البدعة مفهومها، حدها و آثارها

اشارة

مولف:جعفر السبحاني

ناشر:مؤسسة الإمام الصادق

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم البدعة وآثارها الموبقة والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيد رسله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار علي خطاهم وتبعهم بإحسان إلي يوم الدين. البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات، دل علي حرمتها الكتاب والسنة، وقد أوعد صاحبها النار علي لسان النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم)، وما هذا إلا لأن المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالي في التشريع والتقنين، ويتدخل في دينه ويشرع ما لم يشرعه الدين، فيزيد عليه شيئا وينقص منه شيئا في مجالي العقيدة والشريعة، كل ذلك افتراء علي الله. بعث النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) بحبل الله المتين وأمر المسلمين الاعتصام به ونهي عن التفرق وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) - (آل عمران / 103). [ صفحه 6] ولكن المبتدع يستهدف حبل الله المتين ليوهنه ويخرجه من متانته بما يزيد عليه أو ينقص منه، وبالتالي يجعل من الأمة الواحدة أمما شتي، يبغض بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فيحولون إلي شيع وطوائف متفرقين، فرائس للشيطان وأذنابه، وعلي شفا حفرة من النار، علي خلاف ما كانوا عليه في عصر الرسالة. إن المسلمين بعد رحيل الرسول تفرقوا إلي أمم ومذاهب مختلفة ولم يكن ذلك إلا إثر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة بإدخال ما ليس من الدين في الدين وكان عملهم تحويرا لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها. فلولا البدعة والمبتدعون وانتحال المبطلين، لكانت الأمة الإسلامية أمة واحدة، لها سيادتها علي جميع الأمم والشعوب في المعمورة. وما أثني ظهورهم إلا دبيب المبتدع بينهم، فشتتهم وفرقهم بعد ما كانوا صامدين

كالجبل الأشم. إن الحروب الدموية التي خاضها المسلمون في عصر الخلافة وبعدها وخضبت الأرض بالدماء الطاهرة وسل المسلمون سيوفهم في وجه بعضهم، مكان سلها في وجه الأعداء فسقط منهم آلاف القتلي والجرحي علي الأرض كانت نتيجة البدع في الدين النابعة عن الأهواء والميول النفسانية فكانوا يحاربون باسم الدين. ولم يكن الدين إلا في جانب واحد، لا في جوانب متكثرة. إن صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا إليه المؤمنين عامة وقال: (وأن هذا صراطي مستقيا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الأنعام - 153) ويأمر المسلمين أن يدعوا الله سبحانه، أن يديمهم علي هذا الصراط كي لا ينحرفوا يمينا وشمالا كما يقول سبحانه تعليما لعباده: (اهدنا الصراط المستقيم) ولكن المبتدع يسوق بالناس إلي سبل منحرفة لا تنتهي إلي السعادة التي أراد الله سبحانه لعباده. [ صفحه 7] إن حق التشريع والتقنين لله تبارك وتعالي وقد استأثر به وقال: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) (يوسف - 40) والمراد من الحكم هو التشريع بقرينة قوله: (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) فالبدعة هو تشريك الناس في ذلك الحق المستأثر، ودفع زمام الدين إلي أصحاب الأهواء كي يتلاعبوا في الشريعة كيفما شاءوا، وكيفما اقتضت مصلحتهم ومصلحة أسيادهم وأربابهم، فذلك الحق المستأثر يقتضي ألا يتدخل أحد في سلطان الله وحظيرته، قال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (الأحزاب - 26). إن المبتدع يتصرف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالا وحراما بدون إذن منه سبحانه وفي ذلك يقول سبحانه:

(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أالله أذن لكم أم علي الله تفترون) (يونس - 59) الآية واردة في عمل المشركين، حيث جعلوا ما أنزل الله لهم من الرزق بعضه حراما وبعضه حلالا فحرموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها فرد عليهم سبحانه وقال: (أالله أذن لكم أم علي الله تفترون) أي أنه لم يأذن لكم في شئ من ذلك، بل أنتم تكذبون علي الله، ثم يهددهم بالعذاب فيقول: (وما ظن الذين يفترون علي الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل علي الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) (يونس - 60) ويؤكد عليه في آية أخري ويقول سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون) (النحل - 116). إن أصحاب الأهواء في كل زمان حتي في عصر الرسالة كانوا يقترحون علي النبي الأكرم أن يغير دينه ويأتي بقرآن غير هذا، حتي يكون مطابقا لما تستهويه [ صفحه 8] أنفسهم، فأمر الله سبحانه أن يرد اقتراحهم بقوله: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (يونس - 15). كان في عصر الرسالة من كان يتقدم علي الله ورسوله لا مشيا وإنما تقديما لفكرته علي الوحي فنزل الوحي منددا لهم وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) (الحجرات - 1). إن الكذب من المحرمات الموبقة التي أوعد الله عليها النار، والبدعة من أفحش الكذب، لأنها افتراء علي الله ورسوله، قال سبحانه: (ومن

أظلم ممن افتري علي الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) (الأنعام - 21) فالمبتدع يظهر بزي المحق عند المسلمين فيفتري علي الله تعالي دون أن يكشفه الناس فيضلهم عن الصراط المستقيم. إن لله في كل واقعة حكما إلهيا لا يتبدل ولا يتغير إلي يوم القيامة، فإذا حكم الحاكم وفق ذلك الحكم فهو حاكم عادل معتمد علي منصة الحق، إلا أن المبتدع يحكم علي خلاف ذلك الحق فيصفه سبحانه بكونه كافرا وظالما وفاسقا، قال سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقال عز من قائل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وقال تعالي: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة - 44، 45، 47). فما حال إنسان يحكم عليه القرآن بالكفر تارة، والظلم ثانيا والفسق ثالثا؟ فهل ترجي له النجاة بعد أن أضل كثيرا من الناس وشق صفوف المسلمين وجعل السبيل الواحد سبلا كثيرة تضلهم إلي مهاوي الهالكين. ولعل هذا المقدار من التقديم يكفي في تبين موضع البدعة وموقف المبتدع عند الله سبحانه، ولأجل ذلك نري أن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) شدد علي البدعة، وندد [ صفحه 9] بالمبتدع بأفصح العبارات وأبلغها وسيوافيك لفيف من الروايات. ولقد قام العلماء القدامي والجدد بتأليف كتب ورسائل حول البدعة نذكر البعض منها: 1 - البدع والنهي عنها. لابن وضاح القرطبي. 2 - الحوادث والبدع. للطرطوشي. 3 - الباعث. لأبي شامة. 4 - الإعتصام. لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزأين وقد أسهب الكلام فيها. 5 - البدعة أنواعها وأحكامها. لصالح بن فوزان بن عبد الله فوزان - طبع الرياض. 6 - البدعة تحديدها وموقف الإسلام

منها. تأليف الدكتور عزت علي عطية - نشر دار الكتاب العربي. 7 - البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق. تأليف الدكتور عبد الملك السعدي - طبع بغداد. 8 - البدع. تأليف أبي الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني، ذكرها أبوالعباس النجاشي (352 - 450 ه) في رجاله [1] . 9 - البدع المحدثة. للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفي بفسا سنة 352 ه وطبع باسم الاستغاثة، في النجف الأشرف. 10 - البدعة. تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري. وهي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها علي ضوء منهج أهل البيت وقد قرأنا خلاصة الكتاب وهو علي وشك الصدور قريبا. [ صفحه 10] مع الاحترام والتكريم لجهودهم إلا أن غالب هؤلاء الكتاب نظروا إلي المسألة علي أساس إمام مذهبهم فالأول والثاني من هذه الكتب اعتمدا علي رأي الإمام مالك - رضي الله عنه - كما أن الكتاب الخامس اتخذ من مذهب ابن تيمية مقياسا في حكمه، فخرج بنفس النتيجة التي خرج بها إمام مذهبه. وأما الإمام الشاطبي فقد أطنب وأسهب كثيرا في تأليفه ولم يركز علي نفس البدعة تحديدا ومصداقا. ودراسة البدعة تتوقف علي دراسة منهجية غير منحازة لمذهب خاص، وهذا يتوقف علي الاجتهاد الحر من دون أن يتخذ رأي إمام محورا ورأي إمام آخر مسندا بل ينظر إلي الكتاب والسنة وسيرة المسلمين نظرة عامة شمولية فاحصة. نعم لا تفوتنا الإشارة إلي الميزة الموجودة فيما كتبه الدكتور السعدي فقد أفاض الكلام في الجزئيات التي ربما وصفت بالبدعة وأثبت بدليل قاطع كونها غير بدعة، كما لا تفوتنا الإشارة بمنهجية البحث في كتاب الدكتور عزت علي عطية وقد نال به درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولي، ولكنه في بعض المواضيع افتقد الشجاعة الأدبية

ولم يتجرأ علي تجاوز السدود التي فرضتها عليه البيئة، فتري أنه يتوقف في التوسل بالنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) مع أنه قد تضافرت الروايات علي جوازه. وللجميع منا الشكر الجزيل، ولكن الحقيقة بنت البحث فلا عتب علينا إذا ناقشنا بعض آرائهم نتيجة الاجتهاد الحر، رزقنا الله توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد. 10 رمضان المبارك عام 1415 ه جعفر السبحاني [ صفحه 11] ألقينا الضوء علي موضوع البدعة ودرسناه بما يغني معرفة جميع جوانبه وطرحناه هنا في الفصول التالية: الفصل الأول: نصوص البدعة في الكتاب والسنة. الفصل الثاني: البدعة في اللغة والاصطلاح. الفصل الثالث: تحديد مفهوم البدعة ومقوماتها. الفصل الرابع: الابتداع في تفسير البدعة. الفصل الخامس: البدعة وأسباب نشوئها. الفصل السادس: تقسيم البدعة إلي حسنة وسيئة. الفصل السابع: تقسيم البدعة إلي عادية وشرعية. الفصل الثامن: تقسيم البدعة إلي حقيقية وإضافية. الفصل التاسع: لا بدعة في ما فيه الدليل نصا أو إطلاقا. الفصل العاشر: الخطوط العامة لحصانة الدين من الابتداع. الفصل الحادي عشر: كيفية التوصل إلي مكافحة البدع والقضاء عليها. الفصل الثاني عشر: مسائل عشر علي طاولة التطبيق. [ صفحه 13]

نصوص البدعة في الكتاب والسنة

اشاره

لقد اتفقت الأدلة الشرعية علي حرمة البدعة، وقد ذكرنا قسما وافرا من الآيات الكريمة في مقدمتنا التي تعرفت عليها ولا لزام لتكرارها، ونذكر هنا ما لم يرد هناك:

البدعة في الكتاب

1 - قال سبحانه: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) (الحديد - 27)، فالآية تعبر عن الرهبانية بأنها كانت من مبتدعات الرهبان ولم تكن مفروضة عليهم من قبل، وإنما تكلفوها من عند أنفسهم وسيوافيك تفسير الاستثناء في مبحث تحديد البدعة. 2 - قال سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلي الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (الأنعام - 159) وقد [ صفحه 14] فسرت الآية بأهل الضلالة وأصحاب الشبهات والبدع من هذه الأمة، قال الطبرسي: ورواه أبو هريرة وعائشة مرفوعا وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) فجعلوا دين الله أديانا لإكفار بعضهم بعضا وصاروا أحزابا وفرقا ويخاطب سبحانه نبيه بقوله: (لست منهم في شئ) وإنه علي المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معني من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معني من معانيهم الباطلة، وإن افترقوا في شئ فليس منهم في شئ لأنه برئمن جميعهم [2] . 3 - قال سبحانه: (قل هو القادر علي أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) (الأنعام - 65) والآية بعموم لفظها تبين أنواع النذر التي أنذر الله بها عباده، تبدأ من بعث العذاب من فوق، إلي بعثه من تحت الأرجل وتنتهي بتمزيق الجماعة إلي شيع، فتفرق الأمة إلي فرق وشيع يعادل إنزال العذاب عليها من كل جهاتها. قال الحسن البصري:

التهديد بإنزال العذاب والخسف يتناول الكفار وقوله: (أويلبسكم شيعا) يتناول أهل الصلاة [3] . وقال مجاهد وأبو العالية: إن الآية لأمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) أربع، ظهر اثنتان بعد وفاة رسول الله فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعضوبقيت اثنتان [4] . 4 - قال سبحانه: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة - 31). [ صفحه 15] يظهر مما رواه الطبري وغيره أنهم كانوا مشركين في مسألة التقنين، روي عن الضحاك: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) أي قراءهم وعلماءهم (أربابا من دون الله) يعني سادة لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم مما قد أحله الله لهم. وروي أيضا عن عدي بن حاتم قال: انتهيت إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وهو يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، فقال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلي، قال: " فتلك عبادتهم " [5] .

البدعة في السنة

لقد تعرفت في التقديم وبعده علي مجموعة من الآيات الواردة في البدعة وموبقاتها، وإليك ما ورد في السنة النبوية من نصوص وما رواه أئمة أهل البيت عن جدهم، ونقتصر علي قليل من كثير منها إذ يتعذر علينا نقلها جميعا. روي الفريقان حول البدعة والتشديد عليها روايات كثيرة نقتبس منها ما يلي: 1 - روي الإمام أحمد عن جابر قال: " خطبنا رسول الله فحمد الله وأثني عليه

بما هو أهل له ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهديهدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " [6] . [ صفحه 16] 2 - روي أيضا عن جابر قال: " كان رسول الله يقوم فيخطب فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة " [7] . 3 - روي أيضا عن عرباض بن سارية قال: " صلي بنا رسول الله الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بينة، قال: أوصيكم بتقوي الله... وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " [8] . 4 - روي ابن ماجة عن جابر بن عبد الله: " كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه ثم يقول: أما بعد فإن خير الأمور كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " [9] . 5 - روي مسلم في صحيحه: " كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إذا خطب: احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتي كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطي، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولي بكلمؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي " [10] . [ صفحه 17] 6 - روي النسائي قال: " كان رسول الله (صلي الله عليه

وآله وسلم) يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ثم قال: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي، (أو علي) وأنا أوليبالمؤمنين " [11] . 7 - روي ابن ماجة: " قال رسول الله: لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولاصلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهاد " [12] . 8 - قال رسول الله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [13] . قال الشاطبي: وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام لأنه جمع وجوهالمخالفة لأمره (عليه السلام) ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية [14] . 9 - روي مسلم عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله: من دعي إلي هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعي إلي ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " [15] . [ صفحه 18] 10 - روي مسلم عن جرير بن عبد الله: " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل

وزر من عمل بها ولاينقص من أوزارهم شئ " [16] . 11 - روي مسلم عن حذيفة أنه قال: " يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر؟قال: نعم، قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هداي... " [17] . 12 - روي مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة: " أن رسول الله خرج إلي المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون - إلي أن قال: - فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم! ألا هلم! ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدكم، فأقول: فسحقا! فسحقا! فسحقا! " [18] وعموم اللفظ يشمل أهل البدع أيضا. وإن لم يرتدوا عن الدين. هذا اثنا عشر حديثا رواه الحفاظ من المحدثين ولنقتصر بهذا المقدار من هذا الطريق. وأما ما رواه أصحابنا عن النبي الأكرم أو عن أئمة أهل البيت فحدث ولا حرج وربما تكون هناك وحدة في اللفظ واختلاف جزئي في التعبير. 13 - روي الكليني عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله: " إذا [ صفحه 19] ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله " [19] . 14 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " من أتي ذا بدعة فعظمه فإنما يسعي في هدم الإسلام " [20] . 15 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " أبي الله لصاحب البدعة بالتوبة " قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: " إنه قد أشرب في قلبه حبها " [21] . 16 - روي محمد بن مسلم عن أبي

جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: " أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن، أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولي فيها رجال رجالا، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف علي المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهناك يستولي الشيطان علي أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسني " [22] . 17 - روي الحسن بن محبوب رفعه إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إن من أبغض الخلق إلي الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلي نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدي به في حياتهوبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته " [23] . 18 - روي عمر بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم قال رسول الله: المرء [ صفحه 20] علي دين خليله وقرينه " [24] . 19 - وروي داود بن سرحان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعديفأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيع... " [25] . 20 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ما اختلفت دعوتان إلا كانتإحداهما ضلالة " [26] . 21 - وقال (عليه السلام): " ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة فاتقوا البدعوألزموا المهيع إن

عوازم الأمور أفضلها وإن محدثاتها شرارها " [27] . 22 - قال الإمام الصادق (عليه السلام): " من تبسم في وجه مبتدع فقدأعان علي هدم دينه " [28] . 23 - وقال (عليه السلام): " من مشي إلي صاحب بدعة فوقره فقد مشي في هدم الإسلام " [29] وقد روي أيضا باختلاف يسير " مضي " (تحت رقم 14). 24 - روي مرفوعا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول:" عليكم بسنة، فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة " [30] . وللإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وراء ما نقلناه كلمات درية في ذم البدعة، نقتبس ما يلي: 25 - فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدي فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به، [ صفحه 21] فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة [31] . 26 - وقال: " أوه علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرضفأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة " [32] . 27 - وقال أيضا: " إنما الناس رجلان: متبع شرعة، ومبتدع بدعة " [33] . 28 - وقال: طوبي لمن ذل في نفسه وطالب كسبه - إلي أن قال: - وعزل عنالناس شره وسعته السنة ولم ينسب إلي البدعة [34] . ختامه مسك: ونذكر حديثين عن رسول الله وبذلك يكون ختامه مسك. 29 - قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهروا في وجهه فإن الله ليبغض كل مبتدع ولا يجوز أحد منهم علي الصراط ولكن يتهافتون في النار مثل الجراد والذباب " [35]

. 30 - وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " قالوا: يا رسول الله وما الغش؟ قال: " أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها " [36] . هذا قسم مما وقفنا عليه من الروايات، وهي كثيرة يفوتنا حصرها. وقد نقل الشاطبي قسما وافرا من كلمات الصحابة والتابعين ومن أراد فليرجع إلي كتابه الإعتصام ونكتفي بهذا المقدار. [ صفحه 23]

البدعة في اللغة والاصطلاح

اشاره

لقد مضت نصوص الكتاب والسنة في حرمة البدعة وآثارها الهدامة، ولأجل تحديد مفهومها تحديدا دقيقا يلزم علينا نقل نصوص أهل اللغة في تفسير البدعة وكلمات الفقهاء والمحدثين حتي تلقي ضوءا علي ما نتبناه من الوقوف علي مفهوم البدعة. قال الخليل: البدع: إحداث شئ لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة... البدع: الشئ الذي يكون أولا في كل أمر كما قال الله: (ما كنت بدعا من الرسل) أي لست بأول مرسل. والبدعة اسم ما ابتدع من الدين وغيره، والبدعةما استحدث بعد رسول الله من الأهواء والأعمال [37] . وقال ابن فارس: البدع له أصلان: ابتداء الشئ وصنعه لا عن مثال،والآخر الانقطاع والكلال [38] . والمقصود في المقام هو المعني الأول. وقال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء والبدعة في [ صفحه 24] المذهب، إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمةوأصولها المتقنة [39] . وقال الفيروزآبادي: البدعة - بالكسر - الحدث في الدين بعد الإكمال، أوما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال [40] . إلي غير ذلك من الكلمات المماثلة لللغويين، ولا نطيل الحديث بنقل غير ما ذكر. والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأن البدعة في اللغة وإن كانت

شاملة لكل جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين، أم العادات، كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات وما شاكلها، ولكن البدعة التي ورد النص علي حرمتها هي ما استحدثت بعد رسول الله من الأهواء والأعمال في أمور الدين، وينص عليه الراغب في قوله: " البدعة في المذهب، إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه "، ونظيره قول القاموس: " الحدث في الدين بعد الإكمال ". كل ذلك يعرب عن أن إطار البدعة المحرمة، هو الإحداث في الدين، ويؤيده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلي النصاري بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إياها في الديانة المسيحية، قال سبحانه: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) (الحديد - 27). فقوله سبحانه: (ما كتبناها عليهم) يعني ما فرضناها عليهم ولكنهم نسبوها إلينا عن كذب. وأما التطوير في ميادين الحياة وشؤونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعا بل يتبع التطوير في الحياة جوازا ومنعا الحكم الشرعي بعناوينه فإن حرمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرم، وإلا فهو حلال لحاكمية أصل البراءة في العادات ما لم يرد دليل علي الحرمة، وسيوافيك تفصيلها في المستقبل. [ صفحه 25]

البدعة في اصطلاح العلماء

لا ريب أن البدعة حرام ولا يشك في حرمتها مسلم واع، لكن المهم في الموضوع تحديدها وتعيين مفهومها بشكل دقيق، حتي تكون قاعدة كلية يرجع إليها عند الشك في المصاديق، فإن واجب الفقيه رسم القاعدة وواجب غيره تطبيقها علي مواردها، وهذا الموضوع من أهم المواضيع فيها. وقد عرفت البدعة بتعاريف مختلفة، بين دقيق يحددها بالدقة ولا يتسامح فيها، وبين من يتسامح في تعريفها، وإليك بعضها: 1 - البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل

عليه، أما ما كان لهأصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة [41] . 2 - البدعة: أصلها ما أحدث علي غير مثال سابق، وتطلق في الشرع فيمقابل السنة فتكون مذمومة [42] . ويقول ابن حجر في موضع آخر: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها أي في حديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ": ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمي في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرعفليس ببدعة [43] . 3 - البدعة لغة: ما كان مخترعا، وشرعا ما أحدث علي خلاف أمر الشرعودليله الخاص أو العام [44] . 4 - البدعة في الشرع موضوعه الحادث المذموم [45] . [ صفحه 26] 5 - إن البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة، ومذمومة [46] . 6 - البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، وعرفه الشاطبي أيضا في مكان آخر بنفس ذلك وأضاف في آخره: " يقصد بالسلوك عليها: المبالغة في التعبد لله تعالي " [47] وما أضافه ليس أمرا كليا كما سيوافيك عند البحث عن أسباب نشوء البدعة ودواعيها. وهذه التعاريف، تحدد البدعة تحديدا وتصور لها قسما واحدا والمحدود في هذه التعاريف هو البدعة في الشرع والدين الإسلامي، والتدخل في أمر التقنين والتشريع. وهناك من حددها ثم قسمها إلي: محمودة ومذمومة، منهم من يلي: 1 - عن حرملة بن يحيي، قال: سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول: البدعة، بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم. 2 - وقال الربيع: قال الشافعي - رحمه الله

-: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا، فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخبر لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهي محدثة غيرمذمومة [48] . 3 - قال ابن حزم: البدعة في الدين، كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر - رضي الله عنه - " نعمت البدعة هذه - إلي أن قال: - ومنها ما يكون مذموما ولايعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة علي فساده فتمادي القائل به " [49] . [ صفحه 27] 4 - وقال الغزالي: وما يقال: إنه أبدع بعد رسول الله، فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته،بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب [50] . 5 - وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة: إعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهوبدعة حسنة وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة [51] . 6 - وقال ابن الأثير: البدعة بدعتان: بدعة هدي، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلم) فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحث عليه الله أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف

فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: " من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها " وقال في ضده: " ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها " وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلم). ومن هذا النوع قول عمر - رضي الله عنه -: " نعمت البدعة هذه (التراويح) " لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، سماها بدعة ومدحها، إلا أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر - رضي الله عنه - جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة، وهي علي الحقيقة سنة، لقوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " وقوله: " اقتدوا باللذين [ صفحه 28] من بعدي: أبي بكر وعمر " وعلي هذا التأويل يحمل الحديث الآخر " كل محدثة بدعة " إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذم [52] . هذه كلمات أعلام السنة وإليك ما ذكره أصحابنا في الموضوع مقتصرا بالأقل منها: 7 - قال السيد المرتضي: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسنادإلي الدين [53] . 8 - قال العلامة في المختلف: كل موضع لم يشرع فيه الأذان فإنه يكونبدعة [54] . 9 - قال

الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (ت - 786 ه): محدثات الأمور بعد عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تنقسم أقساما لا يطلق اسم البدعة عندنا إلا علي ما هو محرم منها [55] . ومع ذلك كله فقد خالف الشهيد كلامه في كتاب الذكري، وقال: 10 - إن لفظ البدعة غير صريح في التحريم فإن المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم تجدد بعده وهو ينقسم إلي: محرم ومكروه. 11 - قال الطريحي (ت - 1086 ه): البدعة: الحدث في الدين وما ليس له أصل في كتاب ولا سنة وإنما سميت بدعة لأن قائلها ابتدع هو نفسه، والبدع - [ صفحه 29] بالكسر والفتح -: جمع بدعة ومنه الحديث " من توضأ ثلاثا فقد أبدع " أي فعلخلاف السنة لأن ما لم يكن في زمنه (صلي الله عليه وآله وسلم) فهو بدعة [56] . 12 - وقال المجلسي (ت - 1110 ه): البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نص علي الخصوص ولا يكون داخلا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والأطعمة المحدثة فإنها داخلة في عمومات الحلية، ولم يرد فيها نهي. وما يفعل منها علي وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة علي الخصوص كان بدعة كما أن الصلاة خير موضوع ويستحب فعلها في كل وقت. ولو عين ركعات

مخصوصة علي وجه مخصوص في وقت معين صارت بدعة، وكما إذا عين أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص علي أنها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نص ورد فيها كانت بدعة، وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نص بدعة سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتهامبتدعة، ثم ذكر كلام الشهيد عن قواعده [57] . 13 - وقال المحدث البحراني (ت - 1186 ه): الظاهر المتبادر من البدعة لا سيما بالنسبة إلي العبادات إنما هو المحرم، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين (عليهما السلام): " إن كل بدعةضلالة وكل ضلالة سبيلها النار " [58] . [ صفحه 30] 14 - وقال المحقق الآشتياني (ت - 1322 ه): البدعة: إدخال ما علم أنه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنه أمر به الشارع [59] . 15 - وقال أيضا: البدعة: إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين [60] . 16 - وقال السيد محسن الأمين: البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له، ولو سلمنا حديث " خير القرون قرني " فإن أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتفاق وتقسيم بعضهم لها إلي حسنة وقبيحة، أو إلي خمسة أقسام ليس بصحيح، بل لا تكون إلا قبيحة، ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلة الشرع أوعمومها أو فحواها أو نحو ذلك وإن لم يكن موجودا في عصر النبي [61] . تلك ستة عشر نصا من كلمات مشاهير علماء

الإسلام، فمنهم من خص التعريف بالبدعة في الدين فجعله قسما واحدا، ومنهم عممها فقسمها، إلي ممدوحة ومذمومة، والحافز الوحيد إلي ذاك هو اقتفاء قول عمر في صلاة التراويح ولولا صدور ذاك التقسيم عنه لما خطر في بال هؤلاء ذاك التقسيم. ويبدو أن أوضح التعاريف ما نقلناه عن العلمين: الآشتياني والسيد الأمين، فإنهما - قدس سرهما - أتيا باللب، وحذفا القشر فمقوم البدعة، هو التصرف في الدين عقيدة وتشريعا بإدخال ما لم يعلم أنه من الدين فيه فضلا عما علم أنه ليس منه قطعا، والذي يؤخذ علي تعريفهما أنه لا يشمل البدعة بصورة النقص كحذف شئ من أجزاء الفرائض. [ صفحه 31]

تحديد مفهوم البدعة و مقوماتها

اشاره

إن الأمر المهم بعد الوقوف علي النصوص، هو تحديد مفهوم البدعة التي وقعت موضوعا للحكم الشرعي كسائر الموضوعات الواردة في المصدرين الرئيسيين، فما لم تحدد ولم نقف علي مفهومها الدقيق وعلي ما هو معتبر في صميمها عند الشرع، لا يمكن لنا تطبيق الحكم الكلي علي مصاديقها ومواضيعها. والذي حصل لدينا بعد دراسة الأدلة أن البدعة التي هي الموضوع لدي الشرع، تتمتع بقيود ثلاثة نذكرها بالتدريج: الأول: التدخل في الدين عقيدة وحكما، بزيادة أو نقيصة. الثاني: أن تكون هناك إشاعة ودعوة. الثالث: أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدع جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم. وإليك دراسة هذه القيود المكونة لمفهوم البدعة التي اتخذها الكتاب والسنة موضوعا للحكم: [ صفحه 32]

التدخل في الدين بزيادة أو نقيصة

هل إن الموضوع في المصدرين هو نفس البدعة أو خصوص البدعة في الدين؟ فلو قلنا بأن الموضوع نفس البدعة بسيطا، سواء كان الإحداث والإبداع راجعا إلي صميم الدين أو غيره، فيكون الحكم بحرمة ذلك الموضوع الواسع أمرا غير ممكن ولأجل ذلك لجأ أصحاب ذلك القول إلي تقسيمها إلي أقسام خمسة حسب انقسام الأحكام. وأما إذا كان الموضوع هو الأمر المركب، أي البدعة في الدين، فذلك له حكم واحد لا يقبل التخصيص ولا تعلم صحة أي النظرتين إلا بدراسة الآيات والروايات. إن دراسة ما سبق من النصوص تثبت بوضوح علي أن الموضوع في الكتاب والسنة هو البدعة في الدين لا مطلقها، فلو كان الكتاب والسنة يتكلمان فيها فإنما يتكلمان فيها باسم الدين والشريعة وعن البدعة فيهما، لأن كل متكلم إنما يتكلم في إطار اختصاصه ومقامه وحسب شأنه، فالكتاب العزيز كتاب إلهي جاء لهداية الناس إلي ما فيه مرضاة الله بتشريعه القوانين والسنن، والنبي الأكرم مبعوث

لتبيان ذلك الكتاب بأقواله وأفعاله وتقريراته قال تعالي: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل - 44). وعلي ضوء ذلك فإن الكتاب والسنة يتكلمان بتلك الخصوصية التي يمتلكانها، فإذا تكلما عن البدعة فإنما يتكلمان عن البدعة الواردة في حوزتهما وقيد الدين والشريعة وإن لم يذكرا في متون النصوص غالبا، لكنهما مفهومان من القرائن الموجودة فيها فلا عبرة بالإطلاق بعد القرائن الحافة علي الكلام، هذا ما نستنبطه من مجموع الخطابات الواردة في الأدلة قبل دراسة أي واحد منها تفصيلا. [ صفحه 33] وأما دراستها تفصيلا فإليك البيان: 1 - تضافرت الآيات علي ذم عمل المشركين حيث كانوا يقسمون رزق الله إلي ما هو حلال وحرام فجاء الوحي منددا بقوله: (قل أالله أذن لكم أم علي الله تفترون) (يونس - 59) وفي آية أخري يعد عملهم افتراء علي الله كما يقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب) (النحل - 116) ومن المعلوم أن المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلي الله سبحانه، وأنه سبحانه جعل منه حلالا وحراما، فكان عملهم بدعة في الدين. 2 - قد تعرفت في التقديم، أنه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل الله، بكونه كافرا وفاسقا، ومن المعلوم أن أحبار اليهود كانوا يحرفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به الله، بكونه حكم الله، قال سبحانه: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (البقرة - 79) فقوله: (هذا من عند الله) صريح في أنهم كانوا يتدخلون في الشريعة الإلهية فيعرفون ما ليس من عند الله علي

أنه من عند الله، وهذا يثبت بأن الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها. 3 - تري أنه سبحانه يذم الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم قال سبحانه: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) (الحديد - 27) ومعني الآية أنهم كانوا ينسبون الرهبانية إلي شريعة المسيح مدعين بأنه هو الذي شرع لهم ذلك العمل، والقرآن يردهم بقوله: (ما كتبناها عليهم). 4 - إنه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا رهبانهم وأحبارهم أربابا من دون الله، وقد فسره النبي الأكرم بأنهم كانوا يحرمون ما أحل الله فيتبعونهم أتباعهم، أو يحللون ما حرم الله عليهم فيقبلونه بلا تردد، ومن المعلوم أن [ صفحه 34] الأحبار والرهبان يعرفون ما تخيلوه من الحرام والحلال حكم الله سبحانه، وليس هذا إلا البدعة في الشرع، والتدخل في أمر الشريعة، وإذا تدبرت في هذه الآيات وأمثالها تقف علي أن الآيات تدور علي محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، ولا يضر عدم ذكر القيد في اللفظ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية. ثم إن في قوله: (إلا ابتغاء رضوان الله) وجهان: فمنهم من يجعله استثناء منقطعا، أي ما كتبا عليهم الرهبانية وإنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، ومنهم من يجعله استثناء متصلا، بمعني أنه سبحانه كتب عليهم أصل الرهبانية لأجل كسب رضوان الله ولكنهم لم يراعوا حقها. فتكون البدعة علي الأول نفس الرهبانية وعلي الثاني الخروج عن حدودها. هذا كله حول الآيات، وأما السنة، ففيها قرائن كثيرة تعطي نفس المفهوم الذي أعطته الآيات وإليك تلك القرائن: 1 - ففي الرواية الأولي: يبتدئ النبي كلامه بقوله: " أصدق الحديث كتاب الله

وأفضل الهدي هدي محمد " وهذا يدل علي أن ما اتخذه النبي موضوعا للبحث هو ما يرجع إلي كتاب الله وهدي نبيه، فإذا قال بعده: " وشر الأمور محدثاتها " يكون المراد أي ما دخل في الشريعة من أمور، وإذا قال: " كل بدعة ضلالة أي البدعة فيما يتكلم عنه، ومن المعلوم أنه يتكلم عن دعوته وشريعته، فتحوير كلامه إلي مطلق البدعة وإن لم يمس الكتاب والسنة، تأويل للظاهر بلا دليل. 2 - ثم إنه (صلي الله عليه وآله وسلم) يحكم علي كل بدعة بالضلال، ومن المعلوم أنه لا يصدق إلا علي البدعة في الشريعة وأما غيرها فهي علي أقسام كما قالوا. 3 - روي مسلم في صحيحه أن رسول الله إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش ثم يقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد الخ " ومن المعلوم أن الأرضية الصالحة لثوران غضبه ليس إلا تدخل المبتدع في شريعته، لا مطلق التدخل في شؤون الحياة وإن لم تمس [ صفحه 35] دينه، خصوصا إذا كان في مصلحة الإنسان. 4 - إنه (صلي الله عليه وآله وسلم) وصف البدعة بالضلالة وقال: " إن صاحبها في النار " ولا تصدق تلك القاعدة إلا علي صاحب البدعة في الشريعة. 5 - إنه (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما رأي أن رجالا يذادون عن حوضه فأخذ يناديهم بقوله: " ألا هلم ألا هلم ألا هلم " فإذ ينادي المنادي بقوله: " إنهم قد بدلوا بعدك " فيقول النبي: " فسحقا! فسحقا! فسحقا! " ومن المعلوم أنه قد بدلوا دين الرسول وشريعته وإلا لما كانوا مستحقين دعاءه بقوله:

" فسحقا... ". 6 - دلت الروايات السابقة علي أنه إذا ظهرت البدع في الأمة فعلي العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله. 7 - كما دلت علي أن صاحب البدعة لا تقبل توبته. 8 - وإن من زار ذا بدعة فقد سعي في هدم الإسلام. 9 - وأوضح من الكل ما خطب الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: " إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع يخالف كتاب الله ". 10 - وفي رواية أخري: ما أحدثت بدعة إلا تركت فيها سنة، فاتركوا البدعوالزموا المهيع إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها [62] . 11 - هذا ما تعطيه نصوص الكتاب والسنة، وتليهما نصوص لفيف من أهل اللغة الذين سبقت نصوصهم نظير: قول الخليل: والبدعة: ما استحدثت بعد رسول الله. وقول الراغب: البدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة. [ صفحه 36] وقول الفيروزآبادي: البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال. وتليه نصوص لفيف من الفقهاء نظير قول ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه. وقول ابن حجر العسقلاني: البدعة: ما أحدث وليس له أصل في الشرع. وقول ابن حجر الهيتمي: البدعة: ما أحدث علي خلاف أمر الشارع ودليله الخاص.وقول الزركشي: البدعة الشرعية: هي التي تكون ضلالة [63] . ومن يدرس هذه النصوص جليلها ودقيقها يقف علي أن موضوع البحث في مجموع الأدلة هو الأمر الذي يمت إلي الشريعة بصلة، وأن الله سبحانه ونبيه الصادع بالحق يهيبان بالمجتمع الإسلامي عن البدعة والكذب علي الله والتدخل في الكتاب والسنة والتلاعب بما أنزل الله في

مجالي العقيدة والشريعة، وهذا أمر واضح لا سترة عليه، وبذلك يختلف اتجاهنا في تفسير النصوص عن غيرنا. فإذا ثبت ذلك تقف علي أن البدعة ليس لها إلا قسم واحد ولها حكم واحد لا يخصص ولا يقيد بل هو بمثابة لا يقبل التخصيص، وهذا نظير قوله سبحانه: (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان - 23) فإن تلك القاعدة لا تقبل التخصيص أي يمتنع تجويز الظلم والشرك في مكان دون مكان، نظير قوله سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) (القلم - 35). ثم إن ما توصلنا إليها من نتيجة قد توصل إليها الشاطبي بطريقة أخري نأتي بموجزها: [ صفحه 37] " قال: الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها - إلي أن قال: - فاعلموا - رحمكم الله - أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة علي كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدي، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا. ولا شئ من هذه المعاني، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان، أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدل علي أن تلك الأدلة بأسرها علي حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد. الثاني: أنه قد ثبت في الأصول أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتي بها شواهد علي معان أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها وإعادة تقررها، فذلك دليل علي بقائها علي مقتضي

لفظها من العموم كقوله تعالي: (ألا تزر وازرة وزر أخري - وأن ليس للإنسان إلا ما سعي) (النجم - 38 - 39)، فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة علي أن البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث، تقييد ولا تخصيص، ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها. الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم علي ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها - إلي أن قال: - فهو بحسب الاستقراء، إجماع ثابت، فدل علي أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل. الرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه، لأنه من باب مضادة الشارع [ صفحه 38] واطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلي حسن وقبيح [64] . وأن يكون منه ما يمدح منه وما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسانمشاقة الشارع [65] . إلي هنا تم الكلام في تحديد البدعة من حيث كون الموضوع بسيطا ومركبا، ويترتب عليه أنه لا تعم البدعة غير الشريعة كالعادات والصناعات والاعلام وغيرها، بل يستخرج حكمها من الكتاب والسنة بنفس عناوينها، لا بما هي بدعة، فربما تكون حلالا وأخري حراما، لكن ليس كل حرام بدعة، كما سيوافيك بيانه.

البدعة إشاعة و دعوة

إذا كانت البدعة هي إدخال ما ليس في الدين فيه أو نقصه منه في مجال العقيدة والشريعة، فهل يتحقق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل، وحده في بيته ومنزله، كأن يزيد في صلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئا، أو أنه ليس ببدعة وإن كان عمله باطلا وبفعله عاصيا؟ بل

إنما البدعة تتوقف علي إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة، أو عمل غير مشروع في المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنه من الشرع، ولك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات والروايات، فإن عمل المشركين في التحليل والتحريم لم يكن عملا شخصيا في الخفاء، بل إن المبتدع الأول قد أحدث فكرة وأشاعها، ودعا الناس إليها، كما كان الحال كذلك في الرهبان والأحبار، ويشهد علي ذلك بوضوح ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول [ صفحه 39] الله: (صلي الله عليه وآله وسلم) من دعا إلي هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إليضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا [66] . ويدل عليه قول القائل يوم القيامة: " إنهم قد بدلوا بعدك " فإن تبديل الدين، ليس عملا شخصيا بل هو عمل جماعي، إلي غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات. إلي هنا خرجنا بنتيجتين: الأولي: أن مصب البدعة في الأدلة هو الدين والشرع. الثانية: أن البدعة لا تنفك عن الدعوة إلي الباطل. وإليك بيان القيد الثالث.

عدم وجود أصل لها في الدين

العنصر الثالث المقوم لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل علي جواز العمل لا في الكتاب ولا في السنة وذلك ظاهر، إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل، لما كان أمرا جديدا في الدين أو تدخلا في الشرع، ولأجل ذلك قلنا: إن أفضل التعاريف هو قولهم: " إدخال ما ليس من الدين في الدين " أو " إدخال ما لم يعلم من الدين في الدين " وبعبارة واضحة، البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نص علي

الخصوص ولم يكن داخلا في بعض العمومات، وإن شئت قلت: إحداث شئ في الشريعة لم يرد فيه نص، سواء كان أصله مبتدعا، كصوم عيد الفطر، أو خصوصيته مبتدعة كالإمساك إلي غسق الليل ناويا به الصوم المفروض [ صفحه 40] معتقدا بأنه الواجب في الشرع، وفي النصوص السابقة للعلماء تصريح علي ذلك. قال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالبدعة، ما أحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة. قال ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعةلغة [67] . وقال العلامة المجلسي: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ولم يرد فيه نص علي الخصوص ولا يكون داخلا في بعضالعمومات أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما [68] . وعلي ضوء ذلك تنحل هناك عويصة المصاديق التي ربما تعد من البدعة لأجل عدم ورود نص خاص فيه ولكن تشمله العمومات بصورة كلية، فهذا لا يكون بدعة. وذلك لأنه لو كان هناك نص خاص لأخرجه عن البدعة وهذا واضح جدا، أما إن لم يكن هناك نص خاص ولكن العمومات تشمله بعمومها، فهذا ما نوضحه بالمثال التالي: إن الدفع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال - 60) فإن قوله: (من قوة) مفهوم كلي يشمل عامة كيفية الدفاع ونوع السلاح وشكل الخدمة العسكرية المتبعة كل عصر ومصر، فالجميع برمته هو تطبيق لهذا

المبدأ، وتجسيد لهذا الأصل، فالتسلح بالغواصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة [ صفحه 41] إلي غير ذلك من أدواة الدفاع، ليس بدعة بل تجسيد لهذا الأصل ومن حلاله. إن من يرم التجنيد العسكري بأنه بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال فإن الإسلام يأمر بالأصل ويترك الصور والأشكال لمقتضيات العصور. إلي هنا خرجنا بلزوم قيود ثلاثة في تحقق البدعة وصدقها: 1 - أن يكون تدخلا في الشريعة وتصرفا فيها عقيدة وحكما. 2 - أن تكون هناك إشاعة بين الناس. 3 - أن لا يكون هناك أصل علي المشروعية لا خاصا ولا عاما. ويجمع الكل " القول في الدين بغير علم علي الأغلب، بل مع العلم بالخلاف ولكن يقدم رأيه عليه، بظن الإصلاح أو غيره من الحوافز ". هذا هو تحديد البدعة بمفهومها الدقيق الذي نتخذه قاعدة كلية، ونستكشف به حال الموضوعات التي تضاربت فيها الأقوال والأفكار بين موسع ومضيق وسيوافيك شرحها. [ صفحه 43]

الابتداع في تفسير البدعة

ما لم يكن في القرون الثلاثة

ارتحل النبي الأكرم إلي الرفيق الأعلي بعد أن أكمل الشريعة وبين جليلها ودقيقها وما تحتاج إليه الأمة إلي يوم القيامة، قال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة - 4) وحفاظا علي دينه وصيانته من التحريف والتبديل، أمر التمسك بالثقلين ولم يرض للأمة غيرهما لئلا يكون الدين ألعوبة بأيدي المغرضين والطامعين، والمقياس في تميز البدعة عن السنة هو الرجوع إلي الثقلين سواء أفسر بالكتاب والعترة كما هو المتضافر، أم بالكتاب والسنة كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند مرسل [69] ، والحديثان متقاربا المضمون، لأن العترة لا تنشد إلا السنة النبوية، أخذها كابر عن كابر إلي أن تصل إلي النبي الأكرم، فما وافقهما فهو سنة وما

خالفهما فهو بين [ صفحه 44] معصية وبدعة، مع الفرق الواضح بينهما فلو أذيعت الفكرة أو العمل بين الناس فتصير بدعة، وإن اكتفي بها من دون دعوة وإشاعة فهي معصية. ومن العجب أن أناسا صاروا بتحديد البدعة وتمييزها عن السنة، وقد جاءوا في تحديدها ببدعة وفرية جديدة لا دليل لها في الكتاب والسنة، وهي أن المقياس في تمييز البدعة عن السنة هو القرون الثلاثة الأولي بعد رحيل الرسول. فما حدث فيها فهو سنة وما حدث بعدها فهو بدعة، وإن تعجب فإليك نص القائل: ومما نحن عليه، أن البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقة خلافا لمن قال: حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام إلا إن أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة وتكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمةوالمكروهة فلا بأس بهذا الجمع [70] . وهذه النظرية الشاذة عن الكتاب والسنة، نظرية خاصة استنتجها القائل مما رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبي وإليك نصهما. روي البخاري قال: سمعت عمران بن الحصين يقول: قال رسول الله: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوما، يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن. وروي أيضا عن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يجيئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا علي الشهادة والعهد ونحن صغار [71] . [ صفحه 45] إن الاحتجاج بهذه الرواية علي أن الميزان في

تمييز البدعة عن السنة، هو أن كل ما حدث في القرون الثلاثة الأولي فليس ببدعة، وأما الحادث بعدها فهو بدعة، باطل بوجوه: الأول: إن القرن في اللغة هو النسل [72] وبهذا المعني استعمل في القرآن الكريم قال سبحانه: (فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) (الأنعام - 6) وبما أن المتعارف في عمر كل نسل هو الستون أو السبعون، يكون المراد، مجموع تلك السنين التي تتراوح بين 180 و 210 وأين هو من تفسير الحديث بثلاثمائة سنة؟! الثاني: إن شراح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية، وعلي كل تفسير لا يستفاد منها ما يتبناه الكاتب، فمن قائل إلي أن المراد من القرن في قوله: " قرني " هو أصحابه ومن " الذين يلونهم " أبناءهم ومن " الثالث " أبناء أبنائهم. إلي آخر بأن قرنه ما بقيت عين رأته، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثم كذلك.إلي ثالث أن قرنه الصحابة، والثاني التابعون والثالث تابعوهم [73] . وعلي كل تقدير تكون المدة أقل من ثلاثة قرون، فمثلا نأخذ بالقول الأخير الذي هو أعم الأقوال وأوسعها. فإن آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته علي أقوال: أنه توفي سنة 120 ه أو دونها أو فوقها بقليل، وأما قرن التابعين ف آخر من توفي منهم كان عام 170 ه أو 180 ه وآخر من عاش من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من توفي حدود 220 ه، فيقل عن ثلاثة قرون بثمانين سنة وهذا [ صفحه 46] كثير جدا، ولأجل عدم انطباقه علي ثلاثة قرون قال ابن حجر العسقلاني: وفي هذا الوقت (220 ه) ظهرت البدع فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت

الفلاسفة رؤوسها، وأمتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوالتغيرا شديدا ولم يزل الأمر في نقص إلي الآن [74] . ولو افترضنا أن القرن يستعمل في مائة سنة فلا يصح تفسير الحديث به، لأن المحور في الحديث في تمييز قرن عن قرن آخر هو الأشخاص حسب أعمارهم، فعلي ذلك يجب أن يكون الملاك في تبادل القرون وتمايزها ملاحظة من كانوا يعيشون فيه حيث قال: " خير أمتي قرني " ولم يقل القرن الأول ثم قال " ثم الذين يلونهم " فلم يقل ثم القرن الثاني وقال: " ثم الذين يلونهم " ولم يقل القرن الثالث، فلا محيص عند حساب السنين ملاحظة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في قرنه والقرنين اللذين يليانه. الثالث: ماذا يراد من خير القرون وشرها، وما هو الملاك في الوصف بالخير والشر؟ فإن هناك ملاكات ثلاثة للخير والشر للوصف بهما وكل محتمل: 1 - فإن أهل القرن الأول كانوا خير القرون لأجل أنه لم يدب فيهم دبيب الخلاف في الأصول والعقائد، وكانوا متماسكين في الأصول متحدين في العقائد. 2 - كونهم خير القرون لأجل سيادة الطمأنينة عليهم وكان الجميع متظلل بظل الصلح والسلم إخوانا. 3 - كونهم خير القرون لأجل تمسكم بأهداف الدين في مقام العمل وتطبيق الشريعة. وأي واحد أريد من هذه الملاكات، فالقرآن والسنة والتاريخ القطعي لا [ صفحه 47] يدعمه بل يكذبه، وإليك البيان: فإن كان الملاك، العقائد الصحيحة والباطلة وأن المسلمين كانوا متمسكين جملة واحدة، بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأولي ثم ظهرت رؤوس الشياطين ودبت فيهم المناهج الكلامية الفاسدة - فإن كان الملاك هذا - فتاريخ الملل والنحل لا يصدق ذلك بل ويكذبه، فإن الخوارج ظهروا بين

الثلاثين والأربعين من القرن الأول وكانت لهم ادعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضبوا في طريقها وجه الأرض، ولم يتم القرن الأول إلا ظهرت المرجئة الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلي الانحلال الأخلاقي رافعين عقيرتهم بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، فقد ضلوا وأضلوا كثيرا حتي دب الإرجاء بين المحدثين وغيرهم في القرنالثاني وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي [75] . كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلي الانحلال الأخلاقي والفوضي في جانب العمل إلي أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 105 ه قبل وفاة الحسن البصري بقليل، فتوسع الشقاق بين المسلمين وقسمهم إلي فرق كثيرة، وكان النزاع قائما علي قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال عن طريق واصل بن عطاء إلي أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه علي الاعتزال. إن القرن الثاني كان عصر ازدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار ميدانا لتضارب الأفكار. فمن متزمت يقتصر في وصفه سبحانه بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ويفسرها بمعانيها الحرفية، من دون إمعان وتدبر، ويرفع صوته بأن لله يدا ووجها ورجلا وأنه مستقر علي عرشه. إلي مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول، ويقدمه ويؤخر العمل يسوق المجتمع [ صفحه 48] إلي الانحلال الخلقي وترك الفرائض. إلي محكم يكفر كل الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته الذين كانوا يبغضون الخليفتين عثمان وعليا وكانوا يكفرون الصديق الأعظم علي (عليه السلام). إلي معتزلي يؤول الكتاب والسنة إلي ما يوافق معتقده وعقليته. إلي جهمي ينفي صفات الله كلها، وينفي الاستطاعة والقدرة عن الإنسان ويحكم بفناء الجنة والنار. وقد هلك جهم بن صفوان عام 128 ه. إلي كرامي يقول: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن، وإنه سبحانه جسم لا كالأجسام. وقد هلك

" كرام " عام 255 ه. إلي غير ذلك من المناهج الرجعية التي أفسدت المسلمين والمجتمع الإسلامي بعقائدها الفاسدة، فكيف يمكن - من هذا الجانب - وصف هذه القرون خيرا؟! هذا إذا كان الملاك في الوصف بالخير وحدة، المسلمين في العقيدة. وإن كان الملاك صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الطمأنينة علي المسلمين فهذا ما يكذبه التاريخ، فإن القرن الأول كان صحيفة سوداء في التاريخ الإسلامي، وكان قرنا دمويا لم ير التاريخ مثله. فكيف يكون خير القرون؟! وأي يوم فيه كان يوم صفاء وصلح؟! أيوم قتل فيه الخليفة عثمان بن عفان في عقر داره بمرآي ومسمع من المهاجرين والأنصار؟ أيوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي وقد عقب ذلك ترميل النساء وإيتام الأطفال وحدوث الأزمة والشدة؟ أيوم صفين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام علي (عليه السلام) الذي [ صفحه 49] بايعه المهاجرون والأنصار، بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فظهر صدام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الألوف إلي أن انتهت إلي التحكيم؟ أيوم ظهر الخوارج علي الساحة الإسلامية يغيرون ويقتلون الأبرياء إلي أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟ أيوم أغير علي آل رسول الله بكربلاء وقتل فيه أبناء المصطفي وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنة، وسبيت بنات الزهراء ومن معهن من نساء أهل البيت حتي لم يبق بيت له برسول الله صلة إلا وقد ضجت فيه النوائح وعمته الآلام والأحزان؟ أيوم أبيحت فيه مدينة رسول الله في وقعة الحرة الشهيرة فقتل الأصحاب والتابعون ونهبت الأموال، وبقرت بطون الحوامل، وهتكت الأعراض، حتيولدت الأبكار لا يعرف من أولادهن؟ [76] . أيوم

حاصر جيش بني أمية مكة المكرمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة لأجل القضاء علي عبد الله بن الزبير؟ أيوم تسلم عبد الملك بن مروان منصة الخلافة وقد عين الحجاج بن يوسف عاملا علي العراق، فسفك دماء طاهرة وقتل الأبرياء وزج بالسجون رجالا ونساء من دون أن تظلهم مظلة تقيهم حر الشمس وبرد الليل القارص؟ هذا وبعد لم يتم القرن الأول وهذه نماذج من حوادث دموية وقعت فيه، فكيف يمكن أن يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلا أن سيرته، من سيرة أمته التي وقفت علي [ صفحه 50] صورة مجملة من سيرتها الدموية [77] . وإن كان الملاك هو تمسكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع فهو أيضا لم يكن متحققا، وإن شئت فارجع إلي ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فإن كثيرا ممن رأي النبي الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل أصبح البعض مرتدا عن دين الإسلام لولا أن الخليفة الأول قام بقمعهم ورد عاديتهم. لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدث القرآن الكريم، حيث يعرف قوما أفضل وأعرف بمواقع الإسلام ممن كان في حضرة النبي من الصحابة الكرام، يقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (المائدة - 54) قل لي من هؤلاء الذين يعتز الله بهم سبحانهويفضلهم علي أصحاب النبي؟ فلاحظ التفاسير [78] . لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان

أم نؤمن بما رواه نفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول الله: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيهلئون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوابعدك إنهم ارتدوا علي أدبارهم القهقري [79] . [ صفحه 51] هل نؤمن بهذا الحديث أم نؤمن بما رواه المؤرخون في حياة الوليد بن عقبة وهو الذي وصفه سبحانه بكونه فاسقا وقال: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (الحجرات - 6) وقد أطبق المفسرون في نزولها علي الوليد بن عقبة. هذا وقد ولي الكوفة أيام خلافة الخليفة الثالث فشرب الخمر وقام يصلي بالناس صلاة الفجر فصلي أربع ركعات، وكان يقول في ركوعه وسجوده: اشربي واسقني، ثم قاء في المحراب ثم سلم وقال: هل أزيدكم إليآخر ما ذكره [80] . وليس الوليد شخصا وحيدا بين من عاصر النبي الأكرم، بل كان فيهم أصناف مختلفة لا يمكن الحكم باستقامتهم فضلا عن الحكم بعدالتهم. فقد كان فيهم المنافقون المعروفون بالنفاق [81] والمختفون به [82] ومرضي القلوب [83] والسماعون كالريشة في مهب الرياح [84] وخالطوا العمل الصالح بالسيئ [85] والمشرفون علي الارتداد [86] والمسلمون غير المؤمنين [87] والمؤلفةقلوبهم [88] والمولون أمام الكفار [89] والفاسق [90] . نحن نترك تفسير الحديث إلي آونة أخري ولعل المحققين يجدون له تفسيرا ينطبق علي التاريخ القطعي المشهور والملموس. [ صفحه 52]

الابتداع في تفسير البدعة

إن من البدعة في تفسيرها، هو جعل السلف معيارا للحق والباطل والإصرار عليه، تري أن كثيرا ممن ينتمون إلي السلفية يصفون كثيرا من الأمور بالبدعة بحجة أنها لم تكن في عصر الصحابة والتابعين، وهذا ابن تيمية يصف الاحتفال في مولد النبي بدعة بحجة أنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضي

له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا وهم علي الخيرأحرص [91] . ويقول في حق القيام للمصحف وتقبيله: " لا نعلم فيه شيئا مأثورا عنالسلف " [92] . وقد ورث هذه الفكرة كثير ممن يؤمن بمنهجه، وهذا هو عبد الله بن سليمان ابن بليهد الذي قام باستفتاء علماء المدينة بتخريب قباب الصحابة وأئمة أهل البيت في بقيع الغرقد عام 1344 ه وقد نشر مقالا في جريدة أم القري في عدد جمادي الآخر سنة 1345 ه وجاء فيها قوله: لم نسمع في خير القرونأن هذه البدعة: البناء علي القبور، حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة [93] . وبدورنا نشكر الشيخ ابن بلهيد حيث وسع الأمر علي المسلمين وأدخل عليها قرنين آخرين بعدما قصر مؤلف الهدية السنية العصمة علي أهل القرون الثلاثة الأولي، ولكن نهيب بصاحب المقال بأن المسلمين وفي مقدمتهم عمر بن [ صفحه 53] الخطاب - رضي الله عنه - قد فتحوا القدس وفيها مقابر الأنبياء ومقام إبراهيم ويعقوب وأولادهم وعليها قباب وأبنية ولم يدر بخلد أحد، حتي الخليفة بأنها بدعة كي يهدموها بمعاولهم. إن هناك كلاما جميلا للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد ألف كتابا باسم " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي " وقد أدي فيه حق المقال، نقتطف منه ما يلي: إن من الخطأ بمكان أن نعمد إلي كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحا جديدا، طارئا علي تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، ألا وهو " السلفية " فنجعله عنوانا مميزا تندرج تحته فئة معينة من المسلمين، تتخذ لنفسها من

معني هذا العنوان وحده مفهوما معينا، وتعتمد فيه علي فلسفة متميزة، بحيث تغدوا هذه الفئة بموجب ذلك، جماعة إسلامية جديدة، في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولاتها بل تختلف عنهم حتي بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلا. بل إنما لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة ولا الخلف الملتزم بنهجه. فإن السلف - رضوان الله عليهم - لم يتخذوا من معني هذه الكلمة بحد ذاتها مظهرا لأي شخصية متميزة، أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم، يميزهم عمن سواهم من المسلمين، ولم يضعوا شيئا من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلة. بل كان بينهم وبين من نسميهم اليوم بالخلف منتهي التفاعل وتبادل [ صفحه 54] الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تم الاتفاق عليه، والاحتكام إليه، ولم يكن يخطر في بال السابقين منهم ولا اللاحقين بهم أن حاجزا سيختلق ليرتفع ما بينهما، بصنع طائفة من المسلمين فيما بعد، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية إلي فريقين، يصبغ كلا منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات، بل كانت كلمتا السلف والخلف في تصوراتهم لا تعني - من وراء الانضباط بالمنهج الذي ألمحنا إليه - أكثر من ترتيب زمانيكالذي تدل عليه كلمتا: (قبل وبعد) [94] . إن ما ذكره هذا المحقق هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه من له إلمام بالكتاب والسنة وسيرة المسلمين وتاريخهم، وأين هذا وما ذكره الدكتور سيد الجميلي حيث جعل للسلفية والسلف

حقيقة شرعية وقال: كلمة السلفية والسلف مصطلحان شرعيان [95] وليس هذا الاشتباه منه ببعيد لضآلة علمه بالتاريخ وإن كنت في شك فانظر كيف فسر الأشاعرة بقوله: هم من أتباع أبي موسي الأشعري المتوفي سنة 44 ه مع أنهم من أتباع أبي الحسن الأشعري المولود عام 260 ه والمتوفي عام 324 ه وهو من أحفاد أبي موسي الأشعري، فهذا مبلغ علمه ويريد أن يقضي به بين الفقهاء والمجتهدين والمحدثين!! [ صفحه 55]

البدعة و أسباب نشوئها

اشاره

البدعة عمل اختياري للمبدع ولها - كسائر الأفعال الاختيارية - أسباب وغايات يعد الجميع مناشئ لها ولا توجد البدعة إلا في ظل أسباب وغايات، ومن خلال عرض النصوص الدينية وما دخل في التاريخ من بدع، يمكن التوصل إلي ما نتبناه في هذا الفصل.

المبالغة في التعبد لله تعالي

هذا العنوان ذكره الشاطبي لدي تعريفه للبدعة، حيث قال: " طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تبارك وتعالي " [96] . وهذا وإن لم يكن أمرا كليا صادقا في جميع مواردها لكنه أحد أسباب نشوء البدع، كما يشهد له التاريخ، ولعل من هذا المنطلق استأذن عثمان بن مظعون النبي في [ صفحه 56] الإخصاء فقال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): " ليس منا من خصي أو اختصي إن اختصاء أمتي الصيام "، إلي أن قال: ائذن لي في الترهب، قال: " إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة " [97] فإن المبتدع ربما يتصور أن ما اخترعه من طريقة توصله إلي رضا الله سبحانه أكثر مما رسمه صاحب الشريعة، فلأجل ذلك يترك قول الشارع ويعمل طبق فكرته ويذيع ذلك بين الناس باسم الشرع، ولهذا أيضا شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي: أ - روي جابر بن عبد الله: إن رسول الله كان في سفر فرأي رجلا عليه زحام قد ظلل عليه فقال: " ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال (صلي الله عليه وآله وسلم): " ليس من البر الصيام فيالسفر " [98] . ب - روي الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة إلي مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة،

فلما انتهي إلي كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثم أفطر الناس معه وثم أناس علي صومهم فسماهم رسول الله العصاة وإنما يؤخذ بآخرأمر رسول الله [99] . فإن الإنسان المتزمت يتخيل أنه لو سافر صائما يكن عمله أكثر قبولا عند الله تبارك وتعالي، ولكنه غافل عن مناطات التشريع وملاكاتها العامة التي توجب الإفطار في السفر ليكون الدين رفقا بالإنسان يجذب الناس إليه، قال سبحانه: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج - 78). ج - روي مالك في الموطأ: إن رسول الله رأي رجلا قائما في الشمس فقال؟ [ صفحه 57] " ما بال هذا؟ " قال: نذر ألا يتكلم ولا يستظل من الشمس ويصوم، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " مره فليتكلم وليستظل وليجلس وليتمصيامه " [100] . د - روي البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل رسول الله علي امرأة فرآها لا تتكلم فقال: " ما لها؟ " فقيل: حجة مصمتة، فقال لها: " تكلمي فإن هذا لايحل، هذا من عمل الجاهلية " فتكلمت [101] . ه - إن متعة الحج مما نص عليها الكتاب العزيز فقال: (ومن تمتع بالعمرة إلي الحج فما استيسر من الهدي) (البقرة - 196) والمقصود من متعة الحج هو حج التمتع، وهو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات، فيأتي مكة ويطوف بالبيت ثم يسعي بين الصفا والمروة ثم يقصر ويحل من إحرامه، فيقيم بعد ذلك محلا حتي ينشئ في تلك السنة نفسها إحراما آخر للحج من مكة ويخرج إلي عرفات، ثم يفيض إلي المشعر الحرام ثم يأتي بأفعال الحج علي ما هو

مبين في محله، هذا هو التمتع بالعمرة إلي الحج وهو فرض بعد عن مكة بثمانية وأربعين ميلا من كل جانب، وإنما أضيف الحج بهذه الكيفية إلي التمتع (حج التمتع) أو قيل عنه: التمتع بالحج، لما فيه من المتعة أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين. ولكن كان بين صحابة النبي من يستكره ذلك، روي الدارمي قال: سمعت عام حج معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلي الحج؟ قال: حسنة جميلة، فقال: قد كان عمر ينهي عنها فأنت خير من عمر؟ قال: عمرخير مني وقد فعل ذلك النبي هو خير من عمر [102] . [ صفحه 58] وروي الترمذي قال: حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك ابن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلي الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالي. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهي عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وصنعناها معه، هذا حديث صحيح. وروي ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلي الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهي عنها. فقال: ويلك! فإن كان أبي نهي عنها وقد فعله رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول

الله(صلي الله عليه وآله وسلم)؟! قم عني [103] . ولأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة والحج، مع أن النبي أمر بإحرامين: إحرام للعمرة ثم يتحلل ويتمتع بمحظورات الإحرام ثم يحرم للحج، وما هذا إلا لزعم أن ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالي وقد برر فتواه بعد الاعتراف، بأن عمرة التمتع سنة رسول الله بقوله: ولكننيأخشي أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا [104] . هذه نماذج من كثير مما تعرض إليها التاريخ في شتي المناسبات، والجامع لذلك هو المبالغة في التعبد لله - حسب زعمه - وهي ناشئة عن قلة استيعاب المبتدع علي ما يجب أن يعرفه، فإن الله سبحانه أعرف بمصالح العباد ومفاسدهم [ صفحه 59] وبأسباب السعادة والشقاء ولا يشذ عن علمه شئ، وكم فيالتاريخ الإسلامي شواهد واضحة علي هذا النوع من السبب [105] .

اتباع الهوي

إن استعراض تاريخ المتنبئين الذين ادعوا النبوة عن كذب ودجل، يثبت بأن الأهواء وحب الظهور والصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة وظهورها علي صعيد الحياة، والمبتدع وإن لم يكن متنبئا إلا أن عمله شعبة من شعب التنبؤ، وفي الروايات إشارات وتصريحات علي ذلك. خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولي فيهارجال رجالا... [106] . إن لحب الظهور دورا كبيرا في الحياة الإنسانية فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدت بالإنسان إلي ادعاء مقامات ومناصب تختص بالأنبياء، ولعل بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأولي كانت ناشئة عن تلك الغريزة. روي ابن أبي الحديد في شرح النهج أن عليا مر بقتلي الخوارج

فقال: بؤسا لكم لقد ضركم من غركم، فقيل: ومن غرهم؟ فقال: الشيطان المضل، والنفس الأمارة بالسوء، غرهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الإظهارفاقتحمت بهم النار [107] . [ صفحه 60]

حب الاستطلاع إلي ما هو دونه

إن حب الاستطلاع من نعم الله سبحانه، إذ في ظله يقف الإنسان علي مجاهيله ويكتشف معلومات تهمه في حياته، ولولا ذلك الحب لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم والمعرفة قال سبحانه: (الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل - 78) ومع اشتراك الكل في تلك النعمة المعنوية إلا أن الطاقات الكامنة لدي الإنسان تختلف من واحد إلي آخر، فليس لكل إنسان قابلية التطلع إلي كل شئ واستعراض جميع المجاهيل، ولأجل ذلك ربما أدي ذلك العمل إلي الزلة في الفكر والمعتقد، ولذلك تري عليا (عليه السلام) ينهي عن الغور في القدر فيقول:" طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه " [108] . ولكن الإمام نفسه تكلم في مواضيع أخر عن القضاء والقدر ولكن حينما يجد إنسانا مقتدرا علي درك المفاهيم الغامضة. إن القرون الثلاثة الأول، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية والفقهية وكانت الأمصار وحواضرها الكبري ميدانا لمطارحات الفرق المختلفة، وقد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب والفرق، مع أن الحق كان في طرف واحد، فلو أنهم توحدوا في العقائد، لما أدي بهم الأمر إلي شق العصي وإيجاد الفرقة، وبالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهب الريح ضحية البحوث الكلامية والفقهية وغير ذلك. كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات [ صفحه 61] الخبرية، وفي تفسير اليد والرجل والوجه لله سبحانه الواردة في الكتاب والسنة،

فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلي المحكمات التي هي أم الكتاب وما هذا إلا لأجل قصور أفهامهم وقلة بضاعتهم العلمية، فكان واجبهم السكوت وسؤال الراسخين في العلم، دون الخوض فيها. إن للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا نصيحة لطلاب الفلسفة والحكمة، يحثهم علي أن لا يذيعوا ذلك العلم بين أناس ليس لهم قابلية التفكر الواسع ويقول في آخر كتاب الإشارات: " أيها الأخ إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفي [109] الحكم في لطائف الكلم. فصنه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والدربة والعادة وكان صغاه [110] مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلي الحق بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجا مجزءا مفرقا تستفرس مما تسلفه لما تستقبله. وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذا العلم أوأضعته فالله بيني وبينك وكفي بالله وكيلا [111] .

التعصب الممقوت

وهناك سبب آخر لا يقل تأثيره عما سبق من الأسباب وهو تقليد الآباء والأجداد وصيانة كيانهم وسننهم فإن اتباع الأهواء القبلية والقومية وما شاكل فإنها [ صفحه 62] من أعظم سدود المعرفة وموانعها، وهي التي منعت الأمم عبر التاريخ من الخضوع أمام براهين الأنبياء ورسله الواضحة كما يقول سبحانه: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون). ومن هذا المنطلق، اقترح تميم بن جراشة علي النبي - عندما جاء علي رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه

- اقترح عليه: أن يكتب لهم كتابا بأن يفي لهم بأمور يقول: قدمت علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتابا فيه شروط؟ فقال: اكتبوا ما بدا لكم ثم إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يحل لنا الربا والزنا فأبي علي - رضي الله عنه - أن يكتب لنا، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص فقال له علي: تدري ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أولي بأمره، فذهبنا بالكتاب إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال للقارئ: إقرأ، فلما انتهي إلي الربا قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) الآية، ثم محاها، وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ الزنا وضع يده عليها (وقال): (ولاتقربوا الزنا إنه كان فاحشة) الآية، ثم محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا [112] . ورواه ابن هشام بصورة أخري قال: وقد كان مما سألوا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبي رسول الله ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبي عليهم، حتي سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبي عليهم أن يدعها شيئا مسمي، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتي يدخلهم الإسلام، فأبي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن [ صفحه 63] شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا

أوثانهم بأيديهم. فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه،فقالوا: يا محمد! فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة [113] . انظر إلي التعصب المميت للعقل يسأل رسول الله - الذي بعث لكسر الأصنام وتحطيم كل معبود سوي الله - أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين وكان هذا الاقتراح نابعا عن العصبية لطرق الآباء وسلوكهم. وكان المقترح في حضرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يريد الابتداع في الدين بيده. هذه هي الأسباب العامة وهناك أسباب خاصة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفي علي القارئ الكريم.

التسليم لغير المعصوم

إن من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم، فلا شك أنه يخطأ وربما يكذب فالتسليم لقوله سبب للفرية علي الله سبحانه والتدخل في دينه عقيدة وشريعة. إذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين وكتابه خاتم الكتب وشريعته خاتم الشرائع فلا حكم إلا ما حكم به، ولا سنة إلا ما سنه، والخروج عن هذا الإطار تمهيد لطريق المبتدعين، وعلي ضوء ذلك فلا معني معقول لتقسيم السنة إلي سنة النبي وسنة الصحابة، وتلقي الأخيرة حجة شرعية وإن لم يسندها إلي المصدرين [ صفحه 64] الرئيسيين. إن كتب الحديث والفقه تطفح بسنة الصحابة، وهناك سنن تنسب إلي الخليفة الأول وإلي الثاني وإلي الثالث، فما معني هذه السنن لو لم تستند إلي الكتاب والسنة ولو أسندت فلا معني لإضافتها إليهم. والإفتاء بمضمون تلك السنن بدعة في الشريعة. وهناك كلام للدكتور عزت علي عطية، فقد جعل الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليما لغير المعصوم ثم قال: نتسائل عن الصلة بين هذا الإمام وبين الله جل جلاله، هل

هي وحي، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحيا فقد نفوه، وإن كانت حلولا فهو الكفر، بعينه، وإن كانت إلهاما فما الذي يفرق بينه وبين وساوسالشيطان وخطرات النفوس [114] . إن الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقها وإنما اكتفي بكتاب صغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها، ولو أنه رجع إلي علمائهم ومؤلفاتهم لوقف علي الدليل علي عصمة الأئمة فإن أحد الأدلة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدثون علي نقله وهو أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما. فإن كانت العترة عدلا للكتاب وقرينا له فتوصف بوصفه، فالكتاب معصوم عن الخطأ (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) فتكون العترة مثله. وأما مصدر علومهم، فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب والسنة إذ أخذ علي (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وأخذ الحسن (عليه السلام) عن أبيه، وهكذا كل إمام أخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، ولم يأخذ أحد [ صفحه 65] منهم (عليهم السلام) عن صحابي ولا تابعي أبدا، بل أخذ الجميع عنهم ومنهم انتقلت العلوم إلي الآخرين كما تلقاها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من لدن حكيم خبير. قال الإمام الباقر (عليه السلام): " لو كنا نحدث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ". وهناك مصدر آخر لعلومهم وهو أنهم محدثون كما أن مريم كانت محدثة، كما كان عمر بن الخطاب محدثا حسب ما رواه البخاري، روي أبو هريرة

قال: قال النبي: " لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون منغير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أمتي أحد فعمر " [115] . والدكتور خلط التحدث بالوحي: وأما أنهم بماذا يميزون الإلهام عن وساوس الشيطان، فليس بأمر عسير فإن الوساوس تدخل القلب بتردد والإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع ولأجل ذلك تلقت مريم وأم موسي ما ألهما به، كلاما إلهيا، لا وسوسة شيطانية. [ صفحه 67]

في تقسيم البدعة إلي حسنة و سيئة

اشاره

إذا كانت البدعة بمعني التدخل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة والشريعة من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات، فليس لها إلا قسم واحد لا يثني ولا يتكثر ولكن ربما تقسم البدعة إلي تقسيمات نذكر منها ما يلي:

البدعة الحسنة والبدعة السيئة

لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي، وابن حزم والغزالي والدهلوي وابن الأثير إلي غير ذلك، والأصل في ذلك قول الخليفة عمر بن الخطاب، وقد ظهر علي لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة عندما جمع الناس للصلاة بإمامة أبي بن كعب في شهر رمضان، ووصف الجماعة بقوله " نعمت البدعة هذه " والأصل في ذلك ما رواه البخاري [116] وغيره. [ صفحه 68] قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة رمضان إلي المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجال فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أري لو جمعت هؤلاء علي قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم علي أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخري والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناسيقومون أوله [117] . إن إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين: الأولي: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنة، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم علي قارئ واحد، فلا يصح قوله: " نعمت البدعة هذه " إذ ليس عمله تدخلا في الشريعة. الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم علي قارئ واحد، وإنما كره الخليفة

تفرق الناس، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرمة. توضيح ذلك: إن البدعة التي تحدث عنها الكتاب والسنة هي التدخل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة والتصرف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعني لا يمكن أن تكون إلا أمرا محرما ومذموما ولا يصح تقسيمه إلي حسنة وقبيحة، وهذا شئ واضح ولا يحتاج إلي استدلال. نعم، البدعة بالمعني اللغوي التي تعم الدين وغيره تنقسم إلي قسمين، فكل شئ محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات والرسوم، إذا أدي به من دون [ صفحه 69] الإسناد إلي الدين، ولم يكن محرما بالذات شرعا، كان بدعة حسنة، أي أمرا جديدا مفيدا للمجتمع، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كل عام، أو اجتمع للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله، وبالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتفق عليه الأمة وتتخذه عادة ومتبعا في المناسبات ويكون بدعة لغوية. نعم، ما كان محرما بالذات، فلو اتخذ أمرا مرسوما ورائجا مثل دخول النساء سافرات متبرجات في مجالس الرجال في الاستقبالات والضيافات، فهذا أمر حرام بالذات أولا، وليس بمحرم من باب البدعة الشرعية بمعني التدخل في أمر الدين والتسنين فيه والتشريع علي خلاف ما شرعه الشارع، وإنما هو عمل محرم اتخذ رائجا لا باسم الدين ولا باسم الشريعة وأقصي ما يعتذر بأنه مقتضي الحضارة العصرية مع الاعتراف بكونه مخالفا للشرع، ولو قيل إنه بدعة قبيحة أو مذمومة، فإنما هو بحسب معناها اللغوي. وبذلك يظهر أن أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلي حسنة وسيئة، فقد خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية فأسهبوا في الكلام وأتوا بأمثلة كثيرة

زاعمين أنها من البدع الشرعية مع أن أمرها يدور بين أمرين: إما أنها عمل ديني يؤتي بها باسم الدين والشريعة ولكن يوجد لها أصل فيهما فتخرج بذلك من تحت البدعة، كتدوين الكتاب والسنة إذا خيف عليهما التلف من الصدور، وبناء المدارس والربط وغيرهما، وقد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة وببناء المدارس والربط بالبدعة المستحبة، مع أنهما ليسا ببدعة لوجود أصل صالح لهما في الشريعة. أو أنها عمل عادي لا يؤتي بها باسم الدين بل يؤتي بها لأجل تطوير الحياة وطلب الرفاه، فتكون خارجا عن موضوع البدعة في الشرع كنخل الدقيق، فقد ورد [ صفحه 70] أن أول شئ أحدثه الناس بعد رسول الله، اتخاذ المناخل ولين العيش من المباحات. وإنما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعني اللغوي بمعني الشئ الجديد سواء كان عملا دينيا أو عاديا، وقد وافقنا علي نفس ذاك التقسيم لفيف من المحققين. منهم أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي: إن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لأنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلي حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع، وأيضا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل علي مشروعيتها إذ لو قال الشارع: " المحدثة الفلانية حسنة " لصارت مشروعة. ولما ثبت ذمها، ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذن المذموم علي الحقيقة، والذمخاصة

التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك علي الإطلاق والعموم [118] . ومنهم العلامة المجلسي قال: إحداث أمر لم يرد فيه نص بدعة، سواء كان أصله مبتدعا أو خصوصياته مبتدعة فما ربما يقال: إن البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل، إذ لا تطلق البدعة إلا علي ما كان محرما كما قالرسول الله: " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلي النار " [119] . [ صفحه 71] ومنهم الشهيد في قواعده: محدثات الأمور بعد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تنقسم أقساما لا يطلق اسم البدعة عندنا إلا علي ما هو محرم منها [120] . سؤال وإجابة: وهناك سؤال يطرح نفسه، وهو أنه إذا كانت البدعة قسما واحدا وأمرا محرما مقابل السنة، لا تقبل التقسيم إلي غيره فما معني قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم من شئ، ومن سن سنة سيئة فعمل بها بعده كتب لهمثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شئ " [121] . والجواب: أن الشق الأول راجع إلي المباحات العامة المفيدة للمجتمع كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيرة، فلو أن رجلا قام - برفض الأمية - بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنة حسنة. وأما الشق الثاني: فهو راجع إلي الأمور المحرمة بالذات فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرجات، ثم صار عمله قدوة للآخرين، فعلي هذا المسنن وزر عمله ووزر من عمل بسنته. وعلي ضوء ذلك فالحديث لا يمت بالبدعة المصطلحة، ولم يكن ببال أحد من الشخصين

التدخل في أمر الشارع بالزيادة والنقيصة بل كل قام بعمل خاص حسب دواعيه وحوافزه النفسية، فالإنسان العاطفي يندفع إلي القسم الأول الذي [ صفحه 72] ربما يكون مباحا أو مسنونا، ومن حسن الحظ، يكون عمله قدوة، والإنسان الإجرامي يندفع إلي القسم الثاني، فيعصي الله سبحانه لا باسم البدعة بل بارتكاب عمل محرم ومن سوء الحظ يكون عمله قدوة. فكلا العملين لا صلة لهما بالبدعة الشرعية أصلا، ولو أطلقت فإنما تطلق عليهما بالمعني اللغوي، أي إبداع أمر لم يكن، سواء أكان مباحا أم حراما، ومن المعلوم أنه ليس كل محرم بدعة وإن كانت كل بدعة محرمة. [ صفحه 73]

تقسيم البدعة إلي عادية و شرعية

اشاره

قد تعرفت علي أن للبدعة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وعرفت مدي صحة تقسيمها إلي الحسنة والسيئة، ومنها تقسيمها إلي عادية وشرعية، وهذا العنوان أوضح مما ذكره الشاطبي حيث قال: تقسيمها إلي العادية والتعبدية [122] ، وذلك لأن الأمور التعبدية قسم من الأحكام الشرعية التي يعتبر في صحة امتثالها قصد القربة والإتيان بها لأجل التقرب وكسب الرضا وامتثال الأمر، وهي منحصرة بالطهارات الثلاث: الوضوء والتيمم والغسل بأقسامه، والصلاة والزكاة والصوم والحج والنذر وما ضاهاها ولكن الأمور الشرعية التي للشارع فيها دور، أوسع من التعبديات. ولذلك قسم الفقهاء الأحكام الشرعية إلي أربعة: 1 - العبادات ويدخل فيها ما ذكرناه من الأصناف. 2 - العقود وتدخل فيها عامة المعاملات مما تحتاج إلي إيجاب وقبول، كالبيع والرهن والوديعة والصلح والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إلي غير ذلك مما [ صفحه 74] هو مذكور في محله. 3 - الإيقاعات وهي ما تقوم بجانب واحد كالطلاق بأقسامه والإيلاء والظهار وتدخل فيها المواريث إلحاقا حكما. 4 - السياسات ويدخل فيها القضاء والحدود والديات وما شابهها.

فلو كان هناك شئ خارج عن الأبواب الأربعة موضوعا فهو بوجه ملحق بواحد منها، فهذه كلها أمور شرعية للشارع فيها دور، إما تأسيسا واختراعا كالعبادات والحدود والديات، أو إمضاء واعترافا لما في يد العقلاء لكن بتحديدها بشروط مذكورة في الفقه، فالتدخل في هذه الأبواب الأربعة بزيادة أو نقيصة كالنكاح بلا صداق، أو البيع بلا ثمن، والإجارة بلا أجرة، والطلاق في أيام الحيض، أو تجويز الربا وبيع الكلب والخنزير، أو تحوير الأحكام الشرعية في باب السياسات، كلها بدعة في أمور شرعية. فهذا ما يلزمنا من أن نعبر بالشرعية مكان التعبدية، إلا أن يراد منها ما يرادف مطلق الأحكام والأمور الشرعية فإذا لا مشاحة في الاصطلاح. وأما العادية فهي تدور بين تقاليد أو أعراف بين الناس سواء أكانت لها جذور في تاريخ الأقوام أم كانت أمرا محدثا، وبين ما هو تطوير في الحياة في عامة مظاهرها مما يمت بحياتهم الصناعية أو الثقافية أو الزراعية أو غير ذلك، وكل ذلك أمور عادية تركها الشارع إلي الناس وجعل الأصل فيها الإباحة لكنه حددها بأطر عامة ولم يتدخل في جزئياتها، فكلما لم تخالف الضوابط العامة فالناس فيها أحرار يفعلون ما يشاءون ويعملون ما يريدون بشرط أن لا تخرج عن تلك الأطر الكلية. فعلي ذلك يقع البحث في صدق البدعة في الأمور العادية مقابل الأمور الشرعية التي تعرفت علي معناها الواسع، أو لا يقع. وبما أنك وقفت علي حدود [ صفحه 75] البدعة وأنها عبارة عن الزيادة أو النقيصة في الشريعة والتدخل في الأمور الدينية، فلا تصدق في مورد الأمور العادية بأي نحو كانت، إذ ليست هي أمورا تمت بالشرع، فأمرها يدور بين الجائز والحرام لا بين البدعة والسنة. وليس كل

حرام بدعة وإليك التوضيح: إن لكل قوم آدابا خاصة وسنة في اللقاءات السنوية والأمور العمرانية والخياطة والمعاشرة وفي كيفية استغلال الطبيعة، مثلا ربما تقتضي مصلحتهم تخصيص يوم واحد لتكريم زعيمهم، أو يوم واحد للبراءة من عدوهم، أو توجب المصالح التطوير في الأمور العمرانية وماضاهاها، أو في استغلال الطبيعة بالأجهزة الحديثة فقد ترك الشارع هذه الأمور إلي الناس ولم يتدخل فيها، إلا بوضع الأطر العامة لها، وهي أن لا يكون العمل مخالفا للقواعد والضوابط العامة، ولولا هذه المرونة لما كان الإسلام دينا عالميا سائدا ولتوقفت حركته منذ أقدم العصور، ونأتي بمزيد من التوضيح بمثال: قد حدثت في العصور الأخيرة عدة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية ككرة القدم والسلة، والطائرة والمصارعة والملاكمة وغير ذلك، فبما أنها أمور عادية محدثة فلا تعد بدعة في الدين ولو صح إطلاق البدعة فإنما هو باعتبار المعني اللغوي أي الشئ الجديد في ميادين الحياة، لا في الأمور الشرعية، غاية الأمر يجب أن تحدد شرعيتها بالضوابط الكلية بأن لا يكون هناك اختلاط بين اللاعبين نساء ورجالا وأن لا يكون هناك ضرر وأضرار كما هو المحتمل في الملاكمة. والحاصل: أن الأصل في الأمور العادية هو البراءة حتي يدل دليل علي خلافه. وقد صرح بذلك لفيف من العلماء منهم، ابن تيمية، يقول: إن أعمال الخلق تنقسم إلي قسمين: [ صفحه 76] 1 - عبادات [123] يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة والأصل أن لا يشرع منها إلا ما شرع الله. 2 - عادات ينتفعون بها في معايشهم والأصل فيها أن لا يحظر فيها إلا ماحظر الله [124] . ثم إنه لو أتي في العادات بما حظر الله لا تعد بدعة بل

يكون محرما، لأن المفروض أنه يأتي به ويحدثه باسم التقاليد لا باسم الدين، وربما يعترف بكونه علي خلاف الدين كإشراك النساء السافرات في الضيافة مع الرجال. حتي وإن صار الأمر العادي المحرم رائجا بينهم. نعم، شذ قول الدكتور عزت علي في المقام حيث يقول: في ما حظره اللهمنها إذا كان من الأمور المحدثة كان بدعة [125] . يلاحظ عليه: بما ذكرناه في تحديد البدعة بتضافر الكتاب والسنة علي كونه التداخل في أمر الشريعة بالزيادة والنقيصة وتنسيبه إلي الشارع، وهذا لا يصدق علي كل محدث في الأمور العادية وإن كان محرما، نعم هو بدعة بالمعني اللغوي، حتي لو صار عمله الإجرامي سنة سيئة يكون عليه وزر كل من عمله بها، لكن لا بما أنه أبدع في الدين، وتدخل في الشريعة وقد مر نص في تفسير قوله (صلي الله عليه وآله وسلم) من سن سنة حسنة... إلخ ما يفيدك في المقام. قال الشيخ شلتوت: التكاليف الشرعية تنقسم إلي عقائد وعبادات ومحرمات [126] ، ثم قال: أما ما لم يتعبدنا [127] الله بشئ منه، وإنما فوض لنا الأمر فيه [ صفحه 77] باختيار ما نراه موافقا لمصلحتنا، ومحققا لخيرنا بحسب العصور والبيئات، فإن التصرف فيه بالتنظيم أو التغير، لا يكون من الابتداع الذي يؤثر علي تدين الإنسان وعلاقته بربه، بل أن الابتداع فيه من مقتضيات التطور الزمني الذي لايسمح بالوقوف عند حد الموروث من وسائل الحياة عن الآباء والأجداد [128] .

الاسلام بين التزمت والتحلل من القيود الشرعية

إن بين المسلمين من يريد حصر الأمور السائغة الموجودة في عصر الرسول الأكرم حتي يعد نخل الدقيق بدعة بحجة أنه لم يكن في عصره (صلي الله عليه وآله وسلم) أي منخل [129] وبين من يريد التحلل

من كل قيد ديني في مجال العمل، فلا يلتزم في حياته بشئ مما جاء به الإسلام. فالإسلام لا هذا ولا ذاك، فهو يرفض التزمت إذا كان العمل غير خارج عن الأطر العامة الواردة في الكتاب والسنة، كما يرفض التحلل من كل قيد، ف آفة الدين ليست منحصرة بالثاني بل آفة الأول ليست بأقل منه. فإن حصر الجائز من الأمور العادية بما كان رائجا في عصر النبي أو عصر الصحابة، كبت للأدمغة وتقييد للحركة الحضارية عن التقدم نحو الكمال. وإظهار للإسلام بأنه غير قابل للتطبيق في جميع الأعصار المتقدمة فضلا عن عصر الذرة. من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال كونه دينا جامعا بين الدعوة إلي المادة والدعوة إلي الروح، ودينا وسطا بين المادية البحتة والروحية المحضة، فقد آلف [ صفحه 78] بتعاليمه القيمة بينهما، مؤالفة تفي بحق كل منهما، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة. وذلك أن المسيحية غالت في التوجه إلي الناحية الروحية، حتي كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبري، فدعت إلي الرهبانية والتعزب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين، كما غالت اليهودية في الانكباب علي المادة حتي نسيت كل قيمة روحية وجعلت الحصول علي المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسني، ودعت إلي القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة. وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح (عليهما السلام) أم لم تصح (ولن تصح إلا أن يكون لإصلاح انغمار الشعب الإسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وإنجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلي المعنويات بشدة وعنف وإن

شئت قلت: كانت تعاليمه إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتي أفسدوا أخلاقهم، وآثروا دنياهم علي دينهم) هذه المبادئ لا تتماشي مع الحضارات الإنسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلاءم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة. لكن الإسلام جاء لينظر إلي واقع الإنسان، بما هو كائن، لا غني له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، ودعا إلي المادة والالتذاذ بها بشكل لا يضر الحياة الروحية كما دعا إلي الحياة الروحية بشكل لا تصادم فطرته وطبيعته. هذه هي حقيقة الإسلام ومرونته وسبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتي حضارة اليوم الصناعية، فلو حددنا الجائزة من العاديات بما في عصر النبي تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة، وبطلانه مع أنه خاتم الشرائع وكتابه خاتم الكتب ونبيه خاتم النبيين. [ صفحه 79]

آراء المتزمتين في الأمور العادية

1 - يقول الشاطبي: إن من السلف من يرشد كلامه إلي أن العاديات كالعبادات، فكما أننا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سنة العقيقة مخالفة من قبله في أمر العاديين وهو استعمال المناخل، مع العلم بأنه معقول المعني نظرا - والله أعلم - إلي أن الأمر باتباع الأولين علي العموم غلب عليه جهة التعبد،ويظهر أيضا من كلام من قال: أول ما أحدث الناس بعد رسول الله، المناخل [130] . 2 - يحكي عن الربيع بن أبي راشد، أنه قال: لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلي أن أموت، إذ السكني أمر عادي بلا إشكال، ثم يقول: وعلي هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات فدخولالابتداع فيه ظاهر، والأكثرون علي خلاف هذا [131] .

3 - روي الغزالي: أن رجلا قال لأبي بكر بن عياش: " كيف أصبحت؟ " فماأجابه قال: دعونا من هذه البدعة [132] . 4 - روي عن أبي مصعب صاحب مالك أنه قال: " قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلي ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا - وكان قد صلي خلف الإمام - فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما [ صفحه 80] كنا نعرفه وقد قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): " من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "؟ فبكي ابن مهدي، وآلي علي نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي (صلي الله عليهوآله وسلم) ولا في غيره " [133] . 5 - حكي ابن وضاح قال: ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك. فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه، قد كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف

الناس طلوع الفجر، فقال له: ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له: لا تفعل. فكف زمانا. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك. فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقالله مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه [134] . ومراده من التثويب هو ما يقوله المؤذن بين الأذان والإقامة " قد قامت الصلاة " أو " حي علي الصلاة " أو " حي علي الفلاح " أو قوله " الصلاة يرحمكم الله ". والعجب أن الشاطبي مع إمامته في الفقه ربما يتأثر أحيانا بتلك الكلمات فيقول: فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي [ صفحه 81] الرأي، وجعله أمرا محدثا وقد قال في التثويب أنه ضلال وأنه بين لأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ولم يسامح المؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوفا من أن يكون حدثا أحدثه. 6 - يقول الشاطبي: وقد أحدث في المغرب المسمي بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم " أصبح ولله الحمد " إشعارا بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، وحضور الجماعة، وللغد ولكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان، ونقل أيضا إلي أهل المغرب فصار ذلك كله سنة فيالمساجد إلي الآن. فإنا لله وإنا إليه راجعون [135] . هذه نماذج مما ذكره الشاطبي وغيره فتخيلوها بدعة في الدين، وأين هذه من البدعة في الدين؟ أفتري هل يقوم أحد بهذه الأعمال الماضية باسم الدين؟

أو يقوم باسم الأمور العادية لتسهيل الأمور ولو كان الجاهل يتلقاها أمرا دينيا فوباله علي جهله لا علي الفاعل وقد اتفقنا مع الشاطبي في تحديد البدعة، وقد جعلها هو خاصة بالأمور الشرعية - ومع ذلك نسي هنا ما ذكره في مقام التحديد - نحن نفترض أن هذه الأعمال تتخذ سنة حسب مرور الأيام ولكنها تكون سنة عادية، لا دينية، ولا يمنع عنها إذا كانت مصلحة ولم ينطبق عليها عنوان محرم، ولو تخيله الجاهل سننا دينية فعلي العالم إرشاده، لا إعمال الضغط علي المجتمع حتي يولي عن الإسلام وأهله ويوادعهما. والسبب الوحيد لهذه الزلات والاشتباهات التي تشوش سمعة الإسلام، وتعرفه دينا متزمتا لا يقبل المرونة إنما هو جعل سيرة السلف وجودا وعدما معيارا للحق والباطل مكان الكتاب والسنة في ذلك، فأين هذه الغلظة من المرونة الملموسة في الكتاب والسنة؟ يقول سبحانه: [ صفحه 82] (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) (الحج - 78). (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) (المائدة - 6). (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة - 185). (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا) (البقرة - 286). فهذه الآيات تصرح بأن الله تعالي رفع عن أمة محمد الإصر، ولم يفرض عليهم حكما حرجا صعبا كما كان في الأمم الماضية. وقد ورد في حديث عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " مما أعطي الله أمتي وفضلهم علي سائر الأمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا لنبي، وذلك أن الله تبارك وتعالي كان إذا بعث نبيا قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وإن

الله تبارك وتعالي أعطي ذلك أمتي حيث يقول: (ما جعلعليكم في الدين من حرج) [136] . وظاهر هذا الحديث أن رفع الحرج الذي من الله به علي هذه الأمة المرحومة كان في الأمم الماضية خاصا بالأنبياء، وأن الله أعطي هذه الأمة ما لم يعط إلا الأنبياء الماضين - صلوات الله عليهم أجمعين -. وسئل علي (عليه السلام): أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين (أحب إليك) أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: " لا، بل من فضل وضوء جماعةالمسلمين، فإن أحب دينكم إلي الله الحنيفية السمحة السهلة " [137] . واشتهر عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قوله: " بعثت بالحنيفيةالسمحة السهلة " [138] . [ صفحه 83] إن الإسلام دين عالمي لا إقليمي، ودين خاتم ليس بعده دين. وقد انتشر الدين في المجتمعات البشرية بصورة سريعة وكانت لذلك أسبابا وعللا، منها: يسر التكاليف وسهولة الشريعة، فلو كان الإسلام خاضعا لهذا النوع من التزمت وما يتغناه ابن الحاج [139] من سمادير الأهازيج في كتاب المدخل لقرئ عليه السلام في أول يومه، فهذا الرجل أخذ يحدث ألوانا من شتي الأباطيل ويفتريها ويسميها بدعة مع أنها لا تمت لها بصلة، بل تدور بين كونها إما أمورا عادية خارجة عن موضوع البدعة بتاتا، وإما أمورا شرعية لها دليلها العام وإن لم يكن لها دليل خاص، وسيوافيك توضيح القسم الأخير في الفصل القادم. يقول ابن الحاج: 1 - المراوح في المساجد من البدع وقد منعها علماؤنا - رحمة الله عليهم -إذ أن اتخاذها في المساجد بدعة [140] . 2 - إن فرش البسط والسجادات قبل مجئ أصحابها من البدع المحدثة وينبغي لإمام المسجد أن ينهي الناس عما

أحدثوه من إرسال البسطوالسجادات وغيرها قبل أن يأتي أصحابها [141] . 3 - إلي أن جاء ابن الحاج يحدد ثمن اللباس الذي يجوز لبسه ويقول: أثمان أثوابهم القميص من الخمس إلي العشر وما بينهما من الأثمان، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين والثلاثين، وكان بعض العلماء يكره أن يكون علي الرجل من الثياب ما يجاوز قيمته أربعين درهما وبعضهم إلي المائة [ صفحه 84] ويعده إسرافا فيما جاوزها وعلي ذلك فهو من البدع الحادثة بعدهم [142] . 4 - لا بد من ترك فرش السجاد علي المنبر لأنها ليست موضعا للصلاة [143] . هذه نماذج من أفكار الرجل حول البدعة، أفتري أن الإسلام الذي يعرفه هذا الرجل المتزمت مما يصلح نشره في العالم، ويصلح لدعوة المثقفين والمفكرين إليه، وهل هذا هو الإسلام الذي يصفه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بالحنيفية السمحة السهلة؟!

الاصل في العادات الإباحة

كان علي هؤلاء الذين يتحدثون باسم الإسلام أن يدرسوا الكتاب والسنة ويقفوا علي أن الأصل في العادات الإباحة ما لم يدل دليل علي خلافها، فإن كل ما ذكره من الأمور عادية حتي سكب ماء الورد علي قبر الميت احتراما له، من هذه الأمور التي يتصورها ابن الحاج من البدعة [144] والأصل فيها الإباحة لا الحظر فإن الحكم بالحظر بدعة، صدر من القائل. يقول سبحانه: (وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا) (الإسراء - 15) ويقول: (وما كان ربك مهلك القري حتي يبعث في أمها رسولا) (القصص - 59) ومعني الآيتين أنه ليس من شأن الله أن يعذب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث رسولا وليست لبعث الرسول خصوصية وموضوعية، ولو أنيط جواز العذاب ببعثهم فإنما هو لأجل كونهم

وسائط للبيان والإبلاغ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ، فتكون النتيجة أنه لا يحكم علي حرمة شئ قبل بيان حكمه ووصوله إلي يد المكلف وهذه الأمور التي أضفي ابن الحاج عليها اسم البدعة، كلها أمور عادية ما ورد النهي عنها، مثلا: إذا شككنا أن لعبة كرة القدم أو الاستماع إلي الإذاعة هل هما جائزان أو لا [ صفحه 85] فالأصل بعد التتبع وعدم العثور علي الدليل المحرم، هو الحلية. فبذلك علم أن جميع العادات من قول أو فعل محكوم بالإباحة ما لم نجد نصا علي تحريمه في الكتاب والسنة، سواء أكان حادثا أم غير حادث، أو سواء أصارت سنة أم لا ما لم ينطبق عليه عنوان خاص أو أحد العناوين الكلية المحرمة " كالإسراف " و " الإعانة علي الإثم " و " تقوية شوكة الكفار " و " الإضرار بالمسلمين " و " الإضرار بالنفس والنفيس " تعد أمرا مباحا. وعلي أساس ذلك فإن جميع المصنوعات الحديثة التي هي من نتائج التقدم الحضاري التكنولوجي مثل الهاتف والتلغراف والتلفزيون والسيارة والطائرة وما شابهها واستخداماتها المتعارفة، محكومة بالحلية والإباحة لعدم وجود نص خاص علي تحريمها في الكتاب والسنة، ولعدم انطباق أحد العناوين العامة المحرمة عليها. وقد كان معظم المشايخ المتزمتين يحرمون كل ذلك في بدء حركتهم ودعوتهم أيام " عبد العزيز " ولكنهم عندما أزيحوا عن منصة الحكم، وحل الآخرون محلهم أباحوه وصاروا يتحدثون في الإذاعة والتلفزيون ويستخدمون كل معطيات الحضارة الحديثة، ويحللون كل أشيائها واستخداماتها. فإذا كان قول الرجل " كيف أصبحت " وإدخال المراوح إلي المساجد، وفرش البسط في المساجد وعلي المنابر ولبس ما زادت قيمته علي ما حدده، وسكب ماء الورد

علي القبر من البدع، فعلي الإسلام السلام. ثم إن بعض ما عده ابن الحاج من الأمور الدينية من البدع بتصور أنه لم يكن بين السلف، مردود بوجود دليل عليه في الشرع وهذا ما سندرسه في الفصل القادم. [ صفحه 87]

تقسيم البدعة إلي حقيقية و إضافية

اشاره

هذا التقسيم قام به الشاطبي في كتابه وعرف الحقيقية بأنها ما لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل وإن ادعي مبتدعها ومن تابعه أنها داخلة في ما استنبط من الأدلة لأن ما استند إليه شبه واهية لا قيمة لها. أما البدعة الإضافية فقد عرفها بأنها ما لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة. والأخري: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لإحدي الجهتين سنة لاستنادها إلي دليل وبالنسبة للجهة الأخري بدعة، لأنها مستندة إلي شبهة لا إلي دليل أو لأنها غير مستندة إلي شئ. وسميت إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين: (المخالفة الصريحة) أو(الموافقة الصريحة) [145] . [ صفحه 88] أقول: قد تقدم البحث عن البدعة الحقيقية فلا حاجة إلي إيضاحها من جديد فإن تحريم الحلال أو تحليل الحرام استنادا إلي شبه واهية أو بلا شبهة، بدعة حقيقية، وقد مرت الأمثلة فيما سبق والمهم إيضاح المقصود من البدعة الإضافية التي لها شائبتان من جهة تشبه السنة ومن جهة تشبه البدعة، وتتضح بالأمثلة التالية التي ذكرها الشاطبي نفسه: 1 - تخصيص يوم أو أيام، غير ما نهي الشارع من صومه أو ندب إلي صومه، بالصوم والمداومة عليه. 2 - تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات لم تشرع لها

خصوصا كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بكذا وكذا من الركعات أو قراءة القرآن أو الذكر، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا زائدا. 3 - ومن ذلك تحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان أو قراءة القرآن أو الدعاء بهيئة الاجتماع في عشية يوم عرفة في المسجد تشبها بأهل عرفة ونحو ذلك. 4 - ومن ذلك الأذان والإقامة في صلاة العيدين. والسبب في كون هذه الأمور بدعا أمور ذكرها الشاطبي: أولا: أن فيها تخصيصا بغير مخصص من الشرع وقد أصبحت بهذا التخصيص غير ما كانت عليه بدونه، فكما أن الصلاة المفروضة لا تصح قبل الوقت مع كونها هي هي، لوقوعها في غير وقتها المخصص لها. فكذلك ما تقدم من الأمثلة بما انضم إليها من الأوصاف غير الواردة تصير غير مشروعة. ثانيا: أن مثل هذه الأمور عمل اشتبه أمره، أهو بدعة فينهي عنه أم غير بدعة فيعمل به؟ ومثل هذا جاء الأمر بالتوقي فيه والاحتراز منه كما يجب التوقف عن تناول اللحم المشتبه فيه. [ صفحه 89] ثالثا: مخالفة السنة، حيث ترك مثل هذا العمل مع ظهور ما يقتضي فعله في عهد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وعلي فرض أنه وقع في بعض الأحيان فالأمر الأشهر والأكثر عدم فعله كما في سجود الشكر حيث لم يداوم الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والصحابة عليه وإن ورد. رابعا: أن العمل بمثل هذه الأمور قد يؤدي إلي اعتقاد ما ليس بسنه سنة، وكذلك فالمداومة علي فعل لم يداوم عليه الرسول (صلي الله عليه وآله

وسلم) قد تؤدي إلي اعتقاد النافلة سنة، وهذا فساد عظيم لأن اعتقاد ما ليس بسنة سنة، والعمل به علي حد العمل بالسنة، نحو من تبديل الشريعة، وعلي ذلك كان قطع عمر للشجرة التي يتبرك بها الصحابة، ونهيه الصحابي عن الإحرام من بلده، ونحو ذلك ونهيه عن إتيان المساجد التي صلي فيها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولذلك كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ما عدا " قباء " وحده، وأيضا كان مالك يكره المجيئ إلي بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلكسنة، وكان يكره مجيئ قبور الشهداء ويكره مجيئ " قباء " خوفا من ذلك [146] . يلاحظ علي هذا التقسيم: أنه لا طائل تحته ويعلم ذلك ببيان أمرين:

شمول الدليل لجميع الحالات والكيفيات

أن مورد النقاش ما إذا كان لدليل العمل العبادي إطلاق يعم جميع الصور والكيفيات بأن كان جميع الحالات والصور المتصورة له، أمرا مسوغا يشمله الدليل بإطلاقه أو عمومه وسعة دلالته، مثلا إذا دل الدليل علي استحباب قراءة القرآن مطلقا من غير تقييد بحالة خاصة فعم جميع الحالات سواء أكانت بهيئة الانفراد أم بهيئة الاجتماع. [ صفحه 90] أو دل علي استحباب قراءة الدعاء مطلقا من غير تقييد بحالة خاصة فعم الدليل جميع الكيفيات، وبعبارة أخري: دل الدليل بإطلاقه بسوغ جميع الأقسام من غير تخصيص بتلاوة القرآن بصورة الانفراد أو بهيئة الاجتماع ومثله دليل الدعاء. ومثل ذلك إقامة الصلاة في المساجد فالدليل يشمل جميع المساجد سواء أصلي فيها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أم لم يصل، سواء أقيمت الصلاة فيها يوما أو أياما أو طول السنة أو لا وهكذا سائر

الأمثلة، فلو نفترض عدم وجود إطلاق للدليل فهو خارج عن حريم البحث.

التداوم علي هيئة أو فرد لا يرجع إلي تخصيص التشريع

إن اختيار كيفية خاصة كالدعاء بهيئة الاجتماع أو تخصيص يوم في الأسبوع للصوم ليس بمعني تخصيص التشريع بالفرد المختار وإن السائغ هو، لا غير، بل العامل يعتقد بتسويغ جميع الصور والكيفيات وفي الوقت نفسه يختار كيفية أو فردا خاصا لأجل أنه أوفق بنشاطه والعوامل المحيطة به. وبعبارة أخري: لا يلتزم بكيفية خاصة إلا لأجل أنه يتلاءم مع نشاطه ويساعده علي تحقيق غرضه مع الاعتراف بأن جميع الكيفيات من حيث الفضيلة سواء. إذا تعرفت علي الأمرين تقف علي أن الأمثلة التي قدمها الشاطبي مثالا للبدعة الإضافية بين بدعة حقيقية أو سنة حقيقية، فلو افترصنا عدم إطلاق الدليل للكيفية التي اختارها العامل أو كان له إطلاق ولكنه يخصص التشريع بمختاره وينفي غيره فيكون عمله هذا مصداقا للبدعة الحقيقية. وأما إذا لم يكن هناك قصور في سعة الدليل أو لم يكن في نيته أي تخصيص وتدخل في أمر الشريعة وإنما كان الاختيار لملاكات اتفاقية، فلا يعد العمل بدعة [ صفحه 91] إذ لم يكن تدخلا في أمر الشارع وبذلك يظهر حكم الأمثلة، كتخصيص يوم أو أيام - غير ما نهي عن صيامه - بالصوم، أو كتخصيص يوم بنوع من العبادة كقضاء الصلوات الواجبة التي فاتت منه، أو ختم القرآن بهيئة الاجتماع مطلقا أو في يوم عرفة، فإن سعة رقعة الدليل كافية في كونها سنة إذا لم يكن من قصده نفي سائر الكيفيات بل كان التخصيص تابعا لعوامل داخلة في حياة الإنسان. وأما الأسباب التي اتخذها ذريعة للحكم بالبدعة فإليك دراستها: أما السبب الأول أعني قوله " إن فيها تخصيصا بغير مخصص من الشرع " فغير

مضر، إذ التخصيص إنما يكون بدعة إذا نسبه إلي الشرع دون ما كان نتيجة ظروف فرضت عليه اختيار هذا الفرد مع الاعتراف بأنه مثل سائر الأفراد. وأما السبب الثاني: أعني قوله " إن مثل هذه الأمور عمل اشتبه أمره... " فهو مثل الأول فإنه مشتبه لمن لم يدرس البدعة حقها دون من درسها. وأما السبب الثالث: أعني قوله: " مخالفة السنة حيث ترك مثل هذا العمل... " فذلك لأن تركهم لا يكون حجة علي كون العمل بدعة بعد افتراض سعة رقعة الدليل وتركهم فردا خاصا لا يدل علي عدم مشروعيته إذ لم يكونوا يعانون من الإتيان بسائر الأفراد فلأجله تركوا ذاك الفرد، بخلاف الإنسان الذي فرضت الظروف عليه مداومة هذا الفرد أو كان نشاطه محفوظا فيه دون سائر الأفراد. قال التفتازاني: " ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل علي قبحه تمسكا لقوله (عليه السلام): " إياكم ومحدثات الأمور "، ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليسمنه. عصمنا الله من اتباع الهوي، وثبتنا علي اقتفاء الهدي بالنبي وآله " [147] . وأما السبب الرابع: أعني قوله: " انتهاء هذا العمل إلي اعتقاد ما ليس بسنة [ صفحه 92] سنة " فهو أيضا مثله فإنه يجب علي العالم إرشاد الجاهل لا ترك العمل الذي دل الشرع علي جوازه بالإطلاق والعموم. ولو صح ما ذكره يجب ترك المسنونات أحيانا، لئلا يتخيل الجاهل أنها فريضة، فعلي من يري القبض في الصلاة سنة، تركه في حين بعد حين، دفعا لعادية الجهل. وعلي من يقم صلاة التراويح جماعة، تركها والإتيان بها فرادي لئلا يعتقد الجاهل

أن التشريع مختص بالجماعة. إلي غير ذلك من المضاعفات التي لا يلتزم بها الشاطبي وغيره، فجهل الجاهل لا يكون سببا لترك المسنون، لأنه لو قصر في التعليم فما ذنب من يريد الإتيان به وإنما علينا دفع عاديته. وبذلك يظهر حسن الإتيان بالصلاة في المساجد التي صلي النبي فيها، وذلك لعموم الدليل الشامل لتمام المساجد التي صلي فيها أم لم يصل، وإنما يختار ذلك لأجل التبرك الذي تضافر النص بجوازه، وليس تخصيصها بالعبادة بمعني ورود النص به بالخصوص، وإنما يختاره لغرض آخر وهو التبرك. وأما كراهة مالك، المجيئ إلي بيت المقدس، فهو علي خلاف السنة حيث رخص النبي السفر إليه كما سيوافيك عند البحث عن شد الرحال إلي زيارة قبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). ومنه يظهر حال كراهته زيارة قبور الشهداء أو المجيئ إلي مسجد قباء فإنه إعراض عن السنة التي رسمها النبي، حيث أمر بزيارة القبور، وكان يجيئ إلي مسجد قباء كل أسبوع مرة ويصلي فيه. وما أجمل قول الإمام الباقر عن جده رسول الله (صلي الله عليه وآلهوسلم) " إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق " [148] . [ صفحه 93]

لا بدعة في ما فيه الدليل نصا أو إطلاقا

قد تعرفت علي أن حقيقة البدعة هي الافتراء علي الله والفرية عليه بإدخال شئ في دينه أو نقصه منه وتنسيبه إلي الله ورسوله، وإذا كان هذا هو الملاك فالمورد الذي يتمتع بالدليل يكون خارجا عن البدعة موضوعا. والدليل علي قسمين: الأول: أن يكون هناك نص في القرآن والسنة بشخص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئياته، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحي والاجتماع في عرفة ومني، فعندئذ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة، بل سنة إذ قد أمر به الشارع بالخصوص فيكون امتثالا، لا

ابتداعا. الثاني: أن يكون هناك دليل عام في المصدرين الرئيسين يشمل بعمومه المصداق الحادث وإن كان الحادث يتحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقة وماهية، ويختلف معه شكلا، ولكن الدليل العام يعم المصداقين ويشمل الموردين ويكون حجة فيهما. وإليك بعض الأمثلة: [ صفحه 94] 1 - قال سبحانه: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (الأعراف - 204) والآية تبعث إلي استماع القرآن عند قراءته والإنصات له، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد، أو في البيت، ولكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقا آخرا لم يكن به عهد في ظرف الرسالة كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية، فالآية حجة في كلا الموردين وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني بحجة أنه لم يكن في ظرف الرسالة، وذلك لأن العربي الصميم عندما يتدبر في مفهوم الآية لا يري فرقا بين القراءتين، فلو قلنا حينئذ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولا بغير دليل أو بدعة في الدين. 2 - قال النبي الأكرم: " طلب العلم فريضة علي كل مسلم " [149] ومن الواضح أن العلوم حتي ما يمت إلي الشرع، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنة كعلم اللغة والصرف والنحو والبلاغة، بل والفقه المدون عبر العصور وذلك لأن الحديث بصدد ضرب قاعدة كلية، فليس لمسلم وصف هذه العلوم بالبدعة بحجة أنها لم تكن في عصر الرسالة. لأن شأن الشارع الصادع إلقاء الأصول وبيان القواعد والضوابط لا بيان المصاديق وبالأخص ما لم يكن في عصره. 3 - لا شك أن

من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنة النبوية من الضياع، لأن الإسلام ليس دينا إقليميا بل دينا عالميا وليس دينا مؤقتا بل خاتما، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنته حتي ترجع إليها الأجيال اللاحقة. لحق النبي إلي الرفيق الأعلي ورأي المسلمون أن من واجبهم حفظ القرآن من [ صفحه 95] الضياع خصوصا بعد ما لحقت بالمسلمين في الحروب، خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القراء فصار الحكم الكلي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، وكلها أمور دينية مستمدة من الحكم الكلي أي لزوم حفظ القرآن والسنة، فعمدوا علي كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كلمه وجمله، وعد آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء وأخيرا طباعته ونشره، وتشجيع حفاظه وقرائه وتكريمهم في احتفالات خاصة إلي غير ذلك من الأمور التي تعتبر كلها دعما لحفظ القرآن وتثبيته وإن لم يفعل بعضها رسول الله ولا أصحابه ولا التابعون، إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلة. 4 - إن من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفار، وأخذ الحيطة والحذر في كل ما يكون هناك احتمال للخطر عليهم، يقول سبحانه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال - 60) ففي الآية نوعان من الدليل: خاص في مورد رباط الخيل فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي، كما أنه إذا قامت بالتسلح بالغواصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلي غير ذلك من وسائل الدفاع فقد جسدت الآية وطبقتها علي مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبي، وإنما حدثت بعده، فهذه الموارد كلها أمور شرعية غير عادية بشهادة أن الإنسان يقوم بها بنية امتثال ما ورد في الشرع، وليس للمتزمت

أن يرفضها بحجة أنه ليس هنا دليل خاص عليها، وذلك لأن اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عاما أو خاصا لا وجود دليل خاص، فالدليل العام بعمومه حجة في جميع الأجيال علي جميع الناس في كل الموارد التي تجسد الضابطة الكلية.5 - قال رسول الله: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه [150] . [ صفحه 96] وغير خفي علي القارئ النابه أن كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيرا بما في عصرنا، فكلا العملين يعدان تعليما وتجسيدا لكلام الرسول، يقصد به رضا الله سبحانه وتقربه، وليس للمتزمت رفض الأساليب الحادثة لتعلم الكتاب والسنة. والحق أن هذا الموقف موضع زلة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة بحجة عدم وجود دليل خاص عليه، فقد ضلوا ولم يميزوا بين الدليل الخاص والدليل العام. وخصوا الدليل بالأول مع أن الكتاب والسنة مليئان بالضوابط والقوانين العامة، وإليك بعض الأمثلة: أ - قال سبحانه: (لن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا) (النساء - 141) فالآية تنفي أي سبيل للكافر علي المؤمن، فمن المعلوم أن السبل مختلفة حسب تطوير الحضارات وكثرة المواصلات وتطور العلاقات بين الناس، ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلط الفرد الكافر علي المسلم ككون العبد المسلم رقا للكافر أو تمليك المصحف منه وما قاربهما، وأما في عصرنا هذا، فحدث عن السبيل ولا حرج، فأين هو من تدخل الكفار في مصير المسلمين حكومة وشعبا حتي صار رؤساء الحكومات الإسلامية أسري بيد الاستكبار العالمي. ب - يقول سبحانه: (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) (المائدة - 2) فإن التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدودا في إطار ضيق، وأكثر ما كان يتحقق هو

اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معينة علي أن يتعاونوا فيما بينهم، وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة علي إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم علي ضرب حكومة إسلامية فتية خوفا علي كراسيهم ومناصبهم. ولو أن المتزمتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربما خمدت ثورتهم ضد المسلمين الذين يقومون بأعمال الخير امتثالا لحكم الدين، ولكن بحجة أنها [ صفحه 97] مدعمة من الشرع، بدليل عام لا خاص. كان في التاريخ الإسلامي أناسا يفهمون - بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم - أن ما ورد في الكتاب والسنة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربه بأوصاف جميلة وإن لم يرد بحرفيتها في الكتاب والسنة. روي الطبراني: أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) مر علي أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: " يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشي الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا تواري سماء منه سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك ". فوكل رسول الله بالأعرابي رجلا وقال: إذا صلي فأتني به، وكان قد أهدي بعض الذهب إلي رسول الله، فلما جاء الأعرابي، وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك؟ قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك. قال الرسول الكريم: إن للرحم حقا، ولكن وهبت لك الذهب لحسنثنائك علي الله [151] . وأين هذا الكلام مما روي

عن الشاذلي أنه كان يقول: " من دعا بغير ما دعابه رسول الله فهو مبتدع " [152] . [ صفحه 99]

الخطوط العامة لحصانة الدين من الابتداع

اشاره

كان النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) واقفا علي أنه يدب دبيب البدعة في دينه بعد رحيله، وأن سماسرة الأهواء يبثون بذور البدع في المجتمع الإسلامي وتنمو عبر الزمان، ولم يكن شئ عند الرسول أعز من الدين الذي بعث من أجله وضحي في نشره النفس والنفيس وتحمل عبأ عظيما في طريق دعوته. وقد قام بأمر الحصانة بطرق متعددة نذكر منها ما يلي:

التحذير من البدع و المبتدعين

إن الخط الدفاعي الأول الذي وضعه رسول الله لحصانة دينه تمثل في ذم البدع والمبتدعين وتحذير المجتمع الإسلامي منهما في هتافاته الكثيرة وبياناته البليغة، وقد تعرفت علي قسم منها في التقديم وبعده، وإليك بعضها: [ صفحه 100] قال رسول الله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [153] . وقال: " إياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة تسير إلي النار ". وقال: " أصحاب البدع كلاب النار ". وقال: " أهل البدع شر الخلق والخليقة ". وقال: " يجيئ قوم يميتون السنة ويوغلون في الدين، فعلي أولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ". وقال: " من وقر صاحب بدعة فقد أعان علي هدم الإسلام ". وقال: " إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهروا في وجهه " [154] . إلي غير ذلك من البيانات البليغة التي تحذر المجتمع الإسلامي من البدعة والمبتدعين الذين يظهرون بعد رحيله، وبذلك أعطي بصيرة لمن خلفه حتي لا يغتروا بكلام المبتدعين فإنه سراب لا ماء.

الاشارة بوجود الكذابة علي لسانه

وقف النبي الأكرم علي أن هناك أناسا في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون علي لسانه فيبدلون دينه، وقال في حديث يرشد المسلمين إلي وجود الكذابين ليأخذوا حذرهم: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " [155] . أو " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". أو " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " [156] . [ صفحه 101] إن التاريخ يشهد بأن الأمة الإسلامية - في عصر الخلفاء - يوم اتسعت رقعة البلاد الإسلامية واستوعبت شعوبا كثيرة، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود وعلماء النصاري

في الإسلام، مثل كعب الأحبار، وتميم الداري ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، الذين تسللوا إلي صفوف المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيلية، والخرافات والأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم. وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة تخيم علي أفكار المسلمين ردحا طويلا من الزمن، وتؤثر في حياتهم العملية، وتوجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم، ولم ينتبه إلي هذا الأمر الخطير، إلا من عصمه الله كعلي (عليه السلام) الذي راح يحذر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال: " فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله (صلي الله عليهوآله وسلم) ورآه وسمع منه ولقف عنه " [157] . نماذج وأرقام عن الأحاديث الموضوعة: وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له الأحاديث، ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الأمة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب: ميزان الاعتدال للذهبي. تهذيب التهذيب للعسقلاني. لسان الميزان للعسقلاني. [ صفحه 102] ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال. ولعل فيما قاله البخاري صاحب " الصحيح " المعروف، إشارة إلي طرف من هذه الحقيقة المرة، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري: إن أبا علي الغساني روي عنه قال: خرجت الصحيح من 600 ألفحديث [158] . وروي عنه الإسماعيلي أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غيرصحيح [159] . ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتي أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثا وقال: انتخبته من خمسمائة ألفحديث [160] . ويحتوي

صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار علي ألفي حديثوسبعمائة وواحد وستين حديثا، اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث [161] . وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات صنفه منثلاثمائة ألف [162] . وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة [ صفحه 103] خمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث [163] . وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأميني في موسوعته (الغدير) - الجزء الخامس - باستخراج أسماء الكذابين والوضاعين للحديث علي حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700. وما قام به رحمه الله، وإن كان عملا كبيرا يشكر عليه، غير أنه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا علي أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير. كان تحذير النبي الأكرم عن الدجالين الكذابين وشيوع الكذب علي لسانه سببا لقيام العلماء لوضع علم الرجال وبيان مقاييس يميز به الصحيح عن السقيم. وقال: وقد تنبأ الرسول بما سيصيب سنته الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد علي أيدي الكذابين ووضاعي الحديث وأعداء الإسلام، وفي الوقت نفسه أخبر عمن يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: " يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحوير الغالين وانتحال الجاهلينكما ينفي الكير خبث الحديد " [164] . روي السيوطي أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف، أرادوا أن يلقوا الواو التي في سورة التوبة في قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)(التوبة - 34) قال أبي بن كعب: لتلحقنها أو لأضعن سيفي علي

عاتقي [165] . [ صفحه 104] كان الخليفة: يريد أن يقرأ قوله تعالي: (والذين يكنزون) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفا للأحبار واليهود. وهذا مضافا إلي كونه خلاف التنزيل وتغييرا في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه علي مسامع القوم، فإن حذف الواو كان يعني أن آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من هذه إضفاء طابع الشرعية علي اكتناز الأموال الطائلة. وهذا يكشف عن مدي حفظ الأمة لنص الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة، بيد أن حفظ الأمة كان محدودا لا يتجاوز هذا الحد، إذ كان غير شامل لجوانب أخري من الشريعة وأصولها ومصادرها وينابيعها.

محاولة كتابة الصحيفة

هذا هو الخط الدفاعي الثالث الذي حاول الرسول وضعه لمكافحة دبيب البدعة، وهنا نقتبس ما ذكره الإمام الشاطبي حرفيا، يقول: لقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا علي ألفتنا وهدايتنا، حتي ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لما حضر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده " فقال عمر: إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كتابا لن تضلوا بعده، وفيهم من يقول كما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " قوموا عني " فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلكالكتاب

اختلافهم ولغطهم [166] . [ صفحه 105]

التعريف بالثقلين

إن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) نبه الأمة وبين لها المرجع والملاذ بعد رحيله بقوله: " يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لنتضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " [167] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إني تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولنيفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " [168] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتييردا علي الحوض " [169] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله،وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " [170] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إني أوشك أن أدعي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لنيفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " [171] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم) في منصرفه من حج الوداع ونزوله غدير خم: " كأني دعيت [ صفحه 106] فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتي يرداعلي الحوض " [172] . وللكاتب الإسلامي منشئ المنار كلام ذكره في تعليقته علي كتاب الإعتصام للشاطبي قال: رواه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق

عنه وهو: " تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي "، ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ " يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " والحديث مروي بلفظ " العترة " بدل " السنة " عن كثير من الصحابة منهم: زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وروي عن أبي هريرة بلفظ " السنة " بدل " العترة " وفي كلا السياقين بلفظ " لن يفترقا حتي يردا علي الحوض " والجمع بينهما في المعني أن عترته أهل بيته يحافظون علي سنته، أي لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنته لا يثنيهم عنها التقليدولا الابتداع ولا الفتن [173] .

التعريف بسفينة النجاة

اشاره

إن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) شبه أهل بيته بسفينة نوح فقال: " ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجي، ومن تخلف عنهاغرق " [174] . وفي حديث آخر يقول (صلي الله عليه وآله وسلم): " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجي، ومن تخلف عنها غرق. وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة [ صفحه 107] في بني إسرائيل من دخله غفر له " [175] . وفي حديث ثالث: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزبإبليس " [176] . ومن المعلوم أن المراد ليس جميع أهل بيته علي سبيل الاستغراق، لأن هذه المنزلة ليست إلا لحجج الله، وهم ثلة منتخبة مصطفاة من أهل بيته، وقد فهمه ابن حجر فقال:

يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان: علماؤهم، لأنهم الذين يهتدي بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون. وقال في مقام آخر: إنه قيل لرسول الله: ما بقاء الناس بعدهم؟ قال: " بقاءالحمار إذا كسر صلبه " [177] . والمراد من تشبيههم (عليهم السلام) بسفينة نوح، من أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عنهم نجا من عذاب الله، ومن تخلف عنهم كان كمن أوي يوم الطوفان إلي جبل ليعصمه من أمر الله فما أفاده شيئا فغرق وهلك. والوجه في تشبيههم بباب حطة، هو أن الله تعالي جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سببا للمغفرة، وقد جعل انقياد هذه الأمة لأهل بيت نبيها وأتباعهم أيضا مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سببا للمغفرة. وقد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال: " ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم، وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي [ صفحه 108] علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان - إلي أن قال: - وبباب حطة - يعني ووجه تشبيههم بباب حطة - أن الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس من التواضع والاستغفار سببا للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودةأهل البيت سببا لها " [178] .

دور أئمة أهل البيت في مكافحة البدع

إن لأئمة أهل البيت دورا بارزا في مكافحة البدع، والرد علي الأفكار الدخيلة علي الشريعة عن طريق أهل الكتاب الذين تظاهروا بالإسلام وبزي المسلمين نظراء كعب الأحبار، وتميم الداري، ووهب ابن منبه ومن كان علي شاكلتهم. إن كتب

الحديث - من غير فرق بين الصحاح وغيرها - مشحونة بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر ونفي الاستطاعة المكتسبة ونسبة الكذب والعصيان إلي الأنبياء والرسل، وقد تأثر بها المحدثون السذج وحسبوا أنها حقائق راهنة فنقلوها إلي الأجيال اللاحقة، وقد حيكت العقائد علي نول هذه الأحاديث، ولم يتجرأ أحد من المفكرين الإسلاميين القدامي والجدد علي نقدها إلا من شذ. نري في مقابل هذه البدع أن أئمة أهل البيت يكافحون التجسيم والتشبيه والجبر وغيرهما، بخطبهم ورسائلهم ومناظراتهم أمام حشد عظيم وفي وسع القارئ الكريم مراجعة نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق (306 - 381 ه) وكتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي (ت 550 ه) إلي غير ذلك من الكتب المؤلفة في ذلك المضمار، وما أحلي المناظرات التي أجراها [ صفحه 109] الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديين والملحدين وأحبار اليهود وقساوسة النصاري، بل ومع المتزمتين المغترين بتلك الأحاديث. كانت لفكرة الإرجاء التي تدعو إلي التسامح الديني في العمل، واجهة بديعة عند السذج من المسلمين ولا سيما الشباب منهم، فقام الإمام الصادق (عليه السلام) بردها والتنديد بها، وقد أصدر بيانا فيها حيث قال: " بادرواأولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة " [179] . هذا هو الإمام الثامن علي بن موسي الرضا (عليه السلام) يكافح فكرة رؤية الله تبارك وتعالي بالعين، ويرد الفكرة المستوردة من اليهود والتي اغتر بها بعض المحدثين، وإليك ما جري بينه وبين أحدهم باسم أبي قرة. قال أبو قرة: إنا روينا أن الله عز وجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسي (عليه السلام) الكلام ولمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) الرؤية. فقال الإمام

علي بن موسي الرضا (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله عز وجل إلي الثقلين الجن والإنس (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (الأنعام - 103) (ولا يحيطون به علما) (طه - 110) و (ليس كمثله شئ) (الشوري - 11) أليس محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ قال أبو قرة: بلي. قال الإمام: فكيف يجئ رجل إلي الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلي الله بأمر الله ويقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) و (ولا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شئ) ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت [ صفحه 110] به علما وهو علي صورة البشر. أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقةأن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر [180] . هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتي يكون أسوة لنماذج أخري. وإن أردت أن تقف علي مدي مكافة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة فعليك مقارنة كتابين قد ألفا في عصر واحد بيد محدثين في موضوع واحد، وهما: 1 - التوحيد لابن خزيمة (ت - 311 ه). 2 - التوحيد للشيخ الصدوق (306 - 381 ه). قارن بينها، تجد الأول مشحونا بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر وما زال المتسمون بالسلفية ينشرونه عاما بعد عام، كأن ضالتهم فيه. وأما الثاني ففيه الدعوة إلي التوحيد وتنزيه الحق، ومعرفته بين التشبيه والتعطيل، وتبيين الآيات التي اغتر بعضهم بظواهرها من دون التدبر بالقرائن الحافة بها. وبذلك تبين أن النبي الأكرم قد جعل من الأئمة واجهة دفاعية لصد البدع وأفكار المتبدعين ولا تتبين تلك الحقيقة إلا بعد معرفتهم ومراجعة كلماتهم.

دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

إذا كانت البدعة من أعظم الكبائر والمنكرات، فعلي السلطة

التنفيذية للحكومات الإسلامية، دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر للقيام بمواجهة المبتدعين وردعهم عن أعمالهم، فإن البدعة أول يومها بذرة في الأذهان، [ صفحه 111] ثم يستفحل عودها عبر الزمن حتي تصير شجرة خبيثة ولذلك دعا الذكر الحكيم إلي القيام بهذا الأمر وقال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران - 104) وفي آية أخري: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) (آل عمران - 110). والأمة عبارة عن جماعة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، غير أن الواجب علي الجميع غير الواجب علي جماعة خاصة، فيجب علي كل مسلم ردع المنكر بقلبه ولسانه، وأما القيام بأكثر من ذلك فهو علي القوي المطاع العالم بالمعروف، وبذلك يجمع بين الآيتين، حيث إن الثانية تري الأمر بالمعروف فريضة علي الجميع والأولي تراه فريضة علي أمة خاصة، فالمراتب النازلة فريضة علي الكل والمراتب العالية وظيفة للأقوياء من الأمة. ويكفي في أهمية تلك الفريضة قوله سبحانه: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) (الحج - 41). وهذا الإمام أمير المؤمنين يعلل قيامه ونضاله، بردع البدع ويقول: " اللهم وهذا الإمام أمير المؤمنين يعلل قيامه ونضاله، بردع البدع ويقول: " اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا، منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك " [181] و رد المعالم من دينه، كناية عن رفض البدع التي كانت قد ظهرت علي الساحة الإسلامية لأجل التساهلات. وقال الإمام الباقر (عليه السلام): " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل [ صفحه 112] المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف منالأعداء ويستقيم الأمر " [182] . وقد كان في العصور الماضية نشاط للآمرين بالمعروف في خصوص متابعة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء حتي لا يخرجوا عن حدود الشريعة، يقول ابن إخوة: ومن وظائف المحتسب مراقبة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء، وعدم السماح لتصدي هذه المشاغل إلا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالما بالأمور والعلوم الشرعية - إلي آخرما ذكره - [183] . فهذه هي الخطوط الدفاعية التي وضعها الإسلام أمام المبتدعين، وهناك أمور أخري للقضاء علي البدعة والحد من نشاط المبتدعين، نؤخر بيانها إلي آونة أخري. [ صفحه 113]

كيفية التوصل إلي مكافحة البدع والقضاء عليها؟

اشاره

بقي هنا أمر هام وهو، كيف نتوصل إلي مكافحة البدع ونقضي عليها؟ وهو سؤال مهم يبين موقفنا في هذا العصر أمام تيارات البدع قديما وحديثا، وفي الحقيقة أن ما نذكره في الجواب، هو واجب العلماء المفكرين الذين يتحرقون لمعرفة الحق بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات العصبية. إن القضاء علي البدع ولو نسبيا يتم بالقيام بأمور هي:

دراسة العقائد الإسلامية علي ضوء الكتاب والسنة الصحيحة

والفطرة الإنسانية والعقل السليم ونفي الاكتفاء برسالة الطحاوية " للإمام الطحاوي "، والإبانة " للإمام الشيخ الأشعري " فإنهما - رضوان الله عليهما - قد أديا رسالتهما في عصرهما بأحسن وجه، ولم يكن في وسعهما إلا ما ألفا ونشرا وإن تأثرا بالروايات غير الصحيحة، إذ في ثنايا ذينك الكتابين التلميح إلي التشبيه والتعطيل وتعريف الإنسان بلا اختيار وإرادة، كالريشة في مهب الريح، إلي غير ذلك مما ترده الفطرة السليمة كجواز تعذيب الطفل يوم القيامة بالنار، ومن المؤسف جدا [ صفحه 114] الاكتفاء بدراسة العقائد بهذين الكتابين وما شاكلهما في مقابل التشكيكات البراقة التي تثيرها كل يوم الوسائل الإعلامية علي الإطلاق في معسكر الغرب والشرق، وهل يمكن صد هذا التيار بهذه الكتب، كلا ومن قال نعم، فإنما يقوله بلسانه وينكره بقلبه. كل ذلك يسوقنا إلي أن نعطي للعقائد والمعارف قسما أوفر في دراساتنا، حتي تتميز البدع عن غيرها، نعم إن من يتلقي كل ما ذكره أحمد بن حنبل في كتاب السنة والإمامين السابقين في رسالتهما لا غبار عليه، وإن كان ضد الكتاب والسنة المتواترة والعقل الفطري الصريح فلا يحس وظيفة أصلا، وكلامنا مع المفكرين الواعين العالمين بما يجري في البلاد، علي الإسلام والشباب وما تثار من إشكالات حول الأصول حتي التوحيد نفسه.

تمحيص السنة و دراستها من جديد دراسة عميقة سندا و مضمونا

مقارنة مع الكتاب والسنن القطعية عن الرسول، فإن أكثر البدع لها جذور في السنة المدونة وهو عنها برئ وإنما اختلقها الوضاعون الكذابون علي لسانه. غير أن مسلمة أهل الكتاب وبما أنهم لم يروا النبي الأكرم قد نسبوها إلي أنبيائهم وكتبهم، ونسبها بعض السلف إلي نفس النبي الأكرم، وها نحن نضع أمامك حديثين رواهما إلي الشيخان في مورد الأنبياء حتي نتخذهما مقياسا لما لم

نذكره. إنه سبحانه يعرف فضله علي النبي الأكرم بقوله: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) (النساء - 131) والمراد من فضله سبحانه في ذيل الآية هو علم النبي الذي أفاضه الله عليه ووصفه بكونه عظيما، مضافا إلي ما في صدر الآية من إنزال الكتاب والحكمة عليه. ومع ذلك نري أن الرسول في الصحيحين يعرف بصورة أنه لا علم له بأبسط الأمور وأوضح السنن الطبيعية في عالم النباتات، حيث رأي أن قوما يلقحون النخيل فنهاهم عن ذلك قائلا بأنه لا يظن أنه يغني شيئا فتركه الناس، [ صفحه 115] وواجهوا الخسارة وعدم الإثمار، فأتوا إلي النبي الأكرم فقال ما قال، وإليك نص الرواية: 1 - روي مسلم، عن موسي بن طلحة عن أبيه، قال: مررت ورسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بقوم علي رؤوس النخل، فقال: " ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثي فتلقح، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " ما أظن يغني ذلك شيئا "، فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك، فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذبعلي الله عز وجل " [184] . وروي عن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله المدينة وهم يأبرون النخل يقولون: يلقحون النخل فقال: " ما تصنعون "؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا " فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من

رأيي فإنما أنابشر " [185] . والعجب أن مؤلف الصحيح مسلم النيسابوري ذكر الحديث في باب أسماه ب " وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ذكره (صلي الله عليه وآله وسلم) من معايش الدنيا علي سبيل الرأي " نحن نعلق علي الحديث بشئ بسيط ونترك التفصيل إلي القارئ. أولا: نفترض أن النبي الأكرم ليس نبيا، ولا أفضل الخليقة، ولا من أنزل إليه الكتاب والحكمة، ولا من وصف الله سبحانه علمه بكونه عظيما، ولكن كان عربيا صميما ولد في أرض الحجاز، وعاش بين ظهراني قومه وغيرهم في الحضر والبادية، وقد تكررت سفراته إلي الشام، وكل إنسان كان هذا شأنه يقف علي أن النخيل لا يثمر إلا بالتلقيح، فما معني سؤاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم: إنهم " [ صفحه 116] يلقحونه " أفيمكن أن يكون هذا الشئ البسيط خفيا علي النبي؟! ثانيا: كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح وهو سنة من سنن الله في عالم الحياة، وقال سبحانه: (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) (فاطر - 43) ومع ذلك فكيف يقول: " ما أظن يغني ذلك شيئا "؟! ثالثا: إن الاعتذار الوارد في الرواية يسيئ الظن بكل ما يقوله النبي الأكرم، فإن كان المخبر بهذه الدرجة من العلم، فكيف يمكن الاعتماد بما يخبر عن الله سبحانه؟! كل ذلك يسئ الظن بكل ما يذكره بلسانه ويخرج من شفتيه، والأسوأ من ذلك ما نسب إليه من الاعتذار بقوله: " وإذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب علي الله عز وجل "، لأن فيه تلميحا إلي أنه - والعياذ بالله - يكذب في مواضع أخر. فلو كانت الرواية ونظائرها مصادر للعقيدة، تكون

النتيجة أن النبي ربما يكون جاهلا بأبسط السنن الجارية في الحياة، فهل يصح التفوه بذلك؟ 2 - لو كان الحديث الأول يحط من منزلة النبي الأكرم، فالحديث الثاني يحط من مكانة الكليم موسي (عليه السلام). أخرج الشيخان في صحيحهما بالإسناد إلي أبي هريرة، قال: لما جاء ملك الموت إلي موسي (عليه السلام) فقال له: أجب دعوة ربك، فلطم موسي عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلي الله تعالي فقال: إنك أرسلتني إلي عبد لك لا يريد الموت، ففقأ عيني، قال فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلي عبدي فقل: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك علي متن ثور، فما توارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة [186] . [ صفحه 117] وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه، وقال: إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتي أتي موسي فلطمه ففقأ عينه - إلي أن قال: - إن ملك الموت جاءإلي الناس خفيا بعد وفاة موسي [187] . والحديث غني عن التعليق ولا يوافق الكتاب ولا سنة الأنبياء ولا العقل السليم من جهات هي: 1 - إنه سبحانه يقول: (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (يونس - 49) فظاهر قوله: " أجب ربك " أنه كان ممن كتب عليه الموت وجاء أجله ومع ذلك تأخر. 2 - من درس حياة الأنبياء بشكل عام يقف علي أنهم (عليهم السلام) ما كانوا يكرهون الموت كراهة الجاهلين، وهل كانت الدنيا عند الكليم أعز من الآخرة، وهل كانت تخفي عليه نعمها ودرجاتها؟! 3 - ما ذنب ملك الموت إن هو إلا رسول من الله مجند له، يعمل بإمرته، فهل كان يستحق لمثل هذا الضرب؟!

4 - كيف ترك القصاص من موسي مع أنه سبحانه يقول: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) (المائدة - 45). 5 - وهل كان ملك الموت أضعف من موسي حتي غلبه عليه وفقأ عينه ولم يتمكن من الدفاع، ولم يزهق روحه مع كونه مأمورا به من ربه؟ أنا لا أدري، وأظن أن القارئ في غني عن هذه التعليقات فإن مضمون الحديث يصرح بأعلي صوته إنه مكذوب. [ صفحه 118] فتمحيص السنة فريضة علي المفكرين لكي يقضوا بذلك علي البدع التي ما انفكت تتلاعب بالدين، ولا يقوم بذلك إلا من امتحن الله قلبه بالتقوي ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإن رماه المتطرفون بأنواع التهم والأباطيل، ولا غرو فإن المصلحين في جميع الأجيال كانوا أغراضا لنبال الجهال. [ صفحه 119]

مسائل عشر علي طاولة التطبيق

اشاره

إن الغاية القصوي من تحديد مفهوم البدعة، هو الاهتداء إلي مصاديقها وتمييزها عن السنة فهناك أمور وصفها البعض بالبدعة والآخر بالسنة وما زال النزاع علي قدم وساق، وسنختار مسائل عشر لبحثها وهي: 1 - الاحتفال بمولد الرسول. 2 - شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم. 3 - القبض في الصلاة. 4 - صلاة الضحي في السنة. 5 - إقامة صلاة التراويح جماعة. 6 - الطلاق ثلاثا دفعة أو دفعات في مجلس واحد. 7 - النهي عن متعة الحج. 8 - الاتمام في السفر. 9 - الصيام في السفر. 10 - رؤية الله تعالي. [ صفحه 120] فلعل من العسير علي القارئ الذي كانت سيرته القبض في الصلاة عند التلاوة، أو إقامة صلاة التراويح جماعة، أن يترك مذهبه الذي نشأ عليه منذ نعومة أظفاره، بل ونشأ

عليه قومه طيلة قرون عديدة، ولكن لما كان الحق أحق أن يتبع، لذا نقترح عليه أن يتخلي عما كان عليه حسب تقليده ويدرس المسألة من رأس علي ضوء أدلتها، منحازا عن كل رأي مسبق، وعند ذلك يتجلي له الحق بأجلي مظاهره ويسهل قبوله وإن كان علي خلاف ما نشأ عليه، وهذا ما نطلبه من القراء في دراستهم لهذا الفصل. وإليك البحث عن الجميع واحدا تلو الآخر: [ صفحه 121]

الاحتفال بمولد النبي

اشاره

لقد طال النزاع في الآونة الأخيرة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها في الاحتفال بمولد النبي الأكرم، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه بينما يراه الأكثرون أنه من السنة. وإليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلة.

حب النبي أصل في الكتاب والسنة

قد تعرفت علي أن العنصر المقوم للبدعة هو عدم الدليل علي جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص علي جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وقد ذكرنا لك أمثالا كثيرة، وعلي ضوء ما ذكر نركز في هذا الفصل علي وجود دليل عام علي الاحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأما الدليل فكما يلي: الحب والبغض خلتان تتواردان علي قلب الإنسان، تشتدان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب. ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلي البيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان، ومن هذا المنطق حب الإنسان لما يرتبط به أيضا، فهو كما يحب نفسه يحب كذلك كل ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتصاله به جسمانيا كالأولاد والعشيرة، أو معنويا كالعقائد والأفكار والآراء [ صفحه 122] والنظريات التي يتبناها، وربما يكون حبه للعقيدة أشد من حبه لأبيه وأمه فيذب عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلي عنده من كل شئ حتي نفسه التي بين جنبيه. فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسسها ومغذيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضر لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلي الأمور المعنوية والروحية محترمين لدي جميع الأجيال من غير فرق بين نبي وآخر ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعا تجاههم، وإقبالا

عليهم. ولهذا لم يكن عجيبا أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة طبقة الأنبياء والرسل منذ أن شرع الله الشرائع وابتعث الرسل، فتري أصحابها يقدمونهم علي أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال.

حب النبي في الكتاب

ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشرية، تضافرت الآيات والأحاديث علي لزوم حب النبي وكل ما يرتبط به، وليست الآيات إلا إرشادا إلي ما توحي فطرة الإنسان إليه قال سبحانه: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة - 24). وقال سبحانه: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة - 56). ويقول سبحانه: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (الأعراف - 157). [ صفحه 123] فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة: 1 - الإيمان به. 2 - تعزيره. 3 - نصرته. 4 - اتباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه. وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنه قد ذكره بقوله: (ونصروه) وإنما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما إنه نبي الرحمة والعظمة، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها وغيرها، تماما كما أن الإيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة. هذه هي العوامل الباعثة إلي حب النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وهذه هي الآيات المرشدة إلي ذلك. ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحث علي حبه ومودته.

حب النبي في السنة

قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): 1 - " لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين ". 2 - " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب الناس إليه من والده وولده ". 3 - " ثلاث من كن فيه ذاق طعم الإيمان: من كان

لا شئ أحب إليه من الله ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحب إليه من أن يرتد عن دينه، ومن كان يحب لله ويبغض لله ". [ صفحه 124] 4 - " والله لا يكون أحدكم مؤمنا حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده ". 5 - " لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من نفسه ". 6 - " من أحب الله ورسوله صادقا غير كاذب، ولقي المؤمنين فأحبهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار ألقي فيها، فقد طعم طعم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان ". إن الذي يري سعادته في ما جاء به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من شريعة ودين، هو الذي يذوق طعم الإيمان، وتذوق طعم الإيمان لا يتحقق إلا عندما يستن الإنسان بسنة رسول الله ويعمل بشريعته فيحصل علي سعادته. 7 - عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، ويكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وتكون أن تحرق بالنار أحب إليك من أن تشرك بالله شيئا، وتحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا فعلت ذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل قلب الظمآن حب الماء في اليوم القائظ ". 8 - " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ". 9 - عن أنس أن رجلا سأل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن الساعة، فقال: متي الساعة؟ قال: " وما أعددت لها "؟ قال: لا شئ إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: " أنت مع من أحببت ". قال

أنس: فما فرحنا بشئ فرحنا بقول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): " أنت مع من أحببت ". 10 - أبو ذر قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: " أنت يا أبا ذر مع من أحببت " قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: " فإنك مع من أحببت "، قال: فأعاد (ها) أبو ذر، فأعادها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). [ صفحه 125] 11 - " من أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ". 12 - " والذي نفس محمد بيده ليأتين علي أحدكم يوم ولا يراني، ثم لئن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم ". 13 - " إن أحدكم سيوشك أن يحب ينظر إلي نظرة بما له من أهل وعيال ". البدعة، مفهومها، حدها، آثارها - الشيخ جعفر السبحاني - ص 125 - 131 14 - " من أشد أمتي لي حبا أناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله ". 15 - " أشد أمتي لي حبا قوم يكونون بعدي يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني ". 16 - " إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشتري رؤيتي بأهله وماله ". 17 - " من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كل صلاة مكتوبة حلت له الشفاعة مني يوم القيامة: اللهم أعط محمد الوسيلة، واجعل في المصطفين محبته، وفي العالمين درجته، وفي المقربين ذكر داره ". 18 - " من قال في دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعط محمدا الدرجة والوسيلة، اللهم اجعل في المصطفين محبته وفي العالمين درجته، وفي المقربين ذكره، من

قال تلك في دبر كل صلاة فقد استوجب علي الشفاعة، ووجبت له الشفاعة ". وقد روي عن أبي بكر قال: الصلاة علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أفضل من عتق الرقاب، وحب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أفضل منعتق الأنفس أو قال: من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل [188] . [ صفحه 126]

اختلاف الأمة في درجات حبهم للنبي

وليست الأمة المؤمنة في ذلك شرعا سواء، بل هم فيه متفاوتون علي اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حب الله تعالي. قال الإمام القرطبي: كل من آمن بالنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شئ من تلك المحبة الراجحة غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفي، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدني، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الفضلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) اشتاق إلي رؤيته بحيث يؤثرها علي أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمورالخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه [189] .

مظاهر الحب في الحياة

إن لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئا يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي علي أعمال الإنسان وتصرفاته، بل إن من خصائص الحب أن يظهر أثره علي جسم الإنسان وملامحه، وعلي قوله وفعله، بصورة مشهورة وملموسة. فحب الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتباع دينه، والاستنان بسنته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبدا أن يكون المرء محبا لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أشد الحب، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادعي حبا في نفسه وخالفه في عمله فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين. [ صفحه 127] ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد موجها كلامه إلي مدعي الحب الإلهي كذبا: تعصي الإله وأنت تظهر حبه++ هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته++ إن المحب لمن يحب مطيع [190] .

للحب مظاهر وراء الاتباع

نعم لا يقتصر أثر الحب علي هذا، بل له آثار أخري في حياة المحب، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظمه ويزيل حاجته، ويذب عنه، ويدفع عنه كل كارثة ويهيئ له ما يريحه ويسره إذا كان حيا. وإذا كان المحبوب ميتا أو مفقودا حزن عليه أشد الحزن، وأجري له الدموع كما فعل النبي يعقوب (عليه السلام) عندما افتقد ولده الحبيب يوسف (عليه السلام) فبكاه حتي ابيضت عيناه من الحزن، وبقي كظيما حتي إذا هب عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هش له وبش، وهفا إليه شوقا وحبا. بل يتعدي أثر الحب عند فقد الحبيب وموته هذا الحد، فنجد المحب يحفظ آثار محبوبه، وكل ما يتصل به، من لباسه وأشيائه كقلمه ودفتره وعصاه ونظارته. كما ويحترم أبناءه وأولاده،

ويحترم جنازته ومثواه، ويحتفل كل عام بميلاده وذكري موته، ويكرمه ويعظمه حبا به ومودة له. إلي هنا ثبت، أن حب النبي وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصح لأحد إنكاره، ومن المعلوم أن المطلوب ليس الحب الكامن في القلب من دون أن يري أثره علي الحياة الواقعية، وعلي هذا يجوز للمسلم، القيام بكل ما يعد مظهرا [ صفحه 128] لحب النبي شريطة أن يكون عملا حلالا بالذات ولا يكون منكرا في الشريعة، نظير: 1 - تنظيم السنة النبوية، وإعراب أحاديثها وطبعها ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلي أقوال أهل البيت وأحاديثهم. 2 - نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطولة حول حياة النبي وعترته، وإنشاء القصائد بشتي اللغات والألسن في حقهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل. فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أن إنشاء القصائد في مدح رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان مما يعبر به أصحابها عن حبهم لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطولة في مدح رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) منطلقا من إعجابه وحبه له (صلي الله عليه وآله وسلم) فيقول في جملة ما يقول: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول++ متيم إثرها لم يفد مكبول نبئت أن رسول الله أوعدني++ والعفو عند رسول الله مأمول ويقول: مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل إن الرسول لنور يستضاء به++ مهند من سيوف الله مسلول [191] . وقد ألقي هذه القصيدة في حضرة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، ولم ينكر عليه [ صفحه 129] رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). وهذا

هو حسان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، ويذكر فيه مدائحه، ويقول: بطيبة رسم للرسول ومعهد++ منير وقد تعفو الرسول وتحمد إلي أن قال: يدل علي الرحمان من يقتدي به++ وينقذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهديهم الحق جاهدا++ معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا [192] . وهذا هو عبد الله بن رواحة ينشئ أبياتا في هذا السياق فيقول فيها: خلوا بني الكفار عن سبيله++ خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله++ أعرف حق الله في قبوله [193] . هذه نماذج مما أنشأها الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبي الأكرم ونكتفي بها لدلالتها علي ما ذكرنا. ولو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار والقصائد حول النبي الأكرم لاحتاج في تأليفه إلي عشرات المجلدات. فإن مدح النبي كان الشغل الشاغل للمخلصين والمؤمنين منذ أن لبي الرسول دعوة ربه، ولا أظن أن أحدا عاش في هذه البسيطة نال من المدح بمقدار ما ناله الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) من المدح بمختلف الأساليب والنظم. [ صفحه 130] وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنة المطهرة في هذا المجال، فشكر الله مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة. 3 - تقبيل كل ما يمت إلي النبي بصلة كباب داره، وضريحه وأستار قبره انطلاقا من مبدأ الحب الذي عرفت أدلته. وهذا أمر طبيعي وفطري فبما أن الإنسان المؤمن لا يتمكن بعد رحلة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) من تقبيل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) [194] فيقبل ما يتصل به بنوع من الاتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث

يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه. فهذا هو المجنون العامري كان يقبل جدار بيت ليلي ويصرح بأنه لا يقبل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول: أمر علي الديار ديار ليلي++ أقبل ذا الجدار وذا الجدارا فما حب الديار شغفن قلبي++ ولكن حب من سكن الديارا 4 - إقامة الاحتفالات في مواليدهم وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيات والمحرمات. ومن دعا إلي الاحتفال بمولد النبي في أي قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ أي حب النبي الذي أمر به القرآن والسنة بهذا العمل. هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، [ صفحه 131] ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف،ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عظيم [195] . وقال أبو شامة المقدسي في كتابه: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده (صلي الله عليه وآله وسلم) من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإن في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراءشعارا لمحبته [196] . أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للاحتفال بالبدعة إلا أن يريد البدعة بالمعني اللغوي، كما أن الاحتجاج علي حسن الاحتفال بالأعمال الجانبية من صدقات ومعروف وإظهار الزينة...، فإن هذه الأمور الجانبية لا تسوغ الاحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنة، قد عرفت وجود الدليل. وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور،

ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عظيم... فرحم الله امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المباركأعيادا، ليكون أشد علة علي من في قلبه مرض وأعيا داء [197] . إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظن أن يشك أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي الأكرم، احتفالا دينيا فيه رضي الله ورسوله، ولا تصح تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة، وليس المراد من الأصل، الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك. [ صفحه 132] ويرشدك إلي أن هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي، وجدانك الحر، فإنه يقضي - بلا مرية - علي أنها إعلاء لمقام النبي وإشادة بكرامته وعظمته، بل يتلقاها كل من شاهدها عن كثب علي أن المحتفلين يعزرون نبيهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: (ورفعنا لك ذكرك) (الانشراح - 4).

السنة النبوية و كرامة يوم مولده

1 - أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزلعلي " [198] . يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي - عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله علي عباده - ما هذا لفظه: إن من أعظم نعم الله علي هذه الأمة إظهار محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وبعثته وإرساله إليهم، كما قال الله تعالي: (لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) فصيام يوم تجددت فيه هذه النعمة من الله سبحانه علي عباده المؤمنين حسن جميل،وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر [199] . 2 - روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس

- رضي الله عنه - قال: لما قدم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظفر الله موسي وبني إسرائيل علي فرعون، ونحن نصوم تعظيما له، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم):" نحن أولي بموسي " وأمر بصومه [200] . وقد استدل ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث علي مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي علي ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: فيستفاد فعل الشكر لله علي ما [ صفحه 133] من به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة فيذلك اليوم [201] . 3 - وللسيوطي أيضا كلام آخر نأتي بنصه، يقول: وقد ظهر لي تخريجه علي أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك علي أن الذي فعله النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إظهار للشكر علي إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي علي نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهارالمسرات [202] . 4 - أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. فقال: أي آية؟ قال: (اليوم أكملت

لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة - 3). فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه،ورسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قائم بعرفة يوم الجمعة [203] . وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: فيه نزلت في يوم عيد من يومجمعة ويوم عرفة، وقال الترمذي: وهو صحيح [204] . [ صفحه 134] وفي هذا الأثر موافقة سيدنا عمر بن الخطاب (رض) علي اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة، عيدا لأن الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسما لشكر تلك النعمة، وفرصة لإظهارالفرح والسرور [205] . نري أن المسيح عندما دعا ربه أن ينزل مائدة عليه وعلي حوارييه قال: (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) (المائدة - 114). فقد اتخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيدا، والرسول الأكرم نعمة عظيمة من بها الله علي المسلمين بميلاده، فلم لا نتخذه يوم فرح وسرور؟

الاستدلال بالإجماع

ذكروا أن أول من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب إربل، وقد توفي عام 630 ه، وربما يقال: أول من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أولهم المعجز لدين الله، توجه من المغرب إلي مصر في شوال 361 ه، وقيل في ذلك غيره، وعلي أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقبا وأعواما من دون أن يعترض عليهم أي ابن أنثي، وعلي أي حال فقد تحقق الإجماع علي جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتفاق الأمة بنفسه أحد الأدلة، وكانت السيرة علي تبجيل مولد النبي إلي

أن جاء ابن تيمية، والعز بن عبد السلام [206] ، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أن الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أوليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه؟ [ صفحه 135]

اوهام و تشكيكات

إن للقائلين بالمنع تشكيكات وشبه كلها سراب لا ماء، نذكرها بنصوصهم: أ - الاحتفال نوع من العبادة: قال محمد حامد الفقي: والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسمالأولياء هي نوع العبادة لهم وتعظيمهم [207] . يلاحظ عليه: أن العنصر المقوم لصدق العبادة علي العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظم له أو ربوبيته، أو كونه مالك لمصير المعظم المحتفل، وأن بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضاره ولا أقل، وبيده مفاتيح المغفرة والشفاعة. وأما إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر وقام بالاحتفال بذكري رجل ضحي بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعد ذلك عبادة له وإن أقيمت له عشرات الاحتفالات وألقيت فيها القصائد والخطب. ومن المعلوم أن المحتفلين المسلمين يعتقدون أن النبي الأكرم عبد من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من الله إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداء لشكر النعمة. ب - لم يحتفل السلف بمولد النبي: قال ابن تيمية: إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وتعظيما لهمنا، وهم علي الخير أحرص [208] . [ صفحه 136] يلاحظ عليه: بما تعرفت عليه في الفصل الرابع من أن المقياس في السنة والبدعة هو الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتصلة بعصر النبي، وأما

غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يكن هناك اعتماد علي هذه الأصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياء ولا رسلا، وليس الخلف بأقل منهم، بل الجميع أمام الكتاب والسنة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنة علي جواز الاحتفال، فترك السلف لا يكون مانعا، علي أن ترك السلف لم يكن مقارنا بتحريم الاحتفال أو كراهيته فغاية ما هناك أنهم لم يفعلوا، وقد أمر الله بما في هذه الآية: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر - 7) ولم يقل في حق النبي " وما تركه فانتهوا عنه " فكيف الحال في حق السلف؟! ج - إنها مضاهاة للنصاري في ميلاد المسيح: يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصاري في ميلاد المسيح (عليه السلام)، وإما محبة للنبي وتعظيما له والله قد يثيبهم عليهذه المحبة والاجتهاد لا علي البدع [209] . يلاحظ عليه: أن ابن تيمية ليس علي يقين بأن المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاة للنصاري، أضف إلي ذلك أن الأساس الذي يجب أن يبني عليه عمل المسلم هو: انطباق العمل علي الكتاب والسنة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتباع الكتاب والسنة، وإن افترضنا أن أول من احتفل، احتفل مضاهاة، إلا أن المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة. د - تخصيص المولد بيوم للاحتفال به بدعة: إن عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، [ صفحه 137] فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العملبدعة [210] . هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكن الجواب عنه واضح، وذلك لأن جميع الأيام بالنسبة إلي الاحتفال وإن كانت سواسية إلا أن

تخصيص يوم واحد للاحتفال به، فلأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلا ما شذ، وهو أن ذلك اليوم تشرف بولادته فهو من أفضل الأيام، كما أن البقعة التي ضمت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثم خص النبي الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم وبين أن سبب التخصيص هو أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) ولد فيه، فصار كل ذلك سببا لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضا، بل كل يوم أرادوا تكريم النبي والاحتفاء به. ثم إن الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه،. هو أنه لم يقترن ولن يقترن ادعاء ورود الأمر الشخصي علي هذا التخصيص، وإنما الكل يتفق علي جواز الاحتفال في جميع الأيام غير أن تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه. نعم، من احتفل في مولد النبي وادعي ورود الشرع به، أو حثه علي هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن علي أديم الأرض رجلا يدعي ذلك. وبعبارة موجزة، فإن كون الاحتفال بدعة رهن أمرين، وكلاهما منتفيان: 1 - عدم الدليل العام علي الاحتفال. 2 - ادعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص وحثه عليه. فعندئذ فلا معني لادعاء البدعة. ه - الاحتفالات تشتمل علي أمور محرمة: إن هذه الاحتفالات مشتملة علي أمور محرمة في الغالب كاختلاط النساء [ صفحه 138] بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقي والغناء [211] . يلاحظ عليه: أن هذا النوع من الاستدلال ينم عن قصور باع المستدل، وهذا يدل علي أنه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسك بالطحلب شأن الغريق المتمسك به. فإن البحث، في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها. وأما الأمور الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعا من

الحكم بالجواز، وما ذكره لا يختص بالاحتفال، بل كل عمل يجب أن يكون بعيدا عن المحرمات، فعلي المحتفلين أن يلتزموا بذلك، ويجعلوا مجالسهم مهبطا للنور. وفي الختام نركز علي أمر وهو، أن الاستدلال علي الجواز أو المنع بالأمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فإن الحكم بالجواز والمنع ذاتا يتوقف علي كون الشئ بما هو هو جائزا أو ممنوعا، وأما الاستدلال علي أحدهما بالأمور الطارئة فليس استدلالا صحيحا. وهناك نكتة أخري، وهي أن الاستدلال علي الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات علي عظمائهم قياس مع الفارق، لأن الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأمور العادية، والأصل فيها هو الحلية، وأما الاحتفال بمولد النبي فإنما هو احتفال ديني وعمل شرعي فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لا بد من طلب دليل شرعي علي جوازه، وبذلك تقدر علي القضاء بين أدلة الطرفين. نعم، لا يمكن أن ننكر أن ما يقيمه العقلاء من احتفال، له تأثير في نفوسنا وتحفيز لنا للإقبال علي الاحتفال بمولد النبي، وفي هذا الصدد يقول العلامة الأميني: [ صفحه 139] " لعل تجديد الذكري بالمواليد والوفيات، والجري علي مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمة في الطوائف والأحياء، بعد سنيها، واتخاذ رأس كل سنة بتلكم المناسبات أعيادا وأفراحا، أو مآتما وأحزانا، وإقامة الحفل السار، أو التأبين، من الشعائر المطردة، والعادات الجارية منذ القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسستها الفكرة الصالحة لدي الأمم الغابرة، عند كل أمة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلم جرا حتي اليوم. هذه مراسم اليهود، والنصاري، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجلها التاريخ في صفحاته. وكأن هذه السنة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحب

والعاطفة، وتسقي من منابع الحياة، وتتفرع علي أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعظماء الأمة إحياء لذكراهم، وتخليدا لاسمهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجع للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون أخري. وإنما الأيام تقتبس نورا وازدهارا، وتتوسم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعدا ونحسا، وتتخذ صبغة مما وقع فيها من الحوادث الهامة، وقوارع الدهرونوازله... " [212] . [ صفحه 140]

شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم

اشاره

اتفق المسلمون علي جواز زيارة القبور وخاصة زيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلا ما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي والنسبة غير ثابتة، وقد تضافرت الروايات علي هذا الجواز وأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) زار قبر أمه فبكي وأبكي من حوله وقال: " استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن ليفزوروا القبور فإنها تذكركم الموت " [213] . وقال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " [214] . ونقتصر من الروايات الكثيرة علي هذا المقدار [215] . [ صفحه 141] وقد روي في السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع، فلاحظالمصدر [216] . وأما زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أي خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول: " تسن زيارة النبي (صليالله عليه وآله وسلم) إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه " [217] . نعم، ينسب إلي ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم، ولكنكلامه في كتاب الرد علي الأخنائي علي خلاف ذلك [218] . حتي أن المقدسي [219] صرح بأنه كان معتقدا بزيارة

النبي الأكرم وقال: " قال رحمه الله (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه، باب زيارة قبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): إذا أشرف علي مدينة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمني وقال: بسم الله والصلاة علي رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر علي رأسه ليكون قائما وجاه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ويقف متباعدا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس غاض الطرف متحضرا بقلبه جلالة موقفه ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر [ صفحه 142] المحجلين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتي أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزي نبيا ورسولاعن أمته. اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا " [220] . ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبي الأكرم، ولعلنا نخصص بحثنا لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخص زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل، إنما الكلام هنا هو التركيز علي حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، فقد رآه ابن تيمية ومن

لف لفه، أمرا حراما مستدلا بحديث أبي هريرة أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام والمسجد الأقصي ". وروي هذا الحديث بصورة أخري وهي: " إنما يسافر إلي ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي ومسجد إيليا " وروي بصورة ثالثة وهي: " تشد الرحال إلي ثلاثة مساجد... " [221] . أقول: رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقف علي دراسة أمرين: الأول: ما يدل علي استحباب السفر لزيارة قبره (صلي الله عليه وآله وسلم). الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية علي تحريم السفر. وإليك الكلام حولهما واحدا تلو الآخر: [ صفحه 143]

ما يدل علي استحباب السفر

يمكن الاستدلال علي استحباب السفر بوجوه كثيرة لكننا نقتصر علي وجهين: الأول: إطباق السلف والخلف علي السفر للزيارة: وهذا لا يمكن لأحد إنكاره، وقد استمرت السيرة قرونا عديدة، وممن أوضح تلك السيرة الفقيه السبكي، بقوله: 1 - إن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلي زيارته (صلي الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، كما ذكرناه في الباب الثالث، وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه، وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها علي مر السنين. وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك علي وجه التقرب به إلي الله عز وجل، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير، مع تأسفه عليه

و وده لو تيسر له، ومن ادعي أن هذا الجمع العظيم مجمعون علي خطأ فهوالمخطئ [222] . إن جريان السيرة علي السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطع أحد أن ينكره، حتي أن الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتابا في الرد علي السبكي لم يتعرض للسيرة وما تحدث عنها بكلمة مع أنه كان بصدد نقد الكتاب، ولأجل أن [ صفحه 144] تتضح حال السيرة نذكر بعض النصوص من العلماء: 2 - قال أبو الحسن الماوردي (ت / 450 ه): فإذا عاد ولي الحاج، سار به علي طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله ليجمع لهم بين حج بيت الله عز وجل، وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياما بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيجالمستحبة [223] . 3 - قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت / 737 ه): وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار، والمسكنة والفقر، والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلي مشاهدتهم بعين قلبه لابعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون... إلي آخر ما ذكره [224] . 4 - قال شيخ الإسلام أبو يحيي زكريا الأنصاري الشافعي (ت / 925 ه) في ما يستحب لمن حج: ثم يزور قبر النبي ويسلم عليه وعلي صاحبيه بالمدينةالمشرفة [225] . إلي غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الحاكية عن تطابق الأمة علي السفر. 5 - قال الشيخ علاء الدين

الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج: وزيارة قبره (صلي الله عليه وآله وسلم) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة، ويبدأ بالحج [ صفحه 145] لو كان فرضا ويخير لو كان نفلا ما لم يمر به، فيبدأ بزيارته لا محالة ولينويمعه زيارة مسجده " [226] . 6 - وقد نقل أنه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به، فقال عمر له: هل لك أن تسير معي إلي المدينة، وتزورقبره وتتمتع بزيارته؟ قال: نعم [227] . 7 - وقد تضافر النقل علي أن بلالا بعد ما نزل الشام وأقام بها، شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، قال جمال الدين المزي: أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها لزيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) طلب منهالصحابة ذلك، فأذن ولم يتم الأذان [228] . الثاني: إن مقدمة المستحب مستحبة: إذا كان زيارة النبي الأكرم أمرا مندوبا ولم تخصص الزيارة لمن كان مقيما في المدينة ونزيلا فيها، فلم لا تكون مقدمتها مستحبة إذ من القواعد إن وسيلة القربة قربه، وقد وردت روايات علي مشروعية تلك القاعدة؟ يقول السبكي في هذا الصدد: قال (صلي الله عليه وآله وسلم): " ألا أدلكم علي ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلي يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء علي المكاره، وكثرة الخطي إلي المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " رواه مسلم [229] والخطي إلي المساجد إنما شرفت لكونها وسيلة إلي عبادة. وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلي المسجد، [ صفحه 146] لا تخرجه إلا

الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجةوحط عنه بها خطيئة " رواه البخاري ومسلم [230] . وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهمفأبعدهم ممشي " رواه البخاري ومسلم [231] . وقال رجل: ما يسرني أن منزلي إلي جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلي المسجد ورجوعي إذا رجعت إلي أهلي، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " قد جمع الله لك ذلك كله " رواه مسلم. وقال جابر: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن لكم بكل خطوة درجة " رواه مسلم. وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " من تطهر في بيته، ثم مشي إلي بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخري ترفع درجة " رواه مسلم. وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): " من غدا إلي المسجد أو راح أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح " رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد [232] . هذا كله ما ذكره السبكي في مقدمة المستحب وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدمة ومقدمته. ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبة للنائي ويكون السفر حراما؟ فلا محيص عن كونه مباحا لا حراما. هذا كله حول دليل القائل بجواز شد الرحال. [ صفحه 147]

دراسة دليل القائل بالتحريم

ليس للقائل بالتحريم إلا دليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة وقد نقلت بصور مختلفة قد تعرفت عليها، والمناسب لما يرومه

المستدل الصورة التالية: " لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصي " فتحليل الحديث يتوقف علي تعيين المستثني منه وهو لا يخلو من صورتين: 1 - لا تشد إلي مسجد من المساجد إلا إلي ثلاثة مساجد... 2 - لا تشد إلي مكان من الأمكنة إلا إلي ثلاثة مساجد... فلو كانت الأولي كما هو الظاهر، كان معني الحديث عدم شد الرحال إلي أي مسجد من المساجد سوي المساجد الثلاثة ولا يعني عدم شد الرحال إلي أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجدا، فالحديث يكون غير متعرض لشد الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين لأن موضوع الحديث إثباتا ونفيا هو المساجد، وأما غير ذلك فليس داخلا فيه، فالاستدلال به علي تحريم شد الرحال إلي غير المساجد، باطل. وأما الصورة الثانية: فلا يمكن الأخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء. ثم إن النهي عن شد الرحال إلي أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهيا تحريميا، وإنما هو إرشاد إلي عدم الجدوي في سفر كهذا، وذلك لأن المساجد الأخري لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلي جامع بلد آخر [ صفحه 148] مع أنهما متماثلان. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد... ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء (عليهم السلام) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال

لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصي، لأن ذلك في المساجد، فإنها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت فيالدرجات تفاوتا عظيما بحسب اختلاف درجاتهم عند الله " [233] . يقول الدكتور عبد الملك السعدي: إن النهي عن شد الرحال إلي المساجد الأخري لأجل أن فيه إتعاب النفس دون جدوي أو زيادة ثواب لأن في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لأن العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي المسجد الأقصي بخمسمائة فزيادة الثواب تحببالسفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد [234] . والدليل علي أن السفر لغير هذه المساجد ليس أمرا محرما ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: " كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين " [235] . ولعل استمرار النبي علي هذا العمل كان مقترنا لمصلحة تدفعه إلي السفر إلي قباء والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقل ثوابا من الثواب في مسجده. [ صفحه 149]

دراسة النهي عن شد الرحال

إن لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة، إذ مع أنه قدر المستثني منه لفظ المساجد إلا أنه استدل علي منع شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله أي بالقياس الأولوي، فقال في الفتاوي: " فإذا كان السفر إلي بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهي عنه الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فكيف بالسفر إلي بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثانا وأعيادا ويشرك بها وتدعي من دون الله

حتي أن كثير من معظميها يفضل الحج إليها علي الحج إليبيت الله " [236] . ولو صح ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتي وإليك بيانها: 1 - قال: " إذا كان السفر إلي بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع ". يلاحظ عليه: من أين وقف علي أن السفر إلي غير المساجد الثلاثة محرم، وقد عرفت أن النهي ليس تحريميا مولويا وإنما هو إرشاد إلي عدم الجدوي، ولأجل ذلك لو ترتبت علي السفر مصلحة لجاز كما عرفت من سفر النبي إلي مسجد قباء مرارا. 2 - نسب عدم المشروعية إلي الأئمة الأربعة، إلا أننا لم نجد نصا منهم علي التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدل علي أنهم فسروا الحديث بنفس ما فسر به ابن تيمية. ولا يخفي علي الأئمة ظهور الحديث في الدلالة علي عدم الجدوي، لا كون العمل محرما. [ صفحه 150] 3 - إن عدم جواز السفر إلي غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلا علي عدم جوازه إلي (بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) [237] إذ لا ملازمة بينهما، لأنه لا يترتب علي السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوي تحمل عناء السفر، وقد عرفت أن فضيلة أي جامع في بلد، نفسها في البلد الآخر، وليس اكتساب الثواب متوقفا علي السفر، وهذا بخلاف المقام فإن درك فضيلة قبر النبي يتوقف علي السفر، ولا يدرك بدونه. 4 - يقول: " إن المسلمين يتخذون قبور الأنبياء أوثانا وأعيادا ويشرك بها " (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) أفمن يشهد كل يوم بأن محمدا عبده ورسوله ويكرمه ويعظمه لأنه سفير التوحيد ومبلغه، - أفهل - يمكن أن يتخذ قبره وثنا؟! 5

- يقول: " تدعي من دون الله " إن عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته، فعامة المسلمين حتي ابن تيمية يقول في صلاته " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ". والمراد من قوله سبحانه: (ولا تدعوا مع الله أحدا) (الجن - 18): لا تعبدوا مع الله أحدا. قال سبحانه: (أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر - 60) فسمي سبحانه دعوته: عبادة فإذا الدعوة علي قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقدا بإلوهية المدعو بنحو من الأنحاء، ودعوة غير عبادية، إذا دعاه علي أنه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند الله، والدعوة بهذا النوع تؤكد التوحيد. 6 - نقل: أن بعض المسلمين يفضل السفر إلي تلك الأماكن علي الحج إلي بيت الله، لكنها فرية بلا مرية، وليس علي وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه. 7 - لو كان السفر إلي القبور أمرا محرما فلماذا شد النبي الرحال لزيارة قبر [ صفحه 151] أمه بالأبواء وهو منطقة بين مكة والمدينة، أفصار النبي بهذا - والعياذ بالله - مشركا أو أن الرواية التي أطبق المحدثون علي نقلها مكذوبة، الله لا هذا ولا ذاك وأنما......... 8 - إن ما ذكره من أسباب المنع تتحقق للمجاور للقبر بدون شد الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرمات عند قبره لا منع السفر إليه. 9 - احتمال أن المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخص، احتمال ساقط وذلك لأن " ال " (الجنسية) إذا دخلت علي الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع. 10 - كيف يقال ذلك

مع أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه [238] حتي أن النبي يخص بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات علي قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مضعون وقال: " لتعرف بها قبر أخي " ولا تترتب علي التعرف فائدة سوي زيارته. [ صفحه 152]

القبض بين البدعة والسنة

اشاره

إن قبض اليد اليسري باليمني مما اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنة. فقالت الحنفية: إن التكتف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفه اليمني علي ظاهر كفه اليسري تحت سرته، وللمرأة أن تضع يديها علي صدرها. وقالت الشافعية: يسن للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه علي ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة مما يلي الجانب الأيسر. وقالت الحنابلة: إنه سنة، والأفضل أن يضع باطن يمناه علي ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرة. وشذت عنهم المالكية فقالوا: يندب إسدال اليدين في الصلاة الفرض، وقالت جماعة أيضا قبلهم، منهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة من الفقهاء. والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل [239] . [ صفحه 153] وأما الشيعة الإمامية، فالمشهور أنه حرام ومبطل، وشذ منهم من قائل بأنهمكروه، كالحلبي في الكافي [240] . ومع أن غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوبوا وتصعدوا في المسألة، لكن ليس لهم دليل مقنع علي جوازه في الصلاة، فضلا عن كونه مندوبا، بل يمكن أن يقال: إن الدليل علي خلافهم، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبين صلاة الرسول خالية عن القبض، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، وإليك نموذجين من هذه الروايات: أحدهما عن طريق

أهل السنة، والآخر عن طريق الشيعة الإمامية، وكلاهما يبينان كيفية صلاة النبي وليست فيهما أية إشارة إلي القبض فضلا عن كيفيته.

دراسة حديث أبي حميد الساعدي

روي حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدثين، ونحن نذكره بنص البيهقي، قال: أخبرناه أبو عبد الله الحافظ: فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعملكم بصلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، قالوا: لم، ما كنت أكثرنا له تبعا، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلي، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إذا قام إلي الصلاة رفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتي يقر كل عضو منه في موضعه معتدلا، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه علي ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه حتي يعود كل عظم منه إلي موضعه معتدلا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلي [ صفحه 154] الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسري فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله أكبر، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتي يرجع أو يقر كل عظم موضعه معتدلا، ثم يصنع في الركعة الأخري مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتي يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبر عند افتتاح صلاته، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتي إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسري وقعد متوركا علي شقه الأيسر، فقالوا جميعا: صدق هكذا كان يصلي رسول الله(صلي الله عليه وآله

وسلم) [241] . والذي يوضح صحة الاجتماع به الأمور التالية: 1 - تصديق أكابر الصحابة [242] وهذا العدد لأبي حميد يدل علي قوة الحديث، وترجيحه علي غيره من الأدلة. 2 - أنه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين علي ذلك لأنهم لم يسلموا له أول الأمر أنه أعملهم بصلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، بل قالوا جميعا: صدقت هكذا كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصلي، ومن البعيد جدا نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة. 3 - الأصل في وضع اليدين هو الإرسال، لأنه الطبيعي فدل الحديث عليه. 4 - هذا الحديث لا يقال عنه إنه عام وأحاديث القبض خصصته، لأنه وصف وعدد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم. [ صفحه 155] 5 - بعض من حضر من الصحابة قد روي أحاديث القبض، فلم يعترض، فدل علي أن القبض منسوخ، أو علي أقل أحواله بأنه جائز للاعتماد لمن طول في صلاته، وليس من سنن الصلاة، ولا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بنسعد، والأوزاعي، ومالك [243] . هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي وقد روي عن طريق أهل السنة، وقد عرفت وجه الدلالة، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

دراسة حديث حماد بن عيسي

اشاره

روي حماد بن عيسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة " قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة

منتصبا فأرسل يديه جميعا علي فخذيه قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتي كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه (جميعا) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: الله أكبر، ثم قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثم قال: الله أكبر، وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرجات، ورد ركبتيه إلي خلفه حتي استوي ظهره، حتي لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردد ركبتيه إلي خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثم استوي قائما، فلما استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلي الأرض قبل ركبتيه وقال: سبحان ربي الأعلي وبحمده، ثلاث مرات، ولم يضع شيئا من [ صفحه 156] بدنه علي شئ منه، وسجد علي ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف علي الأرض سنة، وهو الإرغام، ثم رفع رأسه من السجود فلما استوي جالسا قال: الله أكبر، ثم قعد علي جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمني علي باطن قدمه اليسري، وقال: أستغفر الله ربي وأتوب إليه، ثم كبر وهو جالس وسجد الثانية، وقال كما قال في الأولي ولم يستعن بشئ من بدنه علي شئ منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنحا، ولم يضع ذراعيه علي الأرض، فصلي ركعتين علي هذا. ثم قال: " يا حماد هكذا صل، ولا تلتفت، ولا تعبث بيديك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا (عن) يسارك ولا بين يديك " [244] . تري أن

الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة علي الناس وليست فيهما أية إشارة إلي القبض بأقسامه المختلفة فلو كان سنة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسد لنا صلاة الرسول، لأنه أخذه عن أبيه الإمام الباقر، وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم - صلوات الله عليهم أجمعين - فيكون القبض بدعة، لأنه إدخال شئ في الشريعة وهو ليس منه. ثم إن للقائل بالقبض أدلة نأخذ بدراستها: إن مجموع ما يمكن الاستدلال به علي أن القبض سنة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة: 1 - حديث سهل بن سعد. رواه البخاري. 2 - حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة. 3 - حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه. [ صفحه 157] وإليك دراسة كل حديث:

حديث سهل بن سعد

روي البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمني علي ذراعه اليسري في الصلاة " قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) [245] . قال إسماعيل [246] : ينمي ذلك ولم يقل ينمي. والرواية متكفلة لبيان كيفية القبض إلا أن الكلام في دلالته بعد تسليم سنده. ولا يدل عليه بوجهين: أولا: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معني قوله: " كان الناس يؤمرون "؟ أوما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبي يأمر؟ أوليس هذا دليلا علي أن الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إن الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيل أنه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: الحكمة

في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلي الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقبه بباب الخشوع. وثانيا: أن في ذيل السند ما يؤيد أنه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: " لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلي النبي " بناء علي قراءة الفعل [ صفحه 158] بصيغة المجهول. ومعناه أنه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنه يعزي وينسب إلي النبي، فيكون ما يرويه سهل به سعد مرفوعا. قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي: ينميه، فمراده:يرفع ذلك إلي النبي [247] . هذا كله إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأما إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أن سهلا ينسب ذلك إلي النبي، فعلي فرض صحة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع، يكون قوله: " لا أعلمه إلا... " معربا عن ضعف العزو والنسبة، وأنه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.

حديث وائل بن حجر

وروي بصور: 1 - روي مسلم، عن وائل بن حجر: أنه رأي النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمني علي اليسري، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع... [248] . والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل، ولا يحتج به إلا أن يعلم وجهه، وهو بعد غير معلوم، لأن ظاهر الحديث أن النبي جمع أطراف ثوبه فغطي صدره به، [ صفحه 159] ووضع يده اليمني علي اليسري، وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة، أو فعله لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتقي به نفسه عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجة إلا

إذا علم أنه فعل به لأجل كونه مسنونا. إن النبي الأكرم صلي مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين. نعم روي بصورة أخري ليس فيه قوله: " ثم التحف بثوبه " وإليك صورته: 2 - روي البيهقي بسنده عن موسي بن عمير: حدثني علقمة بن وائل، عن أبيه: أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام في الصلاة قبض علي شماله بيمينه، ورأيت علقمة يفعله [249] . وبما أنه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعينة، فيلاحظ عليها بما لوحظ علي الأولي وأن وجه الفعل غير معلوم. علي أنه لو كان النبي مقيما علي هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أن قوله: " ورأيت علقمة يفعله " يعرب عن أن الرواي تعرف علي السنة من طريقه. 3 - رواه البيهقي أيضا بسند آخر عن وائل بن حجر [250] ويظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق. [ صفحه 160]

حديث عبدالله بن مسعود

روي البيهقي مسندا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يصلي فوضع يده اليسري علي اليمني فرآه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فوضع يدهاليمني علي اليسري [251] . يلاحظ عليه: مضافا إلي أنه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنه من السابقين فيالإسلام، أن في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس [252] . ولأجل ذلك نري أن أئمة أهل البيت كانوا يتحرزون عنه ويرونه من صنع المجوس أمام الملك. روي محمد بن

مسلم عن الصادق أو الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة - وحكي - اليمني علي اليسري؟ فقال: ذلك التكفير، لا يفعل. وروي زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: وعليك بالإقبال علي صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس. وروي الصدوق بإسناده عن علي (عليه السلام) أنه قال: وعليك بالإقبال علي صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس. وروي الصدوق بإسناده عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عز وجل يتشبه بأهل الكفر - يعنيالمجوس - [253] . [ صفحه 161] وفي الختام نلفت نظر القارئ إلي كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس، فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: " وأولئك الذين ذهبوا إلي التحريم والإبطال، أو التحريم فقط،يمثلون التعصب المذهبي وحب الخلاف، تفريقا بين المسلمين " [254] . ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنة إلي أن القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أفهل جزاء من اجتهد أن يرمي بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟! ولو صح ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنه كان يكره القبض مطلقا، أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنه كان يحب الخلاف؟! أجل لماذا لا يكون عدم الإرسال ممثلا للتعصب المذهبي وحب الخلاف بين المسلمين، يا تري؟! [ صفحه 162]

صلاة الضحي

اشاره

صلاة الضحي من النوافل الرواتب المشهورة في كتب الفقه والحديث لأهل السنة وإن كانت مجهولة ومتروكة عند الكثير

من عامتهم. وفي هذه العجالة نلقي نظرة خاطفة علي ما يتعلق بصلاة الضحي من قبيل: حكمها وأقوال الفقهاء حولها، ووقتها، وعدد ركعاتها وأدلة مشروعيتها عندهم وبالأخير نظر فقهاء الشيعة حولها. ما هو حكمها؟ صلاة الضحي علي المشهور عندهم سنة كما عليه الحنابلة والحنفية والشافعية. وفي مقابل المشهور هناك أقوال أخر وهي: 1 - إنها مندوبة - كما عليه المالكية - فيستحب المداومة عليها. 2 - لا تستحب أصلا. [ صفحه 163] 3 - يستحب فعلها تارة وتركها أخري فلا يستحب المداومة عليها. 4 - تستحب صلاتها والمحافظة عليها في البيوت. 5 - لا تشرع إلا بسبب مثل الشكر وغيره. 6 - إنها بدعة [255] . متي وقتها؟ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح، إلي زوالها والأفضل أن يبدأها بعد ربع النهار. وعبر عن وقتها بهذه العبارة أيضا: وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتد حرها ويمتد وقتها إلي زوال الشمس، وأوله حين تبيض الشمس [256] . كم عدد ركعاتها؟ أقلها ركعتان وأكثرها ثمان، وقيل أثنتا عشرة ركعة، وقال الحنفية: أكثرها ست عشرة، وذهب بعض الشافعية والطبري إلي أنه لا حد لأكثرها. وقالوا بأنه يكره أن يصلي في نفل النهار زيادة علي أربع ركعات بتسليمة واحدة [257] . ما هي أدلة مشروعيتها عندهم؟ لا دليل لهم علي مشروعيتها إلا مجموعة أحاديث وردت في مجاميعهم الحديثية. [ صفحه 164] ولكن بعد التمحيص والتنقيب يتجلي عدم نهوضها للحجية علي ذلك. لأنها إما مجملة تقصر دلالتها عن الإثبات، وإما مروية عن طرق لا يصح الاحتجاج بها. مضافا إلي معارضتها بأحاديث نافية للمشروعية راجحة عليها سندا ودلالة. وإليك نماذج من تلك الطوائف الثلاث، وعليها يمكن قياس سائر الأحاديث التي لم نذكرها

هنا رعاية للاختصار:

الاحاديث المحاطة بالإجمال، منها

1 - ما روي عن نعيم بن هماز، قال: سمعت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أولنهارك أكفك آخره [258] . رواه أبو داود وأحمد والترمذي. ولفظه: ابن آدم اركع من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره ". وليس في هذا تصريح بصلاة الضحي ولا ظهور لاحتمال أن المقصود من الأربع هو فريضة الفجر ونافلتها كما اختاره ابن تيمية وابن قيم [259] واحتملهالبعض الآخر مثل الشوكاني والعراقي [260] . 2 - ما روي عن أبي هريرة قال: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتي [ صفحه 165] أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحي ونوم علي وتر " [261] . احتمل في هذا الحديث اختصاص الوصية بأبي هريرة وأمثاله الذين لا يستيقظون لنافلة الليل أو ينشغلون عنها، بأن يصلوها في الضحي قضاء ويؤيده قوله: " ونوم علي وتر ". قال ابن قيم: " وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل علي أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصي أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل علي الصلاة فأمره بالضحي بدلا من قيام الليل، ولهذا أمره لا ينام حتي يوتر ولم يأمربذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة " [262] . 3 - روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: " دخلت علي عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتي جعلني حذاءه عنيمينه، فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه " [263] . ولكن عمل الخليفة

مجهول العنوان فمن أين يعلم بأنه كان يصلي الضحي؟ خاصة مع شهادة ولده كما سيأتي بأنه ما كان يصليها. ثم إن الهاجرة لغة ليس بمعني الضحي، بل " بمعني نصف النهار عند زوال الشمس إلي العصر " [264] علي المشهور، فسبحة الهاجرة تنطبق علي نافلة الظهر وبناء علي ما حكي عن ابن السكيت بأن: الهاجرة إنما تكون بالقيظ وقبل الظهر بقليل وبعدها بقليل [265] فالرواية مجملة إذ كما يحتمل فيها صلاة الضحي يحتمل نافلة [ صفحه 166] الظهر ولا مرجح للأول علي الثاني. 4 - ما روي عن أبي هريرة قال: " ما رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآلهوسلم) يصلي الضحي قط إلا مرة " [266] . فصدر الحديث ينفي صلاة الضحي وذيله مجمل لاحتمال أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان قد صلي صلاة بسبب آخر كالحاجة أو غيرها وخفي علي أبي هريرة فتصور أنه صلي الضحي، إذ ليس فيه أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أعرب عن نية عمله. 5 - ما روي عن أنس أنه قال: " رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في سفر صلي سبحة الضحي ثماني ركعات فلما انصرف قال: " إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته ألايلبسهم شيعا فأبي علي " [267] . يرد علي الاستدلال به، أولا: مثل ما مضي علي سابقه، وثانيا: يتناقض ذيله مع الواقع التاريخي للأمة الإسلامية، فكم من بلد إسلامي ابتلي بالقحط والسنين، وما أكثر البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة أعدائها في الزمن الغابر والحاضر. وهذا مما يطمئننا

باختلاقه ووضعه.

الاحاديث الموضوعة

قال ابن قيم الجوزية (691 - 751) في تقييم أحاديث صلاة الضحي: [ صفحه 167] " وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها موضوع لا يحلالاحتجاج به " [268] . ثم ذكر عدة أحاديث قد صرح أعلام الرجاليين بكون نقلتها وضاعين كذبة، منها: 1 - ما روي عن أنس مرفوعا: " من داوم علي صلاة الضحي ولم يقطعها إلا عن علة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور ". وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد. 2 - حديث يعلي بن أشدق عن عبد الله بن جراد: عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من صلي منكم صلاة الضحي فليصلها متعبدا، فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحن إليه كما تحن الناقة علي ولدها إذا فقدته ". ويا عجبا للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله؟! فإنه يروي هذا الحديث في كتاب أفرده للضحي وهذه نسخة موضوعة علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، يعني نسخة يعلي بن الأشدق. وقال ابن عدي: روي يعلي بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة منكرة وهو وعمه غير معروفين. وبلغني عن أبي مسهر قال: قلت ليعلي بن الأشدق: ما سمع عمك من حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: جامع سفيان وموطأ مالك وشيئا من الفوائد. وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلي عبد الله بن جراد فلما كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شبها بمائتي حديث فجعل يحدث بها وهو لا يدري. وهو الذي قال له بعض أصحابنا: أي شئ

سمعته عن عبد الله بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، وجامع أبي سفيان لا تحل الرواية عنه بحال. [ صفحه 168] 3 - حديث عمر بن صبيح عن مقاتل بن حبان عن عائشة: " كان رسول الله يصلي الضحي اثنتي عشرة ركعة ". وهو حديث طويل ذكره الحاكم في صلاة الضحي وهو حديث موضوع المتهم به عمر بن صبيح. قال البخاري: حدثني يحيي بن علي بن جبير قال: سمعت عمر بن صبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث علي الثقات لا يحل حديثه إلا علي جهة التعجب منه. وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي: كذاب. 4 - حديث عبد العزيز بن إبان عن الثوري عن حجاج بن فرافصة عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا: " من حافظ علي سبحة الضحي غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر ". ذكره الحاكم أيضا. وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذاب. وقال يحيي: ليس بشئ كذاب خبيث يضع الحديث. وقال البخاري والنسائي والدار قطني: متروك الحديث. 5 - حديث النهاس بن فهم عن شداد عن أبي هريرة يرفعه: " من حافظ علي سبحة الضحي غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ". والنهاس، قال يحيي: ليس بشئ ضعيف. كان يروي عن عطاء عن ابن عباس أشياء منكرة. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: لا يساوي شيئا. وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وقالالدارقطني: مضطرب الحديث تركه يحيي القطان [269] . [ صفحه 169]

الاحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحي

اشاره

فهي معارضة للأحاديث المثبتة وباعتبار قوة دلالتها وأسنادها رجحها

جماعة من علماء العامة علي غيرها كما صرح بذلك ابن قيم. قال: " وطائفة ثانية ذهبت إلي أحاديث الترك ورجحتها من جهة صحةإسنادها وعمل الصحابة بموجبها " [270] . منها: 1 - ما رواه البخاري بسنده عن مورق قال: قلت لابن عمر: أتصلي الضحي؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي(صلي الله عليه وآله وسلم)؟ قال: لا أخاله " [271] . 2 - وما رواه أيضا بسنده عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله (صلي اللهعليه وآله وسلم) سبح سبحة الضحي وإني لأسبحها " [272] . وقد استدل بعضهم بهذه الرواية لنفي الضحي لصحة إسنادها. " قال أبو الحسن علي بن بطال: فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاةالضحي وقال قوم: إنها بدعة " [273] . [ صفحه 170] وأما قول عائشة: بأني أسبحها، فهو اجتهاد في مقابل النص ولا قيمة له في سوق الاعتبار الشرعي. 3 - وما رواه أيضا بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلي أنه قال: ما حدثنا أحد أنه رأي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحي غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسلوصلي ثماني ركعات فلم أر صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود " [274] . ونفي هذا الحديث حديث أحد رأي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحي، وأما رواية أم هانئ فليست ظاهرة في صلاة الضحي، ويحتمل قويا أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) صلي تلك الركعات شكرا لله علي ما من عليه بفتح مكة. ولذلك ذهب جماعة من علماء العامة " بأنها

لا تشرع إلا بسبب [275] الخ ". 4 - ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: رأي أبو بكرة ناسا يصلون الضحي فقال: إنهم ليصلون صلاة ما صلاها رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) ولا عامة أصحابه - رضي الله عنهم - " [276] . 5 - ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حفص بن عاصم قال: مرضت مرضا فجاء ابن عمر يعودني. قال: وسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في السفر فما رأيته يسبح ولو كنت مسبحالأتممت وقد قال الله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) " [277] . [ صفحه 171] 6 - وما رواه البخاري بسنده عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلي حجرة عائشة وإذ أناس يصلون فيالمسجد صلاة الضحي. قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة " [278] . 7 - وروي عن الشعبي قال: " سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمونأفضل من صلاة الضحي " [279] . ففي هاتين الروايتين صرح ابن عمر بكون صلاة الضحي بدعة، وإن رآها فضيلة بناء علي مسلك والده في جواز الابتداع الحسن. 8 - روي عن ابن عباس أنه قال (صلي الله عليه وآله وسلم): " أمرتبالضحي ولم تؤمروا بها " [280] . بناء علي صحة الحديث، فالظاهر أن المراد من الأمر هنا هو أصل التشريع لا الوجوب لأنه لم يثبت وجوب شئ من النوافل علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) خاصة ما عدا نافلة الليل. وعليه فلم تشرع نافلة الضحي للمسلمين لأنه نفي الأمر بها

عليهم. إلي هنا تبين أنه لم يوجد حديث صحيح فيه دلالة واضحة علي مشروعية صلاة الضحي. وأما ما ادعيت صحته فهو إما معارض بالراجح عليه سندا ودلالة، أو فيه إجمال لا يمكن أن يستدل به علي المقصود. [ صفحه 172]

موقف الإمامية من صلاة الضحي

صلاة الضحي عند فقهاء الإمامية، بدعة لا يجوز فعلها. وقد اتفقوا وأجمعوا علي هذا الرأي كما صرح بذلك السيد الشريف المرتضي في رسائله [281] وشيخ الطائفة في الخلاف [282] ، والعلامة الحلي في المنتهي [283] ، والعلامة المجلسي في البحار [284] ، والمحدث البحراني فيالحدائق الناضرة [285] . ويدل علي هذا الرأي قبل الإجماع، أولا: عدم الدليل الشرعي المعتبر علي مشروعية صلاة الضحي، وهذا يكفي للقول بعدمها إذ لا يطالب النافي بدليل، بل الدليل علي المدعي. وثانيا: الأخبار المستفيضة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) النافية لمشروعية صلاة الضحي والمصرح في بعضها أن العمل بها بدعة ومعصية، منها: 1 - ما رواه الشيخ الطوسي عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسي عن حريز عن زرارة وابن مسلم والفضيل، قالوا: سألناهما (عليهما السلام) عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلي العشاء الآخرة انصرف إلي منزله، ثم يخرج من آخر الليل إلي المسجد فيقوم فيصلي فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلي كما كان يصلي، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم [ صفحه 173] إلي بيته وتركهم ففعلوا ذلك ثلاثة ليال، فقام في الرابع علي منبره فحمد الله وأثني عليه ثم قال: " أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحي بدعة فلا تجتمعوا ليلا في شهر

رمضان ولا تصلوا صلاة الضحي فإن ذلك معصية، ألا وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلي النار " ثم نزل وهو يقول: " وقليل فيسنة خير من كثير في بدعة " [286] . 2 - ما حكي عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال لرجل من الأنصار سأله عن صلاة الضحي فقال: " إن أول من ابتدعها قومك الأنصار سمعوا قول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة " فكانوا يأتون من ضياعهم ضحي فيدخلون المسجد فيصلون، فبلغ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فنهاهم عنه [287] . [ صفحه 174]

اقامة صلاة التراويح جماعة

اشاره

اتفقت كلمة الفقهاء علي أن نوافل شهر رمضان (صلاة التراويح) سنة مؤكدة، وأول من سنها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وقال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه [288] . إن استجلاء الحق في جواز إقامتها جماعة، أو كونها بدعة يطلب تقديم أمور:

هل تسن الجماعة في مطلق النوافل أو لا؟

المشهور عند أهل السنة جواز إقامة النوافل بالجماعة وأن الأفضل في بعضها إقامتها منفردا، وإليك تفصيل مذاهبهم: قالت المالكية: الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أما باقي النوافل فإن صلاتها جماعة تارة يكون مكروها، وتارة يكون جائزا، فيكون مكروها إذا صليت بالمسجد أو صليت بجماعة كثيرين، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه، [ صفحه 175] وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس. وقالت الحنفية: تكون الجماعة سنة كفاية في صلاة التراويح والجنازة، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقا والوتر في غير رمضان، وإنما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أما الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان، أحدهما: أنها مستحبة فيه، وثانيهما: أنها غير مستحبة ولكنها جائزة وهذا القول أرجح. وقالت الشافعية: أما الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة. وقالت الحنابلة: أما النوافل فمنها ما تسن فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد و رواتب الصلاة المفروضة [289] . وقال المقدسي في الشرح الكبير: ويجوز التطوع في جماعة وفرادي، لأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فعل الأمرين كليهما، وكان أكثر تطوعه منفردا ومع ذلك اتفقوا علي أن التطوع في البيت أفضل، لقول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم):

" عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". وقال (عليه السلام): " إذا قضي أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواهما مسلم، وعن زيد بن ثابت أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا [ صفحه 176] إلا المكتوبة " رواه ابن داود، ولأن الصلاة في البيت أقرب إلي الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السر، والسر أفضل منالعلانية [290] . قالت الإمامية: تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة، ولا تشرع فيالمستحبة، إلا في الاستسقاء والعيدين مع فقد الشروط [291] . وقالت المذاهب الأربعة: تشرع مطلقا في الواجبة والمستحبة [292] .

التراويح لغة و اصطلاحا

اشاره

التراويح جمع ترويحة وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقا، ثم سميت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان، لاستراحة الناس بها، ثم سميت كل أربع ركعات ترويحة، وهي أيضا اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها. قال ابن منظور: والترويحة في شهر رمضان سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات. وفي الحديث صلاة التراويح، لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلةمنها، مثل تسليمة من السلام [293] .

عدد ركعاتها عند الفريقين

اختلف الفقهاء في عدد صلاة نوافل شهر رمضان، أما الشيعة فقد ذهبت إلي أن نوافل ليالي شهر رمضان، ألف ركعة في تمام الشهر. [ صفحه 177] قال الإمام الصادق (عليه السلام): مما كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصنع في شهر رمضان كان يتنفل في كل ليلة ويزيد علي صلاته التي كان يصليها قبل ذلك منذ أول ليلة إلي تمام عشرين ليلة، في كل ليلة عشرين ركعة: ثماني ركعات منها بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، ويصلي في العشر الأواخر في كل ليلة ثلاثين ركعة: اثنتي عشرة منها بعد المغرب، وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة ويدعو ويجتهد اجتهادا شديدا، وكان يصلي في ليلة إحدي وعشرين: مائة ركعة ويصلي في ليلة ثلاثوعشرين: مائة ركعة ويجتهد فيهما [294] . وأما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره: وقيام شهر رمضان عشرونركعة، يعني صلاة التراويح [295] . وقال ابن قدامة في شرحه: والمختار عند أبي عبد الله (الإمام أحمد) عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وقال مالك: ستةوثلاثون، وزعم أنه الأمر القديم، وتعلق بفعل أهل المدينة [296] . والظاهر أنه ليس في عددها عند أهل السنة دليل

معتمد عليه يحكي عن قول الرسول أو فعله أو تقريره، والقول بالعشرين يعتمد علي فعل عمر، كما أن القول بالستة والثلاثين يعتمد علي فعل عمر بن عبد العزيز. وقد فصل القول في ذلك عبد الرحمان الجزيري في " الفقه علي المذاهب الأربعة " وقال: روي الشيخان أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلي في المسجد، وصلي الناس بصلاته فيها، وكان يصلي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم، [ صفحه 178] فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل " وقال: ومن هذا يتبين أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) سن لهم التراويح، والجماعة فيها، ولكن لم يصل بهم عشرين ركعة، كما جري عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلي الآن، ولم يخرج إليهم بعد ذلك، خشية أن تفرض عليهم، كما صرح به في بعض الروايات، ويتبين أن عددها ليس مقصورا علي الثماني ركعات التي صلاها بهم، بدليل أنهم كانوا يكملونها في بيوتهم، وقد بين فعل عمر (رض) أن عددها عشرون، حيث إنه جمع الناس أخيرا علي هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة علي ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فجعلت ستا وثلاثين ركعة، ولكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل، لأنهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كل أربع ركعات مرة، فرأي - رضي الله عنه - أن يصلي بدل كل طواف أربع ركعات [297] . هذا وقد بسط شراح البخاري وغيرهم القول في عدد ركعاتها إلي حد قل نظيره في أبواب العبادات، فمن قائل: إن عدد ركعاتها 13

ركعة، إلي آخر: أنها 20 ركعة، إلي ثالث: أنها 24 ركعة، إلي رابع: أنها 28 ركعة، إلي خامس: أنها 36 ركعة، إلي سادس: أنها 38 ركعة، إلي سابع: أنها 39 ركعة، إلي ثامن: أنها 41 ركعة، إلي تاسع: أنها 47 ركعة، وهلم جرا [298] . [ صفحه 179] والأغرب من هذا تدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة، فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوي - في رأيه - أهل المدينة وأهل مكة في الفضل والثواب، فإن فسح المجال لهذا النوع من التدخل يجعل الشريعة ألعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم.

حكم إقامتها جماعة

إن الشيعة الإمامية - تبعا للإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام) - يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة ويرون إقامتها جماعة بدعة حقيقية، حدثت بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، بمقياس [299] ما أنزل الله به من سلطان. قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلي انفرادا والجماعة فيها بدعة. وقال الشافعي: صلاة المنفرد أحب إلي منه، وشنع ابن داود علي الشافعي في هذه المسألة، فقال: خالف فيها السنة والإجماع. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك علي قولين: فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابه: صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكل حال، وتأولوا قول الشافعي فقالوا: إنما قال: النافلة ضربان، نافلة سن لها الجماعة، وهي: العيدان، والخسوف، والاستسقاء. ونافلة لم تسن لها الجماعة، مثل: ركعتي الفجر، والوتر، وما سن لها الجماعة أوكد مما لم تسن لها الجماعة، ثم قال: فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إلي، يعني ركعات الفجر والوتر، التي تفعل علي الانفراد أوكد عن قيام شهر رمضان. [ صفحه 180] والقول الثاني: منهم من قال بظاهر كلامه، فقال: صلاة التراويح

علي الانفراد أفضل منها في الجماعة، بشرطين، أحدهما: أن لا تختل الجماعة بتأخره عن المسجد، والثاني: أن يطيل القيام والقراءة فيصلي منفردا، أو يقرأ أكثر مما يقرأ إمامه. وقد نص في القديم علي أنه لو صلي في بيته في شهر رمضان فهو أحب إلي، وإن صلاها في جماعة فهو حسن، واختار أصحابه مذهب أبي العباس وأبي إسحاق. ثم استدل الشيخ الطوسي علي مذهب الإمامية بإجماعهم علي أن ذلك بدعة، وأيضا روي زيد بن ثابت [300] : أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال:صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة [301] . إذا وقفت علي آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلة: أما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد اتفقت كلمتهم علي أن الجماعة في النوافل مطلقا بدعة، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها، وهناك صنفان من الروايات: أحدهما: يدل علي عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل. ثانيهما: ما يدل علي عدم تشريعها في صلاة التراويح. أما الصنف الأول فنذكر منه روايتين: 1 - قال الإمام الباقر (عليه السلام): " ولا يصلي التطوع في جماعة، وكلبدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " [302] . [ صفحه 181] 2 - قال الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) في كتابه إلي المأمون:" ولا يجوز أن يصلي تطوع في جماعة لأن ذلك بدعة " [303] . وأما الصنف الثاني، فقد تحدث عنه الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة. فنادي في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين، فلما سمع الناس

مقالة الحسن بن علي (عليه السلام) صاحوا: وا عمراه، وا عمراه، فلما رجع الحسن إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون: واعمراه وا عمراه، فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلوا [304] . وربما يتعجب القارئ من قول الإمام " قل لهم صلوا " حيث تركهم يستمرون في الإتيان بهذا الأمر المبتدع ولكن إذا رجع إلي سائر كلماته يتجلي له سر تركهم علي ما كانوا عليه. قال الشيخ الطوسي: إن أمير المؤمنين لما أنكر، أنكر الاجتماع، ولم ينكر نفس الصلاة فلما رأي أن الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاةعلي عادتهم [305] . ويدل عليه: ما رواه سليم بن قيس قال: خطب أمير المؤمنين، فحمد الله وأثني عليه ثم صلي علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوي، وطول الأمل - ثم ذكر أحداثا ظهرت بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وقال: - ولو حملت [ صفحه 182] الناس علي تركها... لتفرق عني جندي حتي أبقي وحدي أو قليل من شيعتي... والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادي بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا، وقد خفت أن يثوروا في ناحيةجانب عسكري... [306] . تسنم الإمام منصة الخلافة بطوع ورغبة من جماهير المسلمين، وواجه أحداثا ظهرت بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، وأراد إرجاع المجتمع الإسلامي إلي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في مجالات

مختلفة، ولكن حالت العوائق دون نيته، فترك بعض الأمور بحالها، حتي يشتغل بالأهم فالأهم، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتي لا يختل نظام البلاد، ولا يثور الجيش ضده. روي أبو القاسم ابن قولويه (ت 369 ه) عن الإمامين: الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا: كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماما - يؤمنا في رمضان فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أحسوا، جعلوا يقولون: ابكوا رمضان وارمضاناه، فأتي الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، قال: فقال عند ذلك:دعوهم وما يريدون يصل بهم من شاءوا [307] . هذه الروايات تدلنا إلي موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان بالجماعة. [ صفحه 183]

صلاة التراويح في حديث الرسول

تختلف روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن بعض ما رواه أصحاب السنن فرواياتهم (عليهم السلام) صريحة في أن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) كان ينهي عن إقامة نوافل رمضان بالجماعة وإنه (صلي الله عليه وآله وسلم) لما خرج بعض الليالي إلي المسجد ليقيمها منفردا، ائتم به الناس فنهاهم عنه، ولما أحس إصرارهم علي الائتمام ترك الصلاة في المسجد واكتفي بإقامتها في البيت، وإليك بعض ما روي: سأل زرارة، ومحمد بن مسلم، والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله [الصادق] (عليهما السلام) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: " إن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلي العشاء الآخرة انصرف إلي منزله ثم يخرج من آخر الليل إلي المسجد فيقوم فيصلي، فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلي كما كان يصلي، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلي بيته

وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال فقام (صلي الله عليه وآله وسلم) في اليوم الرابع علي منبره فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحي بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلوا صلاة الضحي، فإن تلك معصية ألا فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلي النار "ثم نزل وهو يقول: قليل في سنة خير من كثير في بدعة [308] . روي عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله (عليه السلام) يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلي العتمة صلي بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ثم يخرج أيضا فيجيئون ويقومونخلفه فيدعهم ويدخل مرارا [309] . [ صفحه 184] ولعله (صلي الله عليه وآله وسلم) قام بهذا العمل مرتين، تارة في آخر الليل - كما في الرواية الأولي -، وأخري في صلاة العتمة - كما في الرواية الثانية -. لكن المروي عن طريق أهل السنة بخلاف ذلك وإليك نص الشيخين البخاري ومسلم: روي الأول، قال: حدثني يحيي بن بكير: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرني عروة: إن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج ليلة من جوف الليل فصلي في المسجد، وصلي رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلي فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فصلي بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتي خرج لصلاة الصبح، فلما قضي الفجر أقبل علي الناس فتشهد

ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم. ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والأمر علي ذلك [310] . وروي أيضا في باب التهجد: إن رسول الله صلي ذات ليلة في المسجد فصلي بصلاته ناس، ثم صلي من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة والرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان [311] . روي مسلم قال: حدثنا يحيي بن يحيي قال: قرأت علي مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) صلي ذات ليلة فصلي بصلاته [ صفحه 185] ناس، ثم صلي من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة [312] فلم يخرج إليهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان. وحدثني حرملة بن يحيي: أخبرنا عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج من جوف الليل فصلي في المسجد فصلي رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج

إليهم رسول الله، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي خرج لصلاة الفجر، فلما قضي الفجر أقبل الناس ثم تشهد فقال: أما بعد فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها [313] والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وما رواه الشيخان واضح فعلي الأول، نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن إقامتها جماعة، وأسماها بدعة، وعلي الثاني ترك النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) الإقامة جماعة خشية أن تفرض عليهم، مع كونها موافقة للدين والشريعة، إذا فأي القولين أحق أن يتبع؟ يعلم بالبحث التالي: إن في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها من جهات: إن بعض الروايات تؤيد موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من صلاة التراويح [ صفحه 186] وتوقفنا علي أن القضية لم تنقل علي وجه الدقة، وذلك ما رواه زيد بن ثابت حيث قال: " احتجر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مغضبا فقال لهم: " ما زال بكم صنيعكم حتي ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم الصلاة في بيوتكم،فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه مسلم [314] . وأما ما ورد من طرق الخاصة فأصرح في النهي، بل هو صريح في كون التنفل جماعة في رمضان بدعة

ومعصية. والذي ينسبق إلي الذهن من ملاحظة مجموع الروايات أن القضية لم تنقل بحذافيرها في كل واحدة منها، وإن الطائفة الأولي التي توهم استفادة مشروعية التراويح منها، لم تذكر إلا جانبا واحدا من القضية، وأغفل رواتها بقية الجوانب إما عمدا أو سهوا، وإذا أردنا أن نستنبط حكما شرعيا فعلينا أن ننظر إلي مجموعها. والذي يظهر من المجموع أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لما التفت إلي اقتداء المسلمين به نهاهم عن ذلك ولم يقرر عملهم، وأما سكوته في الليلة الأولي أو الثانية، فهو لمصلحة خاصة، ولعلها كانت من أجل طرح الردع والنهي عن الإتيان بها جماعة بحضور ملأ عظيم من الناس حتي تتناقله الجماهير كي لا يقع في بقعة النسيان. الثانية: ما معني قوله: " خشيت أن تفرض عليكم. فتعجزوا عنها "؟ وهل مفاده: أن التشريع تابع لإقبال الناس وإدبارهم، فلو كان هناك اهتمام ظاهر من الناس، فيفرض عليهم، وإذا كان إدبار، فلا يفرض عليهم؟! مع أن الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلق، سواء أكان [ صفحه 187] هناك اهتمام ظاهر أم لا. إن تشريعه سبحانه ليس تابعا لرغبة الناس أو إعراضهم، وإنما يتبع لملاكات هو أعلم بها سواء أكان هناك إقبال أم إدبار. قال ابن حجر في شرح جملة " إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ": إن ظاهر هذا الحديث أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) توقع ترتب افتراض الصلاة بالليلجماعة علي وجود المواظبة عليها - ثم قال: - وفي ذلك إشكال [315] . ولكن ابن حجر لم يبين مقصوده من الإشكال ويمكن أن يكون إشارة - مضافا إلي ما ذكرنا من أن الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة

الناس بها وعنها - إلي أن كثيرا من الأعمال المستحبة واظب عليها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والمسلمون ولم يخش الافتراض عليهم، وبعض الأحكام الواجبة لم يواظب عليها كثير من المسلمين حتي في زمن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فضلا عما بعده ولم يتغير حكمها من الوجوب إلي عدمه، مثل حكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين فواجههم الله سبحانه بالتقريع والتبكيت في مثل قوله سبحانه: (وما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض) (التوبة - 38). أضف إلي ذلك أن هذه الخشية تتنافي والأحاديث الناصة علي أن الفرائض خمس لا غير، قال العسقلاني: " وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالي قال: هن خمس وهن خمسون، لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف منالزيادة؟ " [316] . نعم ذكر العسقلاني في فتح الباري وكذلك القسطلاني في إرشاد الساري من هنا وهناك عدة أجوبة، لكنها جميعا توجيهات باردة وتمحلات واهية لا تغني ولا تسمن من جوع. وقد حكي عن صاحب شرح التقريب بعد أن ذكر تلك الأجوبة أنه قال: [ صفحه 188] " ومع هذا فإن المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء في ذلك " [317] . وإن هذه الإشكالات الواردة والتي بقيت بلا جواب تجعل الإنسان يشكك في صحة انتساب هذه الجملة إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فيحتمل قويا أنها موضوعة. الثالثة: لو افترضنا أن الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة أفيكون ذلك ملاكا للفرض علي غيرهم ولم تكن نسبة الحاضرين إلي الغائبين إلا شيئا لا يذكر، فإن مسجد النبي (صلي الله

عليه وآله وسلم) يومذاك كان مكانا محدودا لا يسع إلا ما يقارب ستة آلاف نفر أو أقل، فقد جاء في الفقه علي المذاهب الخمسة: " كان مسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) 35 مترا في 30 مترا ثم زاده الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وجعله 57 مترا في 50 مترا " [318] أفيمكن جعل اهتمامهم كاشفا عن اهتمام جميع الناس بها في جميع العصور إلي يوم القيامة؟! الرابعة: وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبي فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلي ما نقله البخاري في كتاب الصوم أن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) صلي التراويح مع الناس ثلاث ليال، وعلي ما نقله في باب التحريض علي قيام الليل، أنه صلاها ليلتين، ووافقه مسلم في كلا النقلين ويظهر مما ذكره غيرهما - كما مر في صدر المقال - أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) أقامها في ليال متفرقة (ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين). وهذا يعرب عن عدم الاهتمام بنقل فعل الرسول علي ما عليه، فمن أين تطمئن علي سائر ما جاء فيه من أن النبي استحسن عملهم؟! الخامسة: إن الثابت من فعل النبي، أنه صلاها ليلتين، أو أربع في آخر الليل، وهي لا تزيد عن ثماني ركعات، فلو كان النبي أسوة فعلينا الاقتداء به فيما [ صفحه 189] ثبت. لا فيما لم يثبت بل ثبت عدمه. وقد صرح بما ذكر القسطلاني، ووصف ما زاد عليه بالبدعة وقال: 1 - أن النبي لم يسن لهم الاجتماع لها. 2 - ولا كانت في زمن الصديق. 3 - ولا أول الليل. 4 - ولا كل ليلة [319] . 5 - ولا هذا العدد [320]

. ثم التجأ في إثبات مشروعيتها إلي اجتهاد الخليفة وسيوافيك الكلام فيه. وقال العيني: إن رسول الله لم يسنها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر. ثم اعتمد في شرعيته إلي اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلون خلفه ليلتين [321] وسيوافيك الكلام فيه. وقال الشاطبي: " وممن نبه بذلك من السلف الصالح، أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم. إنما كتب عليكم الصيام فدوموا علي القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقرعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال: (ورهبانية ابتدعوها) " [322] . [ صفحه 190] السادسة: إنه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين (أهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)) تصبح إقامة النوافل جماعة، بدعة علي الإطلاق، وإن أخذنا برواية الشيخين فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، والزائد عنه يصبح بدعة إضافية، حسب مصطلح الإمام الشاطبي والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعا، والكيفية التي يقام بها غير مشروعة. ولم يبق ما يحتج به علي المشروعية إلا جمع الخليفة الناس علي إمام واحد، ويحتج بعمله علي مشروعية الإتيان بها جماعة في عصر الرسالة إلا أن الخليفة أبدع وحدة الإمام بعد ما كان الناس أوزاعا، وهو ما نشرحه في البحث التالي:

جمع الناس علي إمام واحد في عصر عمر

روي البخاري: توفي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والناس علي ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثم كان الأمر علي ذلك فيخلافة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر [323] . وروي أيضا عن عبد الرحمان بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب

- رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلي المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل بصلاته الرهط [324] ، فقال عمر: إني أري لو جمعت هؤلاء علي قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم علي أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخري والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله. [ صفحه 191] لكن الظاهر من شراح الصحيح، إن الإتيان جماعة لم تكن مشروعة وإنما قام التشريع بعمله وإليك بيانه في ضمن أمرين: 1 - قوله: " فتوفي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والناس علي ذلك، ثم كان الأمر علي ذلك في خلافة أبي بكر ". فقد فسره الشراح بقولهم: أي علي ترك الجماعة في التراويح، ولم يكنرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) جمع الناس علي القيام [325] . وقال بدر الدين العيني: والناس علي ذلك (أي علي ترك الجماعة) ثم قال: فإن قلت: روي ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: " ما هذا " فقيل: ناس يصلي بهم أبي بن كعب، فقال: " أصابوا ونعم ما صنعوا "، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله، قلت: فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر - رضي الله عنه - هو الذي جمع الناس علي أبي بن كعب - رضي الله عنه - [326] . وقال القسطلاني: والأمر علي ذلك (أي علي ترك الجماعة في التراويح)ثم كان الأمر علي ذلك في خلافة أبي

بكر، إلي آخر ما ذكره [327] . 2 - قوله: " نعم البدعة ": إن الظاهر من قوله " نعم البدعة هذه " أنها من سنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع، وقد صرح بذلك لفيف من العلماء. قال للقسطلاني: سماها (عمر) بدعة، لأنه (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسن لهم الاجتماع لها، ولا كانت [ صفحه 192] في زمن الصديق، ولا أول الليل ولا كل ليلة ولا هذا العدد - إلي أن قال: - وقيام رمضان ليس بدعة لأن (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر علي ذلك زال عنه اسم البدعة. وقال العيني: وإنما دعاها بدعة، لأن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - ولا رغب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فيها [328] . وهناك من نقل أن عمر أول من سن الجماعة، ونذكر منهم من يلي: 1 - قال ابن سعد في ترجمة عمر: هو أول من سن قيام شهر رمضان بالتراويح، وجمع الناس علي ذلك، وكتب به إلي البلدان، وذلك في شهررمضان سنة أربع عشرة [329] . 2 - وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر: وهو الذي نور شهر الصوم بصلاةالاشفاع فيه [330] . قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه: وهو أول من نهي عن بيع أمهات الأولاد... أول من جمع الناس علي إمام يصلي بهمالتراويح [331] . إذا كان المفروض أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسن الجماعة فيها،

وإنما سنها عمر، وهل يكفي في كونها مشروعة؟ مع أنه ليس لإنسان - حتي الرسول - حق التسنين والتشريع، وإنما هو (صلي الله عليه وآله وسلم) مبلغ عن الله سبحانه. إن الوحي يحمل التشريع إلي النبي الأكرم وهو (صلي الله عليه وآله وسلم) الموحي إليه وبموته [ صفحه 193] انقطع الوحي وسد باب التشريع والتسنين، فليس للأمة إلا الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنة، لا التشريع ولا التسنين ومن رأي أن لغير الله سبحانه حق التسنين فمعني ذلك عدم انقطاع الوحي. قال ابن الأثير في نهايته، قال: ومن هذا النوع قول عمر - رضي الله عنه -: نعم البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، إلا أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنما عمر - رضي الله عنه - جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة وهي في الحقيقة سنة، لقوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "، وقوله: " اقتدوا باللذين منبعدي أبي بكر وعمر " [332] .

التشريع مختص بالله سبحانه

إن هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يسن الاجتماع، برروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، ومعناه أن له حق التسنين والتشريع، وهذا يضاد إجماع الأمة، إذ لا حق لإنسان أن يتدخل في أمر الشريعة بعد إكمالها، لقوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة - 3) وكلامه يصادم الكتاب والسنة، فإن التشريع حق الله سبحانه لم يفوضه

لأحد والنبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) مبلغ عنه. أضف إلي ذلك: لو كان للخليفة استلام الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك الضوء مع كون بعضهم أقرأ منه كأبي بن كعب، وأفرض كزيد بن ثابت، وأعلم كعلي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فلو [ صفحه 194] كان للجميع ذلك الضوء لانتشر الفساد وعمت الفوضي أمر الدين ويكون الدين ألعوبة بأيدي غير المعصومين. وأما التمسك بالحديثين، فلو صح سندهما فإنهما لا يهدفان إلي أن لهما حق التشريع، بل يفيد لزوم الاقتداء بهما لأجل أنهما يعتمدان علي سنة النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم)، لا أن لهما حق التسنين. نعم يظهر مما رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يعتقد أن للخلفاء حق التسنين، قال: قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا أن ما سن رسول الله وصاحباه فهو ديننأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه [333] . وعلي كل تقدير، نحن لسنا بمؤمنين بأنه سبحانه فوض أمر دينه في التشريع والتقنين إلي غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: " والحق أن قول الصحابي ليس بحجة فإن الله سبحانه وتعالي لم يبعث إلي هذه الأمة إلا نبينا محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم) وليس لنا إلا رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلفون علي السواء باتباع شرعه والكتاب والسنة، فمن قال إنه تقوم الحجة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لا يثبت، وأثبت شرعا لميأمر به الله [334] . نعم، نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره: إن عمر استنبط ذلك من تقرير النبي

(صلي الله عليه وآله وسلم) من صلي معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلما مات النبي حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماععلي واحد أنشط لكثير من المصلين [335] . [ صفحه 195] يلاحظ عليه أولا: أن ما ذكره في آخر كلامه يبرر جمع الناس علي إمام واحد، مكان الأئمة المتعددة دونما إذا كان موضع النقاش إقامتها بالجماعة واحدا كان الإمام أو كثيرا. وثانيا: أن معني كلامه أن هناك أحكاما لم تسن ما دام النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حيا، لمانع خاص كخشية الفرض ولكن في وسع آحاد الأمة تشريعها بعد موته (صلي الله عليه وآله وسلم) ومفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصة في وجه الأمة إلي يوم القيامة، وهذه رزية ليست بعدها رزية، وتلاعب بالدين واستئصاله. نعم حاول الكثير من القائلين بمشروعية التراويح التفصي عن نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن إقامة نافلة رمضان جماعة بأنه (صلي الله عليه وآله وسلم) علل نهيه بخشية الافتراض وقد أمن هذا بعده [336] ، وزالت تلكالخشية [337] . ليت شعري، لماذا زالت تلك الخشية فحصل الأمن من الافتراض بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ هل ذلك إلا من أجل انقضاء عصر التشريع؟ وإذا سلم انتهاء عصر التشريع الافتراض، لماذا لم نقل بانتهاء عصر أي تشريع آخر كجعل التجميع مستحبا أو مباحا أيضا؟ والصحيح هو انتهاء عصر التشريع بكل جوانبه وأنحائه لأنه منحصر بيد الله علي لسان نبيه (صلي الله عليه وآله وسلم)، فأي تصرف في الأحكام الشرعية بنقصها أو زيادتها علي لسان غير المعصوم،

يعتبر بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [ صفحه 196] ثم إن لسيدنا شرف الدين العاملي هناك كلاما نافعا نورده بنصه قال: كان هؤلاء - عفا الله عنهم وعنا - رأوه رضي الله عنه قد استدرك (بتراويحه) علي الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين. بل هم للغفلة - عن حكمة الله في شرائعه ونظمه - أحري، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها انفراد مؤديها - جوف الليل في بيته - بربه عز وعلا يشكو إليه بثه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتي يأتي علي آخرها ملحا عليه، متوسلا بسعة رحمته إليه، راجيا لاجئا، راهبا راغبا، منيبا تائبا، معترفا لائذا عائذا، لا يجد ملجأ من الله تعالي إلا إليه، ولا منجي منه إلا به. لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقل منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فإنها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيد البشر. إما ربطها بالجماعة فيحد من هذا النفع، ويقلل من جدواه. أضف إلي هذا أن إعفاء النافلة من الجماعة يمسك علي البيوت حظها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظها من تربية الناشئة علي حبها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدا يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): أيما أفضل، الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ فقال (صلي الله عليه وآله وسلم) " ألا تري إلي بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي

من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة " رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. وعن زيد بن ثابت أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا [ صفحه 197] الصلاة المكتوبة " رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم " وعنه (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت " وأخرجه البخاري ومسلم. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " إذا قضي أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، وإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلي أبي سعيد. والسنن في هذا المعني لا يسعها هذا الإملاء. لكن الخليفة - رضي الله عنه - رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلي فيها من الشعائر بأجلي المظاهر إلي ما لا يحصي من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم، وأنت تعلم أن الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختص الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرةمن أمرهم)

[338] . وحصيلة الكلام: قد روي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاةالمكتوبة " [339] . وأمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بأداء النوافل في البيوت ابتعادا عن الرياء والسمعة مطلقا وليس مقيدا بزمانه، وهذا يدل علي مرجوحية أداء النوافل في المساجد. فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت، إلا أن تصريح النبي بأن الإتيان بها في البيوت [ صفحه 198] أفضل كما في الحديث، فهذا مما يلوح - علي الأقل - بعدم مشروعية الجماعة فيها. والعجيب أن ابن حزم مع اعترافه بأفضلية كل تطوع في البيوت استثني ما صلي جماعة في المسجد. قال: " مسألة: وصلاة التطوع في الجماعة أفضل منها منفردا، وكل تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلا ما صلي منه جماعة في المسجد فهوأفضل " [340] . ولنعم ما ذكر في التعليقة علي كلامه السالف حيث قال المعلق ما نصه: " قال ابن حزم: ما كان (عليه السلام) ليدع الأفضل، وهذا في هذه الوجهة، ثم قال هنا: الجماعة أفضل للمتطوع، وقد علم كل عالم أن عامة تنفل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان منفردا، فعلي ما أصل ابن حزم، كيف يدع الأفضل!! فعلمنا بهذا أن صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانتفريضة لا تطوعا وهو نقد وجيه، وهو الحق " [341] . خاتمة المطاف: إن عمل الخليفة، لم يكن إلا من قبيل تقديم المصلحة علي النص وليس المورد أمرا وحيدا في حياته، بل له نظائر في عهده نذكر

منها ما يلي: 1 - تنفيذ الطلاق ثلاثا بعد ما كان في عهد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وبعده طلاقا واحدا. 2 - تحريم متعة الحج. وقد كانت جائزة في عصر الرسول. وإليك الكلام فيهما واحدا بعد الآخر. [ صفحه 199]

الطلاق ثلاثا دفعة أو دفعات في مجلس واحد

اشاره

من المسائل التي أوجبت انغلاقا وعنفا في الحياة وانتهت إلي تمزيق الأسرة وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثا دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو يكرره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقة وتحرم المطلقة علي زوجها حتي تنكح زوجا غيره. إن الطلاق عند أكثر أهل السنة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرع في إيقاعه، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربما يتغلب الغيظ علي الزوج ويأخذه الغضب فيطلقها ثلاثا في مجلس واحد، ثم يندم علي عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت فيطلب المخلص عن أثره السيئ، ولا يجد عند أئمة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصا فيقعد ملوما محسورا ولا يزيده السؤال والفحص إلا نفورا عن الفقه والفتوي. نحن نعلم علما قاطعا بأن الإسلام دين سهل وسمح، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلي دراسة المسألة من جديد دراسة حرة بعيدة عن أبحاث [ صفحه 200] الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية علي وجوههم، وعن أبحاث أصحاب الهوي الهدامين الذين يريدون تجريد الأمم عن الإسلام، وأن ينظروا إلي المسألة ويطلبوا حكمها من الكتاب والسنة، متجردين عن كل رأي مسبق فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وربما تفك العقدة ويجد المفتي مخلصا من هذا المضيق الذي أوجده

تقليد المذاهب. وإليك نقل الأقوال: قال ابن رشد: جمهور فقهاء الأمصار علي أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثيرللفظ في ذلك [342] . قال الشيخ الطوسي: إذا طلقها ثلاثا بلفظ واحد، كان مبدعا ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شئ أصلا وبه قال علي - عليه الصلاة والسلام - وأهل الظاهر، وحكي الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنه تقع واحدة كما قلناه، وروي أن ابن عباس وطاوسا كانا يذهبان إلي ما يقوله الإمامية. وقال الشافعي: فإن طلقها ثنتين أو ثلاثا في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرقة كان ذلك مباحا غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمان بن عوف، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما الصلاة والسلام -، وفي التابعين ابن سيرين، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال قوم: إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا دفعة واحدة، أو متفرقة، [ صفحه 201] فعل محرما وعصي وأثم، ذهب إليه في الصحابة علي - عليه الصلاة والسلام -، وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلا أن ذلك واقع [343] . قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولي فتلزمه واحدة، وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولي ولم يلزمها ما بعدها لأنه ابتداء كلام. وقال ابن قدامة في شرحه علي مختصر الخرقي: إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرتين ونوي بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت

لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوي بها إفهامها أن الأولي قد وقعت بها أو التأكد لم تطلق إلا مرة واحدة، وإن لم تكن له نية وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر: تطلق واحدة. وقال الخرقي أيضا في مختصره: " ويقع بالمدخول بها ثلاثا إذا أوقعها مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثم طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، ثم طالق وطالق أو فطالق. وقال ابن قدامة في شرحه: إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنمعا، فوقعن كلهن كما لو قال: أنت طالق ثلاثا [344] . وقال عبد الرحمان الجزيري: يملك الرجل الحر ثلاث طلقات، فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا، لزمه ما نطق به من [ صفحه 202] العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلي رأسهم ابن عباس - رضيالله عنهم - [345] . إلي غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين علي نفوذ ذلك الطلاق محتجين بما، تسمع، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأي ومسمع من الصحابة ولكن لو دل الكتاب والسنة علي خلافه فالأخذ به متعين.

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) (البقرة / 228). (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم

أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) (البقرة / 229). [ صفحه 203] (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتي تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) (البقرة / 230). (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه...) (البقرة / 231). جئنا بمجموع الآيات الأربع - مع أن موضع الاستدلال هو الآية الثانية - للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلي نكات في الآيات: 1 - قوله سبحانه: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) كلمة جامعة لا يؤدي حقها إلا بمقال مسهب، وهي تعطي أن الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وعلي الرجل عمل يقابله، فهما - في حقل المعاشرة - متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر، وقيام كل بوظيفته تجاه الآخر، فعلي المرأة القيام بتدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلي الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، وقد قسم النبي الأمور بين ابنته فاطمة وزوجها علي (عليه السلام) فجعل أمور داخل البيت علي ابنته وأمور خارجه علي زوجها - صلوات الله عليهما -. 2 - " المرة " بمعني الدفعة للدلالة علي الواحد في الفعل، و " الامساك " خلاف الاطلاق، و " التسريح " مأخوذ

من السرح وهو الاطلاق يقال: سرح الماشية في المرعي: إذا أطلقها لترعي. والمراد من الامساك هو إرجاعها إلي عصمة الزوجية. كما أن المقصود من " التسريح " عدم التعرض لها لتنقضي عدتها في كل [ صفحه 204] طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضا نوع من التسريح. علي اختلاف في معني الجملة. وإن كان الأقوي هو الثاني وسيوافيك توضيحه ودفع ما أثار الجصاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن من الله سبحانه. 3 - قيد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعرا بأنه يكفي في الامساك قصد عدم الإضرار بالرجوع، وأما الإضرار فكما إذا طلقها حتي تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق كذلك، يريد بها الإضرار والإيذاء، وعلي ذلك يجب أن يكون الامساك مقرونا بالمعروف، وعندئذ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعد أمرا منكرا غير معروف، إذ ليس إضرارا. وهذا بخلاف التسريح فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقرونا بالإحسان إليها فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالي: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) أي لا يحل في مطلق الطلاق استرداد ما آتيتموهن من المهر، إلا إذا كان الطلاق خلعا فعندئذ لا جناح عليها فيما افتدت به نفسها من زوجها. وقوله سبحانه: (فيما افتدت به) دليل علي وجود النفرة من الزوجة فتخاف أن لا تقيم حدود الله فتفتدي بالمهر وغيره لتخلص نفسها. 4 - لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدة، حد ولا عد، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضاروهن بالطلاق والرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدد الطلاق بمرتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتي تنكح زوجا غيره. روي الترمذي: كان

الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتي قال رجل [ صفحه 205] لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبيفسكت حتي نزل القرآن: (الطلاق مرتان...) [346] . 5 - اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) إلي قولين: ألف: إن الطلاق يكون مرتين، وفي كل مرة إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخير بعد إيقاع الطلقة الأولي بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدتها من غير رجعة حتي تبلغ أجلها وتنقضي عدتها. وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي والضحاك فذهبا إلي أن معني الكلام: الطلاق مرتان فإمساك في كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان، وقال: هذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبرالذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين [347] . يلاحظ عليه: أن هذا التفسير ينافيه تخلل الفاء بين قوله: (مرتان) وقوله (فإمساك بمعروف) فهو يفيد أن القيام بأحد الأمرين بعد تحقق المرتين، لا في أثنائهما. وعليه لا بد أن يكون كل من الامساك والتسريح أمرا متحققا بعد المرتين، ومشيرا إلي أمر وراء التطليقتين. نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كل تطليقة، من آية أخري أعني قوله سبحانه: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو [ صفحه 206] سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) [348] . ولأجل الحذر عن تكرار المعني الواحد في المقام يفسر قوله: (فإمساك بمعروف أو

تسريح بإحسان) بوجه آخر سيوافيك. ب - أن الزوج بعد ما طلق زوجته مرتين، يجب أن يتفكر في أمر زوجته أكثر مما مضي، فيقف أن ليس له بعد التطليقتين إلا أحد الأمرين: إما الامساك بمعروف وإدامة العيش معها، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبدا، إلا في ظرف خاص. فيكون قوله تعالي: (أو تسريح بإحسان) إشارة إلي التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحققا به. وهنا سؤالان أثارهما الجصاص في تفسيره: 1 - كيف يفسر قوله: (أو تسريح بإحسان) بالتطليق الثالث. مع أن المراد من قوله في الآية المتأخرة (أو سرحوهن بإحسان) هو ترك الرجعة وهكذا المراد من قوله (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) (الطلاق / 2) هو تركها حتي ينتهي أجلها، ومعلوم أنه لم يرد من قوله: (أو سرحوهن بمعروف) أو قوله: (أو فارقوهن بمعروف): طلقوهن واحدةأخري [349] . يلاحظ عليه: أن السؤال أو الإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في السرح والإطلاق، غير أنه يتحقق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعد تفكيكا في معني لفظ واحد في [ صفحه 207] موردين، ومصداقه في الآية 229، هو الطلاق، وفي الآية 231، هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافا في المفهوم. 2 - إن التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالي: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتي تنكح زوجا غيره) وعندئذ يجب حمل قوله تعالي: (أو تسريح بإحسان) المتقدم عليه علي فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالاثنين [350] بعد انقضاء العدة. وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون

قوله تعالي: (فإن طلقها) عقيب ذلك هي الرابعة، لأن الفاء للتعقيب قد اقتضي طلاقامستقلا بعد ما تقدم ذكره [351] . والإجابة عنه واضحة، لأنه لا مانع من الاجمال أولا ثم التفصيل ثانيا، فقوله تعالي: (فإن طلقها) بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل علي ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتي تنكح زوجا غيره. فلو طلقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنا أن يقيما حدود الله فأين هذه التفاصيل من قوله: (أو تسريح بإحسان). وبذلك يعلم أنه لا يلزم أن يكون قوله: (فإن طلقها) طلاقا رابعا. وقد روي الطبري عن أبي رزين أنه قال: أتي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فأين الثالثة؟ قال رسول الله: (إمساك بمعروف أو تسريحبإحسان) هي الثالثة [352] . [ صفحه 208] نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابيا بل تابعي. وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أن المراد من قوله: (أو تسريحبإحسان) هي التطليقة الثالثة [353] . إلي هنا تم تفسير الآية وظهر أن المعني الثاني لتخلل لفظ " الفاء " أظهر بل هو المتعين بالنظر إلي روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام). بقي الكلام في دلالة الآية علي بطلان الطلاق ثلاثا بمعني عدم وقوعه بقيد الثلاث، وأما وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول:

الاستدلال علي بطلان الطلاق ثلاثا

إذا تعرفت علي مفاد الآية، فاعلم أن الكتاب والسنة يدلان علي بطلان الطلاق ثلاثا، وأنه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأخري، يتخلل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلق ثلاثا مرة واحدة. أو كرر الصيغة فلا يقع

الثلاث. وأما احتسابها طلاقا واحدا، فهو وإن كان حقا، لكنه خارج عن موضوع بحثنا، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أولا والسنة ثانيا: أولا: الاستدلال عن طريق الكتاب: 1 - قوله سبحانه: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). تقدم أن في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسرون بين من [ صفحه 209] يجعلونها ناظرة إلي الفقرة المتقدمة أعني قوله: (الطلاق مرتان...) ومن يجعلونها ناظرة إلي التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدل علي بطلان الطلاق ثلاثا علي كلا التقديرين. أما علي التقدير الأول، فواضح لأن معناها أن كل مرة من المرتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال ابن كثير: أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويا الاصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتي تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها [354] وأين هذا من الطلاق ثلاثا بلا تخلل واحد من الأمرين - الامساك أو تركها حتي ينقضي أجلها - سواء طلقها بلفظ: أنت طالق ثلاثا، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وأما علي التقدير الثاني، فإن تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، وساكتة عن حال الطلاقين الأولين، لكن قلنا إن بعض الآيات، تدل علي أن مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأولين والثالث فالمطلق يجب أن يتبع طلاقه بأحد أمرين: 1 - الامساك بمعروف. 2 - التسريح بإحسان. فعدم دلالة الآية الأولي علي خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين [355] ولعلهما تصلحان قرينة لإلقاء

الخصوصية من ظاهر الفقرة (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وإرجاع مضمونها إلي مطلق الطلاق [ صفحه 210] ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة علي لزوم اتباع الطلاق بأحد الأمرين علي كلا التقديرين، وعلي أي حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها - كما ذكرنا - فالمحصل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع. ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا علي أن قوله: (فبلغن أجلهن) من القيود الغالبية، وإلا فالواجب منذ أن يطلق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن، هو لأجل أن المطلق الطاغي عليه غضبه وغيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فورا حتي تمضي عليه مدة من الزمن تصلح فيها، لأن يتفكر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين، وإلا فطبيعة الحكم الشرعي (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) تقتضي أن يكون حكما سائدا علي جميع الأزمنة من لدن أن يتفوه بصيغة الطلاق إلي آخر لحظة تنتهي معها العدة. وعلي ضوء ما ذكرنا تدل الفقرة علي بطلان الطلاق الثلاث وأنه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أن دلالتها علي القول الأول بنفسها، وعلي القول الثاني بمعونة الآيات الآخر. 2 - قوله سبحانه: (الطلاق مرتان). إن قوله سبحانه: (الطلاق مرتان): ظاهر في لزوم وقوعه مرة بعد أخري لا دفعة واحدة وإلا يصير مرة ودفعة، ولأجل ذلك عبر سبحانه بلفظ " المرة " ليدل علي كيفية الفعل وإنه الواحد منه، كما أن الدفعة والكرة والنزلة، مثل المرأة، وزنا ومعني واعتبارا. وعلي ما ذكرنا فلو قال المطلق: أنت طالق ثلاثا، لم يطلق زوجته مرة بعد أخري، ولم يطلق مرتين، بل هو طلاق واحد، وأما قوله " ثلاثا

" فلا يصير سببا [ صفحه 211] لتكرره، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلا اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله " أربعا ". وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتي التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله " مرتين " ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله " كان هذا يمينا واحدا. ولو قال المقر بالزنا: " أنا أقر أربع مرات أني زنيت " كان إقرارا واحدا، ويحتاج إلي إقرارات، إلي غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار. قال الجصاص: (الطلاق مرتان)، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلي آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتي يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدي ذلك إلي إسقاط فائدة ذكر المرتين، إذ كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكر المرتين إنما هو أمربإيقاعه مرتين، ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة [356] . هذا كله إذا عبر عن التطليق ثلاثا بصيغة واحدة، أما إذا كرر الصيغة كما عرفت، فربما يغتر به البسطاء ويزعمون أن تكرار الصيغة ينطبق علي الآية، لكنه مردود من جهة أخري وهي: أن الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإن الطلاق إنما هو لقطع علقة الزوجية، فلا زوجية بعد الصيغة الأولي حتي تقطع، ولا رابطة قانونية حتي تصرم. وبعبارة

واضحة: إن الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجية بينه وبين [ صفحه 212] امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أن المطلقة لا تطلق، والمسرحة لا تسرح. وربما يقال: إن المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة. ولكن الإجابة عنه واضحة وذلك لأن الصيغة الثانية لغو جدا، وذلك لأن الزوجة بعدها أيضا بحكم الزوجة. وإنما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائنا وهو يتحقق بالطلاق ثلاثا. والحاصل: أنه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية أعني قوله سبحانه: (فإن طلقها فلا تحل له حتي تنكح زوجا غيره) وكيف لا يكون كذلك، وقد قال (صلي الله عليه وآلهوسلم): لا طلاق إلا بعد نكاح، وقال: ولا طلاق قبل نكاح [357] . فتعدد الطلاق رهن تخلل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلل يكون التكلم أشبه بالتكلم بكلام لغو. قال السماك: إنما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، وكيف تحل عقدةقبل أن تعقد؟! [358] . 3 - قوله سبحانه: (فطلقوهن لعدتهن). إن قوله سبحانه: (الطلاق مرتان) وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع [359] ، ومن جانب آخر دل قوله سبحانه: (وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) (الطلاق / 1). علي أن الواجب في حق هؤلاء هو [ صفحه 213] الاعتداد وإحصاء العدة، من غير فرق بين أن نقول أن " اللام " في (عدتهن) للظرفية بمعني " في عدتهن " أو بمعني الغاية، والمراد لغاية أن يعتددن، إذ علي كل تقدير يدل علي أن من خصائص الطلاق الذي

يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد وإحصاء العدة، وهو لا يتحقق إلا بفصل الأول عن الثاني، وإلا يكون الطلاق الأول بلا عدة وإحصاء لو طلق اثنتين مرة. ولو طلق ثلاثا يكون الأول والثاني كذلك. وقد استدل بعض أئمة أهل البيت بهذه الآية علي بطلان الطلاق ثلاثا. روي صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: ليس بشئ، ثم قال: أما تقرأ كتاب الله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - إلي قوله سبحانه: - لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ثم قال: كل ما خالف كتاب الله والسنة فهو يرد إلي كتاب الله والسنة [360] . أضف إلي ذلك: أنه لو صح التطليق ثلاثا فلا يبقي لقوله سبحانه: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) فائدة لأنه يكون بائنا ويبلغ الأمر إلي ما لا تحمد عقباه، ولا تحل العقدة إلا بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أن الظاهر أن المقصود حل المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدة.

الاستدلال عن طريق السنة

قد تعرفت علي قضاء الكتاب في المسألة، وأما حكم السنة، فهي تعرب عن أن الرسول كان يعد مثل هذا الطلاق لعبا بالكتاب. [ صفحه 214] 1 - أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانا ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتي قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ [361] إن محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روي أحمد بإسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فصلي بنا المغرب في مسجدنا فلما سلممنها... [362]

. ولو سلمنا عدم سماعه كما يدعيه ابن حجر في فتح الباري [363] فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذا بعدالتهم أجمعين. 2 - روي ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها [364] . والسائل هو ركانة بن عبد يزيد، روي الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يري إنما الطلاق عند كلطهر [365] . [ صفحه 215]

الاجتهاد مقابل النص

التحق النبي الأكرم بالرفيق الأعلي وقد حدث بين المسلمين اتجاهان مختلفان، وصراعان فكريان، فعلي ومن تبعه من أئمة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرف علي الحكم الشرعي من خلال النص الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلا، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرف علي الحكم الشرعي من خلال التعرف علي المصلحة ووضع الحكم وفق متطلباتها. إن استخدام الرأي فيما لا نص فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش، إنما الكلام في استخدامه فيما فيه نص، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نص فيه من كتاب أو سنة بل حتي فيما كان فيه نص ودلالة. يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أن عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع

من المعني الذي ذكرناه، وذلك أن ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نري الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شئ إلي ما يعبر عنه الآنبالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته [366] . إن الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب [ صفحه 216] من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه: 1 - روي مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيهأناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم [367] . 2 - وروي عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة علي عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وثلاثا من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم [368] . 3 - وروي أيضا: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث علي عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلماكان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم [369] . 4 - روي البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل

أن يدخل بها، جعلوها واحدة علي عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من إمارة عمر - رضي الله عنه - فلما رأي الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنعليهم [370] . 5 - أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنه قال: لما كان زمن عمر - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنه من تعجل أناةالله في الطلاق ألزمناه إياه [371] . [ صفحه 217] 6 - عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناةفاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك [372] . 7 - عن الحسن: أن عمر بن الخطاب كتب إلي أبي موسي الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا علي أنفسهم، فألزم كل نفس ما ألزم نفسه. من قال لامرأته: أنت علي حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة، ومن قال:أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث [373] . هذه النصوص تدل علي أن عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا أخذا بروح القانون الذي يعبر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلي المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلي كل مسكر أخذا بروح القانون وهو أن علة التحريم هي الاسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا:

تبريرات لحكم الخليفة

اشاره

لما كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نص

القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحققين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتي يبرر حكمه ويصححه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النص بل يكون صادرا عن دليل شرعي، بيانها: [ صفحه 218]

نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص

إن الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فإن قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر - رضي الله عنه - لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعا، والنسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا، بطريق أن الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوي من الخبر المشهور. فإن قلت: هذا إجماع علي النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك فيحقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا [374] . يلاحظ عليه أولا: أن المسألة يوم أفتي بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع علي قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نري البعض الآخر ينفي انعقاد الاجماع البتة ويقول: وقد أجمع الصحابة إلي السنة الثانية من خلافة عمر علي أن الثلاث بلفظ واحد واحدة، ولم ينقض هذا الاجماع بخلافه، بل لا يزال في الأمة من يفتي بهقرنا بعد قرن إلي يومنا هذا " [375] . وثانيا: أن هذا البيان يخالف ما برر به الخليفة عمله حيث قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نص عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعين. وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة مما ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفي 1298) حيث قال:

إن المعروف عند الصحابة والتابعين [ صفحه 219] لهم بإحسان إلي يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أن حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نص كتاب الله تعالي أو سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسية، والعصبية الشيطانية بأن يقال: لعل هذا المجتهد قد اطلع علي هذا النص وتركه لعلة ظهرت له، أو أنه اطلع علي دليل آخر، ونحو هذا مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين وأطبق عليه جهلةالمقلدين [376] .

تعزيرهم علي ما تعدوا به حدود الله

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثا في مجلس، إلا عقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم علي ما تعدوا حدود الله، فاستشار أولي الرأي، وأولي الأمر وقال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلما وافقوه علي ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناةوأنه من تعجل أناة الله ألزمناه إياه [377] . لم أجد نصا فيما فحصت في مشاورة عمر أولي الرأي والأمر، غير ما كتبه إلي أبي موسي الأشعري بقوله: " لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة... " [378] وهو يخبر عن عزمه وهمه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلي رأسهم علي بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة [ صفحه 220] ويقتفي رأيه. ولا يكون استعجال الناس، مبررا لمخالفة الكتاب والسنة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيئ بقوة ومنعة، وكيف تصح مؤاخذتهم بما أسماهرسول الله لعبا بكتاب الله [379] . يقول ابن قيم:

إن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأي أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأي من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه، حتي تنكح زوجا غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأي عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأي أن ما كانوا عليه في عهد النبي وعهد الصديق، وصدرا من خلافته كان الأليق بهم، لأنهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوي الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا علي غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهمفإن الله شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة [380] . يلاحظ عليه: أن ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبررة لتغير الحكم فما معني " حلال محمد حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرام إلي يوم القيامة " ولو صح ما ذكره لتسرب التغير إلي أركان الشريعة، فيصبح الإسلام ألعوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرم الصوم علي العمال لتقوية القوة العاملة في المعامل. [ صفحه 221] وفي الختام نذكر تنبه بعض علماء أهل السنة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغير قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحررها عن سلطنة الدولة العثمانية. ويا للأسف أن كثيرا من مفتي أهل السنة علي تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل

ذلك يقول مؤلف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: " ليس المراد مجادلة المقلدين أو ارجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإن أكثرهم يطلع علي هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها لأن العمل عندهمعلي أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله [381] . [ صفحه 222]

النهي عن متعة الحج

إن الكاتب المصري أحمد أمين، يصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنه كان ممن يأخذ بروح القانون لا بلفظه [382] وهو يريد بذلك تفسير ما شوهدت منه في بعض الموارد من مخالفة للنصوص ولو صح ما ذكره في بعضها، لكنه غير صحيح في البعض الآخر. ونحن نري أنه كان ممن يجتهد تجاه النص، ويأخذ بالرأي مكان الأخذ بالدليل. إن العاطفة الدينية دفعت الكاتب المصري إلي ذاك التفسير، ولكنه لو كان متأملا فيما سبق من تنفيذ الطلاق الثلاث وما يأتي منه في هذه المسألة من تحريم حج التمتع، وحصره في القران والإفراد يقف علي أنه كان ممن يقدم المصلحة المزعومة علي الذكر الحكيم وتنصيص النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم)، وإنه ما نهي عن متعة الحج وما هدد فاعلها، إلا لأجل أنه كان يكره أن يغتسل الحاج تحت الأراك ثم يفيض منه إلي الحج ورأسه يقطر ماء، لأن التحلل من محظورات الإحرام بين العمرة والحج، من لوازم ذاك النوع من الحج، وهو مما كان لا يروقه. [ صفحه 223] وإن كنت في شك فاقرأ ما نتلوه عليك: اتفق الفقهاء علي أن أنواع الحج ثلاثة: تمتع، وقران، وإفراد. والمقصود من الأول، هو إحرام الشخص بالحج في أشهره (شوال وذي القعدة وذي الحجة) والإتيان بأعمالها، والتحلل من محظورات الإحرام بالفراغ منها، ثم الإحرام بالحج من مكة والإتيان بأعماله من

الوقوف بعرفات والإفاضة إلي المشعر و... ويصح هذا النوع من الحج ممن كان آفاقيا، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ويبتعد بيته من مكة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة. وعند الإمامية من نأي عن مكة 48 ميلا من كل جانب وهو لا يتجاوز عن 16 فرسخا. وأما القسمان الآخران، فالقران عند أهل السنة هو الإحرام بالحج والعمرة معا ويقول: لبيك اللهم بحج وعمرة، فيأتي بأعمال الحج أولا ثم العمرة بإحرام واحد. وهو القران الحقيقي. وهناك قسم يسمي بالقران الحكمي، وهو أن يدخل إحرام الحج في إحرام العمرة ثم يجمع بين أعمالهما. وذلك بأن يحرم بالعمرة أولا. وقبل: أن يطوف لها إما أربعة أشواط، أو قبل أن يشرع فيه يحرم بالحج، علي اختلاف ببين الحنفية والشافعية، وهل يكتفي بطواف وسعي واحد، أو لكل طوافه وسعيه؟ فيه اختلاف. وأما الإفراد، فهو أن يحرم بالحج من ميقات بلده، وبعد الفراغ من أعماله، يحرم بالعمرة، والقران والإفراد، يشترك فيهما جميع الناس ولا يختص بغير الآفاقي. هذا لدي أهل السنة وأما الإمامية، فالقران والإفراد واجب علي من لم يكن بين مكة وبيته 48 ميلا، وأما النائي عن هذا الحد، فواجبه هو حج التمتع. [ صفحه 224] والقران والإفراد، ليسا أمرين متغايرين عندهم، بل يتمتع كل منهما بإحرام للحج وإحرام للعمرة، غير أن الإحرام في الأول يقترن بسوق الهدي دون الثاني، وعلي ذلك لا يجوز عندهم الإتيان بالحج والعمرة بإحرام واحد، ولا إدخال إحرام الحج في إحرام العمرة كما في القران الحكمي [383] . والأصل في حج التمتع، قوله سبحانه: (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلي الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج

وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) (البقرة - 196). وتفسير الآية: إن من (تمتع) بسبب الإتيان (بالعمرة) بما يحرم علي المحرم كالطيب والمخيط والنساء ومتوجها (إلي الحج) فعليه (ما استيسر من الهدي) من البدنة أو البقرة أو الشاة. ثم بين كيفية الصيام وقال: (ثلاثة أيام في الحج) متواليات و (سبعة إذا رجعتم) إلي أوطانكم (تلك عشرة كاملة وذلك) أي التمتع بالعمرة إلي الحج فرض من لم يكن أهله باعتبار موطنه ومسكنه (حاضري المسجد الحرام) أي لم يكن من أهل مكة وقراها (واتقوا الله) فيما أمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج (واعملوا أن الله شديد العقاب). والآية صريحة في جواز التمتع بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة وقبل التوجه إلي الحج ولم يدع أحد كونها منسوخة بآية، أو قول أو فعل، بل أكد النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) تشريعه بعمله. روي أهل السير والتاريخ: إن رسول الله خرج في العام العاشر من الهجرة إلي الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج حتي إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الهدي، [ صفحه 225] وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي - إلي أن قالت: - ودخل رسول الله مكة فحل كل من كان لا هدي معه وحلت نساؤه بعمرة، ولما أمر رسول الله نساءه أن يحللن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ فقال: إني أهديت فلا أحل حتي أنحر هديي. إن رسول الله (صلي

الله عليه وآله وسلم) كان بعث عليا - رضي الله عنه - إلي نجران فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل علي فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فوجدها قد حلت وتهيأت فقال: ما لك يا بنت رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أن نحل بعمرة فحللنا، ثم أتي رسول الله فلما فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): انطلق فطف بالبيت وحل كما حل بأصحابك، قال: يا رسول الله إني أهللت، فقال: إرجع فاحلل كما حل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا، فأشركه رسول الله في هديه وثبت علي إحرامه مع رسول الله حتي فرغا من الحج ونحر رسول الله الهديعنهما [384] . هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنة وإجماع الأمة ومع ذلك نري أن بعض الصحابة لا يروقه متعة الحج لا في عصر الرسالة ولا بعده بل يفتي بتحريمها! وإليك البيان: 1 - روي ابن داود أن النبي أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلي مني وذكورنا تقطر، فبلغ ذلك رسول الله فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديتولولا أن معي الهدي لأحللت " [385] . 2 - روي مالك عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن أبي وقاص [ صفحه 226] والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلي الحج فقال الضحاك بن

قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قدنهي عن ذلك فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه [386] . 3 - وروي عن عبد الله بن عمر: أنه قال: والله لأن أعتمر قبل الحج وأهديأحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة [387] . 4 - روي الترمذي عن سالم بن عبد الله أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلي الحج فقال عبد الله بن عمر: حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهي عنها؟! فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهي عنها وصنعها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أأمر أبي نتبع أم أمررسول الله؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله، فقال: لقد صنعها رسول الله [388] . 5 - روي مسلم عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: علي يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء، بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله (صلي الله عليه وآله وسلم) - إلي أن قال في الحديث: -فأفصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم [389] . ومن العجب أن الزرقاني يقوم بتصويب فتوي الخليفة ويعلق علي الرواية ويقول: الإتمام في قوله سبحانه (فأتموا الحج والعمرة لله) يقتضي استمرار الإحرام [ صفحه 227] إلي

فراغ الحج ومنع التحلل، والمتمتع متحلل ويستمتع بما كانمحظورا عليه [390] . يلاحظ عليه أولا: لو صح ما ذكره من التفسير تلزم المعارضة بين صدر الآية، أعني قوله (وأتموا الحج والعمرة لله) وبين ذيلها الدالة علي جواز التمتع بين الإحرامين بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلي الحج) وهو كما تري. وثانيا: أن الإتمام يهدف إلي فعل كل من الحج والعمرة تماما، بمعني: إذا شرعتم في فعل كل فأتموه، مثل قوله: (وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (البقرة - 124). وقوله سبحانه: (ثم أتموا الصيام إلي الليل) (البقرة - 187) لا إلي الاستمرار. وثالثا: إذ كان التفسير تبريرا لنهي الخليفة، فهو في الوقت نفسه تخطئة للنبي الأكرم حيث أمر أصحابه وأهل بيته بالتحلل وإنما لم يتحلل نفسه لأجل سوق الهدي. نعم أراد الخليفة من قوله: " فافصلوا حجكم من عمرتكم " وهو الإتيان بالعمرة في غير أشهر الحج، روي الجصاص عن ابن عمر أن عمر قال: أن تفرقوابين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم [391] . 6 - روي الإمام أحمد بن أبي نضرة عن جابر قال: متعتان كانتا علي عهدالنبي فنهانا عنهما عمر - رضي الله عنه - فانتهينا [392] . 7 - روي ابن حزم في المحلي بسنده قال: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهي عنهما وأضرب عليهما - ثم قال: - هذا لفظ أيوب، وفي رواية خالد: أنا أنهي عنهما وأعاقبعليهما: متعة النساء ومتعة الحج [393] . [ صفحه 228] 8 - لم يكن نهي الخليفة عن متعة الحج مستندا إلي دليل شرعي وإنما نهي عنه لما كرهه

أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطررؤوسهم [394] . وهذا هو الذي نوهنا به في صدر البحث، أن الخليفة ومن لف لفه، كانوا يقدمون المصالح المزعومة علي النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت. ثم إن المتأخرين قاموا بحفظ كرامة الخليفة، فحرفوا الكلم عن مواضعه وأولوا نهي الخليفة بوجهين: 1 - قالوا: إن ما حرمه وأوعد عليه، غير هذا وإنما هو أن يحرم الرجل بالحج حتي إذا دخل مكة فسخ الحج إلي العمرة، ثم حل وأقام حلالا حتي يهل بالحجيوم التروية [395] . وهذا كما تري، لا يوافق ما مر من النصوص، خصوصا ما نقلناه من المناظرة بين سعد والضحاك بن قيس من صحيح مسلم، ومن وقف علي النصوص الكثيرة، والمناظرة الدائرة بين النبي وأصحابه، وبين الصحابة أنفسهم يقف علي أنه نهي عن حج التمتع. روي البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا - رضي الله عنهما -، وعثمان ينهي عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأي علي (النهي) أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي (صلي الله عليه وآلهوسلم) لقول أحد [396] . 2 - إن نهي الخليفة عن متعة الحج لأجل اختصاص إباحة المتعة بالصحابة في عمرتهم مع رسول الله فحسب. [ صفحه 229] ويكفينا في الرد عليه قول ابن القيم: " إن تلكم الآثار الدالة علي الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصح، عمن نسب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرع المعصوم، ففي صحيحة الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: متعتنا هذه يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لا بل للأبد [397] . قال العيني

في قوله سبحانه: (فمن تمتع بالعمرة إلي الحج): أجمع المسلمون علي إباحة التمتع في جميع الأعصار وأما السنة فحديث سراقة " المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ قال: هي للأبد "، وحديث جابر المذكور في صحيح مسلم في صفة الحج نحو هذا. ومعناه: " أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع، ولا يرون العمرة في أشهر الحج فبين النبي أن الله قد شرع العمرة فيأشهر الحج وجوز المتعة إلي يوم القيامة " [398] . [ صفحه 230]

وجوب القصر في السفر

اشاره

قد تعرفت علي أن غير الحنفية والزيدية والظاهرية تذهب إلي التخيير بين القصر والإتمام غير أن الحنفية والإمامية تذهبان إلي كون القصر فرضا وعزيمة، وإليك دراسة المسألة قولا ودليلا:

نصوص فقهاء الشيعة علي كون القصر عزيمة

قال السيد المرتضي علم الهدي (355 - 436 ه) في الإنتصار: " ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المسافر يلزمه التقصير ما لم ينو المقام في البلد الذي يدخله عشرة أيام فصاعدا، وإذا نوي ذلك وجب عليه الإتمام، وأن من عداهم من الفقهاء يخالف في ذلك. فأبو حنيفة وأصحابه والثوري يقولون: إنه إذا نوي إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوي أقل من ذلك قصر. وقال الشافعي ومالك وهو قول سعيد بن المسيب والليث: إذا نوي إقامة أربعة أيام أتم. وقال الأوزاعي: إذا نوي إقامة ثلاثة عشر يوما أتم. وروي عن ابن حي أنه [ صفحه 231] قال: إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيهالصلاة ما لم يقم به عشرا، فإن أقام به عشرا أو بغيره من سفره أتم الصلاة " [399] . وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) في الخلاف: " التقصير في السفر فرض وعزيمة، والواجب من هذه الصلوات الثلاث: الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان، فإن صلي أربعا مع العلم وجب عليه الإعادة. وقال أبو حنيفة مثل قولنا إلا أنه قال: إن زاد علي ركعتين، فإن كان تشهد في الثانية صحت صلاته، وما زاد علي الثنتين يكون نافلة إلا أن يأتم بمقيم فيصلي أربعا فيكون الكل فريضة أسقط بها الفرض. والقول بأن التقصير عزيمة مذهب علي (عليه السلام) وعمر، وفي الفقهاء مالك وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: هو بالخيار بين أن يصلي صلاة السفر ركعتين

وبين أن يصلي صلاة الحضر أربعا، فيسقط بذلك الفرض عنه. وقال الشافعي: التقصير أفضل. وقال المزني: والإتمام أفضل، وبمذهبه قال في الصحابة: عثمان، وعبد الله ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وفي الفقهاء: الأوزاعي، وأبوثور " [400] . وقال المحقق الحلي (602 - 676 ه) في شرائع الإسلام: [ صفحه 232] " وأما القصر: فإنه عزيمة إلا أن تكون المسافة أربعا ولم يرد الرجوع ليومه علي قول، أو في أحد المواطن الأربعة: مكة والمدينة والمسجد الجامع بالكوفة والحائر، فإنه مخير والإتمام أفضل، وإذا تعين القصر فأتم عامدا أعاد علي كل حال، وإن كان جاهلا بالتقصير فلا إعادة ولو كان الوقت باقيا، وإن كان ناسيا أعادفي الوقت ولا يقضي إن خرج الوقت [401] . هذا يرجع إلي قول الشيعة الإمامية، وقد تعرفت علي اتفاقهم علي القصر وسيوافيك نصوص أئمة الشيعة (عليهم السلام) في ذلك الموضوع بعد إنهاء الكلام في أقوال سائر الفقهاء من السنة:

آراء أهل السنة في كون القصر عزيمة أو رخصة

قال أبو بكر الرازي الجصاص (ت 370 ه): وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث: فإن صلي المسافر أربعا ولم يقعد في الاثنتين، فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلي الفجر أربعا بتسليمة، وهو قول الثوري، وقال حماد بن أبي سليمان: إذا صلي أربعا أعاد. وقال الحسن بن صالح: إذا صلي أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشئ اليسير، فإذا طال في سفره وكثر لم يعد. قال: وإذا افتتح الصلاة علي أن يصلي أربعا، استقبل الصلاة حتي يبتدئها بالنية علي ركعتين، وإن صلي ركعتين وتشهد، ثم بدا له أن يتم فصلي

أربعا، أعاد. وإن نوي أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة علي ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين، أجزأته. [ صفحه 233] وقال مالك: إذا صلي المسافر أربعا، فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضي الوقت فلا إعادة عليه. قال: ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلي ركعتين بدا له، فسلم، أنه لا يجزيه، ولو صلي مسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع، فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه. وقال الأوزاعي: يصلي المسافر ركعتين، فإن قام إلي الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو. وقال الشافعي: ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر معالإحرام، فإذا أحرم ولم ينو القصر كان علي أصل فرضه أربعا [402] . وقال ابن حزم: صلاة الصبح ركعتان في السفر والحضر أبدا، وفي الخوف كذلك، وصلاة المغرب ثلاث ركعات في الحضر والسفر أبدا، ولا يختلف عدد الركعات إلا في الظهر والعصر والعتمة فإنها أربع ركعات في الحضر للصحيح والمريض وركعتان في السفر، وفي الخوف ركعة كل هذا إجماع متيقن إلا أنكون هذه الصلوات ركعة في الخوف ففيه خلاف [403] . وقد مضي شمس الدين السرخسي علي مذهب الإمام أبي حنيفة وقال: مسافر صلي في سفره أربعا أربعا فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد فصلاته تامة والأخريان تطوع له، وإن كان لم يقعد فصلاته فاسدة عندنا. ثماستدل بحديث عائشة كما سيوافيك [404] . وذكر ابن قدامة الأقوال بالتفصيل ننقل منه ما يلي: قال: المشهور عن أحمد أن المسافر إن شاء صلي ركعتين، وإن شاء أتم، [ صفحه 234] وروي عنه أنه توقف وقال: أنا أحب العافية في هذه المسألة. وممن روي عنه الإتمام

في السفر: عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال الأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له الإتمام في السفر، وهو قول الثوري وأبي حنيفة. وأوجب حماد الإعادة علي من أتم. وقال أصحاب الرأي: إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة وإلا لم تصح، وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة في السفر: ركعتان حتم لا يصلح غيرهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلي في السفر أربعا فهوكمن صلي في الحضر ركعتين [405] . وقد ذكر القرطبي الأقوال مع الأدلة، والأقوال المذكورة في كتابه نفس الأقوال التي مر ذكرها والأدلة فسيوافيك بيانها. وأنت تجد الأقوال مبسوطة في الكتب الفقهية فلا نطيل المقام بتكرارها. فتخلص أن الأقوال لا تتجاوز الاثنين بين الرخصة والعزيمة وإن اختلف القائلون بالرخصة في أفضلية القصر أو الإتمام، كما أن القائلين بالعزيمة كالأحناف الحاكمين ببطلان التمام يستثنون ما إذا جلس المصلي بعد إتمام الركعتين مقدار التشهد. ثم هنا مواضع أخر للبحث وراء كون القصر رخصة أو عزيمة ولكن الذي يهمنا في هذه الرسالة هو التركيز علي أن القصر عزيمة لا رخصة ونترك البحث في سائر المواضع إلي آونة أخري. [ صفحه 235]

حجة القائل بكون القصر عزيمة

استدل القائل بالعزيمة بوجوه: الأول: ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). الروايات الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) حول وجوب القصر علي المسافر فوق حد التواتر، فقد جمع صاحب وسائل الشيعة حوالي (248) حديثا حول صلاة المسافر أكثرها يدل علي المطلوب. وهذه الأحاديث تركز علي وجه التفصيل تارة وعلي وجه الإجمال أخري بأن القصر عزيمة وكان أمرا مسلما

عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وإنما حدث القول بالجواز في عهد بعض الخلفاء، وقد أتينا بهذه الروايات، لأن كل واحدة منها تشير إلي نكتة خاصة في صلاة المسافر وإن كان الجميع يركز علي أن القصر فريضة لا تترك. ونذكر هنا نماذج منها علي سبيل المثال لا الحصر: 1 - لما سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن حكم التقصير في السفر وذكرا أن الكتاب قال: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) ولم يقل: " افعلوا " فكيف يدل علي الوجوب؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): " أوليس قال الله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه، كذلك التقصير في [ صفحه 236] السفر شئ صنعه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وذكره الله تعالي ذكره في كتابه " [406] وسيوافيك الحديث برمته عند نقد دليل القائل برخصة التقصير: 2 - وقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " من صلي في السفر أربعافأنا إلي الله منه برئ " يعني متعمدا [407] . 3 - وقال الصادق (عليه السلام): " المتمم في السفر كالمقصر فيالحضر " [408] . 4 - وقال الرضا (عليه السلام): " إن الصلاة إنما قصرت في السفر، لأن الصلاة المفروضة أولا إنما هي عشر ركعات، والسبع إنما زيدت فيها بعد فخفف الله عز وجل عن العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلا يشتغل عما لا بد منه من معيشته رحمة من الله عز وجل

وتعطفا عليه، إلا صلاة المغرب فإنها لا تقصر، لأنها صلاة مقصرة في الأصل. وإنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم، لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما، وإنما ترك تطوع النهار ولم يترك تطوع الليل، لأن كل صلاة لا يقصر فيها لا يقصر في تطوعها. وذلك أن المغرب لا يقصر فيها فلا تقصير فيما بعدها من التطوع، وكذلك الغداة لا تقصير فيها فلا تقصير فيما قبلها من التطوع، وإنما صارت العتمة مقصورة وليس تترك ركعتيها، لأن الركعتين ليستا من الخمسين، وإنما هي زيادة في الخمسين تطوعا ليتم بها بدل كل ركعة من الفريضة ركعتين من التطوع، وإنما جاز للمسافر والمريض أن يصليا صلاة الليل في أول الليل لاشتغاله [ صفحه 237] وضعفه، وليحرز صلاته، فيستريح المريض في وقت راحته، وليشتغل المسافر بأشغالهوارتحاله وسفره " [409] . 5 - وروي الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي جعفر علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الرجل يخرج في سفره وهو في مسيرةيوم، قال: " يجب عليه التقصير في مسيرة يوم، وإن كان يدور في عمله " [410] . 6 - وعن الكليني بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " بينا نحن جلوس وأبي عند وال لبني أمية علي المدينة، إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قبيل فسألهم

عن التقصير فقال قائل منهم: في ثلاث، وقال قائل منهم: في يوم وليلة، وقال قائل منهم: روحة، فسألني. فقلت له: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير، قال له النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): في كم ذاك؟ فقال: في بريد، قال: وأي شئ البريد؟ فقال ما بين ظل عير إلي فئ وعير. قال: ثم عبرنا زمانا ثم رأي بنو أمية يعملون أعلاما علي الطريق وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر (عليه السلام) فذرعوا ما بين ظل عير إلي فئ وعير، [411] ثم جزوه علي اثني عشر ميلا فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كل ميل، فوضعوا الأعلام، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بني أمية غيره، لأن الحديث هاشمي فوضعوا إلي جنب كل علم علما " [412] . [ صفحه 238] 7 - روي الكليني بسنده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " حج النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فأقام بمني ثلاثا يصلي ركعتين، ثم صنع ذلك أبو بكر، وصنع ذلك عمر، ثم صنع ذلك عثمان ست سنين، ثم أكملها عثمان أربعا فصلي الظهر أربعا - إلي أن قال: - فقال للمؤذن: اذهب إلي علي (عليه السلام) فقل له فليصل بالناس العصر، فأتي المؤذن عليا (عليه السلام) فقال له: إن أمير المؤمنين عثمان يأمرك أن تصلي بالناس العصر فقال: إذن لا أصلي إلا ركعتين كما صلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فرجع (فذهب) المؤذن فأخبر عثمان بما قال علي (عليه السلام). قال: اذهب إليه وقل له: إنك لست من هذا في شئ اذهب فصل كما تؤمر، فقال (عليه السلام): لا والله لا أفعل،

فخرج عثمان فصلي بهم أربعا، فلما كان في خلافة معاوية واجتمع الناس عليه وقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) حج معاوية فصلي بالناس بمني ركعتين الظهر، ثم سلم فنظر بنو أمية بعضهم إلي بعض وثقيف ومن كان من شيعة عثمان ثم قالوا: قد مضي علي صاحبكم وخالف وأشمت به عدوه، فقاموا فدخلوا عليه فقالوا: أتدري ما صنعت؟ ما زدت علي أن قضيت علي صاحبنا وأشمت به عدوه ورغبت عن صنيعه وسنته، فقال: ويلكم أما تعلمون أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) صلي في هذا المكان ركعتين وأبو بكر وعمر وصلي صاحبكم ست سنين كذلك، فتأمروني أن أدع سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وما صنع أبو بكر وعمر وعثمان قبل أن يحدث؟! فقالوا: لا والله ما نرضي عنك إلا بذلك، قال: فاقبلوا فإني متبعكم (مشفعكم) وراجع إلي سنة صاحبكم فصلي العصر أربعا، فلم يزل الخلفاء والأمراء عليذلك إلي اليوم " [413] . 8 - روي الشيخ الطوسي بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التقصير؟ قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر وإذا قدمت من [ صفحه 239] سفرك فمثل ذلك [414] . 9 - روي الشيخ الصدوق بإسناده عن عمار بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " من سافر قصر وأفطر إلا أن يكون رجلا سفره إلي صيد أو في معصية الله أو رسول لمن يعصي الله أو في طلب عدو أو شحناءأو سعاية أو ضرر علي قوم من المسلمين " [415] . 10 -

روي الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي سعيد الخراساني قال: دخل رجلان علي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان فسألاه عن التقصير؟ فقال لأحدهما: " وجب عليك التقصير لأنك قصدتني "، وقال للآخر: " وجبعليك التمام لأنك قصدت السلطان " [416] . 11 - وعن الكليني بسنده عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " ليس علي الملاحين في سفينتهم تقصير، ولا علي المكاريوالجمال " [417] . 12 - وروي الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا عزم الرجل أن يقيم عشرا فعليه إتمام الصلاة، وإن كان في شك لا يدري ما يقيم فيقول: اليوم أو غدا، فليقصر ما بينه وبين شهر فإن أقامبذلك البلد أكثر من شهر فليتم الصلاة " [418] . إلي هنا تم ما أردنا نقله عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن حسن الحظ ورود روايات تدعم تلك النظرية رويت عن طرق أهل السنة وبضم هذه إلي هاتيك يعلم تضافر الروايات علي كون القصر عزيمة وإليك دراسة ما روي في الصحاح والسنن والمسانيد. [ صفحه 240]

تضافر الروايات علي لزوم القصر من طرق أهل السنة

صرح المحققون من أهل السنة والجماعة بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في عامة أسفاره كان ملتزما بالإتيان بالصلوات الرباعية قصرا ولم يثبت أنه أتم. قال ابن قدامة: " أما السنة فقد تواترت الأخبار أن رسول الله (صلي اللهعليه وآله وسلم) كان يقصر في أسفاره حاجا ومعتمرا وغازيا " [419] . وقال ابن قيم الجوزية: " وكان (صلي الله عليه وآله وسلم) يقصر الرباعية فيجعلها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلي أن يرجع إلي المدينة، ولم يثبت أنهأتم الرباعية في سفره البتة " [420]

. وهذه السيرة المباركة القطعية إن دلت علي شئ، فإنما تدل علي وجوب قصر الصلاة في السفر، لأنه لو كان القصر رخصة لأتم في بعض أسفاره في ملأ من الناس حتي لا يظنوا بأن القصر عزيمة ومرض. كما هو ديدنه في فعل المستحبات فضلا عن المباحات، إذ كان ربما يتركها لئلا يتصور الناس أنها فريضة. وإليك نماذج من الروايات الحاكية لسنة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وعمل أصحابه به حول القصر في الصلاة والتي يستفاد منها أن القصر عزيمة: 1 - ما روي عن يعلي بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " رواهالخمسة إلا البخاري [421] . [ صفحه 241] وقوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " فاقبلوا صدقته " أمر والظاهر أنه يدل علي الوجوب فلا يجوز رد صدقة الله بإتيان الصلاة تماما في السفر، إذ في رد صدقته سبحانه أنانية أمامه. نعم، القصر في الآية مقيد بالخوف مع أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قصر في الخوف والأمن، وهذا يكشف عن أن الخوف حكمة التشريع لا علته. وبعبارة أخري ليس مناطا للتشريع حتي يدور الحكم مداره، وكم له في التشريع من نظير. ويمكن أن يقال: إن التشريع في بدء الأمر كان مختصا بصورة الخوف، ولكن توسعت دائرة التشريع في عصر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بإيحاء من الله إلي رسوله (صلي الله عليه وآله وسلم)، ومن المعلوم

أن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ليس مشرعا بل هو مبلغ للتشريع. 2 - ما روي عن ابن عمر أنه قال: صحبت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)فكان لا يزيد في السفر علي ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك [422] . 3 - عن نافع عن عبد الله (بن عمر) قال: صليت مع النبي (صلي الله عليهوآله وسلم) بمني ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها [423] . 4 - ما روي عمران بن حصين، قال: غزوت مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلاركعتين، ويقول: " يا أهل البلد، صلوا أربعا فإنا (قوم) سفر " [424] . وفي هذا الحديث تصريح بمواظبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) علي إتيان الرباعية قصرا طيلة ثماني عشرة ليلة، ولو كان رخصة لأتي بها بعض الأحيان تامة، خاصة وأن المقام يقتضي تعليم أحكام الصلاة لأهل مكة الذين أصبحوا يدخلون في دين الله أفواجا عام الفتح، فهم جديدو عهد بالإسلام. [ صفحه 242] وأما صلاته قصرا بعد مرور ثماني عشرة ليلة، فالظاهر أنه كان لأجل عدم نية الإقامة مدة تقطع السفر وأنه (صلي الله عليه وآله وسلم) ربما كان يخرج من مكة إلي خارجها فلم يكن متمكنا عن الإقامة. 5 - ما روي عن حارثة بن وهب أنه قال: صلي بنا النبي (صلي الله عليه وآلهوسلم) آمن ما كان بمني ركعتين [425] . 6 - وعن عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلي بنا عثمان بن عفان (رض) بمني أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود (رض) فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول

الله بمني ركعتين وصليت مع أبي بكر (رض) بمني ركعتين، وصلت مع عمر بن الخطاب (رض) بمني ركعتين، فليت حظي من أربع ركعاتركعتان متقبلتان [426] . وجاء في المغني بدل الجملة الأخيرة " ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أنلي من أربع ركعتين متقبلتين " [427] . وهل استرجاع ابن مسعود إلا للظاهرة التي طرأت آنذاك أول مرة، وهي عدم الاكتراث بسيرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والتي استمر عليها الشيخان ونفس عثمان في صدر خلافته؟ 7 - وعن عائشة أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثمأتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر علي الفريضة الأولي [428] . 8 - وعن سفيان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة (رض) قالت: الصلاة [ صفحه 243] أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر، قال الزهري:فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان [429] . الظاهر من الروايتين الأخيرتين أن الفريضة في السفر هو الركعتان، وعلي ذلك فالزيادة عليها لا تصدقه الأدلة. قال الشوكاني في شرح الحديث: وهو دليل ناهض علي الوجوب، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنها لا تجوزالزيادة علي أربع في الحضر [430] . وأما تأويل عثمان وكذلك عائشة فسيأتي الكلام عنهما. 9 - عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة علي لسان نبيكم (صلي الله عليه وآله وسلم) في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوفركعة [431] . قال الشوكاني: فهذا الصحابي الجليل قد حكي عن الله عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين، وهو أتقي لله وأخشي من أن يحكي أن الله فرض ذلك بلا برهان. 10 -

عن موسي بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم (صلي الله عليهوآله وسلم) [432] . 11 - وروي عن عمر (رض) أنه قال: صلاة السفر وصلاة الجمعة ركعتان والفطر والأضحي ركعتان تمام غير قصر علي لسان محمد (صلي الله عليه وآلهوسلم) [433] . [ صفحه 244] 12 - عن عاصم قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلي لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتي جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلي فرأي أناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا أتممت صلاتي. يا ابن أخي صحبت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في السفر فلم يزد علي ركعتين حتي قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد علي ركعتين حتي قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد علي ركعتين حتي قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد علي ركعتين حتي قبضه الله، وقد قال الله: (لقد كان لكم فيرسول الله أسوة حسنة) [434] . والظاهر أن نظر ابن عمر إلي عمل عثمان في غير مني، وإلا فقد أتم هو فيها. 13 - وعن ابن عباس قال: افترض رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا [435] . 14 - وروي عنه أيضا أنه قال: " من صلي في السفر أربعا فهو كمن صلي فيالحضر ركعتين " [436] . 15 - وروي عن صفوان بن محرز أنه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر؟فقال: ركعتان فمن خالف السنة كفر [437] . 16 - وعن ابن

عمر قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أتاناونحن ضلال فعلمنا، فكان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر. رواه النسائي [438] . [ صفحه 245] قوله: " أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر " تصريح بأن القصر في السفر أمر من قبل الله، وأي شئ أصرح منه يدل علي أنه فرض وعزيمة؟ 17 - وقال عمر بن العزيز: الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلحغيرها [439] . 18 - وعن عمر بن الخطاب عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال:" صلاة المسافر ركعتان حتي يؤوب إلي أهله أو يموت " [440] . 19 - عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب (رض) صلي الظهر بمكة ركعتين فلما انصرف قال: يا أهل مكة إنا قوم سفر فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل،فأكمل أهل البلد [441] . 20 - عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من المدينة إلي مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتي رجعنا إليالمدينة [442] . 21 - عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر،فقال: ركعتان نزلتا من السماء فإن شئتم فردوهما [443] . 22 - عن السائب بن يزيد الكندي قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين،ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر [444] . 23 - عن ابن مسعود قال: من صلي في السفر أربعا أعاد الصلاة [445] . [ صفحه 246] 24 - عن سلمان قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فصلاها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بمكة حتي قدم المدينة فصلاها بالمدينة ما شاءالله، وزيد في صلاة الحضر

ركعتين وتركت الصلاة في السفر علي حالها [446] . 25 - عن جعفر بن عمر قال: انطلق بنا أنس بن مالك إلي الشام إلي عبد الملك ونحن أربعون رجلا من الأنصار ليفرض لنا فلما رجع وكنا بفج الناقة صلي بنا الظهر ركعتين، ثم دخل فسطاطه وقام القوم يضيفون إلي ركعتيهم ركعتين أخريين، فقال: قبح الله الوجوه فوالله ما أصابت السنة ولا قبلت الرخصة، فأشهد لسمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن قومايتعمقون في الدين، يمرقون كما يمرق السهم من الرمية " [447] . 26 - عن ثمامة بن شراحيل قد خرجت إلي ابن عمر فقلت: ما صلاةالمسافر؟ قال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثا. إلي آخر الحديث [448] . 27 - عن أبي هريرة قال: أيها الناس إن الله عز وجل فرض لكم علي لساننبيكم (صلي الله عليه وآله وسلم) الصلاة في الحضر أربعا [449] . هذا ما وقفنا عليه من النصوص عن النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وقد أخذ بها لفيف من الصحابة وغيرهم، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وابن عباس، وجابر، وجبير بين مطعم، والحسن، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز،وقتادة، والكوفيون [450] . [ صفحه 247] أضف إلي ذلك اتفاق فقهاء الشيعة من عصر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلي يومنا هذا. أتري مع هذه الأحاديث مجالا للقول بأن القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟! ولو كان الإتمام في السفر سائغا لكان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يعرب عنه بقول أو بفعل ولو بإتيانه في العمر مرة لبيان جوازه كما يفعل في غير هذا المورد. أخرج

مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال: كان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلي صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: إنك صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: " عمدا صنعته " أيلبيان الجواز [451] . ولو كان هناك ترخيص لما خفي علي أكابر الصحابة حتي نقدوا من أتمها نقدا مرا. وبذلك تعلم قيمة تبرير عمل المتمين بأن الإتمام والقصر مسألةاجتهادية اختلف فيها العلماء [452] . وذلك لأن الاجتهاد تجاه النص لا مساغ له، ولم يكن في المسألة أي خلاف إلي يوم أتم فيه عثمان يوم مني. ويعرب عن وحدة الكلمة ما روي أن معاوية لما قدم مكة صلي الظهر قصرا فنهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقال له: ما عاب أحد ابن عمك ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك؟ فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتها مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه لهو عيب فخرج معاوية إليالعصر فصلاها أربعا [453] . إلي هنا تم البحث حول أدلة القول بكون القصر عزيمة. فلنأخذ بالبحث عن أدلة القول بالرخصة. [ صفحه 248]

دراسة أدلة القول بكون القصر رخصة

استدل القائلون بكون القصر رخصة وهم غير الإمامية والحنفية والزيدية والظاهرية بوجوه مختلفة، بالكتاب تارة، والسنة أخري، والإجماع ثالثة استقصاها ابن قدامة وهي كما يلي:

الاحتجاج بالكتاب

قوله تعالي: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) (النساء - 101). تقريبه: أن الجناح هو الإثم، ورفع الجناح يدل علي الجواز، فتكون النتيجة أن القصر رخصة والمكلف مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص. يلاحظ عليه: أولا: أن المفسرين ذكروا للآية تفسيرين: أحدهما: هو أن القصر عبارة عن تخفيف عدد الركعات كما في صلاة المسافر. وثانيهما: عبارة عن تخفيف كيفية الصلاة ووصفها من تبدل الركوع والسجود إلي الإيماء، أو الإتيان بالصلاة راكبا أو ماشيا حسبما تقتضيه الظروف كما ورد في صلاة الخوف أو شدة الخوف والمطاردة والمسايفة - كما روي عن ابن عباس في إحدي روايته وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، ومال إلي الوجه الثاني بعض الأعلام من أهل السنة كأبي بكر الرازي الجصاص (ت 370 ه) [454] وبعض أكابر الشيعة الإمامية كالسيد المرتضي في الإنتصار [455] والقطب الراوندي في فقه القرآن [456] وعندئذ لا يصح [ صفحه 249] الاستدلال بالآية علي الرخصة علي التقدير الثاني. وثانيا: أن الآية ليست بصدد بيان أن القصر رخصة أو عزيمة، لأنها وردت في رفع توهم الحظر، وكان المخاطب يتصور أن القصر نقصان في الصلاة وهو أمر محظور، فنزلت الآية لدفع هذا التوهم لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. [457] وأما أنه واجب أو سائغ فإنما يطلب من دليل آخر وهو السنة وقد عرفت أنها تضافرت علي كونه عزيمة. نظير ذلك قوله سبحانه في السعي بين الصفا والمروة، فقد وردت

فيه تلك اللفظة مع كونه عزيمة قال سبحانه: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) (البقرة - 158) مع كون الطواف واجبا، وذلك لأن المقام مقام التشريع، ويكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلي استيفاء جميعالحكم وخصوصياته [458] . ويؤيد هذا التفسير ما روي عن الباقر (عليه السلام) وقد سأله زرارة ومحمد بن مسلم وقالوا: ما نقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: " إن الله عز وجل يقول: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر " قالا: قلنا: إنما قال الله عز وجل: (فليس عليكم جناح) ولم يقل " افعلوا "، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): " أوليس قد قال الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ألا ترون أن الطواف لهما واجب مفروض؟ لأن الله عز وجل ذكره في كتابه [ صفحه 250] ووصفه نبيه (صلي الله عليه وآله وسلم) وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وذكره الله - تعالي ذكره -في كتابه... " [459] .

الاحتجاج بالسنة

وهي لا تتجاوز عن أحاديث ثلاثة: الحديث الأول: ما روي عن يعلي بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فقال: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله (صلي الله عليه وآله

وسلم) فقال: " صدقة من الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " رواه مسلم. وهذا يدل علي أنه رخصة وليس بعزيمةوأنها مقصورة [460] . وذلك لأن المتصدق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة. يلاحظ عليه: أولا: قياس صدقة الله وهديته، علي صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق، وذلك لأن المهدي إليه أو المتصدق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدق إنسانا مثله، وإما إذا كان المتصدق هو الله سبحانه فيجب قبولها وذلك لأن صدقة الله أمر امتناني وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية فحيث يعلم الله بأن المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمن بها علي العباد، فيصبح القبول أمرا مفروضا عليهم. وربما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت أنه يحرم رد صدقة الله فقال الصادق (عليه السلام): أنه قال رسول الله صلي الله عليه وآله: " إن الله عز وجل تصدق علي مرضي [ صفحه 251] أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أنترد عليه " [461] . وثانيا: قوله " فاقبلوا صدقته " أمر وهو يدل علي وجوب القبول، فيدل الحديث علي أن القصر عزيمة لا رخصة. الحديث الثاني: روي الأسود، عن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في عمرة رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: " أحسنت "رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهذا صريح في الحكم [462] . ولم نجد الرواية بعد الفحص في مسند أبي داود الطيالسي، نعم جاء في سنن الدارقطني بهذا الأسناد: حدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عبد الله بن

محمد بن زياد، وعبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي، قالا ثنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوري، وحدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، قالا: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمنبن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجت. الحديث [463] . يلاحظ علي الاستدلال: أولا: أن الحديث لا يحتج به، ويكفي في ذلك ما ذكره ابن حزم قال: " أما الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي، لم يروه غيره، وهو مجهول " [464] وحكي الشوكاني عنه أنه قال: " هذا [ صفحه 252] حديث لا خير فيه وطعن فيه " [465] . قال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات. وقال ابن معين: ثقة، وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها، فقال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق. قال الحافظ: وهو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها. وادعي ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها. وفي رواية الدارقطني، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عائشة قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ. واختلف قول الدارقطنيفيه فقال في السنن، إسناده حسن، وقال في العلل: المرسلة أشبه " [466] . وثانيا: جاء في حديث عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في عمرة رمضان إلخ، وهذا ما يخالف التاريخ القطفي لسيرة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فقد جاء في السيرة الحلبية " لا

خلاف أن عمرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم تزد علي أربع، أي كلهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور... وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية، التي كانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت. وثانيها: عمرته من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة... وثالثها: عمرته (صلي الله عليه وآله وسلم) حين قسم غنائم حنين، وكانت من الجعرانة وكانت في ذي القعدة. ورابعها: عمرته (صلي الله عليه وآله وسلم) مع حجة الوداع... فإنه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة، وقد قالت عائشة (رض): " اعتمر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ثلاثا سوي التي قرنها [ صفحه 253] بحجة الوداع ". وأخرج البخاري ومسلم: " أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته. أي فإنه لم يوقعها في ذي القعدة، بل أوقعها في ذي الحجة تبعا للحج. ثم قال: ولكن روي الدارقطني - رحمه الله -: عنها أنها - رضي الله عنها - قالت: " خرجت مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في عمرة في رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت " قال في الهدي: إنه غلط عليها وهوالأظهر، فإنه (صلي الله عليه وآله وسلم) ما اعتمر في رمضان قط " [467] . وثالثا: الظاهر من هذا الحديث أن عائشة علي الرغم من رؤيتها لإفطار النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وقصره في السفر صامت وأتمت بلا حجة بل من بدع نفسها، ثم بعد ذلك أخبرت الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) عما صنعت فأقر عملها. وهنا تطرح

أسئلة كثيرة، منها: 1 - لماذا خالفت عائشة عمل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ وهل هذا كان منها اجتهادا مخالفا لعمل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ ولا يقال بأنها كانت تعلم الحكم الشرعي وهو جواز الإتمام والصوم، لأن ظاهر الحديث يكذب ذلك. 2 - قد روي عنها أنها كانت تتم الصلاة في السفر وبرر عملها بأنها تأولت كما تأول عثمان كما سيوافيك، ولو كان هذا الحديث صحيحا وأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أقر عملها، فأي حاجة لها إلي التساؤل والاجتهاد؟ ولعله لعدم وجود جواب صحيح لتلك الأسئلة قال ابن القيم: " سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب علي عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: " فرضت الصلاة ركعتين فزيد في [ صفحه 254] صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " فكيف يظن أنها تزيد علي ما فرض الله، وتخالف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وأصحابه. قال الزهري لعروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها تتم الصلاة؟ فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ من وجه، ولا يصح أنيضاف إتمامها إلي التأويل علي هذا التقدير " [468] . الحديث الثالث: وروي (أي أبو داود) بإسناده عن عطاء عن عائشة أن رسول الله (صليالله عليه وآله وسلم) كان يتم في السفر ويقصر [469] . يلاحظ عليه: أولا: أن هذا الحديث جاء في سنن الدارقطني بهذا الإسناد: حدثنا محمد بن منصور بن

أبي الجهم، ثنا نصر بن علي، ثنا عبد الله بن داود، عن المغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء، عن عائشة الخ، ثم قال: المغيرة بنزياد ليس بالقوي [470] . ولم نجد هذا الحديث في مسند أبي داود الطيالسي بهذا الشكل، بل ورد ذلك بهذه الكيفية: حدثنا يونس، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا طلحة، قال: سمعت عطاء يحدث عن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله (صلي الله عليه وآلهوسلم) في السفر صام وأفطر [471] . [ صفحه 255] وجاء نفس الحديث أيضا بهذا الإسناد والمتن في سنن الدارقطني، ثم قال في آخره: طلحة ضعيف [472] إذن فالحديث من حيث السند لا يحتج به. وثانيا: اعترف بعض أعلام السنة بأن الحديث غير صحيح. قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث: " فلا يصح. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) انتهي. وقد روي " كان يقصر وتتم " الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق. وكذلك " يفطر وتصوم " أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين. قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم. كيف والصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي المدينة زيد في الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها - مع ذلك - أن تصلي بخلاف صلاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والمسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول

عثمان، وإن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا. وقال: فكان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقصر وتتم هي. فغلط بعض الرواة فقال كان يقصرويتم، أي هو " [473] . وثالثا: الحديث مجمل ولم يبين فيه بأن الإتمام الذي حصل من النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) هل كان مع اجتماع شرائط القصر من قطع المسافة وعدم الإفاقة وغير ذلك أم لا؟ فحيث يحتمل أنه أتم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) مع عدم اجتماع شرائط القصر في سفره لا يمكن الاستدلال به علي جواز الإتمام مطلقا خاصة وأنه مخالف لما تواتر عن سنته حول القصر في السفر. [ صفحه 256]

عمل الصحابة و إجماعهم و إجماع الفقهاء

قال ابن قدامة: 1 - عن أنس قال: كنا - أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) - نسافر فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا، فلا يعيب أحد علي أحد، ولأن ذلك إجماع الصحابة - رحمة الله عليهم - بدليل أن فيهم منكان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس [474] . يلاحظ عليه: أولا: أنه ليس المنقول عن أنس في صحيح مسلم أنه يتم بعضنا ويقصر بعضنا، نعم جاء فيه فلم يعب الصائم علي المفطر و " المفطر علي الصائم " [475] كما لم يوجد في غيره من الصحاح والسنن والمسانيد حسب، فهنا فالظاهر أن الإتمام والقصر زيدا في الحديث من قبل القائلين بالرخصة. وثانيا: سلمنا صحة الزيادة لكن ليس فيه أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) اطلع علي فعلهم فأقرهم عليه حتي يكون التقرير حجة علينا، وليس عمل الصحابي بمجرده حجة ما لم يعلم كونه

مستندا إلي قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وعمله. وثالثا: أن إجماع الصحابة المنقول هنا يعارضه عمل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وإجماع الصحابة الثابت بالتواتر وأن الخلاف - الذي حصل بينهم - حدث زمن الخليفة الثالث، فلم يثبت الإجماع بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بدليل أن جمعا من الصحابة نقدوا عمل عثمان، وأما ما نقل من إجماعهم زمن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فعلي فرض وقوعه ليس بحجة. قال الشوكاني: " وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره ليس بحجة والخلاف [ صفحه 257] بينهم في ذلك مشهور بعد موته وقد أنكر جماعة منهم علي عثمانلما أتم بمني وتأولوا له تأويلات " [476] . 2 - واستدل ابن قدامة بعمل بعض الصحابة فقال: " وكانت عائشة تتم الصلاة، رواه مسلم والبخاري وأتمها عثمان وابن مسعود وسعد. قال عطاء: كانت عائشة وسعد يوفيان الصلاة في السفر ويصومان، وروي الأثرم بإسناده عن سعد أنه أقام بمعان شهرين فكان يصلي ركعتين ويصلي أربعا، وعن المسور بن مخرمة قال: أقمنا مع سعد ببعض قري الشام أربعين ليلة يقصرهاسعد ويتمها " [477] . ويلاحظ عليه: أن عمل عائشة وعثمان كما ذكر سابقا كان ناشئا عن تأول واجتهاد، وقد خالفهم كثير من الصحابة فلا يكون عملهما حجة خاصة وأن اجتهادهما كان في مقابل النصوص المتواترة عن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). قال ابن قيم نقلا عن شيخه ابن تيمية: " وأما بعد موته (صلي الله عليه وآله وسلم) فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في رواياتهم لافي تأويل الواحد منهم مع مخالفه غيره له " [478] .

كلام حول تأويل عثمان و عائشة

ثم إن

التأويل الذي صدر من عثمان وعائشة فقد اختلف في معرفة وجهه، وذكر النووي له عدة وجوه وهي: أن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في [ صفحه 258] منازلهما... وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا... وقيل: كان عثمان نوي الإقامة بمكة بعد الحج... وقيل: كان لعثمان أرض بمني و... ثم أبطل جميع هذه الوجوه ورجح القول بأنهما رأيا القصرجائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام " [479] . يلاحظ عليه: أن هذا الاجتهاد حجة لصاحبه لو اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ولم يكن اجتهاد مقابل النص مضافا إلي أن عثمان قد برر عمله بالوجه الأخير عندما واجه نقود الصحابة له، نعم لما ضاقت به السبل تمسك بالرأي الذي رآه، فقد نقل المؤرخون من الطبري وغيره " حج بالناس في سنة 29 عثمان فضرب بمني فسطاطا فكان أول فسطاط، ضربه عثمان بمني، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فذكر الواقدي " بالإسناد " عن ابن عباس قال: إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهرا أنه صلي بالناس بمني في ولايته ركعتين حتي إذا كانت السنة السادسة أتمها، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وتحكم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتي جاءه علي (عليه السلام) فيمن جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ولا عهدت نبيك يصلي ركعتين، ثم أبا بكر، ثم عمر، وأنت صدرا من ولايتك، فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال: رأي رأيته. وعن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن عمه قال: صلي عثمان بالناس بمني أربعا

فأتي آت عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلي بالناس أربعا، فصلي عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتي دخل علي عثمان فقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ركعتين؟ قال: بلي، قال: ألم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال: [ صفحه 259] بلي. قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلي قال: ألم تصل صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلي. قال: فاسمع مني يا أبا محمد إني أجزت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلي أربعا لخوف ما أخاف علي الناس وأخري قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر. فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شئ لك فيه عذر، أما قولك، اتخذت أهلا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك. وأما قولك: ولي مال بالطائف، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف. وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم. فقد كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ينزل عليه الوحي والناس يومئذ، الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه فصلي بهم عمر حتي مات ركعتين. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. قال: فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: إعمل أنت بما تعلم،

فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلي أربعا فصليت بأصحابي أربعا، فقال: عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلي أربعا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول، يعني نصلي معه أربعا [480] . ومما مضي يعلم أن عبد الله بن مسعود الذي عزي إليه إتمام الصلاة في السفر إنما فعل ذلك مراعاة للسياسة الوقتية اتباعا لما رآه عثمان خلافا لرأي نفسه [ صفحه 260] في لزوم القصر، فقد روي عنه كما مر أنه استرجع من تلك الظاهرة وقال: ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. قال الأعمش: حدثني معاوية بن قرة عن أشياخه: إن عبد الله صلي أربعا فقيل له:عبت علي عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر [481] . وقد رأي بعض الصحابة مثل رأيه في لزوم متابعة الخليفة تهربا من الشر إلا أنهم كانوا يعيدون صلاتهم قصرا بعد أن يقتدوا بالخليفة أربعا. قال ابن حزم: " روينا من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: إنه كان إذا صلي مع الإمام بمني أربع ركعات انصرف إليمنزله فصلي فيه ركعتين أعادها " [482] . وهؤلاء كانوا يرون رعاية شؤون السياسة الزمنية خوفا من الشر أولي من رعاية حفظ الأحكام كما نزلت من عند الله والوقوف أمام تبدلها وتغييرها إلا أن بعض الصحابة يري خلاف ذلك، فهذا علي (عليه السلام) أبي أن يصلي أربعا في مني رغم إصرار عثمان وبني أمية. حيث قيل له: صل بالناس، فقال: إن شئتم صليت لكم صلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) - يعني ركعتين - قالوا:لا إلا صلاة أمير المؤمنين -

يعنون عثمان -: أربعا، فأبي عثمان " [483] . هذا وأن بني أمية قد اتخذوا من أحدوثة عثمان سنة مستمرة مقابل سنة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الأبد وإن لم يكن لهم عذر شرعي للإتمام كما حاول عثمان أن يتشبث ببعض الأعذار. فقد قال ابن حنبل بسنده عن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية [ صفحه 261] حاجا قدمنا معه مكة، قال: فصلي بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلي دار الندوة قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلي بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلي مني وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمني أتم الصلاة حتي يخرج من مكة، فلما صلي بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمر بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به. فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال: فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: قالا: فإن ابن عمك قد كان أتمها وإن خلافك إياه له عيب. قال: فخرج معاوية إلي العصر فصلاها بناأربعا " [484] . هذا كله حول تأويل عثمان وعبد الله بن مسعود.

حول تأويل السيدة عائشة

وأما تأويل عائشة فالمشهور أنها تأولت كما تأول به عثمان وقد ذكر في ذلك من وجوه: قال ابن جرير الطبري في تفسيره قوله: (وإذا ضربتم في الأرض) الخ بسنده عن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي

يقول: سمعت عائشة تقول: في السفر أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصلي في السفر ركعتين فقالت: إن رسولالله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان في حرب وكان يخاف، هل تخافون أنتم [485] . وكأنها رأت أن القيد الوارد في الآية، خصص الحكم بالخوف. [ صفحه 262] وقال الشوكاني: " قيل في تأويل عائشة أنها إنما أتمت في سفرها إلي البصرة لقتال علي (عليه السلام) والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة - إلي أن قال: - وأما تأول عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي أنه لا يشق علي، وهو دال علي أنها تأولتأن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل " [486] .

حول تأويل ابن أبي وقاص

وأما عمل سعد بن أبي وقاص من أنه أقام بمعان شهرين يصلي ركعتين ويصلي أربعا، أو أنه أقام ببعض قري الشام ويفعل كذلك فتصحيحه مشكل لأن المسافر إما أن يقصد الإقامة في مكان أو يكون مترددا، فإن قصد الإقامة فحكمه الإتمام من أول القصد، وإن كان مترددا فبعد الشهر يصلي تماما، اللهم إلا أن يقال بأن سعدا كان يحتاط بالجمع بين القصر والإتمام، كما يؤيده ظاهر كلام الراوي، وعلي كل حال لا يكون عمله حجة علي غيره، لأنه غاية ما يكون منه اجتهاد قد يعذر فيه لنفسه. 3 - قال ابن قدامة حول إجماع الجمهور من الفقهاء: " لو ائتم بمقيم صلي أربعا وصحت الصلاة، والصلاة لا تزيد بالإئتمام. قال ابن عبد البر: وفي إجماع الجمهور علي

أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة يلزمه أربع، دليل واضح علي أن القصر رخصة، إذ لوكان فرضه ركعتين لم يلزمه أربع بحال " [487] . [ صفحه 263] يلاحظ عليه: أولا: أن هذا الإجماع غير تام لأن بعض المذاهب الإسلامية كالشيعة الإمامية لا يرون ذلك ولا يجيزون للمسافر إذا اقتدي بمقيم أن يصلي أربعا، بل عليه أن يصلي ركعتين وإن كان الإمام متما. وثانيا: أن بعض المذاهب من السنة كالحنفية وإن كان يرون صحة الإجماع إلا أنهم يقولون بتغير فرض المسافر بمجرد دخوله في الجماعة. وهذا غير القول بأنه له الإتمام من أول الأمر قال أبو بكر الجصاص: " واحتج من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام، فدل علي أنه مخير في الأصل، وهذا فاسد، لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض. ألا تري أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع، ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين، ولم يدل ذلكعلي أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين " [488] . [ صفحه 264]

الافطار في السفر

اشاره

اتفقت كلمة الفقهاء علي مشروعية الإفطار في السفر تبعا للذكر الحكيم والسنة المتواترة إلا أنهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزا أو واجبا. ذهبت الإمامية تبعا لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) والظاهرية إلي كون الإفطار عزيمة واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وعائشة وابن عباس، ومن التابعين: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وابنه محمد الباقر (عليه السلام) وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونسبن عبيد

وأصحابه [489] . وذهب جمهور أهل السنة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلي كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم. [ صفحه 265]

كلمات أعلام الإمامية في كون الإفطار عزيمة

هذا بيان إجمالي للأقوال والآراء وإليك التفصيل: قال الشيخ الصدوق (306 - 381 ه): " إذا سافرت في شهر رمضان فأفطر علي حد ما بينت لك الحد الذي يجب فيه التقصير في الصوم والصلاة في باب المسافر، واعلم أن كل من وجب عليه التقصير في السفر فعليه الإفطار، وكل من وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام، متي أتم صام ومتي قصر أفطر ". والذي يلزمه إتمام الصلاة والصوم في السفر: المكاري والكري والاشتقان [490] وهو البريد والراعي والملاح، لأنه عملهم، وصاحب الصيد إذا كان صيده بطرا أو أشرا، فعليه التمام في الصلاة والإفطار في الصوم، وإذا كان صيده مما يعود به علي عياله فعليه التقصير في الصوم والصلاة - إلي أن قال: - وقال أبو الحسن [الإمام علي] (عليه السلام): " ليس من البر الصوم في السفر، فإن صام الرجل وهو مسافر، فإن كان بلغه أن رسول الله (صلي الله عليه وآلهوسلم) نهي عن ذلك فعليه القضاء وإن لم يكن بلغه فلا شئ عليه " [491] . وقال الشيخ المفيد: (636 - 413 ه): " وكل مسافر في طاعة الله عز وجل ممن حضره أكثر من سفره يجب عليه التقصير في الصوم والصلاة، وكل مسافر في مباح فذلك حكمه، إلا المسافر في طلب الصيد للتجارة خاصة، فإنه يلزمه التقصير في الصيام، ويجب عليه إتمام [ صفحه 266] الصلاة.... إلي أن قال: ومن أتم في سفر الطاعة أثم وأخطأ، وكان كمن قصر في حضره، ووجب عليه الإعادة للصيام، إلا أن

يفعل ذلك بجهالة، ولا يكون ممن سمع آية التقصير، ولا عرف الحكم في ذلك من الفقهاء.... إلي أن قال: ولا يجوز لأحد أن يصوم في السفر تطوعا ولا فرضا، إلا صوم ثلاثة أيام - لدم المتعة - من جملة العشرة الأيام، ومن كانت عليه كفارة يخرج عنها بالصيام، وصوم النذر إذا نواه في الحضر والسفر، معا أو علقه بوقت من الأوقات، وصوم ثلاثة أيام للحاجة (أربعاء وخميس وجمعة) متواليات عند قبر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أو في مشهد من مشاهد الأئمة (عليهم السلام). وقد روي حديث في جواز التطوع في السفر بالصيام، وجاءت أخبار بكراهية ذلك، وأنه ليس من البر الصوم في السفر، وهي أكثر، وعليها العمل عند فقهاء العصابة، فمن أخذ بالحديث لم يأثم إذا كان أخذه من جهة الاتباع، ومن عمل علي أكثر الروايات، واعتمد علي المشهور منها في اجتناب الصيام في السفر علي كل وجه، سوي ما عددناه كان أولي بالحق والله الموفقللصواب " [492] . قال السيد المرتضي: (355 - 436 ه): ومما ظن انفراد الإمامية ولها فيه موافق متقدم، القول بأن من صام شهر رمضان في السفر تجب عليه الإعادة، لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: إن الصوم في السفر أفضل من الإفطار. وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا من الإفطار لمن قوي عليه. [ صفحه 267] وقال الشافعي: هو مخير بين الصوم والإفطار والصوم أفضل. وروي عن ابن عمران الفطر أفضل، وروي عن أبي هريرة أن من صام في السفر لم يجزه وعليه أن يصوم في الحضر، وهذا مذهب الإمامية والحجة لقولنا الإجماعالمتكرر " [493] . وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه): " المسألة 53

كل سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار وقد بينا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل مسافرا لا يجوز له أن يصوم، فإن صام كان عليه القضاء، وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة، وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم ويقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء وخالف في جواز الصوم، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي، وبين أن يفطر ويقضي. وبه قال ابن عباس. وقال ابن عمر: يكره أن يصوم فإن صامه فلا قضاء عليه - دليلنا - إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالي: (فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر) فأوجب القضاء بنفس السفر فليس في الظاهر ذكر الإفطار، وروي عن جابر أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: ليس من البر الصيام في السفر " والصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وروي عن جابر أن النبي (صلي اللهعليه وآله وسلم) بلغه أن أناسا صاموا فقال: أولئك العصاة " [494] . إلي غير ذلك من الكلمات المبثوثة في الكتب الفقهية كالحلبي (374 - 447 ه) في كافيه، وسلار (ت 463 ه) في مراسمه، وابن البراج (400 - 481 ه) في مهذبه، وابن حمزة (ت بعد 576 ه) في وسيلته، وابن إدريس (543 - [ صفحه 268] 598 ه) في سرائره، والمحقق (602 - 676 ه) في شرائعه، والعلامة الحلي (648 - 726 ه) في قاطبة كتبه الفقهية، إلي غيرهم حتي نصل إلي فقهاء العصر الحاضر من الشيعة الإمامية من غير فرق بين صوم رمضان أو صوم غيره من الواجبات إلا ما استثني.

كلام ابن حزم في كون الإفطار عزيمة

ووافق الشيعة في

كون الإفطار عزيمة مذهب الظاهرية، لكن في خصوص صوم رمضان لا في مطلق الصوم الواجب. قال ابن حزم: " مسألة: ومن سافر في رمضان - سفر طاعة أو سفر معصية، أو لا طاعة ولا معصية - فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا أو بلغه أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر، وله أن يصومه تطوعا، أو عن واجب لزمه، أو قضاء عن رمضان خال لزمه، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره. وقد فرق قوم بين سفر الطاعة، وسفر المعصية فلم يروا له الفطر في سفر المعصية وهو قول مالك، والشافعي. قال علي: والتسوية بين كلذلك هو قول أبو حنيفة، وأبي سليمان... [495] [496] . إلي أن قال: وأما قولنا " يجوز الصوم في السفر فإن الناس اختلفوا فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة: بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة: لا بد له من الفطر ولا يجزئه صومه، ثم افترق القائلون بتخييره فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم ولا بد له [ صفحه 269] من الفطر... ثم استدل علي مذهبه وقال: روينا من طرق سليمان بن حرب، نا حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر، عن رجل من بني قيس أنه صام في السفر فأمره عمر بن الخطاب أن يعيد..... وعن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: نهتني عائشة أم المؤمنين عن أن أصوم رمضان في السفر. وعن أبي هريرة: ليس من البر الصيام في السفر. ومن طريق

شعبة عن أبي حمزة نصر بن عمران الضبعي قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر؟ فقال: يسر وعسر خذ بيسر الله تعالي. قال أبو محمد: إخباره بأن صوم رمضان في السفر عسر إيجاب منه لفطره وعنه أيضا: الإفطار في رمضان في السفر عزمة. وعن عمار مولي بني هاشم - هو ابن أبي عمار - عن بن عباس أنه سئل عمن صام رمضان في السفر، فقال ابن عباس: لا يجزئه - يعني لا يجزئه صيامه -. وعن ابن عمر أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر. وعن يوسف بن الحكم الثقفي أن ابن عمر سئل عن الصوم في السفر فقال: إنما هي صدقة تصدق الله بها عليك أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك؟ ألم تغضب؟ قال أبو محمد: هذا يبين أنه كان يري الصوم في رمضان مغضبا لله تعالي، ولا يقال هذا في شئ مباح أصلا. وعن كلثوم بن جبر أن امرأة صحبت ابن عمر في سفر فوضع الطعام فقال لها: كلي قالت: إني صائمة قال: لا تصحبينا. وعن مسلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: يقال: الصيام في السفر [ صفحه 270] كالإفطار في الحضر. قال أبو محمد: هذا إسناد صحيح، وقد صح سماع أبي سلمة عن أبيه ولا يقول عبد الرحمن بن عوف: في الدين: يقال كذا، إلا عن الصحابة أصحابه رضي الله عنهم، وأما خصومنا فلو وجدوا مثل هذا لكان أسهل شئ عليهم أن يقولوا: لا يقول ذلك إلا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: الصائم في

السفر كالمفطر في الحضر، وهذا سند في غاية الصحة. وعن المحرر ابن أبي هريرة قال: صمت رمضان في السفر فأمرني أبو هريرة أن أعيده في أهلي وأن أقضيه فقضيته. وعن عبد الرحمن بن حرملة أن رجلا سأل سعيد بن المسيب: أتم الصلاة في السفر وأصوم؟ قال: لا. فقال: إني أقوي علي ذلك. قال سعيد: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان أقوي منك قد كان يقصر ويفطر. وعن عطاء أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: أما المفروض فلا، وأما التطوع فلا بأس به. وعن عروة بن الزبير أنه قال في رجل صام في السفر: أنه يقضيه في الحضر، قال شعبة: لو صمت رمضان في السفر لكان في نفسي منه شئ. وعن الزهري قال: كان الفطر آخر الأمرين من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وإنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالآخر فالآخر. وعن الشعبي قال: لا تصوموا في السفر. وعن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أن أباه كان ينهي عن صيام رمضان في السفر، وكان محمد بن علي (عليهما السلام) ينهي عن ذلك أيضا. وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: لا يصوم المسافر أفطر أفطر. وعن يونس بن عبيد وأصحابه أنهم أنكروا صيام رمضان فيالسفر " [497] . [ صفحه 271] ونقلنا كلامه بطوله لما فيه آراء الصحابة والتابعين علي وجه مبسط. والمحصل مما نقله ابن حزم أن أعلام الصحابة كعمر، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة وعبد الرحمن بن عوف وكبار التابعين كالإمام السجاد (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) وغيرهما كسعيد بن

المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه كلهم ذهبوا إلي كون الإفطار عزيمة وهو نفس ما ذهبت إليه الإمامية. إلي هنا تم ذكر أسماء القائلين بكون الإفطار عزيمة وإليك بيان أسماء القائلين بكونه رخصة مع اختلافهم في أفضلية الصوم أو الإفطار.

كلمات القائلين بكون الإفطار رخصة

قال الجصاص (ت 370 ه): قال أصحابنا: الصوم في السفر أفضل من الإفطار. وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوي عليه. وقال الشافعي إن صام في السفر أجزاه، ثم أخذ في الاستدلال علي فضيلة الصوم فيالسفر [498] . وقال السرخسي (ت 456 ه): " إن أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء وهذا قول أكثر الصحابة وعلي قول أصحاب الظواهر لا يجوز. - إلي أن قال: - إن الصوم في السفر أفضل من الفطر عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالي -: الفطر أفضل لأن ظاهر ما روينا من الآثار يدل علي أن الصوم في السفر لا يجوز، فإن ترك هذا الظاهر في حق الجواز بقي معتبرا في أن الفطر أفضل وقاس بالصلاة فإن الاقتصار علي الركعتين في السفر أفضل من الإتمام، فكذلك الصوم لأن السفر [ صفحه 272] يؤثر فيهما قال (صلي الله عليه وآله وسلم): إن الله وضع عنالمسافر شطر الصلاة والصوم " [499] . وقال حول المسافر إذا صام فأفطر: " مسافر أصبح صائما في رمضان ثم أفطر قبل أن يقوم عصره أو بعد ما قدم، فلا كفارة عليه لأن أداء الصوم في هذا اليوم ما كان مستحقا عليه حين كان مسافرا في أوله، فهذا والفطر في قضاء رمضان سواء. وحكي عن الشافعي - رحمه

الله تعالي - أنه إن أفطر بعدما صار مقيما فعليه الكفارة وجعل وجود الإقامة في آخره كوجودها في أوله ولكنا نقول: الشبهة تمكنت بالسفر الموجود في أول النهار فإنه ينعدم به استحقاق الأداء وصوم يوم واحد لا يتجزي فيالاستحقاق [500] . وقال ابن قدامة المقدسي: " وحكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله، وإباحة الفطر لمسافر ثابتة بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم علي أنه إن صام أجزاه. إلي أن قال: والفطر في السفر أفضل، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والأوزاعي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: الصوم أفضل لمن قوي عليه، يروي ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص لما روي سلمة بن المحبق أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " من كانت له حمولة تأوي إلي شبع فليصم رمضان حيث أدركه، رواه أبو داود، ولأن من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع، قال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة: أفضل الأمرين يسرهما لقول الله تعالي: (يريد الله بكم اليسر) ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله، وروي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر " ولأن فيه خروجا من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض وبصوم الأيام [ صفحه 273] المكروه صومها " [501] . وقال القرطبي: " واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي قال الشافعي ومناتبعه: هو مخير، ولم يفضل، وكذلك ابن علية [502]

. إذا وقفت علي آراء الفقهاء فلنذكر أدلة القولين وندرسها بدقة وأمانة، ونقدم البحث فيما هو المختار عند الإمامية والظاهرية وخيرة جمع كبير من الصحابة والتابعين وهو القول:

الافطار في السفر عزيمة

ويدل عليه الكتاب والسنة ثم إجماع الإمامية والظاهرية، أما الكتاب فيدل عليه قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون - أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله علي ما هداكم ولعلكم تشكرون) (البقرة / 183 - 185). [ صفحه 274] سياق الآيات يدل علي أنها نازلة مرة واحدة والكل علي سبيكة خاصة لا تهدف إلا إلي بيان حكم الصيام في شهر رمضان، فتقطيع الآيات أو حملها بحمل بعضها علي شهر رمضان والبعض الآخر إلي غيره لا يساعده السياق وأنت إذا تأملت الآيات وجدتها كلاما موضوعا لبيان عرض واحد وذا سياق مثله، متسق الجمل، رائق المبيان. فإذا حملت جملة علي غير موضوع واحد (صيام شهر رمضان) لوجدت الآيات مختلة السياق، متطاردة الجمل يدفع بعضها بعضا. ومن العجيب ما روي عن بعضهم من تسرب النسخ إلي بعض هذه الآيات ببعضها الآخر وهذا القول جدا ينزل الآيات عن روعتها وجمالها. فلنأخذ بتفسير الآيات الثلاث بشكل موجز ونركز علي المواضيع التي تصلح لأن تكون دليلا

علي الحكم الشرعي. أما الآية الأولي: فتحكي عن فرض الصيام علي المؤمنين كفرضه علي الأمم الماضية والغاية من هذا الفرض هو كسب التقوي كما قال سبحانه: (لعلكم تتقون) فإن الصائم يترك شهواته الطبيعية المباحة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده فتتقوي بذلك إرادته علي ترك الشهوات الجامحة. وأما الآية الثانية: فنفسرها جملة بعد أخري: قال سبحانه: (أياما معدودات) أي معينات بالعدد وقليلات، وليس شيئا كثيرا، وتنكير الأيام للدلالة علي القلة والتحقير كقوله سبحانه: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) (يوسف / 20) وبما أن تلك الأيام مبهمات صارت الآية الثالثة مفسرة لها حيث قال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن). [ صفحه 275] ومن الزعم الباطل حمل الأيام المعدودات علي غير رمضان أعني ثلاثة أيام من كل شهر (وعينها بعضهم بأنها الأيام البيض الثالثة عشر وما بعدها) ثم نسخها بالآية التالية أي آية شهر رمضان...، وقد عرفت أن هذا النوع من التفسير تلاعب بآيات القرآن وتفسير بلا دليل، والآيات الثلاث منظومة واحدة لها دلالة واحدة وتركيز علي شئ واحد لا تتجاوز عن بيان حكم شهر رمضان صياما وإفطارا. قال سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر). استثني سبحانه صنفين: المريض والمسافر، والفاء للتفريع، والجملة متفرعة علي قوله: (كتب عليكم الصيام) وعلي قوله: (أياما معدودات) فنبه بالاستثناء علي أنه لو عرض عارض فهو يوجب ارتفاع الحكم عن الأيام المعدودات، أعني: شهر رمضان، لا عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من صيام الأيام عددا فيكون مفاد الآية: هو: أن المفروض عليهم القضاء بعد شهر رمضان، وعلي هذا فقوله: (فعدة من أيام أخر). وعلي هذا المعني فالآية بدلالتها

المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما وهذا يدل علي أن الإفطار عزيمة إذ المكتوب عليهما من أول الأمر هو القضاء. ثم إن القائلين بالرخصة لما رأوا أن ظاهر الآية تدل علي أن المفروض عليهم هو القضاء لا الأداء حاولوا تطبيق الآية علي ما يتبنونه من الرخصة فقدروا لفظة " فأفطر " وقالوا: إن معني الآية فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فأفطر، فعليه عدة من أيام آخر، ولو لم يفطر فلا. تلاحظ عليه أمور: 1 - إن التقدير يحتاج إلي دليل، والأصل هو عدم التقدير ولولا كون الرخصة [ صفحه 276] هي المشهورة بين المذاهب لما خطر علي بال أحد من المفسرين تقدير اللفظ المزبور. 2 - نفترض تقدير اللفظة ومع ذلك لا يكون صريحا في الرخصة إذ غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعني الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأما كونه جائزا بالمعني الأخص فلا دليل عليه بل الدليل علي خلافه. 3 - لو كان مفاد الآية هو عدم كتابة الصوم علي الصنفين وفرض القضاء عليهما كانت الآية وافية بأداء المراد لا قصور فيها، أما لو كان المراد هو كتابة الصيام علي الصنفين أيضا غير أنهما مخيران بين الإفطار والقضاء، والصيام وعدم القضاء، فالآية غير وافية بأداء هذا المعني الذي تتبناه المذاهب الأربعة، والآية في مقام التشريع يجب أن تكون وافية بمراد المشرع بنحو واضح. قال سبحانه: (وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) هذا هو القسم الثاني من المستثني وهو من لا يستطيع الصوم إلا بمشقة كثيرة، فالواجب عليه فدية طعام مسكين عن كل يوم من أوسط ما يطعمون منه أهليهم. وهذه

الجملة أيضا ظاهرة في أن المشروع في حقه هو الإفطار والفدية، وهو يؤيد ما استظهر أنه من الجملة السابقة الواردة في حق المريض والمسافر، والجميع ظاهر في الوجوب التعييني بمعني أن المفروض والمشروع في حق هذين الصنفين هو القضاء للمريض والمسافر والفدية علي من يشق عليه الصوم وهذا هو الواجب بلا عدل له. قال سبحانه: (فمن تطوع خيرا فهو خير له). [ صفحه 277] التطوع من الطوع مقابل الكره، وهو الإتيان بالفعل بالرضا والرغبة، واختلف المفسرون في تفسير تلك الجملة إلي أقوال، فمنهم من قال بأن المراد أن يزيد علي إطعام المسكين [503] وفسرها صاحب المنار بأن المراد من زاد عليتلك الأيام المعدودات بأن صام غير شهر رمضان أيضا [504] . والظاهر عدم صحتهما لأنه سبحانه لم يقل من تطوع زيادة، بل قال: من تطوع خيرا، فليست الزيادة موردا للنظر بل المراد من أتي بالصوم عن طوع ورغبة فهو خير له يثاب بعمله، وكأنه سبحانه ضرب قاعدة كلية بأن من تطوع الخير والصلاح فهو خير له. قال سبحانه: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون). أي الصيام خير لكم لما فيه من تربية النفس وتغذية الإيمان وزيادة التقوي وهو حكم كلي لا صلة له بمن سبق من الأصناف السابقة. إن القائلين بكون الإفطار رخصة يتمسكون بتلك الجملة ويزعمون بأن الخطاب فيها لأهل الرخص وإن الصيام في رمضان خير لهم من الترخيص بالإفطار. يلاحظ عليه: أن الحكم بكون الصوم خيرا لهم غير مطرد إذ ربما يكون الصوم ضارا بالمريض والمسافر فكيف يقول سبحانه: (وأن تصوموا خير لكم)، بصورة قضية كلية عامة؟ أضف إلي ذلك أن الظاهر أن الجملة خطاب لجميع المؤمنين الذين سبق ذكرهم في الآية

الأولي، حيث قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا) فيخاطبهم مرة ثانية (وأن تصوموا خير لكم) فهو خطاب للمؤمنين قاطبة لا أنه خطاب [ صفحه 278] للمسافر والمريض اللذين ذكرا استطرادا. إلي هنا خرجنا بنتيجتين الأولي: أن قوله سبحانه: (فمن كان مريضا...) ظاهر في أن التشريع الأولي هو القضاء عليهما ومعني ذلك عدم كتابة الصوم عليهما في شهر رمضان، فمن حمله علي أن الصيام كتب عليهما لكن يجوز لهما الإفطار والقضاء فسر الآية بلا دليل وسلطان. الثانية: أن قوله: (وأن تصوموا خير لكم) بصدد ضرب القانون الكلي ولا صلة له بالصنفين وعلي ذلك فقوله: (فمن كان مريضا) دليل علي أن الإفطار عزيمة كما أن قوله (وإن تصوموا...) فاقد للدلالة علي الرخصة. قال سبحانه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان) الآية بصدد بيان الأيام المعدودات وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بالصيام لأجل أنه شهر رمضان، شهر نزل فيه القرآن الذي فيه هدي للناس وآيات بينات واضحات فيها من الهداية، والفرقان بين الحق والباطل. قال سبحانه: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر) والجملة بصدد ضرب القاعدة وهو أن من شهد الشهر بسلامة وحضر فيه بأن لم يكن مسافرا فيلزم عليه الصيام، أي كتب عليه الصيام، وأما من لم يكن كذلك كما كان مريضا أو مسافرا فلا يصمه بمعني لم يكتب عليه الصوم. فالإتيان بقوله: " فمن كان مريضا " بعد قوله: " فمن شهد منكم الشهر " هو الصوم وحكم غير الشاهد هو الإفطار دليل علي أن الله سبحانه بصدد بيان حكم الشاهد للشهر، فيصبح الإفطار عزيمة. ثم إنه سبحانه ذكر جملا

ثلاث: [ صفحه 279] أ - (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة أي أمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر، حتي من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه الصيام. ب - (ولتكملوا العدة): وهو راجع إلي القضاء للمريض وللمسافر أي أن الموضوع عنهما هو حكم الصيام في شهر رمضان، وأما القضاء بعدد الأيام المعدودات فلا. ج - (ولتكبروا الله علي ما هداكم لعلكم تشكرون): الجملة غاية أصل الصيام وليست غاية للاستثناء والله سبحانه يطلب من عباده تكبيره في مقابل هدايتهم حتي يكونوا شاكرين لنعمه. هذا تفسير الآيات الثلاث حسب ما يوحيه ظاهرها، وقد تعرفت علي أن القائل بالعزيمة والرخصة يتمسكان بهما وأن المتبادر هو العزيمة لا غير. وأما الروايات فسنعالجها عند البحث عن أدلة القائل بالرخصة. ومن حسن الحظ أنه هناك روايات متضافرة عن أئمة أهل البيت صريحة في كون أن إفطار الصنفين عزيمة كما أن هناك روايات متضافرة عن طريق أهل السنة تنتهي أكثرها إلي النبي الأكرم صريحة في كون الإفطار لهما عزيمة، والشارع بكتابه وعمل نبيه في كراع الغميم أبان الحق وبين أن الإفطار عزيمة وأن الصوم معصية ومن صام فقد عصي، وسمي المتخلفين بالعصاة ولو كان هناك تخيير بين الصوم والإفطار فقد كان قبل عام الفتح وقضي عليه التشريع الأحدث كما سيوافيك بيانه. [ صفحه 280]

الاستدلال علي العزيمة بالسنة

تضافرت السنة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنة علي أن الإفطار في السفر عزيمة، ونذكر من كل من الفريقين أحاديث عشرة. فقد ورد من طرق الشيعة أحاديث كثيرة تدل علي وجوب الإفطار في السفر وعدم صحة الصوم من المسافر نذكر منها ما يلي: 1

- ما رواه الكليني بسنده عن الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث: قال: وأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإن الله عز وجل يقول: (فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدةمن أيام أخر) فهذا تفسير الصيام " [505] . 2 - روي الكليني بسنده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " سمي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قوما صاموا حين أفطر وقصر: عصاة، وقال: هم العصاة إلي يوم القيامة، وإنا لنعرف أبناء أبنائهم إلي يومنا هذا ". ورواه الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن يعقوب، ورواه الصدوقبإسناده عن حريز مثله [506] . 3 - روي أيضا بسنده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " إن الله عز وجل تصدق علي [ صفحه 281] مرضي أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرأحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه " [507] . 4 - روي الكليني بسنده عن يحيي بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر " ثم قال: " إن رجلا أتي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول الله، إنه علي يسير، فقال رسول الله (صلي الله

عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل تصدق علي مرضي أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أيعجب أحدكم لو تصدق بصدقة أن ترد عليه ".ورواه الصدوق والشيخ مثله [508] . 5 - روي الكليني بسنده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): خيار أمتي الذين إذا سافرواأفطروا وقصروا... " [509] . 6 - روي الكليني بسنده عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر " وقال: " إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة إلي مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهي إلي كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه وتم ناس علي صومهم فسماهمالعصاة، وإنما يؤخذ بآخر أمور رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) " [510] . [ صفحه 282] 7 - روي أيضا بسنده عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " قوله عز وجل (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال: ما أبينها، منشهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه ". ورواه الصدوق أيضا [511] . 8 - روي الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضانفيصوم؟ قال: " ليس من البر الصوم في السفر " [512] . 9 - روي الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام) " ليس من البر الصيام(الصوم) في السفر " [513] . 10 - وروي أيضا بإسناده عن

السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال: " قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل أهدي إلي وإلي أمتي هدية لم يهدها إلي أحد من الأمم كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: الإفطار في السفر، والتقصير في الصلاة، فمنلم يفعل ذلك فقد رد علي الله عز وجل هديته " [514] . وقد مر أن هدية الله واجب القبول علي المسلم، لأن ردها علي خلاف مقتضي العبودية وهو من المحرمات فيكون الصوم في السفر باعتباره به ردا عمليا لهدية الله من المحرمات. ونقتصر من الكثير بالقليل ونأتي بما رواه أهل السنة. [ صفحه 283]

ما رواه أهل السنة في مجال الإفطار

1 - ما جاء في الصحيحة عن جابر بن عبد الله (رض) قال: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في سفر فرأي زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا "؟ فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ". ولفظ الحديث فيصحيح مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر [515] . لا شك أن المقابل للبر هو الإثم لقوله تعالي: (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) (المائدة - 2) فإذا لم يكن الصوم في السفر برا فهو إثم، والذي يبين إطلاق النهي من غير اختصاصه بصورة الحرج هو أن مثل هذا الحديث قد صدر عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في غير هذا المورد، وهو ما رواه النمر بن تولب عن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وفقا للهجة حمير وطئ الذين يبدلون لام التعريف بالميم حيث قال (صلي الله عليه وآله وسلم): " ليس من امبر امصيام

في امسفر " [516] ويقال: إن السائل سأله (صلي الله عليه وآله وسلم) بقوله: امن امبر امصيام في امسفر؟ فأجابه (صلي الله عليه وآله وسلم) طبقا للغته: " ليس من امبر امصيام في امسفر " فإذا لم يكن برا فهو إثم لا محالة إذ لا ثالث لهما. ومن المعلوم أن الأمر العبادي إذا انطبق عليه عنوان الإثم يكون محرما والمحرم لا يكون مقربا ويكون باطلا محتاجا إلي القضاء. ولك أن تستظهر مفاد الحديث من الآيات التي تنفي بعض الأشياء أن يكون من مصاديق البر. يقول سبحانه: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب...) (البقرة / 177). [ صفحه 284] وقوله: (ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها...) (البقرة / 189). ونفي البر كناية عن سقوطه عن القيمة والوزن في مجال التشريع لو لم نقل إنه يكون محرما، لكونه تشريعا وإدخالا في الدين ما ليس منه. ورواية جابر، وإن كانت واردة في من وقع في حرج شديد، ولكن المورد غير مخصص وذلك لأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ضرب قاعدة كلية وحكم بأن كل صيام في السفر ليس ببر والحجة هي القاعدة والمورد من أحد مصاديقها، ويشهد لما ذكرنا أن الصيام المقارن للحرج الشديد والضرر العظيم محرم علي المسافر والحاضر، فعلم أن النهي لأجل صيامه في السفر لا لوقوعه في حرج شديد لما عرفت من عدم مدخلية للسفر فيما إذا كان مقارنا للحرج والضرر، فتأكيد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) علي السفر يبين أن الموضوع للحرمة هو السفر لا الحرج. قال ابن حزم: " فإن قيل: إنما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل قلنا: هذا باطل لا يجوز، لأن تلك الحال

محرم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر كما هو في السفر، فتخصيص النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوي المفتراة عليه (صلي الله عليه وآلهوسلم)، وواجب أخذ كلامه (عليه السلام) علي عمومه " [517] . 2 - وما رواه الإمام أحمد من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليس من البر الصيامفي السفر " [518] . وروي ابن ماجة مثل ذلك عن ابن عمر وقال في الزوائد: إسناد حديث ابن [ صفحه 285] عمر صحيح، لأن محمد بن المصفي، ذكره ابن حبان في الثقات، وثقه مسلمة والذهبي في الكاشف وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالحوباقي رجال الإسناد علي شرط الشيخين [519] . 3 - ما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح في رمضان فصام حتي بلغ الكديد ثم أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث منأمره [520] . 4 - وعن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث، قال ابن شهاب:فكان يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم [521] . يستفاد من هذين الحديثين أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يصوم في السفر ثم نسخ ذلك فأمر بالإفطار، فالأمر بالإفطار ناسخ محكم ولا يجوز لنا اتباع المنسوخ بعد مجئ الناسخ. كما يمكن أن يستفاد هذا النسخ من بعض أحاديث أئمة أهل البيت فقد روي عن الإمام الصادق (عليه

السلام) في تفسير قوله سبحانه: (من كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر) أنه قال: لم يكن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة منذ نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا فقال قوم: لو تممنا يومنا هذا، فسماهم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتي قبض عليه السلام فإن المفهوم من قوله: " لم يكن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر... منذ نزلت [ صفحه 286] هذه الآية " هو أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يصوم قبل نزول الآية. 5 - وروي مسلم عن جابر بن عبد الله (رض) أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح إلي مكة في رمضان فصام حتي بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتي نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام؟ فقال: " أولئك العصاة، أولئكالعصاة " [522] . وهذا الحديث صريح في أن الصوم في السفر معصية لا تجوز 6 - وروي ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): " صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " [523] . 7 - وروي أيضا عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الأسهل (وقال علي بن محمد: من بني عبد الله بن كعب) قال: أغارت علينا خيل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فأتيت رسول الله (صلي الله

عليه وآله وسلم) وهو يتغدي فقال: " أدن فكل " قلت: إني صائم. قال: " أجلس أحدثك عن الصوم أو الصيام. إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع، الصوم أو الصيام ". والله لقد قالهما النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كلتاهما أو إحداهما. فيا لهف نفسي. فهلا كنت طعمت من طعام رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) [524] . فالوضع بمعني الرفع وهو كناية عن عدم التشريع ومن المعلوم أن أي عمل عبادي ليس له رصيد في التشريع يكون باطلا. 8 - روي أن دحية الكلبي خرج من قرية من دمشق إلي قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلي قريته، [ صفحه 287] قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك للذين صاموا قبل، رواهأبو داود [525] . يا تري فهل يمكن أن يتعجب مثل دحية الكلبي عن قوم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم أخذوا بالرخصة في الصوم سفرا؟ فتعجبه وتأوهه هذا ينبي عن أنهم كانوا مخالفين لسنة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وهذا يعرب عن أن الإفطار كان هو السائد علي الأوساط الإسلامية ولو كان أمرا جائزا لما كان لتعجبه وجه. 9 - قال البخاري في " باب من أفطر من السفر ليراه الناس " وساق الحديث عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من المدينة إلي مكة فصام حتي بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلي يديه ليريه الناس فأفطر حتيقدم مكة

وذلك في رمضان [526] . 10 - ما نقله الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال: لو صام فيالسفر قضي في الحضر [527] . إلي هنا تم الكلام حول أدلة القائلين بكون الإفطار في السفر عزيمة، وإليك أدلة القائلين بخلاف ذلك.

ادلة القائلين بكون الإفطار رخصة

استدل القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بدليلين من الكتاب والسنة. [ صفحه 288] أما الكتاب فقوله تعالي: (أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (البقرة - 184). تقريبه: إن قوله (وأن تصوموا خير لكم) راجع إلي المسافر فهو يدل مضافا إلي جواز الصيام في السفر، يدل علي أفضليته فيه وينتج أن الإفطار رخصة والصيام أفضل. يلاحظ عليه: أولا: أن الاستدلال إنما يتم لو لم نقل بأن الآية الثانية (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...) ناسخة للآية المتقدمة برمتها ومنها قوله: (وأن تصوموا خير لكم). وإلا فعلي القول بالنسخ كما رواه الإمام البخاري يسقط الاستدلال وإليك ما روي: قال: (باب وعلي الذين يطيقونه فدية) قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أوعلي سفر فعدة من أيام أخر...) [528] . وثانيا: أن الاستدلال مبني علي أن لا يكون قوله سبحانه: (وأن تصوموا خير لكم) ناسخا لقوله: (وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له) كما رواه الإمام البخاري عن ابن أبي ليلي أنه حدثه أصحاب محمد (صلي الله عليه وآله وسلم):

نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: (وأنتصوموا خير لكم) فأمروا بالصوم [529] . [ صفحه 289] إذ علي هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر، بل كلاهما ناظران إلي الحاضر فقد كان من يطيقه تاركا للصوم مقدما للفدية فنزل الوحي وأمرهم بالصوم، فأي صلة له بالموضوع. وثالثا: مع غض النظر عما سبق من الأمرين وتسليم أن الآية ليس فيها نسخ - كما هو الحق علي ما قدمناه في صدر البحث - نقول: إن قوله (وأن تصوموا خير لكم) حض علي الصيام ودعوة إلي تلك العبادة من غير نظر إلي المريض والمسافر والمطيق وإنما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كلي وهو أن الصيام خير للمؤمنين وليس عليهم أن يتخلوا عنه لأجل تعبه. ولأجل ذلك يقول: (إن كنتم تعلمون). قال العلامة الطباطبائي: " قوله تعالي: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) جملة متممة لسابقتها، والمعني بحسب التقدير: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم فالتطوع به خير، علي خير وربما يقال: إن الجملة، أعني: قوله: (وأن تصوموا خير لكم) خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالعرض والكتابة، فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل علي رجحان الصوم واستحبابه علي أصحاب الرخصة. ومن المريض والمسافر فيستحب لهم اختيار الصوم علي الإفطار والقضاء. ويرد عليه: عدم الدليل عليه أولا، واختلاف الجملتين، أعني قوله: (فمن كان منكم) قوله: (وأن تصوموا خير لكم)، بالغيبة والخطاب ثانيا، وأن الجملة الأولي (ليست) مسوقة لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: (فعدة من أيام أخر) تعين الصوم في

أيام أخر كما مر ثالثا، وإن الجملة الأولي علي تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتي يكون قوله [ صفحه 290] : (وأن تصوموا خير لكم) بيانا لأحد طرفي التخيير، بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلي استفادة ترجيح صوم شهر رمضان علي صوم غيره من مجرد قوله: (وأن تصوموا خير لكم) من غير قرينة ظاهرة رابعا، وإن المقام ليس مقام بيان الحكم حتي ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام بيان ملاك التشريع وإن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله: (فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم) (البقرة / 54) وقوله تعالي: (فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم) (الجمعة - 9) وقوله تعالي: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتمتعلمون) (الصف - 11) والآيات من ذلك كثيرة خامسا [530] .

ادلة القائلين بالرخصة من السنة

اشاره

هذا وقد استدل القائل بالرخصة ببعض الروايات، وهي بين قاصرة سندا أو قاصرة دلالة، وإليك دراستها برمتها وقبل أن نذكر النصوص نلفت نظر القارئ إلي أمور: 1 - إن البحث مركز علي حكم صيام شهر رمضان في السفر، وإن الإفطار عزيمة أو رخصة، وأما صيام غيره في السفر فخارج عن موضوع البحث. 2 - إن النبي الأكرم أمر بالإفطار في عام الفتح وكان الأمر قبله علي التخيير، فلو دل حديث علي التخيير فإنما يصح الاستدلال بها إذا ورد بعد عام الفتح، وإلا فالتخيير قبل الفتح ليس موردا للنقاش. [ صفحه 291] 3 - لو افترضنا دلالة الروايات

علي التخيير، فتقع المعارضة بين الإمرة بالإفطار والحاكمة علي التخيير فلا بد من الرجوع بالمرجحات فما وافق الكتاب فهو الحجة أولا كما أن الأكثر عددا، أو ما كان رواتها أفقه وأعلم، فهو المقدم علي غيره. وعلي ضوء هذه الأمور ندرس الروايات المجوزة للأمرين ونقول: إن الروايات المجوزة علي أصناف:

ما ليس بصريح في ورودها في شهر رمضان

1 - ما رواه البخاري بسنده عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم): أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: " إنشئت فصم وإن شئت فأفطر " [531] . يلاحظ عليه: أولا: بأن التخيير بين الصوم والإفطار المستفاد من الحديث ليس صريحا ولا ظاهرا في صوم رمضان ولا الصوم الواجب، بل الظاهر هو الصوم المندوب بدليل قوله: " وكان كثير الصيام " وهذا لا يطلق إلا علي المتطوع. وثانيا: يحمل علي ما قبل نسخ التخيير في السفر، فإنه يستفاد من بعض الروايات كما مر أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فرض الإفطار علي المسافر في أمره الأخير. 2 - ما رواه أيضا بسنده عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره في يوم حار حتي يضع الرجل يده علي رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي (صلي اللهعليه وآله وسلم) وابن رواحة [532] . ويرد علي الاستدلال ما ذكر في الاستدلال السابق مضافا إلي احتمال أن [ صفحه 292] صوم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وابن رواحة كان نذرا معينا. 3 - ما رواه أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبي (صليالله عليه وآله وسلم)

فلم يعب الصائم علي المفطر ولا المفطر علي الصائم [533] . يلاحظ عليه: بمثل ما قلناه في الحديثين السابقين مضافا إلي أن الحديث لم يذكر فيه أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) علم بصيام بعضهم فسكت عنهم حتي يكون هذا التقرير حجة علينا، وأما سكوت بعض الصحابة فلا يكون حجة علينا لعدم إجماعهم علي التخيير بين الصوم والإفطار في السفر كما ذكرنا، ولو حصل إجماع فهو ليس حجة، لأن القائل بحجية إجماع الصحابة إنما قال به بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأما قبل وفاته (صلي الله عليه وآله وسلم) فلم يجمعوا علي القول بالرخصة ولا العزيمة كما بينا. 4 - ما رواه مسلم بسنده عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لا تعب علي من صام ولا علي من أفطر قد صام رسول الله (صلي الله عليهوآله وسلم) في السفر وأفطر [534] . ويلاحظ علي الاستدلال بما ذكرناه من أنه ليس صريحا في شهر رمضان. 5 - ما رواه أيضا بسنده عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة علي الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): " هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " قال هارون في حديثه: هي رخصةولم يذكر: من الله [535] . يلاحظ علي الاستدلال بما ذكرناه سابقا. 6 - ما روي عن علي أنه صام في سفر، لأنه كان راكبا، وأفطر سعد مولاهلأنه كان ماشيا [536] . [ صفحه 293] ويحمل هذا علي التطوع إذ ليس

فيه أنه كان صائما في رمضان.

ما يدل علي لزوم الصوم لفقد شرط الإفطار

1 - ما روي عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد، لزمه الصوم لأن الله تعالي قال: (فمن شهد منكمالشهر فليصمه) [537] . يلاحظ عليه: بأن الظاهر من الحديث أن المقيم إذا كان صائما في رمضان فتجدد له السفر ولم يبيت نية السفر فعليه صوم ذلك اليوم وإن كان مسافرا، ومعني الرواية اشتراط تبيت نية السفر في الإفطار، وأما إذا تجدد السفر فعليه الصوم، والقول بالصوم في مثله، لا يضر بكون الإفطار عزيمة لمن بيت السفر من الليل. 2 - ما رواه أبو داود بسنده عن سلمة بن المحبق عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من كانت له حمولة يأوي إلي شبع فليصم رمضان حيثأدركه " [538] . يلاحظ عليه: أولا: أن الحديث ظاهر في حكم المكاري وهو دائم السفر، لأن الحمولة - بالضم - هي الأحمال، يعني أنه يكون صاحب أحمال يسافر بها. ولا شك في أن المكاري كما قلنا يجب عليه الصوم ولا يمكن تسرية حكمة إلي غيره. وثانيا: أن الحديث مخدوش من حيث السند. قال ابن حزم: وأما حديث ابن المحبق: " من كان يأوي إلي حمولة أو شبع فليصم " فحديث ساقط، لأن رواية عبد الصمد بن حبيب - وهو بصري - ليسالحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق وهو مجهول " [539] . [ صفحه 294]

ما هو ضعيف سندا لا يحتج به

وهناك روايات ضعاف لا يصح الاحتجاج بها أو اجتهاد من الراوي ولا يمت إلي النبي بصلة، ولو افترضنا قوة دلالتها وظهورها في شهر رمضان: 1 - ما روي عن العطريف بن هارون مرسلا: أن رجلين سافرا فصام أحدهما

وأفطر الآخر فذكرا ذلك لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: "كلاكما أصاب " [540] . 2 - وما روي مرسلا عن أبي عياض: " أن رسول الله (صلي الله عليه وآلهوسلم) أمر أن ينادي في الناس من شاء صام ومن شاء أفطر " [541] . يلاحظ علي الاستدلال أولا: أنهما مرسلان ولا حجة في مرسل. وثانيا: أنهما ليسا ظاهرين في رمضان، ويمكن حملهما علي التطوع. وثالثا: يمكن حملهما علي ما قبل نسخ التخيير والأمر الأخير ورد علي الإفطار في السفر. 3 - ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة علي الصيام في السفر؟ فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) " أي ذلكشئت يا حمزة " [542] . يلاحظ علي الاستدلال بمثل ما ذكر في الحديث الأول أولا، وأن سند هذا الحديث ضعيف ثانيا. قال ابن حزم: " وأما حديث حمزة بن عمرو الذي ذكرناه ههنا الذي فيه إباحة الصوم في رمضان السفر، فإنما هو من رواية ابن حمزة - ابنه محمد بن حمزة - وهو ضعيف وأبوه كذلك، وأما الثابت من حديث حمزة هو ما نذكره إن شاء الله تعالي " [543] وقد نقلناه فيما سبق عن البخاري ومسلم. [ صفحه 295] 4 - ما روي عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة [544] . يلاحظ عليه: أن صيام عائشة في السفر وإتمامها للصلاة كان اجتهادا منها غير مستند إلي رواية فليس فيه حجة علينا وذكروا لها تأويلات لاجتهادها، مر البحث عنها في مسألة القصر في الصلاة فلا نعيد.

ما هو غير دال علي ما يتبناه المستدل

1 - ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عباس

- رضي الله عنهما - أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح في رمضان فصام حتي بلغ الكديد، ثم أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره [545] . قال النووي في شرحه: فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطرجائزان [546] . يلاحظ عليه: أن الحديث ظاهر في أن الأمر الأخير الذي بينه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) هو الإفطار فهو ناسخ للحكم السابق أي جواز الصوم في السفر ويدل عليه قوله: " كان صحابة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " والمقصود من أمره الأخير هو الأمر بالإفطار لما رواه مسلم بسنده عن الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذمن أمر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالآخر فالآخر. [547] . 2 - وفي حديث آخر روي مسلم بسنده عن ابن شهاب، قال ابن شهاب:فكانوا يتبعون الأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم [548] . [ صفحه 296] فإذا كان الأمر الأخير الناسخ المحكم هو الإفطار والأمر يدل علي الوجوب، فأي علاقة بمدعي القوم؟

حصيلة البحث

أن هذه الروايات بينما هي غير صريحة في كون الصيام المرخص صيام شهر رمضان، بل من المحتمل أن المرخص صياما نذريا في غير شهر رمضان، وبينما هي صريحة في شهر رمضان لكن الأمر بالصيام لأجل فقدان الشرط اللازم للإفطار ككون الرجل مكاريا أو غير مبيت للصيام من الليل وبينما هو ضعيف سندا لا يحتج به. ولو افترضنا دلالة هذا الصنف برمته علي أن الإفطار رخصة فيقع التعارض بين الصنفين فيكون المرجع هو المرجحات المذكورة في باب التعادل والترجيح. وأولي المرجحات هو

موافقة الكتاب، ومن المعلوم أن الصنف الأول يدعمه الكتاب وهو يرد الصنف الثاني لما عرفت من ظهور الكتاب في أن المفروض علي الأصناف الثلاثة هو القضاء من أول الأمر لا الصيام، لكنهم إذا أفطروا قضوا. ثم بعد ذلك المرجح تأتي مرحلة سائر المرجحات، ومن المعلوم أن الصنف الأول أصرح وأظهر دلالة بخلاف الصنف الثاني، وأن رواة الصنف الأول أكابر الصحابة وأعلامها الذين لا يشق غبارهم فعند ذلك لا محيص للفقيه من أخذ الصنف الأول ورفض الصنف الثاني وإرجاع علمه إلي أصحابه. [ صفحه 297]

رؤية الله تعالي

رؤية الله تعالي في الدارين

اشاره

هذه هي المسألة العاشرة التي كان للمبتدعة فيها دور قوي إلي حد إحلال البدعة مكان السنة، والتشبيه محل التنزيه، فصارت رؤية الله في الآخرة من العقائد الإسلامية، واحتلت مكانا عاليا فيها إلي حد تكفير منكرها، وإن كان إنكارها لدليل واجتهاد. ولأجل رفع القناع عن وجهها، ندرسها - حياديا - في ضوء الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي به عرفنا وجوده سبحانه، ولكن قبل الخوض في نقل الأقوال، وإقامة البرهان، نذكر مقدمة موجزة، تتضمن سمات العقيدة الإسلامية حتي يرجع إليها القارئ عند الشك والتردد في جانب الإيجاب والسلب للمسألة.

سمات العقيدة الإسلامية
اشاره

إن للعقيدة الإسلامية سمات وعلائم تتميز بها عن غيرها، ونذكر منها في المقام أمورا ثلاثة: [ صفحه 298]

سهولة العقيدة و يسرها

العقيدة الإسلامية لها سمات أوضحها أنها عقيدة سهلة يسرة فهمها وتعلمها، وذلك لأنها عقيدة شمولية لا تختص بالفلاسفة والمتكلمين والمفكرين، ولا يعني ذلك سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والأدلة، بعيدة عن الألغاز والإبهامات، فلو فسرت وبينت لفهمها عامة الناس حسب مستوياتهم، فهي بسمتها هذه في جبهة مخالفة لما تتبناه نصرانية اليوم والأمس، فقد حاقتها إبهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسر لأحد لحد الآن حل مشاكلها وتبيينها للمفكرين فضلا عن عامة الناس، فنأتي بنموذج: إن المسلم إذا سئل عن معتقده في التوحيد وصفاته وسماته يقول: " هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وقد جاء في الأثر أن جماعة من أهل الكتاب سألوا النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إنسب،لنا ربك فنزلت سورة التوحيد [549] . فالعقيدة الإسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جلية المعالم لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة، مرفوع الرأس والهامة، إذ مع عقيدته براهينها الواضحة، يقف عليها من درس عقيدته. وأما لو سئل النصراني في ذلك المجال، فإنه يتلعثم في بيانها، فتارة يقول: إنه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثم يضيف: إنه لا منافاة بين كون الشئ واحدا وكثيرا، ومن المعلوم أن هذه العقيدة يعلوها الإبهام ويكسوها الإجمال، لا تقبله الطباع السليمة إذ كيف نذعن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ند، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعددة، فهذه العقيدة

يناقض أولها آخرها ويرد آخرها أولها، فهو سبحانه إما واحد لا نظير له وإما كثير له أمثال. [ صفحه 299] وقس علي ذلك سائر المواضيع في العقيدة الإسلامية، وقابلها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، تري تلك السمة بنفسها في العقيدة الإسلامية ونقيضها في غيرها. إن من العوامل التي ساعدت علي انتشار الإسلام بسرعة في مختلف الحضارات وتغلغله بين الأوساط، اتسامه بسهولة العقيدة ويسر التكليف. يقول الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني المغفور له: يقول الله عز وجل في حض العباد علي التفكر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب). (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)، (فانظروا كيف بدأ الخلق)، (انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه)، (فانظر إلي آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها)، (قل سيروا في الأرض ثم انظروا)، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). ويقول الله عز وجل في وصف نفسه، وإعلام المخلوقين بأنه فوق ما يعقلون أو يدركون: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)، (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير)، (قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد ولم يولد - ولم يكن له كفوا أحد)، (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالي عما يصفون - بديع السماوات والأرض أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم - ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو علي كل شئ وكيل - لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبدا بشئ يفصح عن ذات الله

تعالي من حيثالحقيقة والكنه، وإنما هو يلفت دائما إلي آثار الله في الخلق والتصريف [550] . [ صفحه 300]

المطلوب في العقائد هو الإذعان، و في الأحكام العمل

وهناك أمر ثان نلفت إليه نظر القارئ وهو الفرق الواضح بين العقيدة والأحكام الشرعية العملية فإن المطلوب في الأولي، هو الاعتقاد الجازم ومن المعلوم أن الإذعان بشئ رهن مقدمات بديهية أو نظرية منتهية إليها حتي يستتبع اليقين والإذعان، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية فإن المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، من دون التوقف علي الإذعان بقطعيتها وصدورها عن الشارع. وهذا الفرق بين العقائد والأحكام يجرنا إلي التأكد من صحة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الأحكام، ولذلك نري أئمة الفقه يعملون بأخبار الآحاد في مجال الأحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطع واليقين، وهذا بخلاف العقائد فبما أن المطلوب فيها هو عقد القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، يرفضون خبر الآحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلي حد يورث العلم.

خضوعها للبرهان العقلي

وهناك أمر ثالث وراء هذين الأمرين وهو أنه لا يمكن لباحث إسلامي يريد تبيين العقائد الإسلامية بأسلوب علمي رائع، أن يرفض العقل بتاتا ويقتنع بالنصوص وذلك لأن الأخذ بالنص رهن ثبوت أصول موضوعية قبله، عليها تبتني نبوة الرسول الأكرم وحجية قوله، فما لم يثبت للعالم صانع حكيم باعث للأنبياء والرسل لهداية الناس مدعمهم بالمعجزات والبينات لا تثبت نبوة الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) وحجية كلامه في مجال العقيدة، وكيف لنا أن نعتمد في مجال العقائد علي النصوص الشرعية حتي في إثبات الصانع ونبوة رسوله فإنه مستلزم للدور المحال. [ صفحه 301] وهذا هو الذي يفرض علينا أن لا نصك أذاننا عن صوت العقل ونقف علي أن العمود الفقري للعقائد التي يبني عليها صرح النبوة المحمدية (صلي الله عليه وآله وسلم) هو اتباع العقل ودلالته،

ولذلك نري أن الكتاب العزيز يتوصل في إثبات هذا الأصل من الأصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدل علي أصول التوحيد بقضاء العقل ويتكلم باسم العقل ويقول: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) (الأنبياء / 22) فيستدل علي توحيده ونفي الإله المتعدد بقضية شرطية وهي ترتب الفساد في الكون علي تعدد الآلهة. ويقول سبحانه: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علي بعض سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون / 91). ويقول سبحانه: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلي ذي العرش سبيلا) (الإسراء / 42)، فالآيات الثلاث علي اختلافها في الإجمال والتفصيل تحتوي برهانا مشرقا خالدا علي جبين الدهر. ويقول سبحانه: (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) (الطور / 35) فيستمد من الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحققه بلا علة وصانع. نري أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبية الأجرام السماوية من خلال مناظرة إبراهيم الخليل (عليه السلام) مع عبدتها فيستدل بالأفول علي بطلان ربوبيتها ضمن آيات، قال سبحانه: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين - فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين - فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين - فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون - إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) (الأنعام / 75 - 79). [ صفحه 302] فقد بلغ

الخليل النهاية في مجال المعرفة علي وجه رأي ملكوت السماوات والأرض فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين بالله سبحانه وما ذلك إلا ليكون موقنا ومذعنا لأصول الوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والأرض إلا بإلهامه البرهان الدامغ الذي أثبت به بطلان ربوبية الكوكب والقمر والشمس وانتهي في آخره إلي أنه لا إله إلا هو، وقال بعد ذكر البراهين (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) (الأنعام / 79). فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة الإسلامية، وهو أن الغاية من طرح الأصول العقائدية هي الوصول إلي الإذعان واليقين لا التعبد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته خصوصا في الأصول الأولية التي تبني عليها نبوة النبي الأكرم، فمن حاول إعدام العقل ورفضه عن ساحة البحث، والاكتفاء بالنص فقد لعب علي حبل خاسر إذ أن بديهة العقل تحكم بأن الاكتفاء بالسمع في عامة الأصول مستلزم للدور وتوقف صحة الدليل علي ثبوت المدعي وبالعكس. إن رفض العقل في مجال البرهنة علي العقيدة عند بعض الفرق صار سببا لتغلغل العقائد الخرافية بين لفيف من الطوائف الإسلامية، وفي ظل هذا الأصل أي إبعاد العقل عن الساحة دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق مستسلمة الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين، فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدثين والسذج من الناس اغترارا بإسلامهم وصدق لهجتهم. إن من مواهبه سبحانه للإنسان أنه أنار مصباح العقل في كل قرن وزمان ليكون حصنا أمام نفوذ الخرافات والأوهام إلي ذهنه وفكره، وليميز به الإنسان الحق عن الباطل فيما له فيه حق القضاء، وكلامنا هذا لا يعني إلي أن

المرجع [ صفحه 303] الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع وإنما يهدف إلي أن اللبنات الأولية لصرح المعتقد الإسلامي يجب أن تكون خاضعة للبرهان غير مناقضة لحكم العقل. نعم، بعد ما ثبتت الأصول الموضوعية في مجال العقيدة وثبتت في ظلها نبوة النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) يكون كل ما جاء به النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حجة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الوصول إلينا عن طريق مفيد للعلم، والإذعان بأنه مما صدر عن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم). وقد خرجنا في هذه المقدمة الموجزة بنتائج ثلاث: الأولي: أن العقيدة الإسلامية سهلة يسرة، لا تكلف في الاعتناق بها. الثانية: أن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب، وهذا لا يحصل إلا بعد ثبوت المقدمات المنتهية إليه وليس من شأن أخبار الآحاد، خلق اليقين والإذعان ما لم يثبت صدورها عن مصدر الوحي علي وجه القطع واليقين، بخلاف الأحكام فإن المطلوب فيها هو العمل تعبدا. ولا يتوقف علي العلم بالصدور. الثالثة: أن الأصول التي تبني عليها ثبوت النبوة لا تثبت إلا بالعقل دون الشرع. ففي ضوء هذه النتائج الثلاثة ندرس فكرة رؤية الله تعالي يوم القيامة التي أوجدت ضجة في الآونة الأخيرة بين المفكرين الواعين ومقلدة أخبار الآحاد والمخدوعين بالإسرائيليات من الروايات وسوف تقف علي حقيقة الأمر بإذنه سبحانه. [ صفحه 304]

التجسيم، والتشبيه، والجهة، والرؤية أفكار مستوردة و بدع يهودية

اشاره

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية وضرب بجرانه أراضيها، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحدانا، لم تجد اليهود والنصاري المتواجدين فيها محيصا إلا الاستسلام فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالبا إلا من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصا الأحبار والرهبان، بقوا علي ما

كانوا عليه من العقائد السابقة. وبما أنهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأصول والعقائد، عمدوا إلي نشرها بين المسلمين بخداع خاص، وبطريقة تعليمية، وكانت السذاجة تغلب علي عامة المسلمين فتلقوهم علماء ربانيين، يحملون العلم فأخذوا ما يلقون، بقلب واع، ونية صادقة وبالتالي نشروا في هذا الجو المساعد كل ما عندهم من القصص الخرافية والعقائد الباطلة، خصوصا فيما يرجع إلي التجسيم والتشبيه وتصغير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم، والتركيز علي القدر وسيادته في الكون علي كل شئ حتي علي إرادة الله سبحانه ومشيئته، ولم تكن رؤية الله بأقل مما سبق في تركيزهم [ صفحه 305] عليها، فما تري في كتب الحديث قديما وحديثا من الأخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلي الأنبياء، فكل ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصاري فقد حسبها المسلمون حقائق راهنة وقصصا صادقة، فتلقوها بقبول حسن نشرها السلف بين الخلف واستديم الأمر علي ذلك. ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين حظر تدوين حديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) ونشره ونقله والتحدث به أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصا من قبل كهنة الرسول ورهبان النصاري. كان التحدث بحديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) أمرا مكروها بل محظورا من قبل الخلفاء إلي عصر عمر بن عبد العزيز (19 - 101 ه) بل إلي عصر المنصور العباسي (143 ه) ولكن كان المجال للتحدث بالأساطير من قبل هؤلاء أمرا مسموحا به، وهذا هو تميم بن أوس الداري من

رواة الأساطير وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قص بين المسلمين واستأذن عمر أن يقص علي الناس قائما، فأذن له وكان يسكن المدينة ثم انتقل إلي الشام بعد قتل عثمان [551] . فإذا سمحت الظروف بمثل هذا الكتابي أن يتحدث بما تعلم في حياته السابقة ومنعت عن التحدث بحديث الرسول كان المجال خصبا لنشر الأساطير والعقائد الخرافية. يقول الشهرستاني: " وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث [ صفحه 306] متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدة من التوراة " [552] . وهذا هو المقدسي يتكلم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول: وكان فيهم من كل ملة ودين وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادةالأوثان في سائرهم [553] . قال ابن خلدون: إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلي معرفة شئ مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصاري مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مماكانوا يفترون [554] . ولو أردنا أن ننقل كلمات المحققين حول الخسارة التي أحدثتها مستسلمة اليهود والنصاري لطال بنا الكلام وطال مقامنا مع القراء. ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار فقد خدع عقول المسلمين وحتي الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال. وقد أسلم في زمن أبي

بكر وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم. قال الذهبي: العلامة الحبر الذي كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض) وجالس أصحاب محمد فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب - إلي أن قال: - حدث عنه أبو هريرة ومعاوية [ صفحه 307] وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز، وحدث عنه أيضا أسلم " مولي عمر " وتبيع " الحميري ابن امرأة كعب " وروي عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلا وقع له رواية في سنن أبيداود والترمذي والنسائي [555] . وعرفه الذهبي أيضا في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم [556] . فقد وجد الحبر الماكر جوا ملائما لنشر الأساطير والقصص الوهمية وبذلك بث سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين وقد تبعوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد تنبه إلي جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر، لفيف من السابقين منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالي في ما نقلاه إلي هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل وفسخ، وقد أغنانا اللهسبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ [557] . والذي يدل علي عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربما ينقل شيئا من العهدين، وفي الوقت ذاته نري أن بعض الصحابة الذين تتلمذوا علي يديه وأخذوا منه، ينسب نفس ما

نقله إلي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)، والذي يبرر ذلك العمل حسن ظنهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمرا واقعيا فنسبوه إلي النبي زاعمين أنه إذا كان [ صفحه 308] كعب الأحبار عالما به، فالنبي أولي بالعلم منه. فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ نصين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم)، ومضمون الحديث ينادي بأعلي صوته بأنه موضوع مجعول علي لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين ونشره. 1 - قال الطبري: عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال: وكان متكئا فاحتفر ثم قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أخري غضبا ثم قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجل وأكرم من أن يعذب علي طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالي: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) إنما يعني دؤوبهما في الطاعة فكيف يعذب عبدين يثني عليهما أنهما دائبان في طاعته قاتل الله هذا الحبر وقبح حبريته، ما أجرأه علي الله وأعظم فريته علي هذين العبدين المطيعين لله، قال: ثم استرجعمرارا [558] . 2 - قال ابن كثير: روي البزار عن عبد العزيز بن المختار قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد

مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة " فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وتقول أحسبه قال: وما ذنبهما، ثم قال: لا يروي عن أبي هريرة إلا من هذا [ صفحه 309] الوجه [559] . إن كعب الأحبار لما أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكن من إسناد ما رواه من الأساطير إلي النبي الأكرم، ولو كان مدركا لحياته وإن كان قليلا لنسب الأساطير إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيه الباطلة. ولكن أبا هريرة لما صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار - أستاذه في الأساطير - نسب الرواية إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). هذا نموذج قدمته إلي القارئ لكي يقف علي دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، ولا يحسن الظن بمجرد النقل بلا تأكيد من صحته. هذا غيض من فيض وقليل من كثير مما لعب به مستسلمة اليهود والنصاري في أحاديثنا وأصولنا، ولولا أن سبحانه قيض في كل آونة رجالا مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

كعب الأحبار و تركيزه علي التجسيم والرؤية

إن المتفحص في ما نقل عن ذلك الحبر يقف علي أنه كان يركز علي فكرتين يهوديتين: الأولي فكرة التجسيم، والثانية رؤية الله تعالي. يقول عن الفكرة الأولي: " إن الله تعالي نظر إلي الأرض فقال إني واطئ علي بعضك، فاستعلت إليه الجبال، وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع [ صفحه 310] عليها قدمه فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي وهذه جنتي وهذه

ناري،وهذا موضع ميزاني، وأنا ديان الدين " [560] . ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح علي تجسيمه تعالي أولا، وتركيز علي أن الجنة والنار والميزان ستكون علي هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون علي الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف، هذا حول التجسيم. وأما تركيزه علي الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم فقال: إن الله تعالي قسم كلامه ورؤيته بين موسي ومحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) [561] ومنه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. ومن أعظم الدواهي أن الرجل تزلف إلي الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وحدث عن الكثير من القصص الخرافية، وبعد ما توفي عثمان تزلف إلي معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته، ومن كلماته في حق الدولة الأموية يقول:مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة وملكه بالشام [562] . وبذلك أضفي علي الدولة الأموية صبغة شرعية وجعل ملكهم وسلطتهم امتدادا لملك النبي وسلطته.

الرؤية في كتب العهدين

إذا كان كعب الأحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤية فلا غرو ولا عجب في أنهم اتبعوا في نشر الفكرة العهد القديم، وإليك بعض ما ورد فيه تصريح برؤية الرب. [ صفحه 311] 1 - وقال (الرب) لا تقدر أن تري وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان فتقف علي الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتي أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يري (سفر الخروج آخر الإصحاح الثالث والثلاثين). وعلي هذا فالرب يري قفاه ولا يري وجهه. 2 - " رأيت السيد جالسا علي كرسي عال... فقلت: ويل لي لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود " (أشعيا: ج 6 ص

1 - 6) والمقصود من السيد هو الله جل ذكره. 3 - " كنت أري أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار " (دانيال 7: 9). 4 - " أما أنا فبالبر أنظر وجهك " (مزامير داود: 17: 15). 5 - " فقال منوح لامرأته: نموت موتا لأننا قد رأينا الله " (القضاة 13: 23). 6 - " فغضب الرب علي سليمان، لأن قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءي له مرتين " (الملوك الأول 11: 9). 7 - " وقد رأيت الرب جالسا علي كرسيه وكل جند البحار وقوف لديه " (الملوك الأول 22: 19). 8 - " كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، أن السماوات انفتحت فرأيت رؤي الله - إلي أن قال: - هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت علي وجهي وسمعت صوت متكلم " (حزقيال 1: 1 و 28). إن فكرة الرؤية تسربت إلي المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان، وصار ذلك سببا لجرأة طوائف من المسلمين علي جعلها في ضمن [ صفحه 312] العقيدة الإسلامية، بحيث يكفر منكرها أحيانا أو يفسق ولما صارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلمون الذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال علي تلك الفكرة من الكتاب أولا والسنة ثانيا، ولولا رسوخها بينهم لما تحملوا عب ء الاستدلال وجهد البرهنة، وسوف يوافيك أن الكتاب يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس، وما استدل به علي جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع فانتظر حتي يأتيك البيان.

إن مسألة رؤية الله تعالي قد طرحت علي صعيد البحث والجدال في القرن الثاني عندما حيكت العقائد علي نسق الأحاديث، وقد وردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة فلأجل ذلك عدت من العقائد الإسلامية. حتي أن الإمام الأشعري عندما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقي يوم الجمعة كرسيا ونادي بأعلي صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن وأن الله لا يري بالأبصار وأنأفعال الشر أنا أفعلها، وإني تائب مقلع معتقد للرد علي المعتزلة [563] . وقال في الإبانة: وندين بأن الله تعالي يري في الآخرة بالأبصار كما يريالقمر ليلة البدر يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله [564] . وقال في كتابه الآخر: بسم الله إن قائل قائل: لم قلتم إن رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك لأن ما لا يجوز أن يوصف به تعاليويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية [565] . [ صفحه 313] وهذا النص يعرب عن أن الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الإمام أحمد جزءا من العقائد الإسلامية ولذلك لا تجد كتابا كلاميا للأشاعرة إلا ويذكر رؤية الله تبارك وتعالي في الآخرة ويقررها جزء من العقائد الإسلامية، حتي أن الإمام الغزالي مع ما أوتي من مواهب كبيرة وكان من المصرين علي التنزيه فوق ما يوجد في كتب الأشاعرة، لم يستطع أن يخرج عن إطار العقيدة وقال: العلم بأنه تعالي مع كونه منزها عن الصورة والمقدار، مقدسا عن الجهاتوالأنظار، يري بالأعين والأبصار [566] . ثم إنهم اختلفوا في الدليل علي الرؤية، ففرقة منهم اعتمدوا علي الأدلة العقلية دون السمعية كسيف الدين

الآمدي أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع (551 - 631 ه) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة علي غير المسلك العقلي إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعية وهي مما يتقاصر عن إفادةالقطع واليقين فلا يذكر إلا علي سبيل التقريب [567] . وفرقة أخري كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هوجواز السمع وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الإقدام [568] .

الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا و لا بالحس السادس

إن محل النزاع بين الأشاعرة وقبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث وبين غيرهم من أهل التنزيه، هو رؤية الله سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم الله سبحانه وطريق إلي وقوف الإنسان علي الخارج. [ صفحه 314] يقول سبحانه: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل / 78). فالمثبت للرؤية والنافي لها يركز علي موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار وأن الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة. وبذلك يظهر أن الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصر بها أصحاب أحمد بن حنبل الملتحق به الإمام الأشعري ولا يمت بموضوع البحث بصلة، فقد نقل عن " ضرار " و " حفص الفرد " أن الله لا يري بالأبصار ولكن يخلق لنا يومالقيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها [569] . يقول ابن حزم: إن الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعية بالعين بلبقوة أخري موهوبة من الله [570] . إلي غير ذلك من الكلمات التي حرفت النقطة الرئيسة في البحث ومعتقد أهل الحديث والأشاعرة، ونحن نركز في البحث علي الرؤية بالأبصار، وأما الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله. فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرين علي جواز الرؤية فأئمة أهل البيت ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزيدية والإباضية قائلون

بامتناعها في الدنيا والآخرة. فالبيت الأموي والمنتمون إليه من أهل الأخبار كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة، والرؤية لله سبحانه، وأما الإمام أمير المؤمنين وبيته الطاهر وشيعتهم كانوا من دعاة التنزيه والاختيار ورافضين هذه البدع المستوردة من اليهود بحماس. [ صفحه 315] وقد نجم في ظل العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهجان في مجال المعارف كل يحمل شعارا، فشيعة الإمام وأهل بيته، يحملون شعار التنزيه والاختيار، والأمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر وقد اشتهر من زمان قديم قولهم: " العدل والتنزيه علويان " " الجبر والتشبيه أمويان " فصارت النتيجة في النهاية أن كل محدث متزلف إلي البيت الأموي يحشد أخبار التجسيم والجبر، بلا مبالاة واكتراث، لكن الواعين من أمة محمد الموالين لأهل بيته، يتجنبون عن نقل تلك الإثارة. قال الرازي في تفسير قوله: (ليس كمثله شئ): احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية علي نفي كونه جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء، حاصلا في المكان والجهة قالوا: لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشياء وذلك باطل بصريح قوله تعالي: (ليس كمثله شئ) - إلي أن قال: - واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: " نحن نثبت لله وجها ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفي

عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال: إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوها، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب، ثم قال: ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له: [ صفحه 316] وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه ". إلي أن قال: وأقول: هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين، وعلماء التوحيد حققوا الكلام فيالمثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذا الآية [571] . وليس ابن خزيمة أول أو آخر محدث تأثر بهذه البدع بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث، منهم: 1 - عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني صاحب المسند (توفي عام 280 ه) صاحب النقض يقول فيه: إن الله فوق عرشه وسماواته. 2 - خشيش بن اصرم مؤلف كتاب الاستقامة، يعرفه الذهبي بأنه كان صاحب سنة وأتباع يرد فيه علي أهل البدع ويريد منه أهل التنزيه الذين يرفضونأخبار التشبيه (توفي عام 253 ه) [572] . 3 - أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي قال: " سألت الدارقطني عن الأزهري، فقال: هو أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث، سجستاني منكر الحديث، لكنبلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه وكفي بهذا فخرا " [573] . يلاحظ عليه أنه: كفي بهذا ضعفا، لأن ابن خزيمة هذا رئيس المجسمة والمشبهة، ومنه يعلم حال السجستاني، والجنس إلي الجنس يميل.

[ صفحه 317] 4 - محمد بن إسحاق بن خزيمة (223 - 311 ه). وقد ألف " التوحيد وإثبات صفات الرب " [574] ، وكتابه هذا مصدر المشبهة والمجسمة في العصور الأخيرة، وقد اهتمت به الحنابلة، وخصوصا الوهابية، فقاموا بنشره علي نطاق وسيع، وسيوافيك بعض أحاديثه. 5 - عبد الله بن أحمد بن حنبل (213 - 290 ه)، يروي أحاديث أبيه (الإمام أحمد بن حنبل)، وكتابه " السنة " المطبوع لأول مرة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام 1349 ه، مشحون بروايات التجسيم والتشبيه، يروي فيه ضحك الرب، وتكلمه وإصبعه، ويده، ورجله، وذراعيه، وصدره وغير ذلك مما سيمر عليك بعضها. وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالإسرائيليات والمسيحيات جرت الويل علي الأمة وخدع بها المغفلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.

الرؤية في كلمات الإمام علي

إن المراجع إلي خطب الإمام علي (عليه السلام) في التوحيد وما أثر عن أئمة العترة الطاهرة، يقف علي أن مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية وإنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون؟! وإليك نزرا يسيرا مما ورد في هذا الباب: 1 - قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبة الأشباح: " الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شئ قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شئ بعده، والرادع أناسي [ صفحه 318] الأبصار عن أن تناله أو تدركه " [575] . 2 - وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): " أفأعبد ما لا أري؟ " فقال: وكيف تراه؟ فقال: " لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غيرملابس، بعيد منها غير مبائن " [576] . 3 - وقال (عليه

السلام): " الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويهالمشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر " [577] . إلي غير ذلك من خطبه (عليه السلام) المطفوحة بتقديسه وتنزيهه عنإحاطة القلوب والأبصار به [578] . وأما المروي عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه " الكافي " بابا خاصا للموضوع روي فيه ثمان روايات [579] ، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد بابا لذلك روي فيه إحدي وعشرين رواية، يرجع قسم منها إلي نفي الرؤية الحسية البصرية وقسم منها يثبت رؤيةمعنوية قلبية سنشير إليه، وفي الكل نور للقلوب وشفاء للصدور [580] . إكمال: إن للإمام الطاهر علي بن موسي الرضا (عليه السلام) احتجاجا في المقام علي مقال المحدث أبي قرة حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر " كعب الأحبار ": من أنه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيين كما تقدم. [ صفحه 319] فقال أبو قرة: فإنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم لموسي (عليه السلام) الكلام، ولمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم) الرؤية. فقال أبو الحسن (عليه السلام): " فمن المبلغ عن الله إلي الثقلين الجن والإنس إنه (لا تدركه الأبصار)، (لا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شئ) أليس محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ " قال: بلي. قال أبو الحسن (عليه السلام): " فكيف يجئ رجل إلي الخلق جميعا فيخبرهم إنه جاء من عند الله، وإنه يدعوهم إلي الله بأمر الله، ويقول: إنه (لا تدركه الأبصار)، (لا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شئ) ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو علي صورة البشر، أما تستحيون؟ أما قدرت الزنادقة

أن ترميه بهذا: أن يكون أتي عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ". فقال أبو قرة: إنه يقول: (ولقد رآه نزلة أخري) (النجم - 13). فقال أبو الحسن (عليه السلام): " إن بعد هذه الآية ما يدل علي ما رأي حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأي) (النجم - 11) يقول: ما كذب فؤاد محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأت عيناه فقال: (لقد رأي من آيات ربه الكبري) (النجم - 18) ف آيات الله غير الله، وقال: (ولا يحيطون به علما) (طه - 110) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة ". فقال أبو قرة: فتكذب بالرواية؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): " إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه إنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثلهشئ " [581] . [ صفحه 320]

الرؤية في منطق العلم والعقل

اشاره

إن الرؤية في منطق العلم والعقل لا يتحقق إلا إذا كان الشئ مقابلا أو حالا في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإن القدماء كانوا يفسرون الرؤية علي النحو التالي: خروج الشعاع من العين وسقوطه علي الأشياء ثم انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلي العين لكي تتحقق الرؤية. ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلي العين عن طريق عدستها وسقوطها علي شبكية العين فتحقق الرؤية. وعلي كل تقدير فالضرورة قاضية علي أن الإبصار بالعين متوقف علي حصول المقابلة بين العين والمرئي، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة. وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا

كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشئ عن المقابلة أو الحلول في المقابل. وبعبارة واضحة: أن العقل والنقل اتفقا علي كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشئ في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا [ صفحه 321] يتعلق إلا بالمحسوس لا بالمجرد. ثم إن الرازي أراد الخدش في هذا الأمر البديهي ولكنه رجع خائبا واعترض علي هذا الاستدلال بوجهين: الأول: أن ادعاء الضرورة والبداهة علي امتناع رؤية الموجود المنزه عن المكان والجهة أمر باطل، لأنه لو كان بديهيا لكان متفقا عليه بين العقلاء وهذا غير متفق عليه بينهم، فلا يكون بديهيا ولذلك لو عرضنا قضية أن الواحد نصف الاثنين لا يختلف فيه اثنان، وليست القضية الأولي في البداهة في قوة القضيةالثانية [582] . يلاحظ عليه: بأنه خفي علي الرازي أن للبداهة مراتب مختلفة، فكون نور القمر مستفادا من الشمس قضية بديهية ولكن أين هذه البداهة من بداهة قولنا: الواحد نصف الاثنين؟ أضف إلي ذلك أن العقلاء متفقون علي لزوم المقابلة أو حكمها علي تحقق الرؤية، وإنما خالف فيه، أمثال من خالف القضايا البديهية كالسوفسطائيين حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنهم كانوا يعدون من الطبقات العليا في المجتمع اليوناني. الثاني: أن المقابلة شرط في الرؤية في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك وتحقيقه، هو أن ذات الله تعالي مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عن حضور هذه الشرائط، كونه واجبا في الغائبعند حضورها [583] . هذا كلامه في كتاب الأربعين ويقول في تفسيره: " ألم تعلموا

أن ذاته تعالي مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شئ ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب أن القائلين بالامتناع يدعون الفطنة والكياسة ولم يتنبه أحد [ صفحه 322] لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام " [584] . يلاحظ عليه: أن الرازي غفل عن أن الرؤية من الأمور الإضافية القائمة بالرائي والمرئي فالتقابل من لوازم الرؤية بما هي هي، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيوانا أو إنسانا لا مدخلية له في هذا الموضوع، فافتراض نفس الرؤية وتعلقها بالشئ وغض النظر عن الرأي وخصوصيات المرئي يجرنا إلي أن القول بأن الرؤية رهن التقابل أو حكمه. وذلك لأن الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية، هو نفسها، بما هي هي، والموضوع متحقق في الشاهد والغائب، والمادي والمجرد، فاحتمال انفضاض الحكم باختلاف المرئي، يناقض ما حكم به باتا بأن الرؤية بما هي هي لا تنفك عن التقابل، فإنه أشبه بقول القائل: إن نتيجة 2 + 2، هو الأربعة، لكن إذا كان المعدود ماديا لا مجردا، ويرد بأن الموضوع نفس اجتماع العددين وهو متحقق في كلتا الصورتين. وبكلمة موجزة: إن الرؤية بالعين رابطة مادية بين العين والمرئي وهي تتوقف علي كون المرئي ماديا والله سبحانه منزه عن المادة. أضف إلي ذلك ماذا يريد من الغائب، هل يريد الموجود المجرد عن المادة ولوازمها؟ فبداهة العقل تحكم بأن المنزه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصور أن يقع طرفا للمقابلة. وإن أراد منه الغائب عن الأبصار مع احتمال كونه جسما أو ذا جهة، فذلك إبطال للعقيدة الإسلامية الغراء التي تبنتها الأشاعرة وحتي الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير

موضع في تفسيره. ولقائل يسأل الرازي، إنه لو لو وقعت الرؤية علي ذاته سبحانه فهل تقع علي كله أو بعضه فلو وقعت علي الكل يكون محاطا لا محيطا وهذا باطل بالضرورة، ولو وقعت علي الجزء فيكون، ذا جزء مركبا. ومما ذكرنا يتميز الفطن عن الغبي، والكلام الرصين عن الركيك فلاحظ. [ صفحه 323]

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية
اشاره

إن مفكري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لما وقعوا أمام هذا الدليل ذهبوا يمينا ويسارا للجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك:

الرؤية بلا كيف

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربما يعبر عنه خصومهم ب " البلكفة " ومعناه أن الله تعالي يري بلا كيف وأن المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف، أي منزها عن المقابلة والجهة والمكان. يلاحظ عليه: أن تمني الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب علي جسم بطل، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلا للرائي ولا متحققا في مكان ولا متحيزا في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟ والحق أن قول الأشاعرة كأهل الحديث: " بلا كيف "، مهزلة لا يعتمد عليها فإن الكيفية ربما تكون من مقومات الشئ ولولاها لما كان عنه أثر، فمثلا يقولون: إن لله يدا ورجلا وعينا وسمعا بلا كيف، ويصرحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية. وهذا كما تري فإن اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية، فإثبات اليد لله بالمعني اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساويا لنفي معناه اللغوي ويكون راجعا إلي تفسيرها بالمعاني المجازية التي تفرون منها فرار المزكوم من المسك، ومثله القدم والوجه وبعبارة أخري: أن الحنابلة والأشاعرة يصرون علي أن الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه، في الكتاب والسنة، يجب أن تفسر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها علي معانيها المجازية [ صفحه 324] كالقدرة في اليد مثلا ولما رأوا أن ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلي قولهم: يد بلا كيف، ولكنهم ما دروا أن الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقومة

لمفاهيمها فنفي الكيفية يساوق نفي المعني اللغوي فكيف يمكن الجمع بين المعني اللغوي والحمل عليه بلا كيف، ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإن التقابل، مقوم لمفهومها فإثباتها بلا كيف، يلازم نفي أصل الرؤية وقد عرفت أن الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم -وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلامية [585] .

اختلاف الأحكام باختلاف الظروف

إن بعض المثقفين من الجدد لما وجدوا في بواطن عقولهم أن الرؤية لا تنفك عن الجهة، التجأوا إلي القول بأن كل شئ في الآخرة غيره في الدنيا، ولعل الرؤية تتحقق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. يلاحظ عليه: بأنه رجم بالغيب، فإن أرادوا من المغايرة بأن الآخرة ظرف للتكامل وأن الأشياء توجد في الآخرة بأكمل الوجود وأمثله، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها) (البقرة - 25)، إن أرادوا أن القضايا العقلية البديهية تتبدل في الآخرة إلي نقيضها فهذا يوجب انهيار النظم الكلامية والفلسفية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكرون من أتباع الشرائع وغيرهم، إذ معني ذلك أن النتائج المثبتة في جدول الضرب سوف تتبدل في الآخرة إلي ما يباينها فتكون النتيجة ضرب 2ضربدر2 = 5 أو 10 أو... وإن قولنا: " كل ممكن يحتاج إلي علة " يتبدل في الآخرة إلي أن الممكن غني عن العلة، فعند ذلك لا يستقر حجر علي حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الإنسان سوفسطائيا مائة بالمائة. [ صفحه 325]

عدم الاكتراث عن إثبات الجهة

إن أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة، نري أنهم يدعمون شباب الجامعات وخريجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا وهناك أمورا حول الرؤية وبالتالي خرجوا بنتيجة إثبات الجهة لله حتي يتسني لهم إثبات الرؤية، وهذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي: يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أم القري: إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير

مقابلة أو جهة، مكابرة عقلية لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ومع هذا الاعتراف تخلص عن الالتزام بإثبات الجهة لله ويقول: إن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالي ورد في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالي من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالي، ولا يقدح هذا في التنزيه لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالي من صفات الكمال. أما لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتهابالنص فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ [586] . يلاحظ عليه: أولا: من أين يدعي أن الكتاب والسنة أثبت العلو لله الذي هو مساوق للجهة فإن أراد قوله سبحانه: (ثم استوي علي العرش) فقد حقق في محله بأن استواءه علي العرش كناية عن استيلائه علي السماوات والأرض، وعدم عجزه عن [ صفحه 326] التدبير، وأين هو من إثبات العلو لله؟! فقد أوضحنا مفاد هذه الآيات فيأسفارنا الكلامية [587] . وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسمة والمشبهة، فكلها بدع يهودية أو مجوسية تسربت إلي المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ثانيا: إذا افترضنا صحة كونه موجودا في جهة عالية ينظر إلي السماوات والأرض فكيف يكون محيطا بكل شئ وموجودا مع كل شئ؟ فإذا كان هذا معني التنزيه فسلام الله علي التجسيم، ونعم ما قال شاعر المعرة: ويا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل أقول: إن الذي كانت تستهدفه رسالات السماء كان يتلخص في توحيده سبحانه وأنه واحد لا نظير له ولا مثيل أولا، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات

ثانيا. لكن أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين، فقالوا بحماس، بقدم القرآن وعدم حدوثه فأثبتوا بذلك مثلا لله في الأزلية وكونه قديما كقدمه سبحانه. وأثبتوا لله سبحانه العلو والجهة اغترارا ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات. فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليين: 1 - التوحيد بالقول بقدم القرآن. 2 - التنزيه بإثبات الجهة والرؤية. (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا). (النحل / 92) [ صفحه 327]

موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالا

اشاره

إن الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلي أنه منزه عن الجسم والجسمانية، وأنه ليس له مثل ولا نظير، ولا ند ولا كفو، وأنه محيط بكل شئ، ولا يحيطه شئ إلي غير ذلك من الصفات المنزهة التي يقف عليها الباحث من جمع الآيات الواردة في هذا المجال وبدورنا نشير إلي بعض منها: قال سبحانه: 1 - (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (الشوري - 11). 2 - (قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد ولم يولد - ولم يكن له كفوا أحد) (الإخلاص: 1 - 4). 3 - (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم) (الحديد - 3). 4 - (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) (الحديد - 4). [ صفحه 328] 5 - (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام

المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) (الحشر - 23). 6 - (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) (الحشر - 24). 7 - (ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم) (المجادلة - 7). 8 - (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط) (فصلت - 54). 9 - (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) (البقرة - 255). 10 - (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام - 103). وحصيلة هذه الآيات أنه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل، وهو أحد لا كفو له، لم يلد ولم يولد بل هو أزلي، فبما أنه أزلي الوجود، فوجوده قبل كل شئ أي لا وجود قبله، وبما أنه أبدي الوجود فهو آخر كل شئ إذ لا وجود بعده، وبما أنه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شئ، كما أن النظام البديع دليل علي وجوده فهو ظاهر كل شئ. لا يحويه مكان لأنه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان، فكان قبل أن يكون أي مكان، وبما أن العالم دقيقه وجليله، فقير محتاج إليه

قائم به، فهو [ صفحه 329] مع الأشياء معية قيومية لا معية مكانية، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضي كونه قيوما وما سواه قائما به ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عما قام به، وفي النهاية هو محيط بكل شئ لا يحيطه شئ، فقد أحاط كرسيه السماوات والأرض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أفقها ولكنه لكونه محيطا يدرك الأبصار. هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها علي وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد علمت أن من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئا في السنة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صح السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح فمن تلا هذه الآيات وتدبر فيها، يحكم بأنه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه، وعند ذلك لو قيل له: إنه جاء في الأثر أنكم سترون ربكميوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته [588] . يتلقاه أمرا مناقضا لما تلا من الآيات أو استمع إليها، ويحدث في نفسه ويقول: " الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان، محيط بالسموات والأرض كيف يري يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنه كان ولا علو ولا جهة بل هو خالقهما، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شئ؟!. ولا يكون التناقض

بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، وكلما حاول القائل بالرؤية [ صفحه 330] الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية، ومن جرد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يري التعريفين متصادمين فأين القول بأنه سبحانه بعيد عن الحس والمحسوسات، منزه عن الجهة والمكان، محيط بعوالم الوجود من تنزله سبحانه منزلة الحس والمحسوسات، واقعا بمرأي ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر، يشاهده في أفق عال وقد تعرفت في التمهيد علي أن السهولة في العقيدة وخلوها عن الألغاز من سمات العقيدة الإسلامية، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصاري بين كونه واحدا وثلاثا. هذا من جانب، ومن جانب آخر نري أنه سبحانه كلما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقي سؤالها وتمنيها من الإنسان أمرا فظيعا وقبيحا وتطلعا إلي ما هو دونه. 1 - قال سبحانه: (وإذ قلتم يا موسي لن نؤمن لك حتي نري الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون - ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) (البقرة - 55 - 56). 2 - وقال سبحانه: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسي سلطانا مبينا) (النساء - 153). 3 - وقال سبحانه: (ولما جاء موسي لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلي الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما

تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) (الأعراف - 143). [ صفحه 331] 4 - وقال سبحانه: (واختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) (الأعراف - 155). فالمتدبر في هذه الآيات يقضي بأن القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبحه ويعد الإنسان قاصرا عن أن ينالها علي وجه ينزل العذاب غب سؤالها. فلو كانت الرؤية أمرا ممكنا ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطف عليهم بأنكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنا نري أنه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسي، كما أن موسي لما طلب الرؤية وأجيب بالمنع تاب إلي الله سبحانه وقال: (أنا أول المؤمنين) بأنك لا تري. فإذا كانت الرؤية نعمة عظمي كما يدعيها القوم، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها غاية الأمر، يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا. فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد بل وإماتة وإنزال عذاب يدل بوضوح علي أن الرؤية فوق قابلية الإنسان، وطلبه إليها أشبه بالتطلع إلي أمر محال. فعند ذلك لو قيل للمتدبر بالآيات: إنه روي قيس بن أبي حازم أنه حدثه جرير وقال: خرج علينا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ليلة البدر فقال:" إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته " [589] . يجد الحديث مناقضا لما ورد في هذه الآيات ويحدث في نفسه أنه كيف

صار الأمر الممتنع أمرا ممكنا، والإنسان غير المؤهل علي الرؤية مؤهلا لها. إن هنا محاولتين، للتخلص من التضاد الموجود بين الآيات، وخبر قيس بن أبي حازم الدال علي وقوع الرؤية في الآخر نأتي بهما. [ صفحه 332]

ان تعارض الآيات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد

فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الأولي علي الحياة الحاضرة، والثانية علي الحياة الآخرة [590] . يلاحظ عليه: بأن الجمع بين الآيات والرواية علي نحو ما ذكر أشبه بمحاولة فقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق، فيجمع بينهما بحمل المطلق علي المقيد، ولو صح ما ذكر فإنما هو في المسائل الفرعية لا العقائدية، وليست الآيات الواردة فيها كالمطلق، والحديث كالمقيد، بل هي بصدد بيان العقيدة الإسلامية علي أنه سبحانه فوق أن تناله الرؤية وإن من تمناها فإنما تمني أمرا محالا. والدافع إلي هذا الجمع إنما هو تزمتهم بالروايات وتلقيهم صحيح البخاري وغيره صحيحا علي الإطلاق لا يقبل النقاش والنقد، فلم يكن لهم محيص من المعاملة بالروايات والآيات معاملة الإطلاق والتقيد، ولأجل ذلك فكلما تليت هذه الآيات للقائلين بالجواز يجيبون بأن الجميع يعود إلي هذه الدنيا ولا صلة له بالآخرة، ولكنهم غافلون عن أن الآيات تهدف في تنديدها و توبيخها إلي ملاحظة طلب نفس الرؤية بما هي هي، بغض النظر عن الدنيا والآخرة، ولا صلة لها بظرف السؤال، فحمل تلك الآيات علي ظرف خاص تلاعب بالكتاب العزيز وتقديم للسنة علي القرآن واعتماد علي الظن مكان وجود القطع واليقين. وأيمن الله لو لم يكن في الصحاح حديث قيس بن أبي حازم وغيره لما كان لديهم أي وازع علي تأويل الآيات. [ صفحه 333]

لقد تصدي أبوالحسن الأشعري للإجابة عن الآيات الأخيرة

وزعم أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا قال: " إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل علي طريق الإنكار لنبوة موسي وترك الإيمان به حتي يروا الله لأنهم قالوا: (لن نؤمن لك حتي نري الله جهرة) فلما سألوه الرؤية علي طريق ترك الإيمان بموسي (عليه السلام)

حتي يريهم الله من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتيينزل عليهم من السماء كتابا [591] . يلاحظ عليه أولا: أن ما ذكره من أن الاستعظام لأجل كون طلبهم كان عن عناد، وتعنت لا لطلب معجزة زائدة، لو صح فإنما يصح في غيره هذه الآيات، أعني في قوله سبحانه: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نري ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا) (الفرقان - 21) لا في ما تلوناه من الآيات فإن الظاهر منها أن الاستعظام والاستفظاع راجعان إلي نفس السؤال بشهادة قوله: (فقد سألوا موسي أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) (النساء - 153) والذي يوضح ذلك أن التوبيخ والتنديد راجعان إلي نفس السؤال، مع غض النظر عن سبب السؤال وهل هو لغاية زيادة العلم أو للعتو؟ أمور: 1 - أنه سبحانه سمي سؤالهم ظلما وتعديا عن الحد. 2 - أن موسي سمي سؤالهم، سؤالا سفيها. 3 - عندما طلب موسي الرؤية أجيب بالخيبة والحرمان، ولم يكن سؤاله عن [ صفحه 334] عناد واستكبار ولو كانت الخيبة مختصة بالدنيا، كان عليه سبحانه، الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الآخرة. وثانيا: أنه سبحانه وإن جمع في آية سورة النساء [592] ، بين نزول الكتاب من السماء عليهم، ورؤية الله جهرة، لكن كون الأول أمرا ممكنا لا يكون دليلا علي كون الثاني مثله، وذلك لأن وجه الشبه بين الأمرين ليس الإمكان أو الاستحالة حتي

يكونا مشاركين فيهما بل هو طلب أمر عظيم، وشئ ليسوا مستأهلين له، فلا يكون إمكان الأول دليلا علي إمكان الثاني. علي أن قوله سبحانه: (فقد سألوا موسي أكبر من ذلك)، مشير إلي الفرق بين الطلبين مع المشاركة في أمر الاستعظام وهو استحالة الثاني، دون الأول ولذا أسماه: أكبر. وبذلك يقف علي ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره، لكونه مأخوذا من كلام إمامه الأشعري. ونقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفح وناقشه بوجه غير تام [593] . [ صفحه 335]

رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين

لا تدركه الأبصار

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالا، وإنه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمرا فظيعا، قبيحا موجبا لنزول الصاعقة والعذاب، والآيات السالفة وضحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن علي وجه الإجمال، غير أنا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات، نقف علي قضاء الكتاب في أمر الرؤية علي وجه التفصيل وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق، وتحليله حتي نتأكد مما فهمنا من الكتاب العزيز وإليك البيان: قال سبحانه: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو علي كل شئ وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام: 102 - 103) تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين: [ صفحه 336]

في بيان مفهوم الدرك لغة

الدرك في اللغة: اللحوق والوصول وليس بمعني الرؤية، ولو أريد منه الرؤية فإنما هو باعتبار قرينية المتعلق، قال ابن فارس: الدرك له أصل واحد (أي معني واحد) وهو لحوق الشئ بالشئ ووصوله إليه، يقال: أدركت الشئ، أدركه إدراكا، ويقال: أدرك الغلام والجارية إذا بلغا، وتدارك القوم: لحق آخرهم أولهم، فأما قوله تعالي: (بل ادارك علمهم في الآخرة) (النمل / 66) فهو منهذا، لأن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم [594] . وقال ابن منظور مثله، وأضاف: ففي الحديث " أعوذ بك من درك الشقاء " أي لحوقه يقال: مشيت حتي أدركته، وعشت حتي أدركته وأدركته ببصري أيرأيته [595] . إذا كان الدرك بمعني اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة فالإدراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور: " مشيت حتي أدركته " التحاق الماشي بالمتقدم بالمشي وهكذا غيره. فإذا قال سبحانه: (لا تدركه الأبصار) يتعين ذلك المعني الكلي (اللحوق والوصول) بالرؤية ويكون

معني الجملة أنه سبحانه تفرد بهذا الوصف تعالي عن الرؤية دون غيره.

في بيان مفهوم الآيتين

إنه سبحانه لما قال: (وهو علي كل شئ وكيل) ربما يتبادر إلي بعض [ صفحه 337] الأذهان أنه إذا صار وكيلا علي كل شئ يكون جسما قائما بتدبير الأمور الجسمانية فدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلا لكل شئ (لا تدركه الأبصار). ولما يتبادر من ذلك الوصف إلي بعض الأذهان أنه إذا تعالي عن تعلق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط الإدراك، والعلم بينه وبين مخلوقاته دفعه بقوله: (وهو يدرك الأبصار) ثم علل بقوله: (وهو اللطيف الخبير) و " اللطيف " هو الرقيق النافذ في الشئ و " الخبير " من له الخبرة الكاملة فإذا كان تعالي محيطا بكل شئ لرقته ونفوذه في الأشياء، كان شاهدا علي كل شئ، لا يفقده ظاهر كل شئ وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شئ عن شئ أو يحتجب عنه شئ بشئ. وبعبارة أخري أن الأشياء في مقام التصور علي أصناف: 1 - ما يري ويري، كالإنسان. 2 - ما لا يري ولا يري، كالأعراض النسبية كالأبوة والبنوة. 3 - ما يري ولا يري، كالجمادات. 4 - ما يري ولا يري وهذا القسم تفرد به خالق جميع الموجودات بأنه يري ولا يري والآية بصدد مدحه وثنائه، بأنه جمع بين الأمرين يري ولا يري لا بالشق الأول وحده نظير قوله سبحانه: (فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم) (الأنعام - 14) ودلالة الآية علي أنه سبحانه لا يري بالأبصار بمكان من الوضوح، غير أن للرازي ومن لف لفه تشكيكات نأتي بها مع تحليلها. الشبهة الأولي:

1 - أن الآية في مقام المدح فإذا كان الشئ في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من [ صفحه 338] عدم رؤيته مدح وتعظيم للشئ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر علي حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة عليالمدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة علي أنه جائز الرؤية حسب ذاته [596] . إن هذا التشكيك يحط من مقام الرازي فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك، وذلك لأنه زعم أن المدح بالجملة الأولي، أعني قوله سبحانه: (لا تدركه الأبصار) وغفل عن أن المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية، بمعني أنه سبحانه لعلو منزلته لا يدرك وفي الوقت يدرك غيره، وهذا ظاهر لمن تأمل في الآية ونظيرتها أي يطعم ولا يطعم، فهل يرضي الرازي بأنه سبحانه يمكن له الأكل والطعم. الشبهة الثانية: إن لفظ الأبصار صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق فقوله: (لا تدركه الأبصار) بمعني لا يراه جميع الأبصار، وهذا يفيد سلبالعموم ولا يفيد عموم السلب [597] . يلاحظ عليه: أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار نظير قوله سبحانه: (إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة / 190) وقوله سبحانه: (فإن الله لا يحب الكافرين) (آل عمران - 32) وقال سبحانه: (والله لا يحب الظالمين) (آل عمران - 57). يقول الإمام علي (عليه السلام): " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا [ صفحه 339] يناله غوض الفطن " [598] . فهل يحتمل الرازي في هذه الآيات والجمل سلب

العموم وأنه سبحانه لا يحب جميع المعتدين والكافرين والظالمين ولكن يحب بعض المعتدين والكافرين والظالمين، أو أن بعض القائلين يبلغون مدحته، ويحصون نعماءه. وهذا دليل علي اتخاذ الرازي للموقف المسبق، ثم دراسة القرآن لأجل دعمه، وهو آفة لفهم الصحيح من الكتاب. الشبهة الثالثة: الإدراك هو الإحاطة: إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فصله، والرازي في مفاتيح الغيب، وابن قيم في كتاب حادي الأرواح إلي بلاد الأفراح [599] ، وقد أسهبوا الكلام في تطوير الشبهة ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها وإنما نشير إلي المهم من كلماتهم. وبما أن الأساس - لكلام هؤلاء - هو ابن حزم الظاهري نذكر نص كلامه أولا، قال: إن الإدراك في اللغة يفيد معني زائد علي النظر، وهو بمعني الإحاطة وليس هذا المعني في النظر والرؤية، فالإدراك (الإحاطة) فيض عن الله تعالي علي كل حال في الدنيا والآخرة والدليل علي ذلك قوله سبحانه: (فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون - قال كلا إن معي ربي سيهدين) ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالي أثبت الرؤية بقوله: (فلما تراءا الجمعان) وأخبر تعالي بأنه رأي بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل، ولكن نفي الله الإدراك، بقول موسي (عليه السلام) لهم: (كلا إن معي ربي سيهدين) فأخبر تعالي أنه رأي أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركهم، ولا [ صفحه 340] شك في أن ما نفاه الله تعالي غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا قول الله تعالي [600] . يلاحظ عليه: أن الشبهة تعرب عن أن صاحبها لم يقف علي كيفية الاستدلال بالآية علي نفي الرؤية فزعم أن أساسه هو كون الإدراك في اللغة بمعني

الرؤية فرد عليه بأنه ليس بمعني الرؤية بشهادة أنه سبحانه جمع في الآية بين إثبات الرؤية ونفي الدرك، ولكنه غفل عن أن مبدأ الاستدلال ليس ذلك وقد قلنا سابقا: إن الإدراك في اللغة بمعني اللحوق والوصول وليس بمعني الرؤية ابتداء، وإنما يتعين في النظر والرؤية حسب المتعلق، ولأجل ذلك لو جرد عن المتعلق - كما في الآية - لا يكون بمعني الرؤية، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفي الدرك، لأن الدرك هناك بحكم عدم المتعلق كالبصر بمعني اللحوق والوصول فقد وقع التراءي بين الفريقين ورأي فرعون وأصحاب بني إسرائيل ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقونهم. وعلي ضوء ذلك إذا جرد عن المتعلق بمثل البصر والسمع يكون بمعني اللحوق، وإذا اقترن بمتعلق مثل البصر يتعين في النظر والرؤية لكن علي وجه الإطلاق من غير تقيد بالإحاطة. فبطل قوله " بأن الإدراك يدل علي معني زائد علي النظر وهو الإحاطة "، بل الإدراك مجردا عن القرينة لا يدل علي الرؤية أبدا، ومع اقتران القرينة و وجود المتعلق يدل علي الرؤية والنظر علي وجه الإطلاق من غير نظر إلي الفرد الخاص منها أعني الرؤية. وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلي شئ. [ صفحه 341] حيث قال: لا نسلم أن إدراك البصر تعبير عن الرؤية بل هو بمعني الإحاطة، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار إحاطة به فسمي هذه الرؤية إدراكا، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكا، فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان، رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة. والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي

الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفس الجنس، فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالي نفي الرؤية عنه، ثم قال: فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض علي كلامالخصم [601] . يلاحظ عليه: بأن ما ذكره الرازي افتراء علي اللغة حفاظا علي المذهب وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي، ولولا أن الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرأ بذلك التصرف. نسأله: ما الدليل علي أن الإدراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعني الإدراك الإحاطي، مع أننا نجد خلافه في الأمثلة التالية، نقول: أدركت طعمه، أو ريحه، أو صوته، فهل هذه بمعني أحطنا إحاطة تامة عليها، أو أنه بمعني مجرد الدرك بالأدوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الإحاطة، مثل قولهم أدرك الرسول، فهل هو بمعني الإحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرة أو مرتين، ولم يفسره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي. وحاصل الكلام أن اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الإدراك كالبصر والسمع يحمل المعني الكلي أي اللحوق والوصول علي الرؤية والسماع سواء كان الإدراك علي وجه الإحاطة أو لا، وأما إذا تجردت اللفظة عن القرينة تكون بمعني نفس اللحوق، قال سبحانه: (حتي إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي [ صفحه 342] آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) (يونس - 90) ومعني الآية: حتي إذا لحقه الغرق ورأي نفسه غائصا في الماء استسلم وقال (آمنت...). وقال سبحانه: (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشي) (طه - 77). أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل وقال سبحانه: (فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون) (الشعراء - 61)

فأثبت الرؤية ونفي الدرك وما ذلك إلا لأن الإدراك إذا جرد عن المتعلق لا يكون بمعني الرؤية بتاتا بل بمعني اللحوق. نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحضا في الرؤية من غير فرق بين نوع ونوع، وتخصيصه، بالنوع الإحاطي لأجل دعم المذهب، افتراء علي اللغة. [ صفحه 343]

الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه

قال سبحانه: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) (طه - 109 - 110). إن الآية تتركب من جزأين: الأول: قوله: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم). الثاني: قوله: (ولا يحيطون به علما). والضمير المجرور في قوله (به) يعود إلي الله سبحانه. ومعني الآية: الله يحيط بهم لأنه (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ويكون معادلا لقوله: (وهو يدرك الأبصار) ولكنهم (لا يحيطون به علما) ويساوي قوله (لا تدركه الأبصار). وأما كيفية الاستدلال فبيانها أن الرؤية سواء أوقعت علي جميع الذات أم علي [ صفحه 344] جزء منه، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه، وقد قال: (ولا يحيطون به علما). ولكن الرازي لأجل التهرب من دلالة الآية علي امتناع رؤيته سبحانه قال: بأن الضمير المجرور يعود إلي قوله: (ما بين أيديهم وما خلفهم) أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم والله سبحانه محيط بما بين أيديهم وما خلفهم. أقول: إن الآية تحكي عن إحاطة علمه سبحانه يوم القيامة بشهادة ما قبلها (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وعندئذ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه: (يعلم ما بين أيديهم) هو الحياة الأخروية الحاضرة وقوله سبحانه: (وما خلفهم) هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة

الأخروية وحينئذ لو رجع الضمير في قوله: (ولا يحيطون به علما) إلي الموصولين يكون مفاد الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين وهو أمر واضح لا حاجة إلي التركيز عليه. وهذا بخلاف إذا رجع إلي " الله " تكون الآية بصدد التنزيه ويكون المقصود أن الله يحيط بهم علما وهؤلاء لا يحيطون كذلك علي غرار سائر الآيات. [ صفحه 345]

رد السؤال بنفي الرؤية مؤبدا

قال سبحانه: (ولما جاء موسي لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلي الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) (الأعراف - 143). استدل - بهذه الآية - النافي والمثبت، ومن المعلوم أنه ليس لها إلا مدلول واحد فكيف يمكن التمسك بها علي قولين متناقضين، وما هذا إلا لأن أحد المستدلين ينظر إلي الآية لا بنية دراستها مجردة عن كل هوي سابق وإنما ينظر إليها ليحتج بها علي ما يتبناه وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عنه بالخبر المتواتر. وبالتالي قل من نظر إليها بموضوعية خالية عن كل رأي مسبق. [ صفحه 346]

مفهوم الآية عند عرضها علي عربي صميم
اشاره

لا شك أننا إذا عرضا الآية علي عربي صميم لم يتأثر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبين الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وأنها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها؟ يجيب بصفاء ذهنه بأن الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وأن سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحي أثره إلا بالتوبة، ففهم ذلك العربي حجة لنا لا يجوز لنا العدول عنها، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلمين أو المجادلين. كما أنا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيرا صناعيا، فلا شك أنه يدل أيضا علي تعاليه عنها وذلك بوجوه:

الاجابة بالنفي المؤبد

لما سأل موسي رؤية الله تبارك وتعالي أجيب ب (لن تراني) والمتبادر من هذه الجملة أي قوله (لن تراني) هو النفي الأبدي الدال علي عدم تحققها أبدا. والدليل علي ذلك هو تتبع موارد استعمال كلمة " لن " في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلفة عن ذلك حتي في مورد واحد. 1 - قال سبحانه: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (الحج - 73). 2 - (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (التوبة - 80). 3 - (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) (محمد - 34). [ صفحه 347] 4 - (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (المنافقون - 6). 5 - (ولن ترضي عنك اليهود ولا النصاري حتي تتبع ملتهم) (البقرة - 120). 6 - (فإن رجعك الله إلي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) (التوبة

- 83). إلي غير ذلك من الآيات الصريحة في أن " لن " تفيد التأبيد. وربما نوقش في دلالة " لن " علي التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح علي مقصود النحاة من قولهم " لن " موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثم نعرض المناقشة عليهما. 1 - إن المراد من التأبيد ليس كون المنفي ممتنعا بالذات بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان، نعم ربما يكون عدم الوقوع مستندا إلي الاستحالة الذاتية. 2 - إن المراد من التأبيد هو النفي البات وهذا قد يكون غير محدد بشئ وربما يكون محددا بظرف خاص، فيكون معني التأبيد، بقاء النفي بحالة ما دام الظرف باقيا. إذا عرفت الأمرين تقف علي وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنه قال: ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة لن للتأبيد، دعوي باطلة، والدليل علي فساده قوله تعالي في حق اليهود: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) (البقرة - 95) قال: وذلك لأنهم يتمنون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار، قال سبحانه: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) (الزخرف - 77) [ صفحه 348] فإن المراد من (ليقض علينا) هو القضاء بالموت [602] . وجه الضعف ما عرفت من أن التأبيد علي قسمين، غير محدد ومحدد بإطار خاص، ومن المعلوم أن قوله سبحانه: (ولن يتمنونه) ناظر إلي التأبيد في الإطار الذي اتخذه المتكلم ظرفا لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنون الموت أبدا، لعلمهم بأن الله سبحانه بعد موتهم يقدمهم للحساب والجزاء ولأجل ذلك لا يتمنوه أبدا قط. وأما تمنيهم الموت بعد ورودهم

العذاب الأليم فلم يكن داخلا في مفهوم الآية الأولي حتي يعد التمني مناقضا للتأبيد. ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربما يقال: إن " لن " لا تدل علي الدوام والاستمرار، بشهادة قوله: (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) إذ لو كانت (لن) تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة (اليوم) لأن اليوم محدد معين، وتأبيد النفي غير محدد ولا معين، ومثله قوله سبحانه علي لسان ولد يعقوب: (فلن أبرح الأرض حتي يأذن لي أبي) حيث حدد بقاءهفي الأرض بصدور الإذن من أبيه [603] . وجه الوهن: أن التأبيد في كلام النحاة ليس مساويا للمعدوم المطلق بل المقصود هو النفي البات الذي لا يشق، والنفي البات الذي لا يكسر ولا يشق علي قسمين: تارة يكون الكلام غير محدد بظرف خاص ولا تدل عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذ يسابق التأبيد المعدوم المطلق، وأخري يكون الكلام محددا بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية فيكون التأبيد محددا بهذا الظرف أيضا، ومعني قول مريم: (فلن أكلم اليوم إنسيا) هو النفي البات في هذا الإطار ولا ينافي تكلمها بعد هذا اليوم. [ صفحه 349] والحاصل أن ما أثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين فتارة حسبوا أن المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربما يكون المدخول أمرا ممكنا كما في قوله (فقل لن تخرجوا معي أبدا) (التوبة - 83) وأخري حسبوا أن التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق فناقشوا بالآيات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفيا مطلقا، ولو أنهم وقفوا علي ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات. وبما أنه سبحانه لم يتخذ لنفي رؤيته ظرفا خاصا،

يكون مدلوله أنه لا تتحقق الرؤية أبدا لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. والحاصل أن الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل ولذلك أمره أن ينظر إلي الجبل عند تجليه، فلما اندك الجبل خر موسي مغشيا عليه من الذعر، ولو كان عدم الرؤية مختصا بالحياة الدنيا لما احتاج إلي هذا التفصيل بل كان في وسعه سبحانه أن يقول لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة فاصبر حتي يأتيك وقته، والإنسان مهما بلغ كمالا في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي خلق عليها وقد بين سبحانه أنه خلق ضعيفا.

تعليق الرؤية علي أمر غير واقع

علق سبحانه الرؤية علي استقرار الجبل وبقائه علي الحالة التي هو عليها عند التجلي. وعدم تحوله إلي ذرات ترابية صغار بعده، والمفروض أنه لم يبق علي حالته السابقة وبطلت هويته وصار ترابا مدكوكا فإذا انتفي المعلق عليه (بقاء الجبل علي حالته) ينتفي المعلق، وهذا النوع من الكلام، طريقه معروفة، حيث يعلقون وجود الشئ بما يعلم أنه لا يكون، والله سبحانه بما أنه يعلم أن الجبل لا يستقر في مكانه - بعد التجلي - فيعلق الرؤية علي استقراره، حتي يستدل بانتفائه [ صفحه 350] علي انتفائه قال سبحانه: (ولا يدخلون الجنة حتي يلج الجمل في سم الخياط) (الأعراف - 40). والحاصل أن المعلق عليه هو وجود الاستقرار بغض النظر عن كونه أمرا ممكنا أو مستحيلا، والمفروض أنه لم يستقر فبانتفائه ينتفي ما علق عليه وهو الرؤية، وبالإمعان فيما ذكر تستغني عن جل ما ذكره المتكلمون من المعتزلة و الأشاعرة حول المعلق عليه [604] . ولإراءة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي قال: إنه تعالي علق رؤيته علي أمر جائز والمعلق

علي الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة بدليل قوله: (فإن استقر مكانه فسوف تراني) واستقرار الجبل أمر جائزالوجود في نفسه فثبت أنه تعالي علق رؤيته علي جائز الوجود في نفسه... [605] . يلاحظ عليه: أن المعلق عليه، ليس إمكان الاستقرار وكونه أمرا ممكنا مقابل كونه أمرا محالا عليه حتي يكون أمرا حاصلا، ويلزم عليه وجود المعلق أعني الرؤية مع أن المفروض عدمها بل المعلق عليه بقاء الجبل علي ما كان عليه، إذ لو كان المعلق عليه إمكان الاستقرار فقد كان بحالته التي كان عليها حين التكلم، والمفروض أنه لم يبق عليها بل دك وصار ترابا مستويا بالأرض.

تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية

تذكر الآية بأن موسي لما أفاق فأول ما تكلم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه [ صفحه 351] وقال (سبحانك) وذلك لأن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص فنزه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها. ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربما يقال: إن المراد هو تنزيه الله وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه الفناء، حتي لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله ورسوله في دار الآخرة، وليست الرؤية من النقائص علي ما يدعيه نفاتها فهي ليست نقصا في المخلوق بل هي كمال، وكلكمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق، فالخالق أولي [606] . يلاحظ عليه: بأنه من أين وقف علي اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء، مع إطلاق الآية ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحملها، الوجود الإمكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين. وما ذكره في آخر كلامه من أن كل كمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولي به صحيح من حيث

الضابطة والقانون، لكنه باطل من حيث التطبيق علي المورد، فإن ما يوصف به المخلوق علي قسمين فمنه ما يكون كمالا له ككونه عالما قادرا حيا سميعا بصيرا فالله أولي بأن يوصف به، ومنه ما لا يكون كمالا له ككونه مرئيا للغير، فلا يوصف به سبحانه ولو افترضنا كونه كمالا في الأول فهو موجب للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلي المكان، تعالي عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وكان الأولي للكاتب وأشياخه فروخ الحشوية أن لا يخوضوا في أغوار هذه المسائل التي ما شمها ولا ولج بابها، لا هو ولا شيوخه. إذا لم تستطع أمرا فدعه - وجاوزه إلي ما تستطيع. [ صفحه 352]

توبته لأجل طلب الرؤية

إنه (عليه السلام) بعد ما أفاق، أخذ بالتنزيه أولا والتوبة والإنابة إلي ربه ثانيا، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله كما أن الظاهر من قوله: (وأنا أول المؤمنين) أنه أول المصدقين بأنه لا يري بتاتا. إن للباقلاني - أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري - كلاما في تفسير التوبة، أشبه بالتفسير بالرأي قال: يحتمل أن موسي تاب لأجل أنه ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأي، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذهالمسألة العظيمة [607] . كل ما ذكره وجوه لا يتحملها ظاهر الآية وإنما تورط فيها لأجل دعم المذهب وهذا هو الذي ندد به النبي الأكرم وقال: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " ومثله قول الرازي في تفسير قوله: (وأنا أول المؤمنين) بأنه لا يراك أحد في الدنيا، أو أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك [608] .

شبهتان للمخالف

قد تقدم أن الآية استدل بها النفاة والمثبتون وقد تعرفت علي استدلال النافين وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالا علميا، وإنما يرجع محصل كلامهم إلي إبداء شبهتين نأتي بهما: [ صفحه 353]

لو كانت ممتنعة لما سألها الكليم

إن الآية دالة علي أن موسي (عليه السلام) سأل الرؤية ولا شك أن موسي (عليه السلام) يكون عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع علي الله تعالي، فلو كانت الرؤية ممتنعة علي الله تعالي لما سألها وحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزةعلي الله تعالي [609] . الاستدلال بطلب موسي إنما يكون متقنا إذا تبين أنه (عليه السلام) طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه فعندئذ يصلح للتمسك به ظاهرا وأني للمستدل إثبات ذلك، مع أن القرائن تشهد علي أنه سأل الرؤية علي لسان قومه حيث كانوا مصرين علي ذلك علي وجه يأتي بيانه، وتوضيحه يتوقف علي بيان أمور: 1 - أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولا (الأعراف - 143). 2 - أنه سبحانه أتبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسي وأخيه وقومه ثانيا (الأعراف 148 - 154) وقد تقدمت آياتهما. 3 - ثم نقل اختيار موسي من قومه سبعين رجلا لميقاته سبحانه وقال: (واختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) (الأعراف - 155). والإجابة الحاسمة تتوقف علي توضيح أمر آخر وهو: هل كان سؤال موسي الرؤية من متممات طلب القوم الرؤية أو كان أمرا مستقلا، لا صلة له بطلب القوم من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين

في زمان واحد أو زمانين بل المهم، وجود [ صفحه 354] الصلة بين السؤالين وعدمها وكون الثاني من توابع السؤال الأول. والظاهر بل المقطوع هو الأول ويدل علي ذلك أمران: الأول: سياق الآيات ليس دليلا قطعيا: إن ذهاب موسي بقومه إلي الميقات كان قبل تحقق قصة العجل لقوله سبحانه: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك) (النساء - 153) فإن تخلل لفظة " ثم " حاك عن تأخرها عن الذهاب، ومع ذلك كله فقد جاء ذكر ذهابهم في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دل علي شئ فإنما يدل علي أن السياق ليس دليلا قطعيا لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدم وجودا في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخرها لنكتة ستوافيك. فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلي الميقات ليتوبوا عن عبادة العجل فقالوا في الميقات: أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا... [610] ليس بشئ وقد عرفت تصريح الآية علي تقدم السؤال علي عبادته. الثاني: استقلال السؤالين غير معقول: إن لاحتمال استقلال السؤالين صورتين: الأولي: أن يتقدم سؤال موسي رؤية الله لنفسه ثم يحدث ما حدث، من خروره صعقا وإفاقته وإنابته، ثم إنه بعد ما سار بقومه إلي الميقات سأله قومه أن يري الله لهم جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون. [ صفحه 355] الثانية: عكس الصورة الأولي، بأن يسير موسي بقومه إلي الميقات ثم يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث، ثم هو في يوم آخر أو بعد

تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيخاطب بقوله: (لن تراني ولكن انظر إلي الجبل). إن العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية. أما الأولي: فلو كان موسي متقدما في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به من قوله: (لن تراني) لكان عليه أن يذكر قومه بعواقب السؤال وأنه سألها ربه ففوجئ بالغشيان، مع أنا نري أنه لم يذكرهم بشئ مما جري عليه غب طلبهم. ولو ذكرهم لما سكت عنه الوحي. أما الثانية: فهو أيضا مثله لأنه إذا تقدم سؤال قومه الرؤية وشاهد موسي ما شاهد وسمي عملهم فعل السفهاء فلا يصح في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه مستقلا. كل ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك ميقاتان ولا لقاءان ولا سؤالان مستقلان وإنما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتب و صلة، والدافع إلي السؤال الثاني هو نفس الدافع إلي السؤال الأول، وعندئذ لا يدل سؤال موسي الرؤية علي كونها أمرا ممكنا لاندفاعه إلي السؤال من قبل قومه. توضيح ذلك: أن الكليم لما أخبر قومه بأن الله كلمه وقربه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتي نسمع كلامه كما سمعت فاختار منهم سبعين رجلا لميقاته، وسأله سبحانه أن يكلمه فلما كلم الله وسمع القوم كلامه قالوا: (لن نؤمن لك حتي نري الله جهرة) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلي هذه الواقعة تشير الآيات التالية: 1 - (وإذ واعدنا موسي أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (البقرة - 51). [ صفحه 356] 2 - (وإذ قلتم يا موسي لن نؤمن لك حتي نري الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) (البقرة - 55). 3 - (يسألك أهل الكتاب أن

تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) (النساء - 153). 4 - (واختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) (الأعراف - 155). إلي هذه اللحظة الحساسة لم يحم الكليم حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئا، وإنما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتي يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم وهو القائل (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك). فلو كان هناك سؤال فإنما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين وعودهم إلي الحياة بدعاء موسي وعندئذ يطرح السؤال نفسه وهو، هل يصح للكليم أن يطلب السؤال بدافع نفسه وقد رأي بأم عينيه ما رأي؟ كلا، وكيف يصح له أن يسأله وقد وصف السؤال فعلا للسفهاء فلم يبق هناك إلا احتمال آخر، وهو أنه بعد ما عاد قومه إلي الحياة أصروا علي موسي وألحوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتي تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية [611] وهذا هو المعقول والمترقب من قوم موسي الذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أن موسي لم يقدم علي السؤال إلا بإصرار منهم حتي يسكتهم لم يتوجه إلي الكليم أي تبعة ولا مؤاخذة بل خوطب بقوله (لن تراني ولكن انظر إلي [ صفحه 357] الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني). إن للإمام الطاهر علي

بن موسي الرضا (عليهما السلام) كلاما - حول سؤال موسي - نأتي برمته: قال علي بن محمد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسي (عليهما السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: أن الأنبياء معصومون؟ قال: " بلي " فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معني قول الله عز وجل: (ولما جاء موسي لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) الآية؟ كيف يجوز أن يكون كليم الله موسي بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن الله - تعالي ذكره - لا تجوز عليه الرؤية حتي يسأله هذا السؤال؟ فقال الرضا (عليه السلام): " إن كليم الله موسي بن عمران (عليه السلام) علم أن الله، تعالي عن أن يري بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقربه نجيا، رجع إلي قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتي نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلي طور سينا، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسي (عليه السلام) إلي الطور وسأل الله تبارك وتعالي أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالي ذكره، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثا منها حتي سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتي نري الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز

وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسي: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله [ صفحه 358] إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته، فقال موسي (عليه السلام): يا قوم إن الله لا يري بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بإعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتي تسأله، فقال موسي (عليه السلام): يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحي الله جل جلاله إليه: يا موسي اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسي (عليه السلام): (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلي الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلي ربه للجبل (بآية من آياته) جعله دكا وخر موسي صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك (يقول: رجعت إلي معرفتي بك عن جهل قومي) وأنا أول المؤمنين) منهم بأنك لا تري. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجه الصدوق بتمامهفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) [612] . وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم علي الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لا بد، ولن نؤمن حتي نري الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله: (لن تراني) ليتيقنوا وينزاح عنهم مادخلهم من الشبهة فلذلك

قال: (رب أرني أنظر إليك) [613] . وعلي كل تقدير فما ذكره صاحب الكشاف قريب مما ذكرناه، وكلا البيانين يشتركان في أن السؤال لم يكن بدافع من نفس موسي بل بضغط من قومه. [ صفحه 359] ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال: " ظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة، لأن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأولي في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلي غيرها، فأما ذكر بعض القصة (سؤال موسي الرؤية) ثم الانتقال منها إلي قصة أخري (اتخاذ العجل ربا) ثم الانتقال منها بعد تمامها إلي بقية الكلام في القصة الأولي (سؤال قوم موسي) يوجب نوعا من الخبطوالاضطراب والأولي صون كلام الله تعالي عنه [614] . والجواب: أنه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسي ثلاثين ليلة من آية 142 وختمها في الآية 155 فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة، ولكن سبب العود إلي ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية وأنه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل. فقد اتضح مما ذكرنا عدم دلالة الآية علي إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسي.

تجليه علي الجبل

إن تجليه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل رب العالمين، وهو لما رآه سبحانه اندكت أجزاؤه، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالي جائز الرؤية، وأقصي ما في الباب أن يقال: الجماد جماد، والجماد يمتنع أن يري شيئا، إلا أن نقول: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالي خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمخلق فيه الرؤية متعلقة بذات الله [615] . [ صفحه 360] يلاحظ عليه: أن ما ذكره من رؤية الجبال إياه مع الحياة والعقل والفهم شئ نسجه فكره، وليس

في الآية أي دليل عليه والحافز إلي هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها، وظاهر الآية أنه سبحانه تجلي للجبل وهو لم يتحمل تجليه لا أنه رآه وشاهده. وأما التجلي فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمل تجليه بفعله وقدرته فأولي أن لا يسكت عن تجليه بذاته، وعندئذ فمن المحتمل جدا أن يكون تجليه بآثاره وقدرته وأفعاله فعند ذلك لا يدل علي تجليه علي الجبل بذاته. أضف إلي ذلك: أن أقصي ما تعطيه الآية هو الإشعار وهل يمكن الأخذ به أمام الدلائل القاطعة عقلا ونقلا علي امتناع رؤيته. إلي هنا تم ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم علي امتناع الرؤية وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي رائع وتعرفت علي موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار. [ صفحه 361]

رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة المثبتين

اشاره

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات متعددة، والحق أن الآيات علي قسمين: الأول: ما له أدني ظهور فيما يدعونه من جواز الرؤية. الثاني: ما ليس له أدني ظهور في مدعاهم. فلأجل ذلك نبحث عن أدلتهم في مقامين:

قوله سبحانه: (إلي ربها ناظرة)

ولا تجد آية صالحة لهذا القسم إلا قوله سبحانه: (كلا بل تحبون العاجلة - وتذرون الآخرة - وجوه يومئذ ناضرة - إلي ربها ناظرة - ووجوه يومئذ باسرة - تظن أن يفعل بها فاقرة) (القيامة: 20 - 25). يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد: إن النظر إذا كان بمعني الانتظار يستعمل بغير صلة، ويقال: انتظرته، وإذا كان بمعني التفكر يستعمل بلفظة " في " وإذا كان بمعني الرأفة يستعمل بلفظة " اللام " وإذا كانبمعني الرؤية استعمل بلفظة " إلي " فيحمل علي الرؤية [616] . أقول: لقد طال الحوار حول المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية [ صفحه 362] ونفاتها ولو أتينا بها لطال بنا المقام، فإن المثبتين يركزون علي أن الناظرة بمعني الرؤية كما أن نفاتها يفسرونها بمعني الانتظار، مع أن تسليم كونه بمعني الرؤية غير مؤثر في إثبات مدعيها كما سيظهر. والحق عدم دلالتها علي جواز رؤية الله بتاتا وذلك لأمرين. الأول: أنه سبحانه استخدم كلمة (وجوه) لا " عيون " فقسم الوجوه إلي قسمين " وجوه ناضرة " و " وجوه باسرة " ونسب النظر إلي الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعين استخدام العيون بدل الوجوه. والعجب أن المستدل غفل عن هذه النكتة التي تحدد معني الآية وتخرجه عن الإبهام والتردد بين المعنيين وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث موردا، نسب فيه النظر إلي

الوجوه وأريدت منه الرؤية بالعيون والأبصار بل كلما أريدت منه الرؤية، نسب إليهما. الثاني: لا نشك أن " الناظرة " قوله: (إلي ربها ناظرة) بمعني الرائية ونحن نوافق المثبتين بأن النظر إذا استعمل مع " إلي " يكون بمعني الرؤية، لكن الذي يجب أن نلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعني اللغوي ذريعة لتفهيم معني كنائي يكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فلا شك أنه مستعمل في معناه اللغوي ولكن كثرة الرماد مراد استعمالي لا جدي، وإنما المراد الجدي ما اتخذ المعني الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب وهو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فليس علينا أن نصف القائل بأنه أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعد أوساخا ملوثة لبيته، فيكون قد ذمه مكان مدحه، بل يجب علينا أن نصفه بأنه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة بالمعني الجدي لا الاستعمالي وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء. هلم معي نستوضح مفاد الآية وأنه ماذا أريد منه استعمالا، وماذا أريد منه جديا؟ فلا يعلم ذلك إلا برفع إبهام الآية بمقابلها، نقول: إن هناك آيات ست [ صفحه 363] وتقابل ثلاثة والتنظيم لها بالشكل التالي: 1 - (كلا بل تحبون العاجلة) يقابلها 2 - (وجوه يومئذ ناضرة) يقابلها 3 - (إلي ربها ناظرة) يقابلها (وتذرون الآخرة). (وجوه يومئذ باسرة). (تظن أن يفعل بها فاقرة). فلا شك أن الآيات الأربع الأول واضحة لا سترة فيها، إنما الإبهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث، فهل المراد منه جدا هو الرؤية، أو أنها كناية عن انتظار الرحمة، والذي يعين أحد المعنيين

هو أن ما يقابله أعني (تظن أن يفعل بها فاقرة) صريح في أن أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله، ومثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار، فكل ظان نزول العذاب منتظر، فيكون قرينة علي أن أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلي ربهم بمعني أنهم يرجون رحمته، وهذا ليس تصرفا في الآيات ولا تأويلا لها، وإنما هو رفع الإبهام عن الآية بأختها المتقابلة. وتري ذلك التقابل والانسجام في آيات أخري، وكأن الجميع سبيكة واحدة. 1 - (وجوه يومئذ مسفرة) (ضاحكة مستبشرة) 2 - (ووجوه يومئذ عليها غبرة) (ترهقها قترة) (عبس: 38 - 40) فإن قوله: (ضاحكة مستبشرة) قائم مقام قوله: (إلي ربها ناظرة) فيرفع إبهام الثاني بالأول. 3 - (وجوه يومئذ خاشعة) (عاملة ناصبة - تصلي نارا حامية) (الغاشية: 2 - 4) 4 - (وجوه يومئذ ناعمة) (لسعيها راضية - في جنة عالية) (الغاشية: 8 - 10) [ صفحه 364] انظر إلي الانسجام البديع، والتقابل الواضح بينهما، والاستهداف الواحد. والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلي ناضر ومسفر، وناعم وإلي باسر، وأسود (غبرة)، وخاشع. أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية: (إلي ربها ناظرة)، (ضاحكة مستبشرة)، (في جنة عالية). وأما جزاء الصنف الثاني فهو العذاب، والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية: (تظن أن يفعل بها فاقرة)، (ترهقها قترة)، (تصلي نارا حامية). أفبعد هذا البيان يبقي الشك في أن المراد من (إلي ربها ناظرة) هو انتظار الرحمة، والقائل بالرؤية يتمسك بهذه الآية، ويغض النظر عما حولها من الآيات، ومن المعلوم أن هذا من قبيل محاولة إثبات المدعي بالآية، لا محاولة الوقوف علي مفادها. ويدل علي ذلك أن كثيرا ما يستخدم العرب النظر

بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب: وإليك بعض ما ورد: 1 - وجوه بها ليل الحجاز علي الهوي - إلي ملك كهف الخلائق ناظرة 2 - وجوه ناظرات يوم بدر - إلي الرحمن يأتي بالفلاح فلا نشك أن قوله: " وجوه ناظرات " بمعني رائيات ولكن النظر إلي الرحمن كناية عن انتظار النصر والفتح. 3 - إني إليك لما وعدت لناظر - نظر الفقير إلي الغني الموسر [ صفحه 365] فلا ريب أن اللفظين في الشعر وإن كانا بمعني الرؤية ولكن نظر الفقير إلي الغني ليس بمعني النظر بالعين بل الصبر والانتظار حتي يعينه. قال سبحانه: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (آل عمران: 77) والمراد من قوله: (لا ينظر إليهم) هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطفه عليهم، لا عدم مشاهدته إياهم إذ - مضافا إلي استلزام ذلك التفسير الكفر لأنه سبحانه يري الجميع (وهو يدرك الأبصار) - أن رؤيته وعدمها ليس أمرا مطلوبا لهم حتي يهددوا بعدم نظره سبحانه إليهم، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم فيكون المراد عدم تعطفه إليهم. وعلي ضوء ذلك فنظر العالي إلي الداني بمعني العطف والحنان، ونظر السافل إلي العالي إنما هو انتظار الرحمة. والحاصل أن النظر إذا أسند إلي العيون يكون المعني الاستعمالي والجدي هو الرؤية، وإذا أسند إلي الشخص كالفقير أو إلي الوجوه يراد به الرؤية استعمالا والانتظار جدا. إن لصاحب الكشاف كلمة جيدة يقول بهذا الصدد: " يقال أنا إلي فلان

ناظر ما يصنع بي " يريد معني التوقع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله: وإذا نظرت إليك من ملك++ والبحر دونك زدتني نعما وقال: سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس [ صفحه 366] أبوابهم ويأوون إلي معاقلهم تقول: (عيينتي نويظرة إلي الله وإليكم) يقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها، كما هو معني قولهم: (أنا أنظر إلي الله ثم إليك):أتوقع فضل الله ثم فضلك [617] . [ صفحه 367]

آيات خمس علي طاولة التفسير

اتفق المحققون علي أنه لا يستدل بآية علي عقيدة إسلامية إلا إذا كانت الآية واضحة الدلالة، جلية المرمي، لما عرفت من أن المطلوب في باب العقائد هو الاعتقاد وهو رهن الإذعان، ولا يحصل إلا إذا كان هناك سبب قطعي له. وعلي ذلك الأصل، كان المترقب من أصحاب القول بالرؤية، التمسك بما له ظهور في ادعائهم حتي ولو كان الظهور بدائيا زائلا بالتمعن فيه، ولكن أسفا نري أنهم يتمسكون بما لا دلالة له علي ادعائهم، بل لا صلة بينه وبين القول بالرؤية، وعلي ذلك سنتناول في هذا الفصل هذا القسم من الآيات ونفصله عما سبق إيعازا للفرق بين أدلتهم.

امره سبحانه موسي بالشكر له

(قال يا موسي إني اصطفيتك علي الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) (الأعراف - 144). [ صفحه 368] قال الرازي: إعلم أن موسي (عليه السلام) لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بذكرها كأنه قال: إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلي سائر أنواع النعم التي خصصتك بها، واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسي (عليه السلام) عن منع الرؤية وهذا أيضا أحد ما يدل علي أن الرؤية جائزة علي الله تعالي، إذ لو كانت ممتنعة فينفسها لما كان إلي ذكر هذا القدر حاجة [618] . وقد تبعه إسماعيل البروسي فقال في تفسير قوله: (وكن من الشاكرين): أن اشكر، يبلغك إلي ما سألت من الرؤية لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالي: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (إبراهيم - 7) والزيادة هي الرؤية لقوله تعالي: (للذين أحسنوا الحسني وزيادة) (يونس - 26) وقال عليه الصلاة

والسلام:الزيادة هي الرؤية، والحسني هي الجنة [619] . وفي مؤخر المثبتين للرؤية من يستحسن مواقف المستدلين بهذه الآية ويقول: إن الاستدلال بهذه الآية علي الجواز قوي، لأن الله تعالي عدد لموسي (عليه السلام) هذه النعم التي أنعم الله بها عليه لما منعه من حصول جائز طلبه منه، فذكر ما ذكر تسلية له ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر وذلك مثل خطابه تعالي لنوح: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين - قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعضك أن تكون من الجاهلين) (هود: 45 - 46). وقوله تعالي لإبراهيم (عليه السلام) حين قال: (رب أرني كيف تحيي الموتي قال [ صفحه 369] أو لم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي) (البقرة - 260) والفرق بين خطاب الله لموسي (عليه السلام) وبين خطابه لنوح وإبراهيم (عليه السلام)ظاهر [620] . وقد نقلنا كلام هؤلاء بالتفصيل ليقف القارئ علي أنه كيف يتمسكون بما لا دلالة له علي مطلوبهم، والشاهد علي ذلك أنا لو عرضنا الآية علي أي عربي مخاطب بالقرآن لا ينتقل إلي ما يدعون، ويتلقي إثبات الرؤية بها تحميلا للفكر علي الآية لا تفسيرا لها، وإليك الإشارة إلي نقاط الضعف في كلمات هؤلاء. أما الرازي، فمن أين يدعي أن الآية في مقام مواساة موسي لئلا يضيق صدره بسبب منع الرؤية؟ لو لم نقل إن الآية وردت علي خلاف ما يدعيه، فإنما وردت في مورد الامتنان علي موسي وموعظة له أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته، وكلامه، ويشكره، ولا يزيد عليه. هذا هو الظاهر من الآية، ولا وجه

لحمل الآية بكونها في صدد المواساة، بعد ما صدر من موسي في الآية المتقدمة عليها قوله: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين - قال يا موسي إني اصفيتك علي الناس...) (الأعراف: 143 - 144) فمقتضي ما صدر من موسي من تنزيه وتوبة وإيمان بأنه لا يري، هو موعظته بالاكتفاء بما أوتي ولا يزيد عليه، لا أن يعتذر سبحانه منه ويواسيه بحرمانه رؤيته. وأما ما ذكره صاحب روح البيان فعجيب جدا فإن استدلاله يتوقف علي أن المراد من (زيادة) في قوله سبحانه: (للذين أحسنوا الحسني وزيادة) هو الرؤية وهذا أول الكلام وسيوافيك أن المراد منها هي الزيادة علي الاستحقاق، فانتظر حتي يأتيك البيان. وأما ما ذكره الدكتور تأييدا لما ذكره الرازي فضعفه واضح لأن الآية ليست بصدد مواساته، وأما اختلاف الخطاب بينها وبين ما ورد في طلب نوح هو أن [ صفحه 370] طلب موسي لما كان نتيجة ضغط من قومه، دون طلب نوح، صار الاختلاف في مبدأ الطلبين، سببا لاختلاف الخطابين فخوطب نوح بخطاب عتابي دون موسي (عليهما السلام) وإن كان العتاب علي ترك الأولي.

الحسني والزيادة

(للذين أحسنوا الحسني وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) (يونس - 26). فقد فسرت الحسني بالجنة، و " الزيادة " بالنظر إلي وجه الله الكريم، روي مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي قال: إذا أدخل أهل الجنة قال الله تبارك وتعالي تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من التنظر إلي ربهم عز وجل، وفي رواية ثم تلي (للذين أحسنوا الحسنيوزيادة) [621] . إن القرآن الكريم كتاب

عربي مبين وهو تبيان لكل شئ كما هو مقتضي قوله سبحانه: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (النحل - 89) وحاشا أن يكون تبيانا لكل شئ ولا يكون تبيانا لنفسه، وسياق الآية يدل علي أن المراد من الزيادة هو الزيادة علي الاستحاق فقد جعل سبحانه الجزاء حقا للعامل - لكن بفضله وكرمه - وقال: (لهم أجرهم عند ربهم) (آل عمران - 199)، ثم جعل المضاعف منه حقا للعامل أيضا وهذا أيضا بكرمه وفضله وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (الأنعام - 160) وبالنظر إلي هذه الآيات يتجلي مفاد قوله سبحانه: (للذين أحسنوا الحسني " استحقاقا للجزاء والمثوبة الحسني " وزيادة " علي قدر الاستحقاق ")، قال سبحانه: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) (النساء - 173). [ صفحه 371] وبغض النظر عما ذكرنا من تفسير الزيادة علي الاستحقاق أن ما بعد الآية قرينة واضحة علي أن المراد من " زيادة " هو الزيادة علي الاستحقاق، ومفاد الآيتين هو تعلق مشيئته سبحانه علي جزاء المحسنين بأكثر من الاستحقاق وجزاء المسيئين بقدر جرائمهم، قال سبحانه بعد هذه الآية (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (يونس - 27). أفبعد هذا السياق الرافع للإبهام يصح لكاتب عربي واع أن يستدل بالآية علي الرؤية. وبذلك يظهر عدم دلالة ما يشابه هذه الآية مدلولا علي مدعاهم، قال سبحانه: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود - لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) (ق - 34 - 35) فإن المراد أحد المعنيين، إما زيادة علي ما يشاؤونه ما

لم يخطر ببالهم ولم تبلغهم أمانيهم، أو الزيادة علي مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم. وأما ما رواه مسلم فسيوافيك القضاء الحق عند البحث عن الرؤية في الروايات. وأن الآحاد في باب العقائد غير مفيدة خصوصا إذا كانت مضادة للقرآن.

رؤية الملك

(وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) (الإنسان - 20). قال الرازي: فإن إحدي القراءات في هذه الآية في (ملكا) بفتح الميم وكسر اللام وأجمع المسلمون علي أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالي. وعندي أن التمسك بهذه الآية أقوي من التمسك بغيرها [622] . [ صفحه 372] وقال الآلوسي عند تفسيرها: وقيل هو النظر إلي الله عز وجل وقيل غيرذلك [623] . يلاحظ عليه: أن المسائل العقائدية لا يستدل عليها إلا بالأدلة القطعية لا بالقراءات الشاذة التي لا يحتج بها علي الحكم الشرعي فضلا عن العقيدة، وسياق الآية يدل علي أنه هو الملك بضم الميم وسكون اللام، وكأنه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا لا يقدر قدره. والآية نظير قوله: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) (الأحزاب - 47).

آيات اللقاء

1 - (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (الكهف - 110). 2 - (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) (البقرة - 223). 3 - (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما) (الأحزاب - 44). 4 - (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) (البقرة - 249). وجه الاستدلال: أن الآيات تنسب اللقاء إلي الله تعالي ومقتضي الأخذ بالظاهر هو تحقق اللقاء بالمشاهدة والمعاينة. يلاحظ عليه: أن اللقاء كما أضيف في هذه الآيات إليه سبحانه كذلك [ صفحه 373] أضيف إلي غيره سبحانه في سائر الآيات فتارة أضيف إلي لفظ الآخرة، قال سبحانه: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم) (الأعراف - 147) وقال (وقال

الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) (المؤمنون - 33)، وأخري إلي لفظ " اليوم " قال سبحانه: (يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) (الزمر - 71) وقال سبحانه: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) (الجاثية - 34)، وعلي ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء بمعني حضور الناس في يوم القيامة للمحاسبة والمجازاة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإنما سمي هذا، بلقاء الرب أو لقاء الله لما تعلقت مشيئته علي مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم فبما أنه سبحانه يجزي المحسن والمسيئ في ذلك اليوم فكأنهم يلقونه سبحانه فيه لا قبله. وفي نفس الآيات التي استدل بها، قرينة واضحة علي أن المراد من الآيات هو الحضور يوم القيامة، وهي أنه سبحانه يأمر لمن يرجو لقاء الرب بالعمل الصالح ويقول: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) (أي فليستعد لذلك اليوم بالعمل الصالح) كما أنه في آية أخري، يأمر بتقديم شئ لهذا اليوم ويقول: (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) وذلك لأن مقتضي العلم بالحشر في ذلك اليوم والمحاسبة والمجازاة هو تقديم الأعمال الصالحة. والذي يدل علي أن المراد من اللقاء ليس هو الرؤية هو أن الرؤية تختص بالمؤمنين ولا تعم الكافرين مع أنه سبحانه يعمم اللقاء بالمؤمن والكافر فيقول: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلي يوم يلقونه) (التوبة - 77)، فلو كان المراد من لقاء الله هو مشاهدته ورؤيته فيلزم أن يكون المنافق مشاهدا له فلم تبق أي فضيلة للمؤمنين مع أن القائلين بالرؤية يزمرون بأن الرؤية فضيلة وزيادة تختص بالمؤمنين، ولما ضاق الخناق علي بعضهم قال برؤيتين إحداهما عامة للمؤمن [ صفحه 374]

والكافر، وهي الرؤية يوم القيامة، والأخري خاصة بالمؤمنين وهي الرؤية في الجنة [624] ، وهو كما تري فإن ظرف الرؤية للمؤمنين في رواية أبي هريرة، هو يوم القيامة كما سيوافيك وفيه يري المؤمنون خالقهم علي صورته الواقعية. وفي الختام نقول: إن منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلي الله قال سبحانه: (إنا لله وإنا إليه راجعون) (البقرة - 156) ولم نر سلفيا أو أشعريا يستدل بها علي رؤية الله سبحانه مع أن وزان الجميع واحد.

آية الحجب

(كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون - كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - ثم إنهم لصالوا الجحيم - ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) (المطففين: 14 - 17). هذه الآية استدل بها غير واحد من القائلين بالرؤية. قال الآلوسي: لا يرونه تعالي وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يري ما حجب، إذ الحجب: المنع، والكلام علي حذف مضاف أي عن رؤية ربهم للممنوعون فلا يرونه سبحانه، واحتج بالآية مالك علي رؤية المؤمنين له تعالي من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغني هذا التخصيص، وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل علي أن قوما يرونه بالرضا، وقال أنس بن مالك: لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلي جل شأنه لأوليائهحتي رأوه عز وجل [625] . [ صفحه 375] يلاحظ عليه: أن الآية بصدد تهديد المجرمين وتنذيرهم وهذا لا يحصل إلا بتحذيرهم بحرمانهم عن رحمته وتعذيبهم في جحيمه، وأما تهديدهم بأنهم سيحرمون عن رؤيته تبارك وتعالي فلا يكون مؤثرا فيمن غلبت علي قلبه آثار المعاصي والمآثم فلا يفكر يوما بالله ولا برؤيته،

وعلي ذلك فالمراد أن هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته وإحسانه وكرمه، وبعد ما منعوا من الثواب والكرامة يكون مسير هؤلاء إلي الجحيم ولذلك رتب علي خيبتهم وحرمانهم قوله: (إنهم لصالوا الجحيم) ثم يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون). هذه هي الآيات التي وقعت ذريعة للاستدلال علي العقيدة المستوردة من الأحبار والرهبان إلي المسلمين، فزعم المحدثون والمغترون كونها عقيدة إسلامية فحشروا الآيات للبرهنة عليها سواء أكانت بها دلالة أم لا. ولو كان المستدلون مجردين عن عقائدهم لفهموا أن هذه الآيات ضيفت لبيان مفاهيم أخلاقية واجتماعية، وسوق المجتمع إلي العمل الصالح وعدم التورط في المعاصي وأين هي من الدلالة علي أصل كلامي باسم الرؤية. إن الله سبحانه ذكر نعم الجنة الكثيرة ومقامات المؤمنين ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه، فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم؟ [ صفحه 376]

رؤيته تعالي في الأحاديث النبوية

اشاره

قد تعرفت علي موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنه كلما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها، يستعظمه ويستفظعه إجمالا، وعندما يطرحها تفصيلا، يعدها أمرا محالا، كما عرفت أن ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدل علي ما يدعون. بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد، ودلالتها علي المطلوب، واضحة كما ستوافيك، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم، وتباينه فإذا كان الكتاب العزيز مهيمنا علي سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمنا علي السنن المروية عن الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) التي دونت بعد مضي 143 سنة من رحيله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولم تصن عن دس الأحبار والرهبان قال سبحانه: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا

تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) (المائدة - 48) وقال تعالي: (إن هذا القرآن يقص علي بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) (النمل - 76) ولا يعني ذلك، حذف السنة من الشريعة ورفع شعار: حسبنا كتاب الله، بل يعني التأكد من الصحة ثم تطبيق العمل عليها. وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية: روي البخاري في باب " الصراط جسر جهنم " بسنده عن أبي هريرة قال: [ صفحه 377] قال أناس: يا رسول الله هل نري ربنا يوم القيامة؟ فقال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " فإنكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتي يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم... - إلي أن يقول: - ويبقي رجل مقبل بوجهه علي النار فيقول: يا رب قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلي باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك،

فلا يزال يدعو فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلي باب الجنة فإذا رأي ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: ربي أدخلني الجنة، ثم يقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا بن آدم ما أغدرك، فيقول: يا رب لا تجعلني أشقي خلقك، فلا يزاليدعو حتي يضحك (الله) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها... الحديث [626] . ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير [627] . [ صفحه 378] ورواه أيضا عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه: حتي إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالي من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالي في أدني صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظر تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا، مرتين أو ثلاثا حتي أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقي من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقي من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهرهطبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر علي قفاه... الحديث [628] . وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص، ورواه أحمد فيمسنده [629] . تحليل الحديث: إن هذا الحديث مهما كثرت رواته، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:

1 - إنه خبر واحد لا يفيد شيئا في باب الأصول والعقائد، وإن كان مفيدا في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقا للواقع أو لا، بل يكفي قيام الحجة علي لزوم تطبيق العمل عليه، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشئ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر [ صفحه 379] الاثنين، إلا إذا بلغ إلي حد يورث العلم والإذعان، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين. 2 - إن الحديث مخالف للقرآن، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين - رحمه الله -. 3 - ماذا يريد الراوي في قوله: " فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم "؟ فكأن لله سبحانه صورا متعددة يعرفون بعضها، وينكرون البعض الآخر، وما ندري متي عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟! 4 - ماذا يريد الراوي من قوله: " فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقي من كان يسجد لله من تلقاء نفسه... "؟ فإن معناه أن المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه. 5 - كفي في ضعف الحديث ما علق عليه العلامة السيد شرف الدين - رحمه الله - حيث قال: إن الحديث ظاهر في أن لله تعالي جسما ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير، وأنه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأمة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلا لهم في صورة غير الصورة التي

كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم: أنا ربكم، فينكرونه متعوذين بالله منه، ثم يأتيهم مرة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعا: نعم، أنت ربنا. وإنما عرفوه بالساق، إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالة عليه، فيتسني حينئذ السجود للمؤمنين منهم، دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلا فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب، وإذا به، بعد هذا يضحك [ صفحه 380] ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب إلي آخر ما اشتمل عليه الحديثان مما لا يجوز علي الله تعالي، ولا علي رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [630] . 2 - روي البخاري في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال: كنا عند النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فنظر إلي القمر ليلة يعني البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا علي صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) [631] . وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضادا للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده، ترجمه ابن عبد البر وقال: قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في عهده وصدق إلي مصدقه وهو عن كبار التابعينمات سنة ثمان أو سبع

وتسعين وكان عثمانيا [632] . وقال الذهبي: قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر، ثقة حجة كاد أن يكون صحابيا وثقه ابن معين والناس، وقال علي بن عبد الله عن يحيي بن سعيد: منكر الحديث ثم سمي له أحاديث استنكرها، وقال يعقوب الدوسي: تكلم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه، وقال: له مناكير فالذين أطروه عدوها غرائب وقيل: كان يحمل علي علي - رضي الله عنه - إلي أن قال: والمشهور أنه كان يقدم [ صفحه 381] عثمان، وقال إسماعيل: كان ثبتا قال: وقد كبر حتي جاوز المائةوخرف [633] . وقد تقدم أن العدل والتنزيه علويان، كما أن الحبر والتشبيه أمويان وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوي، معرضا عن الإمام علي (عليه السلام)، وعاش حتي خرف؟ أو أن الواجب ضربها عرض الحائط؟

رؤية الله في روايات أئمة أهل البيت

إن أهل البيت (عليهم السلام) أحد الثقلين [634] الذين تركهما النبي بعد رحيله وأمر أن يتمسك بأقوالهم وأفعالهم، ونحن إذا راجعنا ما روي عنهم ودونه الأثبات من المحدثين كالشيخ الصدوق (306 - 380 ه) في كتاب التوحيد، نجد مروياتهم الموصولة إلي آبائهم عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، يضاد مثل رواية قيس بن أبي حازم، ولأجل إيقاف القارئ علي نماذج من أحاديثهم نقتبس منها ما يلي: 1 - روي الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي [ صفحه 382] شئ تعبد؟ قال: " الله "، قال: رأيته؟ قال: " لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس

ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته [635] . 2 - روي الصدوق عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " جاء حبر إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، وقال: كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوببحقائق الإيمان " [636] . 3 - أخرج الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال إن الله عظيم، رفيع، لا يقدر العباد علي صفته ولا يبلغون كنه عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث فكيف أصفه بكيف وهو الذي كيف الكيف حتي صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أين الأين حتي صار أينا، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث، حتي صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث فالله تبارك وتعالي داخل في كل مكان، وخارج من كل شئ، لا تدركه الأبصار، وهو يدركالأبصار لا إله إلا هو العلي العظيم وهو اللطيف الخبير [637] . 4 - أخرج الصدوق عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسي [ صفحه 383] (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (وجوه يومئذ ناضرة - إلي ربها ناظرة) يعني: مشرقة تنتظر ثواب ربها [638] . (إن في

ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد) (ق - 37). [ صفحه 384]

الرؤية القلبية

اشاره

كان المترقب من أئمة الحديث والكلام، الإشارة إلي قسم آخر من الرؤية الذي لا يتوقف علي الأعين والأبصار، ينالها الأمثل فالأمثل من المؤمنين، قال سبحانه: (كلا لو تعلمون علم اليقين - لترون الجحيم - ثم لترونها عين اليقين) (التكاثر - 5 - 7) فمن علم عين اليقين يري لهيب الجحيم من هذه النشأة لا بعين مادية ولا بصر جسماني إنما هي رؤية أخبر عنها الكتاب ولا تتوقف علي الجهة والمقابلة ولا التجسيم ولا المتشابهة، وليس المراد من الرؤية في الآية العلم القطعي، فإن العلم وإن كان قطعيا غير الرؤية، قال سبحانه: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (الأنعام - 75). قال العلامة الطباطبائي: إنه تعالي يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية وهي نوع شعور في الإنسان، يشعر بالشئ بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء ذلك إن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجد وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلي الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي [ صفحه 385] اكتسبها، والذي يتجلي من كلامه سبحانه أن هذا العلم المسمي بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة فهناك مواطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعد في طريق هذا العلم لم يتم له حتي يلقي ربه، قال تعالي: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق - 6).

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالي لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها علي نحو الحقيقة أو المجاز والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة علي هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة علي ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل، فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشئ بنفسه حتي كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة فيتنقيح المعارف الإلهية [639] . هذا التفسير للرؤية القلبية مما أفاده أستاذنا العلامة الطباطبائي - رحمه الله - ولكن ربما يفسر بالعلم القطعي الضروري الذي لا يتردد إليه الريب كما سننقله عن الشيخ الصدوق توضيحا للروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت حول الرؤية القلبية، فإليك ما روي عنهم - صلوات الله عليهم -. إن في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصريحا بصحة الرؤية القلبية، واللائح منها زيادة اليقين بظهور عظمته وقدرته وإليك البيان: 1 - أخرج الصدوق عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلي أبي محمد [ صفحه 386] (الحسن العسكري) (عليه السلام) أسأله كيف يعبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (عليه السلام): " يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلي آبائي، أن يري " قال: وسألته هل رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليهالسلام): " إن الله تبارك وتعالي أري رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب " [640] . 2 - أخرج الصدوق عن ابن أبي نصر (البزنطي) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلي السماء بلغ بي جبرئيل

مكانا لم يطأه جبرئيل قط، فكشف لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ما أحب "، وعلي ضوء ذلك فالرؤية القلبية شهود نور عظمته في النشأتين، وهو غير ما نقلناه عن العلامة الطباطبائي. 3 - أخرج الصدوق عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه الوحي؟ فقال: " ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد،ذاك إذا تجلي الله له ". قال: ثم قال: " تلك النبوة يا زرارة وأقبل يتخشع " [641] . 4 - أخرج الصدوق عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام): هل رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ربه عز وجل؟ فقال: " رآه بقلبه أما سمعت الله عز وجل يقول: (ما كذب الفؤاد ما رأي) أي لم يره بالبصر " [642] ولكن رآه بالفؤاد. 5 - أخرج الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في جواب سؤال [ صفحه 387] شخص عن رؤية الله يوم القيامة فقال في ذيل الجواب: " وليستالرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالي الله عما يصفه المشبهون والملحدون " [643] . ثم إن للمحدث الأكبر الشيخ الصدوق (306 - 381 ه) الذي طاف البلاد شرقا وغربا وجمع أحاديث الرسول وعترته، كلاما في الرؤية القلبية وحكي أن محدثين كبيرين من محدثي الشيعة كأحمد بن محمد بن عيسي القمي (المتوفي بعد سنة 280 ه) ومحمد بن أحمد بن يحيي رواها في جامعهما ولكن لم ينقلها في كتاب التوحيد يقول: والأخبار التي رويت في هذا المعني وأخرجها مشايخنا - رضي

الله عنهم - في مصنفاتهم عندي صحيحة وأنا تركت إيرادها في هذا الباب خشية أنيقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم [644] . ثم إن شيخنا الصدوق فسر الرؤية القلبية بما يلي: " ومعني الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك إن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتعلم حقيقة قدرة الله عز وجل وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل " (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم...) (ق - 22) فمعني ما روي في الحديث أنه عز وجل يري أي يعلم علما يقينيا كقوله عز وجل: (ألم تر إلي ربك كيف مد الظل) (الفرقان - 45) وقوله: (ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه) (البقرة - 258) وقوله: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) (الفيل - 1)وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين [645] . [ صفحه 388] هذه مسألة رؤية الله، وهذه أقوال الأمة فيها، وهذا خلافهم الممتد من العصور الأولي إلي عصرنا هذا، وهي مسألة كلامية اختلفت فيها أنظار الباحثين ولكل دليله وبرهانه والثاني إنما ينفي لاستلزامه الجهة والتجسيم والتشبيه - مضافا إلي تضافر الآيات علي نفيها بدلالات مختلفة، والمثبت إنما يثبتها اغترارا ببعض الظواهر والروايات الواردة في الصحاح. ولكن ليس لكل من الطائفتين تكفير الأخري لأن النافي يستند إلي الدلائل المشرقة التي تقنع كل من نظر إليها بلا نظر مسبق وقول المثبت وإن كان يستلزم الجهة التجسيم، لكنه يقول بها مع التبري عن تواليها، متحصنا بقوله: " بلا كيف " فتكون المسألة

مسألة كلامية كسائر المسائل الكلامية. غير أن مفتي السعودية عبد العزيز بن باز غلا في الموضوع وذلك في الفتوي الصادرة في 8 / 1407 المرقم 717 / 2 جوابا علي سؤال وجهه عبد الله بن عبد الرحمن يتعلق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة فأفتي: بأن من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالي في الآخرة لا يصلي خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة، وأضاف أنه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الأباضية في عمان: الشيخ أحمد الخليلي فاعترف بأنه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة، ويعتقد أن القرآن مخلوق، واستدل لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح " ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إن قوما يزعمون أن الله لا يري يوم القيامة فقال مالك - رحمه الله -: السيف السيف. وقال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملي علي عبد العزيز ابن سلمة الماجشون رسالة عما جحدت الجهمية فقال: لم يزل يملي لهم الشيطان حتي جحدوا قول الله تعالي: (وجوه يومئذ ناضرة - إلي ربها ناظرة). وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: إني لأرجو أن يحجب الله عز [ صفحه 389] وجل جهما وأصحابه عن أفضل ثوابه، الذي وعده أولياءه حين يقول: (وجوه يومئذ ناضرة - إلي ربها ناظرة). إلي أن نقل عن أحمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدث بحديث عن رجل عن أبي العواطف أن الله لا يري في الآخرة فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال: أخزي الله هذا. وقال أبو بكر المروزي: من زعم أن الله لا يري في الآخرة فقد كفر، وقال: من

لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر، وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أن الله لا يري فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد علي الله أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل....

تحليل لهذه الفتيا

1 - إن هذه الفتوي لا تصدر عمن يجمع بين الرواية والدراية، وإنما هي من متفرعات القول بأن الله مستقر علي عرشه فوق السماوات، وأنه ينزل في آخر كل ليلة نزول الخطيب عن درجات منبره [646] ، وأن العرش تحته سبحانه يئط أطيط الرحل تحت الراكب [647] ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول: بل عطلوا منه السماوات العلي++ والعرش أخلوه من الرحمان [648] . ومثل تلك العقيدة تنتج أن الله تعالي يري كالبدر يوم القيامة، والرؤية لا تنفك عن الجهة والمكان، تعالي عن ذلك كله. [ صفحه 390] 2 - إن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ولم ير أن النبي الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك، مثل رؤية الله وما شابهه، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه: " إن الإسلام بني علي خمس وليس فيه شئ من الإقرار بالرؤية، وهل النبي ترك ما هو مقوم الإيمان والإسلام ". 3 - إن الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلمين والمفسرين، وكل طائفة تمسكت بلفيف من الآيات، فتمسك المثبت بقوله سبحانه: (إلي ربها ناظرة) وتمسك النافي بقوله سبحانه: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). فكيف يكون إنكار النافي ردا للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت ردا له؟ فإذا جاز

التأويل لطائفة لما يكون مخالفا لعقيدته، فكيف لا يسوغ لطائفة أخري؟ وليست رؤية الله يوم القيامة من الأمور الضرورية التي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن، بل كل طائفة تقبل برحابة صدر المصدرين الرئيسيين أعني الكتاب والسنة، ولكن يناقش في دلالتهما علي ما تدعيه الطائفة الأخري، أو تناقش سند الرواية وتقول: إن القول بالرؤية عقيدة موروثة من اليهود والنصاري، أعداء الدين، وقد دسوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين، فلم تزل مسلمة اليهود والنصاري يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين وتشويه تعاليم هذا الدين، حتي تذرعوا بعد وفاة النبي بشتي الوسائل إلي بذر بذور الفساد، فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان. 4 - إن الاعتقاد بشئ من الأمور من الظواهر الروحية لا تنشأ جذوره في النفس إلا بعد تحقق مبادئ ومقدمات توجد العقيدة، فما معني قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيف السيف، بدل أن يقول: الدراسة الدراسة، الحوار [ صفحه 391] الحوار. أليس شعار " السيف السيف " ينم عن طبيعة قاسية، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟ وأنا أجل إمام دار الهجرة عن هذه الكلمة. 5 - إن مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلا علي نقول وفتاوي ذكرها ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح إلي بلاد الأفراح " دون أن يرجع إلي تفسير الآيات واحدة واحدة، أو يناقش المسألة في ضوء السنة. فما أرخص مهمة الإفتاء ومؤهلات المفتي في هذه الديار، حيث يكتفي في تكفير نصف الأمة بالرجوع إلي كتاب ابن القيم فقط. وفي الختام، إن ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية، فإن نفي الرؤية شعار أئمة أهل البيت، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي

(عليه السلام) في خطبه، وكلمه قبل أن يتولد الجهم وأذنابه، ولأجل ذلك اشتهر: " العدل والتنزيه علويان، والجبر والتشبيه أمويان ". [ صفحه 393]

خاتمة المطاف الآن حصحص الحق

لقد تجلت الحقيقة بأجلي مظاهرها وهي أصفي من أن تكدر صفوها الشبه، ومن قرأ فصول هذا الكتاب وكان علي أهبة اصطياد الواقع لوقف علي أن الحق مع نفاة الرؤية، وأنه ليس للمثبتين دليل لا عقلي ولا نقلي، أما العقل فهو علي جانب الخلاف من القول بالرؤية فلا يجتمع التنزيه من الجهة، مع القول بالرؤية، كما لا تنفك الإحاطة بالرب بعضا أو كلا عن القول بها. وأما النقل فليس إلا ظهورات بدئية تزول بعد التأمل. غير أنه هناك مطالب متفرقة لا يجمعها فصل واحد نشير إليها، وأحببت أن أفصلها عما مضي من البحث في صميم المسألة. الأول: إن أكثر من طرح مسألة الرؤية فإنما بحث عنها بدافع روحي وهو إثبات عقيدته والتركيز علي نحلة طائفته، ولذلك ربما انتهي البحث والدراسة منهم إلي الخروج عن الأدب الإسلامي. وهذا هو العلامة الزمخشري يشبه أهل الحديث والحنابلة القائلين بالرؤية بما في شعره ويقول: لجماعة سموا هواهم سنة++ وجماعة حمر لعمري موكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا++ شنع الوري وتستروا بالبلكفة [649] . [ صفحه 394] إن ما ذكره في البيت الثاني وإن كان حقا، فإن القول بالرؤية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه والقول بأنه جسم بلا كيف، أو أنه يري بلا كيف مهزلة لا قيمة لها لما عرفت من أن الكيفية محققة لمفهوم الرؤية بالبصر كما أنها محققة لمفهوم اليد والرجل، فاليد بالمعني اللغوي بلا كيفية أشبه بأسد لا رأس له ولا بطن ولا ذنب. ولكن بيته الأول لا يناسب أدب الزمخشري الذي تربي في

أحضان الإسلام والمسلمين وخالط القرآن جسمه وروحه. ولما أثار هذا الشعر حفيظة الأشاعرة وأهل الحديث قابلوه بمثل ما قال، فقد قال أحمد ابن المنير الإسكندري في حاشيته علي الكشاف باسم الانتصاف: وجماعة كفروا برؤية ربهم++ حقا ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل++ عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا أنهم++ إن لم يكونوا في لظي فعلي شفه إن البادي وإن كان أظلم، ولكنهما كليهما خرجا عن مقتضي الأدب الإسلامي، فالمسلم ما دام علي حجة علي عقيدته ولم يكن مقصرا في سلوكها لا يحكم عليه بشئ من الكفر والفسق ولا العقاب ولا العذاب. وقد نصره تاج الدين السبكي بقوله: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا++ بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه++ تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وتلقبوا عدلية قلنا نعم++ عدلوا بربهم فحسبهم سفه [650] . [ صفحه 395] فيا لله ماذا يعني تاج الدين السبكي من قوله: " تعطيل ذات الله مع نفي الصفة " فإن أحدا من المسلمين لا يعطل الذات عن الوصف بالعلم والقدرة والحياة والسمع. نعم إن عني من تعطيل الذات نفي وصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية بمعانيها اللغوية كاليد والرجل والنزول ووضع القدم في الجحيم، فإن هذا ليس تعطيلا بل مرجعه إلي التنزيه مع عدم التعطيل بجعلها كناية عن المعاني الأخر، تبعا لأسلوب الفصحاء والبلغاء والذكر الحكيم، كلام فصيح وبليغ، ليس فوقه شئ فلا يعد مثل ذلك تعطيلا. نعم، من يحاول وصفه سبحانه بهذه الصفات بمعانيها اللغوية، ويقول: إن لله تبارك وتعالي يدا ورجلا ونزولا وحركة بالمعني الحقيقي ولكن لا تعرف كيفيتها، يحاول الجمع بين المتضادين فإن مقتضي الحمل علي المعاني اللغوية سيادة تلك المعاني

علي موردها و مقتضي نفي الكيفية نفي معانيها اللغوية، فكيف يعدون أنفسهم من المثبتين وأهل التنزيه من المعطلة. ولا يقاس ذلك بوصفه سبحانه بالعلم والقدرة مع عدم العلم بالكيفية، لأن الكيفية فيهما ليست مقومة لواقعهما، فالعلم بمعني انكشاف الواقع، وأما كونه عرضا أو جوهرا، حالا أو محلا، فليست مقومة لمفهومه حتي يرجع نفي الكيفية إلي نفي واقع العلم، وهذا بخلاف اليد فإنها بلا كيفية ليست يدا لغة. وأظن أنه لو انعقد مؤتمر علمي في جو هادئ واستعدت الطائفتان للتأمل في براهين النفاة لقل الخلاف وتقاربت الطائفتان. نعم إن خلافا دام قرونا لا ينتفي بأسبوع أو شهر أو بعقد مؤتمر أو مؤتمرين، ولكن الرجاء تقريب الخطي وعدم تكفير إحدي الطائفتين الطائفة الأخري. أوليس الأولي لنا ألا نقسم رحمة ربنا وعذابه وجحيمه بيننا كما قسمه الإسكندري في تعليقته علي الكشاف ونتركه إلي الله سبحانه فهو أعلم بمن في لظي [ صفحه 396] أو شفه منه أو قريب من الجنة: (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) (الزخرف - 32). الثاني: إن أكثر الباحثين في الرؤية يبحثون في مفهوم الرؤية لغة ويحشدون كلمات أهل اللغة من القدامي والجدد، كما أنهم يبحثون في واقع الرؤية علميا وهل هي بسقوط الشعاع من العين علي الأشياء أو بالعكس، مع إنا في غني عن هذه المباحث، إذ ليس البحث في المقام عن لغة الرؤية ولا في واقعها العلمي، وإنما البحث في أمر اختلفت فيه كلمة الأمة، لا هو رؤية الله تعالي بالعين في الدنيا والآخرة، وليس البحث في هذا الإطار متوقفا علي دراسة مفهوم

الرؤية وواقعها وليس مفهومها أمرا مبهما حتي نستمد في تفسيرها من كتب اللغة. وإن شئت قلت: إن البحث كلامي مركز علي إمكان رؤية الله بالعين في الآخرة. نعم من أراد الاستدلال علي الجواز ببعض الأحاديث الماضية من أنكم سترون ربكم يوم القيامة... وشككنا في معني الرؤية كان البحث عن مفهومها أمرا صحيحا، وقد سبق منا أن محل النزاع هو إمكان الرؤية بالعين التي نري بها الأشياء في الدنيا، وأما الرؤية بحاسة خامسة أو بالقلب أو بالرؤيا فليس مطروحا في المقام، ولذلك استغنينا عن نقل كلمات أصحاب المعاجم كالعين للخليل، والجمهرة لابن دريد، والمقاييس لابن فارس، واللسان لابن منظور، والقاموس للفيروزآبادي وغيرهم. الثالث: لقد أخذنا علي عاتقنا التمسك بالأدب الإسلامي في الدراسة والتحليل، ولكن رب حديث يسمعه من آخر ربما يجر إلي القسوة أو التجرأ علي المقابل، وبدوري لما كنت أتفحص الكتب والتفاسير حول المسألة رأيت أمورا من [ صفحه 397] بعض المثبتين أشبه بالمهزلة، مع أن القائل يعد من المفسرين الكبار ويكال له بصاع كبير، وإن كنت في ريب مما قلنا فاستمع إلي قول الآلوسي: قال: روي الدارقطني وغيره عن أنس من قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): رأيت ربي في أحسن صورة. ومن الناس من حملها علي الرؤية المنامية، وإذا صح هذا الحمل فأنا ولله الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات، وكانت المرة الثالثة عام 1246 رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق، وكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالي وبيني وبينه سترحبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلي مقام عيسي (عليه السلام) ثم إلي مقام محمد

(صلي الله عليهوآله وسلم) فذهب بي إليها فرأيت ما رأيت ولله تعالي الفضل والمنة [651] . نحن لا نعلق علي كلامه بشئ سوي أنها إما كانت أضغاث أحلام ليس لها مسحة من الحقيقة ولا لمسة من الواقع، أو أنها كانت صور تفكير الرجل في يومه ونهاره حول تلك المسألة العقائدية فخرج المخزون في نفسه إلي صفحات ذهنه في المنام. أما آن للواعين من الأمة أن ينزهوا كتبهم من هذه الخرافات حتي لا يتخذها المادي الغاشم ذريعة للسخرية والتهكم علي الدين وأهله. الرابع: إن النافين للرؤية يركزون علي الروايات المثبتة حسب ادعائهم ولكنهم لا يركزون علي الروايات النافية، فإن هذه الروايات من غير فرق بين المثبتة والنافية وإن كانت روايات آحاد لا تفيد علما في مجال العقائد ولكن مقتضي الإنصاف الإدلاء بالرواية المخالفة أيضا، وإليك بعض ما ورد في هذا المضمار: 1 - روي البخاري في تفسير قوله: (ومن دونهما جنتان) عن عبد الله بن [ صفحه 398] قيس أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: " جنتان من فضة آنيتهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيها وما بين القوم وبين أن ينظروا إلا رداءالكبرياء علي وجهه في جنة عدن " [652] . 2 - روي مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): هل رأيت ربك؟ قال: " نور أنا أراه؟ " [653] ودلالة الحديث علي إنكار الرؤية واضحة، فإن الرسول ينكر الرؤية بأنه سبحانه ليس نورا حتي أراه. نعم رواه مسلم بصورة أخري أيضا، روي عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لسألته فقال: عن أي

شئ كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال:" رأيت نورا " [654] . ولعل المراد ما رأيت سبحانه وإنما رأيت حجابه كما في الحديث التالي. 3 - روي مسلم عن أبي موسي قال: قام فينا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بخمس كلمات فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور، وفي رواية أبي بكر.. النار لو كشفه لأحرقت سبحاتوجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه [655] . 4 - روي الطبري في تفسير قوله سبحانه حاكيا علي لسان موسي (عليه السلام) عن ابن عباس قال: يقول: أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شئ منخلقك [656] . نعم من لا يروقه قول ابن عباس من الرواة نقله وذيله بقوله: يعني في الدنيا، وهذا تأويل للرواية. [ صفحه 399] 5 - روي الطبري في تفسير قوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)عن قتادة أنه قال: (لا تدركه الأبصار...) وهو أعظم من أن تدركه الأبصار [657] . 6 - روي مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين هل رأي محمد ربه؟ فقالت: سبحانه الله لقد قف شعري مما قلت، ثم قرأت: (لا تدركه الأبصار وهويدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) [658] . 7 - روي الشعبي قال: قالت عائشة: من قال إن أحدا رأي ربه فقد أعظمالفرية علي الله، قال الله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) [659] . وأضاف الطبري وقال: قال قائل: هذه المقالة معني الإدراك في هذاالموضع هو الرؤية وأنكروا أن يكون الله ليري بالأبصار

في الدنيا والآخرة [660] . ويظهر من الطبري أن القائلين بالرؤية حاولوا منذ زمن قديم علي تأويل لفظ الإدراك في الآية بالإحاطة. فقد نقل عن عطية العوفي أنهم ينظرون إلي الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم فذلك قوله: (لا تدركهالأبصار) [661] . وأنا أجل عطية العوفي تلميذ ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري عن هذا التفسير الذي لا يوجد له أصل في اللغة، وهذه الكلمة الدارجة بين أهل الرجال في أصحاب الرسول، يقولون: أدرك رسول الله أو لم يدركه، فلا يراد من الأول أنه واكب حياته منذ بعثته حتي رحيله، بل يراد منه أنه رآه مرة أو مرتين، أو أياما قلائل، وربما يقال: إنه أدرك رسول الله وهو صبي فيعدونه من الصحابة. الخامس: إن للإمام عبده وتلميذه صاحب المنار كلمات حول الرؤية قد [ صفحه 400] حاول الإخلاص في جمع كلمة المسلمين، من أراد فليرجع إلي تفسيره [662] ، وله كلام في تفسير قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): " لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه ". قال: والمعني أن النور العظيم هو الحجاب الذي يحول بينه وبين خلقه وهو بقوته وعظمته ملتهب كالنار، ولذلك رأي موسي (عليه السلام) عند ابتداء الوحي نارا في شجرة توجه همه كله إليها فنودي الوحي من ورائها، وفي التوراة أن الجبل كان في وقت تكليم الرب لموسي (عليه السلام) وإيتائه الألواح مغطي بالسحاب. ورأي النبي الخاتم الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج نورا من غير نار وربما كان هذا أعلي، ولكنه كان حجابا دون الرؤية أيضا، فقد سأله أبو ذر (رض) وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: "

نور، أنا أراه؟ " وفي رواية أخري: " رأيت نورا " ومعناها معا رأيت نورا منعني من رؤيته لا أنه تعالي نور، وأنه لذلك لا يري، وهذا يتلاقي ويتفق مع قوله: " حجابه نور " ولذلك جعلنا أحاديث النور شاهدا واحدا في موضوعنا، وهي تدل علي عدم رؤية ذات الله عز وجلوامتناعها [663] . السادس: إن القائلين بالرؤية علي فرقتين، فرقة تعتمد علي الأدلة العقلية دون السمعية، وفرقة أخري علي العكس. فمن الأولي سيف الدين الآمدي (551 - 631) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة علي غير المسلك العقلي إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية وهيمما يتقاصر عن إفادات القطع واليقين، فلا يذكر إلا علي سبيل التقريب [664] . ومن الثانية، الرازي في غير واحد من كتبه فقال: إن العمدة في جواز الرؤية [ صفحه 401] ووقوعها هو السمع وعليه الشهرستاني في نهاية الإقدام [665] . والحق أن من حاول إثبات الرؤية بالدليل العقلي فقد حرم عن نيل مرامه، فإن الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة في غاية الوهن، فإنهم استدلوا علي الجواز بوجهين: أحدهما: يرجع إلي الجانب السلبي وأنه لا يترتب علي القول بالرؤية شئ محال، والآخر: يرجع إلي الجانب الإيجابي وهو أن مصحح الرؤيةفي الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق [666] . أظن أن كل من له أدني معرفة بالمسائل العقلية يدرك ضعف الاستدلال، إذ كيف لا يترتب علي الرؤية بالعين تشبيه وتجسيم، مع أن الرؤية بالمعني الحقيقي لا تنفك عن الجهة للمرئي، مضافا إلي أن واقع الرؤية عبارة عن انعكاس الأشعة علي الأشياء، فإثبات الرؤية بلا هذه اللوازم نفي لموضوعها وأوضح ضعفا ما ذكره من أن المجوز للرؤية هو

الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكن، إذ المجوز ليس الوجود بلا قيد، بشهادة أن النفسيات كالحسد والبخل والعشق والفرح لا تري بالعين ورؤيتها بغيرها كحضورها عند النفس خارج عن محط البحث، بل المصحح هو الوجود الواقع في إطار الجهة وطرفا للإضافة بين العين وطرفا للإضافة بين البصر والمبصر، ومثل ذلك يساوي الوجود الإمكاني المادي. ولضعف هذا النوع من الاستدلال نري أن الشريف الجرجاني بعدما أطال البحث حول البرهان العقلي قال: إن التعويل في هذه المسألة علي الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلي ما ذهب إليه الشيخ أبو منصور الماتريدي منالتمسك بالظواهر النقلية [667] . [ صفحه 402] السابع: إن المنكرين للرؤية يفسرون قوله سبحانه: (إلي ربها ناظرة) (القيامة - 23) بالانتظار وكلامهم حق في الجملة، لكن أغلب من يذكر هذا التفسير لا يفرق بين المعني الاستعمالي والمعني الجدي. وقد عرفت أن المعني الاستعمالي غير المعني الجدي فقد أريد من الجملة حسب الاستعمال الرؤية وأريد الانتظار منها جدا، فمثلا نقول: إني أنظر إلي الله ثم إليك، فالمعني الابتدائي هو الرؤية ولكن المعني الجدي هو الانتظار. وهناك خلط آخر في كلامهم حيث لا يفرقون بين النظر المستعمل المتعدي ب " إلي " والمتعدي بنفسه، فلذلك يستدلون علي أن الناظر في الآية بمعني الانتظار بقوله تعالي: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) (يس - 49) وقوله: (هل ينظرون إلا تأويله) (الأعراف - 53) وقوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (البقرة - 210) مع أن الاستشهاد في غير محله، لأن كون اللفظة بمعني الانتظار فيما إذا تعدت بنفسها غير منكر وإنما البحث فيما إذا كانت متعدية ب " إلي " فعلي ذلك يجب التركيز في إثبات

كونها بمعني الانتظار علي الآيات والأشعار التي استعملت وتعدت ب " إلي " وأريد بها الانتظار. الثامن: يقع بعض السطحيين في تفسير المقطع الأول من آيات سورة " النجم " (1 - 18) في خطأين: خطأ في إثبات الجهة لله سبحانه، وخطأ في إثبات الرؤية للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وإليك الآيات، ثم الإشارة إلي مواضع الاشتباه، قال سبحانه: (والنجم إذا هوي - ما ضل صاحبكم وما غوي - وما ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحي يوحي - علمه شديد القوي - ذو مرة فاستوي - وهو بالأفق الأعلي - ثم دنا فتدلي - فكان قاب قوسين أو أدني - فأوحي إلي عبده ما أوحي - ما كذب الفؤاد ما رأي - أفتمرونه علي ما يري - ولقد رآه نزلة أخري عند سدرة المنتهي - عندها جنة المأوي - إذ يغشي السدرة ما يغشي - ما [ صفحه 403] زاغ البصر وما طغي - لقد رأي من آيات ربه الكبري) (النجم: 1 - 18). إن الجمل التالية: (علمه شديد القوي) إلي قوله: (فأوحي إلي عبده ما أوحي) تؤكد علي اقتراب النبي من جبرئيل، أقرب ما يكون منه، علي بعد ما بين القوسين أو أدني وهو تعبير عن منتهي القرب، والضمائر كلها إلا المجرور في (إلي عبده) يرجع إلي جبرئيل الذي كني عنه ب (شديد القوي) وأين هو من قربه (صلي الله عليه وآله وسلم) منه سبحانه. ومن التفسير الخاطئ، هو إرجاع الضمير في قوله: (ثم دنا فتدلي) إلي النبي وتفسير الآية بقرب النبي من الله علي أقرب ما يمكن، وبالتالي تصور أن لله جهة وقربا وبعدا وبذلك يتضح خطأ من فسر الآية

علي نحو أثبت لله جهة وقربا. إن المرئي في قوله: (ما كذب الفؤاد ما رأي) حسب الآيات المتقدمة هو الأفق الأعلي، والدنو والتدلي والوحي، وحسب الآية اللاحقة هو آيات الرب حيث قال: (لقد رأي من آيات ربه الكبري) ومن تلك الآيات هو جبرئيل الذي هو (شديد القوي) وأين الآية من الدلالة علي رؤية النبي ربه. ومن التفسير الخاطئ، جعل المرئي في قوله: (ما رأي) هو الرب ومن حسن الحظ أن السنة أيضا تفسر الآية برؤية جبرئيل. عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم علي الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم) رأي ربه فقد أعظم علي الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل: (ولقد رآه بالأفق [ صفحه 404] المبين) [668] و (ولقد رآه نزلة أخري)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: " إنما هو جبريل لم أره علي صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلي الأرض " فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) [669] أو لم تسمع أن الله يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) [670] قالت: ومن زعم أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم علي الله الفرية

والله يقول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [671] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم علي اللهالفرية والله يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) [672] . [673] التاسع: إن للشيخ الجصاص الحنفي (م 370) كلاما رائعا في تفسير قوله سبحانه: (لا تدركه الأبصار) وقد فسر الروايات الدالة علي الرؤية بالعلم الضروري الذي لا يشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، ولأجل إيقاف القارئ علي كلام ذلك المفسر الكبير الذي هو من السلف الصالح نذكر نص كلامه، قال: قوله تعالي: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) يقال: إن الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام، أي [ صفحه 405] لحق حال النضج وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال، وإدراك البصر للشئ لحوقه له برؤيته إياه، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة، لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له فقوله تعالي: (لا تدركه الأبصار) معناه لا تراه الأبصار وهذا بمدح ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالي: (لا تأخذه سنة ولا نوم) [674] وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص فغير جائز إثبات نقيضه بحال كما لو بطل استحقاق الصفة ب (لا تأخذه سنة ولا نوم) لم يبطل إلا إلي صفة نقص، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال، إذ كان فيه إثبات صفة نقص. ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله تعالي: (وجوه يومئذ ناضرة - إلي

ربها ناظرة) [675] لأن النظر محتمل لمعان منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعني العلممشهورة في اللغة [676] . العاشر: إن من كتب حول الرؤية من إخواننا أهل السنة - من غير فرق بين النافي والمثبت - فقد دق كل باب، ورجع إلي كل صحابي وتابعي، ومتكلم و فيلسوف، ولكن لم يدق باب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أحد الثقلين اللذين تركهما النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لهداية الأمة وفي مقدمتهم الإمام علي (عليه السلام) باب علم النبي وأقضي [ صفحه 406] الأمة، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة، وإمكان الرؤية، فبلغ رسالات الله التي تعلمها في أحضان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بأبلغ بيان. ولو ذهبت العدلية كالمعتزلة والإمامية إلي امتناع الرؤية فقد أخذت منه، وتعلمت من منهجه فبلغت الغاية في التنزيه حسب إرشاداته، كما صرح بذلك غير واحد من أئمة العدلية، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضي، ومن أراد التفصيل فليرجع إلي خطبه (عليه السلام) في نهج البلاغة وإلي كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين جعفر السبحاني قم - مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) ليلة 26 من شهر محرم الحرام من شهور عام 1416 ه

پاورقي

[1] النجاشي: الرجال: رقم الترجمة 1044.

[2] الطبرسي: مجمع البيان: 2 / 389.

[3] المصدر نفسه: 315.

[4] الشاطبي (أبو إسحاق): الإعتصام: 2 /

61.

[5] الطبري: التفسير: 10 / 80 - 81.

[6] الإمام أحمد: المسند: 3 / 310، طبع بيروت، دار الفكر.

[7] الإمام أحمد: المسند: 371.

[8] المصدر نفسه: 4 / 126 ولاحظ أيضا ص 127 ولاحظ البحار: 2 / 263 فقد جاءت فيها نفسالنصوص وفي ذيلها: " وكل ضلالة في النار ".

[9] ابن ماجة القزويني: السنن: 1 الباب السابع الحديث 45، ط بيروت دار إحياء التراث العربيعام 1395. [

[10] ابن الأثير: جامع الأصول: 5 الفصل الخامس، الخطبة رقم 3974.

[11] ابن الأثير: جامع الأصول: 5 الفصل الخامس الخطبة رقم 3974.

[12] ابن ماجة القزويني: السنن: 1 / 19.

[13] مسلم: الصحيح: 5 / 133 كتاب الأقضية الباب 8، ومسند أحمد: 6 / 270.

[14] الشاطبي (أبو إسحاق): الإعتصام: 1 / 68.

[15] مسلم: الصحيح: 8 / 62 كتاب العلم، ورواه البخاري في الصحيح الجزء 9، كتاب الإعتصامبالكتاب والسنة.

[16] مسلم: الصحيح: 8 / 61، كتاب العلم.

[17] المصدر نفسه: 5 / 206، كتاب الإمارة.

[18] مالك: الموطأ، كتاب الطهارة باب جامع الوضوء، الحديث 30، مسلم: الصحيح: 1 / 150، كتاب الطهارة.

[19] الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهجالبلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم.

[20] الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهجالبلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم.

[21] الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهجالبلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم.

[22] الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما

في نهجالبلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم.

[23] المصدر نفسه: ح 6.

[24] المصدر نفسه: 2 / 375.

[25] المصدر نفسه: 2 / 375.

[26] المجلسي: البحار: 2 / 264 ح 14 و 15، ولاحظ أيضا: 36 / 288 - 289.

[27] المجلسي: البحار: 2 / 264 ح 14 و 15، ولاحظ أيضا: 36 / 288 - 289.

[28] المصدر نفسه: 8 / 23 الطبعة القديمة.

[29] المجلسي: البحار: 2 / 304 ح 45.

[30] المصدر نفسه: 2 / 261 ح 3.

[31] الرضي: نهج البلاغة، الخطب 164، 182، 176.

[32] الرضي: نهج البلاغة، الخطب 164، 182، 176.

[33] الرضي: نهج البلاغة، الخطب 164، 182، 176.

[34] المصدر نفسه: قسم الحكم - رقم 123.

[35] ابن الأثير: جامع الأصول: 9 / 566، المتقي الهندي: كنز العمال: 1 / 221 ح 1118 ويشتملالأخير علي أحاديث لم نذكرها وقد بثها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ.

[36] ابن الأثير: جامع الأصول: 9 / 566، المتقي الهندي: كنز العمال: 1 / 221 ح 1118 ويشتملالأخير علي أحاديث لم نذكرها وقد بثها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ.

[37] الخليل: ترتيب العين: 72.

[38] ابن فارس: المقاييس: 1 / 209 مادة " بدع ".

[39] الراغب: المفردات: 28.

[40] الفيروزآبادي: القاموس: 3 / 6.

[41] ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم الحكم: 160 طبع الهند.

[42] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 5 / 156 و 17 / 9.

[43] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 5 / 156 و 17 / 9.

[44] ابن حجر الهيتمي: التبيين بشرح الأربعة: 221.

[45] الزركشي: الابداع: 22.

[46] محمد بخيت المصري: أحسن الكلام: 6.

[47] الشاطبي: الإعتصام: 1 / 37.

[48] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 17

/ 10.

[49] ابن حزم: الفصل كما في البدعة، للدكتور عزت: 161.

[50] الغزالي: الإحياء: 2 / 3 ط الحلبي.

[51] الكشاف لاصطلاحات الفنون كما في البدعة، للدكتور عزت: 162.

[52] ابن الأثير: النهاية: 1 / 79 وكلامه صريح في أن النبي لم يصلها جماعة إلا ليالي فتركها، وإن أقامتها جماعة كانت من سنة عمر، إذ للخليفتين - حسب الرواية - حق التسنين الذي يعبر عنهبسنة الصحابي.

[53] الشريف المرتضي: الرسائل: 3 / 83.

[54] العلامة: المختلف: 2 / 131.

[55] الشهيد الأول: القواعد والفوائد: 2 / 144 - 145 القاعدة 205 وقد ذكر الأقسام الخمسة غير واحد من الفقهاء منهم القرافي في الفروق: 4 / 202 - 205 وسيوافيك الكلام في عدم صحة هذاالتقسيم.

[56] الطريحي النجفي: مجمع البحرين: ج 1، مادة " بدع " لاحظ " ترتيب المجمع ".

[57] المجلسي: البحار: 74 / 202 - 203.

[58] البحراني (الشيخ يوسف): الحدائق: 10 / 180.

[59] الآشتياني: بحر الفوائد: 80 وتري قريبا من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30وفوائد الأصول للمحقق النائيني: 2 / 130.

[60] الآشتياني: بحر الفوائد: 80 وتري قريبا من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30وفوائد الأصول للمحقق النائيني: 2 / 130.

[61] الأمين العاملي (السيد محسن): كشف الارتياب: 143.

[62] قد سبقت مصادرها في الفصل الأول فلاحظ.

[63] قد مضت النصوص في مواضعها.

[64] لا يخفي أن الإمام الشاطبي يقول في كلمته هذه بالحسن والقبح العقليين مع أنه خلاف مذهبه،لاحظ الصفحة 114 من الإعتصام.

[65] الإمام الشاطبي: الإعتصام: 1 / 141 - 142.

[66] لاحظ الفصل الأول، الحديث التاسع.

[67] مضت النصوص في محلها.

[68] المجلسي: البحار: 74 / 202.

[69] مالك بن أنس: الموطأ: 648 برقم 1619.

[70] الهدية السنية، الرسالة الثانية: 51.

[71] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري

في شرح صحيح البخاري: 7 / 6 باب فضائل أصحاب النبي،النووي: شرح صحيح مسلم: 8 / 84 - 85.

[72] الخليل: العين: ابن منظور: اللسان، مادة " قران ".

[73] النووي: شرح صحيح مسلم: 16 / 85.

[74] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7 / 4.

[75] السيوطي: تدريب الراوي: 1 / 328.

[76] صائب عبد الحميد: منهج في الانتماء المذهبي: 281.

[77] لاحظ في الوقوف علي هذه الحوادث المرة، تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي وتاريخ الكامل للجزري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة إلي غير ذلك من المعاجمالتاريخية المعتبرة.

[78] الرازي: مفاتيح الغيب: 3 / 427 تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 6 / 165.

[79] ابن الأثير: جامع الأصول: 11 / 120 برقم 7973.

[80] ابن الأثير: الكامل: 2 / 52، الجزري: أسد الغابة: 5 / 91 إلي غيرهما من المصادر الكثيرة.

[81] سورة المنافقون: الآيات 1 - 8.

[82] التوبة: 101.

[83] الأحزاب: 12.

[84] التوبة: 45 - 47.

[85] التوبة: 102.

[86] آل عمران: 154.

[87] الحجرات: 14.

[88] التوبة: 60.

[89] الأنفال: 16.

[90] الحجرات: 6.

[91] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 276.

[92] ابن تيمية: الفتاوي الكبري: 1 / 176.

[93] السيد الأمين: كشف الارتياب: 357 - 358.

[94] الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية: 13 - 14.

[95] الدكتور سيد الجميلي: مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره.

[96] الشاطبي: الإعتصام: 1 / 37.

[97] الشاطبي: الإعتصام: 1 / 325.

[98] أحمد بن حنبل: المسند: 3 / 319 و 399، لاحظ الفقيه للصدوق: 2 / 92 الحديث 2.

[99] الكليني: الكافي: 4 / 127 ح 5 باب كراهية الصوم في السفر. [

[100] مالك ابن أنس: الموطأ، كتاب الإيمان والنذور: 317 ح 1022.

[101] البخاري: الصحيح: 5 / 41 - 42 باب أيام الجاهلية.

[102] الدارمي: السنن:

2 / 36 كتاب المناسك.

[103] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2 / 388.

[104] أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 49.

[105] لاحظ السيرة النبوية لابن هشام، صلح الحديبية: 2 / 316 - 317.

[106] الكليني: الكافي: 1 / 54 ح 1، باب البدع.

[107] ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 19 / 235.

[108] نهج البلاغة: قسم الحكم: رقم 287.

[109] القفي: الشئ الذي يؤثر به للضيف.

[110] صغاه: ميله.

[111] كتاب الإشارات: 3 / 419.

[112] ابن الأثير: أسد الغابة: 1 / 216 مادة " تميم " و ج 3 / 406.

[113] ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 537 - 543.

[114] الدكتور عزت علي عطية: البدعة: 245.

[115] البخاري: الصحيح: 2 / 194، باب مناقب عمر بن الخطاب.

[116] البخاري: الصحيح: 3 / 44 - 45 كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان.

[117] ابن الأثير: النهاية: 1 / 79.

[118] الشاطبي: الموافقات: 1 / 142.

[119] المجلسي: البحار: 2 / 303 ح 42.

[120] الشهيد: القواعد والفوائد: 2 / 144 - 145 القاعدة 205، ونعلق علي كلامه أن القسم إنما يكونبدعة إذا أتي باسم الدين، وإلا يكون محرما ومعصية لا بدعة.

[121] مسلم: الصحيح: 8 / 61 كتاب العلم.

[122] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79.

[123] يريد من العبادات: الأمور الشرعية من دون أن تختص بما يعتبر في امتثالها قصد القربة.

[124] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 129.

[125] عزت علي: البدعة: 265.

[126] لا يخفي ما من المسامحة في هذا الحصر، لأن التكاليف الشرعية أوسع من الثلاثة كالأحوال الشخصية.

[127] يريد من التعبد، ما للشارع فيه دور فيعم جميع أبواب الفقه والأقسام الأربعة.

[128] الشيخ شلتوت: الفتاوي: 163.

[129] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 73.

[130] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79.

[131] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79.

[132] أبو حامد

الغزالي: إحياء علوم الدين: 2 / 251 كتاب العزلة.

[133] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 68.

[134] المصدر نفسه: 69.

[135] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 70.

[136] البحراني: البرهان: 3 / 105.

[137] الحر العاملي: الوسائل: ج 1 باب 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل الحديث 3.

[138] الكليني: الكافي: 1 / 164.

[139] أبو عبد الله العبدري المالكي المتوفي سنة 737 ه ومع ذلك له كلمة قيمة في زيارة القبور لاحظ ج 1 / 254.

[140] ابن الحاج: المدخل: 2 / 212، 224.

[141] ابن الحاج: المدخل: 2 / 212، 224.

[142] المصدر نفسه: 238، 264، 224.

[143] المصدر نفسه: 238، 264، 224.

[144] المصدر نفسه: 238، 264، 224.

[145] الشاطبي: الإعتصام: 1 / 286 - 287.

[146] الشاطبي: الإعتصام: 1 / الباب الخامس بأجمعه.

[147] التفتازاني: شرح المقاصد: 5 / 232.

[148] الكليني: الكافي: 2 / 86 ح 1.

[149] الهيتمي: مجمع الزوائد: 1 / 19.

[150] البخاري: الصحيح: 2 / 158، لاحظ سنن الترمذي رقم 3071 وغيرهما.

[151] محمد الغزالي: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: 102.

[152] إسماعيل حقي البروسوي: روح البيان: 9 / 385.

[153] لاحظ علاء الدين الهندي: كنز العمال: 1 حديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1145،1102 و 1676.

[154] لاحظ علاء الدين الهندي: كنز العمال: 1 حديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1145،1102 و 1676.

[155] البخاري: الصحيح: 1 / 27، السنن لابن ماجة: 1 / 13، الصحيح لمسلم: بشرح النووي: 661والترمذي رقم 2796 إلي غير ذلك من المصادر.

[156] البخاري: الصحيح: 1 / 27، السنن لابن ماجة: 1 / 13، الصحيح لمسلم: بشرح النووي: 661والترمذي رقم 2796 إلي غير ذلك من المصادر.

[157] نهج البلاغة: الخطبة 210.

[158] من الهدي الساري مقدمة فتح الباري: 4.

[159] المصدر نفسه: 5.

[160] الذهبي: طبقات الحفاظ: 2 / 154، تاريخ

بغداد: 9 / 57.

[161] إرشاد الساري: 1 / 208، صفوة الصفوة: 4 / 143.

[162] الذهبي: طبقات الحفاظ: 2 / 151، 157، شرح صحيح مسلم للنووي: 1 / 32.

[163] الذهبي: طبقات الحفاظ: 9 / 17.

[164] الكشي: الرجال: 5.

[165] السيوطي: الدر المنثور: 3 / 232.

[166] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 171 - 172 ولاحظ صحيح البخاري.

[167] كنزل العمال: 1 / 44، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

[168] المصدر نفسه: أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

[169] أحمد: المسند: 5 / 182 - 189.

[170] الحاكم: المستدرك: 3 / 148.

[171] أحمد: المسند: 3 / 17 - 26. أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.

[172] الحاكم: المستدرك: 3 / 109، أخرجه عن حديث زيد بن أرقم.

[173] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 156، قسم التعليقة.

[174] رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر: 3 / 151.

[175] النبهاني: الأربعون حديثا: 216 نقله عن الطبراني في الأوسط.

[176] رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس: 3 / 149.

[177] ابن حجر: الصواعق: 91، 142 (الباب الحادي عشر).

[178] لاحظ الصواعق: 153 (الباب الحادي عشر).

[179] الكليني: الكافي: 6 / 47، الحديث 5، ولاحظ البحار: 68 / 297.

[180] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية: 111.

[181] نهج البلاغة، الخطبة: 127.

[182] الحر العاملي: الوسائل: 11 / 395.

[183] ابن إخوة القرشي: معالم القربة في أحكام الحسبة: 179.

[184] مسلم: الصحيح: 15 / 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل.

[185] مسلم: الصحيح: 15 / 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل.

[186] مسلم: الصحيح: 7، كتاب الفضائل في باب فضائل موسي، البخاري: الصحيح: 4، كتاب بدءالخلق، باب وفاة موسي: 157.

[187] الطبري: التاريخ: 1 / 305، باب وفاة موسي.

[188] راجع للوقوف علي هذه الأحاديث ونظائرها جامع الأصول: ج

1 نقلا عن صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكنز العمال: ج 2، و 6 و 12.

[189] فتح الباري: لابن حجر: 1 / 50 - 51.

[190] سفينة البحار: مادة " حب ".

[191] ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 513.

[192] ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 666.

[193] المصدر نفسه: 371.

[194] دخل أبو بكر حجرة النبي ص بعد رحيله وهو مسجي ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكي فقال: بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. لاحظ صحيح البخاري: 2 / 17 كتاب الجنائز.

[195] الديار بكري: تاريخ الخميس: 1 / 323.

[196] الحلبي: السيرة: 1 / 83 - 84.

[197] المواهب اللدنية: 1 / 148.

[198] مسلم: الصحيح: 2 / 819.

[199] ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف: 98.

[200] مسلم: الصحيح: 113، وأخرجه البخاري: 7 / 215.

[201] السيوطي: الحاوي للفتاوي: 1 / 196.

[202] السيوطي: الحاوي للفتاوي: 1 / 196.

[203] البخاري: الصحيح: 8 / 270، وكما أخرجه الترمذي في 5 / 250، وفي الروايات المتضافرة أنها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع.

[204] البخاري: الصحيح: 8 / 270، وكما أخرجه الترمذي في 5 / 250، وفي الروايات المتضافرة أنها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع.

[205] عيسي الحميري: بلوغ المأمول: 29.

[206] هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577 - 660 ه): فقيه شافعي، له من الكتب " التفسير الكبير " و " مسائل الطريقة " وغيرها. (أعلام الزركلي: 4 / 21. دار الملايين - بيروت).

[207] محمد حامد الفقي في تعليقته علي فتح المجيد: 154.

[208] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 293 - 294.

[209] المصدر

السابق.

[210] صالح الفوزان: البدعة: 17.

[211] ابن الحاج: المدخل: 2 / 2.

[212] الأميني: سيرتنا وسنتنا: 38 - 39، الطبعة الثانية.

[213] مسلم: الصحيح: 3 / 65، باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه.

[214] الترمذي: الصحيح: 3 / 274، باب الجنائز المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي. وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة: حديث بريدة صحيح والعمل علي هذا عن أهل العلم ولا يرون بزيارةالقبور بأسا وهو قول ابن مالك والشافعي وإسحاق.

[215] تحسن مراجعة المصادر الآتية: سنن ابن ماجة: 1 / 114 ط. الهند باب ما جاء في زيارة القبور، أبو داود: الصحيح: 2 / 195، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور.. مسلم: الصحيح: 4 / 73 كتابالجنائز، باب زيارة القبور. إلي غيرها من المصادر.

[216] النسائي: السنن: 4 / 76 - 77 مضافا إلي المصادر المتقدمة.

[217] الهدية السنية، الرسالة الثانية.

[218] لاحظ ابن تيمية: الرد علي الأخنائي: 13.

[219] أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي.

[220] المقدسي: الصارم المنكي في الرد علي السبكي: ص 7. ط 1، القاهرة، المطبعة الخيرية.

[221] مسلم: الصحيح: 4 / 126، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال. أبو داود: السنن: 1 / 469 كتابالحج. النسائي: السنن: 2 / 37 - 38 المطبوع مع شرح السيوطي.

[222] الإمام تقي الدين السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 100.

[223] أبو الحسن الماوردي: الأحكام السلطانية: 105.

[224] ابن الحاج: المدخل: 1 / 257 فضل زيارة القبور.

[225] أسني المطالب في شرح روض الطالب: 1 / 501.

[226] الحنفي المفتي بدمشق (ت / 1088): الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، آخر كتاب الحج.

[227] الزرقاني المالكي المصري: شرح المواهب: 8 / 299.

[228] جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 4 / 286،

ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق: 5 / 365.

[229] ورواه الإمام مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي.

[230] ورواه أبو داود والبيهقي، وفيه زيادات، وكذلك الطبراني، والحاكم.

[231] ورواه ابن ماجة.

[232] السبكي: شفاء السقام، باب في كون السفر إليه قربة: 102، ولكلامه صلة فمن أراد فليرجع إليهفإنه ممتع.

[233] الغزالي: إحياء علوم الدين: 2 / 247 كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة، بيروت.

[234] الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة: 60.

[235] مسلم: الصحيح: 4 / 127. البخاري: الصحيح 2 / 76. النسائي: السنن 2 / 37 المطبوع معشرح السيوطي.

[236] ابن تيمية: الفتاوي، كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي.

[237] سورة النور: 36.

[238] ابن قدامة: المغني: 2 / 270.

[239] محمد جواد مغنية: الفقه علي المذاهب الخمسة: 110، ولاحظ رسالة مختصرة في السدلللدكتور عبد الحميد: 5.

[240] النجفي: جواهر الكلام: 11 / 15 - 16.

[241] البيهقي: السنن: 2 / 72، 73، 101، 102، أبو داود: السنن: 1 / 194، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730 - 736، الترمذي: السنن: 2 / 98 باب صفة الصلاة.

[242] منهم أبو هريرة، وسهل الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحمد بن مسلمة.

[243] الدكتور عبد الحميد: رسالة مختصرة في السدل: 11.

[244] الحر العاملي: الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1. ولاحظ الباب 17،الحديث 1 و 2.

[245] ابن حجر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 2 / 224، باب وضع اليمني علي اليسري.ورواه البيهقي في السنن الكبري: 2 / 28، الحديث 3، باب وضع اليمني علي اليسري في الصلاة.

[246] المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري: 5 / 325.

[247] المصدر نفسه: هامش رقم 1.

[248] مسلم: الصحيح: 1 / 382،

الباب 5 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمني علي اليسري، وفي سند الحديث " همام " ولو كان المقصود، هو همام بن يحيي فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيي القطان لا يعبأ ب " همام " وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيي بن سعيد يعترض عليهمام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدي الساري: 1 / 449.

[249] البيهقي: السنن: 2 / 28، وفي سند الحديث عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشئ، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتي علي حديثه جز عليه، متفق عليضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر: 1 / 87.

[250] المصدر نفسه: وفي سنده عبد الله بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف ليس بحجة. لاحظ هدي الساري: 1 / 437.

[251] البيهقي: السنن: 2 / 28، باب وضع اليد اليمني علي اليسري، الحديث 5.

[252] هدي الساري: 1 / 449.

[253] الحر العاملي: الوسائل: 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7.

[254] فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة: 183.

[255] راجع: الشرح الكبير علي المغني، لابن قدامة المقدسي: 1 / 775 - والفقه علي المذاهب الأربعة، لعبد الرحمن الجزيري: 1 / 332، وفقه السنة، للسيد سابق: 1 / 185، وزاد المعاد، لابنقيم الجوزية: 1 / 116 - 119. ونيل الأوطار، للشوكاني: 3 / 62.

[256] راجع: الشرح الكبير علي المغني، لابن قدامة المقدسي: 1 / 775 - والفقه علي المذاهب الأربعة، لعبد الرحمن الجزيري: 1 / 332، وفقه السنة، للسيد سابق: 1 / 185، وزاد

المعاد، لابنقيم الجوزية: 1 / 116 - 119. ونيل الأوطار، للشوكاني: 3 / 62.

[257] راجع: الشرح الكبير علي المغني، لابن قدامة المقدسي: 1 / 775 - والفقه علي المذاهب الأربعة، لعبد الرحمن الجزيري: 1 / 332، وفقه السنة، للسيد سابق: 1 / 185، وزاد المعاد، لابنقيم الجوزية: 1 / 116 - 119. ونيل الأوطار، للشوكاني: 3 / 62.

[258] التاج الجامع للأصول: 1 / 321.

[259] زاد المعاد: 1 / 120.

[260] نيل الأوطار: 3 / 64.

[261] صحيح البخاري: 2 / 73.

[262] زاد المعاد: 1 / 118.

[263] الموطأ للإمام مالك: 131، الحديث 209. " يرفأ " اسم خادم عمر.

[264] لسان العرب مادة هجر.

[265] لسان العرب مادة هجر.

[266] مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2 / 446.

[267] فقه السنة: 1 / 185.

[268] زاد المعاد: 1 / 119.

[269] راجع حول الأحاديث الموضوعة وعما جاء حول رواتها، زاد المعاد: 1 / 119 - 120.

[270] زاد المعاد: 1 / 117.

[271] صحيح البخاري: 2 / 73.

[272] المصدر نفسه - ومسند أحمد بن حنبل: 6 / 209.

[273] زاد المعاد: 1 / 117.

[274] البخاري: 2 / 73.

[275] نيل الأوطار للشوكاني: 3 / 53.

[276] مسند الإمام أحمد بن حنبل: 5 / 45.

[277] صحيح مسلم: 5 / 199، كتاب المسافرين.

[278] صحيح البخاري: 3 / 3، باب العمرة.

[279] زاد المعاد: 1 / 118.

[280] نيل الأوطار للشوكاني: 3 / 61.

[281] رسائل الشريف المرتضي: 1 / 221.

[282] الخلاف، موسوعة الينابيع الفقهية: 28 / 220.

[283] البحار: 80 / 158.

[284] المصدر نفسه: 155.

[285] الحدائق الناضرة: 6 / 77.

[286] التهذيب: 3 / 69 - 70 ومثله في الإستبصار: 1 / 467، الفقيه: 2 / 132 والوسائل: 5 / 192.

[287] المجلسي: البحار: 80 / 159،

النوري: المستدرك: 3 / 70. لاحظ: من لا يحظره الفقيه:1 / 566 وفي الأخير زيادة علي ما في المتن.

[288] البخاري: الصحيح: باب فضل من قام رمضان، برقم: 2008، مسلم: الصحيح: 2 / 176 بابالترغيب في قيام رمضان وهو التراويح. ط دار الجيل، ودار الآفاق، بيروت.

[289] الفقه علي المذاهب الأربعة، كتاب الصلاة، حكم الإمامة في صلاة الجمعة والجائزة والنوافل:ص 407. وفي ص 340 هي سنة عين مؤكدة عند ثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.

[290] المغني والشرح: 1 / 771، دار الكتاب العربي، وط أفست: 1403 / 1983.

[291] إذ عند اجتماع الشروط، تكون واجبة.

[292] محمد جواد مغنية: الفقه علي المذاهب الخمسة: 1 / 133.

[293] لسان العرب: ج 2، مادة " روح ".

[294] الطوسي: التهذيب: 3 / 62 رقم 213.

[295] المغني: 2 / 137 - 138.

[296] المغني: 2 / 137 - 138.

[297] الفقه علي المذاهب الأربعة: 1 / 251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح، ولا يخفي أنه لو كان المقياس في الزيادة، هو عدد الطواف بعد كل أربع ركعات فعندئذ يصل عددها إلي أربعين ركعة في كل ليلة لأنهم إذا كانوا يطوفون بعد كل أربع ركعات مرة واحدة، يكون عدده خمس مرات، فإذا كان مقابل كل مرة منه أربع ركعات، يصل عددها إلي عشرين ركعة (5 - 4 = 20) فتضاف إلي العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع 40 ركعة. نعم يصح ذلك بناء علي ما نقلهابن قدامة المقدسي من أن الطواف كان بين كل ترويحة، لاحظ: 1 / 749.

[298] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204، شهاب الدين القسطلاني: إرشاد الساري: 3 / 426،العيني: عمدة القاري: 11 / 126، وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة، فلاحظ.

[299]

العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204، ذكره لجمع الناس علي إمام واحد.

[300] أبو داود: السنن: 2 / 69.

[301] الطوسي: الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة: 268.

[302] الصدوق: الخصال: 2 / 152.

[303] الصدوق: عيون أخبار الرضا: 266.

[304] الطوسي: التهذيب: 3 الحديث 227.

[305] المصدر نفسه.

[306] الكليني: الكافي: 8 / 58.

[307] محمد بن إدريس: السرائر: 3 / 638.

[308] الصدوق: الفقيه، كتاب الصوم: 87.

[309] الكليني: الكافي: 4 / 154.

[310] أي علي ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري: الصحيح: باب فضل من قام رمضان:3 / 58.

[311] البخاري: الصحيح: 2 / 63 باب التهجد بالليل. وبين الروايتين اختلاف فيما خرج ص فيها منالليالي فعلي الأولي خرج ثلاث ليال وعلي الثانية خرج ليلتين.

[312] مسلم: الصحيح: 6 / 41. وغيره، والظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الرواية لاتحاد الراوي والمروي عنه والمضمون.

[313] مسلم: الصحيح: 6 / 41. والاختلاف بين روايتي مسلم كالاختلاف بين روايتي البخاري فلاحظ.

[314] ابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير علي المقنع: 1 / 749.

[315] فتح الباري: 3 / 10.

[316] فتح الباري: 3 / 10.

[317] إرشاد الساري: 3 / 428.

[318] محمد جواد مغنية: الفقه علي المذاهب الخمسة: 2850.

[319] لاحظ أيضا رواية أبي ذر في سنن النسائي: 3 / 165، وسنن ابن ماجة: 42، فقد أقام النبي ثلاث ليال: ليلة 23 و 25 و 27 من ليال شهر رمضان. مضافا إلي ما مر من الاختلاف في نقل البخاريبين روايتيه ومسلم كذلك.

[320] القسطلاني: إرشاد الساري: 3 / 426.

[321] العيني: عمدة القاري: 11 / 126.

[322] الشاطبي: الإعتصام: 2 / 291.

[323] البخاري: الصحيح، باب فضل من قام رمضان: الحديث 2010.

[324] الرهط: بين الثلاثة إلي العشرة.

[325] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 4 / 203.

[326] عمدة القاري في

شرح صحيح البخاري: 6 / 125، وجاء نفس السؤال والجواب في فتحالباري.

[327] إرشاد الساري: 3 / 425.

[328] عمدة القاري: 6 / 126 - وقد سقط لفظة " لا " من قوله و " رغب " كما أن كلمة " بقوله " بعد هذهالجملة في النسخة مصحف " قوله " فلاحظ.

[329] ابن سعد: الطبقات الكبري: 3 / 281.

[330] الإستيعاب: 3 / 1145 برقم 1878.

[331] روضة المناظر كما في النص والاجتهاد: 150.

[332] ابن الأثير: النهاية: 1 / 79.

[333] أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنة: 235.

[334] المصدر نفسه.

[335] العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204.

[336] ابن قدامة: الشرح الكبير علي المقنع: 1 / 749.

[337] إرشاد الساري: 3 / 426.

[338] النص والاجتهاد: 151 - 152.

[339] النسائي: السنن: 3 / 161.

[340] ابن حزم (456 ه): المحلي: 3 / 38.

[341] المصدر نفسه.

[342] ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 62، ط بيروت.

[343] الشيخ الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلي ما ذكره، نقل عن الإمام علي رأيانمتناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.

[344] ابن قدامة: المغني: 7 / 416.

[345] عبد الرحمان الجزيري: الفقه علي المذاهب الأربعة: 4 / 341.

[346] الترمذي: الصحيح: 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.

[347] الطبري: التفسير: 2 / 278 وسيوافيك خبر أبي رزين.

[348] البقرة: الآية 231 وأيضا في سورة الطلاق: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهنبمعروف) (الطلاق / 2).

[349] الجصاص: التفسير: 1 / 389.

[350] الأولي أن يقول: بكل طلاق.

[351] الجصاص: التفسير: 1 / 389.

[352] الطبري: التفسير: 2 / 278.

[353] البحراني: البرهان: 1 / 221، وقد نقل روايات ست في ذيل الآية.

[354] ابن كثير: التفسير: 1 / 53.

[355] الآية 231 من سورة البقرة والآية

2 من سورة الطلاق.

[356] الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 378.

[357] البيهقي: السنن الكبري: 7 / 318 - 321، الحاكم: المستدرك: 2 / 24.

[358] المصدر نفسه: 7 / 321.

[359] فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.

[360] عبد الله بن جعفر الحميري: قرب الإسناد: 30، ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15الباب 22، الحديث 25.

[361] النسائي: السنن: 6 / 142، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283.

[362] أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 427.

[363] ابن حجر: فتح الباري: 9 / 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام 224: رواته موثقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار: 7 / 11، عن ابن كثير أنه قال: إسناده جيد، أنظر " نظام الطلاق في الإسلام " للقاضي أحمد محمد شاكر: 37.

[364] ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 61، ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156 والسيوطي فيالدر المنثور: 1 / 279 وغيرهم.

[365] أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 265.

[366] أحمد أمين: فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.

[367] مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعني الاكثار من الشر.

[368] مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعني الاكثار من الشر.

[369] مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعني الاكثار من الشر.

[370] البيهقي: السنن: 7 / 339، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 279.

[371] العيني: عمدة القارئ: 9 / 537، وقال: إسناده صحيح.

[372] المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943.

[373] المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943.

[374] العيني: عمدة القارئ: 9 / 537.

[375] تيسير الوصول:

3 / 162.

[376] العمري: إيقاظ همم أولي الأبصار: 9.

[377] أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 314، برقم 2877، وقد مر تخريج الحديث أيضا، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79.

[378] المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943.

[379] السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283.

[380] ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين: 3 / 36.

[381] السيد محمد رشيد رضا: المنار: 2 / 386، الطبعة الثالثة 1376.

[382] أحمد أمين: فجر الإسلام: 238. نشر دار الكتاب.

[383] لاحظ المختصر النافع للمحقق الحلي: 78، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2 / 391،والمغني لابن قدامة: 3 / 233، والفقه علي المذاهب الأربعة للجزيري: 2 / 684 وغيرها.

[384] ابن هشام: السيرة النبوية: 4 / 601 - 602.

[385] أبو داود: السنن: 2 / 156، رقم 1789.

[386] الإمام مالك: الموطأ، كتاب الحج رقم 60، والترمذي: السنن، كتاب الحج رقم 823.

[387] المصدر نفسه: رقم 61.

[388] الترمذي: الصحيح: كتاب الحج، باب ما جاء في التمتع رقم 824.

[389] مسلم: الصحيح: 4 / 38 كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة.

[390] تعليقة الزرقاني، المطبوعة علي هامش صحيح مسلم: 4 / 38.

[391] الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 285.

[392] الإمام أحمد: المسند: 1 / 52، و 3 / 325.

[393] ابن حزم: المحلي: 7 / 107، الجامع للأحكام للقرطبي: 2 / 392.

[394] الإمام أحمد: المسند: 1 / 50، ابن ماجة: السنن: 2، كتاب الحج، باب التمتع بالعمرة إلي الحج: 2979، والبيهقي: السنن: 5 / 20.

[395] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2 / 2092.

[396] العيني: عمدة القاري: 5 / 198.

[397] صحيح البخاري: 3 / 148 كتاب الحج، باب عمرة التنعيم، مسند أحمد: 3 / 388 و 4 / 175،سنن البيهقي: 5 / 19.

[398]

العيني: عمدة القاري: 5 / 198.

[399] المرتضي: الإنتصار: في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: 3 / 207.

[400] الطوسي: الخلاف: 1 / 569 كتاب الصلاة: المسألة 321، ط. جماعة المدرسين، قم.

[401] الحلي: الشرائع: 1 / 135.

[402] الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 253.

[403] ابن حزم: المحلي: 4 / 264، المسألة 5110.

[404] السرخسي: المبسوط: 1 / 229.

[405] ابن قدامة: المغني، مع الشرح الكبير: 1 / 107 - 108.

[406] الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 338.

[407] الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 341.

[408] نفس المصدر.

[409] نفس المصدر: 349.

[410] الحر العاملي: وسائل الشيعة: الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 16.

[411] هما جبلان بالمدينة معروفان والأول في جانب المشرق، والثاني في جانب المغرب.

[412] وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13. قال ابن إدريس في السرائر حول معني البريد: وأصل البريد أنهم ينصبون في الطريق أعلاما فإذا بلغ بعضها راكب البريد نزل عنه وسلم ما معه من الكتب إلي غيره فكأن ما به من الحر والتعب يبرد في ذلك أو ينام فيه الراكب والنوم يسمي بردا، فسمي ما بين الموضعين بريدا، وإنما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب: ثم قيل: للدابة بريد وإنما كانت البرد للملوك ثم قيل للسائر بريد.لاحظ موسوعة الينابيع الفقهية: 4 / 743.

[413] الوسائل: الباب 3 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 9.

[414] الوسائل: الباب 6 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 3.

[415] المصدر نفسه: الباب 8 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 3.

[416] المصدر نفسه: الحديث 6.

[417] المصدر نفسه: الباب 11 الحديث 4.

[418] المصدر نفسه: الباب 15 الحديث 13.

[419] ابن قدامة: المغني: 2 / 87.

[420] ابن قيم: زاد المعاد في هدي خير العباد: 1

/ 158.

[421] التاج الجامع للأصول: 1 / 295. والآية 101 من سورة النساء.

[422] البخاري: الصحيح: 2 / 57.

[423] البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم الصحيح: 5 / 202.

[424] أبو داود السجستاني: السنن: 2 / 10: الحديث 1229.

[425] البخاري: الصحيح: 2 / 53، مسلم: الصحيح: 5 / 205، ولفظ " آمن " أفعل التفضيل من الأمن.

[426] البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم: الصحيح: 5 / 204.

[427] ابن قدامة: المغني: 2 / 89.

[428] مسلم: الصحيح: 5 / 194.

[429] البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم: الصحيح: 5 / 194.

[430] الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 200.

[431] مسلم: الصحيح: 5 / 196.

[432] الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 201.

[433] مسلم: الصحيح: 5 / 196.

[434] صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 197.

[435] الطبراني: نصب الراية: 2 / 189.

[436] ابن قدامة: المغني: 2 / 107.

[437] ابن قدامة: المغني: 2 / 107.

[438] الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 204.

[439] ابن قدامة: المغني: 2 / 108: ابن حزم: المحلي: 4 / 271.

[440] الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 254.

[441] أبو يوسف: الآثار: ص 30، 75 كما في الغدير: 8 / 113.

[442] الحافظ الهيثمي: مجمع الزوائد: 2 / 145: فقال: رجاله موثقون.

[443] الإمام أحمد: المسند: 3 / 190، البيهقي: السنن الكبري: 3 / 136 - 145.

[444] المصدر نفسه: ص 155. ومر نظير هذا الحديث عن السيدة عائشة.

[445] المصدر نفسه: ص 155.

[446] المصدر نفسه: ص 156.

[447] الإمام أحمد: المسند: 3 / 159، الحافظ الهيثمي: مجمع الزوائد: 2 / 155.

[448] الإمام أحمد: المسند: 2 / 154.

[449] المصدر نفسه: 2 / 400.

[450] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 5 / 351.

[451] مسلم: الصحيح: 1 / 122، الشوكاني: نيل الأوطار: 1 / 258.

[452] محب

الدين الطبري: الرياض النضرة: 2 / 251.

[453] الإمام أحمد: المسند: 4 / 94.

[454] الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 252.

[455] السيد المرتضي: الإنتصار: ص 53 ط النجف الأشرف.

[456] قطب الدين الراوندي: فقه القرآن، نقلا عن موسوعة الينابيع الفقهية: 4 / 516.

[457] الزمخشري: الكشاف: 1 / 294 ط دار المعرفة بيروت.

[458] السيد الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن: 5 / 61.

[459] الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 338: ط. دار التعارف، بيروت.

[460] ابن قدامة: المغني: 2 / 108.

[461] وسائل الشيعة: 1 / 175.

[462] ابن قدامة: المغني: 2 / 108.

[463] الإمام الدار القطني (المتوفي 385): السنن: 2 / 188.

[464] ابن حزم: المحلي: 4 / 265: ط. دار الجيل، بيروت.

[465] الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 202.

[466] الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 203.

[467] علي بن برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية: 3 / 340 و 341.

[468] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد: 1 / 161.

[469] ابن قدامة: المغني: 2 / 109.

[470] سنن الدارقطني: 2 / 189 ط. دار المعرفة بيروت.

[471] مسند أبي داود الطيالسي: 6 / 209: ط. دار الباز، مكة المكرمة.

[472] الدارقطني: السنن: 2 / 189.

[473] ابن القيم: زاد المعاد: 1 / 158.

[474] ابن قدامة: المغني: 2 / 109.

[475] مسلم الصحيح: 7 / 235.

[476] الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 202.

[477] ابن قدامة: المغني: 2 / 109.

[478] ابن قيم: زاد المعاد: 1 / 161.

[479] صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 195.

[480] البلاذري: الأنساب: 5 / 39: الطبري: التاريخ: 5 / 56، ابن الأثير: الكامل 3 / 42، ابن كثير:التاريخ 7 / 154، ابن خلدون: التاريخ: 2 / 386.

[481] أبي داود: السنن: 1 / 308، كتاب الإمام الشافعي: 1 / 159، و 7

/ 175.

[482] ابن حزم: المحلي: 4 / 270.

[483] ابن حزم: المحلي: 4 / 270.

[484] أحمد بن حنبل: المسند: 4 / 94.

[485] الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن: 4 / 155.

[486] الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 211 و 212.

[487] ابن قدامة: المغني: 2 / 108.

[488] أبو بكر الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 255.

[489] ابن حزم: المحلي: 6 / 258.

[490] الظاهر أن الإشتقان معرب " دشتبان ".

[491] الصدوق: المقنع: 62.

[492] المفيد: المقنعة: 348 - 350.

[493] المرتضي: الإنتصار: 66.

[494] الشيخ الطوسي: الخلاف: 1 / 354: كتاب الصوم: المسألة 53.

[495] ابن حزم: المحلي: 6 / 243.

[496] المصدر: ص 248.

[497] ابن حزم: المحلي: 6 / 256 - 258.

[498] أبو بكر الرازي الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 215.

[499] السرخسي: المبسوط: 3 / 91 - 92.

[500] المصدر نفسه: ص 76.

[501] ابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير علي المقنع: 3 / 17 - 19.

[502] القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 2 / 280.

[503] تفسير الجلالين: 22.

[504] الإمام عبده: المنار: 2 / 158.

[505] وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 2.

[506] المصدر نفسه: الحديث 3.

[507] وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 4.

[508] المصدر نفسه الحديث 5.

[509] المصدر نفسه الحديث 6.

[510] المصدر نفسه: الحديث 7.

[511] وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 8.

[512] المصدر نفسه: الحديث 10.

[513] المصدر نفسه: الحديث 11.

[514] المصدر نفسه: الحديث 12.

[515] البخاري: الصحيح: 3 / 44، مسلم: الصحيح: 7 / 233.

[516] راجع ابن الأثير: النهاية: مادة برور، لسان العرب: مادة برر ومغني اللبيب: 1 / 48: حرف الهمزة أم نعم لم يرد في هذه المصادر سؤال وإنما ورد الجواب.

[517] ابن حزم:

المحلي: 6 / 254.

[518] أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 434، سنن ابن ماجة: 1 / 532 الحديث 1664.

[519] سنن ابن ماجة: 1 / 532: الحديث 1665.

[520] صحيح مسلم: 7 / 229. (2) الراوندي: فقه القرآن: في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: 6 / 217.

[521] صحيح مسلم: 7 / 229.

[522] مسلم: الصحيح: 7 / 232.

[523] ابن ماجة: السنن: 1 / 532، الحديث 1666.

[524] المصدر نفسه: 1 / 533، الحديث 1667.

[525] ابن قدامة: المغني: 2 / 93.

[526] البخاري: الصحيح: 3 / 44.

[527] الفخر الرازي: التفسير الكبير: 5 / 76.

[528] البخاري: الصحيح: 3 / 44.

[529] البخاري: الصحيح: 3 / 45: باب وعلي الذين يطيقونه فدية.

[530] الطباطبائي: الميزان: 2 / 14.

[531] البخاري: الصحيح: 3 / 43.

[532] البخاري: الصحيح: 3 / 43.

[533] البخاري: الصحيح: 3 / 44.

[534] مسلم: الصحيح: 7 / 232.

[535] مسلم: الصحيح: 7 / 238.

[536] ابن حزم: المحلي: 6 / 247.

[537] ابن حزم: المحلي: 6 / 247.

[538] مسند أبي داود: 2 / 292.

[539] ابن حزم: المحلي: 6 / 249.

[540] ابن حزم: المحلي: 6 / 247.

[541] ابن حزم: المحلي: 6 / 248.

[542] ابن حزم: المحلي: 6 / 248.

[543] ابن حزم: المحلي: 6 / 250.

[544] ابن حزم: المحلي: 6 / 247.

[545] مسلم: الصحيح بشرح النووي: 7 / 230.

[546] مسلم: الصحيح بشرح النووي: 7 / 230.

[547] مسلم: الصحيح: 7 / 231.

[548] مسلم: الصحيح: 7 / 231.

[549] الطبرسي: مجمع البيان: 5 / 564.

[550] مجلة رسالة الإسلام، العدد 49 / 50 - 51، القاهرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.

[551] ابن عبد البر: الإستيعاب في هامش الإصابة، وابن حجر: الإصابة: 1 / 189، والجزري: أسدالغابة: 1 / 215، والمتقي الهندي: كنز العمال: 1 /

281 برقم 29448.

[552] الشهرستاني: الملل والنحل: 1 / 117.

[553] المقدسي: البدء والتاريخ: 4 / 31.

[554] ابن خلدون: المقدمة / 439.

[555] الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3 / 489.

[556] الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1 / 52.

[557] ابن كثير: التفسير، قسم سورة النمل: 3 / 339.

[558] الطبري: التاريخ: 1 / 44 ط بيروت.

[559] ابن كثير: التفسير: 4 / 475 ط دار الإحياء.

[560] أبو تميم الأصفهاني: حلية الأولياء: 6 / 20.

[561] ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 3 / 237.

[562] الدارمي: السنن: 1 / 5.

[563] ابن النديم: الفهرست: 271، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 3 / 285.

[564] الإمام الأشعري: الإبانة: 21.

[565] الإمام الأشعري، اللمع: 61 بتلخيص.

[566] الغزالي: قواعد العقائد: 169.

[567] الآمدي: غاية المرام في علم الكلام: 174.

[568] الرازي: معالم الدين: 37، والأربعين: 148، والمحصل: 138، والشهرستاني: نهاية الإقدام: 369.

[569] الإمام الأشعري: مقالات الإسلاميين: 261.

[570] ابن حزم: الفصل: 3 / 2.

[571] الرازي: مفاتيح الغب: 27 / 150 - 151.

[572] الذهبي: تذكرة الحفاظ: 2 / 551، وسير أعلام النبلاء: 12 / 250.

[573] ميزان الاعتدال: 1 / 132.

[574] سير أعلام النبلاء: 14 / 365.

[575] نهج البلاغة: الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعة عبده. والإناسي: جمع إنسان، وإنسانالبصر هو ما يري وسط الحدقة ممتاز عنها في لونها.

[576] نهج البلاغة: الخطبة 174.

[577] نهج البلاغة: الخطبة: 180.

[578] لاحظ الخطبتين 48 و 81 من الطبعة المذكورة.

[579] الكافي: 1 / 95 باب إبطال الرؤية.

[580] التوحيد: الباب 8 ص 107 - 122.

[581] الطبرسي: الإحتجاج: 2 / 375 - 376.

[582] الرازي: الأربعون: 190، ولاحظ أيضا مفاتيح الغيب: 13 / 130.

[583] الرازي: الأربعون: 190 - 191، وانظر أيضا: 217، 218، 313.

[584] الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 130.

[585] لاحظ بحوث في الملل والنحل:

2 / 96 - 105.

[586] أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالي: 61، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.

[587] الإلهيات: 1 / 330 - 340.

[588] البخاري: الصحيح: 4 / 200.

[589] البخاري: الصحيح: 4 / 200.

[590] يظهر ذلك الجواب عن أكثر المتأولين لآيات النفي حيث يقدرونها بالدنيا.

[591] الإبانة عن أصول الديانة: 15، ط دار الطباعة المنيرية - القاهرة.

[592] النساء / 153.

[593] الرازي: مفاتيح الغيب: 3 / 85.

[594] ابن فارس: مقاييس اللغة: 2 / 366.

[595] ابن منظور: اللسان: 10 / 419.

[596] الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 125.

[597] الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 126.

[598] نهج البلاغة، الخطبة الأولي.

[599] وقبلهم الطبري كما سيوافيك نصه في خاتمة المطاف.

[600] ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 3 / 32 ولاحظ: ابن القيم: حادي الأرواح إلي بلاد الأفراح:229.

[601] الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 127.

[602] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 227.

[603] عباس حسن: النحو الوافي: 4 / 281 كما في كتاب رؤية الله للدكتور أحمد بن ناصر.

[604] القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: 265، والشريف الجرجاني: المواقف: 8 / 121، والرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 231، وإني - بدوري - أضن بالحبر والقلم والورق من صرفها فينقل كلماتهم في المقام.

[605] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 231.

[606] الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالي: 47 - 48.

[607] الباقلاني (ت 403 ه): التمهيد: 270 - 271.

[608] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 235 بتلخيص. لاحظ خاتمة المطاف تجد فيها كلمات السلفالصالح في تفسير التوبة.

[609] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 229.

[610] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 239.

[611] أو لتسمعوا النص باستحالة ذلك من عند الله، كما سيوافيك في كلام الزمخشري.

[612] الصدوق: التوحيد: باب ما جاء في الرؤية: ص

121 برقم 24.

[613] الزمخشري: الكشاف: 1 / 573 - 574 ط مصر.

[614] الرازي: مفاتيح الغيب: 15 / 70.

[615] المصدر نفسه: 14 / 232.

[616] القوشجي: شرح التجريد: 334.

[617] الزمخشري: الكشاف: 3 / 294.

[618] الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 235.

[619] إسماعيل حقي البروسي: روح البيان: 3 / 239 وتبعه الآلوسي في روح المعاني: لاحظ 9 / 55.

[620] الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله: 92.

[621] مسلم: الصحيح: 1 / 163، الإمام أحمد: المسند: 4 / 332.

[622] الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 131. والعجب أن الرازي لم يذكر تلك القراءة عند تفسير الآية فيمحلها أي سورة الإنسان.

[623] الآلوسي: روح المعاني: 29 / 161.

[624] الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالي: 240.

[625] الآلوسي: روح المعاني: 30 / 73.

[626] البخاري: الصحيح: 8 / 117 باب الصراط جسر جهنم.

[627] مسلم: الصحيح: 1 / 113، باب معرفة طريق الرؤية.

[628] مسلم: الصحيح: 1 / 115، باب معرفة طريق الرؤية.

[629] أحمد بن حنبل: المسند: 2 / 368.

[630] كلمة حول الرؤية: 65، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة وقد مشينا علي ضوئها - رحم اللهمؤلفها رحمة واسعة -.

[631] البخاري: الصحيح: 1 / 111 - 115، الباب 26 و 35 من أبواب مواقيت الصلاة، طبع مصر،ورواه مسلم في صحيحه لاحظ: صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 136 وغيرهما.

[632] ابن عبد البر: الإستيعاب: 3 برقم 2126.

[633] الذهبي: ميزان الاعتدال: 3 برقم 6908.

[634] نقل مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم: قام رسول الله ص يوما فينا خطيبا، بماء يدعي خما بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالي وأثني عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد: ألا أيها الناس: فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا

تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث علي كتاب الله ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " هذا لفظ مسلم، ورواه أيضا بهذا اللفظ الدارمي في " سننه ": 2 / 431 - 432، بإسناد صحيح كالشمس وغيرهما، وفي رواية الترمذي وقع بلفظ " وعترتي أهل بيتي " وفي سنن الترمذي: 5 / 663 برقم 3788 قال رسول الله ص: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتي يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".

[635] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 5، والسائل من الخوارج وهؤلاء كالإماميةوالمعتزلة، يذهبون إلي امتناع الرؤية.

[636] المصدر نفسه: الحديث 6، والسائل أحد أحبار اليهود القائلين بجواز الرؤية.

[637] المصدر نفسه: الحديث 14.

[638] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 19، وتعرفت علي القرينة القطعية التييرفع بها الإبهام عن وجه الآية أعني التقابل فلاحظ.

[639] الطباطبائي: الميزان: 8 / 252 - 253.

[640] الصدوق: كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15.

[641] الصدوق: كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15.

[642] ما جاء في الرواية أحد الاحتمالات في تفسير الآية ولكن الظاهر أن فاعل " رأي " هو البصر والمرئي آثاره وآياته بشهادة قوله سبحانه بعده (لقد رأي من آيات ربه الكبري) والرواية تحتاج إلي دراسة ومحمد بن الفضيل الراوي للحديث مرمي بالغلو كما ذكره الشيخ الطوسي في

رجاله من أصحاب الرضا (عليه السلام) برقم 35، فلاحظ.

[643] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17 - 20.

[644] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17 - 20.

[645] الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية: 120.

[646] نقله وسمعه السائح الطائر الصيت ابن بطوطة، عن ابن تيمية. لاحظ رحلته: 113 ط دار الكتب العلمية.

[647] أحمد بن حنبل: السنة: 80.

[648] من قصيدة ابن زفيل النونية، والمراد منه هو ابن القيم فلاحظ السيف الصقيل للسبكي.

[649] الكشاف: 1 / 576. ط مصر في تفسير قوله: (ولما جاء موسي لميقاتنا).

[650] الآلوسي: روح المعاني: 9 / 52.

[651] الآلوسي: روح المعاني: 9 / 52.

[652] البخاري: الصحيح: 6 / 145، تفسير سورة الرحمن، الآية: 62.

[653] مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان.

[654] مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان.

[655] مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان.

[656] الطبري: التفسير: 9 / 39، المجلد السادس.

[657] الطبري: التفسير: 7 / 200، المجلد الخامس والآية 103 من سورة الأنعام.

[658] الطبري: التفسير: 7 / 200، المجلد الخامس والآية 103 من سورة الأنعام.

[659] الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس.

[660] الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس.

[661] الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس.

[662] الإمام عبده: المنار: 9 / 140 وما بعدها.

[663] الإمام عبده: المنار: 9 / 190.

[664] الآمدي: غاية المرام في علم الكلام: 174.

[665] الرازي: معالم الدين: 67، والأربعون: 198، والمحصل: 138، الشهرستاني: نهاية الإقدام: 369.

[666] الإمام الأشعري: اللمع: 61 - 62.

[667] الشريف الجرجاني: شرح المواقف: 8 / 129.

[668] التكوير: 23.

[669] الأنعام: 103.

[670] الشوري: 51.

[671] المائدة: 67.

[672] النمل: 65.

[673] النووي: شرح صحيح مسلم: 3 / 8.

[674] البقرة: 255.

[675] القيامة: 22 - 23.

[676] محمد بن علي

الرازي الجصاص: أحكام القرآن: 3 / 4.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.