز وجل افتراء مكشوفا، فإن الله تبارك وتعالي إنما أمر عباده بالتوحيد أمرا مطلقا ولم يأمرهم (بتوحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية) الذي اخترعه فشاق به رسول الله صلي الله عليه وسلم، واتبع فيه غير سبيل المؤمنين، زيادة علي افترائه علي الله في كتابه العزيز. قال الله تعالي: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) أي وحدوه وقال تعالي: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)، أي وحدوه وقال تعالي: (وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)، وقال تعالي: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)، وقال تعالي: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وأمثالها في كتاب الله كثير، كلها دالة دلالة صريحة علي أن الله تبارك وتعالي أمر عباده بالتوحيد أمرا مطلقا. الوجه الثاني والثلاثون إبطال زعمه عدم كفاية توحيد الربوبية وحده وعدم نفيه الكفر بخمسة أوجه الأول: دل كلامه هذا علي أن التوحيد مجزءا إلي جزئين، ويلزم منه تجزئة الكفر ولا يكفي) باطل بخمسة أوجه: الأول:؟ ل كلامه هذا علي أن التوحيد مجز - أ إلي جزئين، ويلزم منه تجزئة الشرك إلي ذلك لأنه زعم سابقا في الموضع الثالث من كلامه فيه، إن بني آدم كلهم قد عرفوا توحيد الربوبية، وجهلوا توحيد الألوهية فيصدق عليهم علي أنهم موحدون [ صفحه 94] وعير موحدين، موحدون لأنهم عرفوا نصف التوحيد وأقروا به وهو توحيد الربوبية = علي زعمه =، وغير موحدين لأنهم جهلوا نصف التوحيد وهو توحيد الألوهية = علي زعمه = وعليه فقد ارتكبوا نصف الشرك، فمقتضي عدله تعالي ورحمته لعباده أن يتنصف لهم الثواب والعذاب، فيثابون نصف ثواب الموحدين الخالصين، ويعذبون نصف عذاب المشركين الخالصين. الثاني: دل كلامه في الموضع الثالث الذي أبطلته سابقا علي أن التوحيد مجزء إلي ثلاثة أجزاء: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، قال فيه: (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية، وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية)، وعلي هذا يكون التوحيد مثلثا، ويلزم منه تثليث الشرك، وعليه فمقتضي عدله تعالي ورحمة لعباده تثليث العذاب والثواب لهم فيعذبون ثلثي عذاب المشركين الخالصين، ويثابون ثلث ثواب الموحدين الخالصين، لأنهم ارتكبوا ثلثي الشرك بجهلهم توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأتوا بثلث التوحيد بمعرفتهم توحيد الربوبية. الثالث: تذبذبه في تقسيمه التوحيد في ثلاثة مواضع إلي قسمين، وفي موضع إلي ثلاثة أقسام يدل علي جهله بأصول الدين، فإن قيل ليس هذا تذبذبا وإنما هو تغير في الاجتهاد ظهر له في اجتهاده في تلك المواضع أن التوحيد ينقسم إلي قسمين، وظهر له في ذلك الموضع أنه ينقسم إلي ثلاثة أقسام، قلت: هذا فاسد فإن الاجتهاد إنما يكون في الفروع لا في الأصول. الرابع: يلزم علي كلا التقسيمين أنه لا يوجد في بني آدم عامة وفي المسلمين سلفهم وخلفهم خاصة موحد خالص ولا مشرك خالص إلا من وافقه منهم علي رأيه، فلو استظهر هو والمفتونون به بالثقلين جميعا علي إثبات رأيه هذا عن أي واحد من السلف الذين يلبس بهم لم يتسطيعوا. الخامس: التوحيد لغة: الحكم بأن الشئ واحد، والعلم بأنه واحد واصطلاحا فسره بعض أهل السنة بأنه: إفراد العابد المعبود بالعبادة، أي تخصيصه بها. [ صفحه 95]

التوحيد في كتاب التوحيد

التوحيد في كتاب التوحيد فسره أهل السنة بأنه (نفي التشبيه والتعطيل) قال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب التوحيد فسره أهل السنة بأنه: نفي التشبيه والتعطيل. وقال الإمام أبو القاسم الجنيد: التوحيد: إفراد القديم من المحدث، وقالوا في تفسيره باعتبار العلم المدون أنه: (العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية)، أو (علم يبحث فيه عما يجب اعتقاده في حق الله تعالي وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام وإن لم تذكر براهين ذلك) أو (علم بأحكام الألوهية وإرسال الرسل وصدقهم في جميع أخبارهم وما يتوقف عليه شئ من ذلك خاصا به، وعلم أدلتها بقوة هي مظنة لرد الشبهات وحل الشكوك). فظهر أن التوحيد في جميع هذه التعاريف مصدر، والمصدر معني من المعاني واجد لا يمكن تقسيمه لذاته وإنما يمكن تقسيمه باعتبار متعلقه، كما أن الكفر مصدر لا يمكن تقسيمه لذاته وإنما يقسم باعتبار متعلقه، وأصل الكفر تغطية الشئ تغطية تستهلكه، وشاع في ستر النعمة خاصة، وفي مقابلة الإيمان، والكفر الذي هو بمعني الستر من باب ضرب والذي هو ضد الإيمان من باب نصر، ويتعدي هذا بالباء نحو (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) والكفر الذي هو ضد الشكر يتعدي بنفسه، يقال: كفر نعمة الله، قال بعض أهل العلم: الكفر علي أربعة أنحاء كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقي ربه بواحد من هذه لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فأما كفر الانكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وأما كفر الجحود فإن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وأمية بن أبي الصلت، وأما كفر المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أبي جهل وأضرابه، وأما كفر النفاق فالإقرار باللسان وعدم الاعتقاد بالقلب كالمنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلي الله عليه وسلم. [ صفحه 96]

اقسام الشرك

الشرك ينقسم باعتبار متعلقه إلي ستة أنواع وأشرك بالله كفر فهو مشرك ومشركي والاسم الشرك فيها. والشرك ينقسم أيضا باعتبار متعلقه إلي ستة أنواع: شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين كشرك المجوس، وشرك التبعيض وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصاري، وشرك التقريب وهو عبادة غير الله تعالي ليقربه إلي الله زلفي كشرك متقدمي الجاهلية، وشرك التقليد وهو عبادة غير الله تبعا للغير كشرك متأخري الجاهلية، وشرك الأسباب وهو إسناد التأثير للأسباب العادية كشرك الفلاسفة والطبيعيين ومن تبعهم علي ذلك، وشرك الأغراض وهو العمل لغير الله وهو الرياء فحكم الأربعة الأولي: الكفر بالإجماع، وحكم السادس، والمعصية من غير كفر بالإجماع، وحكم الخامس: التفصيل، فمن اعتقد في الأسباب أنها تؤثر بطبعها فهو كافر بالإجماع، ومن اعتقد أنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها، أو أنها أسباب عادية قد تتخلف عن مسببياتها والمؤثر في الأشياء حقيقة هو الله تبارك وتعالي فهو مسلم. مقالة المحقق المرحوم يوسف الدجوي في التوحيد وقد انتهيت بتوفيق الله من إبطال كثير من كلام ابن تيمية وابن القيم وبعض كلام ابن عبد الوهاب في توحيد الربوبية والألوهية والعبادة وملحقاتهما في هذا الفصل، واختمه بما كتبه العلامة المحقق المرحوم الشيخ (يوسف الدجوي) المتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية قال رحمه الله: توحيد الألوهية - وتوحيد الربوبية جاءتنا رسائل كثيرة يسأل مرسلوها عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ما معناهما وما الذي يترتب عليهما ومن ذا الذي فرق بينهما؟، وما هو البرهان علي صحة ذلك أو بطلانه؟، فنقول وبالله التوفيق: [ صفحه 97] إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره قال: إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة، وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين بدليل قوله تعالي: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله). ثم قالوا: إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد هم عابدون لهم قد كفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء، فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها بل بتركهم توحيد الألوهية بعبادتها، وهذا ينطبق علي زوار القبور المتوسلين بالأولياء المنادين لهم المستغيثين بهم الطالبين منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالي، بل قال محمد بن عبد الوهاب: (إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان، وإن شئت ذكرت لك عبارته المحزنة الجريئة)، فهذا ملخص مذهبهم مع الإيضاح، وفيه عدة دعاوي. فلنعرض لها علي سبيل الاختصار، ولنجعل الكلام في مقامين فنتاحكم إلي العقل ثم نتحاكم إلي النقل، فنقول: قولهم = إن التوحيد ينقسم إلي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، وغير معقول أيضا كما ستعرفه، وما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام إن هناك توحيدين وأنك لا تكون مسلما حتي توحد توحيد الألوهية، ولا أشار إلي ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شئ، ولا معني لهذا التقسيم فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان ربا، ولا معني لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر فهذا مرتب علي ذلك كما قال تعالي: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته). فرتب العبادة علي الربوبية، فإننا إذا لم نعتقد أنه رب ينفع ويضر فلا معني لأن نعبده = كما قلنا = ويقول تعالي: (ألا يسجدوا الله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض)، يشير إلي أنه لا ينبغي السجود إلا لمن ثبت اقتداره التام، ولا معني لأن يسجدوا لغيره. هذا هو المعقول، ويدل عليه القرآن والسنة. [ صفحه 98] أما القرآن فقد قال: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا)، فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلي الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابا. يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب: إنهم موحدون توحيد الربوبية ونيس عندهم إلا رب واحد وإنما أشركوا في توحيد الألوهية، ويقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلي التوحيد: (أأرباب متفر - قون خير أم الله الواحد القهار)، ويقول الله تعالي أيضا: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي)، وأما هم فلم يجعلوه ربا. ومثل ذلك قوله تعالي: (لكنا هو الله ربي)، خطابا لمن أنكر ربوبيته تعالي وانظر إلي قولهم يوم القيامة: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين)، أي في جعلكم أربابا = كما هو ظاهر = وانظر إلي قوله تعالي: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قال وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا)، فهل تري صاحب هذا الكلام موحدا أو معترفا؟. ثم انظر إلي قوله تعالي: (وهم يجادلون في الله)، إلي غير ذلك وهو كثير لا نطيل بذكره، فإذا ليس عند هؤلاء الكفار توحيد الربوبية = كما قال ابن تيمية =، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلي توحيد الربوبية، لأنه ليس هناك شئ يسمي توحيد الربوبية وشئ آخر يسمي توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. (فهل هم أعرف بالتوحيد منه ويجعلونه مخطئا في التعبير بالأرباب دون الآلهة؟)، ويقول الله في أخذ الميثاق: (ألست بربكم قالوا بلي)، فلو كان الاقرار بالربوبية غير كاف وكان متحققا عند المشركين ولكنه لا ينفعهم = كما يقول ابن تيمية =، ما صح أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صح أن يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين)، وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلي ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية حيث إن توحيد الربوبية غير كاف = كما يقول هؤلاء =، إلي آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهولا يخفي عليك، وعلي كل حال فقد اكتفي منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضا. [ صفحه 99] ومن ذلك قوله تعالي (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)، فإنه إله في الأرض ولو لم يكن فيها يعبده كما في آخر الزمان، فإن قالوا إنه معبود فيها أي مستحق للعبادة، قلنا إذا لا فرق بين الإله والرب فإن المستحق للعبادة هو الرب لا غير، ما كانت محاورة فرعون لموسي عليه الصلاة والسلام إلا في الربوبية وقد قال: (أنا ربكم الأعلي) ثم قال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) ولا داعي للتطويل في هذا. وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن إلهه، لأنهم لا يفرقون بين الرب والإله، (فإنهم ليسوا بتيميين ولا متخبطين)، وكان الواجب علي مذهب هؤلاء أن يقولوا لميت: من إلهك لا من ربك؟ أو يسألوه عن هذا وذاك. وأما قوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم إجابة لحكم الوقت مضطرين لذلك بالحجج القاطعات والآيات البينات،، ولعلهم نطقوا بما لا يكاد يستقر في قلوبهم أو يصل إلي نفوسهم، بدليل أنهم يقرنون ذلك القول بما يدل علي كذبهم، وأنهم ينسبون الضر والنفع إل غيره، وبدليل أنهم يجهلون الله تمام الجهل ويقدمون غيره عليه حتي في صغائر الأمور. وإن شئت فانظر إلي قولهم لهود عليه الصلاة والسلام: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء). فكيف يقول ابن تيمية إنهم معتقدون أن الأصنام لا تضر ولا تنفع إلي آخر ما يقول؟. ثم انظر بعد ذلك في زرعهم وأنعامهم: (هذا لله بزعمهم وهذا لشر كائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلي الله وما كان لله فهو يصل إلي شركائهم)، فقدموا شركاءهم علي الله تعالي في أصغر الأمور وأحقرها. [ صفحه 100] وقال تعالي في بيان اعتقادهم في الأصنام: (وما نري معكم شفعاء كم الدين زعمتم أنهم فيكم شركاء)، فذكر أنهم يعتقدون أنهم شركاء فيهم، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم أحد: (اعل هبل)، فأجابه صلي الله عليه وسلم بقوله: (الله أعلي وأجل). فانظر إلي هذا ثم قل لي ماذا تري في ذلك التوحيد الذي ينسبه إليهم ابن تيمية ويقول إنهم فيه مثل المسلمين سواء بسواء وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية؟. وأدل من ذلك كله قوله تعالي: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، إلي غير ذلك مما يطول شرحه. فهل تري لهم توحيدا بعد ذلك يصح أن يقال فيه إنه عقيدة؟. أما التيميون فيقولون بعد هذا كله أنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا علي توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معني هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردوا ما أنزل عليهم واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر وزعموا أن الله صاحبة وولدا وأن الملائكة بنات الله (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون)، ولذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل = في رأي هؤلاء = وإنما قاتلوهم علي عدم توحيد الألوهية = كما يزعمون = وهم بعد ذلك مثل المسلمين سواء بسواء أو المسلمون أكفر منهم في رأي ابن عبد الوهاب. وما علينا من ذلك كله، ولكن نقول لهم بعد هذا علي فرض أن هناك فرقا بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية = كما يزعمون = فالتوسل لا ينافي توحيد الألوهية فإنه ليس من العبادة في شئ لا لغة ولا شرعا ولا عرفا، ولم يقل أحد إن النداء أو التوسل بالصالحين عبادة، ولا أخبرنا الرسول صلي الله تعالي وسلم بذلك، ولو كان عبادة أو شبه عبادة لم يجز بالحي ولا بالميت. [ صفحه 101] ومن المعلوم أن المتوسل لم يطلب إلا من الله تعالي بمنزلة هذا النبي أو الولي، ولا شك في أن لهما منزلة عند الله تعالي في الحياة وبعد الممات. فإن تشبث متشبث بأن الله أقرب إلينا من حبل الوريد فلا يحتاج إلي واسطة، قلنا له: (حفظت شيئا وغابت عنك أشياء...)، فإن رأيك هذا يلزمه ترك الأسباب والوسائط في كل شئ، مع أن العالم مبني علي الحكمة التي وضعت الأسباب والمسببات في كل شئ، ويلزمه عدم الشفاعة يوم القيامة وهي معلومة من الدين بالضرورة، فإنها علي هذا الرأي لا حاجة إليها، إذ لا يحتاج سبحانه وتعالي إلي واسطة فإنه أقرب من الواسطة. ويلزم خطأ عمر بن الخطاب في قوله: (إنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس الخ..)، وعلي الجملة يلزم سد باب الأسباب والمسببات والوسائل والوسائط، وهو خلاف السنة الإلهية التي قام عليها بناء هذه العوالم كلها من أولها إلي آخرها، ولزمهم علي هذا التقدير أن يكونوا داخلين فيما حكموا به علي المسلمين، فإنه لا يمكنهم أن يدعوا الأسباب أو يتركوا الوسائط بل هم أشد الناس تعلقا واعتمادا عليها. ولا يفوتنا أن نقول: إن التفرقة بين الحي والميت في هذا المقام لا معني لها فإن المتوسل لم يطلب شيئا من الميت أصلا، وإنما طلب من الله متوسلا إليه بكرامة هذا الميت عنده أو محبته له أو نحو ذلك، فهل في هذا كله تأليه للميت أو عبادة له، أم هو حق لا مرية فيه، ولكنهم قوم يجازفون ولا يحققون كيف وجواز التوسل بل حسنه معلوم عند جميع المسلمين. وانظر كتب المذاهب الأربعة (حتي مذهب الحنابلة) في آداب زيارته صلي الله عليه وسلم تجدهم قد استحبوا التوسل به إلي الله تعالي، حتي جاء ابن تيمية فخرق الاجماع وصادم المركوز في الفطر مخالفا في ذلك العقل والنقل إه. [ صفحه 102] الفصل الثالث في عدم توقيرهم النبي صلي الله عليه وسلم من لم يعظم محمدا صلي الله تعالي عليه وسلم بما يليق بمقامه فهو كافر التوقير العظيم، وتعظيم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم من الإيمان فمن لم يعظمه صلي الله تعالي عليه وسلم بما يليق بمقامه فهو كافر، ومن رفعه في التعظيم إلي مقام الألوهية فهو كافر، وقد نهانا الله سبحانه في كتابه العزيز عن ندائه صلي الله تعالي عليه وسلم كنداء بعضنا لبعض ولم يخاطبه الله تبارك وتعالي في كتابه العزيز إلا بصيغة الاحترام. وقال تعالي مثنيا عليه: (وإنك لعلي خلق عظيم) و (إنك لتهدي إلي صراط مستقيم)، وقال واصفا له بصفات عالية شريفة: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، وقال مخاطبا لقريش والعرب واصفا له بصفتين من صفاته تبارك وتعالي: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). قد قلدوا في عدم توقيره صلي الله عليه وسلم ابن تيمية في منعه شد الرحال لزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم وقد قلدوا في عدم توقيره صلي الله تعالي عليه وسلم ابن تيمية في منعه زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وشد الرحال إليها وتحريمه قصر الصلاة في سفرها ومنعه التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم، هذا مع كونه ألف في تعظيمه صلي الله تعالي [ صفحه 103] عليه وسلم: (السيف المسلول علي شاتم الرسول) طبع في حيدرآباد قال في أثنائه: (النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ليس كسائر الناس ف الحقوق بل خصوصياته لا تحصي إ ه.). الحكم عن أبويه صلي الله تعالي عليه وسلم بأنهما ماتا ليس من العقائد التي تجب علي المسلم وزادوا عليه إيذاءه صلي الله تعالي عليه وسلم في أبويه وفي الصلاة عليه صلي الله تعالي عليه وسلم وفي الكتب المؤلفة فيها وفي أصحابها وفي المصلين عليه، ومنه تسويده صلي الله عليه وسلم في الصلاة أو في غيرها. وقد اعتقدوا أن كل ما فيه إجلاله صلي الله تعالي عليه وسلم من قول أو فعل فهو شرك وعبادة له من قائله أو فاعله، فسجلوا علي أنفسهم للعالم الإسلامي أنه موتورون منه صلي الله تعالي عليه وسلم، يسوءهم ما فيه توقيرهم، ويسرهم ما فيه انتهاك حرمته صلي الله تعالي عليه وسلم، والحكم علي أبويه صلي الله تعالي عليه وسلم بأنهما ماتا.. ليس من العقائد التي تجب علي المسلم، فلو مات جاهلا مصيرهما لم يسأله الله تعالي عنهما، ولو مات معتقدا نجاتهما وهما في الواقع.. لا يؤاخذه الله تعالي علي خطأه في هذا الاعتقاد فهو غير خاسر علي كلا الأمرين، ولو مات معتقدا كفرهما وهما في الواقع مسلمان كان خاسرا. وقد قال عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه لأحد أصحاب شوذب الخارجي حين اعترف له بظلم قرابته للناس، فقال له الخارجي لم لا تلعنهم وتتبرأ منهم،: متي عهدك بلعن إبليس والتبري منه، فقال الخارجي لا أذكر بذلك، فقال عمر: إذا كان إبليس شر خلق الله تعالي لم يوجب الله لعنه عليك فلم تلعنه ولم تتبرأ منه، أفألعن وأتبرأ أنا من قرابتي وهم مسلمون. وقد نهي الله تعالي عليه وسلم عن سب الأموات في الحديث الذي أخرجه الأئمة [ صفحه 104] أحمد والبخاري والنسائي عن عائشة رضي الله تعالي عنها أنه صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلي ما قدموا). ونهيه صلي الله عليه وسلم عن سب الأموات وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي عن المغيرة بإسناد حسن أنه صلي الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)، وقد هفا هفوة قبيحة ملا علي القارئ ألف رسالة في.. أبويه صلي الله تعالي عليه وسلم، فلم يكتف التيميون باعتقادهم. أبويه صلي الله تعالي عليه وسلم بل طبعوا هذا الرسالة، كأن رأي ملا علي القارئ الشاذ عن جماعة المسلمين عندهم وحي منزل من عند الله، وكأن إيمان المسلم عندهم لا يتم إلا بطبع هذه الرسالة ولا يتم إلا بالتشنيع والتشهير به صلي الله تعالي عليه وسلم بأن أبويه.. وقد أخبرني المرحوم الشيخ مصطفي الحمامي بأن التيميين لما منعوا كتابه " النهضة الاصلاحية، من دخول مملكتهم لرده علي ملا علي القاري في نسبته عدم نجاتهما إلي الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، دخل علي قاضي قضائهم فقال له لم منعتم كتابي النهضة الاصلاحية وما فيه إلا الاصلاح، فقال له ما مذهبك؟، قال حنفي، فقال هذا ملا علي القاري منكم ألف رسالة في عدم نجاتهما وذكر أن ذلك موجود في الفقه الأكبر لإمامكم، فقال الحمامي: ملا علي القاري ليس بمعصوم من الخطأ وهذه المسألة ليست من عقائد الدين الواجبة علي المسلم وليست موجودة في الفقه الأكبر، ونسبة هذا إلي الإمام أبي حنيفة غير صحيحة، وكأنكم سجلتم علي أنفسكم للعالم الإسلامي بطبعكم رسالة القاري عداوتكم لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال له: ما تقول في: (الرحمن علي العرش استوي)؟، فقال الحمامي: أقول كما قال إمام دار الهجرة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، ولا أزيد علي هذا، فقال له قل استوي بذاته؟، فقال الحمامي إن ثبتت هذه اللفظة عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فأنا أقولها وإن لم تثبت فأنا أضرب بها عرض الحائط. انتهي. [ صفحه 105]

مسالك الحنفا في نجاة والدي المصطفي

قال العلامة السيوطي في رسالته " مسالك الحنفاء في نجاة والدي المصطفي " ما نصبه: وسئل القاضي أبو بكر بن العربي عن رجل قال إن آباء النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في النار، فأجاب بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالي: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)، قال ولا أذي أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار.

كان محمد بن عبدالوهاب ينهي عن الصلاة

وذكر صاحب: (مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام) السيد علوي بن أحمد بن حسن بن السيد العارف بالله عبد الله بن علوي الحداد في كتابه المذكور، ثم السيد أحمد بن زيني دحلان في رسالته: (الدرر السنية في الرد علي الوهابية): إن محمد بن عبد الوهاب كان ينهي عن الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ويتأذي من سماعها وينهي عن الإتيان بها ليلة الجمعة وعن الجهر بها علي المنائر ويؤذي من يفعل ذلك ويعاقبه أشد العقاب حتي أنه قتل رجلا أعمي كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في المنارة بعد الأذان فلم ينته فقتله، ثم قال إن الربابة في بيت الخاطئة (يعني الزانية) أقل إثما ممن ينادي بالصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في المنائر، ويلبس علي أصحابه بأن ذلك كله محافظة علي التوحيد، وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم ويتستر بقوله إن ذلك بدعة وأنه يريد المحافظة علي التوحيد إ ه. قلت: لقد صدق السيدان وبرا فيما نقلاه عنه، فإن مقلديه لا زالوا ينفذون رأيه تاما غير منقوص بإتلاف كتب الصلوات ورمي مؤلفيها بالزندقة والإلحاد وقارئيها [ صفحه 106] بالشرك، وأخبرني ثقة في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف أن صوماليا تلميذا في مدرسة الحديث أنكر الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال له طلبة المغاربة ومدرس هندي فيها يقال له عبد الحق، إن أحاديث كثيرة قد وردت في فضلها فقال إنه لا يعترف بالأحاديث، فقالوا له فما تقول في الآية القرآنية: (إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)؟، فقال لهم: ومن هو هذا النبي.. إن القرآن لم يسمه، صرح هذا الخبيث بتكذيب أحاديث النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والكفر به وبالقرآن الذي أنزل عليه وبمنزله في البلد المقدس في مدرسة يدرس فيها سنة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولم يقتل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أفتي خادم الاستعمار والتيميين صاحب مجلة " المنار " بأن الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بعد الأذان بدعة قبيحة فنتج عن فتواه فتنة بين أهل أرياف مصر وقدم سؤال بذلك للعلامة المحقق المرحوم الشيخ يوسف الدجوي فكتب مقالة نفيسة نشرت في مجلة الأزهر أبطل بها شقاشقه. وفي سنة دخول السعوديين لمكة المكرمة 1343 رأيت عند الاشراق وأنا ذاهب إلي المعلي رحلا من أهل مكة خارجا إلي المسعي من زقاق الميليبارية الضيق قائلا: اللهم صلي وسلم علي سيدنا محمد، وصادفه نزول جماعة من الغطغط إلي الحرم فالتفت إليه رئيسهم حنقا مشيرا إليه بعصاه قائلا: (اذكرون ولا تعبدون)، فبهت الرجل خائفا منهم. وتعريب هاتين الجملتين هكذا: (اذكرونه ولا تعبدونه)، وهذا يدل علي أنه قام في أدمغتهم الفاسدة أن كل من عظم النبي صلي الله عليه وسلم بالصلاة عليه فهو عابد له، فهم منتكهون حرمته صلي الله عليه وسلم تطبيقا لما أسسه لهم شيخهم ابن عبد الوهاب في قوله: (محمد صلي الله تعالي عليه وسلم (طارش) أي أدي الرسالة وذهب فلا حرمة ولا قيمة له، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. ولذلك كره الصلاة عليه صلي الله تعالي عليه وسلم وتأذي من سماعها ونهي عنها [ صفحه 107] وقتل ذلك الصالح المؤذن الضرير لأجلها، وعليه فيذكرونه صلي الله تعالي عليه وسلم بمجرد اسمه بدون شئ يدل علي احترامه حتي يطبقوا علي أنفسهم نهيه تعالي الموجه للمنافقين والجفاة الأجلاف: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا): وهكذا أصحابه الكرام رضوان الله تعالي عليهم يقولون في الواحد منهم: قال فلان بدون صيغة تدل علي احترامه كالترضية لأن كل ما يدل علي تبجيله صلي الله عليه وسلم وتبجيل أصحابه وأئمة دينه وعلماء الإسلام من ألفاظ الاحترام غلو عندهم ينافي التوحيد، ولا يكون غلوا ولا منافيا للتوحيد إذا كان في ابن تيمية وابن عبد الوهاب فيقولون في كل منهما قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه تأليها لرأيهما. قال لي شريف فاسي: كنت أجلس عند مقام إبراهيم وكان يجلس بجانبي سعود العرافة من أعيانهم، وكان إذا جاء ووجدني قبله يصافحني ببشاشة واعتناء، وكان لي ورد من الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أقرؤه كل يوم، فلما تحقق أني أصلي علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال لي كالمنكر: لم لا تقرأ القرآن؟، فقلت: إني أقرؤه في وقت غير هذا، فقال: ما أراك إلا تصلي علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، قال ومن يومئذ صار يقابلني بفتور. وقد فسحوا للكتبيين في السنين الأولي من دخولهم الحجاز بجلب دلائل الخيرات الذي غير مهمش ومنعوا جميع نسخه المهمشة، وفي هذه السنين حظروا عليهم جلبه مطلقا مهمشا أو غير مهمش، وقد جلب منه عبد الصمد فدا أربعمائة نسخة فألزموه بإرجاعها إلي مصر أو يتلفونها فتركها لهم. [ صفحه 108] نشر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلانا حذرت فيه الناس من دلائل الخيرات وفي سنة 1376 نشرت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة إعلانا للجمهور في (البلاد السعودية) حذرتهم فيه من دلائل الخيرات وأنه أشد ضررا علي الأمة من كتب الزندقة والإلحاد وأن مؤلفه يهودي، فلينظر الألباء في هؤلاء الذين ورطهم الجهل المكعب في خمس مصائب: الأولي: منعهم كتابا مشتملا علي الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وعلي بعض الآيات بدن استناد إلي برهان يسوغ لهم ذلك وينقذهم من إيذاء رسول صلي الله تعالي عليه وسلم وعداوته. الثانية: إعلانهم علي صفحات الجرائد أن دلائل الخيرات ككتب الزنادقة مفسد لعقائد المسلمين بدون استناد إلي براهين تسوغ لهم هذا الاعلان وكان الواجب عليهم أن لا يفتانوا علي الأمة الإسلامية التي تلقته بالقبول شرقا وغربا منذ خمسمائة عام ونيف بل يبينون لها إن كان عندهم علم ما فيه من الافساد المزعوم، ولكن حيث كانوا منفذين خطة إمامهم ابن عبد الوهاب فيه جازمين بأنهم هم الأمة الإسلامية وحدهم والإسلام ممثل فيهم مستندين إلي ما قاله لهم: (إن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة)، فلا قدر ولا قيمة لها = علي رأيه = ما دامت غير مؤلهة له معهم. الثالثة: لم يكتفوا في أذاه صلي الله تعالي عليه وسلم بمنع الكتبية من جلبه. الرابعة: لم يكتفوا في أذاه صلي الله تعالي عليه وسلم بأن سبب منعهم له ما فيه من التوسل بالأنبياء والصالحين، والتوسل بهم = في رأي إمامهم = الحراني شرك، بل ترقوا إلي أنه ككتب الزنادقة مفسد لعقائد المسلمين، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الخامسة: لم يكتفوا بالطعن في مؤلفه علي قاعدة أهل الرواية المبرزين في النقد (لو كان من أهلها)، بأنه مثلا غير ثقة في نقله أو أنه ذكر في أوله أحاديث موضوعة [ صفحه 109]

في فضيلة الصلاة علي النبي

في فضل الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، بل طفروا إلي الطعن في دينه ونسبه بأنه كافر يهودي، ما أشد جهلهم وغلظتهم والجفاء والغلظة في الفدادين من حيث يطلع قرن الشيطان، وليوازنوا بين كتاب فيه صيغ كثيرة من الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم التي حث الله عليها في كتابه العزيز منوها بقدر نبيه عنده مؤكدا مبتدئا بذاته الشريفة مثنيا بملائكته الكرام مناديا عباده المؤمنين آمرا لهم بها أمرا مطلقا، وبين رأي الحراني المتبع غير سبيل المؤمنين المجيزين التوسل بالأنبياء والصالحين ولا ريب أن كل من رزق فهما صحيحا وعقلا سليما لا يختار أن يكون في كفة الحراني النابذ لكتاب الله المشاقق لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم الخارق لإجماع الأمة الإسلامية، بل يختار أن يكون في كفة الأمة الإسلامية ويحكم علي دلائل الخيرات بأنه من أجل وأجمع الكتب المؤلفة في الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، ويحكم علي صاحبه في الجملة بأنه من علماء المسلمين العاملين ويترحم عليه ولا يذكره إلا بخير محسنا ظنه به، وتحسين الظن بالمسلم واجب له علي أخيه المسلم، ممتثلا أمره صلي الله تعالي عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) مجتنبا نهيه صلي الله تعالي عليه وسلم عن تتبع عثرات المسلمين. فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالي في مسنده عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإن من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته)، مجتنبا أيضا تكفير أهل القبلة، عالما أن تكفيرهم شنشنة الخوارج. نهيه صلي الله عليه وسلم عن تتبع عثرات المسلمين فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)، مجتنبا أيضا الطعن في أنساب الناس، فقد أخرج الإمامان أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اثنتان [ صفحه 110] في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة علي الميت) صحيح. وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة) حسن. وأخرج الإمام البخاري في التاريخ والطبراني عن جنادة بن مالك رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (ثلاث من فعل أهل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب، وطعن في النسب، والنياحة علي الميت). وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاث من الكفر بالله شق الجيب والنياحة والطعن في النسب). ترجمة العلامة محمد بن سليمان الجزولي صاحب " دلائل الخيرات " فإن تاق الأحوذي إلي معرفة مؤلف دلائل الخيرات، فإنه الفقيه العلامة الصالح محمد بن سليمان المغربي الجزولي السملالي الشريف الحسني كان فقيها، يحفظ مختصر ابن الحاجب الفرعي. وألف في التصوف وجمع كتابه دلائل الخيرات بمدينة فاس، وبها لقيه العلامة الشهير أحمد زروق البرنسي، انقطع رحمه الله تعالي للعبادة بساحل المغرب أربعة عشر سنة، ورده نهارا أربعة عشر ألف بسملة وختمتين من دلائل الخيرات وليلا ختمة منه وربع القرآن، ثم خرج للانتفاع به وظهرت له كرامات، وتوفي سادس ربيع الأول عام سبعين وثمانمائة ثم بعد سبع وسبعين سنة من موته نقل من سوس إلي مراكش فدفن بها وقد وجدوه لما أخرجوه من قبره بسوس كهيئته يوم دفن لم يتغير منه شئ، وهو مترجم في ذيل ديباج ابن فرحون وغيره. وأكثر صيغ الصلوات التي في دلائله مأثورة عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأصحابه الكرام، فإن وجد في روايات بعضها ضعف، فإن الآية الشريفة الآمرة بها أمرا مطلقا والأحاديث الصحيحة والحسنة الواردة في فضلها تجبره وتقويها، وإقبال [ صفحه 111] المسلمين شرقا وغربا علي قراءته دليل علي إخلاص صاحبه وصلاحه. وقد شرحه العلامة محمد المهدي بن أحمد الفاسي بشرح سماه " مطالع المسرات بجلاء دلائل الخيرات " مطبوع في مجلد " وحيث تحقق عن محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في دلائل الخيرات أنه من أنكر المنكرات التي يجب عليهم إزالتها فإنهم إذا وجدوه عند أحد في المساجد أو في غيرها قاموا بتنفيذ خطة شيخهم فيه، وإذا وجدوه عند مسلم في حرم الله أخذوه منه قهرا بعد إشباعه شتما ببضاعة الشرك، ويعتقدون أنهم بهذا العمل مجاهدون مأجورون كأنهم فتحوا مدينة من مدائن الكفار، ولا ينكرون كتب الالحاد والزندقة الطاعنة في صميم الدين الإسلامي وفي رجاله، ولا المجلات المملوءة بالصور القبيحة المفسدة لأخلاق المسلمين تباع علنا في المكاتب. يسوء التيميين من يسود النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في الصلاة يسوء التيميين من يسود النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في صلاة أو في غيرها ويرون ذلك منكرا عظيما لما سنه لهم ابن عبد الوهاب من النهي عن قول سيدنا ومولانا لمخلوق ولو نبيا، ولا يسوءهم ولا ينكرون ألفاظ الغلو والتعظيم تكال بمرأي منهم ومسمع للأمراء في الجرائد وفي غيرها بل لا ينكرون الصحف المملوءة بألفاظ التعظيم والسيادة للأجانب وللتجار ولمن هب ودب. وقد كان اللازم عليهم علي ما سنه لهم شيخهم الانكار علي الله تبارك وتعالي حيث قال: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) ولكنهم يقرأونه ولا يجاوز.. نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وقد كان اللازم عليهم علي ما سنه لهم شيخهم الانكار علي الله تعالي حيث قال في يحيي بن زكريا عليهما الصلاة والسلام (وسيدا وحصورا)، بل الانكار عليه تبارك وتعالي حيث أثبت السيادة لكافر به (وألفيا سيدها لدي الباب)، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. [ صفحه 112] لم يعرفوا من السنة سوي قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (السيد الله)، وجهلوا جهلا مكعبا قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وقوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وقوله: (إن ابني هذا سيد)، وقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وقوله: (هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين) يعني أبا بكر وعمر رضي الله تعالي عنهما، وقوله: (قوموا لسيدكم)، وقوله: (من سيدكم يا بني سلمة)، وإقراره صلي الله تعالي عليه وسلم للأعرابي في قوله: يا سيد الرسل وديان العرب++ أشكو إليك ذربة من الذرب وقول الفاروق رضي الله تعالي عنه (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا). وجهلوا أيضا قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت الخ..)، وجهلوا قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (سيد الأيام يوم الجمعة فيه خلق آدم الحديث)، وقوله: (سيد الشهور شهر رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة). ترجيح المحققين من العلماء سلوك الأدب علي امتثال الأمر وترجيح كثير من العلماء المحققين سلوك الأدب علي امتثال الأمر أخذا من قوله صلي الله تعالي عليه وسلم في الصحيح: (ما منعك يا أبا بكر أن تثبت إذ أمرتك؟)، فقال رضي الله عنه ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، يعرفه كل من له إلمام بالعلم. ومعلوم لدي كل لبيب أنه صلي الله تعالي عليه وسلم سيد المتواضعين فلا يعقل أن يقول لأمته سودني، ولا حجة في قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (قولوا اللهم صل علي محمد) علي منع تسويده صلي الله تعالي عليه [ صفحه 113] وسلم سواء حمل الأمر فيه علي الوجوب = كما قال العلماء = تجب الصلاة عليه صلي الله تعالي عليه وسلم في العمر مرة واحدة وكما قال الإمام الشافعي وجماعة تجب عليه في تشهد الصلاة، أم حمل علي الاستحباب لأن الصلاة عليه شئ وكونها بلا تسويد أو به شئ آخر. فمن امتثل ظاهر الأمر وصلي عليه صلي الله عليه وسلم فقد أحسن، ومن سلك مسلك الأدب كالصديق الأكبر فسوده فقد أحسن. وما نسب إليه صلي الله تعالي عليه وسلم من أنه قال: (لا تسودوني في الصلاة)، قال العلماء باطل لا أصل له مفتري عليه صلي الله تعالي عليه وسلم. يسوء التيميين جدا قراءة الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلي الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات وقراءة شمائله الكريمة تعظيما لقدره صلي الله تعالي عليه وسلم يسوء التيميين جدا اجتماع الناس علي سماع قراءة ما تيسر من القرآن وقراءة الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات، وقراءة شمائله الكريمة، تعظيما لقدره صلي الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف، ثم مد طعام لها يأكلون وينصرفون، يرون هذا العمل منكرا عظيما تجب عليهم إزالته باليد، فإذا سمعوا بانسان عمل مولدا كبسوه ككبسهم المجتمعين علي الفسق وشرب الخمر، وعمل المولد علي الكيفية المذكورة وإن حدث بعد السلف الصالح فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا لإجماع المسلمين، فلا يقول من له مسكة من عقل ودين بأنه مذموم فضلا عن كونه منكرا عظيما، وكون السلف الصالح لم يفعلوه صحيح، ولكنه ليس بدليل، وإنما هو عدم دليل، ويستقيم الدليل علي كونه ممنوعا أو منكرا لو نهي الله تعالي عنه في كتابه العزيز، أو نهي عنه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم في سنته الصحيحة، ولم ينه عنه فيهما. [ صفحه 114]

التيميون يتيهون دائما في بيداء العدم

وهم دائما يتيهون في بيداء العدم الذي سنه لهم شيخهم الحراني، فتمسكهم علي منعه بعدم فعل السلف له ليس بدليل، وإنما هو ذر الرماد في العيون، والحقيقة في كونه عندهم منكرا عظيما هي تعظيمه صلي الله تعالي عليه وسلم، وتعظيمه = في زعمهم = شرك ينافي التوحيد، وقد كذبهم الله تعالي في كتابه العزيز قال تعالي: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)، وقال تعالي: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب)، وكذبهم الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا نظر إلي البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا، عياذا بالله تعالي من فساد الجنان. حسن المقصد في عمل المولد قال العلامة السيوطي: في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد) ما نصه: وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت علي محاسن وضدها، فمن تحري في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها علي أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجي موسي فنحن نصومه شكرا لله تعالي، فيستفاد منه فعل الشكر لله علي ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟، وعلي هذا فينبغي أن يتحري اليوم بعينه حتي يطابق [ صفحه 115]

قصة موسي في يوم عاشوراء

قصة موسي عليه السلام في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلي يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه علي ما يفهم الشكر لله تعالي من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شئ من المدائح النبوية والزهدية المحركة القلوب إلي فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولي إ ه. فتوي الحافظ ابن حجر بجواز عمل المولد وقول ابن حجر: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح، معناه: البدعة اللغوية، أي مستحدث غير خارج عن قواعد الشريعة بدليل قوله بعده: كان بدعة حسنة وإلا فلا، فإن تقسيم البدعة إلي حسنة وسيئة عند المحققين إنما يكون فيها، وأما البدعة الشرعية فلا تقسيم فيها ولا تكون إلا سيئة، واقتران عمل المولد بما يخالف الشرع الشريف يصيره منهيا عنه لغيره لا لذاته بدليل كلام ابن حجر الأخير. أول من أحدث عمل المولد قال السيوطي: وأول من أحدث عمل المولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري يسفح قاسيون. قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما رحمه الله تعالي وأكرم مثواه، قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلدا في المولد النبوي سماه [ صفحه 116]

التنوير في مولد البشير النذير

فأجازه علي ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلي أن مات وهو محاصر للإفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السيرة والسريرة. وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: كان يحضر عنده في الموالد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم، وكان يصرف علي المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة علي أي صفة فكان يصرف علي هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يفتك من الفرنج من كل سنة أساري بمائتي ألف دينار، وكان يصرف علي الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، هذا كله سوي صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم، قالت فعاتبته في ذلك، فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين إ ه. يسوء التيميين جدا اجتماع الناس لقراءة قصة الإسراء والمعراج يسوء التيميين جدا اجتماع الناس لسماع قراءة قصة الإسراء والمعراج ليلة أو يوم سبع وعشرين من رجب، ويرون ذلك منكرا عظيما يجب عليهم إزالته فيكبسون، من علموا أنه عمل ذلك ككبسهم محل الدعارة، وحجتهم في كونه منكرا عظيما كحجتهم في عمل مولده الشريف عدم فعل السلف له، وعدم فعل السلف له ليس بدليل علي كونه مذموما فضلا عن كونه منكرا عظيما، والحقيقة في كونه عندهم منكرا عظيما تعظيمه صلي الله تعالي عليه وسلم بما أكرمه الله تعالي به وشرفه من مخاطبته تعالي له بلا واسطة وما رآه من الآيات الكبري والخوارق العظيمة، وتعظيمه صلي الله تعالي عليه وسلم بما ذكر بدعة تنافي التوحيد = في زعمهم =، وتستقيم حجتهم = علي زعمهم هذا = لو نهي الله في كتابه العزيز عن تعظيم نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم بما ذكر، أو نهي هو [ صفحه 117] صلي الله تعالي عليه وسلم في سنته أمته عن تعظيمه بما ذكر، ولم ينه عنه فيهما، فحجتهم داحضة، وزعمهم فاسد، وقد خص علماء الإسلام قصة الإسراء والمعراج بتآليف كثيرة، كما خصوا قصة مولده بذلك وبعد هذا فما يقول العقلاء في هؤلاء الذين يكرهون سماع سيرة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وشمائله الكريمة في المولد وفي المعراج أشد كراهة وينكلون بمن يقرؤها ويسمعها؟ أهم محبون له صلي الله تعالي عليه وسلم أم كارهون، وقد قال صلي الله تعالي وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)؟، فهل قصة مولده والعروج به إلي الملأ الأعلي إلا جزء من سيرته صلي الله تعالي عليه وسلم؟، وهل سيرته إلا جزء من سنته عليه الصلاة والسلام؟، وهل الصلاة عليه وسماع سيرته ومدحه إلا من محبته والإيمان به صلي الله تعالي عليه وسلم؟، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وحيث تحقق أن ابن تيمية سن لهم انتهاك حرمة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بزعمه أن تعظيم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بشد الرحال لزيارة قبره بدعة، وأن السفر لذلك معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة، وزعمه أيضا أنه صلي الله عليه وسلم لا جاه له فلا يجوز التوسل به فإني ألخص ما في كتاب: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) للإمام المحقق أبي الحسن السبكي الذي رد به علي ابن تيمية فشفي به صدور المؤمنين. ذكر ما في شفاء الأسقام قال رحمه الله تعالي: (الباب الأول) في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا، وذكر فيه خمسة عشر حديثا صريحة فيها وتكلم عليها واحدا واحدا من طريق فن الرواية كلاما جيدا. [ صفحه 118]

الاحاديث الواردة في الزيارة

وقال: إن الأحاديث التي جمعناها في الزيارة بضعة عشر حديثا مما فيه لفظ الزيارة غير ما يستدل به لها من أحاديث أخر، وتضافر الأحاديث يزيدها قوة حتي أن الحسن قد يترقي بذلك إلي درجة الصحيح، والضعيف قسمان: قسم يكون ضعف راويه ناشئا من كونه متهما بالكذب ونحوه، فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا الجنس لا يزيدها قوة، وقسم يكون ضعف راويه ناشئا من ضعف الحفظ مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه عرفنا أنه مما قد حققه ولم يختل فيه ضبطه له هكذا قاله ابن الصلاح وغيره، فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا النوع يزيدها قوة وقد يترقي بذلك إلي درجة الحسن أو الصحيح إ ه. الباب الثاني: أفاض فيه في الأخبار والأحاديث قال رحمه الله تعالي: (الباب الثاني) فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالا علي فضل الزيارة وأن لم يكن فيه لفظ الزيارة، وذكر فيه حديث: (ما من أحد سلم علي إلا رد الله علي روحي حتي أرد عليه السلام) وأسنده عن شيخه الحافظ الدمياطي إلي أبي داود في سننه وتكلم علي رجال أبي داود من طريق فن الرواية كلاما جيدا. ثم قال: وقد اعتمد جماعة من الأئمة علي هذا الحديث في مسألة الزيارة وصدر به أبو بكر البيهقي باب زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وهو اعتماد صحيح واستدلال مستقيم إ ه. ثم قال: قد ذكر ابن قدامة من رواية أحمد ولفظه: (ما من أحد يسلم علي عند قبري)، ثم ذكر أحاديث في الصلاة والسلام عليه، وفي عمله صلي الله تعالي عليه وسلم بمن يسلم عليه. ثم قال: فإن قيل ما معني قوله صلي الله عليه وسلم: (إلا رد الله علي روحي). قلت: فيه جوابان أحدهما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي أن المعني إلا وقد رد الله علي روحي يعني أنه صلي الله تعالي عليه وسلم بعد ما مات ودفن رد الله عليه روحه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده صلي الله تعالي عليه وسلم، والثاني: يحتمل [ صفحه 119] أن يكون ردا معنويا وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلي من هذا العالم فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة علي هذا العالم فيدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه إ ه. قلت: وعن هذا الحديث أجوبة غير هذين ذكر الجميع العلامة الزرقاني في شرحه علي المواهب اللدنية. الباب الثالث: أفاض فيه فيما ورد في السفر إلي زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم صريحا قال: (الباب الثالث) فيما ورد في السفر إلي زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم صريحا وبيان أن ذلك لم يزل قديما وحديثا، وممن روي ذلك عنه من الصحابة بلال ابن أبي رباح مؤذن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ورضي الله عنه سافر من الشام إلي المدينة لزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم، روينا ذلك بإسناد جيد إليه وهو نص في الباب. وممن ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وذكره الحافظ عبد الغني المقدسي في (الكمال) في ترجمة بلال، وممن ذكره أيضا الحافظ أبو الحجاج المزي. ثم قال: وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالي عنه أنه كان يبرد البريد من الشام يقول: سلم لي علي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم. وممن ذكره ابن الجوزي ونقلته من خطه من كتاب (مثير العزم الساكن) قال: وذكره أيضا الإمام أبو بكر بن أبي عاصم النبيل ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في مناسك له لطيفة جرده من الأسانيد ملتزما فيها الثبوت، ثم قال: واختلف السلف رحمهم الله في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة. وممن نص علي هذه المسألة وذكر الخلاف فيها الإمام أحمد رحمه الله تعالي في [ صفحه 120] كتاب المناسك الكبير من تأليفه، وهذه المناسك رواها الحافظ أبو الفضل بن ناصر، ثم قال: وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر الإمام أبو حنيفة كما سنحكيه عنه في الباب الرابع. وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة في باب ذهن أبي بكر وعمر رضي الله تعالي عنهما مع النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: ما أحد من أهل العلم قديما ولا حديثا ممن رسم لنفسه كتابا نسبه إليه من فقهاء المسلمين فرسم كتاب المناسك إلا وهو يأمر كل من قدم المدينة ممن يريد حجا أو عمرة أو لا يريد حجا ولا عمرة، وأراد زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والمقام بالمدينة لفضلها إلا وكل العلماء قد أمروه ورسموه في كتبهم، وعلموه كيف يسلم علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وكيف يسلم علي أبي بكر وعمر رضي الله تعالي عنهما علماء الحجاز قديما وحديثا، وعلماء أهل العراق قديما وحديثا، وعلماء أهل الشام قديما وحديثا، وعلماء أهل خراسان قديما وحديثا، وعلماء أهل اليمن قديما وحديثا، وعلماء أهل مصر قديما وحديثا. وقال قريبا من هذا الكلام أبو عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي في كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي صلي الله تعالي عليه وسلم. ثم قال: وأبو بكر الآجري هذا قديم نوفي في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وكان ثقة صدوقا دينا وله تصانيف كثيرة، وحدث ببغداد قبل سنة ثلاثين ثم توطن مكة وتوفي بها، وإن بطة توقي في المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة بعكبرا من فقهاء الحنابلة، كان إماما فاضلا عالما بالحديث، وفقهه أكثر من الحديث، وصنف التصانيف المفيدة، وهكذا قال غيرهما. ثم قال: وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممن حكينا كلامهم في باب الزيارة يقتضي استحباب السفر لأنهم استحبوا للحاج بعد الفراغ من الحج الزيارة، ومن ضروريها السفر، وحكاية الأعرابي المشهورة التي ذكرها المصنفون في مناسكهم، وفي [ صفحه 121] بعض طرقها أن الأعرابي ركب راحلته وانصرف، وهذا يدل علي أنه كان مسافرا، وقد ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبي، واسمه محمد بن عبيد الله كان من أفصح الناس صاحب أخبار روايات للآداب، حدث عن أبيه وسفيان عيينة توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في (مثير العزم الساكن)، وغيرهما بأسانيدهم إلي العتبي إ ه. الباب الرابع: أفاض في نصوص العلماء

نصوص العلماء علي استحباب زيارة قبر النبي

قال: (الباب الرابع) في نصوص العلماء علي استحباب زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين. قال القاضي عياض رحمه الله تعالي: وزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها. ثم أفاض في نقل استحبابها عن أعيان من العلماء أتباع الأئمة الأربعة، فنقل ذلك عن الشافعية عن القاضي أبي الطيب الطبري، والمحاملي، والحليمي، والماوردي، والروياني، والقاضي حسين، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم قال: ولا حاجة إلي تتبع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه. وعن الحنفية: عن أبي منصور الكرماني في مناسكه، وعبد الله بن محمود في شرح المختار، وأبي الليث السمرقندي في فتاواه، والسروجي في الغاية. وعن الحنابلة: عن أبي الخطاب الكلو اذاني في الهداية، وأبي عبد الله السامري في المستوعب، ونجم الدين بن حمدان في الرعاية الكبري. قال: وعقد ابن الجوزي في: (مثير العزم الساكن إلي أشرف الأماكن) بابا في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم. وذكر فيه حديث ابن عمر وحديث أنس رضي الله تعالي عنهما، وموفق الدين [ صفحه 122] ابن قدامة في المغني. وذكر حديث ابن عمر رضي الله تعالي عنهما من طريق الدارقطني ومن طريق سعيد بن منصور، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالي عنه من طريق أحمد: (ما من أحد يسلم علي عند قبري الخ..) وعن المالكية: عن أبي عمران الفاسي:، والشيخ ابن أبي زيد، وأبي الوليد بن رشد، وابن عطاء الله. أجاب عن حديث أبي داود (لا تجعلوا قبري عيدا) بثلاثة أجوبة ثم قال: فهذه نقول المذاهب الأربعة وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم قال: ولو استوعبنا الآثار وأقاويل العلماء في ذلك لخرجنا إلي حد الطول والملل، ثم ذكر حديث أبي داود: (لا تجعلوا قبري عيدا)، وأجاب عنه بثلاثة أجوبة: (1): يحتمل أن يكون المراد به الحث علي كثرة زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم وأن لا يهمل حتي لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين. (2): ويحتمل أن يكون المراد، لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، وزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم ليس لها يوم بعينه بل أي يوم كان. (3): ويحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يؤتي إلا للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه، والله أعلم بمراد نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم إ ه. [ صفحه 123] الباب الخامس: أفاض فيه في كون الزيارة

الزيارة قربة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس

قال: (الباب الخامس) في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب فقوله تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)، دلت الآية علي الحث علي المجئ إلي الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلي الله تعالي عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيما له. فإن قلت: المجئ إليه في حال الحياة ليستغفر لهم وبعد الموت ليس كذلك. قلت: دلت الآية علي تعليق وجدانهم الله تعالي توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ واستغفارهم واستغفار الرسول. فأما استغفار الرسول فإنه حاصل لجميع المؤمنين لأن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لقوله تعالي: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة، وهو استغفار الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم لكل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، بل هي مجملة، والمعني يقتضي بالنسبة إلي استغفار الرسول أنه سواء أتقدم أم تأخر، فإن المقصود إدخالهم لمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وإنما يحتاج إلي المعني المذكور إذا جعلنا: (واستغفر لهم الرسول) معطوفا علي: (فاستغفروا الله)، أما إن جعلناه معطوفا علي: (جاؤوك) لم يحتج إليه، هذا كله إن سلمنا أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لا يستغفر بعد الموت، ونحن [ صفحه 124] لا نسلم ذلك لما سنذكره من حياته صلي الله تعالي عليه وسلم واستغفاره لأمته بعد موته، وإذا أنكر استغفاره، وقد علم كمال رحمته وشفقته علي أمته فيعلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه تعالي، فقد ثبت علي كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجئ إليه صلي الله تعالي عليه وسلم مستغفرا في حياته وبعد مماته، والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة لحياة فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء منها العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتي قبره صلي الله تعالي عليه وسلم أن يتلوها ويستغفر الله تعالي، وحكاية العتبي في ذلك مشهورة وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب والمؤرخون، وكلهم استحسنوا ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله. وأما السنة: فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث، وهي أدلة علي زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقال صلي الله تعالي عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، وقال صلي الله تعالي عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)، وقال الحافظ أبو موسي الأصبهاني في كتابه: (آداب زيارة القبور)، ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة وأنس وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وأبي بن كعب وأبي ذر رضي الله تعالي عنهم إ ه. فقبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها. وأما الاجماع: فقد حكاه القاضي عياض في أول الباب الرابع، فزيارته صلي الله تعالي عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص لأن زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم تعظيم، وتعظيمه صلي الله تعالي عليه وسلم واجب، ثم ذكر أنه لا فرق في زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم بين الرجال والنساء، وأما سائر القبور، فالإجماع علي استحباب زيارتها الرجال وأفاض في تفصيل زيارتها للنساء. [ صفحه 125] وأما القياس: فعلي زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم البقيع وشهداء أحد، وإذا استحب زيارة قبر غيره صلي الله تعالي عليه وسلم فقبره أولي لما له من الحق ووجوب التعظيم، فإن قلت: الفرق أن غيره يزار للاستغفار له لاحتياجه إلي ذلك = كما فعل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في زيارته أهل البقيع =، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم مستغن عن ذلك. قلت: زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم إنما هي لتعظيمه والتبرك به ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه، كما أنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له صلي الله تعالي عليه وسلم بغير سؤالنا، ولكن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أرشدنا إلي ذلك لنكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله علي ذلك. (فإن قلت): الفرق أيضا إن غيره لا يخشي فيه محذور، وقبره صلي الله تعالي عليه وسلم يخشي من الافراط في تعظيمه أن يعبد. (قلت): هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية، وكيف نقدم علي تخصيص قوله صلي الله تعالي عليه وسلم (زوروا القبور)، وعلي ترك قوله (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وعلي مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجدا، وكون الصاحبة احترزوا عن ذلك للمعني المذكور لأن ذلك قد ورد النهي فيه. وليس لنا نحن أن نشرع أحكاما من قبلنا، (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). فمن منع زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيرا من السنن بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف علي وجوب تعظيم النبي صلي الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك. [ صفحه 126] ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلي وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك، امتلأ قلبه إيمانا، واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف أن يصغي إليه، والله تعالي هو الحافظ لدينه، ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له. وعلماء المسلمين مكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله تعالي، ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئا من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعما بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب علي الله تعالي، وضيع ما أمر به في حق رسله، كما أفرط وجاوز الحد إلي جانب الربوبية فقد كذب علي رسل الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالي، والعدل حفظ ما أمر الله في الجانبين، وليس في زيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلي محذور إ ه. وقسم زيارة القبور إلي أربعة أقسام، ثم قال إذا عرف هذا فزيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ثبت فيها هذه المعاني الأربعة، وأفاض في شرح المعاني الأربعة. وقال: والآثار في انتفاع الموتي بزيارة الأحياء وما يصل إليهم منهم وإدراكهم لذلك لا يحصر، ثم أطنب في نقل الآثار وأقوال العلماء في استحباب زيارة القبور وقال: إن من نذر زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يلزمه الوفاء به عند الشافعية والمالكية، وأفاض في النذر. الباب السادس، أفاض فيه في كون السفر إليها قربة قال: (الباب السادس) في كون السفر إليها قربة وذلك من وجوه: (1): الكتاب العزيز وذكر الآية الشريفة (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الخ) وقال: والمجئ صادق علي المجئ من قرب وبعد بسفر وبغير سفر، ولا يقال إن [ صفحه 127] (جاؤوك) مطلق والمطلق لا دلالة له علي كل فرد وإن كان صالحا لها لأنا نقول هو في سياق الشرط فيعم، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توابا رحيما. (2): السنة من عموم قوله: (من زار قبري) فإنه يشمل القريب والبعيد والزائر عن سفر وعن غير سفر كلهم يدخلون تحت هذا العموم لا سيما قوله في الحديث الذي صححه ابن السكن (من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي) فإن هذا ظاهر في السفر بل تمحيض القصد إليه وتجريده عما سواه، وحالة الموت مرادة منه إما بالعموم وإما أنها هي المقصود. (3): السنة أيضا لنصها علي الزيارة، ولفظ الزيارة يستدعي الانتقال من مكان الزائر إلي مكان المزور كلفظ المجئ الذي نصت عليه الآية الكريمة، فالزيارة إما نفس الانتقال من مكان إلي مكان بقصدها، وإما الحضور عند المزور من مكان آخر، وعلي كل حال لا بد في تحقيق معناه من الانتقال، فالسفر داخل تحت اسم الزيارة، فإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة. وأيضا فقد ثبت خروج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم من المدينة لزيارة القبور، وإذا جاز الخروج إلي القريب جاز إلي البعيد، وثبت خروجه صلي الله تعالي عليه وسلم لقبور الشهداء، وإذا ثبت مشروعية الانتقال إلي قبر غيره فقبره صلي الله تعالي عليه وسلم أولي. (4): الاجماع لإطباق السلف والخلف فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلي زيارته صلي الله عليه وسلم، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج = هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة كما ذكرناه في الباب الثالث = وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ويبذلون فيه المهج، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها علي ممر السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون [ صفحه 128] ذلك علي وجه التقرب به إلي الله عز وجل، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه علي ووده لو تيسر له، ومن ادعي أن هذا الجمع العظيم مجمعون علي خطأ فهو المخطئ. (فإن قلت) إن هذا لا يسلمه الخصم لجواز أن يكون سفرهم ضم فيه قصد عبادة أخري إلي الزيارة بل هو الظاهر = كما ذكر كثير من المصنفين في المناسك = أنه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرب بالتوجه إلي مسجده صلي الله عليه وسلم والصلاة فيه، والخصم ما أنكر أصل الزيارة إنما أراد أن يبين كيفية الزيارة المستحبة وهي أن يضم إليها قصد المسجد كما قاله غيره. (قلت) أما المنازعة فيما يقصده الناس، فمن أنصف من نفسه وعرف ما الناس عليه علم أنهم إنما يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلي طريق المدينة ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلا ببال قليل منهم، نم مع ذلك وهو مغمور بالنسبة إلي الزيارة في حق هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزيارة، حتي لو لم يكن ربما لم يسافروا، فالمقصود الأعظم في المدينة الزيارة، كما أن المقصود الأعظم في مكة الحج أو العمرة وهو المقصود أو معظم المقصود من التوجه إليها، وإنكار هذا مكابرة، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجه إلي المدينة ما قصد بذلك؟. (5): إن وسيلة القربة قربة، فإن قواعد الشرع كلها تشهد بأن الوسائل معتبرة بالمقاصد إ ه. ثم أفاض في هذا الوجه بأحاديث كثيرة وآيتين كلها دالة علي أو وسيلة القربة قربة، ثم قال: (فإن قلت) قد يقول الخصم الزيارة قربة في حق القريب خاصة، أما البعيد الذي يحتاج إلي سفر فلا وحينئذ لا يكون السفر إليها وسيلة إلي قربة في حقه، وإنما تكون الوسيلة قربة إذا كانت يتوصل بها إلي قربة مطلوبة من ذلك الشخص المتوسل (قلت) الزيارة قربة مطلقا في حق القريب والبعيد، فإن الأدلة الدالة عليها غير مفصلة، ومن ادعي تخصيص العام بغير دليل قطعنا بخطئه. (فإن قلت) فالصلاة مطلقا قربة والسفر إليها ليس بقربة إلا إلي المساجد الثلاثة، (قلت) قد يكون الشئ قربة وانضمامه إلي غيره ليس بقربة، فالصلاة في نفسها قربة، وكونها في مسجد بعينه غير الثلاثة ليس بقربة، فالسفر إليه وسيلة إلي ما ليس بقربة. (فإن قلت) لو كانت وسيلة القربة قربة مطلقا لكان النذر قربة لأنه وسيلة إلي [ صفحه 129] إيقاع العبادة واجبة، والواجب أفضل من النفل، والنذر مكروه، لأن النبي صلي الله عليه وسلم نهي عنه وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل)، (قلت) جعل النفل فرضا ليس بقربة بل هو مكروه لما فيه من الخطر والتعرض للإثم بتقدير الترك، ووقوع العبادة ممكن بغير النذر فلم يحصل بالنذر إلا التعرض للخطر والحرج، علي إنا نقول إن وسيلة القربة قربة من حيث هي موصلة لذلك المطلوب، وقد يقترن بها أمر عارض يخرجها عن ذلك كالمشي إلي الصلاة في طريق مغصوب، والمدعي أن الفعل إذا كان مباحا ولم يقترن به إلا قصد القربة به كان قربة، وهذا لا يستثني منه شئ. (فإن قلت) كيف تجزمون بهذا وقد اشتهر خلاف الأصوليين في أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به أولا، ومقتضي ذلك أن يجري خلاف في أن وسيلة المندوب هل هي مندوبة أو لا؟ (قلت) سنبين في آخر الكلام أن كون الفعل قربة أعم من كونه مأمورا به، ثم أفاض في تفصيل (ما لا يتم المأمور به إلا به) وحقق إن الزيارة مأمور بها، والسفر إليها شرط في تحققها، وإن الجمهور علي أن هذا السفر مأمور به واجب لوجوب مقصده في نحو أربع ورقات: الباب السابع: أفاض فيه في دفع شبه ابن تيمية قال: (الباب السابع) في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته وفيه فصلان: (الأول): في شبهه، وله ثلاث شبه - إحداها: توهم قوله صلي الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد) دليلا علي منع السفر للزيارة وليس كما توهمه، ونحن نذكر ألفاظ الحديث ثم نذكر معناه إن شاء الله تعالي، وهذا الحديث متفق علي صحته، وذكر له عدة ألفاظ ثم قال: وإما معناه فاعلم أن هذا الاستثناء مفرغ، تقديره لا تشد الرحال إلي مسجد إلا إلي المساجد الثلاثة، أو لا تشد الرحال إلي مكان إلا إلي المساجد الثلاثة، ولا بد من أحد هذين التقدير ليكون المستثني مندرجا تحت المستثني منه، والتقدير الأول أولي لأنه جنس قريب، ولما سنبينه من قلة التخصيص أو عدمه علي هذا التقدير. [ صفحه 130] ثم اعلم أن السفر فيه أمران: أحدهما غرض باعث عليه كالحج أو طلب العلم أو الجهاد أو زيارة الوالدين أو الهجرة وما أشبه ذلك، والثاني المكان الذي هو نهاية السفر كالسفر إلي مكة أو المدينة أو بيت المقدس أو غيرها من الأماكن لأي غرض كان، ولا شك أن شد الرحال إلي عرفة لقضاء النسك واجب بإجماع المسلمين، وليس من المساجد الثلاثة، وشد الرحال لطلب العلم إلي أي مكان كان جائز بإجماع المسلمين، وقد يكون مستحبا أو واجبا علي الكفاية أو فرض عين، كذلك السفر إلي الجهاد، ومن بلاد الكفر إلي بلاد الإسلام للهجرة وإقامة الدين، وكذلك السفر لزيارة الوالدين وبرهما وزيارة الإخوان والصالحين، وكذلك السفر للتجارة وغيرها من الأغراض المباحة، فإنما معني الحديث أن السفر إلي المساجد مقصور علي الثلاثة علي التقدير الأول الذي اخترناه، أو أن السفر إلي الأماكن مقصور علي الثلاثة علي التقدير الثاني، ثم علي كلا التقديرين إما أن يجعل المساجد أو الأمكنة غاية فقط وعلة السفر أمر آخر، كالاشتغال بالعلم ونحوه من الأمثلة التي ذكرناها فهذا جائز إلي كل مسجد وإلي كل مكان فلا يجوز أن يكون هو المراد. وقد يقال علي بعد: إن خروج تلك المسائل بأدلة علي سبيل التخصيص للعموم فلا يمنع من إرادته في الباقي، وهذا لو قيل به فتقدير المساجد أيضا أولي من تقدير الأمكنة لقلة التخصيص، إذا التخصيص علي تقدير اضمار الأمكنة أكثر فيكون مرجوحا، ثم علي هذا التقدير فالسفر بقصد زيارة النبي صلي تعالي عليه وسلم غايته مسجد المدينة لأنه مجاور للقبر الشريف، فلم يخرج السفر للزيارة عن أن يكون غايته أحد المساجد الثلاثة = وهو المراد علي هذا التقدير =، وإما أن يجعل المساجد أو الأمكنة علة فقط، ويكون قد عبر بإلي عن اللام أو غاية وعلة من باب تخصيص العام بأحد حاليه، لأن غاية السفر قد يكون هو العلة وقد لا يكون، فيكون المراد النوع الأول وهو ما يكون علة مع كونه غاية، ومعني كونه علة أنه يسافر لتعظيمها أو للتبرك بالحلول فيها أو بأن يوقع فيها عبادة من العبادات التي يمكنه إيقاعها في غيرها من حيث إن إيقاعها فيها أفضل من إيقاعها في غيرها، وكل ذلك إنما ينشأ من اعتقاد فضل في البقعة زائد علي غيرها، فنهي عن ذلك إلا في المساجد الثلاثة، وهذا هو المراد. وغيرها من الأماكن [ صفحه 131] والمساجد لا يؤتي إلا لغرض خاص لا يوجد في غيره كالثغر للرباط الذي لا يوجد في غيره. وعلي هذا التقدير أيضا المسافر لزيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يدخل في الحديث، لأنه لم يسافر لتعظيم البقعة وإنما سافر لزيارة من فيها كما لو كان حيا وسافر إليه فيها أو في غيرها فإنه لا يدخل في هذا العموم قطعا. وملخص ما قلناه علي طوله: إن النهي عن السفر مشروط بأمرين: (أحدهما) أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة، (والثاني) أن يكون علته تعظيم البقعة، والسفر لزيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم غايته أحد المساجد الثلاثة، وعلته تعظيم ساكن البقعة لا البقعة فكيف يقال بالنهي عنه؟ بل أقول: إن للسفر المطلوب سببين: (أحدهما) ما يكون غايته أحد المساجد الثلاثة، (والثاني) ما يكون لعبادة وإن كان إلي غيرها، والسفر لزيارة المصطفي صلي الله تعالي عليه وسلم اجتمع فيه الأمران فهو في الدرجة العليا من الطلب، ودونه ما وجد فيه أحد الأمرين، وإن كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة لا بد في كونه قربة من قصد صالح، وأما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان فهو الذي ورد فيه الحديث. ولهذا جاء عن بعض التابعين أنه قال: قلت لابن عمر إني أريد أن آتي الطور قال: إنما تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم والمسجد الأقصي ودع الطور فلا تأته. وفي مثل هذا تكلم الفقهاء في شد الرحال إلي غير المساجد الثلاثة إ ه. وأفاض في أقوال العلماء في شد الرحال إلي غير المساجد الثلاثة في نحو ورقتين، ثم قال (فإن قلت): قد أكثرت من التفرقة بين قصد البقعة وقصد من فيها وسلمت إن قصد البقعة داخل تحت الحديث، والزيارة لا بد فيها من قصد البقعة فإن السلام والدعاء [ صفحه 132] يحصل من بعد كما يحصل من قرب وهو مقصود الزيارة (قلت) قصد البقعة لما اشتملت عليه وليس بمحذور ولا نقول بنفي الفضيلة عنه، وإنما قلنا ذلك في قصد البقعة لعينها أو لتعظيم لم يشهد به الشرع. علي أنا نقول إنه لا يلزم من الزيارة أن يكون لبقعة مدخل في القصد الباعث بل تارة يكون ذلك مقصودا، وتارة يجرد قصد الشخص المزور من غير شعور بما سواه. وقوله إن مقصود الزيارة يحصل من بعد ممنوع فإن الميت يعامل معاملة الحي، فالحضور عنده مقصود، ألا تري أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لما خرج في ليلة عائشة إلي البقيع فقام فأطال ثم رفع يديه ثلاث مرات = الحديث المشهور = وفيه أن عائشة رضي الله عنها سألته فقال: إن جبرئيل أتاني فقال إن ربك عز وجل يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم، قالت فقلت كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي: السلام علي أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله تعالي بكم لاحقون (رواه مسلم). فانظر كيف خرج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي البقيع بأمر الله تعالي يستغفر لأهله ولم يكتف بذلك بالغيبة، وهذا أصل في الإتيان إلي القبور لزيارة أهلها للاستغفار لهم، وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كيف تقول تعني إذا فعلت كفعله وعلمها، وفي ذلك دليل علي أنه يجوز لها وللنساء الإتيان إلي القبور لهذا الغرض لأن سؤالها ذلك كان بعد رجوعهما إلي البيت فلم يكن المقصود منه كيف أقول الآن وإنما معناه كيف أقول مرة أخري، فلو كان لا يجوز لها ذلك لبينه لها وليس هذا المقصود هنا فإنا نذكره إن شاء الله تعالي في موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن الحضور عند القبر لسبب زيارة من فيه والدعاء مطلوب وليس ذلك من باب قصد الأمكنة ولا دل الحديث علي امتناعه ولا قال به أحد من العلماء إ ه. (وبعد هذا) قال المحقق: وقد أحضر إلي بعض الناس صورة فتاوي أربع منسوبة لبعض علماء بغداد في هذا ا؟؟ ن لا أدري هل هي مختلقة من بعض الشياطين [ صفحه 133] الذين لا يحسنون أو هي صادرة ممن هو متسم بسمة العلم وليس من أهله، وليس فيها كلها طائل وكلها خلط وذكر ما لا طائل تحته، والأقرب إنها مختلفة وإن مثلها لا يصدر عن عالم وإنما ذكرتها هنا لتضمنها النقل عن الشيخ أبي محمد والقاضي عياض الذي تعرضت هنا لإفساده. قال المحقق: (تنبيه) قد يتوهم من استدلال الخصم بهذا الحديث أن نزاعه قاصر علي السفر للزيارة دون أصل الزيارة وليس كذلك بل نزاعه في الزيارة أيضا لما سنذكره في الشبهتين الثانية والثالثة وهما كون الزيارة علي هذا الوجه المخصوص بدعة، وكونها من تعظيم غير الله المفضي إلي الشرك، وما كان كذلك كان ممنوعا، وعلي هاتين الشبهتين بني كلامه وأصل الخيال الذي سري إليه منهما لا غير وهو عام في الزيارة والسفر إليها. ولهذا ادعي أن الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كلها موضوعة، واستدل بقوله (لا تتخذوا قبري عيدا)، وبقوله: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وبأن هذا كله محافظة علي التوحيد، وأن أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما سنذكر لك في نص كلامه، وقد رأيت فتيا بخطه ونقلت منها ما أذكره قال فيها ومن خطه نقلت. (فتوي لابن تيمية في منع زيارة القبور) وأما السفر للتعريف عند بعض القبور، فهذا أعظم من ذلك فإن هذا بدعة وشرك فإن أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعا ولا استحبه أحد من العلماء، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمة. (ثم قال): ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين بعد أن فتحوا الشام ولا قبل ذلك يسافرون إلي زيارة قبر الخليل عليه الصلاة والسلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام، ولا زار النبي صلي الله تعالي عليه وسلم شيئا من ذلك ليلة أسري به، والحديث [ صفحه 134] الذي فيه هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسي انزل فصل فيه، كذب لا حقيقة له، وأصحاب رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم الذين سكنوا الشام أو دخلوا إليه ولم يسكنوه مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه وغيره لم يكونوا يزورون شيئا من هذا البقاع والآثار المضافة إلي الأنبياء. (ثم قال) ولم يتخذ الصحابة شيئا من آثاره مسجدا ولا رمزا غير ما بيناه من المساجد، ولم يكونوا يزورون غار حراء ولا غار ثور. (ثم قال) حتي أن قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يثبت عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لفظ بزيارته وإنما صح عنه الصلاة عليه السلام موافقة لقوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). (ثم قال) ولهذا لم يكن علي عهد الصحابة والتابعين مشهد يزار لا علي قبر نبي ولا غير نبي فضلا عن أن يسافر إليه لا بالحجاز ولا بالشام ولا اليمن ولا العراق ولا مصر ولا المشرق. (ثم قال): ولهذا كانت زيارة القبور علي وجهين: زيارة شرعية وزيارة بدعية، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام علي الميت والدعاء له إن كان مؤمنا، وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمنا أم كافرا. (وقال بعد ذلك): فالزيارة لقبر المؤمن نبيا كان أو غير نبي من جنس الصلاة علي جنازته يدعي له كما يدعي إذا صلي علي جنازته، وأما الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصاري مقصودها الاشراك بالميت مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسح بقبره وتقبيله أو السجود له ونحو ذلك فهذا كله لم يأمر الله به ورسوله ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا كان أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا غيره. (ثم قال) ولم يكونوا يقسمون علي الله تعالي بأحد من خلقه لا نبي ولا غيره ولا [ صفحه 135] يسألون ميتا ولا غائبا ولا يستغيثون بميت ولا غائب سواء كان نبيا أو غير نبي بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئا إ ه ما أردت نقله من كلام ابن تيمية رحمه الله من خطه وأنا عارف بخطه.

التبرك بالنبي و الدعاء عند للزائر

(إبطال العلامة المحقق أبي الحسن السبكي لها) قال: وهو يدل علي ما ذكرناه من أن نزاعه في السفر والزيارة جميعا غير أنه كلام مختبط في صدره ما يقتضي منع الزيارة مطلقا وفي آخره ما يقتضي أنها إن كانت للسلام عليه والدعاء له جازت، وإن كانت علي النوع الآخر الذي ذكره لم تجز، وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام: أولها السلام والدعاء له وقد سلم جوازه وأنه شرعي، ويلزمه أن يسلم جواز السفر له، فإن فرق في هذا القسم بين أصل الزيارة وبين السفر محتجا بالحديث المذكور فقد سبق جوابه. والقسم الثاني التبرك به والدعاء عنده للزائر، وهذا القسم يظهر من فحوي كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث ولا دليل له علي ذلك بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه. وإن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتي من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين؟، ومن ادعي أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتي أمرا عظيما نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حط لرتبة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي درجة من سواه من المسلمين، وذلك كفر متيقن فإن من حط رتبة النبي صلي الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر. (فإن قال) إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له، (قلت) هذا جهل وسوء أدب وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك، ونحن نقطع بأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب في ذلك من كان في قلبه شئ من الإيمان. [ صفحه 136]

من قصد بالزيارة الاشراك بالله تعالي

وأما القسم الثالث وهو أن يقصد بالزيارة الاشراك بالله تعالي فنعوذ بالله منها وممن يفعلها ونحن لا نعتقد في أحد من المسلمين إن شاء الله تعالي ذلك، وقد قال صلي الله تعالي عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، ودعاؤه صلي الله تعالي عليه وسلم مستجاب، وقد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب، فهذا شئ لا نعتقده في أحد ممن يقصد زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وأما التمسح بالقبر وتقبيله والسجود عليه ونحو ذلك فإنما يفعله بعض الجهال ومن فعل ذلك ينكر عليه فعله ذلك وبعلم آداب الزيارة ولا ينكر عليه أصل الزيارة ولا السفر إليها، بل هو مع ما صدر منه من الجهل محمود علي زيارته وسفره، مذموم علي جهله وبدعته، وأما طلب الحوائج عند قبره صلي الله تعالي عليه وسلم فسنذكره في باب الاستغاثة بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم. ولنتكلم علي الشبهة الثانية والثالثة اللتين بني ابن تيمية كلامه عليهما، أما الشبهة الثانية وهي كون هذا ليس مشروعا وإنه من البدع التي لم يستحبها أحد من العلماء لا من الصحابة ولا من التابعين ومن بعدهم فقد قدمنا سفر بلال من الشام إلي المدينة لقصد الزيارة، وإن عمر بن عبد العزيز كان يجهز البريد من الشام إلي المدينة للسلام علي النبي صلي الله عليه وسلم، وإن ابن عمر كان يأتي قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فسلم عليه وعلي أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وكل ذلك يكذب دعوي أن الزيارة والسفر إليها بدعة، ولو طولب ابن تيمية بإثبات هذا النفي العام وإقامة الدليل علي صحته لم يجد إليه سبيلا، فكيف يحل لذي علم أن يقدم علي هذا الأمر العظيم بمثل هذه الظنون التي مستنده فيها إنه لم يبلغه وينكر به ما أطبق عليه جميع المسلمين شرقا وغربا في سائر الأعصار مما هو محسوس خلفا عن خلف ويجعله من البدع. فإن قال إن الذي كان يفعله السلف من النوع الأول وهو السلام والدعاء له دون النوع الثاني والثالث، قلنا أما الثالث فلا استرواح إليه لأنا نبعد كل مسلم منه وأما النوع الأول والثاني فدعوي كون السلف كلهم كانوا مطبقين علي النوع الأول وأنه شرعي، وكون الخلف كلهم مطبقين علي الثاني وأنه بدعة من التخرص الذي لا يقدر علي إثباته فإن المقاصد الباطنة لا يطلع عليها إلا الله تعالي، فمن أين له أن جميع السلف لم يكن أحد منهم يقصد التبرك أو أن جميع الخلف لا يقصدون إلا ذلك؟، ثم أنه قال فيما سنحكيه من كلامه أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، يعني لاعتقاده إنها قربة، وأنه [ صفحه 137] متي كان كذلك كان حراما، ولا شك أن بلالا وغيره من السلف وإن سلمنا أنهم ما قصدوا إلا السلام فإنهم يعتقدون ذلك قربة. فلو شعر ابن تيمية أن بلالا وغيره من السلف فعل ذلك لم ينطق بما قال ولكنه قام عنده خيال إن هذه الزيارة فيها نوع من الشرك ولم يستحضر أن أحدا فعلها من السلف فقال ما قال وغلط فيما حصل له من الخيال وفي عدم الاستحضار، ودعواه أنه لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمة نحن نطالبه بنقل هذا عن الأئمة، وتحقيق أنه لا نزاع بينهم فيه، وبتقرير كون ذلك عاما في قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وغيره ليحصل مقصوده في هذه المسألة التي تصدينا لها، ومتي لم تحصل هذه الأمور الثالثة لا يحصل مقصوده، وليس إلي حصولها سبيل، ونحن قد نقلنا أن زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم تلزم بالنذر وعلي مقتضاه يلزم السفر إليها أيضا بالنذر علي الضمد مما قال. وأما قوله إن الصحابة لما فتحوا الشام لم يكونوا يسافرون إلي زيارة قبر الخليل وغيره من قبور الأنبياء التي بالشام فلعله لأنه لم يثبت عندهم موضعها فإنه ليس لنا قبر مقطوع به إلا قبره صلي الله تعالي عليه وسلم. وأما قوله ولا زار النبي صلي الله تعالي عليه وسلم شيئا من ذلك ليلة أسري به فلعله لاشتغاله بما هو أهم، وقد تحققنا زيارته صلي الله تعالي وسلم القبور بالمدينة وغيرها في غير تلك الليلة، فليس ترك زيارته في تلك الليلة دليلا علي أن الزيارة ليست بسنة. فالتشاغل بالاستدلال بذلك تشاغل بما لا يجدي، وأما قوله إن الحديث الذي فيه هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيس انزل فصل، كذب لا حقيقة له، فصدق فيما قال. ثم أفاض في طرق هذا الحديث ثم قال: وإنما تكلمنا علي هذا الحديث للتنبيه علي الفائدة فيه، وليس بنا ضرورة إلي إثباته أو نفيه في تحقيق المقصود، ولما سبق أن عدم الزيارة في وقت خاص لا يدل علي عدم الاستحباب، وقوله إن الصحابة لم يكونوا يزورون شيئا من هذه البقاع والآثار، فكلامنا إنما هو في زيارة ساكن البقعة لا في زيارة [ صفحه 138] البقعة وقد تقدم التنبيه علي الفرق بينهما ثم إن هذه شهادة علي نفي يصعب إثباتها وإن كنا مستغنين عن منعها وتسليمها. وقوله حتي أن قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم هذا هو المقصود في هذه المسألة، وقوله له يثبت عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لفظ بزيارته، قد تقدم إبطال هذه الدعوي وتحقيق ثبوت الحديث فيها، وقوله ولهذا لم يكن علي عهد الصحابة والتابعين مشهد يزار علي قبر نبي ولا غير نبي فضلا عن أن يسافر إليه إلي آخر كلامه إن أراد ما يسمي مشهدا، فموضع قبره صلي الله تعالي عليه وسلم لا يسمي مشهدا وكلامنا إنما هو فيه، وإن أراد أنه لم يكن في ذلك الزمان زيارة لقبر نبي من الأنبياء فهذا باطل لما قدمناه، وبقية كلامه وتقسيمه الزيارة إلي شرعية وبدعية سبق الكلام عليه، وفيه اعتراف بمطلق الزيارة ويلزمه الاعتراف بالسفر إليها، ولا يمنع من ذلك كون نوع منها يقترن به من بعض الجهال ما هو منهي عنه، فمن ادعي أن الزيارة من غير انضمام شئ آخر إليها بدعة فقد كذب وجهل، ومن حرمها فقد حرم ما أحله الله تعالي، ومن أطلق التحريم عليها لأن بعض أنواعها محرم أو يقترن به محرم فهو جاهل. وهكذا من امتنع من إطلاق الاستحباب علي الزيارة من حيث هي لوقوع بعض أنواعها من بعض الناس علي وجه التحريم فهو جاهل أيضا فإن الصلاة قد تقع علي وجه منهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة وما أشبه ذلك ولا يمنع ذلك من إطلاق القول بأن الصلاة قربة أو واجبة، فهكذا أيضا الزيارة من حيث هي قربة لقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: زوروا القبور وإن كان بعض أنواعها يقع علي وجه منهي عنه، فيكون ذلك الوجه منها منهيا عنه وحده، والحكم بالابتداع علي هذا النوع لا يضرنا، ونحن نسلمه ونمنع من يفعله، والحكم بالابتداع علي المطلق عين الابتداع. وأما الشبهة الثالثة، وهي إن من أصول الشرك بالله تعالي اتخاذ القبور المساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالي: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)، قالوا: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم وثم صوروا علي صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها، وتخيل ابن تيمية إن منع الزيارة والسفر إليها من باب المحافظة علي التوحيد وإن فعلها مما [ صفحه 139] يؤدي إلي الشرك، وهذا تخيل باطل، لأن اتخاذ القبور مساجد والعكوف عليها وتصوير الصور فيها هو المؤدي إلي الشرك، وهو الممنوع منه، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، كقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، (يحذر ما صنعوا)، وقوله صلي الله تعال عليه وسلم لما أخبر بكنيسة بأرض الحبشة: (وأولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا علي قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله). وأما الزيارة والدعاء والسلام فلا تؤدي إلي ذلك، ولذلك شرعه الله علي لسان رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم لما ثبت من الأحاديث المتقدمة عنه صلي الله تعالي عليه وسلم قولا وفعلا وتواتر واجما الأمة عليه، فلو كانت زيارة القبور من التعظيم المؤدي إلي الشرك كالتصوير ونحوه لم يشرعها الله تعالي في حق أحد من الصالحين، ولا فعلها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والصحابة في حق شهداء أحد والبقيع وغيرهم، وليس لنا أن نحرم إلا ما حرمه الله وإن تخيلنا أنه يفضي إلي محذور، ولا نبيح إلا ما أباحه الله وإن تخيلنا أنه لا يفضي إلي محذور، ولما أباح الزيارة وشرعها وسنها رسوله وحظر اتخاذ القبور مساجد وتصوير الصور عليها، قلنا بإباحة الزيارة، ومشروعيتها وتحريم اتخاذ القبور مساجد والتصوير فمن قاس الزيارة علي التصوير في التحريم كان مخالفا للنص. قياس ابن تيمية زيارة القبور في التحريم علي التصوير فاسد كما أن شخصا لو قال بإباحة اتخاذ القبور مساجد إذا لم يفض إلي الشرك كان مخالفا للنص أيضا، والوسائل التي لا يتحقق بها المقصود ليس لنا أن نجري حكم المقصود عليها إلا بنص من الشارع، فإن هذا من باب سد الذرائع الذي لم يقم عليه دليل، فالمفضي إلي الشرك حرام بلا إشكال، وأما الأمور التي قد تؤدي إليه وقد لا تؤدي فما حرمه الشرع منها كان حراما وما لم يحرمه كان مباحا لعدم استلزامه للمحذور، وهذه الأمور التي نحن فيها من هذا القبيل، حرم الشرع منها اتخاذ القبور مساجد [ صفحه 140]

في وجوب تعظيم النبي

والتصوير والعكوف عليها، وأباح الزيارة والسلام والدعاء، وكل عاقل يعلم الفرق بينهما ويتحقق أن النوع الثاني إذا فعل مع المحافظة علي آداب الشريعة لا يؤدي إلي محذور، وأن القائل بمنع ذلك جملة سدا للذريعة متقول علي الله وعلي رسوله، منتقص ما ثبت لذلك المزور من حق الزيارة. (واعلم) أن ههنا أمرين لا بد منهما (أحدهما) وجوب تعظيم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق، (والثاني) إفراد الربوبية، واعتقاد أن الرب تبارك وتعالي منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه، فمن اعتقد في أحد من الخلق مشاركة الباري تعالي في ذلك فقد أشرك وجني علي جانب الربوبية فيما يجب لها وعلي الرسول فيما أدي إلي الأمة من حقها، ومن قصر بالرسول عن شيء من رتبته فقد جني عليه فيما يجب له وعلي الله تال بمخالفته فيما أوجب لرسوله، ومن بالغ في تعظيم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالباري تعالي فقد أصاب الحق وحافظ علي جانب الربوبية والرسالة جميعا، وذلك هو العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ومن المعلوم أن الزيارة بقصد التبرك والتعظيم لا تنتهي في التعظيم إلي درجة الربوبية، ولا تزيد علي ما نص عليه في القرآن والسنة وفعل الصحابة من تعظيمه في حياته وبعد وفاته، وكيف يتخيل امتناعه إنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا الرجل قد تخيل أن الناس بزيارتهم متعرضون للإشراك بالله تعالي، وبني كلامه كله علي ذلك وكل دليل ورد عليه يصرفه إلي غير هذا الوجه وكل شبهة عرضت له يستعين بها علي ذلك، فهذا داء لا دواء إلا بأن يلهمه الله الحق، أيري هو لما زار قصد ذلك وأشرك مع الله غيره؟. (الفصل الثاني في تتبع كلماته) وقد سبق تتبع ما نقلته من خطه في فتيا لم يسأل فيها عن الزيارة قصدا، بل جاء ذكرها تبعا للكلام في المشاهد والذي اتصل عنه بالدولة فتيا نقلت من خطه: [ صفحه 141] فتيا ابن تيمية التي اتصلت بيد السلطان في منعه زيارة قبر النبي صلي الله وسلم ومنعه شد الرحال إليها بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوي زيارة قبر نبي من الأنبياء مثل نبينا محمد صلي الله عليه وسلم وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي). وقد روي عنه صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلي المسجد الحرام والمسجد الأقصي ومسجدي هذا) أفتونا مأجورين. ج: الحمد لله. أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة علي قولين معروفين: (أحدهما) وهو قول متقدمي العلماء من الذين لا يجوزون القصر في السفر المعصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر لأنه سفر منهي عنه ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه. (والقول الثاني): إنه يقصر فيه وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة رحمه الله تعالي ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسين بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي، وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله: (زوروا القبور)، وقد يحتج بعض من لا يعرف الأحاديث [ صفحه 142]

الاحاديث المروية في زيارة قبر النبي

بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كقوله: (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) - رواه الدارقطني وابن ماجة =. وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له علي الله الجنة)، فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به واحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني، وقد احتج أبو محمد المقدسي علي جواز السفر لزيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وقبور الأنبياء بأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان يزور مسجد قباء، وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال) بأن ذلك محمول علي نفي الاستحباب. وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصي ومسجدي هذا)، وهذا الحديث اتفق الأئمة علي صحته والعمل به، فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة، ولو نذر أن يأتي المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلي الله عليه وسلم أو المسجد الأقصي لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد، ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع، وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله تعالي عنها أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله تعالي فليطعه ومن نذر أن يعصي الله تعالي فلا يعصه)، والسفر إلي المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به، وأما إلي بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتي نص العلماء علي أنه لا يسافر إلي مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل = كما في الحديث الصحيح =: (من تطهر في بيته ثم أتي مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة). قالوا: ولأن السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من [ صفحه 143] الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في (إبانته الصغري) من البدع المخالفة للسنة والإجماع، وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد فإن زيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل وهو يدلهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر، وقوله: أن قوله لا تشد الرحال محمول علي نفي الاستحباب يحتمل وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنها قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من الأمر المقطوع به، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز. وليس من هذا الباب. الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشئ منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول زرت قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة. والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه الأحاديث أبي هريرة أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (ما من رجل يسل علي إلا رد الله علي روحي حتي أرد عليه السلام)، وعلي هذا اعتمد أبو داود في سننه وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف. وفي سنن أبي داود عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري [ صفحه 144] عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم)، وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأي رجلا يختلف إلي قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يدعو عنده، فقال: يا هذا إن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، فما أنت ورجل بالأندلس الاسواء. وفي الصحيحين عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عن قبره ويتخذوه مسجدا فيتخذ قبره وثنا. وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلي زمان الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إلي عنده لا لصلاة هنالك ولا لمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد، وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالي: يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروي عن مالك ومذهبه بخلافها، واتفق الأئمة علي أنه لا يتمسح بقبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا يقبله، وهذا كله محافظة علي التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد = كما قال طائفة من السلف = في قوله تعالي: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)، قالوا هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ثم صوروا علي صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعني البخاري في صحيحه عن ابن عباس، وذكره ابن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسط الكلام علي أصول هذه المسائل في غير هذا، وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي علي القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين [ صفحه 145] يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد، يدعون بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها ما لم ينزل الله به سلطانا فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال الله تعالي: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين). وقال الله تعالي: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة: الآية)، وقال الله تعالي: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، وقال الله تعالي: (ولا تباشر وهن وأنتم عاكفون في المساجد)، وقال الله تعالي: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعي في خرابها الآية). وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) والله سبحانه وتعالي أعلم، كتبه أحمد بن تيمية. قال الإمام المحقق: هذا صورة خطه من أول الجواب إلي هنا. (إبطال العلامة المحقق السبكي لجل هذه الفتوي) قال قلت أما قوله: (من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة علي قولين معروفين)، فيرد عليه فيه أسئلة: (أحدها) أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين إما أن تكون عنده قربة أو مباحة أو معصية، فإن كانت معصية فلا حاجة إلي قوله (مجرد) فإن القولين في سفر المعصية سواء، تجرد قصد المعصية أم انضم إليه قصد آخر، وإن كانت قربة لم يجر فيها القولان بل يقصر بلا خلاف، وإن كانت مباحة فالمسافر لذلك له حالتان إحداهما أن يسافر معتقدا أن ذلك من المباحات المستوية الطرفين فيجوز القصر أيضا بلا خلاف ولا إشكال في ذلك كالسفر لسائر الأمور المباحة، والثانية: أن يسافر معتقدا أن ذلك قربة وطاعة وهذا سيأتي الكلام فيه وعلي تقدير أن يسلم له ما يقول يكون كلامه هنا مطلقا في موضع [ صفحه 146] التفصيل فهو علي التقديرين الأولين خطأ صريح وعلي التقدير الثالث خطأ بالإطلاق في موضع التفصيل. (الثاني) أنه بني كلامه في ذلك علي أن هذا السفر مختلف في تحريمه، وقد قدمنا إنكار هذا الخلاف وأنه لم يتحقق صحته إلا ما وقع في كلام ابن عقيل، وقد قدمنا الكلام عليه وعلي تقدير صحته وعدم تأويله لم يتعرض فيه لقبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا يجوز أن ينقل عنه فيه بخصوصه شئ مع إطباق الناس علي السفر إليه. وابن تيمية نقل المنع من القصر فيه عن ابن بطة وابن عقيل وطوائف كثير بن من العلماء المتقدمين وهو مطلوب بتحقيق هذا النقل وتبيين هؤلاء الطوائف الكثير بن من المتقدمين. (الثالث) جعله المنع من القصر قول متقدمي العلماء كابن بطة وابن عقيل فجعل ابن عقيل من المتقدمين وجعل القول بجواز القصر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالي وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد كالغزالي وغيره والغزالي في طبقة ابن عقيل بل تأخرت وفاته عنه فإن وفاة الغزالي في سنة خمس وخمسمائة ووفاة ابن عقيل في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة فكيف يجعل ابن عقيل من المتقدمين والغزالي من المتأخرين، وليست طبقتهما بخافية عليه فإن كان مراده بجعله ابن عقيل من المتقدمين أن ينفق قوله عند العوام لاختياره إياه، وبجعله الغزالي من المتأخرين أن يضعف قوله عند العوام فليس هذا صنيع أهل العلم.

في حديث من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي

(وقوله) إن (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) = رواه ابن ماجة = ليس كذلك لم أره في سنن ابن ماجة (وقوله): (من حج ولم يزرني فقد جفاني) لم يروه أحد من العلماء ليس بصحيح وقد قدمنا من رواه وإن كان ضعيفا. (وقوله) (لو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة)، ليس بصحيح فإن في مذهب الشافعي وجهين مشهورين فما إذا نذر الاعتكاف في مسجد معين غير المساجد الثلاثة هل يتعين كما تتعين المساجد الثلاثة أولا؟. [ صفحه 147] (قوله) (حتي نص العلماء علي أنه لا يسافر إلي مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة)، ليس كذلك عن العلماء كلهم، فإن المنقول عن الليث بن سعد أنه متي نذر مسجدا لزمه من المساجد الثلاثة وغيرها، والمنقول عن بعض المالكية أنه يجوز إعمال المطي لغير الناذر مطلقا، وحمل علي ذلك إتيان النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مسجد قباء فإنه كان بغير نذر، فهذا المذهبان يرد أن قوله إن العلماء نصوا علي أنه لا يسافر إلي مسجد قباء. (وقوله) (قالوا ولأن السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة)، هذا من البهت الصريح وقد قدمنا من فعل ذلك من الصحابة والتابعين ومن استحبه من علماء المسلمين وأئمتهم فجحد ذلك مباهتة. (ثم قوله) (قالوا): وجعله ذلك علي لسان غيره إن كان مراده التخلص من تبعته عند المخالفة فليس ذلك من دأب العلماء ثم هو مطلوب بنقل هذا القول برمته عن المتقدمين الذين نسبه إليهم أو عن بعضهم، ثم نسبة ذلك إلي غيره لا تخلصه لأنه إنما حكاه حكاية من يرتضيه وينتصر له ويفتي به العوام ويرغيهم علي اعتقاده ولا يفرق العامي الذي يسمع هذه الفتيا بين أن يذكره عن نفسه أو يحكيه عن غيره. (وقوله): وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في إبانته الصغري، قلنا قد ذكرنا عن ابن بطة في الإبانة ما يخالف هذا في حق قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ورأيت من يذكر أن لابن بطة إبانتين وأن الذي نقله ابن تيمية من الصغري والذي نقلناه من الكبري، فإن صح ذلك وصح ما نقله ابن بطة في الصغري فيحمل علي غير قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم توفيقا بين الكلامين، وإن قال ابن بطة خلاف ذلك لم يلتفت إليه، قال المحقق: وحكي الخطيب في " تاريخ بغداد " كلام المحدثين في ابن بطة من جهة دعواه سماع ما لم يسمع، وحكي مع ذلك أيضا أنه كان شيخا صالحا مستجاب الدعوة فالله يسلمنا من إثمه وإنما أردنا أن نبين حاله ليعلم الناظر أنه علي تقدير صحة النقل عنه ليس ممن يبعد في كلامه الخطأ. [ صفحه 148] (وقوله) إن قول أبي محمد المقدسي أن قوله: (لا تشد الرحال) محمول علي نفي الاستحباب: يحتمل وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منه إن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنها قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع، اعلم أن هذا الكلام في غاية الابهام والفساد، أما الايهام فلأن بعض من يراه يتوهم أنه استنتج مما سبق انعقاد الاجماع علي أن ذلك ليس بقربة، ونحن قد قدمنا عن الليث بن سعد وبعض المالكية ما يقتضي أن السفر إلي غير المساجد الثلاثة قربة فبطل دعوي الاجماع، ومقصود ابن تيمية إلزام أبي محمد المقدسي علي قوله إن (لا تشد الرحال) محمول علي نفي الاستحباب، وعلي تقدير إن هذا تسليم منه، إن هذا السفر ليس بعمل صالح، غاية ما يلزم من هذا إن هذا السفر ليس بقربة، وإن من اعتقد أنه قربة فقد خالف أبا محمد وأين ذلك من مخالفة الاجماع، وأما فساده فلأن أبا محمد إنما تكلم في جواز القصر ومقصوده إثبات الإباحة فإنها كافية فيه، فنفي توهم التحريم بحمل الحديث علي نفي الفضيلة أي لا يستحب شد الرحال إلي مكان إلا إلي الثلاثة، ومع هذا لا بد فيه من تأويل لأن السفر مستحب لطلب العلم وغيره إلي غيرها، فالمقصود لا يستحب إليها من حيث هي وقد يكون هناك أمر آخر يقتضي الاستحباب أو الوجوب ولا مانع أن يكون قصد زيارة شخص مخصوص أو أشخاص مما يقتضي الاستحباب ولم يتعرض أبو محمد لذلك لأنه لم يتكلم فيه وإنما تكلم في جواز القصر فاقتصر علي ما يكفي فيه وهو إثبات الإباحة. (وقوله) وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من الأمر المقطوع به، هذا أيضا موهم وفاسد أما إيهامه فلأن كثيرا ممن يسمعه يظن أن هذا كلام مبتدأ ادعي فيه انعقاد الاجماع علي التحريم وأن ذلك مقطوع به، وكأن ابن تيمية أراد ذلك وجعله معطوفا علي إلزام الشيخ أبي محمد حتي إذا حوقق فيه يخلص من دركه بجعله معطوفا، وليس هذا دأب من يبغي الارشاد بل من يبغي الفساد، وأما فساده فلأنا لو سلمنا أن السفر ليس بطاعة بالإجماع فسافر شخص معتقدا أنه طاعة كيف يكون سفره محرما بإجماع المسلمين أو علي قول عالم من علماء المسلمين [ صفحه 149] فإن من فعل مباحا معتقدا أنه قربة لا يأثم ولا يوصف ذلك بكونه محرما بل إن كان اعتقاده ذلك لما ظنه دليلا وليس بدليل، وقد بذل وسعه بذلك كان مثابا عليه بمقتضي ظنه وإلا كان جهلا ولا إثم عليه فيه ولا أجر وفعله موصوف بالإباحة علي حاله، فمن أين يأتي وصفه بالتحريم وإنما يأتي هذا الكلام في المباح إذا فعله علي وجه العبادة مع اعتقاده أنه ليس بعبادة فهذا يأثم به ويكون حراما لأنه تقرب إلي الله تعالي بما ليس بقربة عند الله تعالي ولا في ظنه. ومن هنا نشأ الغلط في هذه المسألة وهكذا سائر البدع، ومن ابتدع عبادة فعليه إثم ابتداعه لأنه أدخل في الدين ما ليس منه وإثم فعله لأنه تقرب بما يعتقد أنه ليس من الدين، وأما من قلده من العوام فإن كان ذلك مما يسوغ فيه التقليد كالفروع وفعله معتقدا أنه عبادة شرعية فلا إثم عليه، وإن كان مما لا يسوغ فيه التقليد كأصول الدين فعليه الإثم ومسألتنا هذه من الفروغ فلو فرضنا أنه لم يقل أحد باستحباب السفر وفعله شخص علي جهة الاستحباب معتقدا ذلك لشبهة عرضت له لم يحرم ولم يأثم فكيف وكل الناس قائلون باستحبابه. (قوله) (ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك) هذا يقتضي إن كلامه ليس في أمر مفروض بل في الواقع الذي عليه الناس وإن الناس كلهم إنما يسافرون لاعتقادهم إنها طاعة والأمر كذلك، ويقتضي = علي زعمه = أن سفر جميعهم محرم بإجماع المسلمين فإنا لله وإنا إليه راجعون، أيكون جميع المسلمين في سائر الأعصار من سائر أقطار الأرض مرتكبين لأمر محرم مجمعين عليه؟. فهذا الكلام من ابن تيمية يقتضي تضليل الناس كلهم القاصدين لزيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ومعصيتهم وهذه عثرة لا تقال ومصيبة عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (وقوله): (وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب)، مفهوم هذا الكلام أن غرض الزيارة ليس بمباح. (وقوله): (الوجه الثاني أن النفي يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم)، ظاهر صدر كلامه أن كلام أبي محمد يحتمل وجهين هذا ثانيهما، وإنما يتجه هذا [ صفحه 150] الوجه الثاني علي سبيل الرد لقول أبي محمد، يعني أن حمله علي نفي الاستحباب خلاف الظاهر لأنه نفي، والنفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وجواب هذا بالدليل المانع من حمله علي التحريم وتعين المصير إلي المجاز، علي أن هذه العبارة فاسدة لأن النفي لا يقتضي النهي وإنما يستعمل فيه علي سبيل المجاز، نعم! قد يقال بأن النهي يقتضي النفي علي العكس مما قال، أما كون النفي يقتضي النهي فلا يقول به أحد وإنما مراده أنه نفي بمعني النهي، وإذا عرف هذا فلأبي محمد أن قول لا شك أن حقيقة النفي خبر لا يقتضي تحريما ولا كراهة، والنهي له معنيان: أحدهما هو فيه حقيقة وهو التحريم والآخر هو فيه مجاز وهو الكراهة، فإذا صرف النفي عن حقيقته الخبرية إلي معني النهي احتمل أن يستعمل في التحريم أو الكراهة وأياما كان فاستعماله فيه مجاز لأن الخبر غير موضوع له، فإن رجح استعماله في التحريم لبعض المرجحات كان ذلك من باب ترجيح بعض المجازات علي بعض، وقد يكون ذلك الترجيح معارضا بترجيح آخر فلأبي محمد أن يمنع كون اللفظ المذكور حقيقة في التحريم أو ظاهرا فيه، فإن الخبر ليس مستعملا في لفظ النهي بل في معناه، ومعناه منقسم إلي الحقيقي والمجازي، فإن قبل النهي النفساني شئ واحد وهو طلب الترك الجازم المانع من النقيض وما سواه ليس بنهي حقيقة فإذا ثبت أن المراد بالخبر النهي ثبت التحريم، قلنا حينئذ يمنع أن المراد بالخبر النهي. (قوله): (إن ما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها)، قد بينا بطلان هذه الدعوي في أول هذا الكتاب، وما روي عن مالك من كراهة قوله: (زرت قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم) بينا مراده في الباب الرابع، (وقد اختار المحقق فيه ما قاله أبو عمران وأبو الوليد بن رشد المالكيان، قالا: إنما كره مالك أن يقال زرنا قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها وزيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم متأكدة ينبغي أن لا تذكر فيه كما تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ومن شاء ترك، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أشرف وأعلي من أن يسمي أنه يزار). (وقوله): (ولو كان هذا اللفظ مشروعا عندهم الخ..) كلام في غير محل [ صفحه 151] النزاع، لأن النزاع ليس في اللفظ ولم يسأل عنه وإنما هو في المعني، وما ذكره عن أحمد وأبي داود ومالك في الموطأ فكله حجة عليه لا له لأن المقصود معني الزيارة وهو حاصل من تلك الآثار. وأما حديث: (لا تتخذوا قبري عيدا) فقد تقدم الكلام عليه، وحديث: (لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، لا يدل علي مدعاه لم نتخذه مسجدا فإن أراد قياس الزيارة عليه فقد سبق الكلام في ذلك، وهو أنه قاس المنصوص عليه المأمور به وهو الزيارة علي اتخاذ القبور مساجد وقياس النص علي النص باطل بإجماع العلماء فهو قياس فاسد. (وقوله): (فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا)، هذا ليس بصحيح وإنما دفنوه في حجرة عائشة لما روي لهم: (أن الأنبياء يدفنون حيث يقبضون) بعد اختلافهم في أين يدفن فلما روي لهم الحديث المذكور دفنوه هناك، وهذا من الأمور المشهورة التي يعرفها كل أحد ولم يقل أحد أنهم دفنوه هناك للغرض الذي ذكره. (قوله): (وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلي زمان الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إلي عنده لا لصلاة هنالك ولا لمسح بالقبر ولا دعاء هناك). فنقول إن هذا لا يدل علي مقصوده ونحن نقول إن من أدب الزيارة ذلك وننهي عن التمسح بالقبر والصلاة عنده، علي أن تلك ليس مما قام الاجماع عليه فقد روي أبو الحسين يحيي بن أبي الحسن بن جعفر بن عبيد الله الحسيني في كتابه " أخبار المدينة "، قال: حدثني عمر بن خالد حدثنا أبو نباتة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: أقبل مروان بن الحكم فإذا رجل ملتزم القبر فأخذ مروان برقبته ثم قال هل تدري ماذا تصنع؟ فأقبل عليه، فقال: نعم إني لم آت الحجر ولم آت اللبن إنما جئت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، لا تبكوا علي الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله، قال المطلب وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قلت وأبو نباتة يونس بن يحيي ومن فوقه ثقات وعمر بن [ صفحه 152] خالد لم أعرفه فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر وإنما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك. (قوله): (وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر)، هذا فيه اعتراف بدعاء السلف عند السلام، وتركهم الدخول إلي الحجرة مبالغة في الأدب، وتركهم استقبال القبر عند الدعاء = إن صح = لا يدل علي إنكار الزيارة ولا علي إنكار السفر لها. (قوله): (وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمة الله تعالي: يستقبل القبلة أيضا)، وهو كذلك ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوي عطفا علي حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالي، وقال السروجي الحنفي يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني عن أصحاب الشافعي وغيره يقف وظهره إلي القبلة ووجهه إلي الحظيرة وهو قول ابن حنبل، واستدلت الحنفية بأن ذلك جمع بين عبادتين، وقول أكثر العلماء استقبال القبلة عند السلام وهو الأحسن والأدب فإن الميت يعامل معاملة الحي والحي يسلم عليه مستقبلا فكذلك الميت، وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه. (وقوله): (وإن أكثر العلماء قالوا يستقبله عند السلام خاصة) التقييد بقوله خاصة يطلب بنقله بل مقتضي كلام أكثر العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة الاستقبال عند السلام والدعاء، ونقله استقبال القبلة في السلام عن أبي حنيفة رحمه الله تعالي ليس في المشهور من كتب الحنفية بل غالب كتبهم ساكنة عن ذلك، وقد قدمنا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالي، أنه قال جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلي القبر، وقال إبراهيم الحربي في مناسكه تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه = يعني القبر = ذكره الآجري عنه في كتاب الشريعة وذكر السلام والدعاء. (قوله): (ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروي عن مالك ومذهبه بخلافها) إنكاره ذلك عن أحد من الأئمة باطل بما قدمته عن أبي عبد الله السامري الحنبلي صاحب كتاب المستوعب في مذهب أحمد أنه قال: يجعل القبر تلقاء وجه القبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره وذكر كيفية [ صفحه 153] السلام والدعاء إلي آخره، وظاهر ذلك أنه يستقبل القبر في السلام والدعاء جميعا. وهكذا أصحابنا وغيرهم إطلاق كلامهم يقتضي أنه لا فرق في استقبال القبر بين حالتي السلام والدعاء، وكذا ما قدمنا الآن عن إبراهيم الحربي وقد صرح أصحابنا بأنه يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع فيسلم علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ثم يتأخر صوب يمينه فيسلم علي أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتأخر أيضا فيسلم علي عمر رضي الله عنه ثم يرجع إلي موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلي ربه سبحانه وتعالي، ويقول حكاية العتبي ثم يتقدم إلي رأس القبر فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالي ويمجده ويدعو لنفسه ولوالديه ومن شاء بماء أحب. وحاصله أن استقبال القبلة في الدعاء حسن واستقبال القبر أيضا حسن، لا سيما حالة الاستشفاع به ومخاطبته، ولا أعتقد أن أحدا من العلماء كره ذلك ومن ادعي ذلك فليثبته، وبعد هذا قال المحقق إن الحكاية التي زعم ابن تيمية أنها مكذوبة علي مالك وأن مذهبه بخلافها، ذكرها القاضي عياض في الشفاء في الباب الثالث في تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره صلي الله تعالي عليه وسلم ولم يعقبها بإنكار ولا قال إن مذهبه بخلافها، بل قال في الباب الرابع في فصل في حكم زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلي القبر لا إلي القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، فهذا نص عن مالك من طريق أجل أصحابه وهو عبد الله بن وهب أحد الأئمة الأعلام صريح في أنه يستقبل عند الدعاء القبر لا القبلة. وذكر القاضي عياض أنه قال في المبسوط لا أي أن يقف عند القبر يدعو ولكن يسلم ويمضي، قلت فالاختلاف بين المبسوط ورواية ابن وهب في كونه يقف للدعاء، أولا وليس في الاستقبال وقد قدمنا عن كثير من كتب المالكية أنه يقف ويدعو ولم نر أحدا منهم قال بأنه إذا وقف عند القبر يستدبره ويدعو فكيف يحل لذي علم أن يدعي أن مذهب مالك بل مذهب جميع العلماء بخلاف الحكاية المذكورة ويجعل ذلك وسيلة [ صفحه 154] إلي تكذيبها وتكذيب ناقليها بمجرد الوهم والخيال من غير دليل إلا مجرد شئ في نفسه، وقد ذكر القاضي عياض إسنادها وهو إسناد جيد، وتكلم المحقق علي رجال إسنادها واحدا واحدا، ثم قال: فانظر إلي هذا الحكاية وثقة رواتها وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك، وحسبك ابن وهب، فقد قيل كان الناس بالمدينة يختلفون في الشئ عن مالك فينتظرون قدوم ابن وهب حتي يسألوه عنه ولنا ههنا طرق: (إحداها) الأخذ برواية ابن وهب فقط. (الثانية) الاعتراف بالروايتين وإن هذا ليس من الاختلاف في حلال وحرام ولا في مكروه فإن استقبال القبلة حسن واستقبال القبر حسن إ ه. قلت: قال الزرقاني في شرح المواهب: إذا سلكنا مسلك الترجيح علي طريقة المحدثين جزمنا بتقديم رواية ابن وهب لاتصالها ومذهب المالكية عليها، علي رواية القاضي إسماعيل في مبسوطه لأنه لم يدرك مالكا فهي منقطعة إ ه. قال المحقق: (الثالثة) لو ثبت له ما زعمه من استقبال القبلة خاصة وعدم استقبال القبر عند الدعاء فأي شئ يلزم من ذلك وهل لهذا مدخل في الزيارة؟، وقد طالعت عدة كتب من كتب المالكية فلم أر فيها عن أحد المنع من استقبال القبر في الدعاء ولا كراهة ذلك ولا أنه خلاف الأولي، والذي ادعي ابن تيمية أنه مذهب مالك ومذهب جميع العلماء في أنه إذا سلم مستقبل القبر وأراد الدعاء استدبر القبر ولأجله رد الحكاية المذكورة عنه لم نقله في شئ من كتب المالكية ولا من كتب غيرهم، وقد قدمت في الباب الرابع من كلام المالكية في الزيارة جملة وبقيت جملة أذكرها ههنا إ ه. ونقل عن أربعة من أعيان المالكية ما ينطبق علي رواية ابن وهب، ابن حبيب، وابن يونس، واللخمي، وابن بشير، ثم ختم المحقق هذا الباب بقوله: ولو ثبت عن مالك وعن غيره أن الأولي استقبال القبلة في الدعاء لا القبر لم يكن في ذلك شئ من منع الزيارة ولا السفر ولا مانعا من تعظيم القبر ومن اعتقد ذلك فقد ضل، وكل ما ذكره بعد ذلك تقدم الجواب عنه وأنه لا يدل علي مقصوده إ ه. قلت والحكاية التي زعم ابن تيمية أنها مكذوبة علي مالك وأن مذهبه بخلافها، هي [ صفحه 155]

في الآية لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي

أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور العباسي ناظر مالكا في مسجد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فقال مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالي أدب قوما فقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية) ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله الآية) وذم قوما فقال: (إن الذين ينادونك الآية)، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي الله تعالي يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله قال الله تعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية) إ ه. قال الزرقاني والحكاية رواها أبو الحسن علي ابن فهر في كتابه " فضائل مالك " ومن طريقه الحافظ أبو الفضل عياض في " الشفاء بإسناد لا بأس به بل قيل إنه صحيح، فمن أين أنها كذب وليس في روايتها كذاب ولا وضاع؟ ولكنه لما ابتدع له مذهبا، وهو عدم تعظيم القبور ما كانت وإنها إنما تزار للاعتبار والترحم بشرط أن لا يشد إليها رحل، صار كل ما خالف ما ابتدعه بفاسد عقله عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها = بزعمه = انتقل إلي دعوي أنه كذب علي من نسب إليه، مباهتة ومجازفة. وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله. وكتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر الشريف مستقبلا له مستدبر القبلة، وممن نص علي ذلك منهم أبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن والعلامة خليل بن إسحاق في مناسكه إ ه. قلت: فاستقبال القبر الشريف في السلام والدعاء متفق عليه بين الأئمة الأربعة وأتباعهم، فقول ابن تيمية: وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله يستقبل القبلة أيضا، الذي سلمه له المحقق بقوله: هو كذلك ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوي عطفا علي حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالي. وقال السروجي الحنفي: يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني وعن أصحاب [ صفحه 156] الشافعي إلي قوله واستدلت الحنفية، باطل من أربعة أوجه: الأول هذا تلبيس وغش فلو كان أمينا علي النقل عن الأئمة وأتباعهم محققا لقال: قال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف أو محمد بن الحسن أو زف في الجامع الكبير مثلا ولكنه أرسل القول عن النعمان بلا زمام وهو غير صحيح عنه. الثاني مذهب الإمام أبي حنيفة وفحول أصحابه كزفر وأبي يوسف، دونه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، ومن كتب هذا استمد جميع أتباعه، وقد قال المحقق السبكي بعد هذا: وذكر النقل في استقبال القبلة عن أبي حنيفة رحمه الله عنه ليس في المشهور من كتب الحنفية بل غالب كتبهم ساكتة عن ذلك. الثالث الكرماني والسروجي تابعان لأبي الليث، قال العلامة ملا علي القاري في " المنسك " المتوسط ما نصه: (ثم اعلم أنه ذكر بعض مشايخنا كأبي الليث ومن تبعه كالكرماني والسروجي أنه يقف الزائر مستقبل القبلة كذا رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالي). الرابع قال المحقق الكمال بن الهمام في فتح القدير: وما عن أبي الليث من أن الزائر يستقبل القبلة مردود بما روي أبو حنيفة رضي الله عنه في مسنده عن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما قال: من السنة أن تأتي قبر النبي صلي الله عليه وسلم من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلي القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول السلام عليك أيها النبي الخ إ ه. قال ملا علي القاري في منسكه المذكور: ويؤيده ما قال المجد اللغوي: روينا عن الإمام ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة، فقلت لأنظرن ما ينصع، فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، وبكي غير متباك فقام مقام فقيه إ ه. وقول المحقق: (واستدلت الحنفية بأن ذلك جمع بين عبادتين)، لعله بعضهم = وهو الكرماني = بدليل ما يأتي وهو استدلال فاسد، إذ كيف يكون استدبار النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في السلام عليه عبادة؟، واستدبار أي إنسان في السلام عليه شنعاء لا يرتكبها أدني الناس مع مثله فكيف بمسلم مع نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم [ صفحه 157] نعوذ بالله تعالي من فساد الجنان ولعل صواب قول المحقق: وقول أكثر العلماء استقبال القبلة عند السلام، استقبال القبر. والخطأ من النساخ، ويدل له ما في الزرقاني علي المواهب اللدنية بعد أن ذكر أن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلا له مستدبرا القبلة فيه وفي السلام، أخذا برواية ابن وهب عن مالك قال: وإلي هذا ذهب الشافعي والجمهور ونقل عن أبي حنيفة. قال ابن الهمام وذكر كلام ابن الهمام السابق ثم قال وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول الكرماني مذهبه خلافه ليس بشئ لأنه حي ومن يأتي الحي إنما يتوجه إليه إ ه. وقول ابن تيمية في فتواه: (ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أو المسجد الأقصي لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان منجسه واجب بالشرع) غير صحيح، فإني لم أر في كتب الحنفية نصا علي أن هذا النذر لا يجب الوفاء به عند النعمان رضي الله عنه بل مقتضي قاعدته التي ذكرها يجب عليه الوفاء به، كالأئمة الثلاثة لأن الصلاة المنذورة في أحد المسجدين جنسها مفروض في الشريعة فكلامه حجة عليه. وقوله: (وقد بسط الكلام علي أصول هذه المسائل في غير هذا)، إحدي تلبيساته التي يرتكز عليها كثيرا لسد الفراغ فلا بسط ولا مكان آخر له غير هذا فلو كان محققا لبسطه وبينه هنا ولم يحله إلي مكان لا يوجد إلا في مخيلته. وقوله: (وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي علي القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد يدعوهن بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها ما لم ينزل الله به سلطانا) تهويش مشتمل علي أربع مسائل: الأولي: قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مشهد من المشاهد. [ صفحه 158] الثانية: أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد الرافضة ونحوهم من أهل البدع. الثالثة: المسلمون المساجد. الرابعة: وعظموا المشاهد، ويمكن إرجاع الأربع إلي اثنتين: الأولي: البناء علي القبور الذي كرر قوله بلفظ المشاهد. والثانية: أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد هم الرافضة ونحوهم من أهل البدع. أما الأولي: وهي كون قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مشهدا من المشاهد فهي ظاهرة من تكريره لفظ المشاهد ولأن نص فتواه في قبره الشريف صلي الله تعالي عليه وسلم، ولأنه مبني عليه فهو عنده كسائر القبور والمشاهد، فإن قيل لم ينشأ علي قبره صلي الله تعالي عليه وسلم بناء بعد دفنه حتي يصدق عليه أنه مشهد من المشاهد، وإنما دفن صلي الله تعالي عليه وسلم في بيته لقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه)، فالجواب عنه من وجهين: الأول: دفنه صلي الله تعالي عليه وسلم في بيته لا يمنع من تسمية ما عليه من البناء مشهدا، ومن كونه مبنيا عليه. الثاني: قد أنشي ء البناء حول قبره وقبري صاحبيه صلي الله تعالي عليه وسلم ورضي عنهما في زمان الوليد بن عبد الملك لما عزم علي توسعة المسجد وعلماء التابعين بالمدينة موجودون، فإن قيل إنما بني الوليد الحجرة علي قبورهم لئلا يصلي من كان بالمسجد خلفها إليها، قلت: هذا لا يمنع من صدق المشهد عليها ولا من صدق البناء علي قبره صلي الله تعالي عليه وسلم من حيث إنه قبر كسائر القبور، ولهذا يصح أن يكون مستندا ودليلا لمن قال من العلماء بجواز البناء علي القبر في الأرض المملوكة للمقبور أو لغيره بإذنه. وأما الثانية: وهي زعمه (أن أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد هم الرافضة ونحوهم من أهم البدع) فهي دعوي باطلة. وأما الثالثة: وهي زعمه أن المسلمين عطلوا المساجد أي من الصلاة وذكر الله فيها فهي بهتان مكشوف سيجاز الله عليه جزاء الأفاكين. [ صفحه 159] وأما الرابعة: وهي زعمه أنهم عظموا المشاهد، أي المبينة علي القبور فهي كذب مكشوف لأن تعظيمهم إنما هو لمن في المشاهد من الأنبياء والصالحين لا لذات المشاهد، وتعظيم من فيها من الأنبياء والصالحين إذا لم يتجاوز مراتبهم التي جعلها الله لهم فهو من الدين، والتعظيم محله القلب ولا يعلم ما فيه من الاعتدال والغلو في تعظيم المعظم إلا الله سبحانه وتعالي. فالمسلمون لا يعظمون قبره صلي الله تعالي عليه وسلم لذاته وإنما يعظمونه لساكنه عليه الصلاة والسلام، ولا يكابر في هذا إلا مطموس البصيرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، ولا شك أن الله تبارك وتعالي قد استجاب دعاءه. (فقوله يدعون بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له) ثرثرة مؤكدة للبهتان الذي لطخ به المسلمين. (وقوله): (ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها إلي قوله فإن الكتاب)، تهجم مكرر علي قلوب المسلمين المعظمين للأنبياء والصالحين وحكم فائل عليهم بالشرك والكذب والابتداع يعامله الله عليه بما يستحقه، وبهذره هذا تمسك مقلدوه تمسك الغريق بالغريق فنبزوا جميع المسلمين الزائرين للقبور ب (القبورية) و (عباد القبور). وحكم ابن عبد الوهاب بكفر أهل كل بلدة فيها قبة علي قبر زاعما أنها صنم يعبد من دون الله كما في أول الفصل الثالث عشر من " مصباح الأنام وجلاء الظلام " للسيد الحداد، هكذا يقف هذا المفتتن به بفهمه ومقلديه في جانب والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم وأمته المرحومة في جانب آخر. فالرسول صلي الله تعالي عليه وسلم أمر بزيارة القبور أمرا مطلقا ولم يقل لا تزوروها إلا للاعتبار = كما زعم هو = ولم يقل لا تزوروها إذا كان عليها مشاهد فإن المشاهد بعظم ويشرك فيها ويكذب فيها إلي آخر هذيانه، ولم يقل كل بلدة فيها قبة علي قبر فأهلها مشركون كفار، فإن كان بناء المشاهد علي القبور شركا وعبادة لها أو لمن فيها وزائر وتلك القبور المبني عليها مشركون عبدة لها، وعلم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم هذا كله ولم يبينه لأمته بيانا شافيا وهو المبين للناس ما نزل إليهم، فقد كتم وحي الله، [ صفحه 160] ونسبة كتم الوحي إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كفر، وإن جهل النبي صلي الله عليه وسلم هذا كله وعلمه ابن تيمية ومقلدوه فهذه مصيبة لا يعتقدها ولا يتفوه بها من له مسكة من عقل ودين، فيلزم من كلامه هذا وكلام مقلده ابن عبد الوهاب الوقوع في إحدي المصيبتين لا محالة ; إما تجهيل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وإما نسبة كتم الوحي إليه صلي الله تعالي عليه وسلم، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفاسد الجنان. والأحاديث وردت في الحث علي زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم وزعم هو أنها كلها باطلة، والمسلمون أجمعوا علي أن زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم من أفضل القربات، وزعم هو أن قصد زيارة قبره عليه الصلاة والسلام علي الكيفية التي يفعلها المسلمون منذ زمن السلف الصالح إلي وقتنا هذا وإلي قيام الساعة من نواحي المعمورة ضلال مبين، وإن شد الرحال إليها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيه. والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله الحديث). وابن تيمية ومقلده قالا إنهم مشركون وإن قالوها لجهلهم توحيد الألوهية بتوسلهم بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم والصالحين من أمته. والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا)، وابن تيمية ومقلده قالا إنه مشرك وإن استقبل قبلتنا لجهله توحيد الألوهية. والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم جعل الأذان من شعائر الإسلام حاقنا للدم فكان صلي الله تعالي عليه وسلم إذا أرسل سرية يقول لهم: (إذا سمعتم الأذان فلا تغيروا عليهم)، ولم يقل لهم إذا وجدتم البناء علي القبور فأغيروا عليهم، وابن عبد الوهاب قال كل بلدة فيها قبة علي قبر فأهلها مشركون مهدرو الدم والمال وإن أذنوا وصلوا وصاموا. والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح)، أي بعد فتحه صلي الله تعالي عليه وسلم مكة صارت دار إسلام إلي قيام الساعة بإجماع المسلمين، وابن [ صفحه 161] عبد الوهاب قال إنها دار شرك لأن أهلها لم يؤلهوا هواه. والرسول صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (أيس الشيطان أن يعبد المصلون بجزيرة العرب إلا بالتحريش بينهم) وابن عبد الوهاب قال إن مسلمي الجزير العربية ومسلمي الأرض كلهم مشركون عابدون لأنبياء والصالحين لجهلهم توحيد الألوهية بتوسلهم واستغاثتهم بهم. وقوله: (فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد إلي آخر الثرثرة)، ليس بدليل علي حرمة بناء المشاهد علي القبور وإنما هو عدم دليل، فإن وجود المساجد في كتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ليس بدليل علي حرمة المشاهد، وعدم وجود المشاهد فيهما ليس بدليل علي حرمة بنائها علي القبور، وهذا المفتتن به يتيه دائما في بيداء العدم يعتقده دليلا وليس العدم بدليل عند العقلاء وإنما ينهض الدليل علي حرمة المشاهد لو نهي الله عنها في كتابه العزيز ولم يأت فيه ذلك، وقد عزا في " الجامع الصغير، حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهي رسول الله تعالي عليه وسلم أنه يقعد علي القبر وأن يجصص أو يبني عليه) الاي؟ الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ولم يبين درجته وأخرجه الترمذي في سننه عن جابر أيضا وزاد: (وأن يكتب عليه) وقال حسن صحيح وهو محمول عند العلماء في القعود علي القبر وتجصيصه والبناء عليه في غير الأرض الموقوفة علي كراهة التنزيه، وأخرجه الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفي سنة خمس وأربعمائة في مستدركه عن جابر أيضا من طريقين. وقال في الأولي هذا حديث علي شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة. وقال في الثانية هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلي الغرب مكتوب علي قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف إ ه وتعقب كلامه هذا الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: (قلت) ما قلت طائلا ولا نعلم صحابيا فعل ذلك وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن يعدهم ولم يبلغهم النهي إ ه، وتعقبه هذا ضعيف لأن عدم علمه هو بصحابي فعل ذلك لا ينفي علم غيره من العلماء ذلك وعدم بلوغ النهي للتابعين ومن بعدهم، وهم ألوف مؤلفة بعيد عادة وإن جاز عقلا علي أنه [ صفحه 162] بعد اعترافه بإحداث بعض التابعين لها دعوي علي الجم الغفير من علماء الإسلام بعدم علمهم بالنهي عن الكتابة علي القبور، وقد نقل العلامة ابن عرفة كلام الحاكم هذا وسلمه هو وتلميذه الحافظ البرزلي وابن ناجي، وتعقبه أيضا بعض الشيوخ قائلا لا يسلم له ذلك، لأن أئمة المسلمين لم يفتوا بالجواز ولا أوصوا أن يفعل ذلك بقبورهم بل تجد أكثرهم يفتي بالمنع ويكتب ذلك في تصنيفه، وغاية ما يقال إنهم يشاهدون ذلك ولا ينكرون ومن أين لنا أنهم يرون ذلك ولا ينكرون وهم ينصون في كتبهم وفتاويهم علي المنع إ ه. وذكر المالكية في كتبهم أن الحافظ أبا بكر بن العربي ضعف في عارضته رواية النهي عن الكتابة علي القبر قائلا: إن النهي الوارد في ذلك لما لم يكن من طريق صحيحة تسامح الناس فيه ولا فائدة فيه إلا تعليم القبر إ ه. وتعقب كلام الحافظ الحاكم أيضا العلامة ابن حجر في تحفته بقوله: " ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء علي قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي ". فإن قلت: هذا إجماع فعلي وهو حجة = كما صرحوا به =، قلت: ممنوع، بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتي عن العلماء الذين يرون منعه وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمنة إ ه. [ صفحه 163]

حكم البناء والكتابة علي القبور

في المذاهب الأربعة حكمها عند الشافعية (الشافعية): قالوا إن البناء علي القبور في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه مكروه كراهة تنزيه، وفي الأرض الموقوفة أو السمبلة حرام، والمسبلة هي التي اعتاد أهل بلد الدفن فيها، وقالوا إن وضع شئ يعرف به القبر مستحب، فالكتابة بقدر الحاجة = وهي التعريف باسم الميت مستحبة = ولا سيما علي قبور الأولياء والصالحين فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ويحمل النهي فيها علي ما قصد به الزينة والمباهاة والصفات الكاذبة، وكتابة النظم والنثر عليه مكروه كراهة تنزيه، وكتابة القرآن وكل اسم معظم عليه حرام، ويجب هدم ما بني في الأرض الموقوفة أو المسبلة ولا يجوز هدم ما بني في غيرهما. وقال العلامة ابن حجر في تحفته في باب " الوصايا " وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة علي قبر نحو عالم في غير مسبلة (وتسوية قبره ولو بها). قال محشيه الشرواني عند قوله (وتسوية قبره ولوبها) ما نصه: خالفه النهاية هنا، وقال الشيخ علي الشبراملسي والمعتمد ما ذكره في الجنائز إ ه، أي من جواز الوصية لتوسية وعمارة قبور الأنبياء والصالحين في المسبلة، وقالوا إن الشافعي رضي الله عنه قال: رأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما بني منها، (أي علي قبور المعلي) ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم إ ه. [ صفحه 164] حكمها عند المالكية (المالكية) قالوا: إن البناء علي القبر أو حوله في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه وفي الأرض الموات حرام إن قصد به المباهاة، ومكروه كراهة تنزيه إن تجرد من هذا القصد، وجائز قصد التمييز إن كان يسيرا وجائز مطلقا عند أبي الحسن بن القصار البغدادي المتوفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ما لم يقصد به المباهاة، وحرام في الأرض المحبسة إلا بقصد التمييز فجائز إن كان يسيرا، ويجب هدم ما بني في الأرض المحبسة ولا يجوز هدم ما بني في غيرها. والكتابة عليه مكروهة كراهة تنزيه، وحرام إن بوهي بها وجوزها بعضهم علي قبور الصالحين. قال العلامة ابن حمدون محشي ميارة الصغير: وإذا جاز عند ابن القصار ومن تبعه بناء البيت علي مطلق القبور في الأرض المملوكة وفي المباحة إن لم يضر بأحد بشرط أن لا تقصد المباهاة فيهما كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعا أجوز. قال الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي مجيبا من سأله عن البناء علي ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش: لم يزل الناس يبنون علي مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقا وغربا = كما هو معلوم = وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك والمحافظة علي تعيين قبورهم وعدم اندراسها ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة علي قبور الأنبياء لم تندرس بل اندرس أيضا كثير من قبور الأنبياء والأولياء لعدم الاهتمام بهم وقلة الاعتناء بأمرهم إ ه. حكمها عند الحنابلة (الحنابلة) قالوا: البناء علي القبر ولو في ملكه مكروه كراهة تنزيه وهو في المسبلة أشد كراهة والقول بتحريم البناء في المسبلة هو الصواب، قال أبو حفص، تحرم الحجرة بل تهدم، والكتابة عليه مكروهة كراهة تنزيه، قال ابن مفلح [ صفحه 165] الحنبلي المتوفي سنة اثنتين وستين وسبعمائة الذي قال فيه زميله ابن القيم: (ما تحت أديم السماء أعلم بالفقه من ابن مفلح)، وقال له شيخه ابن تيمية (أنت مفلح لا ابن مفلح في فروعه ما نصه: ويكره البناء علي القبر وأطلقه أحمد والأصحاب لاصقه أولا، وذكر صاحب المستوعب والمحرر لا بأس بقبة وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه، وقال في المستوعب ويكره = أي البناء علي القبر = إن كانت مسبلة ومراده والله أعلم الصحراء. ثم قال ابن مفلح: وقال في الفصول: القبة والحظيرة والتربة إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبلة كره للتضيق بلا فائدة ويكون استعمالا للمسبلة فيما لم توضع له إ ه = كتاب الجنائز ص 681 و 682 =. حكمها عند الحنفية (الحنفية) قالوا: يحرم البناء علي القبر للزينة ويكره للأحكام بعد الدفن، ولا بأس بالكتابة عليه لئلا يذهب الأثر ولا يمتهن، قال العلامة السيد ابن عابدين في آخر تنقيح الحامدية ما نصه: (فائدة) وضع الستور والعمائم والثياب علي قبور الصالحين والأولياء كرهه الفقهاء حتي قال في فتاوي الحجة وتكره الستور علي القبور إ ه. ولكن نحن الآن نقول إن كان القصد بذلك التعظيم في أعين العامة حتي لا يحتقروا صاحب هذا القبر الذي وضعت عليه الثياب والعمائم ولجلب الخشوع والأدب لقلوب الغافلين الزائرين لأن قلوبهم نافرة عند الحضور في التأدب بين يدي أولياء الله المدفونين في تلك القبور كما ذكرنا من حضور روحانيتهم المباركة عند قبورهم فهو أمر جائز لا ينبغي النهي عنه، لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوي، فإنه وإن كان بدعة علي خلاف ما كان عليه السلف ولكن هو من قبيل قول الفقهاء في كتاب الحج إنه بعد طواف الوداع يرجع القهقري حتي يخرج من المسجد، لأن في ذلك إجلال البيت، حتي قال في منهاج السالكين: وما يفعله الناس من الرجوع القهقري بعد الوداع فليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي وقد فعله أصحابنا الخ إ ه = من كشف النور عن أصحاب القبور للشيخ عبد الغني النابلسي = إ ه. [ صفحه 166] خلاصة حكم البناء والكتابة علي القبور في المذاهب الأربعة فخلاصة حكم البناء والكتابة علي القبور في المذاهب الأربعة: إن البناء علي القبور عند الشافعية والمالكية والحنابلة في الأرض الموقوفة والمسبلة حرام يجب هدمه عند المالكية والشافعية وأبي حفص الحنبلي، ومكروه كراهة تنزيه في المذاهب الثلاثة في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه، ولا يجوز هدمه عند الشافعية والمالكية مسكوت عنه عند الحنابلة، وجائز في هذه عند ابن القصار المالكي وطائفة من الحنابلة، وحرام للزينة عند الحنيفة ومكروه للأحكام بعد الدفن وإن الكتابة عليها مستحبة عند الشافعية وجائزة عند الحنفية ومكروهة كراهة تنزيه عند المالكية والحنابلة إ ه. فقول ابن القيم في إغاثة اللهفان الذي نقله عنه كشاف القناع (يجب هدم القباب التي علي القبور لأنها أسست علي معصية الرسول) صحيح إن أراد به المبنية في الأرض الموقوفة، وإن كان علي إطلاقه فهو خطأ لأن النهي عن البناء علي القبور في الحديث محمول علي كراهة التنزيه في غير الموقوفة والمسبلة عند العلماء، وحرمة البناء في هذه معلل بالتضييق علي المسلمين، ولا تضييق في المملوكة ولا معصية في البناء فيها، ولا يجوز هدمه عند العلماء وإن كان خلاف السنة وليس بفقيه من أوجب الهدم في المكروه وجعله معصية، والواجب إنما يقابل الحرام لا المكروه، والإمام أحمد رضي الله عنه إنما روي عنه منع البناء في وقف عام، ولم يرو عنه وجوب هدم ما بني فيه. ويقال لابن تيمية فيما ذكره كشاف القناع عنه (إن تغشية قبور الأنبياء والصالحين بغاشية ليس مشروعا في الدين) وليس ممنوعا فيه، فلو استظهر بجميع المتشدقة علي إثبات نهي خاص في كتاب الله وسنة رسول الله تعالي عليه وسلم عن هذه الجزئية بخصوصها لم يظهر به، وغاية ما يقال في تغشية القبور إنها ليست من عمل السلف، وليس ترك السلف لها دليلا علي المنع الخاص، فقوله (ليس مشروعا في الدين) تلبيس. [ صفحه 167] البناء علي القبور والكتابة عليها من زمن السلف واستفيد من كلام الإمام الشافعي رضي الله تعالي عنه وكلام الحافظ أبي عبد الله الحاكم أن البناء والكتابة علي القبور من زمن السلف، فقول من قال من العلماء إنه إجماع عملي غير بعيد من الصواب. تعقب بعض مشايخ المالكية لكلام الحافظ عبد الله الحاكم خطأ من خمسة أوجه وتعقب بعض مشايخ المالكية لكلام الحافظ أبي عبد الله الحاكم خطأ من خمسة أوجه: الأول: إن أراد بالأئمة في قوله: (لأن أئمة المسلمين لم يفتوا بالجواز) اتباع الأئمة الأربعة فهو خطأ عليهم جميعا لأن الحنفية أطلقوا في كتبهم جواز الكتابة علي القبور، والشافعية قالوا إن كانت للتعريف بالمقبور فهي مستحبة، والمالكية والحنابلة قالوا مكروهة كراهة تنزيه، وإن أراد بأئمة المسلمين الذين لم يفتوا بالجواز غيرهم فلم لم يبينه حتي ينظر فيه؟. الثاني قوله: (ولا أوصوا أن يفعل ذلك بقبورهم) عدم دليل لا دليل ودعوي عريضة علي الجم الغفير من علماء المسلمين، فإنه لو ثبت عنهم كلهم بأنهم لم يوصوا بالكتابة علي قبورهم لم يلزم من ذلك منع الكتابة علي القبور. الثالث: إن أراد بقوله: (بل نجد أكثرهم يفتي بالمنع ويكتب ذلك في تصنيفه)، الكتابة علي القبور فقد علمت بطلانه بما قررته، وإن أراد به البناء عليه فهو غير وارد علي الحافظ أبي عبد الله الحاكم لأن كلامه في الكتابة علي القبور لا في البناء عليها. الرابع: يقال في قوله: (وغاية ما يقال إنهم يشاهدون ذلك ولا ينكرون ومن أين [ صفحه 168] لنا إنهم يرون ذلك ولا ينكرون؟) ومن أين لنا إنهم أنكروا الكتابة علي القبور لما رأوها؟. الخامس: تنصيصهم في كتبهم وفتاويهم علي المنع إنما هو علي البناء علي القبور في الأرض الموقوفة أو المسبلة خاصة لا علي الكتابة عليها، ولم يقل بحرمة الكتابة علي القبور إلا الشافعية إذا كانت بقرآن أو اسم معظم، وتعقب العلامة ابن حجر في تحفته له منظور فيه، فاعترافه بأنه إجماع أكثري فقط كاف في الاحتجاج به، ومنعه وتعليله ضعيفان وتعطيل تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما ينهض حجة لو حدث البناء والكتابة علي القبور في القرون المتأخرة وحيث وجدا في زمان السلف الصالح أهل الدين المتين المشهود لهم بالخيرية فنسبة تعطيله إليهم لا تليق. في فتوي ابن تيمية هذه من ادعاء النفي المطلق علي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وعلي السلف الصالح وعلي الأئمة والعلماء وادعاء إجماعهم واتفاقهم أحد عش زعما وفي فتوي ابن تيمية هذه الزاعم فيها منع قصد زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وشد الرحال إليها من ادعاء النفي المطلق علي الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم والسلف الصالح وعلي أئمة الإسلام وعلمائه وادعاء إجماعهم واتفاقهم أحد عشر زعما: الأول زعمه: (أن السفر إلي بقعة غير المساجد) الثلاثة لم يوجب أحد من العلماء السفر إليه). الثاني زعمه: (أن السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين). الثالث زعمه: (أن من اعتقد السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة). الرابع زعمه: (أن من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة [ صفحه 169] وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع). الخامس زعمه: أنه (إذا سافر لاعتقاده أن الزيارة طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين). السادس والسابع والثامن زعمه: (أن ما ذكره العلماء من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشئ منها) وعدم احتجاج أحد من الأئمة بشئ منها لو صح لا ينهض دليلا علي ضعفها ولا علي وضعها علي أنه مجازفة. التاسع زعمه: (أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا إذا سلموا علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر). العاشر زعمه: (أنه لم يقل أحد من الأئمة أنه يستقل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروي عن الإمام مالك). الحادي عشر زعمه: (أن الأئمة اتفقوا علي أنه لا يتمسح بقبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا يقبله)، وكل هذه المزاعم قد أبطلت وأقول أيضا في إبطال قوله: (وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة) أنه ثرثرة دلت علي بلبلته واضطراب فكره، لأنه حكم عليها، أولا بأنها كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، ثم أضرب عن هذا الحكم وحكم عليها ثانيا بأنها كلها موضوعة، والموضوع قسيم للضعيف، فيحتمل أن يكون إضرابه عن الأول إضراب إبطال له، ويحتمل أن يكون إضراب انتقال عنه إلي الثاني ويبقي هو مسكوتا عنه، وهواؤه هذا إنما يركز علي أحد الشقين فقط، إما أن يدعي إنها كلها ضعيفة، وإما أن يدعي إنها كلها موضوعة. وقد قال أئمة الحديث: إن الحديث الواحد إذا تعددت طرقه، وكلها ضعيفة يتقوي بعضها ببعض ويترقي بذلك إلي درجة الحسن فكيف بأحاديث، وهي قاعدة مطردة عندهم حققها العلامة المحقق في الباب الأول من شفاء السقام وغيره، وحقق فيه [ صفحه 170] إن الحديث الثالث صححه سعيد بن السكن، وقد ولد الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن البغدادي نزيل مصر سنة أربع وتسعين ومائتين، وتوفي في محرم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وترجمته في الثانية عشرة من تذكرة الحفاظ للذهبي حافلة. وقد كان الواجب عليه علما وأدبا حيث شذ عن الأمة الإسلامية في هذه المسألة العظيمة ووقف برأيه في جانب وهي في جانب آخر أن يعين الواضع لأحاديث زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم والزمن الذي وضعت فيه ولا يرسل الكلام جزافا، (هم الرافضة ونحوهم أهل البدع) ولو كان محدثا محققا متثبتا صادقا أمينا علي نقل العلم لتكلم علي أحاديث الزيارة (حيث تلقتها الأمة الإسلامية بالقبول وعملت بها) واحدا واحدا من طريق فن الرواية حتي يكون كلامه قريبا من الاعتدال ولا يرسل الكلام جزافا ويفتري علي العلماء بأنهم اتفقوا علي ضعفها ثم يضرب عن هذا ويجزم بأنها كلها موضوعة ولكن لا دواء لمن صرعه الاعجاب وازدراء عباد الله. الإجماعات والاتفاقات والسلف والأئمة بضاعة يلوكها كثيرا لسد الفراغ وهذه الإجماعات والاتفاقات والسلف والأئمة بضاعة لا توجد إلا في مخيلته يلوكها كثيرا لسد الفراغ والتهويل والتلبيس علي العامة وأشباههم لتروج في سوقهم وقد راجت. تكذيب إمامه أحمد بن حنبل وقد كذب إمامه الذي يتغالي فيه عند غرضه أحمد بن حنبل رضي الله عنه من ادعي الاجماع مرة واحدة فكيف بمن يرسله جزافا عند كل هوي عنه له، قال ابن القيم في إعلام الموقعين المطبوع مع حادي الأرواح ج 2 ص 335. قال في رواية ابنه عبد الله من ادعي الاجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا هذه دعوي بشر المريسي والأصم، ولكن لا يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا، وفي رواية المروزي: كيف [ صفحه 171] يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، وفي رواية أبي طالب عنه هذا كذب ما علمه أن الناس مجمعون إ ه، فقد حكم عليه إمامه الذي يتغالي فيه بأنه كذاب متهم وشهد عليه بذلك نقل تلميذه المؤله لهواه. وأتحف القراء ببعض هذه الاتفاقات التي يرسلها جزافا، نقل عنه صاحب كشاف القناع أيضا في باب الجنائز أنه قال في كسوة القبر بالثياب: (اتفق الأئمة علي أن هذا منكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين فكيف بغيرهم إ ه) وتغشية القبور بالثياب مستحدثة في القرون المتأخرة التي هو منها رقد تقدم قريبا ذكري لما نقله عنه صاحب كشاف القناع فيها أنها (ليست مشروعة في الدين)، وقلت في إبطال كلامه هناك إنه لو استظهر بجميع المتشدقة علي إثبات نهي خاص في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم عن هذه الجزئية بخصوصها لم يظفر بذلك وهنا أتي بلون آخر من الهراء ادعي اتفاق الأئمة علي أنها منكر، فيقال له من هؤلاء الأئمة المتفقون علي أن تغشية القبور بالثياب منكر، ألا يسمي لنا إن كان صادقا ولو واحدا منهم، وقد تحققنا أن رأيه هو الأئمة كلهم. الدعاء عند قبر معروف الترياق المجرب وقال تلميذة ابن ملفلح في الجزء الأول من فروعه في صلاة الاستسقاء: قال إبراهيم الحربي: (الدعاء عند قبر معروف الترياق المجرب) وقال شيخنا: (قصد للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة لا قربة باتفاق الأئمة) وقال أيضا: (يحرم بلا نزاع بين الأئمة إ ه) فقد كذب علي الأئمة دفعتين زعم في الكلام الأول أنهم اتفقوا علي أن قصد قبر معروف للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة، وزعم في الثاني أنهم اتفقوا علي حرمة ذلك، فيقال له من هؤلاء الأئمة المتفقون علي أن قصد قبر معروف للدعاء عنده بدعة، والمتفقون أيضا علي أن قصده للدعاء عنده حرام، إلا سمي لنا إن كان صادقا ولو واحدا منهم؟. [ صفحه 172]

ترجمة إبراهيم الحربي

وقد تحققنا أنه مفتر علي أئمة الدين وإبراهيم الحربي منهم، فهو إبراهيم بن إسحاق الحربي البغدادي الإمام الحافظ ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، سمع من كثير من أئمة الرواية، وتفقه علي الإمام أحمد بن حنبل، وكان من جلة أصحابه إماما في العلم رأسا في الزهد عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام حافظا للحديث مميزا لعلله. وقد أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله أن يتعلم الفرائض منه، شهد له بالإمامة في العلم والرواية الحفاظ الكبار الدارقطني وثعلب والخطيب البغدادي توفي رحمه الله تعالي سنة خمس وثمانين ومائتين وترجمته في التاسعة من تذكرة الحافظ للذهبي حافلة، وحيث إنه حنبلي من خواص الإمام أحمد لم يقل فيه شيئا ولو كان غير حنبلي لما تورع عن ثلبه، ولو انفراد غير حنبلي من المتقدمين ب (قبر معروف الترياق المجرب) لما تردد هذا المفتتن به في سلقه بلسانه وتكذيبه كما كذب الإمام عبد الله بن وهب صاحب الإمام مالك الذي هو أجل وأقدم من إبراهيم الحربي، ورواة كثيرة من علماء الأمة، في سماعه من شيخه مالك، إن المسلم علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يستقبل قبره الشريف ويستدبر القبلة في الدعاء، ولم يختص إبراهيم الحربي بقوله: (قبر معروف الترياق المجرب) فقد قاله البغداديون. قبر معروف ترياق مجرب قال الأستاذ الإمام أبو القاسم القشيري المتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة في رسالته في ترجمة معروف: كان من المشايخ الكبار مجاب الدعوة يستشفي بقبره، يقول البغداديون: (قبر معروف ترياق مجرب) إ ه وتوفي معروف الكرخي رحمه الله تعالي علي رأس المائتين قبل وفاة الإمام أحمد بأربعين سنة وحال معروف عنده لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عنده من أولياء الشيطان، واعتقاده هذه فيه غير مستنكر علي من طعن في سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وجهلهم كما سيأتي بيانه في الفصل الرابع، وإما أن يكون عنده من أولياء الرحمن. [ صفحه 173] لا نص في كتاب الله وسنة رسوله ولا عن السلف الصالح علي منع الدعاء عند قبر معروف وعلي هذا يقال: أي دليل قام عنده علي أن قصد قبر معروف للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة حرام؟، أبنص من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم اللذين يهول ويلبس بهما علي البسطاء؟ أو نص عن السلف الصالح الذين يلبس بهم علي الأغبياء؟ فلو استظهر بجميع متشدقة الأرض علي وجود نص علي هذا المفتري علي أئمة الدين في هذه الثلاثة لم يظهر به، أو بوحي من الله إليه بذلك وليس بنبي فقد ختمت النبوة بمحمد عليه الصلاة والسلام؟، أو بوحي الشيطان إليه بذلك؟، وهذا هو المتعين. ويقال أيضا: أي دليل قام عنده في كتاب الله أو في سنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم أو عن السلف الصالح، علي أن استجابة الدعاء عند قبر معروف أو غيره من أولياء هذه الأمة المرحومة المشهورين مستحيل وليس بقربة. استحباب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم قال ابن قدامة الحنبلي في مغنيه: فصل ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم وكذلك في البقاع الشريفة إه والمسلمون بعد البغدادين متفقون علي صلاح معروف وقد تفضل الله سبحانه وتعالي علي أولياء هذه الأمة المرحومة فأعطي أرواحهم بعد انتقالهم من الدنيا أقوي مما كان لهم في الدنيا، وكتاب الروح لتلميذه المؤله هواه شاهد عليه، ففيه العجب العجاب. [ صفحه 174]

نبذة من كتاب الروح لابن القيم

وإلي القراء نبذة منه قال في طبعة حيدر آباد الثالثة ص 127: (فصل) ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر، فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت تري أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق الدين وعوائقه، فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية؟ فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر، وقد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم علي فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر علي مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رؤي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم، ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقي وبينها أعظم مسافة وأبعدها فتتسالم وتتعارف فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته إ ه. قد كتب ابن كثير في آخر تفسير سورة الروم نبذة وأطنب فيها وأجاد الحافظ السيوطي في كتابه شرح الصدور بشرح حال الموتي والقبور وقد كتب في هذا الموضع ابن كثير في آخر تفسير سورة الروم نبذة، وأطنب فيه وأجاد وأفاد الحافظ العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه شرح الصدور بشرح حال الموتي والقبور. [ صفحه 175]

احوال الموتي في قبورهم

ومن أبوابه النفيسة قوله: باب أحوال الموتي في قبورهم وأنسهم فيها فهم يصلون فيها ويقرأون ويتزاورون ويتنعمون ويلبسون، وأفاض فيه بسوق الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وحكاياتهم في نحو خمس صفحات كبار، وقوله باب زيارة القبور وعلم الموتي بزوارهم ورؤيتهم لهم، وأفاض في هذا الباب بسوق الأحاديث والآثار وأقوال علماء الإسلام وحكاياتهم في اثنتي عشرة صفحة كبيرة، وفي استيعاب الحافظ ابن عبد البر في ترجمة الصحابي الشهير بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه عن ولده عبد الله قال مات والدي بمرو وقبره بالحصين وهو قائد أهل المشرق ونورهم لأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: أيما رجل مات من أصحابي ببلدة فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة إ ه. الصحابي الشهير عبد الرحمن بن ربيعة المستشهد يستسقي به وفي الإصابة في ترجمة الصحابي الشهير عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الملقب بذي النور رضي الله تعالي عنه أنه استشهد ببلنجر من أرض الترك ناحية باب الأبواب ودفن هناك فهم يستسبقون به إلي الآن إ ه. كرامة عظيمة للتابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري وفي الإستيعاب والإصابة في ترجمة التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري أنه لما فتح إفريقية كان موضع القيروان فيها واديا كثير الأشجار غيضه مأوي للوحوش والحيات فأراد عقبة أن يبني فيه مدينة ينزل فيها جنده فوقف عليه ونادي: " يا أهل هذا الوادي إنا حالون فيه إن شاء الله تعالي فاظعنوا " ثلاث مرات، قالوا فما نري حجرا ولا شجرا إلا يخرج من تحته دابة حتي فبطن بطن الوادي، ثم قال: انزلوا باسم الله "، رواه خليفة بن خياط بإسناد حسن إ ه. وأخبرني السيد حامد البلخي البدخشاني الساكن بالمدينة المنورة إنه لما رحل من بلده في أوائل هذا القرن إلي مدينة بخاري لطلب العلم وزار قبر الإمام محمد بن إسماعيل [ صفحه 176] البخاري بقرية خرتنك، وجد رائحة المسك الأذفر تنفح من تراب قبره، قال لي وهذا أمر متواتر عندهم هناك. الجواب الباهر في زوار المقابر وكتابه (الجواب الباهر في زوار المقابر) الذي ثرثر به في ثمان وثمانين صفحة وجري فيه علي سنن أسلافه الحروريين من حمل الآيات القرآنية الواردة في المشركين علي المسلمين، وعلي تهويشه المعروف والخروج من شئ إلي شئ آخر، وخلاصته علي رأيه ثلاث جمل فقط: قصد السفر إلي زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بدعة وضلال. الزائرون للقبور المعظمون لأصحابها مشركون، المعظمون للأنبياء والأولياء المعتقدون كراماتهم مشركون، حري بتسميته: (الجواب العاثر) قال في مقدمته مخاطبا للسلطان بعدما حبس بسبب هذه الفتوي زاعما أنها مختصرة لأنهم استعجلوه في الجواب أن ولي الأمر أيده الله تعالي رسم أن أحضر له كتبا كثيرة من كتب المسلمين قديما وحديثا، تؤيد رأيه وهذر بتلبسه المعروف: (ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك لا عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم، وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم إلي آخر ثرثرته ودعواه الجوفاء التي لا تجوز إلا علي البلداء والمغفلين). أقول: متحديا له ولجميع المفتونين به، لو استظهروا بجميع متشدقة الأرض علي أن يثبتوا علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (قصد قبري لزيارته بدعة وضلال)، (والزائرون للقبور المعظمون لأصحابها مشركون)، (والمعظمون للأنبياء والأولياء المعتقدون كراماتهم مشركون) لم يستطيعوا ذلك، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين لا الأربعة غيرهم. وقوله في ص 14 منه (فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلي مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب) تلبيس، فإن السفر إلي مسجده صلي الله تعالي عليه وسلم للصلاة فيه لناذرها شئ واجب، ولا حجة له في الحديث الشريف: (لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد الخ..)، لأن [ صفحه 177] المعني لا تشد لصلاة في مسجد بدليل ذكر مساجد فلا دلالة فيه علي منع شد الرحال لزيارته صلي الله تعالي عليه وسلم أصلا لا في منطوقه ولا في مفهومه، والسفر لزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم شئ آخر مستحب باتفاق علماء المسلمين، وتجب عند الشافعية بالنذر، وأئمة المسلمين إنما صرحوا في مناسك الحج بأن زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم قصدا واستقلالا من أفضل القربات، ولم يقرنوا بينهما كما لبس في هذا الهراء، فقوله كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج، بهتان عليهم. وقوله في ص 29 منه (والسفر إلي البقاع المعظمة هو من جنس الحج، وثرثر مكررا هذا الهراء)، فالسفر إلي البقاع المعظمة من جنس الحج، والمشركون من أجناس الأمم يحجون إلي آلهتهم كما كانت العرب تحج إلي اللات والعزي ومناة، إلي أن قال: (ولهذا كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره) تلبيس فاسد علي كلا المعنيين للحج اللغوي والشرعي، لأن الحج لغة: القصد إلي الشئ مطلقا، وشرعا: قصد بيت الله الحرام لأداء أحد النسكين، فقصد بيت الله للطواف به وتقبيل الحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمشعر الحرام وغير ذلك، تعظيم لهذه المشاعر من حيث إنها وسيلة لتعظيم الله تبارك وتعالي، وقصد المدينة المنورة لزيارته صلي الله عليه وسلم تعظيم لقبره من حيث إن وسيلة للسلام عليه صلي الله تعالي عليه وسلم، وقصد أي مكان من الأمكنة المدفون فيها نبي أو صالح تعظيم للمكان من حيث إنه وسيلة لزيارة المدفون فيه فمنطوق كلامه تعظيم الأمكنة لذاتها وهو فاسد، لأن المقصد في الحج أو الاعتماد هو تعظيم الله تبارك وتعالي بامتثال أمره والكعبة وسائر المشاعر العظام وسائل لتعظيمه تعالي فتعظيمها ليس لذاتها وإنما هو تبع لتعظيم الله تبارك وتعالي، والمقصد في السفر إلي الأمكنة من فيها من الأنبياء والأولياء والأمكنة وسائل له، فتعظيمها ليس لذاتها وإنما هو تبع لتعظيم من دفن فيها، فجعله السفر إلي الأماكن المعظمة من جنس الحج فاسد، وقياسه زوار القبور علي المشركين الذين يحجون لآلهتهم فاسد أيضا لأنه في مقابلة النص وهو أمره صلي الله تعالي عليه وسلم بزيارة القبور أمرا مطلقا، ولو كان السفر إليها معصية ومن جنس الحج = كما زعم = للزم أن يكون النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد أوقع أمته في الشرك لأنه لم يبين لهم أن السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين معصية وشرك، وللزم أيضا أن يكون تعظيم أعلام دينه تعالي والبدن التي تنحر بمني أكرم علي [ صفحه 178] الله من أنبيائه وأوليائه، ويكون الله تبارك وتعالي حيث قال إن تعظيمها من تقوي القلوب قد أوقع عباده في الشرك وحثهم عليه، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. ومعلوم عند كل من له إلمام بالعلم أن حرمة مطلق مؤمن عند الله تعالي أعظم من حرمة الكعبة فكيف بالأنبياء والأولياء. وقد جاءه هذا الغلط القبيح من زعمه: (أن تعظيم المخلوق شرك)، وهي قضية بدهية البطلان عند العقلاء، لأن التعظيم المقول بالتشكيك محله القلب، فهل نقب عن قلوب جميع الزائرين لقبور الأنبياء والأولياء؟، فتحقق من كل واحد منهم أنه يعبد ويؤله المزور المقبور، سبحان الله هذا بهتان عظيم علي زائر واحد، فكيف به علي جميع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها؟، لا يتفوه به من له مسكة من عقل ودين. و (لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد) قصد به تمييز المساجد الثلاثة علي غيرها من مساجد الأرض في الأفضلية، وكون الاستثناء مفرغا ومتصلا يعرفه كل من له إلمام بالعربية، فلو استظهر هو وجميع المفتونين به بجميع المتشدقة علي إثبات منع السفر لزيارة الأنبياء والأولياء عن السلف الصالح الذين يلبس بهم علي البسطاء لم يستطيعوا. وقوله عن أهل الجاهلية إنهم كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره كذب مكشوف عليهم وهذا تاريخهم بين أيدينا. نم كرر لوك هذا الهذر في ص 37 منه قائلا: وهذا الذي ذكرنا من أن السفر إلي الأماكن المعظمة القبور وغيرها عند أصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف من المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعني، فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالي والخضوع له والتضرع إليه، لكن كما قال تعالي: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله)، وهم يسمون ذلك حجا إليها، وهذا معروف عند متقدميهم، ومتأخريهم، ولذلك أهل البدع والضلال من المسلمين كالرافضة وغيرهم يحجون إلي المشاهد وقبور شيوخهم وأئمتهم ويسمون ذلك حجا ويقول داعيتهم السفر إلي الحج الأكبر ويظهرون علما للحج إليه إ ه). [ صفحه 179] أقول: ليتدبر الألباء معني هذا الهذيان، (هو معرفو من المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعني)، ومعني الاستدراك بالآية الشريفة وليعلموا أن قوله: (فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالي والخضوع له) بهتان وإفك مبين علي الزائرين للقبور، فإن مقاصد القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، وليس هو بنبي أوحي إليه بمقاصدهم نعم! أوحي إليه بذلك شيخه.. وليتدبروا أيضا معني قوله: (وهذا معروف عند متقدميهم ومتأخريهم)، وإن صح قوله: (ويسمون ذلك حجا ويقول داعيتهم إلي آخر الهراء) عن الرافضة وهو مطالب بإثبات صحته عنهم فهو علي غيرهم من المسلمين بهتان قطعا يجازيه الله عليه جزاء الباهتين، والثرثرة ليست عليها ضريبة. كتابه الرد علي الأخنائي الذي ثرثر به في 220 صفحة علي منوال الجواب العاثر تماما وكتابه الرد علي الأخنائي في عشرين ومائتي صفحة علي منوال الجواب العاثر قال في ص 9 منه ما نصبه: ورأيت يدل علي أن عنده نوعا من الدين كما عند كثير من الناس من نوع من الدين لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم حتي قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به ويكفر من قال بقول الرسول وصدق خبره وأطاع أمره وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه كما قد يجهل مذهب مالك وغيره من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، فإن هذه المسألة التي فيها النزاع - وهي التي أجبت فيها - وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وقد ذكروا القولين، وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد، فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر، وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار، ومالك نفسه نص علي قبر نبينا محمد صلي الله تعالي عليه وسلم بخصوصه إنه داخل في هذا الحديث، بخلاف كثير من الفقهاء فإن كلامهم عام، لكن احتجاجهم بالحديث وغيره يبين أنهم قصدوا العموم وكذلك بيانهم لمأخذ المسألة يقتضي العموم، فهذا المعترض وأمثاله لا عرفوا ما قاله أئمتهم وأصحاب [ صفحه 180] أئمتهم، ولا ما قاله بقية علماء المسلمين، ولا عرفوا سنة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، ولا ما كان يفعله الصحابة والتابعون لهم بإحسان إ ه. ذهابة في تقديس فهمه إلي أقصي درجات الغطرسة وفي تحقير علماء المسلمين إلي أحط درجات الازدراء أقول: (أول الدن دردي) من وقع نظره من الأذكياء علي هذه الثرثرة من غير ملاحظة كلامه السابق عليها واطلاع علي فتواه التي أبطلها الإمام أبو الحسن السبكي لا يفهم منها إلا أمرين فقط، ذهابه في تقديس فهمه إلي أقصي درجات الغطرسة وفي تحقير علماء المسلمين إلي أحط درجات الازدراء، وهما زبدتها فقوله: (ورأيت كلامه) = يعني القاضي الأخنائي = يدل علي أن عنده نوعا من الدين كما عند كثير من الناس نوع من الدين)، فاسد من سبعة أوجه: الأول: مجرد كلام الإنسان بقطع النظر عن كونه مسلما لا يدل علي دينه سواء جعلت رأي علمية أو بصرية كما هو الظاهر لأن من لا دين له أصلا قد يتكلم بالكلام الطيب. الثاني: الدين يشمل أصول الشريعة وفروعها لأنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلي ما هو خير لهم بالذات قلبيا كان أو قالبيا كالاعتقاد والعلم والصلاة). الثالث: الدين له أنواع كثيرة من أصول الشريعة وفروعها علي هرائه. الرابع: يقال له أي نوع من أنواع الدين رأيته عند القاضي الأخنائي أمن أصوله أو من فروعه؟. الخامس: المانح للعباد أنواع الدين كلها أصولا وفروعا هو الله تبارك وتعالي فقوله: (عنده نوع من الدين) دعوي جوفاء لا مبرر لها إلا غطرسته يصح أن يقابله الأخنائي بمثلها. [ صفحه 181] السادس: لم يكتف في دعوي البهتان بالأخنائي بل بهت ولطخ بها علماء المسلمين بقوله: (كما عند كثير من الناس نوع من الدين).. سبحان الله هذا بهتان عظيم علي الأخنائي وحده فكيف به علي علماء المسلمين؟ فهل جعله الله تعالي رقيبا علي دين المسلمين ومنقبا عن قلوبهم فعلم ما فيها وأحصي أنواع دين كل واحد منهم؟، وليس الشتم من أخلاق العلماء وإنما يلجأ إليه من يعوزه العلم ووقاره ليسد به الفراغ. السابع: حيث ثبت أن هذا الهراء مجرد شتم لا مبرر له إلا غطرسته، أقول ينطبق عليه قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم). وقوله: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسي الجذع في عينه)، وقوله: (طوبي لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله.. الحديث)، وقول الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص++ فهي الشهادة لي بأني كامل وأقول أيضا: لكل واحد من العلماء الذين سلقهم هذا الذي لا يعرف من تحقيق العلم إلا الشتم والتكفير والتحقير. سلمت وهل حي من الناس يسلم، وبعد اعترافه للأخنائي وغيره من علماء المسلمين بنوع من أنواع الدين استدركه عليهم بدعوي أخري جوفاء بلغت في الغطرسة والحماقة منتهاهما، (لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم). لا يعرف من العلم إلا التحقير والتكفير والشتم ويقال علي هرائه هذا إذا كان عند كل واحد من علماء المسلمين نوع واحد من أنواع الدين الكثيرة مشوب بجهل وسوء فهم وقلة علم فأي دين بقي له والتدافع في هذا الكلام ظاهر لكل لبيب، لأن الأخنائي أو غيره من علماء المسلمين إذا كان جاهلا بنوع واحد من أنواع الدين الكثيرة الممنوح له من الشيخ المتغطرس فهو أشد جهلا ببقية أنواعه المفقودة منه من باب أولي، فلا فهم عنده أصلا لا حسنا ولا سيئا، علي أن قوله: (وسوء فهم) كلمة ذهبت في الغطرسة إلي منتهي غايتها، يعني أن فهم علماء المسلمين مشروعية شد الرحال لزيارة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، سيئ، وفهمه هو منع [ صفحه 182] ذلك حسن ويحق لي أن أتمثل فيه نيابة عن علماء المسلمين ب (رمتني بدائها وانسلت) والكلام صفة المتكلم. ويقال في (وقلة علم) ما تقدم، فليوازن العقلاء بين فهمه الأعوج في هذه المسألة وفهم علماء الإسلام جميعا، بقطع النظر عما يؤيدهم من أدلة الكتاب والسنة أيهما أقرب إلي الحق والمعقول؟. وقوله: (حتي قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به) طعن مكرر في الأخنائي تقدم إبطاله، وقوله: (ويكفر من قال بقول الرسول) تلبيس وكذب مكشوف علي الأخنائي بأنه كفره. وقد قال (في زعمه) بمنع شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم بقول الرسول صلي الله عليه وسلم وهو: (لا تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد)، أي كفره علي فهمه من هذا الحديث منع شد الرحال لزيارة القبور، وقد تقدم أنه لا دلالة في هذا الحديث علي منع شد الرحال لزيارتها لا في منطوقه ولا في مفهومه، والحقيقة أن الأخنائي ألزمه من استئذانه صلي الله تعالي عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه وغيرها من القبور بأحد أمرين: إما أن يقول بأنها حرام، وهذا ضلال وكفر، وإما أن يقول وبأنها مندوبة أو جائزة، وقد قامت عليه الحجة بهذا، وعبارته في رسالته المقالة المرضية في الرد علي من ينكر الزيارة المحمدية: (وفي صحيح أنه صلي الله تعالي عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له واجب في ذلك لما سأله). فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه وغيرها ومشيه الذي منه صدر؟، فإن حمله علي التحريم فقد ضل وكفر، وإن حمله علي الجواز أو الندب فقد لزمته الحجة وألقم الحجر إ ه وقوله: (وصدق خبره) تهويش إذ كل مسلم يصدق خبره صلي الله تعالي عليه وسلم، وقوله: (وأطاع أمره) كذلك إذ كل مسلم يطيع أمره صلي الله تعالي عليه وسلم: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا)، ولم يأمر صلي الله تعالي عليه وسلم أمته المرحومة بطاعة ابن تيمية في فهمه، ولم ينهها عن مخالفة فهمه. [ صفحه 183] وقوله: (وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه. إلي قوله فإن هذه المسألة) طعن مكرر في الأخنائي وذهاب بنفسه إلي أقصي درجات الغطرسة. البهتان علي شد الرحال لزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم بأن فيه نزاعا بين العلماء وقوله: (فإن هذه المسألة التي فيها النزاع إلي قوله بخلاف كثير) هراء معمي، فلا نزاع بين علماء الإسلام، وهم متفقون علي أن شد الرحال لزيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم من أفضل القربات فقوله (التي فيها النزاع) بهتان عليهم وجوابه فيها قد أبطله علماء المسلمين منهم الإمامان السبكي والأخنائي وغيرهما. وقوله: (وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وقد ذكروا القولين) بهتان ثان علي كتب المذهبين وعلي غيرهما، وهي في كتب المذهبين قول واحد وهو استحباب زيارة قبره صلي الله عليه وسلم. وقوله: (وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد) بهتان ثالث علي مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالي عنه وقد تقدم تحقيقه. وقوله: (فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر) بهتان رابع. وقوله: (وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار) بهتان خامس. وقوله: (ومالك نفسه نص.. إلي قوله بخلاف كثير) بهتان سادس، ولا يستحي هذا المفتون من كثرة البهتان علي الأئمة وأصحابهم وأتباعهم، والحياء من الإيمان. وقوله: (بخلاف كثير من الفقهاء إلي قوله فهذا المعترض) هذيان لا يستحق التعليق. وقوله: (فهذا المعترض وأمثاله إلي آخر الهراء) بالغ في تزكية نفسه أقصي غاية الغطرسة وفي تحقير الأخنائي وغيره من العلماء أقصي غايته، سيجازيه الله تعالي عليهما [ صفحه 184] جزاء الباهتين المحتقرين عباد الله المتغطرسين، وقال في آخر ص 204: وهذا المعترض وأمثاله التفتوا إلي جانب لهم دون جانب التوحيد لله والنهي عن الشرك فوقعوا في الغلو والشرك فبقوا مشابهين للنصاري إ ه. حكمه علي جميع علماء الإسلام بالشرك والكفر فقد حكم في هذا الهراء علي جميع علماء الإسلام السابقين عليه والمعاصرين له والمتأخرين عنه بالشرك والكفر حيث التفتوا كلهم = في زعمه = إلي جانب التعظيم لهم، أي للأنبياء والأولياء، ولم يعرفوا توحيد الألوهية الذي أوحاه إليه الشيطان، فقد زعم أن الخلق كلهم عرفوا توحيد الربوبية وجهلوا توحيد الألوهية فكفروا بذلك، وقد أبطلت زعمه هذا في الفصل الثاني بوجوه كثيرة، وعبر عن المعرفة في الطرفين بالجانب، والأخنائي الذي ثرثر في الرد عليه بالهراء، وزعم أنه يجهل مذهب إمامه الذي انتسب إليه، ولا يعرف ما قاله إمامه وأصحاب إمامه ولا ما قاله بقية علماء المسلمين ولا يعرف سنة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين. وزعم أيضا أنه مشرك لتعظيمه، أي عبادته الأنبياء والأولياء بجهله توحيد الألوهية الذي أوحاه إليه إبليس فكفر به المسلمين ترجمه العلامة ابن فرحون ديباجه فقال: محمد بن أبي بكر بن عيسي بن بدران السعدي المصري أبو عبد الله المعروف بابن الأخنائي الملقب تقي الدين سمع من أبي محمد الدمياطي وغيره وأكثر عن الدمياطي. وذكر أنه سمع من ابن عساكر بمكة المكرمة، كان فقيها فاضلا صالحا خيرا صادقا سليم الصدر، وكان بقية الأعيان وفقهاء الزمان له تآليف وأوضاع حسنة مفيدة، تولي قضاء القضاة المالكية بالديار المصرية، وكان من عدول القضاة وخيارهم عمر وأسند، مولده سنة ثمان وخمسين وستمائة وتوفي خمسين وسبعمائة إ ه، ورسالته المسماة بالمقالة المرضية في الرد علي من ينكر الزيارة المحمدية مع اختصارها في غاية الأحكام والتحقيق، وهي مطبوعة في ضمن: (البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة) للعلامة المرحوم الشيخ سلامة العزامي. [ صفحه 185]

التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي

قال الإمام العلامة أبو الحسن السبكي: (الباب الثامن في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم)، اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي ربه سبحانه وتعالي، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتي جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه علي الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار، ولهذا طعن في الحكاية التي تقدم ذكرها عن مالك فإن فيها قول مالك للمنصور استشفع به، ونحن قد بينا صحتها، ولذلك أدخلنا الاستغاثة في هذا الكتاب لما يعرض إليها مع الزيارة، وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله وصار به بين أهل الإسلام مثلة، وقد وقفت له علي كلام طويل في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلي الصراط المستقيم ولا أتتبعه بالنقص والإبطال، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين تقريب المعني إلي أفهامهم وتحقيق مرادهم وبيان حكمه ورأيت كلام هذا هذا الشخص بالضد من ذلك فالوجه الإضراب عنه. التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم جائز قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته وبعد البعث (وأقول): إن التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم جائز في كل حال قبل [ صفحه 186] خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة،

في انواع التوسل

وهو علي ثلاثة أنواع: (النوع الأول) أن يتوسل به، بمعني أن طالب الحاجة يسأل الله تعالي به أو بجاهه أو بركته، فيجوز ذلك في أحوال الثلاثة وقد ورد في كل منها خبر صحيح، أما الحالة الأولي قبل خلقه فيدل لذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اقتصرنا منها علي ما تبين لنا صحته، وهوما رواه الحاكم أبو عبد الله بن البيع في المستدرك علي الصحيحين أو أحدهما (وساق إسناده إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي تعالي عنه)، قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله تعالي يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فعرفت أنك لم تضعف إلي اسمك إلا أحب الخلق إليك). فقال الله تعالي: صدقت يا آدم لأحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في هذا الكتاب، ورواه البيهقي أيضا في دلائل النبوة وقال تفرد به عبد الرحمن، وذكره الطبراني وزاد فيه، (وهو آخر الأنبياء من ذريتك). وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضا عن علي بن حماد العدل، وساق إسناده إلي ابن عباس رضي الله تعالي عنهما قال: أوحي الله تعالي إلي عيسي عليه الصلاة والسلام: يا عيسي آمن بحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولاه ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش علي الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله فسكن. قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه انتهي ما قاله الحاكم، والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الإسناد ولا بلغه إن الحاكم صححه [ صفحه 187] فإنه قال، أعني ابن تيمية، (أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بإسناده يصلح الاعتماد عليه ولا الاعتبار ولا الاستشهاد). ثم ادعي ابن تيمية أنه كذب وأطال الكلام في ذلك جدا بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرص ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك أو لتعرض للجواب عنه، وكأني به أن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث. ونحن نقول قد اعتمدنا في تصحيحه علي الحاكم وأيضا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف إلي الحد الذي ادعاه وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر علي منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع وقد ورد فيه هذا الحديث، وسنزيد هذا المعني صحة وتثبيتا بعد استيفاء الأقسام. وأما ما ورد من توسل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء فذكره المفسرون واكتفينا عنه بهذا الحديث لجودته وتصحيح الحاكم له، ولا فرق في هذا المعني بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل أو الاستغاثة أو التشفع أو التجوه والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه، ومستغيث به والمعني أنه استغاث الله به علي ما يقصده، فالباء ههنا للسببية، وقد ترد للتعدية كما تقول من استغاث بك فأغثه، ومستشفع به ومتجوه به ومتوجه فإن التجوه والتوجه راجعان إلي معني واحد. (فإن قلت): المتشفع بالشخص من جاء به ليشفع له فكيف يصح أن يقال يتشفع به، (قلت): ليس الكلام في العبارة وإنما الكلام في المعني وهو سؤال الله بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم = كما ورد عن آدم وكما يفهم الناس من ذلك = وإنما يفهمون من التشفع والتوسل والاستغاثة والتجوه ذلك، ولا مانع من إطلاق اللغة هذه الألفاظ علي هذا المعني، والمقصود أن يسأل العبد الله تعالي بمن يقطع أن له عند الله قدرا ومرتبة، ولا شك أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم له عند الله قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم، وفي العادة أن من كان له عند الشخص قدر بحيث إنه إذا شفع عنده قبل شفاعته، فإذا انتسب إليه شخص في غيبته وتوسل بذلك وتشفع به فإن ذلك الشخص يجيب السائل [ صفحه 188] إكراما لمن انتسب إليه وتشفع به، وإن لم يكن حاضرا ولا شافعا، وعلي هذا التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قبل خلقه، ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالي ولا داعين إلا إياه، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سببا للإجابة = كما في الأدعية الصحيحة المأثورة =: (أسألك بكل اسم هو لك، وأسألك بأسمائك الحسني، وأسألك بأنك أنت الله، وأعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك)، وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة، وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة، فالمسئول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له والمسؤول به مختلف ولم يوجب ذلك إشراكا ولا سؤال غير الله، كذلك السؤال بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم ليس سؤالا للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، بل سؤال الله به، وإذا جاز السؤال بالأعمال، وهي مخلوقة، فالسؤال بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أولي، ولا يسمع الفرق بأن الأعمال تقتضي المجازاة عليها، لأن استجابة الدعاء لم تكن عليها وإلا لحصلت بدون ذكرها، وإنما كانت علي الدعاء وليس هذا المعني مما يختلف فيه الشرائع حتي يقال إن ذلك شرع من قبلنا، فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد لم يحل في ملة من الملل، فإن الشرائع كلها متفقة علي التوحيد، وليت شعري ما المانع من الدعاء بذلك؟ فإن اللفظ إنما يقتضي أن للمسئول به قدرا عند المسؤول، وتارة يكون المسؤول به أعلي من المسؤول، أما الباري سبحانه وتعالي، فكما في قوله من سألكم بالله فأعطوه. وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمي أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن الحديث وهو مشهور. وأما بعض البشر فيحتمل أن يكون من هذا القسم قول عائشة لفاطمة رضي الله تعالي عنهما: أسألك بمالي عليك من الحق، وتارة يكون المسؤول أعلي من المسؤول به، كما في سؤال الله تعالي بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم = فإنه لا شك أن للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قدرا عنده ومن أنكر ذلك فقد كفر، فمتي قال: أسألك بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم فلا شك في جوازه، وكذا إذا قال بحق محمد صلي الله عليه وسلم، والمراد بالحق الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله تعالي علي الخلق أو الحق الذي جعله الله تعالي بفضله له عليه = كما في الحديث الصحيح = قال: فما حق العباد علي الله، وليس المراد بالحق الواجب فإنه لا يجب علي الله شئ، وعلي هذا المعني يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة. [ صفحه 189]

التوسل به بمعني طلب الدعاء منه

(الحالة الثانية) التوسل به بذلك النوع بعد خلقه صلي الله تعالي عليه وسلم في مدة حياته، فمن ذلك ما رواه أبو عيسي الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، وساق إسناده إلي عثمان بن حنيف رضي الله تعالي عنه أن رجلا ضرير البصر، أتي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فقال: ادع الله يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي لتقضي لي اللهم شفعه في). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطمي. قال المحقق أبو الحسن السبكي: ورواه النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة في الصلاة، ورويناه في دلائل النبوة للحافظ أبي بكر البيهقي، قال هذا وزاد محمد بن يونس في روايته: (فقم وقد أبصر). قال البيهقي: ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح وذكر روايات أخري مؤداها واحد، قال أبو الحسن وقد كفانا الترمذي والبيهقي رحمهما الله تعالي بتصحيحهما مؤنة النظر في تصحيح هذا الحديث وناهيك به حجة في المقصود. فإن اعترض معترض بأن ذلك إنما كان لأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم شفع فيه فلهذا قال له أن يقول: إني توجهت إليك بنبيك، قلت: الجواب من وجوه: (أحدها) سيأتي أن عثمان بن عفان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلي الله تعالي عليه وسلم وذلك يدل علي أنهم لم يفهموا اشتراط ذلك. الثاني أنه ليس في الحديث أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بين له ذلك. الثالث أنه ولو كان كذلك لو يضر في حصول المقصود، وهو جواز التوسل إلي [ صفحه 190] الله تعالي بغيره، بمعني السؤال بها = كما علمه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم = وذلك زيادة علي طلب الدعاء منه فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علمه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأرشده إليه ويقول له: إني قد شفعت فيك، ولكن لعله صلي الله تعالي عليه وسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجه بذل الاضطرار والافتقار والانكسار مستغيثا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم فيحصل كمال مقصوده ولا شك أن هذا المعني حاصل في حضرة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وغيبته في حياته وبعد وفاته، فإنا نعلم شفقته صلي الله تعالي عليه وسلم علي أمته ورفقه بهم ورحمته لهم واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته، فإذا انضم إليه توجه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبي صلي الله تعالي عليه وسلم الأعمي إليه. الحالة الثالثة: التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته وأفاض فيه وأجاد (الحالة الثالثة) أن يتوسل بذلك بعد موته صلي الله تعالي عليه وسلم لما رواه الطبراني في المعجم الكبير، وساق إسناده إلي عثمان بن حنيف رضي الله تعالي عنه، أنه رأي رجلا يختلف إلي عثمان بن عفان رضي الله تعالي عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكي ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلي الله تعالي عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلي ربك فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك ورح حتي أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتي باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاءه البواب فأدخله علي عثمان ابن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه وقضي حاجته ثم قال له ذكرت حاجتك حتي كان الساعة. وقال له أيضا: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، وخرج الرجل من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتي [ صفحه 191] كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكني شهدت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره.. = الحديث =، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتي دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط. قال العلامة المحقق: والاحتجاج من هذا الأثر لفهم عثمان رضي الله عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله وفعلهم. التوسل به بمعني طلب الدعاء منه (النوع الثاني) التوسل به بمعني طلب الدعاء منه وذلك في أحوال: إحداها: في حياته صلي الله تعالي عليه وسلم، وهذا متواتر والأخبار طافحة به ولا يمكن حصرها، وقد كان المسلمون يفزعون إليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم كما في الصحيحين: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قائما وقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله تعالي يغيثنا، فرفع رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم يديه ثم قال: " اللهم أغثنا اللهم أغثنا " فطلعت من ورائه سحابة متل الترس " فلما توسطت السماء فانتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا.. = الحديث =. وأفاض في الآثار ثم قال: والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصي ولو تتبعتها لوجدت منها ألوفا، ونص قوله تعالي: (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول..) الآية - صريح في ذلك، ولذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه إذا قحط استسقي بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالي عنه ويقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك يعم نبينا محمد صلي الله تعالي عليه وسلم فاسقنا قال فيسقون = رواه البخاري من [ صفحه 192] حديث أنس = واستسقي به عام الرمادة فسقوا، وروي أنه لما استسقي عمر بالعباس وفرغ عمر من دعائه، قال العباس: اللهم إنه لم ينزل من السماء بلاء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلي الله تعالي عليه وسلم، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة وذكر دعاء فما تم كلامه حتي ارتجت السماء بمثل الجبال. وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين، وهذا شئ لا ينكره مسلم بل متدين بملة من الملل. فإن قبل: لم توسل عمر بن الخطاب بالعباس ولم يتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أو بقبره؟. قلنا: ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أو بالقبر. وقد روي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلي عائشة رضي الله تعالي عنها، فقالت: انظروا قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فاجعلوا منه كوي إلي السماء حتي لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا، فمطروا حتي نبت العشب وسمنت الإبل حتي تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق، ولعل توسل عمر بالعباس رضي الله عنه لأمرين: (أحدهما): ليدعو كما حكينا من دعائه. (والثاني): أنه من جملة من يستسقي وينتفع بالسقيا، وهو محتاج إليها بخلاف النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في هذه الحالة فإنه مستغن عنها، فاجتمع في العباس الحاجة وقربه من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وشيبه، والله يستحي من ذي الشيبة المسلم فكيف من عم نبيه صلي الله تعالي عليه ويجيب دعاء المضطر، فلذلك استسقي عمر بشيبته، فإن قال المخالف: إنا لا أمنع التوسل والتشفع لما قدمتم من الآثار والأدلة وإنما أمنع إطلاق التجوه والاستغاثة، لأن فيهما إيهام أن المتوجه به والمستغاث به أعلي من المتوجه عليه والمستغاث عليه. (قلتا): هذا لا يعتقده مسلم ولا يدل لفظ التجوه والاستغاثة عليه فإن التجوه من [ صفحه 193] الجاه والوجاهة، ومعناه علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه إلي من هو أعلي جاها منه، والاستغاثة، طلب الغوث، فالمستغيث يطل من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلي منه. فالتوسل والتشفع والتجوه والاستغاثة بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ليس لها معني في قلوب المسلمين غير ذلك ولا يقصد بها أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك علي نفسه نسأله العافية، وإذا صح المعني فلا عليك في تسميته توسلا أو تشفعا أو تجوها أو استغاثة، ولو سلم أن لفظ الاستغاثة يستدعي النصر علي المستغاث منه، فالعبد يستغيث علي نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك مما هو قاطع له عن الله تعالي بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين متوسلا بهم إلي الله تعالي ليغيثه علي من استغاث منه من النفس وغيرها، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالي والنبي صلي الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث. الثانية: بعد انتقاله صلي الله تعالي عليه وسلم (الحالة الثانية) بعد موته صلي الله تعالي عليه وسلم في عرصات القيامة بالشفاعة منه صلي الله تعالي عليه وسلم وذلك مما قام الاجماع عليه وتواترت الأخبار به. (الحالة الثالثة) المتوسطة في مدة البرزخ، وقد ورد هذا النوع فيها أيضا وساق إسناده فيه إلي الحافظ أبي بكر البيهقي، وإسناد هذا إلي مالك الدار، قال هذا: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل إلي قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم في المنام، فقال ائت عمر فاقرأه السلام وأخبره أنهم مسقون، وقل له عليك الكيس الكيس، فأتي الرجل عمر فأخبره فبكي عمر رضي الله عنه ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه، ومحل الاستشهاد من هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته في مدة البرزخ ولا مانع، فإن دعاء النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لربه تعالي في هذه الحالة غير ممتنع، وقد وردت الأخبار علي ما ذكرنا ونذكر طرفا منه، وعلمه صلي الله تعالي عليه وسلم بسؤال من يسأله ورد أيضا [ صفحه 194] ومع هذين الأمرين فلا مانع من أن يسأل الله صلي الله تعالي عليه وسلم الاستسقاء كما كان يسأل في الدنيا. النوع الثالث من التوسل (النوع الثالث) من التوسل أن يطلب منه ذلك الأمر المقصود، بمعني أنه صلي الله تعالي عليه وسلم قادر علي التسبب فيه، بسؤاله ربه وشفاعته إليه، فيعود إلي النوع الثاني في المعني، وإن كانت العبارة مختلفة، ومن هذا قول القائل للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة، قال أعني علي نفسك بكثرة السجود، والآثار في ذلك كثيرة أيضا، ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك إلا كون النبي صلي الله تعالي عليه وسلم سببا وشافعا، وكذلك جواب النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وإن ورد علي حسب السؤال = كما روينا في دلائل النبوة للبيهقي بالإسناد إلي عثمان بن أبي العاص = قال: شكوت إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم سوء حفظي للقرآن، فقال شيطان يقال له خنزب ادن مني يا عثمان، ثم وضع يده علي صدري فوجدت بردها بين كتفي وقال: أخرج يا شيطان من صدر عثمان، قال: فما سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظته. فانظر أمر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بالخروج للشيطان، للعلم بأن ذلك بإذن الله تعالي وخلقه وتيسيره، وليس المراد نسبة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي الخلق والاستقلال بالأفعال، هذا لا يقصده مسلم فصرف الكلام إليه ومنعه من باب التلبيس في الدين والتشويش علي عوام الموحدين، وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وظهر المعني، فلا عليك في تسميته توسلا أو تشفعا أو استغاثة أو تجوها أو توجها، لأن المعني في جميع ذلك سواء. (أما التشفع) فقد سبق في الأحاديث المتقدمة قول وفد بني فزارة للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم: تشفع لنا إلي ربك، وفي حديث الأعمي ما يقتضيه أيضا، والتوسل في معناه، وأما التوجه والسؤال ففي حديث الأعمي والتجوه في معني التوجه، قال تعالي في حق موسي عليه الصلاة والسلام: (وكان عند الله وجيها)، وقال في حق عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام: (وجيها في الدنيا والآخرة)، قال المفسرون: وجيها أي [ صفحه 195] ذا جاه ومنزلة عنده، وقال الجوهري في فصل وجه وجيها ذا جاه وقدر، وقال الجوهري أيضا في فصل جوه الجاه القدر والمنزلة وفلان ذو جاه وقد أو جهته ووجهته أنا، أي جعلت وجيها. وقال ابن فارس: فلان وجيه ذو جاه، إذا عرف ذلك فمعني تجوه توجه بجاهه وهو منزلته وقدره عند الله تعالي اليه. (وأما الاستغاثة) فهي طلب الغوث وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالي وحده كقوله تعالي: (إذ تستغيثون ربكم)، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه علي سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وفي هذين القسمين تعدي الفعل تارة بنفسه كقوله تعالي: (إذ تستغيثون ربكم)، (فاستغاثه الذي من شيعته)، وتارة بحرف الجر = كما في كلام النحاة = في المستغاث به، وفي كتاب سيبويه رحمه الله تعالي، فاستغاث بهم ليشتروا له كليبا، فيصح أن يقال: استغثت النبي صلي الله تعالي عليه وسلم واستغثت بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم بمعني واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه علي النوعين السابقين في التوسل من غير فرق وذلك في حياته وبعد موته ويقول: استغثت الله واستغثت بالله، بمعني طلب خلق الغوث منه، فالله تعالي مستغاث فالغوث منه خلقا وإيجادا. والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم مستغاث والغوث منه تسببا وكسبا، ولا فرق في هذا المعني بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه أو لازما تعدي بالباء، وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم علي وجه آخر وهو أن يقال: استغثت الله تعالي بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم = كما تقول = سألت الله تعالي بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فيرجع إلي النوع الأول من أنواع التوسل ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال: استغثت بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم بهذا المعني، فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم له معنيان: (أحدهما): أن يكون مستغاثا. (والثاني): أن يكون مستغاثا به، والباء للاستغاثة، فقد ظهر جواز إطلاق الاستغاثة والتوسل جميعا، وهذا أمر لا يشك فيه، فإن الاستغاثة في اللغة طلب الغوث، [ صفحه 196] وهذا جائر لغة وشرعا من كل من يقدر عليه بأي لفظ عبر عنه = كما قالت أم إسماعيل =: أغث إن كان عندك غواث. وقد روينا في المعجم الكبير للطبراني حديثا ظاهره قد يقدح في هذا وساق إسناد الطبراني إلي أبي بكر قال أبو بكر رضي الله تعالي عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله عز وجل)، وهذا الحديث في إسناده عبد الله بن لهيعة، وفيه كلام مشهور فإن صح الحديث فيحتمل معاني: (أحدها): أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان قد أجري علي المنافقين أحكام المسلمين بأمر الله تعالي فلعل أبا بكر ومن معه استغاثوا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم ليقتله فأجاب بذلك، يعني أن هذا من الأحكام الشرعية التي لم ينزل الوحي بها وأمرها إلي الله تعالي وحده، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أعرف الخلق بالله تعالي فلم يكن يسأل ربه تغيير حكم من الأحكام الشرعية ولا يفعل فيها إلا ما يأمره به، فيكون قوله: لا يستغاث بي عاما مخصوصا، أي لا يستغاث بي في هذا الأمر، لأنه مما استأثر الله تعالي به ولا شك أن من أدب السؤال أن يكون المسؤول ممكنا فكما إنا نسأل الله تعالي إلا ما هو في ممكن القدرة الإلهية كذلك لا نسأل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلا ما يمكن أن يجيب إليه. (والثاني) أن يكون ذلك من باب قوله: ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، أي أنا وإن استغيث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالي، وكثيرا ما تجئ السنة بنحو هذا من بيان حقيقة الأمر ويجئ القرآن بإضافة الفعل إلي مكتسبه كقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله)، مع قوله تعالي: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، وقال صلي الله تعالي عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: (لأن يهدي الله بك رجلا واحد)، فسلك الأدب في نسبة الهداية إلي الله تعالي، وقد قال سبيل الكسب، ومن هذا قوله تعالي لنبيه صلي الله تعالي عليه وسلم: (وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم). [ صفحه 197] وأما قوله تعالي: (إنك لا تهدي من أحببت)، فالأحسن أن يكون المراد به التسلية، والحمل عن قلب النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في عدم إسلام عمه أبي طالب، فكأنه قد قيل أنت وفيت بما عليك وليس عليك خلق هدايته، لأن ذلك ليس إليك فلا تذهب نفسك عليه. وبالجملة إطلاق لفظ الاستغاثة بالنسبة لمن يحصل منه غوث إما خلقا وإيجادا وإما تسببا وكسبا أمر معلوم لا شك فيه لغة وشرعا، ولا فرق بينه وبين السؤال فتعين تأويل الحديث المذكور، وقد قيل إن في البخاري في حديث الشفاعة يوم القيامة " فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسي ثم بمحمد صلي الله تعالي عليه وسلم، وهو حجة في إطلاق لفظ الاستغاثة، ولكن ذلك لا يحتاج إليه، لأن معني الاستغاثة والسؤال واحد، سواء عبر عنه بهذا اللفظ أم بغيره، والنزاع في ذلك نزاع في الضروريات وجوازه شرعا معلوم، فتخصيص هذه اللفظة بالبحث مما لا وجه، وإنكار السؤال بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم مخالف لما قدمنا من الأحاديث والآثار وما أشرنا إليه مما لم نذكره إ ه. هذا آخر الباب الثامن. قد اطلعت علي ثرثرة لابن تيمية في التوسل بالنبي صلي الله عليه وسلم وقد اطلعت علي ثرثرة لابن تيمية في التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أذكرها برمتها ثم أبطلها. قال في الجزء الأول من فتاواه ص 293 و 294 مسألة في التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم هل يجوز أم لا. الجواب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوسلون به في حياته وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به، وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك [ صفحه 198] به، فللعلماء فيه قولان كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة علي أنه لا يسوغ الحلف به كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدي الروايتين عن أحمد، والرواية الأخري تنعقد اليمين به خاصة دون غيره، ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتب للمروزي صاحبه أنه يتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم في دعائه، ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام علي الله به ولا يقسم علي الله بمخلوق، وأحمد في إحدي الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخري هي قول جمهور العلماء إنه لا يقسم به، فلا يقسم علي الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال: إنه يقسم علي الله، كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا، ولهذا أفتي أبو محمد بن عبد السلام أنه لا يقسم علي الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روي عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم حديث في الإقسام به فقال: إن صح الحديث كان خاصا به، والحديث المذكور لا يدل علي الإقسام به، وقد قال النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها علي التوقيف والاتباع لا علي الهوي والابتداع إ ه. أقول: كلامه من أول الجواب إلي قوله وكان الصحابة رضي الله تعالي عنهم يتوسلون به، باطل بستة أوجه: الأول: هو السائل لنفسه أو أحد المفتونين به، وعلي كل فالسؤال غير محرر، وتحريره = علي رأيه = أن يقول: هل يجوز التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم أم لا، لأنه زعم أنه صلي الله تعالي عليه وسلم لا جاه له فالتوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم عنده شرك وعبادة للمتوسل به. والمتوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم مشرك عابد له عليه الصلاة والسلام، لأنه = في زعمه = التفت إلي جانب تعظيم الرسول وأهمل جانب توحيد الألوهية الذي جهله جميع المسلمين ولم يعرفوا = في زعمه = إلا توحيد الربوبية الذي شاركهم فيه جميع الكفار، ويكون الجواب المطابق لرأيه أن يقول بإيجاز: لا يجوز ذلك فهذره [ صفحه 199]

معني التوسل و الوسيلة

بما هو مشروع باتفاق المسلمين دس وتلبيس. الثاني: معني التوسل والوسيلة لغة عام فالتوسل لغة التقرب، والوسيلة كل ما يتوسل به إلي المقصود وعلي هذا المفسرون، فقد حكي أبو جعفر بن جرير في تفسيره في معناها ثلاثة أقوال: القربة عن سبعة من علماء التابعين، والمسألة عن السدي، والمحبة عن ابن زيد، ومعلوم لكل لبيب أن القربة عامة، ولذلك اقتصر عليها البغوي في تفسيره والنيسابوري في تفسيره قال: ولهذا (أي لأجل عموم الوسيلة لغة) قد تسمي السرقة توسلا، وجعل منها اجتناب النواهي وامتثال الأوامر، والخطيب الشربيني قال في تفسيره: اطلبوا ما تتوسلون به إلي ثوابه والزلفي منه من فعل الطاعات وترك المعاصي، والزمخشري قال في تفسيره: كل ما يتوسل به أي يتقرب به من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك إ ه. فتحقق بهذا عموم معني التوسل والوسيلة، وعليه فتتناول قول الناس اللهم إني أتوسل إليك بفلان وتتناول أيضا يا فلان ادع الله لي، فإن طلب دعاء الغير وسيلة إلي الله تعالي إذ هو من قبيل الشفاعة. وتتناول أيضا إحضار من يتوسل به، ودعا الله بحضرته كإحضار الفاروق للعباس ابن عبد المطلب رضي الله تعالي عنهما، أو الإتيان به مجردا عن الدعاء رجاء أن ينصرهم الله تعالي بوجوده معهم في الحروب كما أشار الإمام البخاري إلي ذلك في صحيحه، حيث ترجم بما يدل علي الاستعانة في الحروب بالضعفاء وأخرج فيه ما يدل علي أن الاستعانة لمجرد الحضور. وتتناول أيضا زيارة الصلحاء لتعود بركتهم علي الزائر فجميع هذا يقصد منه التوجه إلي الله تعالي والتقرب إليه بالمتوسل به ولا محذور في ذلك، ولا يعد عبادة للمتوسل به، وقد تقدم في بحث العبادة أن إرادة نفع الجاه المجردة عن التذلل لمن يراد جاهه ليست من العبادة في شئ، لأن التذلل والحالة هذه حقيقة إنما هو الله تعالي، والتوسل إليه تعالي بالمعظم عنده مما يقوي ذلك ويؤكده، فقصره التوسل المشروع علي أفعاله صلي الله تعالي عليه وسلم، وأفعال العباد جهل باللغة أو تحكم فيها لا مبرر له إلا هواه. الثالث: قوله (المأمور بها في حقه) افتراء علي الله تعالي، فإنه تعالي لم يأمر في كتابه العزيز بالتوسل بأفعاله صلي الله تعالي عليه وسلم وأفعال العباد فقط بل أمر بالوسيلة إليه [ صفحه 200] أمرا مطلقا وقرنها بالجنسية، فهي عامة في الأقوال والأعمال والذوات شاملة لما ذكره، وللتوسل بذاته صلي الله عليه وسلم، أي جاهه الذي منعه وكفر به المسلمين المتوسلين بالقياس الفاسد فشاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين. ومن الآيات القرآنية الدالة علي التوسل والتشفع بالمقربين لا سيما سيد المرسلين قوله تعالي: (وكانوا من قبل يستفتحون علي الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله علي الكافرين)، اتفق المفسرون علي أنها نزلت في يهود خيبر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان يهود خيبر يقاتلون غطفان كلما التقوا هزمت غطفان اليهود فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق هذا النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فصاروا بعد إذا التقوا دعوا به فيهزمون غطفان، فلما بعث الله تعالي محمدا صلي الله تعالي عليه وسلم كفروا به فأنزل الله تعالي الآية، فليتدبر العقلاء هذه المكانة التي له صلي الله تعالي عليه وسلم عند ربه كيف كان يستجيب لمن هو كافر به، ويعلم تعالي أنه يكون من أشد الناس عداوة له وإيذاء، وكان ذلك قبل بروزه صلي الله تعالي عليه وسلم إلي الوجود، فكيف وقد بعث رحمة للعالمين، فمن منع التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم فقد أعلم الناس أنه أسوأ حالا من اليهود. قال ابن القيم في بدائع الفوائد: إن اليهود كانوا يحاربون جيرانهم من العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قبل ظهوره فيفتح لهم وينصرون عليهم، فلما ظهر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كفروا به وجحدوا نبوته فاستفتاحهم به مع جحد نبوته مما لا يجتمعان، فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا وإن كان جحد نبوته = كما يزعمون حقا = كان استفتاحهم به باطلا، وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة إ ه. ومن الآيات القرآنية الدالة علي الطلب من المخلوق ولو لما لا يقدر عليه إلا الله إذا كان في مقام الكرامة للأولياء لقوله تعالي عن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين.. الآية)، فطلب من [ صفحه 201] الملأ، وهم الجن والإنس وفيهم مردة الشياطين، فأتي به الذي عنده علم من الكتاب ولم يتخلخل. وقد أجمع أهل العلم إن هذا من نوع الكرامة، والله تعالي ذكره، في كتابه العزيز في مقام الافتخار لذلك الرجل الصالح ولم يعتب علي سليمان ولم يقل له لم دعوت غيري وأنا أقرب إليك من حبل الوريد، وعبيدي غير قادرين علي هذا الأمر الذي لا يقدر عليه غيري، وذلك لأن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام يعلم أن ذلك من التماس الأسباب، وهو من المشروع الذي أمر الله تعالي به وكذلك الطلب من الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم أو من شهداء وصلحاء أمته إنما هو من نوع الكرامة والتسبب، والفاعل الحقيقي في ذلك هو الله تعالي، وكرامات الأولياء داخلة في معجزات الأنبياء لأنها بواسطتهم تكون للأولياء بسبب متابعتهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الرابع: قوله أيضا: (المأمور بها في حقه)، افتراء علي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فلو استظهر هو وجميع المفتونين به بالثقلين علي إثبات إن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم أمر بالتوسل بأفعاله وأفعال العباد فقط لم يستطيعوا ذلك. وحديث الأعمي نص صريح في التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم، وكذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، وقد أوله في رده علي الأخنائي ص 198 بحذف مضاف قال ومعني: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه وشفاعته، ولم يرد عمر بقوله: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي نسألك بحرمته، وثرثر ثم قال: (وكثير من الناس يغلط في معني قول عمر)، وكلامه هذا فاسد بأربعة أوجه: الأول: كلام أمير المؤمنين عمر نص في التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم لا يقبل التأويل. الثاني: الحذف علي خلاف الأصل. الثالث: الإرادة محلها القلب ولا علم له بأن عمر لم يرد التوسل بحرمته صلي الله تعالي عليه وسلم إلا من وحي الشيطان إليه. [ صفحه 202] الرابع: لو كان فهمه عدم جواز التوسل بحرمته صلي الله تعالي عليه وسلم من كلام عمر هذا صحيحا، وفهم علماء الإسلام قاطبة الذين عبر عنهم بالكثير، وزعم أنهم غلطوا في معني قول عمر منه جواز ذلك فاسدا لكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملبسا موقعا رعيته والمسلمين جميعا في الشرك = برأه الله من ذلك =، ولكان الواجب عليه لرعيته = علي مقتضي فهمه = أن يقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بدعاء نبيك وشفاعته، تلون وتخبط هذا المفتون في إبطال صريح توسل الفاروق بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فجعله هنا علي حذف مضاف، وفي الثرثرة التي أنا بصدد إبطالها جعل توسله بالعباس وعدم توسله بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم دليلا علي عدم جواز التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم = كما تلون وتخبط في كتبه في إبطال حديث الأعمي =، = وكما تلون وتخبط في الأسباب والموانع في رسالته الواسطة بين الخلق والحق =، وهي في خمسة أوراق، فقد جزم في أولها بأنه لا واسطة بين الخلق والخالق إلا بالرسالة، وناقض نفسه في وسطها فمشي علي نهج أهل الحق فقال: (فالالتفات إلي الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع إ ه). الخامس: (اللهم بحق السائلين عليك) الذي طفحت بذكره كتب الحنابلة نص صريح في التوسل بحرمته صلي الله تعالي عليه وسلم، فإن الحق هو الحرمة والمنزلة والجاه قطعا، أيكون يا عباد الله لكل مؤمن سائل حق وحرمة عند الله ولا يكون ذلك لسيد الوجود؟، إنها لا تعمي الأبصار. السادس: الصحاح والسنن والمسانيد مملوءة بالتبرك والتسبب بالذوات، فمن ذلك قول عروة بن مسعود الثقفي لقريش يوم الحديبية: لقد رأيت ملوك الروم وفارس وما رأيت قوما يعظمون صاحبهم مثل تعظيم أصحاب محمد لمحمد، أنه ليرمي بالنخامة فما تقع إلا في يد أحدهم فيدلك بها وجهه، ومن ذلك ازدحام الصحابة علي وضوئه صلي الله تعالي عليه وسلم متبركين به، فكان الذي لا يصل إلي لمس أعضائه الشريفة للبلل يأخذ من بلل يد صاحبه، ومن ذلك قسم أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه شعر رأسه الشريف لما حلقه عام حجة الوداع بين الصحابة، وقد أخذ خالد بن الوليد رضي الله [ صفحه 203] تعالي عنه شعرات من شعر ناصيته صلي الله تعالي عليه وسلم وخاطها في قلنسوة ولبسها قال: فما حضرت زحفا مهما كثر العدو إلا وتبين النصر بين عيني، أيرزق خالد النصر علي أعدائه بشعرات من شعره صلي الله تعالي عليه وسلم ولا يتوسل إلي الله تعالي بجاهه. ومن ذلك أنه صلي الله تعالي عليه وسلم مر علي قبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، ودعا بعسيب فشقه وجعل علي كل قبر نصفا وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا، ولا شك أن الجريد ذات، وليس هذا خاصا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم حتي يقال إن ارتفاع العذاب عنهما بسببه صلي الله تعالي عليه وسلم، بل أجمع العلماء علي العمل به في كل عصر، أيجوز التسبب بجريد النخل وهو ذات ولا يجوز التوسل والتسبب بذات سيد الوجود، فأي عقل لمن يمنع ذلك، ومن ذلك شرب مالك بن سنان رضي الله عنه دمه صلي الله تعالي عليه وسلم فقال له صلي الله تعالي عليه وسلم: (لن تصيبك النار)، وشرب عبد الله بن الزبير رضي الله تعالي عنهما دم حجامته صلي الله تعالي عليه وسلم فقال له صلي الله تعالي عليه وسلم: (ويل لك من الناس وويل لهم منك لا تمسك النار إلا تحلة القسم) ولم ينكر فعله. ومن ذلك شرب أم أيمن بوله صلي الله تعالي عليه وسلم فقال لها صلي الله تعالي عليه وسلم: (إنك لا تشتكي بطنك بعد يومك هذا)، فيا أمة الإسلام أيكون الدم والبول الخارجان من ذاته صلي الله تعالي عليه وسلم سببا لدفع النار والوجع عن شاربهما؟ ويمتنع التسبب والتوسل بذاته إلي الله تعالي؟ وهي من نور الله تعالي = كما في حديث جابر وغيره = فهل يعد المانع للتوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم من الأعداء أو من الأصدقاء. وقوله: (وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به) دليل علي مشروعية التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم وأنه ليس بعبادة للمتوسل به = كما زعم =. وقوله: (في حياته) تقييد فاسد ودعوي كاذبة، لأن الأصل في كل مشروع للأمة كتابا أو سنة أن لا يتقيد بحياته صلي الله تعالي عليه وسلم ولا بزمن مخصوص بل علي الاطلاق والتأبيد عند علماء الإسلام قاطبة، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ناسخ ولا مخصص ولا مقيد للتوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم بعد مشروعيته، واتفاق العلماء [ صفحه 204] عليها، وفعل الصحابة رضوان الله عليهم له، حجة دامغة له، وتقييده مشروعيته بأفعاله صلي الله تعالي عليه وسلم وأفعال العباد، فاسد، لا مبرر له إلا هواه، ولو كان صحيحا لكان صلي الله تعالي عليه وسلم ملبسا علي أمته المرحومة = برأه الله من ذلك وصلي عليه = ولكان الواجب عليه صلي الله عليه وسلم لنصح أمته والشفقة عليها أن يقول لهم: (لا تتوسلوا إلا بأفعالي وأفعالكم) ولا يوقعها في اللبس، وتقييده أيضا مشروعيته بحياته صلي الله تعالي عليه وسلم فاسد لا مبرر له إلا هواه، ولو كان صحيحا للزم منه تلبيسه صلي الله تعالي عليه وسلم علي أمته المرحومة = برأه الله من ذلك وصلي عليه =، ولكان الواجب عليه لها لنصحها والشفقة عليها أن يقول: (لا تتوسلوا بي بعد وفاتي) ولا يوقعها في اللبس، علي أنها دعوي كذبتها الأحاديث الثابتة في توسل الصحابة رضي الله عنهم به صلي الله تعالي عليه وسلم بعد وفاته كحديث عثمان بن حنيف رضي الله تعالي عنه، وقوله: (وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كان كانوا يتوسلون به)، تمسك علي تقييده الفاسد بالعدم وهو جعله توسل الفاروق بالعباس عم النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وتركه التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم دليلا علي منع التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم بعد وفاته، والترك عدم، والعدم ليس بدليل عند جميع العقلاء، وهذا يدل علي جهله بالدليل وبأصول الفقه جهلا مركبا كما هو جاهل باللغة وأصول الدين. ولما كان هذا النوع من التوسل وهو خروجه صلي الله تعالي عليه وسلم إلي المصلي وصلاته بهم ركعتين ودعاؤه لهم غير ممكن بعد انتقاله صلي الله تعالي عليه وسلم إلي الدار الآخرة، خرج أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالي عنه إلي المصلي والحق له في الاستسقاء بالناس كما كان صلي الله تعالي عليه وسلم يفعل، ولكنه تنازل عن حقه لعم رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فقدمه تعظيما لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وتوقيرا ومبالغة منه في التوسل برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ما استطاع، وإشادة بفضل أهل بيته صلي الله تعالي عليه وسلم ورضي عنهم. والعباس لما دعا توسل برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم حيث قال: (وقد تقرب القوم بي إليك لمكاني من نبيك)، أي لقرابتي له، (فاحفظ اللهم نبيك في عمه)، يعني اقبل دعائي لأجل نبيك، ومن فهم من توسل الفاروق بالعباس أنه إنما توسل به [ صفحه 205] ولم يتوسل برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، لأن العباس حي، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم ميت، فقد فسد جنانه واستحوذ عليه شيطانه، علي أن عمر رضي الله عنه لم يتوسل بالعباس من حيث ذاته وشكله وإنما توسل به من حيث قرابته من رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم. ولا ريب عند كل عاقل أن القرابة معني من المعاني، فهي الوجاهة والمنزلة. ولا ريب أيضا عند كل من له مسكة من عقل ودين إن الوجاه صفة ملازمة لصاحبها، لا فرق بين وجوده في الدنيا وبين انتقاله إلي الآخرة، فوجاهته صلي الله تعالي عليه وسلم عند ربه ملازمة له في الدارين، وهذا مما لا يشك فيه إلا من استحوذ عليه الشيطان، كما أن حياته صلي الله تعالي عليه وسلم وحياة جميع إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم، لا يشك فيها مسلم. وقد استفاضت الأحاديث بذلك، فمن قال إنه صلي الله تعالي عليه وسلم انقطع جاهه بعد موته فهو مضاه لمن قال: انقطعت رسالته صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته، ولا خلاف بين علماء الإسلام في كفر من قال بانقطاع رسالته صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته. وقوله: (وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بع فللعلماء فيه قولان): تلبيس وكذب مكشوفان. افتراؤه علي العلماء بأن لهم في التوسل به صلي الله عليه وسلم قولين فالتوسل مشروع معروف لم ينكره أحد من أهل الملل، ولم يقل أحد من علماء الإسلام (فيه قولان): فهو قول واحد لعلماء الإسلام قاطبة، وهو الجواز ضم إليه رأيه الفاسد ولبس به علي البسطاء وافتري علي العلماء، فلو كان صادقا أمينا علي نقل العلم عن العلماء لعزا كل قول منهما إلي قائله من العلماء الذين لبس بلفظهم، ولو كان صادقا محققا لبين القولين، هل هما مثلا بالجواز والمنع أو بالمنع والكراهة؟، ولو كان صادقا [ صفحه 206] محققا ما تركهما من غير توضيح ووثب إلي الثرثرة فيما لم يسأل عنه، وهو الحلف بالنبي صلي الله عليه وسلم. وقوله: (كما لهم في الحلف به قولان، إلي قوله ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي) طفرة إلي غير مسؤول عنه قبل توضيحه المسؤول عنه وتلبيس، فإن الأكثرين من أصحاب وأتباع الإمام أحمد علي لزوم الكفارة لمن حلف به صلي الله عليه وسلم وحنث واحتجوا له بأنه صلي الله تعالي عليه وسلم شطر الإيمان، فاليمين تنعقد به. قال ابن قدامة في مغنيه: (فصل:) ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي، وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم يمين موجبة للكفارة، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلف بحق رسول الله صلي الله عليه وسلم فحنث فعليه الكفارة، قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة، فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله إ ه. الأكثرون من أصحاب وأتباع الإمام أحمد علي لزوم الكفارة لمن حلف به صلي الله تعالي عليه وسلم وحنث وقال ابن مفلح في الفروع ج 3 ص 703: وتلزم الكفارة حالفا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم اختاره الأكثرون، والتزم ابن عقيل ذلك في كل نبي إ ه. وقوله: (ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي إلي قوله ولكن غير أحمد)، ذكره الحنابلة في كتبهم وأخذوا منه جواز أو استحباب التوسل بالصالحين. [ صفحه 207]

تنصيص الحنابلة في كتبهم علي التوسل بالصالحين

قال ابن مفلح في الفروع ج 1 ص 595: ويجوز التوسل بصالح وقيل يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي إنه يتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره إ ه. وقال في كشاف القناع: وقد استسقي عمر بالعباس ومعاوية بيزيد بن الأسود واستسقي به الضحاك مرة أخري، ذكره الموفق والشارح، وقال السامري وصاحب التلخيص: لا بأس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ والعلماء المتقين. وقال في المذهب يجوز أن يستشفع برجل صالح وقيل يستحب. قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي: إنه يتوسل بالنبي صلي الله عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره إ ه. قال حامد الفقي في تعليقه علي كشف القناع: يريد الإمام أحمد التوسل بطاعته واتباع هديه صلي الله تعالي عليه وسلم لا التوسل بجاهه وقد علق علي كلام الإمام أحمد هذا حامد الفقي في الطبعة الجديدة من كشاف القناع بقوله: يريد الإمام رضي الله تعالي عنه: التوسل بطاعته اتباع هديه صلي الله تعالي عليه وسلم لا التوسل بجاهه = كما يفعله المبتدعون الغارقون في بحار الغفلة لتقليدهم الأعمي وهم لا يشعرون =، وهذا الذي حققه الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره من علماء السلف الصالح إ ه. هذا المؤجر كإمامه لا يحسن غير الشتم والتحقير لينظر الألباء كلام هذا المؤجر الذي لا يحسن من العلم إلا بضاعة شيخه الحراني [ صفحه 208] شتم علماء الإسلام وتكفيرهم وتحقيرهم، فأصحاب الإمام أحمد وأتباعه آلاف الفقهاء كانوا كلهم = في رأي هذا السفيه = مبتدعة غارقين في بحار الغفلة حيث لم يفهموا المراد من كلام إمامهم العربي الواضح، وهو (أنه يتوسل بالنبي صلي الله عليه وسلم في دعائه)، فحملوه علي التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم غلطا منهم، ولم يشعروا بهذا الغلط العظيم حتي جاء إمامه الحراني في المائة الثامنة ففهم مراد الإمام أحمد وحققه، وبهتانه علي علماء السلف الصالح، ولا أحد من علماء السلف والخلف أيضا قال بهذا فلفظ (وغيره إلي آخر الهراء) بهتان علي السلف، ولو كان صادقا لسمي لنا ولو واحدا من هذا لغير المفرغ في صيغة التلبيس التي يتسنمها الدجالون الأفاكون وتروج عند الأغبياء. تلبيسه وخلطه بين التوسل بالنبي صلي الله عليه وسلم والإقسام علي الله به وقوله: (ولكن غير أحمد قال إن هذا إقسام علي الله به إلي قوله وأحمد في إحدي الروايتين) تلبيس، فغير من صيغ التلبيس التي سنها هذا المفتون لمؤلهي رأيه، وهي متوغلة في الابهام باتفاق أهل اللسان، فمن هذا الغير الذي خلط بين التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم والإقسام علي الله به، ألا سمي لنا ولو واحد من هذا الغير الذي خالف أحمد حتي نعرض قوله علي محك التحقيق. وقوله: (وأحمد في إحدي الروايتين قد جوز القسم به إلي قوله ولكن الرواية الأخري عنه) تعليل فاسد: ومن أين له أن الإمام أحمد جوز التوسل به صلي الله عليه وسلم لأجل أنه قد جوز القسم به إلا من وحي الشيطان؟، وله آلاف الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وأتباعه كلهم كانوا أغبياء؟، حيث إنهم لم يفهموا هذا التعليل من كلام الإمام أحمد الواضح حتي جاء هو في المائة الثامنة ففهمه؟. وقوله: (ولكن الرواية الأخري عنه إلي قوله فإنا لا نعلم أحدا)، باطل لأنه لا ملازمة بين القسم به صلي الله عليه وسلم والإقسام علي الله تعالي به، ومن أين له أن الإمام [ صفحه 209] أحمد قال في الرواية الأخري التي هي قول جمهور العلماء إنه لا يقسم به صلي الله تعالي عليه وسلم لأنه لا يقسم علي الله به؟، ومن أين له أيضا أن جمهور العلماء القائلين بعدم جواز القسم به صلي الله تعالي عليه وسلم قالوا أيضا بعدم جواز الإقسام علي الله تعالي به صلي الله تعالي عليه وسلم إلا من وحي الشيطان؟، وهل الآلاف المؤلفة من أتباع الإمام أحمد كانوا كلهم أغبياء، حيث لم يفهموا الملازمة بين عدم جواز القسم به صلي الله تعالي عليه وسلم في الرواية الأخري لأحمد، وبين عدم جواز الإقسام علي الله به صلي الله تعالي عليه وسلم حتي جاء هو في المائة الثامنة ففهمها؟. الجمهور علي جواز الإقسام علي الله تعالي وقوله: (فإنا لا نعلم أحدا إلي قوله ولهذا أفتي أبو محمد بن عبد السلام) باطل، فعدم علمه هو بذلك لا يستلزم نفي علم غيره بذلك، والجمهور علي جواز الإقسام علي الله تعالي ببعض مخلوقاته نبيا أو غيره، والدليل قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم علي الله عز وجل لأبره) = أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالي عنه =. وقوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم علي الله لأبره) = رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه =، ورواه الحاكم وأبو نعيم بلفظ: (رب أشعث أغبر تنبو عنه أعين الناس لو أقسم علي الله لأبره)، ورواه البزار عن ابن مسعود بلفظ: (رب ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم علي الله لأبره). وروي الشيخان وابن ماجة عن حارثة بن وهب: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مستضعف لو أقسم علي الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ؟ متكبر). ورواه الترمذي عن أنس رضي الله تعالي عنه بلفظ: (رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم علي الله لأبره منهم البراء بن مالك)، فلما كان يوم تستر انكشف الناس، [ صفحه 210] فقال المسلمون يا براء أقسم علي ربك فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك، فحمل وحمل الناس معه فقتل مرزبان الزارة من عظماء الفرس وأخذ سلبه، فانهزم الفرس وقتل البراء رضي الله تعالي عنه. أهل الدلال يقسمون عليه تعالي ملاحظين ما أكرمهم به من نعمة الإيمان والتوفيق لطاعته فإن قيل لا دلالة في هذين الحديثين علي جواز الإقسام علي الله بمخلوق لأن المقسم به محذوف فيهما، ويتعين حمله علي الله تبارك وتعالي، والتقدير لو أقسم علي الله به فيتحد المقسم عليه والمقسم به. فالجواب: تعيين حمله علي الله دون المخلوق يحتاج إلي دليل خاص، والأصل عدم اتحاد المقسم عليه والمقسم به، وعليهما فيجوز تقدير المحذوف لو أقسم علي الله به، كما يجوز تقديره نبيا أو غيره كأقسمت عليك يا ربك بنبيك، أو بي مثلا، علي أنهما يدلان صراحة علي التنويه بعظمة المقسم ومنزلته عند الله تعالي، وأهل الدلال يقسمون عليه تعالي ملاحظين ما أكرمهم به من نعمة الإيمان والتوفيق لطاعته واثقين في فضله وكرمه بإجابة طلبهم. ذكر التستري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كان لكم إلي الله تعالي حاجة فأقسموا عليه بي، فأتي الواسطة بينكم وبينه الآن بحكم الوراثة عن المصطفي صلي الله تعالي عليه وسلم. وقوله: (ولهذا أفتي أبو محمد بن عبد السلام إلي قوله والحديث المذكور لا يدل علي الإقسام به) غير عن ابن عبد السلام، فإنه رحمه الله تعالي جزم بأن الإقسام علي الله تعالي خاص بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وتعقبه العلماء بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وقوله: (والحديث المذكور لا يدل علي الإقسام به) صحيح أن قصد به حديث [ صفحه 211] الأعمي، فإنه إنما يدل علي جواز التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم، ومعلوم لدي كل عاقل أن التوسل شئ والإقسام علي الله تعالي شئ آخر، وفاسد إن قصد به الحديثين اللذين ذكرتهما، فلا يقول من له مسكة من عقل وفهم فيهما أنهما لا يدلان علي الإقسام علي الله تعالي. التوسل شئ، والإقسام علي الله شئ آخر من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك محمول علي الزجر والتغليظ وقد حمل العلماء الحديثين في قوله: (وقد قال النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي قوله والدعاء عبادة) علي ما يأتي: قال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب الإيمان: وقد أخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله تعالي، فإني سمعت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قال الترمذي حسن والحاكم صحيح والتعبير بقوله فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك. وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك. وقال أيضا في شرح قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت): - " وأما اليمين بغير الله تعالي وصفاته فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتحريم قولان: المشهور عند المالكية أنه للكراهة والخلاف أيضا عند الحنابلة والمشهور عندهم للتحريم، وجمهور أصحاب الشافعي علي أنه للتنزيه. وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل: فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالي حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا، وعليه يتنزل الحديث المذكور إ ه ". [ صفحه 212] ومقصوده بالحديث المذكور: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وبهذا يعلم ما في إطلاقه الاستدلال بالحديثين من المجازفة، ويلزم من مجازفته هذه أن يكون إمامه أحمد وأصحابه وأكثر أتباعه حيث جوزوا الحلف بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأوجبوا الكفارة علي من حنث بذلك قد جوزوا الكفر والشرك للمسلمين نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الدعاء لفظ مشترك بين معان منها: العبادة وقوله: (والدعاء عبادة) ليس بصحيح، والدعاء لفظ مشترك بين معان منها: العبادة نحو: " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " والاستغاثة نحو: " وادعوا شهداءكم " والسؤال نحو: " ادعوني أستجب لكم " والقول نحو: " دعواهم فيها سبحانك اللهم "، والنداء نحو يوم يدعوكم، والتسمية نحو لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، والنسبة كقوله تعالي: ادعوهم لآبائهم، أي انسبوهم إليهم. وقوله: (والعبادة مبناها علي التوقيف والاتباع لا علي الهوي والابتداع "، كلمة حق أريد بها باطل، أراد إن التوسل بجاه نبي أو صالح عبادة له وقد تقدم إبطاله في الفصل الثاني وفي هذا بالبراهين، فليس التوسل من العبادة في شئ، ولا يكون عبادة إلا إذا عظم المتوسل المتوسل به كتعظيم الله تعالي. الباب التاسع في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورتب الكلام فيه علي خمسة فصول وأفاض وأجاد قال الإمام العلامة أبو الحسن السبكي: الباب التاسع في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد تضمنت الأحاديث المتقدمة أن روح النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ترد عليه وأنه يسمع ويرد السلام، فاحتجنا إلي النظر فيما قد قيل في ذلك بالنسبة إلي الأنبياء والشهداء وسائر الموتي، ورتب الكلام في هذا الباب علي خمسة فصول: [ صفحه 213]

حياة الأنبياء

الفصل الأول: فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذكر أن الحافظ أبا بكر البيهقي صنف في ذلك جزءا وأفاض في سرد الأحاديث والتحقيق في ذلك في عشر صفحات. الفصل الثاني: حقق فيه حياة الشهداء. الفصل الثالث: حقق فيه سماع سائر الموتي وكلامهم وإدراكهم وعود الروح إلي الجسد في ثمان صفحات. الفصل الرابع قال: قد عرفت مقالات الناس في سائر الموتي وفي الشهداء، وعرفت أن القول فيهم بعود الروح إلي الجسد وبقائها فيه إلي يوم القيامة بعيد مخالف للحديث الصحيح أنها ترجع إلي جسده يوم القيامة. وعرفت أن النعيم حاصل الأرواح السعداء من الشهداء وغيرهم، والعذاب حاصل للأشقياء، فلعلك تقول ما الفرق حينئذ بين الشهداء وغيرهم؟، والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: إن إثبات الحياة للشهداء لا ينفي ثبوتها عن غيرهم، فالآيتان الكريمتان الواردتان في قوله تعالي: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم)، ليس فيهما نفي هذا الحكم عن غيرهم، بل الرد علي من يعتقد أنهم ليسوا كذلك، ونص عليهم لأن الواقعة كانت فيهم، الثاني: أنواع الحياة متفاوتة، حياة الأشقياء معذبين، أعاذنا الله تعالي منها، وحياة بعض المؤمنين من المنعمين، وحياة الشهداء أكمل وأعلي، فهذا النوع من الحياة والرزق لا يحصل لمن ليس في رتبتهم. وأما حياة الأنبياء فأعلي وأكمل وأتم من الجميع، لأنها للروح والجسد علي الدوام علي ما كان في الدنيا علي ما تقدم عن جماعة من العلماء، ولو لم يثبت ذلك فلا شك في كمال حياتهم أيضا أكبر من الشهداء وغيرهم. أما بالنسبة إلي الروح فلكمال اتصالها ونعيمها وشهودها للحضرة الإلهية، وهي مع ذلك مقبلة علي هذا العالم ومتصرفة فيه، وأما بالنسبة إلي الجسد فلما ثبت فيه من الحديث، وبالجملة كل أحد يعامل بعد موته كما كان يعامل في حياته، ولهذا يجب [ صفحه 214] الأدب مع النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته كما كان في حياته. وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عني أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت علي نبي حيا ولا ميتا، وروي عن عائشة رضي الله تعالي عنها إنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك = هكذا رواه الحسيني في أخبار المدينة =. وهذا مما يدل علي أنهم كانوا يرون أنه حي، وعن عروة قال وقع رجل في علي عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال له عمر: قبحك الله لقد آذيت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم في قبره، ومن نظر سير السلف الصالحين والصحابة والتابعين علم أنهم كانوا في غاية الأدب مع النبي صلي الله عليه وسلم بعد موته كما كانوا في حياته وكانوا مع قبره الشريف كذلك. ثم قال: ولذلك كانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يغضون أصواتهم في مسجده صلي الله تعالي عليه وسلم تعظيما له. ففي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه أنه قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، ولو جمعنا الأحاديث الصحيحة التي فيما ما كانت الصحابة عليه من تعظيم رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وتعظيم آثاره وأدبهم معه لجاءت مجلدات. ثم قال: الفصل الخامس، كان المقصود بهذا كله تحقيق السماع ونحوه من الأعراض بعد الموت، فإنه قد يقال إن هذه الأعراض مشروطة بالحياة، فكيف تحصل بعد الموت وهذا خيال ضعيف؟ لأنا لا ندعي أن الموصوف بالموت موصوف بالسماع، وإنما ندعي أن السماع بعد الموت حاصل لحي، وهو إما الروح وحدها حالة كون الجسد ميتا أو متصلة بالبدن حالة عود الحياة إليه، والإنسان فيه أمران: جسد ونفس، فالجسد إذا مات ولم تعد إليه الحياة لا نقول بقيام شئ من الأعراض المشروطة بالحياة [ صفحه 215] به وإن عادت الحياة إليه صح اتصافه بالسماع وغيره من الأعراض، والنفس باقية بعد موت البدن عالمة باتفاق المسلمين، حتي أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت سماع أهل القليب وافقت علي العلم وقالت: إنما قال إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، بل غير المسلمين من الفلاسفة وغيرهم ممن يقول ببقاء النفوس يقولون بالعلم بعد الموت، ولم يخالف في بقاء النفوس إلا من لا يعتد به، وليس مرادنا أنها واجبة البقاء = كما قال به بعض أهل الزيغ والإلحاد = ولا أنها تبقي دائما وإن كانت ممكنة فإنه قد يفنيها الله تعالي عند فناء العالم ثم يعيدها، وإنما المراد أنها تبقي بعد موت البدن، ثم بعد ذلك إن فنت أعيدت مع البدن يوم القيامة وإن لم تفن أعيد البدن ورجعت قال العلامة السيد علوي بن أحمد الحداد في كتابه مصباح الأنام وجلاء الظلام في الفصل الرابع عشر: أعلمني من حضر في صلاتهم يوم الجمعة بالدرعية شهرا والخطيب حسين الأعمي بن محمد بن عبد الوهاب يقول في خطبته الثانية: (ومن توسل بالنبي فقد كفر)، ومن أشهر مسائلهم التي يكفرون بها المسلمين: (يا رسول الله)، فكل من تلفظ بهذا الكلام فهو عندهم مشرك كافر، وحجتهم علي تكفيره زعمهم أن فيه نداء الأموات، ونداء الأموات عندهم شرك. وقد كذبهم الحديث الصحيح وهو قوله صلي الله تعالي عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: (إن القلب يحزن وإن العين تدمع وأنا عنك يا إبراهيم لمحزونون)، فيلزم علي فهمهم الأعوج أن يكون النبي صلي الله تعالي عليه وسلم.. حيث نادي ميتا، = نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان =. وكذبهم أيضا ما ذكره ابن كثير في بدايته، وهو تيمي، إن شعار الصحابة رضوان الله عليهم يوم اليمامة (وا محمداه) فيلزم علي فهمهم الأعوج أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم.. حيث ناوا ميتا، = نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان =. [ صفحه 216] كشف حال ابن تيمية في دفع شبه من شبه وتمرد " دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلي السيد الجليل الإمام أحمد، كتاب ألفه العلامة الشريف تقي الدين أبو بكر الحصني الدمشقي المتوفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة أثبت فيه كثيرا من مسائل ابن تيمية التي حاد فيها عن طريق الحق ولو لم يكن فيه إلا مرسوم السلطان الناصر محمد بن قلاوون في شأن ابن تيمية لكان كافيا في كشف حال ابن تيمية لكل مسلم نور الله بصيرته، طبع في مطبعة عيسي الحلبي سنة خمسين وثلاثمائة وألف. وإني أنقل للقراء مقدمة كلامه في ابن تيمية، ثم مرسوم السلطان المذكور، ثم بعض شواذ ابن تيمية. قال رحمه الله تعالي: فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة، وتبعه علي ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد الله عز وجل إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر علي النطق به، ولا لي أنامل تطاوعني علي رسمه وتسطيره، لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين، فعدلت عن ذلك إلي ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين، فمنه ما دون في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات، وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات، وتضمنه الفتاوي الزكيات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة علي رؤوس الأشهاد في المجامع الجامعة حتي شاع وذاع واتسع به الباع حتي في الفلوات، فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمه الله تعالي وقرئ علي منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة. [ صفحه 217]

كلام التقي الحصني أيضا في ابن تيمية

وقال العلامة تقي الدين الحصني في دفع شبه من شبه وتمرد: ومن قواعده المقررة عنده، وجري عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقا كان أو باطلا، ولو بالإيمان الفاجرة سواء كانت بالله عز وجل أم بغيره. وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أم الكناية أم التعليق أم التنجيز، وهذا مذهب الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا، وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خز عبلات ومكر، وإلا فهو لا يوقع طلاقا علي حالف به ولو أتي به في اليوم مائة مرة علي أي وجه، سواء كان حثا أم منعا أم تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وإن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة، وقد وقفت علي مصنف له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلي زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن تيمية؟، فقال اشهد علي أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك، ولكن جري علي قاعدتهم في التستر والتقية، فنسأل الله تعالي العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل إ ه. وقوله: (ثم قاموا عليه سنة 726 بسبب مسألة الزيارة وحبس بالقلعة إلي أن مات بسنة 728)، أي علماء دمشق أيضا صحيح أيضا، فقد أفتي بأن شد الرحال إلي زيارة قبره صلي الله تعالي عليه وسلم بدعة ومعصية لا يجوز قصر الصلاة فيها، وقد رد عليه فيها علماء أعلام في مقدمتهم الإمام السبكي، وقد تقدم تلخيصي لكتابه. وقوله: (ونسبوه إلي التجسيم لما ذكره في عقيدته الحموية والواسطية وغيرهما إلي قوله وخطأ عمر بن الخطاب) صحيح أيضا، ولو لم يدل علي تجسيمه من كلامه إلا زعمه أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله تعالي، وأنه تعالي مستو علي العرش بذاته لكفي. [ صفحه 218] قد افتري في هذا الزعم علي الله تبارك وتعالي وعلي رسول صلي الله تعالي عليه وسلم وقد افتري في هذا الزعم علي الله تعالي وعلي رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم وعلي السلف الصالح الذين يلبس بهم علي الأغبياء وأشباههم أربع مرات، تسميته للمذكورات بالصفات، وزعمه أنها حقيقية، وزعمه أنه تعالي مستو علي العرش بصيغة اسم الفاعل، وبذاته، فلو استظهر بمشبهة الأرض جميعا علي إثبات هذه الأربعة في كتاب الله عز وجل، أو في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم أن عن أي واحد من السلف الصالح لم يستطع، وإلزام العلماء له بأنه قال بالتحيز في ذات الله تعالي صحيح، وعدم تسليمه كون التحيز والانقسام من خواص الأجسام دليل علي نقصان عقله ومكابرته. قال الإمام المحقق أبو الحسن السبكي في طليعة رسالته: (الدرة المضية في الرد علي ابن تيمية) ما نصه: أما بعد! فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد: ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة مظهرا أنه داع إلي الحق هاد إلي الجنة، فخرج عن الاتباع إلي الابتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الاجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة وإن الافتقار إلي الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالي، وإن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدي في ذلك إلي استلزام قدم العالم (والتزامه) بالقول بأنه لا أول للمخلوقات، فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين، وكل ذلك وإن كافر كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة إلي ما أحدث في الفروع، فإن متلقي الأصول عنه وفاهم ذلك منه هم الأقلون والداعي إليه من أصحابه هم الأرذلون، وإذا حوققوا في ذلك أنكروه وفروا [ صفحه 219]

القول في الطلاق

منه، كما يفرون من المكروه، ونبهاء أصحابه ومتدينوهم لا يظهر لهم إلا مجرد التبعية للكتاب والسنة والوقوف عندما دلت عليه من غير زيادة ولا تشبيه ولا تمثيل إ ه. قال الحافظ ابن حجر في كتاب التوحيد وقال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب " التوحيد " في شرح قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (وكان الله ولم يكن شئ قبله) ما نصه: تقدم في بدء الخلق بلفظ ولم يكن شئ غيره، وفي رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كل شئ)، وهو بمعني: (كان الله ولا شئ معه)، وهي أصرح في الرد علي من أثبت حوادث لا أول لها (من رواية الباب) وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية إ ه. تخطئته وطعنه في مسألة الطلاق الثلاث وقوله: (1) (وخطأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)، أراد به تخطئته له في إيقاعه الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا بمحضر علماء الصحابة مهاجرين وأنصارا، فلا اختصاص للفاروق بالطعن والتخطئة فقد طعن وخطأ الصحابة الذين وافقوه عليها وخالف إجماعهم وإجماع من بعدهم من علماء الأمة، وقد ثرثر ابن القيم في هذه المسألة في هديه وتوقح وتغطرس ومدح نفسه، وشيخه الحراني قال في ج 4 ص 62 منه: وليس التحاكم في هذه المسألة إلي مقلد متعصب ولا هياب للجمهور، ولا مستوحش من التفرد إذا كان الصواب في جانبه، وإنما التحاكم فيها إلي راسخ في العلم قد طال فيه باعه وأسهب في إطراء نفسه. ثم قال: فقد توفي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف عين، كلهم قد رآه وسمع منه، فهل يصح لكم عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو [ صفحه 220] عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد؟. ثم قال: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأي إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم إ ه. قوله وليس التحاكم في هذه المسألة إلي مقلد متعصب، يصدق عليه المثل: (رمتني بدائها وانسلت)، ولا شك عند كل عاقل أن التقليد والتعصب لعلماء خير القرون خير وأولي من تقليده وتعصبه للحراني الذي جاء في القرون المتأخرة عند الموازنة، والوقح الذي لم يتأدب بآداب الشرع الشريف، ومن آدابه مراعاة السواد الأعظم، كما قال صلي الله تعالي عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، خلق بعدم الهيبة من الجمهور وعدم الاستيحاس من التفرد، ومعاذ الله أن يكون الصواب في جانب الشاذ الطاعن في الأمة الإسلامية جمعاء سلفها وخلفها. وقوله: (وإنما التحاكم فيها إلي راسخ في العلم قد طال فيه باعه إلي آخر هذره)، بلغ في الغطرسة والتعاظم علي خير القرون فمن بعدهم منتاهما؟. وقوله: (فقد توفي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف الخ..)، رده الكمال ابن الهمام بما نصه: وقول بعض الحنابلة القائلين بهذا المذهب، (توفي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف الخ) باطل.. أما أولا: فإجماعهم ظاهر فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه خالف عمر رضي الله تعالي عنه حين أمضي الثلاث، وليس يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة ألف أن يسمي كل ليلزم في مجلد كبير حكم واحد، علي أنه إجماع سكوتي. وأما ثانيا: فإن العبرة في نقل الاجماع، نقل ما عن المجتهدين لا العوام، والمائة الألف الذين توفي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عنهم لا يبلغ عدة الفقهاء المجتهدين منهم أكثر من عشرين، كالخلفاء والعبادلة ومعاذ بن حبل وزيد بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنهم وقليل، والباقون يرجعون إليهم ويستفتون منهم. [ صفحه 221] وقد أثبتنا النقل عن أكثرهم صريحا بإيقاع الثلاث، ولم يظهر لم مخالف، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟، وعن هذا قلنا: لو حكم حاكم أن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لا اختلاف، والرواية عن أنس رضي الله عنه بأنها ثلاث أسندها الطحاوي وغيره. وغاية الأمر أن يصير كبيع أمهات الأولاد أجمع علي نفيه، وكن في الزمن الأول يبعن، وبعد ثبوت إجماع الصحابة رضي الله عنهم لا حاجة إلي الاشتغال بالجواب إ ه. وأما دعواه الاجماع القديم وإنه لم تجمع الأمة علي خلافه فهي دعوي عجيبة غريبة، لا أدري كيف ساغ لابن القيم أن يتوكأ عليها ويتخذها حجة، مع أن انعقاد الاجماع لا يكن إلا إذا صح اشتهار الفتوي بما زعمه وبلوغها للكل والإقرار والسكوت عليها، وكل ذلك لم يثبت، وإنما أخذ ذلك من سياق رواية ابن عباس رضي الله عنهما وقد علمت ما فيه، علي أنه لو صح أن فيه إجماعا قديما سابقا علي مناداة عمر يلزم أن عمر خالف السنة الصحيحة وخالف الاجماع أيضا بمحض رأيه. ويلزم من أن كل من في عصر عمر، وكان موجودا وقت المناداة ووافقوه علي ما أمضاه قد خالفوا السنة والإجماع أيضا، مع أن الذين وافقوه علي ذلك هم جميع المجتهدين في عصره من الصحابة والتابعين، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه خالفه، فتكون الأمة قد أجمعت ثانيا علي خلاف ما أجمعت عليه أولا، فيلزم أن تكون الأمة قد أجمعت علي خطأ: أما أولا وأما ثانيا وكل ذلك باطل. وأما قوله: (ولكن رأي أمير المؤمنين أن الناس قد استهانوا بأمر الطالق الخ.) فهو قول باطل، لأن العقوبة لا يجوز أن تكون بما يخالف السنة والإجماع، وإحداث حكم علي خلافهما وحاشا عمر أن يري من المصلحة عقوبة الناس بإحداث حكم علي خلاف السنة والإجماع، مع أن إحداث ذلك أكبر جرما مما فعله الناس لو صح إ ه، تحقيق شيخنا العلامة المرحوم محمد بخيت المطيعي، والشوكاني من المتشبعين بما لم يعطوا، المقدسين ابن تيمية، وهو أشد في هذه المسألة وقاحة وسفاهة من ابن القيم قال في نيل [ صفحه 222] أوطاره: والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة علي حديث ابن عباس، (وكلها خارجة عن دائرة التعسف)، والحق أحق بالاتباع فإن كانت تلك المحاماة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تؤثر علي السنة المطهرة، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب، فأين يقع المسكين من رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم؟، ثم أي مسلم يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي علي قول المصطفي صلي الله عليه وسلم؟ إ ه. قوله وكلها خارجة عن دائرة التعسف حجة عليه، ولعله أراد وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف، فطمس الله بصيرته أو بصيرة صاحب المطبعة فحذف لفظة (غير). أين في السنة المطهرة أنه صلي الله تعالي عليه وسلم قال من طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فهو واحدة وقوله: فإن كانت تلك المحاماة إلي قوله وإن كانت لأجل عمر، مشتمل علي سفاهة وتحقير صريحين للأمة الإسلامية جمعاء سلفها وخلفها وعلي افتراء علي السنة المطهرة، فيقال له ولأشباهه الجعجاعين المتغطرسين، أين في السنة المطهرة أنه صلي الله تعالي عليه وسلم قال من طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فهو واحدة؟، فلو استظهرتم بمبتدعة الأرض جميعا علي إثبات هذا عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم تستطيعوا. وقوله (وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم)، ازدراء صريح للفاروق الذي قال فيه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: (أن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه) = أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر وأبو داود والحاكم عن أبي ذر وأبو يعلي والحاكم عن أبي هريرة والطبراني عن بلال ومعاوية =، ولعلماء الصحابة الذين وافقوه علي وقوع الثلاث بلفظ واحد فلفظة المسكين دالة علي ازدرائه بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم علي رأي معبوده الحراني أن يكونوا كلهم مساكين، وقوله (ثم أي مسلم إلي آخر الهراء) كلمة حق أريد بها باطل، وتقويم قوله يستحسن عقله، ويسوغ له عقله وعلمه تقديم قول صحابي [ صفحه 223] الخ..، والأحسن والأخصر تعبيرا أن يقول لا يسوغ لأي مسلم أن يقدم قول صحابي علي قول المصطفي صلي الله عليه وسلم. هو في زعمه مجتهد كبير ويوجب الاجتهاد في دين الله علي جميع الناس وكل مسلم يقول بموجب هذا، = وهو في زعمه مجتهد كبير، ويوجب الاجتهاد في دين الله علي جميع الناس حتي الغوغاء أتباع كل ناعق والأجلاف. وقد ازداد الأوباش المجتهدون في عصرنا هذا كثرة، وهاهم منتشرون في أنحاء المعمورة يفسرون كلام الله تعالي برأيهم، وينزلون السنة المطهرة علي حسب أهوائهم، ويطعنون فيها، إذا صادمت أهواءهم ولو كانت متواترة أو صحيحة، وأسس اجتهادهم: وقاحة وجه حده يفلق الصخرا، وموضوعه وغايته: ادعاء السلفية للتلبيس علي العامة، والطعن في أئمة الدين وعلمائه. فأركان اجتهادهم ثلاثة: الوقاحة وادعاء السلفية والطعن في العلماء الماضين، لا يتم ولا يكمل إلا بها، وهو بهذا الرأي الفاسد مصادم لحكمة الله تعالي في خلقه، فإنه عز وجل كما جعل الناس مختلفين في الألوان والألبسة جعلهم مختلفين في الفقر والغني والعلم والجهل والصنائع والمهن، فلو جعلهم تعالي كلهم أغنياء أو فقراء أو علماء أو زراعين أو حدادين أو أو.. لم يعمز؟ الكون أبدا، ولو جعلهم تعالي كلهم مجتهدين لبطلت الآية الشريفة الدالة علي سائل ومسؤول، (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وبطل أيضا قوله تعالي: (ولو ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، وأولو الأمر هم العلماء المجتهدون، ومصادم لسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعي لها من سامع ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه)، وقوله صلي الله تعالي عليه وسلم أيضا: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم [ صفحه 224] يعلموا)، ومصادم أيضا للواقع فإنه صلي الله تعالي عليه وسلم توفي عن أكثر من مائة ألف صحابي، والعلماء المفتون منهم لا يتجاوزن العشرين. وهذا الجمهور العظيم يرجع في الفتوي إليهم = كما اعترف بذلك ابن القيم في أول أعلام الموقعين =. من زعم أن كل واحد من الصحابة كان كغيره من علمائهم في العلم فهو مفتر أفاك ومن زعم أن كل واحد من هذا الجمهور كان كغيره من علمائهم فهو مفتر أفاك، ومن زعم أيضا أن علماء الصحابة كانوا يخبرون السائل بدليل مسألته من كتاب الله وسنة رسوله = كما ادعي هذا السخيف = فهو مفتر أفاك. ومن زعم أن جميع النوازل الفقيهة منصوص عليها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو مفتر أفاك ومن زعم أيضا أن جميع النوازل الفقهية منصوص عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم فهو مفتر أفاك، والاجتهاد عند علماء الإسلام قاطبة إنما هو في أحكام الحلال والحرام التي لا يوجد فيها نص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، ولذلك عرفوه بأنه (بذل الوسع في استخراج مسألة غير منصوص عليها لإدخالها تحت قاعدة منصوص عليها). أما الأقذاع والغطرسة والسب والتكفير والتحقير لعباد الله تعالي فليس اجتهادا عند كل من له مسكة من عقل ودين وإنما هو بضاعة الشيخ الحراني ورثها منه المفتتنون به، واجتهاد هذا النفاج متمثل في أحسن تآليفه، وهو نيل الأوطار وإرشاد الفحول، فنيل الأوطار ملخص من فتح الباري وتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. [ صفحه 225] والحافظ ابن حجر مؤلف هذين الكتابين، مع كونه خيرا من هذا المتشبع الجفاخ، قد عرف قدره ولم يتعد طوره، فلم يدع هذا المنصب العظيم، لعلمه بأنه إنما جميع كتابيه من كلام من تقدمه من العماء، وأولئك العلماء الذين استفاد منهم هذه الثروة العظيمة كلهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يفه أي واحد منهم بهذه الأحموقة، وهي ادعاء الاجتهاد المطلق، لعلمهم أن من تقدمهم من مشايخهم ومشايخ كانوا أعلم وأتقي لله منهم، ولا يرتكبها أي واحد منهم، والذي جمعه في أصول الفقه مضخما اسمه زاعما أنه إرشاد الفحول، (والفحول لا يحتاجون إلي إرشاده) وإنما الإرشاد للحياري، إنما جمعه من كلام فحول من المقلدين للأئمة الأربعة كالآمدي وابن الحاجب وابن السبكي وغيرهم ممن لا يلحق هذا المتغطرس غبار أي واحد منهم، وما كانوا متغطرسين ولا محتقرين لعباد الله تعالي، وقد تحقق من تعريف الاجتهاد أنه ليس بكثرة الحفظ للمسائل، ولا بحكاية أقوال العلماء في التآليف والمذاكرة ومن ظن كهذا الجفاخ أنه يحصل بهاتين معا أو بإحداهما، فهو جاهل جهلا مكعبا، فتتنازله وهو المجتهد الكبير عند نفسه إلي نقل العلم عن المقلدين والاحتجاج بأقوالهم في كتابيه دليل علي انحطاط رتبته عنهم بكثير، وهل ينزل من في الثريا إلي من في الثري؟، وهل هذا إلا عين التناقض؟. ولقد كان من اللازم لاجتهاده المزعوم أن يقعد قواعد كالإمام المطلبي، ويستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم فروعا مخالفة لفروع الأئمة المتبوعين يبرهن بها علي أنه مجتهد بحق، ولا يحشر نفسه في كتيبة العلماء المقلدين لهم ولا يستظل بظلهم أصلا ولكن قد تحقق كل عاقل أنه ليس عنده إلا بضاعة قدوته الحراني التكفير. شحنه تآليفه بأقوال العلماء المقلدين للأئمة الأربعة مع ادعائه الاجتهاد المطلق تناقض قبيح فإن كان مجتهدا كما زعم فكيف ساغ له تقليد المقلدين للأئمة الأربعة والثقة بأقوالهم، وإن كان المقلدون للأئمة الأربعة كفارا = في زعمه = فكيف ساغت له الثقة [ صفحه 226] في دين الله تعالي بأقوال الكفار، والواثق في دين الله بقول الكافر؟... وقد كفر الأمة الإسلامية جمعاء اتباع الأئمة الأربعة وشبهها باليهود والنصاري تشبيها فاسدا في تفسيره عند قوله تعالي: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله).

تكفيره الأمة الإسلامية جمعاء

فلو كان عالما وللعلم وقار لحجزه علمه عن تكفير مسلم واحد، فضلا عن تكفير أمة بأسرها، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من خوف الله تعالي، لما أقدم علي تكفير مسلم واحد، فضلا عن تكفير أمة بأسرها، ولو كان عنده حياء، (والحياء من الإيمان)، ما كفر مسلما واحدا فضلا عن تكفير أمة بأسرها، وفيها من العلماء والفضلاء والمفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والأولياء والعباد الزهاد ما أدهش التاريخ وأنطق أعداء الإسلام بفضل الإسلام، (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي يضل عن سبيل الله وكل من امتلأ أنانية وكبرا فلا بدان يحتقر المسلمين (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير). (2) - وخطأ أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالي عنه أيضا في الفتوي التي زعم أنه سئل عنها: (أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب (مكة أفضل بالإجماع وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي)، وقد تقدم هذا في كلام العلامة الحصني قال: وفي هذه الفتوي رمز إلي عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله تعالي عنه فإنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة إ ه. وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في فتاواه الحديثية عن بعض العلماء المعاصرين [ صفحه 227] لابن تيمية أنه سمع علي منبر جامع الجبل بالصالحية، وقد ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:

ان عمر له غلطات وبليات

وقوله: وخطأ عليا كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعا خالف فيها نص الكتاب، ونسبوه أيضا إلي النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه، ولقوله أيضا فيه إلي قوله وقال: إن عثمان كان يحب المال)، غير مستنكر علي من رمز إلي تكفير الصديق الأكبر وجهل الفاروق وعلماء الصحابة وطعن في إجماعهم أن يقول في حيدرة كرم الله وجهه أكثر من هذا. وقد ذكر العلامة الهيتمي في فتاواه الحديثية عن بعض العلماء المعاصرين لابن تيمية إنه ذكر حيدرة في مجلسه فقال: إنه أخطأ أكثر من ثلاثمائة موضع، ونسبة العلماء له إلي النفاق مأخوذة من قوله كرم الله وجهه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) = أخرجه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عنه =. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالي عنه قال: (كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليا)، وقوله: (والصبي لا يصح إسلام علي قول) بهتان، وعلماء الإسلام متفقون علي صحة إسلام الصبي، ولو كان صادقا لعزا هذا القول لقائله حتي ينظر فيه، ولكن النصب لحيدرة خصوصا ولبني هاشم عموما، وسيأتي البرهان عليه فيما استخرجه من خطله من منهاجه. [ صفحه 228] وغير مستنكر علي من جهل الفاروق وعلماء الصحابة ولم يبال بإجماعهم في مسألة الطلاق أن يقول في الذي تستحي منه ملائكة الرحمن: أنه يحب المال وغير مستنكر أيضا علي من جهل الفاروق وعلماء الصحابة ولم يبال بإجماعهم علي أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا، أن يقول في الذي تستحي منه ملائكة الرحمن أنه كان يحب المال. كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لون آخر من الطعن في الخلفاء الراشدين رضي الله تعالي عنهم وكتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لون آخر من الطعن في الخلفاء الراشدين رضي الله تعالي عنهم والأئمة المتبوعين رحمهم الله تعالي. وكان العلامة عبد الله بن زيدان الشنقيطي يقول فيه: إنه وضع الملام لا رفعه، ومن لامهم حتي يرفع الملام عنهم؟، وقد صدق رحمه الله تعالي، وتوضيحه أن الناس في الصحابة رضوان الله تعالي عليهم وفي من بعدهم من الأئمة المتبوعين، ثلاث طوائف، رافضة وخوارج وأهل السنة، فالرافضة والخوارج تجاوزتا في الصحابة والأمة الإسلامية حد الملام إلي التكفير، فالرافضة كفروا الصحابة إلا عليا وأولاده فإنهم غلوا في تقديسهم إلي درجة التأليه، وكفروا الأمة الإسلامية جمعاء، والخوارج كفروا كثيرا من الصحابة والأمة الإسلامية جمعاء وقد سوا الشيخين فلا كلام في هاتين الطائفتين، وأهل السنة عوام ومتعلمون، فالعوام يحترمون الصحابة الأئمة المتبوعين، ولا شعور لهم بلوم أي واحد منهم أصلا، والمتعلمون يعلمون أن الصحابة رضوان الله تعالي عليهم ومن بعدهم من أئمة الدين ليسوا بمعصومين من الخطأ ويعلمون أن صوابهم أكثر من خطئهم وخيرهم أكثر من شرهم ويعلمون هذه المسائل التي خطأ فيها الخلفاء الراشدين. [ صفحه 229] وقال في كل واحدة منها إن السنة لم تبلغه ولم يلوموهم ولم يجمعوا ذلك في كتاب وينشروه بين العامة، تأدبا معهم، فتحقق بهذا أنه هو الذي وضع الملام عليهم، وحاول رفعه بجعجعته هذه، وهيهات رفعه فإن رفع الواقع محال، ولا يرفعه عنهم قوله في آخر صفحة 8: (وهؤلاء - يعني الخلفاء - كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص منهم). ففحوي كلامه هذا أنهم ناقصون بدليل: (فمن بعدهم أنقص منهم)، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يقذفه الله تعالي في قلب من يشاء من عباده = كما قال إمام دار الهجرة =، وهو الفهم بدليل قوله صلي الله تعالي عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). والغالب إن من يحفظ كثيرا يكون أقل علما، والخلفاء الأربعة محفوظ كل واحد منهم من السنة قليل جدا بالنسبة لحفاظ الصحابة وكل واحد منهم أعلم ممن يحفظها منهم، وهكذا يطرد فيمن بعدهم من التابعين وأتباعهم، وهلم جرا، وهذا الإمام أحمد بن حنبل قالوا: كان يحفظ مليونا من الأحاديث، أي باعتبار تعدد طرقها، وكان يذعن للإمام الشافعي الذي كان أقل حفظا لها منه ويأخذ بركابه. وقد قال الإمام أحمد: ما من صاحب محبرة إلا وللشافعي عليه منة، وكان الإمام الشافعي يقول له وللإمام عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيتما حديثا صحيحا فأعلماني به. وكان التابعي الشهير سليمان بن مهران الأعمش أحفظ للسنة من أبي حنيفة الذي هو من أقرانه، وقد قال مرة للإمام أبي حنيفة معترفا بفضله: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، وطلب من أبي حنيفة لما أراد الحج أن يكتب له مناسكه، وقال الإمام مالك لمن سأله عن الإمام أبي حنيفة بعد اجتماعية به: (رأيت رجلا لو استدل لك علي هذه السارية أن تكون ذهبا لأقام عليها الحجة)، والأمثلة لا تحصي يعرفها الممارس للعلم. ومصداق ذلك قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (رب مبلغ أوعي لها من سامع ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه). [ صفحه 230] تحقق أنه لا فائدة في كتابه هذا يستفيدها العامة ولا المتعلمون سوي تنقيصه لأئمة الدين كلهم صحابة وغيرهم وبهذا تحقق أنه لا فائدة في كتابه هذا يستفيدها العامة ولا المتعلمون سوي تنقيصه لأئمة الدين كلهم صحابة وغيرهم، وإظهار عظمته وكماله عليهم جميعا للمفتونين به. والدليل علي هذا ما ذكر العلامة الحصني في (دفع شبه من شبه وتمرد)، بعد ذكر تفرقة ابن تيمية بين حياة النبي صلي الله عليه وسلم وموته النبي أخذها عن اليهود في تجويزه التوسل به بدعائه فقط في حياته، ومنعه ذلك بعد موته. قال: ويقطع الواقف عليها أو علي بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة، وإن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق. وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له علي اعتقاد حتي أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها، وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلي الازدراء بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأنه من الملحدين، وجعل عبد الله بن عمر رضي الله تعالي عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع. ذكر ذلك في كتاب له سماه: (الصراط المستقيم والرد علي أهل الجحيم)، وقد وقفت في كلامه علي المواضع التي كفر فيها الأئمة الأربعة. وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة، يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهم في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة إ ه. [ صفحه 231] وقوله: (ونسبوه إلي الزندقة لقوله: إن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لا يستغاث به)، وتقدم تقريره بالحج القاطعة في كلام الإمام السبكي، وفي كلامي. وقوله: (ونسبه قوم إلي السعي في الإمامة إلي قوله وكان إذا حوقق)، غير مستنكر هذا منه ولكن بينه وبين ابن تومرت من الفرق كما بين السماء والأرض في كل شئ، فأفعل التفضيل لا يدخل بينهما. وقوله: (وكان إذا حوقق وألزم إلي قوله ودار بينه وبين أبي حيان كلام)، دليل علي جهله وانطوائه علي غرض سئ. ولم نر ولم نسمع في التاريخ الإسلامي أن البدعي إذا ناظر سنيا فألزمه السني الحجة، قال لم أرد هذا وإنما أردت كذا ويذكر احتمالا بعيدا روغان الثعلب، فإما أن يرجع إلي الحق وهم قليل وإما أن يسكت ويبقي مصرا علي ضلاله. وقد ناطر ابن عباس رضي الله تعالي عنهما الحروريين فألزمهم الحجة فافترقوا علي ثلاث فرق: فرقة رجعت إلي حيدرة كرم الله وجهه، وفرقة بقيت متحيرة، وفرقة صممت علي الضلال ومحاربة أمير المؤمنين حيدرة كرم الله وجهه. وناظر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صاحبي شوذب الخارجي فألزمهما الحجة فرجع أحدهما إلي الحق وتاب، وصمم الآخر علي ضلاله. وناظر الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالي عنه الزنادقة فقطعهم فتابوا علي يده، وناظر أيضا أصحاب الضحاك الخارجي فقطعهم ولم يرجعوا عن عقيدتهم، وناظر الإمام الشافعي رضي الله تعالي عنه كلا من حفص الفرد وبشر المريسي فألزمهما الحجة ولم يرجعا عن ضلالهما، وناظر أبو محمد الأذرمي القاضي أحمد بن أبي داود رئيس المعتزلة إمام الواثق فأفحمه ولم يرجع عن عقيدته، وناظر الإمام أبو الحسن الأشعري شيخه الجبائي فألزمه الحجة ولم يجرع عن اعتزاله، وناظر القاضي أبو بكر الباقلاني جماعة من المعتزلة في رؤية الله تعالي وغيرها عند الصاحب بن عباد فأفحمهم ولم يرجعوا عن اعتزالهم. [ صفحه 232] دليل علي جهله وانطوائه علي غرض سئ ويدل علي جهله وانطوائه علي غرض سئ في مراوغته للعلماء عند محاققتهم له بقوله لم أرد هذا وإنما أردت كذا ويذكر احتمالا بعيدا. ما ذكره العلامة الحصني في: (دفع شبه من شبه وتمرد) في آخر صحة 34 قال: ثم شرع في كلام العلماء ويعلق في مسودا؟ حتي ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدون ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلا أنه يشير إليه علي وجه التلبيس بحيث لا يقف علي مراده إلا حاذق عالم متفنن، فإذا ناظر أمكن أن يقطع مناظره إلا ذلك المتفنن القطن إ ه. وفي صفحة 36 منه قال: أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير، وأعمق من ذلك أنه يذكر إن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة، كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله إ ه. لا تناقض عند أبي حيان في مدحه لابن تيمية أولا وذمه له ثانيا والمفتتنون بالحراني يسجلون علي أبي حيان تناقضه، قالوا إنه مدح إمامهم مدحا بليغا، ولما جهل إمام النحويين سيبويه نافره وذمه، ويفتخرون بهذا الهذيان الذي صبه [ صفحه 233] قدوتهم علي عمر بن بشر: (يفشر سيبويه، وما كان نبي النحو، وأخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا لا تفهمها أنت). ولا تناقض عند أبي حيان، أما مدحه له ولا فهو مبني علي تحسين الظن وعلي الشهرة الكاذبة والدعاية التي جعلها لنفسه ونشرها له الغوغاء، وأما ذمه بعد ذلك فلما انكشف له من عقيدته وعجرفته وغطرسته. وقد مدح عمرو بن الأهتم التميمي ابن عمه الزبرقان بن بدر عنه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فقال الزبرقان: يا رسول الله إنه حسدني فترك كثيرا من فضائلي فذمه عمر وذما بليغا، وقال: والله يا رسول ما كذبت في الأولي ولقد صدقت في الثانية، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا). كان مائق يستطيع أن يقول لمناظره أخطأ فلان أو إمامك في مائة أو ألف مسألة لا تفهمها أنت لأن الكلام لا ضريبة عليه وقد دل هذا الهذيان علي جهله وغطرسته وحمقه، فلو عقلوا لم يفتخروا به ولستروه كما تستر الهرة خرأها، إذا مائق يمكنه أن يقول لمناظره أخطأ إمامك في مائة أو إلف مسألة في الفقه مثلا لا تفهمها أنت ويسفه عليه بهذا الهذيان أو بأشد منه يفشر.. وما كان إمام نبي.. وفي استطاعة أبي حيان أن يقول له مثل هذا الهراء أو أكثر منه لأن الكلام ولا ضريبة عليه ولكنه ليس بسفيه ولا متغطرس، وهو عالم بفنه العربية غير مدافع قد أخذها عنه بمصر أعيان العلماء واعترفوا بفضله، منهم الإمام أبو الحسن السبكي، ولا يلحق ابن تيمية غباره وغبارهم فيها، فلو قال قائل إن ابن تيمية لا يعرف العربية، فضلا عن فهمه كتاب الإمام سيبويه وتخطئته بدليل خطأه القبيح في حديث: (لا تشد الرحال الخ..) في حمله له علي منع زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مخالفا للأمة الإسلامية، وغيره، وقد تقدم إظهار جهله فيه وفي غيره بالعربية، وبدليل ما ذكره التاج [ صفحه 234] السبكي في طبقاته الكبري في ترجمة المحدث أبي الحجاج المزي، قال إنه كان بارعا في العربية نحوا وتصريفا، قال: وكان الذين يقرأوه عليه يلحنون فيردهم، وكان ابن تيمية يقرأ عليه فليحن، لكان صادقا. قول العلامة ابن حجر الهيتمي في ابن تيمية سئل عنه في فتاواه الحديثية فأجاب بقوله: ابن تيمية عبد خذله الله تعالي وأضله وأعماه وأصمه وأدله وبذل صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذل فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق علي إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية. ولم يقصر اعتراضه علي متأخري الصوفية بل اعترض علي مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنهما، والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمي في كل وعز وحزن يعتقد فيه إنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله تعالي بعدله وأجارنا من مثل طريقة وعقيدته. وأفاض في ذكر أعيان من الصوفية طعن فيهم ثم قال: ولا زال يتتبع الأكابر حتي تمالأ عليه أهل عصره وبدعوه، بل كفره كثير منهم، وقد كتب إليه بعض أجلاء أهل عصره علما ومعرفة سنة خمس وسبعمائة: من فلان إلي شيخ الكبير العالم إمام أهل عصره = بزعمه = أما بعد، فإنا أحببناك في الله زمانا، وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحسانا، إلي أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس؟، وإنك أظهرت إنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالي أعلم بقصدك ونيتك، ولكن الاخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول، وما رأينا آل أمرك [ صفحه 235]

وهابيون و فرق اجماع المسلمين

إلا إلي هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب الأحياء حتي حكم بتكفير الأموات. ولم يكفه التعرض علي من تأخر من صالحي السلف حتي تعدي إلي الصدر الأول ومن له أعلي المراتب في الفضل، فيا ويح من هؤلاء خصماؤه يوم القيامة، وهيهات أن لا يناله غضب وآني له بالسلامة. وذكر سماعه منه تخطئة الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقد تقدم، ثم قال: فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ علي بزعمك كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب؟، والآن قد بلغ هذا الحال إلي منتهاه والأمر إلي مقتضاه ولا ينفعني إلا القيام في أمرك ودفع شرك، لأنك قد أفرطت في الغي ووصل أذاك إلي كل ميت وحي، وتلزمني الغيرة شرعا الله تعالي ولرسوله ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين بحكم ما يقوله العلماء وهم أهل الشرع، وأرباب السيف الذين بهم الوصل والقطع، إلي أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين إ ه. وقال العلامة الهيتمي بعد هذا مباشرة: واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره، فمما خرق فيه الاجماع قوله في (علي الطلاق) أنه لا يقع عليه بل عليه كفارة يمين ولم يقل بالكفارة أحد من المسلمين قبله، وأن طلاق الحائض لا يقع، وكذا الطلاق في طهر جامع فيه، وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يجب قضاؤها، وأن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها، وأن الطلاق الثلاث يرد إلي واحدة، وكان هو قبل ادعائه ذلك نقل إجماع المسلمين علي خلافه، وأن المكوس حلال لمن أقطعها، وأنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا رسمها، وأن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كالفأرة، وأن الجنب يصلي تطوعه بالليل، ولا يؤخره إلي أن يغتسل قبل الفجر وإن كان بالبلد، وأن شرط الواقف غير معتبر بل لو قف علي الشافعية صرف إلي الحنفية وبالعكس وعلي القضاة صرف إلي الصوفية في أمثال ذلك من مسائل الأصول، مسألة الحسن والقبح التزم كل ما يرد عليها، [ صفحه 236]

في الرد علي ابن تيمية

وأن مخالف الاجماع لا يكفر ولا يفسق، وأن ربنا سبحانه وتعالي عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا محل الحوادث تعالي الله عن ذلك وتقدس، وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الكل للجزء تعالي الله عن ذلك وتقدس، وأن القرآن محدث في ذات الله تعالي الله عن ذلك، وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقا دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار تعالي الله عن ذلك. وقوله بالجسمية والجهة والانتقال وأنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر تعالي الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر البراج الصريح وخذل متبعيه وشتت شمل معقديه. وقال إن النار تفني، وأن الأنبياء غير معصومين، وإن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم لا جاه له يتوسل به، وإن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا تقصر الصلاة فيه وسيحرم ذلك يوم الحاجة ماسة إلي شفاعته، وإن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما وإنما بدلت معانيهما إ ه. فإن قيل إن المحدث ابن ناصر الدمشقي المتوفي سنة 842 قد ألف مجلدا سماه: " الرد الوافر علي من زعم أن من سمي ابن تيمية شيخ الإسلام كافر "، ودافع فيه عن ابن تيمية، ونفي عنه ما يذم به، وسرد فيه ستا وثمانين عالما كل قد أطري ابن تيمية. الرد الوافر لابن ناصر الدين ليس برد وهو باطل بأربعة عشر وجها قلت: ليس برد فضلا عن كونه وافرا وهو باطل بأربعة عشر وجها: الأول: - خلوه من الركنين الأهمين، وهما المردود عليه وموضوع الرد، والتسمية واسم الراد لا يفيدان شيئا. الثاني: - تركه للركنين الأهمين يدل علي أنه ليس بعالم ولا يعرف معني الرد. الثالث: - سرده في صدره طبقات المعدلين والمجرحين من الصدر الأول إلي الذهبي التي هي خارجة عن موضوع كتابه يدل علي ذلك. [ صفحه 237] الرابع: إطراؤه للذهبي بقوله: إمام الجرح والتعديل والمعتمد عليه في المدح والقدح، وإنه كان عالما بالتفريع والتأصيل فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، خارج أيضا عن موضوع كتابه دال علي غباوته. وقد صدق في إمامه الذهبي ولكنها في أحد الشقين، الجرح، وما كان الذهبي يعرف الفروع ولا الأصول فضلا عن كونه عالما بالتفريع والتأصيل، وما كان يعرف مطلق النظريات فضلا عن كونه فقيها فيها، وما كان له دربة بمذهب إمامه المطلبي، فضلا عن دبته بمذاهب الأئمة الآخرين، فضلا عن دربته بمقالات أصحاب المقالات. الخامس: إن وقف علي ما قاله ابن الوردي والتاج السبكي وغيرهما في الذهبي من أنه طعن في المعاصرين له والسابقين عليه من فحول علماء الإسلام للهوي والمخالفة في الرأي فمدحه له تعصب ممقوت باطل وإن لم يقف عليه فمدحه له مبني علي جهل مركب وكلاهما مصيبة. السادس: - هذا العدد الذي زعم أنهم مدحوا ابن تيمية وسموه شيخ الإسلام مفتعل من المفتتنين به. السابع: - لو صح عنهم كلهم أنهم مدحوه وسموه بذلك لا يجديه شيئا لأنه تحلية، والتحلية لا تكون إلا بعد التخلية، فيحمل اطراؤهم له علي أول أمره لما كان متسترا بالسلف متظاهرا بالتنسك والعفة، ولما انكشف حاله رجع بعض ممن كان أطراه، فذمه كابن الزملكاتي وأبي حيان، ولا يجدي ابن ناصر شيئا لأنه لا يلاقي موضوع كتابه، فكان عليه أن يذكر كلام المردود عليه الذي كفر به العلماء الذين سموه شيخ الإسلام، ويحلله تحليلا علميا يظهر به فساد للالياء، ثم بعد ذلك يسرد العلماء الذين سموه بذلك إن شاء. أما صنيعه هذا فهو دال علي جهله مفيد للمفكر لابن تيمية ولمن علي رأيه فيه، غير مفيد للذين ينتظرون ويفهمون معني الرد، لأنه ما زاد علي أن قال لهم الذين كفرهم فلان لتسميتهم ابن تيمية شيخ الإسلام هم فلان وفلان إلي آخرهم، فتحقق بهذا إن كتابه محشو بشيئين طبقات المعدلين والمجرحين، وأسماء الذين مدحوا ابن تيمية ولا رد فيه أصلا فالرد في واد وهو في واد آخر. [ صفحه 238] الثامن: - مما هو مفتعل قطعا من المفتتنين بالحراني إدخاله الإمام ابن دقيق العيد في المثنين عليه، وهو باطل بوجهين: الأول: - ابن دقيق العيد توفي سنة ثلاث وسبعمائة، وابن تيمية إنما دخل مصر سنة خمس وسبعمائة. الثاني: - الكلام الذي زعم المفتعل مدح ابن دقيق العيد به ابن تيمية بعضه مؤداه الكفر وبعضه أقرب إلي ذم ابن تيمية من مدح مما يدل علي منتهي غباوة المفتعل، وهاهو: (ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك)، وركاكة هذا الكلام في المبني وفساده في المعني يدركهما كل من له إلمام بالعلم. ولا ريب أنه صريح في تعجيز القدرة الإلهية، لأن معناه نفي ظنه خلق الله تعالي مثل فلان، ونفي ظنه ذلك تعجيز للقدرة الإلهية، وتعجيز القدرة الإلهية كفر، فيستحيل صدور هذا الكلام من أي عالم فضلا عن الإمام ابن دقيق العيد الذي تسنم فنون العلم، وزعم المفتعل أيضا أن ابن دقيق العيد سئل بعد انقضاء المجلس عن ابن تيمية فقال: (هو رجل حفظه)، فقيل له: فهلا تكلمت معه؟، فقال: (هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت)، هذا الكلام أقرب إلي ذم ابن تيمية من مدحه، لأن الحفظة معناه كثير الحفظ ولا يلزم من كثرة حفظه قوة علمه وفهمه، والذي يحب الكلام يهذر، والمهذار يغلط كثيرا ولا بد، والذي يحب السكوت صوابه أكثر من خطئه في العادة المستمرة، رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. وزعم أيضا أن ابن دقيق العيد قال: (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد)، وهذا باطل مستحيل صدوره من ابن دقيق العيد، فابن تيمية لا يعرف إلا علم الحديث علي مجازفته في الطعن في الأحاديث التي لا توافق هواه وسوء فهمه لها، وغيره من العلوم إنما هو متهجم عليه. قال التاج السبكي: في طبقاته في ترجمة ابن دقيق العيد: " إنه كان لا يزيد في القول لجميع الناس الكبير والصغير الأمير والمأمور، علي: (يا إنسان)، ما عدا الباحي وابن الرفعة، فإنه كان يقول للأول، يا إمام وللثاني: يا فقيه ". [ صفحه 239] التاسع: - يكذبه (وإن لم يطلع علي كتب ابن تيمية) قيام علماء دمشق عليه مرارا وإفحامهم له وتضليلهم له وتسجيل ذلك عليه الذي يسارت؟ به الركبان واشتهر اشتهار الغزالة، فمحال جهله له فهو تيمي قطعا. العاشر: - يكذبه أيضا ما سجله وأثبته من مصائب ابن تيمية العلامة تقي الدين الحصني في كتابه: " دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلي السيد الجليل الإمام أحمد ". الحادي عشر: - يكذبه أيضا كتب ابن تيمية طبعت الآن فمن تجرد عن العاطفة وتحلي بالإنصاف وطالعها كلها يجد فيها المصائب التي نسبها العلماء إليه. الثاني عشر: - المكفر كفر ابن تيمية لما اطلع علي كلامه وكفر كل من سماه شيخ الإسلام، وابن ناصر الدين اشتغل بالقشور وأهمل لباب الموضوع وروحه، ولقد كان الواجب عليه أولا أن يذكر كلام ابن تيمية الذي كفره به المكفر، ويحله تحليلا علميا يبين به فساد فهم المكفر له به بيانا شافيا وثانيا يبين به أن الذين سموه شيخ الإسلام محقون في هذه التسمية. الثالث عشر: - المكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام كان مع ابن ناصر الدين في دمشق، توطنها بعد القاهرة، وكان كلما عرض عليه كلام ابن تيمية كفره بمرأي ومسمع من ابن ناصر، فكان الواجب عليه للمدافعة عن الحراني أن يذهب إليه ويناظره في الكلام الذي كفر به ابن تيمية، حتي يفحمه ويبين للناس جهله وتطرفه، وهو ابن البلد والمكفر غريب طارئ عليها، ولا يطلب الطعن والنزال في الخلاء ووراء الجدران، فعدوله عن كبح تطرفه بالمناظرة إلي سرد طبقات المعدلين وسرد أسماء المادحين للحراني الخارجين عن موضوع الكتاب دليل علي جبنه وإفلاسه من العلم. الرابع عشر: - لو كانت عقيدة ابن تيمية علي نهج أهل الحق صحيحة مستقيمة، وكتبه خالية من التلبيس ومخالفة أهل الحق نظيفة سليمة، ومدحه أهل الأرض جميعا، ما نفعه ذلك شيئا، لأن مدحهم له لا يضمن له الصواب في الأقوال والاستقامة في الأعمال [ صفحه 240] وثبات قلبه علي الإيمان في سائر الأزمان والأحوال والخلو من الأخلاق الذميمة المردية لغير الأنبياء من الرجال، بل مدحهم له قطع عنقه بالإعجاب الذي عن عيوب نفسه أصمه وأعماه، والازدراء لعباد الله الذي في مهوي هواه أرداه. وقد أثني الصحابة يوم أحد علي قزمان بالشجاعة فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أنه من أهل النار)، فتعجبوا من ذلك، فلما قال لقومه لما بشروه بالجنة: (أنها جنة من حرمل وقتل نفسه)، تحققوا صدقه عليه الصلاة والسلام. وقال الصحابة يوم خيبر لعبده صلي الله عليه وسلم الذي قتل: (هنيئا له الجنة)، فقال صلي الله تعالي عليه وسلم: (كان إن العبادة التي غلها لتشتعل عليه نارا). ومر صلي الله تعالي عليه وسلم علي أبي هريرة ورجل من الأنصار والرجال بن عنفوة الحنفي فقال لهم: (ضرس أحدكم في جهنم مثل جبل أحد) وكان الرجال قدم في وفد بني حنيفة فأسلم وحفظ سورا كثيرة من القرآن، قال أبو هريرة رضي الله تعالي عنه: فما زلت أنا وصاحبي الأنصاري خائفين من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي بلغنا إن الرجال ارتد عن الإسلام واتبع مسيلمة الكذاب. المكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام هو علاء الدين البخاري تلميذ العلامة السعد التفتازاني والمكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام هو علاء الدين البخاري تلميذ السعد التفتازاني المتوفي بدمشق الشام سنة إحدي وأربعين وثمانمائة. تكفير العلاء البخاري أيضا لمحيي الدين ابن عربي قال السخاوي في (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع في ترجمته): وكان ممن يقبح ابن عربي ويكفره وكل من يقول بمقاله وينهي عن النظر في كتبه، (ووصفه [ صفحه 241] بالزهد وإنه كانت له منزلة كبيرة عند السلطان) قال: وشرع في إبراز ذلك = أي تكفير ابن عربي =، ووافقه أكثر من حضر إلا البساطي، فإنه قال إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها، وإلا فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه علي معني صحيح بضرب من التأويل، وانتشر الكلام بين الحاضرين في ذلك. قال شيخنا وكنت مائلا مع العلاء، وإن من أظهر لنا كلاما يقتضي الكفر لا نقره عليه، وكان من جملة كلام العلاء الانكار علي من يعتقد الوحدة المطلقة، ومن جملة كلام البساطي: أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فاستشاط العلاء غضبا وصاح: أنت معزول ولو لم يعزلك السلطان، = أي من القضاء لأن البساطي كان أحد القضاة الأربعة =، بل قيل أنه قال له صريحا كفرت. ثم قال السخاوي إنه دار بين شيخه ابن حجر والبساطي بعض كلام (ولم يبينه)، وإن البساطي تبرأ من مقالة ابن عربي وكفر من يعتقدها، (وذكر كلاما كثيرا حاصله أن العلاء وابن حجر كانت لهما منزلة عند السلطان قهرا بها البساطي). ثم ذكر أن العلاء انتقل إلي دمشق الشام فتوطنها وحصلت له بها حوادث، منها أنه كان يسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها، فيجيب بما يظهر له من الخطأ فيها وينفر عنه قلبه، إلي أن استحكم أمره عنده فصرح بتبديعه ثم بتكفيره، ثم صار يصرح في مجلسه بأن من أطلق علي ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الاطلاق كافر، واشتهر ذلك فانتدب حافظ الشام ابن ناصر الدين لجمع كتاب سماه: " الرد الوافر علي من زعم أن من أطلق علي ابن تيمية أنه شيخ الإسلام كافر "، وقال في آخر ترجمته: وكان يقول: ابن تيمية كافر، وابن عربي كافر، إ ه. استسمان السخاوي لكتاب ابن ناصر الدين دليل علي أنه مثله واستسمان السخاوي لكتاب ابن ناصر الدين دليل علي أنه مثله، ومن يطلع علي كتابه " الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع " يجده قد طعن في كل فاضل محقق، [ صفحه 242] وممن طعن فيهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وأما السيوطي فقد جرده من الفضائل ووسمه بالرذائل، وقد علم العقلاء تبرير السيوطي عليه بالتفنن في العلوم وكثرة التآليف، بعض العلماء الرادين علي ابن تيمية والمناظرين له وقد أبطلت كثيرا من فاسد كلام ابن تيمية بما لم يسبقني إليه أحد في علمي، واذكر من رد عليه وناظره من العلماء المعاصرين له والمتأخرين عنه. فممن رد عليه من الشافعية ردا محكما ونقض رسالته الحموية في الجهة العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيي الحلبي المتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وقد لخصت رده سابقا. وناظره العلامة محمد بن عمر بن مكي صدر الدين بن المرحل المتوفي سنة ستة عشر وسبعمائة. قال التاج السبكي في طبقاته الكبري: وله مع ابن تيمية المناظرات الحسنة، وبه حصل عليه التعصب من أتباع ابن تيمية وقيل فيه ما هو بعيد عنه، وكثر القائل فارتاب العاقل إ ه. قلت: صدق التاج، لقد رماه ابن كثير في بدايته بالقبائح وقذفه، فالله يجازي جزاء القاذفين الأفاكين. وناظره فأفحمه العلامة كمال الدين الزملكاني المتوفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ورد عليه برسالة في مسألة الطلاق وأخري في مسألة الزيارة. ورد عليه العلامة عز الدين بن جماعة وشنع عليه. والإمام المحقق أبو الحسن السبكي رد عليه بشفاء السقام في زيارة خير الأنام، والدرة المضيئة في الرد علي ابن تيمية، ونقد الاجتماع والافتراق في مسائل الإيمان والطلاق، والنظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلق، والاعتبار ببقاء الجنة والنار، وكلها مطبوعة، توفي الإمام السبكي سنة ست وخمسين وسبعمائة. [ صفحه 243] والعلامة الشريف تقي الدين الحصني الدمشقي المتوفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة ب: (دفع شبه من شبه وتمرد، ونسب ذلك إلي السيد الجليل الإمام أحمد) وهو مطبوع. والعلامة ابن حجر الهيتمي المتوفي سنة أربع وسبعين وتسعمائة ب: (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) وهو مطبوع. ورد عليه من المالكية المعاصرين له في الزيارة العلامة عمر بن أبي اليمن اللخمي الشهير بالتاج الفاكهاني المتوفي بالإسكندرية سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ب: (التحفة المختارة في الرد علي منكر الزيارة)، وقاضي القضاة العلامة محمد السعدي المصري الأخنائي المتوفي سنة خمسين وسبعمائة برسالة محكمة سماها: (المقالة المرضية في الرد علي من ينكر الزيارة المحمدية) وهي مطبوعة ضمن البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة للعلامة الشيخ سلامة العزامي الشافعي المتوفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف. ورد عليه في مسألة الطلاق العلامة عيسي أبو الروح الزواوي المتوفي بالقاهرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. [ صفحه 244]

حال محمد بن عبدالوهاب عند العلماء المعاصرين

حال محمد بن عبد الوهاب عند العلماء المعاصرين له والمتأخرين عنه تقدم في المقدمة إن أمهات عقيدته منحصرة في أربع، تشبيه الله سبحانه وتعالي بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقيره النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وتكفيره المسلمين، وإنه مقلد فيها كلها حمد بن تيمية، وهذا مقلد في الأولي الكرامية ومجسمة الحنابلة، مقتد بهما وبالحروبين في الرابعة، ومخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقيره النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وتكفيره المسلمين. وقد فرق ابن تيمية تكفيره المسلمين في كتبه تلبيسا وتحت ستار الكتاب والسنة والسلف وأئمة السنة والأئمة. المزيف، وهذا صرح بتكفيرهم وجعل رأي ابن تيمية أصلا بني عليه رسائله المؤلفة في التوحيد قالوا: كان محمد بن عبد الوهاب ينهي عن الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ويتأذي من سماعها، وينهي عن الإتيان بها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها علي المنائر، ويؤذي من يفعل ذلك ويعاقبه أشد العقاب حتي أنه قتل رجلا أعمي كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن، نهاه عن الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في المنارة بعد الأذان فلم ينته فأمر بقتله فقتل. ثم قال إن الربابة في بيت الخاطئة، يعني الزانية أقل إثما ممن ينادي بالصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في المنائر، ويلبس علي أصحابه بأن ذلك كله محافظة علي التوحيد، وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، ويتستر بقوله: إن ذلك بدعة وإنه يريد المحافظة علي التوحيد، وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب الفقه والتفسير والحديث، وأحرق كثيرا منها وأذن لكل [ صفحه 245] من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه، فكان كل واحد منهم يفعل ذلك، ولو كان لا يحفظ القرآن ولا شيئا منه، وأمرهم أن يعملوا ويحكموا بما يفهمونه، وجعل ذلك مقدما علي كتب العلم ونصوص العلماء. وكان يقول في كثير من أقوال الأئمة الأربعة ليست بشئ، وتارة يتستر فيقول إن الأئمة علي حق ويقدح في أتباعهم الذين ألفوا وحرروا مذاهبهم فيقول إنهم ضلوا وأضلوا، وتارة يقول إن الشريعة واحدة، فما لهؤلاء جعلوها مذاهب أربعة؟، هذا مصري وشامي وهندي، يعني بذلك أكابر علماء الحنابلة وغيرهم ممن لهم تآليف في الرد عليه. فكان ضابط الحق عنده ما وافق هواه وإن خالف النصوص الشرعية وإجماع الأمة، وضابط الباطل عنده ما لم يوافق هواه وإن كان علي نص جلي أجمعت عليه الأمة. قلت: هذا الذي قالوه عنه يطبقه الآن مقلدوه أتم تطبيق، ولا سيما الطعن في الأئمة وعلماء الإسلام، وادعاء الاجتهاد والتمسك بالكتاب والسنة، فإنه بضاعتهم التي تروج في سوق العامة ولا يحسنون غيرها، ما عدا الاحراق لكتب الفقه والتفسير والحديث فإنا لم نعلمه حصل منهم في بهذا العصر. نعم! يتلفون الكتب المخالفة لهواهم الرداة عليهم جزما، وما عدا الحكم بما يفهمونه فإنهم الآن يحكمون في المدن والقري ظاهرا بمذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكان ينتقص النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كثيرا بعبارات مختلفة ويزعم أن قصده المحافظة علي التوحيد، فمنها قوله: إنه طارش، وهو في لغة أهل نجد بمعني الشخص المرسل من قوم إلي آخرين، فمراده أنه صلي الله تعالي عليه وسلم حامل كتب أي غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمر للناس ليبلغهم إياه ثم ينصرف. ومنها أنه قال: نظرت في قصة الحديبية فوجدت بها كذا وكذا كذبة إلي غير ذلك مما يشبه هذا، حتي أن أتباعه كانوا يفعلون مثل ذلك أيضا ويقولون مثل قوله، بل [ صفحه 246] أقبح مما يقول ويخبرونه بذلك فيظهر الرضا وربما أنهم قالوا ذلك بحضرته فيرضي به، حتي أن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد صلي الله تعالي عليه وسلم، لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد صلي الله تعالي عليه وسلم قد مات، ولم يبق فيه نفع أصلا وإنما هو طارش وقد مضي. قال بعض من ألف في الرد عليه إن ذلك كفر في المذاهب الأربعة بل هو كفر عند جميع أهل الإسلام إ ه. وقالوا أيضا: كان أخوه سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم فكان ينكر عليه إنكارا شديدا في كل ما يفعله أو يأمر به ولم يتبعه في شئ مما ابتدعه. وقال له يوما: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال: خمسة، فقال له: أنت جعلتها ستة السادس من لم يتبعك فليس بمسلم هذا عندك ركن سادس للإسلام. قال له رجل يوما: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال الرجل: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالي وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟، فبهت. ولما طال النزاع بينه وبين أخيه خاف سليمان أن يأمر بقتله فارتحل إلي المدينة المنورة وألف رسالة في الرد عليه وأرسلها له فلم ينته، وألف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الرد عليه وأرسلوها له فلم ينته. وقال له رجل آخر، وكان رئيسا علي قبيلة لا يقدر أن يسطو عليه، ما تقول إذا أخبرك رجل صادق ذو دين وأمانة وأنت تعرف صدقه بأن قوما كثيرين قصدوك وهم وراء الجبل الفلاني فأرسلت ألف خيال ينظرون القوم الذين وراء الجبل فلم يجدوا أثرا ولا أحدا منهم بل ما جاء تلك الأرض أحد منهم؟، أتصدق الألف أم الواحد الصادق عندك؟، فقال: أصدق الألف، فقال له الرجل: إن جميع المسلمين من العلماء [ صفحه 247] الأحياء والأموات في كتبهم يكذبون ما أتيت به ويزيفونه فنصدقهم ونكذبك فلم يعرف جوابا لذلك. وقال له رجل آخر: هذا الدين الذي جئت به متصل أم منفصل فقال له حتي مشايخي ومشايخهم إلي ستمائة سنة كلهم مشركون، فقال له الرجل: إذا دينك منفصل لا متصل، فعمن أخذته؟ فقال: وحي إلهام كالخضر، فقال له إذا ليس ذلك محصورا فيك، كل واحد يمكنه أن يدعي وحي الالهام الذي تدعيه. ثم قال له: إن التوسل مجمع عليه عند أهل السنة حتي ابن تيمية فإنه ذكر فيه قولين، ولم يذكر أن فاعله يكفر بل حتي الرافضة والخوارج وكافة المبتدعة يقولون بصحة التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم، فلا وجه لك في التكفير أصلا، فقال له محمد بن عبد الوهاب إن عمر استسقي بالعباس ولم يستسق بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم. ومقصد محمد بن عبد الوهاب بذلك أن العباس كان حيا، وأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ميت فلا يستسقي به، فقال له الرجل: هذا حجة عليك.. فإن استسقاء عمر بالعباس إنما كان لإعلام الناس بصحة الاستسقاء والتوسل بغير النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وكيف تحتج باستسقاء عمر بالعباس وعمر هو الذي روي حديث توسل آدم بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قبل أن يخلق؟. فالتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان معلوما عند عمر وغيره وإنما أراد عمر أن يبين للناس ويعلمهم صحة ت التوسل بغير النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فبهت وتحير وبقي علي عماوته إ ه. أقول: لا مقصد لمحمد بن عبد الوهاب وإنما هو كالصدأ حاك رأي إمامه ابن تيمية الذي ورطه استسقاء عمر بالعباس في الجهل مرتين، احتجاجه علي منع التوسل بالجاه بالعدم، وتفرقة بين الحي فأجاز التوسل به فيما يقدر عليه، والميت فمنع التوسل به أي بجاهه وحقه وإن كان نبيا، فإلزام هذا المحاور لابن عبد الوهاب إنما يتوجه حقيقة علي [ صفحه 248] ابن تيمية، وقد فات هذا المحاور أن يقول لابن عبد الوهاب أيضا: احتجاجك بالعدم علي منع التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم والصالحين من أمته تقليدا لابن تيمية فاسد، لأن عدم توسل عمر بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم في هذه القصة لا يلزم منه تكفير المتوسلين بل ولا منع التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم وبالصالحين من أمته، فإن العدم ليس بدليل عند جميع العقلاء، فالاحتجاج به دليل علي جهل إمامك الحراني بأصول الفقه والدليل. وفاته أيضا أن يقوله له: تكفيرك للمسلمين المتوسلين تقليدا لابن تيمية، إما بنص من كتاب الله أو من سنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم صريح عليه، وإما بإجماع، ولا نص فيهما علي تكفير المتوسلين، ولا إجماع عليه، بل نصوصهما دالة علي جواز التوسل، والإجماع منعقد أيضا علي جوازه. فشيخك الحراني مشاقق لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم متبع غير سبيل المؤمنين. وفاته أيضا أن يقول له: منعه التوسل بجاهه صلي الله تعالي عليه وسلم وجاه الصالحين من أمته، وتفرقته بين الحي والميت فيه لا سند لهما لا فهمه الفاسد، فلو استظهرتم بالثقلين علي إثباتهما عن أي واحد من السلف الذين اتخذتموهم مجنا لأهوائكم الفاسدة لم تستطيعوا، فضلا عن إثباتهما عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم الذي تتشدقون باتباع سنته، فضلا عن إثباتهما من كتاب الله تعالي الذي تزعمون إنكم متمسكون به. فنحن نطالبكم ونتحداكم بإثباتهما عن واحد من هذه الثلاثة، ولاشتهار ابن عبد الوهاب وأتباعه بتكفير المتوسلين بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم والصالحين اعتقد كثير من العلماء الذين لم يطلعوا علي كلام ابن تيمية في التوسل أن ابن عبد الوهاب هو الشاذ عن الأمة الإسلامية فيه. وقد رد علي محمد بن عبد الوهاب علماء كثيرون معاصرون له ومتأخرون عنه، [ صفحه 249] ولا زالت سهام الرد من علماء الإسلام مشارقة ومغاربة مسددة إليه إلي وقتنا هذا، وفي طليعة الرادين عليه المعاصرين له حنابلة الأحساء، وجميع الردود إنما تتوجه حقيقة إلي ابن تيمية.

الرادين و الناصحين محمد بن عبدالوهاب

العلماء الرادون علي ابن عبد الوهاب المعاصرون له والمتأخرون عنه إلي وقتنا هذا فمن الرادين عليه والناصحين له: 1 - شيخه محمد بن سليمان الكردي الشافعي بتقريظ لرسالة أخيه سليمان بن عبد الوهاب ورسالة مجموعهما في نحو ثلاثة أوراق، وقد تفرس فيه شيخه هذا أنه ضال ومضل كما تفرس فيه ذلك شيخه محمد حياة السندي ووالده عبد الوهاب. 2 - ورد عليه شيخه العلامة عبد الله بن اللطيف الشافعي بكتاب سماه: تجريد سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد. 3 - ورد عليه العلامة عفيف الدين عبد الله بن داود الحنبلي بكتاب سماه: الصواعق والرعود في عشرين كراسا، قال العلامة علوي بن أحمد الحداد: كتب عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم، تأييدا له وثناء عليه، قال: ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا، ولخصه محمد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعمان. 4 - ورد عليه العلامة المحقق محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي بكتاب عظيم سماه: تكهم المقلدين بمن ادعي تجديد الدين، رد عليه في كل مسألة من المسائل التي ابتدعها بأبلغ رد، ثم مسألة عن أشياء تتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية بسؤالات أجنبية عن كتاب الرد أرسلها له، منها أسئلة كثيرة من علم البيان تتعلق بسورة: (والعاديات)، فعجز عن الجواب عن أقلها فضلا عن أجلها. [ صفحه 250] 5 - ورد عليه العلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي برسالة في نحو عشرة كراريس زيف بها رسالة له. 6 - ورد عليه العلامة عبد الوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي. 7 - ورد عليه الشيخ عطاء المكي برسالة سماها الصارم الهندي في عنق النجدي 8 - ورد عليه الشيخ عبد الله بن عيسي المويسي 9 - ورد عليه الشيخ أحمد المصري الأحسائي. 10 - ورد عليه عالم من بيت المقدس بكتاب سماه: السيوف الصقال في أعناق من أنكر علي الأولياء بعد الانتقال. 11 - ورد عليه السيد علوي بن أحمد الحداد بكتاب سماه: السيف الباتر لعنق المنكر علي الأكابر، في نحو مائة ورقة. 12 - ورد عليه الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن عبد اللطيف الأحسائي. 13 - ورد عليه العلامة عبد الله بن إبراهيم ميرغني الساكن بالطائف سماه: تحريض الأغبياء علي الاستغاثة بالأنبياء والأولياء. 14 - قال السيد علوي بن أحمد الحداد: وقد رأيت أمام مقام إبراهيم بمكة الشيخ محمدا صالحا الزمزمي الشافعي، جمع كتابا في هذا المعني في نحو عشرين كراسا. 15 - وقال السيد المذكور أيضا: ورأيت له وصلنا الطائف العلامة طاهرا سنبلا الحنفي ألف كتابا في ذلك سماه: الإنتصار للأولياء الأبرار. 16 - وقال السيد المذكور أيضا: ورأيت جوابات للعلماء الأكابر من المذاهب الأربعة لا يحصون من أهل الحرمين الشريفين والأحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وبلدان الإسلام، نثرا ونظما، أتي إلي بمجموع رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة الذين في الزيارة والبحرين فيه رد علماء كثيرين ونحن علي ظهر سفر فلم يمكني نقله فطالعته كله. [ صفحه 251] 17 - وقال السيد المذكور أيضا: وأتي إلينا الشيخ المحدث صالح الفلاني المغربي بكتاب ضخم فيه رسالات وجوابات كلها من العلماء أهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يردون علي محمد بن عبد الوهاب بالعجب، وقد أمرنا بنسخ هذا المجلد لنا. 18 - ورد عليه العلامة السيد المنعمي لما قتل ابن عبد الوهاب جماعة لم يحلقوا رؤوسهم بقصيدة طنانة مطلعها: أفي حلق رأسي بالسكاكين والحد++ حديث صحيح بالأسانيد عن جدي 19 - ورد عليه العلامة السيد عبد الرحمن من أكابر علماء الأحساء بقصيدة طنانة عدة أبياتها سبع وستون مطلعها: بدت فتنة كالليل قد غطت الافقا++ وشاعت فكادت تبلغ الغرب والشرقا 20 - ورد عليه العلامة السيد علوي بن الحداد بكتاب سماه: مصباح الأنام وجلاء بالظلام، في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام، وهو مطبوع بالمطبعة العامرة سنة 1325 وما تقدم من التآليف مذكور فيه. 21 - ورد أخيه سليمان بن عبد الوهاب عليه المسمي ب: الصواعق الإلهية مطبوع. 22 - ورد العلامة المحقق شيخ الإسلام بتونس إسماعيل التميمي المالكي المتوفي سنة 1248 وهو في غاية التحقيق والإحكام نقض به رسالة لابن عبد الوهاب مطبوع في تونس. 23 - ورد العلامة المحقق الشيخ صالح الكواش التونسي وهو رسالة مسجعة محكمة نقض بها رسالة لابن عبد الوهاب مطبوع ضمن سعادة الدارين في الرد علي الفرقتين. 24 - ورد العلامة المحقق السيد داود البغدادي الحنفي جيد مطبوع. 25 - ورد الشيخ ابن غلبون الليبي علي قصيدة الصنعائي التي مدح بها ابن عبد [ صفحه 252] الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها مذكورة في سعادة الدارين عدة أبياتها أربعون بيتا مطلعها: سلامي علي أهل الإصابة والرشد++ وليس علي نجد ومن حل في نجد 26 - ورد السيد مصطفي المصري البولاقي أيضا علي قصيدة الصنعاني التي مدح بها ابن عبد الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها مذكورة في سعادة الدارين عدة أبياتها مائة وستة وعشرون مطلعها: بحمد ولي الحمد لا الذم استبدي++ وبالحق لا بالخلق للحق استهدي 27 - ورد السيد الطباطبائي البصري أيضا علي قصيدة الصنعاني التي مدح بها ابن، عبد الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها ذكر صاحب سعادة الدارين أبياتا منها وسهام هذه القصائد الصائبة هي التي أرجعت الصنعاني إلي كتيبة أهل الحق فقال: " رجعت عن القول الذي قلت في النجدي ". 28 - سعادة الدارين في الرد علي الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية، للعلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصورين المتوفي في العقد الثاني من هذا القرن وهو مطبوع في مجلدين 29 - رد مفتي مكة السيد أحمد دحلان المتوفي سنة (1304) المسمي " الدرر السنية " مطبوع. 30 - رد الشيخ يوسف النبهاني المسمي " شواهد الحق في التوسل بسيد الخلق " مطبوع في مجلد. 31 - رد جميل صدقي الزهاوي البغدادي المسمي " الفجر الصادق " مطبوع. 32 - إظهار العقوق ممن منع التوسل بالنبي والولي الصدوق للشيخ المشرفي المالكي الجزائري. 33 - ألف العلامة المرحوم مفتي فاس الشيخ المهدي الواز؟ ني رسالة في جواز التوسل رد بها علي محمد عبده الذي منع ذلك. [ صفحه 253] 34 - رد الشيخ مصطفي الحمامي المصري المسمي " غوث العباد ببيان الرشاد " مطبوع. 35 - رد الشيخ إبراهيم حلمي القادري الإسكندري المسمي " جلال الحق في كشف أحوال أشرار الخلق " جيد مطبوع في الإسكندرية سنة 1355. 36 - رد العلامة الشيخ سلامة العزامي المتوفي سنة 1379 المسمي " البراهين الساطعة " جيد مطبوع. 37 - النقول الشرعية في الرد علي الوهابية للشيخ حسن الشطي الحنبلي الدمشقي مطبوع. 38 - رسالة له أيضا في تأييد مذهب الصوفية والرد علي المعترضين عليهم مطبوعة. 39 - رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء للشيخ محمد حسنين مخلوف مطبوعة. 40 المقالات الوفية في الرد علي الوهابية للشيخ حسن خزبك مطبوعة. 41 - الأقوال المرضية في الرد علي الوهابية رسالة صغيرة للشيخ عطا الكسم الدمشقي. وردود أهل السنة عليهم نظيفة خالية من السب والتكفير عكس ردودهم فإنها مملوءة بذلك، وقد رأيت قصيدة لرجل منهم يقال له ابن سحمان مات قريبا هجا بها الشيخ إبراهيم من الشيخ عبد اللطيف آل مبارك التميمي المالكي الأحسائي منتصرا لصديق حسن خان القنوجي. ولا يستغرب منهم هذا فإنها البضاعة التي ورثوها من إمامهم الحراني لا بد لهم منها لنسد الفراغ ولا يلجأ إليها إلا من يعوزه العقل والعلم ووقاره. 42 - وقد ورد بقصيدة طنانة من بحرها ورويها العلامة الشيخ عبد العزيز القرشي العلجي المالكي الأحسائي المتوفي بعد الستين من هذا القرن عدة أبياتها 95 ومطلعها: [ صفحه 254] ألا أيها الشيخ الذي بالهدي رمي++ سترجع بالتوفيق خظا ومغنما ومن يك مسعاه النفيس لربه++ سعي النصر في مسعاه أيان يمما مقالات العلامة الدجوي في الرد علي التيميين في التوسل 43 - وأحسن وأجود من كتب في الرد عليهم في مسألة التوسل بالأنبياء والصالحين في عصرنا هذا العلامة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي سلسلة مقالات نشرت في مجلة الأزهر حين كانت تسمي نور الإسلام أذكرها بتصرف فيها. حكم التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم س: نرجو من فضيلتكم التكرم بإزاحة الستار عن موضوع اهتزت له الآراء ونطاحت من أجله الجماعات رغبة في تمكين عري العقيدة التي أقلقت بال الكثير وهذا الموضوع هو التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي الله تعالي فقد تكلم في هذا الموضوع الكثير وذهبوا فيه مذاهب شتي حتي أن بعضهم يقول إنه إشراك.. الخ. ج: إن التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم جائز ونافع وكان ينبغي ألا يكون فيه شبهة وقد ورد في الأحاديث الصحيحة = كما ستقف عليه = عندما نفيض القول فيه بعد ولكن (نغيث) أولئك الملهوفين (الذين توسلوا إلينا) بكلمة موجزة تأتي علي الموضوع إجمالا ونرجئ القول في التفصيل وبيان الأدلة إلي عدد آخر فنقول: إن تلك الطائفة ارتكبت شططا وكفرت المسلمين لأوهي الأسباب غلطا، والتكفير أمر كبير لا يصح لمسلم يشفق علي دينه أن يقدم عليه خصوصا للمستدلين والمتأولين، [ صفحه 255]

التوسل في رآي الشوكاني

وإني لا أدري كيف يكفرون من يقول: إن الله خالق كل شئ، وبيده ملكوت كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، والمتوسل ناطق بهذا في توسله، فإن المتوسل إلي الله تعالي بأحد أصفيائه قائل إنه لا فاعل إلا الله، ولم ينسب إلي من توسل به فعلا ولا خلقا، وإنموا أثبت له القربة والمنزلة عند الله تعالي، وهي ثابتة لا شك فيها، وبها يشفع صلي الله تعالي عليه وسلم للخلائق يوم القيامة، وبهذا الاعتقاد الراسخ الذي يكاد يكون فطريا في النفوس كلها ذهبت الخلائق يوم القيامة إلي الأنبياء والمرسلين ليشفعوا لهم عند الله تعالي، علي أن المؤمن قد خرج من تلك الوساوس بمقتضي إيمانه بأن الله تعالي ليس له شريك، وأن لا إله إلا هو، حتي أننا لو رأيناه أسند شيئا لغير الله عز وجل، علمنا بمقتضي إيمانه إنه من الإسناد المجازي لا الحقيقي. وقد قررنا ذلك في نحو قوله (أنبت الربيع البقل) وفرقنا بين صدوره من المؤمن وصدوره من الكافر فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالي أو راجع إليه، وذلك شئ مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شئ ولا تأثير عندنا لشئ في شئ بنفسه فهذا هو ما عليه جماعة أهل الحق. وقد قال تعالي: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)، وقال تعالي: (فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه)، وقال تعالي: (فارزقوهم منه) الخ ما هو في الكتاب والسنة، وهو كثير في لسان الشرع ومعروف في بديهة الفطرة. وأعجب العجب أنهم لا يتحاشون الإسناد إلي الجمادات ولا يمتنعون منه فيقولون: أرواني الماء وأشبعني الخبز ونفعني الدواء، فإذا سمعوا مثل ذلك الإسناد إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قامت قيامتهم وتبجح سفهاؤهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وإنا نسألهم: (وهم أكثر الناس تراميا علي الناس) هل تعتقدون إن من تسألونه في قضاء حاجاتكم خالق مع الله مستقل؟، فإذا اعتقدتم ذلك كنتم أولي بالإشراك، وإن قلتم إننا نذهب إليه ونسند له الفعل والإعطاء والمنع علي سبيل المجاز والتسبب فإن الله تعالي جعله [ صفحه 256] من الأسباب التي يجري عندها الخير ويخلقه، قلنا لكم إننا كذلك فلا فرق بيننا وبينكم، وإن فرقتم بين الأحياء والأموات قلنا لا فرق فإن الفاعل في كل ذلك هو الله تعالي لا الحي ولا الميت، وإذا كان المتوسل في الحقيقة إنما توسل بمنزلة المتوسل به عند الله تعالي، والفاعل هو الله عز وجل لم يكن هناك معني للتفرقة بين الحي والميت فإن منزلته ميتا كمنزلته حيا، علي أن تلك التفرقة لا ينبغي صدورها من مؤمن فضلا عن عالم فإن الأرواح بعد موتها باقية مدركة فاهمة علي نحو ما كانت عليه في حياتها أو أشد، ولذلك يتساءلون عن الأحياء ويفرحون ويحزنون بما يكون منهم ويدعون لهم إلي آخر ما جاء في السنة. وقد دعا آدم عليه الصلاة والسلام غيره لنبينا صلي الله تعالي عليه وسلم ليلة المعراج، وقد شرع لنا أن نخاطبهم خطاب الحاضر المشاهد في قولنا: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ونخاطب النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في كل صلاة بقولنا: (السلام عليك أيها النبي)، وتعرض أعمالنا عليه صلي الله تعالي عليه وسلم فإن وجد خيرا حمد الله تعالي وإن وجد شرا استغفر لنا، بل تعرض أعمالنا علي آبائنا وأهلينا كما جاء في السنة، وقد رأي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم موسي عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة وراجعه صلي الله تعالي عليه وسلم في أمر الصلاة وذكر له حال أمته، وقد بلغنا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم السلام عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأنبياء في بيت المقدس ليلة المعراج وخطبوا وقالوا وفعلوا، وسمع بعض الصحابة ذلك الميت الذي ضرب خباءه علي قبره يقرأ سورة الملك الخ ما جاء في السنة الغراء. وقد أثبت ابن تيمية، وهو مرجعهم الوحيد ومؤسس مذهبهم، كرامات الأولياء في كتبه، وكذلك ابن القيم، وهو من أئمتهم، أثبت في كتاب الروح أن الروح القوية كروح أبي بكر رضي الله تعالي عنه ربما هزمت جيشا إلي آخر ما قال، وكذلك الشوكاني، وهو من أئمتهم أيضا، أثبت جواز التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم بل بغيره من الأولياء والعلماء ورد علي من قال يقصر الجواز عليه صلي الله عليه وسلم (كالعز بن عبد السلام) فإن المدرك فيه واحد، وهو مزية المتوسل به وقربه ومنزلته عند الله، وإن كان [ صفحه 257] الشوكاني متناقضا وغالطا في التطبيق في أشياء كثيرة، علي أنه لا يتخبط تخبط هؤلاء ولا يجهل جهلهم. وقد أثبت التبرك بالآثار في نيل الأوطار، وعلي كل حال فلا يتم مذهبهم إلا إذا أثبتوا أن من نادي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم أو توسل به فقد جعله إلها مع الله. فإن قالوا إن ذلك من لوازم النداء والاستغاثة، قلنا لهم إنكم إذا أول المشركين وأكبر الضالين، فإنكم أكثر الناس استغاثة بالمخلوق، وقد قلنا ذلك إلزاما ليجعلوا الإيمان قرينة علي ما يصدر من المؤمن، وليس يتم لهم مذهب أيضا إلا إذا قالوا: إن الأرواح قد فنيت بالموت وكذبوا الكتاب والسنة التي أثبتت الحياة للأرواح كلها (حتي أرواح الكفار كما في حديث القليب وغيره) أو قالوا إنها باقية لكن ضاعت منزلتها عند الله تعالي ولا تستطيع أن تدعو الله تعالي في أمر من الأمور، أو سلبت منها قوتها وجميع مواهبها فلا يمكنها أن تعمل شيئا وكذبوا بذلك صرائح ما جاء عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والسلف الصالح اتباعا لوساوسهم، فإذا قالوا ذلك وحالفوا المعقول والمنقول كانوا أجهل الجاهلين وأضل الضالين، ولا نطيل معهم القول في هذه العجالة بأكثر من هذا وإنا والله نحب أن يكون المؤمنون إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا قائلين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)، اسأل الله تعالي أن يزيل الشحناء والبغضاء التي نحلق الدين من قلوب المسلمين وأن يرشد إخواننا المخالفين إلي ما فيه الخير والهدي، وألا يجعلهم فتنة للناس بمنه وكرمه، يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر. التوسل وجهلة الوهابيين كتبنا في العدد الثامن كلمة موجزة في التوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وحذرنا غلاة الوهابية ومن حذا حذوهم من تكفير المسلمين وقلنا لهم إن التكفير أمر عظيم لا ينبغي لمن يشفق علي دينه أن يسارع إليه وذكرنا من الأدلة علي جوازه ما يخضع له المنصف ولا يماري فيه إلا الجاهل المتعسف، فجاءتنا رسائل من جهلة الوهابيين كلها [ صفحه 258] سب وإقذاع وليس فيها غير ذلك ولا غرو، فسلاح السفهاء بذاءة اللسان لا قوة البرهان. وإني أبادر فأقول: إن كل ما يجد القارئ في مقالي هذا من كلمة لاذعة فإنا لا نقصد بها إلا سفهاءهم وأراذلهم، وحاشا أن نقصد منهم عاقلا أو كاملا، فإن سبق القلم بغير ذلك فهو علي غير قصد منا وإنما جرنا إليه جهل الجاهلين وجمود الجامدين: وجرم جره سفهاء قوم++ فحل بغير جانيه البلاء وقد خيل لأولئك السفهاء أنهم سينسفون الحق وأهله بسفاهتهم التي لا تزيدهم عندنا إلا صغارا واحتقارا، ولا نقيم لها وزنا وإن تفننوا فيها، وكم في كلامنا من إشارات لم يفهموها ورموز لم يدروا المراد منها وإن ظنوا أنهم مبرزون فيما يكتبون. إن العصافير لما قام قائمها++ توهمت أنها صارت شواهينا ويعز علي أن أقول: إن مجلة أم القري: (وإنا نحترمها كل الاحترام) كان فيها مقال طويل الذيل من هذا القبيل، وللحق والإنصاف نقول إنه جاءنا رسالة من بعض المكيين تحت إمضاء (ا. د) سلك فيها الكاتب مسلك الأدب، ولم يقذع أقذاع أولئك الزعانف، وربما نشرناها وعلقنا عليها تحقيقا للحق وإبطالا لباطل. أما اليوم فنقول: ليعلم القارئ الكريم أن إسناد الفعل تارة يكون لكاسبه كفعل فلان كذا وتارة يكون لخالقه كفعل الله كذا، والكل حقيقة في اللسان العربي، وقد جاء ذلك في القرآن الشريف: (والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) و (من يهد الله فهو المهتدي) ومع هذا فقد قال: (وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم) وهو كثير معروف. فإن منع أولئك الجهال الإسناد علي وجه الاكتساب فهم مجانين، وإن ادعوا أن الواقع في كلام الناس هو الإسناد للخالق لا للكاسب فهي دعوي كاذبة لم يقم عليها برهان، وقد استباحوا بها دماء المسلمين جهلا وضلالا، ومن منع الإسناد علي وجه الكسب سقطت مخاطبته وانقطع الكلام معه. [ صفحه 259] فمثلا: الغوث من الله خلق وإيجاد، ومن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم تسبب وكسب، وهذا علي فرض إننا طلبنا الغوث منه صلي الله تعالي عليه وسلم مع أننا لم نفعل ذلك، ولو فعلناه لصح علي طريق التسبب والاكتساب بطلب الدعاء منه عليه الصلاة والسلام وقد قالت أم إسماعيل عندما سمعت الصوت (أغث إن كان عندك غواث) فأسندته إليه علي سبيل الكسب، فكيف يجوز مع هذا تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم بالتوسل والاستغاثة؟ (حتي علي اصطلاحهم الذي نوافقهم علي والنزاع في معان لا في ألفاظ). وقد جاء في الحديث الصحيح: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وقد قال الله تعالي: (ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا): فإذا كان هذا في رجل لم يكن منه إلا مجرد السلام الذي هو تحية المسلمين. فكيف بمن يتجاسر علي خيار الأمة المحمدية ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبه أوهي من بيت العنكبوت؟، (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين). ومن المقرر أن اليقين لا يزول بالشك وأنه يؤول للمسلم من وجه إلي سبعين وجها = كما نص عليه النووي وغيره من العلماء =، ولست أدري هل يأخذ هؤلاء بظواهر العبارات أم بالمقصود منها؟، فإن كان التعويل عندهم علي الظواهر كان قول القائل: (أنت الربيع البقل، وأرواني الماء، وأشبعني الخبز) شركا وكفرا. وإن كانت العبرة بالمقاصد والتعويل علي ما في القلوب التي تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وإن الإسناد لغيره إنما هو لكونه كاسبا له أو سببا فيه، لا لكونه خالقا له، لم يكن شئ من ذلك كله كفرا ولا شركا، ولكن القوم متخبطون، خصوصا في التفرقة بين الحي والميت علي نحو ما يقولون (كأن الحي يصح أن يكون شريكا لله دون الميت) أو كأن الأرواح تستمد قوتها وسلطانها من الأشباح لا العكس، ولكنهم ليسوا أهل منطق ولا برهان. [ صفحه 260] ثم انضم إلي ذلك الصلف المذموم والكبرياء الممقوت، فبماذا نخاطبهم وعلي أي قاعدة نحاورهم؟، ولكننا نكتب لغيرهم عسي أن نقيه شر سمومهم التي ينفثونها فيما يكتبون، تبعا لأسلافهم مطبقين الآيات التي نزلت في الكفار علي المسلمين، مع أن الشاذ عن جماعة المسلمين أولي بالتكفير منهم وأقرب إلي الخطأ والضلال. وهل يرضون أن نقول لهم إنكم مخالفون لسلف الأمة وخلفها اتباعا لمن قبلكم؟. ثم نطبق عليكم قوله تعالي: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)، (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله)، (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله). وعندنا من ذلك شئ كثير، وهل لنا أن نأخذ بظاهر هذا الحديث؟ وهو أصح مما تأخذون به فنقول: إنكم كفرتم عندما رميتم المسلمين بالكفر، أو نقول إنكم من أولئك الذين يحقر أحدنا صلاته بجنب صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، أو نقول إنكم من أولئك الخوارج الذين قال فيهم عبد الله بن عمر = كما في صحيح البخاري = " أنهم عمدوا إلي آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين "، أو نطبق عليكم قوله عليه الصلاة والسلام في أسلافكم الحروريين: (يقتلون أهل الإيمان ويتركون أهل الأوثان)، أو نقول: (ولا نريد إلا أولئك الفظاظ الغلاظ الجامدين الجاهلين)، إنكم أعداء الله حيث أثبتم له الجهة وشبهتموه بخلقه. وأعداء رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم حيث لم توقروه ولم تراعوا حرمته، وأعداء أولياء الله حيث حقرتموهم كل التحقير، وأعداء جميع المسلمين حيث استحللتم دماءهم وأموالهم حتي قتل أطفالهم من نبات وبنين وذلك شئ نهي عنه النبي صلي الله عليه وسلم مع أكفر الكفرة وأفجر الفجرة إلي آخر فظائعكم وشنائعكم. فيا أيها الناس اتقوا الله في المسلمين، فنحن أحوج إلي الوئام والاتحاد أمام العدو [ صفحه 261] الذي أجمعنا جميعا علي كفره وعداوته، بل اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن النفس أمارة بالسوء وإن من اتبع هواه ضل عن سبيل الله ولو سلكنا مسلككم واتبعنا خطتكم وقابلنا السيئة بالسيئة لقلنا لمن يريد نصحكم = ونحن يائسون منكم =: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا؟، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)، وعلي نهجكم كان يمكننا أن نسير ولكن ديننا أعز علينا من أعراضنا التي نهشتموها ودمائنا التي استبحتموها، ولعمر الله لقد صيرتم الإسلام بذلك نارا مضطرمة علي وجه الأرض لا دين يسر وسلام كما جعله الله، بل صار دين جهالة وجمود مع أن نبيه صلي الله تعالي عليه وسلم يقول: (إن الله لا ينظر إلي صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم ونياتكم). وإنا لنعلم أن الفرق الضالة كلها تستدل بالقرآن علي نحلها ونزعاتها، فلا يغرنكم ما تستدلون به من الآيات في غير محل الاستدلال مطبقين إياها علي المسلمين خطأ وجها = كما فعل أسلافكم = فإن ذلك لا يغني عنكم من الله شيئا. والناجي من نجاه الله تعالي: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). ولا أدري لماذا قامت قيامتكم؟، وقد قلنا نعتقد في توسلنا إن الله هو الفاعل، ولسنا نطلب من غيره فعلا ولا عملا، ولكن نسأله بمنزلة النبي عنده، وتلك المنزلة ثابتة له في الدنيا والآخرة، وبها نذهب إليه للشفاعة يوم القيامة وذكرنا وجوها أخري هي في غاية الوضوح لا داعي لا عادتها، وسنفيض بعد فيما يقنع المناظر ويقحم المكابر، فما ذلك الشرك الذي شغفتم بذكره؟، وما ذلك التكفير الذي جننتم برمي المسلمين به؟. وسنذكر من أدلة التوسل ما يلقمكم الحجر ونبين لكم أن آية: (وإن استنصروكم في الدين)، ما ذكرناها إلا لما قاله بعض أئمتكم وستسمعونه بعد، ولأننا لا نستبعد منكم شيئا مما يعقل ولا يعقل، ولأن التفرقة بين الأحياء والأموات في هذا المقام غير صحيحة، فإن الطلب من الله والفعل لله لا من المستغاث به علي أنه يستطيع أن ينفعنا بدعائه علي ما نوضحه أتم توضيح. [ صفحه 262] ولنقتصر علي هذا ونورد لكم شيئا عن الأرواح وعلمها بعد الموت مما قاله ابن القيم، وشيئا عن التوسل مما قاله الشوكاني، = وهما من أئمة الوهابية الذين يرددون كلامهم في كل موطن =، بل ما تراه لهم من علم أو ما يشبه العلم، فإنما هو لابن تيمية وابن القيم والشوكاني واحدا بعد واحد كالببغاء أو كالحاكي للصوت (الفنوغراف)، وليتهم كان لديهم من الأمانة (ما للفنوغراف) وهذا هو كلام ابن القيم في الأرواح بعد موتها: عمل الأرواح بعد الموت قال ابن القيم في كتاب الروح: إن للأرواح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه في التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلي الله تعالي والتعلق به سبحانه وتعالي ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه بسبب انغماسها في شهواتها. فإذا كان هذا في عالم الحياة الأرضية، وهي محبوسة في بدنها، فيكف إذا تجردت عنه وفارقته؟ واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل نشأتها روحا عالية زكية كبيرة ذات همة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. وقد تواردت الرؤي في أصناف بني آدم علي فعل الأرواح بعد الموت أفعالا لا تقدر علي مثلها حال اتصالها بالبدن في هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد، والفيالق بالعدد القليل جدا ونحو ذلك، وقد رؤي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالي عنهما في النوم، وقد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وضعف المؤمنين وقلتهم، هذا ما قاله ابن القيم، فانظر فيه مع ما يقول هؤلاء ولا تنس أنه ليس لهم علم ولا شبه علم إلا ما يقوله ابن تيمية وابن القيم، وإنهم قاصرو الاطلاع كما أنهم قاصرو العقل. [ صفحه 263]

التوسل في رأي الشوكاني

وقال الشوكاني = وهو عندهم معتبر =: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاواه ما لفظه: (والاستغاثة بمعني أن يطلب من الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعني فهو إما كافر وإما مخطئ ضال). أقول: فليكن النزاع فيما هو اللائق به وما يقدر عليه وفيما لا يليق به ولا يقدر عليه، ولا شك أنه قادر علي أن يدعو لنا وهو في البرزخ = كما قال في الحديث الذي ستعلم صحته =: (تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت شرا استغفرت لكم) ولنرجع إلي تتميم كلام الشوكاني، قال الشوكاني: (وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا)، = هذا ما قاله =. وإني أكرر لفت نظرك إلي أنه يجب أن يكون البحث إذا في تحقيق ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، وقد علمت أنه قادر علي أن ينفعنا وهو في البرزخ بدعائه كما كان في الدنيا، فليكن محل النزاع هو كونه قادرا أو غير قادر، علي أنه لا وجه للشرك علي كل حال. ثم قال الشوكاني وفي سنن أبي داود أن رجلا قال للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك علي الله، فقال: (شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع به علي أحد من خلقه)، فأقروه علي قوله ونستشفع بك علي الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك إلي أن قال: وأما التوسل إلي الله سبحان بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه، فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: [ صفحه 264] إنه لا يجوز التوسل إلي الله تعالي إلا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلي الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي في صحيحه وابن ماجة وغيرهم، أن أعمي أتي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم (توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي في)، وقال: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك)، فرد الله بصره، وإني ألفت نظرك إلي قوله: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك). ثم قال الشوكاني: وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلي الله عليه وسلم = كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام = لأمرين: الأول = ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله تعالي عنهم. والثاني - أن التوسل إلي الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم حكي عن الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة إن كل واحد منهم توسل إلي الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم ولا سكت النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وإني أرجوك أن تمعن النظر في جعله ابن عبد السلام متشددا مع قوله بجواز التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم، غاية الأمر أنه قصر ذلك عليه. ثم قال الشوكاني: وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون للتوسل إلي الله تعالي بالأنبياء والصالحين من نحو قوله تعالي: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي)، ونحو قوله تعالي: (فلا تدعوا مع الله أحدا)، ونحو قوله تعالي: (له دعوة [ صفحه 265] الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) ليس بوارد، بل هو من الاستدلال علي محل النزاع بما هو أجنبي عنه. فإن قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك. وكذلك قوله تعالي: (فلا تدعوا مع الله أحدا) فإنه نهي أن يدعي مع الله غيره، كأن يقول يا الله يا فلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم. وكذلك قوله تعالي: (والذين يدعون من دونه) الآية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، فإذا عرفت هذا لم يخفف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع. إلي أن قال: والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أم غير نبي فهو في ضلال مبين. وهكذا الاستدلال علي منع التوسل بقوله تعالي: (ليس لك من الأمر شئ)، (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا)، فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم من أمر الله شئ، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره؟، وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء والعلماء. وقد جعل الله لرسوله صلي الله تعالي عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمي وأرشد الخلق إلي أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له: (سل تعط واشفع تشفع). [ صفحه 266] إلي أن قال: وهكذا الاستدلال علي منع التوسل بقوله صلي الله تعالي عليه وسلم لما نزل قوله تعالي: (وأنذر عشيرتك الأقربين، يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلي الله تعالي عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله تعالي، وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه إلا يتوسل به إلي الله تعالي، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببا للإجابة ممن هو متفرد بالعطاء والمنع، هذا كلام علمائهم الذين يقدمونهم علي علماء المذاهب الأربعة، علي أن لهم مع هذا شذوذا لا نوافقهم عليه في كثير من المواضع، ولكن أتباعهم الذين لم يتذوقوا العلم إلا منهم ولا يتشدقوا بما يشبه الحق إلا بفضل كتبهم التي لا يستقون الدين والهدي إلا منها وليس وراءها لديهم علم ولا دين يجب عليهم ألا يخالفوهم في ورد ولا صدر، وأن يكون كلامهم حجة عليهم، كما كان الحجة لهم. ويكفي هذا اليوم، وسنذكر من الأدلة الصحيحة الصريحة ما يدل علي أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يجوز التوسل به قبل وجوده وبعد في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة. وقد وعدناهم في كلمتنا الأولي بذكر الأدلة وتمام التفصيل ولكنهم قوم لا يفقهون، وكثيرا ما تراهم إذا أرادوا أن يردوا علينا أو علي غيرنا قرروا مذهبهم (ونحن أعرف به منهم) متخيلين أن الأدلة يرد عليها بالدعاوي غير المبرهنة. وحيث عجزوا عن الاستدلال، فلنتبرع نحن بإقامة الأدلة علي فساد كل دعاويهم، (حتي دعوي التفرقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) وإن كان عجز المدعي عن إثباتها كافيا في سقوطها، فلينتظروا ما يخزيهم في الأعداد المقبلة إن شاء الله تعالي. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء [ صفحه 267] التوسل وجهلة الوهابيين قلنا في العدد السابق: إنه لا بأس أن نتوسل بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم ونستغيث به في حياته وبعد مماته، لأن التوسل إنما هو بمنزلته عند الله، وهي ثابتة له في الدنيا والآخرة، والمطلوب منه هو الله تعالي، علي أنا لو طلبنا من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أن يتشفع لنا عنده تعالي لصح عقلا ونقلا، فإنه يمكنه وهو في البرزخ أن يسأل الله لنا كنا كان يسأله في حياته. وقد قلنا إن الأرواح بعد الموت باقية فاهمة مدركة، بل نقلنا عن إمامهم ابن القيم إن للروح بعد مفارقة الجسد أعمال تعملها (في هذا العالم) لا يمكنها أن تعملها حال اتصالها بالبدن إلي آخر ما نقلناه عنه، وهو معقول جدا، فإن الأرواح لم تستمد قوتها من الأشباح حتي تذهب قواها وخصائصها بمفارقتها، بل الأشباح هي التي تستمد حياتها وأفاعيلها من الأرواح، فما هذا الاشتباه الذي أدي إلي قلب الحقائق ومصادمة المعقول والمنقول؟، علي أن تخصيص الجواز بالحي دون الميت أقرب إلي إيقاع الناس في الشرك، فإنه يقتضي أن للحي فعلا يستقل به دون الميت، فأين هذا من قولنا إن الفعل في الحقيقة لله لا للحي ولا للميت؟. ومن أمعن النظر في كلامهم لم يفهم منه إلا مذهب المعتزلة في الأحياء ومذهب الذين يئسوا من أصحاب القبور في الأموات، وعلي كل حال فالغفلة عن الفاعل الحقيقي وتخيل أن الفاعل غيره أظهر في الأحياء منه في الأموات. وقد نقلنا لك كلام الشوكاني = وهو من أئمتهم = في التوسل ورده علي العز ابن عبد السلام في تخصيص جواز ذلك بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم وقال: إنه لا فرق بينه وبين غيره. ولنقل علي سبيل التنزل عسي أن ينقطع النزاع بيننا وبينهم: لماذا لا تجعلون التوسل بالولي أو النبي توسلا بعمله الصالح؟ فإنك تتوسل بالولي من حيث هو ولي [ صفحه 268] مقرب إلي الله تعالي وما تقرب إليه إلا بما أحبه من صالح الأعمال. وسؤال الله بالأعمال الصالحة مجمع علي جوازه منا ومنكم، وستسمعون أكثر من هذا " ولنذكر لكم عبارة ابن قدامة = وهو من كبار الحنابلة الذين أنتم علي مذهبهم = وقد قال فيه ابن تيمية: إنه لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفضل منه، فلعله يحرك منكم الإنصاف أو يذكركم بمذهبكم إن كان لكم مذهب = كما تدعون =، نريد أن نحاكمكم إلي العقل تارة وإلي ما قاله الشوكاني وابن القيم وأئمة الحنابلة تارة أخري، وليت شعري هل يفيد شئ من هذا؟: (بكل تداوينا فلم يشف ما بنا). وقد قال الله في حق قوم أشربوا في قلوبهم التعصب والعناد: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا). وسر ذلك كما بين الله إنهم كانوا يتكبرون في الأرض بغير الحق، وأي تكبر أعظم من تكبر من يحتقر جميع المسلمين ويعتقد أن لا ناجي غيره؟، ولكنا نكتب لغير جهلة الوهابيين كي نقيه من عدواهم، وللمنصفين منهم كي يرجعوا إلي الحق. أما عبارة ابن قدامة الحنبلي في مغنيه الذي هو من أجل كتب الحنابلة أو أجلها علي الاطلاق فهاك نصها: قال في صفة زيارته صلي الله تعالي عليه وسلم في صفحة (590) من الجزء الثالث: تأتي القبر فتولي ظهرك للقبلة، وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه. إلي أن قال: اللهم أجزعنا نبينا أفضل ما جازيت به أحد من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، إلي أن قال: اللهم إنك قلت وقولك الحق: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم [ صفحه 269] الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلي ربي، فانظر إلي استشفاعه به وهو في قبره الذي يحرم الوهابيون شد الرحال إلي زيارته، وأظن أنهم لا يجر أون علي التفرقة بين الاستشفاع والتوسل وإن كنا لا نستبعد منهم ما يعقل وما لا يعقل، كما نعتقد أنهم لا يفهمون ما يفهمه الناس من أن الزائر يستغفر والرسول يستغفر أيضا وهو في البرزخ، وإلا فلا معني لإيراد هذه الآية ولا بعد في استغفاره بعد موته. فقد ورد في الحديث الصحيح: (تعرض علي أعمالكم) أي بعد الموت (فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت شرا استغفرت لكم)، وقد أطال المناوي وغيره في تصحيح هذا الحديث.

حديث من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي، من زار قبري وجبت له شفاعتي

فأنت تري إثبات الاستغفار لنا بعد وفاته صلي الله تعالي عليه وسلم؟؟ الحديث، وفي شرح المقنع المطبوع مع المغني صفحة 495 مثله بالحرف وفيه زيادة علي ذلك نصها: روي الدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما قال: قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)، وفي رواية: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) إ ه. والدارقطني من أعظم المحدثين تحريا وأكثرهم تشددا في الحديث. وقد وافق علي حديث الزيارة كغيره من الحفاظ النقاد كما بينه السبكي في شفاء السقام بما لا مزيد عليه. فهذا كلام الحنابلة الأول المتبعين لمذهب الإمام أحمد المتمسكين بسنة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ومحبته كسائر علماء المذاهب. ولنذكر لك بعد هذا شيئا مما وعدنا به من أدلة التوسل من السنة الصحيحة فنقول: جواز التوسل وحسنه معلوم لكل ذي دين، وكأنه مركوز في الفطر الإنسانية أن يتوسل إلي الله بأنبيائه وأصفيائه والمقربين لديه، ولذلك يذهب الناس إلي الأنبياء كي [ صفحه 270] يشفعوا لهم لمنزلتهم عنده تعالي، وإن كان الله أقرب إليهم من حبل الوريد، واتباع كل نبي كانوا يتوسلونه إلي الله بذلك النبي. وقد ثبت التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة، أما التوسل به قبل وجوده فيدل له ما أخره الحاكم وصححه ولم يتعقبه الذهبي في كتابه الذي تعقب به الحاكم في مستدركه. وقد صح عن مالك الإمام أيضا علي ما رواه القاضي عياض في الشفاء أن آدم عليه الصلاة والسلام لما أكل من الشجرة توسل إلي الله بمحمد صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال له: من أين عرفت محمدا ولم أخلقه فقال: وجدت اسمه مكتوبا بجنب اسمك فعلمت أنه أحب الخلق إليك، فقال الله: إنه لأحب الخلق إلي وإذ توسلت به فقد غفرت لك، وقال مالك للمنصور وقد سأله: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك إلي الله ووسيلة أبيك آدم يشير إلي ذلك الحديث. وقال المفسرون في قوله تعالي: (وكانوا من قبل يستفتحون علي الذين كفروا): إن قريظة والنضير كانوا إذا حاربوا مشركي العرب استنصروا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان فينتصرون عليهم، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، فأنت تراهم سألوا الله به قبل وجوده. وأما التوسل به بعد وجوده في حياته فلا أظن أن أحدا يماري فيه، فقد كانوا يذهبون إليه في كل شدة إذا أجدبوا أو نزلوا منزلا فلم يجدوا به ماء، وعندما يمسهم ضرا أو كرب مما لا يسعنا الإفاضة فيه الآن، وإن أنكره منكر ملأنا له الدنيا أدلة وبراهين، وإن سموا بعضه استغاثة فلا ضرر فإنه يثبت المطلوب بالطريق الأولي ويرد عليهم علي كل حال، والنزاع ليس في ألفاظ وعبارات = كما قلنا في العدد السابق =، ولكن نسوق لك الآن حديثا صحيحا أخرجه الترمذي وصححه والنسائي والبيهقي والطبراني بأسانيد صحيحة = اعترف بها الحفاظ (حتي الشوكاني). [ صفحه 271]

فعل رسول الله عند فوت فاطمة بنت اسد

رووا جميعا بن عثمان بن حنيف رضي الله تعالي عنه أن رجلا أعمي جاء إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وهو جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر، فقال ليس لي قائد، وقد شق علي فقد بصري، فقال له: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي لتقضي لي اللهم شفعه في) في وفي رواية (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك)، قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرق بنا المجلس حتي دخل علينا بصيرا كأنه لم يكن به ضر، هذا هو الحديث الصحيح الصريح الذي يقطع النزاع. ولكن السخيف المتعصب لا يعدم خيالا فاسدا وكلاما فارغا، وقد قال الله تعالي (وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) فلننتظر حتي يتخيل. وإني ألفت نظرك إلي قوله عليه الصلاة والسلام (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك وإلي ندائه صلي الله وسلم وهو غائب، ونداء الأموات شرك عند الوهابيين). وأما التوسل به بعد وفاته فيمكننا أن نستدل عليه بهذا الحديث، فإن قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك) صريح في جوازه بلا قيد ويدل له أيضا ما رواه الطبراني والبيهقي والترمذي بسند صحيح بن عثمان بن حنيف رضي الله تعالي عنه أن رجلا كان يختلف إلي عثمان بن عفان زمن خلافته في حاجة له فكان له يلتفت إليه، فرجا عثمان بن حنيف أن يكلمه في شأنه، فعلمه الدعاء المذكور فتوضأ وصلي ثم دعا به كما علمه، ثم جاء إلي باب عثمان فأخذه الخادم وأدخله عليه فأجلسه بجانبه علي الطنفسة ثم قضي حاجته وقال له: وإذا عرضت لك حاجة فأتنا، فلما قابل الرجل عثمان ابن حنيف قال له: جزاك الله خيرا، وما كان ينظر في حاجتي حتي كلمته فيها، فقال له: والله ما كلمته ولكني كنت مع رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فدخل علمه أعمي وذكر الحديث. هذا وقد توسل صلي الله تعالي عليه وسلم بالأنبياء بعد موتهم كما في الحديث الصحيح، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنهما، وكانت ربت النبي صلي الله تعالي عليه وسلم [ صفحه 272] دخل عليها رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فجلس عند رأسها ثم قال: رحمك الله يا أمي بعد أمي وذكر ثناءه عليها، ثم كفنها ببردته وأمر بحفر قبرها، قال: فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين) = أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم بسند صحيح =. وروي ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالي عنه مثل ذلك، وروي مثله ابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالي عنه. ثم نقول: إنهم كانوا يتبركون بآثاره صلي الله تعالي عليه وسلم وبعد موته، فقد ثبت أنه كان له صلي الله تعالي عليه وسلم جبة عند أسماء بنت أبي بكر كانوا يستشفون بها، ولا معني لهذا إلا أنهم كانوا يتوسلون بآثاره إلي الله تعالي فيشفيهم ببركتها، والتوسل يقع علي وجوه كثيرة لا علي وجه واحد = كما يفهمه هؤلاء =، أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به، وفي الباب شئ كثير لعلنا نذكره بعد. أما توسل عمر بالعباس حين استسقي به دون النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فلكون ذلك هو سنة الاستسقاء ولكون العباس من ذوي الحاجات للمطر، أو لكون عمر أراد أن يبين للناس أنه يجوز التوسل بغيره صلي الله تعالي عليه وسلم لفضله أو لقرابته منه عليه الصلاة والسلام، أو لخوفه علي ضعفاء المسلمين وعوامهم إذا تأخر المطر بعد التوسل، أو ليدلهم علي أن التوسل بالمفضول جائز مع وجود الفاضل وإلا فعلي أفضل من العباس وكذا عمر، علي أن البيهقي في دلائل النبوة أخرج ما يأتي، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدار خازن عمر رضي الله عنه قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال يا رسول الله: استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله تعالي عليه وسلم في المنام، [ صفحه 273] فقال: ائت عمر فاقرأه السلام واخبره أنهم مسقون وقل له عليك الكيس الكيس، فأتي الرجل عمر فأخبره فبكي عمر رضي الله عنه، ثم قال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه، ومحل الاستشهاد في هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بعد موته وإقرار عمر إياه علي ذلك. هذه وأحب أن تتذكر ما قلناه من أن المسؤول هو الله تعالي لا فاعل غيره ولا خالق سواه، وإنما نسأله بمنزلة حبيبه لديه ومحبته له، وذلك شئ ثابت لا يتغير في الدنيا ولا في الآخرة ومن شك في منزلته صلي الله تعالي عليه وسلم عند ربه جل وعلا فقد كفره علي أن قول عمر بمحضر من الصحابة إنا نتوسل إليك بعم نبيك يدل علي جواز التوسل بالمنزلة وإلا لم يكن له معني، وأي حاجة إليه إذا كان المقصود دعاء العباس؟، أما التوسل به في عرصات القيامة فلا حاجة للإطالة فيه فإن أحاديث الشفاعة بلغت مبلغ التواتر، وفيها أن الناس يذهبون إلي الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة إلي آخر ما هو معروف. والخلاصة: أنه مما لا شك فيه أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم له عند الله قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم، فأي مانع شرعي أو عقلي يمنع التوسل به؟، فضلا عن الأدلة التي تثبته في الدنيا والآخرة، ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالي ولا داعين إلا إياه، فنحن ندعوه بما أحب أيا كان، فتارة نسأله بأعمالنا الصالحة لأنه يحبها، وتارة نسأله بمن يحبه من خلقه كما في حديث آدم السابق وكما في حديث فاطمة بنت أسد الذي ذكرناه، وكما في حديث عثمان بن حنيف المتقدم، وتارة نسأله بأسمائه الحسني كما في قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أسألك بأنك أنت الله) أو بصفته أو فعله كما في قوله في الحديث الآخر: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك) وليس مقصورا علي تلك الدائرة الضيقة = كما يعتقد الجاهلون =، وسر ذلك أن كل ما أحبه الله صح التوسل به، وكذا كل من أحبه من نبي أو ولي وهو واضح لدي كل ذي فطرة سليمة ولا يمنع منه عقل ولا نقل بل تضافر العقل والنقل علي جوازه، والمسؤول في ذلك كله الله وحده لا شريك له لا النبي ولا الولي الحي ولا الميت: (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا). [ صفحه 274] وإذا جاز السؤال بالأعمال، فبالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم أولي، لأنه أفضل المخلوقات، والأعمال منها، والله أعظم حبا له صلي الله تعالي عليه وسلم من الأعمال وغيرها. وليت شعري ما المانع من ذلك؟، واللفظ لا يفيد شيئا أكثر من أن للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قدرا عند الله تعالي، والمتوسل لا يريد غير هذا المعني، ومن ينكر قدره عند الله فهو كافر كما قلنا، ولو كنا مثلهم نأخذ بالظنة ونسارع إلي تكفير المسلمين لأمكننا أن نقول لهم: إن من لا يعرف قدر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أولي بالإشراك ممن عرفه، ومن استباح دماء المسلمين أقرب إلي الضلال ممن استبرأ لدينه وعرضه. وبعد فمسألة التوسل تدور علي عظمة المسؤول به ومحبته، فالسؤال بالنبي إنما هو لعظمته عند الله أو لمحبته إياه، وذلك مما لا شك فيه، علي أن التوسل بالأعمال متفق عليه منا ومنهم، فلماذا لا نقول إن من يتوسل بالأنبياء أو الصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله تعالي؟، وقد ورد بها حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق، ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث إنهم صالحون فيرجع الأمر إلي الأعمال الصالحة المتفق علي جواز التوسل بها كما قلنا في صدر المقالة. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء التوسل والاستغاثة لا تزال الرسائل ورادة علينا بشأن التوسل طلبا للتوضيح والإسهاب، وقد ذكر بعض مرسليها إن من الناس من يكفر المتوسلين برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم الذي سنتوسل به جميعا يوم القيامة علي ما نطقت به الأحاديث الصحيحة، ولو قالوا إن في المسألة تفصيلا أو أن بعض العبارات التي يقولها المتوسلون أو الزائرون ينبغي التحاشي عنها وتعليمهم ما يصح أن يقولوه في توسلهم أو عند زيارتهم، لقبلنا منهم ذلك وشكرناهم عليه، ولكنهم أفرطوا كل الافراط فرأينا أن نفيض القول في ذلك، فلعلنا بزيادة التقرير والتكرير نزيل تلك العقيدة التي هي أخطر شئ علي الإسلام والمسلمين، ولنجعل الكلام معهم في مقامين حتي نفحمهم بالمعقول والمنقول فنقول: [ صفحه 275] الكلام معهم من جهة الدليل العقلي وما نضطر إليه من الدليل النقلي: قبل الحوض في الموضوع نشترط عليهم أن يصبروا صبر المرتاضين بصناعة المنطق العارفين بقوانين المناظرة، فلا يخرجوا عن الفرض الذي نفرضه حتي نتم الكلام فيه، وأن يعرفوا موضوع البحث فلا ينتقلوا عنه إلي غيره وسنفرض الفروض كلها ثم نبطلها واحدا واحدا، ولينظروا حتي لا يختلط المعقول بالمنقول ولا المنقول بالمعقول وسنوفي كلا حقه إن شاء الله تعالي وعسي أن لا يكونوا بعد ذلك ممن يسلم المقدمات وينازع في النتيجة فنقول: هؤلاء إن كانوا يمنعون التوسل والاستغاثة ويجعلونهما شركا من حيث إنهما توسل واستغاثة، فاستغاثة المظلوم بمن يرفع ظلمه إذا شرك، واستغاثة الرجل بمن يعينه في بعض شؤونه شرك، واستغاثة الملك بجيشه في الحروب شرك، واستغاثة الجيش بالملك فيما يصلح أمره شرك، بل نقول يلزمهم علي هذا الفرض إن طلب المعونة من أرباب الحرف والصنائع التي لا غني للناس عنها شرك، وطلب المريض للطبيب شرك، بل يلزم بناء علي تلك الكليات التي تقتضيها الحيثية إن استغاثة الرجل الإسرائيلي بسيدنا موسي عليه الصلاة والسلام وإجابته إياه كما قال تعالي: (فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه فوكزه موسي فقضي عليه)، شرك، إلي غير ذلك مما لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل. هذا كله إن كانوا يقولون إنها شرك من حيث إنها استغاثة بغير الله تعالي كما فرضنا، فإن قالوا إن الاستغاثة والتوسل بالأموات شرك دون الأحياء، قلنا لهم: لا معني لهذا بعد أن سلمتم إن الاستغاثة بغير الله من الأحياء ليست بشرك، وبعد ما ورد به القرآن ووقع عليه الاجماع في كل زمان ومكان، ولا معني لأن يكون طلب الفعل من غير الله شركا تارة وغير شرك تارة أخري، فإن فيه نسبة الفعل لغير الله علي كل حال، وأن قالوا إننا لا نعتقد التأثير الذاتي للحي، فإن وجد ذلك الاعتقاد فيه كان شرعا وإلا فلا، قلنا: فلا فرق إذا بين الأحياء والأموات فتفرقتكم بين الحي والميت تحكم لا دليل عليه من العقل ولا من النقل. [ صفحه 276] فلو استظهرتم بالثقلين علي إثباتها عن السلف الذين جعلتموهم مجنا لأهوائكم الفاسدة لم تستطيعوا فضلا عن إثباتها عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم فضلا عن إثباتها من كتاب الله، وإن كان مناط المنع هو تلك السببية الظاهرة التي تفهم من ظواهر الألفاظ، وجب أن يكون ذلك كله شركا، حتي طلب الرجل من أخيه أن يعينه في الحمل علي دابته أو بناء داره أو حفر نهره إلي غير ذلك كما أوضحنا في الفرض الأول، فإن قالوا إننا ننسب تلك الأفعال والتأثيرات إلي الأحياء معتقدين أن الخلق والإيجاد ليس إلا الله تعالي وأن الحي ليس له إلا الكسب. قلنا كذلك من يطلب من الأموات أو يتوسل بهم، والقرآنية فيهما واحدة وهو إيمانه بأن الله بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله وإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا خالق غيره ولا موجد سواه، وإن كان سر المنع عندهم هو أن الميت لا يقدر علي شئ مما طلب منه فنقول لهم: أولا لا يلزم من ذلك أن يكون الطلب شركا بل عبثا فقط، والاستغاثة بالأحياء أقرب إلي الشرك منه بالأموات، لأنها أقرب إلي اعتقاد تأثيرهم في الاعطاء والمنع بمقتضي الحس والمشاهدة لولا نور الإيمان وساطع البرهان ثانيا - تقول لهم ما معني قولكم إن الميت لا يقدر علي شئ وما سره وباطنه عندكم، إن كان ذلك لكونكم تعتقدون أن الميت صار ترابا جسما وروحا، فما أضلكم في دينكم وما أجهلكم بما ورد عن نبيكم بل عن ربكم من ثبوت حياة الأرواح وبقائها بعد مفارقة الأجسام، ولو كانت أرواح الكفار، فمناداة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لرؤساء قريش في بدر: (يا عمرو بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا فلان بن فلان إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم). فقيل له صلي الله عليه وسلم تخاطب قوما جيفوا فقال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) في السنة أشهر من نار علي علم، ومناداته صلي الله عليه وسلم لأهل القبور ومخاطبته لهم فيها كذلك، وعذاب القبر ونعيمه مما تواتر في الشريعة الإسلامية، قرآنا وسنة، وإثبات المجئ والذهاب إلي الأرواح إلي غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي جاء بها الإسلام وأثبتتها الفلسفة قديما وحديثا. [ صفحه 277]

ايعتقدون أن الشهداء احياء عند ربهم

ولنقتصر هنا علي هذا السؤال: أيعتقدون أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أم لا؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم، لأنهم كذبوا القرآن حيث يقول: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)، وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم: إن الأنبياء وكثير من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداء كأكابر الصحابة أفضل من الشهداء بلا شك، فإذا ثبتت الحياة للشهداء فثبوتها لمن هو أفضل منهم أولي، علي أن حياة الأنبياء مصرح بها في الأحاديث الصحيحة. وقد رأي صلي الله تعالي عليه وسلم موسي عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة وأمره بالرجوع إلي ربه، وطلب التخفيف لما فرض الله عليه وعلي أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة مرارا حتي صارت خمسا. ورأي في تلك الليلة أيضا آدم وإبراهيم ويحيي وعيسي ويوسف وهارون عليهم الصلاة والسلام فهذا كله يثبت حياة الأرواح وأنه لا شك فيها. فإذا نقول حيث ثبتت حياة الأرواح بالأدلة القطعية التي قدمنا بعضها فلا يسعنا إلا إثبات خصائصها، فإن ثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم كما أن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم كما هو معروف. وأي مانع من الاستغاثة بها والاستمداد منها كما يستعين الرجل بالملائكة في قضاء حوائجه، أو كما يستعين الرجل بالرجل، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان، وتصرفات الأرواح علي نحو تصرفات الملائكة لا تحتاج إلي مماسة ولا آلة فليست علي نحو ما يعرف من قوانين التصرفات عندنا فإنها من عالم آخر،: (ويسئلونك عن الروح قبل الروح من أمر ربي)، وماذا يفهمون من تصرف الملائكة أو الجن في هذا العالم؟ ولا شك أن الأرواح لها من الاطلاق والحرية ما يمكنها من إجابة من يناديها [ صفحه 278]

القول في الشفاعة

وإغاثة من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم. وقد ذكرنا لك فيما سبق عن ابن القيم أن الأرواح القوية كروح أبي بكر وعمر ربما هزمت جيشا إلي آخر ما ذكرناه، فإن كانوا لا يعرفون إلا المحسوسات ولا يعترفون إلا بالمشاهدات فما أجدرهم أن يسموا طبيعيين لا مؤمنين، علي أننا نتنزل معهم ونسلهم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئا، ولكن نقول لهم: إذا فرضنا ذلك وسلمناه جدلا فلنا أن نقرر أنه ليست مساعدة الأنبياء والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرف الأرواح في هذا العالم علي نحو ما قدمنا، بل مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم كما يدعو الرجل الصالح لغيره، فيكون من دعاء الفاضل للمفضول أو علي الأقل من دعاء الأخ لأخيه، وقد علمت أنهم أحياء يشعرون ويحسون ويعلمون، بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد لزوال الحجب الترابية وعدم منازعات الشهوات البشرية. وقد جاء في الحديث: إن أعمالنا تعرض عليه صلي الله تعالي عليه وسلم فإن وجد خيرا حمد الله وإن وجد غير ذلك استغفر لنا. لنا أن نقول إن المستغاث به والمطلوب منه الإغاثة هو الله تعالي، ولكن السائل يسأل متوسلا إلي الله بالنبي أو الولي في قضاء حاجته، فالله هو الفاعل والسائل سأله تعالي ببعض المقربين لديه الأكرمين عليه فكأنه يقول: أنا من محبيه (أو محسوبيه) فارحمني لأجله، وسيرحم الله كثيرا من الناس يوم القيامة لأجل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وغيره، من الأنبياء والأولياء والعلماء بالشفاعية. وبالجملة فإكرام الله لبعض أحباب نبيه لأجل نبيه بل بعض العباد لبعض أمر معروف غير مجهول، فمن ذلك الذين يصلون علي الميت ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لاحلهم بقولهم: [ صفحه 279] وقد جئناك شفعاء فشفعنا فيه، ومن ذلك أيضا إكرام الغلامين اليتيمين باستخراج الكنز من تحت جدارهما لصلاح أبيهما. ومن ذلك أيضا إلحاق الذرية الناقصين في الأعمال بدرجات آبائهم الكاملين فيها. والمقصود من ذلك كله إثبات أن الله يرحم بعض العباد ببعض علي أن توجه الإنسان إلي النبي أو الولي والتجاءه إليه تحس به روح النبي والولي تمام الاحساس وهو كريم ذو وجاهة عند الله تعالي. وقد قال تعالي في كليمه موسي عليه الصلاة والسلام: (وكان عند الله وجيها)، وقال تعالي في عيسي عليه الصلاة والسلام: (وجيها في الدنيا والآخرة)، فتعتني تلك الروح بذلك الملتجئ أشد الاعتناء في تسديده وتأييده والدعاء له هي والملائكة الذين يجلونها يحبون مسرتها ورضاها. والأنبياء والأولياء محبوبون للملائكة بدليل قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا نادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه) إلي آخر الحديث وإن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لتقول للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا: (نحسن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، كما نص علي ذلك القرآن الشريف، وذلك سر التوجه إلي الأولياء وزيارتهم لتتنبه أرواحهم لحال الزائر وتلتفت إلي معونته بما أعطاهم الله تعالي من الخصائص، كما تنفع أخاك بما أعطاك الله من قوة أو وجاهة أو مكانة أو ثروة أو أعوان أو أنصار إلي آخره، وإن الإنسان هو هو في الدنيا والآخرة من حيث روحه التي هي باقية في العالمين، وليس الإنسان إنسانا إلا بها كما شرحنا والأمر جلي، (ولكنها الأهواء عمت فأعمت). ولنرجئ تتميم المقام الثاني، فربما طال الكلام فيه لعدد آخر إن شاء الله تعالي. والخلاصة: أن المستغيث لا يكفر إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالي، والتفرقة بين الحي والميت لا معني لها، فإنه إن اعتقد الايجاد لغير الله كفر، علي خلاف [ صفحه 280] للمعتزلة في خلق الأفعال وإن اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر، وأنت تعلم أن غاية ما يعتقد الناس في الأموات هو أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء، لا أنهم خالقون موجدون كالإله، إذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء وهم لا يعتقدون في الأحياء إلا الكسب والتسب، فإذا كان هناك غلط فليكن في اعتقاد التسبب والاكتساب لأن هذا هو نهاية ما يعتقده المؤمن في المخلوق كما قلنا وإلا لم يكن مؤمنا، والغلط في ذلك ليس كفرا ولا شركا، ولا نزال نكرر علي مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت ذلك ليس كفرا ولا شركا، ولا نزال نكرر علي مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت أكثر مما يعتقد في الحي، فيثبت الأفعال للحي علي سبيل التسبب ويثبتها للميت علي سبيل التأثير الذاتي والإيجاد الحقيقي، فإنه لا شك أن هذا مما لا يعقل. فغاية أمر هذا المستغيث بالميت بعد كل تنزل أن يكون كمن يطلب العون من المقعد غير عالم أنه مقعد، ومن يستطيع أن يقول إن ذلك شرك؟، علي أن التسبب مقدور للميت وفي إمكانه أن يكتسبه كالحي بالدعاء لنا، فإن الأرواح تدعو لأقاربها كما في الحديث الشريف إذ بلغهم عنهم ما يسوءهم فيقولون: (اللهم راجع بهم ولا تمتهم حتي تهديهم) بل الأرواح يمكنها المعاونة بنفسها كالأحياء، ويمكنها أن تلهمك أو ترشدك كالملائكة إلي غير ذلك علي ما شرحناه، وكثيرا ما انتفع الناس برؤيا الأرواح في المنام ولعلنا نعود إليه. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء التوسل والاستغاثة جاءنا خطاب مطول بإمضاء: (مسلم بمكة)، أطال فيه صاحبه وأعاد وأبدي وأكثر وكرر ظنا منه أنه أتي بالقواصم، وقد ألح في طلب الإجابة حتي قال في آخر: (يا فضيلة الشيخ أرجوك وأناشدك الله الذي لا إله إلا هو إلا ما حققت هذا الموضوع وأنصفت فيه). ونحن نلخص ما جاء فيه من الأسئلة معرضين عما فيها من غمز مشوب بأدب وتعريض نسامحه فيه فنقول وبالله التوفيق: [ صفحه 281]

طلب الدعاء عن الصالحين من اموات

س - هل جاء في السنة أن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم علم الناس أن يسألوا الصالحين من الأموات ويطلبوا منهم الدعاء؟ أرجو أن تذكروا ولو حديثا واحدا الجواب: ونحن نقلب عليه السؤال أولا فنقول: هل جاء في السنة أن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم نهي الناس عن أن يسألوا الصالحين ويطلبوا منهم الدعاء؟، أرجو أن تذكر لنا ولو حديثا واحدا. وثانيا نقول له: إن جواز الأشياء لا يتوقف علي ورود الأمر بها بل علي عدم النهي عنها كما هو معروف ومقرر في علم الأصول، فكل ما لم يرد فيه نص بالحظر فهو مباح. وقد علمنا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في سنته الصحيحة أن ما أمرنا به فعلنا ولم نتركه وما نهي عنه اجتنبناه ولم نفعله وما سكت عنه فهو عفو. فهذه هي قواعد العلم الذي يعرفه العلماء. وأما شبهة الموت فهي واهية لأنكم فيها بين أمرين: إما أن تنكروا إدراك الأموات وعلمهم ودعاءهم وسماعهم، وإما أن تقروا بذلك. فإن أنكرتموه ملأنا لكم الدنيا أدلة وبراهين علي ثبوت ذلك لهم مثل دعاء آدم وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لنبينا صلي الله تعالي عليه وسلم ليلة المعراج كما في الصحيحين وغيرهما، وكما في حديث: (تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وكما في حديث عرض أعمال الأحياء علي الأموات ودعائهم لهم. وقد ذكره ابن تيمية نفسه في فتاويه واعترف به ابن القيم كل الاعتراف وقرره أتم التقرير. ومن محاسن المصادفات في هذا ما يقرره الأوروبيون الآن مما يوافق ذلك، وقد [ صفحه 282] قرره قبلهم بعشرات القرون الفلاسفة الأقدمون مثل أفلاطون وغيره من الفلاسفة، فالمسألة متفق عليها بين علماء الدين وعلماء الدنيا، أو نقول بين المسلمين وغير المسلمين، أو نقول بين أهل الأثر والنقل، وبين أهل الفلسفة والعقل، أما إذا اعترف الوهابيون بأن للأموات إدراكا وعلما وسماعا وأنهم يدعون ويردون السلام إلي غير ذلك، كما ورد في السنة ثم منعوا طلب ذلك منهم كانوا متناقضين، أو نقول كانوا ممن يسلم المقدمات وينازع في النتيجة، أو ممن يقطع اللوازم عن ملزوماتها وهو مما لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل، علي أننا ذكرنا في ذلك ما يقطع الشغب من أصله والمراء من أسه، وذلك هو الحديث الصحيح الذي رويناه عن عثمان بن حنيف في التوسل به في حياته صلي الله تعالي عليه وسلم وبعد مماته وقد قال فيه: يا محمد: اشفع لي عند ربك، ولا معني لشفاعة إلا الدعاء الذي يكون منه صلي الله تعالي عليه وسلم. وفي الحديث الصحيح: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وفي حديث آخر: بحق نبيك والأنبياء قبله، فالتوسل بالصالحين والدعاء ثابت وواقع. وقد قلنا في بعض ما كتبناه، لا معني لكون هذا شركا = كما يقوله الوهابيون =، فإن الحي إذا طلب من الميت الذي هو حي بروحه متمتع بلوازم الحياة وخصائصها فإنما يطلب منه علي سبيل التسبب والاكتساب لا علي سبيل الخلق والإيجاد، لأنه ليس من المعقول أن يرفعه عن رتبة الحي، وهو إذا طلب من الحي فإنما يطلب منه علي هذا الوجه لا علي جهة الخلق والإيجاد، والطلب من المخلوق علي سبيل التسبب ليس شركا ولا كفرا، فلا معني لتكفير المسلمين بذلك. ولو فرضنا أن الميت لا عمل له، فإن خطأ المنادي أو المستغيث علي هذا الفرض إنما هو في اعتقاد السببية لا الألوهية، واعتقاد السببية في غير الله ليس هو اعتقاد الإلهية كما يظنه الجاهلون، وقد عرفت مما قدمناه أنه ليس غلطا أيضا وإنما الغالطون هم الوهابيون، وإن كان التوسل بمنزلة عند الله فالأمر واضح، لأن الموت لا يغير المنزلة عند الله تعالي. [ صفحه 283]

السوأل و الجواب عن التوسل

س: هل الرسول صلي الله عليه تعالي عليه وسلم أهمل نوعا من التوسل إلي الله تعالي أو ترك شيئا مما يقرب إلي الله تعالي؟. ج: لم يهمل الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم شيئا مما يقرب إلي الله تعالي، ولا ترك نوعا من أنواع التوسل. وقد علمنا التوسل في حديث عثمان بن حنيف المتقدم، بل توسل هو بحق وحق الأنبياء قبله، وعرفنا أن آدم عليه الصلاة والسلام توسل به قبل وجوده، وقد بين ذلك كله في الأعداد السابقة وبعد، فماذا عسي أن يدل ذلك للسائل، فلو فرضنا أن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم لم يتوسل بالصالحين لأمكن أن يقال إن مقامه أرفع من كل مقام، علي أنه صلي الله تعالي عليه وسلم كان غريقا في العبودية، وكان أعلم خلق الله بإطلاق الربوبية وسعتها وبأن الكل عبيدها وتحت قهرها وليس هناك إلا فضلها الواسع وكرمها الشامل، وأنه لا بد من ظهور ذل العبودية علي كل أحد، وذلك من تعظيم الربوبية، ويعلم صلي الله تعالي عليه وسلم إن عبيد السيد المطلق لهم منازل عنده، وإن لكل منهم مزية لديه، وإن المقتضي لعطائه تعالي إنما هو العبودية له عز وجل، فلا بد أن يكون بينهم ارتباط العبيد وتبادل المنافع، وعلي هذا قام بناء الكون، كان صلي الله تعالي عليه وسلم أعرف الناس بذلك كله، فطلب الدعاء من عمر وأمر عمر أن يطلب الدعاء من أويس القرني، وسأل الله تعالي بحق الأنبياء قبله كما في حديث فاطمة بنت أسد، وأمرنا أن نتوسل به إذا عرضت لنا حاجة إلي الله تعالي، فقال لذلك الأعمي: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك) وقد فعلها الرجل الذي كان يتردد علي عثمان بن عفان في خلافته، وقد بينا ذلك أتم بيان، علي أننا نريد منكم أن لا تكفروا المسلمين بمثل هذا العمل الذي لا شئ فيه، ونكتفي منكم أن تقولوا إنه مباح أو خلاف الأولي أو مكروه (إذا أردتم). ولو قلتم ذلك لاحتملناه منكم وإن كان غير صحيح، ولكن قومك يا حضرة السائل الذي يظن منه أنه منصف وغير متعصب يعملون علي خلاف ذلك. س: هل ثبت ما يروي عنه صلي الله تعالي عليه وسلم: (ما تركت شيئا يقربكم [ صفحه 284] إلي الله إلا بينته لكم)؟ وإذا كان ثابتا فهل الطلب من الأموات أن يدعوا للأحياء مما قاله الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم وأمر به وفعله أم لا؟. ج: نعم! ثبت أن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قال ذلك، ودعاء الأموات داخل في دعاء الأخ لأخيه الذي لا يمكنكم أن تمنعوه، وقد عرفتنا السنة الصحيحة أنه لا فرق بين الحي والميت في ذلك، وأن الميت يدعو كما يدعو الحي علي ما سبق، فإن الموت ليس فناءا أو عدما كما يظنه الجاهلون وإنما هو انتقال من دار إلي دار: لا تظنوا الموت موتا إنه++ لحياة وهو غايات المني لا ترعكم هجمة الموت فما++ هو إلا نقلة من هاهنا ولا نزال نكرر أنه قد دعا آدم عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء لنبينا صلي الله تعالي عليه وسلم وأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يدعو لأمته في البرزخ، بل آباؤنا يدعون لنا علي ما عرفت وتعرف، علي أننا نكتفي منكم أن تقولوا إنه مباح لا قربة أو علي الأقل لا تكفروا به المسلمين، كما فعل إمامكم محمد بن عبد الوهاب علي ما في الهدية السنية وغيرها. وقد قلنا فيما كتبناه في العدد الثالث من هذه السنة أنه لا وجه لذلك، ولو قد إن الميت لا يمكنه أن يدعو أو يفعل شيئا فإن الغلط علي هذا الفرض يكون غلطا في اعتقاد التسبب لا إلهية ولا نزال نكرر أن معتقد السببية في المخلوقات لا وجه لتكفير ولا معني له، فإن من يجعل غير السبب سببا يكون جاهلا لا كافرا، ويكفي هذا. س: هل بين الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ما أمر به من الوسيلة في آية المائدة عملا بقوله تعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية أم لا،؟. ج: هذا السؤال غير محرر وتقويمه هكذا: هل بين الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم الوسيلة التي أمر بها المؤمنون في سورة المائدة)؟ فإن المأمور بالوسيلة في هذا [ صفحه 285] السورة مباشرة هم المؤمنون لا الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم وحده. وإن قلنا إنه صلي الله تعالي عليه وسلم يدخل في عموم خطابها. وقوله في تمام سؤاله: (عملا بقوله تعالي): (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، جهل وتهويش، فإن الأمر والخطاب في هذه الآية خاص بالرسول صلي الله تعالي عليه وسلم في تبليغه رسالة الله ووحيه الله إلي جميع الخلق، فهو حشور تكرار لأنه صلي الله تعالي عليه وسلم قد بلغ ما أمرت به أمته من الوسيلة وبينها في سنته بيانا شافيا. قالت عائشة رضي الله تعالي عنها: من حدثك أن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب ثم قرأت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية = أخرجاه في الصحيحين =. فالوسيلة واضحة المعني ظاهرة الدلالة، والقرآن عربي نزل بلغة العرب، ولا وجه لقصركم إياها علي نوع خاص فإنه قول بلا دليل، علي أنه لا داعي لذلك كله فقد ثبت التوسل مصرحا به في حديث عثمان بن حنيف وغيره، وقد جاء في آخر الحديث المذكور: (فإن كما له حاجة فمثل ذلك)، وقد عمل به في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما بيناه فيما سبق من الأعداد. س: هل يلزم من عدم دعاء الأموات ومخاطبتهم بغير المشروع إنكار كرامتهم؟: وإذا قلتم بالتلازم فبينوا لنا وجهه بالبرهان، واذكروا لنا عن الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين من قال بجواز هذا النوع من التوسل. ج: نعم من كان مثلكم ينكر وجاهة الأنبياء والصالحين عند الله تعالي يجب أن ينكر كرامات الأموات، فإنه إذا لم يكن لهم وجاهة عند الله تعالي، ولا يمكنهم أن يدعوا لنا ولا تستطيع أرواحهم أن تفعل شيئا كما هو اعتقادكم، فأي كرامة تكون لهم بعد [ صفحه 286] ذلك؟ وما معني إثباتكم إياها وقد نفيتم عنهم كل عمل؟، وكفرتم المتوسل إلي الله تعالي بجاههم، فأي شئ يبقي بعد ذلك؟. وأما طلبكم منا ذكر من جوز ذلك من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين فنقول إن الأمة كلها قبل ابن تيمية وبعده علي هذا الجواز، ونتحداكم فنقلب السؤال عليكم فنقول. هل يمكنكم أن تذكروا لنا عن الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين من منع ذلك النوع من التوسل وقال إنه شرك؟، أليست المذاهب كلها مجمعة علي توسل الزائرين لقبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم به صلي الله تعالي عليه وسلم؟، وقد ذكرنا لكم نص الحنابلة في ذلك وكذلك جميع الأئمة، ولا سلف ولا سند لكم فيما تقولون بل جميع العلماء يصرحون بأن ذلك مطلوب من كل زائر لا جائز فقط فهذا هو الاجماع، وقد مر من الأدلة العقلية والنقلية ما يكفي ويشفي، ثم نقول لكم ألم يعترف ابن القيم بأن الروح القوية لها من الأعمال بعد الموت ما لا تستطيعه حالة حياتها في الدنيا؟. وقد وصل الأمر إلي أئمتكم أنفسهم، فأنتم في إثبات كرامات الأولياء وغيرها متناقضون تارة مع الهوي وتارة مع الحق. ويرحم الله من قال: المبطل لا بد أن يتناقض شاء أم أبي، وأما تضليلنا إياكم فإنما هو لسلوككم نهج أسلافكم الحروريين كلاب النار بتكفيركم المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم.. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في ذمهم، ولو قلتم إن الأولي أن يرجع الناس في كل أمورهم إلي الله تعالي بلا واسطة، أو قلتم إن هناك مقاما تسقط فيه الأسباب والوسائط، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه الصلاة والسلام، (أما إليك فلا)، عندما قال له (ألك حاجة)، لو قلتم ذلك وسلكتم هذا المسلك لم ننكر عليكم ولم نشتد في مناقشتكم. [ صفحه 287] ولو كان لكم رأي في المسألة غير التكفير لقلنا مجتهدون ظنوا ظنا وإلي الله أمرهم وكم مجتهد أخطأ، ولكن أولئك الذين أخطأوا لم يقدسوا أنفسهم هذا التقديس ولم يحملوا الناس علي رأيهم بالسيف لأنهم يجوزون أن يكون الحق في جانب غيرهم ويعلمون ما جاء عن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم من أن (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وإن من قال لأخيه المسلم: (يا كافر إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، ولم يرض الإمام مالك من المنصور العباسي بأن يحمل الناس علي الموطأ وهو هو عند مالك، ولا من الرشيد أيضا أن يلزم الناس بما فيه احتراما للأمة وعلمائها واتهاما لنفسه، شأن أئمة الهدي وورثة الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، والجاهل لا يعرف غير تعظيم نفسه، والعالم لا يعرف غير تعظيم ربه ومن تعظيم الله تعظيم من عظمه الله تعالي (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب). ثم قال السائل: لا يمكننا أن نسيغ توجه المسلم العارف بربه الأنس بذكره إلي عبد من عباده، انتقل من عالم إلي آخر لا يعلم حاله فيه إلا الله تعالي، يسأله ويخاطبه بعد أن كان متلذذا بخطاب الله تعالي ومناجاته، ولا يخفي عليكم حديث أم العلاء في صحيح البخاري، وفيه: إنها شهدت لمهاجري وهو أبو السائب توفي عندها فقالت: أما شهادتي عليك لقد أكرمك الله)، وأن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم قال لها: (وما يدريك إن الله أكرمه) إلي غير ذلك من الأحاديث من أمثاله، وكلها تدل علي أن الأموات قد أفضوا إلي ما قدموا، وأنه لا يجوز لنا أن نحكم لأحد حكما جازما بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا ما ورد النص بأنهم من أهل الجنة أو من أهل النار، كما ورد في أهل بدر وبعض الصحابة كعكاشة ابن محصن. وأقول إن حضرة السائل أدمج في هذا الكلام الخطابي أشياء لا نتركها بل نناقشه الحساب فيها، أما التمويه بذكر المسلم إلي ربه وتلذذه بذكره فهو لذيذ في الأسماع يكاد يأخذ بمجامع النفوس، ولكن هذا مقام تحقيق علمي لا ينفع فيه التمويه ولا تفيد فيه الخطابة. وقد قلنا فيما سبق: لو كان رأيهم أن هذا هو مقام الكمال لم نتعرض له، ولكنهم [ صفحه 288]

في كفر المسلمين المتوسلين برسول الله

كغروا المسلمين المتوسلين برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم والصالحين من أمته، فأين هذا مما يقوله السائل؟، فإن كان يريد أن الاشتغال بذكر الله تعالي ومناجاة أولي فليس الخلاف بيننا وبينه في الأولوية، ولكن الناس درجات بعضها فوق بعض، فلا حرج علي من يلتفت للأسباب والوسائط، عالما أن الله تعالي هو الأول والآخر، فهو ممد كل شئ والمفيض علي كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، ولا علي من ترك الأسباب ثقة بالمسبب فكان غريقا في قدرته ناظرا إلي حكمته، فلا حرج علي ذاك ولا علي هذا. وإن صح أن تقول إن بعضهم أفضل من بعض، وهل ما ذكره السائل من حديث التلذذ والأنس الذي قطعه خطاب الأموات صحيح أم هو تمويه أو خيال؟، ولماذا لا يقول مثل ذلك في الطلب من الأحياء؟، أليس الأنس بالله ومناجاته خيرا من الطلب من الأحياء أيضا؟، ولو كان المطلوب منه وزيرا أو ملكا أو خليفة) أم التفضيل الذي ذكره لا يتحقق إلا بين الطلب من الله تعالي والطلب من الأموات؟. وقد أدمج في كلامه ما يلهج به كثير من الجهلة من أن الميت لا ندري حاله ولا ما مات عليه، وسوء ظن كبير بالمسلمين بل بالله تعالي. فنلفت نظر السائل إلي أن من عاش علي شئ مات عليه كما في الحديث الشريف، فهذه هي سنة الله الغالبة، وما عدا ذلك فشاذ لا يقاس عليه لحكمة يعلمها هو. ثم نقول: إن الأمور في هذا العالم مبنية علي الظن حتي الأمور الشرعية والأحكام الفقهية، وعلي هذا يجب أن نغسل أمواتنا ونكفنهم ونصلي عليهم وندفنهم في مقابر المسلمين ونورث ورثتهم أموالهم إلي غير ذلك، ولسنا علي اليقين الذي يريده السائل من أمرهم: (ولكن ذلك اليقين لم يشترطه أحد)، فعلينا أن تعد من عاش في حياته علي خير وصلاح من أهل الخير والصلاح بعد موته، ولا يجوز لنا غير ذلك اتباعا لتلك الوساوس التي ما أنزل الله تعالي بها من سلطان. وليت شعري، هل إذا رمينا أحدهم بأن أباه لا ندري ما حاله أمسلم هو أم كافر [ صفحه 289] أفيغضب أم لا؟ وهل يريد أن لا نعمل شيئا إلا علي جزم ويقين، إذا يختل أمر هذا الوجود وتبطل أحكامه. أما حديث عثمان بن مظعون الذي أشار إليه السائل، فالمراد منه أنه ينبغي الخوف من سعة التصريف الإلهي وإن مرتبة العبودية لا تتخطي مقام الرجاء والضراعة. وأم العلاء قد قطعت علي الله تعالي أنه مكرمه علي سبيل الجزم فأخرجت ذلك مخرج الشهادة. وأظن أنها لو شهدت له بالدين والصلاح لتغير جواب رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقد قال في آخر الحديث: وإني لأرجو له الخير، فهل يفرق السائل بين رجاء الخير وظن الخير؟، ولماذا لم يذكر لنا ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالي عنه؟. قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخري فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه: ما وجبت: قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أو ما أخرجه عن عمر رضي الله تعالي عنه قال قال: رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) فقلنا: وثلاثة، قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان قال: واثنان). ثم لم نسأله عن الواحد، أو ما أخرجه أيضا من قوله صلي الله تعالي عليه وسلم في شهداء أحد: (أنا شهيد علي هؤلاء). ثم نقول للوهابية جميعا لماذا لم تذكروا أو تؤمنوا بما أخرجه البخاري أيضا من قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (والله ما أخشي عليكم الشرك ولكن أخشي أن تبسط [ صفحه 290] عليكم الدنيا فتنافسوها) إلي آخره ما أنتم إلا مناوئون مكذبون للذي لا ينطق عن الهوي في قوله: هذا بحكمكم علي أمته صلي الله تعالي عليه وسلم بالشرك الذي لا يخافه عليهم واستباحتكم دماءهم وأموالهم. ونقول له أيضا: يكفينا الظن وتحسين الظن بعامة المسلمين مطلوب شرعا فيكف بالخاصة الصالحين منهم، وأما الجزم الذي تريده فلم يقله أحد من العلماء. ثم قال السائل: وإن من المجازفة أن تزيد علي حسن الظن فيمن لم يرد فيهم شهادة من المعصوم، ونحن نقول له: إن من المجازفة أن تسئ الظن بمن لم يرد فيهم ذم عن المعصوم، خصوصا من ظهرت عليه علامات الخير والصلاح أو ظهرت له كرامات في حياته وبعد مماته، وتجويز أن يكون قد تغير حاله هو من سوء الظن بالمسلمين بل بالله تعالي كما أنه عقوق للآباء والأجداد، وما معني الزيادة التي زدتها حضرتك، وليس ذلك كله إلا أثرا لحسن الظن ومبنيا عليه. ثم قال السائل: وكم أكون مسرورا جدا إذا عثرت لنا علي نص صريح في هذا النوع من الوسيلة. وأقول: ذكرنا من الأدلة العقلية والنقلية الشئ الكثير وقد كان يكفيه حديث واحد علي ما يقول. وقد قلنا إن من يثبت الحياة والإدراك والعلم الأرواح ثم يمنع التوسل والاستغاثة بها متناقض غاية التناقض قاطع للملزوم عن لوازمه، وقد ذكرنا إجماع الأئمة علي التوسل به صلي الله تعالي عليه وسلم عند زيارته ولو لم يكن في الموضوع إلا حديث عثمان بن حنيف لكان كافيا شافيا، وعلي الجملة فقد أجمعت الشرائع كلها والفلاسفة الأقدمون والفلاسفة العصريون، أو نقول المسلمون والأوروبيون والأمريكيون والهندوس علي إثبات الحياة ولوازمها للأرواح، وعلي أن لها من الاطلاق وسعة التصرف ما لم يكن لها حال حياته في هذا العالم، وهو عين ما قرره ابن القيم في كتاب الروح، اسأل الله تعالي أن يزيل عنا حجاب المادة وكثافة الطبيعة وظلمة الأشباح بمنه وكرمه. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر [ صفحه 291]

افتراء ابن القيم علي الله في كتابه العزيز

وعلي كليمه موسي عليه الصلاة والسلام وقال ابن القيم أيضا في كتابه، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 193 ما نصه: فداء التعطيل هو الداء العضال الذي لا دواء له ولهذا حكي الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر علي موسي عليه الصلاة والسلام ما أخبر به من أن ربه فوق السماوات: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلي إله موسي وإني لأظنه كاذبا) واحتج الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه علي المعطلة بهذه الآية، وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب، وهو (اجتماع الجيوش الإسلامية علي حرب المعطلة والجهمية في إثبات العلو) = انتهي بشينه ومينه =. أقول: لقد افتري علي الله تبارك وتعالي في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وافتري علي كليمه موسي عليه الصلاة والسلام افتراء مكشوفا لكل مسلم يقرأ القرآن، وصرح بكل وقاحة وبدون حياء، والحياء من الإيمان، فرمي برجيع تشبيه كليم الله موسي عليه الصلاة والسلام في قوله (إن فرعون أنكر علي موسي ما أخبر به من أن ربه فوق السماوات)، فقد قص الله تعالي محاورة كليمه موسي عليه الصلاة والسلام لفرعون، لعنه الله تعالي في عدة سور من كتابه العزيز وبينها أحسن بيان. استفاد عقيدته بأن ربه في السماوات أو فوق السماوات أو استوي علي العرش بذاته أو حقيقته أو فوق عرشه بائن من خلقه في شيخه وشيخ شيخه الشيطان ومن فرعون ولم يذكر تعالي أن موسي عليه الصلاة والسلام قال في محاورته لفرعون: (أن ربي فوق السماوات أو فوق العرش) فاعتقاده بأن ربه في السماوات أو فوق السماوات، [ صفحه 292]

معني خير أمة اخرجت للناس

أو استوي علي العرش بذاته، أو حقيقته، أو يقعد نبيه معه علي العرش يوم القيامة، أو فوق عرشه بائن من خلقه، إنما استفاده من وحي شيخه وشيخ شيخه الشيطان ومن فرعون، ولم يستفده من وحي الله المنزل علي محمد صلي الله عليه وسلم، وكل مصيبة تشبيه يلطخون بها علماء الإسلام فهي دون تلطيخ رسل الله عليهم الصلاة والسلام بهاء فقوله: (واحتج الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه إلي آخر الهراء) بهتان علي الإمام أبي الحسن الأشعري، وقد دسوا في إبانته رجيع تشبيههم. ابن القيم كذاب في كل ما يعزوه إلي الأشعري واتباعه نفيا وإثباتا وقد تقدم في حاله أنه كذاب في كل ما يعزوه إلي الإمام الأشعري وأتباعه من العقائد نفيا وإثباتا، وجيوشه المجتمعة علي حرب... هم مشايخه المجسمة جزما، والمعطلة الجهمية شئ واحد، ومقصوده بهم الأشاعرة والماتريدية جزما، أي الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة، والأمة الإسلامية في زمنه وقبله وبعده إلي زمننا هذا متمثلة فيهم، فليتبصر العقلاء في هذا المجسم الذي لأجل تجسيمه افتري علي الله تعالي، وافتري علي كليمه موسي عليه الصلاة والسلام، وافتري علي الإمام أبي الحسن الأشعري، ونبز الأمة الإسلامية المنزهة لله تعالي عن الجهة والتجسيم بالتعطيل والتهجيم واتباع فرعون، وليكل له بعد هذا ألفاظ الاطراء كما كيلت لشيخه، إذا علم هذا:

المحالات في قول ابن تيمية

من المحال أن تكون هذه الأمة المحمدية الممدوحة محصورة في أقلية مكفرة لها 1 - فمن المحال أن تكون هذه الأمة المرحومة الممدوحة في كتاب الله تعالي بأنها خير أمة أخرجت للناس محصورة في أقلية مكفرة لها. [ صفحه 293] 2 - وأن يكون الصحابة الذين أثني الله تعالي عليهم في كتابه العزيز في آيات كثيرة وأثني عليهم رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم ونهي وحذر من سبهم وأذاهم، علي الباطل. 3 - وأن يكون المكفرون لهم، علي الحق. 4 - وأن يكون المبغضون المكفرون الذين أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم علي الحق. 5 - وأن يكون السواد الأعظم من أمته صلي الله تعالي عليه وسلم المستغفرون لهم المترضون عنهم، علي الباطل. 6 - وأن يطرد السواد الأعظم من أمته صلي الله تعالي عليه وسلم عن حوضه عليه الصلاة والسلام ويرده الأقلون المبدلون السبابون المكفرون. 7 - وأن يكون الأقلون المبدلون المكفرون ثلثي أهل الجنة. 8 - وأن يكون الأقلون المزدرون عباد الله المكفرونهم المشبهون الله جل جلاله بخلقه المفترون علي كتابه وعلي سنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم وعلي السلف الصالح وعلي أئمة الدين وعلمائه، علي الحق. 9 - وأن يكون جمهور الأمة الإسلامية المنزهون الله جل وجلاله عن مشابهة المخلوقات، علي الباطل. 10 - وأن يكون شيخ المجسمة محمد بن كرام وحده علي الحق، والأمة الإسلامية المنزهة لله تعالي عن مشابهة المخلوقات كلها، علي الباطل. 11 - وأن يكون المفسر المقام المحمود بجلوس النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مع ربه علي العرش، صادقا، ورسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم الذي فسره بالشفاعة كاذبا. 12 - وأن يكون جماعة المسلمين المفسرون المقام المحمود بالشفاعة اتباعا لرسول [ صفحه 294] الله صلي الله تعالي عليه وسلم الذي فسره بها، مخطئين، والمروزي المفسرة بجلوس النبي صلي الله تعالي عليه وسلم مع الله تعالي علي العرش، مصيبا. 13 - وأن تكون الأمة الإسلامية كلها مخطئة في عملها واعتقادها إن شد الرحال إلي زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قربة. 14 - وأن يكون أحمد بن تيمية وحده في قوله واعتقاده إن شد الرحال إلي زيارة قبر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم معصية لا يجوز قصر الصلاة فيه، مصيبا. 15 - وأن تكون الأمة الإسلامية المجوزة التوسل برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصالحين المثبتة لجاهه وجاههم عند الله تعالي أحياء وأمواتا كلها مخطئة مشركة. 16 - وأن يكون أحمد بن تيمية المفرق بين الحي والميت في التوسل المجيزة بالأول فيما يقدر عليه المانعة بالثاني مطلقا النافي لجاه ومنزلة الأنبياء والصالحين عند الله تعالي، مصيبا موحدا. 17 - وأن يكون أحمد بن تيمية في تقسيمه التوحيد إلي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وفي زعمه أن المسلمين كلهم جهلوا توحيد الألوهية ولم يعرفوا إلا توحيد الربوبية الذي شاركهم في معرفته جميع الكفار، مصيبا موحد والأمة الإسلامية كلها صحابة وغيرهم إلي يوم القيامة مخطئة مشركة في زعمه حيث جهلوا توحيد الألوهية ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية. 18 - وأن يكون أحمد بن تيمية في تقسيمه التوحيد إلي: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وفي زعمه معرفة جميع الثقلين توحيد الربوبية، وفي زعمه جهل الأمة الإسلامية توحيد الألوهية، عالما بهذه الثلاثة، ومحمد بن عبد الله الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم جاهلا أو كاتما لما أنزل عليه من وحي الله حيث لم يعلم أمته تقسيم التوحيد إلي الألوهية وتوحيد الربوبية، ولم يعلمهم توحيد [ صفحه 295] الألوهية حتي يعصمهم به من الشرك ولم يقل لهم إن توحيد الربوبية قد شارككم في معرفته جميع الكفار، نعوذ بالله تعالي من زلقات اللسان وفساد الجنان. ابن تيمية في تقسيمه التوحيد إلي قسمين وقد أبطلت تقسيمه التوحيد والزعمين فيه في الفصل الثاني من هذا الكتاب بوجوه كثيرة مفصلة مبرهنة، وأزيد هنا فأقول: كل من له إلمام بالعلم يعلم أنه في هذا التقسيم للتوحيد وفي الزعمين مفتر علي الله تبارك وتعالي في كتابه العزيز مشاقق رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم متبع غير سبيل المؤمنين. أما افتراؤه علي الله فإنه تعالي لم يأمر عباده بتوحيد الألوهية لجهلهم له دون توحيد الربوبية لعلمهم إياه، بل أمرهم بالتوحيد أمرا مطلقا. قال تعالي: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وهكذا جميع الآيات التي ذكر فيها التوحيد لم تقيد بتوحيد الألوهية. وأما مشاققته لرسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم فإن سنته عليه الصلاة والسلام بيان لكتاب الله تعالي. تواتر الأحاديث في أنه صلي الله عليه وسلم كان يأمر الناس بكلمة التوحيد أمرا مطلقا بدون تقيد ولا تقسيم وقد استفاضت وتواترت بأنه صلي الله تعالي عليه وسلم ما كان يدعو الناس إلي توحيد ألوهية الذي جهلوه فعبدوا الأصنام دون توحيد الربوبية لذي علموه كلهم [ صفحه 296]

امرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا

علي زعمه، وما كان يعلم أصحابه توحيد الألوهية، وما كان يأمر الدعاة المبعوثين من أصحابه إلي الناس بذلك، بل تواترت بأنه صلي الله تعالي عليه وسلم كان يأمرهم ويخبرهم بكلمة التوحيد مطلقا وينهاهم ويحذرهم عن قتل من قالها. فمنها حديث ابن عمر رضي الله تعالي عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم علي الله) = رواه الشيخان =، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يعرفوا توحيد الألوهية). ومنها حديث وفد عبد القيس، قالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فأمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة فأمرهم بالإيمان بالله وحده. قال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم) قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس). وقال: (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم) = رواه الشيخان عن ابن عباس =، ولم يقل عليه الصلاة والسلام في تفسير الإيمان لهم بأنه توحيد الألوهية. ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتي يصبح فإذا سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار بعد ما يصبح) = رواه الإمامان أحمد والبخاري =، فجعل عليه الصلاة والسلام الأذان عاصما للدم والمال. ومنها حديث أسامة رضي الله عنه في قتله الأعرابي بعد ما قال: لا إله إلا الله فقال له النبي صلي الله تعالي عليه وسلم: (كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟)، فقال: [ صفحه 297] يا رسول الله إنما قالها خوفا من الصيف، فقال له صلي الله تعالي عليه وسلم: (فهلا شققت عن قلبه حتي تعلم أنه قالها لذلك) وجعل صلي الله تعالي عليه وسلم يكرر عليه: (كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟) قال أسامة: حتي تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ = رواه الشيخان =. وأبلغ منه حديث المقداد رضي الله تعالي عنه أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من المشركين فقطع إحدي يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة وقال لا إله إلا الله، أفأقتله يا رسول الله بعد ما قالها؟، قال: (لا تقتله)، فقلت: يا رسول الله إنه قطع إحدي يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: (لا تقتله فإن فتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلة قبل أن يقول كلمته التي قال) = رواه الشيخان = وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قوله صلي الله تعالي عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين) وكان صلي الله تعالي عليه وسلم أرسله إلي بني جذيمة، فقتل منهم ناسا، قالوا صبأنا لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا متأولا = رواه الإمامان أحمد والبخاري =. وحديث معاذ رضي الله تعالي عنه لما بعثه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إلي اليمن فقال له: (إنك تأتي أقواما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم إلي آخره) = رواه الإمام البخاري =. وحديث أبي ذر رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله تعالي عليه وسلم: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات علي ذلك إلا دخل الجنة) = رواه الشيخان =. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلي الله تعالي عليه [ صفحه 298] وسلم أنه قال: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبها كذلك). وفي الصحيحين أيضا عن ثابت بن الضحاك رضي الله تعالي عنه عن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه قال: (من قذف مؤمنا بالكفر فهو كقتله). وفي الصحيح من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالي عنهم أن رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (أيما رجل قال لأخيه: (يا كافر فقد باء به أحدهما). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالي عنهما أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلي الكفر أقرب) = رواه الطبراني =. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير) = رواه الترمذي =، والأحاديث في هذا المعني كثيرة جدا. وأما اتباعه سبيل غير المؤمنين: فإن الصحابة عموما والخلفاء الراشدين الذين حث صلي الله تعالي عليه وسلم علي اتباع سنتهم بقوله (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) خصوصا لم يكونوا في تعليم التابعين يفرقون لهم بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، بل ما كانوا يخوضون في أصول الدين إلا نادرا، وإنما يخوضون ويتناظرون في العمل أي الفروع، وكانوا في دعوتهم الأمم إلي الإسلام يقسمون لهم التوحيد إلي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وهكذا التابعون وأتباعهم، ولذلك قال إمام دار الهجرة: ما أدركت الناس يخوضون إلا فيما تحته عمل. [ صفحه 299] ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في زعمه أن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة 19 - ومن المحال أن يكون محمد بن عبد الوهاب صادقا في قوله إن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة، ومحمد رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوي كاذبا في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق لا يضرهم من خالفهم حتي تقوم الساعة). ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد والوهاب في حصره هذه الطائفة فيه وفي مقلديه 20 - ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في حصره الطائفة التي علي الحق فيه وفي مقلديه، وكذب الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في إطلاقه وعدم تقييد لها بزمان ومكان وأناس. ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في قوله إن أهل جزيرة العرب مشركون قبوريون 21 - ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في قوله: إن أهل جزيرة العرب كلهم صاروا مشركين قبوريين عبدوا الأنبياء والأولياء بتوسلهم واستغاثتهم بهم، وكذب الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في قوله: أيس الشيطان أن يعبده المصلون بجزيرة العرب إلا بالتحريش بينهم. [ صفحه 300] ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوي 22 - ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في قوله: (لا هجرة بعد الفتح) الذي دل كما قال علماء الإسلام علي أن مكة لا تزال بعد فتحه صلي الله تعالي عليه وسلم لها دار إسلام إلي قيام الساعة، وصدق محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في زعمهم أن مكة دار شرك حتي يفتحوها هم. 23 - ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في قوله: إن الله تبارك وتعالي حرم مكة منذ خلقها وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كما كانت)، وصدق محمد ابن عبد الوهاب ومقلديه في زعمهم أن مكة دار شرك لا حرمة لها يحل القتال فيها. ومن المحال أيضا تنقيب محمد بن عبد الوهاب عن قلوب المتوسلين وعلمه بمقاصدهم 24 - ومن المحال أيضا أن ينقب محمد بن عبد الوهاب عن قلوب المسلمين المتوسلين برسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم والصالحين من أمته ويشق بطونهم فيعلم أنهم عبدوا المتوسل به من دون الله تعالي فيحكم عليهم بالشرك والكفر، والذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم يقول: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم. ومن المحال أيضا صدق وتوحيد محمد بن عبد الوهاب 25 - ومن المحال أيضا صدق وتوحيد محمد بن عبد الوهاب في زعمه أن التوسل بالأنبياء والصالحين شرك، وكذب وشرك الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في توسله بالأنبياء قبله وأمره بالتوسل به. [ صفحه 301] ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في حظره التوسل بالأنبياء والصالحين وزعمه شرك المتوسل بهم منقبا علي الحق 26 - ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في حظره التوسل بالأنبياء والصالحين وزعمه شرك المتوسل بهم، علي الهدي والحق، والأمة الإسلامية المتوسلة بهم علي الضلال والباطل. ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في قوله وحكمه علي المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين بالشرك صادقا 27 - ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في قوله وحكمه علي المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين بالشرك صادقا، والذي لا ينطق عن الهوي صلي الله تعالي عليه وسلم في قوله: (عليكم بالجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية وفي قوله: (إن الله تعالي لا يجمع أمتي علي ضلالة ويد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار) كاذبا. أحاديث في أفضليته هذه الأمة علي سائر الأمم وقد وردت أحاديث كثيرة في خيرية وأفضلية هذه الأمة علي سائر الأمم، وفي أفضلية نبيها علي سائر المخلوقات، وفي كونها مرحومة، وفي كثرتها ودخولها الجنة، أخرج الشيخان والإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام [ صفحه 302] تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)، وأخرجه مسلم أيضا عن عائشة رضي الله تعالي عنهما بلفظ (خير الناس القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث). وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود أيضا بلفظ: (خير الناس قرني ثم الثاني ثم الثالث ثم يجئ أقوام لا خير فيهم)، وأخرجه الطبراني أيضا والحاكم عن جعدة بن هبيرة رضي الله تعالي عنه بلفظ: (خير الناس قرني الذي أنا فيهم ثم الذين يلونهم والآخرون أرذال). وأخرجه الشيخان والترمذي والحاكم أيضا عن عمران بن حصين رضي الله تعالي عنهما بلفظ: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يخونون قوم يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن) وكل رواياته صحيحة. وهذه الخيرية معتبرة في الصحابة رضوان الله تعالي عليهم بالنسبة إلي التابعين في جميعهم، ومعتبرة في التابعين علي أتباعهم في مجموعهم، وخيرية الأمة تستلزم خيرية نبيها وأفضلية دينها إذا لا شك أن خيرتهم بحسب كمال دينهم المستلزم لكمال نبيهم وإن صفاته أعلي وأجل وذاته أفضل وأكمل، كما صرح به قوله تعالي: (فبهداهم اقتده)، فإنه تعالي وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالأوصاف الحميدة، ثم أمره أن يقتدي بجميعهم وذلك يستلزم أن يأتي بجميع ما فيهم من الخصال الحميدة فاجتمع فيه صلي الله تعالي عليه وسلم ما تفرق فيهم. وفي حديث الشفاعة العظمي وانتهائها إليه صلي الله تعالي عليه وسلم بعد تنصل كل منهم واعترافه بأنه ليس أهلا لها التصريح بذلك أيضا، وكذلك الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه وهو (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد بزيادة (ولا فخر وبيدي [ صفحه 303] لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر). وعند الترمذي عن أنس رضي الله تعالي عنه: (أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسي حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك غيري)، وهو صريح في دخول آدم كحديث البخاري وغيره: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وحديث: (أنا سيد العالمين) = صححه الحاكم = وبذلك تعلم أفضليته علي الملائكة لأن آدم أفضل منهم بنص الآية. وعن ابن عباس رضي الله تعالي عنهما قال: جلس أناس من أصحاب رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فخرج حتي إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون قال بعضهم: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر: موسي كلمه الله تكليما. وقال آخر: فعيسي كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسي نجي الله وهو كذلك، وعيسي روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين علي الله ولا فخر) = رواه الترمذي وغيره = وهذا صريح في شموله الأنبياء والملائكة. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتي كنت من القرن الذي كنت فيه) = رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه =. [ صفحه 304] وروي الإمام مسلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالي عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم يقول: (أن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل واصطفي قريشا من كنانة واصطفي من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)، وأخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي) قالوا ومن يأبي؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي)، وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالي عنهما قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أن الله لا يجمع أمتي علي ضلالة ويد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار)، وأخرج أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل). وأخرج الترمذي والإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (مثل أمتي كمثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله). وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن بريدة والطبراني عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أبي موسي قالوا: قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم). وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله تعالي عنه قال: قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف متماسكين آخذ بعضهم بيد بعض لا يدخل أولهم حتي يدخل آخرهم وجوههم علي صورة القمر ليلة البدر). وأخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله تعالي عنه قال قال رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: (وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.