رسالتان

اشارة

رسالتان بين الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلاميه في الجمهوريه الاسلاميه الايرانيه و الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام و رئيس اداره البحوث العلميه في المملكه العربيه السعوديه حول مساله التبرك

سرشناسه : واعظ زاده خراساني، محمد، 1304 -

ابن باز،عبدالعزيز،1912-1999م.

عنوان و نام پديدآور : رسالتان بين الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلاميه في الجمهوريه الاسلاميه الايرانيه و الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام و رئيس اداره البحوث العلميه في المملكه العربيه السعوديه حول مساله التبرك و التوسل بالنبي و بالاولياء في حياتهم و مماتهم و مساله الصلح مع العدو الصهيوني / تعليق علي الرسالتين حسن بن علي السقاف؛ اعداد و تنظيم فتح الله بن تقي النجار.

مشخصات نشر : تهران: دار نشر مشعر، 1383.

مشخصات ظاهري : 96 ص.؛ 12 × 17 س م.

شابك : 4500 ريال ؛ 4500ريال: 964-7635-65-6

وضعيت فهرست نويسي : فاپا

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ اول: 1426ق.

يادداشت : چاپ دوم.

يادداشت : عنوان ديگر: التبرك و التوسل و الصلح مع العدو الصهيونيستي.

يادداشت : كتابنامه: ص. 91 - 93؛ همچنين به صورت زيرنويس

عنوان ديگر : لتبرك و التوسل و الصلح مع العدو الصهيونيستي.

موضوع : واعظزاده خراساني، محمد، 1304 -- نامه ها.

موضوع : ابن باز، عبدالعزيز -- نامه ها.

موضوع : توسل

موضوع : تبرك

موضوع : اسلام و صهيونيسم

موضوع : صلح -- جنبه هاي مذهبي -- اسلام

شناسه افزوده : سقاف، حسن

شناسه افزوده : نجارزادگان، فتح الله، 1337 -، گردآورنده

رده بندي كنگره : BP226/65/و2ت 2 1383

رده بندي ديويي : 297/76

شماره كتابشناسي ملي : م 83-29953

مقدمة

تبودلت منذ أمد رسالتان بين الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإرشاد والدعوة الإسلامية والمفتي العام بالمملكة العربية السعودية. الرسالة الأولي بعثت من مكّة المكرمة، أيّام الحج في 11 ذي الحجة الحرام 1413 ه_. ق، والرسالة الثانية، صدرت إجابة للأولي من مكتب المفتي العام في 6من جمادي الثاني 1416ه_.ق، رقم 1665 /

1، أي بعد ما يقارب سنتين وبضعة شهور. تناولت الرسالة الأولي مسألتين مهمتين شغلتا ولا تزالان الأوساط الدينيّة ; ودور العلم في البلاد الإسلامية بل المجتمعات الاسلامية عامة علي صعيدي الثقافة والسياسة. الأولي: مسألة التبرك والتوسل بالنبي(صلي الله عليه وآله وسلم) وبالأولياء في حياتهم ومماتهم. وهذه المسألة أحدثت ضجّة بين المسلمين منذ قرون بين موافق أو مخالف لها إطلاقاً، أو مفصِّل بين ما إذا خلصت من شائبة الشرك فتجوز، وإلاّ فلا، وقد نشرت حولها مئات الكتب وآلاف الخطابات والبحوث. والأستاذ الخراساني طرح المسألة علي أساس أنّها مسألة خلافية بين المسلمين وحتي بين الصحابة أنفسهم، مشيراً إلي بعض ما يدعم رأيه، مؤكّداً علي أنّ مثل هذه المسألة الخلافية سواء أجزناها أو رفضناها، لا ينبغي أن تكون مدعاة لتهمة الشرك ولا رمي القائلين بها إلي اعتقاد الشرك والخروج عن ربقة الإسلام. المسألة الثانية: حول الصلح مع العدو الصهيوني، الذي أجازه الشيخ بن باز في بعض بحوثه إذا لم يكن في إمكان المسلمين الحرب مع هذا الكيان، وإحقاق حقوق الشعب الفلسطيني من خلال القتال، استناداً إلي صلح النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) مع المشركين في الحديبيّة. وقد شغل بحث الأستاذ الخراساني حول هذه المسألة قسطاً كبيراً من رسالته، مركزاً علي وجود فرق واضح بين صلح الحديبيّة وبين الصلح مع الكيان الصهيوني من نواح شتي [1] . أجاب الشيخ بن باز عن المسألة الأولي مصرّحاً بوجود الخلاف فيها بين بعض الصحابة، ومفرّقاً في التبرك بآثار النبيّ، بين ما مسّ بدنه في حياته وبين غيره بعد وفاته، فجوّز الأوّل استناداً إلي شواهد كثيرة، ومنع الثاني لعدم الدليل علي جوازه، وقد أطال البحث حول هذه المسألة وما شابهها مستنداً إلي ابن

تيمية وغيره. ولكن الشيخ بن باز أمسك في رسالته عن الإجابة عن المسألة الثانية رغم أهميّتها القصوي في حياة المسلمين. وقد كتب الأستاذ حسن بن علي السقاف تعليقاً علي الرسالتين، وجاءت أكثر تعليقاته علي رسالة الشيخ بن باز، أوضح فيها أنّ الشيخ بن باز لم يتعرّض لجميع جوانب المسألة، كما لم تكن الأدلّة التي أوردها في منع التبرّك بآثار النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)والتوسّل بالأولياء، تامّة. وأشار الشيخ السقاف أيضاً إلي عدد من الأحاديث الصحيحة المنقولة عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، والآثار الثابتة عن الصحابة الدالّة علي جواز التوسّل والتبرّك مطلقاً. كما ذكر أيضاً في أثناء البحث إقرار جمع من أئمة السلف والحفّاظ علي جواز تلك الأمور. ونحن إذ نشكر الأساتذة لهذه الروح الأخويّة والحوار العلمي الذي جري بينهم في المسألتين _ رغم البون الشاسع في وجهات النظر _ بروح طيّبة واحترام متبادل، كما كانت عليه سيرة السلف الصالح من الصحابة الكرام وكثير من التابعين وجلّ العلماء والعظام، رأينا أن نضع نص الحوار بين أيدي الباحثين ليكون نموذجاً للروح العلميّة الموضوعيّة المتوخّاة في مثل هذه المسائل الخلافيّة، علماً بأنّ مجلة «رسالة التقريب» [2] نشرت رسالة الأمين العام الشيخ محمّد واعظ زاده ورسالة المفتي العام الشيخ بن باز في العدد السادس عشر 1418 ه_. ونشرت تعليق حسن بن عليّ السقاف في العدد السابع عشر 1418 ه_. وقد نقلنا من هذه المجلة كلتا الرسالتين مع تعليقة الشيخ السقاف، وجمعناها في كراس صغير اشتمل علي بعض الإضافات التي أوردناها علي التعليقة، وتتضمن استخراج المصادر، وإيراد الشواهد، وبعض التوضيحات المناسبة في الحاشية. سائلين المولي تعالي أن يستفيد من هذا الكراس جميع المؤمنين والمؤمنات الذين يسعون دائماً

للعمل بواجباتهم الشرعية عن فهم وتحقيق لا عن تقليد وتعصّب أعمي. والله المعين.

رسالة الأستاذ الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي نبيّنا محمّد وعلي آله وصحبه ومن اهتدي بهداه. سماحة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم / الرئيس العام لإدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد. السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: لاحظت تركيزكم علي مسألة التوحيد في عدد من أعداد مجلة البحوث الإسلامية، كما سمعتكم في جلستين وفقت لزيارتكم، تؤكدون تأكيداً متواصلاً علي إرشاد الناس إلي التوحيد الخالص لله ربّ العالمين. ولا شك أنّه الأساس القويم، والركن الركين لهذا الدين الحنيف، بل هو محور كل أحكامه وشرائعه. وهذه ميزة لمستها في سماحتكم مشكورين. ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل، خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة. أوّلاً: لاحظتكم تعبّرون دائماً عن بعض ما شاع بين المسلمين، من التبرك بآثار النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) وبعض الأولياء، كمسح الجدران والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره، شركاً وعبادة لغير الله، وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعائهم، وما إلي ذلك. إنّي أقول: هنا فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبيّ ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شرك جليّ لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتّي أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبيّ والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون الله، بل مردّ ذلك

كلّه (لو استثنينا عمل بعض الجهّال من العوام) إلي أحد الأمرين: التبرّك والتوسّل بالنبيّ وآثاره، أو بغيره من المقرّبين إلي الله عزّ وجلّ. فالتبرّك بآثار النبيّ من غير طلب الحاجة منه ولا دعائه، فمنشؤه الحبّ والشوق الأكيد رجاء أن يعطيهم الله الخير بالتقرّب إلي نبيّه وإظهار المحبة له [3] ، وكذلك بآثار غيره من المقرّبين عند الله. وإنّي لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أنّ النبيّ (أو الوليّ) يقضيانها، بل لا يرجو بذلك إلاّ الله إكراماً لنبيّه أو لأوليائه أن يفيض الله عليه من بركاته. والتبرّك بآثار النبي كما تعلمون _ ويعلمه كلّ من اطّلع علي سيرة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) _ كان معمولاً به في عهد النبيّ، فكانوا يتبركون بماء وضوئه وثوبه وطعامه وشرابه وشعره، وكلّ شيء منه ولم ينههم النبيّ عنه ولعلّكم تقولون: أجل، كان هذا، معمولاً به بالنسبة إلي الأحياء من الأولياء والأتقياء (كما شاهدت أصحابكم يتبركون بطعامكم) وأنّه خاص بالأحياء، دون الأموات، لعدم وجود دليل علي جوازه إلاّ في حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل علي أنّ الصحابة قد تبرّكوا بآثار النبيّ بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) أنّه كان يمسح منبر النبيّ تبركاً به. وهناك شواهد، علي أنّهم كانوا يحتفظون بشعر النبيّ، كما كان الخلفاء العباسيون، ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبيّ تبركاً به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم. وهنا يُعجِبني أن ألخص لسماحتكم كلام الأستاذ الدكتور سعيد رمضان العالم البوطي في هذا المجال نقلاً عن كتابه فقه السيرة النبوية (ص 354) فإنّه بعد ما أشار إلي شطر ممّا يدل

علي جواز التوسل بالنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)وبآثاره قال: «وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته أو بعد وفاته. فآثار النبيّ لا تتصف بالحياة مطلقاً» سواء تعلّق التبرك والتوسّل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم). ومع ذلك، فقد ضلّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبّة رسول الله، وراحوا يستنكرون التوسّل بذاته بعد وفاته، بحجّة أنّ تأثير النبيّ قد انقطع بوفاته، فالتوسل به، إنّما هو توسل بشيء لا تأثير له البتة. وهذه حجة تدل _ كما تري _ علي جهل عجيب جداً، فهل ثبت لرسول الله تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته، حتي نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟ إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد جلّ جلاله ومن اعتقد خلاف هذا يكفر باجماع المسلمين كلّهم. فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره ليس هو أسناد أي تأثير إليه، والعياذ بالله، وإنّما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله علي الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد، فهو التوسّل بقربه إلي ربّه وبرحمته الكبري للخلق. وبهذا المعني كان الصحابة يتوسلون بآثاره من دون أن يجدوا فيه أي إنكار. وقد مرّ في هذا الكتاب (أي فقه السيرة) بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوي وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وإن ذلك ممّا أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم. والفرق بعد هذا بين حياته وموته خلط عجيب غريب في البحث لا مسوّغ له «انتهي موضع الحاجة». هذا كلّه بالنسبة إلي التبرك بآثار النبيّ حيّاً وميّتاً، وأمّا التوسّل

بذاته أو بأحد من أهل بيته فهو كذلك، كما رأينا في كلام الدكتور البوطي، وكان معمولاً به حتي بعد وفاته كما استسقي الخليفة عمر (رضي الله عنه) متوسّلاً بعمّ النبيّ العباس من دون أن ينكر عليه أحد من الصحابة، ومن دون أن يكون لحياة النبيّ وموته تأثير عنده في جواز التوسّل به. ومردّ ذلك أنّ التبرّك بآثار النبيّ والتوسّل به وبآثاره وبذريّته وبالأتقياء من أتباعه ليس معناه طلب الحاجة منهم، ولا أن في شيء منها بما في ذلك ذات النبيّ تأثيراً في رفع الحاجات ودفع الملمات أو أنّه يضرّ وينفع، كما ورد في كلامكم في صدد النهي عنه (أنّه لا يضر ولا ينفع)، فهذا تحويل للمسألة عن جوهرها، بل كل ذلك يُعَدُّ للنبي وغيره من المقربين استجلاباً لرحمة الله تبارك وتعالي، لما نعلم من منزلتهم عند الله، استناداً إلي سيرته وسيرة المسلمين، فلا يقاس هذا بعمل المشركين في شأن آلهتهم، حيث كانوا يعتقدون فيها التأثير في دفع الملمات ورفع الحاجات، إمّا مباشرة أو بالاشتراك مع الله. كما لا ينبغي الاستشهاد علي حرمة التبرّك والتوسّل (بالمعني المذكور) وكونهما شركاً بما ورد من الآيات إدانة للمشركين، فإن ذلك ليس منه في شيء، والفرق بينهما واضح جليّ، فهذا مظهر من مظاهر الشرك، وذلك مظهر من مظاهر التوحيد وحب الله وأوليائه. بقي هنا أمران ; الأوّل: أن يقول قائل: نحن نسلّم بجواز التبرك والتوسّل للعلماء الذين فهموا جوهر الدين، إلاّ أنّ ذلك ممنوع علي العوام لأنّهم سوف يحولونهما إلي الشرك، حيث يعتقدون للنبي وآثاره وللأولياء تأثيراً ذاتياً في رفع الحاجات أو دفع المضرّات، فيجب المنع عنهما سدّاً للذرائع. وهذا ما سمعنا به من الأستاذ الدكتور محمد بن سعد شُوَيعر

يوم حضرنا عندكم وجلسنا علي مائدتكم مشكورين. والجواب علي هذا الكلام سهل، فإنّه إذا ثبت جواز عمل بل استحبابه بدليل قطعي فلا يجوز المنع عنه بقول مطلق، خوفاً من الجُهّال أن يحولوه إلي ما فيه لون من الشرك، وإلاّ كان ينبغي للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)نهي الناس عن التبرك بآثاره سداً للذريعة، كما كان ينبغي له أن يمنع الناس عن زيارة القبور حذراً من أنّ الجُهّال يتّخذونها صنماً يعبد، أو يمنع من استلام الحجر لنفس السبب، هذا ليس هو الطريق الوحيد والقول السديد لسد الذرائع، بل الطريق هو مراقبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين هم أمناء الله علي حلاله وحرامه، فإنّهم أمروا بحفظ الناس عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين كما جاء في الحديث (الكافي: ج 1، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ص 32) من غير أن يحرّموا حلالاً أو يحلّلوا حراماً، ويفرّقوا في حكم واحد بين العوام والخواص. الأمر الثاني: إنّ من يجوّز التبرك والتوسّل هم جمهور العلماء [4] في قبال جماعة أقل منهم بكثير لا يجوّزونهما، ولا ريب أن المجوزين اختاروا الجواز بعد الوقوف علي الآراء، وبعد البحث والفحص عن الأدلّة، والإطلاع علي ما أبداه الشيخان السلفيّان الشيخ ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهّاب وأتباعهما، فهؤلاء لم يقتنعوا طوال هذه القرون السبعة إلي يومنا هذا بحجج مخالفيهم، فهم مجتهدون، ولكلّ مجتهد مصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، كما هو ثابت عند الفقهاء فالمسألة بعد أن عادت خلافية اجتهاديّة، فهل تسمحون في مثل هذه المسألة التي جلُّ العلماء علي جوازها وقليل منهم علي حرمتها، نسبة الكفر والشرك بل الفسق والضلال إلي هؤلاء الجمّ الغفير المعترف بفقههم وتقواهم؟ فما هو الفارق

إذاً بين القطعيّات والظنيّات؟ سواء في حقل العقيدة أو في حقل الشريعة؟ إنّما الحكم بالكفر ثابت فيمن أنكر ضرورياً من ضروريات الدين ليس إلاّ، دون مسألة خلافيّة ; هي معترك الآراء بين الفقهاء. فأقلّ ما يقال في مثل هذه المسألة الخلافية هو الاحتياط بالإمساك عن التقوّل فيهم، حتي ترجع المسألة قطعيّة، والاكتفاء لمن لا يجوّزه بالوعظ والإرشاد، إذا رآه شركاً أو بدعة أو ضلالاً، فهذا منتهي المطاف في أداء الواجب من مثله. وقد مرّ بنا أن استهللنا كلامنا بالتقدير لجهودكم في سبيل إرساء أمر التوحيد، وهذا بنفسه سعي مشكور أغتبطكم عليه، لولا أن ينضمّ إليه إطلاق القول بالشرك أو الكفر فيمن جوّز هذا العمل عن اجتهاد ونظر، من دون تقليد أعمي، ولا جهل بالكتاب والسنّة وبآراء الفقهاء، الموافق منهم والمخالف. ثانياً: أحببت الإشارة إلي مسألة أخري لها أهميّتها، وهي ما أفتيتم بشأن مسألة فلسطين، حيث تقولون: «إنّه يجب علي المسلمين وعلي الدول الإسلاميّة والأغنياء والمسؤولين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود، أو فيما تيسر من الصلح إن لم يتيسر الجهاد، صلحاً عادلاً يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم علي أرضهم، وسلامتهم من الأذي من عدو الله اليهود، مثلما صالح النبيّ أهل مكّة، وأهل مكّة في ذلك الوقت أكثر من اليهود الآن، وإن المشركين والوثنيين أكثر كفراً من أهل الكتاب، فقد أباح الله طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من المشركين، ولا نساءهم وصالحهم النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) علي وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيّ. لكن رضيه النبيّ(صلي الله

عليه وآله وسلم) للمصلحة العامة. فإذا لم يتيسر الاستيلاء علي الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم واعطائهم بعض الحقوق...» (مجلة البحوث الإسلامية [5] : رقم 35، ص 24). وهذه الفتيا منكم إنّما صدرت ولا شك إخلاصاً للإسلام والمسلمين، وحرصاً علي إرشاد الأمّة إلي ما فيه خيرهم وصلاحهم، إلاّ أنّ فيها بعض الملاحظات، فهي تحتوي شطرين: الشطر الأوّل: وجود حرب اليهود وبذل الجهود في جهاد أعداء الله اليهود. وهذا ما يوافقكم عليه علماء الإسلام جميعاً شيعة وسنّة، ولعلّكم لمستم موقف الشيعة، في مكّة المكرّمة عبر شعاراتهم، أو سمعتم به عن طريق المذياع أو قرأتم عنه في الجرائد، أنّهم أشدّ الناس علي الكفّار ولا سيما علي اليهود. فهذا حق صريح، ورأيكم حجة علي جميع المسلمين حكومات وشعوباً، جزاكم الله عنهم خير الجزاء، وشكر مساعيكم، فقد أديتم واجبكم أمام الله تبارك وتعالي وأمام المسلمين قاطبة. وأمّا الشطر الثاني وهو ما تيسر من الصلح إن لم يتيسر الجهاد صلحاً عادلاً إلي آخر ما أبديتم من الرأي باخلاص فيجب الوقوف عنده طويلاً. لا ريب أنّ المسألة لو كانت كما اقترحتم وكانت القيود والشروط محقّقة بالشكل الذي قيّدتم، فالحكم هو ما صرحتم به، إلاّ أنّ المسألة مع الأسف الشديد ليست بهذه السهولة، ومغزي كلامي أنّ البحث ليس في الكبري من الدليل، وإنّما هو في الصغري، وتوضيحها كما يأتي: أوّلاً: إنّ الجهاد مع اليهود ميسور وبابه مفتوح بمصراعيه أمام المسلمين، إلاّ أنّ حكّام المسلمين لم يقفوا يوماً ولا يريدون أن يقفوا أمام العدوّ بكل جهودهم وإمكانياتهم، فإنّ العرب طرحوا القضيّة منذ أربعين سنة ولحد الآن قضية عربيّة، وليست إسلاميّة، وهذه أوّل ضربة وجهوها إلي القضية، حيث أبعدوا بهذا المشروع العنصري

معظم المسلمين عن ساحة المعركة، ولا أقل من أنّ ذلك أصبح عذراً لأولئك الحكام الذين لا علاقة لهم بشؤون المسلمين، فكانوا يقولون كما سمعت مراراً من أعوان الشاه في إيران: «هذه مشكلة العرب مع اليهود لا شأن لنا فيها» فلم يكونوا يسمعون صرخات المسلمين والعلماء من أنّها إسلاميّة، بحجّة أنّ العرب يعدّونها مسألة عربيّة. وأمثال هؤلاء الحكّام من العرب وغيرهم يطيقون استماع صرخات هؤلاء الشباب والأطفال المحاربين بالحجارة داخل الأرض المحتلة وهتافاتهم: «الله أكبر» «نحن مسلمون» ولا أن يروا في التلفزة صلاتهم حول المسجد الأقصي، لأنّ ذلك سوف يمثل إسلاميّة القضيّة فتأخذ العذر من أيديهم. ثانياً: حتي العرب أنفسهم الذين احتكروا المسألة بحجّة أنّها عربيّة، وأنّها مسألتهم دون سائر المسلمين لا يتفقون علي كلمة واحدة، ولم يجهزوا إمكانياتهم أمام العدوّ، ولم يقفوا صفّاً واحداً، فبدلاً من ذلك كلّه، افترقوا أحزاباً وشعوباً يهاجم بعضهم بعضاً، عسكرياً وإعلامياً، لا شيء إلاّ لصالحهم ولصالح العدوّ، فلم يجهزوا أنفسهم للمعركة لا هم ولا سائر المسلمين ولم يمتثلوا أمر ربّهم: وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم (الأنفال / 60) فعندهم البترول الذي هو شريان حياة الأعداء، فلم يستفيدوا من هذه القوّة الهائلة التي هي أقوي بكثير من رباط الخيل ومن أي قوّة توجد في العالم. كما أنّهم لم يهتموا بقول ربّهم: يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء (المائدة / 51) وما بمعناه في الكتاب والسنّة. فمن منهم لا يتّخذ أعداء الله أولياء، ولا يميل إلي اليمين والشمال (وقد سقط بحمد الله) ولا يعتمد ولا يستنصر بالأعداء (سوي النزر اليسير)، ولا يركع لصنم منهم ولا يسجد؟ وبعضهم لا يأكل ولا

يشرب إلاّ بأذنه؟ ومن خفي عليه هذا فليس له الدخول في المعارك السياسية وإظهار الرأي فيها. والعجب كلّ العجب صمتُ بعض العلماء عن هؤلاء الحكام الركع السجود أمام الأصنام الطواغيت، ثم ينادي ويحكم بكفر وشرك أولئك المسلمين المساكين، الذين بذلوا كل ما عندهم، وتحمّلوا المشاق، وجاؤوا من كلّ فجّ عميق، حتي نالوا زيارة النبيّ، وقلوبهم ملئت بحبّه، فقبّلوا الباب والشُبّاك حبّاً له، رجاء التقرّب إلي الله بحبّه، ويرون هذا منتهي أملهم من الحياة، فإذا بعالم أو مسؤول سكت عن ذلك الشرك الكبير وعن هؤلاء الأبالسة الكبار، يضربه بالسياط ويشتمه باللسان، ويكرر عليه: «هذا شرك، هذا كفر»، أليس هذا إبعاد المسلمين المخلصين عن الدين، وعن ساحة القتال مع اليهود ومع سائر أعداء الدين؟ فإنّه إذا كان كافراً ومشركاً فلماذا يضحي بنفسه في المعركة في سبيل الإسلام؟ وأنا أقول بصراحة: لو أنّ العلماء ومن وراءهم (بل ومن فوقهم!) الحكّام لم يخطئوا الطريق، واستقروا علي الصراط القويم، لأمكن لهم تجهيز الملايين من الشبّان المسلمين الغياري علي الإسلام ضد اليهود، ولو تحقّق هذا الحلم يوماً ما فإنّا نري أن كلمة الله هي العليا، وأنّ الله يحقق وعده: إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم (محمّد / 7). ثالثاً: الاستشهاد للصلح مع اليهود بمثل ما صالح النبيّ أهل مكّة والمشركين عجيب فهو قياس مع الفارق، وفيه وجوه من الخلط والتمويه: 1 _ إنّ النبيّ صالح أهل مكّة من موقف القوّة دون الضعف كما قال تعالي: وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيراً (الفتح / 24) مع أنّ حكّام العرب حينما يريدون أن يساوموا علي الصلح مع العدو، إنّما هم

في منتهي الضعف (ولا سيّما بعد حرب الخليج) سياسياً وعسكرياً والشيطان الأكبر الحامي لإسرائيل، رست أقدامه علي أرضهم بكل ما له من العدّة والعدد، وله حق الحياة والبقاء علي جملة من الحكام، فهم عبيد في قبضته، يحق لهم أن يركعوا ويسجدوا أمامه آناء الليل وأطراف النهار وأنّهم ليبذلون أموال المسلمين ويعرضون شعوبهم المساكين إلي الكفّار بالمجّان، لا لشيء سوي للاحتفاظ علي منصبهم، فهم متسلطون علي أعناق الشعوب، راكعون أمام الأعداء. «أُسد عليَّ وفي الحروب نعامة». وفي مثل هذه الحالة يريدون أن يجلسوا مع العدوّ حول طاولة المفاوضات للسلام (العادل)!! ومن الدليل علي ضعف المشركين وقوّة المسلمين في الحديبيّة قول النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) لرسول المشركين عنده (بُدَيلُ بنُ وَرقاءَ الخُزاعِيُّ): شاؤوا مادَدْتُهم [6] مُدَّةً ويُخَلُّوا بَيني وبين الناس... إلي أن قال: وإن هُم أبَوا فَوَالّذي نفسي بِيَدِه لأقاتلَنَّهُم عَلي أمري هذا حَتّي تَنْفَرِدَ سالِفَتي وَلِيُنَفِذَنَّ [7] اللهُ أمرَه». وإن مبايعته المسلمين علي الحرب والتضحية بالنفس والمال كان استعداداً كاملاً للحرب ثم إن عروة بن مسعود رسول المشركين الآخر لديه حينما رجع إلي المشركين قال لهم: «فَوَاللهِ ما تَنَخَّمَ رسولُ اللهِ نُخامَةً إلاّ وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُل منهم فَدَلَكَ به وجهَهُ وجِلْدَه، وإذا أَمَرَهُم بأمر ابْتَدروا أَمرَه وإذا تَوَضَّأَ كادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلي وُضُوئِه وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْواتَهم عِندَه وما يُحِدُّونَ النَّظَرَ إليهِ تَعظيماً لَه، أي قوم، وَاللهِ لَقَد وَفَدتُ عَلَي المُلوكِ وَوَفدتُ علي قَيْصَر وكِسرَي والنَّجاشِي، وَاللهِ إنْ رأيتُ مَلِكاً يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ مُحَمَّد (صلي الله عليه وآله وسلم) مُحَمَّداً... وإنَّه قَد عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْد فَأقْبَلُوها...» رواه: البخاري وغيره بتفاوت (صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام:

ج 3، ص 253 _ 255). وقد أورد المحققون لمسند أحمد مصادر تلك الرواية (انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 31، ص 243، الرقم 18928). 2 _ إنّ اليهود ليسوا وحدهم الذين يحاربون شعب فلسطين، بل وقف إلي جنبهم طواغيت العالم الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة في أرض الإسلام وهم الذين يحاربون الإسلام والمسلمين، فندخل في الصلح معهم، لأنّهم أقل من المشركين؟ وليس هؤلاء الطواغيت، ولا حتي اليهود الذين استولوا علي أرض فلسطين بأهل كتاب، وإنّما هم ملاحدة، دينهم الدولار، وأمنيتهم الاستيلاء علي ثروات الأرض، فإنّ اليهود في فلسطين معظمهم صهاينة ليسوا بأهل كتاب ولا أهل دين، بل هم حزب سياسي عنصري. علي أنّ اليهود في العالم يعدّون بعشرات الملايين، وكلّهم مع يهود فلسطين، وبيدهم ثروات هائلة، وفي قبضتهم السوق العالمي والمصانع والسفن والأسلحة، ووسائل الإعلام العالمي ; فكيف يجوز أن يقال: أنّ اليهود اليوم أقل من أهل مكة في ذلك اليوم؟ فيجب إذاً أن نضع هذه الأشياء في الميزان ثم نحكم بالصلح، وبدونها لم يتحقق صلح عادل. 3 _ إنّ الصلح كان مع أهل مكّة بأمر من الله دون مشورة المؤمنين بل أكثرهم قاوموا النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) أمام عقد الصلح وعند بعض بنوده، حتي أنزل الله سورة الفتح وكشف النقاب عن وجه الصلح، وعدّه فتحاً مبيناً، ومع ذلك لم يعترف كثير منهم في صميم قلوبهم وباقتناع نفسي منهم بأنّه كان خيراً، حتي رأوا النتيجة ماثلة أمامهم بعد مدّة. 4 _ كانت هناك حِكَم وأسباب جاءت في سورة الفتح تصريحاً أو إيماء، كالحفاظ علي المؤمنين والمؤمنات القاطنين بمكّة يومئذالذين لم يعرف أشخاصهم، وكالحصول علي الأرضيّة المناسبة لاختلاط المسلمين بالمشركين، وتبيين الإسلام

لهم واكتساب قلوبهم صوب المسلمين، وغير ذلك ممّا صرحتم به في مقالكم، ويعلم بالتدبر في سورة الفتح وفي الحوادث التي حدثت عقيب الصلح، ولا يوجد شيء من هذه الحِكَم والأسباب في الصلح مع اليهود الآن، بل الأمر بالعكس كما سنوضح. 5 _ اليهود الآن بما أعدوا واستعدّوا للمعركة الحاسمة، معتمدون علي تلك القوي العالميّة الشيطانية، قادرون علي أن يقضوا علي الشعب الفلسطيني، ومن جاورهم من الشعوب، ولا سيما القاطنين في أرض الجزيرة العربيّة التي لليهود فيها مطامع تاريخية ; كأراضي بني النضير وبني قريظة وأراضي خيبر وغيرها، في طرفة عين، ولعلّهم يفعلونها يوماً من الأيّام (لا قدر الله هذا اليوم). فهم حينما يفاوضون العرب من أجل السلام، لم يقصدوا السلام، ولم يكن خوفاً من العرب، إنّما يريدون أن يسيطروا علي أراضيهم وثرواتهم برفق وبرضاً منهم أو من حكّامهم، ليتدخلوا في شؤونهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، فيكونوا أحراراً فيما يعملون في تلك البقاع، ويتخذوا من تلك الشعوب أداة لبسط سلطانهم عليهم وعلي العالم الإسلامي كلّه، ويتعاملوا معهم معاملة السيد مع عبيده، والملك مع رعيّته طوال الدهر. ويرون أن الصلح المنشود هو الطريق الوحيد للوصول إلي مطامعهم، حتي أنّهم يمهلون أمر الصلح عمداً، ويسوّفونه قصداً، لإرضاء النفوس شيئاً فشيئاً، حتي يقتنعوا بأنّه لا طريق للخلاص سوي الصلح والسلام. مع أنّ مثل هذا الصلح هو الرصاصة الأخيرة لسقوط هذه الشعوب ثم لسقوط العالم الإسلامي والمسلمين في أيدي اليهود. فأين الصلح العادل؟ ليس هذا سوي الاستسلام المطلق دون السلام العادل. ثمّ إنّ اليهود، متي التزموا بعهودهم طوال دهرهم وخاصة في مسألة فلسطين لكي نثق بهم؟ وأخيراً ; لو فرضنا حصول كل هذه الشروط والقيود، فإنّ الحكّام لا نثق بهم وسوف

يتخذون من هذه الفتيا ذريعة لالتباس الأمر علي الشعوب، وسيفاوضون العدو في صالحهم أكثر من صالح الشعوب، وسيكون هذا الحكم من سماحتكم مبدأ شرعية اليهود وشرعية عمل الحكام الذين أجروا عقد الصلح ومفاوضة السلام معهم. فأيّاكم أن تجعلوا رقبتكم قنطرة لهؤلاء، والصواب هو الاكتفاء منكم بالشطر الأوّل من الفتيا، والإنصراف عن الشطر الثاني رأساً، والمرجو منكم أن تأخذوا هذه السطور بعين الاعتبار، ثم الإجابة عليها، فإنّي ما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله. محمد واعظ زاده الخراساني مكّة المكرمة 11 ذي الحجة الحرام سنة 1413 هجرية

رسالة الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلي حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني منحني الله وإياه الفقه في الدين، وأعاذنا جميعاً من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد. فقد وصلني كتابكم وصلكم الله بحبل الهدي والتوفيق وجميع ما شرحتم كان معلوماً. فأمّا التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلاّ ما أقرّه الشرع لقول النبي صلي الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [8] متفق علي صحته. وفي رواية لمسلم، وعلّقها البخاري (رحمه الله) في صحيحه جازماً بها: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [9] . وفي صحيح مسلم عن جابر (رضي الله عنه)، قال كان النبيّ صلي الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أمّا بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمّد صلي الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» [10]

. والأحاديث في ذلك كثيرة. فالواجب علي المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني. ولهذا صح عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنّه قال لما قبل الحجر الأسود: «إنّي أعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبيّ صلي الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك» [11] . وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأنّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)لم يفعله ولم يرشد إليه ولأنّ ذلك من وسائل الشرك وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولي لأن النبيّ صلي الله عليه وسلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه _ رضي الله عنهم _. وأمّا ما نقل عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ من تتبع آثار النبيّ صلي الله عليه وسلم واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه (رضي الله عنه)، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعملهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر (رضي الله عنه)، الشجرة التي بويع تحتها النبيّ صلي الله عليه وسلم في الحديبية، لما بلغه أنّ بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفاً من الفتنة بها، وسداً للذريعة. وأمّا دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه زلفي، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم علي عدوهم، كما بين الله سبحانه ذلك عنهم في قوله

سبحانه: ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (يونس/18)، فرد عليهم سبحانه بقوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالي عمّا يشركون (يونس / 18). وقال عزّ وجل في سورة الزمر: فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلي الله زلفي، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار(الزمر / 3) فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أنّ الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم وإنّما أرادوا منهم أنّهم يقربونهم إلي الله زلفي، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (الزمر / 3) فسماهم كذبة وكفاراً بهذا الأمر. فالواجب علي مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية. ويدل علي كفرهم أيضاً بهذا الاعتقاد، قوله سبحانه: ومن يدعُ من دون الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنّما حسابه عند ربّه إنّه لا يفلح الكافرون(المؤمنون / 117) فسماهم في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم. ويدل علي ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة فاطر: ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير - إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (فاطر / 13 _ 14) فحكم سبحانه بهذه الآية علي أنّ دعاء المشركين لغير الله، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير

ذلك بأنّه شرك [12] ، والآيات في هذا المعني لمن تدبر كتاب الله كثيرة. وننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في الفتاوي: (ص 157، ج 1) ما نصه: «والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف علي قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم علي أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنّما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم، قال الله تعالي: ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون - قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون(سبأ / 40 _ 41). والملائكة لا تعينهم علي الشر، لا في المحيا ولا في الممات، ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح، أنا محمّد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر، أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون اولئك كلهم جنّاً، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس. فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزي في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً أو يدله علي الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل، أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه

رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء علي صورته، وإنّما يكون ذلك جنيّاً، فإنّ الملائكة لا تعين علي الشرك والإفك والإثم والعدوان. وقد قال الله تعالي: قُل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً - أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربّك كان محذوراً (الإسراء / 56 _ 57) قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالي أن الملائكة والأنبياء عباد الله. كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنّهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين. والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنّا نستشفع بهم، أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله _ والتماثيل إمّا مجسّدة وإمّا تماثيل مصوّرة كما يصورها النصاري في كنائسهم _ قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل نذكر أصحابه، وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلي الله فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيد جرجس أو بطرس، أو يا ستي الحنونة مريم أو يا سيدي الخليل أو موسي بن عمران أو غير ذلك اشفع لي إلي ربّك. وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً وينشدون قصائد بقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حبك أنا في جوارك أشفع لي إلي الله، سل الله لنا أن ينصرنا علي عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدّة أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة، أو يقول أحدهم: سل

الله أن يغفر لي. ومنهم من يتأول قوله تعالي: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك، فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً (النساء / 64). ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الاجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبيّ صلي الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنّما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة علي مالك (رضي الله عنه)، سيأتي ذكرها، وبسط الكلام عليها إن شاء تعالي. فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالي، قال تعالي: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (الشوري / 21). إلي آخر ما ذكره (رحمه الله) في رسالته الجليلة المسماة (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) قد أوضح فيها أنواع الشرك فراجعها إن شئت. وقال أيضاً (رحمه الله) في رسالته إلي أتباع الشيخ عدي بن مسافر ص31 ما نصّه: «فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ إمّا في الشيخ عدي، ويونس القني أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)ونحوهم، بل الغلو في المسيح (عليه السلام)ونحوه فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل عليّ(رضي الله عنه) أو عدي أو نحوه، أو في من يعتقد فيه الصلاح

كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني، ونحوهم وجعل فيه نوعاً من الألوهيّة مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره أو يدعوه من دون الله تعالي مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو اُرزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلاّ لله تعالي، فكلّ هذا شرك وضلال يستتاب صاحبة فإن تاب وإلاّ قتل. فإنّ الله إنّما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلهاً آخر. والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخري مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزي ومناة الثالثة الأخري ويغوث ويعوق ونسراً، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق أو أنّها تنزل المطر أو أنّها تنبت النبات وإنّما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون إنّما نعبدهم ليقربونا إلي الله زلفي. ويقولون هم شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهي أن يدعي أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال تعالي: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً - أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذوراً (الإسراء / 56 _ 57). قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ، كما تتقربون

ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وقال تعالي: قل أدعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير - ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له (سبأ / 22 _ 23) فأخبر سبحانه. أن ما يدعا من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك ولا شرك في الملك وأنّه ليس له في الخلق عون يستعين به وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلاّ بأذنه». إلي أن قال (رحمه الله): «وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالي: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (الزخرف / 45) وقال تعالي: ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت(النحل / 36) وقال تعالي: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون (الأنبياء / 25). وكان النبيّ صلي الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتي قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: «أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده» وقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن ما شاء الله ثم ما شاء محمد» ونهي عن الحلف بغير الله تعالي فقال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وقال: «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسي بن مريم وإنّما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله». ولهذا اتفق العلماء علي أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها. ونهي النبي صلي

الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه له نهي عن ذلك وقال: «لا يصلح السجود إلاّ لله» وقال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه): «أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟» قال: لا، قال: «فلا تسجد لي» ونهي النبيّ صلي الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته «لعن الله اليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». إلي أن قال (رحمه الله): «ولهذا اتفق أئمة الإسلام علي أنّه لا يشرع بناء مساجد علي القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة». إلي أن قال _ رحمه الله تعالي _: «وذلك إن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالي في كتابه: وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً (نوح / 23) قال طائفة من السلف: كانت هذه الأسماء لقوم صالحين فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها. ولهذا اتفق العلماء علي أن من سلم علي النبيّ صلي الله عليه وسلم عند قبره أنّه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها».

انتهي المقصود من كلامه

وقال العلاّمة ابن القيم (رحمه الله) في الجواب الكافي: (ص 197 _ 198) ما نصّه: «فصل: ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات. فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره والطواف بغير بيته وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها وقد لعن النبيّ صلي الله عليه وسلم من اتّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد

يصلي لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدها من دون الله. ففي الصحيحين عنه صلي الله عليه وسلم أنّه قال: «لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي الصحيح عنه: «إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» وفي الصحيح أيضاً عنه: «إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك». وفي مسند الإمام أحمد (رضي الله عنه) وصحيح ابن حبان عنه صلي الله عليه وسلم قال: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». وقال: «اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقال: «إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا علي قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» فهذا حال من سجد لله في مسجد علي قبر فكيف حال من سجد للقبر نفسه، وقد قال النبيّ صلي الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد» انتهي كلامه(رحمه الله). وبما ذكرنا في صدر هذا الجواب، وبما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية(رحمه الله) وتلميذه العلاّمة ابن القيم (رحمه الله)يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم، عند القبور من دعاء أهلها والاستغاثة بهم والنذر لهم والسجود لهم وتقبيل القبور طلباً لشفاعتهم أو نفعهم لِمَن قَبّلها، كل ذلك من الشرك الأكبر لكونه عبادة لهم والعبادة حق الله وحده كما قال الله سبحانه: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً (النساء / 36) وقال سبحانه: وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء (البيّنة / 5). وقال عزّ وجل: وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون

(الذاريات / 56) إلي غير ذلك من الآيات التي سبق بعضها. أمّا تقبيل الجدران، أو الشبابيك أو غيرها، واعتقاد أن ذلك عبادة لله، لا من أجل التقرّب بذلك إلي المخلوق. فإنّ ذلك يسمي بدعة لكونه تقرباً لم يشرعه الله فدخل في عموم قول النبيّ صلي الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» [13] وفي قوله صلي الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [14] . وأمّا تقبيل الحجر الأسود، واستلامه واستلام الركن اليماني فكل ذلك عبادة لله وحده واقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم لكونه فعل ذلك في حجة الوداع وقال: «خذوا عني مناسككم» وقد قال الله عزّ وجل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (الأحزاب / 21) الآية. وأمّا التبرك بشعره صلي الله عليه وسلم ووضوئه، فلا حرج في ذلك كما تقدم لأنّه _ عليه الصلاة والسلام _ أقر الصحابة عليه ولما جعل الله فيه من البركة، وهي من الله سبحانه، وهكذا ما جعل الله في ماء زمزم من البركة حيث قال صلي الله عليه وسلم عن زمزم إنّها مباركة وإنّه طعام طعم وشفاء سقم. والواجب علي المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية. ولهذا لم يتبرك الصحابة _ رضي الله عنهم _ بشعر الصديق (رحمه الله)، أو عرقه أو وضوئه ولا بشعر عمر أو عثمان أو علي أو عرقهم أو وضوئهم... ولا بعرق غيرهم من الصحابة، وشعره ووضوئه لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبيّ صلي الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره في ذلك، وقد قال الله عز وجل: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان

رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم (التوبة / 100). وقال كثير من الصحابة _ رضي الله عنهم _: اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وأمّا توسل عمر (رضي الله عنه) والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء وهكذا توسل معاوية (رضي الله عنه) في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود فذلك لا بأس به لأنّه توسل بدعائهما وشفاعتهما ولا حرج في ذلك. ولهذا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه: أدع الله لي وذلك دليل من عمل عمر والصحابة _ رضي الله عنهم _ ومعاوية(رضي الله عنه) علي أنّه لا يتوسّل بالنبيّ صلي الله عليه وسلم في الإستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلي الله عليه وسلم ولو كان ذلك جائزاً لما عدل عمر الفاروق والصحابة _ رضي الله عنهم _ عن التوسل به صلي الله عليه وسلم إلي التوسل بدعاء العباس ولما عدل معاوية (رضي الله عنه) التوسل به صلي الله عليه وسلم إلي التوسل بيزيد بن الأسود وهذا شيء واضح بحمد الله. وإنّما يكون التوسل بالإيمان به صلي الله عليه وسلم ومحبّته والسير علي منهاجه وتحكيم شريعته وطاعة أوامره، وترك نواهيه. هذا هو التوسل الشرعي به صلي الله عليه وسلم بإجماع أهل السنة والجماعة وهو المراد بقول الله سبحانه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وبما ذكرنا يعلم أن التوسل بجاهه صلي الله عليه وسلم أو بذاته من البدع التي أحدثها الناس ولو كان ذلك خيراً لسبقنا إليه أصحاب النبيّ صلي الله عليه وسلمأنّهم أعلم الناس بدينه وبحقه صلي الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. وأمّا توسل الأعمي به صلي الله عليه وسلم إلي الله سبحانه

في رد بصره إليه فذلك توسل بدعائه وشفاعته حال حياته صلي الله عليه وسلم. ولهذا شفع له النبيّ صلي الله عليه وسلم ودعا له. والله المسؤول بأسمائه الحسني وصفاته العلا أن يمنحني وإيّاكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم وأن يوفق جميع حكام المسلمين للفقه في الدين والحكم بشريعة الله سبحانه والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها والحذر ممّا يخالفها عملاً بقول الله عزّ وجل: فلا وربّك لا يؤمنون حتي يحكّموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً (النساء / 65) وبقوله سبحانه: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون (المائدة / 50) أنّه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته... مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وادارة البحوث العلمية والافتاء

پاورقي

[1] راجع أيضاً بحث الأستاذ الدكتور عبد الهادي الفضلي، تحت عنوان: الرأي الفقهي في السلام مع إسرائيل، مجلة رسالة التقريب، العدد 15.

[2] «رسالة التقريب» مجلة يصدرها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، فصليّة متخصصة تعني بقضايا التقريب بين المذاهب ووحدة الأمّة الإسلامية.

[3] وقد أحسن الذهبي وأجاد في كتابه «سير أعلام النبلاء» عند ترجمة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ج 4، ص 483 _ 484، الرقم / 185) استطراداً للردّ علي شيخه ابن تيمية حيث قال: «فَمَنْ وَقَفَ عند الحُجرة المقدّسة ذليلا مُسَلِّماً، مُصلِّياً علي نبيّه فيا طوبي له، فقد أَحْسَنَ الزيارة وأَجْمَلَ في التذلل والحُبّ وقد آتي بعبادة زائدة علي من صَلّي عليه في أرضه أو

في صلاته إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه والمُصَلّي عليه في سائر البلاد له أجرُ الصلاة فقط فمن صلّي عليه واحدة صلّي الله عليه عشراً ولكنّ من زاره _ صلوات الله عليه _ وأساءَ أدب الزيارة أو سَجَدَ للقبر أو فَعَلَ ما لا يُشرع، فهذا فَعَلَ حسناً وسَيِّئاً فَيُعَلَّم برفق واللهُ غفور رحيم ; فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصِّياح وتقبيل الجُدران وكثرة البكاء إلاّ وهو مُحِبٌّ لله وللرسول فَحُبّه المعيار والفارق بين أهل الجنّة وأهل النار فزيارة قبره من أفضل القرب وشدّ الرحال إلي قبور الأنبياء والأولياء ولئن سَلَّمنا أنّه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: «لا تشدُّ الرحال إلاّ إلي ثلاثة مساجد» فَشَدُّ الرحال إلي نبيّنا صلّي الله عليه وسلّم مستلزم لِشَدِّ الرحال إلي مسجده وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلي حُجرته إلاّ بعد الدخول إلي مسجده فليبدأ بتحيّة المسجد ثمّ بتحيّة صاحب المسجد رزقنا الله وإيّاكم ذلك آمين». أوردنا تمام كلامه تتميماً للفائدة.

[4] انظر: كتاب تقي الدين السبكي «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» لا سيما الباب الرابع، الباب السابع فإنّه أورد سرد فتاوي كثير من العلماء في المقام.

[5] مجلة البحوث الإسلامية ; مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء _ الرياض.

[6] ماددتهم: صالحتهم.

[7] ولينفذنّ: من الإنفاذ بمعني الإمضاء.

[8] صحيح مسلم: 3 / 1343 / 1718.

[9] صحيح البخاري ص 43 في باب «خلق أفعال العباد» وصحيح مسلم: 3 / 1344 / 1718. وانظر مصادر أخري للحديث في هامش مسند أحمد: 42 / 62 / 25128. [

[10] صحيح مسلم: 2 / 592 / 867 (43).

[11] مسند أحمد: 1 / 282 / 131.

[12] من المناسب هنا

وفي مقام المقارنة بين عمل المسلمين في التبرّك والتوسّل وبين عمل المشركين، أن نلفت نظر القراء الكرام إلي عدد من النقاط المهمة، حتّي لا نتهم أحداً أو نَصِف عملا بالشرك اعتباطاً وبلا دليل.

[13] صحيح مسلم: 3 / 1343 / 1718.

[14] مسند أحمد: 28 / 373 / 17144 _ 1715 وبهامشه ثبت لمصادر كثيرة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.