ازمه الخلافه و الامامه و آثارها المعاصره: عرض و دراسه‌

اشارة

‏سرشناسه : قاسم، اسعد وحيد
‏عنوان و نام پديدآور : ازمه الخلافه و الامامه و آثارها المعاصره: عرض و دراسه/ اسعد القاسم
‏مشخصات نشر : بيروت : الغدير ، ۱۹۹۷م. = ۱۴۱۸ق. = ۱۳۷۶.
‏مشخصات ظاهري : ص ۳۵۰
‏يادداشت : اين كتاب تحت عنوان"عرض و دراسة: ازمه الخلافه و الامامه و آثارها المعاصره "توسط دارالمصطفي (ص) لاحياآ التراث منتشر شده است
‏يادداشت : كتابنامه: ص. ۳۴۷ - ۳۳۳؛ همچنين بصورت زيرنويس
‏عنوان ديگر : عرض و دراسة: ازمه الخلافه و الامامه و آثارها المعاصره
‏موضوع : امامت -- دفاعيه‌ها و رديه‌ها
‏موضوع : خلافت
‏موضوع : اسلام -- فرقه‌ها
‏موضوع : شيعه -- دفاعيه‌ها و رديه‌ها
‏رده بندي كنگره : ‏BP۲۲۳‏/ق‌۲ع‌۴ ۱۳۷۶
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۳۷۷۰

كلمة المركز

يري الباحث أن الأمة الإسلامية تعيش، في هذه الحقبة من الزمن، أزمة ذات بعدين: أولهما: هوية الذات وتحققها علي مستوي الفعالية التاريخية، وثانيهما: وعي الدين الإسلامي وعيا يتيح هذا الزمان. ويري أن الخلافات المزمنة، إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الزمان. ويري أن الخلافات المزمنة، بين أهل السنة والشيعة، دليل علي وجود تلك الأزمة، وبخاصة أنها تتمثل، في كثير من الأحيان، في اتهامات قائمة علي عدم معرفة حقائق الأمور، ما يقتضي بيان هذه الحقائق، في اتهامات قائمة علي عدم معرفة حقائق الأمور، ما يقتضي بيان هذه الحقائق بغية تجاوز هذه الأزمة والوصول إلي حوار يفضي إلي الوعي والنهوض. تعود هذه الخلافات، في أساسها، إلي القضية المركزية، وهي (الإمامة)، وقديما قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام، علي قائدة دينية، مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان). يخاطب الباحث، في هذا كتاب، كل من يتطلع بشوق إلي تجاوز الأزمة، وإقامة خلافة راشدة وظهور إمامة حق في هذا الزمان، فيبحث (أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة)، فيعود إلي جذور الخلاف، منذ ظهوره، بعد وفاة النبي صلي الله وعليه وآله مباشرة، ويتتبع مساره التاريخي، ما يتيح تبين آثاره المعاصرة وسبل تجاوزه. يتبع الباحث، في عرضه وتحليله الهادفين إلي معرفة حقائق الأزمة وأدلتها المقنعة، منهجا تاريخيا نقديا، موضوعيا، يستند إلي المصادر الأصلية في تقديم الأدلة والبراهين، ويعتمد خطة بحث واضحة متماسكة ولغة سلسة توصل المعاني إلي القارئ بيسر لا يخلو من إمتاع يؤتيه عمق الخطاب ودفته وسهولته. مركز الغدير للدراسات الإسلامية بيروت [ صفحه 15]

المقدمة

بدأت تظهر في السنوات الأخيرة، وأكثر من أي وقت مضي بشائر ببداية انحسار أمواج التكفير والتعصب المذهبي الأعمي بين أتباع الفرق الإسلامية، بعد أن لازمتهم هذه الآفات دهورا طويلة من الزمن. فمناقشة القضايا الخلافية، والتي يشغل الخلاف السني - الشيعي رأس قائمتها، أصبحنا نراها تدور داخل دائرة الإسلام الواحد والملة الواحدة، ويغلب عليها العقلانية، علي عكس ذلك النهج التقليدي المصبوغ بالعاطفة والأحكام المسبقة، والمأسور لحوادث التاريخ والتعصب لرموزه ورجاله، والذي جعل من الإسلام مذاهب متعددة، ومن المسلمين مللا متباغضة ومعادية لبعضها بعضا، كما لا زلنا نري من ذلك شذرات هنا وهناك. وتزداد أهمية البحث والنظر في مثل هذه القضايا عند كل من يري جدوي الحل الإسلامي لمشاكل الأمة الإسلامية فضلا عن مشاكل وأزمات غيرها، ويقول بصلاحية دين الإسلام لكل زمان ومكان. فحري بهؤلاء أن يكونوا علي بينة تامة ومعرفة يقينية بتعاليم هذا الدين، وبالدرب الموصل بأمان إلي الشريعة السماوية الحقة كما نزلت نقية ومحكمة. فبالرغم من كل ما تتمتع به رسالة الإسلام من مقومات ربانية، وتعاليم في غاية اليسر والوضوح والشمول كفيلة بإسعاد البشرية جمعاء، وانتشالها من أوحال الجاهلية والتخلف، فإن أصحاب الرسالة أنفسهم أصبحوا بحاجة لغيرهم لانتشالهم، وطروحات غالبية (الإسلاميين) اليوم أصبحت بعيدة عن الواقع، وعاجزة عن تقديم الحلول العملية والملائمة لطبيعة هذا العصر وظروفه المعقدة والسريعة في التغير، وغاية هذه الطروحات التركيز علي شكليات وقشور المفاهيم والأحكام علي حساب جوهر الشريعة ومقاصدها الحقيقية. [ صفحه 16] والنتيجة المأساوية لكل ذلك، أن الدين أصبح ينظر إليه علي أنه مجرد أساطير وخرافات، وفي أحسن أحواله شعارات براقة تروج وهو أبعد ما يكون فيه أي صلاحية لزمان أو مكان. وللتحقق من هذا الواقع، ما علينا إلا إلقاء نظرة سريعة في حال غالبية التنظيمات والحركات التي تأسست بعد انهيار الخلافة العثمانية عام 1924 م ولغاية أيامنا هذه، ورفعت شعار الحل الإسلامي، حيث سنجد أن ما تطرحه من أفكار وبرامج، وإن. جد أي منها - وما تتبناه من أساليب للوصول إلي غاياتها في إقامة الحكم الإسلامي المنشود يشوبه التخبط والفوضي، لا سيما مع تقوقعها علي نفسها، وعدم توفرها علي بدائل، مما أوصلها إلي حافة الإفلاس الفكري وخسران التأييد الجماهيري. وأمام هذا الواقع، لا بد لنا وأن نعترف أن أمتنا تعيش اليوم أزمة فهم لهذا الدين، لفقدانها الرؤية الشمولية والمتكاملة، وأزمة هوية لوجود تناقض صارخ بين واقع المسلمين وواقعية الإسلام، الأمر الذي يعمل علي تغذية الشكوك والتساؤلات حول إمكانية تطبيق الشريعة الإلهية في هذا الزمان. وما وجود تلك الخلافات المزمنة بين أهل السنة والشيعة، وما يدور داخل إطار كل فريق من مجادلات ومشاحنات إلا دليل واضح علي وجود مثل هذه الأزمة في الفهم، وتلك الأزمة في تحديد الهوية. [ صفحه 17]

هذا الكتاب

وبحثنا هذا علي كل حال لم يأت لحل كل هذه المعضلات، وإنما لتبسيط ما أصبح يعد وكأنه من الألغاز المعقدة أمام الباحثين في الخلاف السني - الشيعي، وقد أعياهم النظر في هذه المسألة، وحاروا فيما ينبغي اعتباره خلافا في أركان العقيدة لا يمكن التهاون فيه أو صرف النظر عنه، أو خلافا في الفروع وتشعباتها مما يمكن إغفاله وعدم صرف النظر فيه. فلمواجهة مسألة شائكة مثل هذه، لا سيما وأن خلافات الفريقين قد أخذت مواقعها الدائمة عشوائيا في عقائدهم وأحكامهم ونفوسهم، فإنه في تقديرنا ينبغي البحث أولا في جذور الخلاف قبل الانتقال إلي الفروع وتشعباتها الكثيرة. فبتشخيص الخلل في الجذور سيسهل تشخيص خلل الفروع تشعباتها ومعالجتها. وما نعنيه بجذور الخلاف، فهي تلك المسائل الأساسية التي أدي الخلاف حولها إلي تقسيم المسلمين إلي سنة وشيعة، أو تلك المسائل التي انطلق خلاف الفريقين تاريخيا منها، ثم أدي تطور ونضوج الأفكار حولها مع الأيام إلي إعطاء هذين الفريقين شكلهما الدائمين. ولا أجد مسألة اختلف عليها بين أهل السنة والشيعة من الممكن أن تنطبق عليها مثل هذه المواصفات كمسألة خلافة النبي صلي الله عليه وسلم أو إمامة المسلمين بعده، ويقول الشهرستاني صاحب موسوعة (الملل والنخل) في هذا الصدد: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام علي قاعدة دينية مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان). وأما الفروع، فهي الآثار التي ترتبت علي حصول أزمة الخلافة والإمامة، أو مخلفاتها ذات الخطورة علي الإسلام والمسلمين. وتشعبات هذه الفروع [ صفحه 18] هي ذلك الكم الهائل من المفاهيم والأحكام الفقهية المختلف عليها بين الفريقين من جهة، وبين كل فريق من جهة أخري. وقد اقتصرنا في هذا الكتاب علي البحث في جذور هذه الأزمة وآثارها، والمؤيدة ببعض الأمثلة مما اختلف حوله من مفاهيم وأحكام، معتمدين في كل ذلك علي أدلة الكتاب والسنة النبوية، ومن خلال النظر في حوادث أهم مرحلة من مراحل تأريخنا الإسلامي، وهي مرحلة صدر الإسلام. وقد اجتهدنا أن تكون الأدلة مستقاة قدر الامكان من مصادرها الأصلية، ناهجين في ذلك منهجا علميا كان همنا الأول والأخير فيه تقصي الحقائق وتثبيت أدلتها، وعرضها بتسلسل منطقي، مع تقديم التحليل اللازم لها والتوفيق الموضوعي فيما بينها، والإضافة عند الضرورة لأقوال العلماء والمفكرين فيها. وأسلوب البحث عموما بعيد عن أي تعقيد قد يخطر علي بال، ولغته في غاية الوضوح والسلاسة، ولم يكن لنا هم فيها سوي إبراز المعاني والابتعاد عن زخرف القول وبريق العبارات. خطة البحث يشمل هذا البحث علي مقدمة وتمهيد وأربعة أقسام وخاتمة علي النحو التالي: 1) المقدمة: وتم فيها تناول مشكلة البحث وخلفيتها، وهدف البحث وأهميته وأسلوبه وخطته. 2) التمهيد: وفيه تعريف عام بالمعاني اللغوية والاصطلاحية للخلافة والإمامة كما وردت في القرآن الكريم. 3) القسم الأول: وتم فيه طرح موقف التشريع الإسلامي من مسألة الخلافة والإمامة من خلال وجهتي نظر أهل السنة والشيعة، وفي ثلاث نقاط رئيسية أعطي لكل منها فصل مستقلا كما يلي: [ صفحه 19] الفصل الأول: عرض المعني الخاص للخلافة والإمامة كما فهمه كل فريق، واستعراض الأدلة التي احتج بها. الفصل الثاني: عرض منهج كل فريق في معرفة هوية الخلفاء والأئمة، واستعراض الأدلة التي احتج بها. الفصل الثالث: عرض موقف الفريقين بالنسبة للمؤهلات التي ينبغي توفرها في الخلفاء والأئمة، واستعراض الأدلة التي احتجا بها. 4) القسم الثاني: وتم فيه استعراض الواقع التاريخي لدولة الخلافة والإمامة في صدر الإسلام، وهي الفترة التي رسم فيها شكل الخلافة، وحددت فيها معالمها الدائمة لاستناد غالبية المسلمين علي منهج وسلوك الخلفاء والأئمة والصحابة دليلا ومعيارا للخلافة الحقة. وهذا القسم علي ثمانية فصول: الفصل الأول: خلافة أبي بكر الفصل الثاني: خلافة عمر الفصل الثالث: خلافة عثمان الفصل الرابع: خلافة علي الفصل الخامس: خلافة الحسن بن علي الفصل السادس: خلافة معاوية بن أبي سفيان الفصل السابع: خلافة يزيد بن معاوية الفصل الثامن: خلافة عبد الله بن الزبير. 5) القسم الثالث: ويقدم الكاتب في هذا القسم طريقته الخاصة في الوصول لمعرفة هوية الخلفاء والأئمة الذين أرادهم الله (جل وعلا) لهذا المنصب، وفي هذه الطريقة مزيج من دليل التشريع وشهادة التاريخ من جهة، والعقل والنقل من جهة أخري، وكان ذلك علي فصلين: [ صفحه 20] الفصل الأول: مقياس لمعرفة الخلفاء والأئمة. الفصل الثاني: لمحات من سيرة الخلفاء والأئمة. 6) القسم الرابع: وتم فيه استعراض آثار أزمة الخلافة والإمامة علي شريعة الإسلام وواقع المسلمين علي مر العصور، وقد أضيف هذا القسم لإخراج البحث من دائرة الصراع المذهبي الضيقة، وإدخاله إلي دائرة الإسلام الأوسع بمعادلة تشخيص ومعالجة أخطر الأمراض التي عانت ولا تزال تعاني منها الأمة الإسلامية سنة وشيعة علي السواء. وقد قسمت هذه الآثار أو المخلفات إلي ثلاثة أنواع أعطي لكل منها فصل مستقل كما يلي: الفصل الأول: الآثار الأولية أو المخلفات المباشرة للأزمة. الفصل الثاني: أخطر الآثار التي لازمت الأمة علي طول تاريخها. الفصل الثالث: الآثار اللاحقة أو المخلفات التي ظهرت بعصور متأخرة نتيجة للنوعين الأولين. 7) الخلاصة والخاتمة: وتم فيه استعراض أهم ما يمكن استخلاصه واستنتاجه بشأن الخلاف السني - الشيعي بصورة عامة، وأزمة الخلافة والإمامة بصورة خاصة. د. أسعد القاسم رحم الله امرءا أهدي إلي عيوبي QASEM - ASAD AL , MCPO BOX 21987 , MAKATI CITY 1261 PHILIPPINES 8441635 - 2 - 63: TELFAX [ صفحه 21]

تمهيد (تعريف عام بالخلافة والإمامة)

الخلافة

الخلافة لغة هي ما يجئ من بعد، كأن يقال: هو خلف صدق من أبيه. وتأتي بمعني النيابة عن الغير كما في الآية الكريمة: (اخلفني في قومي) [الأعراف / 142]. وأما الخلافة اصطلاحا فقد ذكرت في القرآن لتعبر عن مفهوم في غاية السمو والرفعة وهو اصطفاء الله سبحانه وتعالي من ينوب عنه، ويقوم مقامه في تحمل مسؤولية إعمار الأرض وتسخير مقدراتها وخيراتها، بل وكل ذرات الكون من أجل السير بالبشرية نحو سعادتها الحقيقية. والخلافة بهذا المعني علي ثلاث درجات: الدرجة الأولي: استخلاف النوع الإنساني لتميزه عن باقي المخلوقات وعناصر الكون الأخري من ملائكة، وجن، وحيوانات، ونباتات، وجمادات، كما في قوله تعالي: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) [الإسراء / 70]. (إنا عرضنا الأمانة علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) [الأحزاب / 72]. (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره) [فاطر / 39]. (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) [الأعراف / 10]. [ صفحه 22] (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون - وعلم آدم الأسماء كلها...) [البقرة / 30]. والاستخلاف في الآية الأخيرة، وكما هو في الآيات التي قبلها ليس لشخص آدم عليه السلام، وإنما للنوع الإنساني (بني آدم)، لأن آدم عليه السلام لم يكن مفسدا في الأرض، ولا سفاكا للدماء، وكان ذكره في الآية الأخيرة بوصفه الإنسان الأول علي هذه الأرض، والذي جعل علي عاتقه مسؤولية خلافة الله في الأرض. الدرجة الثانية: استخلاف قوم أو جماعة بشرية معينة من بين الأقوام أو الجماعات البشرية الأخري، ولأن الاستخلاف أمانة إلهية، فإن القوم المستخلفين في حالة مخالفتهم لمقتضيات حمل هذه الأمانة، سيتلقون العقاب الإلهي، وتتحول الخلافة عنهم إلي قوم آخرين كما في قوله تعالي: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) [الأنعام / 133]. (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) [يونس / 14]. (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [محمد / 38]. ومن أمثلة هذا الاستبدال قوله تعالي بشأن قوم نوح: (فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) [يونس / 73]، وقوله تعالي بشأن قوم عاد: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) [الأعراف / 69]، وبشأن قوم ثمود: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) [الأعراف / 69]، وبشأن بني إسرائيل: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم علي العالمين) [البقرة / 122]، وبشأن أمة محمد صلي الله عليه وآله وسلم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس) [البقرة / 144]، وبشأن الباقين الثابتين علي الدين الحق: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) [النور / 55]. [ صفحه 23] الدرجة الثالثة: استخلاف قائد رباني لتميزه عن بقية أبناء قومه تكون خلافة الله متوجة فيه، ومصونة به من خطر الإفساد في الأرض، وسفك الدماء كما في قوله تعالي: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله) [ص / 26]. (ليكون الرسول شهيدا عليكم) [الحج / 78]. ولأن القوم المستخلفين هم ليسوا المالك الحقيقي لما استأمنوا عليه، وأنما هم خلفاء المالك الأصلي، وهو الله (جل وعلا)، فهم ليسوا مطلقي الحرية والتصرف كما شاؤوا بالإمكانات والسلطات الممنوحة إليهم، ودون قائد رباني، فإنهم سينحرفون تماما عن الخط الإلهي المرسوم، لما تزخر به النفس الإنسانية من نزوات، وأطماع، وحب التسلط. وهذه الدرجات الثلاث تمثل بمجموعها مفهوم الإسلام الأساس عن الخلافة، وهو يتلخص بإنابة النوع الإنساني في إعمار الأرض وإصلاحها ولكن بتميز أمة أو قوم يختارون (مع إمكانية استبدالهم) للدعوة إلي الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علي رأسهم قائد رباني يحكم الناس بالشريعة الإلهية. وقد اشتهر إطلاق تسمية (الخلافة) عند المسلمين وصفا للحكومات التي خلفت النبي صلي الله عليه وآله وسلم صالحها وفاسدها.

الامامة

الإمامة لغة هي الانقياد خلف إنسان، والاقتداء بقوله وفعله، وقد وردت كلمة (إمام) في القرآن الكريم لتعبر عن عدة معان، منها: المعني الأول: اللوح المحفوظ، كما في قوله تعالي: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) [يس / 12]. المعني الثاني: الكتاب السماوي، كما في قوله تعالي: (ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسي إماما ورحمة) [هود / 17]. [ صفحه 24] المعني الثالث: الطريق الواضح، كما في قوله تعالي بشأن قومي لوط وشعيب: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين - فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) [الحجر / 78 - 79]. المعني الرابع: قادة الهداية، كما في قوله تعالي بشأن إسحاق ويعقوب عليه السلام (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات) [الأنبياء / 73]. المعني الخامس: قادة الضلال، كما في قوله تعالي بشأن فرعون ومن معه: (وجعلناهم أئمة يدعون إلي النار ويوم القيامة لا ينصرون) [القصص / 41]، وقوله تعالي: (فقاتلوا أئمة الكفر) [التوبة / 12]، وفي قوله تعالي: يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا - ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي وأضل سبيلا) [الإسراء / 71 - 72]، دلالة علي أن لكل قوم إماما يدعون به يوم القيامة، وهو إما أن يكون إمام هداية، أو إمام ضلال. ولا يمكن أن يكون معني (بإمامهم) في هذه الآية هو (كتبهم) كما يفسر بعض، المفسرين، لأن أول كتاب سماوي نزل متضمنا لشريعة إلهية هو كتاب نوح، وهذا سيعني خروج جميع الأقوام التي كانت قبل مجئ النبي نوح عليه السلام من مقصود هذه الآية، وهذا غير ممكن لأن جميع الأقوام ستدعي للحساب يوم القيامة. وعلي ذلك، فإنه وعلي ضوء هذه الاستخدامات المتعددة لكلمة (إمام) في القرآن الكريم، يمكن استخلاص وتوجيه المفهوم الإلهي للإمامة وصفا للقادة الربانيين الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالي ليكونوا هداة الناس إلي شريعته علي ضوء الكتب والرسالات التي أنزلها علي أنبيائه ورسله، فالكتاب في واقع الحال لا يمكن أن يكون مرشدا للناس من بدون إنسان متخصص بحمله، عارفا بأمره. [ صفحه 25] وما يؤكد هذا المعني، وصف الإمامة في آيات أخري ب (عهد الله) الذي لا يناله سوي المتقين، واستحالته علي الظالمين كما في قوله تعالي: (وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [البقرة / 124]. وبذلك تكون الإمامة بمعناها القرآني الخاص وصفا لأعلي درجات الخلافة. وقد اشتهر بين المسلمين إطلاق لقب الإمام وصفا لحاكم الدولة الإسلامية، وبصورة أوسع للفقهاء وأصحاب المذاهب، ولمن يأتم الناس به في صلاة الجماعة، وحتي أنه يطلق أحيانا في هذا الزمان علي رؤساء بعض الحركات والجماعات الإسلامية. وإجمالا: فقد استخدمنا في هذا البحث مصطلحي الخلافة والإمامة مترادفين دائما، للتعبير عن مفهوم واحد، وهو قيادة الأمة الإسلامية وإدارة شؤونها العامة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وما دفعنا إلي استخدام هذا الترادف هو غلبة استخدام مصطلح الخلافة عند أهل السنة، ومصطلح الإمامة عند الشيعة علي نحو من التخصيص، وكأنهما مفهومان مختلفين، وما هما كذلك. [ صفحه 27] القسم الأول الخلافة والإمامة في التشريع الإسلامي تقديم الفصل الأول: ماهية الخلافة والإمامة الفصل الثاني: هوية الخلفاء والأئمة الفصل الثالث: مؤهلات الخلفاء والأئمة [ صفحه 29]

الخلافة والإمامة في التشريع الإسلامي

تقديم

علي الرغم من أن الخلافة والإمامة بمفهومها العام - كما بيناه في التمهيد لهذا البحث - هي محل قبول جميع المسلمين، إلا أنه عند التعرض لدراسة خصوصيات هذا المفهوم عند كل من الفرق والمذاهب الإسلامية، تجد أن مسألة الخلافة والإمامة كانت محور الخلاف الأكبر بين المسلمين علي مر العصور، وتسببت في حدوث أزمات لا تزال الأمة تعاني من آثارها وترسباتها لغاية يومنا هذا. وهذه الخصوصيات هي موضوع بحثنا في القسم الأول وهذا البحث، حيث سنقوم بعرض ما شرعه الإسلام حول هذه المسألة كما فهمه المسلمون، كل حسب مشربه، وتحديدا من خلال وجهتي نظر فرقتي أهل السنة والشيعة بوصفهما الفرقتين اللتين لا زالتا تتمتعان بوجود واقعي ومستمر، ويشكل أتباعهما مجموع أبناء الأمة تقريبا. وسيتم تناول ثلاث نقاط رئيسية تمثل بمجموعها موقف كل فريق تجاه مسألة الخلافة والإمامة، نعرض كلا منها في فصل مستقل كما يلي: الأول: ماهية الخلافة والإمامة. الثاني: هوية الخلفاء والأئمة. الثالث: مؤهلات الخلفاء والأئمة. ولكن قبل ذلك كله، ونظرا لسوء الفهم الشائع بين المسلمين، وغلبة الأحكام المسبقة حول الفرق والمذاهب، نقدم صورة موجزة جدا في تعريف كل من هاتين الفرقتين: [ صفحه 30] أهل السنة السنة لغة هي الطريقة أو نمط الحياة. والسنة اصطلاحا هي كل ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير أو صفة، خلقية أو خلقية. فيكون المعني الظاهري أو المفهوم المجرد لكلمتي (أهل السنة) الأتباع الذين يقتدون بالسنة النبوية المطهرة. وأما (أهل السنة) المصطلح المتداول بين الناس، فهو تسمية لفرقة إسلامية كبيرة يعتقد أتباعها بأركان الإسلام الخمسة وهي: الشهادتان، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج (ويضيف بعضهم الجهاد ركنا سادسا)، وبأركان الإيمان الستة وهي: الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره. ويري أهل السنة أن الله (سبحانه وتعالي) اختار واصطفي الصحابة ليكونوا حملة الرسالة وحفظتها ومعلميها بعد رحيل المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم إلي الأجيال اللاحقة، لأنهم - كما يرونهم - كانوا جميعا في أعلي درجات الصلاح والتقوي، ولا يجوز نقدهم، أو مجرد الشك بصحة أو صدق ما يروونه من حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. ويشكل أهل السنة غالبية أبناء الأمة في وقتنا الحاضر. الشيعة التشيع لغة من المشايعة أي المناصرة والموالاة، والشيعة هم الأتباع والأنصار المجتمعون علي فكر واحد، وموقف واحد. وقد استخدم هذا اللفظ في القرآن الكريم بمعني المناصرة والموالاة كما في قوله تعالي: (وإن من شيعته لإبراهيم) [الصافات / 83]، وقوله تعالي: (ودخل المدينة علي حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه) [القصص / 15]. وقال الشاعر حسان بن ثابت في مدح النبي صلي الله عليه وآله وسلم: [ صفحه 31] أكرم بقوم رسول الله شيعتهم++ إذا تعددت الأهواء والشيع وأما الشيعة اصطلاحا فهي الفرقة التي يعتقد أتباعها بأركان إسلام أهل السنة وإيمانهم نفسها، ولكن باختلافات طفيفة في تفاصيل بعضها. ولكن ما ميز الشيعة عن أهل السنة بصورة رئيسية هو نظرتهم للخلافة والإمامة كركن هام من أركان الاعتقاد، وما تضمنه هذا الخلاف من تفاصيل وتفرعات. ويعتقد الشيعة أن الله (سبحانه وتعالي): اختار أهل البيت عليه السلام واصطفاهم ليكونوا حملة الرسالة الإسلامية وحفظتها ومعلميها إلي الأجيال اللاحقة بعد رحيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم، لأنهم - كما يرونهم - قد خصهم الله بمواصفات استثنائية من التسديد في العلم والتطهير من كل رجس وإثم. ويشكل الشيعة في عصرنا ما لا يقل عن ربع خمس تعداد المسلمين. [ صفحه 32]

ماهية الخلافة والإمامة

عند أهل السنة

يغلب علي تعريفات الخلافة أو الإمامة عند علماء أهل السنة قديمهم وحديثهم إعطاء الطابع التنظيمي والتنفيذي لرئاسة الدولة الإسلامية، ولحفظوتحقيق مصالح الناس علي هدي مبادئ الشريعة [1] وهذا يشمل إقامة الحدود، وتدبير أمور الأمة، وتنظيم الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم وحمايةالمظلوم، وقيادة المسلمين في حجهم وغزوهم وتقسيم الفئ بينهم [2] . وهم بذلك لا يعترفون بفصل الدين عن الدولة وسياستها وشؤونها الإدارية، بل يعتبرون أنهما قائمان علي بعضهما بعضا. ومن هذا المبدأ الأساس ينطلق مفهوم الحاجة إلي القيادة الإسلامية. ويقول ابن تيمية في ذلك: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهمإلي بعض، ولا بد لحراسة الدين من رأس) [3] . ويبين الماوردي الدور الخطير الذي يلعبه الإمام بشأن حراسة الدين بقوله: (فليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم بدعة، ولكل عصر فيه وهية أثر، وكما أن السلطان إن لم يكن علي [ صفحه 33] دين تجتمع به القلوب حتي يري أهله الطاعة فيه فرضا، والتناصر عليه حتما لم يكن للسلطان لبث، ولا لأيامه صفو، وكان سلطان قصر أو مفسد دهر. ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة،فيكون الدين محروسا بسلطانه، والسلطان جاريا علي سنن الدين وأحكامه) [4] . وبالرغم من هذا التزاوج الواضح بين الدين والدولة بحيث إن صلاح أحدهما لا يكون إلا بصلاح الآخر، فإن موقع النظر في مسألة ولاية أمر المسلمين المتمثلة بالخلافة والإمامة لا ينسجم مع أهميتها العظمي هذه ويصنفها العلماء القدماء من أهل السنة ليس ضمن فروع الدين وأحكام الفقه فقط، وإنما يحثون علي عدم خوض الكلام والبحث فيها أيصا، لما قد يجلب ذلك من انتقاد بحق الخلفاء لا سيما الأوائل منهم! فيقول الغزالي: (إعلم أن النظر في الإمامة ليس من المهمات، وليس أيضا من فن المعقولات (بمعني أنه ليس من العقائد) بل من الفقهيات. بل إنها مثار للتعصبات، والمعرضعن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ؟) [5] . وللآمدي رأي مطابق للرأي السابق يقول فيه: (واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات، ولا من الأمور الأبديات بحيث لا يسع المكلف الاعتراض عنها والجهل بها، بل لعمري إن المعرض عنها أرجي من الواغل فيها. فإنها قلما تنفك عن التعصب، والأهواء، وإثارة الفتن، والشحناء، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسلف بالازراء، هذا مع كون الخائض فيهاسالكا سبيل التحقيق، فكيف إذا كان خارجا عن سواء الطريق؟) [6] . وقد انطلق هذا الاعتبار بفرعية الخلافة والإمامة عند أهل السنة وتهميش موقعها ضمن تعاليم الدين من اعتقادهم بعدم تدخل الشريعة من الأساس بتعيين [ صفحه 34] من يخلف النبي عليه السلام، وإنما يرون أن هذا الأمر قد أوكل إلي الصحابة ابتداء، وإلي الناس في كل عصر ليختاروا أولياء أمورهم استنادا إلي قوله تعالي: (وأمرهم شوري بينهم) [الشوري / 38]. ويستنتج من كل ذلك، أن الخلافة والإمامة في جوهرها منصب سياسي وتنفيذي لتطبيق حدود الشريعة، وحفظ مصالح العباد ومحاربة الأعداء. ولا تقع علي عاتق هذا المنصب مسؤولية حفظ الدين أو تفسير ما غمض من حقائقه، أو تبيان حدوده وتوضيح معالمه وغير ذلك من الأمور المتعلقة بفهم الشريعة وتفهيمها. وأما قول علماء أهل السنة بتحمل الخليفة مسؤولية حراسة الدين، فإنما يقصد من ذلك الدفاع عن وجود الدين ضد أي تهديد سياسي أو عسكري قد يستهدف اجتثاثه أو الإطاحة بالنظام الحاكم، وهو بذلك دفاع عن المجتمع الإسلامي، أو الحكومة الإسلامية ضد أي خطر داخلي أو خارجي ليس إلا.

عند الشيعة

يعطي الشيعة لمنصب الخلافة أو الإمامة دورا أكثر - (دينيا) - مما يعطيه أهل السنة، وذلك لأنها تعتبر عندهم الخلافة الإلهية في الأرض، ومهمة الإمام الأساسية استخلاف النبي صلي الله عليه وآله وسلم في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلي ما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. فالإمام هو الذي يفسر لهم القرآن، ويبين لهم المعارف والأحكام ويشرح لهم مقاصد الشريعة، ويصون الدين من التحريف والدس، وله الولاية العامة علي الناس في تدبير شؤونهم ومصالحهم، وإقامة العدل بينهم وصيانتهم من التفرقة والاختلاف. فالإمامة بذلك تعد منصبا إلهيا، واستمرارا للنبوة في وظائفها باستثناء كل ما يتعلق بالوحي. وهي بهذا المفهوم أسمي من مجرد القيادة والزعامة في أمور السياسة والحكم، ولا يمكن الوصول إليها عن طريق الشوري أو [ صفحه 35] الانتخاب، بل لا بد أن يكون تنصيب الإمام بتعين من الله (سبحانه وتعالي) علي لسان نبيه صلي الله عليه وآله وسلم. ويري الشيعة أن الشوري حسب الآية (وأمرهم شوري بينهم) [الشوري / 38]. لا تصح إلا في الأمور التي لم يرد فيها حكم من الله ورسوله، وأما مسألة تعيين أو اختيار ولاية أمر المسلمين بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم فهي مما كان للشريعة الحكم القطعي فيها. ولذلك، فالشيعة يعتبرون الإمامة أصلا من أصول الدين لا يكتمل الإيمان إلا بالاعتقاد الصادق بإمامة الأئمة أو الخلفاء المعينين من الله ورسوله، وأن تشريعها كان (لطفا) من الله بعباده، لأن المسلمين لم يكونوا مؤهلين لسد الفراغات التي خلفها النبي صلي الله عليه وآله وسلم بغيابه. فالحقبة الزمنية التي قضاها بينهم تعد قصيرة لإعداد أمة كاملة إعدادا كافيا، يؤهلها لإدارة وتدبير شؤونها الدينية والدنيوية بعده، وخصوصا إذا كان الأمر متعلقا بإعداد أمة قد ترسخت فيها عادات المجتمع الجاهلي ووحشيته، والذي كانت تحكمه لا أقل من شريعة الغاب فضلا من أن الغالبية العظمي ممن أسلموا قد تلفظوا بالشهادتين بعد فتح مكة وأواخر حياة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم. فإعداد هكذا أمة لا يمكن أن يتم خلال تلك الحقبة الزمنية القصيرة، لا سيما إذا علمنا أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قضي أكثر من نصف عمر دعوته في مكة يدعو الناس إلي قول كلمة التوحيد لا غير، ولم يقلها منهم إلا القليل، وقضي ما تبقي من عمر الدعوة في المدينة وكان شغله الشاغل فيها الدفاع عن الإسلام كوجود مهدد بالفناء، وقد أخذت الحروب والغزوات الكثيرة من المسلمين كل مأخذ، والتي محص بعضها - كموقعتي أحد وحنين علي سبيل المثال - مدي تغلل الإيمان في نفوسهم! ولهذه الأسباب يري الشيعة أن الله (سبحانه وتعالي) لم يطلب من رسوله سوي تبليغ الرسالة للناس، وإقامة الحجة عليهم بها لقوله جل وعلا: (فإن [ صفحه 36] توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين) [المائدة / 92] وقوله تعالي: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) [الشوري / 48]. فالحفيظ المقصود في هذه الآية هو المسؤول عن هداية الناس وتعليمهم، كما في قوله تعالي أيضا: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) [الرعد / 7]. واعتمادا علي هذه الآيات وغيرها يري الشيعة أن دور الخلافة والإمامة في كل عصر (لكل قوم هاد) هو هداية الإنسان وإصلاح الفرد والمجتمع من خلال حمل الرسالة وحفظها من تحريف المحرفين، وتشكيك المشككين، وإلا فما هي فائدة سلامة تبليغ هذه الرسالة إذا لم تحفظ بعد رحيل مبلغها بأيد أمينة؟ علي أن ما حدث للشرائع السابقة فيه الإجابة الوافية علي هذا التساؤل، حيث كان أتباعها يأخذون معالم شرائعهم بعد رحيل أنبيائهم عن أي من كان، فحصل التحريف الذي أخبر عنه العلي الحكيم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) [البقرة / 75]. وهكذا يري الشيعة أيضا أن قوله تعالي: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) [الإسراء / 71] وقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةجاهلية) [7] إنما هو للتأكيد علي أن أهداف رسالة الإسلام بعد رحيل المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إمامة الخلفاء الهادين المرشدين: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون) [يونس / 35]. [ صفحه 37]

هوية الخلفاء والأئمة

عند أهل السنة

عدم تدخل الشرع بالمسألة

لقد تأسست نظرية الخلافة والإمامة عند أهل السنة علي أساس عدم وجود أي نص في تعيين من يخلف النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وترك أمر اختيار الخليفة للناس وبالأسلوب الذي يرونه مناسبا، محتجين بقوله تعالي: (وأمرهم شوري بينهم) [الشوري / 38]. ويري أهل السنة - أيضا - أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد أهمل تحديد ذلك لئلا يحرج المسلمين بالتقيد بنمط خاص من أنماط الحكم أو اختيار الحاكم، وذلك يرجع لتطور الزمن وأساليب الحياة التي اختلفت وتعددت مقارنة بما كان عليه الحال في عهده صلي الله عليه وآله وسلم. ويقول الكاتب المصري المعاصر الدكتور محمد سليم العوا في هذا الشأن: (من الثابت تاريخيا أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لم يعين للمسلمين من يقوم بأمر الدولة الإسلامية بعد وفاته، بل لم يحدد الطريقة التي تتبع في اختيار الحاكم بعده، وإنما أوضح للمسلمين القواعد العامة التي يجب أن يراعيها الحاكم في سيرته. وبين الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بسيرته وأقواله المثل العليا التي يجب التمسك بها والمحافظة عليها من جانب الحاكم والمحكومين علي السواء، دون أن يتضمن ذلك الجانب من سنة الرسول، كما لم تتضمن نصوص القرآن الكريم تفصيلا لنظام الحكم الذي يجبأن يطبق في الدولة الإسلامية إذ اكتفي في هذا الصدد بالقواعد العامة فحسب) [8] . [ صفحه 38] وأضاف: إن الإمام الجويني ذهب إلي مثل هذا الرأي عندما يقرر أن (معظممسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع، خلية عن مدارك اليقين) [9] . وبعد قول أهل السنة بعدم وجود نصوص في تعيين من يخلف النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو في طريقة اختياره وشروط انعقاد البيعة له، فإنهم ذهبوا للاستدلال بأقوال الصحابة وأفعالهم في تشريع القوانين ووضع النظريات في هذه المسائل. وهم يجمعون علي كل حال علي الاعتقاد بأن الإمامة الحقة تمثلت بخلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، علي حسب ترتيب أفضليتهم عندهم، وسموهم بالخلفاء الراشدين. ويعتبرون أيضا شرعية الخلفاء ممن جاءوا بعدهم كالخلفاء الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين، ولم يستثن من هذا الاعتبار سوي قلة نادرة كالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي عد خليفة راشديا خامسا. وعلي وبالرغم من إجماع أهل السنة بعدم وجود أي نص باستخلاف أي أحد بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم، إلا أن غالبيتهم قالوا إنه ألمح باستخلاف أبي بكر وشذ بعضهم وقالوا إنه صلي الله عليه وآله وسلم نص علي خلافة أبي بكر، فأما القائلون بالتلميح، فهو لاستنادهم علي ما روته عائشة عندما سئلت من كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم مستخلفا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهتإلي هذا [10] وروت عائشة أيضا أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قال لها في مرضه الأخير: (ادع لي أبا بكر وأخاك حتي أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمني متمن ويقولقائل: أنا أولي، ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر) [11] . [ صفحه 39] وأما الشاذون بالقول بنص الرسول صلي الله عليه وآله وسلم باستخلاف أبي بكر كابن حزم، وابن حجر، فهو لاستنادهم إلي روايات ضعفها علماء الفريقين. ومنها ما نسب إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال لامرأة: (إن جئت فلم تجديني فأت أبا بكرالخليفة من بعدي) [12] . ومنها أيضا: (يكون خلفي اثنا عشر خليفة، أبو بكر لا يلبث إلاقليلا) [13] . ومنها: (إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) [14] . ومن هذه الروايات المشكوك في صحتها أيضا ما نسب إلي الإمام علي عليه السلام أنه قال: (لما قبض رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فوجدنا النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم لديننا، فقدمنا أبا بكر) [15] .

طرق انعقاد الخلافة

اشاره

تنعقد الخلافة أو الإمامة عند أهل السنة بإحدي الطريق التالية:

اختيار أهل الحل والعقد

وأهل الحل والعقد هم بمثابة أعضاء مجلس الشوري الذي يمثل الأمة في عملية اختيار الخليفة، ولم يشترط في ذلك عدد معين منهم، فضلا عن الإجماع، ويذهب معظم علماء أهل السنة إلي تجويز انعقاد البيعة للخليفة ولو بمبايعة شخص واحد له من أهل الحل والعقد. [ صفحه 40] يقول الجويني: (.. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود، ولا حد محدود، فوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد منأهل الحل والعقد) [16] ويقول القرطبي: (فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله. (وهذا) خلافا لبعض الناس حيث قالوا: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا أن عمر عقد البيعةلأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك!) [17] . وقال عضد الأيجي: (بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف، لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر لأبيبكر) [18] وقال آخرون: (أقل ما تنعقد به الإمامة منهم خمسة يجتمعون علي عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالا بأن عمر جعل الشوري فيالستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة) [19] .

عهد من الخليفة السابق

وفي هذه الطريقة يجوز للخليفة أن يعهد بالخلافة لمن شاء ليجعله خليفة بعده، فتنعقد الإمامة بذلك. فيقول التفتازاني علي سبيل المثال: أن هذا الاستخلاف يعد بمنزلة الشوري، ودليله علي ذلك عهد أبي بكر بالخلافة إليعمر [20] ويدخل في ذلك أيضا العهد إلي مجموعة من أهل الحل والعقد ليختاروا واحدا منهم إماما. واستدل علي ذلك من فعل عمر عندما عهد بالخلافة إلي ستة. ويري بعض العلماء من أهل السنة أن شرعية خلافة يزيد قد اعتبرت انطلاقا من هذا الأساس (الشرعي) المستنبط من فعل الصحابة لأنها كانت [ صفحه 41] أيضا بعهد من أبيه معاوية بن أبي سفيان وهو صحابي لا يجوز نقده، ثم كانت (خلافة يزيد) بمبايعة من بعض الصحابة ورضاهم كعبد الله بن عمر وهو أيضا لا يجوز نقده، بل يجب الاقتداء بما فعله ورضي به!

الغلبة والقهر

وتكون هذه الطريقة بأخذ الخلافة بالقوة كما في حال الانقلاب العسكري. ويقول التفتازاني: (وتنعقد الإمامة بالقهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام وتصدي للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة (أهل الحل والعقد) أو استخلاف (بعهد من الإمام السابق) وقهر الناس بشوكته، انعقدت الخلافةله) [21] . ويقول الشربيني: (والطريق الثالث [يكون] باستيلاء شخص متغلب علي الإمامة جامع للشروط المعتبرة في الإمامة علي الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء علي [إمامة الخليفة] الحي ففيه أمران: فإذا كان هذا الخليفة الحي متغلبا (بمعني أنه وصل إلي الخلافة عن طريق الغلبة والقهر) انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماما ببيعة أوبعهد من الإمام السابق لم تنعقد إمامة المتغلب عليه) [22] . [ صفحه 42]

عند الشيعة

اشاره

لقد تأسست نظرية الخلافة والإمامة عند الشيعة علي أساس وجود نص من الله تعالي علي لسان نبيه محمد صلي الله عليه وآله وسلم في تعيين هوية الخلفاء والأئمة، فالشيعة يعتقدون أن الخلافة الحقة قد نص عليها بأوثق الأدلة وأوضح العبارات في علي بن أبي طالب ابتدأ، والأئمة من أهل البيت عليه السلام بصورة عامة، ولا تخرج الإمامة من نسلهم أبد الدهر، والذي سيكون آخرهم الإمام محمد المهدي (المنتظر). وفيما يلي نقدم ما احتج به الشيعة من نصوص رئيسية ومدلولاتها عندهم في معرفة الخلفاء والأئمة، وهي علي نوعين: أولا: النصوص في إمامة أهل البيت. ثانيا: النصوص في إمامة علي بن أبي طالب

النصوص في إمامة أهل البيت

اشاره

يمكن استخلاص الأدلة التي يحتج بها الشيعة في إمامة أهل البيت، والآراء والتفسيرات التي يقدمونها في ذلك كما يلي:

عدول الكتاب

أخرج الترمذي، بسنده عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: (أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب اللهوعترتي أهل بيتي) [23] . وكان قوله صلي الله عليه وآله وسلم كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه: (ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب [ صفحه 43] الله فيه الهدي والنور فخذوا بكتابه الله واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله فيأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) [24] . ومن هذا الحديث الذي يسلم علماء الفريقين بصحته يفهم أنه وعلي الرغم من أن الله (سبحانه وتعالي) أنزل القرآن علي نبيه بأحكم صور التمام والكمال (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) [النحل / 89] و (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [الأنعام / 38]. إلا أنه لم يكن كافيا لضمان هداية الناس وإبعادهم من الضلال. لماذا؟ يجيب الشيعة عن ذلك بالقول: إن عقول الناس قاصرة عن إدراك أسرار الكتاب ومغازيه والإحاطة بجميع جوانبه (تبيانا لكل شئ)، فكان لا بد وأن يكون لهذا الكتاب من مرافق يقوم بهذه المهمة التوضيحية للناس (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) [آل عمران / 7]. وهؤلاء الراسخون في العلم كما يوصفوا في موضع آخر (إنه لقرآن كريم - في كتاب مكنون - لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة / 77 - 79]. فكما أن التمسك بالكتاب لا يعني الإمساك به أو القبض عليه باليد، فإن (مس) الكتاب في هذه الآية لا يعني مجرد لمسه باليد، وإنما نزلت فيمن يحق لهم تفسير الكتاب وتأويله، والذين تدخلت الإرادة الإلهية بتطهيرهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33]. وحتي أن علماء الحديث عند أهل السنة يرون أن الحديث صلي الله عليه وآله وسلم (... كتاب الله وعترتي أهل بيتي) والمشهور بحديث الثقلين، أصح مما رواه [ صفحه 44] أبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله، وسنتي) [25] فهذه الرواية التي أخرجها الحاكم في مستدركه ليس فقط يقدم عليها حسب إجماع العلماء [26] ما رواه مسلم في صحيحه (... كتاب الله وعترتي أهل بيتي) في حالة تناقضهما لأنها أوثق سندا، وإنما أيضا لعدم وضوح مفاد متنها. فجميع الفرق الإسلامية تقول بالتمسك بالسنة النبوية، ولكن لاختلاف هذه الفرق وتناقضها مع بعضها في كثير من المسائل يجعل لكل منها سنة مختلفة عن السنن الأخري، فأي من هذه السنن هي سنة محمد صلي الله عليه وآله وسلم؟ ومن الأحاديث التي يحتج بها الشيعة تأييدا لحديث الثقلين، قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلفعنها غرق) [27] ، وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف) [28] .

من هم أهل البيت؟

وقد اختلف المسلمون أيضا في تحديد هوية أهل البيت، ويقول الشيعة: إن أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم هم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ويحتجون في ذلك بالأحاديث التالية: فمن صحيح مسلم بالإسناد إلي عائشة قالت: (خرج رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين [ صفحه 45] فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنمايريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [29] . ومن صحيح مسلم أيضا، قال سعد بن أبي وقاص: (لما نزلت الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم..) [آل عمران / 61] دعا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا، فقال:اللهم هؤلاء أهلي) [30] وقد نزلت هذه الآية في حادثة المباهلة مع نصاري نجران، حيث إن (أبناءنا) إشارة إلي الحسن والحسين، و (نساءنا) إشارة إلي فاطمة، و (أنفسنا) إشارة إلي علي، لقوله صلي الله عليه وآله وسلم لعلي: (أنت مني وأنا منك). ومن صحيح الترمذي، بالإسناد إلي عمرو بن أبي سلمة ربيب النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (لما نزلت الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33] في بيت أم سلمة، دعا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعلي خلف ظهره، فجللهم بكساء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: وأنامعهم يا نبي الله؟ قال: أنت علي مكانك وأنت علي خير) [31] . وفي مسند أحمد، تروي أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة: (ائتيني بزوجك وابنيك) فجاءت بهم، فألقي عليهم كساء فدكيا، ثم وضع يده عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك علي محمد وآل محمد، إنك حميد مجيد). قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه النبي صلي الله عليه وآله وسلم من يدي وقال: إنك عليخير) [32] . [ صفحه 46] وفي صحيح مسلم أيضا، عن زيد بن أرقم قال: (... فقلنا من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وأيم والله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقهافترجع إلي أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده) [33] . ولكن أهل السنة يحتجون بالآيات التالية من سورة الأحزاب دليلا علي أن نساء النبي صلي الله عليه وآله وسلم هن أيضا من أهل البيت: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن...) [الأحزاب / 28] إلي قوله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33]. ولكن الشيعة يردون ذلك من عدة وجوه منها: إن مجئ آية تطهير أهل البيت ضمن سياق الآيات النازلة في نساء النبي لا يعني بالضرورة أن يكون المقصود فيهما واحدا، ذلك أنه يوجد العديد من آيات الكتاب الكريم التي تحوي الواحدة منها أمرين مختلفين تماما عن بعضهما. ومن أمثلة ذلك قوله تعالي: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح علي النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [المائدة / 3]. ومن وجه آخر: فقد جاء ضمير المخاطب لمن شملهم التطهير ب (عنكم، يطهركم) وليس بغير المخاطب لجمع المؤنث (عنكن - يطهركن)، كما جاء في المواضع السابقة لذلك والتي خوطبت بها نساء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ب (كنتن، منكن، لستن، تخضعن، وقرن... الخ). [ صفحه 47] ومن وجه ثالث: فإن عليا، وفاطمة، والحسن، والحسين، وحدهم استحقوا تحية (عليهم السلام) دون غيرهم من الصحابة ونساء النبي صلي الله عليه وآله وسلم، مما يشير إلي خاصية وميزة فوق عادية ومن الأمثلة علي ذلك كما أوردها البخاري: (عن علي عليه السلام، قال: كانت لي... إلي قوله: فلما أردت أنأبني بفاطمة عليه السلام بنت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم...) [34] وأيضا: (وطرق النبي صلي الله عليه وآله وسلم باب فاطمة وعلي عليه السلام ليلة الصلاة) [35] ، وكذلك: (.. قال: رأيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وكان الحسن بن علي عليه السلام يشبهه) [36] . وهذه المزايا الاستثنائية لأهل البيت عليه السلام جعلتهم يقارنون بآل إبراهيم عليه السلام كما يروي البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: (إن النبي صلي الله عليه وآله وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل علي محمد وآل محمد، كماصليت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد) [37] .

النصوص في إمامة علي بن أبي طالب

اشاره

لقد أحاط الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عليا منذ صغره بعناية خاصة، حيث تولي تربيته وإعداده، ودأب علي الإشادة بمكانته وفضائله في كثير من المواقف حتي قام بتنصيبه رسميا حسب اعتقاد الشيعة ليكون خليفة وإماما للأمة بعده. ومن أشهر وأهم ما يقدمه الشيعة من أدلة علي ذلك ما يلي:

بلاغ الغدير

بعد أن أدي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم حجه الأخير في السنة الحادية عشرة للهجرة، والتي عرفت ب (حجة الوداع) وحضرها معه ما لا يقل عن تسعين ألفا حسب [ صفحه 48] أقل ما روي في ذلك، وقبل أن تتفرق هذه الجموع الغفيرة نزل علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عند مكان خارج مكة يدعي غدير خم - وهو المكان الذي تتفرق منه الطرق إلي المدينة، والشام، والعراق، ومصر - قوله تعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) [المائدة / 67]. وقد نزلت هذه الآية في الثامن عشر من ذي الحجة والتي يظهر منها أن الله سبحانه وتعالي يأمر نبيه بإعلان بلاغ علي أثر ذلك بالتوقف، وخطب فيهم: (أيها الناس، إني أوشك أن أدعي فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجاهدت، فجزاك الله خيرا. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس، ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فإني فرط علي الحوض فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين. فنادي مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا. ثم أخذ بيد علي فرفعها، وعرفه القوم أجمعون فقال: أيها الناس، من أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي، وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه - قالها ثلاث مرات - اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، [ صفحه 49] وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب) [38] . ويتلخص تفسير الشيعة لهذه الخطبة بالنقاط التالية: أ - إن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أراد من خطبته هذه أن يوصي الأمة بأمر في غاية الأهمية متعلق بما سيكون عليه المسلمون بعد رحيله لأنه افتتح خطبته بالتلميح بقرب الأجل (أوشك أن أدعي فأجيب). ب - كانت مقدمة خطبته صلي الله عليه وآله وسلم بتذكير المسلمين بأهم أركان الإيمان وأصول الدين (التوحيد، النبوة، اليوم الآخر)، ثم أراد أن يضيف إليها أمرا جديدا بقوله: (فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين). فما معني إقران أهل البيت عليه السلام بالقرآن (إنهما لن يفترقا) إلا إذا كان هذا الأمر ركنا جديدا ذا أهمية قصوي ومتعلقا بالحساب الأخروي (حتي يردا علي الحوض)، بمعني أن الناس سيسألون عن تمسكهم بأهل البيت تماما كما سيسألون عن تمسكهم بالكتاب. ج - جاءت كلمة (مولي) بمعني أسمي من مجرد المحب والصديق كما يقول المخالفون للشيعة في تفسيرهم لهذا الحديث. فمن المستبعد أن يكون قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) يريد به (من كنت حبيبه وصديقه فهذا علي حبيبه وصديقه). فما الجديد في ذلك وقد وردت الكثير من التوجيهات النبوية التي تحض علي حب جميع المؤمنين وموالاتهم بعضهم البعض؟ وإذا كان هذا هو المعني المقصود، فلماذا سيقتصر هذا التوجيه والبلاغ بعلي وحده دون غيره، فلا بد إذا أن يكون لهذا التخصيص مراد في غاية الأهمية ومنسجم مع أهمية البلاغ والظروف الزمانية والمكانية التي [ صفحه 50] أحاطت به (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته). فجاءت كلمة (مولي) لتكون قرينة لكلمة (أولي) إشارة لولاية علي عليه السلام علي المؤمنين، وامتدادا لولاية الرسول (أنا أولي بهم من أنفسهم). د - ومما يدل علي عظمة هذا البلاغ (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) أن الله سبحانه وتعالي أنزل علي نبيه بعد الانتهاء من خطبة الغدير وقبول تفرقجموع الحجيج [39] : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة / 3]. وما يرتبط أيضا بولاية علي عليه السلام - حسب اعتقاد الشيعة - قولالرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي) [40] ، وقوله تعالي: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [المائدة / 55]. وقد ذكر مفسرو الشيعة وأغلب مفسري أهل السنة أن هذه الآية نزلت في علي عندما تصدق بخاتمه أثناء ركوعه فيصلاة غير مفروضة [41] وكذلك قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء / 59]. فعن علي إنه سألالرسول صلي الله عليه وآله وسلم: يا نبي الله من هم؟ قال: أنت أولهم [42] . وعن أبي بصير، أنه سأل الإمام محمد الباقر عليه السلام عن قوله تعالي: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، قال: (نزلت في علي بن أبي طالب، قلت: إن الناس يقولون: فما منعه أن يسمي عليا وأهل بيته في كتابه، فقال الباقر عليه السلام: قولوا لهم: إن الله أنزل علي رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا حتي كان رسول الله يفسر ذلك، وأنزل الحج فلم ينزل [ صفحه 51] طوفوا سبعا حتي فسر لهم ذلك رسول الله، وأنزل (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ففسرها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بقوله: أوصيكم بكتابالله وأهل بيتي، إني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتي يردا علي الحوض، فأعطاني ذلك) [43] .

منزلة هارون

قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم لعلي عندما خلفه علي المدينة يوم غزوة تبوك: (ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي) [44] . والمراد بذلك أن المرتبة التي كانت لعلي من الرسول صلي الله عليه وآله وسلم هي نفسها التي كانت لهارون من موسي عليه السلام باستثناء النبوة. ولكن ما هي هذه المرتبة التي كانت لهارون من موسي؟ وتجد الإجابة في سياق الآيات التالية: (وقال موسي لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) [الأعراف / 142] (قال رب اشرح لي صدري - ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني - يفقهوا قولي - واجعل لي وزيرا من أهلي - هارون أخي - اشدد به أزري - وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا - ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا، قال قد أوتيت سؤلك يا موسي) [طه / 25 - 36]. (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا، فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون - قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) [القصص / 34 - 35]. وتتلخص أوجه الشبه بين علي وهارون حسب تفسير الشيعة لذلك الحديث وهذه الآيات بما يلي: أ - كان هارون أخا للنبي موسي عليه السلام، وكذلك كان اعتبار علي من الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، كما أخرج الترمذي في صحيحه أنه عندما آخي [ صفحه 52] لرسول صلي الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، جاءه علي وسأله: آخيت بين أصحابكولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (أنت أخي في الدنيا والآخرة) [45] . بل إنه وحسب روايات أخري كان أكثر من ذلك لقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم له: (أنتمني وأنا منك) [46] ، ومصداقا لما جاء في قوله تعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم..) [آل عمران / 61] حيث دعا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عند نزولهذه الآية عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي) [47] . ب - كان هارون وزيرا وشريكا لموسي عليه السلام لقوله تعالي علي لسان موسي: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي - اشدد به أزري - وأشركه في أمري) [طه / 29 - 31]، وكذلك فقد طلب النبي صلي الله عليه وآله وسلم العون من أقاربه عند نزول قوله تعالي: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء / 214] حيث جمع النبي صلي الله عليه وآله وسلم أقاربه من بني عبد المطلب وكانوا يومئذ أربعين رجلا، وقال لهم: (يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله (عز وجل) أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني علي هذا الأمر علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم. فسكت القوم، وأعاد ذلك، وكلما كان يسكت القوم يقول علي: أنا، وحتي إذا كانت المرة الثالثة، أخذ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بيد علي وقال: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم،فاسمعوا له وأطيعوا) [48] . وروي الحافظ المحدث أبو نعيم الأصفهاني، بسنده عن ابن عباس، أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إن موسي بن عمران سألك وأنا محمد نبيك [ صفحه 53] أسألك أن تشرح لي صدري، وتحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي، اشدد به أزري وأشركه فيأمري) [49] . ح - كان هارون المفضل عند موسي علي جميع بني إسرائيل ليس لكونه أخاه، وإنما لاتصافه بمزايا تؤهله للقيام بمهام الدعوة والتبليغ والاستخلاف (وقال موسي لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح) [الأعراف / 142] ولو لم يكن كذلك لاستحال اختياره. وهكذا فإن عليا لا بد وأن يكون كذلك في الأفضلية لنيله واستحقاقه عند النبي صلي الله عليه وآله وسلم المراتب نفسها التي كانت مستحقة لهارون عند موسي عليه السلام. ومن كل ما سبق، فإن ما كان لهارون عند موسي عليه السلام من مراتب الوزارة، والاستخلاف، والشراكة، والأفضلية تنتقل جميعها إلي علي عليه السلام كمراتب خاصة له باستثناء النبوة. ومن المعلوم أن هارون عليه السلام مات في حياة موسي ولو عاش بعده لكان خليفته، وحل مكانه يوشع بن نون (أو اليسع كما ذكر في القرآن) [50] كوصي لموسي عليه السلام. وأما وجه الشبه بين علي ويوشع بن نون فهو كما ذكر المحقق السيد مرتضي العسكري: (إن يوشع بن نون كان مع موسي في جبل ولم يعبد العجل، وأمر الله نبيه موسي أن يعينه وصيا من بعده لئلا تكون بني إسرائيل كالغنم بلا راع وكان الإمام علي مع النبي في غار حراء، ولم يعبد صنما قط وأمر الله نبيه في رجوعه من حجة الوداع أن يعينه بمسمع من الحجيج قائدا للأمة بعده، ولا يترك أمته هملا، وقد صدع بذلك [ صفحه 54] رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في غدير خم. وقد صدق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إذ قال: (ليأتينعلي أمتي ما أتي علي بني إسرائيل حذو النعل بالنعل) [51] .

باب مدينة العلم والحكمة

في الحديث الشريف، قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فيأت الباب) [52] قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد علي شرط الشيخين (البخاري ومسلم) ولم يخرجاه. وفي صحيحالترمذي، قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) [53] . وقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أيضا في علم علي: (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيهمن بعدي) [54] ، وفي صحيح البخاري، قال عمر بن الخطاب: (أقرؤنا أبي وأقضانا علي) [55] ، ومن البديهي أن يكون الأقضي هو الأعلم بقوانين الشريعة وأحكامها. ولا غرابة في كثرة رجوع الصحابة إليه بعد رحيل المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم كلما كانت تواجههم معضلة. ومن ذلك، ما رواه ابن عباس قال: (أتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت. فأمر بها عمر أن ترجم فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه وقال: يا عمر أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة، عن المجنون حتي يبرأ، وعن النائم حتي يستيقظ، وعن الصبي حتي يعقل؟ قال: بلي. قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شئ، قال: فأرسلها. قال ابن عباس: [ صفحه 55] فجعل عمر يكبر [56] وقد أخرج البخاري هذه الرواية مبتورة [57] ومن ذلك أيضا عندما أمر عمر برجم امرأة حامل زنت، فقال له علي: وما سلطانك علي ما في بطنها؟ وقد كان عمر يقول تكرارا كلما كان يجيبه علي عليه السلام عما يسأله ليفرجعنه: (لولا علي لهلك عمر). وقوله: (لا أبقاني الله بعدك يا علي) [58] . وقوله: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس علي فيها) [59] . وإذا كانت صحبة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم تعتبر شرفا وعلو منزلة، فإن عليا عليه السلام لم يفارق الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في حياته. فمنذ صغره قبل البعثة وقد أصاب قريش أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، فأخذ العباس جعفرا ليخفف عنه، وأخذ النبي صلي الله عليه وآله وسلم عليا، فكان أول من اتبعه وصدقه عندما بعثه الله نبيا ويقول علي عليه السلام في ذلك: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلي صدره، ويكنفني فراشه ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ فيلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل)... إلي قوله: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وخديجة، وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة وأشمريح النبوة) [60] ويقول أيضا: (وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته) [61] . [ صفحه 56] وقد كان علي عليه السلام فعلا بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم باب لمدينة علمه حيث كان يقول: (علمني رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، وتشعب لي من كل بابألف باب) [62] ، وكان يقول تكرارا: (سلوني قبل أن تفقدوني... والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت) [63] . وفي قول آخر: (فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم فيسهل أم في جبل...) [64] وروي ابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلي الله عليه وآله وسلم يقول (سلوني) إلا علي) [65] .

ميزان الإيمان

في صحيح مسلم، قال علي عليه السلام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) [66] وعن أم سلمة، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (لا يحب عليا منافق ولايبغضه مؤمن) [67] وقال أبو سعيد الأنصاري: (إنا كنا لنعرف المنافقين - نحن معشر الأنصار - ببغضهم علي بن أبي طالب) [68] ، وعن أبي ذر الغفاري قال: (ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب) [69] . [ صفحه 57] وقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (من يريد أن يحيي حياتي ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم منهدي ولن يدخلكم في ضلالة) [70] . وقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (يا علي طوبي لمن أحبك وصدق فيك،وويل لمن أبغضك وكذب فيك) [71] ، وقال صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (إن الأمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش علي ملتي، وتقتل علي سنتي، من أحبك أحبني ومنأبغضك أبغضني) [72] وقال صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالي) [73] .

عديل الحق والقرآن

قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض) [74] ، وقال صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (علي مع الحق والحق معه، يدور الحق معه حيث دار) [75] ومن الواضح أن هذه الأحاديث منسجمة في معناها مع حديث الثقلين الذي مر سابقا. في صفحات هذا الكتاب. وقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (إن منكم من يقاتل علي تأويله (القرآن) كما قاتلت علي تنزيله). قال أبو سعيد الخدري: فقام أبو بكر وعمر. فقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم:(لا، ولكن خاصف النعل. وكان علي يخصف نعله) [76] وقد فهم مفسرو القرآن من الشيعة من هذا الحديث أن الآية: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) [آل عمران / 7] نزلت في أهل البيت عليه السلام. [ صفحه 58]

مؤهلات الخلفاء والأئمة

عند أهل السنة

الشروط الأساسية

يذكر البغدادي الشروط الأساسية التالية التي ينبغي توفرها في الخلفاء والأئمة، ويمثل رأيه موقف غالبية العلماء عند أهل السنة: 1 - العلم: وأقل ما يكفيه منه أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين بالحلال والحرام. 2 - العدل والورع: وأقل ما يجب فيه من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته. 3 - الاهتداء إلي وجوه السياسة، وحسن التدبير، والمعرفة بمراتب الناس، والحروب.4 - أن يكون نسبه من قريش [77] ويضيف آخرون للشروط المذكور: - الذكورة، والبلوغ، والعقل، والشجاعة، والحرية، وغيرها. ولا يشترط أهل السنة في الخليفة أو الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه، ودليل ذلك يوضحه الباقلاني بقوله: (وأما ما يدل علي جواز العقد للمفضول وترك الأفضل لخوف الفتنة والتهارج فهو أن الإمام إنما ينصب لدفع العدو، وحماية البيضة، وسد الخلل، وإقامة الحدود، واستخراج الحقوق، فإذا خيف بإقامة أفضلهم الهرج، والفساد، والتغالب، وترك الطاعة، واختلاف [ صفحه 59] السيوف، وتعطيل الأحكام والحقوق، وطمع عدد من المسلمين في اهتضامهم وتوهين أمرهم، صار ذلك عذرا واضحا في العدول عن الفاضلإلي المفضول [78] ودليله علي ذلك أن عمر بن الخطاب أجاز استخلاف أي واحد من الستة الذين عينهم ليختاروا واحدا منهم ليكون الخليفة بعده، مع علمه أن فيهم فاضلا ومفضولا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك، فثبتت بذلك إمامة المفضول علي الفاضل. ويقول ابن حجر المكي: (إنه لو لزم تعيين الأفضل، لقام عمر بتعيينعثمان دون الحاجة لجعلها شوري في ستة) [79] ، لأن عثمان برأيه كان أفضل من علي عليه السلام والأربعة الآخرين. وأما بشأن العلم اللازم للخليفة أو إمام الأمة، فالباقلاني يقول: (إن الأمة لا تحتاج إلي علم متميز له، وإن غلط في شئ من مهماته الموكلة إليه،فإن الأمة من ورائه ستقومه) [80] حيث إن الأمة ستمارس سلطاتها من خلال هيئة تمثلها تعرف ب (مجلس أهل الحل والعقد).

العصمة للخلافة و ليست للخليفة

ومما يلفت الانتباه أن أحد علماء أهل السنة البارزين يقول بعصمة منصب الخلافة والإمامة وإن لم يكن الخليفة أو الإمام معصوما. فهذا فخر الدين الرازي يري في تفسير قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء / 59]، أن فيها دلالة علي هذه العصمة، فهو يقول: (إن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر علي سبيل الجزم والقطع، فلا بد أن يكون [ولي الأمر] معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن [ صفحه 60] معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه علي الخطأ يكون قد أمر الله باتباعه، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه منهيا عنه، فهذا يفضي إلي اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنه محال، فثبت أن الله تعالي أمر بطاعة أولي الأمر علي سبيل الجزم، وجب أن يكون معصوما عن الخطأ،فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكورين في هذه الآية لا بد وأن يكونوا معصومين) [81] . ولأنه وافق برأيه هذا قول بعض الفرق الأخري القائلة بعصمة الأئمة، فإنه استدرك علي الفور قائلا: (إننا في زماننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد ليس بعضا من أبعاض الأمة، بل المرادهو أهل الحل والعقد من الأمة) [82] . وأهل الحل والعقد هم الذين تثق بهم الأمة من العلماء ورؤساء الجنود، والسرايا، وأولياء الدولة، وسراة القوم، وغيرهم من يمثلون الأمة، فتكون العصمة للمجلس الذي يضم هؤلاء الممثلين وليس لأي فرد منهم، ورأيهم النهائي لا يمكن وقوع الخطأ فيه علي حسب رأي الرازي، بل لا بد وأن يكون دائما مصيبا وموافقا للكتاب والسنة، وهو من عناية الله علي الأمة. ثم يستدلعلي ذلك بما نسب قوله إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (لا تجتمع أمتي علي خطأ) [83] .

بماذا ينخلع الخليفة؟

تبين مما سبق أن أهل السنة لا يشترطون في إمام الأمة العصمة ولا الأعلمية ولا حتي الأفضلية، بل يكتفون بأن يكون عنده قدر من العلم وإن قل، ودرجة من العدالة والتقوي تكفي لقبول شهادته، وحسن التدبير في شؤون [ صفحه 61] السياسة والحرب والنسب القرشي وغيرها كما مر في الصفحات السابقة، ولكن هل ينخلع الخليفة أو الإمام في حالة عدم توفره علي الحد الأدني لهذه المؤهلات أو انتفاء أحدها كلية فيه؟ يجيب أبو بكر الباقلاني عن ذلك: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وتركطاعته في شئ مما يدعو إليه من معاصي الله) [84] . ويقول الطحاوي: (ولا نري الخروج علي أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم ونري طاعتهم من طاعةالله (عز وجل) فريضة ما لم يأمر بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) [85] . وقال أيضا: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهموفاجرهم إلي قيام الساعة) [86] . ويرد سعد الدين التفتازاني موقف أهل السنة في عدم جواز الخروج عن طاعة الإمام الفاسق بقوله: (ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله تعالي أو بالجور، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لذلك، ويقيمون الجمعوالأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم) [87] . [ صفحه 62]

عند الشيعة

اشاره

نظرا لعلو منصب الإمامة عند الشيعة، واعتبارهم له منصبا إلهيا وامتدادا للنبوة في وظائفها الرسالية، فإنهم يعتقدون بوجوب اتصاف الأئمة بمواصفات استثنائية، وفوق مستوي الناس العاديين. وأهم هذه المواصفات:

العصمة

بمعني استحالة ارتكاب الإمام لأي من الرذائل صغيرها وكبيرها، وما ظهر منها وما بطن. وأهم ما يستدل به الشيعة علي مبدأ العصمة من آيات الكتاب ما يلي: أ - قوله تعالي: (وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [البقرة / 124]. فالآية الكريمة تشير إلي أن نيل عهد الله وهو إمامة البشرية المتمثلة بالأنباء وخلفائهم، لا يمكن أن تكون من نصيب ظالم، والخطيئة كبيرها وصغيرها، ظاهرها وباطنها تجعل من مرتكبها ظالما. ب - قوله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33]. فالرجس في هذه الآية هو الإثم، والمراد من إذهابه الرجس عن أهل البيت هو تنزيههم عن كل ما يوجب نقصا فيهم، وأي ذنب مهما صغر وبطن فإنه موجب في نقص متصرفة، فكانت إرادة الله عز وجل) تطهيرهم من كل الذنوب. ويري الشيعة إن المراد بالتطهير في هذه الآية لا يمكن أن يكون مجرد التقوي بالاجتناب عن النواهي، حيث إن هذا المعني لا يختص بأهل البيت عليه السلام وحدهم، وإنما هو لعموم الناس لقوله تعالي: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) [المائدة / 6]، [ صفحه 63] ج - قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء / 59]. ويعتقد الشيعة أن أولي الأمر في هذه الآية هم الأئمة الاثنا عشر عليه السلام، ويقولون: إنه لو احتمل ارتكاب أحدهم المعصية والإثم لما أمر الله سبحانه وتعالي الناس بطاعتهم، لا سيما وأن هذا الأمر جاء مطلقا دون أن يكون محصورا بأي قيد أو شرط، وقد اعتبرت طاعتهم بمستوي طاعة الله ورسوله كما يظهر جليا من تسلسل الأمر في الآية. وهذا التفسير مطابق لتفسير الفخر الرازي - كما مر سابقا مع اختلاف في تحديد هوية أولي الأمر.

الافضلية

ويعتقد الشيعة أيضا أن الإمام ينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه في صفات الكمال من شجاعة، وكرم، وعفة، وصدق، وعدل، وتدبير، وعقل، وحكمة، وخلق.

الاعلمية

ولأن الإمام عند الشيعة ليس مجرد رجل سياسة وحرب كما هو عند غيرهم، بل الحافظ للشرع بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم والمبين للناس أحكام الدين والكاشف لأسراره، فإنه ينبغي أن يكون علمه منسجما مع هذه المهمة العظيمة. وبالتأكيد، فإن هذا الانسجام لا يتحقق إلا بدرجة استثنائية من العلم وليس مجرد معرفة الحلال والحرام. يقول الشيخ محمد رضا المظفر في هذا الصدد: (أما علمه، فهو يتلقي المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو الإمام الذي قبله، وإذا استجد شئ لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة الحدسية التي أودعها الله فيه، ولا يحتاج في ذلك إلي البراهين العقلية، ولا إليتلقينات المعلمين) [88] . [ صفحه 64] ثم يوضح أن هذا النوع من الإلقاء هو غير الوحي المخصوص بالأنبياء بقوله: (لقد ثبت في الأبحاث النفسية أن كل إنسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء عن طريق الحدس الذي هو فرع من الإلهام، بسبب ما أودع الله تعالي فيه من قوة علي ذلك. وهذه القوة تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقيصة في البشر باختلاف أفرادهم، فيظفر ذهن الإنسان في تلك الساعة إلي المعرفة من دون أن يحتاج إلي التفكير، وترتيب المقدمات، والبراهين أو تلقين المعلمين، ويجد كل إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الإنسان من قوته الإلهامية أعلي الدرجات وأكملها، وهذا أمر قرره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون) - إلي أن يقول: (والأئمة عليه السلام كالنبي صلي الله عليه وآله وسلم، فإنهم لم يتربوا علي أحد، ولم يتعلموا علي يد معلم، من مبدأ طفولتهم إلي سن الرشد، حتي القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم إنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ علي يد أستاذ في شئ من الأشياء، مع ما لهم من منزلة علمية لا تجاري، وما سئلوا عن شئ أجابوا عنه في وقته، ولم تمر علي ألسنتهم (لا أدري). في حين إنك لا تجد شخصا من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته وأخذه الرواية علي غيره، وتوقفه في بعض المسائل أوشكه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر ومصر) [89] . بقي أن نذكر أن هذه المؤهلات هي مما يخص الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليه السلام المنصوص علي خلافتهم حسب اعتقاد الشيعة. وأما في عصر غيبة الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليه السلام، فإنه لا يشترط فيمن ينوب عنه (وهم في هذه الحالة: الفقهاء العدول) العصمة، وهؤلاء النواب، هم كسائر البشر يجدون ويجتهدون في تحصيل العلم، فيصيبون ويخطئون. [ صفحه 65] القسم الثاني الخلافة والإمامة في الواقع التاريخي تقديم الفصل الأول: خلافة أبي بكر الفصل الثاني: خلافة عمر الفصل الثالث: خلافة عثمان الفصل الرابع: خلافة علي الفصل الخامس: خلافة الحسن بن علي الفصل السادس: خلافة معاوية بن أبي سفيان الفصل السابع: خلافة يزيد بن معاوية الفصل الثامن: خلافة عبد الله بن الزبير [ صفحه 67]

الخلافة والإمامة في الواقع التاريخي

تقديم

عند دراسة الواقع التاريخي للخلافة والإمامة، فإنه ينبغي اعتبار كل من جوانبها السياسية وهي المتعلقة بطرق الوصول إلي هذا المنصب والصراعات والتحولات التي رافقت ذلك، وجوانبها الدينية وهي المتعلقة بتشريع الأحكام وحفظها والاجتهاد فيها عن طريق الخلفاء، وذلك لما كان لهم علي مر التاريخ الإسلامي من تأثير مباشر ليس فقط في التحليل والتحريم وصك الفتاوي، وإنما في تكون الفرق والمذاهب وانتشارها من جهة، وتحجيم بعضها والقضاء عليها من جهة أخري. ولا غرابة في ذلك باعتبار المكانة السامية التي أرادها الله (جل وعلا) لمنصب خلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، بالإضافة إلي ما اجتمعت عليه الفرق والمذاهب الإسلامية في عدم الفصل بين الدين والدولة. وفي الوقت الذي يفرض فيه المنطق الإسلامي جعل الدولة وسياساتها أداة لخدمة الدين الإلهي ووسيلة لتحقيق غاياته، فإن حكام المسلمين علي مر التاريخ لم يلتزموا بالضرورة بهذا المبدأ، إن لم يكن قد عمل معظمهم ضده! وعلي كل حال، فإننا سنحاول دراسة هذا الواقع التاريخي بإلقاء الضوء علي تلك الجوانب في ثمانية فصول، كل فصل خصص لاستعراض أهم الأحداث التاريخية التي حدثت في عهد كل من الخلفاء الثمانية الأوائل في أهم مرحلة من مراحل تاريخنا الإسلامي، وهي مرحلة صدر الإسلام والتي رسمت فيها الخطوط العريضة والملامح الأساسية لصورة دولة الخلافة، والتي بقيت محافظة عليها لحين سقوطها في مطلع القرن الحالي. [ صفحه 68]

خلافة أبي بكر

انكار عمر لوفاة الرسول

بعد انتقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم إلي الرفيق الأعلي، وانشغال علي ومن معه من أهل البيت عليه السلام وبني هاشم بتجهيز الجسد الطاهر، كان وجوه المهاجرين مجتمعين في المسجد، وقد علا صوت عمر معلنا إنكاره لوفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلمبقوله: (والله ما مات رسول الله، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم) [90] . وكان أبو بكر في غضون تلك الأثناء في السنح، خارج المدينة، ولما رجع وعلم بوفاة المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، خرج إلي المسجد وقال لعمر: (أيها الحالف علي رسلك.. ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومنكان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) [91] ثم تلا قوله تعالي: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران / 144].

اجتماع سري للأنصار

وأما الأنصار، فقد اجتمعوا سرا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة منهم، كان أبرز الطامحين لذلك المنصب زعيم الخزرج، سعد بن عبادة، وزعيم الأوس، أسيد بن حضير، وكان بين القبيلتين تنافس قديم وتحاسد. [ صفحه 69] وقام سعد وخطب فيهم: (يا معشر الأنصار، إن لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلي عبادة الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به إلا قليل... حتي أراد الله تعالي لكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله صلي الله عليه وآله وسلم، والمنع له ولأصحابه والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه - إلي قوله: ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله تعالي وهو راض عنكم، قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر،فإنكم أحق الناس وأولاهم به) [92] . وقد كان طمع الأنصار بالإمارة ليس فقط للأسباب التي ذكرها سعد بن عبادة، وإنما أيضا بسبب تخوفهم من بعض قبائل قريش إذا استلموا الإمارة، والذين قتل منهم الأنصار عددا كبيرا في غزواتهم مع الرسول صلي الله عليه وآله وسلم. ولما كان سعد بن عبادة هو المرشح الأقوي للخلافة بين الأنصار، ذهب اثنان من قبيلة الأوس حسدا لسعد وهما معن بن عدي، وعويم بن ساعدة، وأخبرا أبا بكر وعمر - اللذين كانا حينئذ في بيت الرسول صلي الله عليه وآله وسلم - باجتماع الأنصار، فأنطلق الشيخان مسرعين إلي السقيفة دون أن يخبرا أحدا بالأمر، ولقيا أبا عبيدة بطريقهما فرافقهما.

ابوبكر و عمر في مواجهة ساخنة مع الأنصار

وفور دخول الثلاثة إلي السقيفة، قام سعد بن عبادة، مخاطبهم: (أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونامن الأمر) [93] . [ صفحه 70] فأراد عمر أن يرد عليه، فقال له أبو بكر علي رسلك فقام وخطب قائلا: (... فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشيرة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا لقريش فيها ولادة. وأنتم أيضا والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر اختلافه علي أيديكم، وأبعد عن أن تحسدوا إخوانكم علي خير ساقه الله تعالي إليهم، وإنما أدعوكم إلي أبي عبيدة أو عمر، وكلاهما قدرضيت لكم وهذا الأمر، وكلاهما له أهل) [94] فقال عمر: (بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلي رسول الله) [95] . فقام الحباب بن المنذر وهو أحد وجهاء الأنصار والمؤيد لتأمير سعد بن عبادة وقال: (فنحن لا نحسدكم علي خير ساقه الله إليكم... ولكنا نشفق مما بعد اليوم، ونحذر أن يغلب علي هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا، علي أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذهالأمة) [96] وكان قول الحباب حسب رواية البخاري: (أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتي فرقتمن الاختلاف) [97] . ومع تأزم الموقف إلي هذا الحد، قام عمر وقال بشدة: (هيهات أن يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضي العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، [ صفحه 71] وأولو الأمر منهم، لنا بذلك علي من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين. من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدلبباطل، أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة!) [98] . فرد الحباب بن المنذر: (يا معشر الأنصار، أملوا عليكم أمركم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم، فاجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولي بهذا الأمر منهم، فإن دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا. أما والله إنشئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد علي أحد إلا حطمت أنفه بالسيف) [99] . انشقاق الأنصار ومبايعة أبي بكر لما رأي بشير بن سعد الخزرجي ما اتفق عليه قومه من تأمير ابن عمه سعد بن عبادة - كما يروي ابن قتيبة - قام حسدا لسعد، وأعلن تأييده للمهاجرين واستعداده لإعطاء البيعة لهم، فقام أبو بكر ورشح عمر أو أبا عبيدة للإمارة، ولكنهما قدماه للأمر وبايعاه. ولما سبقهما إليه بشير الأنصاري وبايعه، ناداه الحباب بن المنذر قائلا: يا بشير بن سعد، حسدت ابن عمكعلي الإمارة؟ قال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا لهم [100] . ولما رأت قبيلة الأوس ما صنعه بشير بن سعد، وعلمهم برغبة الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال زعيمهم أسيد بن حضير: لئن وليتموها سعدا عليكم، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فقاموا إليه وبايعوه. وتري عائشة حسب ما رواه البخاري أن العامل الحاسم في إعطاء البيعة لأبيها لم يكن تحاسد الأنصار، [ صفحه 72] وإنما: (فما كان من خطبتهما - أبي بكر وعمر - من خطبة إلا نفع الله بها، لقدخوف عمر الناس، وأن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك) [101] . وهكذا بايع كل من حضر السقيفة من الأوس والخزرج باستثناء الحباب ابن المنذر وسعد بن عبادة، والذي اعترضهم أثناء تقدمهم لإعطاء البيعة، فطرح أرضا حتي كادوا أن يطأوا عليه، فقال: قتلتموني. فقال عمر: اقتلوه،قتله الله [102] ومن المعلوم أن سعدا فارقهم منذ ذلك الوقت، ولم يصل معهم، ولم يجتمع باجتماعاتهم حتي قيل إنه لو وافقه أحد علي قتالهم لقاتلهم. ولم يزل كذلك حتي ولي عمر بن الخطاب، فخرج إلي الشام دون أن يبايع لأحد، بل قال لعمر عند خروجه: إني أصبحت كارها لجوارك. وعلي حسب بعض المصادر التاريخية أن سعدا قتل في الشام علي يد الجن! وبعد حصولهم علي بيعة الأنصار، انتقل أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة إلي المسجد حيث وجدوا بني أمية وقد اجتمعوا علي عثمان، وبني زهرة علي سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. فقال لهم عمر: قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان وسعد وعبد الرحمن فبايعوا. ويذكر المؤرخون أن عمر كان يحمل بيده عسيب نخل يحث بها الناس علي البيعة.

موقف علي بن أبي طالب

كان علي عليه السلام ومن معه من بني هاشم وبعض الصحابة (أمثال الزبير، وطلحة، وعمار، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخزيمة ذي الشهادتين، وخالد بن سعيد، وأبي بن كعب، وأبي أيوب الأنصاري، وغيرهم) منشغلين بما أصاب المسلمين من وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، والقيام بالواجب من تجهيز الجثمان الطاهر وتهيئته للتشييع إلي المثوي الأخير، ولم يعلموا بما حصل في [ صفحه 73] السقيفة والبيعة التي تمت إلا بعد خروج أبي بكر وعمر ومن معهما من المسجد في ضجيجهم وسماعهم لتكبيرهم. وروي أن عليا قال عندما علم باحتجاج أبي بكر وعمر علي الأنصار بقرشيتهم كأساس لاستحقاقهمللخلافة: (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) [103] . وامتنع علي ومن معه عن البيعة عندما جاءهم عمر طالبا منهم ذلك، حتي أن الزبير بن العوام أشهر سفيه تحديا في وجه عمر ومن معه. ويذكر عباس محمود العقاد هذه الحقيقة التاريخية في كتابه (عبقرية عمر) كما يلي: (واستكثروا من عمر صرامته في الدعوة علي إلي مبايعة أبي بكر كما جاء في بعض الروايات التي نرجح صحتها، وخلاصتها: إن عمر أتي منزل علي وبه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقن عليكم الدار أو لتخرجن إلي البيعة، فخرج الزبير مصلتا بالسيف، فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه. أو قال لهما عمر في رواية: أخري: والله لتبايعان وأنتماطائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان). [104] . ثم ذهب علي ليعبر عن احتجاجه ورفضه في حضرة أبي بكر قائلا: (أنا عبد الله وأخو رسوله وأحق بهذا الأمر منكم، وأنتم أولي بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وتأخذونه [أمر الخلافة] منا أهل البيت غصبا؟... وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به علي الأنصار، نحن أولي برسول الله حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبؤوا بالظلم وأنتم تعلمون. إلي قوله: لنحن أحق به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما دام فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور [ صفحه 74] السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوي فتضلوا عنسبيل الله، فتزدادوا عن الحق بعدا) [105] . فقال له عمر: أنت لست متروكا حتي تبايع. فقال له علي عليه السلام: إحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. والله يا عمر لاأقبل قولك ولا أبايع [106] ثم خرج دون أن يبايع، وبقي كذلك هو ومن معه لمدة ستة شهور. ويؤكد البخاري هذه الحقيقة بما يرويه عن عمر: (وإنه كان من خبرنا حين توفي الله نبيه صلي الله عليه وآله وسلم، إلا أن الأنصار خالفونا، واجتمعوابأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف منا علي والزبير ومن معهما) [107] . ومما روي أيضا عن عمر أثناء خلافته أنه قال لابن عباس: (إن الناس كرهوا أنيجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإن قريش اختارت لنفسها فأصابت) [108] . وقد ثبت تاريخيا أنه لو كان لعلي عليه السلام القوة الكافية لانتزاع حقه دون حصول الفتنة لفعل. ومن ذلك ما يرويه البخاري من قول عائشة: (.. وعاشت فاطمة بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلي عليها. وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلي أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهية لمحضر عمر. فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهموحدك. فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟ والله لآتينهم) [109] . [ صفحه 75] ويتضح من ذلك أن عليا وطوال ستة شهور كان يفكر بأخذ حقه، ولكن بالكيفية التي لا يحصل فيها شقاق وفتنة، وقد روي عن علي أنه قال: (لووجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم) [110] ولكنه مع وفاة فاطمة الزهراء عليه السلام، فقد انصرفت عنه وجوه الناس، وتضاءلت بذلك إمكانية أخذه الخلافة، وذلك باعتبار مكانة الزهراء عليه السلام من الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، ووقوفها إلي جانبه بالمطالبة بحقه، وتنديدها بالشيخين، لا سيما بعد محاولتهما أخذ البيعة من علي ومن معه بالقوة عندما كانوا مجتمعين في بيتها، وتهديد عمر لهم عند رفضهم الخروج إليه. ويوضح العالم الشيعي المعروف السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: (إن عليا عليه السلام لم ير أثرا للقيام ضدهم سوي الفتنة التي كان يفضل ضياع حقه علي حدوثها في تلك الظروف، وبسبب الفتن الخطيرة التي أحاطت بالإسلام من كل جانب. فخطر يهدد الإسلام من المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، بالإضافة إلي خطر مسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد الأفاك وسجاح الدجالة، والرومان والفرس وغيرهم ممن كانوا للمسلمين بالمرصاد. ولو أسرع علي عليه السلام إليهم في المبايعة حين عقدها، لما تمت له حجة ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والاحتفاظ بحقه في الخلافة، فالظروف يومئذ لا تسمح لمقارعة بحجة ولا مقاومة بسيف، والتي قد ينتهزها أعداء الإسلام لإحداث هدم في دين محمد صلي الله عليه وآله وسلم تكونمصيبته أعظم علي الإمام علي عليه السلام من ذهاب الخلافة إلي غيره) [111] . ومن هؤلاء الذين حاولوا استغلال ذلك لهدم الدين أبو سفيان الذي سعي إلي علي عليه السلام أكثر من مرة يحضه علي قتالهم بقوله: (إن شئت لأملأنها [ صفحه 76] عليهم خيلا ورجالا، ولأسدنها عليهم من أقطارها) [112] لكن عليا عليه السلام كان يرفض هذا النوع من المساعدة لعلمه اليقين بغاية أبي سفيان من تلك المساعدة، وقد أجابه قائلا: (إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك واللهطالما بغيت للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك) [113] . وليس غريبا بعد هذه الأحداث، وكل ما فيها من مواجهات ساخنة وتهديدات واتهامات علي جميع الألوان أن يصف عمر بيعة أبي بكر بما يلي: (.. فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، إلا وإنهاقد كانت كذلك، ولكن الله وقي شرها) [114] .

غضب فاطمة الزهراء إرثها

من المواجهات المشهودة في تلك الأثناء ما حصل بين ابنة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليه السلام والخليفة أبي بكر، ولم يكن ذلك بسبب وقوفها بجانب علي عليه السلام فحسب، وإنما أيضا بسبب حرمان أبي بكر لها من ميراثها من النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وتروي عائشة هذه الحادثة بقولها: (سألت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق أن يقسم لها ميراثها (الذي تركه) رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث، ما تركنا من صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ستة أشهر. وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من خمس خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبي أبو بكرعليها ذلك) [115] . [ صفحه 77] وكان غضب فاطمة علي أبي بكر عظيما لدرجة أنها أوصت عليا عليه السلام أن لا يصلي عليها أبو بكر ولا حتي أن يحضر دفنها كما يظهر ذلك من رواية عائشة: (... فأبي أبو بكر أن يدفع إلي فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة علي أبي بكر في ذلك، فهجرته ولم تكلمه حتي توفيت، وعاشت بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم ستةأشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلي عليها) [116] . وأرض فدك التي كانت تطالب بها فاطمة عليه السلام قرية من الحجاز كان يسكنها اليهود، وقد صالحوا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عليها بعد هزيمتهم في خيبر، فكانت ملكا للرسول صلي الله عليه وآله وسلم لأنها مما لم (يوجف عليها بخيل ولا ركاب). وذلك بالإضافة إلي ما ملكه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من خمس خيبر وصدقات النبي صلي الله عليه وآله وسلم بالمدينة. فكانت هذه كلها ملكا خاصا به، ولا حق فيها لأحد غيره. فالزهراء عليه السلام في هذه المسألة كانت - علي رأي أبي بكر - تطالب بما ليس لها فيه حق، وهي بذلك تكون علي أحد أمرين لا ثالث لهما. أولهما: إنها كانت كاذبة - والعياذ بالله - تطمع بأخذ ما تعلم أنه ليس لها فيه حق، وثانيهما: إنها كانت جاهلة بالعلم الذي يعلمه أبو بكر وقد التبست عليها أحكام الميراث. ولا أحسب أننا بحاجة إلي تفنيد الاحتمال الأول. وأما الثاني فقد تكفلت الزهراء عليه السلام نفسها بتفنيده حين واجهت أبا بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار بالقول: (... وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ولاحظ (أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [المائدة / 50]، ويها معشر المسلمة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا... أعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: (وورث سليمان داوود) [النمل 16]، وقال فيما اقتص من خبر زكريا: (فهب [ صفحه 78] لي من لدنك وليا - يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) [مريم / 5 - 6]، وقال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [مريم / 5 - 6]، وقال: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين) [البقرة / 180]... إلي قولها: أخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي؟ أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟...) [117] . وأكثر ما رويت هذه الحادثة من طرق أهل البيت عليه السلام كما رويت عن طرق غيرهم. وتضعيف أكثر علماء الحديث عند أهل السنة لهذه الرواية لا يلغي حجيتها، ذلك أن ما جاء فيها من استدلالات بغض النظر عن قائلها الحقيقي، وليكن أي كائن، الزهراء عليه السلام أو غيرها - يكفي لإثبات صحة موقف الزهراء عليه السلام وينفي عنها أي احتمال لجهل، لا سيما أن أباها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أو زوجها أمير المؤمنين عليه السلام كانا جديرين بأن يعلماها الحكم الصحيح في حالة افتراضنا جدلا أنها كانت لا تعلم أحكام المواريث. وعلي فرض صحة رواية أبي بكر عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بأنه قال: (نحن معشر الأنبياء لا نورث)، فإنها لا تعني عدم انطابق قوانين الميراث علي الأنبياء كما اجتهد في ذلك أبو بكر، وإنما أراد النبي صلي الله عليه وآله وسلم بذلك القول بأن الأنبياء لا يجمعون الأموال أو يكدسون الذهب والفضة ليكون ميراثا بعدهم، كما يفعل الملوك وطلاب الدنيا. والميراث الذي جاء في الآيتين بشأن داود وزكريا لا يراد به الحكم والنبوة لأنهما ليسا مما يعطي عن طريق التوريث، وإنما قصد به عموم المعني من توريث الأموال والعقار. ومن أغرب وأطرف ما قيل في هذه الحادثة، قول ابن حجر في تأييده لموقف أبي بكر: (ودعواها (الزهراء) أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم نحلها فدكا، لم تأت [ صفحه 79] عليها (بشهود) إلا بعلي وأم أيمن، فلم يكمل نصاب البينة، علي أن في قبولشهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء (!!)) [118] .

حروب الردة

كان من بين الذين حاربهم أبو بكر في الحروب التي عرفت باسم بحروب الردة من ادعي النبوة كمسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد الأفاك وسجاح الدجالة. وكان من بينهم بعض القبائل العربية التي ارتدت عن الدين كقبيلة بني سليم وغيرها، وقد أرسل الخليفة أبو بكر إليهم خالد بن الوليد علي رأس جيش لقتالهم، حيث روي أنه كان يجمع المرتدين منهم في الحظائر ثميحرقها عليهم بالنار) [119] ، وهكذا فعل أبو بكر بإياس بن عبد الله المعروف بالفجاءة حيث أمر بإحراقه. وقد اشتهرت هذه الحادثة في كتب التاريخ لا سيما لاحتجاج الصحابة واعتراضهم علي الخليفة لقول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (لايعذب بالنار إلا رب النار) [120] . وقد دلت روايات تاريخية عديدة علي أن معظم القبائل العربية التي حاربها الخليفة لم يكن بسبب ردتها عن الدين، وإنما بسبب رفضها دفع الزكاة أو تريثها في ذلك لارتيابها بشأن الخلافة التي تنازعها المهاجرين والأنصار، واختلاط الأمر علي هذه القبائل في مدي أهلية الحكومة الجديدة واعتقادها (أن من سيقوم مقام الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا لن يصل إلي منزلته في العصمة من الخطأ، فخافوا علي مستقبلهم في ظلالحكم الجديد) [121] ، أو كما قال الباحث حسن إبراهيم: (كما لا يبعد أن [ صفحه 80] يعلي مركز الخلافة من شأن القبيلة التي ينتمي إليها الخليفة وبغض من شأنغيرها من القبائل فيميل ميزان العدل بين الناس) [122] . وقد كان الخليفة عمر معارضا لقتال هذه القبائل التي لم تعلن ردتها عن الإسلام وإنما اختلط عليها الأمر في فهم بعض الأحكام الشرعية أو التطورات السياسية التي حصلت بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وقال عمر لأبي بكر: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلابحقها، وحسابهم علي الله) [123] ، ولكن أبا بكر كان مصرا علي موقفه، وقال: (والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم علي منعه) [124] . ومن ضحايا سياسة أبي بكر هذه مالك بن نويرة (والذي كان قد سبق وأنولاه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم علي صدقات قومه لثقته به واعتماده عليه) [125] حيث أرسل الخليفة قائد جيوشه خالد بن الوليد لمقاتلة مالك وقومه بذريعة الردة عن دين الإسلام. ولما علم مالك بقدوم خالد، أخلي له الديار وأمر أصحابه بالتفرق تجنبا للاقتتال. ولكن خالدا أرسل في أثرهم حتي جئ إليه بمالك ونفر من قومه فحبسهم عنده، ولما كان وقت الصلاة صلوا جميعا بمن فيهم مالك ومن معه، ثم سيق مالك ومعه زوجته وأصحابه إلي خالد. وبعد محاورات بين الفريقين، أصر خالد علي قتل مالك وجماعته بالرغم من صلاتهم وكل تأكيداتهم له بإسلامهم، حتي أن مالكا طلب من خالد أن يرسله إلي أبي بكر [ صفحه 81] ليحكم بأمرهم. ولكن دون جدوي، حيث كان لخالد ما أراد من قتلهم، وقد أوعز بالمهمة إلي ضرار بن الأزور [126] . والحقيقة في هذه الحادثة أن مالكا لم يرتد عن الإسلام وإنما رفض دفع الزكاة لأبي بكر تريثا لما ستسفر عنه الصراعات التي خلفتها فلتة السقيفة، أو كما قال ابن القيم الجوزية التلميذ الشهير لابن تيمية: إن رفض دفع مالك وجماعته لم يكن بسبب ردة عن دين، وإنما لشبهة شرعية تخيلوا بها أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بعد أن خاطبه الله (سبحانه وتعالي) بالآية: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها) هو وحده المخول بجمع الزكاة منهم، ولما توفاه الله، أصبحوا في حل من دفعها. ومن الثوابت التاريخية أنه وفي يوم مقتل مالك، قام خالد بالدخول فيزوجته والتي روي أنها كانت من أجمل نساء العرب [127] ، وقد قال مالك لخالد قبل مقتله: هذه التي قتلتني (يعني زوجته). فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فقال له مالك: إني مسلم. فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه. وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري من شاهدي تلك الواقعة، وقدكلما خالدا في أمر مالك قبل قتله، ولكنه كره كلامهما [128] ومما يشير أيضا إلي عظيم ما اقترفته يدا خالد، أن أبا قتادة أقسم أن لا يشارك بعد تلك الحادثة بجيش فيه خالد. وأما عمر بن الخطاب، فقد ثارت ثائرته لفعل خالد وطالب الخليفة أبا بكر بإقامة حدي القتل والزنا عليه. وكان جواب الخليفة له بالرفض بحجة أن ما فعله خالد يعد من التأول والاجتهاد وإن أخطأ فيه (؟!)ثم قال: يا عمر ما كانت لأغمد سيفا سله الله عليهم [129] . [ صفحه 82] ولأن عمرا لم يقتنع (باجتهاد) خالد وتأويله، ولا بصفح أبي بكر عنه، فإنه عندما تسلم الخلافة، كان من قراراته الأولي عزل خالد عن قيادة جيش المسلمين والذي كان حينها في غمرة انشغاله بقتال الروم في الشام. ودع عنك تلك التبريرات المصطنعة القائلة بأن عزل الخليفة لخالد كان يعود لخشيته افتتان المسلمين بانتصاراته الباهرة علي حساب شعورهم بصنع الله(سبحانه وتعالي) لتلك الانتصارات! [130] . [ صفحه 83]

خلافة عمر

استخلاف أبي بكر لعمر

يروي الطبري في تاريخه: (لما نزل بأبي بكر المرض، دعا عثمان بن عفان وقال له: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلي المسلمين. أما بعد - فأغمي عليه - فكتب عثمان تكملة لما بدأ بكتابته أبو بكر: أما بعد، فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا. ثم أفاق أبو بكر وقرأ ما كتبه عثمان فقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أسلمت نفسي في غشيتي. قال: نعم. قال أبو بكر: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله. وأقرها أبو بكر من هذا الموضع) [131] . وخرج عمر يحمل بيده كتاب الاستخلاف قائلا: (أيها الناس اسمعواوأطيعوا قول خليفة رسول الله، إنه يقول: إني لم آلكم نصحا) [132] فقال له رجل: ما في هذا الكتاب يا أبا حفص؟ فقال عمر: لا أدري، ولكني أول من سمعوأطاع. قال له الرجل: لكني والله أدري ما فيه أمرته عام أول، وأمرك العام [133] . ويذكر ابن قتيبة أنه حين بلغ المهاجرون والأنصار خبر استخلاف أبي بكر لعمر، دخلوا علي الخليفة الأول وقالوا: نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه [بمعني غلظته وتشدده] فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا [ صفحه 84] وليت عنا وأنت ملاق الله عز وجل فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر:لئن سألني الله لأقولن: استخلفت عليهم خيرهم في نفسي) [134] . ومن المعلوم أن أبا بكر في نزاعه الأخير وقد اشتد به المرض، قال في تبرير عهده بالخلافة لعمر وعدم تركها للتشاور، هو خشيته من الاختلاف بعده، وقالت عائشة إن أباها فعل ذلك لحكمة بالغة وهي للحيلولة دون حصول الفتنة بعده، وهكذا قال كل من أيد فعل أبي بكر، بل وعد فعله هذا من دلائل حيطته وعبقريته. ولكن ما يثير انتباه الباحثين هو أن حال المسلمين عند وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم كانت أقرب إلي الاختلاف والفتنة من حالهم عند وفاة أبي بكر، وأي فتنة ستكون أكبر من فقدان صاحب الرسالة، حتي أن عمر قد فقد صوابه عند سماعه خبر الوفاة، وذهب ينكر إمكانية موت النبي صلي الله عليه وآله وسلم ومهددا بقتل كل من يقول بذلك، بالإضافة إلي ما حصل في السقيفة والردة وخطر الفرس والروم، أفلم يفطن النبي صلي الله عليه وآله وسلم إلي ما فطن إليه أبو بكر؟ والتساؤل الآخر: لماذا لم يوصف حال أبي بكر بالهجران مع أنه أغمي عليه قبل أن يتم كتابة وصيته باستخلاف عمر، كما رمي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بهذا الوصف في مرضه الأخير؟

منع الخليفة تدوين السنة النبوية أو التحدث بها

عن عروة، قال: (أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن، فاستفتي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا فأكبوا عليها، وتركوا كتابالله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا) [135] . [ صفحه 85] ويتضح من قول عمر في هذه الرواية وغيرها أن ما دفعه لمنع تدوين أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم هو خشيته من أن يكون اهتمام المسلمين بها علي حساب اهتمامهم بكتاب الله! وعن القاسم بن محمد قال: (إن الأحاديث كثرت علي عهد عمر بنالخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بإحراقها) [136] . وقال كرظة بن كعب: (لما سيرنا عمر إلي العراق مشي معنا وقال: أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا: نعم، مكرمة لنا. قال: ومع ذلك، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم.جردوا القرآن وأخلوا الرواية عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأنا شريككم) [137] . وقال عمر لأبي هريرة الدوسي: (لتتركن الحديث عن رسول الله أولألحقنك بأرض دوس) [138] ، وقال أبو هريرة: (لو حدثتكم بأحاديث، ولو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة) [139] وأخرج الحاكم عن إبراهيم بن عبد الرحمن قوله: (إن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، ولأبي الدرداء ولأبيذر: ما هذا الحديث عن رسول الله؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتي أصيب) [140] . وقد سبق عمر إلي هذا الموقف في منع تدوين السنة النبوية أبو بكر، حيث جمع أيام خلافته خمسمئة حديث، وكما تروي عائشة: (إنه بات ليلته يتقلب كثيرا فهمني تقلبه، فلما أصبح قال لي: أي بنية، هلمي الأحاديثالتي عندك. فجئته بها فأحرقها) [141] . [ صفحه 86] وقد اقتفي سيرة الشيخين هذه في منع تدوين الأحاديث وحرقها جمهور المسلمين ولفترة طويلة من الزمن، حتي جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وأمر بتدوين السنة النبوية. والحقيقة أن مسألة منع الخليفة عمر من تدوين السنة النبوية أو التحدث بها تعد من أكثر المسائل المستغربة والمثيرة للتساؤلات، ذلك أنه لا يخفي علي أحد أهمية تدوين أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في ذلك العهد القريب من حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، لأنها ستكون أكثر صدقا وسلامة من حالة تدوينها في عصور متأخرة، وقد تناقلتها ألسنة كثيرة علي امتداد أجيال عديدة، لا سيما بعد تلك الحروب الطاحنة بين المسلمين أنفسهم واستشراء العداء بينهم وانتشار ظاهرة الوضع في الأحاديث لمدح فريق وذم آخر، أو لوضع الفضائل والمبالغة فيها لفريق، وطمسها والتقليل منها لفريق آخر. وعن أهمية السنة النبوية هذه يقول العلامة الأميني: (هل خفي علي الخليفة أن ظاهر الكتاب لا يغني الأمة عن السنة، وهي لا تفارقه حتي يردا علي النبي الحوض، وحاجة الأمة إلي السنة، لا تقل عن حاجتها إلي الكتاب؟ والكتاب كما قال الأوزاعي ومكحول: هو أحوج إلي السنة من السنةإلي الكتاب) [142] ذلك أن في السنة ما يوضح متشابه القرآن ويبين مجمله، ويخصص عامه، ويقيد مطلقه، ويوقف أولي الألباب علي كنهه، فبحفظهاحفظه، وبضياعها ضياع لكثير من أحكامه [143] .

اجتهادات الخليفة مقابل نصوص الكتاب والسنة

اشاره

لقد اشتهر الخليفة عمر بكثرة اجتهاده في كثير من الأحكام الثابتة والمؤيدة بنصوص من الكتاب والسنة. وأما إذا كانت تلك النصوص مما [ صفحه 87] يمكن الاجتهاد فيها، فهذا ما ترك الحكم فيه لاجتهاد القارئ الذكي من خلال التمعن في الأمثلة التالية:

تحريمه زواج المتعة (المؤقت)

يعرف الفقهاء هذا النوع من الزواج بأنه الزواج المحدد بمهر معلوم وإلي أجل معلوم بعقد جامع لشرائط الصحة الشرعية، وللزوجين أن يمدداه لفترة مؤقتة أخري أو يحولاه إلي عقد زواج دائم. وإذا ولد لهما مولود فإنه يلحق بأبيه، ويجب علي الزوجة أن تعتد بعد انقضاء مدة الزواج. ويجد القارئ هذا التعريف في الموسوعات الفقهية ك: شرائع الإسلام للحلي، والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني، الجبعي العاملي. ومما لا خلاف فيه أن الله (سبحانه وتعالي) أقر هذا النكاح بقوله: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) [النساء / 24]. وكما يروي ابن عباس: (كنا مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ورخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب (يعني مهرها) إلي أجل. ثم قرأ النبي صلي الله عليه وآله وسلم قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [144] ) [المائدة / 87]. وحسب رواية أخري نادي مناد: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني متعة النساء) [145] . ومما خلاف فيه ما يراه عموم أهل السنة من حرمة لهذا الزواج لاعتقادهم أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد نهي عنه أخيرا بعد أن أباحه للمسلمين، واستندوا إلي روايات تظهر أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أباح هذا الزواج ثم حرمه ثم [ صفحه 88] أحله، وهكذا عدة مرات مما يجعل تلك الروايات المتضاربة موضع سؤال، وخصوصا مع وجود روايات عديدة مقطوعة الصحة تظهر أن تحريم المتعة قد وقع بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وليس قبلها، ومنها: ما أخرجه البخاري بالرواية عن عمران بن حصين قال: (نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل قرآنيحرمه ولم ينه عنها حتي مات، قال رجل برأيه ما شاء) [146] . وهذا الرجل الذي لم يذكر اسمه في هذه الرواية هو الخليفة عمر بن الخطاب حسب ماذكر في شرح الباري علي صحيح البخاري [147] . وما يؤكد أيضا تحريم الخليفة عمر للمتعة بعد رحيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم دون أن ينهي عنها ما أخرجه مسلم في صحيحه بالرواية عن جابر بن عبد الله قال:استمتعنا علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأبي بكر عمر) [148] وفي رواية أخري قال: (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق لأيام علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلموأبي بكر حتي نهي عنه عمر في شأن عمرو بن حريث) [149] فأما عمرو بن حريث هذا فقد استمتع بجارية، وأوتي بها الخليفة عمر وهي حبلي فسألها،فقالت: استمتع بي عمرو بن حريث) [150] فغضب الخليفة وقام معلنا تحريمه لهذا النوع من النكاح، بل قرر رجم كل من يخالف تحريمه هذا، كما يروي جابر: (تمتعنا علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فلما قام عمر قال: إن الله يحللرسوله بما يشاء... وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلي أجل إلا رجمته بالحجارة) [151] . [ صفحه 89] وقد اشتهر قول الإمام علي عليه السلام: (لولا أن نهي عمر عن المتعة مازني إلا شقي) [152] . ومن المتع الأخري التي لم ترق للخليفة عمر ما عرف ب (متعة الحج)، وهي تكون بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين إحرامي العمرة والحج، ذلك أن الاعتمار قبل الحج فرض علي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام كما في قوله تعالي: (فمن تمتع بالعمرة إلي الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله وأعلموا أن الله شديد العقاب) [البقرة / 196]. وقد تواتر عن الخليفة عمر قوله: (متعتان كانتا علي عهد رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم وأنا أنهي عنهما) [153] وقال جابر بن عبد الله بشأن اختلاف عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير في متعتي النساء والحج: (فعلناهما مع رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما) [154] . والرواية التالية تشير بوضوح إلي وجود منهجين من السنة بعد رحيل المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، حيث يروي البخاري عن سعيد بن المسيب قال: (اختلف عثمان وعلي (رضي الله عنهما) وهما بعسفان في المتعة (متعة الحج)، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهي عن أمر فعله رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ثم أهل بهما جميعا (لبيك بعمرة وحج) وقال: ما كنت لأدع السنة لقول أحد) [155] يقصد الخليفة عمر. وكان عبد الله بن عمر مخالفا لأبيه في هذا التحريم، حيث يروي أنه سأله أحد من أهل الشام عن التمتع بالعمرة إلي الحج، فقال عبد الله بن عمر: هي [ صفحه 90] حلال. قال الشامي: إن أباك قد نهي عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهي عنها، وصنعها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول صلي الله عليه وآله وسلم. فقال: لقد صنعهارسول الله صلي الله عليه وآله وسلم [156] .

ابتداعه صلاة التراويح

فهذه الصلاة النافلة ذات العشرين ركعة، والتي يمارسها بهذا الاسم قطاع واسع من المسلمين جماعة في ليالي شهر رمضان، لم تكن مما شرع أيام الرسول صلي الله عليه وآله وسلم. فقد سنت بعض النوافل لتصلي فرادي في ليالي شهر رمضان دون أن تعرف في عهده صلي الله عليه وآله وسلم بهذا الاسم، ولا بهذا الكم من عدد الركعات. وقد أخرج البخاري في صحيحه قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). قال ابن شهاب: فتوفي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والناس علي ذلك، ثم كان الأمر علي ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر (معناه كما في شرح النووي علي صحيح مسلم: استمر الأمر هذه المدة علي أن كل واحد يقوم رمضان في بيته منفردا حتيانقضي صدرا من خلافة عمر) [157] قال ابن شهاب: خرجت مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ليلة في رمضان إلي المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون... فقال عمر: إني أري لو جمعت هؤلاء علي قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم علي أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخري والناسيصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعم البدعة هذه) [158] وما يثبت قطعا اختلاق عمر لهذه الصلاة هو قوله: (إني أري)! حيث نسب تشريعها إلي نفسه. ثم قوله: (نعم البدعة هذه)! وما (البدعة) في اللغة والاصطلاح إلا ما [ صفحه 91] كان جديدا ليس له أي وجود قبل ذلك، فضلا عن أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قد ثبت حثه في أكثر من حديث لإتيان النوافل في البيوت.

تصرفه في الأذان

لم يكن أذان الفجر زمن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يتضمن عبارة (الصلاة خير من النوم)، وإنما كانت من إضافات الخليفة عمر كما يروي الإمام مالك في موطئه: (.. إذ بلغه أن المؤذن جاء إلي عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح، فوجدهنائما. فقال: الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح) [159] . وكان الأذان زمن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يتضمن عبارة (حي علي خير العمل) والتي كانت تأتي بعد قول (حي علي الفلاح)، ولكن الخليفة عمر أسقط هذا الجز من الأذان حتي يفهم عامة الناس أن خير العمل هو الجهاد في سبيل اللهليندفعوا إليه [160] وعن عكرمة قال: (قلت لابن عباس: أخبرني لأي شئ حذف من الأذان (حي علي خير العمل) قال: أراد عمر ألا يتكل الناس عليالصلاة ويدعوا الجهاد، فلذلك حذفها من الأذان) [161] .

اجتهاده في حكم الطلاق

من المعلوم أن المرأة إذا طلقها زوجها للمرة الثالثة لا يجوز رجوعه إليها إلا بمحلل شرعي، والمقصود بالطلقة الثالثة هي تلك المسبوقة برجعتين وطلقتين، كما في قوله تعالي: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة / 229]... (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتي تنكح زوجا غيره) [البقرة / 230]. وأما إذا جاءت الثلاث طلقات في جملة واحدة كأن يقول الرجل لزوجته (أنت طالق، طالق، طالق) فتعد طلقة واحدة، إلا أنه وعندما جاء [ صفحه 92] الخليفة عمر جعلها ثلاث طلقات كما لا يزال الحال عند معظم فقهاء أهل السنة في عصرنا. ففي صحيح مسلم، عن ابن عباس، قال: (كان الطلاق في عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناهعليهم. فأمضاه عليهم) [162] وفي رواية أخري: (قال ابن الصهباء لابن عباس: ألم يكن الطلاق الثلاث علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة. فقال: قدكان كذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) [163] .

تحريمه البكاء علي الميت

البكاء كما هو معروف عند البشر من طبيعة النفس الإنسانية، ويأتي للتعبير عن مشاعر الرحمة والحزن لا سيما عند فقدان الإنسان لعزيز عليه. وقد بكي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم كما تواتر عنه في كتب السير والحديث. فهذا البخاري مثلا يروي بشأن بكائه صلي الله عليه وآله وسلم عند زيارته لسعد بن عبادة وقد اشتد عليه المرض، فظن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أنه مات: (... فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: قد قضي؟ قالوا: لا يا رسول الله. فبكي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فلما رأي القوم بكاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمعالعين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلي لسانه) [164] . ولكن الخليفة عمر كان ينهي عن البكاء علي الميت بقوله: (إنالرسول صلي الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه) [165] وفي رواية أخري، عن عبد الله بن قال: (لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه. [ صفحه 93] فلما أفاق، قال: أما علمتم أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاءالحي) [166] وحتي أن الخليفة عمر أحيانا لم يكن يكتفي بالنهي عن ذلك بلسانه. ففي صحيح البخاري: (وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وكانعمر (رض) يضرب فيه بالعصي ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب) [167] . وقد روي أن عائشة كانت تنفي قول عمر حول هذه المسألة كما يذكر ابن عباس: (فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقال: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، ثم قالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخري) [الإسراء / 15]. وقال ابن عباس: وعند ذلك والله أضحكوأبكي) [168] .

تجاوزه الحد الشرعي بإقامة الحدود

ومن ذلك أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر في مصر، قام واليه هناك عمرو بن العاص بحلق رأسه وجلده الحد الشرعي بحضور أخيه عبد الله بن عمر. ولكن الخليفة عمر عندما علم بذلك أمر بإحضاره مقيدا بإحكام إلي المدينة ثم أقام عليه الحد مرة ثانية وبغلظة بالرغم من مرضه الشديد وصياحهالمتكرر: قتلتني يا أبتاه. وقد مات الابن بعد شهر من الحبس [169] . ومن ذلك أيضا محاولته رجم امرأة مجنونة زنت، لولا قول الإمام علي عليه السلام له: أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة... إلخ، وكذلك محاولته رجم امرأة حامل زنت لولا قول الإمام علي عليه السلام: وما سلطانك علي ما فيبطنها [170] . [ صفحه 94]

الغاء سهم المؤلفة قلوبهم

من المعلوم أن الله (سبحانه وتعالي) أمر بصرف سهم من مصاريف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وهم غالبا من الذين يسلمون ونياتهم ضعيفة، فيؤلف قلوبهم بهذا العطاء كما في قوله تعالي: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب...) [التوبة / 60]. ولكن الخليفة عمر منع هذا السهم عنهم، ولما جاءه بعض المؤلفة قلوبهم يسألونه حصتهم، قال لهم: (لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلاموأغني عنكم، فإن أسلمتم وإلا السيف بيننا وبينكم) [171] . أمر الخليفة بالعمل بسيرة الشيخين بجانب الكتاب والسنة قام عمر بن الخطاب قبل موته بإصدار أمر بالعمل بكل ما صدر عنه وعن سلفه أبي بكر أثناء خلافتهما من قول أو فعل بما في ذلك كل التأويلات والاجتهادات والتي عرفت بمجموعها بسيرة الشيخين أو سنة الشيخين وليكون العمل بها ملازما للعمل بكتاب الله وسنة نبيه أبد الدهر. وهذا ما يفسر استمرار العمل باجتهادات عمر والتي عرضنا أمثلة منها عند كثير من المسلمين بالرغم من وضوح معارضتها لكتاب الله وسنة نبيه. وستري فيما يلي ماذا أفرزه أول تطبيق عملي لسيرة الشيخين هذه.

استخلاف عمر مجلسا للشوري

عندما طعن الخليفة عمر، دخل عليه المهاجرون وقالوا: يا أمير المؤمنين استخلف علينا. قال: والله لا أحملكم حيا وميتا، إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أدع فقد ودع من هو خير مني، يعني النبي صلي الله عليه وآله وسلم. ولما أحس بالموت قال لابنه: إذهب إلي عائشة واستأذنها أن [ صفحه 95] أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر. فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها، فقالت: نعم وكرامة. ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، واستخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشي عليهم الفتنة. فأتي عبد الله إلي أبيه وأخبره. فقال عمر: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، ولو كان سالم موليأبي حذيفة حيا لاستخلفته وما جعلتها شوري [172] . ثم قال: إن رجالا يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقي الله شرها، وإن بيعة عمر كانت من غير مشورة، والأمر بعدي شوري، وقد جعلت أمركم شوري إلي ستة نفر من المهاجرين الأولين وهم: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير،وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ودعاهم إليه [173] . ثم قال: إن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد، فاضربوا عنقه، وإن استقام أمر أربعة وخالف اثنان، فاضربوا أعناقهما وإن استقر ثلاثة واختلف ثلاثة فاحتكموا إلي ابني عبد الله، فلأي الثلاثة قضي، فالخليفة منهم وفيهم،فإن أبي الثلاثة الآخرون فاضربوا أعناقهم [174] وفي رواية الطبري: (فإن لم يرغبوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ولكن بشرط أن يعاهد من يبايع له بأن يعمل بسيرة الشيخين بجانب العملبكتاب الله وسنة نبيه) [175] . وأما بالنسبة للمرشحين الستة، فإنه كل من كان بمعرفة بمواقفهم السابقة يعلم أنهم كانوا سينقسمون إلي ثلاثتين كما حصل فعلا. فقد كان علي وطلحة والزبير في جانب ومرشحهم للخلافة هو علي، وفي الجانب الآخر كان سعد [ صفحه 96] عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومرشحهم للخلافة هو عثمان. وبما أن الترجيح جعل بيد ابن عوف علي حسب الشرط المذكور، فإن جواب الإمام علي عليه السلام بشأن العمل بسيرة الشيخين كان بالرفض قائلا: (أعمل بكتاب الله وسنة نبيهواجتهادي) [176] ، بينما كان جواب عثمان بالقبول، فآلت إليه الخلافة تبعا لذلك. وفي صحيح البخاري تجد جزءا من هذه الحادثة كما يرويها ابن مخرمة، قال: (طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتي استيقظت، فقال: أراك نائما، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فأدع لي الزبير وسعدا، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: أدع لي عليا فدعوته، فناجاه حتي ابهار الليل. ثم قام علي من عنده وهو علي طمع (بمعني رفضه شرط العمل بسيرة الشيخين)، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته، فناجاه حتي فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلي بالناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن بن عوف إلي من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلي أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا، تشهد ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن علي نفسك سبيلا. فقال عثمان: أبايعك علي سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبدالرحمن وبايعه الناس) [177] . ولنا أن نتساءل: لماذا أضاف الخليفة عمر شرط العمل بسيرة الشيخين فضلا عن استحداث مثل هكذا مصطلح أصلا؟ ولماذا أعلن عمر عند وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم اكتفاءه بكتاب الله، وأصبح الآن عند وفاته هو يقول وكأن كتاب الله وسنة نبيه لا يكفيان إلا إذا أضيف إليهما سنة الخليفتين؟؟ [ صفحه 97]

خلافة عثمان

ولادة الدولة الأموية

يذكر المؤرخون أن أبا سفيان قال لابن عشيرته عثمان بن عفان بعد انعقاد البيعة له: (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلي صبيانكم وراثة) [178] وأبو سفيان الذي لا يريد أن يصرح بحلفه باللات والعزي يعبر بقوله هذا عن طبيعة التفكير القبلي والجاهلي الذي تطبع علي أساسه وشاب. والخليفة عثمان - علي كل حال - لم يخيب ظنه، حيث بدأ فور تسلمه الخلافة بعزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية. ومن ذلك تعيين عثمان لابن عمه مروان بن الحكم معاونا له، وهو بمثابة منصب وزير الدولة الأول، وعزل سعد بن أبي وقاص من ولاية الكوفة وتوليته عليها بدلا منه أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم توليته عليها فيما بعد سعيد بن العاص وهو أحد أقاربه أيضا. وكذلك عزل أبا موسي الأشعري عن ولاية البصرة وعين مكانه ابن خاله عبد الله بن عامر، وعزل أيضا عمرو بن العاص من حكومة مصر وولاها لأخيه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وكان معاوية في خلافة عمر قد عهد إليه ولاية دمشق وحدها أو حسب روايات أخري بعض أعمالها، وعندما جاء عثمان جمع له [ صفحه 98] ولاية بلاد الشام كلها، حيث كانت هذه المنطقة من الناحية العسكرية أهم مناطق الدولة الإسلامية، لأنها كانت بمثابة السد العازل، بمقدور حاكمها أن يعزل الولايات الشرقية عن الغربية، وقد تربع معاوية علي سدتها مدة طويلة حتي استقرت جذوره فيها لدرجة جعلته يشعر أن بمقدوره الاستقلال عن العاصمة المركزية، بل ومحاربتها كما حصل فعلا زمان خلافة علي. وبهذه التعيينات يكون عثمان قد وضع البذور لدولة أموية، أو كما وصف العلامة أبو الأعلي المودودي بأن عهد عثمان كان بداية التحول من الخلافة الراشدة إلي الملك، وأنه لم تكن هناك حجة كافية لأن تخضع الدولةكلها من خراسان شرقا إلي شمال إفريقيا غربا لحكام من بيت واحد [179] . وفي شرحه لتركيبة العائلة الأموية، يقول المودودي: (إن أفراد هذه العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعا من الطلقاء. والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت إلي آخر وقت معادية للنبي صلي الله عليه وآله وسلم وللدولة الإسلامية، فعفا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام. ومعاوية، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوت التي أعطيت الأمان وعفا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عنهم. أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه، وكان واحدا من الذين أمر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بقتلهم حتي ولو وجدوا تحت أستار الكعبة. وبالطبع ما من أحد يقبل أن يعزل السابقون الأولون الذين خاطروا بأرواحهم في سبيل رفعة الإسلام فارتفع لواء الدين بتضحياتهم، وأن يحكم الأمة بدلا منهم مثل هؤلاء الناس الذين لم يكونوا يصلحون لتولي زعامة المسلمين... وهم يقفون في آخر صفوف الصحابةوالتابعين لا في أولها) [180] . عثمان وسيرة الشيخين في الحكم من الواضح أن الخليفة عثمان قد حاد عن سيرة الشيخين والتي عقدت له الخلافة علي أساس تعهده بالعمل بها، وذلك بإعطائه لأقاربه المناصب الكبري، وبإغداقه عليهم الأموال من بيت مال المسلمين، وبخصهم بامتيازات أخري اعترض الناس عليها. ويضرب المودودي مثالا لفداحة ما صنعه عثمان في هذا الأمر: (ولنأخذ وضع مروان بن الحكم مثالا: فقد أسلم أبوه الحكم بن العاص عم سيدنا عثمان (رض) في فتح مكة، ثم قدم المدينة واستقر بها، ولكن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أخرجه منها - بعد أن بدت منه بعض الأمور - وأمره بالإقامة في الطائف. وقد ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب أن من أسباب ذلك أن الحكم بن العاص كان يفشي المشاورات التي كانت تتم سرا بين الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأكابر الصحابة والتي كان يسمعها بطريقة أو بأخري وثاني الأسباب أنه كان يقلد الرسول حتي رآه ذات مرة وهو يفعل ذلك. وعلي أي حال، فلا بد أنه ارتكب ذنبا كبيرا أصدر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم علي أساسه أمرا بإخراجه من المدينة، وكان مروان وقتئذ في الثامنة من عمره فسكن الطائف مع أبيه، ولما تولي الخلافة كل من أبي بكر وعمر كان يلتمس في كل مرة منهما السماح بالعودة إلي المدينة ورفضا. ولما تولي عثمان (رض) الخلافة أعاده المدينة... فكان صعبا علي الناس أن يصدقوا أن ابن هذا الشخص الذي أخطأ في حق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يكون أهلا لأن يصبح معاون الخليفة من دون أكابر الصحابة (رضوان الله عليهم)، خاصة إذا كان الوالد المذنب علي قيد الحياة وله قدر من النفوذ علي أمور الدولة عن طريقابنه) [181] وبقي الحكم بن العاص حيا حتي آخر عهد عثمان وتوفي سنة 32 هجرية. [ صفحه 100] وهكذا كان، فقد استغل مروان بن الحكم منصبه كمعاون للخليفة ومستشاره الأول في ارتكاب الأعمال الفاسدة، واختلاس الأموال، وتهديد الصحابة الكبار بكلمات لم يكن يتحمل سماعها من لسان الطلقاء، حتي أن نائلة نصحت الخليفة (وهي زوجته) قائلة: (فإنك متي أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدرولا هيبة ولا محبة) [182] إلا أن الخليفة عثمان أصغي إلي نصيحتها هذه علي ما يبدو بإعطائه لمروان (500 خمسمئة ألف دينار)، وهي قيمة خمس غنائم إفريقيا!

ايذاء خيرة الصحابة

اشاره

لم تكن اعتراضات الناس ونقمتهم علي الخليفة لمجرد إسناده أهم مناصب الدولة لأقاربه، والإغداق عليهم من بيت مال المسلمين، وإنما أيضا للانتهاكات الخطيرة في تعاليم الإسلام وآدابه، والمظالم التي ارتكبت بحق خيرة صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، لا سيما أبي ذر الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وإليك قصة ما حدث لكل واحد منهم:

ابوذر الغفاري

وهو الذي قال فيه النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) [183] ، ولكنه لاقي النفي إلي الشام لاعتراضه علي الخليفة عثمان في مسألة توزيع الأموال وتبذيرها علي أقاربه، ثم لاقي النفي مرة أخري، ولكن هذه المرة إلي البادية في قرية تدعي (الربذة) خارج المدينة عقابا له من الخليفة لاعتراضه علي والي الشام معاوية بن أبي سفيان لاكتنازه الأموال وتبذيرها علي حساب بيت مال المسلمين. ويروي زيد بن وهبة هذه الحادثة قائلا: (مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر الغفاري (رض) فقلت له: ما أنزلك منزلك هكذا؟ قال: كنت بالشام [ صفحه 101] فاختلفت أنا ومعاوية في الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة وينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) [التوبة / 34]. قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إليعثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن أقدم المدينة فقدمتها) [184] . وكانت شكوي معاوية إلي الخليفة أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، حتي تعالت كلماته علي لسان الناس في البيوت والطرقات: (بشر الكانزين بمكاومن نار يوم القيامة) [185] .

عبدالله بن مسعود

وهو الذي كان صاحب بيت المال في الكوفة، وقد كان يعترض علي والي الخليفة عثمان الوليد بن عقبة - وهو أخوه لأمه - بسبب عدم إرجاعه المال الذي يستدينه من بيت مال المسلمين، ولكثرة إدمانه الخمر، حتي أنه صلي الصبح بالناس أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إلي الناس وقال: أزيدكم؟ ولكن عبد الله بن مسعود هو الذي عوقب أولا من الخليفة لاعتراضه عليالوليد حيث قال له عثمان: (إنما أنت خازن لنا) [186] ثم أمر غلمانه بضربه حتي لاقي كسرا في أضلاعه. وبعد كثرة تذمر الناس من تصرف الخليفة هذا، أمربإقامة الحد علي الوليد [187] . ومما يجدر ذكره أن الوليد بن عقبة كان من الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكلفه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ذات مرة بجباية صدقات بني المصطلق، إلا أنه بعد أن [ صفحه 102] وصل حدود المنطقة التي تسكنها هذه القبيلة خاف لسبب ما ورجع إلي المدينة، وكذب علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم بالقول أن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وأرادوا قتله، فغضب الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأرسل إليهم جيشا لقتالهم، وكادت أن تقع واقعة كبري لولا أن رؤساء بني المصطلق علموا بالأمر وجاءوا إلي المدينة ليخبروا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أنه لم يأتهم أحد لجباية الزكاة، فنزل قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين) [الحجرات / 6]، عندما أصبح عثمان خليفة، عزل عن ولاية الكوفة سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وعين بدلا منه هذا الفاسق.

عمار بن ياسر

وهو الذي قام بالصلاة علي عبد الله بن مسعود ودفنه دون إعلام الخليفة بذلك بناء علي وصية من ابن مسعود حتي لا يصلي عليه لما لقيه منه منأذي [188] وكان هذا العمل مما أغضب الخليفة، إلا أن تصرف عمار الذي أثار حفيظة عثمان ضده وجعله يعاقبه عليه أشد العقاب هو - كما يروي ابن قتيبة - تجرؤه بحمل كتاب احتجاج ضد الخليفة وأقاربه كتبه عشرة من الصحابة من ضمنهم المقداد، وذكروا فيه مخالفات عثمان لسنة رسول صلي الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه (أبي بكر وعمر) وما كان من هبته لخمس خراج إفريقيا لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القرابة واليتامي والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتي عدوا سبع دور بناها بالمدينة لأهله وبناته، وبنيان مروان القصور، وما كان من الوليد في الكوفة إذ صلي بالناس الصبح أربعة وهو سكران وتعطيله ثم تأخيره الحد عليه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم علي شئ ولا يستشيرهم، وضربه ظهور الناس بالسياط وغير ذلك [ صفحه 103] مما كتب في ذلك الكتاب الاحتجاجي والذي قام عمار بتقديمه إلي الخليفة. فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورائه. فقال عثمان لغلمانه: اضربوه! فضربوه وضربه عثمان معهم حتي فتقوا بطنه وغشي عليه، فجروه حتي طرحوه علي باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلم فأدخل منزلها، وغضب له بنو المغيرة وكان حليفهم، وغضب له أيضا علي عليه السلام وكبار الصحابة، حتي أن عليا قال لعثمان: (... فأنا أقول كما قال العبد الصالح (فصبرجميل والله المستعان علي ما تصفون) [يوسف / 18].. إلي آخر الرواية) [189] . وغضبت له عائشة أيضا، فكانت تحمل قميص النبي صلي الله عليه وآله وسلم وتقول: (هذا قميص النبي لم يبل وقد أبليت سنته) إلي أن قالت: (اقتلوا نعثلا فقدكفر) [190] .

كيف كان مقتل الخليفة؟

مع كل تلك الممارسات التي قام بها عثمان وأقاربه بانتهاك كل الشرائع والسنن، فقد كان فضلاء الصحابة يحاولون نصح الخليفة، ولكن دون جدوي، وكانت تأتيه الوفود من الأقاليم تحمل معها رسائل احتجاج ومطالبات معينة، فكانت ترفض بشدة في كل مرة، ولا يعطي الخليفة لها أية قيمة أو انتباه. فلم يكن مستغربا بعد كل ذلك أن تثور ثورة الثائرين، والذين تزعم حركتهم أناس من مصر، والكوفة، والبصرة، حيث تبادلوا الاتصالات فيما بينهم سرا، حتي توجهوا بعدد يزيد علي الألفين، وحاصروا الخليفة لمدة أربعين يوما، وطالبوا بعزله. إلا أن عثمان رفض التفاوض معهم. وعند [ صفحه 104] اشتداد الحصار عليه، قام باستشارة عبد الله بن عمر بالأمر (وكأن فكرة التنازل قد بدأت تراوح في ذهنه) فأشار عليه ابن عمر بالبقاء في الحكم قائلا: (لا أري أن تسن هذه السنة في الإسلام، كلما سخط قوم علي أميرهمخلعوه) [191] وبعد ذلك اقتحم الثوار القصر وقتلوا الخليفة، وبقي جسده مسجي علي الأرض لثلاثة أيام دون أن يدفن. [ صفحه 105]

خلافة علي

مبايعة الإمام

بعد مقتل الخليفة عثمان، توجهت أنظار الناس إلي الإمام علي عليه السلام وطلبوا مبايعته، أو كما يقول المودودي: (تقول الروايات الصحيحة كلها إن صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وغيرهم من أهل المدينة راحوا إليه، وقالوا له إنه لايصلح الناس إلا بإمرة، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك) [192] . ولكن الإمام علي عليه السلام رفض عليهم ذلك، لا لأنه لم يجد في نفسه القدرة علي تحمل تبعات الخلافة، بل لأنه (رأي المجتمع الإسلامي قد تردي في هوة من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والتي زادت عمقا واتساعا بسبب سياسة ولاة عثمان خلال مدة الخلافة، ورأي أن التوجيهات الإسلامية ومفاهيمها العظيمة التي عمل النبي صلي الله عليه وآله وسلم طيلة حياته علي إرساء أصولها في المجتمع الإسلامي الناشئ قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس، وإنما صار الناس إلي واقعهم هذا لأنهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة التي تهيمن عليهم). ويفهم أيضا أن سبب رفض الإمام عليه السلام قبوله الفوري لطلبهم هو لاختبارهم وكشف مدي استعدادهم لتحمل المنهج الإسلامي الصحيح في الحكم، حيث خاطبهم قائلا: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له [ صفحه 106] وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلي قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم) [193] وعندما أصر الناس بمطالبتهم، استجاب لهم الإمام عليه السلام وتمت له البيعة، والتي اعترفت بها جميع الولايات الإسلامية باستثناء ولاية الشام.

منهج الإمام و سياسته في الحكم

حينما تولي الإمام علي عليه السلام أمور المسلمين، فإنه ورث من سلفه عثمان صعوبات كثيرة، وواقعا في غاية الفساد والانحراف، لا سيما انشقاق معاوية عن الدولة الإسلامية وتفرده بالشام، الأمر الذي شق المجتمع الإسلامي إلي شقين، في كل منهما كيان لا يعترف بالآخر. وقد سارع الإمام إلي إعلان منهجه وسياسته إلي الناس منذ اللحظة الأولي لتوليه الحكم وبين لهم: (إن المسألة بالنسبة إليه ليست تبديل شخص بشخص آخر، وليست مسألة فارق اسمي بين زعيم الأمس وزعيم اليوم، وإنما المسألة اختلافشامل للمنهج، وفي كل القضايا المطروحة) [194] . ومن هذه القضايا، إلغاء مبدأ التفاضل في العطاء وإعلان مبدأ المساواة بين المسلمين، واعتبارهم سواء في الحقوق والواجبات، وهو يقول: (الذليل عندي عزيز حتي آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتي آخذ الحقمنه) [195] ويقول في كتابه لمالك الأشتر عندما عينه واليا علي مصر: (إنصف الله وانصف الناس في نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوي من [ صفحه 107] رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دونعباده... وليكن أحب الأمور أوسطها في الحق وأعمها في العدل) [196] . وبشأن سياسته عليه السلام في توزيع المال يقول: (وإني حاملكم علي منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمره، ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاهمن مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شئ) [197] وبهذه الإجراءات فقد صادر الإمام عليه السلام جميع ما وهبه عثمان من الأموال العظيمة لطبقة الإرستقراطيين، وألغي كذلك كل أشكال التمييز في توزيع المال علي الناس مؤكدا أن التقوي والسابقية في الإسلام، وهي الأسس التي كان يعتمدها الخليفة عمر في توزيع العطاء أمور لا تمنح أصحابها امتيازات في الدنيا، فالله يتولي جزاءه، أما في هذه الدنيا فالناس سواسية في الواجباتوالحقوق [198] ويقول الإمام عليه السلام في ذلك: (وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يري أن الفضل له علي سواه لصحبته،فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره علي الله) [199] . وعلي الصعيد الإداري والسياسي، فقد قام الإمام عليه السلام بعزل الولاة الذين عهد إليهم عثمان ولاية الأقاليم الإسلامية. وبين أسباب عزلهم بقوله: (ولكني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فإن فيهم من شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام، وإن منهم من لم يسلم حتي رضختله علي الإسلام الرضائخ) [200] وكما يوضح الشهيد الصدر: (فإن الإمام [ صفحه 108] عليا عليه السلام لو كان قد أمضي هذه الأجهزة الفاسدة التي خلفها عثمان من قبله، فليس من المعقول بمقتضي طبيعة الأشياء أن يستطيع أن يمارس عمليةالتغيير الحقيقي في هذه التجربة التي يتزعمها) [201] . وأمام هذا الواقع الجديد الذي أراد الإمام عليه السلام إجراءه، فإنه ولدوافع متعددة لم يرق لبعض الناس هذه التغييرات، ولا رؤية الإمام علي في سدة الحكم، فقاموا ضده وأثاروا الفتن وسيروا الجيوش معلنين العصيان والتمرد وحتي أولئك الذين وقفوا موقف الحياد كان لهم دورا كبير في تفاقم الأوضاع وسلبيتها حيث يصف العلامة المودودي موقفهم بقوله: (إن وقوف بعض أكابر الصحابة موقف الحياد في بيعة علي (رضي الله عنه) قد ساعد علي تفاقم الفتنة التي أرادوا درأها (ومن هؤلاء الصحابة: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة الأنصاري، وغيرهم) ممن كان له نفوذا كبير، فبعث حيادهم وانعزالهم الشك والارتياب في قلوب الناس، في حين كانعلي الأمة أن تتعاون مع سيدنا علي لإعادة أمن وسلام نظام الخلافة الراشدة) [202] . وستري فيما يلي تفصيلا لحوادث العصيان والتمرد التي سيرت ضد خليفة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وإمام المسلمين.

خروج عائشة و موقعة الجمل

عندما علمت عائشة بمقتل عثمان ومبايعة الناس للإمام علي عليه السلام، قالت لعبد الله بن أم كلاب (والله ليت أن هذه انطبقت علي هذه إن تم الأمر لصاحبك، ردوني ردوني، فانصرف إلي مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟ فوالله إن فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت! ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر، قالت: إنهم [ صفحه 109] استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب: فمنك البداء ومنك الغير ++ ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ++ وقلت لنا إنه قد كفر فهبنا أطعاناك في قتله ++ وقاتله عندنا من أمر... إلخ فانصرف إلي مكة، فنزلت علي باب المسجد، فقصدت للحجر، فسيرت واجتمع إليها الناس، فقالت: يا أيها الناس، إن عثمان قتل مظلوما، وواللهلأطلبن بدمه [203] وقد وقف إلي جانب عائشة كل من طلحة والزبير، وكان الإمام قد استرد منهما ولايتي اليمن والبحرين، ورفض إعطاءهما ولايتي البصرة والكوفة كما رغبا، فنكثا عهديهما مع الإمام وادعا أنهما كانا قد أكرها علي مبايعته، وذهبا إلي مكة يحثان أم المؤمنين عائشة علي محاربته بحجة المطالبة بدم عثمان والاقتصاص من قاتليه الذين زعم أنهم قد اندسوا في جيش الإمام علي عليه السلام وما شجع أم المؤمنين علي الاستجابة لحثهما هو علمها بخبر رفض معاوية وأهل الشام مبايعة علي، وكذلك وصول عبد الله بن عامر الذي كان آخر وال لعثمان علي البصرة، ودعوته لها بالتوجه إلي البصرة ووعده إياها هناك بالمساندة بالمال والرجال. فأمرت عائشة بعمل هودج لها من حديد، وخرجت متوجهة إلي البصرة ومعها الزبير، وطلحة، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، وأتباعهم من بني أمية وعلي رأسهم مروان بن الحكم والذي كان هاربا من المدينة بعد أنعلم أن الإمام عليا عليه السلام يطلبه [204] وحاولت عائشة أن تقنع أمهات المؤمنين بمرافقتها إلي البصرة، ولم يوافقها إلي ذلك سوي حفصة إلا أن أخاها [ صفحه 110] عبد الله بن عمر المحايد منعها من الذهاب. وأما أم سلمة فقد نصحت عائشة بعدم الخروج. ويذكر ابن قتيبة أنه عند وصول موكب أم المؤمنين إلي البصرة، اصطف لهم الناس بالطريق وهم يتساءلون: ما الذي أخرج أم المؤمنين من بيتها؟ فقامت عائشة وقالت في خطبة لها: (أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوما. غضبنا لكم من السوط والعصا (تقصد سوط عثمان وغلمانه) ولا نغضب لعثمان من القتل؟ وإن من الرأي أن تنظروا إلي قتلة عثمان فيقتلوا به، ثم يرد هذا الأمر شوري علي ما جعله عمر بنالخطاب). فمن قائل يقول: صدقت، وآخر يقول: كذبت [205] . وعندما بدأت تظهر ملامح الاقتتال، تعاهد والي الإمام علي البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري مع أم المؤمنين وجيشها علي صلح مؤقت لغاية قدوم علي عليه السلام. وقد تعاهدا علي أن يحتفظ عثمان بدار الإمارة ومسجدها وبيت المال، وأن ينزل القادمون من مكة حيث شاؤوا عدا هذه الأماكن. ولم تمض أيام قليلة علي هذه المعاهدة حتي أتي طلحة، والزبير، ومروان بن الحكم بجماعة منهم دار الإمارة في منتصف الليل، وقتلوا أربعين من الحرس، ثم أسروا عثمان وقتلوا معاونيه، وحتي أن مروان قام بتعذيبعثمان ونتف لحيته ورأسه وحاجبيه [206] وكان هذا التصرف إيذانا بإعلانهم الحرب وقد عبأوا جيشهم انتظارا لوصول الإمام علي عليه السلام. ولكن الإمام في ذلك الحين كان يعد العدة للتوجه إلي الشام وقمع تمرد معاوية الذي أعلن نفسه خليف هناك. ثم اضطر إلي العدول عن هذا المخطط لدي علمه بما حصل لواليه علي البصرة، وقرر التوجه إلي العراق بجيش لردع المعتدين هناك. وكان من بين أفراد جيشه [ صفحه 111] المعتدين هناك. وكان من بين أفراد جيشه خيرة صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كعمار بن ياسر، وعبد الله بن عباس ومحمد بن أبي بكر، وأخيه عبد الرحمن وغيرهم. وقد حاول الإمام عليه السلام لدي وصوله البصرة إقناع المتمردين بالعدول عن مخططهم، فبدأ بالزبير بن العوام حيث خرج إليه علي حاسرا علي بغلة رسول الله لا سلاح معه، فنادي: يا زبير أخرج إلي، فخرج إليه الزبير شاكا في سلاحه، فقيل ذلك لعائشة، فقالت: واثكلك يا أسماء (وهي أختها وزوج الزبير)، فقيل لها: إن عليا حاسر، فاطمأنت، واعتنق كل واحد منهما صاحبه. فقال علي: ويحك يا زبير، ما الذي أخرجك، قال: دم عثمان، قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، أتذكر يوم لقيت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم... فضحك إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وضحكت إليه، وأنت معه، فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه، فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: إني والله لأحبه، فقال لك: إنك والله ستقاتله وأنت ظالم له، فقال الزبير: أستغفر الله، والله لو ذكرتها ما خرجت، فقال له: يا زبير، إرجع. فقال الزبير: كيف أرجع الآن وقد التفت حلقتا البطان؟ هذا والله العار الذي لا يغسل، فقال: يا زبير إرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار، فرجع الزبير وهو يقول: اخترت عارا علي نار مؤججة ++ ما إن يقوم لها خلق من الطين نادي علي بأمر لست أجهله ++ عار لعمرك في الدنيا وفي الدين [207] . وأثناء انسحابه مبتعدا عن ساحة القتال، لحق به عمرو بن جرموز، وهومن أنصار أم المؤمنين وقتله [208] . وبعد تراجع الزبير، نادي علي طلحة، وقال له: يا أبا محمد، ما الذي أخرجك؟ فقال: الطلب بدم عثمان، قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، يا [ صفحه 112] طلحة أما سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وأنت أول من بايعني، ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل: (فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه) [الفتح / 10]، فقال طلحة: أستغفر الله ثم رجع. وعندما رأي مروان بن الحكم ذلك وهو حليفه، قال: رجع الزبير ويرجع طلحة، ما أبالي رميت ههنا أم ههنا، فرماه في أكحله بسهم فقتله، وقال طلحة وهو يجود بنفسه: ندمت ما ندمت وضل حلمي ++ ولهفي ثم لهف أبي وأمي ندمت ندامة الكسعي لما ++ طلبت رضي بني جرم بزعمي وقد التحم الجيشان بعد فشل مساعي الإمام في موقعة ساخنة، كان النصر فيها حليف علي، وقتل فيها ثلاثة عشر ألفا من الطرفين، وأسرت عائشة، فجهز لها الإمام موكبا يؤمن رجوعها سالمة إلي المدينة. وأسر كذلك مروان بن الحكم وبعض رؤوس بني أمية، وعفا عنهم الإمام بعد أن طلبوا الصفح منه وبايعوه. وقد تمكن عبد الله بن الزبير من الهرب عندما لاحت تباشير النصر لجيش الإمام، وأما محمد بن طلحة فقد قتل أثناء المعركة، وكانا من أشد المحرضين علي قتال الإمام حتي اللحظات الأخيرة. وقد عرفت هذه الحادثة بموقعة الجمل، لاتخاذ عائشة جملا قويا جعلت عليه هودجها الفاخر، والذي أصبح بمثابة العلم الذي يتقدم الجيوش المحتشدة حوله، وكان صمود هذا الجمل والهودج الذي عليه رمزا لصمود الجيش بكامله طوال المعركة. وقد كان انتهاء المعركة عندما ضرب الجمل، وأسر الهودج. وبعد انقضاء هذه المعركة، وما ولدته من مقتضيات وظروف جديدة، فقد قرر الإمام نقل عاصمة الخلافة الإسلامية من المدينة إلي الكوفة. ومن الأسباب التي شجعته لذلك أيضا هو موقع الكوفة الجغرافي المتوسط بين البقاع الإسلامية، وقربها من الشام والبصرة، وهما عاصمتا التمرد، بالإضافة [ صفحه 113] إلي طاقتها البشرية المعتبرة، وقدراتها الاقتصادية وغير ذلك من الاعتبارات (الاستراتيجية).

تمرد معاوية و موقعة صفين

كان قميص عثمان الممزق والمخضب بالدماء الوسيلة التي استخدمها ابن عمه معاوية، كما استخدمها أصحاب الجمل من قبله لتأليب الناس وشحنهم لتأييده في محاربة علي والمطالبة بعزله، حيث إن الإمام كان علي زعمهم المحرض علي قتل عثمان والمدافع عن قاتليه بسماحه لهم بالإندساس في جيشه. وقد بايع أهل الشام معاوية خليفة كما طلب منهم ذلك، بحجة أنه لا يمكن المطالبة بدم عثمان من غير خليفة. وبعد العديد من المراسلات بين الإمام ومعاوية، ومشاورة كل منهما معاونيه، لم يكن هناك بد من الاقتتال، وقد فشلت كل محاولات الإمام بإصلاح الموقف سلميا، وكان آخر كلام معاوية لرسل الإمام: (انصرفواعني، فليس عندي إلا السيف) [209] . وهكذا التحم الجيشان بالقرب من الفرات بمكان يدعي صفين، وبعد أربعين يوما من القتال، وسقوط عشرات الآلاف قتلي، لاحت تباشير النصر لصالح جيش الإمام وهزيمة أهل الشام، فلجأ معاوية إلي خدعة رفع المصاحف علي رؤوس السيوف والرماح كما أشار عليه عمرو بن العاص، وبالتعاون مع جماعة في جيش الإمام أغراهم معاوية بالمال. حيث قام أحد رجال معاوية مناديا بين الجيشين: الله الله في دمائنا ودمائكم المتبقية، بيننا وبينكم كتاب الله، فقام المتآمرون مع معاوية في جيش الإمام بزعامة الأشعث بن قيس مع الذين انطوت عليهم الخدعة، لا سيما ذوي القلوب الضعيفة والذين ملوا القتال بمطالبة علي بضرورة وقف الحرب قائلين: (قد [ صفحه 114] أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلي كتاب الله، فاقبل منه) [210] وبهذا انشق جيش الإمام إلي شقين، وفشلت كل محاولات الإمام بإقناعهم بزيف لعبة المصاحف، مما اضطره إلي قبول التحكيم. وقام الأشعث بن قيس وهو الذي ترأس حركة المؤيدين للتحكيم في جيش الإمام بترشيح أبي موسي الأشعري ليكون ممثلا عن معسكر الإمام في مفاوضات التحكيم، ولكن الإمام عارض ذلك قائلا: (إن موسي ضعيف عن عمرو [وهو ممثل معسكر الأمويين]ومكائده... وإنه ليس بثقة، وقد فارقني وخذل الناس عني يوم الجمل] [3] . وكان الإمام أيضا قد عزله قبل ذلك عن ولاية الكوفة بعد تسلمه مهام الخلافة. ومع إصرار الأشعث وجماعته عليه، ورفضهم رأي الإمام بإسناد مهمة تمثيل معسكر الإمام في التفاوض إلي عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر، لم يجد الإمام مناصا من القبول واحتساب الأمر إلي الله قائلا: فاصنعوا ما أردتم. ثم وقع الفريقان وثيقة التحكيم الأولية تعهدا بها التوقف عن القتال لغاية ظهور نتيجة التحكيم. وقد اجتمع الحكمان بعد هذه الموقعة بثمانية شهور في دومة الجندل ومع كل منهما أربعمئة من صحبه. وبعد أيام من المفاوضات قبل عمرو بن العاص اقتراح أبي موسي الأشعري بخلع كل من علي ومعاوية، وتعيين عبد الله بن عمر - والذي لم يكن حاضرا آنذاك - إماما للأمة بدلا منهما (!) ثم قاما ليعلنا للحضور نتيجة التحكيم، فبدأ أبو موسي الأشعري، وهو صهر عبد الله بن عمر قائلا: (إن هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإني رأيت وعمرو أن نخلع عليا ومعاوية، ونجعلها لعبد الله بن عمر، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدا ولا لسانا). ثم قام ابن العاص خاطبا: (أيها الناس، هذا أبو موسي شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق، ومن لا يبيع الدين بالدنيا، قد خلع عليا وأنا [ صفحه 115] أثبت معاوية)، فاختلط الناس، وعمت الفوضي، وتشاتم الحكمان بأخس الكلمات. ثم انصرف عمرو ومن معه إلي معاوية بالشام، ولحق أبو موسيبمكة، ورجع من كان بصحبته إلي الكوفة [4]

الخوارج و تفكك جيش الإمام

ظهر أثناء عودة جيش الإمام من موقعة صفين مجموعة من المقاتلين ندموا علي التحكيم الذي كانوا قد أرادوه وأصروا عليه، وتبين لهم أن ذلك كان خطأ وذنبا عظيما لا يمحوه إلا العودة إلي القتال، فذهبوا إلي الإمام يطلبون منه ذلك ونقض وثيقة التحكيم، ولكنه أجابهم: (قد كتبنا بيننا وبينهم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا) فانشقوا عن جيش الإمام، واستقروا عند قرية الحرورية قرب الكوفة، واعتبروا أن التحكيم مخالف لكتاب الله، وأن كل من لم يتب عن قبوله يعد كافرا. وعندما أصر الإمام علي رفض مقولتهم هذه والرجوع إلي القتال عزموا علي مقاتلته، وولوا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، ثم انتقلوا إلي مكان يعرف بجسر النهروان، وجعلوه مركزا لدعوتهم وتحركهم. وقد عرفت هذه المجموعة باسم الخوارج، وهم الذين تنبأ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بظهورهم حيث وصفهم قائلا: (قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم)، وأطلق عليهم لقب الجباه السود لكثرةسجودهم) [211] . [ صفحه 116] ولما علم الإمام بما حصل في دومة الجندل بين الحكمين، أصبح في حل من وثيقة التحكيم، وقرر استئناف القتال ضد متمردي الشام، فأرسل إلي الخوارج: (أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضيناهما حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدي من الله، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا، فإنا سائرون إلي عدونا وعدوكم، ونحن علي الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام). فكتبوا إليه: (أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت علي نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نبذناك علي سواء، إن الله لا يحب الخائنين). فلما قرأ الإمام كتابهم أيس منهم،ورأي أن يتركهم ويمضي بجيشه حتي يلقي أهل الشام [212] . ولكن الخوارج أخذوا يعترضون الناس في الطرقات، ويفعلون بهم الأفعال المنكرة، كنهب من يخالفهم والتشنيع بجثته، فاضطر الإمام أن يغير وجهة سيره، ومواجهة هذه العصابة المنشقة المفسدة في الأرض أولا. فسار إليهم بجيشه ووعظهم أولا، ودعاهم إلي العودة والتوبة، ولكنهم أصروا علي تشددهم وعنادهم، فقاتلهم الإمام وألحق بهم شر هزيمة. ويروي المسعودي في (مروج الذهب) أنه قتل من أصحاب علي يوم النهروان تسعة نفر، ولميفلت من الخوارج إلا عشرة بعد أن كان عددهم عند بدء القتال أربعة آلاف [213] . وبعد أن انتهي الإمام من الخوارج، أراد أن يواصل سيره من النهروان نحو الشام، ولكن غالبية أفراد جيشه أبوا عليه ذلك، متذرعين بالقول: (يا أمير المؤمنين، نفذت نبالنا وكلت أذرعنا وتقطعت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدتنا). وكان الإمام يدرك كل هذه الضرورات، ولكنه كان يدرك أيضا أن معنويات جيشه في تنازل، سيفضلون الراحة، في [ صفحه 117] حالة عودتهم إلي الكوفة، فأراد أن يسير بهم مباشرة إلي الشام وهم في عدة القتال وعزيمة الحرب. وعندما أصروا علي موقفهم بالعودة إلي الكوفة، نزل بهم الإمام في معسكر قرب الكوفة، وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم علي الجهاد، وأن يقللوا من زيارة بيوتهم حتي يسيروا إلي عدوهم من أهل الشام وهم بعزيمة وقوة، ولكنهم لم يصبروا علي هذه الحال سوي أيام معدودات، وبدأوا يرجعون ويتسللون إلي الكوفة، حتي تركوا الإمام ومن معه إلا نفر قليل من رجاله المخلصين، فلما رأي الإمام ذلك، رجع بمن تبقي معه إلي الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير، وحاول الإمام بعد ذلك استنهاض روح الغيرة والحمية فيهم، ولكنهم تقاعسوا وكرهواالخروج إلي الحرب [214] .

غارات معاوية علي الولايات الإسلامية

استغل معاوية حالة التفكك التي أصابت معسكر الإمام في العراق، وأخذ يتطلع لتوسيع رقعة إمارته، فبدأ يرسل الجيوش إلي مختلف الولايات الخاضعة لخلافة الإمام علي عليه السلام للإغارة عليها. وكانت ولاية مصر من أهم ما كان يطمح إليه معاوية لكثرة خراجها، فأرسل إليها عمرو بن العاص بجيش كبير، وتمكن من احتلالها، وقتل واليها محمد بن أبي بكر، والتمثيل فيه. ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص ومعاونه معاوية بن خديج وآخرين أخذوا محمد بن أبي بكر بعد إصابته وجعلوه في جوف حمار ميتوأحرقوه بالنار وهو لا يزال حيا [215] . وكان الإمام قبل وصوله خبر مقتل محمد بن أبي بكر قد أرسل مالك الأشتر بجيش إلي مصر للدفاع عنها واستلام ولايتها، ولكن معاوية بن أبي [ صفحه 118] سفيان أبرق إلي أحد رجاله بالعريش بأن يغتال مالك الأشتر قبل أن يصل إلي مصر. وهكذا حصل، فعند مرور مالك الأشتر بالعريش دعاه رئيس هذهالمنطقة التابعة لمعاوية وتحايل عليه وقتله بالسم [216] . ومن هذه الغارات أيضا التي كان يشنها رجال معاوية علي المناطق الموالية للإمام علي عليه السلام غارة النعمان بن بشير علي عين التمر وهي قريةقريبة من الأنبار غربي الكوفة [217] ، وغارة الضحاك بن قيس الفهري علي بعض القري في الطريق بين مكة والكوفة، وقد أرسل لهم الإمام حجر بن عدي بجيش وهزمهم. وغارة سفيان بن عوف الغامدي علي الأنبار غربي العراق، حيث قام جنود معاوية بقتل عامل الإمام علي هذه المنطقة أشرس بن حسانالبكري، وأمعنوا في النهب وقتل السكان الآمنين [218] . وكانت أبشع هذه الغارات هي تلك التي شنها بسر بن أرطأة العامري، وهو أشد المخلصين لبني أمية والمعروف بالفظاظة والقسوة إلي أبشع الحدود، وأغار بجيش كبير علي الحجاز واليمن حيث أعمل فيها المجازر الوحشية، ونهب الأموال، وهدم البيوت، لأن أهاليها رفضوا إعطاء الطاعة والولاء لمعاوية، وأرغم أهل المدينة المنورة والتي كانت بعهدة أبي أيوب الأنصاري علي مبايعة معاوية، واستخلف عليهم أبا هريرة - المعروف بكثرة روايته للحديث والولاء لبني أمية - بعد أن قتل فيها أناسا كثيرين من الموالين للإمام عليه السلام. وهكذا فعل في مكة ونجران. وفي همدان أقدم علي سبي النساء وبيعهن في السوق وكان يأمر بكشف سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت علي عظم ساقها. وفي اليمن، ارتكب أفظع الجرائم، وقتل فيها خلقا كثيرا من ضمنهم طفلي عبيد الله بن العباس عامل الإمام علي عليه السلام علي [ صفحه 119] اليمن، ويروي أنه ونظرا للطريقة الوحشية التي قتل فيها الطفلان فإن أمهما التي رأت ذلك أصابها الجنون وهامت علي وجهها في الجبال والوديان. وعندما وصل الإمام خبر هذه المجازر، أمر بتجهيز جيش فتثاقلوا، حتي أجابه إلي ذلك جارية بن قدامة السعدي، فبعثه الإمام في سرية من ألفي رجل، فتعقب رجال ابن أرطأة حتي أخرجهم من جميع تلك المناطق التي عاثوا فيها الفساد [219] .

آخر أيام الإمام و استشهاده

ظل الإمام يحاول جاهدا تجهيز جيش يسير به لإخماد التمرد والفساد في وكره بالشام، إلا أن أهل العراق قد بدا منهم الضعف والتقاعس عن نصرته، وعندما يئس من استنهاض هممهم، ولم يجد معهم حثه لهم علي الجهاد في سبيل الله، قام وخطب فيهم خطبة طويلة تفيض بالمرارة والتأسف لما آل إليه حال المسلمين وما سيؤول. ونقتطف من خطبته هذه ما يلي: (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوي ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء... ألا وإني قد دعوتكم إلي قتال هؤلاء ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتي شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان... فيا عجبا! عجبا!، - والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم، وتفرقكم عن حقكم... فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمي، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصي الله وترضون!... يا أشباه الرجال ولا رجال!... قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا...، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتي لقد قالت قريش: إن ابن أبي [ صفحه 120] طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراسا، وأقدم فيها مقاما مني! لقد نهضت فيهم وما بلغت العشرين، وها أنا ذاقد ذرفت علي الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع) [220] . وصدق من قال إن الإمام علي عليا عليه السلام عاش في غير زمانه، فكل من يتأمل أقوال الإمام وما صارت إليه الأحداث، يتقين أن الإمام وصل إلي ما وصل إليه نبي الله نوح عليه السلام عندما: (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) [نوح / 5 - 6]. وأن استمرار وجوده بينهم لا يزيده إلا آلاما وقهرا، وكأن الإمام في هذه الأحوال قد انتهت مهمته علي وجه الأرض، وحانت ساعة الرحيل عن هذه الدنيا. وهكذا كان، ففي غضون تلك الأيام كان نفر من الخوارج يجتمعون في مكة ويخططون لقتل الإمام. ويروي المؤرخون هذه القصة كما يلي: حج ناس من الخوارج سنة 39 ه، وقد اختلف عامل علي وعامل معاوية فيمن يحج بالناس، فاصطلح الناس علي ثالث هو شبيب بن عثمان، فلما انقضي الموسم أقام النفر من الخوارج مجاورين بمكة، فقالوا: كان هذا البيت معظما في الجاهلية، جليل الشأن في الإسلام، وقد انتهك هؤلاء حرمته، فلو أن قوما منا شروا أنفسهم لله فقتلوا هذين الرجلين (علي ومعاوية) اللذين قد أفسدا في الأرض، واستحلا حرمة هذا البيت، استراحت الأمة واختار الناس لهم إماما، فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنة الله: أنا أكفيكم أمر علي، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي وهو البرك: أنا أقتل معاوية، فقال عمرو بن بكر: والله ما عمرو بن العاص بدونهما، فأنا به. فتعاقدوا علي ذلك، ثم اعتمروا عمرة رجب، واتفقوا علييوم واحدة يكون فيها وقوع القتل منهم في علي ومعاوية وعمرو [221] . [ صفحه 121] وحسب هذا الموعد، قعد ابن ملجم للإمام في مسجد الكوفة حين خروجه لصلاة الصبح، وطعنه في رأسه الشريف أثناء سجوده بسيف مسموم، فأصيب الإمام عليه السلام علي أثر ذلك إصابة بالغة أذنت معها ساعة الرحيل إلي الرفيق الأعلي بعد الحادثة بيومين في ليلة الجمعة من الحادي والعشرين من رمضان عام 40 ه. وقد أقتص من القاتل اللعين والذي كان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قد وصفه بأشقي الآخرين. وأما البرك فإنه انطلق إلي الشام، وعندما كان ميعادهم، قعد لمعاوية عند خروجه لصلاة الصبح، وقصد لضربه ولكن معاوية تمكن من الإدبار قليلا فوقعت الضربة في أسفل أليته، وسببت له جرحا شفي منه ولم تحدث له ضررا سوي قطع نسله، فقال: عندي يزيد وعبد الله ما يقر عيني وحسبي بهما،وأمر بقتل البرك [222] وقيل إن معاوية لم يقتله وإنما قطع يده ورجله، وذهب ليقيم بالبصرة وأن ابن زياد والي معاوية هناك هو الذي قام بقتله لما بلغهخبره [223] . وأما الثالث فقصد عمرو بن العاص في مصر، ولما كانت ليلة الميعاد، لم يخرج عمرو لصلاة الصبح لألم في بطنه، فصلي بالناس بدلا منه ابن حذافة العدوي، فقصده عمرو بن بكر التميمي وقتله ظنا به أنه ابن العاص. ولما قبض عليه، أخذ إلي عمرو بن العاص وقتله. [ صفحه 122]

خلافة الحسن

عهد الإمام علي عليه السلام قبل استشهاده بالخلافة لابنه الحسن عليه السلام، وبايعه الناس علي ذلك. وعند وصول خبر استشهاد الإمام إلي الشام، تحرك معاوية بجيش كبير قوامه 60 ستون ألفا نحو العراق ليضمه إلي ملكه، ويجبر الإمام الحسن عليه السلام علي الاستسلام. ونظرا لانهيار معنويات جيش الإمام والاضطرابات التي سادت البصرة والكوفة، بالإضافة إلي تهيؤ الرومان بجيش عظيم لحرب المسلمين، الأمر الذي سيجعل من الحرب مع معاوية بنظر الإمام الحسن عليه السلام كارثة علي الإسلام والمسلمين، فإنه لم يجد حلا سوي المصالحة والمسالمة وحقن الدماء. وقد دامت خلافة الحسن عليه السلام لستة شهور فقط. وكانت أهم بنود الصلح تسليم الخلافة علي بلاد المسلمين كلها إلي معاوية علي أن يعمل بالكتاب والسنة النبوية، وأن يكون الأمر بعده إلي الحسن عليه السلام، وإن توفي قبل ذلك يكون الأمر للحسين عليه السلام. ويتعهد معاوية كذلك بوقف الشتائم ضد الإمام علي عليه السلام علي المنابر وغيرها، وعدم التعرض للموالين لأهل البيت عليه السلام بالملاحقة والأذي، وأن يبقي ما في بيت مال الكوفة تحت تصرف الحسن عليه السلام. وبعد توقيع معاهدة الصلح، اجتمع الفريقان في مسجد الكوفة، فسبق معاوية إلي المنبر وخطب: (أما بعد، فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها، إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها (!). ثم ذكر [ صفحه 123] عليا عليه السلام ونال منه، ونال كذلك من الحسن عليه السلام إلي قوله: ألا وإن كلشئ (عهد) أعطيته الحسن تحت قدمي هاتين لا أفي به) [224] . فقام الإمام الحسن عليه السلام وخطب خطبة مطولة رد فيها علي معاوية بقوله: (أيها الناس إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول... وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا، ولم أر نفسي لها أهلا، فكذب معاوية. نحن أولي الناس بالناس في كتاب الله (عز وجل) وعلي لسان نبيه، ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب علي رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفئ، ومنع أمنا ما جعل لها رسول الله، وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي، حين فارقهم رسول لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية... فلما خرجت (الخلافة) من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله: ما ولت أمة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتي يرجعوا إلي ما تركوا (يقصد الجاهلية). ثم دار بوجهه إلي معاوية قائلا: أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة. فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمناحسبا وشرنا قديما وحديثا وأقدمنا كفرا ونفاقا) [225] . ولم يمكث الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة بعد الصلح سوي أيام معدودات، حيث اتجه إلي المدينة واستقر فيها. ويروي المؤرخون أن الله (سبحانه وتعالي) صب علي الكوفة بعد خروج آل محمد منها الطاعون الجارف عقوبة عاجلة لها بسبب موقف أهلها المتخاذل من هؤلاء البررة [ صفحه 124] الميامين، وقد أخذ هذا المرض أرواح آلاف الناس حتي أن والي معاوية علي الكوفة المغيرة بن شعبة خرج منها فرارا من المرض، وعندما ظن أن هذاالوباء قد ذهب رجع إلي الكوفة فأصيب بالمرض ومات فيه [226] . واستشهد الإمام الحسن عليه السلام في سنة 49 ه بعد أن دست له زوجته جعدة بنت المنافق المعروف الأشعث بن قيس السم بتحريض من معاوية، وقد وعدها بمئة ألف دينار وبالتزويج من ابنه يزيد. فأوفاها بما وعدها من مال، وأبي عليها التزويج من ابنه قائلا لها: (أخشي أن تفعلي به كما فعلتبابن رسول الله) [227] وكان ذلك في منتصف خلافة معاوية، وهو الوقت الذي بدأ فيه يخطط بتوريث الخلافة إلي ابنه يزيد. ويروي ابن قتيبة أن معاوية لما أتاهخبر وفاة الحسن عليه السلام أظهر فرحا وسرورا، حتي سجد وسجد من كان معه [228] . [ صفحه 125]

خلافة معاوية

و جاء الملك العضوض

وأخيرا صفا الجو لمعاوية بعد مقتل الإمام علي عليه السلام وتسليم الحسن عليه السلام الخلافة إليه، وعندما دخل الكوفة، خطب بالناس هناك معبرا عن حقيقة نواياه تجاه الخلافة والحكم قائلا: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون) [229] وبشأن ما صالح عليه الحسن عليه السلام قال: (ألا وإن كل شئ أعطيته الحسن فتحت قدمي هاتين) [230] . والحقيقة فإن سلوك معاوية طوال مدة خلافة، بل ومنذ أن ولاه الخليفة عمر بن الخطاب ولاية الشام، في الولاية والحكم كان مصداقا لسلوك الملك المستبد، وهو لم يضع تحت قدميه معاهدة صلحه مع الإمام الحسن [ صفحه 126] الولايات بسب الإمام ولعنه علي المنابر في كل جمعة وعيد وقنوت الصلوات. ويروي الجاحظ: (إن معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم أن أبا تراب [يعني عليا] ألحد في دينك، وصد عن سبيلك، فالعنه لعنا وبيلا، وعذبه عذابا أليما. وكتب بذلك إلي الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاد بها علي المنابر إلي أيام عمر بن عبد العزيز، وأن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إنك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل. فقال: لا والله حتي يربو عليه [سب الإمام] الصغير ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلا) [231] وقال الزمخشري: إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب بما سنه لهممعاوية من ذلك [232] . وروي أيضا أنه عندما كتب معاوية إلي عماله أن يلعنوا عليا علي المنابر ففعلوا، كتبت أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلم إلي معاوية: إنكم تلعنون الله ورسوله علي منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأناأشهد أن الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت معاوية إلي كلامها [233] . وأخرج مسلم في صحيحه (أن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب (يعني عليا)؟ فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لئن تكون لي واحدة منها أحب إلي من حمر النعم...إلي آخر ما قال) [234] وفي صحيح مسلم أيضا: (استعمل معاوية علي المدينة [ صفحه 127] (مروان بن الحكم) فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، فأبي سهل. فقال مروان: أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا التراب، إنه كان ليفرح إذا دعي بها) [235] . وقد أقدم مروان بن الحكم وخلافا للسنة النبوية علي تقديم خطبة العيدين علي الصلاة لأن الحضور كانوا يتفرقون بعدها لكراهيتهم سماع شتم مروان في خطبته لعلي عليه السلام. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: (شهدت العيد مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم)، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة) [236] وقال أبو سعيد الخدري: فلم يزل الناس علي ذلك حتي خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحي أو فطر، فلما أتينا المصلي، إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبته بثوبه فجذبني. فارتفع فخطب قبل الصلاة. فقلت له: غيرتم والله. فقال مروان: قد ذهب ما تعلم... إن الناس لم يكونوا يجلسون لنابعد الصلاة، فجعلت الخطبة قبل الصلاة [237] . وكان معاوية في أحيان كثيرة يأمر بإنزال أشد العقاب بما في ذلك القتل بكل من يأبي شتم الإمام علي عليه السلام. ومن ذلك ما يروي أنه عندما كان بسر بن أرطأة يشتم عليا علي منبر البصرة قال: نشدت الله رجلا علم أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني. فقال أبو بكرة: اللهم لا نعلمك إلا كاذبا. فأمر بهابن أرطأة فخنق [238] وحسبك في ذلك ما جري لحجر بن عدي وأصحابه.

قتل حجر بن عدي و أصحابه

روي أن زيادا والي معاوية علي العراق إذا خطب يوم الجمعة فإنه يكثر من مدح عثمان والانتقاص من علي مما كان يغضب له حجر بن عدي، [ صفحه 128] وأطال زياد يوما في خطبة الجمعة وآخر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضي زياد في خطبته. فخشي حجر فوات الصلاة فقام وأراد تأدية الصلاة ولحقه الناس، فلما رأي زياد ذلك نزل وصلي بالناس. ثم كتب إلي معاوية في أمر حجر وصحبه. فكتب معاوية إلي واليه أن شدهم في الحديد واحملهم إلي. وعند وصولهم إلي الشام في مرج عذراء قرب دمشق جاءهم رسول معاوية وقال لهم: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم. فقالوا: لسنا فاعلي ذلك، وقاموا فصلوا. وقال حجر: أما والله لئن قتلتموني بها [مرج عذراء] فإني لأول المسلمين كبر في نواحيها، وأول فارس من المسلمين هلك في واديها [فحجر بن عدي هو الذي قام بفتح منطقة مرج عذراء أيام خلافة عمر] فقتلوه، وقتلوا ستة من أصحابه. وقال اثنان منهما: إبعثوا بنا إلي أمير المؤمنين، فإنا نقول في علي مقالته، فأذن لهما معاوية. فأما الأول فقد تبرأ من علي فعفا معاوية عنه. ونفاه إلي الموصل، وأما الثاني وهو عبد الرحمن العنزي فقال لمعاوية: أشهد أن عليا كان من الذاكرين لله تعالي كثيرا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس. فرده معاوية إلي زياد وأمر أن يقتلشر قتلة، فدفنه زياد حيا) [239] .

شرب الخمر

وقد أثبت هذه الحقيقة بعض رجال الحديث والسير، ومن هؤلاء أحمد بن حنبل في مسنده، حيث روي عن عبد الله بن بريدة، قال: (دخلت أنا وأبي علي معاوية فأجلسنا علي الفرش، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب، فشرب معاوية ثم ناول أبي (فرده) قائلا: ما شربته منذ حرمه رسول الله) [240] . [ صفحه 129]

اخذ البيعة للابن الفاجر يزيد

بعد أن تم الأمر لمعاوية وقد تنعم بالملك سنوات طوال، أراد أن يجعل الخلافة ملكا خاصا ببني أمية، فقرر توريثها لابنه يزيد وأخذ تحضيره لذلك سنوات عديدة (فلم يزل يروض الناس لبيعته، يشاور ويعطي الأقارب ويداني الأباعد) [241] وكما قال أبو الفرج الأصفهاني: (أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيئا أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص،فدس إليهما السم فماتا) [242] . وكان يثقل علي معاوية لما كان يربطه بالإمام الحسن عليه السلام من عهد ينص علي أن يكون الأمر من بعده للحسن وليس له أن يعهد بالخلافة لأحد، ولما كان لسعد بن أبي وقاص من مكانة مرموقة بين صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو الوحيد الباقي من الستة الذين كان عمر بن الخطاب قد رشحهم للخلافة بعده. وأما يزيد فهو لم يتجاوز العشرين من عمره، وكان كما أجمع المؤرخون شابا ماجنا مدمنا علي الخمر واللعب مع الكلاب والقرود، وعديم الخبرة ولا يعرف من الدين شيئا. ونظرا لوجود مثل هذه الصعوبات، فقد أصر معاوية علي أخذ البيعة لابنه من الناس قبل موته، فبدأ يستقدم الوفود من البلاد لهذا الغرض، وكان يهدد من يرفض ويجزل العطاء لمن يبايع، حتي أنه ولي بعضهم الإمارة كسعيد بن العاص علي المدينة بعد عزله مروان عنها لتباطئه بأخذ البيعة من الناس، وسعيد بن عثمان بن عفان علي خراسان تسكينا له بعد أن وجد فيه ميلا للإمارة، وثبت المغيرة بن شعبة بعد أن كان يخطط لعزله. [ صفحه 130] وعندما أراد أخذ البيعة من أهل الشام، خطب فيهم وسألهم عن رأيهم فيمن يخلفه، فقالوا: رضينا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشق ذلك عليه وأسرها في نفسه. ومرة ألم بعبد الرحمن مرضا، فأرسل إليه معاوية طبيبه الخاص وكان يهوديا - وقيل هو ابن رثال النصراني - وسقاه بأمر من الخليفة سقية قتله بها [243] . وبالنسبة لبيعة أهل العراق، فقد تكفل بها كل من المغيرة بن شعبة والي الكوفة، وزياد بن عبيد الله والي البصرة. ثم ارتحل معاوية إلي الحجاز ومعه ألف فارس لأخذ البيعة من أهل مكة والمدينة بعد أن استعصي أمرهم علي ولاته. وكان من كبار المسلمين الذين أبوا البيعة هناك: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فاجتمعوا في الحرم وقال المعارضون كلمتهم، فقام معاوية خطيبا وقد جعل علي رأس كل من الأربعة رجلين بسيفيهما فإن تكلم أحدهم بكلمة يرد بها عليه قتلاه، وقال: (إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد،فبايعوا علي اسم الله) فبايع الناس [244] . [ صفحه 131]

خلافة يزيد

اشاره

استلم يزيد زمام الخلافة بعد وفاة أبيه عام 60 ه، ولم تدم خلافته سوي ثلاث سنوات ارتكب خلالها ثلاث جرائم من أجل إخضاع الأمة لإمارته، وكانت كل واحدة من هذه الجرائم كافية لوصم الخلافة الإسلامية وتاريخ المسلمين بوصمة عار لا تمحي أبد الدهر. فأما بالأولي فقد ذبح أهل بيت النبوة عليه السلام، وبالثانية استباح دماء أهل المدينة المنورة وأغراضهم، وبالثالثة قذف الكعبة بالمنجنيق وحرقها. وإليك بيان كل واحدة منها بشئ من التفصيل:

ذبح أهل بيت النبوة

بعد أن أخذ يزيد بيعة أهل الشام، كتب إلي عامله علي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: (أما بعد، فخذ حسينا، وعبد الله بن عمر وعبد الله بنالزبير، أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتي يبايعوا والسلام) [245] . وقد كان رد الحسين عليه السلام علي الوليد في مجلس عام: (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة... ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفسالمحرمة ومعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله) [246] ، ثم مضي الحسين ومعه أهل بيته إلي مكة. وهكذا فعل عبد الله بن الزبير، وأما عبد الله بن عمر فقد كان خارج المدينة حين وصول خبر موت معاوية، وقال للحسين وابن الزبير حين [ صفحه 132] لقيهما أثناء توجههما نحو مكة: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين،وعندما وصل المدينة بايع يزيد [247] . وكان توجه الحسين عليه السلام إلي مكة بوصفها قاعدة الإسلام الكبري، ومنها بدأ يعلن من خلال اتصاله بالناس ضرورة رفض مبايعة يزيد. وعندما سمع أهل الكوفة بأنباء معارضة الحسين عليه السلام، بدأوا بإرسال رسائل التأييد والمبايعة والاستعداد لاستقباله في العراق، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع صدق نواياهم. وعندما وصل مسلم إلي الكوفة وتحقق من صحة الموقف أرسل إلي الإمام: (بايعك أكثر من 20 ألفا من أهلالكوفة، عندما يصلك كتابي عجل بالمسير) [248] وقيل إن عدد المبايعين وصل إلي 40 ألفا، فانطلق الإمام بحشد كبير متوجها نحو العراق. وبالطبع فإن هذا التأييد الجماهيري الكبير الذي لاقاه مسلم بن عقيل قد ساء الموالين للأمويين في الكوفة، فكتبوا إلي يزيد يخبرونه بالأمر، وأن النعمان بن بشير الذي تولي الكوفة بعد موت زياد لا طاقة له علي المقاومة، فقرر يزيد عزله باستشارة من كاتبه وأنيسه النصراني سرجون وتعيين عبيد الله بن زياد بدلا منه وكانت أولي كلمات ابن زياد لأهل العراق في بداية حملة القمع والتخويف: (لئن بلغني رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليهولآخذن الأدني بالأقصي حتي تسمعوا ولا يكون فيكم مخالف) [249] وقال مهددا لكل من يستضيف مسلم بن عقيل في بيته: (أيما عريف وجد عنده أحدمن بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صلب علي باب داره) [250] . [ صفحه 133] وعندما علم ابن زياد عن طريق أحد العيون عن نزول مسلم بن عقيل عند هانئ بن عروة، قام من فوره باستدعاء هانئ ثم حبسه وعذبه لرفضه تسليم ابن عقيل له أو الإخبار عن مكانه. ولدي علم ابن عقيل بما حدث لهانئ، نادي بأصحابه وعبأ أربعة آلاف وسار بهم نحو قصر ابن زياد، ولكنهم بدأوا يتناقصون في الطريق حتي وصلوا إلي ثلاثمائة عند وصولهم القصر، ذلك أنه وأثناء مسيرهم، كانت أبواق ابن زياد تدور علي دور الكوفة محذرة ومخوفة بقدوم جيش يزيد من الشام، فرجع ابن عقيل دون حصول مواجهة، إلا أن ابن زياد تمكن من ملاحقته واعتقاله، ثم قام بقتله مع هانئ بن عروة، ومثل بجسديهما. وعندما وصلت هذه الأخبار إلي الإمام الحسين عليه السلام أثناء مسيره نحو العراق، تيقن مما قاله له الفرزدق (الذي كان متوجها إلي مكة قادما من العراق) قبل ذلك حين سأله الإمام عن الوضع في الكوفة وكانت إجابته: (قلوب الناس معك وسيوفهم عليك)، فقام الإمام عليه السلام معلنا لمرافقيه: (أيها الناس، لقد خذلنا شيعتنا، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف). فتفرقوا من حوله يمينا ويسارا ولم يبق معه سوي أهل بيته ونفر من أصحابه الذين رافقوه من مكة والمدينة. (وبالنظر لطبيعة الظروف السياسية الخاصة في تلك الأيام تيقن الإمام أن حركة المعارضة هذه ستمني بالفشل العسكري، ولكن من الواضح أن هذه الحرب الغير متكافئة بين الحسين والأمويين كانت لها أسباب ودوافع معنويةأخري لا يمكن فهمها أو تحليلها بالمنظار السياسي المتعارف) [251] . وهكذا واصل الإمام الحسين عليه السلام مسيره نحو الكوفة حتي خرجت له كتائب ابن زياد وأجبرته علي النزول في منطقة قرب الفرات تدعي كربلاء، وكان ذلك في الثاني من محرم سنة 60 هجرية. ثم منع الماء عن الحسين وأصحابه وفشلت جميع المفاوضات التي دارت هناك لسبعة أيام، وكانت [ صفحه 134] ترمي هذه المفاوضات إلي إقناع الحسين لأعدائه بالعدول والتخلي عن تنفيذ جريمتهم، في نفس الوقت الذي كان يحاول فيه قادة جيش ابن زياد وعلي رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص إقناع الحسين بالاستسلام ومبايعة يزيد. وكان عمر بن سعد كارها لقتال الحسين، ولكن إمارة الري في خراسان التي وعده بها ابن زياد في حالة إخضاعه للحسين قد أعمته عن رؤية الحق والصواب. وأما الحسين عليه السلام فقد كان موقفه النهائي: (إني لا أري الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما). وفي غضون ذلك تحول 20 عشرون مقاتلا من جيش الكوفة إلي معسكر الحسين عليه السلام: وكان من أبرز المنضوين تحت راية الحسين: الحر بن يزيد الرياحي الذي كان قائدا لأولي الكتائب التي خرجت لمواجهة الحسين قبل وصوله كربلاء. وفي تلك الأثناء أيضا، كان ابن زياد يواصل إكراه الكوفيين علي الذهاب إلي المعسكر اليزيدي، حتي وصل تعداد ما أرسله ثلاثين ألفا، ولكن أكثرهم كانوا يهربون في منتصف الطريق لكراهيتهم قتال الحسين، ولم يشارك منهم في تلك الجريمة سوي أربعة آلاف أو أكثر من ذلك علي حسب روايات أخري. ويقول ابن قتيبة في ذلك: (إن ابن زياد كان إذا بعث قائدا وأرسل معه عددا كبيرا من الجنود إلي كربلاء، فإنهم يصلون هناك ولم يبق منهم إلا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين فيرتدعونفيتخلفون) [252] . وهكذا، فقد كان اشتباك الطرفين في العاشر من محرم بعد أن تقدم عمر بن سعد نحو معسكر الحسين ورمي بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إني أول من رمي. ثم لحقه في ذلك رجاله، فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلا أصيب من سهامهم. فقال الحسين لأصحابه: قوموا رحمكم الله إلي [ صفحه 135] الموت الذي لا بد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم [253] ، فحملوا حملة واحدة أدت إلي استشهاد العديد منهم. وكان الحر بن يزيد الرياح أول من استشهد منهم. ثم أخذ القتال يتحول إلي مبارزات فردية، وأحيانا كان الرجلان أو الثلاثة أو الأربعة يغيرون علي الكوفيين أحدهم يضرب والآخر يحمي ظهره، فكان قتلي ابن زياد أكثر بكثير من شهداء الحسين، حتي صاح عمرو بن الحجاج الذي هاله ما رأي من كثرة قتلاهم: إنكم تقاتلون شجعانالعرب وقوما مستميتين لا يبرز إليهم أحد إلا قتلوه [254] حتي قالوا: قاتلوا من مرق عن الدين وفارق الجماعة! [255] . فحمل جيش ابن زياد حملة واحدة علي الإمام وأصحابه، فاستشهدوا واحدا تلو الآخر حتي سقطوا جميعا شهداء، بمن فيهم طفل الحسين الرضيع. والذي كان الإمام عليه السلام قد حمله ليستعطف قلوب القوم وطلب منهم أن يسقوه شربة ماء، ولكنهم بدلا من ذلك صوبوا إلي عنقه سهما، ثم واصل القتلة وحشيتهم بتقطيع رؤوس الشهداء، وحملوها هدايا يتقاسمونها هدايا فيما بينهم، ثم رفعوها علي رؤوس رماحهم متوجهين بها إلي ابن زياد في الكوفة لأخذ الأجر والمكافأت، والذي بدوره أرسلها إلي يزيد بن معاوية في الشام ومعها نساء أهل البيت عليه السلام سبايا، وفي اليوم الأول من صفر، وصل ابن زياد ورجاله دمشق، وخرج الناس إليهم يستقبلونهم بالدفوف والبوقات، وهم في فرح وسرور، وعندما رأي يزيد السبايا والرؤوس علي أطراف الرماح، ضرب رأس الحسين بعصا الخيزران، ثم تمثل بأبيات ابن الزبعري: ليت أشياخي ببدر شهدوا++ جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا ++ ثم قالوا يا يزيد لا تشل [ صفحه 136] قد قتلنا العزم من ساداتهم++ وعدلناه ببدر فاعتدل لعبت هاشم بالملك فلا++ خبر جاء ولا وحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم++ من بني أحمد ما كان فعل وفي أبيات أخري أنشدها وهو جالس في منظرة علي جيرون بالشام: لما بدت تلك الحمول وأشرقت++ تلك الرؤوس علي شفا جيرون نعب الغراب فقلت أو لا تصح++ فلقد قضيت من الرسول ديوني ومن الواضح أن الديون التي يقصدها يزيد في هذه الأبيات هي مقتل العديد من أشياخه (يعني أجداده) في بدر بسيوف علي وحمزة. وقد أفتي كل من سبط بن الجوزي والقاضي أبو يعلي والتفتازاني والجلال السيوطي،وجميعهم من أعلام أهل السنة القدامي بكفر يزيد وجواز لعنه [256] استنادا إلي هذه الأبيات وما جاء فيها من اعترافات صارخة لمن لم يكن ليفهم من فضائح الأعمال! وكان كما قاله ابن الجوزي: (ولو لم يكن في قلب يزيد أحقاد جاهلية وأضغان بدرية لاحترم الرأس لما وصل إليه وكفنه ودفنه وأحسن إلي آلالرسول) [257] .

استباحة دماء أهل المدينة و أعراضهم

من المعروف أن أهل المدينة المنورة لم يناصروا الحسين عليه السلام عندما بدأ حملته المعارضة لمبايعة يزيد، ولكنهم عندما ذاقوا مرارة ظلم يزيد وجور ولاته، ولما ظهر من فسق الخليفة وشربه للخمر وقتله لأبناء رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فإنهم قاموا بالتحرك أخيرا ضد يزيد، فخلعوا بيعتهم له وطردوا واليه علي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان. [ صفحه 137] وعندما علم يزيد بذلك، عمل كما أوصاه أبوه في حالة معارضة أهل المدينة، فأرسل إليهم جيشا كبيرا بقيادة مسلم بن عقبة اجتاح به المدينة وأباحها لجنوده ثلاثة أيام، قاموا خلالها بارتكاب أفظع الجرائم، فقتلوا ما يزيد عن خمسة آلاف من الناس، ونهبوا الأموال، وأحرقوا البيوت، واعتدوا علي الأعراض، حتي قيل إنهم فتكوا بحرمة أكثر من ألفعذراء [258] وفي رواية لابن كثير أن ألف امرأة من أهل المدينة ولدت بعد هذه الجرائم من غير زوج [259] وحتي أن بعض الصحابة المتبقين كجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري هربوا إلي كهوف الجبال في تلكالأيام. [260] ثم قام مسلم بن عقبة بإكراه أهل المدينة ليبايعوا يزيد علي أنهم عبيد له. واعترض الناس علي ذلك، وكان منهم علي سبيل المثال رجلان قالا: بل نبايع علي كتاب الله وسنة رسوله، فقدمهما ابن عقبة وضرب أعناقهما [261] .

ضرب الكعبة بالمنجنيق و إحراقها

بعد أن تم للجيش اليزيدي ما أراده في المدينة، توجه نحو مكة، وفي الطريق مات مسلم بن عقبة، فتولي قيادة الجيش الحصين بن نمير السكوني وحاصر الكعبة التي لاذ بها الثائر عبد الله بن الزبير، والذي سمي نفسه (العائذ بالبيت) بعد أن بايعه الناس هناك علي الخلافة. فضرب الحصين الكعبة بالمنجنيق حتي انهدم معظم أجزائها، وقاتل ابن الزبير ببسالة، وساعده علي الصمود رجال من أهل المدينة لحقوا به. [ صفحه 138] وبعد أن استعصي علي الجيش الأموي إخضاع ابن الزبير، وضعالمحاصرون نارا علي رأس رمح، ورموا به الكعبة فاحترقت [262] ، ثم بقوا محاصرين للبيت الحرام عدة شهور حتي وصلهم خبر هلاك يزيد (عام 64 هجرية). فانفكوا عنها راجعين إلي الشام مغلوبين، وتفرقوا أثناء رجوعهم لاضطراب أمرهم، فلاحقهم أهل مكة والمدينة، حتي أخذوا أربعمئة منهم إلي (الحرة) بالمدينة، وأمر مصعب بن الزبير بقتلهم، ثم بايع أهل المدينة أخاه عبد الله بالخلافة. [ صفحه 139]

خلافة عبدالله بن الزبير

بعد هلاك يزيد بن معاوية، تولي خلافة المسلمين بعده ابنه معاوية، وكان عمره آنذاك ثماني عشرة سنة أو اثنين وعشرين حسب رواية أقوال أخري، وقيل عنه إنه كان رجلا فيه صلاح وتقوي بخلاف أبيه، ولكنه تنازل عن الخلافة لأسباب غامضة بعد توليته بشهرين، فقال بعض المؤرخون: إنه كان مريضا، وقال آخرون: إنه كان مكرها علي التنحي، وهذا هو الأرجح، لأنهطعن بعد تنازله بأيام، وقيل إنه قتل مسموما [263] . وقد استثمر الخليفة الآخر عبد الله بن الزبير حالة الفوضي في العاصمة دمشق من جراء التنافس علي الخلافة بين الأمويين في توسيع نفوذه، فبويع له في البصرة والكوفة ومصر وحتي في جز من الشام، وكان أخوه مصعب قائدا عاما لجيوشه. ولأن معاوية بن يزيد لم يستخلف أحدا بعده، فقد وثب مروان بن الحكم علي الخلافة الأموية وأجبر أهل الشام علي مبايعته، ولكنه أيضا لم تدم خلافته طويلا، حيث قيل إن أم خالد بن يزيد قد طعنته بعد تسلمهالخلافة بتسعة شهور لسبه ابنها خالد بكلام فاحش أصابها [264] وقد عهد مروان بالخلافة من بعده لابنه عبد الملك، وكان ذلك سنة 65 هجرية. وظهرت في العراق بتلك الحقبة الزمنية حركات ثورية ضد الأمويين تحت قيادة المختار الثقفي وسليمان بن صرد تحت عنوان حركة (التوابين) [ صفحه 140] لندمهم علي عدم نصرة الحسين عليه السلام. وكانت مهمة هذه الحركة تتبع قتلة الحسين وأصحابه والانتقام منهم، فقتلوا كثيرا من أولئك القتلة بما فيهم عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد. ثم استشهد ابن صرد وحمل رأسه إلي مروان بن الحكم في الشام. وقد قضي علي حركة التوابين بمقتل المختار والآلاف من أتباعه في حرب نشبت بينهم وبين مصعب بن الزبير سنة 67 هجرية في العراق،ثم أرسل ابن الزبير برأس المختار إلي أخيه الخليفة عبد الله في مكة [265] وأما أسباب نشوب الحرب بينهم فهي تعود لكثرة ما قتل ابن الزبير من أنصار أهل البيت عليه السلام في العراق بالفترة القصيرة الذي أصبح تحت سيطرته. ومن المعروف إن عبد الله بن الزبير كان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب عليه السلام منذ يوم الجمل حيث كان حينها قائدا لجيش أم المؤمنين عائشة. وبالنسبة للأمويين، فإن ابن كثير يروي بأنه: لما بويع لعبد الملك بن مروان بالخلافة، كان في حجره مصحف فأطبقه قائلا: (هذا فراق بينيوبينك) [266] ثم انصرف في بداية تسلمه الخلافة إلي إعادة ترتيب أوضاع البيت الأموي في الشام وبعد أن تم له ذلك، بدأ يوجه أنظاره إلي القضاء علي خلافة ابن الزبير، وقد استفاد في ذلك من الحرب التي جرت بين المختار ومصعب، حيث أدي مقتل الآلاف من أتباع المختار وشيعة العراق علي أيدي الزبير إلي قيام أهل العراق بخلع بيعتهم لعبد الله، وإعلانهم التأييد لخلافة عبد الملك بن مروان. فسار عبد الملك بجيش إلي العراق لمحاربة جيش ابن الزبير، وقد انتهت المعركة سريعا بمقتل القائد مصعب وبعد أن انضم كثير من جنده إلي المعسكر الأموي. فدخل عبد الملك الكوفة وبايع له أهل العراق. [ صفحه 141] ثم بعث عبد الملك حملة علي الحجاز بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي للقضاء النهائي علي خلافة ابن الزبير، وكان له ذلك عندما حاصر مكة وقطع عنها الإمدادات الغذائية حتي أخذ ينضم إليه أتباع ابن الزبير، وقد بلغ تعداد الخارجين إليه من مكة العشرة الآلاف من بينهم ابني الخليفة عبد الله وهما حمزة وحبيب. ثم دخل الحجاج مكة وأخذ البيعة من أهلها، وقام بإعدام عبد الله بن الزبير ومعاونيه، وصلب أجسادهم في الحرم وسلخها. وكالعادة، فقد أرسل الحجاج رؤوس الضحايا إلي الخليفة الأموي عبد الملك في الشام وكان ذلك سنة 73 هجرية. وبقي الحجاج واليا علي الحجاز لثلاث سنوات حتي كتب له عبدالملك: سر إلي العراقيين واحتل لقتلهم، فإنه قد بلغني عنهم ما أكره [267] إلي هذا الحد ينتهي القدر الذي رأيناه كافيا لإعطاء صورة واقعية للواقع التاريخي لدولة الخلافة (الإسلامية؟) بعدهم من الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين، حيث تم القضاء عليها عام 1924 م. [ صفحه 143] القسم الثالث دليل التشريع وشهادة التاريخ في معرفة الخلفاء والأئمة تقديم الفصل الأول: مقياس لمعرفة الخلفاء والأئمة الفصل الثاني: لمحات من سيرة الخلفاء الاثني عشر [ صفحه 144]

دليل التشريع و شهادة التاريخ في معرفة الخلفاء والأئمة

تقديم

لقد قدمنا في القسم الأول عرضا موضوعيا لآراء أهل السنة والشيعة فيما فهموه من التشريع الإسلامي في قضية الخلافة والإمامة، وفي القسم الثاني قدمنا عرضنا للواقع التاريخي لدولة الخلافة في صدر الإسلام. وفي كلا القسمين، كان العرض معتمدا بصورة رئيسية علي آيات الكتاب والأحاديث والمرويات من كتب الصحاح والتاريخ بالإضافة أحيانا إلي أقوال بعض العلماء فيها. وفي هذا القسم، ونظرا للإشكالات العديدة والمجادلات العقيمة التي تصاحب إجابة هذا النوع من التساؤلات، فقد رأينا تقديم طريقة خاصة في تحديد ومعرفة هوية الخلفاء والأئمة يدمج فيها بين العقل والنقل من جهة، وبين دليل التشريع وشهادة التاريخ من جهة أخري. فالمسألة هي ليست مفاضلة بين أشخاص، بقدر ما هي بحثا عن منهج منسجم مع بقية مناهج الإسلام وتعاليمه من حيث الوضع والعقلانية، يستطيع الناس من خلاله تعيين أو اختيار الخليفة في كل عصر، ولا بد أن يكون الشارع المقدس قد وفر ذلك وإلا لكان للناس العذر في جهله، بل ومخالفته. وسنقدم تفصيل هذا الأمر علي فصلين: الأول: مقياس لمعرفتهم. الثاني: لمحات من سيرتهم. [ صفحه 145]

مقياس لمعرفة الخلفاء والأئمة

بين خلافتي أبي بكر وعلي

اشاره

اشتهر عند جميع الفرق الإسلامية حديث الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). أو كما جاء بألفاظ أخري: (من ماتبغير إمام مات ميتة جاهلية) [268] ، أو قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) [269] وصحة هذا الحديث تعد من البديهيات عند رجال الحديث دون خلاف بينهم. ومع أن هذا الحديث قد ورد بألفاظ متعددة، إلا أنها تدور كلها حول معني واحد وهو الخسران الأخروي لمن يموت دون مبايعة إمام المسلمين، لأن طاعته واجبة علي كل مسلم، كونها امتدادا لطاعة الله ورسوله (يا أيهاالذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [270] [النساء / 59]. وسيكون هذا الحديث وما يحمله من معان هو المقياس الضابط في معرفة أئمة المسلمين واجبي الطاعة، والذين يصدق أن يكون مصير الخارج عن طاعتهم موتة جاهلية. وسننظر فيما يلي إلي خلافتي أبي بكر وعلي من خلال هذا المقياس: [ صفحه 146]

خلافة أبي بكر

من الثابت أن عمر بن الخطاب وصف بيعة أبي بكر ب (الفلتة) ولكن - علي رأيه - (وقي الله شرها). وقد قال عمر بمقولته هذه نظرا للمشاحنات التي سبقت تلك البيعة وما بعدها، حيث كان تنازع المهاجرين والأنصار، ثم تخلف العديد من كبار الصحابة عن بيعة الخليفة أبرزهم علي الذي لم يبايع إلا بعد ستة شهور في ظروف شرحت في موقع سابق. ولكن ما يهمنا هنا إلقاء الضوء علي امتناع فاطمة الزهراء ابنة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وزوج علي عليه السلام عن مبايعة الخليفة، إلي أن ماتت وهي علي هذه الحال، بل وهي غاضبة عليه وأوصت أن لا يصلي عليها، ولا حتي أن يحضر دفنها كما أخرج البخاري في الصحيح: (... فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ستة أشهر...فلما توفيت، دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلي عليها) [271] . ونحن بهذا المثال أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن يكون أبو بكر هو الخليفة الواجب الطاعة، فتكون فاطمة قد ماتت ميتة جاهلية. وإما أن فاطمة لم تمت ميتة جاهلية، فيكون أبو بكر ليس بخليفة واجب الطاعة. فبالنظر إلي الاحتمال الأول، نجد أن الزهراء عليه السلام من بين الذين لم يتطرق إلي مسألة بشارتهم بالجنة أدني شك، وقد أنزل الله سبحانه وتعالي سورة الإنسان بكاملها في هذا الصدد، وهي التي أخبر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم:(فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) [272] وقوله صلي الله عليه وآله وسلم كذلك: (يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة) [273] وهي التي يغضب [ صفحه 147] النبي صلي الله عليه وآله وسلم لغضبها، وبالتأكيد علي كل من يغضبها لقوله صلي الله عليه وآله وسلم: (فاطمةبضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) [274] ، وليس مهما هنا النظر فيمن أغضب فاطمة بقدر ما هو مهم معرفة أن من يغضب الله ورسوله لغضبها، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون ميتتها جاهلية والعياذ بالله، وهي من الذين نزل بحقهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33]. فلا يبقي أمامنا سوي الأخذ بالاحتمال الثاني.

خلافة علي

من المعلوم أن الأمة قديمها وحديثها أجمعت علي صحة خلافة علي، باستثناء فئة خالفته ورفضت مبايعته، بل حاربته وأحدثت فتنة وشكوكا بين مسلمي ذلك الوقت. ومن أبرز هؤلاء الخارجين عن طاعة الإمام هما عائشة في موقعة الجمل، ومعاوية في صفين كما مر تفصيل هاتين الحادثتين في قسم سابق من هذا الكتاب. فأما عائشة، فقد تنبأ النبي صلي الله عليه وآله وسلم بخروجها عن طاعة إمام زمانها قائلا:(كأني بإحداكن قد نبحها كلاب الحوأب وإياك أن تكونيها يا حميراء) [275] . وفي رواية أخري، قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (ليت شعري، أيتكن صاحبة الحمل الأديب تسير حتي تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يسارها، وعن يمينها خلقكثير) [276] وفي رواية ثالثة، قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (يا حميراء، كأني بك تنبحك كلاب الحوأب، تقاتلين علي وأنت له ظالمة) [277] وقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: (يا علي إن وليت من أمرها - يقصد عائشة - فارفق بها) [278] . [ صفحه 148] ذلك أنه وأثناء مسير عائشة بجيشها نحو البصرة لاستنهاض أهلها ضد الإمام علي عليه السلام، مروا ببقعة ماء في الصحراء، فنادي مناد: ها قد وصلنا ماء الحوأب. فلما سمعت عائشة ذلك صاحت: ردوني، ردوني. ما أراني إلا راجعة. ثم أخبرت محمد بن طلحة ما كان من تنبؤ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وتحذيره لها، فقال لها ابن طلحة: تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول. ثم جاءها عبد الله بن الزبير وحلف لها بالله أن هذا المكان ليس بماء الحوأب، ثم جاء لها بخمسين أعرابيا من الذين رافقوهم أثناء سيرهم وشهدوا لها زورا بأنهذا المكان ليس بماء الحوأب كما أمرهم ابن الزبير [279] . ومن تنبوءات النبي صلي الله عليه وآله وسلم بشأن الفتنة التي أحدثتها عائشة ما أخرجه البخاري في صحيحه، عن عبد الله قال: (قام النبي صلي الله عليه وآله وسلم خطيبا،فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة، ثلاثا، من حيث يطلع قرن الشيطان) [280] . وقد اعتبر الصحابي الجليل عمار بن ياسر أن من أطاع عائشة في خروجها، كان عمله هذا مقابل طاعة الله حيث قال: (... ولكن الله تباركوتعالي إياه تطيعون أم هي) [281] . وقيل إن الدافع الحقيقي لخروجها ضد الإمام هو كراهيتها الدفينة له منذ أن سمعته يقول للنبي صلي الله عليه وآله وسلم عندما دعاه ليستشيره في فراقها بشأن ما أفتري عليها به، وقد رآه مغموما: (يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير). وبسبب هذه الضغينة، فإنها كانت كما في إحدي الحوادث التي رواها البخاري لا تطيق أن تذكر اسم الإمام علي لسانها. ولكنها ندمت علي كل حال علي خروجها ضده، ولا ندري إن كانت قد بايعته بعد ذلك. [ صفحه 149] وأما معاوية، فقد كان تنبأ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ببغيه وعدوانه علي إمام زمانه من المسلمات التاريخية. فعن خالد العرني قال: دخلت أنا وأبو سعيد الخدري علي حذيفة فقلنا: يا أبا عبد الله حدثنا ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في الفتنة. قال حذيفة: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: دوروا مع الكتاب الله حيث ما دار. فقلنا: فإذا اختلف الناس، فمع من نكون؟ فقال: أنظروا الفئة التي فيها ابن سمية [يعني عمار بن ياسر] فالزموها، فإنه يدور مع كتاب الله... ثم قال حذيفة: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: يقول لعمار: يا أبا اليقظان لن تموت حتي تقتلك الفئة الباغية، عن الطريق [282] وفي صحيح البخاري، كان قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية عمار يدعوهم إلي الله، ويدعونهإلي النار) [283] . وقد صدقت نبوءة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم هذه عندما استشهد عمار في موقعة صفين وهو يقاتل الأمويين تحت راية الإمام علي عليه السلام فهل بعد هذا القول من ريب حول معاوية ومصيره، فكلمات النبي صلي الله عليه وآله وسلم لا تحتمل أي معان أخر، فعمار ومن معه طريقهم إلي الله، وأعداؤهم البغاة الخارجين عن طاعة إمام زمانهم طريقهم إلي النار. ولم يكتف معاوية بالتمرد علي الإمام، بل نصب نفسه خليفة خلال عهد خلافة علي، وقد بايعه أهل الشام علي ذلك، ثم هاجم مصر واقتطعها من خلافة الإمام، كما هاجم مناطق أخري عديدة في الجزيرة العربية وغرب العراق، ويقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم في هذا النوع من التجرؤ: (إذا بويع لخليفتينفاقتلوا الآخر منهما) [284] . [ صفحه 150] وفي رواية أخري عن عبد الرحمن بن عبد قال: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فقال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (... ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر). قال الراوي: فدنوت من عبد الله وقلت له: أنشدك الله، أنت سمعت هذا من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟ فأهوي إلي أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بالباطل ونقتل أنفسنا... قال: فسكت ابن العاص ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة اللهواعصه في معصية الله [285] . وقال النووي في سياق شرحه لهذه الحادثة أن الراوي اعتبر (هذا الوصف في معاوية لمنازعته عليا، وكانت قد سبقت بيعة علي، فرأي هذا أن نفقة معاوية علي أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه [تعتبر] من أكل المالبالباطل، ومن قتل النفس لأنه قتال بغير حق فلا يستحق أحد مالا في مقاتلته) [286] . ومما قاله النبي صلي الله عليه وآله وسلم في معاوية عندما بعث إليه يوما بن عباس يدعوه، فوجده يأكل، فأعاد النبي صلي الله عليه وآله وسلم ابن عباس إليه يطلبهفوجده يأكل - إلي ثلاث مرات - فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لا أشبع الله بطنه) [287] . وقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (... أما معاوية فصعلوك لا مال له) [288] وفي موتته الجاهلية قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيه: (يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشرعلي غير ملتي) فطلع معاوية [289] ، وقوله صلي الله عليه وآله وسلم في معاوية وشريكه عمرو بن [ صفحه 151] العاص: (اللهم أركسهما في الفتنة ركسا ودعهما إلي النار دعا) [290] وما ينطبق علي معاوية أيضا قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (من قتل تحت راية عمية يدعوعصبية، أو ينصر عصبية، فقتله جاهلية) [291] . إن هذين المثالين كافيان لإثبات صحة خلافة الإمام علي عليه السلام، وأولويتها مقارنة بخلافة أبي بكر. فالخروج عن طاعة أبي بكر لم يستلزم التهديد بسوء المصير، بينما لزم ذلك بحق الخارجين عن طاعة علي. وقد كان الأولي إثبات هذه الحقيقة مما قاله النبي صلي الله عليه وآله وسلم بحق الإمام نفسه وليس بحق مخالفيه. أفلا يكفي أن يكون علي من أهل البيت عليه السلام الذين جعل الله جل وعلا التمسك بهم مع كتاب الله بعد نبيه هداية وأمانا للناس من الضلال؟ وهو الذي قال فيه النبي صلي الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعلي هذا مولاه، اللهم وآل من والاه، وعاد من عاداه).

السنة النبوية بين طريقين!

إن أكثر ما يتمسك به أهل السنة في الرد علي إمامة أهل البيت عليه السلام هو قولهم أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أمر بالتمسك بعده بالكتاب والسنة النبوية، بمعني التمسك بالكتاب والحديث المروي عن أي من الصحابة عملا بالحديث المزعوم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) والذين يكون التمسك بهم عند أهل السنة بديلا عن التمسك بأهل البيت عند الشيعة. وإذا علمنا أن مهمة تحقيق السنة النبوية صحيحها من ضعيفها قد أوكلت للبخاري ومسلم، واعتماد كتابيهما المعروفين بالصحيحين كأصح الكتب بعد كتاب الله، وبل واعتبار صحة كل ما جاء فيهما عند الغالبية العظمي من فقهاء أهل السنة وعلمائها ومفكريها، فإن التمسك بكتاب الله وسنتي، يعني التمسك [ صفحه 152] بالبخاري وسلم أكثر من التمسك بأي شخص كان. فهذان الشيخان جعلا باجتهاد هما فقط من مرويات أبي هريرة أو غيره من الصحابة والتابعين ممن نقلوا الروايات جيلا بعد جيل تسمع وتعتمد عند أهل السنة علي مر العصفور، وهما أيضا باجتهادهما فقط جعلا من مرويات علي أو غيره من أئمة أهل البيت عليه السلام الذين تحدثوا بالسنة ونقلوا الرواية جيلا بعد جيل تغفل وتصبح بلا قيمة عند أهل السنة علي مر العصفور!. وإذا علمنا أن أهل السنة اعتمدوا صحة كل اجتهادات الخليفة عمر العديدة، والتي خالف في بعضها النبي صلي الله عليه وآله وسلم صراحة كما بينا من ذلك أمثلة، بل ومنعه تدوين السنة النبوية فإن التمسك (بكتاب الله وسنتي) يعني: التمسك بعمر أكثر من صاحب السنة نفسها!، وستري في هذه المسألة تفصيلا في القسم الأخير من هذا الكتاب. وإذا علمنا أيضا أن الدور الخطير الذي لعبه معاوية في حرف مسار الخلافة بصورة مأساوية، والتأثير علي أبي هريرة وغيره من الرواة كما ستري لاحقا، قد لاقي قبول غالبية أهل السنة وموافقتهم، واعتبروه خليفة شرعيا لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فإن التمسك بكتاب الله وسنتي يعني التمسك بمعاوية أكثر من التمسك بخصمه علي أو حتي عمر وأبي بكر الذين خالفهم جميعا بمنهجه القبلي والجاهلي في الخلافة والحكم. وإذا علمنا أخيرا، أن تفسير آيات الكتاب قد اعتمد أغلبها علي الأحاديث المروية فإن التمسك (بكتاب الله وسنتي) بعد رحيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم يعني بصورة عملية وواقع الحال التمسك بتركيبة من أشخاص أبرزهم: عمر - عائشة - معاوية - أبو هريرة - البخاري. بينما التمسك (بكتاب الله وعترتي أهل بيتي) بعد رحيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم يعني بواقع الحال التمسك بتركيبة من أشخاص هم: علي - فاطمة - الحسن والحسين... إلي آخر الأئمة الاثني عشر عليه السلام. [ صفحه 153] ومن ناحية أخري، وكما بينا في موضع سابق، فإن علماء الحديث ومحققيه عند أهل السنة وغيرهم قالوا بضعف رواية (كتاب الله وسنتي)، وصحة رواية (كتاب الله وعترتي أهل بيتي). يضاف إلي هذه الحقيقة أن السنة المروية عن الصحابة لا تفيد علما واضحا أو ترشد إلي طريق هاد. فالصحابة اختلفوا مع بعضهم إلي حد السب، وإراقة الدماء، وإعلان الحروب، فيكونوا في واقع الحال قد اتخذوا تبعا لذلك طرقا متعددة وفي غاية التناقض، فأي من هذه الطرق أو السنن نتبع؟ فمعاوية صحابي وعلي صحابي، فأي منهما أولي بالاتباع؟ وعلي سبيل المثال، فإنه عندما وقع المسلمون في حيرة أمام قضية مبايعة يزيد بن معاوية، كان التمسك بأهل البيت عليه السلام يعني رفض هذه البيعة وتأييد الحسين عليه السلام وأتباعه في خروجه وثورته. وأما التمسك (بسنتي بمعني نهج أصحابي) سيعني مبايعة يزيد، لأن عبد الله بن عمر، وهو أحد الصحابة القلائل الباقين في ذلك الحين قام بمبايعة يزيد علي الفور تجنبا للفتنة وتفرق الأمة!. وما يلفت الانتباه في هذا المثال أن عبد الله بن عمر كان أيضا من الصحابة القلائل الذين لم يبايعوا الإمام عليا عليه السلام في الوقت الذي سعي إليه الناس لمبايعته، وكان أيضا من الذين وقفوا (محايدين!) يوم صفين تجنبا للفتنة أيضا. فعبد الله بن عمر، وكل من لم يبايع الإمام سواء وقف محايدا أو محاربا، وكذلك كل من لم يؤيد الحسين في خروجه وثورته ضد الطاغية يزيد، لا يمكن أن يكون متمسكا بأهل البيت عليه السلام، فأين هم من قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (ما إن تمسكتم بهما لا تضلوا بعدي أبدا)؟!.

الشوري بين النظرية والتطبيق

ومما يتمسك به أهل السنة أيضا في ردهم علي إمامة أهل البيت عليه السلام، هو قولهم أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم جعل الخلافة بعده شوري مستدلين بقوله تعالي: (وأمرهم شوري بينهم). ولكن تفسير هذه الآية بهذه الطريقة ينقصه الدقة [ صفحه 154] والكثير من التفاصيل، فلو أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أراد أن يكون الأمر بعده كذلك لعلمهم إياه، أو علي أقل تقدير كان ليبين لهم المبادئ الإسلامية لعملية الشوري هذه. والآية الكريمة ليس فيها ما يدل علي أن المسلمين يجب عليهم التشاور في جميع شؤونهم، وإنما لا بد وأن يكون ذلك محصورا بالشؤون التي لم يرد فيها نص من الكتاب والسنة كما هو متفق عليه عند الجميع. فكما أنه لا يجوز التشاور في عدد ركعات الصلاة، فإنه لا يجوز التشاور أيضا في تعيين خلفاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ما دام قد وجدت هناك نصوص قطعية تعين هويتهم. وأما في عصرنا هذا الذي يشهد استمرار غيبة الإمام الثاني عشر، فإن الشوري ينبغي الأخذ بها في تعيين من ينوب عن الإمام، فالنص محصور باثني عشر إماما. وبتقدير أن الشوري هي المبدأ الأساس في تعيين خلفاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فأين كان موقع هذه الشوري من صراع السقيفة وتنصيب أبي بكر؟ وأين كانت هذه الشوري عندما ورث أبو بكر الخلافة لعمر بنص أجبر المسلمين علي التسليم والرضا به، ودون أن يكون لأي أحد الفرصة لمناقشته؟ وأين كانت هذه الشوري في تنصيب عثمان والذي لم تؤل الخلافة إليه إلا بتعهده بالسير علي سنة الشيخين أبي بكر وعمر بعد أن رفض علي التعهد بالعمل بها؟ وهل كان تنصيب معاوية بشوري، والذي تسبب في إراقة دماء عشرات الآلاف من المسلمين في صفين وغيرها من الغارات التي شنها علي الولايات الإسلامية أثناء خلافة علي؟ وماذا بالنسبة لموقع الشوري من بيعة يزيد؟ أوليس هو الذي نصبه معاوية قبل موته جاعلا التوريث وإراقة دماء المعارضين مبدءا دستوريا سار عليه أئمة المسلمين منذ خلافته ولغاية القضاء علي خلافة الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الميلادي الحالي؟ فكيف يعتبر أهل السنة شرعية كل أولئك الخلفاء بالرغم من أن في طريقة تنصيبهم مخالفة صريحة لمبدأ الشوري؟ [ صفحه 155] والناظر بإنصاف إلي واقع دولة الخلافة الإسلامية علي طول تاريخها، فإنه يجد أن الشوري لم تتوفر إلا في خلافة علي حيث سعي إليه غالبية الناس بعد مقتل عثمان، وألحوا عليه بقبولها.

الخلفاء بعد أبي بكر وعلي

لم تكن مناقشة هذا الفصل لمجرد المفاضلة بين خلافتي أبي بكر وعلي، وإنما للتثبت من المنهج المتكامل في نظرية الخلافة والإمامة حسب تشريعها الإلهي، وهذا يعني استمرار البحث للإثبات والتحقق من هوية الخلفاء الذين يفترض أن يلوا أمر المسلمين. ولم نجد في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ما يشير إلي هوية هؤلاء أكثر قوة من تلك الروايات المخبرة بإثني عشر منهم.

الاثنا عشر خليفة في الكتاب والسنة

ونذكر أولا الأحاديث التي أخرجها أصحاب الصحاح، والتي تشير إلي وجود اثني عشر خليفة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم: ففي صحيح مسلم، نجد قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (لا يزال الدين قائما حتي تقومالساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة) [292] ، وقوله صلي الله عليه وآله وسلم أيضا: (لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا) [293] . وفي صحيح البخاري بالرواية عن جابر، نجد قوله صلي الله عليه وآله وسلم: (إن هذا الأمر لا يقتضي حتي يمضي فيهم عشر خليفة - قال: تكلم بكلام خفي علي،قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش) [294] . [ صفحه 156] وفي مسند أحمد بالرواية عن عبد الله بن مسعود قال: (سئل النبي صلي الله عليه وآله وسلمبشأن الخلفاء، فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل) [295] . وقد أشار الله (سبحانه وتعالي) إلي نقباء بني إسرائيل في كتابه العزيز: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) [المائدة / 12]، والنقيب لغة هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعها نقباء. وحسب هذه الآية، فهم أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، والذين كانوا كالولاة علي قومهم،يتولون أمورهم، ويذكرونهم بما ينبغي عليهم الوفاء به كما ذكر المفسرون [296] . ومن ذلك، فإن نقباء أمة محمد الاثني عشر ينبغي حسب مقتضي الحديث الأخير، وما يفهم من هذه الآية أن يكونوا أيضا حملة (الميثاق) أو عهد الله الذي جعل فيهم كما يستدل عليه أيضا من مخاطبة الله (سبحانه وتعالي) للنبي إبراهيم عليه السلام: (وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [البقرة / 142]. ومن المعلوم - بإجماع المسلمين - أن الله (سبحانه وتعالي) جعل عهده النهائي في ذرية إبراهيم من نسل ابنه إسماعيل عليه السلام، وليس في نسل إسحاق عليه السلام كما يدعي أهل الكتاب، وقد توجه إبراهيم عليه السلام إلي الله جل وعلا داعيا: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [إبراهيم / 37] والمقصود ب (من ذريتي) هم إسماعيل ومن انحدر من صلبه، وقد دعا إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله لهم وفيهم الرحمة، وميل قلوب الناس إليهم تعني زيارة الناس للبيت الحرام وحجهم إليه، وهذا الميل أو الزيارة كناية عن هداية الناس بهم. [ صفحه 157] وتؤكد توراة أهل الكتاب أيضا استجابة هذا الدعاء لقوله تعالي لإبراهيم عليه السلام (لقد سمعت دعاءك بشأن إسماعيل، إنني سأبارك فيه وأنميه واجعله مثمرا، وسيكون أبا لاثني عشر أميرا [إماما كما في النسخة العبرية]وسأجعل منه أمة عظيمة) [297] . ومن الواضح من هذا النص التوراتي الموافق لما جاء في الكتاب والسنة أن الأمة العظيمة هم الأتباع الحقيقيون لرسالة الإسلام كما يظهر جليا من قوله تعالي: (إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [آل عمران / 68]. ولكن من هم هؤلاء الأئمة أو الأمراء الاثنا عشر الذين حسب النص السابق ستكون الأمة بهم عظيمة؟ فمن الأحاديث التي تصرح بهوية الخلفاء الاثني عشر ما أخرجه الجويني بسنده عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (إن أوصيائي بعدي اثناعشر أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المهدي) [298] . وفي رواية أخري، قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله علي الخلق بعدي اثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي. قيل: يا رسول الله، ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب. قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها [الأرض] قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا. والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتي يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسي بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها ويبلغ سلطانه المشرقوالمغرب) [299] . [ صفحه 158] وفي رواية ثالثة، قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (... أنا وعلي والحسن والحسين،وتسعة من ولد الحسين) [300] . وعلي ما يبدو أن أصحاب الصحاح والمسانيد المشهورة عند أهل السنة لم تعجبهم هذه الروايات الثلاث الأخيرة فلم يخرجوها في كتبهم، وقد قال الذهبي في ترجمة شيوخه بتذكرة الخواص أن الإمام المحدث صدر الدين إبراهيم الجويني وهو شافعي الذي أخرج هذه الأحاديث بكتابه (فرائد السمطين)، كان من المحدثين الثقة، وشديد الاعتناء بالرواية وتحصيلالأجزاء [301] .

الاثنا عشر عند أهل السنة

عند النظر في تفسير علماء أهل السنة للأحاديث الصحيحة الدالة علي وجود اثني عشر خليفة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، تجدهم متحيرين كثيرا فيها، حيث إنهم لم يقدموا لغاية اليوم تفسيرا واضحا من الممكن أن يجمعوا عليه، حتي أصبح الرقم (12) هذا وكأنه من الرموز والطلاسم الغامضة، أو شبيها 2 ب (ألم وكهيعص) الواردة في القرآن ولكن لا أحد يعرف لها تفسيرا. وللقارئ أن يتسأل: لماذا أصبحت مسألة الاثني عشر خليفة هذه عند بعض المسلمين من الأمور الغيبية أو المجهولة علي هذا النحو؟ ونقدم فيما يلي نخبة من هذه التفسيرات لتري مدي غموض هذه المسألة عندهم، فهذا السيوطي يقول: (وقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي العباسي لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في [ صفحه 159] الأمويين، والطاهر العباسي أيضا لما أوتيه من العدل، ويبقي الاثنانالمنتظران أحدهما المهدي لأنه من أهل البيت) [302] . وأما ابن حجر العسقلاني فيقول: (إن جميع من ولي الخلافة من أبي بكر إلي عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفسا، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشرنفسا علي الولاء كما أخبر النبي) [303] . وقال القاضي عياض: (لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونوا في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع علي من يقوم بالخلافة وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وعمر بن عبد العزيز من سليمان ويزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاءالراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك) [304] . ثم يقدم القاضي عياض رأيا آخر: (ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين، وقد مضي منهم من علم، ولا بد من تمام هذا العدد قبلقيام الساعة... إلي قوله: والله أعلم بمراد نبيه) [305] . وأما ابن العربي في شرح سنن الترمذي، فإنه بعد أن أخذ تلك الأحاديثعلي مآخذ وتفسيرات مختلفة، قال: (... ولم أعلم للحديث معني) [306] . فما الذي تعنيه هذه التفسيرات، وخصوصا المنتهية بعبارة (والله أعلم!)؟ فهل يغلق ملف هذه القضية، ويحرم الناس من معرفة خلفاء نبيهم؟ [ صفحه 160] ولا أري في فهمي لهذه الأحاديث سوي هؤلاء الخلفاء الاثني عشر هم الأئمة من أهل البيت عليه السلام وهم: علي، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسي بن جعفر، وعلي بن موسي، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، وأخيرا محمد بن الحسن وهو المهدي المنتظر الذي يعتقد الشيعة بغيبته منذ عام 260 ه. ويقول الإمام الخامس، محمد بن علي، والملقب بالباقر:(نحن بقية تلك العترة، وكانت دعوة إبراهيم لنا) [307] ونقدم في الفصل التالي لمحات من سيرة هؤلاء الأئمة الأطهار. [ صفحه 161]

لمحات من سيرة الخلفاء الاثني عشر

1 - الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ولد في الثالث عشر من رجب في الكعبة المكرمة بعد مولد النبي صلي الله عليه وآله وسلم بثلاثين عاما، وقيل سبعة وعشرين عاما، ونشأ وترعرع في حجر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وأمضي فترة صباه في بيته. وهو أول من أسلم، وقد اختلف في عمره حين إسلامه بين عشرة إلي ثلاثة عشر عاما. وهو علي كل حال لم يسجد لصنم قط، ولم يتجه بأي عبادة لغير الله عز وجل. وكان أهم ما تميز به الإمام علي عن غيره هو مصاحبته الفريدة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، وقربه منه، ومؤاخاته له، وتلقيه التربية علي يديه. وقد عبر الإمام عن ذلك بقوله: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه) فأخذ من أخلاقه وعلمه حتي أصبح بحق باب مدينة علم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وحكمته، وما أهله ليكون وزيره ووصيه وخليفته علي المسلمين بعده بل وأصبح عديلا للقرآنيعرف المؤمنون حقا بحبه والمنافقون بكرهه [308] . وهو بذلك الوحيد الذي استحق عند الشيعة لقب (أمير المؤمنين) من بين جميع الخلفاء الذين تسنموا إمرة المسلمين علي مر التاريخ، بل وحتي من بين جميع الأئمة الاثني عشر عليه السلام. وأما عن زهده، فلم تعرف الدنيا حاكما خضعت له البلاد، ودانت له الدول وهو يلبس ثوبا بثلاثة دراهم. وأما في مجال لقتال والحرب، فقد تميز بشجاعة وبطولة خارقة، حيث كان أول فدائي في الإسلام عندما نام في فراش [ صفحه 162] النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقت هجرته إلي المدينة وفي موقعة بدر، قتل بسيفه (ذي الفقار) ما لا يقل عن ثلاثين مقاتلا من صناديد قريش، وقد ذكر المؤرخون نداءالملك جبريل يوم بدر: (لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتي إلا علي) [309] وأما في موقعتي أحد وحنين، فقد وقف تلك المواقف التاريخية مدافعا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم بعد فرار المسلمين الجماعي حينذاك. وفي الخندق، تصدي لمبارزة فارس المشركين الأول عمرو بن ود العامري، بعد أن لم يتجرأ أي من الصحابة علي التصدي له بالرغم من تكرار حث النبي صلي الله عليه وآله وسلم لهم بذلك، وقد وصف الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ضربة علي عليه السلام التي قضت علي ذلك العملاق بأنها تعدل عبادة الثقلين. وفي خيبر، فإنه وبعد أن تعاقب علي حمل الراية عدد من المهاجرين وسرعان ما كان كل واحد منهم يعود بالفرار والهزيمة، قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتي يفتح الله علي يديه)، فكان الفتح علي يديه علي. وكما يذكر المؤرخون أن باب الحصن الذي حمله الإمام بعد فتحه وجعله درعا يحميه من ضربات يهود خيبر، قد عجز عن حمله أربعين صحابيا مجتمعين. فلا غرابة في استحقاقه نيل شرف الزواج من بضعة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وقد كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم رافضا تزويجها للعديد ممن تقدم لخطبتها من وجوه القوم، وكان قوله صلي الله عليه وآله وسلم لعلي: (إن الله) (سبحانه وتعالي) أمر بتزويج فاطمة منك)، وقد صدق القائل: (لو لم يخلق علي، ما كانلفاطمة كفؤ) [310] ، وقال أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب) [311] . [ صفحه 163] وبعد موت النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فإن الإمام وبالرغم أنه كان يري نفسه الأولي بالخلافة، كما كانت قد وصي بها النبي صلي الله عليه وآله وسلم إليه فعلا، فإنه لم يدخر جهدا في سبيل النصح والإرشاد والتعليم في ظل الثلاثة الخلفاء الأوائل، وعندما بايعه الناس للخلافة، فإنه لم يرق لبعض الناس ذلك، فأعلنوا التمرد عليه، فاضطر لمقاتلتهم في مواقع ثلاثة مشهورة هي: الجمل، وصفين، والنهروان. واستشهد الإمام في الحادي والعشرين من شهر رمضان عام 40 هجرية بعد يومين من طعنة أشقي الآخرين عبد الرحمن بن ملجم له أثناء سجوده وقت الفجر في مسجد الكوفة بالعراق. 2 - الإمام الحسن بن علي عليه السلام ولد الإمام الحسن عليه السلام في ليلة الخامس عشر من شهر رمضان السنة الثالثة من الهجرة في المدينة المنورة. وروي أنس بن مالك أنه لم يكن أحدأشبه برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من الحسن بن علي عليه السلام [312] ، وكان يكني بالمجتبي، والزكي، والسبط، والنقي. وكانت سيرته كسيرة جده وأبيه، فكان ذا ميزات وأخلاق وفضائل إنسانية سامية من حيث التواضع، والصبر، والوقار، والعفو عند المقدرة، والكرم، وغير ذلك من المزايا الحميدة التي جعلته محبوبا في قلوب الناس. وذكر المؤرخون أن الإمام الحسن عليه السلام أخذ الماء إلي عثمان أثناء حصاره بأمر من أبيه، وشارك برفقة أخيه الحسين وعدد من أبناء كبار الصحابة في حماية عثمان والوقوف أمام داره لمنع الثائرين ضد الخليفة من اقتحامها. وفي زهده وعبادته، فقد ذكر الحافظ أبو نعيم قوله: (إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلي بيته)، فمشي عشرين مرة من المدينة إلي مكة علي قدميه. وروي عنه أيضا أنه تصدق بماله كله ثلاث مرات. [ صفحه 164] وفي السياسة والحرب، فقد كان له دور فعال عندما شارك في حرب الناكثين التي عرفت بموقعة الجمل، حيث أرسله والده إلي الكوفة ليخبر الناس بخروج الناكثين، وعبأ منهم عشرة آلاف للمشاركة في الحرب، وكذلك كان له الدور نفسه في المشاركة بالحرب ضد المتمردين في صفين، وقد قاتل مع الإمام علي عليه السلام في الخطوط الأمامية. وبعد استشهاد والده أمير المؤمنين، اعتلي منبر الكوفة وخطب بأهلها، فنهض الناس جماعات وبايعوه خليفة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم وإماما للأمة، وبقي كذلك لستة شهور حيث اضطر إلي عقد معاهدة الصلح مع معاوية ولا سيما بعد تيقنه بتأهب الرومان لمهاجمة المسلمين مستغلين في ذلك المواجهة المحتملة بين جيشي الحسن ومعاوية. والإمام الحسن عليه السلام بصلحه مع معاوية آثر مصلحة الإسلام علي ما عداها، ولكنه بقي رغم هذا التنازل الإمام الحافظ لدين الله والهادي لشيعته ومحبيه ومصداقا لقول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا). ويقول اليعقوبي في تاريخه: (عاد معاوية إلي الشام بعد عقد معاهدة الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام، وهناك وصلته الأنباء بأن إمبراطور الروم تحرك من روما بجيش كبير للهجوم علي الدولة الإسلامية والتي لم يكن لها آنذاك القوة اللازمة لدرء الهجوم الروماني، فاضطر معاوية أن يدفع سنويا للروم الشرقية مائة ألف دينار سنويا) [313] . وكان من ضمن بنود الصلح أن تسلم الخلافة بعد موت معاوية إلي الإمام الحسن، وإن مات قبل معاوية تصبح الخلافة حقا لأخيه الحسين. فكانت وفاته عليه السلام في السابع من شهر صفر سنة 50 للهجرة في المدينة المنورة متأثرا بالسم الذي دسته له زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بالتآمر مع [ صفحه 165] معاوية كما يذكر معظم المؤرخين كالطبري مثلا الذي يروي. أن الإمام الحسن عليه السلام سقي السم عدة مرات، وكان ينجو منه في كل مرة إلي أن مات في المرة الأخيرة. 3 - الإمام الحسين بن علي عليه السلام ولد في الثالث من شهر شعبان السنة الرابعة للهجرة في المدينة المنورة. وقد قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فيه وبأخيه الحسن عليه السلام: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، واشتهر بلقب سيد الشهداء. وكانت حياته حافلة بالحوادث الهامة والمواقف الرسالية. كما ويشهد له محبوه وأعداؤه بالزهد، والتقوي، والعلم، والفصاحة، وفضائل الأخلاق، والرأفة بالفقراء والمساكين. وشارك أباه في مواقع الجمل، وصفين، والنهروان، إلا أن المحطة اللامعة في حياته ذات الأهمية القصوي التي شارك فيها كانت في كربلاء. فبعد وفاة الإمام الحسن عليه السلام، بدأت الشيعة في العراق بمراسلة الحسين طالبة منه الثورة ضد معاوية، إلا أنه ذكر في جوابه إليهم أن له ولأخيه عهدا مع معاوية لا يستطيع نقضه. وأما معاوية فقد كان طوال فترة خلافته التي دامت عشرين عاما يقوم بتهيئة الإمارة بعده لابنه الفاجر يزيد، والذي تربع فعلا علي سدة الحكم سنة 60 للهجرة بعد موت معاوية. وكان من البديهي أن يرفض الحسين إعطاء البيعة ليزيد ليس فقط لخرق بني أمية معاهدة الصلح، وإنما أيضا لإحياء الإسلام والسنن الدينية التي أصبحت مضيعة ومهددة بالتحريف والزوال ولم يكن يهدف الحسين [ صفحه 166] بتراجع أهل العراق ورهبتهم من الأمويين، وهو يقول في إحدي خطبه قرب كربلاء عن أسباب انتفاضته: (أيها الناس من رأي إماما جائرا يحلل حرمات الله وينقض عهد الله من بعد ميثاقه ويخالف سنة نبيه، ويحكم بين عباد الله بالإثم والجور ولم ينكره بلسانه وعمله كان حقا علي الله أن يكبه معه... إلي قوله: أيها الناس، إنهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمان، وأفسدوا في الأرض، وعطلوا السنن، وأستأثروا ببيت أموال المسلمين، وحللوا حرمات الله، وحرموا ما أحله، وأنا أحق الناس بالإنكار عليهم. ولهذه الأسباب، فقد أصر الحسين عليه السلام علي المواجهة بالرغم من علمه بنكوص أهل الكوفة وارتدادهم عن نصرته وبقائه بإثنين وسبعين رجلا فقط من أهل بيته وأصحابه الذين جاءوا معه من مكة والمدينة، حيث كان لسان حال الحسين كما وصف أحد الشعراء: إن كان دين محمد لا يستقيم++ إلا بقتلي فيا سيوف خذوني. وهكذا كان، فقد استشهد الحسين في العاشر من محرم عام 60 للهجرة وجميع من بقي معه من الرجال واستشهد وعشرون ممن تحول إلي نصرته من المعسكر الأموي علي رأسهم الحر بن يزيد الرياحي، ثم حملت رؤوسالشهداء إلي يزيد في الشام [314] . 4 - الإمام علي بن الحسين عليه السلام ولد في الخامس من شهر شعبان سنة 38 للهجرة بالمدينة المنورة، وكان يلقب بزين العابدين والسجاد. وعاصر فترات حكم كل من يزيد بن معاوية، معاوية بن يزيد، مروان بن الحكم، عبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك. [ صفحه 167] وقد حفظته العناية الإلهية من القتل في كربلاء حيث كان مريضا ولم يشارك في القتال، وأخذ مع بقية الأسري إلي الكوفة ثم إلي الشام. وعندما هدده والي يزيد علي الكوفة عبيد الله بن زياد بالقتل لاستنكاره علنا ما اقترفته أيادي الأمويين أجابه: (أبالموت تهددني يا ابن مرجانة؟ نحن آل البيتالشهادة، والشهادة كرم لنا من الله) [315] . وهكذا فقد كان الإمام أثناء المدة القصيرة التي قضاها في الشام دائم الاستنكار لأعمال يزيد وتذكير الناس بما حصل في كربلاء، حتي أعيد مع النساء الهاشميات السبايا إلي المدينة حيث قضي بقية عمره الشريف هناك. ولكنه لم يكن بمنأي من المضايقات المستمرة هناك من رجال بني أمية، فاختار طريق السرية في تربية نخبة من التلاميذ وإعدادهم، حتي وصل عددهم إلي مئة وسبعين تلميذا، وأصبح كل واحد منهم عالما نبراسا في المجتمع الإسلامي. منهم: سعيد بن المسيب، سعيد بن جبير، محمد بن جبير، أبان بن تغلب، جابر بن محمد بن أبي بكر، القاسم بن محمد بن أبي بكر، جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو حمزة الثمالي. ومن أشهر آثاره العلمية التي خلفها (الصحيفة السجادية)، وهي مجموعة من الأدعية والمناجاة التي كتبها وأورثها لشيعته، وهذه الصحيفة عبارة عن موسوعة كبيرة لمبادئ الإسلام ومعرفة الله ومعرفة الإنسان. وقد لجأ الإمام ليعبر عن أفكاره ومبادئه عبر هذه الأدعية لأنه لم يكن يسمح له عبر غيرها كاعتلاء المنبر أو المجالس العامة، حيث كانت أدعيته ذات وجهين: عبادي واجتماعي. ومن آثاره أيضا (رسالة الحقوق) والتي تعد من أسمي الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر فيها حقوق الله سبحانه وتعالي علي الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان، والسمع، والبصر، والرجلين، واليدين، [ صفحه 168] والبطن، والفرج، ثم يذكر حقوق الأفعال من الصلاة، والصوم، والحج، والصدقة، وغيرها، حيث تبلغ خمسين حقا. وأما عن زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان، فقد كان الإمام إذا توضأ اصفر وجهه، فيقال له: ما هذا الذي يعتادكعند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف [316] . وبقي تحرك الإمام مرصودا من قبل السلطات الأموية حتي قرر الخليفة عبد الملك بن مروان اعتقاله، فأرسل إلي الشام مثقلا بالحديد لإرهابه وإجباره علي التوقف عن استنكار الأمويين، ولكنه لم يأبه بذلك ثم أعيد إلي المدينة، حيث استمر فيها علي النهج نفس، حتي دس إليه سليمان بن عبد الملك السم أخيرا في عهد أخيه الخليفة الوليد بن عبد الملك. وأسدل بذلك الستار علي حياة نجم آخر من نجوم الهداية في الخامس والعشرين من محرم سنة 95 للهجرة، ودفن في البقيع بجانب ضريح عمهالحسن بن علي عليه السلام. ومما يجدر ذكره أن الوهابيين [317] قاموا بهدم قبره، وقبور بقية الأئمة في البقيع في الثامن من شوال سنة 1344 ه / 1925 م. 5 - الإمام محمد بن علي عليه السلام ولد في الأول من شهر رجب عام 57 للهجرة بالمدينة المنورة، وقد عرف بلقب الباقر لبقره العلم وتفجيره له وتوسعه فيه، وعاصر طوال فترة إمامته التي دامت 18 عاما حكم كل من الوليد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز، يزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك. وقد استمر هؤلاء الخلفاء باستثناء عمر بن عبد العزيز بمضايقة أئمة أهل البيت عليه السلام وتصفية أنصارهم ومحبيهم كما فعل من سبقهم من الخلفاء [ صفحه 169] الأمويين. وكان أحد أدوات السلطة في القمع والإرهاب هذه المرة رجلا يتلذذ بسفك الدماء البريئة اسمه الحجاج بن يوسف والذي ولاه الوليد بن عبد الملك العراق، حيث حولها إلي ساحة لتعذيب الأبرياء، وخصوصا شيعة أهل البيت عليه السلام. وعندما استلم عمر بن عبد العزيز الخلافة، أصدر أمرا بوقف (سنة!) سب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام علي المنابر في الجمع والأعياد. وهي السنة التي استنها معاوية منذ أول خلافته وورثها لمن بعده، ولكن أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز لم تطل، وهو نفسه كما يذكر المؤرخون قد تمت تصفيته علي يد المعارضين لنهجه العادل من الأسرة الأموية الحاكمة. وواصل الإمام محمد الباقر عليه السلام النهج السري لسلفه الإمام زين العابدين بتنشيط الحركة التربوية والتعليمية الشاملة، والتي مهدت لإنشاء أول مدرسة إسلامية علي منهج تعاليم أهل البيت عليه السلام ولكنه وبسبب ضغوط السلطات ومراقبتهم، فإن نشاطات هذه المدرسة بقيت محدودة، ولم تعط ثمارها الحقيقية إلا في عصر الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. وقد قام الإمام الباقر عليه السلام بنشر الأحاديث والأحكام الإسلامية بشكل ملحوظ حتي أصبح الناس في عصره يتناقلون علومه وأخباره. ثم لاقي الإمام عليه السلام نفس مصير آبائه وأجداده، عندما دس إليه السم عن طريق الأيدي الآثمة للسلطة الأموية الحاكمة وكان ذلك في السابع من ذي الحجة عام 114 للهجرة في المدينة المنورة، وهناك دفن، فيما يعرف ب (البقيع). 6 - الإمام جعفر بن محمد عليه السلام ولد في السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 83 للهجرة بالمدينة المنورة وأمه فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. وعاصر خلال فترة إمامته من الخلفاء الأمويين كلا من هشام بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك، إبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين والملقب بالحمار. ومن العباسيين، فقد عاصر عبد الله السفاح وأبا جعفر المنصور الدوانيقي. وكان أشهر ألقابه الصادق. [ صفحه 170] وقد صادف عصره أواخر الدولة الأموية حيث دب فيها الضعف، وبداية الدولة العباسية حيث التظاهر بحب أهل البيت، مما أتاح الإمام الصادق عليه السلام من استكمال المدرسة التي بدأها سلفه الإمام محمد الباقر عليه السلام وتوسيعها إلي أن أصبحت جامعة كبري لتربية التلاميذ ونشر العلوم والمعارف الإسلامية، حتي قيل إنه خلال فترة إمامته التي امتدت لأربع وثلاثين عاما تمكن من تربية 4 آلاف تلميذ في مختلف العلوم. وقد دار نشاط الإمام الصادق عليه السلام العلمي حول محورين أساسيين، هما: حماية العقيدة الإسلامية من التيارات العقيدية والفلسفية والإلحادية التي قويت في عصره، ونشر الإسلام وتوسيع دائرة الفقه والتشريع وتثبيت معالمهما وحفظ أصالتهما. ويقول أبو حنيفة النعمان وهو أحد أئمة المذاهب الفقهية الأربعة عند أهل السنة: (عندما استدعي أبو جعفر المنصور الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام إلي العراق دعاني إليه لمناظرته، فكتب أربعين مسألة لطرحها علي الإمام. وحين دخلت علي المنصور وجدت الإمام الصادق جالسا إلي يمينه فسلمت وجلست، وقدمني المنصور إليه، ثم أمر بطرح المسائل عليه، فكنت أسأله واحدا واحدا، وهو يجيب عنها واحدة واحدة، ومبديا في كل مسألة آراء أهل المدينة وآراء أهل العراق وأخيرا رأيه الخاص به. وكان رأيه موافقا لآرائهمحينا ومخالفا حينا. فعرفت أنه أعلم الناس وأعرفهم بعقائد أهل زمانه) [318] . ويقول مالك بن أنس، وهو إمام آخر من أئمة المذاهب الأربعة وأحد تلاميذ الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (كنت غالبا أدخل علي الإمام الصادق عليه السلام، فكان إما مصليا أو قارئا القرآن الكريم. ولم تر عين مثله، ولم تسمع أذن بمثله،ولم يخطر علي بال أحد أن يكون هناك أوسع علما وأكثر عبادة وزهدا منه) [319] . [ صفحه 171] وعلي كل حال، فخدمات الإمام الصادق العلمية في مجال التفسير والحديث والفقه لا يمكن حصرها، وتمكن من علماء كبار وتنشئتهم في علوم الكلام والفلسفة والمناظرة والذين كان من بينهم: هشام بن الحكم الذي ترك وراءه خمسة وعشرين كتابا. ومن المفارقات العجيبة وما أكثرها في تاريخنا الإسلامي أن تجد الشيخ البخاري مثلا لم يرو في صحيحه ولو حديثا واحدا عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، في الوقت الذي تجده يروي عن مروان بن الحكم الملعون هو وأبوه علي لسان النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وعن عمران بنحطان الخارجي الذي ألف قصيدة في مدح قاتل علي بن أبي طالب! [320] . وفي جانب العلوم الطبيعية، فقد تمكن الإمام من كشف أسرار نالت إعجاب العلماء الاختصاصيين في العصر الحديث، لا سيما ما جاء منها في كتابه (توحيد المفضل) الذي أملاه علي تلميذه المفضل بن عمرو الكوفي في أربعة أيام، وكذلك تربيته للعالم الفذ جابر بن حيان الذي يعد اليوم أبو الكيمياء، حيث أخذ علمه عن الإمام الصادق عليه السلام وألف كتبا ورسائل عديدة في هذا المضمار. وقال الدكتور يحيي الهاشمي: (إن هناك عدة كتب مخطوطة لجابر بن حيان لا يزال علماء الألمان يعكفون علي حلرموزها) [321] وقال الحوماني: (واستخراج المعلوم من المجهول له علم خاص سماه علماء الغرب (علم الجبر) اشتقوه من اسم جابر بن حيان، لأنهأول من وضع هذا العلم نقلا عن معلمه جعفر الصادق) [322] . وانتقل الإمام إلي جوار ربه في الخامس والعشرين من شوال عام 148 هجرية بالمدينة المنورة، ودفن في مقبرة البقيع بجوار آبائه الباقر، وزين العابدين، والحسن عليهم السلام. [ صفحه 172] 7 - الإمام موسي بن جعفر عليه السلام ولد في السابع من شهر صفر سنة 128 للهجرة بالأبواء - بين مكة المكرمة والمدينة المنورة - وكان أشهر ألقابه الكاظم، وعاصر كلا من أبي جعفر المنصور، محمد المهدي بن المنصور، موسي الهادي ابن المهدي، وهارون الرشيد الابن الآخر للمهدي. وشهدت فترة أبي جعفر المنصور عودة القمع والاضطهاد لأهل البيت عليه السلام، وأشياعهم، فاختار الإمام الكاظم أن يركز جهوده في المضمار العلمي، فواصلت مدرسة أهل البيت العلمية في عهده بالازدهار، وتخرج منها العديد من العلماء والمفسرين الأفذاذ منهم: علي بن يقطين، محمد بن أبي عمر، وهشام بن الحكم وغيرهم. وقد قيل فيه إنه كان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأفقههم، ودامت فترة إمامته 35 عاما. وعاش الإمام الكاظم عليه السلام فترات طويلة من عمره الشريف في ظلمات سجون العباسيين، حيث سجنه الخليفة المهدي ثم أطلقه وسجنه بعد ذلك هارون الرشيد في البصرة ثم نقله إلي سجن بغداد لمدة طويلة أقل ما قيل فيها إنها كانت أربع سنوات، ومات متأثرا بسم يعتقد أن الرشيد كان وراء الأيدي التي اقترفت هذا الإثم الكبير، وكان ذلك في الخامس والعشرين من رجب سنة 183 للهجرة. ودفن بالقرب من بغداد في مقابر قريش المعروفة في أيامنا هذه باسم (الكاظمية) نسبة إلي الإمام الكاظم عليه السلام. 8 - الإمام علي بن موسي عليه السلام ولد في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148 للهجرة بالمدينة المنورة، واشتهر بلقب الرضا، وعاصر خلافة كل من هارون الرشيد، محمد الأمين، وعبد الله المأمون، ودامت فترة إمامته عشرين عاما. وقد كثرت الثورات العلوية خلال عهد المأمون، والتي كانت تنادي بالرضا من آل محمد، ومن ذلك أطلق المأمون علي الإمام علي بن موسي [ صفحه 173] لقب (الرضا). وقد امتدت هذه الثورات لتشمل مناطق عديدة كالبصرة، وخراسان، واليمن، حتي أصبحت تهدد عرش الخليفة مما حدي به إلي استدعاء الإمام من المدينة المنورة إلي (مرو) في خراسان وهي عاصمة الدولة العباسية آنذاك، وعرض عليه منصب ولاية العهد، الأمر الذي عد مناورة سياسية يهدف المأمون من ورائها إخماد ثورات العلويين، وإضفاء صفة الشرعية علي خلافته، ومما يؤكد عدم حسن نية الخليفة في هذه الخطوة أنه أجبر الإمام علي قبول هذا المنصب بتهديده إياه بالقتل في حالة رفضه. وعند موافقة الإمام علي قبول ولاية العهد كان قوله للمأمون: (قد نهاني الله عز وجل أن ألقي بيدي إلي التهلكة، فإن كان الأمر علي هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك علي أن لا أولي أحدا ولا أنقض رسما ولا سنة، وأكونفي الأمر بعيدا مشيرا) [323] . ومما يؤكد قلق المأمون تجاه سياسته بالتعامل مع الإمام أنه وبعد أن ألح عليه مرة بإقامة صلاة العيد، تراجع عن ذلك ومنعه من إقامتها، وخصوصا ملاحظته تعاظم مكانة الإمام في عيون الناس يوما بعد يوم، وخشيته من انتشار علمه وسيرته في ربوع العالم الإسلامي، فقرر إنهاء حياة الإمام عليه السلام وقام بدس السم إليه، مما أدي إلي مفارقته لهذه الدنيا. وكان ذلك في السابع عشر من صفر سنة 203 للهجرة، ودفن جثمانه الطاهر في (خراسان) بالمدينة التي تعرف اليوم باسم (مشهد) في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وبالرغم من أن المأمون تظاهر بالحزن الشديد عندما أخبر بوفاة الإمام وقام بتمزيق قميصه وبكي بصوت عال، إلا أن معظم الباحثين والمؤرخين علي يقين باقترافه لهذا الجرم الشائن. [ صفحه 174] 9 - الإمام محمد بن علي عليه السلام ولد في ليلة التاسع عشر من رمضان سنة 195 للهجرة في بغداد، وعاصر خلافتي المأمون والمعتصم. وأشهر ألقابه الجواد والتقي ودامت إمامته لسبعة عشر عاما. وقد أثارت مسألة انتقال الإمامة إلي الإمام محمد الجواد جدلا كثيرا بسبب صغر سنه حين تسلمه الإمامة، حيث كان عمره عند وفاة والده الإمام علي الرضا عليه السلام ثماني سنوات أو عشر حسب اختلاف الروايات. ويذكر بعض المؤرخين أن الشيعة حاروا واضطربوا ووقع بينهم الخلاف والانقسامبسبب هذا الحدث [324] وبالرغم من ذلك، فإن أغلب الشيعة قبلوا إمامته واحتجوا كما يذكر الشيخ المفيد وهو من أعظم علماء الشيعة الكبار في القرن الرابع الهجري بأن كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالي مع صغر السن لقوله تعالي بشأن عيسي عليه السلام: (قالوا كيف نكلم من كان في المهدي صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) [مريم / 29 - 30]. وبقوله تعالي بشأن يحيي عليه السلام: (وآتيناه الحكم صبيا) [مريم / 12]، إلي قوله: وإذا كان الأمر علي ما ذكرناه من تخصيص الله تعالي حججه، بطل ما تعلق به هؤلاء القوم، علي أنهم إن أقروا بظهور المعجزات علي الأئمة وخرق العادة لهم، وفيهم بطل أصلهم الذياعتمدوا عليه في إنكار إمامة الجواد عليه السلام [325] وتكررت هذه الحالة بشأن الإمام علي الهادي وهو عاشر الأئمة، وآخرهم الإمام محمد المهدي عليه السلام. وقد اقتضت الضرورة عند الموالين للمزيد من البحث والتحري بما يخص إمامة الجواد عليه السلام، فاقدموا علي اختباره في مواقف وحالات متعددة حتي تحقق لهم الاطمئنان بغزارة علمه وأهليته، ولم يرفض إمامته [ صفحه 175] منهم. فالشيعة ينظرون إلي الإمامة باعتبارها قضية إلهية، فتكون مسألة صغر عمر الإمام - كمسألة صغر عمر النبي - ليست هي القضية المهمة بالنسبة إليهم، وإنما الأمر المهم في ذلك هو الجانب الإلهي في علمهم وعملهم. ومن المعلوم أن الأئمة عليه السلام كانوا يجيبون علي جميع الأسئلة التي تعرض عليهم، وكان الأتباع والموالون يقبلون إمامتهم تبعا لذلك بالرغم منوجود النص المسبق علي إمامتهم [326] . ويقول العلامة السبحاني: (وليس عجيبا تحمل أعباء الزعامة في أيدلوجية الرجل الإلهي، فالأئمة الإلهيون كانوا متحلين منذ البداية ومن أجل أهداف معنوية بتربية خاصة، ويخطون بكمالات (معنوية) لا توجد إطلاقا في الأفراد العاديين. ولقد تجلت لكل الناس هذه الكمالات في الإمام محمد الجواد عليه السلام من خلال مناقشاته ومناظراته عندما كان يلتقي بعلماء بغداد بحضور الخليفة المأمون، والذي بلغ إعجابه به يوما أن زوجه ابنته أم الفضل لما رآه فيه من الفضيلة، وبلوغ العلم، والحكمة، والأدب،وكمال العقل مع صغر سنه وما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل زمانه [327] . ثم انتقل الإمام بعد زواجه إلي المدينة المنورة حيث ربي خلال فترة إقامته فيها شخصيات علمية كثيرة، وعندما استلم المعتصم مقاليد الحكم سنة 218 للهجرة، استدعي الإمام إلي بغداد ليكون تحت مراقبته، وخوفا من شدة التفاف الناس حوله. وقد انتقل الإمام إلي جوار ربه في التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة 220 للهجرة وكان عمره 25 عاما، حيث يعتقد بعض المؤرخين أن المعتصم قد دس إليه السم عن طريق زوجته أم الفضل. ودفن بجوار جده الإمام موسي الكاظم عليه السلام بالقرب من بغداد. [ صفحه 176] 10 - الإمام علي بن محمد عليه السلام ولد في الخامس عشر من ذي الحجة سنة 212 للهجرة بقرية من نواحي المدينة المنورة تدعي صربا، ودامت إمامته لمدة 34 عاما، وكان أشهر ألقابه: الهادي والنقي. وقد عاصر كلا من المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، والمعتز. وكما يصفه المؤرخون فإنه كان فقيها وإماما متعبدا، وأطيب الناس مهجة وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب وأكملهم من بعيد، إذا صمت علته هيبةالوقار، وإذا تكلم سماه البهاء [328] . وكانت سياسة الخلافة العباسية منذ عهد المأمون إلي ما قبل مجئ المتوكل إلي الحكم تقوم علي أساس التمسك بمذهب المعتزلة والدفاع عنهم مما فسح المجال تلقائيا بشئ من الحرية للشيعة، ولكن بمجئ المتوكل إليالحكم، وانتهاجه سياسة الدفاع عن مذهب أهل الحديث [329] المناقض للمعتزلة، ابتدأ التشدد والضغط من جديد علي مذهبي الشيعة والمعتزلة، واضطهاد أتباعهما. وكانت فترة الأربعة عشر عاما التي عاشها الإمام من حكم المتوكل بعد أن استقدمه إلي سامراء وأجبره علي العيش فيها من أشد السنين التي مرت عليه، وأذاقه الخليفة فيها أشد صنوف العذاب والمحن. ويروي المسعودي أنه: (سعي إلي المتوكل بالإمام محمد الجواد أن في منزله كتبا وسلاحا من شيعته، وأنه عازم علي الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الجند الأتراك، وهجموا علي داره ليلا، فلم يجدوا فيها شيئا، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس علي الرمل والحصي، ومتوجه إلي الله [ صفحه 177] تعالي يتلو آيات من القرآن، فحمل علي حاله تلك إلي المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئا، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة. وكان المتوكل حينها جالسا في مجلس الشراب وبيده الكأس، فلما رأي الإمام هابه وعظمه وأجلسه إلي جانبه، وقال له: أنشدني شعرا، فقال الإمام: إني قليل الرواية للشعر، فقال المتوكل: لا بد، فأنشده الإمام وهو جالس عنده: باتوا علي قلل الأجبال تحرسهم ++ غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ++ فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ++ أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة ++ من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ++ تلك الوجوه عليها الدود تنتقل قد طالما عمروا دورا لتحصنهم ++ ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا وطالما كنزوا الأموال وادخروا ++ فخلفوها علي الأعداء وارتحلوا أضحت منازلهم قفرا معطلة ++ وساكنوها علي الأحداث قد رحلوا فبكي المتوكل حتي بلت دموعه لحيته وبكي الحاضرون، ثم أمر المتوكلبرفع مائدة الشرب، ثم رد الإمام إلي منزله مكرما) [330] . وقد توفي الإمام في الثالث من شهر رجب سنة 254 للهجرة متأثرا بسم الخليفة المعتز، ودفن في سامراء شمال مدينة بغداد في العراق. 11 - الإمام الحسن بن علي عليه السلام ولد في الثامن من ربيع الثاني سنة 232 للهجرة في المدينة المنورة، وعاصر خلافة كل من المعتز، المهتدي، والمعتمد، ودامت فترة إمامته ست سنوات. واشتهر بلقب العسكري نسبة إلي عسكر ويراد بها سر من رأي (أو [ صفحه 178] سامراء) التي بناها المعتصم وانتقل إليها بعسكره. وكانت نسبة الإمام إليها منذ أن أجبر الخليفة المتوكل الإمام وأباه الهادي عليه السلام الإقامة فيها،فنسبا إليها، فأحيانا يوصفا (بالعسكريين) [331] . واشتدت رقابة العباسيين للإمام الحسن العسكري أكثر مما كانت علي أبيه وذلك لتعاظم قوة الشيعة في العراق، ولعلم الخلفاء العباسيين من خلال أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وما تناقلته الأجيال من معتقدات الشيعة أنه سيولد للإمام ولد يقضي علي كل الحكومات المستبدة. ولذلك فإنه عندما ولد للإمام الحسن ابنه محمد، فقد أخفي خبر ولادته عن عموم الناس، فضلا عن العناية الإلهية التي أحاطت المولود بالحفظ والستر حتي فشلت السلطة في استقصاء الأمر. وتوفي الإمام في الثامن من ربيع الأول سنة 260 للهجرة وعمره 28 عاما بعد أن اشتد به المرض في عهد الخليفة المعتمد. ولم يستبعد أن اشتداد المرض عليه كان بتأثير سم قد دس إليه عن طريق أيدي السلطة الآثمة، وذلك نظرا لصغر عمره عند وفاته وتخوف العباسيين منه لا سيما أنه كان قد سجن عدة مرات مع أنصاره وخطط لقتله. ودفن بجانب ضريح والده الإمام علي الهادي عليه السلام في سامراء شمال العاصمة العراقية بغداد. 12 - الإمام محمد بن الحسن (المهدي) ولد في الخامس عشر من شعبان سنة 255 للهجرة بمدينة سامراء في عهد الخليفة المهتدي العباسي، وأشهر ألقابه: المهدي، القائم، المنتظر، الحجة، صاحب الزمان. وقد امتدت فترة إمامته منذ تسلمه مقاليدها سنة 260 للهجرة ولغاية أيامنا هذه وإلي أن يشاء الله جل وعلا. [ صفحه 179] ذلك أنه وعند وفاة والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فقد اقتضت الحكمة الإلهية تغييبه عن العيون وحفظه لحين ظهوره علي الملأ في موعد مستقبلي يختاره الله سبحانه وتعالي، تكون الظروف فيه مؤاتية لإعلان دعوته وقيادة الأمة نحو النصر النهائي لرسالة الإسلام مصداقا للوعد الإلهي: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) [الأنبياء / 105] وقوله تعالي: (ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون) [التوبة / 32 - 33]، وقوله تعالي: (ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [القصص / 5]. وقد انتقلت الإمامة إليه عند وفاة والده وكان له من العمر خمس سنوات شأنه في ذلك شأن النبي يحيي عليه السلام الذي تسلم مقاليد النبوة والحكم وهو صبي: (يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) [مريم / 12]، وهذا أقل إعجازا من تسلم نبي الله عيسي عليه السلام النبوة وهو لا يزال رضيعا: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) [مريم / 29 - 30]. وما يثبت هوية الإمام محمد المهدي من السنة النبوية قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (لا تذهب الدنيا حتي يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئاسمه اسمي) [332] . ومن قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أيضا ما يوضح مهمته: (تقوم الساعة حتي تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا [333] ، وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: (لو لم يبق من الدنيا إلا [ صفحه 180] يوم لطوله الله عز وجل حتي يملك رجل من أهل بيتي، يملك الديلموالقسطنطينية) [334] . ومن قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أيضا ما يثبت إنه يظهر قبل نزولعيسي عليه السلام: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) [335] وقال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: (تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة وأنعيسي بن مريم سينزل ويصلي خلفه) [336] . ولذلك فإن الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ليس خاصا بالشيعة، فأهل السنة مجمعون علي الإيمان به وإن خالف غالبيتهم ما يعتقده الشيعة بما يتعلق بمولده سنة 255 للهجرة وقالوا بأنه سيولد في آخر الزمان، والفتوي التي أصدرها المجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة والمؤرخة في 31 آيار 1976 تمثل موقف أهل السنة في عصرنا حول هذه المسألة وهذا نصها (المهدي عليه السلام هو محمد بن عبد الله الحسني، العلوي، الفاطمي، المهدي، الموعود، المنتظر، موعد خروجه في آخر الزمان، وهو من علامات الساعة الكبري يخرج من المغرب ويبايع له في الحجاز في مكة المكرمة، بين الركن والمقام، بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود الملتزم. ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس، ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، يحكم العالم كله وتخضع له الرقاب بالإقناع تارة وبالحرب تارة أخري وسيملك الأرض سبع سنين وينزل عيسي عليه السلام من بعده، فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده علي قتله بباب لد بأرض فلسطين. وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر [ صفحه 181] النبي صلي الله عليه وآله وسلم عنهم في الصحاح... وأن الاعتقاد بخروج المهدي واجب لأنه من عقائد أهل السنة والجماعة، ولا ينكره إلا جاهل بالسنة ومبتدع في العقيدة). ومن علماء أهل السنة الذين وافقوا معتقد الشيعة بولادة الإمام المهدي لأبيه الإمام الحسن العسكري سنة 255 للهجرة وأنه لا يزال حيا يرزق منذ ولادته: 1 - كمال الدين بن طلحة في كتابه: (مناقب السؤول في مناقب آل الرسول. 2 - محمد بن يوسف الكنجي في كتابه: (البيان في أخبار صاحب الزمان). 3 - نور الدين بن الصباغ في كتابه: (الفصول المهمة). 4 - سليمان القندوزي في كتابه: (ينابيع المودة). 5 - شمس الدين سبط بن الجوزي في كتابه: (تذكرة الخواص)، وغيرهم. وقد كانت غيبة الإمام المهدي عليه السلام عن الأنظار علي مرحلتين: المرحلة الأولي: وتسمي الغيبة الصغري والتي بدأت منذ وفاة والده وتسلمه الإمامة سنة 260 للهجرة، وكان يمكن للناس خلال هذه المرحلة الاتصال به عن طريق نواب خواص عينهم الإمام ليكونوا حلقة الوصل بينه وبين أتباعه، ولينقلوا لهم إجاباته وتوجيهاته. ودامت الغيبة الصغري 69 عاما تخللها أربعة، نواب خواص وهم علي التوالي: عثمان بن سعيد العمري، محمد بن عثمان العمري، حسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري. المرحلة الثانية: وتسمي الغيبة الكبري والتي بدأت سنة 329 للهجرة ولا زلنا نعيشها في أيامنا وإلي أن يشاء الله. وتحولت عند بداية هذه المرحلة النيابة الخاص إلي النيابة العامة المتمثلة بفقهاء الشيعة ومجتهديهم المؤهلين من نواحي العدالة والأعلمية والخبرة ويطلق عليهم اسم مراجع الدين ومفردها المرجع الديني لرجوع الناس إليهم في أخذ الفتوي والإرشاد. ويتم وصول [ صفحه 182] المجتهد المؤهل إلي مرتبة المرجعية من خلال تأييد الناس والمؤسسات الدينية له، ويمكن تواجد أكثر من مرجع واحد في نفس الوقت. وأما علي صعيد السياسة والحكم في ظل الغيبة الكبري، يجوز لأي من الفقهاء المؤهلين إقامة الحكومة الإسلامية أو قيادتها وعلي بقية الفقهاء أو المراجع التأييد والمناصرة. وأما شكل هذه الحكومة وصلاحياتها وحدود سيادتها، فإنها من الأمور الواقعة تحت اجتهاد الفقهاء في كل عصر، وليس لها صيغة ثابتة. وتعتبر شرعية الجمهورية الإسلامية في إيران مستمدة من هذا الأصل الفقهي عند الشيعة، وإن كان الفقهاء يختلفون حول بعض المسائل الفرعية أو التفصيلية المتعلقة بهذا الأمر. وبالإضافة لكل ما سبق، فإنه يثار أيضا حول الإمام المهدي عليه السلام وغيبته تساؤلات عديدة لا بد من التطرق إليها، وأهمها ما يلي: أولا: لماذا يغيب الإمام وقد نصب لحفظ الدين وهداية الناس؟ ثانيا: كيف يمكن له أن يعش هذا العمر الطويل؟ ثالثا: ما هي علامات ظهوره؟ ونحاول فيما يلي الإجابة عن هذه التساؤلات الثلاثة بإيجاز: أولا: أسباب الغيبة إن من أوضح الأسباب التي يمكن بها فهم الحكمة الإلهية التي اقتضت غيبة الإمام المهدي هو تخطيط السلطات العباسية لقتله، وكان هذا واضحا من خلال إصرارهم في البحث عن أي مولود للإمام الحسن العسكري عليه السلام أثناء مرضه، والاستقصاء حتي بشأن زوجاته وجواريه إن كان أي منهن فيها حمل. وإذا علمنا أن الإمام المهدي هو آخر الأئمة الاثني عشر والذي وعد الله بأن يتم نوره وينشر عدله في جميع أرجاء المعمورة بظهوره، فإنه سيزول جزء كبير من استغرابنا حول هذه المسألة [ صفحه 183] والنبي صلي الله عليه وآله وسلم يعقد المقارنة أمته وبني إسرائيل بقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتي لو دخلوا حجر ضبتبعتموهم، فسأله أحدهم: يا رسول الله، اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟) [337] . وقد نزل قوله سبحانه وتعالي بحق بني إسرائيل: (قل فلم تقتلون أنبياء الله إن كنتم مؤمنين) [البقرة / 91] وقوله تعالي: (ويقتلون النبيين بغير حق) [آل، عمران / 21]، وما قيل في ذلك أن بني إسرائيل قتلوا أربعين نبيا. وأما حكام أمة محمد فإنهم قتلوا أحد عشر إماما كل واحد منهم كان أتقي أهل زمانه وأعلمهم، فضلا عن قتل الآلاف من أنصارهم كشهداء كربلاء وحجر بن عدي وأصحابه وسعيد بن جبير وغيرهم الكثير. وهكذا، فقد استمرت غيبة الإمام علي مر العصور لاستمرار الظروف ذاتها المواتية لسفك دمه الطاهر علي أيدي ملوك المسلمين وسلاطينهم، ولكان ذلك بمرأي ومسمع ورضا من سواد الأمة الأعظم كما حصل ذلك من قبل في تعذيب المسيح عليه السلام وقتل الحسين وغيرهم من أولياء الله وحججه، فيكون الناس هم الذين حرموا أنفسهم من الانتفاع من الوجود الظاهري للإمام المهدي بينهم كما حرمت الأمم السابقة نفسها من الانتفاع من الوجود الأنبياء والرسل الذين أرسلوا لهدايتهم. وهذه سنة ثابتة أودعها الله في خلقه: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت علي بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) [هود / 28]. ثانيا: تفسير العمر الطويل يبلغ عمر الإمام المهدي في اليوم عام (1418 ه 1997) 1162 عاما، الأمر الذي يستبعده المخالفون ويسخر منه المنكرون. ولكن لو تصفحنا آيات القرآن الكريم لوجدنا شواهد عديدة علي طول عمر أولياء الله وأنبيائه. فهذا [ صفحه 184] النبي نوح عليه السلام قيل إنه عاش 2500 سنة قضي منها في الدعوة تسعمائة وخمسين: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين) [العنكبوت / 14]. وأما أهل الكهف النيام: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) [الكهف / 25]. وأمد الله كذلك في عمر عيسي والخضر عليه السلام آلاف السنين ولا يزالا أحياء، وحتي أن إبليس قد أعطي مثل ذلك: (فإنك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم) [الحجر / 37 - 38]. وحسب بعض الروايات، فإن آدم وإدريس وهود عمروا ما يزيد عن 900 سنة، بل إن معدل أعمار قوم هود كانت 400 سنة. وأما من الناحية العلمية، فليس هناك أي دليل يقول باستحالة إطالة عمر الإنسان لمئات السنين، بل ثبت مخبريا أنه يمكن للإنسان تطويل عمره دون حد إذا كان مراعيا لقواعد التغذية المثالية، ومحصنا بالأدوية والمعالجات الصحيحة ضد العوارض والأمراض. وقد وجد في زماننا أفراد عاشورا أكثر من 170 عاما، وتجد دولا متقدمة علميا كاليابان يزيد معدل عمر سكانها عن الثمانين عاما في الوقت الذي تجد فيه هذا المعدل لا يتجاوز الخمسين عاما في بعض الدول الإفريقية. ثالثا: علامات الظهور: يفهم من الروايات الكثيرة المتعلقة بالإمام المهدي المنتظر بوجود علامات تنبي بظهوره، وهي علي ثلاثة أنواع كما يلي: الأول: علامات كونية كالنداء أو الصيحة التي تنطلق من السماء، وخسف البيداء، والخسوف والكسوف في غير أوقاتهما وغير ذلك من الآيات السماوية أو الطبيعية. الثاني: علامات متعلقة بشخصيات كخروج السفياني، والدجال، واليماني، والخراساني، وقتل عبد الله والنفس الزكية وغيرهم. وهذان النوعان من العلامات قد كثر الوضع في الروايات القائلة بهما، وما صح منها من الممكن أن يحمل تفسيرها علي عدة وجوه. [ صفحه 185] الثالث: علامات اجتماعية كانتشار الظلم والجور، وتسلط الحياة الجاهلية وظهورها بعقائدها وحضارتها الساقطة، والتقدم العلمي الهائل، والحروب والفتن المدمرة وغياب الأمن والسلام، وكذلك الغلاء والتدهور الاقتصادي وانتشار المجاعات، وظهور الكذابين والدجالين المدعين للإصلاح، وبروز الحركات والقيادات والدعوات الإصلاحية التي تنادي بالتخلص من الجاهلية المدعومة بقوي المادة والعدوان. [ صفحه 187] القسم الرابع آثار أزمة الخلافة والإمامة علي شريعة الإسلام وواقع المسلمين تقديم الفصل الأول: الآثار الأولية الفصل الثاني: أخطر الآثار الفصل الثالث: الآثار اللاحقة [ صفحه 189]

آثار أزمة الخلافة والإمامة علي شريعة الإسلام و واقع المسلمين

تقديم

قد يتساءل بعض القراء عن جدوي الخوض في أزمات وفتن عفي عليها الزمان، كأزمة الخلافة والإمامة بمنظورها التاريخي والتي لا تزيد تفرق المسلمين - في تقديرهم - إلا تفرقا واختلافا، في الوقت الذي ينبغي فيه أن يوجه الاهتمام أولا إلي الأزمات الكثيرة التي تعانيها الأمة في هذا العصر. ومع ما لهذا الرأي من وزن واعتبار، إلا أن هذا النوع من البحوث لا ينبغي النظر إليه علي أنه منافا لبحوث قضايا العصر ومشكلاته، بل إنه وباستقرائنا لالتباس فهم المسلمين لهذه المسألة في واقعها التشريعي، والتخبط بتطبيقها في واقعها التاريخي نجد أن لذلك الالتباس ولهذا التخبط آثارا وترسبات عانت الأمة الإسلامية علي مر تاريخها ولا زالت من شرورهما، مما يجعل من قضية الخلافة والإمامة أهم قضايا العصور كلها. فالمسألة ليست مجرد أزمة تاريخية متعلقة بزعامة الناس في عصر من العصور، كالخلاف في الخيار بين شخصي علي وأبي بكر واستحقاقهما للخلافة، ولا هي كانت بسبب ما جري بشأن ميراث فاطمة ولا قميص عثمان أو خروج عائشة، ولا هي لإثبات أو نفي بغي معاوية أو كفر يزيد. فلو كانت أزمة الخلافة المزمنة هي مجرد الخلاف حول هذه المسائل وأمثالها، لكانت فعلا مما عفي عليه الزمان وذلك لإمكانية حصر هذه المسائل الخلافية في ظروفها الزمانية، المكانية، وفصلها عما يخص أي زمان أو مكان آخرين، ولكان الأجدر أن تبحث في دائرتها التاريخية ليس إلا. وأما كون هذه الأزمة هي خلاف حول حقيقة التشريع الإسلامي فيما يخص قيادة المسلمين في كل عصر من العصور قبل أن يكون خلافا حول [ صفحه 190] حوادثه وأشخاصه، فإن البحث حولها سيوضع في دائرة البحوث الدينية ذات الأهمية القصوي لعصرنا هذا. وللتحقق من ذلك، نقدم فيما يلي ما رأيناه من تلك الترسبات والآثار لأزمة الخلافة والإمامة، وهي تسعة بيناها في ثلاثة فصول: الأول: الآثار الأولية وهي: 1 - انحراف الأمة وتعطيل المسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأها النبي صلي الله عليه وآله وسلم. 2 - انتشار ظاهرة الوضع والدس في الحديث. 3 - تقديس الصحابة علي حساب مكانة النبي صلي الله عليه وآله وسلم الثاني: أخطر الآثار وهو 4 - تفتت الأمة وانقسام إسلامها إلي فرق ومذاهب. الثالث: الآثار اللاحقة وهي: 5 - التمويه علي حقائق الأحداث التاريخية وتحريفها. 6 - تطرف بعض العاملين في الميدان الإسلامي. وتخبطهم وجمودهم. 7 - الخنوع والاستسلام لحكام الجور. 9 - شيوع الجهل والتخلف. [ صفحه 191]

الآثار الأولية

انحراف الأمة و تعطيل المسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأها النبي

المنعطف الخطير!

في اللحظات التي كان يفترض أن يتم فيها انتقال الرسالة الإسلامية من مرحلة النبوة إلي مرحلة الخلافة بطريقة تتناسب وعظمة هذه المناسبة، وبكل ما ينبغي أن يعني وداع الأمة لنبيها وقد اشتد به المرض في أيامه الأخيرة، فقد وجدنا بعضا من كبار الصحابة يصفون النبي صلي الله عليه وآله وسلم (بالهجران) وذلك عندما أمرهم بالتهيؤ حتي يكتب لهم لا يضلوا بعده أبدا. وقد كان من رد فعلالنبي لذلك الوصف أن طردهم من مجلسه وهو غاضب عليهم [338] . وبعد هذه الحادثة بيومين يخرج النبي صلي الله عليه آله وسلم معصب الرأس وقد بدي الغضب في وجهه، ولكن هذه المرة بسبب تأخر الصحابة عن المسير في بعثةأسامة وطعنهم بإمارته بحجة لصغر سنه [339] وقد كان واضحا أن السبب الحقيقي لتأخرهم وطعنهم هو حرصهم علي مصير الخلافة في حال رحيل النبي المتوقع أثناء فترة غيابهم عن المدينة المنورة! وبعد ذلك بيومين أيضا، كان يوم الفراق الحزين وحيث كان الجسد الطاهر لا يزال ينتظر أن يوضع لراحته الأخيرة ظهر منهم ذلك التجاوز [ صفحه 192] المأساوي للنصوص الصريحة باستخلاف علي، وتنازعها بدلا من ذلك غالبية المهاجرين والأنصار علي أسس قبلية، وبكل ما أوتوا من أساليب المكر والتهديد معلنين بذلك البداية الرسمية لأزمة مريرة حول خلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإمامة الأمة بعده. فهذه ثلاث مخالفات مؤلمة حدثت في الخمسة أيام الأخيرة للنبي والتي ما كانت لتحدث لولا حرص بعض الصحابة واجتهادهم حول مسألة الزعامة والإمارة، ومما ينذر بما ستؤول إليه أحوال الأمة بعد ذلك.

لماذا الحاجة إلي التغيير والإصلاح؟

إن الفترة القصيرة - نسبيا - التي قضاها النبي صلي الله عليه وآله وسلم مع الصحابة لم تكن كافية لإعدادهم الإعداد الكامل الذي يؤهلهم لحمل الرسالة بأصالتها ونقاوتها إلي الأجيال اللاحقة، وخصوصا إذا كان الأمر متعلقا بإعداد أمة ترسخت فيها القيم الجاهلية، فضلا عن أن غالبية الناس قد أعلنوا إسلامهم في أواخر حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الإسلام ليتمكن في قلوبهم، بل إن أكثرهم تلفظ بالشهادتين استسلاما لأمر أصبح واقعا، إن لم يكن خوفا وطمعا وربما نفاقا. وفي الحقيقة إن تلك المخالفات التي ودع بها الصحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والتي تعد تتويجا للعديد من المواقف الأخري التي خالفوه بها قبل ذلك، إن دلت علي شئ فإنما تدل علي عدم تغلغل الوعي الإيماني والرسالي، والفهم الفعال في النفوس الذي كان من شأنه أن يستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة بصورة نهائية. وغالبية من يعترضون بحدة علي هذا المنطق إنما يرجع اعتراضهم إلي ما حملوه من أفكار مبالغ فيها حول قدسية الصحابة فوق العادية. فهم بنظرهم ممن اصطفاهم الله ورسوله من بين خلقه اصطفاءا، فصيغوا أعظم صياغة، وأعدوا أرفع إعداد ليكونوا وزراء نبيه وحملة الرسالة من بعده، أو كما [ صفحه 193] وصفهم أحد الكتاب المعاصرين بقوله: (.. فإذا سمعت منهم [الصحابة]فكأنك تسمعه من فم النبي صلي الله عليه وآله وسلم) [340] . وعلي كل حال، فإن ذكرنا لمخالفات الصحابة لا يعني إنكار تضحيات الكثير من أجلائهم في مجال الجهاد، وفي سبيل العقيدة، ولكن هذه الأنوار كما يوضح الشهيد السيد / محمد باقر الصدر لم تكن نتيجة وضع معمق تعيشه الأمة في أبعادها الفكرية والنفسية، بل كانت نتيجة طاقة حرارية هائلة اكتسبتها هذه الأمة بإشعاع النبي صلي الله عليه وآله وسلم وكان طبيعيا أن تصبح طاقة الأمة بعده في تناقص مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحرارة تتناقص عنده باستمرار، بخلاف الوعي الذي يستأصلجذور ما قبله، ومن طبيعته الثبات والاستقرار بل التعمق علي مر الزمن [341] . وعلي كل، فمهما كان نوع هذا المحرك، الوعي أو الحماس والعاطفة، فقد استحق من أحسن عملا من الصحابة الثناء من الله جل وعلا بقوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) [التوبة / 100]، وبقوله تعالي: (لقد رضي الله المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [الفتح / 18]. وينبغي الإشارة هنا علي كل حال أن هاتين الآيتين وأمثالهما لا تضمنان الجنة لكل من هاجر وناصر أو بايع تحت الشجرة ما لم يكن ذلك مقرونا بعدم الأحداث والتبديل، ومشروطا بحسن الخاتمة، والدليل علي ذلك قوله تعالي: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) [الفتح / 10] [ صفحه 194] وكذلك قوله صلي الله عليه وآله وسلم في شهداء أحد: (هؤلاء أشهد عليهم. فقال بكر: ألسنا بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال لهالنبي صلي الله عليه وآله وسلم: بلي ولكن لا أدري ما تحدثوا بعدي) [342] . ومثل ذلك قوله: صلي الله عليه وآله وسلم (أنا فرطكم علي الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم. قال الراوي: لسمعته يزيد فيه، قال: إنهم مني (وفيرواية: إنهم أصحابي) [343] فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا (وفي رواية: أحدثوا) [344] بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي) [345] . وفي الحديث الشريف أيضا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وأن الرجلليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة) [346] . وهكذا فإن تلك الطاقة الحرارية وذلك الوعي قد يتفاعلان ويتفقان في كثير من الأحيان في ظواهر مشتركة لدرجة يصعب التفريق بين ما تفعله الأمة انطلاقا من وعي أو مجرد طاقة حرارية مؤقتة. إلا أنه وفي لحظات الانفعال الشديد وعند المنعطفات الحاسمة والمواقف الحرجة من تلك الحقبة الزمنية، كان يتبين بوضوح الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية، وكما يمكن أن يتضح من الأمثلة التالية: 1 - تثاقلهم في الخروج إلي (بدر) وتفضيلهم بدلا من ذلك أسر قافلة أبي سفيان وأخذ ما تحمله العير من بضائع، وقد أنزل الله سبحانه وتعالي بحقهم [ صفحه 195] قوله تعالي: (ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم - لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال / 67 - 68]. ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالي قد عوض تثاقل بعضهم وقلة عدد المقاتلين المخلصين بإنزال الملائكة ليقاتلوا نصرة للحق واستجابة لدعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم عندما تضرع إلي الباري: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم في الأرض، اللهم انجزني ما وعدتني). 2 - مخالفة غالبية الصحابة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم في موقعة أحد، حيث أمرهم بعدم مغادرة مواقعهم (الإستراتيجية) التي عينهم فيها مهما تغير الحال، إلا أنهم تسرعوا بترك تلك المواقع طمعا وحرصا علي جمع الغنائم. مما أدي إلي هزيمة المسلمين. ويروي البخاري في صحيحه: (جعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فيأخراهم، ولم يبق مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا) [347] وفي رواية أخري: (... فإنما كان يوم أحد وانكشف المسلمون. قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم:اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه) [348] . 3 - فزعهم يوم الخندق وخوفهم من مبارزة عمرو: حيث ذعر المسلمون في ذلك اليوم أيما ذعر حينما حوطوا بعشرة آلاف من المشركين، أو كما يصفهم جل وعلا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا - إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت [ صفحه 196] القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا - هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) [الأحزاب / 9 - 11]. وكان من أخطر المواقف التي امتحن بها جموع الصحابة في ذلك اليوم عندما خرج لهم أقوي صناديد قريش عمرو بن ود العامري وتحداهم للمبارزة، وراح يصول ويجول ويتوعد المسلمين ويتفاخر عليهم ببطولته. فلم يجرأ للخروج إليه سوي علي عليه السلام قائلا: أنا له يا رسول الله. ولكن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أجلسه معطيا الفرصة لغيره. وعندما رأي عمرو خوف الصحابة أخذ يوبخ المسلمين ويسخر منهم قائلا: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها، أفلا تبرزون لي رجلا؟ وعندما لم يجبه أحد، كرر علي عليه السلام محاولته للخروج إليه حتي سمح النبي صلي الله عليه وآله وسلم له بذلك: المرة الثالثة وتمكن منه وقتله. وقد استحق علي عليه السلام لذلك قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود أفضل من عمل أمتي يوم القيامة). كما جاء ذلك في: (المستدرك علي الصحيحين للحاكم النيسابوري ج 3 ص 32). 4 - وكان فرارهم يوم (حنين) أخزي وأمر، وقد نزل القرآن يؤنبهم: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - ثم أنزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين) [التوبة / 25 - 26]. 5 - ترك حاضري المسجد من الصحابة - ما عدا اثني عشر منهم - للرسول صلي الله عليه وآله وسلم وهو يخطب يوم الجمعة بعد سماعهم بوصول قافلة من الشام. ويروي البخاري الحادثة عن جابر بن عبد الله كما يلي: (أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم - وفي رواية: بينما نحن نصلي مع النبي إذأقبلت عير تحمل طعاما [349] فثار الناس، وفي رواية: فالتفتوا إليها حتي ما [ صفحه 197] بقي مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم إلا اثني عشر رجلا [350] - فأنزل الله [يؤنبهم]: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومنالتجارة والله خير الرازقين) [الجمعة / 11] [351] . 6 - ظهور العصبية والحمية الجاهلية من بعض الصحابة بحضور النبي صلي الله علي وآله وسلم، حيث يروي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصار: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال: ما بالدعوي جاهلية) [352] وروت عائشة حادثة مشابهة بين الأوس والخزرج والرسول صلي الله عليه وآله وسلم يخطب علي المنبر: (... فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا لكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتيهموا، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم علي المنبر، فنزل فخفضهم حتي سكتوا وسكت) [353] . 7 - استشراء ظاهرة النفاق: والمنافقون هم الذين كانوا يتظاهرون بالإيمان ويخفون الكفر، وقد نزلت سورة التوبة بكاملها لفضحهم. والمنافقون الذين عدهم المؤرخون كانوا أقل بكثير من عددهم الواقعي نظرا لتخفيهم حسب ما يتطلبه نفاقهم بطبيعة الحال وكما في قوله تعالي: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلي عذاب عظيم - وآخرون اعترفوا [ صفحه 198] بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسي الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) [التوبة / 101 - 102]. 8 - فضح القرآن لنفاق الصحابي ثعلبة حيث كان يلح في سؤال النبي صلي الله عليه وآله وسلم ليدعو الله له برزقه بالمال الكثير، فقال له النبي صلي الله عليه وآله وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه. فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فيرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. فرزقه الله ونماه له وعندما طلب منه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم زكاة أمواله بخل ثعلبة وامتنع. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: هلك ثعلبة. ونزل بحقه قوله تعالي: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين - فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون - فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه) [التوبة / 75 - 77]. 9 - فضح القرآن لفسق الصحابي الوليد بن عقبة، والذي ولاه عثمان بن عفان أيام خلافته ولاية الكوفة: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتهم نادمين) [الحجرات / 6]. وهو من الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكلفه النبي صلي الله عليه وآله وسلم جباية صدقات بني المصطلق، ولكنه عندما وصل أطلال هذه القبيلة خاف لسبب من الأسباب، فرجع إلي المدينة دون أن يواجه القوم، وقال للنبي صلي الله عليه وآله وسلم: إن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وكادوا يقتلونني. فغضب النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأرسل لهم جيشا لقتالهم، وكادت أن تقع واقعة كبري لولا أن بني المصطلق علموا بمكيدة ابن عقبة في الوقت المناسب فجاءوا إلي المدينة وبرءوا ساحتهم أمام النبي صلي الله عليه وآله وسلم. فنزلت الآية تفضح أمر الوليد. 10 - وكان من الصحابة أيضا رجلا يدعي حرقوص بن زهير الملقب بذي الثدية، والذي كان يتظاهر بكثرة التعبد والخشوع، فيعجب الصحابة بتنسكه القشري، ولكن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عندما رآه قال أن في وجهه سعفة من الشيطان [ صفحه 199] (وهذا الرجل أصبح فيما بعد رأس فرقة الخوارج المارقين الذين حاربوا الإمام علي أيام خلافته) وكان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بما أعطاه الله جل وعلا من بصيرة يعلم ما سيفعله هذا الرجل فأراد استئصال فساده من حينه، وأمر بقتله. فتطوع أبو بكر للمهمة، إلا أنه عندما وجده يصلي رجع. ثم تطوع عمر لقتله، فلما وصله وجده ساجدا فرجع كسابقه حيث لم يهز عليهما قتل رجل يصلي: فأرسل النبي صلي الله عليه وآله وسلم عليا ليقتله، ولكنه عندماوصل مكان مصلاه لم يدركه [354] ومما يجدر ذكره أن هذا الرجل قد قتل فعلا في موقعة النهروان في عهد خلافة علي، ولكن بعد أن كان من فتنته وفساده ما كان. 11 - ومن الصحابة أيضا من كان يعترض علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم كاعتراض عمر بن الخطاب بشأن صلح الحديبية كما يروي الحادثة مسلم في صحيحه: (قال عمر لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: ألسنا علي حق وهم علي الباطل؟ قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: بلي. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: بلي. قال عمر: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا - وفي رواية البخاري كان قوله صلي الله عليه وآله وسلم: إني رسول اللهولست أعصيه وهو ناصري [355] - فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا، فأتي أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا علي حق وهم علي باطل؟ قال: بلي، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلي. قال عمر: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال أبو بكر: يا ابن الخطاب إنهرسول الله ولن يضيعه الله أبدا) [356] . [ صفحه 200] 12 - ومن ذلك تبرؤ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من فعل خالد بن الوليد عندما أرسله في إحدي البعثات وتسرع بقتل العديد من الأبرياء، من أن بعض مرافقيه قد نبهوه للشبهة التي قتلهم بسببها. وقد حدي قتله لهم لغضب النبي صلي الله عليه وآله وسلم وتبرؤه من فعله عندما قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)مرتين [357] . 13 - ومن الصحابة كان الطلقاء كأبي سفيان الذي لم يدخل الإسلام إلا استسلاما لأمر أصبح واقعا ليس له خيار فيه وقد عبر بنفسه عن مدي تغلغلالإيمان في قلبه بقوله: (أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره) [358] ولكن أين هو من قوله تعالي: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) [هود / 28]!! وأما ابنه معاوية فقد بعث إليه النبي صلي الله عليه وآله وسلم ابن عباس يدعوه ليكتب لهفوجده يأكل - إلي ثلاث مرات - فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (لا أشبع الله بطنه) [359] وفي رواية أخري في صحيح مسلم: قال فيه النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (أما معاوية فصعلوك لامال له) [360] وفي مسند أحمد قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم في معاوية وعمرو بن العاص: (اللهم أركسهما في الفتنة ركسا ودعهما إلي النار دعا) [361] . فهذه الأمثلة وغيرها هي التي جعلت النبي صلي الله عليه وآله وسلم يحذر أصحابه قائلا:(لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) [362] وهي كافية لإثبات عدم تغلغل الوعي الإيماني في نفوس الصحابة للدرجة التي تؤهلهم للصمود أمام الامتحانات والفتن التالية، والتي لا بد وأن تكون أكثر شدة وحرج بعد [ صفحه 201] مفارقتهم لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو مصدر تلك الطاقة الحرارية التي ظهرت آثارها في كثير من تضحياتهم أثناء حياته صلي الله عليه وآله وسلم وبعدها. وعلي كل، فهذه مسألة قد تبدو طبيعية، ولا ينبغي تحميل أولئك أكثر مما يتحملوا، فالمسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأت بذلك الجيل القريب عهدا بالجاهلية - كما بينا سابقا - لا يمكن أن تتم في تلك الفترة القصيرة التي قضاها النبي صلي الله عليه وآله وسلم بينهم، بل أنه يمكن القول أن الكثير من تصرفات ذلك الجيل والتي عرضنا أمثلة منها لم تكن مؤشرا علي وجود انحراف بقدر ما كانت مؤشرا إلي عدم زوال ترسبات الجاهلية بكاملها وعدم اكتمال تربيتهم الإيمانية والرسالية. وقد نشأ اعتراض الكثيرين علي هذا المنطق من افتراضهم أن الاعتراف بنقائص الصحابة ومخالفاتهم يعد اعترافا بفشل النبي صلي الله عليه وآله وسلم ونقصا في رسالة الإسلام. والدليل الحاسم علي الخطأ الفادح الذي وقع فيه أصحاب هذا الافتراض هو أن الله سبحانه وتعالي قد حدد نجاح مهمة النبي صلي الله عليه وآله وسلم بإتمام تبليغ الرسالة ليس إلا، وهذا يظهر بوضوح من قوله تعالي: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) [الشوري / 48]، وقوله تعالي: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) [الأحزاب / 45]، وقوله تعالي: (فإن توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين) [المائدة / 92]، وقوله تعالي: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) [الرعد / 7]. وهذا يفسر ضرورة توفر خلفاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي مواصفات خاصة تؤهلهم بحق لأن يكونوا (هداة) لتستمر علي أيديهم عملية التغيير والإصلاح: (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي) [يونس / 35]. ولكن أني يكون ذلك وقد أبعد هؤلاء الهداة عن مواقعهم التي عينهم الله سبحانه وتعالي لها، واستبدلوا بمن هم ليسوا أهلا لتحمل أعباء مسؤولية كهذه حتي وصل الأمر لأن يتسنم قيادة الأمة من وصفهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم بالطلقاء من المنافقين والقتلة الفجرة! [ صفحه 202]

شواهد علي تدرج الانحراف بعد النبي

ومن الشواهد التي تشير إلي تضاؤل ذلك التوهج العاطفي الحار عند الصحابة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، بل وانطفائه تماما في مواقع عديدة حتي تحول في بعضها إلي سواد وأداة تحاول إطفاء ما تبقي من نور الرسالة: 1 - مجريات السقيفة وكل ما فيها من تبادل الشتائم والتهديد وظهور النعرات القبلية مجددا بين المهاجرين والأنصار من جهة، وبين قبائل كل منهما من جهة أخري، علاوة علي ظهور حب الجاه والزعامة في بعض الصحابة ذوي المكانة والمرتبة. ولو كان تصرف أهل السقيفة إسلاميا وليس قبليا جاهليا لما تخلف علي ومعه ستة عشر من أجلاء الصحابة عن البيعةلقائد الأمة الجديد [363] . 2 - ظهور الغطرسة من جديد في خالد بن الوليد عندما أقدم علي سلوك بعيد كل البعد عن تعاليم دين الإسلام وأخلاقه وإنسانيته، وذلك بقتله للمسلممالك بن نويرة وأصحابه وما فعله بزوجته [364] ، كل ذلك يظهر الطبيعة الجاهلية التي ما زالت مترسخة في نفوس بعضهم، حتي إن عمر بن الخطاب طالب بإقامة حدي القتل والزنا علي خالد والذي زعم بعضهم أنه سيف الله المسلول (!!)، وهو الذي كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد قال فيه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد). 3 - تعيين الخليفة أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان عاملا علي الشام مقابل تأييد بني أمية لخلافته، حيث تم بموجب هذه الاتفاقية كما يذكر المؤرخون أن تكون الشام من حصة آل أبي سفيان علي الدوام، الأمر الذي ألزم الخليفة عمر لاحقا ليس فقط أن يعين معاوية خلفا لأخيه يزيد بعد موته، بل والتهاون [ صفحه 203] معه أيضا، خلافا لشدته وحزمه مع غيره من العمال والولاة. ومما يجدر ذكره أن أبا سفيان كان قد حاول تقديم (خدماته) أولا لعلي عشية صراع السقيفة قائلا له أكثر من مرة: (إن شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجالا ولأسدنها عليهممن أقطارها) [365] ، ولكن الإمام عليا رفض هذا النوع من المساندة، لعلمه أن ما كان يسعي له أبو سفيان هو الدخول إلي دائرة الأضواء وما فيها من نفوذ وسلطة من أي نافذة ممكنة، فضلا عن محاولته إذكاء نار الفتة والصراع بين المسلمين لأنه سيكون المستفيد الأول من ذلك. وعلي كل، فقد وجد أبو سفيان ومن معه من الطلقاء نافذتهم هذه بتعيين ابنه يزيد عاملا علي الشام، فأصبحت هذه البقعة قاعدتهم التي إنطلقوا منها لتحقيق شهوتهم في الحكم وأحلامهم الجاهلية في الزعامة والملك. 4 - وأما الخليفة عمر فقد امتد حزمه وخشونته لدرجة أعطي فيها لنفسه الصلاحية بالاجتهاد في أحكام الشريعة، مع أن بعضها كان علي حساب نصوص الكتاب والسنة. أوليس هو الذي كان يعترض علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية، وبالصلاة علي أحد المنافقين، وخالفه حينما طلب منه أن يستر إسلامه إلي أن ختم شريط حياته مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم بوداعه له قائلا بحقه (إن الرسول يهجر وحسبنا كتاب الله)؟! وهكذا كان، فقد منع تدوين أحاديث النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو حتي التحدث بها، فحرق ما كان قد كتب منها، وسجن عبد الله بن مسعود وضرب أبا هريرة لتحدثهما بها وقال: (... وأخلوا الرواية عن رسول الله... والله لا أشوب كتاب الله بشئ)!. أوليس هو القائل أيضا: (متعتان علي عهد رسول الله وأنا (!) أنهي عنهما) ففي المتعة الأولي (النساء) قال ابنه عبد الله لأحد الناس: (أرأيت أن [ صفحه 204] كان أبي ينهي عنها وصنعها رسول الله، تترك السنة وتتبع قول أبي؟). وفي المتعة الثانية (الحج) قال الإمام علي عليه السلام لعثمان: (ما تريد إلا أن تنهي عن أمر فعله رسول الله... ما كنت لأدع السنة لقول أحد). أوليس هو القائل أيضا بشأن تشريعه لصلاة التراويح: (نعمت البدعةهذه!) [366] . وما فارق الدنيا حتي أجبر الناس علي العمل بكل البدع التي أحدثها أو قل (الاجتهادات) التي أدخلها والمميزة بشدة التعسير والتزمت خلافا لمرونة الشريعة وسماحتها، وجمع كل ذلك إلي ما اجتهده أبو بكر، وسميت مجتمعة سيرة أو سنة الشيخين، وقد أوجب علي المسلمين العمل بها إلي جانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه. بل أنه جعل القبول بهذا التثليث شرطا لكل من يبايع له خليفة بعده. 5 - وهكذا جاء عثمان بن عفان، وهو الصحابي العديم الخبرة والدراية بشؤون السياسة والإدارة، فضلا عن ضعفه بتحمل أعبائهما، وجهله بأحكام الشريعة، وقد بويع له علي يد عبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشوري الذي كان قد عينه عمر قائلا: (أبايع علي كتاب الله وسنة نبيه وسنة الخليفتين من بعده). وليته سار علي سيرة الشيخين، فقد سارت خلافته (غفر الله له) علي سيرة الجاهلية وسننها أكثر من أي سنن أخري، وقد دخل أبناء قبيلته عليه بعد مبايعته مهللين: (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة... ولتصيرن إلي صبيانكم وراثة... فما هناك جنة ولا نار)!!. ثم قام عثمان بعزل فضلاء الصحابة الذين عينهم عمر، وآذي بعضهم شر إيذاء، وعين بدلا منهم أقاربه وبني عشيرته، وقد قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم محذرا: [ صفحه 205] (من ولي من أمور المسلمين شيئا، فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لايقبل منه حرفا ولا عدلا حتي يدخله جهنم) [367] . ويقول المودودي في انتهاكات عثمان: (لا شك أن هذا الجانب من سياسة عثمان (رض) كان خطأ، والخطأ خطأ علي أي حال أيا كان فاعله. أما محاولة إثبات صحته باصطناع الكلام لغوا وعبثا فهو أمر لا يقتضيه العقل ولا يرضاهالإنصاف، كما أن الدين لا يطالبنا بعدم الاعتراف بخطأ صحابي من الصحابة) [368] . 6 - وعندما قام الإمام علي عليه السلام خليفة وأراد أن يحملهم علي الكتاب والسنة الأصيلة، ثاروا عليه وحاربوه حسدا وبغيا. وقد عد المودودي خروج معاوية وعائشة علي الإمام علي مطالبين بدم عثمان من فعل الجاهلية بقوله: (وموقفهما من الناحية القانونية يمكن استصوابه بأي حال الأحوال، فذلك العصر لم يكن عصر النظام القبلي المعهود عن الجاهلية حتي يطالب بدم المقتول فيه من شاء وكيف شاء، ويستخدم فيذلك ما يروق من طرق وأساليب، وإنما كان هناك حكومة) [369] ثم يضيف مؤكدا أن كل ذلك شبيها بالفوضي التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام. فنتج عن خروج عائشة إهراق دم عشرة آلاف مسلم، واضطراب نظام الدولة وعمتها الفوضي، فلعمري أن هذا لا يمكن اعتباره إجراءا شرعيا لا في نظرقانون الله وشرعه فقط، بل حتي في نظر أي قانون من القوانين الدنيوية) [370] . حتي أن أمير الشعراء أحمد شوقي وصف كراهية عائشة للإمام بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية: [ صفحه 206] يا جبلا تأبي الجبال ما حمل ++ ماذا رمت عليك ربة الجمل أثأر عثمان الذي شجاها ++ أم غصة لم ينتزع شجاها ذلك فتق لم يكن بالبال ++ كيد النساء موهن الجبال وإن أم المؤمنين لامرأة ++ وإن تلك الطاهرة المبرأة أخرجها من كنها وسنها ++ ما لم يزل طول المدي من ضغنها ويجز الشيخ محمد الغزالي علي ترسخ وجود مثل تلك الحمية الجاهلية في سلوك معاوية بقوله: (وجمهور الفقهاء والمؤرخين والدعاة يؤكد علي أن علي بن أبي طالب كان إمام حق، وأن معاوية بن أبي سفيان كان يمثل نفسهوعصبيته في خروجه علي علي) [371] . وقد اشتمل مسلسل الانحراف هذا الذي أصاب الأمة من كانوا في صف الإمام علي أيضا، وقد عبر عما أصابه في قلبه تجاههم قبل مفارقته لهم: (قبحكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وأفسدتم عليرأيي بالعصيان والخذلان) [372] . 7 - ثم جاء النظام الأموي وتوسع في العبث بدين الإسلام وترسيخ نمط الحياة الجاهلية، وكانت له اليد الطولي في تدعيم أركان التفرق والتمذهب لأغراض سياسية فمعاوية يعلم أنه أخذ الخلافة بغيا وقهرا من صاحبها الشرعي علي وابنه الحسن من بعده، وقام بتسمية حاشيته ومن وافقه من عامة المسلمين بأهل السنة والجماعة، في الوقت ذات أطلق علي معارضيه من شيعة أهل البيت عليه السلام بالرافضة، ثم جعل سب الإمام علي عليه السلام علي المنابر (سنة) واجبة. فكيف يتصور اعتبار معاوية خليفة شرعيا لرسول الله وبأمره كان يسب الإمام علي ألف منبر بالجمع والأعياد علي طول الدولة الإسلامية وعرضها؟ [ صفحه 207] ولقد بقي تطبيق هذه) السنة) مستمرا زمن الخلفاء الأمويين حتي منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز. 8 - ولقد توج (أمير المؤمنين) يزيد مسلسل الأحداث والتبديل في سنة محمد صلي الله عليه وآله وسلم بإرجاع الأمة تماما إلي ما كانت عليه قبل الإسلام بقتله الإمام الحسين ومن معه من أهل بيت النبي والذين جعل الله سبحانه وتعالي التمسك بهم واتباعهم شرطا للهداية والنجاة. فأين يكون موقع يزيد ومن بايعه أو سكت علي شنيع فعله من شريعة الإسلام؟ ويمكن تلخيص موقف يزيد والحال التي وصلت إليه خلافة المسلمين بأبيات شعرية أنشدها يزيد نفسه: لعبت هاشم بالملك فلا ++ خبر جاء ولا وحي نزل لست من خندق إن لم أنتقم ++ من بني أحمد ما كان فعل!! وبأبياته التي أنشدها عندما جئ بنساء آل البيت سبايا وبرؤوس شهداء كربلاء معلقة علي رؤوس الرماح: لما بدت تلك الحمول وأشرقت ++ تلك الرؤوس علي شفا جيرون نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح ++ فلقد قضيت من الرسول ديوني!! فيا له من إسلام يقتضي فيه الخليفة ديونه من النبي صلي الله عليه وآله وسلم بمعني ثأره لقتل أجداده في بدر بالانتقام من أحفاد النبي (بني أحمد) في كربلاء! 9 - ولم يختلف الوضع كثيرا فيمن جاء من الخلفاء بعد يزيد، فهذا عبد الملك بن مروان عند تسلم الخلافة وكان في يده مصحف فأطبقه قائلا: (هذافراق بيني وبينك! [373] ، وأما ابنه الوليد فإنه قام بتمزيق المصحف الشريف بسهام وذلك عندما حاول استفتاح آياته، وقد خيبت ظنه وفضحت جبروته وعناده كما هو معروف من هذه الحادثة. [ صفحه 208] وهذه الحالة الجاهلية التي عاشها المسلمون في عهود معاوية ويزيد والمروانيين قد امتدت في الحقيقة لتشعل عهود بقية الخلفاء الأمويين ومن جاء بعدهم من الملوك والسلاطين الذين تسنموا منصب الخلافة الإسلامية علي مر تاريخها. ويحلو لبعضهم الدفاع عن هؤلاء الخلفاء بسبب تحقيقهم لفتوحات واسعة في الشرق والغرب ونشر الإسلام في هذه المناطق. ولكننا نسأل: ماذا كان هدف هؤلاء الملوك والسلاطين من تلك الفتوحات؟ فباستثناء القلة القليلة منها لا سيما في بدايتها، فإن الفتوحات كانت تعني عند أولئك الحكام مجرد وسيلة لتوسيع وقعة الملك وتكثير الخراج. وكانت غاياتهم هذه تتضح من حالة البذخ والإسراف في اللهو والملذات التي كانوا يعيشونها، وما ظهر من تأثير ذلك في نشر القيم الفاسدة والمنحرفة بين عامة المسلمين. وحتي ذلك الخليفة - علي سبيل المثال - الذي قيل أنه كان يحج عاما ويغزو عاما، كان (بيوت الحريم) بقصوره العديدة ما لا يقل عن 2000 ألفي جارية جمعها من مختلف أقاليم إمبراطوريته الواسعة، فلو أريد من تلك الفتوحات وجه الله وما يعني ذلك من ضرورة نشر العدالة والقيم الإسلامية، لكان الأولي بالخلفاء أنفسهم أن يجسدوا تلك المعاني والقيم في سلوكهم، وكيف يكون ذلك، وقد كان كثير منهم لا يتواني عن قتل أبيه أو أخيه من أجل الوصول إلي سدة الحكم. فالرشيد مثلا لم يكتف بقتل أخيه الخليفة السابق، بل قام أيضا بحبس الإمام موسي بن جعفر (الكاظم) المستحق الحقيقي لمنصب الخلافة!؟ بل أنه سجن أيضا أبا حنيفة النعمان، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة لمجرد تعاطفه مع أهل البيت عليه السلام ورفضه استلام منصب القضاء في عهده. ويعلق الشهيد سيد قطب بشأن تلك الفتوحات وما جري علي الإسلام علي يد خلفاء المسلمين بقوله: (لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت [ صفحه 209] روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس، ولو قدر لعلي أن ينتصر، لكان انتصاره فوزا لروح الإسلام الحقيقية، الروح الخليقة العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال، ولكن انهزام هذه الروح ولم يمض عليها نصف قرن كامل، وقد قضي عليها فلم تقم لها قائمة بعد - إلا سنوات علي يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج، وبقيت الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية. قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت علي يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت، فإن يهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلكالملك العضوض، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها) [374] . ثم يبدد الشهيد قطب أوهام المتعلقين بأهداب التعصب المذهبي الأعمي في دفاعهم عن معاوية بقوله: (وبعد، فلست (شيعيا) لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنظر إلي المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي بن أبي طالب علي معاوية وعمرو، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة...).

انتشار ظاهرة الوضع والدس في الحديث

العامل الأساسي في تولد هذه الظاهرة

الحديث الموضوع هو الكلام المختلق والمنسوب إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم كذبا وزورا وبهتانا. وبالرغم أنه كانت هناك أسباب ودوافع عديدة لظهور وضع الحديث والكذب علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، إلا أنه لا يهمنا منها هنا سوي العامل السياسي وما يتضمن من اختلافات وصراعات حول زعامة الأمة الإسلامية، وإبراز دوره في التأثير علي هذه الظاهرة. [ صفحه 210] ويتفق جميع من تطرق إلي هذه المسألة أن الدوافع السياسية كانت أخطر أسباب ظهور ظاهرة الوضع، ولكنه من غير المقبول أن يرمي هذا الإثم - كما يزعم بعضهم - علي فئة معينة من المسلمين دون غيرها، وتبرئة الجيل الأول منه براءة تامة وكأنهم كانوا من المعصومين الذين يستحيل عليهم الكذب والخطيئة. فهذا عبد الفتاح أبو غدة علي سبيل المثال يعزي ظهور وضع الحديث إلي الظروف التي رافقت مقتل عثمان حيث (ذرت الفتن قرنها، وبدأت الأهواء تأخذ إلي النفوس الضعيفة طريقها، وظهر في تصرف بعض الناس الذين لم يخطوا بصحبة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ومشاهدته ألوان من التعصب، ودبت الخلافات والتفرقة في الصفوف، وقامت الفرق والمبتدعة بالتحزبوالتأويل) [375] . فهل أن العصر الذي سبق مقتل عثمان وهو عصر الصحابة كان بريئا من هذه الآفة؟ وهل أن من طال به العمر من الصحابة بعد مقتل عثمان لا يحتمل عليه الكذب والوضع؟ وما بيناه من شواهد سابقة فيه إجابة كافية علي هذا التساؤل، فمخالفة الصحابة لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالقول والعمل، أثناء حياته وبعده، وسبهم لبعضهم بعضا، بل وتهديدهم لبعضهم بالقتل، وظهور النزعات القبلية بينهم، وسل السيوف في وجوه بعضهم بعضهم في الجمل وصفين، وما تبع ذلك كله من مآسي فيه ما يفند ذلك الزعم. ومن أمثلة ضلوع المهاجرين والأنصار بوضع الحديث هو رواية كل منهم عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ما يشير إلي علو منزلتهم وخصهم ببعض الامتيازات، فكما أنهم وضعوا الأحاديث في فضل المهاجرين والقرشيين كالذي روي عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (الناس تبع لقريش، وأن هذا الأمر فيهم ما بقي [ صفحه 211] منهم اثنان) [376] . وفي رواية أخري: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) [377] . وعن أبي هريرة: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهملكافرهم) [378] فقام بعض الأنصار في مقابل هذه الروايات بوضع أحاديث في فضلهم ونسبوها إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم. من ذلك: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمنولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) [379] . ومن الأمثلة التي كانت لها علاقة بالصراع السياسي الذي جري بين المهاجرين والأنصار في السقيفة ما جري لسعد بن عبادة زعيم الأنصار، والذي أخرج إلي بلاد الشام (وقيل أنه خرج لكراهته عمر بن الخطاب عندما صار خليفة) حيث قتل هناك بتدبير مدبر. إلا أن قاتليه أشاعوا بأنه قتل علي يد الجن (!) وأذاعوا علي لسان جني أنه قال: (نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده). وبالفعل فقد انتشرت خرافة قتل الجنلسعد، ودونها رجال الحديث والتاريخ فيما دونوه من حوادث ذلك العصر [380] . وقد كان للحكام الأمويين الدور الأكبر في تشجيع وضع الحديث وتزويره، حيث كتب معاوية بعد صلحه مع الحسن بن علي إلي جميع ولاته وعماله: (أن برئت الذمة ممن روي شيئا في فضل أبي تراب (يعني علي)وأهل بيته...) [381] ، فكان من نتيجة ذلك ملاحقة الموالين لأهل البيت وتعذيبهم وتقتيلهم، وفي نفس الوقت أوصي معاوية ولاته وعماله بإكرام من يروون في فضل عثمان وصحبه، والإغداق عليهم. وبالطريقة كان [ صفحه 212] الأمويون يشجعون علي وضع الأحاديث في فضائل عموم الصحابة لا سيما أبا بكر وعمر - كما سنري في موضع لا حق - وذلك لرفع منزلتهم فوق منزلة أهل البيت عليه السلام ويقول ابن عرفة المعروف بنفطويه في هذا الصدد: (إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهمبما يظنون إنهم يرغمون فيه أنوف بني هاشم) [382] . وقد روي أن عبد الله بن الزبير الذي بويع له خليفة في فترة من الفترات مكث أربعين جمعة أيام خلافته يخطب الناس ولا يصلي علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فسئل عن سبب ذلك فأجاب: (إن له أهل سوء إذا ذكرتهشمخوا بآنافهم) [383] . ويقول أحمد أمين في (ضحي الإسلام) مؤكدا هذه الحقيقة: (أن الأمويين قد وضعوا ووضعت لهم أحاديث تخدم سياساتهم من نواحي متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب عثمان إذ كان هو الخليفة الأموي من بين الخلفاء الراشدين وهم به أكثر اتصالا من غيره، مثل حديث: أن عثمان تصدق بثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في جيش العسرة، فنزل النبي صلي الله عليه وآله وسلم عنالمنبر وهو يقول: ما علي عثمان ما عمل بعد هذا اليوم) [384] . ومن الأحاديث التي وضعت في معاوية ولا يزال يذكرها بعض المتعصبين المعاصرين لبني أمية علي أنها صحيحة كعبد المتعال الجبري أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال فيه: (اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به) [385] . [ صفحه 213] (اللهم علمه الكتاب والحساب وقه والعذاب) [386] قال الجبري: ورواة هذا الحديث أكثر من أن يحصوا [387] . (لا تذهب الأيام والليالي حتي تجتمع الأمة علي معاوية) [388] . (أول جيش يغزو مدينة قيصر - يعني القسطنطينية - مغفور لهم) [389] وفي رواية أخري: (أول جيش يغزو الروم مغفور لهم) [390] وهو إشارة إلي الغزوة المزعومة التي أرسلها فيها معاوية ابنه يزيد علي رأسها لغزو القسطنطينية. ولأن أغلب المحققين أكدوا علي أنه لم يصح من الأحاديث التي رويتفي فضائل معاوية شئ سوي أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم دعا عليه ولعنه [391] ، وكذلك قوله صلي الله عليه وآله وسلم فيه: (لا أشبع الله بطنه) [392] ، فقد قام الوضاعون ضمن جهودهم لتبييض صحيفة معاوية وتبرئته مما دعا به الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عليه بنسب الحديث التالي المروي عن أبي هريرة إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (اللهم إنما أنا بشر فأيما رجلمن المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له زكاة ورحمة [393] - وفي رواية أخري: فاجعل ذلك له قربة، وفي رواية ثالثة: كفارة، يوم القيامة) [394] .

ابو هريرة: الراوي الأول!

والحقيقة أن أبا هريرة يعد مثالا صارخا يستحق كل الاهتمام والوقوف علي سيرته لكثرة ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وهو الراوي الأول بلا منازع عند الجمهور [ صفحه 214] العريض من المسلمين: فأول ما ينبغي الإشارة إليه هو اشتهاره بتشيعه لبني أمية في صفين وما بعدها ليس في حمل السيف، وإنما بما أوتي من مهارات بالتلاعب بأحاديث النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو وضع ما شاء تكيفا مع المناسبة والحدث. وإليك خبر ذلك: فهو في البداية يعترف أنه كان يكتم بعض ما قاله النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (حفظت عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته،وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم) [395] فما هي يا تري تلك الأحاديث التي يخشي أبو هريرة روايتها، وممن؟ ومن الطريف في هذه المسألة أن أبا هريرة نفسه كان يقول في عقاب الكاتمين لحديث النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة - يعني أكثر رواية الحديث - ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا - ثم تلي قوله تعالي: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناسفي الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [البقرة / 159]) [396] . وما يجدر ذكره أن أبا هريرة روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم (5374) حديثا ملئت صحاح أهل السنة الستة (أي أكثر بأربعة أضعاف ما رواه الخلفاء الأربعة الأوائل!)، كل ذلك بالرغم أن لم يعاصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم سوي عامين. وأخذ عنه البخاري في صحيحه 446 حديثا. وكان الخليفة عمر هو أول من فزع لكثرة ما روي أبو هريرة، فضربه بالدرة وقال له: (لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرضدوس) [397] ولما سمعه الإمام علي عليه السلام يقول مرة: حدثني خليلي رسول الله! قال له: متي كان النبي خليلك [398] . [ صفحه 215] وإن كان هناك أي نوع من الصحبة من الممكن التحدث بها، فإن أبا هريرة نفسه سببها بقوله: (كنت ألزم النبي لشبع بطني، حتي لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصباء وأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتي إن كانليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شئ فنشتقها فنلعق ما فيها) [399] وقد عبر أبو هريرة عن تقديره لجعفر بن أبي طالب بقوله: (ما احتذي النعال ولا ركبالمطايا ولا ركب الكور بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب) [400] . وبالنظر إلي الغاية التي كان أبو هريرة يلازم من أجلها النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فقد كان من الطبيعي أن يميل إلي مناصرة الأمويين ضد معسكر الإمام علي عليه السلام لما وجده عندهم مما يناسب ميوله وشغفه من الطعام حتي أن كل من الجزار بسر بن أرطأة ومروان بن الحكم قد أناباه علي ولاية المدينة، فتغيرت أحواله من حال إلي حال. ولقد روي عن أيوب بن محمد أنه قال: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتاب؟ لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إلي حجرة عائشة مغشيا علي، فيجئ الجائي فيضع رجله علي عنقي ويري أني مجنون وما بي جنون، ما بي إلا الجوع) [401] . وكان مما قاله أبو هريرة في تقديره لفضائل معاوية عليه: (سمعت رسولالله يقول: إن الله أئتمن علي وحيه ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية) [402] . [ صفحه 216] وقد أكثر أبو هريرة الآخذ عن كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وهما يهوديان أعلنا إسلامهما نفاقا وخداعا للكيد بالإسلام من خلال دس الإسرائيليات في عقول المسلمين وعقائدهم. ويقول الدكتور أحمد أمين: (اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه (وهو فارسي الأصل) وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعا من منابع التضخم) [403] . وكان كعب الأحبار أشهر هؤلاء وأخطرهم، وقد أسلم في عهد الخليفة عمر الذي قربه منه وكان معه في فتح بيت المقدس، وعندما افتضح أمره نهاهعن الحديث قائلا له: (لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة) [404] إلا أنه تحول إلي الشام في عهد عثمان، فاستضافه معاوية هناك وجعله من مستشاريه المقربين لكثرة علمه كما ظن به. ومن هذا الموقع توسع هذا اليهودي المتظاهر بالإسلام من نشر آلاف الأخبار والقصص التوراتية التي حرف معظمها أصلا أو اختلقت فأصبحت من الخرافات والأساطير. وستري أمثلة من ذلك في استعراضنا لبعض روايات أبي هريرة التي ملأت كتب صحاح الحديث والتفسير والتي وثق أصحابها بأمانة هذا الراوي: وتقواه: 1 - ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: (أرسل ملك الموت إلي موسي صلي الله عليه وآله وسلم، فلما جاءه صكه - وفي رواية مسلم في صحيحه: فلطم موسي عين ملك الموت ففقأها - فرجع الملك إلي ربه فقال: أرسلتني إلي عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه وقال إرجع فقل [ صفحه 217] له يضع يده علي متن ثور، فله بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر) [405] . وقد عبر الشيخ المرحوم محمد الغزالي عن استيائه لتزمت شارح هذا الحديث فيأحد المصادر التي رجع إليها وجعله در الحديث إلحادا [406] وإليك كلام الشارح المدافع بإصرار عن صحة الرواية ونوع التبرير والمنقط الذي قدمه: قال المارزي: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكروا تصوره، وقالوا: كيف يجوز علي موسي عليه السلام قد أذن الله تعالي له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانا للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما شاء، ويمتحنهم بما أراد. والثاني: أن هذا علي المجاز، والمراد أن موسي ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة، ويقال: عودت الشئ إذا أدخلت فيه نقصا، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلي الله عليه وآله وسلم: فرد الله عينه، فإن قيل: أراد رد حجته كان بعيدا. والثالث: أن موسي عليه السلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلي فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وتؤيده رواية: صكه، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض. قالوا: وليس في الحديث تصريح أنه تعمد فق ء عينه، فإن قيل: فقد اعترف موسي حين جاءه ثانيا بأنه ملك الموت، فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملكالموت فاستسلم، بخلاف المرة الأولي. والله أعلم [407] . [ صفحه 218] والحقيقة أن الإصرار علي صحة حديث كهذا غير لائق، وليس هناك أي حاجة لكل هذه الحذلقة، وكلمة واحدة كان من الممكن أن تغني عن كل هذا الشرح المطول اليائس، ولكن غالبية علماء أهل السنة لا يجرؤون علي التشكيك بصحة أن حديث أخرجه البخاري في صحيحه، فيضطرون إلي مثل ذلك الاضطراب في التفسير والتبرير، الأمر الذي لا يجلب للإسلام إلا الإساءة والتشويه. ولهذا الحديث أمثال كثيرة، ومما رواها أيضا الراوية الأول أبو هريرة، وهذه بعضها: 2) عن أبي هريرة قال: النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (قال سليمان بن داوود عليه السلام لأطوفن الليلة علي تسعين امرأة كلهن يأتين بفرسان يقاتلون في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل أن شاء الله. فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، فجاءت بشق رجل - وفي رواية أخري: بنصف إنسان - وأيم والله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لحملتكل واحدة منهن بغلام يجاهد فسبيل الله) [408] . ويقول النووي في شرحه لهذا الحديث: (كان لسليمان ستون امرأة وفي روايات أخري سبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومئة. هذا كله ليس بمتعارض لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير، وهو مما خص به الأنبياء صلوات الله تعالي وسلامه عليهم من القوة علي إطاقة هذا في ليلة واحدة، وكان نبينا صلي الله عليه وآله وسلم يطوف علي إحدي عشرة امرأة له في الساعة الواحدة كماثبت في الصحيح، وهذا كله زيادة في القوة، والله أعلم) [409] . 3) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (يقال لجهنم هل امتلأت، وتقولهل من مزيد، فيضع الرب تبارك وتعالي قدمه عليها فتقول: قط قط، أي كفي) [410] . [ صفحه 219] 4) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد، غير عيسي بن مريم، ذهب يطعن، فطعن فيالحجاب) [411] . 5) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم علي صورته طولهستون ذراعا) [412] . 6) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (أنا خير من يونس بن متي فإنهكذب) [413] . 7) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالي كل ليلة إلي السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فاستجيبله؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) [414] . 8) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة فنظر بعضهم إلي بعض، وكان موسي يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسي أن يغتسل معنا إلا أنه أدر - بمعني عظيم الخصيتين - فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه علي حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمع موسي في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتي نظرت بنو إسرائيل إلي موسي فقالوا: والله مابموسي من بأس) [415] . 9) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان لهضراط حتي لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل...) [416] . [ صفحه 220] 10) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (بينما رجل راكب علي بقرة، التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة. قال: آمنت به وأبو بكروعمر) [417] . 11) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلي جانب قصر عمر. فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر ابن الخطاب. فذكرت غيرته فوليت مدبرا. فبكي عمر وقال: أعليك أغار يارسول الله) [418] . 12) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (لو أطلع في بيتأحد ولم تأذن له، حذفته بحصأة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح) [419] . 13) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: لا يمشي أحدكم في نعلواحدة، لينعلهما جميعا أو ليحفهما جميعا) [420] .

ماذا لو صحت هذه الأحاديث؟

نذكر فيما يلي طائفة أخري من الأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم عن غير طريق أبي هريرة، والمستحقة للنظر والتساؤل: 1) عن عائشة قال: (جاءت سهلة بنت سهيل إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، أري في وجه أبي حذيفة من دخول سالم - وهو حليفه أو خادمه - فقال النبي: أرضعيه. قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير - وقد شهدبدرا علي حسب رواية أخري [421] وفي ثالثة كان قولها: أنه ذو لحية [422] . [ صفحه 221] فتبسم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير) [423] وفي ألفاظ أخري قالت عائشة: (فقالت سهلة: أن سالما قد بلغ ما بلغ الرجال وعقل ما عقلوا وأنه يدخل علينا وإني لأظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال لها النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبيحذيفة. فرجعت فقال: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة) [424] . ويقول النووي في شرحه وتبريره لهذا الحديث الغريب الذي أخرجه مسلم في صحيحه تحت باب رضاع الرجل الكبير: (قال القاضي في قوله صلي الله عليه وآله وسلم أرضعيه: لعلها حلبته (!) ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما. وهذا الذي قاله القاضي حسن. ويحتمل أنه عفي عن مسهللحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر، والله أعلم) [425] . 2) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال بشأن اليوم الآخر والوقوف للحساب: (... فيتساقطون (الكفار) حتي يبقي من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا. قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا! فلا يكلمه إلا الأنبياء. فيقول: هل بينكم وبينه آيةتعرفونه بها! فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن) [426] . 3) عن جرير أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (... إنكم سترون ربكم كما ترونهذا القمر، لا تضامون في رؤيته) [427] . [ صفحه 222] ومما يذكر أن عائشة قد استنكرت إمكانية رؤية الله عندما سألها أحد الصحابة قائلا: يا أمتاه، هل رأي محمد ربه؟ فقالت له: لقد قف شعري مماقلت [428] وقرأت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) [الأنعام / 103]. وأما من يتوهم إمكانية رؤية الله من قوله تعالي: (وجوه يومئذ ناضرة ينبغي إلي ربها ناظرة) [القيامة / 22]، فهو تفسير خاطئ، لأن كلمة ناظرة ينبغي تأويلها علي الانتظار وليس هي بمعني النظر، وهذا مثل قوله تعالي: (واسأل القرية التي كنا فيها) [يوسف / 82]، بمعني اسأل أهل القرية. وهكذا ينبغي تأويل كل آية يدل ظاهرها علي أن الله جسما أو يدا أو وجها أو ساقا أو غير ذلك. 4) عن عبد الله بن عمر أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (إذا طلع حاجب الشمسفدعوا الصلاة حتي تبرز... فإنها تطلع بين قرني شيطان) [429] وأما عن غروب الشمس فيروي أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها تذهب حتي تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يؤذن لها، فيقال: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قولهتعالي: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) [يسين / 38]) [430] . 5) وأما فيمن لا يقومون لصلاة الصبح، فقد روي عن عبد الله قال: (ذكر عند النبي صلي الله عليه وآله وسلم رجل فقيل: ما زال نائما حتي أصبح ما قام إليالصلاة. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: بال الشيطان في أذنه) [431] . [ صفحه 223] وأخيرا، بقي أن نذكر أن كل هذه الروايات هي مما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وللمكانة التي يحتلها كتاباهما عند جمهور عريض من المسلمين، فإنه يلزم تعريفا مختصرا بهما: فالشيخ محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر) [432] ويقول أيضا: (خرجت الصحيح من 600 ألف حديث) [433] ويذكر أن عدد الأحاديث المصنفة في كتاب البخاري هذا تراوح 600، 2 حديث، وقد صنفها في مطلع القرن الهجري الثالث. ويقول الشيخ يحيي بن شرف النووي الشارح علي صحيح مسلم: (اتفق العلماء (رحمهم الله) علي أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان:البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما) [434] . وأما الشيخ مسلم بن الحجاج النيسابوري والذي كان معاصرا للشيخ البخاري فقد قال: (صنفت هذا المسند الصحيح من 300 ألف حديثمسموعة) [435] وقد ذكر علماء الحديث أحيانا ما يشبه الأساطير حول تشدد هذين الشيخين في قبول الرواية وتوثيقها، إلي الحد الذي أهلهما ليكونا موضع إعجاب جمهور أهل السنة والجماعة علي مر القرون. وأما كتب الحديث عند الشيعة فالرئيسية منها أربعة هي: الكافي، من لا يحضره الفقيه، الإستبصار، التهذيب. ولكن علماء الشيعة لا يعدون جميع الأحاديث المخرجة في أي من هذه الكتب الصحيحة، بل يقولون إن فيها الغث [ صفحه 224] والسمين، كلها يجب إخضاعها لمقاييس الصحة والتوثيق، ولا يرون بإمكانية وجود أي كتاب يوضع قبال أو عدل لكتاب الله في الصحة والتوثيق. ويقول غالبية علماء الشيعة أن الأحاديث الضعيفة في كتاب الكافي - وهو أشهر كتب الحديث عندهم - أكثر من الأحاديث الصحيحة.

تقديس الصحابة علي حساب عصمة النبي

الغلو المفرط في تقديس الصحابة و أسبابه و نتائجه

لقد كان الزعم القائل بتقوي جميع الصحابة وعلو منزلتهم من بين الأفكار التي عمل الأمويون علي بثها وترسيخها لا سيما في بداية عهدهم، ليس فقط من أجل تفنيد أي نقد للصحابة عموما، أو الخلفاء والولاة منهم علي وجه الخصوص كالتغطية علي بوائق معاوية وعمرو بن العاص علي سبيل المثال، وإنما لإبعاد الأنظار عن تلك الميزة والمنزلة الخاصة التي أعطاها الله ورسوله لأهل البيت صلي الله عليه وآله وسلم بوصفهم المستحقين الحقيقيين لعرش الخلافة الإسلامية. ويقول ابن عرفة المعروف بنفطويه في هذا الصدد: (إن أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة قد افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم، وقد صيغت بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض، وتصب علي كل من سب أحدا منهم أو أتهمه بسوء كما جاء فيما رووه عن أنس بن مالك: (من سب أحدا من أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن عابهم أو أنتقصهم فلا تواكلوه لا تشاربوه ولا تصلوا عليه) وقد جاءت بهذا الأسلوب ولم تفرق بين صحابيوصحابي) [436] . [ صفحه 225] وهكذا شاعت أحاديث الفضائل، وأعطيت الأوصاف والألقاب لهذا وذاك، والتي تناقلها المسلمون عبر الأجيال وكأنها من المسلمات التي لا يمكن أن يتطرق إليها أي شك. ومن ذلك ما زعم أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قال في معاوية كما يشهد ويثبت له البخاري في صحيحه أنه - فقيه! -، وأنه صلي الله عليه وآله وسلم قال في وصف صحابي آخر: سيف الله المسلول، وقيل في ثالث أنه أمين هذه الأمة، وفي رابع أنه جرها، وفي خامس أنه صديقها، وفي سادس أنه فاروقها، وفي سابع أنه ذو النورين، حتي أصبح جميع الصحابة أنوارا كما في الحديث المزعوم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). والصحابي عند جمهور المسلمين كما يصفه علماء أهل السنة هو: (كلمسلم رأي رسول الله ولو لحظة) [437] ويؤكد الشيخ النووي هذا التعريف في شرحه علي صحيح مسلم بقوله: (وهذا هو الصحيح في حده، وهو مذهبابن حنبل والبخاري في صحيحه والمحدثين كافة) [438] بل ذهب بعضهم إعطاء صفة الصحبة للذين لم يروا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ولكن أسلموا فيحياته [439] . وبالنسبة لدرجة المفاضلة بين الصحابة يقول أبو منصور البغدادي: (أفضلهم الخلفاء الأربعة علي الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر ثم أحد ثم بيعة الرضوان، وممن له مزية أهل العقبتينمن الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلي إلي القبلتين) [440] . وبالطبع فإن بعض هذه الدرجات تشمل حتي من اشتهروا بالبغي والفجور [ صفحه 226] كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة كما يذكر القاضي عياض علي سبيل المثال: (وأما معاوية (رضي الله عنه) فهو من العدول الفضلاءوالصحابة النجباء، رضي الله عنه) [441] . علي أن المشكلة ليست في مجرد إعطاء الأوصاف والألقاب ودرجات التفضيل، فلو أن الناس اختلفوا مثلا حول درجة فضل مجموعة أشخاص وتقواهم كسقراط أو بطليموس لما كان الأمر يهم في شئ، لأن ذلك يعد مفضول البحث وترفه. ولكن سبب اهتمامنا بما يخص حقيقة الصحابة وما جري بينهم هو اعتبار عامة المسلمين لهم نموذجا يقتدي به علي مر الأجيال أو كما وصفهم الشهيد سيد قطب في كتابه معالم في الطريق بأنهم (جيل قرآني فريد)، بحيث أصبح من مقتضيات هذه القدسية اعتبار كل ما عمله الصحابة سنة، والوثوق بكل ما قالوه أو نقلوه أو فسروه أو اجتهدوه جزءا من شريعة الإسلام ينبغي الاقتداء به في كل زمان ومكان. وهذا يظهر من تعليق القاضي عياض علي سبيل المثال: (وأما الحروب التي جرت بينهم فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسهم بسببها، وكلهم عدول (رضي الله عنهم)، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شئ من ذلك أحدا منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها. ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم. وأعلم أن سبب تلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم... فكلهم معذورون (رضي الله عنهم)، ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع علي قبول شهاداتهم وروايتهم، وكمالعدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) [442] . [ صفحه 227] ويقول أحد المعاصرين: (عمل الصحابة حجة علي من جاء بعدهم من المجتهدين وغيرهم، ولا يضر اختلافهم في المسائل المجتهد فيها، فلا يقال: إن ذلك يترتب عليه تضارب الحجج، لأن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قال: فيبعض ما روي عنه: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) [443] . وقد وصل التطرف والغلو بقدسية الصحابة إلي درجة تفضيل معاوية (وهو الخليفة غير راشد (!) الذي تلطخت يداه بدماء آلاف الأبرياء، وعلي يديه عادت الحياة الجاهلية بأقبح صورها إلي واقع المسلمين) علي الخليفة عمر بن عبد العزيز والمعتبر من الراشدين، لا لشئ إلا لكون معاوية صحابي وعمر تابعي، بالرغم من كل ما اشتهر به عمر من تقوي وعدل، بحيث تكون مقارنته بمعاوية في واقع الحال كمقارنة ملاك بشيطان! ويظهر هذا التطرف جليا بقول ابن كثير: (إن يوما واحدا من أيام معاويةمع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته!) [444] ، وللشيخ ابن تيمية في هذا الصدد قول أكثر تطرفا. ومن الأحاديث التي وضعت علي لسان النبي صلي الله عليه وآله وسلم لتأكيد هذه المكانة المفتعلة، وترسيخ المعتقدات التي نسجت حولها ما يلي:1 - (إذا أراد الله برجل من أمتي خيرا ألقي حب أصحابي في قلبه) [445] . 2 - الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذانيفقد آذي الله، ومن آذي الله يوشك أن يأخذه) [446] . [ صفحه 228] 3 - (ما شأنكم وشأن أصحابي، ذروا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لوأنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما أدرك مثل عمل أحدهم يوما واحدا) [447] . 4 - (مثل أصحابي مثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح) [448] . 5 - (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم... ثم الذين يلونهم) [449] . 6 - (لا تمس النار مسلما رآني أو رأي من رآني) [450] . ومع أن الرواية الأخيرة تجعل جميع الصحابة والتابعين من المبشرين بالجنة، إلا أن الشيخين أبا بكر وعمر أحيطا بعناية خاصة أكثر من أي صحابي آخر في هذا الصدد، فأصبغت عليهما هالة قدسية فوق العادة، لدرجة الادعاء أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد خصصهما بالذكر بالقول المنسوب: (اقتدوا بالذين منبعدي أبي بكر وعمر) [451] فلو صح هذا الحديث، لكان يعني الشهادة لهما بالعصمة، لأن النبي صلي الله عليه وآله وسلم لن يأمر أمته باتباع أحد بعده علي هذا النحو المطلق ويحتمل ارتكابه لمعصية وإن صغرت. ومن تلك الأحاديث التي وضعت فيهما ما روي عن عمرو بن العاص قال: (سألت النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: منالرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر، فعد رجالا) [452] . وأما الأحاديث التي خصت أبا بكر، فيكفي الإشارة إلي ما زعم أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (لو وضع إيمان أبي بكر في كفة، وإيمان الأمة في كفة، [ صفحه 229] لرجحت كفة أبي بكر) [453] وكذلك قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم المزعوم: (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، ولقد اتخذ اللهعز وجل صاحبكم خليلا) [454] ويقول القاضي عياض في شرحه لهذا الحديث: (قيل أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه. وأما قول أبي هريرة وغيره من الصحابة: سمعت خليلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فلا يخالف هذا، لأن الصحابي يحس في الانقطاع إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم. وقيل أنالخلة هي الاصطفاء، وسمي إبراهيم خليلا لأنه وإلي في الله وعادي فيه) [455] . وأما النووي فقد قال في شرحه لهذا الحديث: (إن حب الله تعالي لم يبق فيقلب أبي بكر موضعا لغيره) [456] بمعني حتي لو كان هذا الغير هو الرسول صلي الله عليه وآله وسلم! وأما عمر بن الخطاب، فقد رفع بواسطة الأحاديث التي وضعت في فضله إلي مرتبة فاق بها سابقه، مما يناقض حديثي الكفة والخليل السابقين، واللذين علي فرض صحتهما ينبغي أن يجعلا من أبي بكر الأعلي مرتبة. وهذه علي كل حال جملة من الأحاديث التي خصت عمر بالفضل ونسبت إلي لسان النبي صلي الله عليه وآله وسلم:1 - قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) [457] وفي رواية أخري: (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) [458] فالنبوة لا يمكن احتمال وضعها في شخص عمر وهناك أبو بكر الأقوي منه إيمانا والأكثر فضلا! [ صفحه 230] 2 - قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيد ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك) [459] قال النووي في تفسيره لهروب الشيطان من مواجهته: لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئا [460] . 3 - قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتيمنهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) [461] وفي رواية أخري: (.. فإن يكن في أمتي منهم فإنه عمر) [462] وقال ابن وهب في تفسير محدثون: ملهمون. 4 - قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (ما أبطأ عني جبريل إلا خشيت أنه ذهب إلي عمر) [463] . 5 - قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (إن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه) [464] . وروي عن ابنه عبد الله قال: (ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، إلا نزلالقرآن علي نحو ما قال عمر) [465] . وعن ابن مسعود أنه قال: (لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع وعلم أحياء الأرض في كفة، لرجح علم عمر بعلمهم، ولقد كانوا يقولون أنهذهب بتسعة أعشار العلم) [466] . ونسب أيضا إلي عبد الله بن عمر أنه قال: (قال عمر: وافقت ربي فيثلاث: في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أساري بدر) [467] وإليك خبر هذه الموافقات الثلاث المزعومة كما نقلها الناقلون: [ صفحه 231] الأولي: (إن عمر أشار علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم قبل نزول القرآن أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلي، فأنزل الله في ذلك قرآنا يتلي: (واتخذوا من مقامإبراهيم مصلي) [البقرة / 125] [468] . الثانية: (أشار عمر علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم أن يأمر نساءه بالحجاب، فأنزل الله تبارك وتعالي: (.. وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب)[الأحزاب / 53]) [469] . الثالثة: (استشار النبي صلي الله عليه وآله وسلم أصحابه في أساري بدر، فكان من رأي عمر أن يقتلوا ولا يؤخذ منهم فداء، ولم يقل أحد بقوله. فنزل قول الله سبحانه وتعالي موافقا لما قال: (ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)[الأنفال / 67]) [470] . ومن هذه الموافقات المزعومة بالإضافة إلي الثلاث السابقة ما ذكره النووي في شرحه لقول عمر (وافقت ربي...): (هذا من أجل مناقب عمر وفضائله رضي الله عنه، وجاء في رواية في الصحيح: اجتمعت نساء النبي في الغيرة، فقال عمر: (عسي ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) [التحريم / 5]. ثم نزل القرآن بذلك. وجاء في الحديث الصحيح موافقة عمر لله في منع النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الصلاة علي المنافقين فنزل قوله تعالي: (ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا) [التوبة / 84]. وعندما كان القرآن يتدرج بتحريم الخمر علي مراحل، طلب عمر أن يبين حكمه بيانا شافيا قطعيا فنزل قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من [ صفحه 232] عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة / 90]. فهذه ست موافقات، وليس في لفظه ما ينفي زيادة الموافقة، والله أعلم) [471] . وفي رواية الصلاة علي المنافقين، فقد وردت موافقة أخري لعمر، حيث كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يستغفر لأحد المنافقين، فقال له عمر: سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم... فنزلت الآية بذلك. وكان مجموع ما ذكره السيوطي من حوادث الموافقات هذه أربع عشرة حادثة. ويقول كاتب معاصر في تعليقه علي هذه الموافقات المزعومة: (وهذا يدل علي أن صوابه أكثر من صواب غيره بشهادة القرآن وذلك ببركة مجالسته للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، فقد تشربت روحه بالتشريع الإلهي حتي أنه قيل عنه أنه يتكلمبروح الشريعة) [472] ومن الواضح أن ضمير الهاء في كلمة غيره لا يشمل بقية الصحابة فقط، وإنما يشمل أيضا النبي صلي الله عليه وآله وسلم نفسه كما يتضح من حادثتي أسري بدر والصلاة علي أحد المنافقين! وعلي كل حال، فإذا كانت هذه هي الصورة التي نقلت إلينا عن مكانة الصحابة وقدسيتهم، لا سيما الخليفة عمر. دعونا نري قبل مناقشة هذه المكانة وتلك الموافقات الصورة التي نقلت إلينا من تلك المصادر والطرق - عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ودرجة قدسيته -:

المس بكمال عصمة النبي و خطورته

اشاره

لقد كان من ضحايا أزمة الخلافة لا أقل من شخص النبي صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، ذلك أنه ومن أجل تبرير مخالفة الصحابة والخلفاء منهم علي وجه الخصوص للنبي صلي الله عليه وآله وسلم في بعض المسائل، فإن وضاعي الحديث ومزوري التاريخ الذين [ صفحه 233] كان منهم وعاظ سلاطين بني أمية، ذهبوا إلي الافتراء بالقول: أن صاحب الرسالة كان يخطئ في المواقع التي ليس فيها تبليغ عن الله من حكم أو آية، بل هو في تلك المواقع لا يختلف عن بقية البشر في شئ، فهو علي رأيهم يتعرض لحالات السهو والنسيان بل لحالات السحر والهذيان (والعياذ بالله) وفيما يلي أمثلة قليلة من هذه الافتراءات:

هجران النبي!

عندما كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم في أحد أيامه الأخيرة، وقد اشتد به المرض، أراد أن يكتب وصيته الأخيرة بحضور ومشهد من أهل بيته وكبار الصحابة. وإليك ما حصل في ذلك اليوم كما يرويه لنا البخاري ومسلم في صحيحيهما بالإسناد إلي ابن عباس قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس - ثم بكي حتي بل دمعه الحصي - اشتد برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وجعه فقال: آتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي. فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه.قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) [473] . وفي رواية أخري، قال ابن عباس: (لما حضر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: هلم أكتب لكم لا تضلون بعده. فقال عمر: إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قال: قوموا. فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما خال بين رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهمذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) [474] . [ صفحه 234] وفي رواية ثالثة، كان قول الراد علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كما جاء في صحيح مسلم: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يهجر) [475] ، وفي رواية رابعة، كان قول الراد علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (.. فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب علي رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم ثم قال عمر: عندنا القرآن حسبنا كتاب الله) [476] ويلاحظ في هذه الرواية الأخيرة أن كلمة يهجر استبدلت بعبارة (معناه أنه الوجع) الأكثر تهذيبا. ويتضح من كل هذه الروايات أن أول من وصف رسول الله صلي الله عليه وآله وسلمبالهجران، والذي يعني في حالة المرض بالهذيان [477] هو عمر بن الخطاب ولكن علماء أهل السنة اعتبروا موقف عمر هذا دليلا علي عظمته وقوة بصيرته! فيقول مثلا يحيي أبو زكريا النووي الشارح لأحاديث صحيح مسلم: (.. وأما كلام عمر رضي الله عنه، فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث علي أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب النبي صلي الله عليه وآله وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، لقوله تعالي (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [الأنعام / 38] وقوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم..) [المائدة / 3]، فعلم عمر أن الله تعالي أكمل دينه، فأمن من الضلال علي الأمة، وأراد الترقية علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فكان عمر أفقه منابن عباس وموافقيه) [478] . ثم يؤكد النووي أن وصف عمر للرسول صلي الله عليه وآله وسلم بالهجران كان في محله بقوله: (إعلم أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ليس معصوما من الأمراض والأسقام العارضة [ صفحه 235] للأجسام ونحوها مما لا نقص لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقدسحر النبي صلي الله عليه وآله وسلم حتي صار يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يكن فعله) [479] . وأما بشأن الكتاب الذي أراد النبي صلي الله عليه وآله وسلم كتابته، فيعلق النووي: (وقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي صلي الله عليه وآله وسلم بكتابته، فقيل: أراد أن ينص علي الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل: أراد كتابا يبين فيه مهمةالأحكام ملخصة ليرفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق علي المنصوص عليه) [480] . ثم ينقل قولا للخطابي فيه المزيد من التبرير لتصرف عمر: (ولا يجوز أن يحمل قول عمر علي أنه توهم الغلط علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم... لكنه لما رأي ما غلب عليه الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم مما يقول به المريض مما لا عزيمة فيه (؟!)، فيجدالمنافقون بذلك سبيلا إلي الكلام في الدين) [481] - إلي قوله: إن أكثر العلماء يجوزون الخطأ علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيما لم ينزل عليه، وأنه كان يسهو في صلاته. وأما بشأن مخالفة عمر للرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فهي من الأمور الصائبة لأنها - عليرأيه - تأتي ضمن الأمور التي قال فيها النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) [482] .

محاولة النبي رمي نفسه من قمة جبل!

وهذه الحادثة المزعومة تعد من أكثر الأمور غرابة، حيث تصف حال النبي صلي الله عليه وآله وسلم عندما تأخر عليه الوحي بعد نزوله عليه أول مرة في غار حراء. وهذا نص ما ذكره البخاري في صحيحه نقلا عن عائشة قالت: (... وفتر الوحي فترة حتي حزن النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرادا كي يتردي من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفي بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدي له [ صفحه 236] جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتفر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروة جبل تبديله جبريل، فقال له مثل ذلك) [483] .

نسيان النبي آيات الكتاب!

روي البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة قالت: (سمع النبي صلي الله عليه وآله وسلم رجلا يقرأ في المسجد، فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذاآية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا) [484] أو حسب رواية أخري: (.. رحمه الله، لقد أذكرني آية كنت أنسيتها) [485] . وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: (قوله صلي الله عليه وآله وسلم كنت أنسيتها دليلعلي جواز النسيان عليه صلي الله عليه وآله وسلم فيما قد بلغه إلي الأمة!) [486] وقال القاضي عياض: (وأما نسيان ما بلغه في هذا الحديث فيجوز) [487] .

غفلة النبي عن أداء الصلاة في وقتها!

فقد روي أصحاب الصحاح عدة حوادث زعم فيها أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم غفل عن أداء بعض الصلوات في أوقاتها، ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم حين قفل من غزوة خيبر.. نام وأصحابه، ولم يستيقظ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتي ضربتهم الشمس، ففزع النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال: أي بلال. فقال بلال: أخذ نفسي الذي أخذ. بأبي أنتوأمي يا رسول الله بنفسك..) [488] . [ صفحه 237] وعن أبي هريرة أيضا قال: (عرسنا مع نبي الله صلي الله عليه وآله وسلم فلم يستيقظ حتي طلعت الشمس، فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذامنزل حضرنا فيه الشيطان، ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلي) [489] . وفي صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله قال: (إن النبي صلي الله عليه وآله وسلم جاء عمر بن الخطاب يوم الخندق فقال: يا رسول الله، والله ما كدت أن أصلي حتي كادت الشمس تغرب، وذلك بعدما أفطر الصائم. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: والله ما صليتها. فنزل النبي صلي الله عليه وآله وسلم إلي بطحان وأنا معه فتوضأ ثم صلي العصربعدما غربت الشمس، ثم صلي بعدها المغرب) [490] . وفيما يتعلق بصلاته صلي الله عليه وآله وسلم، روي البخاري عن أبي هريرة قال: (أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب. فقال لنا: مكانكم. ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إليناورأسه يقطر فكبر فصلينا معه) [491] . ثم يروي أبو هريرة المزيد من سهو النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيقول: (صلي بنا النبي صلي الله عليه وآله وسلم الظهر ركعتين ثم سلم، ثم قام إلي خشبة في مقدمة المسجد، ووضع يديه عليها، وفي القوم يومئذ أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس. فقالوا: يا نبي الله أنسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس ولمأقصر. وكان في القوم رجل يدعي ذا اليدين فقال: بل نسيت يا رسول الله. قال: صدق ذو اليدين) [492] . [ صفحه 238] وعن أنس بن سيرين قال: (تلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام فرأيته يصلي علي حماد، ووجهه إلي يسار القبلة. فقلت له: رأيتك تصلي لغير القبلة. قال: لولا أني رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يفعله لم أفعله) [493] .

هيام النبي بحب عائشة علي حساب عدله مع بقية نسائه

تشير بعض الروايات الواردة في الصحاح أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان متيما جدا بحب عائشة إلي حد العشق والهيام وبصورة غير عادية. فهذا البخاري عن أبي هشام قال: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غدا؟ حرصا علي بيت عائشة. قالت عائشة: فلما كان يوميسكن) [494] وفي رواية صحيح مسلم: (... أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة. قالت عائشة: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري) [495] . وتروي عائشة أيضا: (كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلمتبتغي بذلك رضا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم [496] . وعن عائشة أيضا قالت: (إن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشةيبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم [497] وكانت أم سلمة تغار من ذلك، فقال لها النبي صلي الله عليه وآله وسلم: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزلعلي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) [498] . [ صفحه 239] ثم تقول عائشة في شدة غيرة بقية النساء منها: (أرسل أزواج النبي صلي الله عليه وآله وسلم فاطمة إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت: يا رسول إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة يعني عائشة - فقال لها النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟فقالت: بلي، قال: فأحبي هذه... إنها ابنة أبي بكر) [499] . والحقيقة أن كل هذه الروايات وغيرها الواردة في هذا الصدد تزعم أن سبب عشق النبي صلي الله عليه وآله وسلم لعائشة، وتفضيله إياها علي غيرها من نسائه صلي الله عليه وآله وسلم هو ليس كونها ابنة أبي بكر، وإنما لتميزها عن بقية نسائه صلي الله عليه وآله وسلم بصغر السن والبكارة حين زواجه منها، وبصورة تظهر النبي صلي الله عليه وآله وسلم وكأنه كان رجلا شهوانيا أو ذواقا (والعياذ بالله). وهذه رواية أخري مفتراة كسابقاتها تؤكد هذا الزعم الباطل. فعن أنس بن مالك قال: (كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يدور علي نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدي عشرة. قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا) [500] .

وقوع النبي تحت تأثير السحر!

وهذا الزعم أيضا مما روته عائشة وأخرجه البخاري في صحيحه قالت: (سحر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم حتي أنه يخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله، حتي إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرت يا عائشة، أن [كان]الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟) [501] . وفي رواية أخري، قالت عائشة: (مكث النبي صلي الله عليه وآله وسلم كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي... فقال ذات يوم: يا عائشة، أتاني رجلان فجلس [ صفحه 240] أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، يعني مسعورا. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بنأعصم) [502] وكان الشيخ محمد عبده يستنكر هذه الروايات وأمثالها لتعارضها مع قوله تعالي: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) [الفرقان / 8].

امر النبي الناس بما لا يعلم!

روي رافع بن خديج وعائشة: (قدم نبي الله المدينة وهم يأبرون النخل فقال: ما تصنعون؟ قالوا: يلقحونه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا لصلح - وفي رواية صحيح مسلم كان قوله صلي الله عليه وآله وسلم: ما أظن يغني ذلك شيئا - [503] قال الراوي: فلما أخبروا بذلك تركوه. فخرج النخل شيصا والمعني ظهور فساد رأي النبي صلي الله عليه وآله وسلم - وعندما مر بهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت لنا كذا وكذا. فقال: إن كان ينفعهم ذلك [التلقيح] فليصنعوه، فإني ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني ظننت ظنا فلا تؤاخذني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لنأكذب علي الله عز وجل [504] - وفي رواية أخري كان قوله: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنابشر [505] وفي رواية ثالثة، قال لهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم) [506] .

اعراض النبي عن أعمي لانشغاله مع كفار!

يري كثير من المسلمين أن الآيات الكريمة (عبس وتولي - إن جاءه الأعمي - وما يدريك لعله يزكي - أو يذكر فتنفعه الذكري..) [عبس / 1 - 4] [ صفحه 241] أنها نزلت عتابا للنبي صلي الله عليه وآله وسلم لإعراضه عن عبد الله بن مكتوم - وكان مؤمنا ضريرا جاء يستقري النبي صلي الله عليه وآله وسلم مما علمه الله - وظهور الكراهية في وجهه لقطعه كلامه مع من كان منشغلا بالكلام معهم، وهم سادة كفر قريش كعتبة بن ربيعة وأبي جهل وأمية بن خلف يدعوهم إلي الإيمان بالله ويرجو إسلامهم. وكان سبب ظهور الكراهية في وجهه صلي الله عليه وآله وسلم حسب هذا الزعم قوله صلي الله عليه وآله وسلم في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد أنما أتباعه من العميان والعبيد، فعبس صلي الله عليه وآله وسلم في وجهه وأقبل علي القوم الذين يكلمهم. فنزلت الآيات تعاتبه في ذلك. وكان رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم يكرم ذلك الأعمي إذا رآه ويقول له: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي) [507] . وحقيقة هذه الآيات إنها نزلت استنكارا لرجل من بني أمية كان عند النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فجاءه ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر في نفسه، وعبس وأعرض بوجهه عنه. فأين أخلاق نبينا الكريم صلي الله عليه وآله وسلم من هذا التصرف؟ ومن علماء أهل السنة القلائل الذين نفوا نزول هذه الآيات في النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو فخر الدين الرازي بقوله: (لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لأن يقال أن أهل التفسير قالوا: الخطاب معالرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فإنا نقول: هذه رواية آحاد لا تقبل في هذه المسألة) [508] . ويقول السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان في تفسير القرآن): (وليست الآيات ظاهرة الدلالة علي أن المراد بها هو النبي صلي الله عليه وآله وسلم، بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، بل فيها ما يدل علي أن المعني بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي صلي الله عليه وآله وسلم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدي للأغنياء ويتلهي عن الفقراء لا يشبهأخلاقه الكريمة) [509] . [ صفحه 242]

خطأ النبي في الصلاة علي أحد المنافقين!

وتروي هذه الحادثة كما يلي في صحيح البخاري: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له. فأعطاه قميصه... فجاء [الرسول صلي الله عليه وآله وسلم] ليصلي عليه، فجذبه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي علي المنافقين، فقال [لك] في كتابه: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) [التوبة / 80] قال ابن عمر: فنزلت الآية (ولا تصل علي أحدمنهم مات أبدا ولا تقم علي قبره) [التوبة / 84] قال: فترك الصلاة عليهم) [510] . والحقيقة التي غابت عن عمر في هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالي لم يحرم علي رسوله كما يفهم من الآية (استغفر لهم) الصلاة علي المنافقين، وإنما خيره في ذلك بالرغم أن النتيجة في الحالتين هي عدم غفران الله لهم. وقد اختار الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أن يصلي علي ذلك المنافق لمصلحة وفائدة بالغة توخاها في استئلاف قلوب أبناء قبيلته الخزرج، حيث أسلم منهم بعد صلاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم تلك ألف رجل وبعد تحقق هذه الفائدة، نزل قوله تعالي: (ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا). [التوبة / 84]. ومما يكن من الأمر، فلا بد وأن يكون النبي صلي الله عليه وآله وسلم أعلم الناس بحلال الله وحرامه وأفهمهم لكتابه، ولا يحتمل أن يكون هناك أحد أعلم أو أفهم منه بذلك، وإلا لما كان النبي الذي أرسله الله للناس ليعلمهم الكتاب والحكمة، ولكان الأولي علي الله أن يرسل الآخر بدلا منه (والعياذ بالله). حتي أن عمر نفسه اعترف (بتجرئه) علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بقوله: (فعجبت بعد من جرأتيعلي رسول الله) [511] . [ صفحه 243]

خطأ النبي بأخذ الفداء من أسري بدر!

يري غالبية المسلمين أن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أخطأ عندما قرر الصفح عن أسري بدر وأخذ الفداء منهم مقابل ذلك. ويعتقدون أن الصواب كان في جانب عمر بن الخطاب في اعتراضه علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم والذي كان رأيه قتلهم جميعا. وقد اعتبروا رأي عمر هذا من الكرامات والإلهامات لأنه علي حسب فهمهم نزل قرأنا ليس فقط في تأييد موقفه، بل وعتابا للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، والآيات هي: (ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم - لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال / 68]. وما يوافق هذا التفسير ما أخرجه مسلم في صحيحه بإسناده إلي عمر نفسه قال: (فلما كان من الغد - بعد نزول الآية - فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شئ تبكي أنت وصاحبك.. فقال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: أبكي للذي عرضعلي أصحابك من أخذ الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدني من هذه الشجرة) [512] . وفي رواية أخري، كان قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (إن كاد ليمسنا في خلاف ابنالخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب) [513] . وحقيقة هذه الحادثة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد قرر الصفح عن الأسري لمصلحة وحكمة متوخيا إسلامهم كما حصل فعلا فيما بعد. وأما آية العتاب والعذاب تلك فإنها لم تنزل لتندد أو لتهدد النبي صلي الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله - وأصحابه الذين أيدوه بالصفح عن الأسري وأخذ الفداء، وإنما نزلت قبل حدوث معركة بدر لتندد بالصحابة الذين أرادوا مخالفة رأي النبي صلي الله عليه وآله وسلم في قتال المشركين، وفضلوا بدلا من ذلك الاكتفاء بأخذ العير وما تحمله قافلة أبي سفيان، كما في قوله تعالي: (وإذ يعدكم الله إحدي الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير [ صفحه 244] ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) [الأنفال / 7] وكان النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد استشار أصحابه فقال لهم: إن القوم قد خرجوا علي كل صعب وذلول، فماذا تقولون؟ العير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. وقال بعضهم حين رآه مصرا علي القتال: هلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له؟ إنا خرجنا للعير لا للقتال وهنا نزل قوله تعالي (ما كان لنبي). وكذب من زعم أنه صلي الله عليه وآله وسلم اتخذ الأسري، وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض، فإنه إنما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض وقتل صناديد قريش وطواغيتها كأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد وحنظلة إلي سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الضلال، فكيف يمكن بعد هذا أن تفسر الآية علي أنها عتاب للنبي صلي الله عليه وآله وسلم [514] . وكان من بين أسري بدر العباس عم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وقد أمر النبي صلي الله عليه وآله وسلم الصحابة بعدم التعرض له، أو لأي من أسري بني هاشم بالأذي لأنهم أخرجوا لقتال المسلمين مكرهين. ولكن عمر قام بشد وثاق العباس، حتي أنه كان يود قتله، وكان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم يسمع أنينه وتضوره من الأذي فلا يأتيه النومحتي أطلقه الأنصار [515] ومن المعلوم أن العباس كان ممن تحملوا العذاب مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة والدعوة في مكة، وكان معه عندما حوصروا في الشعب مع بقية أبناء بني هاشم لثلاث سنين، وهو كان من الذين أمرهم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بكتم إسلامهم والبقاء في مكة ليكتب له أخبار قريش وأسرارهم، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم يوم احتدام القتال في بدر: من لقي منكمالعباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها [516] . [ صفحه 245] وأخيرا، نذكر مثال ابن حجر المكي في دفاعه عن معاوية اضطر إلي الطعن، بكمال خلق النبي صلي الله عليه وآله وسلم ورشده. حيث وجدنا ابن حجر يقول في محاولته تبرير دعاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي معاوية (لا أشبع الله بطنه): (ولا نقص علي معاوية في هذا الحديث أصلا... [ثم قدم أعذارا محتملة لمعاوية] وعند هذه الاحتمالات اللائقة بكمال معاوية وفقهه ومكانته، يتعين أن يكون هذا الدعاء عليه هو وليس له بأهل، فيكون له زكاة وأجرا ورحمة، كما قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: اللهم إني أغضب كما يغضب البشر فمن سببته أو لعنته أو دعوت عليه وليس هو أهلا لذلك فاجعل اللهم ذلك له زكاة وأجرا ورحمة... فهذا الحديث من مناقب معاوية الجليلة لأنه بان بما قررته إنهدعاء لمعاوية لا عليه) [517] .

خطورة الشبهة والافتراء و تفنيدهما

أوليس في كل هذه الروايات وغيرها كثير والتي تطعن بعصمة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وكمال خلقه وعلمه ما فيه فتحا واسعا للطعن والسخرية برسالة الإسلام ونبيها؟ فأي دين هذا إذا كان نبيه ومبلغه يتصف بمثل هذه الصفات، وبه مثل ذلك الضعف أمام السحر والغرائز، بل حتي نسيانه آيات الكتاب، وغفلته ونومه عن أداء الفرائض... فلم يعد الأمر متعلقا بمجرد (خطأ) النبي بأمور الدنيا، لأن حفظ آيات الكتاب وأداء الفرائض ليست من أمور الدنيا علي حسب تصنيف من جعلوا النبي صلي الله عليه وآله وسلم معصوما بأمور الدين وتبليغه ليس إلا!. والأدهي من ذلك كله، تصحيح عمر له في أكثر من موقف، حتي أصبح الخليفة وكأنه أعلم وأبعد نظرا من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله. فكيف لنا أن نقبل بتصديق تلك الإلهامات المزعومة لشخص أفني شبابه وغالبية عمره في [ صفحه 246] الجاهلية يعبد الأصنام ويشرب الخمر ويأد البنات، بل هو نفسه كان يعترف بكثرة أخطائه التي أرتكبها بعد إسلامه، وفي نفس الوقت نغفل عن كل تلك الآيات القرآنية الساطعة بكمال رأي النبي صلي الله عليه وآله وسلم وسداده وعصمته في أمور الدين والدنيا، وبراءته من كل نقيصة وذنب مهما صغر، بل وما يقتضيه العقل السليم بضرورة كون مبلغ الرسالة مثالا ورمزا في العلم والخلق! ومن تلك الآيات قوله تعالي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر / 7]، وقوله: (إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين) [الحاقة / 40 - 43]، وقوله سبحانه وتعالي: (إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين - وما صاحبكم بمجنون) [التكوير / 19 - 22]، وقوله تعالي: (ما ضل صاحبكم وما غوي - وما ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحي يوحي - علمه شديد القوي) [النجم / 2 - 5]. فبالرغم من كل هذه الأدلة القطعية علي عدم احتمال فعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو تفوهه إلا بما هو حق وصواب في جميع شؤون الدين والدنيا، ودون أي استثناء، فإنك تجد نفس الذين يصرون علي كمال إلهامات عمر وموافقاته لله في مواقف عديدة اختلف فيها مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم تجدهم يقومون بتأويل بعض الآيات لأخذها ذريعة في إثبات خطأ النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإنكار تمام عصمته، ويصرون علي هذا الرأي أيما إصرار! ومن تلك الآيات قوله تعالي: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا - ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما - وينصرك الله نصرا عزيزا) [الفتح / 1 - 3]. ويرد السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان في تفسير القرآن) حول هذه الشبهة والتي تعد أكبر مستمسك بيد الطاعنين بكمال عصمة النبي صلي الله عليه وآله وسلم بقوله: (ليس المراد بالذنب في هذه الآيات هو الذنب المعروف بمخالفة التكليف الشرعي، ولا المراد بالمغفرة [ صفحه 247] معناها المعروف بترك العقاب علي المخالفة المذكورة. فالذنب في اللغة كما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر علي الشئ... وفي الآيات، فإن المراد بالذنب التبعة السيئة التي كانت لدعوته صلي الله عليه وآله وسلم عند الكفار والمشركين، وهو ذنب له عليهم كما في قول موسي لربه: (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) [الشعراء / 14]. وما تقدم من ذنبه هو ما كان منه صلي الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة، وما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالي لذنبه هو ستره عليه بإبطال تبعتهبإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم) [518] . ويقدم الشيخ جعفر السبحاني ردا آخر لهذه الشبهة بقوله: (إن إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصا في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين، يتضح أن المقصود بالذنب هو الاتهامات والنسب الباطلة التي كان الأعداء يلصقونها به، وأن ذلك الفتح المبين دل علي افتعالها وعدم صحتها منأساسها، ونزه صحيفة حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن تلك النسب) [519] . [ صفحه 248]

اخطر الآثار

تفتت الأمة و انقسام إسلامها إلي فرق و مذاهب

اشاره

لم يكن ضمن تعاليم الشريعة الإلهية حين نزولها ما يجعل من المسلمين مذاهب وفرق متعددة تخاصم وتكفر بعضها بعضا كما حصل علي مر تاريخنا الإسلامي وإلي اليوم، وإنما كان الأمر الإلهي يجمع المسلمين تحت راية واحدة وأن يدينوا بإسلام واحد: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) [الأنبياء / 92]. وكان المسلمون في عهد النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي دين واحد وهو التسليم بما جاء من عقائد التوحيد والنبوة واليوم الآخر وأحكام الدين الضرورية كأحكام الصلاة والصيام وغيرها، وكانوا يرجعون فيما اختلفوا فيه إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم الذي كان عندهم النبي والحاكم والقاضي راضين بذلك ومسلمين، ولم يكن حينئذ لأي أحد الفرصة لمنافسته أو مجرد التفكير بتكوين خط معارض أو بديل. ولكن بعد وفاته صلي الله عليه وآله وسلم مباشرة، وحتي قبل أن يواري جثمانه الطاهر، بدأ النزاع علي الزعامة والحكم، والذي كان في بدايته علي شكل بروز تحزبات وتحالفات سياسية كما حصل في سقيفة الأنصار، ثم تحول إلي صراعات مسلحة وحروب دامية أودت بحياة عشرات الآلاف من المسلمين كما حصل في مواقع الجمل وصفين والنهروان. وبسبب هذه المآسي، وبتشجيع من السلطات بدأت الفرق والمذاهب بالتشكل والظهور، وأخذت تنقسم وتتفرع حتي صارت مع مرور الأيام وتوالي الحكومات تعد بالمئات. وبالرغم من [ صفحه 249] انقراض الغالبية العظمي لهذه الفرق، فإن الأمة لا زالت تدفع الثمن الغالي من جراء التنازع وسوء الظن بين ما تبقي من تلك الفرق. وفي فترات سابقة وصل التعصب بين بعض أتباع المذاهب الأربعة - علي سبيل المثال - حد التكفير، فهذا محمد بن موسي الحنفي قاضي دمشق المتوفي سنة 506 ه يقول: (لو كان لي من الأمر شيئا لأخذت علي الشافعية الجزية). وسئل أحد متعصبي الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ،فقال: يرمي لكلب أو حنفي) [520] . ويروي الشيخ محمد الغزالي في أحد كتبه أنه عاش الزمن الذي كان يدخل المسجد تقام فيه أربع جماعات منفصلة للصلاة حسب المذاهب الأربعة. ووصل الأمر إلي مجال التراشق بوضع الأحاديث علي لسان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم - من ذلك قول الأحناف: (سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي)، ووضع الشافعية قولا نسبوه إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (عالم قريش يملأ طباق الأرض علما) يقصدون بذلك محمد بن إدريس الشافعي - فرد عليهم الأحناف بحديث: (سيكون في أمتي رجل يقال له محمد بنإدريس أضر علي أمتي من إبليس) [521] . ومن أمثلة هذا التعصب في زماننا نكتفي بالفتوي المؤرخة في 12 / 2 / 1412 ه والتي أصدرها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو مجلس الإفتاء السعودي في تحريم أكل ذبائح الشيعة لأنهم برأيه مشركون ومرتدون ويستحقون بذلك القتل؟!. وأمام هذا التعصب المذهبي الأعمي من جهة، وتلك النزاعات وأحيانا الحروب بين المسلمين أنفسهم والمشحونة بالأهواء والنعرات الجاهلية من [ صفحه 250] جهة أخري، يمكننا فهم مغزي النبي المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم من تحذيره للصحابة وعموم الأمة في كل عصر من مغبة الوقوع في الفتن والنزاع بعده بقوله لهم:(لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) [522] . وفيما يلي نلقي نظرة في حال أمهات الفرق الإسلامية والتي كانت ولادتها وتشكلها من نتاج أزمة الخلافة والإمامة، وهي أربة: 1) أهل السنة والجماعة 2) الشيعة 3) المعتزلة 4) الخوارج

اهل السنة والجماعة

نشوء الفرقة و تطورها

إن المفهوم السائد في أذهان عموم أهل السنة أن الإسلام الصحيح هو المتمثل بما هم عليه وحدهم، وأن غيرهم من الفرق الإسلامية إما ضالة ومنحرفة أو خارجة عن الملة، وقليلون من علماء أهل السنة من يعطوا الفرق الإسلامية الأخري أهمية البحث والدراسة. ولماذا يعطوا ذلك الاهتمام ما داموا يرون أن لقب (أهل السنة والجماعة) يعني أنهم وحدهم أتباع السنة النبوية وأبناء الفرقة الناجية؟ أما إذا أردنا أن ننظر إلي هذه المسألة بصورة موضوعية، فالاسم وحده لا يكفي لتمييز فرقة علي أخري وتفضيلها، والاقتداء بسنة النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو عنوان تقول به الفرق الإسلامية الأخري كالشيعة والمعتزلة وحتي الخوارج. فكل هذه الفرق توجب التمسك بالسنة النبوية وتقديسها. فكيف إذن احتكر أهل السنة والجماعة هذا الوصف دون غيرهم من الفرق؟ [ صفحه 251] أن لقب (أهل السنة) كان ابتداء وصفا لمجموعة من العلماء المشتغلين بتدوين الأحاديث النبوية، والذين عرف منهجهم في تحصيل العقائد والأحكام من ظواهر الروايات باسم (فرقة أهل الحديث) التي ظهرت في عهد الأمويين. ولأن موضوع الأحاديث هو السنة النبوية فإن كلمة السنة أصبحت تستخدم أحيانا بديلا لكلمة الحديث. وكما يظهر في رسالة لعمر بن عبد العزيز يرد فيها علي القدرية قال فيها: (... وقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة...، وقول عمر بن الخطاب: إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة إلا بضلالة ركبها حسبها هدي...). فمن الواضح هنا أن من يشير إليهم عمر بن عبد العزيز بوصف أهل السنة هم مدونو السنة النبوية وليس أيفرقة أو طائفة وإلا لما فرق بين قول عمر بن الخطاب وقول أهل السنة [523] . ومن المعلوم أن تدوين الأحاديث النبوية لم يبدأ إلا في مطلع القرن الثاني الهجري بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز، حيث كان التدوين ممنوعا في عهود من قبله. وعندما برز الإمام أحمد بن حنبل وتصدر العمل في تدوين العقائد والمعارف المأخوذة من تلك الأحاديث في مطلع القرن الثالث الهجري، أخذ يوسع استخدام لقب (أهل السنة) والذي كان مخصوصا بالعلماء مدوني السنة النبوية، ليشمل أيضا الأتباع المقلدين لمذهبه والعوام المؤيدين لمنهج أهل الحديث. وبهذا يكون أحمد بن حنبل قد احتكر اسم أهل السنة ليكون عنوانا خاصا لبعض المسلمين دون غيرهم من أهل القبلة. ويذكر أحد المحققين المعاصرين أن أحمد بن حنبل قام بذلك ليوحدآراء أهل الحديث التي كانت مختلفة ومشتتة قبله في مجال العقائد [524] ، ويقدم شاهدا علي ذلك من كتاب تدريب الراوي للسيوطي، يكشف فيه عن وجود [ صفحه 252] الاتجاهات المتعددة والمتناقضة عندهم، وجاء إمام الحنابلة ليوحدهم ويقضي علي الفاسد من آرائهم ومذاهبهم. فهم كانوا كما يصف السيوطي بينمرجئة ونواصب وشيعة وقدرية وجهمية وخوارج وواقفية وغير ذلك [525] . وهناك رأي ثان حول أصل تسمية أهل السنة والجماعة، حيث يذكر الحاكم أنه لما أمر معاوية بلعن الإمام علي عليه السلام علي المنابر زعم أن ذلك سنة يثاب فاعلها، وسمي ذلك العام (عام السنة). ولما قتل علي عليه السلام وأصلح الحسن عليه السلام مع معاوية، واستقر الأمر للأمويين، قام معاويةبتسمية ذلك العام (عام الجماعة) [526] ، تمشيا علي ما يبدو مع الحديث الذي وضع خصيصا لهذه المناسبة والذي يصف الفرقة الناجية: (... وواحدة في الجنة وهي الجماعة). فأصبح كل من يعتقد بإمامة معاوية يقول نحن (أهل السنة والجماعة)، ومن الواضح أن المراد بهم ليس أتباع سنة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ولا الجماعة الناجية. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رأي ثالث في منشأ التسمية والمذهب يقول فيه: (فلفظ أهل السنة يراد به من إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة (يقصد أبو بكر وعمر وعثمان)، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة (يقصد الشيعة)، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالي، ويقول أن القرآن غير مخلوق، وأن الله يري في الآخرة،ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل والحديث) [527] . ولا أري تناقضا بين هذه الآراء الثلاثة حول أصل تسمية فرقة أهل السنة والجماعة ونشوئها. فالتفسيران اللذان قدمهما ابن تيمية يمكن توفيقهما مع [ صفحه 253] الرأيين الأول والثاني. فقوله أن أهل السنة تعني من اعتقد بخلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل ينسجم مع ما نسب إلي معاوية في الرأي الثاني. فمعاوية لم يكن يعمل فقط علي ترسيخ فكرة أفضلية الثلاثة الأوائل وإثبات أحقيتهم بالخلافة، وإنما قام بمحاربة الخليفة الرابع وعمل بكل ما أوتي من سلطات علي التقليل من فضائل أهل البيت عليه السلام ورفع غيرهم من الصحابة، وتجاوز ذلك إلي حد أمره لخطباء المسلمين بسب الإمام علي عليه السلام علي المنابر واعتبار ذلك سنة. وأما قول ابن تيمية أن أهل السنة يراد بها أهل الحديث والسنة المحضة، فإنه ينسجم مع الرأي الأول والذي أعطي فيه لقب أهل السنة لمعتنقي العقائد والمعارف التي استخرجها ودونها رجال الحديث. وبناء علي ما سبق فإن نشوء فرقة أهل السنة ينظر إليها من ناحيتين: الأولي متعلقة بالخلافة ببعدها السياسي البحت، والثانية متعلقة بالعقائد والأحكام. فأما من الناحية السياسية، فقد وقع بشأنها أول خلاف بين المسلمين بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وذلك في سقيفة بني ساعدة عندما تنازع الإمارة المهاجرون والأنصار، وقاطع علي عليه السلام ومن معه من الهاشميين وبعض الصحابة نزاعهم ومن ثم اتفاقهم لأنهم كانوا يرون أن عليا كان أحق بالخلافةممن تنازعوا عليها، وبقوا علي رفضهم لمبايعة أبي بكر لستة شهور [528] . وهكذا يمكن اعتبار أن ولادة فرقة أهل السنة كانت في السقيفة وإن لم يظهر من معالمها المميزة آنذاك سوي الخط السياسي، حيث كان يعرف الأتباع من تأييدهم لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ثم نما وترعرع هذا الخط في عهد الأمويين بحيث كانت تظهر السلطة الحاكمة كممثل ومدافع عن خلافة الثلاثة، وناقمة بل ومقطعة لرؤوس الموالين لعلي وأهل البيت والقائلين بأفضليتهم. [ صفحه 254] وأما من ناحية العقائد والأحكام، فقد كان ظهور أهل السنة والجماعة كفرقة إسلامية لها عقائدها المميزة ومدرستها الفكرية والفقهية المستقلة والواضحة المعالم علي يد جماعة أهل الحديث في أواخر العصر الأموي، ثم تبلورت ونضجت زمن الإمام أحمد بن حنبل في مطلع القرن الثالث الهجري. ولكن لا بد من الملاحظة هنا أن ابن حنبل ومن قبله أهل الحديث قد استندوا فيما ذهبوا إليه من عقائد وأحكام بصورة كبيرة علي (اجتهادات) الخليفة عمر وآلاف الأحاديث التي رواها الصحابة معتبرين صحتها جميعا، مما يظهر تأثرهم وارتباطهم الوثيق بالخط السياسي، والذي تولد نتيجة لصراعات وتنازعات تدخلت فيها الأهواء، بل وسالت بسببها بحار من الدماء، الأمر الذي يضع كثيرا من تلك العقائد والأحكام في محل الشك والارتياب.

انقسام الفرقة وتشعبها

كان لتوسع الدولة الإسلامية وتباعد البلدان واختلافها في العادات والمشاكل السائدة في بيئاتها أكبر الأثر في ظهور حركة الاجتهاد وبألوان متعددة يمكن إجمالها بمنهجين رئيسيين في معرفة العقائد الإسلامية واستنباط الأحكام الشرعية: أحدهما يكثر فيه الرأي والقياس (بمعني كثرة استخدام العقل) في المواضع التي لا تعطي فيها النصوص الشرعية الوضوح والتفصيل الكافيين لمعرفة الأحكام، وثانيهما يغلب عليه التمسك الصارم بالرواية وعدم الخروج عن حدود ألفاظ النص وظاهرها مهما كلف الأمر، ولا يأخذ بالعقل كأسلوب في تحصيل المعارف والأحكام. وهذان المنهجان (أهل الحديث وأهل الرأي أو النقلي والعقلي) تطورا علي شكل مدرستين لكل منهما علماؤها ومنظروها مما ساعد علي ظهور الفرق الكلامية أو المذاهب العقائدية والمذاهب الفقهية.

الفرق الكلامية (المذاهب العقائدية)

اشاره

شهدت أواخر خلافة الإمام علي عليه السلام وبداية العصر الأموي أول ظهور للفرق الكلامية (وعلم الكلام هو العلم الذي يدور حول عقيدة التوحيد بآراء [ صفحه 255] فلسفية) وذلك من جراء الحوادث التي ألمت بالأمة ابتدأ بمقتل عثمان ومعارك الجمل وصفين وقتل المعارضين لبني أمية وغيرها، حيث كانت تدور المجادلات في مسائل المصير الأخروي لمرتكب الكبيرة والقضاء والقدر كالمعركة التي حصلت مثلا في صفين، هل كانت بقضاء الله وإرادته المفروضة علي الناس أم كانت بفعل الذين شاركوا فيها وبكامل اختيارهم، وما هو حكم قادتها والمسلمين الذين ذهبوا ضحيتها. وقد كانت تتشكل المذاهب العقائدية تبعا لآراء أصحابها تجاه هذه المسائل. ومن هذه الفرق التي حسبت تاريخيا من تشعبات أهل السنة ما يلي:

المرجئة

وهم الذين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ويرون تقديم الإيمان وإرجاء العمل. ويقولون أن المعرفة والاعتقاد القلبي كافيان للفوز بالجنة والسعادة الأخروية، حتي لو لم يصلواويصوموا [529] وأول ما أطلق هذا الاسم علي الذين اجتمعوا مع معاوية بعد مقتل الإمام علي عليه السلام، وسموا المرجئة لأنهم والوا المتنازعين جميعا في الجمل وصفين، وقالوا: أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهربالإيمان، ورجوا لهم جميعا المغفرة [530] . ويري المؤرخون أن هذه الفرقة نشأت أساسا بإيعاز ودعم من الحكم الأموي، فحكمت بمشروعية حكمهم، وتركت الحكم فيما اقترفوه من الأحداث الجسام إلي الله تعالي، فهو الذي يحكم بين عباده بالحق يوم القيامة، والمسلم يكفي أن يكون مسلما، وليس لأحد أن يخوض في أعمالهمأو يحكم عليهم بشئ من عنده [531] . [ صفحه 256] ويقول الخليفة المأمون: (أن الإرجاء دين الملوك) [532] وقد كان واضحا أن هذه الفرقة كانت فعلا أحد أجهزة السلطة الأموية آنذاك، ثم تحول فكر المرجئة كأداة للسلطات الحاكمة في كل العصور لتبرير سياسة الحاكمين والحيلولة دون نقدها في حالة مخالفتها لأحكام الشريعة.

المجبرة

وهم الذين قالوا أن العبد مجبر علي ما هو فيه من طاعة أو معصية، ويسمون أيضا بالقدرية لقولهم أن كل حادث حسنا كان أو قبيحا هو بقضاء الله وقدره. وهم الذين وقفوا مع معاوية في حربه ضد الإمام علي عليه السلام، وقالواأن كل ما حصل بينهما كان بقضاء الله وقدره ولا ذنب لهما فيه [533] . وهذا معاوية نفسه يقول في إحدي خطبه: (أن الله يقول: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر / 2] فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال: إنا لا نلومك علي ما في خزائن الله، ولكن نلومك علي ماأنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه يا معاوية) [534] وأما الحجاج، فقد قال بعد أن قتل رجلا لإظهاره حب الإمام علي عليه السلام: اللهم أنت قتلتهولو شئت لمنعتني منه [535] . وهكذا فإن بني أمية - كما يذكر المؤرخون - كانوا يركزون علي مسألة الجبر لتبرير سلوكهم ومظالمهم ضد المسلمين ليكونوا معذورين، فقتلوا معبد الجهني (علي يد الحجاج سنة 80 هجرية)، وغيلان الدمشقي (علي يدهشام بن عبد الملك سنة 106 هجرية) لقولهما بحرية الإرادة [536] . [ صفحه 257] وقد انقسمت الجبرية إلي قسمين: متوسطة وهي التي تثبت للعبد كسبا في الفعل كالأشعرية، وخالصة لا تثبت للعبد أي فعل كالجهمية والنجاريةوالضرارية، وبهذا يلزمهم نفي التكليف الذي أوجبه الشرع [537] .

اهل الحديث

وتشكلت هذه الفرقة أساسا من الذين عملوا علي جمع الأحاديث تدوينها في القرن الثاني الهجري، وبنوا عقائدهم وأحكامهم بالاعتماد الكلي علي ظواهر الآيات والروايات التي رواها الصحابة والتابعون الأوائل عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ويحرمون تأويلها، فكثر فيهم من يقولون بأن الله جسم ينتقل ويحرك أعضاءه كاليد والرجل والوجه. وهم يحرمون المناظرات الكلامية أو المناقشات الفلسفية المتعلقة مثلا بالقضاء والقدر أو التطرق بالحديث عن خلافات الصحابة ومواقع كالجمل وصفين وكربلاء. وهم بذلك عملوا علي إعدام العقل في مجال التعامل مع الأحاديث والعقائد المأخوذة منها، أو أي قضية حصل حولها الجدال. وقد كانت فرقة أهل الحديث تمثل الغالبية العظمي لأهل السنة زمن الأمويين وبداية العصر العباسي، وكانت علي أقسام حسب درجة تعامل أصحابها مع الأحاديث لا سيما فيما يتعلق بتحقيق الأسانيد والرواة، فكان منهم ممن عرفوا بلقب (الحشوية) لأنهم كانوا يحشون الروايات التي لا أصل لها ويقبلونها علي علاتها دون أي تحقيق. وكان الإمام أحمد بن حنبل (160 - 241 هجرية) أشهر رجال الحديث المحققين حيث عمل علي تنظيم الأحاديث المروية وتوحيد العقائد (السنية)،والتي يمكن إجمال أهمها في النقاط التالية حسب ما جاء في رسالة له [538] . [ صفحه 258] في صفات الله جل وعلا: الله تعالي سميع وبصير وجواد وحليم وحفيظ ويقظان وقريب ويتكلم ويسمع وينظر ويبصر ويضحك ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضي ويغضب ويسخط ويرحم ويعفو ويعطي ويمنع وينزل إلي السماء الدنيا كيف يشاء، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل يقلبهما كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق الله عز وجل آدم بيده، والسماوات والأرض يوم القيامة في كفه، ويخرج قوما من النار بيده. في الاستواء علي العرش: خلق الله سبع سماوات، وسبع أراضين، والماء فوق السماء السابعة وعرش الرحمن تبارك وتعالي فوق الماء، والله عز وجل علي العرش. في رؤية الله جل وعلا: ينظر أهل الجنة إلي وجهه، ويرونه فيكرمهم ويتجلي لهم فيعطيهم، ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين، ويتولي حسابهم بنفسه، لا يولي ذلك غيره. في القرآن الكريم: هو كلام الله، ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. في القضاء والقدر: الله عز وجل قضي قضاءه علي عباده، لا يجاوزون قضاءه، بل كلهم صائرون إلي ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عز وجل. ومن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين عصوا الخير والطاعة، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله عز وجل. فأي افتراء علي الله أكبر من هذا؟ ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء الله، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر علي أن يأكل رزق غيره. ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر الله عز وجل، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله. في الخلافة: الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم ولا تقر بغيرهم إلي قيام الساعة. [ صفحه 259] في الصحابة وما شجر بينهم: ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أو واحدا منهم، فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير هذه الأمة بعد نبيها صلي الله عليه وآله وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم، خلفاء راشدون مهديون. ثم أصحاب محمد صلي الله عليه وآله وسلم بعد هؤلاء الأربعة، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن علي أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب علي السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتبه فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وجلده في المجلس حتي يتوب ويراجع. في الفرق والمذاهب الأخري: الكف عن أهل القبلة، ولا نكفر أحدا منهم بذنب ولا نخرجهم عن الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث فيروي كما جاء. وبقيت هذه العقائد علي مر العصور وليومنا هذا ممثلة لعقائد أهل السنة والجماعة ولكن بإضافة بعض (التعديلات والإصلاحات) التي أدخلها الأشاعرة والسلفية فيما بعد.

الاشاعرة

ومؤسس هذه الفرقة هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260 - 324 هجرية) الذي ينحدر من نسل الصحابي أبي موسي الأشعري أحد الحكمين يوم صفين. وقد كان تلميذا عند أحد مشاهير المعتزلة وهو الشيخ أبو علي الجباني قبل انشقاقه عنهم وإعلانه براءته من الاعتزال، وذلك بمقولته الشهيرة في المسجد الجامع بالبصرة يوم جمعة حيث نادي أمام الناس بأعلي صوته: (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يري بالأبصار وأن أفعالالشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد علي المعتزلة) [539] . [ صفحه 260] ثم أعلن الأشعري اعتناقه لعقائد أهل الحديث كمبدء جديد له حيث قال: (قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلي الله عليه وآله وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة أهل الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعينوزيغ الزائغين، وشك الشاكين) [540] . وقد أصبح للأشعري أتباع عندما أدخل علي معتقدات فرقة أهل الحديث تعديلات وإصلاحات بإضافة العنصر العقلي في البرهان والإثبات، ذلك أن أهل الحديث كانوا يحرمون الخوض في العقائد الإسلامية عن طريق تقديم الأدلة العقلية والبراهين الفلسفية، ويكتفون بالمعاني الظاهرية للنصوص حتي لو خالفت المنطق والعقل، وهم بذلك علي عكس المنهج الاعتزالي الذي يعطي العقل الوزن الأكبر في إثبات العقائد، وتأويل الآيات والروايات في حال مخالفة معانيها الظاهرية للمنطق العقلي. وقد لاقت إصلاحات الأشعري قبول عامة الناس والسلطة الحاكمة حتي أصبح مذهب الأشاعرة المذهب الرسمي للدولة العباسية وطغي علي المذاهب الاعتقادية الأخري. ومن أمثلة هذه الإصلاحات تنزيه الله سبحانه وتعالي عن كونه جسما بالصورة التي يعتقدها أهل الحديث، فبالرغم من أن الأشعري لم يؤول الآيات والأحاديث التي يقول ظاهرها بأن لله يدا ورجلا واستواء علي العرش، إلا أنه أضاف كلمة خاصة أخرجته من مغبة التجسيم والتشبيه وهي أن لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه ولا تكييف، وقال: النزول صفة من صفاته، [ صفحه 261] والاستواء صفة من صفاته، وفعل من أفعاله في العرش يسمي الاستواء [541] . وبشأن رؤية الله قال: يري من غير حلول ولا حدود ولا تكييف [542] . ومن إصلاحاته في فهم القضاء والقدر، فإنه لما كان قول أهل الحديث بأن الله سبحانه وتعالي هو الخالق لأفعال العباد خيرها وشرها يعني أن الإنسان مجبور في أفعاله ولا معني عندئذ للحساب والعقاب، فإن الأشعري حاول أن يعالجه بالقول أن الله سبحانه وتعالي هو الخالق للفعل، ولكن العبد هو الكاسب له. ويقصد بذلك أن كل فعل صادر من الإنسان يشتمل علي جهتين: جهة الخلق وجهة الكسب، فالخلق والإيجاد منه سبحانه وتعالي، والاكتساب من الإنسان. وفي الحقيقة أن هذا التلاعب بالألفاظ لم يصلح من الأمر شيئا، وقد عد الأشعري من القائلين بالجبر أيضا لاعترافه بأن الله هو خالق فعل العبد خيره وشره، حيث أن (الكسب) الذي قال فيه لن يغير في شئ أصبح مخلوقا. وبالرغم من أن الإمام الأشعري تبني إلي حد كبير عقائد أهل الحديث وكان مناصرا لهم، إلا أنه لقي منهم، لا سيما الحنابلة التحامل عليه، وعلي أتباعه من بعده التنكيل والنفي والقتل لأنه اتبع أسلوب الوسط بين المعتزلة وأهل الحديث، واتهموه بالتأثر بمذهب الاعتزال لمجرد محاولته إقحام العقلفي مسائل العقيدة [543] . ولما جاء دور الخليفة العباسي القادر سنة 508 هجرية [544] ، تدخل رسميا لإنهاء النزاع كله، وجمع أهل الحديث وأنصارهم من الأشاعرة لوضع كتاب خاص للعقائد. وانتشر منذ ذلك الحين مذهب الأشاعرة بشكل واسع بين جمهور أهل السنة وأصبح التقليد في العقائد مرفوضا من قبل السلطة. [ صفحه 262] وقد انشقت عن الأشاعرة فرقة الماتريدية وهي نسبة إلي أبي منصور الماتريدي السمرقندي المتوفي سنة 322 هجرية، وكان أحد تلامذة الإمام أبو الحسن الأشعري. ولم تختلف مع الأشاعرة إلا باختلافات طفيفة كان فيها ميلا نحو المعتزلة. وقد انقرضت هذه الفرقة مع الأيام.

السلفية والوهابية

فأما السلفية فهي حركة ظهرت في أواخر القرن السابع الهجري علي يد أحمد بن تيمية كرد فعل علي الإصلاحات العقلية التي أدخلها الإمام الأشعري علي عقائد أهل الحديث، واعتبر ابن تيمية، والذي كان من فقهاء الحنابلة أن تلك الإصلاحات خروجا عن السنة، فعمل علي إحياء عقائد أهل الحديث مستنكرا التأويلات التي قدمها الأشاعرة للأحاديث التي أخذت منها تلك العقائد. وأطلق ابن تيمية علي طريقته عنوان (منهاج السلف الصالح)، فعرفت دعوته بالسلفية لأنه كان يدعو إلي العودة إلي سيرة السلف الصالح والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وآله وسلم والتي - علي رأيه - حاد عنها الأشاعرة والفرق الأخري، ولم يقف عند هذا الحد، بل عمل علي إظهار عقائد جديدة لم يناد بها ابن حنبل ولا أحد قبله، كقوله بأن السفر لزيارة قبر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والاحتفال بمولده الشريف والتبرك بآثاره والتوسل به وبأهل بيته وزيارة القبور بدعا وشركا ومخالفة لعقيدة التوحيد، وأنكر كثيرا من الفضائل الواردة في أهل البيت عليه السلام المروية في الصحاح والمسانيد. وبسبب هذه التعديلات والإضافات، فقد عد ابن تيمية عند أتباعه مجددا عظيما ولقبوه بشيخ الإسلام. ولكن دعوته علي مستوي الأمة لم تلاق القبول وبقيت محصورة في مناطق محدودة من الشام ومصر، وقد تصدي للرد عليه فقهاء ومحققو أهل السنة والفرق الأخري، وسجن في مصر لسنة ونصف لإدانته بالتجسيم والتشبيه، ثم سجن ثانية في دمشق حيث أدركته المنية هناك عام 728 هجرية. وما لبثت دعوته أن خبت وضعفت بعد حقبة قصيرة من الزمن. [ صفحه 263] وأما الوهابية، فهي حركة ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري علي يد محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206 هجرية)، وعملت علي إحياء ونشر الفكر السلفي لابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية في الجزيرة العربية، والذي تسرب لاحقا إلي بلاد إسلامية أخري. وكان ابن عبد الوهاب أكثر حدة وتعصبا من ابن تيمية، حيث قام بتكفير عامة المسلمين ممن ليسوا علي طريقته، بدعوي الشرك وعدم إخلاص التوحيد لله، ودعا إلي إزالة ما يرونه بدعا بقوة السيف. ومن ذلك تهديمهم لآثار أهل البيت النبوي في مكة والمدينة. وقامت قبيلة آل سعود باستغلال هذا الفكر المتطرف فأعلنوا اعتناقهم لمذهب السلفية، وشكلوا تحالفا مع حركة ابن عبد الوهاب مما ساعدهم علي احتلال معظم أجزاء الجزيرة العربية، والتي أنشأوا فيها لاحقا وبالتعاون مع بريطانيا ما يعرف اليوم باسم المملكة العربية السعودية. وبعد أن كانت هذه الحركة محصورة في بدايتها ضمن نطاق الجزيرة العربية، إلا أنها أصبحت اليوم وبفضل إمكانيات الدولة السعودية تتمتع بامتدادات واسعة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. وبالرغم من أن الوهابيين يطرحون حركتهم كحركة إصلاحية، إلا أن علماء المسلمين من أهل السنة قبل غيرهم قد تصدوا للرد علي ابن عبد الوهاب وتفنيد عقائده وأفكاره ومن ضمنهم أخيه سليمان بن عبد الوهاب في كتابه (الصواعق الإلهية). وفيما يلي نذكر عينات من أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية وأقواله التي تعد الركن الأساس في فهم العقائد الإسلامية وطرحها علي الطريقة السلفية والوهابية: ففي مجموعة رسائله (الحموية) في العقيدة يقول ابن تيمية: أن جميع النصوص تدل علي أن الله فوق العرش في أعلي السماء، وأنه يمكن الإشارة إلي جهته بالأصابع، وأنه يري يوم القيامة، وأن الله يضحك، وإذا أنكر أحد [ صفحه 264] وجود الله علي العرش في أعالي السماوات وجب حمله علي التوبة، وإذا لم يتب وجب ضرب عنقه، ويقول أيضا: أن التأويلات التي وردت بهذا الشأن مثل تأويل الآية (الرحمن علي العرش استوي) [طه / 5] بمعني استولي، هو تأويل باطل. وبالرغم أن ابن تيمية طعن بمن يقولون بالتجسيم صراحة، وضعف الأحاديث التي يستندون عليها، إلا أنه يؤكد أن لله جوارح كاليد والعينوالوجه والأصابع والرجل ولكن ليس كجوارح المخلوقات [545] . وأما فيما يتعلق بمواقفه من أهل البيت عليه السلام وأعدائهم الأمويين، فإنه يقول في ذكره لحروب الإمام علي عليه السلام: (وعلي (رض) لم يكن قتاله يوم الجمل وصفين بأمر من النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإنما كان رأيا له، وهو الذي ابتدأ أهل صفين بالقتال، وعلي إنما قاتل الناس علي طاعته، لا علي طاعة الله). ويضيف قائلا: (فمن قدح في معاوية بأنه كان باغيا، قال له النواصب: وعلي أيضا كان باغيا ظالما قاتل المسلمين علي إمارته وصال عليهم. فمن قتل النفوس علي طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد، وهذا حال فرعون، وليس هذا كقتال أبي بكر الصديق للمرتدين ومانعي الزكاة، فالصديق إنما قاتلهم علي طاعة الله ورسوله، لا علي طاعته، فإن الزكاة فرض فقاتلهم عليالإقرار بها، بخلاف من قاتل ليطاع هو) [546] . وأما في معاوية ابن أبي سفيان، فإنه يقول: (فلم يكن ملك من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية)، ثم ذكر روايتين الأولي تصف معاوية أنه فقيه، والثانية علي لسان أبي الدرداء بقوله: ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسولالله صلي الله عليه وآله وسلم من إمامكم هذا، يعني معاوية [547] . [ صفحه 265] وهكذا فقد عرف ابن تيمية بدفاعه الصريح عن أعداء أهل البيت صلي الله عليه وآله وسلم وبكل ما أوتي من قدرة علي الجدال والالتفاف حول الكلمات والعبارات، ومختلقا لهم الأعذار ومبررا عداءهم لأهل البيت عليه السلام. ومن ذلك دفاعه عن يزيد بقوله: وما يدريك لعله تاب قبل موته. وقد صنف كتابا أسماه (فضائل معاوية وأنه لا يسب).

المذاهب الفقهية السنية

اشاره

ظهر في تاريخ أهل السنة مذاهب فقهية عديدة انقرض غالبيتها، ولم يبق منها إلا أربعة وأما المذاهب المنقرضة، فهذه لمحة عن أشهر أصحابها:

المذاهب المنقرضة

1 - الليث بن سعد (92 - 175 هجرية): وهو فقيه مصر، وقد برز هناك عندما تصدي للدفاع عن عثمان بن عفان لكثرة انتقاص أهل مصر له. وقال فيه الشافعي: الليث أفقه من مالك. ويقال أن سبب انقراض مذهبه هو عدم قبوله منصب القضاء في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي. 2 - داوود بن علي الظاهري (202 - 270 هجرية): ولد بالكوفة، ونشأ ببغداد واستمر العمر بمذهبه حتي القرن السابع الهجري حتي أن بعضهم عدهرابع الأئمة بدلا من الإمام أحمد بن حنبل [548] . 3 - عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (المتوفي سنة 257 هجرية): وقد انتشر هذا المذهب في الشام والأندلس، وبقي هناك لغاية 302 هجرية قبل أن يحل مكانه مذهب الإمام الشافعي. 4 - سفيان الثوري (65 - 161 هجرية): ولد في الكوفة، وكان أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وله مذهب لم يدم العمل به لقلة أتباعه، وأراد الخليفة أبو جعفر المنصور قتله، فهرب. وبقي مذهبه معمولا به لغاية القرن الرابع. وقد لقب بأمير المؤمنين [ صفحه 266] في الحديث وسيد الحفاظ، وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ كانسفيان الثوري أفضلهم. وقال القطان: الثوري أحب إلي من مالك [549] . 5 - الحسن البصري (المتوفي سنة 110 هجرية): وهو من التابعين وكان أبوه مولي لزيد بن ثابت الأنصاري، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وآله وسلم. عرف عنه أنه كان من المتظاهرين بتأييد سياسة بني أمية في الوقت الذي كان في حقيقة الأمر مواليا لأهل البيت عليه السلام، وكان يروي في مجلسه المشهور عن علي بن أبي طالب عليه السلام. وكان هذا نادرا في عصر كان فيه لعن الإمام علي عليه السلام سنة حسب التشريع الأموي. 6 - عامر بن شرحبيل الشعبي (المتوفي سنة 105 هجرية): كان قاضيا لعمر بن عبد العزيز ومحدث أهل الكوفة، وكان يفتي علي ما صح عنده من الرواية، ولا يقول برأيه. وكان هناك من المذاهب الفقهية غير هؤلاء حتي أنها عدت 50 مذهبا لميعد لأي منها وجود [550] وكان السبب الرئيسي لانقراضها هو الأمر الرسمي الذي أصدره الخليفة العباسي المنتصر بالله في القرن السادس الهجري بإغلاقباب الاجتهاد وحصر التقليد في المذاهب الفقهية الأربعة [551] ، الأمر الذي لا يزال كذلك إلي يومنا هذا فيما بقي باب الاجتهاد مفتوحا لدي الشيعة.

المذاهب الأربعة

1) المذهب الحنفي: وصاحب الإمام أبو حنيفة النعمان (80 - 150 هجرية)، ولد في الكوفة وتوفي في بغداد وأصله فارسي. وكان يعتبر فقيه العراقوصاحب المذهب المتبع في أكثر البلدان الإسلامية، ولقب بالإمام الأعظم [552] . [ صفحه 267] وكان الإمام أبو حنيفة يستنبط فقهه من القرآن الكريم وما صح عنده من الحديث مع توسع في استعمال الرأي والقياس. وقد تلقي الدرس لمدة سنتين عند الإمام جعفر الصادق حيث اشتهر عنه قوله في مدح الإمام: (لولا السنتان لهلك النعمان). وكان أقوي عوامل انتشار مذهبه هو استلام تلميذه أبو يوسف لمنصب رئاسة القضاء في حكومة هارون الرشيد والذي كان مقربا جدا من الخليفة. ومن أشهر رجال الخليفة محمد الشيباني وزفر بن الهذيل والحسن اللؤلؤي. وقد ألف الشيباني عدة كتب فقهية لها درجة الاعتبار الأكبر عند الحنفية، وله آراء كثيرة خالف فيها الإمام أبو حنيفة. وفي العصور اللاحقة، تبنت الدولة العثمانية المذهب الحنفي ودعمته بكل قوة حتي صار مذهبها الرسمي، وساعدت علي انتشاره وذلك بسبب عدم اشتراط الحنفية في الخليفة أن يكون قرشيا. 2) المذهب المالكي: وصاحبه الإمام مالك بن أنس (39 - 179 هجرية) المولود في المدينة وهو يمني الأصل. وقد تلقي العلم عن الشيخ ربيعة الرأي والإمام جعفر الصادق عليه السلام. وكان يستنبط الأحكام بصورة رئيسة وموسعة علي القرآن والسنة، ولم يكن للرأي والقياس عنده بالمكانة نفسها التي كانت عند الحنفية، وله كتاب (الموطأ) أورد فيه الكثير من الأحاديث النبوية. وقد حاول الخلفاء العباسيون الذين سبقوا الرشيد تبني مذهب مالك والعمل علي نشره، حتي أن المنصور طلب من مالك نشر مذهبه بالقوة للحيلولة دون انتشار مذهب الإمام الصادق والذي بلغت مدرسته الفقهية آنذاك أوجها، إلا أن مالك رفض طلب الخليفة ثم حاول الرشيد فعل ذلك مجددا خلال سنوات حكمه الأولي حين كان يعلن: (لا يفتي إلا مالك). وكان انتشار مذهبه علي أيدي القضاة والأمراء في الأندلس وشمال إفريقيا حيث حل مذهبي الأوزاعي والظاهري اللذين كانا سائدين هناك. ولا زال المذهب المالكي المذهب الرئيسي في بلاد المغرب العربي. [ صفحه 268] وأهم دعاة المذهب هم: القاضي أبو بكر العربي وابن عبد البر القرطبيوالقاضي عياض السبتي وأبو الوليد الباجي وابن القطان الفاسي [553] . 3) المذهب الشافعي: وصاحبه محمد بن إدريس الشافعي (150 - 204 هجرية) المولود في غزة، وقد انتشر مذهبه أولا في مصر ثم صار له أتباع في العراق وخراسان وشمال إفريقيا والأندلس. وهو يتميز من بين المذاهب الأربعة بتنظيمه علي أصول موضوعة وقواعد ثابتة ومضبوطة ضبطا دقيقا،والمذهب بجملته وسط بين أهل الرأي وأهل الحديث [554] وقد كان للدولة الأيوبية في مصر بقيادة صلاح الدين العامل الأقوي في نشر مذهبه هناك حيث منع تدريس المذهب الشيعي في الجامع الأزهر الذي أسسه الفاطميون، واستبدل بتدريس مذاهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك،وبني لهم المدارس ورغب الناس فيها [555] . ومن أشهر رجال الشافعية أبو حامد الغزالي وأبو بكر أحمد بن الحسين والبيهقي. 4) المذهب الحنبلي: وصاحبه الإمام أحمد بن حنبل (164 - 241 هجرية) المولود في بغداد، وهو آخر المذاهب الأربعة وأقلها أتباعا. وقد كان ابن حنبل في رأي العلماء القدماء - كابن جرير وابن قتيبة والمقدسي وابن عبدالبر - من رجال الحديث لا من الفقهاء [556] وقال فيه ابن خلدون: فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليلون لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدةالرواية بعضها ببعض [557] وما يشهد علي ذلك أنه لم يكتب أي كتاب في الفقه، وإنما اشتهر بكتابه المعروف بمسند أحمد والذي يحوي علي أربعين [ صفحه 269] ألف حديث. وله أيضا كتب أخري كطاعة الرسول، الناسخ والمنسوخ، والعلل. وقد كاد هذا المذهب - لقلة أتباعه - أن يضمحل بالتدريج لولا تولي عبد الله الحجازي القضاء عام 738 هجرية. ومن أشهر رجال الحنابلة الذين قاموا بنشر المذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية. وفي العصور المتأخرة محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية الذي قام بنشر المذهب الحنبلي في نجد.

الشيعة

نشوء التشيع

يري علماء أن فكرة الولاء لأهل البيت عليه السلام، واستخلاف النبي صلي الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام إنما هي من جوهر العقيدة الإسلامية قام بوضع بذرتها الأولي رسول الإسلام صلي الله عليه وآله وسلم، وإنه عمل علي تعزيز هذه الفكرة بأكثر من موقف حتي أعلنها رسميا بعد حجة الوداع في مكان يدعي غدير خم وبصورة واضحة وصريحة لا تحتمل أي معني آخر. ويقدمون لذلك أدلة من القرآن الكريم وكتب صحاح الحديث عند أهل السنة، ويرون أيضا أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو أول من أعطي اسم شيعة لقبا لأتباع علي عليه السلام والموالين لأهل البيت وذلك عندما قال مشيرا إلي علي بشأن الآية (أولئك هم خير البرية) [البينة / 7]: (والذي نفسي بيده أنهذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة) [558] ولكن ابن حجر قال في تعليقه علي هذه الرواية التي ذكرها في كتابه دون أن يشكك في صحتها: (وشيعته هم أهل السنة ولا تتوهم الشيعة قبحهم الله... إلي آخر ماقال [559] . [ صفحه 270] ويري البعض الباحثين أن التشيع كتكتل وخط واضح قد بدأ في اليوم الأول من وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عندما ظهر اسم علي عليه السلام كمرشح للخلافة وكأحق شخص بها، حيث قام الفضل بن العباس فخطب في الناس المجتمعين في السقيفة قائلا: يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافةبالتمويه، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا (يعني علي) أولي بها منكم [560] . ويري آخرون أن أول تشيع حول علي وأهل بيته عليه السلام كان عندما اجتمع عدد بارز من الصحابة في بيت علي وفاطمة بنت النبي صلي الله عليه وآله وسلم يوم انعقادالسقيفة [561] ويحدثنا اليعقوبي عن ذلك بقوله: (وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي ومنهم العباس والفضل بن العباس والزبير وخالد بن سعيد والمقداد وسلمان وأبو ذر وعمار والبراء وأبي بنكعب) [562] ويقول أحمد أمين: (وكانت البذرة الأولي للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم أن أهل بيته أولي الناس أنيخلفوه) [563] . ولكن هناك باحثون آخرون يرون أن التشيع كان وليد الأحداث التي حصلت زمن الخليفة عثمان بن عفان، وآخرون يرون ذلك زمن استلام الإمام علي عليه السلام للخلافة والأحداث التي تلت لا سيما معارك الجمل وصفين والنهروان. ويعزي آخرون التشيع إلي الأحداث التي تمخضت عنها مأساة كربلاء. وما يلفت الانتباه أن بعضهم ذهب إلي نسب التشيع إلي جذور يهودية من خلال رجل يهودي يدعي عبد الله بن سبأ الذي تظاهر بدخول الإسلام زمن خلافة عثمان، ثم تنقل بين البلدان الإسلامية يبث بينهم أفكارا [ صفحه 271] ضالة يدور محورها حول الوصاية لعلي بن أبي طالب بالخلافة [564] ، وهناك من المستشرقين من ينسب التشيع إلي جذور فارسية [565] .

الانحراف عن الخط الشيعي

إن الشيعة لا يرون أن كل من وإلي الإمام علي عليه السلام وفضله علي غيره من الضروري أن يكون من الشيعة أو حتي من المسلمين، فقد انتسبت إلي التشيع فرق ضالة كثيرة عدها كتاب الفرق من فرق الشيعة كالمغيرية والخطابية والبزيغية والعلباوية والمخمسة وغيرها من فرق الغلاة والمفوضة، غير أن أئمة أهل البيت عليه السلام برؤوا منهم ولعنوهم وأفتوا بكفرهم وخروجهم عن الإسلام وقد اندثر أكثر هذه الفرق مع الأيام في حين استمر خط التشيع بنقائه وأصالته المعهودة يكافح كفاحا علميا ضد انحراف تلك الفرق وغيرها منالفرق الضالة التي ولدت في البيئة الإسلامية [566] . وسنعرف في ما يأتي بهذا الخط الذي سمعي بمذهب الإمامية الاثني عشرية لاعتقاده بإمامة اثني عشر إماما من سادة أهل البيت عليه السلام، وسمي كذلك بالمذهب الجعفري نسبة إلي الإمام جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة أهل البيت عليه السلام، لما أظهر من العلم والفقه، كما نسبت المذاهب الفقهية إليأصحابها، كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والزيدي... الخ [567] .

الامامية الاثني عشرية

وهم الشيعة القائلون بإمامة الأئمة الاثني عشر، وهم: علي والحسن والحسين، وعلي بن الحسين (زين العابدين)، ومحمد بن علي (الباقر)، وجعفر بن محمد (الصادق)، وموسي بن جعفر (الكاظم)، وعلي بن موسي [ صفحه 272] (الرضا)، ومحمد بن علي (الجواد)، وعلي بن محمد (الهادي)، والحسن بن علي (العسكري)، ومحمد بن الحسن (المهدي المنتظر) عليهم السلام. وعندما تذكر كلمة الشيعة مجردة، فإنما يقصد بها هذه الفرقة الإمامية الاثني عشرية والتي يمثل أتباعها الغالبية العظمي للشيعة في أيامنا، ويقيمون كأغلبية ساحقة في كل من إيران والبحرين وآذربيجان، ويشكلون ثلثي سكان العراق وأكثر من نصف مسلمي لبنان، وما يقارب ثلث السكان في السعودية والكويت والباكستان، وما لا يقل عن ربع مسلمي الهند بالإضافة إلي أقليات متوزعة في مختلف ربوع العالم الإسلامي.

اصول العقائد عند الإمامية الاثني عشرية

وتسمي عندهم بأصول الدين وهي خمسة: 1 - التوحيد: وهو الاعتقاد بوحدانيته في الألوهية، وعدم اتخاذ شريك له في الربوبية واليقين بأنه المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة. فمن اعتقد أن شيئا من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة بيد غير الله تعالي فهو كافر ومشرك، وكذا يجب إخرص الطاعة والعبادة لله. وأما طاعة الأنبياء والأئمة والتبرك والتوسل إلي الله بمنزلتهم وكرامتهم عنده فهو جائز وليس من العبادة في شئ. ومن مقتضيات التوحيد الإيمان باستحالة رؤيته جل وعلا حسيا في الدنيا أو في الآخرة، وتنزيهه سبحانه وتعالي عن التجسيم والتشبيه. فالصفات الواردة في الكتاب والسنة كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها تؤول ولا تؤخذ علي ظاهرها. فمثلا الآية: (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) [المائدة / 64] تؤول علي أن الله سبحانه وتعالي كريم قادر علي البذل وبرئ من البخل. 2 - النبوة: بمعني أن جميع الأنبياء رسل من الله سبحانه وتعالي بعثوا لدعوة الخلق الحق، وأن محمدا صلي الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين [ صفحه 273] وأفضل الخلق أجمعين، وأنه معصوم من الخطأ في أمور الدين والدنيا، وأنه لم يرتكب معصية طيلة عمره الشريف قبل البعثة وبعدها، ومن اعتقد النبوة أو نزول كتاب لأحد بعده فهو كافر مرتد. ومن مقتضيات النبوة الإيمان بأن القرآن الكريم الموجود في أيدي المسلمين اليوم هو الكتاب الذي أنزله الله تعالي علي رسوله وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة. 3 - المعاد: بمعني أن الله سبحانه وتعالي يعيد الخلائق بعد موتهم ويحييهم بأجسادهم وأرواحهم يوم القيامة للحساب، والإيمان بوجود الجنة والنار ونعيم البرزخ وعذابه والميزان والصراط والأعراف والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وغير ذلك من التفاصيل. 4 - العدل: بمعني استحالة ظلم الله سبحانه وتعالي لأحد من الخلق أو فعله لشئ يستقبحه العقل السليم. ومن مقتضيات العدل الإيمان بأن الإنسان هو الخالق لأفعاله بإذن الله سبحانه وتعالي، وإلا لما كان للعبد أي دور فيها، ومن الظلم محاسبته عليها، ومعني ذلك أن الإنسان هو مصدر أفعاله ولكن بقدرة مكتسبة من الله عز وجل، والإنسان بهذه القدرة المكتسبة مخير بفعل الحسن أو اقتراف القبيح. 5 - الإمامة: بمعني أنها منصب إلهي يختاره الله تعالي بسابق علمه بعباده كما يختار الأنبياء، وأنه سبحانه وتعالي لا يخلي الأرض من نبي أو وصي ظاهر مشهور أو غائب مستور، وأن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قد أوصي لعلي، وعلي أوصي للحسن، وهكذا إلي الإمام الثاني عشر. ومن مقتضيات الإمامة الإيمان بعصمة الأئمة من الذنوب والأخطاء كعصمة الأنبياء وذلك لأن الإمامة تعتبر استمرارا لوظيفة النبوة من حيث حفظ الرسالة وصيانتها من التحريف وتعليمها للناس، وبذلك فالإمام يملأ الفراغات التي يتركها النبي جميعها. [ صفحه 274]

المذاهب الفقهية عند الإمامية الاثني عشرية

الفقه عند الشيعة هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، وتسمي هذه الأحكام بفروع الدين، والعالم بها هو الفقيه ويقال له المجتهد أو المرجع، ويجوز للعوام تقليده. وقد اشتهرت فرقة الإمامية الاثني عشرية بلقب الجعفرية باعتبار أن مذهبهم الفقهي أخذ عن الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام أكثر مما أخذ عن غيره، إن كانت عندهم مرتبة الأخذ عن الإمام الصادق هي نفسها عن أي من الأئمة الاثني عشر. وأما سبب كثرة أخذهم عن الإمام الصادق فهو لأن عصره كان في أواخر الدولة الأموية وقد بدأت بالضعف، وبداية الدولة العباسية ولم يكن قد بدأ فيها التعصب والعداء لأهل البيت عليه السلام، فكان للأئمة شئ من الحرية مكنهم من رواية الأحاديث ونشر المذهب. وهكذا أصبحت كلمة (الجعفرية) تستخدم كلقب للمذهب الفقهي عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وليس بالضرورة أن يكون المقلد علي هذا المذهب معتقدا بالعقائد الشيعية، فالفوارق الفقهية بين المذهب الجعفري والمذاهب الأربعة عند أهل السنة يوجد ما يقابلها من فوارق بين المذاهب الأربعة نفسها، وحتي أنه - علي سبيل المثال - تجد المذهب المالكي في معظم المسائل أقرب إلي المذهب الجعفري منه إلي المذاهب الثلاثة الأخري. وهذا ما حدا بشيخ الجامع الأزهر الشريف محمود شلتوت بإعلان فتواه الشهيرة عام 1958 م بشأن المذهب الجعفري وهذا نصها: (إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الإمامية الاثني عشرية مذهب يجوز التعبد به كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة علي مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله [ صفحه 275] تعالي يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه فيفقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات) [568] . وقد انقسم الجعفرية حسب تعاملهم مع الروايات وموقفهم من الاجتهاد إلي أصوليين وإخباريين: الأصوليون: ويسمون أيضا المجتهدين لأنهم يجوزون الاجتهاد. ومصادر التشريع عندهم أربعة: القرآن والسنة والإجماع والعقل، ويعتبرون الروايات المأخوذة من كتب الحديث الرئيسية الأربعة (وهي الكافي، من لا يحضره الفقيه، الإستبصار، التهذيب) فيها الصحيح والحسن والموثوق والضعيف وغيرها، وأنه يجب البحث في أسانيدها عند إرادة العمل بها، والغالبية العظمي من علماء الشيعة يؤيدون هذا المنهج. الإخباريون: وهم يحرمون الاجتهاد، وسموا بالإخباريين لأنهم يقتصرون في معرفتهم للأحكام الشرعية علي الأخبار أو الروايات الواردة عن أهل البيت عليه السلام، وأسقطوا الاستدلال بالمصادر الثلاثة الأخري وهي القرآن والإجماع والعقل. فهم لا يستدلون بالقرآن بذريعة أن القرآن لا يفهمه سوي أهل البيت والواجب الرجوع إلي أحاديثهم، ولا يستدلون بالإجماع لأنه عندهم بدعة أوجدها أهل السنة، وينكرون كذلك صلاحية العقل السليمليكون حجة أو دليلا [569] . وقد ظهرت حركة الإخباريين قبل أربعة قرون علي يد الملا أمين الأسترآبادي، ويقال إن مذهبهم ترجع جذوره إلي قبل ذلك وأن رئيسهم هو الشيخ الصدوق(المتوفي سنة 381 هجرية) وصاحب كتاب من لا يحضره الفقيه [570] . [ صفحه 276] وقد بادر العلماء بالوقوف في وجه حركة الإخباريين، وعدوها حركة جامدة ومناوئة للعقل. وكان من بين هؤلاء العلماء الشيخ وحيد البهبهاني وتلميذه الشيخ مرتضي الأنصاري والشيخ جعفر وكاشف الغطاء وغيرهم. ويقول مطهري: (ولولا وقوف عدد من العلماء المبرزين الشجعان في وجهتلك الموجة وصدها، لما كنا نعرف موقعنا ووضعنا الحاضر) [571] .

الخوارج

وهم الذين خرجوا علي الإمام علي عليه السلام في معركة صفين بعد قبول التحكيم، واشتهروا بتكفيره عليه السلام، وتكفير كل من معاوية والحكمين عمرو بن العاص وأبي موسي الأشعري وكل من رضي بالتحكيم، وكذلك يكفرون أصحاب الجمل وعائشة وطلحة والزبير، بالإضافة إلي تكفيرهم لكل مسلم يرتكب كبيرة، وحكمهم عليه بالخلود في النار. وقد قاتلهم الإمام علي عليه السلام في النهروان وهزمهم شر هزيمة ولم ينج من القتل منهم إلا عدد قليل، وعرفوا بلقب المارقة، وفيهم قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (يأتي بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج - وفي رواية أخري: يمرقون من الدين كمايمرق - السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، وهم شر الخلق والخليقة) [572] . وقد انتشر من نجا بالنهروان من الخوارج في المدن الإسلامية الكبيرة كالمدينة ودمشق والبصرة بأواخر فترة علي عليه السلام وبداية حكم الأمويين، وعقدوا مجالس المناظرات والمجادلات الكلامية فيها. وكانت بذلك فرقة الخوارج هي أولي الفرق الكلامية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي. وتشعب الخوارج إلي فرق عديدة أشهرها العجاردة والنجدية والصفرية والأزارقة [ صفحه 277] والأباضية، ولم يبق من هذه الفرق سوي الأباضية التي تعد الأكثر اعتدالا، ويشكل أتباعها اليوم أغلبية سكان سلطنة عمان بالإضافة إلي وجود أقليات منهم في شمال إفريقيا.وأصول الاعتقاد عند الأباضية ثمانية هي [573] . 1 - صفات الله ليست زائدة علي ذاته: بمعني أن الصفات ليست شيئا غير الذات، فهي ليست صفات قائمة بذاتها ولا منفكة عن الذات. 2 - امتناع رؤية الله في الآخرة: ومعني الرؤية عندهم كمال العلم به، ويعتقدون بعدم إمكانية رؤيته سبحانه وتعالي حسيا بالصورة المتخيلة عند الناس. 3 - القرآن حادث غير قديم: بمعني أن القرآن مخلوق لله سبحانه، وحادث بعد أن لم يكن. 4 - الشفاعة: بمعني أن المؤمنين يدخلون الجنة بسرعة، وأما مرتكبي الكبائر من المذنبين إذا ماتوا بلا توبة فهم محكومون بالخلود في النار. 5 - مرتكب الكبيرة كافر نعمة لا كافر ملة: اعتقدت جميع فرق الخوارج علي مر التاريخ أن مرتكب الكبيرة كافر وخارج عن الملة، ولكن الأباضية قالوا: كافر نعمة ولا يخرج عن الملة. 6 - الخروج علي الإمام الجائر: بمعني وجوب الخروج علي أئمة الجور، بالإطاحة بهم بأي وسيلة يقدر عليها، بالقوة أو بغيرها. 7 - التولي والتبري والوقوف: فأما التولي فهو وجوب الولاية والحب لأولياء الله ومن أتصف بالإيمان، والتبري فهو وجوب البراءة من الفاسقين سواء كانوا من المشركين أو أهل كفر نعمة، وأما الوقوف فيعني التوقف بالحكم فيمن لم يعرف فيهم موجب الولاية أو البراءة. [ صفحه 278] 8 - آراؤهم في الصحابة: إجماعهم علي حب الشيخين أبي بكر وعمر وكراهية عثمان وعلي.

المعتزلة

وهي فرقة كبيرة تأسست علي يد الشيخ واصل بن عطاء (80 - 131 هجرية) أحد أبرز تلامذة الحسن البصري الذي كان يعقد مجالسه الكلامية للرد علي بدع الخوارج وأضاليلهم. وفي سبب تسميتها بالمعتزلة عدة أقوال أرجحها هو ما يروي عن اعتزال واصل بن عطاء لمجلس الحسن البصري بعد أن دب خلاف بينهما في مسألة المصير الأخروي للمسلم الذي يرتكبالكبيرة [574] ، أو بصورة خاصة مصير المسلمين الذين شاركوا في قتل الخليفة عثمان [575] ، هل بقوا علي إيمانهم أم أصبحوا بحكم الكفار؟ فكان رأي البصري إنهم منافقون، وأما واصل فقد كان رأيه إنهم ليسوا كفارا ولا مؤمنين وإنما بمنزلة بين المنزلتين. وقد اشتهرت المعتزلة من بين جميع الفرق الإسلامية باعتمادهم علي العقل والمنطق لا غير في تحصيل مبادئ الإسلام ومعتقداته وأحكامه. ويسمون أيضا بالمفوضة لقولهم بتفويض الإنسان في جميع أفعاله بصورة مطلقة ودون أي تدخل من الإرادة الإلهية.وأصول الاعتقاد عند المعتزلة خمسة هي [576] . 1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأن الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من صفات نفيا وإثباتا، والتوحيد بذلك عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان والتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه، وعندهم لا قديم مع الله ومنها قالوا إن القرن مخلوق وليس قديما. [ صفحه 279] 2 - العدل: ويراد منه تنزيه الله عن الظلم عند محاسبة العباد علي أفعالهم. فهو لا يكلف العباد ما لا يطيقون، بل يعلمهم ويبين لهم صفة ما كلفهم به وكيفيتهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيي عن بينة. 3 - الوعد والوعيد: ويراد منه أن الله تعالي وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه يفعل ما وعد وتوعد به لا محالة، ولا يجوز الخلف لأنه يستلزم الكذب. وعلي ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة. 4 - المنزلة بين المنزلتين: ويراد بها أن مرتكب الكبيرة لا يسمي كافرا كما يقول الخوارج، ولا يسمي مؤمنا كما هو عليه جمهور المسلمين وإنما يسمي فاسقا. فلا تكون منزلته بحكم الكافر ولا بحكم المؤمن وإنما بين المنزلتين. 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يري المعتزلة أن وجوبهما يعرف عقلا خلافا لجمهور المسلمين سنة وشيعة، الذين قالوا لولا النص الشرعي لما كان دليلا علي الوجوب. وقد تميزت المعتزلة بجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الدين الذي لا يتم إلا به، وهذا يقتضي قيامهم ضد الحاكم الجائر في حالة توفر القدرة لذلك. ولربما كان هذا أحد أسباب اضطهاد الدولة الأموية لعلماء المعتزلة وملاحقتهم. وأما فيما يتعلق بالنبوة والإمامة، فهم يوافقون أهل السنة في ذلك. وقد لاقي مذهب الاعتزال رواجا كبيرا في العراق ووصل إلي بلاد بعيدة كالمغرب واليمن وخراسان وأرمينية. وانقسم المعتزلة إلي مدرستين رئيسيتين هما مدرسة البصرة ومدرسة بغداد، ولكل منهما منهجها الخاص في تحليل المسائل الاعتقادية. وتشعبت إلي فرق عديدة أشهرها الواصلية والهذلية والنظامية والجاحظية والبشرية والتمامية والشيطانية وغيرها كثير. [ صفحه 280] وبلغ الاعتزال أوجه زمن العباسيين عندما اعتنق المذهب بعض الخلفاء كان أولهم المأمون ثم المعتصم والواثق الذين أخذوا يجبرون الناس علي الاعتقاد بعقائد المعتزلة حتي بلغ التعصب لدرجة الجلد وأحيانا كثيرة قتل كل من يقول بعدم خلق القرآن، وقد أريقت دماء كثيرة تبعا لذلك، حتي عرفت هذه المعضلة تاريخيا باسم (محنة خلق القرآن)، وكان من ضحاياها الإمام أحمد بن حنبل الذي حبس زمن الخليفة الواثق وجلد ألف جلدة حتي كاد أن يموت ولكنه لم يغير رأيه. وعندما جاء الخليفة المتوكل لم تعجبه عقائد المعتزلة، وكان علي خلاف من قبله يميل نحو الأشاعرة، فعمل علي تقريبهم منه، ونشر مذهبهم في مختلف الولايات حتي صارت الأشعرية دين الدولةالرسمي والممثلة لعقائد أهل السنة والجماعة [577] ومنذ ذلك الحين، انقلبت الدائرة علي علماء المعتزلة حيث مارست السلطات ضدهم الضغط والمطاردة، فكانت هذه الإجراءات ضربة قاصمة لفرقة المعتزلة والتي ما لبثت أن ضعفت حتي كانت نهايتها الانقراض. ولم يعد للمعتزلة في أيامنا أي وجود كفرقة دينية أو مذهب إسلامي مستقل. وهذا لا يعني اضمحلال الفكر الاعتزالي نهائيا من عقول المسلمين، فقد بدأت في العصر الحديث ميول جديدة في بعض أوساط المثقفين من أهل السنة نحو المنهج العقلي الذي يتميز به المعتزلة. وقد يكون تفسير هذه الميول علي أنها رد فعل علي تفشي ظاهرة التحجر والجمود في أطروحات بعض التيارات الإسلامية المعاصرة التي أعدمت العقل وأظهرت الإسلام وكأنه دين لا يصلح إلا للعصور القديمة وسكنة البوادي. وهذا أحمد أمين يسجل رأيا لصالح المعتزلة حيث يقول بشأن حرية الإرادة: (وقالت المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان [ صفحه 281] إرادته حتي جعلوه كالريشة في مهب الريح أو الخشبة في اليم. وعندي أن الخطأ في القول بسلطان العقل وحرية الإرادة والغلو فيهما خير من الغلو في أضدادهما، وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة إلي اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلهمالجبر، وقعد بهم التواكل) [578] . وفي مسألة التوحيد يقول: (وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السمو والرفعة، فطبقوا قوله تعالي: (ليس كمثله شئ) أبدع تطبيق،وحاربوا النظريات الوضعية من مثل نظريات الذين جعلوا الله تعالي جسما) [579] . ويضيف أحمد أمين في مقال خاص بمدح المعتزلة تحت عنوان المعتزلة والمحدثون: (كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج (العقليين) عمادهم الشك أولا والتجربة ثانيا، والحكم أخيرا. وللجاحظ في كتابه (الحيوان) مبحث طريف عن الشك. وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلا إذا أقره العقل، ويؤولون الآيات حسب ما يتفق والعقل كما فعل الزمخشري في كتابه (الكشاف). ويقابل هذا المنهج منهج المحدثين، وهو منهج يعتمد علي الرواية، لا علي الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتي صح السند صح المتن ولو خالف العقل، وقل أن نجد حديثا نقد من ناحية المتن عندهم، وإذا عرض عليهم أمرا رجعوا إلي الحديث ولو كان ظاهرة لا يتفق والعقل، كما يتجلي مذهب الحنابلة...) [580] . [ صفحه 282]

الآثار اللاحقة

التمويه علي حقائق الأحداث التاريخية و تحريفها

بعد حادثتي منع تدوين السنة النبوية وشيوع ظاهرة الوضع والتدليس في الحديث، فقد وجد هناك علي مر التاريخ الإسلامي من تلاعبوا بتفسير الأحداث التاريخية حسب ما أملته عليهم أهواؤهم وميولهم المذهبية الخاصة، مما عمل علي زيادة درجة التشويش والفوضي في فهم بعض القضايا التاريخية الهامة، كما ستري من خلال الأمثلة القليلة التالية: 1 - ففي تبريره للاختلاسات التي حصلت في عهد الخليفة عثمان، فإن ابن تيمية الذي اشتهر باصطناع الكلمات والالتفاف حولها بدفاعه عن بني أمية قال بأن تلك الأموال التي كان عثمان يجود بإعطائها لأقاربه الأمويين. إنما كانت جزءا من سهم أموال الخمس الخاص بذوي القربي الذي يعطي حسبنصوص التشريع الإسلامي إلي أقارب الإمام [581] ، فكان ولي أمر المسلمين الإمام عثمان يعطي أقاربه ما زاد عن ملايين الدراهم بناء علي هذا الأساس الشرعي! فلماذا الاعتراض إذا؟ ثم يقدم ابن تيمية احتمالا آخر لتفسير إعطاء تلك الأموال علي أنها جزء من سهم العاملين عليها، فعثمان كان عاملا عليها، والعامل عليها يستحق ولو كان غنيا. وهذا أيضا من أحكام الشرع كما فهمها ابن تيمية، فلماذا كل هذه الضجة؟ ولعل تلك الدور السبعة التي [ صفحه 283] بناها عثمان لزوجاته وبناته [582] ، بالإضافة إلي قصور مروان بن الحكم العديدة كانت كلها من أسهم ذوي القربي والعاملين عليها التي يقول بها شيخ الإسلام. ثم يظهر ابن تيمية شيئا من المرونة وهو يعترف قائلا: (ونحن لا ننكر أن عثمان (رض) كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة. وما فعله يعد من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء... ولا ندعي عصمة فيأحد بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من الذنب، فضلا عن الخطأ في الاجتهاد) [583] وفي مورد آخر يقول: (فهذا ذنب لا يعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان منموارد الاجتهاد؟) [584] والجواب أنه سيئاب في كل الأحوال علي ذلك. وذلك تمشيا مع القول الشائع عند بعض المسلمين إنه إذا اجتهد المسلم وأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد!. 2 - يبرر القاضي ابن العربي طرد عثمان لأبي ذر لاعتراض الأخير علي معاوية بكنز الأموال بقوله: (ومن العجيب أن يؤخذ عليه (عثمان) في أمر فعله عمر، فقد روي أن عمر بن الخطاب (رض) سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتي استشهد فأطلقهم عثمان، وكان عمر قد سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله) [585] . وفي محاولته التغطية علي بوائق عمال عثمان يقول: (وأما قول القائلين في مروان بن الحكم والوليد بن عقبة فشديد عليهم، والحكم عليهما بالفسق فسقمنهم. فمروان كان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين...) [586] . [ صفحه 284] وأما محب الدين الخطيب فإنه دافع عن الوليد بقوله أنه يستحيل أن تكونالآية (إن جاءكم فاسق بنبأ...) [الحجرات / 6] [587] قد نزلت في الوليد لا لسبب إلا لأنه كان موضع ثقة الشيخين أبي بكر وعمر [588] . وقد تكفل العلامة أبو الأعلي المودودي بالرد علي ابن تيمية وابن العربي والخطيب وكل من دافع عن عثمان والأمويين بمثل تلك الطريقة خير رد، فبعد أن قام باستعراض أمثلة عديدة من انتهاكات أقارب الخليفة الذين جعل بأيديهم شؤون إدارة الخلافة ومفاتيح بيت المال قال: (لا شك أن هذا الجانب من سياسة سيدنا عثمان (رض) كان غلطا، والخطأ خطأ علي أي حال أيا كان فاعله، أما محاولة إثبات صحته باصطناع الكلام لغوا وعبثا فهو أمر لا يقتضيه العقل، ولا يرضاه الإنصاف، كما أن الدين لا يطالبنا بعدمالاعتراف بخطأ صحابي من الصحابة) [589] . 3 - وممن حاولوا تزوير التاريخ فيما يتعلق بالدوافع الحقيقية لحدوث معركة الجمل سيف بن عمرو التميمي الذي اختلق أسطورة من خياله الخاص، وجعل بطلها رجلا يهوديا، وسماه عبد الله بن سبأ ولقبه ابن السوداء، وادعي التميمي أن ابن سبأ هذا قدم من اليمن وأعلن إسلامه في عهد عثمان، ولكنه أخفي تحت ذلك حقدا دفينا علي الإسلام، فتنقل بين البقاع الإسلامية كمصر والبصرة والكوفة علي حسب زعم هذه الأسطورة، ثم أخذ ينادي برجعة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ووصاية علي عليه السلام واغتصاب عثمان لحق علي بالخلافة، فحث علي قتله، وجيش لذلك آلافا جاءوا من البصرة والكوفة ومصر، وتمكنوا من محاصرته وقتله، ثم اندس القتلة في جيش الإمام [ صفحه 285] علي عليه السلام وعائشة، وأحدثوا الفتنة وأشعلوا نار الحرب بين الطرفين والتي عرفت بموقعة الجمل. وقد تصدي لتفنيد هذه الخرافة عدد من العلماء المحققين، وتمكنوا من إثبات وهمية شخصية عبد الله بن سبأ، ومن هؤلاء المحققين الدكتور طه حسين في كتابه (الفتنة الكبري)، والدكتور كامل مصطفي الشيبي في كتابه (الصلة بين التشيع والتصوف)، والعلامة مرتضي العسكري في كتابه (عبد الله بن سبأ). ونقتطف فيما يلي من كلمات الأخير في هذا الصدد: إن جميع المؤرخين أخذوا هذه الأسطورة عن سيف بن عمرو التميمي الكوفي المتوفي سنة 170 ه، ثم انتشرت في كتب التاريخ علي مر العصور وإلي يومنا هذا، وكأنها من الحوادث التأريخية التي لا يتطرق إليها الشك، بعد أن فات معظم الكتاب والمؤرخين من الشرقيين والمستشرقين إن واضع رواية هذه الأسطورة هو راو واحد. لا شريك له، وقد اشتهر عند القدامي من علماء الحديث بالوضع واتهم عندهم بالزندقة. فهذا أبو داود يقول فيه: (ليس بشئ كذاب)، وقال فيه ابن عبد البر: (سيف متروك، وإنما ذكرنا حديثه للمعرفة)، وقال فيه النسائي: (سيف ضعيف، متروك الحديث وليس بثقة ولا مأمون). وقد أخذ عن هذا الراوي كل من الطبري وابن عساكر وابن أبي بكر، ثم أخذعن الطبري سائر الكتاب والمؤرخين إلي يومنا هذا [590] . 4 - في تبريره لتحويل معاوية نظام الخلافة إلي نظام ملكي يقول القاضيابن العربي أن الملك هو مرتبة من مراتب الولاية كمرتبة الخلافة [591] . ودليله (!) علي ذلك قوله تعالي في النبي داود عليه السلام: (وآتاه الله الملك والحكمة) [البقرة / 251] فجعل النبوة ملكا. [ صفحه 286] وهذا أيضا محب الدين الخطيب يؤيد هذا التبرير معلقا: (الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تتكيف في التاريخ باعتبار مدلولهاالعملي، والعبرة دائما بسيرة المرء وعمله) [592] ولحق ابن العربي والخطيب نسخا عنهما الشيخ عبد المتعال الجبري وهو أحد رموز بعض الجماعات الإسلامية في مصر قائلا: (والواقع أن المسألة هي مسألة اصطلاح... خلافة أو إمارة أو ملك، فالجميع مقيدو السلطات بقوانين الله المسطورة في الكتاب والسنة، فالعبرة بالنظام والعدل لا بالألقاب وأسماء الحكام والولاة وأسماءوظائفهم، وقد كان داوود وسليمان ملوكا صالحين، فما عابهما ذلك) [593] . ولكن معاذ الله أن يقارن معاوية المحتال وسفاك الدماء البريئة بأنبياء الله الصالحين. فقد كان من سيرة معاوية وعمله قتل حجر بن عدي وأصحابه لرفضهم سب الإمام علي عليه السلام والتبري منه كما ثبت ذلك من المصادر التاريخية، إلا أن ابن العربي يري أن قتلهم كان حقا، لأن معاوية هو إمامالأمة، والأصل في فعل الإمام هو الحق [594] (!)، ويستشهد بما كتب علي أبواب مساجد بغداد: (خير الناس بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثمعلي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم) [595] . ولعدم وجود أي مبرر واقعي لقتل حجر وأصحابه، فإن ابن العربي يقول (بعد أن ذكر عتاب عائشة لمعاوية ورده لها: دعيني وحجرا حتي نلتقي عند الله): (وأنتم يا معشر المسلمين أولي أن تدعوهما حتي يقفا بين يدي الله معصاحبهما العدل، الأمين، المصطفي، المكين..) [596] . [ صفحه 287] وهذا عبد المتعال الجبري مرة أخري يظهر جرأة غريبة بقوله: (ولم تتوقف فتوح معاوية [أيام ولايته علي الشام] وغزواته إلا أيام الفتنة الكبري،حينما شغل بالحروب مع الإمام علي رضي الله عنهما وغفر لهما) [597] . وكل من يتمعن بهذا القول يجد فيه تخطيئا مبطنا لعلي عليه السلام، ويطلب الكاتب من الله المغفرة له علي خطئه هذا، لأنه عليه السلام شغل معاوية عن الجهاد!!. فمن الذي شغل من؟ ومن الذي تمرد علي من؟ أوليس الإمام علي عليه السلام هو الخليفة الذي ينبغي أن يطاع والذي يأمر بالغزو ويعين قادته ووقته ووجهته؟ فما لمعاوية والجهاد في وقت لم يكن فيه سوي وال متمرد نصب نفسه خليفة بعد أن عزله الخليفة الشرعي عن الإمارة. بل أنه من الثابت تاريخيا أن معاوية وعندما أحكم نزوته أخيرا علي كرسي الخلافة، فإنه قام بتوقيع معاهدة خنوع أخذ يدفع بموجبها 100 ألف دينار سنويا مقابل امتناعالروم عن غزو الشام [598] . ثم يضيف الجبري في أثناء دفاعه المستميت عن معاوية وعموم بني أمية وتخطيئا لعلي عليه السلام: (كما أننا لا نعلم لأي شئ استعجل علي عزل معاوية أمير الشام، وقد عينه [والصحيح عين أخوه يزيد] علي ذلك المنصب من قبله أبو بكر الصديق ثم [عينه] عمر بن الخطاب، وأقره علي ذلك بعدهما عثمان، وفوق ذلك كله لم يرفع عنه شكوي واحدة (!)، مع كثرة الشكاوي عليالعمال والحكام والولاة) [599] . وفي محاولة لإغلاق أي باب للبحث في فواحش معاوية فإن الجبري ينقل في كتابه ما رواه الحافظ ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه عندما قال له [ صفحه 288] رجل: إني أبغض معاوية. فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل عليا. فقال له أبو زرعة: ويحك، إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فمادخلك بينهما رضي الله عنهما) [600] منطق غريب! 5 - وفيما يتعلق بقتل الحسين عليه السلام، فإن القاضي أبو بكر بن العربي يفتري بكل الصراحة والجرأة قائلا: أن الإمام الحسين عليه السلام قد استحق القتل لخروجه عن طاعة ولي الأمر يزيد، لأن خروجه كان - علي رأيه - تفريقا لكلمة المسلمين! وهذا النص الحرفي لما قال: (وما خرج أحد لقتال الحسين إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن علي الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من دخول الفتن، وأقواله في ذلك كثيرة. منها قوله صلي الله عليه وآله وسلم: إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان. انتهي الحديث. فما خرج الناس - يقصدالقتلة - إليه إلا بهذا الحديث وأمثاله) [601] بمعني أن كل ما فعله يزيد وزبانيته في كربلاء كان مجرد تطبيق لحكم الشرع علي ضوء أحاديث النبي صلي الله عليه وآله وسلم!! ولعل حسن تطبيق يزيد للشرع هو الذي جعل محب الدين الخطيب أن يصفه بأنه كان شخصا لامعا، ومكتمل المواهب، ومستكملا للصفات اللائقةبمهمة المركز الذي أراده الله له وهو الخلافة [602] . ليس ذلك فقط، فهذا ابن حجر المكي يقدم (دليلا!) علي اكتمال كمالات يزيد الخلقية بقوله: (إن يزيد لما وصل إليه رأس الحسين بكيقائلا: رحمك الله يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حق الأرحام)! [603] ! فيا له من افتراء علي التاريخ! [ صفحه 289] وأما الشيخ أبو حامد الغزالي صاحب كتاب (إحياء علوم الدين) فإنه يريد قتل ومحو أي علوم متعلقة بفاجعة مقتل الحسين عليه السلام وأهل البيت كلية من مصادرها التاريخية، وهذا نص ما قال: (ويحرم علي الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكاياته، وما جري بين الصحابة والتشاجر والتخاصم، فإنه يهيجعلي بعض الصحابة، والطعن فيهم وهم أعلام الدين!!) [604] فيا لها من فتوي، إنه كلام غريب يشتم منه رائحة تفوح بوجود مؤامرة حقيقية لدفن الحقائق إن لم يكن تزويرها. وللقارئ أن يتصور سبب غفلة معظم أبناء أهل السنة والجماعة عن مأساة الإمام الحسين بصورة خاصة وأهل البيت عليه السلام بصورة عامة. وعلي كل حال، فإن الغزالي يعترف أن جريمة قتل الحسين، وتشاجر الصحابة وتخاصمهم مع بعضهم مدعاة للبغض والطعن فيهم، وأفعالهم تلك المشابهة لهذه هي فعلا محل للبغض والطعن. وأما قوله إنهم أعلام الدين، فهذا يعد تناقضا عجيبا لا يمكن أن يقبله عقل سليم. وأخيرا، فإن عبد المتعال الجبري يحاول التغطية علي يزيد باتهامه بدلا من ذلك بقتله أهل الكوفة أولا [605] ، والقضاء والقدر ثانيا، بقوله: ومضي إلي حتفه بظلفه، وكان أمر الله قدرا مقدورا!!

تطرف بعض العالمين في الميدان الإسلامي و تخبطهم و جمودهم

اشاره

ونعني بصورة خاصة بعض العالمين في الأوسط الدينية كنشاطات الدعوة والتبليغ والتدريس، وكذلك بعض العاملين أو المنادين بإقامة الحكم الإسلامي في هذا العصر من خلال تنظيم الجماعات، والأحزاب، [ صفحه 290] والميليشيات، والذين نصبوا أنفسهم قادة للصحوة الإسلامية المعاصرة التي ستعيد للإسلام مجده الغابر وخلافته الراشدة. والناظر لحال غالبية هؤلاء العاملين ضمن تلك الأطر والأوساط لن يصعب عليه ملاحظة حالات الجمود الفكري والتخبط الحركي التي يعيشونها، وذلك نتيجة لافتقاد المناهج المنفتحة علي الواقع المعاصر، وغياب القيادة الواعية والمتفهمة لتقلبات الزمان والمكان، فتجدهم يلجأون دائما إلي التقليد الأعمي لسير الماضين، ويأخذون بطرق تفكيرهم وأساليبهم بصورة حرفية، ويصرون علي ذلك أيما إصرار، مدعين أنه لا سبيل للتغيير والإصلاح سوي مناهج السلف الصالح، وأنه (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها). ومع كل التحفظات في إطلاق هذه المسميات واستخدامها، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال الاستغراق في الماضي وأساليبه كل هذا الاستغراق، وتقليد السلف حذو النعل بالنعل. ولكن المشكلة لا تكمن بمجرد عدم صلاحية أساليب الماضي لهذا الزمان نظرا للمفارقات الواضحة بين العصرين، وإنما أيضا في تناقض أساليب وأفكار السلف أنفسهم مع بعضهم بعضا، بل وانحرافها عن المنهاج النبوي منذ البدايات الأولي لعهود الخلافة، الأمر الذي يجعل من التعصب لرموز ذلك الزمان، وتقليدهم بتعصب يعني إعادة تلك الأخطاء والمآسي التي حصلت فيما بينهم.

مجرد مثال!

ولك في تجربة المجاهدين الأفغان الذين اعتبرهم الكثيرون (صحابة العصر!) خير مثال علي ذلك، فأي صدمة وإحباط تلقاها كل من بني عليهم آمالا بإقامة حكم إسلامي يصلح لأن يكون مثالا حيا لكل الحركات المجاهدة في العالم الإسلامي، لا سيما بعد كل تلك السنوات الطويلة من المعاناة والتضحيات في جهادهم ضد الجيش السوفيتي. ولكنهم بعد التحرير، وبدل [ صفحه 291] أن يتوجهوا إلي البناء، رأيناهم يديرون فوهات المدافع ضد بعضهم بعضا هذه المرة وبشراسة فاقت تلك التي واجهوا بها الجيش الشيوعي في الأمس القريب. حتي أنه تردد علي ألسنة سكان كابل، وهم الضحية المنسية لهذه الحروب: (كفر الشيوعيين ولا إسلام المجاهدين!). وهكذا نجد أن العالم الإسلامي اليوم يشهد تجارب جديدة في ثورة تخبط في الفكر، تنقلب إلي ثورة تطرف في الواقع، ولعل أبشع نماذجها تجده في حكومة ميليشيات الطالبان التي نسمع قصتها ونعيش مرارتها هذه الأيام. فما دام قد وجد في تاريخنا معارك اسمها الجمل وصفين، فلماذا لا يقتتل المسلمون ضد بعضهم بعضا اليوم؟ وما دمنا قد برأنا جميع أطراف الاقتتال في صفين وهم الجيل الفريد والقدوة المثالية، فلماذا لا نجد المبرر أيضا للاقتتال الداخلي بين المجاهدين الأفغان؟ فهم أولي أن تقع (الفتن!) بينهم من أولئك، ويحق لهم أن يجتهدوا كما اجتهد معاوية ببغيه للوصول إلي مراكز القوة والتسلط المطلق. ولماذا لا، ما دام يتوجب علي المسلمين حمل أي منكر فعلوه علي أنه كان (اجتهادا خاطئا) يثابوا عليه أجرا واحدا، ومحملا حسنا حتي لو كان ذلك المنكر القتل وبث الفتنة والمخالفة الصريحة للكتاب والسنة. ولك أن تري أثر تلك المحاولات المستميتة للتوفيق بين متناقضات الصحابة، والتي لا تقبل التوفيق، وتبرير كثير من تصرفاتهم المنكرة والتي كان من ضمنها سب بعضهم بعصا وقتلهم وحملها محمل الاجتهاد، لك أن تري أثر ذلك كله في تشويش الفكر وتحقير العقل، بل وتولد تطرفا وضيقا في الأفق والنظر نحن في غني عنه. وهذا النمط من التفكير القشري والمنغلق علي كل حال لا يزال يوجد له انتشار واسع في الوسطين السني والشيعي، ويطلق عليه مرتضي مطهري مصطلح التحجر بمعني الجمود وانعدام المرونة والليونة، وهي حالة تشاهد عند الإنسان حين تنعدم له المرونة في الموقف من أي فكرة أو ظاهرة جديدة. [ صفحه 292] والشخص الموصوف بالتحجر يضع لنفسه أصولا ثابتة وأطرا محددة،ويفترض عدم إمكان طروء أي تغيير عليها [606] . وقد حذر الإمام الخميني (وهو مثال المجاهد العصري ضد تحجر الفكر لا سيما السياسي منه) من خطر ظاهرة التحجر هذه بقوله: (وما هو بالضئيل خطر المتحجرين والحمقي من المتظاهرين بالقدسية في الحوزات العلمية، فلا يغفل الأعزاء طلبة العلوم الدينية ولا للحظة عن هذه الأفاعي ذات الظاهر الخداع... وعلي حد زعم بعضهم، فإن عالم الدين يكون جديرا بالاحترام والتكريم عندما يكون غارقا في (التعبد المنغلق) بشكل كلي، وإلا فإن عالم الدين المعني بالسياسة أو المدبر والذكي هو ذو أهداف ومطامع مشبوهة... وكأن تعلم اللغات الأجنبية يعد كفرا، ودراسة الفلسفة والعرفان تعد معصية وشركا. وإنني علي يقين من أنه لو كان قد كتب لهذا التيار الاستمرار لأصبح وضع الحوزات الدينية وعلمائها كوضع كنائس القرون الوسطي) [607] ، ويذكر الإمام الخميني مرة أن ابنه مصطفي شرب مرة من ماء في زير خزفي بإحدي المدارس الدينية، فقام بعض أولئك المتحجرين بغسل الزيرالخزفي بالماء لتطهيره، وذلك لأن الإمام كان يدرس الفلسفة! [608] .

جذور التطرف والجمود الديني

ويري مطهري أن الجذور التاريخية لهذا التحجر تجده في بعض الفرق والمذاهب التي ظهرت نتيجة لما حصل بين المسلمين من تنازع واضطراب [609] . ويخصص منها ثلاثة وهي: الخوارج، وأهل الحديث والإخباريون. [ صفحه 293] فالخوارج وبالرغم من أنهم ذوو ميول شديدة نحو الجهاد والفداء والتضحية في سبيل عقائدهم وأفكارهم، وكانوا من المتعبدين والمتنسكين يمضون الليل في العبادة، إلا أنهم كانوا جاهلين وحمقي، ونتيجة لجهلهم فإنهم لم يكونوا يفهمون الحقائق ويفسرونها تفسيرا سيئا، وأصبحوا من ذوي النظرة الضيقة، وقصيرة المدي، ويفكرون في أفق محمود جدا. كانوا يرون الإسلام محصورا في جدران أربعة من أفكارهم الضيقة، ويعتقدون أن جميعمن سواهم لا يفهمون البتة، ومن أهل جهنم) [610] . ويؤكد مطهري أن نمط تفكير الخوارج قد تسلل ونفذ إلي داخل المجتمع الإسلامي طوال تاريخه، وعلي الرغم من أن سائر الفرق تعد نفسها مخالفة لهم، بيد أن التفكير السائد عند الخوارج هو سائد أيضا في أذهان تلك الفرق، ويمكننا أن نري بين المدارس الفكرية والعقيدية والعلمية الإسلامية، ومن بين النظريات الفقهية تعتقد بانفصال التعقل عن التدين، وهذا الاعتقادقام علي مرتكزات التفكير الخوارجي [611] . وأما فرقة أهل الحديث، فهي فرقة أخري لنمط التفكير المتميز بالجمود والسطحية، وقد خالف رؤساء هذا التيار أمثال أحمد بن حنبل ومالك بن أنس الاستدلالات العقلية التي تميزت بها فرقة المعتزلة، لأنها بنظرهم تتعارض مع ظواهر الحديث والسنة، وهم يرون أن البحث والتحليل والاستدلال في القضايا الإيمانية حرام. ويعتبر مطهري أن نجاح أهل الحديث والأشاعرة في القضاء علي فرقة المعتزلة بمساعدة بعض الخلفاء العباسيين كان ضربة كبيرةللحياة العقلية في العالم الإسلامي [612] . [ صفحه 294] وأما مذهب الإخباريين، وهو من المذاهب الفقهية الشيعية، فإن أصحابه كما بينا سابقا لا يؤمنون بالاجتهاد، ولا يرون له أية حاجة وضرورة، فقد جعلوا حجية الروايات والأحاديث محورا لعملهم وتوجهاتهم بنحو خاص، ورفضوا الاستدلال بالإجماع والعقل، ويعتبرون جميع الروايات صحيحة سواء كانت في واقع الحال ضعيفة أو قوية أو صحيحة أو مختلقة وموضوعة، بل يعتبرون ظاهرها هو المقياس والملاك، وهم بذلك يشتركون مع الخوارج وأهل الحديث بالسطحية والتحجر، وتخطئة العقل والتفكر ورفضهما.

اعراض هذه الظاهرة

وبعد أن عرفنا أن لهذا التجمد والتطرف الفكري الديني الذي نشهده في أيامنا له مثل هذه الجذور الممتدة في عمق التاريخ الإسلامي، تعالوا بنا نتفحص بعض أعراض هذه الآفة كما شخصها بعض مفكري هذا العصر علمائه: وفهذا الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي يري في مقالة له تحت عنوان (صحوة الشباب المسلم ظاهرة صحية يجب ترشيدها لا مقاومتها) أن هناك خمس أمور أنكرت علي الصحوة وهي: 1) الدراسة القاصرة للإسلام وشريعته. 2) عدم الاعتراف بالرأي الآخر. 3) الاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبري. 4) الجدال بالتي هي أخشن. 5) التزام التشدد والتعسير [613] . [ صفحه 295] وأما الشهيد مطهري فيجمل خصائص تيار الجمود والتطرف وملامحه بما يلي: 1) الركود الفكري وتعطيل العقل. 2) ضعف الأسس والمرتكزات العقائدية. 3) النظرة السطحية (الضحالة الفكرية). 4) التقديس الأجوف الزائف. 5) ضيق الأفق والنظر. 6) الجهل واعوجاج الفهم. 7) الرجعية وعبادة القديم. 8) الرياء وخداع العوام [614] . وأما الدكتور حسن الترابي فيري أن هناك أربع علل رئيسية هي: 1) الانقطاع عن الأصول الشرعية في الكتاب والسنة، والرضا والاقتناع بكل ما هو قديم من تقليد التطبيق العملي للسلف. 2) العكوف علي (الفروعية) كأحكام الطهارة، والوضوء وتعداد فرائض الصلاة ومندوباتها ومكروهاتها، أو أحكام البيع، والشراء وكيف تكون الطاعة وآداب الراعي والرعية، في نفس الوقت التزام الصمت المطبق بشأن النظام الإسلام السياسي والاقتصادي. 3) خلل في ترتيب الأوليات، فهذه النظرة أفقدت العالم الإسلامي أولويات الإسلام. فما دامت الأمور كلها فروعا، فهو لا يعلم أي الفروع أهم. [ صفحه 296] 4) الشكلية، وهي من الآفات التي أبعدتنا شيئا عن أصول الدين. فالألفاظ أخذ الاهتمام بها وكأنها ذات معني خطير في الإسلام، وهكذا بالنسبة إلي وضع اليدين في الصلاة وقيام الإصبع عند قراءة التشهد وغير ذلكمن الشكليات [615] . ويري الأستاذ فهمي هويدي أن ظاهرة الصحوة بحاجة ماسة إلي (الفرز) بين ما هو سلبي أو إيجابي في فصائل الصحوة وأفكارها، لأن هناك الكثير مما يحتاج تنقية فيما تطرحه تلك الفصائل من أفكار... فهي بحاجة إلي (التجميع) و (الترشيد)، وليس مقبولا أن يكون غاية جهدها حشد مجموعات من الدراويش في صلاة الجمعة أو أفواج الحج والعمرة. فالعمل العبادي التزام يجب أداؤه، ولكن الوعي بما يجري والرؤية الأوسع للواقع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي وترتيب أولويات القضايا تحتاج إليعمل جاد ومتواصل [616] . ويقدم المرحوم الشيخ محمد الغزالي تفصيلا أكثر حول هذه الظاهرة في مقالة له تحت عنوان (بين الاعتدال والتطرف)، فيقول: (وأريد أن أؤكد للشباب أن إقامة دين شئ، واستيلاء جماعة من الناس علي الحكم شئ آخر، فإن إقامة دين تتطلب مقادير كبيرة من اليقين والإخلاص، ونقاوة الصلة بالله، كما تتطلب خبرة رحبة بالحياة والناس والأصدقاء والخصوم، ثم حكمة، تؤيدها العناية العليا في الفعل والترك والسلم والحرب...! إن أناسا حكموا باسم الإسلام، ففضحوا أنفسهم، وفضحوا الإسلام معهم!! فكم من طالب حكم يؤزه إلي نشدان السلطة حب الذات، وطلب الثناء، وجنون العظمة!! وكم من طالب حكم لا يدري شيئا عن العلاقات [ صفحه 297] الدولية، والتيارات العالمية، والمؤامرات السرية والجهرية!! وكم من طالب حكم باسم الإسلام وهو لا يعرف مذاهب الإسلاميين في الفروع والأصول، فلو حكم لكان وبالا علي إخوانه في المعتقد، يفضلون عليه حكم كافر عادل!! ولقد رأيت أناسا يتحدثون عن إقامة الدولة الإسلامية لا يعرفون شيئا إلا أن الشوري لا تلزم حاكما، وأن الزكاة لا تجب إلا في أربعة أنواع من الزروع والثمار، وأن وجود هيئات معارضة حرام، وأن الكلام في حقوق الإنسان بدعة... إلخ، فهل يصلح هؤلاء لشئ؟) [617] . وحول الإفراط والتفريط، يعلق الغزالي: (والخلاف الفقهي لا يوهي بين المؤمنين أخوة، ولا يحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة... والغريب أن التطرف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية، ولا في مزيد من مظاهر الايثار والفضل، إنه يقع في الحرص البالغ علي الأمور الخلافية كالتنطع في مكان وضع اليدين أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة! والمجال المستحب للغالين في دينهم ينفسخ عندما ينظرون في ذنوب الناس، إنهم يسارعون إلي الحكم بالفسق أو الكفر وكأن المرء عندهم مذنب حتي تثبت براءته، علي عكس القاعدة الإسلامية... ومنذ أيام ثار جدل حول حكم تارك الصلاة كسلا، فلم يذكر أحد في شأنه إلا أنه كافر، مستوجب القتل، مخلد في النار!، قلت: لماذا تنسون حديث أصحاب السنن في أن الرجل لا عهد له عند الله - بتكاسله - إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه!... وعلينا بالتلطف والنصح الحسن، أن نقوده إلي المسجد لا إلي المشنقة، بيدأن المتطرفين يأبون إلا القول بالقتل، وأن هذا وحده هو الإسلام!!) [618] . [ صفحه 298] وحول وضع المرأة المأساوي في مجتمعاتنا الإسلامية، يقول الغزالي: (إن حبسها وتجهيلها واتهامها هو محور النظر في شؤونها العادية والعبادية جميعا... وإذا خرجت من البيت لضرورة قاهرة فلا ينبغي أن يري لها ظفر، هي عورة كلها، لا تري أحدا ولا يراها أحد!! ومن هؤلاء المتطرفين ناس لهم نيات صالحة، ورغبة حقة في مرضاة الله، وعيبهم - إن خلوا من العلل والعقد - ضحالة المعرفة وقصور الفقه، ولواتسعت مداركهم لاستفاد الإسلام من حماسهم وتفانيهم) [619] .

عزل الدين عن الدولة

يري عامة المسلمين أن فصل الدين عن الدولة قد أدخل إلي عالمنا الإسلامي عام 1924 م عندما تم القضاء علي الخلافة العثمانية. وهذا الكلام يصح علي الدين الظاهري الصوري الذي كان يدين به السلاطين العثمانيون كما ورثوه من أسلافهم، وأما إذا تحدثنا عن الإسلام بأصالته وواقعيته، فقد تم فصله جزئيا عن حياة المسلمين منذ أن تنازع المهاجرون والأنصار الزعامة في سقيفة بني ساعدة، ثم اكتمل هذا الفصل وبصورة واقعية باعتلاء معاوية بن أبي سفيان عرش الخلافة والحكم، وتحويل هذا المنصب إلي أداة لتحقيق أحلام جاهلية، وفرصة للاستغراق في المزيد من الملذات واللهو. وبالطبع، فكل ذلك علي حساب نشر قيم الإسلام وتعاليمه، بل وتجاوزوا ذلك بمحاولاتهم وبكل ما أوتوا من جهود للقضاء التام علي تلك القيم والتعاليم. وكان من ضمن تلك الجهود كما بينا سابقا دورهم الكبير في تنشيط ظاهرة وضع الحديث وتزويره، وتأويل آيات الكتاب بما يتمشي ومصالحهم الخاصة. والأمويون هم الذين اختلقوا قصة تأبير النخل والتي زعم فيها أن [ صفحه 299] النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) [620] أريد من وراء هذه الكلمات المنسوبة كذبا علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم عزل الدين عن حياة الناس، وإن كان حقا عدم تدخل الشرع الإلهي بطريقة تلقيح النخل وغيره. ويقرر المرحوم الغزالي أن عزل الدين عن الدولة في المجتمع الإسلامي قد تم منذ أمد بعيد بقوله: (ومن النكسات التي أصابت جماعة المسلمين وأوهنت قواهم من قديم انفصال الحكم عن العلم، وسير كل منهما في مجري اختص به... ومن هذا الانفصال ورث المسلمون المعاصرون مشكلتين جديرتين بالنظر العميق، الأولي: هجرة العقول الكبيرة إلي الغرب، والثانية: رداءة الأوعية الحاملة للفقه، وطلبها للدنايا تحت أقدام [الحكام]المستبدين) [621] . ويضيف مؤكدا ضرورة عدم وجود مثل هذا العزل: (إن المرء ليغوص في بحار الحيرة عندما يري كرادلة العالم النصراني يختارون أدهاهم وأذكاهم وأجلدهم علي خدمة الدين، وعندما يري معتنقي الشيوعية يختارون أقدرهم وأمهرهم وأشجعهم علي خدمة المذهب، علي حين يقود المسلمين علي مر التاريخ رجل أعظم مؤهلاته أنه ينتمي إلي المأسوف علي شبابه أمية بن حرب - يقصد حكام الدولة الأموية - أو ابن الصحابي المعروف عباس بن عبد المطلب - يقصد حكام الدولة العباسية - أو ابن الأناضول عثمان بن هيان بن بيان! - يقصد حكام الدولة العثمانية -. إن أولئك الخلفاء لا ترشحهم مواهبهم الخاصة لمنصب ذي بال، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله إلا ما يحارب هذا المسلك، بيد أن تقاليد العرب أعوجت بتعاليم الإسلام كرها ودفعتها في هذا المجري) [622] . [ صفحه 300] ويفهم من ذلك أنه يستحيل أن يتوفر عندنا نظام إسلامي دون أن يكون رأس هذا النظام من المسلمين العالمين بعقائد الإسلام وأحكامه، والمطبقين لتعاليمه، ليس فقط علي مستوي الشعائر والطقوس العبادية، وبل وقبل ذلك وأكثر أهمية تطبيق العدالة الاجتماعية، وتجسيد أخلاقية الإسلام في جميع العلاقات والشؤون، وما دون ذلك فهو ليس بالإسلام الذي نادي به محمد صلي الله عليه وآله وسلم. وهذه المعايير لم يعمل النظام الأموي علي بمخالفتها فقط، بل عمل علي قلتها ونشر نقائضها من الظلم الاجتماعي، وإحياء النعرات الجاهلية وتشويه التعاليم الإسلامية ومسخها. وإن كان هناك دين قد طبق، فهو الدين الذي شرعه معاوية، والذي كان من سننه المؤكدة ختم كل خطبة جمعة وعيد بسب الإمام علي ولعنه!، ولم يكن من هذا الدين في واقع الأمر سوي تطبيقات شكلية لمختلف الشعائر والطقوس، وقد أفرغت معانيها من روحية الإسلام وجوهره، وأفقدت بالتالي الغايات التي شرعت من أجلها. يضاف إلي ذلك التشويه المتعمد للعقائد الإسلامية والتلاعب بمعانيها إلي حد السخرية والاستهزاء، ومن ذلك استحداث عبد الملك بن مروان عقيدة (الإرجاء) لسد الباب في وجه كل من ينتقد تلك المخالفات الصريحة التي كان يتركبها الخلفاء وحواشيهم، فما داموا مسلمين ناطقين لكلمة التوحيد، فإنه لا يجوز لأحد الخوض في أعمالهم أو انتقادهم عليها، فضلا عن الحكم عليهم بأي وصف من أوصاف الكفر أو الفسق والعصيان، وإنما يجب (إرجاء) ذلك إلي الله سبحانه وتعالي الذي سيحاسبهم علي تلك الأعمال. ومن البديهي أن يقوم الخلفاء الأمويون بنشر هذه العقيدة الفاسدة وأمثالها للتغطية علي مفاسدهم، وإبعاد أنظار الناس وتفكيرهم من كل ما يتعلق بسياسة الحكم وسلوك الحكام. ويعلق الدكتور شوقي ضيف حول هذه المسألة: (إن أفكار المرجئة تخدم البيت الأموي، الذي كان في رأي الشيعة [ صفحه 301] وكثير من الأتقياء منحرفا عن الجادة الدينية، وينبغي أن يغيره المسلمون ويضعوا مكانه البيت العلوي. والمرجئة لم يكونوا يوافقونهم علي هذا الرأي لأنهم لا يريدون المفاضلة بين المسلمين ولا الحكم علي أحد بتقوي وغيرتقوي، فالمسلم يكفي أن يكون مسلما) [623] . وقد وصف الخليفة العباسي المأمون هذا المعتقد الأموي بقوله: (الإرجاء دين الملوك)، وقد بقي الأمر كذلك علي مر تاريخ ملوك الإسلام! ومن يتأمل في حال أنظمة الحكم الإسلامي في هذا الزمان، ونظرة المسلمين إليها، يري أن هذا المعتقد لا يزال له وجود واقعي، لا سيما في طروحات بعض التنظيمات والجماعات الإسلامية، وبصورة واضحة تراها في خطب وعاظ السلاطين أو محترفي مهنة التدين. ولا يخفي علي أحد أثر مثل هذا المعتقد ودوره في تكريس الظلم، وإفساح المجال للحاكم الظالم لأن يتوسع في ظلمه. وعلي سبيل المثال، فإنه ولشدة إعجاب نظام آل سعود بالنظام الأموي ونوع العقائد التي قاموا ببثها، وشكل النظام السياسي الذي حكموا الأمة من خلاله، فإنه قرر ضمن مناهج التعليم المدرسي في المملكة بعنوان (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)!، فخادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز يطمح من وراء هذا الكتاب جعل يزيد مثالا للحاكم الإسلامي المعاصر، حيث إنه ما دام الصحابة والتابعون قد بايعوا يزيدا واعتبروه خليفة حقا لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فلماذا لا يحق لفهد أن يعتبر كذلك؟ وهذا المنطق المستوحي من الإسلام الأموي نجده واضحا في قول أحد المدافعين عن شرعية النظام السعودي وإسلاميته: (هذه المملكة، دون غيرها من بلاد المسلمين، تجسيد حي لفكرة أن الإسلام هو الدين والدولة: رئيس الدولة هو إمام المسلمين قبل أن يكون الملك، ومن هذا المنطلق تخلي إمام [ صفحه 302] المسلمين في المملكة عن اللقب المعتاد للملوك صاحب الجلالة، وجعل لقبهخادم الحرمين الشريفين... فتأمل أبعاد القرار) [624] .

الخنوع والاستسلام لحكام الجور

لعل من أبرز أسباب هذا الخنوع الغريب، وحالة الانقياد التام للحكام الذي نراه سائدا في غالبية البلاد الإسلامية هو تغلغل بعض الأفكار وترسخها في نفوس المسلمين وعقولهم، حيث كان الملوك والسلاطين علي مر التاريخ الإسلامي يربطون شرعية حكمهم ولزوم طاعتهم بشريعة الإسلام بحيث يكون الخروج عليهم خروجا عن الدين، والتفكير بمخالفتهم من وساوس الشيطان، حتي لو ظهر من الحاكم هذا أو ذاك كل الفواحش والآثام، أو تسبب في جلب العار أو التخلف لشعبه وأمته، فإنه قلما تجد أي تحرك يستحق الذكر لخلعه. وقد كان لبعض الأحاديث التي وضعت خصيصا لهذه الغاية، والتي كانت أيادي الأمويين وراء اختراعها، لها أثر كبير في تعزيز هذه الحالة وتوريثها عبر الأجيال. ومن ذلك ما نسب قوله إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: (من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتته جاهلية) [625] . وهذا ابن تيمية يلمح - كما بينا سابقا - إلي أن الحسين مات ميتة جاهلية والعياذ بالله، بقوله: (إن يزيد رغم ما فيه من ظلم وقتل، وفعل ما فعل يوم الحرة [استباحة المدينة المنورة] فإنه لا يجوز الخروج عليه، لأن من لم يكنمطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية) [626] . [ صفحه 303] وكانت عقيدة الجبر من العقائد التي ساعد الأمويون أيضا علي زخرفتها بما يناسبهم وبثها بين المسلمين، والتي كانت تعني فيما يتعلق بسلوك الحكام، إنهم مهما بالغوا في فسادهم وظلمهم، فإن ذلك كله ضمن القضاء والقدر الإلهي الذي يجب علي الناس قبوله والتسليم فيه بدون أدني تساؤل!. ويستشهد المروجون لهذه الأفكار بأحاديث موضوعة لتبرير فساد الحاكم، زعما منهم كما في الرواية التالية أن ما ظهر من الخلفاء من مفاسد وانتهاكات كان مما تنبأ النبي صلي الله عليه وآله وسلم بحدوثه، ولم يكن فيه خروج عن العلم الإلهي المسبق الذي يعني تخطيطا وقضاء منه جل وعلا، وبالتالي لا يستوجب ما حصل فعلا أي استنكار أو رفض لأنه كان قدرا مقدورا!، فعن حذيفة بن اليمان قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر. فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل وراء هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل وراء ذلك الشر قال: (يكون بعدي أئمة لا يعتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس [مثال: يزيد بن معاوية؟]. قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأميروإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع [627] . ويؤكد الشيخ محمد أبو زهرة تورط الأمويين في مسألة الجبر بقوله: (إننا نجزم بأن القول في الجبر شاع في أول العصر الأموي وكثر حتي صار مذهبا في آخره.. وقد قالوا إن من فعل ذلك بعض اليهود، فقد علموه لبعض المسلمين وهؤلاء أخذوا ينشرونه... وهكذا تشابكت فروع الشجرة الأموية مع فروع شجرة أهل الكتاب بعد أن التقطوا منهم فكرة الجبر في ثوبها الجديد،لأنها تتلاءم ومبدأهم السياسي) [628] . [ صفحه 304] ومن الشواهد علي هذه الحقيقة أيضا أن معاوية قال في إحدي خطبه: (إن الله يقول: (وما من شئ إلا وعندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)فلم نلام نحن؟) [629] وأما الحجاج فقد قال بعد أن قتل رجلا أظهر حب الإمام علي عليه السلام: (اللهم أنت قتلته، ولو شئت لمنعتني منه!) [630] وكما يذكر المؤرخون أن معبد الجهمي قتل بيد الحجاج سنة 80 ه، وغيلان الدمشقي بأمر من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 106 ه لقولهمابحرية الإرادة [631] . ويصف السيد محمد حسين فضل الله الحالة الانهزامية المتوارثة أمام الحكام بقوله: (... أما الآخرون، فقد توزعوا بين الذين يعيشون الاستسلام للواقع، لأنهم آمنوا أن عليهم طاعة أولي الأمر كيفما كانوا، وأن مسألة التمرد عليهم ليست واردة في الحساب، بل لا بد من إضفاء صفة القداسة عليهم في الطاعة والخضوع والالتزام، لأن هذا هو (أمر الله!)، وبذلك عاش الجمهور الكبير في أجواء عجيبة من الحيرة والقلق والضياع، بين طبيعة القيم التي يؤمن بها، وبين الإطار الذي فرضه عليه الخطأ في الفهم أوالاجتهاد) [632] . ويقول الدكتور حسن الترابي ما يوافق هذا الرأي: (فإن صورة النظام السياسي الذي ورثناه هي صورة شائهة، لأنها مركبة من عناصر السكون لا الحركة، عناصر الركون إلي الواقع والقعود عن التبديل الاجتماعي نحو التيهي خير، وعناصر الاستسلام إلي تقليد الإمام أو الحاكم أو السلطان) [633] . [ صفحه 305]

شيوع الجهل والتخلف

اشاره

بما أن الدين الإسلامي بشريعته السماوية الحقة، وأحكامه الشاملة لجميع نواحي الحياة، هو بإجماع الأمة دين محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصالح لكل زمان ومكان، وقادر علي الوصول بالإنسانية إلي أسمي ما يمكن أن يطمح له البشر من درجات الحضارة والسمو، فإن هذا يعني أن درجة تقدم أو تخلفهم في كل عصر ستعتمد بصورة أولية علي درجة التوثيق والأمانة في نقل تعاليم هذا الدين السماوي. وسلامة تفسير ما صح من نقله، علاوة علي التفسير الموضوعي لأحداث التاريخ الإسلامي بعد النظر في سلامة نقلها أيضا. فالتاريخ كما يقال هو عبارة عن (حقائق تكونت من ضلال الحركة والانتقال في آنات الماضي، لتصبح ركيزة للحاضر، الذي يحتضن المستقبل ويؤثر به ويرسم معالمه). والأداة التي تحول أنات الماضي إلي ركيزة الحاضر هي الاجتهاد، ولكي يؤدي دوره الحيوي والفعال لا بد وأن يكون محددا ضمن إطار الشرع الإسلامي الصحيح، ومعتمدا علي التراث التاريخي السليم، ومتفاعلا مع حقائق العصر الحاضر. وبالنظر في تعاطي المسلمين لتاريخهم، فإننا سنجده كما يصفه الشيخ المرحوم محمد الغزالي: (إنه لا غرابة في وجود أخطاء في تاريخنا الثقافي والسياسي، وإنما الغرابة في التستر علي هذه الأخطاء أو الاستحماق في معالجتها والتعفية علي آثارها... فالقتال الداخلي بين المسلمين أنفسهم [يقصدفي الجمل وصفين] كانت له آثار بعيدة المدي علي حاضرهم ومستقبلهم) [634] . ذلك أنه كان فعلا للخلفاء وما جري بينهم من حروب ومنازعات علي الحكم الدور الكبير في تجهيل المسلمين، وإعطائهم تلك الصورة المشوهة [ صفحه 306] والمحرفة عن عقائد الإسلام ونظمه وأحكامه، الأمر الذي حدث غالبا عبر ما وضع من أحاديث، وأدخل من إسرائيليات، وتلوعب بتفسير الكتاب والسنة وتأويلها، وزور من حقائق التاريخ، فضلا عن سيادة العادات والتقاليد البالية أكثرها وانتشار الأساطير والخرافات. فلا غرابة إذا بوجود مثل هذه الحالة من التخلف والجهل في أمة الإسلام هذه الأيام، وهي كما يصفها الدكتور الترابي: (وإذا كان الشأن في الإسلام أن يعمر الحياة بمعانيه ويغمرها بصوره وألا ينفك كذلك مواكبا لتطورها الموصول، فقد أصبح نصيبنا من الإسلام تدينا تقليديا متأخرا عن تقدم حركة الحياة في الاعتقاد والفكر والعمل. فقد نضبت في مواقفنا العقدية معاني التوكل والإقدام التي تدعو لاقتحام كل تحد جديد وتسخيره واتخاذه مادة لعبادة الله الواحد، وأصبح غاية أمرنا أن نحفظ بقية الدين لا نزيده ولا نجدده... والجنوح إلي السكون وإلي القعود عن التفاعل مع الكون والحياةببواعث الدين هو علة تخلفنا الاقتصادي أيضا) [635] . ويذكر الدكتور الشيخ القرضاوي إحدي علل انحطاط المسلمين بقوله: (أهملوا إلي حد كبير فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي، والصناعي والحربي...) [636] . وأما السيد فضل الله فيقدم شرحا وتشخيصا أوفي للعلل والأمراض بقوله: (إذا درسنا وضع العالم الإسلامي فسنواجه وضعا ثقافيا متخلفا علي صعيد المعرفة الإسلامية فيما يتعلق بتفاصيل العقيدة، وخطوط الشريعة، ومناهج العمل، وأساليب التحرك، ووعي التحديات المضادة، مما يجعل [ صفحه 307] الإنسان المسلم يفقد وضوح الرؤية للأشياء، ويبتعد عن إمكانيات التمييز الدقيق بين ما هو واقع الساحة فيما يمارسه من حياة، وبين ما هو واقع الانتماء فيما يحمله من عقيدة وفكر، وبذلك فقد أصبح فريسة سهلة لكل الدعوات الكافرة والضالة والمنحرفة التي استغلت هذا الجهل بالإسلام، فعملت علي تضليله، وإرباك تصوره لمبادئه والإيحاء له بأن الكفر لا يبتعد عن الإسلام وأن الضلال قد يأخذ دور الهدي. وقد ساهم هذا الجهل في تعقيد عملية الإصلاح، لأن الصورة المشوهة التي يحملها الناس عن الإسلام فيما يفهمونه من عقائده وأحكامه، أصبحت تحمل في داخلها، معني من القداسة، التي تتحول فيها الأخطاء إلي مقدسات، والأوهام إلي مبادئ، مما يجعل من قضية المناقشة فيها، فضلا عن رفضها، أمرا يبلغ حد الكفر، ويحمل معني الانحراف، وبذلك أصبح للذهنية الأمية التي يحملها العوام، ضغط كبير علي مسار الفكر الناقد لدي العلماء والمفكرين تحت ضغط الخوف من خسارة ثقة العامة. وهكذا بقيت الأوهام والأضاليل التي أفرزها واقع التخلف في حركة الذهنية العامة للإنسانواقعا ثقافيا، إسلاميا، مقدسا، معترفا به) [637] . وبما أنه لا بد وأن يكون لكل تشريع حكمة وغاية، فإن تعطيل أي من تلك الأحكام المشرعة، أو فهمها علي غير صورتها الحقيقية، أو تطبيقها علي تلك الأحكام المشرعة، أو فهمها علي غير صورتها الحقيقية، أو تطبيقها علي غير الطريقة التي أرادها الشارع المقدس، فإن ذلك لا بد وأن يولد آثارا سلبية تخل في النظام الإسلامي العام، أو تجعل فيه فراغا يتهيأ من خلاله فرص الإفساد والانحراف. ونقدم فيما يلي أمثلة متنوعة وشواهد حية علي هذا التخلف والجهل في فهم العديد من قضايانا الإسلامية المعاصرة وتطبيقها: [ صفحه 308]

الجهل والتخلف في فهم العقائد

ونعود بمثالنا في هذه الناحية إلي مفهوم القضاء والقدر، حيث بينا في موقع سابق المنشأ السياسي الواضح في تشويش الفهم حول هذه المسألة، وخصوصا فيما يتعلق بالجبر والاختيار، ولكن غالبية المسلمين قد انطلي عليهم هذا التشويه لعقائد الإسلام ومعاني الكتاب، واستندوا إلي ظاهر بعض الآيات القرآنية والمؤولة أمويا بالجبر أو تسيير الإنسان علي غير إرادته واختياره. ومن هذه الآيات (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) [الإنسان / 30]، وقوله تعالي: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) [التوبة / 51]، وقوله تعالي: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد / 22]. ويقول الشيخ محمد الغزالي في تفنيده لهذا التأويل الباطل: (والغريب أن جمهورا كبيرا من المسلمين يجنح إلي هذه الفرية، بل إن عامة المسلمين يطوون أنفسهم علي ما يشبه عقيدة الجبر باختيار خافت موهوم... وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها، وكانت سببا فيإفساد الفكر الإسلامي، وانهيار الحضارة والمجتمع) [638] وفي تعليق آخر يقول: (كل ميل بعقيدة القدر إلي الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية، ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون إلي مصير لا دخل لكم فيه، فأجهدوا أنفسكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم... إن هذا الكلام الردئ ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط قدجنينا منه المر...!!) [639] . [ صفحه 309] وفي تحذيره من الأخذ بالأحاديث الكثيرة المشبوهة التي وضعت علي ما يبدو لإسناد هذا التأويل الفاسد لمسألة القضاء والقدر، يضيف الغزالي: (جاءت في القدر أحاديث كثيرة نري أنها بحاجة إلي دراسة جادة، حتي يبرأالمسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديما وحديثا) [640] . وأما الأحاديث التي يحذر الغزالي من أخذها علي علاتها، فلا بد وأن تكون الأحاديث التالية من ضمنها، والتي أخرجها جميعا مسلم في صحيحه: فعن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: احتج آدم وموسي عليه السلام عند ربهما، فحج آدم موسي، قال موسي: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلي الأرض!!! فقال آدم: أنت موسي الذي اصطفاك برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شئ وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسي: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها (وعصي آدم ربه فغوي)؟ قال: نعم، قال: أفتلومني علي أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعملهقبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: فحج آدم موسي) [641] . وأما عمرو بن العاص فإنه يختلف مع رواية أبي هريرة بعدد السنين بقوله: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أنيخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقال: وعرشه علي الماء) [642] . ويروي عمرو بن العاص أيضا: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال النبيصلي الله عليه وآله وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا علي طاعتك) [643] . [ صفحه 310] ويروي أبو هريرة أيضا: (إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزني أدرك ذلك لا محالة، فزني العين النظر، وزني اللسان النطق، والنفس تمنيوتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) [644] . وأما عائشة فتختصر كل هذه الروايات جميعها بالمعني التالي كما تروي قائلة: (دعي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار. فقلت: يا رسول الله، طوبي لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أو غير ذلك يا عائشة؟! إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهمفي أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) [645] . فإذا صحت هذه الروايات لا قدر الله، فلماذا الحساب والعقاب إذا؟؟

الجهل والتخلف في أداء الفرائض

ونكتفي في هذا الجانب بتقديم مثال متعلق بصلاتنا اليومية، نأخذ مسألة الجمع فيها. فالجمع يكون عاد تقديما أو تأخيرا بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء. وقد أشارت أدلة قطعية من السنة النبوية إلي ثبوت جواز مثل هذا الجمع في جميع الأحوال، وليس مخصوصا بحالات الضرورة القصوي كالسفر أو المطر أو الحرب. فمن صحيح البخاري، قال ابن عباس: (صلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم سبعا جمعا -يعني المغرب والعشاء - وثمانيا جمعا - يعني الظهر والعصر -) [646] وفي رواية صحيح مسلم بإضافة: (من في غير خوف ولا سفر) [647] . [ صفحه 311] وفي رواية ثالثة، كان قول ابن عباس: (صلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالمدينة من غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيدا: لم فعل ذلك، فقال:سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد ألا يحرج أحدا من أمته) [648] وقال رجل لابن عباس: الصلاة! فسكت ابن عباس، ثم قال: الصلاة! فسكت، ثم قال: الصلاة! ثم قال [له ابن عباس]: لا أم لك! أتعلمنا بالصلاة وكنا نجمعبالصلاتين علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم) [649] . وينقل السيد سابق في كتاب (فقه السنة) [650] تحت عنوان الجمع للحاجة عن النووي في شرحه لصحيح مسلم: (ذهب جماعة من الأئمة إلي جواز الجمع في الحضر لمن يتخذه عادة. وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك. وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي وعن أبي إسحاق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر،ويؤيده قول ابن عباس: (أراد ألا يحرج أمته). فلم يعلله بمرض ولا غيره) [651] . وبالرغم من وضوح أدلة السنة النبوية علي جواز الجمع بين الصلاتين في جميع الأحوال، وتأييد غالبية فقهاء المسلمين لذلك، إلا أن السائد عند أتباع المذاهب الأربعة هو عدم الجمع باستثناء حالات الضرورة القصوي، الأمر الذي يشير بأصابع الاتهام مرة أخري إلي تيار التشدد والتعسير الذي تسرب بقوة إلي عبادات المسلمين ومعاملاتهم. ولا يخفي مدي أهمية وجود مثل هذه الرخصة، ودورها في المحافظة علي الصلوات، لا سيما لدي أولئك المتثقلين من أدائها (وما أكثرهم!) مفرقة في أوقاتها الخمسة. [ صفحه 312]

الجهل والتخلف في فهم القضايا التاريخية

كم هي القضايا المتعلقة بأحداث هامة في تاريخنا الإسلامي فهمت علي غير حقيقتها، وزورت تفاصيلها، وشوهت صورتها حتي صارت كما نقلت إلينا وكأنها قضية مختلفة تماما عن واقعها الأصلي. ونأخذ ثورة كربلاء كمثال: فبالرغم من الأهداف النبيلة لهذه الثورة الحسينية، ودورها في إنقاذ الإسلام من ابتذال بني أمية وسطوتهم، بكشف الغطاء عن وجههم الحقيقي المعادي للإسلام، فإنها تعرضت للكثير من التحريفات والتشويهات من قبل كثير من أبناء الأمة علي مر العصور. ففي جانب، يري بعضهم في الإمام الحسين الرجل المتسرع الذي يرمي نفسه إلي التهلكة، ويرفض الاستماع إلي بعض النصائح في عدم الخروج عن طاعة ولي الأمر (!) يزيد بن معاوية. ويلاحظ في هذا الجانب أيضا اعتبار كثير من المسلمين يوم ذكري استشهاد الحسين مناسبة سارة، لا لمقتله عليه السلام، وإنما بحجة أن يوم العاشر من محرم هو اليوم الذي أنقذ الله سبحانه وتعالي فيه النبي موسي عليه السلام من بطش فرعون. ولذلك فإن الأمويين تفننوا في وضع المرويات التي فيها أخبار إنقاذ العديد من الأنبياء في هذا اليوم نفسه، وثواب كبير لصائميه. وتجد بعض المسلمين في الهند وبنغلادش يحتفلون في العاشر من محرم بابتهاج وسرور كبير، وكأنه عيد كبير من الأعياد! وفي جانب آخر، تحولت عاشوراء لمسلمين آخرين إلي ذكري يجتمع فيها الناس لمجرد البكاء وضرب الصدور، ظنا منهم أن هذه هي الطريقة المثالية لمواساة الحسين وأهل البيت عليهم السلام في مصابهم. وبالرغم من والعلماء المسلمون - باستثناء الوهابيين - لا يحرمون البكاء علي الإمام الحسين عليه السلام وغيره من شهداء الإسلام فضلا عن أموات عموم الناس، بل إن ذلك أمر يثاب فاعله عليه إذا كان البكاء بدافع الحب والحزن، لا سيما عند تذكر الطريقة الوحشية التي ذبح بها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه. ولكنه [ صفحه 313] في الوقت نفسه، ليس من المقبول أن يختار الناس قارئ العزاء في هذه الذكري علي أساس قدرته فقط علي إبكاء الحضور علي حساب الخطيب القادر علي إبراز الدروس والعبر النافعة من هذه الحادثة. ففضلا عن أن الإحياء بهذه الصورة هو حصر للقضية الحسينية في بعدها الشخصي العاطفي، فإنه أيضا يعطي صورة سلبية عن الدين لأنه يعبر عن مظهر من مظاهر الجهل والتخلف. وأما الدروس والعبر التي يؤكد العلماء علي ضرورة الاستفادة منها من هذه القضية، فهي التضحية في سبيل الرسالة والمبدأ، والعمل في سبيل الله دون النظر إلي الأخطار الدافعة إلي الخوف كمبرر للتقاعس والتوقف عن خدمة الدين، فعاشوراء ليست للدموع والبكاء، وإنما هي للإسلام والرسالة.

الجهل والتخلف في فهم القضايا الأخلاقية

هناك العديد من المفاهيم الأخلاقية التي أخذها المسلمون علي غير حقيقتها كمفاهيم الزهد، والصبر، والتوبة، والتوكل، وغيرها، ونأخذ الزهد كمثال: فالإسلام في الحقيقة قد حث علي الزهد ورغب فيه، والزهد يطلق علي ترك الإنسان لشئ يرغب فيه رغبة طبيعية، أي أن هذه الصفة لا تطلق علي المريض الراغب عن تناول الطعام بسبب فقدانه شهية الأكل. وهذا المفهوم السامي كغيره من المفاهيم العديدة التي تشوهت صورتها في أذهان المسلمين، حتي أصبح الزهد مما ينفر منه، لأنه يعني عندهم ترك الإنسان الدنيا ولذاتها من أجل التفرغ للعبادة. وهذا الفهم المنحرف قد تسرب إلي فكر المسلمين من المسيحية التي تفرق بين العمل الدنيوي والأخروي، حيث تطلق هذه الديانة علي كل ممارسة عملية للإنسان مع الطبيعة والحياة عملا دنيويا، بينما أطلقت علي الطقوس المعزولة عن كل ممارسة حياتية اسم العمل الأخروي. في حين أن الإسلام يعطي أي عمل أو نشاط للإنسان صفة الأخروية ويعده عبادة إذا كان مؤدي بنية التوجه والقرب من الله. [ صفحه 314] وقد أوجز الإمام علي عليه السلام الزهد في حكمتين من القرآن: (لكي لا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) [الحديد / 23]. وفي الحديث الشريف: (الزهد ليس أن لا تملك شيئا، وإنما أن لا يملكك شئ). ويري الشهيد مطهري أن سبب حث الإسلام علي الزهد لأن فيه تجسيدا للإيثار، ومواساة للفئة المحرومة، والتحرر والانعتاق من قيود الشهوة والنهم وشح النفس وحب الادخار والجاه ونظائرها، بالإضافة إلي أن الزهد يساعد علي تذوق اللذات المعنوية لأن الانغماس التام في تلبية حاجات الجسدالمادية يغلظ الحس ويضخمه [652] . وهو يستنكر الزهد الذي يعني الانفصال عن حياة الناس، أو الامتناع عن اللذات الدنيوية، فهو زهد لا روح فيه، بل إن الإسلام ينفر من مثل هذا الزهدوأولئك الزهاد [653] .

الجهل والتخلف في القضايا السياسية

من أكبر مظاهر جهل المسلمين وتخلفهم في هذا الجانب هو طاعتهم العمياء علي مر العصور التي حكمت فيها دولة الخلافة، وحتي في بعض البلدان بأيامنا هذه لحكام الجور، بحجة عدم جواز الخروج عن طاعة أولياء الأمور حتي لو كانوا من الفجار والمجرمين. وقد بينا هذه الحالة في بند سابق. وسنتناول في هذه الزاوية حالة أناس موازية لأولئك المسلمين المؤمنين بالطاعة العمياء. ولكن باختلاف في التفاصيل. فقد وجد هناك بعض المسلمين ممن لا يؤمنون بطاعة حكام الجور، ولكنهم مخدرون أيضا لأنهم لا يؤمنون بوجوب إقامة الحكم الإسلامي في عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، بل إن منهم من حرم السعي والتحرك لذلك. ومن الواضح [ صفحه 315] ومن الواضح أن الحالة الأولي قد سادت في عالم الإسلام السني، والثانية قد لوحظ لها وجود في عالم الإسلام الشيعي. ويقول الإمام الخميني مستنكرا هذا الجهل بقوله حول ضرورة قيام الحكومة الإسلامية في هذا الزمان بأنها: (فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلي برهان، بمعني أن من عرف الإسلام أحكاما وعقائد يري بداهتها، ولكن وضع المجتمع الإسلامي، ووضع مجاميعنا العلمية علي وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيدا عن الأذهان، حتي لقد عاد اليوم بحاجة إليالبرهان) [654] وكان كلام الإمام هذا رحمه الله قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بسنوات عديدة. وأما جذور ذلك الفهم المتخلف، فهو راجع إلي التفسير الخاطئ لحقيقة غيبة الإمام المنتظر، والجهل بالظروف الموضوعية التي تستلزم ظهوره، علاوة علي الاستناد علي بعض المرويات المشكوك في صحتها والتي توحي أن كل راية ترفع في زمن غيبة الإمام هي راية ضلال، بمعني أن إقامة الحكومة الإسلامية هو حق مخصوص بالأئمة الاثني عشر، وليس لأحد غيرهم تجب الولاية والطاعة. وقد وصف السيد فضل الله فهم هؤلاء بالجمود، وأنه يدفع أصحابه إلي السلبية أمام مشكلات الواقع، لأنهم بموقفهم هذا أصبحوا القوة التي تحمل الآخرين إلي الحكم دون الاعتقاد بشرعيتهم، وبذلك استطاع كل المنحرفين والطامعين أن يصلوا إلي المركز الكبير في قيادة المسلمين لينحرفوا بهم إلي واقع مظلم لا يحمل لهم إلا المزيد من الجهل والتخلف، والبعد عن قيمالإسلام الحضارية الباحثة عن الحرية والعدالة والمساواة [655] . [ صفحه 316]

الجهل والتخلف في القضايا الاقتصادية

في الوقت الذي لا يزال فيه العلماء والمفكرون المسلمون يواجهون تحديا كبيرا في استخلاص نظام اقتصادي إسلامي وبلورته ليكون قابلا للتطبيق في هذا العصر فإنه ولتعقيدات مذهبية يجهل كثير من هؤلاء الأعلام فضلا عن العوام أبسط بديهيات هذا النظام كما ستري في المثال التالي المتعلق بدفع ضريبتي الزكاة أو الخمس: فبالنسبة لمصطلح الخمس فإنه وحسب دليل القرآن الكريم (وما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربي...) [الأنفال / 41]، وكما فهمه العلماء السائرون علي منهج أهل البيت عليه السلام، فإنه يعني وجوب دفع خمس صافي الأرباح السنوية للإمام أو الدولة الإسلامية. وأما تلك التعقيدات المذهبية التي أحدثت إشكالا كهذا، فتعود جذورها إلي الوقت الذي منع فيه الخليفة أبو بكر حق فاطمة ابنة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم منالخمس [656] (وهو سهم ذوي القربي)، حيث ذهب المؤيدون لأبي بكر وخلافته منذ ذلك الحين إلي اعتبار الخمس المقصود في الآية السابقة خاصا بغنائم الحروب التي يتصرف بها حاكم المسلمين كائنا من كان. فبالإضافة إلي أن الآية القرآنية هذه ليس فيها ما يدل علي أي تخصيص بغنائم الحروب، فإن الحديث الشريف التالي يؤكد أيضا هذه الحقيقة. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: (العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار،وفي الركاز الخمس) [657] فالذهب والفضة (المستخرجان من الأرض وليس ما يبتاعه الناس) في هذا الحديث ليسا من غنائم الحروب ولكنهما مشمولان بحكم الخمس. [ صفحه 317] وعلي كل حال، فإن أل 5 و 2 بالمئة التي يدفعها أهل السنة زكاة لأموالهم لا تفي بشئ من حاجة الدولة الإسلامية حال وجودها، وتجد هذه النسبة (الضريبة) في الدول الغربية تصل إلي 35 % أحيانا، حتي تكون الدولة قادرة علي الإيفاء بحاجتها مما تدفعه إلي مواطنيها المحتاجين من صندوق الضمان الاجتماعي. وأما الشيعة، فإن من استحق عليه منهم دفع ضريبة الخمس، فإنهم يدفعونها إلي العلماء المراجع الذين ينوبون عن الإمام محمد بن الحسن المهدي في غيبته، أو يصرفونها مباشرة في المشاريع الخيرية بإذن منهم. وفي نسبة الخمس ما يكفي العلماء لتحقيق استقلالهم عن السلطات الحاكمة علي مر الأزمنة، وهم يستثمرونها في الصرف علي المشاريع الخيرية ورعاية الفقراء والأيتام وبناء المساجد والحوزات العلمية (المدارس والجامعات الدينية). والحق يقال إن هذه الاستقلالية لم تتوفر عند علماء أهل السنة، أو المدارس والهيئات الدينية التي يديرونها، مما يبقيهم تحت رحمة السلطان ويد الدولة، وما يعني ذلك من تأثير في الخط والمنهج بل والفتوي كما لا يخفي!

الجهل والتخلف في القضايا الاجتماعية

ما أكثر القضايا التي تستحق النظر والاهتمام في هذا الجانب، حيث تجد بقاء ترسبات كثيرة من العادات والتقاليد التي عفي عليها الزمان في معظم بقاع العالم الإسلامي، لا بل الجاهلية منها، حتي أن الدين أصبح يحور ويشكل ليكون موافقا لها ومنسجما معها، وإلا تراه غائبا عن واقع الحياة الاجتماعية أو بعيدا عن التأثير فيها. وتعتبر المسائل المتعلقة بالزواج من أكثر القضايا حيوية في أي مجتمع كان، وقد رأينا في هذه الناحية أخذ الزواج المؤقت كمثال: فقد أجمع المسلمون في فهمهم حول الحكم التي جعلت الشارع المقدس يبيح رخصة تعدد الزوجات، فهم يرون فيها حلا إلهيا لمشاكل كثيرة [ صفحه 318] لا تخفي علي أحد، وذلك بالرغم مما قد يرافق ممارسة هذه الرخصة من إشكالات ناجمة عادة من سوء التطبيق لا من حكمة التشريع. ولكن مما لا يزال المسلمون مختلفين حوله هو دوام إباحة الزواجالمؤقت والمعروف بزواج المتعة [658] ، والذي يراه المنطق والعقل السليم المتحرر من أغلال بعض العقد الاجتماعية المتوارثة حلا لمشاكل عديدة يخفق في حلها الزواج الدائم أو تعدده، فضلا عن تسيب العلاقات غير المشروعة وذلك بالرغم أيضا مما قد ينجم من إشكالات سوء التطبيق. وحتي أن الخليفة عمر بن الخطاب، المحرم الحقيقي لهذا النوع من الزواج، يعترف أن تشريعه كان لضرورة وحاجة، حيث يروي الطبري أن الخليفة عمر رد علي انتقاد عمر بن سوادة له بهذه المسألة قائلا: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلي سعة، ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاثبطلاق، وقد أصبت...) [659] . ويفند أحد المحققين المعاصرين رأي الخليفة هذا بالقول: (أما ما ذكره الخليفة في مقام العلاج من تبديل نكاح المتعة بالنكاح الدائم علي أن يفارق [بالثلاث طلقات]، فالأمر ينحصر فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يقع ذلك بعلم من الزوجين وتراض بينهما، فهو الزواج المؤقت أو نكاح المتعة بعينه، وإما أن يقع بتبييت نية من الزوج مع إخفائه عن الزوجة، فهو غدر بالمرأة واستهانة بها بعد أن اتفقا علي النكاح الدائم، وأخفي المرء في نفسهنية الطلاق) [660] . [ صفحه 319] وقد أخذ الشيخ عبد العزيز بن باز (مفتي الديار المقدسة) بقول عمر هذا ولكن علي احتمال التفسير الثاني الذي يعني إخفاء نية الطلاق عن الزوجة، فأفتي ابن باز علي ضوء ذلك بجواز (الزواج بنية الطلاق) كبديل عن المتعة والزواج الدائم، لمن أراد ألا يقع في الفاحشة من المسافرين الطلبة ورجال الأعمال والسواح! وعلي كل حال، فإن الضرورة المجمع عليها، والتي من أجلها شرع زواج المتعة، لا يمكن أن تكون محصورة بتلك الحقبة الوجيزة في حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فالمشكلة الجنسية ليست خاصة بعصر دون آخر، ولا بأماكن أو أقوام دون غيرها، لا بل أن هذه المشكلة في تفاقم مستمر في كل مكان، إن لم تكن المشكلة الاجتماعية الأولي هذه الأيام لأسباب كثيرة لا تحتاج إلي توضيح. وإن كان رفض فكرة التوقيت في الزواج نابعا من أسباب نفسية، وعادات وتقاليد راسخة لا محيص عنها، فليكن ذلك، ولكن هذا لا ينبغي بأي حال من الأحوال، أن يكون دليلا علي حرمة هذا الزواج، فيوجد هناك أحيانا من المسلمين ممن يأنفون الحكم والقانون (الإلهي!) في تعدد الزوجات، ولو أبقي التشريع علي عادات العرب وعاداتهم الذين أول من نزل فيهم الإسلام، لما زلنا نري ممارسة وأد البنات لغاية هذه الأيام!، وإن كتبت لهن الحياة، فإنهن غالبا يعشن مهانات ومحتقرات إلي أبعد الدرجات. وقد أقسم لي أحد الأصدقاء أن في بلدته النائية بأحد الأغوار رجلا لم يسمح لبناته الثلاث من الزواج، حتي شارفن الأربعين دون أي أمل يلوح في الأفق. والسبب؟ حتي لا يتمكن من ملامستهن أي رجل كائنا من كان! وهذه الجريمة بنظري أعظم من جريمة وأد البنات!. ولا يزال سائدا في بعض البلدان الإفريقية (ومنها إسلامية) ممارسة جريمة ختان البنات. لماذا؟ [ صفحه 320] للأسباب نفسها التي كان (يخصي) من أجلها العبيد في قصور الملوك أو حتي للأسباب التي تخصي من أجلها ذكور بعض البهائم للتدجين وقتل الشهوة الجنسية. أو لا يزال سائدا أيضا في بعض المناطق في بلاد العرب والمسلمين عادة قتل المرأة غير المحصنة لأقل شبهة أو إشاعة باقترافها الزني، ودون أي تأن للتحقق والنظر، وبقاء الرجل المحصن المشهور باقترافه الفواحش كلها رافعا رأسه ومحترما بين الناس؟! فهذه العقلية هي نفسها التي أيدت اجتهاد المتشددين بتحريم زواج المتعة، وأبقت علي هذا المنع حتي صار دينا بعينه! أضف لكل ذلك أنه ما لا يناسب عادات مجتمع ما وتقاليده، لا يعني بالضرورة عدم ملاءمته لعادات المجتمعات الأخري وتقاليدها، والإسلام لم يأت لقوم دون آخرين، وإنما هو صالح لكل زمان ومكان بكل ما تعني هذه الكلمات والتي حولها غالبية المسلمين إلي شعارات من دون معان. فالمشكلة الجنسية أصبحت هذه الأيام، وأكثر من أي وقت مضي، أكبر من أن يكبتها أي حض خلقي، أو وعظ إرشادي، أو حتي مرض الايدز الذي أصبح مرض العصر من دون منافس! وما دامت الشهوة الجنسية هي مما فطر الخلق عليها، فيستحيل كبتها، ولا يجوز التباطؤ في التعامل معها، وإنما يجب الإسراع بالاستجابة لمتطلباتها ضمن إطار نظام اجتماعي شامل. وقد اشتهر الفيلسوف الإنجليزي المعروف برتراند رسل بتبنيه لحل مطابق لزواج المتعة، بعد أن رأي الانحطاط الذي وصلت إليه المجتمعات الغربية من جراء الإباحية المطلقة التي عولجت بها القضايا الجنسية وعلاقة الرجل مع المرأة هناك. فهو يري (أن سن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير، فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مئة سنة أو مئتين في نحو الثامنة عشرة أو [ صفحه 321] العشرين، فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذا آثر الانقطاع للعلم مدي الحياة، وقل من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان. أما في العصر الحاضر، فالطلاب يتخصصون لعلومهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلي زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية، ولا يتسني لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين، فهناك حقبة زمنية طويلة يقضيها الشاب بين سن البلوغ وبين سن الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة، وهذه الحقبة هي زمن النمو الجنسي والرغبة الجامحة، وصعوبة المقاومة للمغريات، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظامالمجتمع الإنساني كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطي!) [661] . ويجيب مستنكرا ذلك لأنه يري (أننا إذا أسقطناها من الحساب، فنتيجةذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل والصحة بين الشبان والشابات) [662] . والحل الذي رآه: (وإنما الرأي أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات لا يؤودهم بتكاليف الأسرة، ولا يتركهملعبث الشهوات والموبقات، وما يعقبه من العلل والمحرجات) [663] ، وقد سمي هذا النوع من الزواج (بالزواج العقيم أو الزواج بغير أطفال، وأراد به أن يكون عاصما من الابتذال، ومدربا علي المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمحبتأسيس البيوت) [664] . [ صفحه 322] وما أروع ما روي عن عبد الله بن عباس في هذا المجال حيث قال: (رحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالي رحم بها أمة محمد،ولولا نهيه لما احتاج إلي الزني إلا شفا) [665] والشفا يعني القليل. ويعلق السيد محمد تقي الحكيم علي هذه الحقيقة بقوله: (وأرجو أن نتأمل كلمة (رحمة) و (احتاج) فهي من أروع الدلائل علي عمق هذا الرجل وفهمه للمشكلة، وحسبه أن يري أن الزني مما يحتاج إليه أحيانا، وليس ينطوي دائما علي التحدي للتشريع، فصاحبه مريض والمريض يحتاج إلي العلاج، وقد جعل الله في المتعة علاجه، فهي رحمة له، والحقيقة أن تشريع الحد في الزني، والشذوذ الجنسي لا تتضح عدالته إذا لم نفهم مختلف الحلول التي وفرها الشارع لمشكلته، فمع تخطيها جميعا، وتحدي الشارع بالعمل علي إشاعة الفوضي الجنسية ينكشف أن هذا النوع من المرض النفسيلا يمكن علاجه والحد من انتشار وبائه إلا بأمثال هذه الجرعات) [666] . [ صفحه 323]

الخلاصة والخاتمة

اشاره

إن أهم ما يمكن استنتاجه من هذا البحث أن ما جعل من الخلاف الذي حصل في صدر الإسلام حول خلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وإمامة الأمة بعده أزمة علي مر العصور هو أن هذا الخلاف لم يكن مجرد خلاف سياسي بين أشخاص تنافسوا علي الوصول للسلطة والحكم، ولم يكن مجرد فتنة وقتية حدثت بين الصحابة وانتهت برحيلهم، وإنما كان فوق كل ذلك خلافا حول المسار الذي ينبغي علي المسلمين اتباعه في تحصيل معارف الدين من عقائد وسنن وأحكام. وهذا يؤكد ما بيناه في بداية البحث أن المفهوم القرآني للخلافة والإمامة يتلخص في اعتبارها الخلافة الإلهية في الأرض، والأمانة أو العهد الذين يربطان العباد بمعبودهم، وما يعني أن أي خلل في فهم هذا المبدأ أو تطبيقه، سيؤدي حتما إلي حدوث خلل في فهم عقائد الإسلام، وانحراف في تطبيق أحكام الشرع. ونجمل ذلك في نقاط:

صراع الخطط والإرادات

لقد كان واضحا أن التخطيط الإلهي ببعثة سيدنا محمد صلي الله عليه وآله وسلم كان يهدف إلي تبليغ الرسالة ليس إلا (وما أرسلناك إلا شاهدا ومبشرا ونذيرا)، فقال جل وعلا بعد نجاح هذه المهمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وأما التخطيط الإلهي بحصر خلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم،، فقد كان يهدف إلي إتمام نور الرسالة علي يد هؤلاء الأئمة، والذين خصتهم العناية الإلهية بالعناية والتسديد (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب / 33]. [ صفحه 324] فلم يكن دور الأئمة حسب هذا التخطيط حفظ الرسالة وصيانتها من التحريف والتشويه فحسب (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) بل أيضا تعليمها وإرشاد الناس إليها علي مر العصور (لكل قوم هاد)، علي أن يكون ذلك بخطوات تدريجية تمهيدا لإتمام النور الإلهي في جميع أركان الأرض في عهد الإمام الثاني عشر، والذي ستكون خلافته تتويجا لجميع رسالات السماء، وتحقيقا لأهداف الأنبياء والرسل (ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون). ولا يمكننا فهم إبعاد هذا التخطيط عن جريانه الطبيعي، كما حصل فعلا بتهمش دور الأئمة عليه السلام، إلا بفهم القوانين والسنن التي جعلها الله سبحانه وتعالي المبدأ الأساس الذي يحكم العلاقة بين الهداية الربانية وحرية إرادة الإنسان واختياره (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد / 11]. فالتخطيط الإلهي من إرسال الأنبياء إلي بني إسرائيل علي سبيل المثال، لم يكن يهدف إلي قتل هؤلاء الأنبياء وإنما لاهتداء الناس بهم. فأما قتلهم فكان ناتجا عن تخطيط بشري أدي إلي انتصار إرادة الباطل، فكان جواب الأنبياء والدعاة إلي الحق للمعاندين والكارهين للهداية علي مر العصور (قال يا قوم أرأيتم إن كنت علي بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون). وهذه القوانين والسنن هي التي تفسر سياسة الأئمة الاثني عشر منذ لحظة وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم تجاه الأوضاع التي كانت تمر بهم وتحكم علاقتهم بالسلطة وجمهور الأمة. فالأسباب التي أدت إلي إبعاد التخطيط الإلهي القاضي باستخلاف أهل البيت عليه السلام لم تكن محصورة في الأشخاص الذين اجتهدوا بالتصدي لولاية أمر المسلمين علي طريقتهم الخاصة، وإنما تعود إلي عدة عوامل مجتمعة، [ صفحه 325] أبرزها العقلية القبلية والتي اتضح من صراع السقيفة وما بعدها. إنها كانت لا تزال سائدة في مجاميع المهاجرين والأنصار، وبكل ما في هذا النهج القبلي من حب السلطة والجاه، والتمكن والانتصار للشخص والعشيرة وغير ذلك من الاعتبارات الجاهلية، ومما كان دليلا أكيدا علي عدم تشرب نفوس المسلمين لغاية ذلك الحين بروحية الإسلام وفكرته ورسالته. وقد عبر الإمام علي عليه السلام عن رفضه لما جري في السقيفة بتخلفه عن بيعة أبي بكر ستة شهور، ولكنه آثر أخيرا البيعة لما استسلم له الناس، واختار أن يبقي علي مقربة من النظام القائم، لتحققه من أن المصلحة الرسالية العليا تتطلب منه ذلك، لا سيما لبقاء وجود قدرته علي التأثير في الحفاظ علي تعاليم الإسلام من التحريف والتشويه، وباعتبار أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قد بايعهم الناس علي أن يعملوا بكتاب الله وسنة نبيه. وهذا المبدأ هو نفسه الذي يفسر رفض الإمام علي عليه السلام الأولي للخلافة بعد مقتل عثمان، ولم يقبلها إلا بعد إصرار الناس عليه، وإظهار رغبتهم الأكيدة لخلافته، فأصبحت الفرصة بمبايعة المسلمين له مهيأة لتوحيد الخط والفكر والمنهج، لأن خلافته عليه السلام هي الوحيدة التي أجمع المسلمون علي صحتها علي مر العصور باختلاف فرقهم ومذاهبهم، وهي المعياد التي يجب أن تقاس به أي خلافة كانت، سواء كانت بنص من الله ورسوله، أو كانت بشوري حقيقية من الناس. فخلافة علي عليه السلام هي الغاية والمثال الأعلي فيما ذهب إليه أهل السنة والشيعة بقولهما في الخلافة، وهو الوحيد الذي استحق عند أهل السنة من بين جميع الخلفاء علي مر العصور لقب (الإمام)، وعند الشيعة من بين جميع الأئمة الاثني عشر لقب (أمير المؤمنين). ولكن هيهات، فقد أبي الشيطان إلا أن يخرج بقرنه، فماجت الأرض، وهدرت دماء المسلمين بسيوف المسلمين، حتي تحول عهد علي عليه السلام إلي [ صفحه 326] عصر دام بأبشع صور التمرد والعصيان عن طاعة أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وإمام الزمان! وبسبب انتصار تلك الإرادة التمردية، وخصوصا مع خذلان شيعة الإمام علي عليه السلام وتقاعسهم عن نصرة حقهم، وما تبع ذلك من تنازل الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية بن أبي سفيان المتلهف للوصول للخلافة والملك مهما كلف الثمن، فكان الصلح الاضطراري حقنا للدماء وحفاظا للوجود الإسلامي من الزوال التام، فبذلك تكون الأمة قد اختارت مرة أخري لنفسها منهجا مغايرا لما أراده الله، والذي جلت قدرته وحكمته لم يكن ليلزمها علي الناس وهم لها كارهون! ولأن هذه التحولات قد صاحبها كل أنواع الفوضي والاضطراب، وقد أحدثت التباسا في الفهم لدي كثير من المسلمين في تلك الأثناء، لا سيما بعد مقتل عثمان، حتي قورن علي بمعاوية (!)، بل أنه وبفضل أجهزة الدعاية الأموية، فإن غالبية مسلمي الولايات والأمصار خارج مكة والمدينة أخذوا يصدقون أن عليا عليه السلام قد حرف فعلا سنة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وساعد علي قتل عثمان، ولم يعد مستغربا إذا أن يسب الإمام ويلعن علي منابر جمع المسلمين، وأعيادهم، ثم تحدي معاوية لكل مشاعر المسلمين، ولكل قانون إلهي، ولكل سنة نبوية (أو حتي عمرية!) بتوريثه الخلافة لابنه الفاجر المراهق يزيد، وخلافا لما تعاهد عليه مع الحسن عليه السلام، فإنه وبسبب كل هذه المستجدات، فقد أصبح بتقدير الإمام الحسين عليه السلام أنه لم يعد هناك إسلام يخاف خسارته، بل أنه رأي عليه السلام أن مسخ الدين أو القضاء التام عليه سيكون بالسكوت والرضا بالأمر الواقع، فكان قراره بعدم مبايعة مثل هذا اللون من أولياء الأمور، والثورة ضد هذا اللون من الأنظمة الإسلامية، لا ليجلس علي كرسي الخلافة، وإنما لإزاحة اللثام عن قبح الوجه الأموي المتظاهر بالإسلام، فانفضح أمر هذا النظام، وانكشف في أقبح صوره [ صفحه 327] الجاهلية، فيكون الناس جميعا (لا سيما من غفل وضلل، وليس أناس ذلك الزمان فحسب بل كل من كان سيغفل ويضلل بعدهم وعلي مر العصور) قد تميزت أمامهم معايير الحق من الباطل إلي الأبد، فيحيي من حيي علي بينة، ويهلك من هلك علي بينة. فثورة الحسين كانت لإنقاذ الإسلام، ولم تكن محصورة الغاية بذلك الزمان. فثورة كهذه إذا نظرنا إليها بهذا البعد، فإن ذكراها تستحق أن يغلب فيها الابتهاج والسرور أكثر من البكاء والعويل! وهكذا كانت سيرة من تلا الحسين من الأئمة عليه السلام مرهونة بالظروف والمستجدات، فتختلف استراتيجيتهم في العمل والتحرك علي ضوئها، فالأدوار تتنوع والهدف واحد. ولأن غالبية هؤلاء الأئمة قد لاقوا التعذيب والقتل علي أيدي الأنظمة القائمة، فإنه وبمجئ آخرهم كان يعني استمرار هذا المسلسل الإجرامي بحقهم، فكانت غيبة الإمام الثاني عشر تجسيدا لانتصار الإرادة البشرية الرافضة للهداية الإلهية من جهة، ومؤشرا علي تأجيل تنفيذ الخطة الإلهية إلي الوقت الذي يغير فيه الناس من نظراتهم ومواقفهم تجاه إمام زمانهم، فيبحثوا عنه بصدق، ويوالونه بمعرفة وإخلاص، عندئذ يظهره الله سبحانه وتعالي تأييدا لهم. وبهذا المعني، يكون الإمام المهدي هو الذي ينتظر الناس وليس العكس!.

صراع الفرق والروايات

من الخطأ الفاحش جعل الانتماء للفرقة أو المذهب المعيار الأساس في بحث مسائل الخلافة والإمامة، لأن غالبية الفرق والمذاهب كانت إما من صنع الأنظمة القائمة، أو ممن تأثر بها، فهي بمبادئها وتعاليمها التي تعرف بها هذه الأيام لم تكن موجودة أصلا عند تولد أزمة الخلافة والإمامة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ولغاية تطورها واستفحالها في خلافة علي وبداية ملك معاوية. [ صفحه 328] وهذا يعني لزوم التحرر التام عند بحث مسائل كهذه من كل تلك الأهواء المذهبية، والتي تجد أغلبها قد صدر بدوافع المصالح الذاتية أو المؤقتة وبأجواء مشحونة بالتعصب والأحقاد من غير المنطق والعدل إقحام مسلمي هذا الزمان فيها! والمعيار نفسه ينبغي استخدامه عند الأخذ بأي حديث أو رواية من كتب الصحاح عند أهل السنة كصحيحي البخاري ومسلم، أو الكتب الأربعة الرئيسية عند الشيعة كالكافي. فليس كل ما في هذه الكتب صحيحا، بل إن الضعيف والموضوع فيها أكثر من الصحيح والموثق، فلا يصح إذا الاعتماد علي ما في هذه الكتب من مرويات للبت والحكم في قضايا مصيرية كقضية الخلافة والإمامة، لا لشئ إلا لأن الصحابي الفلاني رواها، أو الشيخ الفلاني وثقها، ما لم تكن مؤيدة بقرائن أخري تجعلها فوق أي شبهة وشك. وأما سبب توثيق غالبية رجال الحديث لكثير من تلك الروايات الموضوعة التي ذكرنا منها أمثلة عديدة، والمروية عن طريق الصحابة كأبي هريرة، فهو راجع إلي الصورة الوهمية التي رسمتها أجهزة الدعاية والإعلام الأموية عنهم، حيث جعلتهم بمرتبة قريبة جدا من التقديس والعصمة. وإلا فما معني اعتبار استحالة الكذب عليهم مع أنهم رفعوا السيوف في وجه بعضهم بعضا. لا بل أعطيت لبعضهم مرتبة من الالهام والتسديد فوق ذلك لدرجة أصبحوا فيها يصححون النبي صلي الله عليه وآله وسلم في مواقف زعم أنه صلي الله عليه وآله وسلم كان قد أخطأ فيها، وهو الذي (لا ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي). فالصحابة أصبحوا حسب هذه الحالة القدسية الجيل الفريد الذي لم ولن يأتي جيل أفضل منه، حتي أصبح الشرع عند أهل السنة بعد كتاب الله وسنة نبيه هو ما عمله الصحابة ورضوا به، بما في ذلك كل ما يتعلق بأمر خلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإمامة الأمة بعده. [ صفحه 329] ولأنه كان مما عمل به الصحابة ورضوا به استخلاف ومبايعة أئمة أقل ما يقال فيهم بأنهم كانوا جاهلين ويعملون علي تجهيل الشريعة وتحريفها، فإن غالبية علماء أهل السنة علي مر العصور لم يشترطوا في حكام المسلمين توافرهم علي مؤهلات تنسجم مع سمو الشريعة وخطورة حفظها والقيمومة علي أحكامها، فاعترفوا وأقروا تبعا لذلك بشرعية الخلفاء حتي (غير الراشدين) منهم. فيتضح من ذلك كله نتائج إبعاد أئمة الهدي من أهل البيت عليه السلام عن المواقع التي اختارهم الله سبحانه وتعالي لها وآثار ذلك الإبعاد. فتهميش دورهم يعني تهميش رسالة الإسلام، وقتلهم يعني قتل رسالة الإسلام، فهذه الأهمية اختصرت في قوله تعالي عندما أمر نبيه بإعلان ولاية علي علي الملأ بعد حجة الوداع: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)، [المائدة / 67]، وفي قوله صلي الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع: (أيها الناس: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي). فاستحق الإمام علي بصدق قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم له: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وقوله صلي الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم [الحكمة حسب رواية أخري] وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها). وأهل البيت عليه السلام علي كل حال لا ينبغي وضعهم في قوالب الفرق والمذاهب، فهم فخر الإسلام، وشرف كل مسلم أن ينتمي إليهم، لا بل لا يمكن للمسلم أن يكون مسلما دون حبهم واتباعهم، ولا يجوز كذلك لأي فرقة ادعاء احتكار حبهم واتباعهم دون غيرها. وأما بنو أمية، فمن العار ربط شرعية خلافتهم بشرع الإسلام! واعتراف أهل السنة بخلافة وإمامة أهل البيت عليه السلام لا يعني بالضرورة أنهم أصبحوا من الشيعة بالمفهوم الشائع لهذه الكلمة، فهذه التسمية فقط هي [ صفحه 330] التي تحجب الكثيرين عن رؤية هذه الحقيقة، وتمنعهم من التفاعل معها. فما الذي يمنع أن يسمي المؤمنون بخلافة أهل البيت عليه السلام وإمامتهم أهل السنة إذا كانت هذه التسمية تعني اتباع السنة النبوية المطهرة، فليس المهم الأسماء، ولكن ما تحمله هذه المسميات والمصطلحات من معان! وفي الوقت نفسه، فإنه ليس كل من قال بخلافة أهل البيت وإمامتهم عليه السلام أو انتسب إليهم، يعني إعطاء شهادة التوثيق له بسلامة الخط والمنهج. فالشيعة في هذا الزمان، وبعد ما يزيد علي أحد عشر قرنا من غيبة الإمام المعصوم، هم كأهل السنة مطالبون في البحث عن المنهج الأصيل الذي يجسد بحق مسار أهل البيت عليه السلام. فكما أن أهل السنة مطالبون بعدم قبول أي اجتهاد لصحابي كان أو غيره خالف القرآن والسنة، واستنكار كل ما وضعه أبو هريرة وغيره من الصحابة من أحاديث يستحيل علي العقل السليم قبولها، أو تلك الخرافات والخزعبلات، وما نقل من إسرائيليات ملأت الكتب المسماة ظلما وزورا بالصحاح، فإن الشيعة أيضا مطالبون برفض كل ما نسب كذبا لأهل البيت عليه السلام، واستنكار كل تجاوز أو غلو باسم التشيع لآل البيت عليهم السلام.

خاتمة المطاف

لقد أشارت روايات عديدة أن خلقا كثيرا من أهل السنة والشيعة علي السواء سيقفون في وجه خليفة رسول الله الثاني عشر الإمام المهدي عند ظهوره. فضعف الفكر المتوارث، وهشاشة معظم المفاهيم والتباسها علي غالبية أبناء الأمة في هذا العصر، وحالة التشتت والضياع التي يعيشونها، ووجود تلك الهوة الكبيرة بين ما هو إسلام اسمي وظاهري جاف من كل معني يدينون به، وإسلام واقعي أصيل يقولون به، ما هي إلا أسباب أولية تجعل من [ صفحه 331] المسلم عدوا لإمام زمانه عند ظهوره، بل إنه قد يكون يعيش حالة العداء هذه قبل ذلك دون أن يدري بحاله! ولأنه ليس كل ما ورثه المسلمون بسنتهم وشيعتهم من أسلافهم يمثل واقعا إسلاميا ينبغي تقديسه، فإنه لا سبيل للخروج من هذه الحالة الجاهلية إلا بأن يبدأ أبناء الأمة بنهضة توعية شاملة في الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة، وعلي مستوي الفرد والمجتمع، وعلي أساس من العقيدة الباعثة علي الحركة، والمنهج الواعي والمتحرر من غبار وترسباته، بما في ذلك التعصبات الطائفية والمذهبية التي ينبغي أن لا ينظر إليها إلا كواقع سلبي فرض علي المسلمين طوال تاريخهم، وأن ينظر إليها أيضا من زاوية آثارها السلبية والمدمرة علي الثقافة الإسلامية ووحدة المسلمين. وهذا يلزم دراسة الإسلام بعقائده وشرائعه وتاريخه مجددا، والتحقق منها لا سيما علي ضوء كثير من الحوادث التي حصلت في صدر الإسلام. فما وافق منطق القرآن والأحاديث المجمع علي صحتها والعقل السليم يجب الأخذ به دون أدني تردد، حتي لو كان مخالفا للمذهب أو المعتقد الذي أورثنا التعصب له، أو كان موافقا لأفكار ومعتقدات أورثنا جهلها، فضلا عن رفضها وتكفير أصحابها! وهذا الأمر يلزمنا بدوره محاولة التحرر قدر الامكان من أسر الفرقة أو المذهب أو الحزب أو الحركة أو الخط أو غير ذلك من الأطر، والتي غالبا ما تجعل من المنتمين المتعصبين إليها مقدسين لها وعابدين، وقد استغرقوا في الانغلاق داخلها دون أن يشعروا، فيصبحوا من المغفلين بل المقبورين. كل ذلك علي حساب الانفتاح والمرونة في السعي لتحصيل الحقائق، أو البحث عن الصراط المستقيم الذي يفترض أن لا يتوقف الإنسان في البحث عنه لحظة واحدة في حياته، مهما بلغ عنده من العلم والمذهب! [ صفحه 332] (اللهم أحي بوليك القرآن، وأرنا نوره سرمدا لا ليل فيه، وأحي به القلوب الميتة، وأشف به الصدور الوغرة، واجمع به الأهواء المختلفة علي الحق، وأقم به الحدود المعطلة، والأحكام المهملة، حتي لا يبقي حق إلا ظهر، ولا عدل إلا زهر، واجعلنا يا رب من أعوانه وناصري سلطانه والمؤتمرين لأمره، والراضين بفعله، والمسلمين لأحكامه، وممن لا حاجة به إلي التقية من خلقك، وأنت يا رب الذي تكشف الضر، وتجيب المضطر إذا دعاك، وتنجي من الكرب العظيم، فاكشف الضر عن وليك واجعله خليفة في أرضك كما ضمنت له. اللهم لا تجعلني من خصماء آل محمد عليهم السلام، ولا تجعلني من أعداء آل محمد عليهم السلام، ولا تجعلني من أهل الحنق والغيظ علي آل محمد عليهم السلام، فإني أعوذ بك من ذلك فأعذني، وأستجير بك فأجرني، اللهم صل علي محمد وآل محمد واجعلني بهم فائزا عندك في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، آمين رب العالمين).

پاورقي

[1] محمد سليم العوا: في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص 126 - 127.
[2] الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 15 - 16.
[3] ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 165.
[4] الماوردي: أدب الدين والدنيا، ص 111.
[5] أبو حامد الغزالي: الإقتصاد في الاعتقاد، ص 234.
[6] الآمدي: غاية المرام في علم الكلام، ص 234.
[7] ستجد مصادر هذا الحديث وتفاصيل بشرحه في الفصل الأول من القسم الثاني.
[8] محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص 71.
[9] عبد الملك الجويني، غياث الأمم، ص 75. [
[10] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر، ج 5 ص 247.
[11] المصدر السابق، ص 248.
[12] ابن حجر الصواعق المحرقة، ص 20.
[13] المصدر نفسه، ص 20.
[14] المصدر نفسه، ص 20.
[15] ابن الجوزي: صفوة الصفوة.
[16] عبد الملك الجويني، الإرشاد، ص 424.
[17] تفسير القرطبي، ج 1 ص 260.
[18] الأيجي، المواقف، ص 400.
[19] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 7.
[20] التفتازاني، شرح المقاصد، ص 272.
[21] المصدر نفسه.
[22] الشربيني، مغني المحتاج، ج 4 ص 131 - 132.
[23] صحيح الترمذي، ج 2 ص 308.
[24] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 272، ط دار الثعب.
[25] المستدرك للحاكم، ج 1 ص 93.
[26] لقد ضعف هذه الرواية كل من البخاري، والنسائي، والذهبي، وغيرهم، وذكر الدكتور أحمد بن حمدان (السني) في تحقيقه لكتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) ص 80 بشأن توثيق هذا الحديث: سنده ضعيف، وقال يحيي: ليس بشئ ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكرالحديث، وقال النسائي: متروك).
[27] المستدرك علي الصحيحين للحاكم، ج 2 ص 343، ح 4715.
[28] المصدر نفسه، ج 3 ص 149.
[29] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل الحسن والحسين، ج 5 ص 287.
[30] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ص 268.
[31] صحيح الترمذي، ج 2 ص 209.
[32] مسند أحمد، ج 6 ص 306.
[33] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 274.
[34] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ما قيل في الصواغ، ج 3 ص 171.
[35] المصدر نفسه، كتاب التهجد، ج 2 ص 126.
[36] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ج 4 ص 486.
[37] المصدر نفسه، كتاب الدعوات، باب الصلاة علي النبي، ج 8 ص 45.
[38] هذه الخطبة بالنص الذي أوردناه هي مجمل ما أخرجه العشرات من رجال الحديث بألفاظ متعددة، فراجع صحيح الترمذي، ج 6 ص 298، وسنن ابن ماجة، ج 1 ص 43، ومسند أحمد ج 4ص 281، وصواعق ابن حجر ص 25، وخصائص أمير المؤمنين النسائي ص 93.
[39] السيوطي: الدر المنثور، الخطيب البغدادي تاريخ بغداد.
[40] صحيح الترمذي، ج 2 ص 297.
[41] تفسير الطبري، أسباب النزول للواحدي، شواهد التنزيل للحسكاني.
[42] الحسكاني شواهد التنزيل ج 1 ص 148.
[43] المصدر نفسه، ج 1 ص 150.
[44] صحيح البخاري، كتاب المغازي، ج 5 ص 492.
[45] سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب 20، ح 3720.
[46] صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب 9.
[47] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب 4، ح 32 - (2404).
[48] مسند أحمد ج 1 ص 111، تاريخ الطبري ج 2 ص 62 - 63.
[49] الرياض النضرة، ج 2، ص 163.
[50] (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا علي العالمين) الأنعام: 86، (واذكر إسماعيلواليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) ص: 48.
[51] مرتضي العسكري، معالم المدرستين، ج 1 ص 292، ط 5.
[52] المستدرك علي الصحيحين، ج 3 ص 126.
[53] صحيح الترمذي ج 2 ص 299.
[54] المستدرك علي الصحيحين ج 3 ص 122.
[55] صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 10.
[56] سنن أبي داود، باب المجنون يسرق أو يصيب أحدا.
[57] صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب لا يرجم المجنون والمجنونة.
[58] ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 107.
[59] فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج 17 ص 105.
[60] نهج البلاغة، الخطبة رقم 190، ج 2 ص 182 - 184.
[61] المصدر نفسه، الخطبة رقم 208.
[62] كنز العمال، ج 6 ص 392.
[63] البلاذري: أنساب الأشراف ج 1 ص 98.
[64] ابن سعد: الطبقات الكبري ج 2 ص 101.
[65] ترجمة الإمام علي من تاريخ مدينة دمشق ج 2 ص 24، رقم 1045.
[66] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب حب علي كرم الله وجهه، ج 1 ص 262.
[67] صحيح الترمذي، ج 2 ص 299.
[68] المصدر نفسه.
[69] الحاكم: المستدرك علي الصحيحين ج 3 ص 129، وقال (الحاكم): هذا الحديث صحيح عليشرط مسلم.
[70] المصدر نفسه ج 3 ص 128، وقال (الحاكم): هذا الحديث صحيح الإسناد.
[71] المصدر نفسه ج 3 ص 135، حديث صحيح الإسناد.
[72] المصدر نفسه، ج 3 ص 142.
[73] المصدر نفسه، ج 3 ص 121.
[74] المصدر نفسه ج 3 ص 124.
[75] الهيثمي: مجمع الزوائد ج 7 ص 234.
[76] مسند أحمد ج 3 ص 34.
[77] البغدادي، أصول الدين، ص 277.
[78] الباقلاني، التمهيد، ص 184.
[79] ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 9.
[80] الباقلاني، التمهيد، ص 184.
[81] الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 10 ص 144.
[82] جعفر السبحاني، مع الشيعة الإمامية، ص 62.
[83] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 403.
[84] الباقلاني، التمهيد، ص 181.
[85] الطحاوي: شرح العقيدة الطحاوية، ص 397.
[86] المصدر نفسه، ص 387.
[87] سعد الدين التفتازائي، الشرح، ص 185 - 186.
[88] محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، ص 68 - 69.
[89] المصدر نفسه.
[90] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، ج 5 ص 13.
[91] المصدر نفسه.
[92] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 22 (تحقيق علي شيري).
[93] صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر، ج 4 ص 541.
[94] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 23.
[95] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، ج 5 ص 14.
[96] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 23 - 24.
[97] صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر، ج 8 ص 542.
[98] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 25.
[99] المصدر نفسه. [
[100] المصدر نفسه.
[101] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، ج 5 ص 15.
[102] المصدر نفسه، ج 5 ص 14، ج 8 ص 542، ابن قتيبة، ج 1 ص 27.
[103] محمد رضا المظفر، السقيفة، ص 134.
[104] عباس محمود العقاد، عبقرية عمر، ص 165.
[105] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 29.
[106] المصدر نفسه.
[107] صحيح البخاري، كتاب المحاربين، ج 8 ص 540.
[108] العقاد، عبقرية عمر، ص 167.
[109] صحيح البخاري، كتاب المغازي، ج 5 ص 382.
[110] المظفر، السقيفة، ص 151.
[111] عبد الحسين شرف الدين الموسوي، المراجعات، ص 385 - 387.
[112] خالد محمد خالد، خلفاء الرسول، ص 418.
[113] المظفر، السقيفة، ص 156.
[114] صحيح البخاري، كتاب المحاربين، ج 8 ص 540.
[115] المصدر نفسه، كتاب الخمس، ج 4 ص 208.
[116] المصدر السابق، كتاب المغازي، ج 5 ص 382 حديث رقم 4240 / 4241.
[117] ابن الأثير، منال الطالب، ص 501، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغةج 16 ص 211 - 213.
[118] ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 37.
[119] الرياض النضرة ج 1 ص 100.
[120] صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله.
[121] منصور الحرابي، الدولة العربية الإسلامية: نشأتها ونظامها السياسي، ص 94.
[122] حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، دار إحياء التراث العربي، ج 1 ص 344.
[123] صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
[124] تاريخ الخلفاء للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 56 - 57، تاريخ الإسلام، حسنإبراهيم حسن، ج 1 ص 350.
[125] ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 3 ص 336.
[126] تاريخ الطبري، ج 3 ص 276 - 280.
[127] المصدر نفسه، وأيضا: العقاد: عبقرية خالد.
[128] تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158، وفيات الأعيان ج 6 ص 14.
[129] المصدر نفسه.
[130] أنظر: العقاد: عبقرية عمر ص 180.
[131] تاريخ الطبري، تاريخ دمشق لابن عساكر.
[132] المصدر نفسه.
[133] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 38.
[134] المصدر السابق، ص 37.
[135] الطبقات الكبري لابن سعد ج 3 ص 206، كنز العمال ص 239 حديث رقم 4860.
[136] الطبقات الكبري لابن سعد، ج 5 ص 188.
[137] سنن ابن ماجة، ج 1 ص 16، سنن الدارمي، ج 1 ص 85.
[138] تاريخ ابن كثير، ج 8 ص 106، كنز العمال، ج 5 ص 239.
[139] جامع بيان العلم، ج 2 ص 121.
[140] المستدرك علي الصحيحين للحاكم النيسابوري، ج 1 ص 110.
[141] كنز العمال، ج 1 ص 285.
[142] الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج 6 ص 296.
[143] عبد الحسين شرف الدين، النص والاجتهاد، ص 143.
[144] صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 110، صحيح مسلم، كتاب النكاح باب نكاح المتعةج 3 ص 552.
[145] صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ج 3 ص 55.
[146] صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 34.
[147] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 4 ص 177.
[148] المصدر السابق، ص 555.
[149] المصدر نفسه، ص 556.
[150] المصدر نفسه، ج 11 ص 76.
[151] صحيح مسلم، كتاب الحج، باب مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، ج 3 ص 332.
[152] جامع البيان، الطبري، ج 5 ص 9، ط بولاق مصر.
[153] التفسير الكبير للرازي، ج 5 ص 153.
[154] صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ج 3 ص 55.
[155] صحيح البخاري، كتاب الحج، ج 2 ص 371 و 374.
[156] الجامع الصحيح - سنن الترمذي، ج 3 ص 185 - 186، ح 824، ط دار الكتب العلمية - بيروت (غير مؤرخ).
[157] صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 410.
[158] صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، ج 3 ص 126.
[159] الموطأ لإمام مالك بن أنس ص 58 حديث رقم 151.
[160] سنن البيهقي، ج 1 ص 524 - 25، السيرة الحلبية ج 2 ص 105.
[161] دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 238، والنص والاجتهاد ص 239.
[162] صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب الطلقات الثلاث، ج 3 ص 668.
[163] المصدر السابق، ص 670.
[164] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ج 2 ص 220.
[165] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2 ص 590.
[166] المصدر السابق.
[167] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ج 2 ص 220 - 21.
[168] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2 ص 593 - 594.
[169] سنن البيهقي، ج 8 ص 312. العقد الفريد لابن عبد ربه، ج 3 ص 470.
[170] راجع مصادر هاتين الحادثتين في موضع سابق من هذا الكتاب.
[171] الجوهرة النيرة علي مختصر القدوري في الفقه الحنفي، ج 1 ص 164.
[172] طبقات ابن سعد، ج 3 ص 248.
[173] تاريخ الطبري (وفاة عمر بن الخطاب).
[174] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 42 - 43.
[175] طبقات ابن سعد ج 3 ص 61، تاريخ الطبري، تاريخ ابن الأثير.
[176] خالد محمد خالد، خلفاء الرسول، ص 272.
[177] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس.
[178] المسعودي، مروج الذهب: 2 / 230.
[179] المودودي، الخلافة والملك (تعريب أحمد إدريس)، ص 65.
[180] المصدر السابق، ص 65 - 66.
[181] المودودي: الخلافة والملك، (تقريب أحمد إدريس)، ص 66 - 67.
[182] تاريخ الطبري ج 3 ص 296، البداية والنهاية ج 7 ص 172.
[183] أسير، هل قوت أبا ذر 4، ص 90.
[184] صحيح البخاري، كتاب الزكاة، ج 2 ص 278.
[185] خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص 79.
[186] تاريخ الطبري ج 5 ص 134.
[187] صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب حد الخمر. الخلافة والملك للمودودي ص 67 - 68.
[188] تاريخ اليعقوبي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
[189] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 50 - 51.
[190] تاريخ الطبري ج 5 ص 172، تاريخ ابن الأثير، ابن سعد: الطبقات الكبري 3 / 66.
[191] ابن سعد، الطبقات الكبري، ج 3 ص 66.
[192] أبو الأعلي المودودي، الخلافة والملك، ص 75.
[193] الأديب، دور أئمة البيت في الحياة السياسة، ص 86.
[194] نهج البلاغة، ج 1، ص 59.
[195] نهج البلاغة، ج 1 ص 217.
[196] المصدر السابق، ص 438.
[197] المصدر السابق، ص 59.
[198] الأديب، دور أئمة أهل البيت في الحياة السياسة، ص 89 - 90.
[199] شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ج 1 ص 269.
[200] نهج البلاغة ج 1 ص 59.
[201] تقديم كتاب (تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة) للدكتور عبد الله فياض.
[202] المودودي: الخلافة والملك، م. س.
[203] تاريخ الطبري، دار المعارف، ط 5، القاهرة، ج 4 ص 459.
[204] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 70 - 72.
[205] المصدر السابق، ص 87 - 88.
[206] المصدر السابق، ص 88 - 89.
[207] مروج الذهب، ج 2 ص 400 - 402.
[208] ابن قتيبة الدينوري، الإسلامية والسياسة، ج 2 ص 95.
[209] ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص 93.
[210] ابن قتيبة الدينوري، الإمامية والسياسة، ج 1 ص 135.
[211] ابن الجوزي، تذكره الخواص، ص 79.
[212] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 157.
[213] المودودي، الخلافة والملك، ص 82.
[214] الحسني، سيرة الرسول وخلفائه، ج 7 ص 196.
[215] المصدر السابق، ص 202 - 203.
[216] المصدر السابق، ص 222.
[217] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 170 (بتوصيف).
[218] المسعودي، مروج الذهب، ج 2 ص 420.
[219] المصدر نفسه.
[220] علي فضل الله الحسني، سيرة الرسول وخلفائه، ج 7 ص 291.
[221] المصدر السابق، ص 302.
[222] مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 30، وانظر كذلك الإستيعاب.
[223] محمد دشتي: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص 21 خطبة رقم (27).
[224] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 179 - 80.
[225] المصدر السابق، ص 182.
[226] المسعودي مروج الذهب ج 2 ص 464.
[227] تاريخ ابن كثير ج 8 ص 131، مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص 70.
[228] راضي آل ياسين، صلح الحسن، ص 287.
[229] مروج الذهب للمسعودي، ج 2 ص 290.
[230] المصدر السابق، ص 50.
[231] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة، السياسة، ج 1 ص 196.
[232] تاريخ ابن كثير، ج 8 ص 131.
[233] مقاتل الطالبيين للأصفهاني.
[234] الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأديب، ج 2 ص 102.
[235] المصدر السابق.
[236] المصدر السابق، ج 10 ص 260.
[237] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 268.
[238] المصدر السابق، ص 274.
[239] صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، ج 2 ص 42.
[240] المصدر السابق، كتاب العيدين، باب الخروج إلي المصلي بغير منبر، ج 2 ص 40.
[241] تاريخ الطبري، ج 6 ص 96.
[242] المصدر السابق، ج 6 ص 155 - 60.
[243] مسند أحمد ج 5 ص 347، تاريخ ابن عساكر ج 7 ص 211.
[244] العقد الفريد في تاريخ الخلفاء، ج 3 ص 130 - 31.
[245] أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبين، ص 43.
[246] الإستيعاب ج 2 ص 396، أسد الغابة ج 3 ص 289.
[247] ابن الأثير ج 3 ص 216 - 18، العقد الفريد ج 3 ص 130 - 31.
[248] تاريخ الطبري، ج 6 ص 188.
[249] ابن الأعثم، ج 5 ص 17.
[250] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 148.
[251] ابن الأعثم، ج 5 ص 150.
[252] تاريخ الطبري ج 6 ص 200.
[253] عبد الرزاق الموسوي، مقتل الحسين، ص 150، نقلا عن الإرشاد للشيخ المفيد.
[254] جعفريان، الحياة الفكرية والسياسة لأئمة أهل البيت، ص 128.
[255] ابن قتيبة الدينوري، الأخبار الطوال، ص 254.
[256] تاريخ الطبري ج 4 ص 326.
[257] المصدر السابق، ج 6 ص 249.
[258] البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 182.
[259] روح المعاني للآلوسي ج 26 ص 73.
[260] من الجدير ذكره أن الإمام علي بن الحسين قام باسترجاع الرؤوس وألحقها بالأبدان ودفنها.
[261] البداية والنهاية لابن كثير، ج 8 ص 265.
[262] المصدر نفسه ص 239.
[263] المصدر نفسه ص 239.
[264] تاريخ الطبري ج 7 ص 13.
[265] المصدر السابق ج 5 ص 498.
[266] مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 89.
[267] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 2 ص 23.
[268] المصدر السابق، ص 32.
[269] تاريخ الطبري، ج 7 ص 102.
[270] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 2 ص 39.
[271] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، ج 4 ص 517.
[272] مسند أحمد، ج 3 ص 446.
[273] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ج 5 ص 382.
[274] المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب فاطمة، ج 5 ص 75.
[275] المصدر السابق، كتاب الاستئذان، باب من ناجي بين يدي رسول الله، ج 8 ص 202.
[276] المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب فاطمة، ج 5 ص 75.
[277] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 82.
[278] تاريخ ابن كثير، ج 6 ص 221.
[279] العقد الفريد لابن عبد ربه، ج 3 ص 108.
[280] تاريخ ابن كثير، ج 6 ص 221.
[281] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 82.
[282] صحيح البخاري، كتاب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي، ج 4 ص 217.
[283] المصدر السابق، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، ج 9 ص 171.
[284] المصدر السابق، كتاب التفسير، باب لولا إذ سمعتموه، ج 6 ص 252.
[285] المصدر السابق، كتاب الوضوء، باب حب النبي صلي الله عليه وآله وسلم وضوءهعلي المغمي عليه، ج 1 ص 133.
[286] مستدرك الحاكم، ج 2 ص 148.
[287] صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس، ج 4 ص 52.
[288] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 519.
[289] المصدر السابق، ص 511 - 12.
[290] المصدر السابق، ص 512.
[291] المصدر السابق، كتاب البر والصدقة والآداب، باب من لعنة النبي، ج 5 ص 462.
[292] المصدر السابق، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن، ج 3 ص 693.
[293] تاريخ الطبري، ج 11 ص 357.
[294] مسند أحمد، ج 4 ص 421.
[295] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 517.
[296] المصدر السابق، ج 4 ص 282.
[297] صحيح البخاري، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش، حديث 1821.
[298] مسند أحمد، ج 1 ص 389.
[299] محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 5 / 244، وانظر أيضا: تفسير شبر ص 109.
[300] التوراة (نقلا عن نسخة بالإنجليزية)، سفر التكوين (17: 20).
[301] مرتضي العسكري، معالم المدرستين، ج 1 ص 547، نقلا عن فرائد السمطين للجويني.
[302] المصدر السابق، ج 1 ص 548.
[303] المصدر السابق، ج 1 ص 584.
[304] المصدر السابق، ج 1 ص 547.
[305] السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 12.
[306] ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 3 ص 182.
[307] المصدر السابق.
[308] شرح النووي علي صحيح مسلم، ج 4 ص 382 - 83.
[309] شرح ابن العربي علي سنن الترمذي، ج 9 ص 68 - 69.
[310] عبد الله شبر، تفسير القرآن الكريم، ص 260.
[311] تجد تفاصيل ذلك مع المصادر في الفصل الثاني.
[312] مناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ص 197.
[313] كنوز الحقائق ص 129.
[314] مستدرك الحاكم ج 3 ص 107.
[315] الفصول المهمة لابن المالكي ص 151.
[316] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 26.
[317] تجد تفاصيل أو في حول هذه المأساة في الفضل الرابع.
[318] مقتل الخوارزمي ج 2 ص 43.
[319] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 6 ص 441.
[320] تجد تفاصيل عن نشأة هذه الحركة في الفصل الخامس من هذا الكتاب.
[321] تذكرة الحفاظ ج 1 ص 157.
[322] الإرشاد للمفيد ص 389.
[323] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 6 ص 455.
[324] الحوماني، أشعة من حياة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ص 41.
[325] المصدر السابق.
[326] علي محمد دخيل، أئمتنا، ج 2 ص 140.
[327] رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسة لأئمة أهل البيت، ج 2 ص 103.
[328] الشيخ المفيد، الفصول المختارة من العيون والمحاسن، ص 256.
[329] رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية لأئمة أهل البيت، ج 2 ص 105.
[330] جعفر السبحاني، مشهد من حياة أئمة الإسلام، ص 69.
[331] ابن أشوب مناقب آل أبي طالب، ج 4 ص 401.
[332] مرت تفاصيل عن هذه الفرق والمذاهب في الفصل الخامس.
[333] مروج المذهب للمسعودي، ج 4 ص 11.
[334] وفيات الأعيان لابن خلكان، ج 2 ص 94.
[335] صحيح الترمذي ج 9 ص 74، مسند أحمد ج 1 ص 376.
[336] المستدرك للحاكم ج 4 ص 557، مسند أحمد ج 3 ص 36.
[337] صحيح ابن ماجة، باب الجهاد.
[338] صحيح مسلم، باب نزول عيسي ج 1 ص 373.
[339] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 5 ص 362.
[340] صحيح البخاري، كتاب الفتن، ج 9 ص 144.
[341] سيري تفاصيل هذه الحادثة في الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.
[342] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب زيد، ج 5 ص 57.
[343] عبد الفتاح أبو غدة، لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، ص 20.
[344] محمد باقر الصدر، أهل البيت: تعدد أدوار ووحدة، ص 88.
[345] صحيح البخاري.
[346] صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم، ج 9 ص 144.
[347] المصدر السابق.
[348] صحيح البخاري.
[349] صحيح مسلم، كتاب القدر، ج 5 ص 504.
[350] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (والرسول يدعوكم في أخراكم)، ج 6 ص 67.
[351] المصدر نفسه، كتاب الجهاد، باب قوله - من المؤمنين رجال صدقوا -، ج 4 ص 47.
[352] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، ج 6 ص 28.
[353] المصدر نفسه.
[354] صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 391.
[355] المصدر نفسه، باب قوله - سواء عليهم استغفرت لهم، ج 6 ص 397.
[356] المصدر نفسه، كتاب الشهادات، ج 3 ص 508.
[357] ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1 ص 484.
[358] صحيح البخاري، كتاب الشروط.
[359] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، ج 4.
[360] صحيح البخاري، كتاب المغازي، ج 5 ص 440.
[361] المصدر نفسه، كتاب الجهاد، ج 4 ص 122.
[362] صحيح مسلم، كتاب البر والصدقة، باب من لعنة النبي، ج 5 ص 462.
[363] المصدر نفسه، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن، ج 3 ص 693.
[364] مسند أحمد، ج 4 ص 421، ط دار إحياء التراث.
[365] صحيح البخاري كتاب الحج، باب الخطبة أيام مني، ج 2 ص 462.
[366] راجع تفاصيل ذلك في القسم، الفصل الأول من هذا الكتاب.
[367] أيضا.
[368] خالد محمد خالد، خلفاء الرسول، ص 418.
[369] راجع قسم 2 فصل من هذا الكتاب.
[370] مسند أحمد، ج 1 ص 6.
[371] أبو الأعلي المودودي،، الخلافة والملك، ص 71.
[372] المصدر السابق، ص 77.
[373] المصدر نفسه، ص 78.
[374] محمد الغزالي، مئة سؤال وجواب، ج 2، ص 353.
[375] راجع قسم 2 فصل 4 من هذا الكتاب.
[376] راجع قسم 2 فصل 8 من هذا الكتاب.
[377] سعيد أيوب، معالم الفتن ج 2 ص 458 - 459، نقلا عن سيد قطب، كتب وشخصيات.
[378] عبد الفتاح أبو غدة، لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، ص 46 - 47.
[379] صحيح مسلم، كتاب الإمارة ج 4 ص 481.
[380] المصدر نفسه.
[381] المصدر نفسه.
[382] صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب حب الأنصار من الإيمان ج 5 ص 84.
[383] هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الأخبار والآثار، ص 124.
[384] المصدر نفسه، ص 115.
[385] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 3 ص 13.
[386] هاشم معرون الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار، ص 117.
[387] أحمد أمين، ضحي الإسلام، ج 2 ص 123.
[388] عبد المتعال الجبري، حوار مع الشيعة حول الخلفاء الراشدين وبني أمية، ص 222 نقلا عن كتابالمناقب للترمذي.
[389] المصدر نفسه.
[390] المصدر نفسه.
[391] المصدر نفسه، نقلا عن كتاب البداية والنهاية ج 8 ص 123.
[392] المصدر نفسه.
[393] المصدر نفسه، ص 123، نقلا عن البداية والنهاية ص 219.
[394] راجع قسم 3 فصل 1 من هذا الكتاب.
[395] أنظر المصادر في موقع سابق.
[396] صحيح مسلم، كتاب البر والصدقة والأب، باب من لعنة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ج 5 ص 458.
[397] المصدر نفسه.
[398] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، ج 1 ص 89.
[399] المصدر نفسه، ص 88.
[400] البداية والنهاية، ج 8 ص 106.
[401] المصدر نفسه، ص 109.
[402] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب جعفر بن أبي طالب، ج 5 ص 47.
[403] أخرجه الترمذي ج 13 ص 189. والحاكم بإسناد صحيح.
[404] صحيح البخاري، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر علي اتفاق أهل العلم، ج 9 ص317.
[405] أخرجه ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي.
[406] أحمد أمين، ضحي الإسلام، ج 2 ص 139.
[407] الذهبي، سيرة أعلام النبلاء، ج 2 ص 32.
[408] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، ج 2 ص 236، صحيح مسلم، كتاب الفضائل باب من فضائلموسي ج 5 ص 222.
[409] محمد الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص 28.
[410] شرح النووي علي صحيح مسلم، ج 5 ص 223، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسي.
[411] صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب الاستثناء في اليمين وغيرها، ج 4 ص 199 - 201.
[412] المصدر نفسه.
[413] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله - وهل من مزيد - ج 6 ص 353.
[414] المصدر نفسه، كتاب بدء الخلق، ج 4 ص 324.
[415] المصدر السابق، كتاب الاستئذان، ج 8 ص 160.
[416] المصدر السابق، كتاب التفسير، ج 6 ص 311.
[417] المصدر السابق، كتاب التهجد، ج 2 ص 136.
[418] المصدر السابق، كتاب الغسل، باب من اغتسل عريانا وحدة في خلوة، ج 1 ص 169.
[419] المصدر السابق، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، ج 1 ص 336.
[420] المصدر السابق، كتاب المزارعة، باب استعمال البقر للحراثة، ج 3 ص 297.
[421] المصدر السابق، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في وصف الجنة، ج 4 ص 306.
[422] المصدر السابق، كتاب الديات، باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، ج 9 ص 18.
[423] المصدر السابق، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة، ج 7 ص 496.
[424] صحيح مسلم، كتاب الرضاع، حكم رضاعة الكبير، ج 3 ص 633.
[425] المصدر نفسه، ص 635.
[426] المصدر نفسه، ص 633.
[427] المصدر نفسه، ص 634.
[428] المصدر نفسه، بشرح النووي، ص 634.
[429] صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب وجوه يومئذ ناضرة، ج 9 ص 396.
[430] المصدر نفسه، كتاب التفسير، باب قوله - فسبح بحمد ربك -، ج 6 ص 355.
[431] المصدر نفسه، باب سورة النجم، ص 359.
[432] صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ج 4 ص 319.
[433] صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، ج 4 ص 382.
[434] المصدر نفسه، كتاب التهجد، ج 2 ص 135.
[435] ابن حجر في مقدمة شرحه علي صحيح البخاري ج 1، ص 5، ط دار إحياء التراث العربي،بيروت.
[436] المصدر نفسه.
[437] النووي في مقدمة شرحه علي صحيح مسلم، ج 1 ص 10، ط دار الشعب، القاهرة.
[438] المصدر نفسه، ص 11.
[439] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، أنظر ص 13، 15، 16.
[440] النووي في مقدمة شرحه علي صحيح مسلم، ج 1 ص 28.
[441] المصدر نفسه.
[442] التدريب للسيوطي ص 213 نقلا عن شرح التلقيح للقرافي.
[443] النووي في شرحه علي صحيح مسلم، ج 5 ص 242.
[444] المصدر السابق.
[445] المصدر نفسه، ج 5 ص 242 - 243.
[446] د. رويعي الرحيلي، فقه عمر بن الخطاب، ج 1 ص 59.
[447] الحافظ ابن كثير، الباعث الحثيث، ص 181.
[448] ابن حجر الملكي، الصواعق المحرقة، ص 5 نقلا عن الترمذي.
[449] المصدر نفسه.
[450] المصدر نفسه.
[451] المصدر نفسه.
[452] المصدر نفسه.
[453] المصدر نفسه.
[454] الرحيلي، فقه عمر) ج 1 ص 60، نقلا عن الموافقات ج 4 ص 269.
[455] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر، ج 5 ص 247.
[456] هو من أكثر ما اشتهر عند أهل السنة بشأن فضائل أبي بكر، ولكننا لم نهتد إلي مصدره.
[457] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر، ج 5 ص 245.
[458] النووي في شرحه علي صحيح مسلم، ج 5 ص 244.
[459] المصدر السابق.
[460] الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 57.
[461] المصدر السابق.
[462] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر، ج 5 ص 258.
[463] المصدر نفسه.
[464] المصدر نفسه، ص 259.
[465] المصدر نفسه.
[466] المصدر نفسه.
[467] الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 56.
[468] المصدر نفسه، ص 33 نقلا عن سنن الترمذي.
[469] المصدر نفسه، ص 34.
[470] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر، ج 5 ص 259.
[471] الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 24، نقلا عن الموافقات ج 2 ص 251.
[472] الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 24، نقلا عن فتح الباري، ج 8 ص 526.
[473] الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 25، نقلا عن صحيح مسلم.
[474] النووي، شرح صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة، بابفضائل عمر، ج 5 ص 460 - 461.
[475] الرحيلي، فقه عمر بن الخطاب، ج 1 ص 28.
[476] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، ج 5 ص 511.
[477] صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية، ج 4 ص 171.
[478] صحيح البخاري، كتاب المرضي، باب قول النبي - قوموا عني -، ج 7 ص 389، وصحيح مسلم،كتاب الوصية، باب ترك الوصية، ج 4 ص 176.
[479] المصدر نفسه، ص 175.
[480] السقيفة لأبي بكر الجوهري.
[481] أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، ص 690، وأنظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 4 ص 174.
[482] صحيح مسلم بشرح النووي، ج 4 ص 172.
[483] المصدر نفسه.
[484] المصدر نفسه.
[485] المصدر نفسه.
[486] المصدر نفسه، ص 173.
[487] صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بدي به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ج 9 ص 93.
[488] المصدر نفسه، كتاب الدعوات، باب قوله تعالي - وصل عليهم -، ج 8 ص 234.
[489] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضائل القرآن، ج 2 ص 443.
[490] المصدر نفسه، ص 444.
[491] المصدر نفسه.
[492] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قضاء الصلاة الفائتة، ج 2 ص 325.
[493] صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب قول الرجل للنبي - ما صلينا - ج 1 ص 349.
[494] المصدر نفسه، كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب، ج 1 ص 168.
[495] المصدر نفسه، كتاب الأدب، ما يجوز من ذكر الناس، ج 8 ص 8 48.
[496] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة علي الداية حيثتوجهت، ج 2 ص 353.
[497] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة، ج 5 ص 77.
[498] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة، ج 5 ص 299.
[499] صحيح البخاري، كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها، ج 3 ص 462.
[500] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة، ج 5 ص 296.
[501] صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة، ج 5 ص 78.
[502] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة، ج 5 ص 296 - 298.
[503] صحيح البخاري، كتاب الغسل، باب إذا جامع ثم عاد ومن دار علي نسائه في غسل واحد، ج 1ص 165.
[504] المصدر نفسه، كتاب الطب، باب السحر، ج 7 ص 444.
[505] المصدر السابق، كتاب الأدب، باب إن الله يأمر بالعدل والإحسان، ج 8 ص 57.
[506] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا النبي علي سبيل الرأي، ج 5ص 212 - 213.
[507] المصدر نفسه.
[508] المصدر نفسه.
[509] المصدر نفسه.
[510] أسباب النزول للواحدي، ص 252.
[511] فخر الدين الرازي، عصمة الأنبياء، 95.
[512] محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ج 2 ص 223.
[513] صحيح البخاري، كتاب اللباس القميص، ج 7 ص 462.
[514] المصدر نفسه، كتاب الجنائز، ج 2 ص 252.
[515] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، ج 4 ص 377.
[516] السيرة النبوية للدحلاني، ج 1 ص 512.
[517] بتصرف عن النص والاجتهاد ص 322 - 323، والفصول المهمة ص 112. لشرف الدينالموسوي.
[518] كنز العمال ج 5 ص 272.
[519] السيرة النبوية للدحلاني، ج 1 ص 504.
[520] ابن حجر العيثمي المكي، تطهير الجنان واللسان، ص 29 - 30.
[521] الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 18 ص 258 - 259.
[522] السبحاني: عصمة الأنبياء، ص 204.
[523] أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 190.
[524] المصدر نفسه.
[525] صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام مني، ج 2 ص 462.
[526] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 343، 270.
[527] المصدر نفسه، ص 310.
[528] تدريب الراوي للسيوطي، ج 1 ص 328.
[529] أحمد بن يحيي اليماني، المنية والأمل في شرح الملل والنحل، ص 106.
[530] أحمد بن تيمية، منهاج السنة، ج 2 ص 221.
[531] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ج 5 ص 382.
[532] شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 219.
[533] المصدر نفسه، ص 221.
[534] باقر شريف القرشي، موسوعة الإمام الصادق، ج 7 ص 212.
[535] المصدر نفسه.
[536] أحمد اليماني، المنية والأمل في شرح الملل والنحل، ص 105.
[537] المصدر نفسه.
[538] المصدر نفسه، ص 87.
[539] مفيد الفقيه، العقل في أصول الدين، ص 27.
[540] شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 81.
[541] أحمد حنبل، السنة، ص 44 - 50 (بتصرف).
[542] فهرست ابن النديم ص 271.
[543] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 170 - 71.
[544] المصدر نفسه.
[545] الألكاني، شرح أصول السنة، ص 108.
[546] مفيد الفقيه، العقل في أصول الدين، ص 32.
[547] ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 3، ص 398.
[548] العقيدة الحموية الكبري لابن تيمية.
[549] صائب عبد الحميد، ابن تيمية: حياته: وعقائده، ص 322، نقلا عن منهاج السنة.
[550] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 6 ص 222، 235.
[551] محمد إبراهيم، أئمة المذاهب الأربعة، ص 30.
[552] أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 160.
[553] المصدر نفسه.
[554] مفيد الفقيه، الفعل في أصول الدين، ص 32.
[555] شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 104.
[556] المصدر السابق، ص 209.
[557] محمد إبراهيم، أئمة المذاهب الأربعة، ص 40.
[558] أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ص 168.
[559] المصدر نفسه، ص 169.
[560] المصدر السابق.
[561] السيوطي، الدر المنثور في التفسير المأثور، ج 6 ص 379.
[562] ابن حجر المكي، الصواعق المحرقة، ص 152.
[563] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 124.
[564] هاشم الموسوي، التشيع: نشأته... معالمه، ص 26.
[565] تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 124.
[566] أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 226.
[567] تاريخ الطبري، ج 3 ص 378.
[568] أحمد الوائلي، هوية التشيع، ص 51.
[569] هاشم الموسوي، التشيع: نشأته ومعالمه، ص 43.
[570] م. س: ص 43 - 44.
[571] رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الحادية عشرة، ص 227 عام 1959 م.
[572] مرتضي مطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص 13.
[573] محيي الدين الغريفي، الاجتهاد والفتوي، ص 97.
[574] مرتضي مطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص 13.
[575] راجع صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ج 9 ص 489.
[576] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 5 ص 213 - 240 (بتصرف).
[577] شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 35.
[578] محمد إبراهيم، أئمة المذاهب الأربعة، ص 35.
[579] جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 3 ص 291 - 416 (بتصرف).
[580] شريف الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص 35.
[581] أحمد أمين، ضحي الإسلام، ص 70.
[582] المصدر نفسه، ص 68.
[583] رسالة الإسلام التي تصدرها (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية). بالقاهرة: العدد الثالث منالسنة الثالثة.
[584] أحمد بن تيمية، منهاج السنة، ج 6 ص 246، 356، 357.
[585] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 50.
[586] أحمد بن تيمية، منهاج السنة، ج 6 ص 356، 357.
[587] المصدر السابق.
[588] القاضي أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاةالنبي صلي الله عليه وآله وسلم، ص 75 - 76.
[589] المصدر السابق، ص 88 - 89.
[590] المصدر السابق، ص 90.
[591] المصدر السابق.
[592] أبو الأعلي المودودي، الخلافة والملك، ص 71.
[593] مرتضي العسكري، عبد الله بن سبأ (بتصرف).
[594] ابن العربي، العواصم من القواصم، ص 207 - 210.
[595] محب الدين الخطيب في تحقيقه لكتاب ابن العربي، ص 207.
[596] عبد المتعال الجبري، حوار مع الشيعة حول الخلفاء الراشدين وبني أمية، ص 223.
[597] ابن العربي، العواصم من القواصم، ص 213.
[598] المصدر السابق.
[599] المصدر السابق.
[600] الجبري، حوار مع الشيعة، ص 219.
[601] تاريخ الطبري.
[602] الجبري، حوار مع الشيعة، ص 203.
[603] المصدر السابق، ص 222.
[604] ابن العربي، العواصم من القواصم، ص 232.
[605] المصدر السابق (في الحواشي) ص 227.
[606] ابن حجر المكي، الصواعق المحرقة، ص 220.
[607] المصدر السابق، ص 223.
[608] الجبري، حوار مع الشيعة، ص 248.
[609] محسن آجينتي، الالتقاط الفكري والتحجر العقائدي في نظرة العلامة المطهري، ص 112.
[610] من البيان الذي وجهه سماحة المرحوم السيد الإمام الخميني إلي المراجع والحوزات العلمية في22 / 2 / 89 م.
[611] المصدر السابق.
[612] محسن آجينتي، الالتقاط الفكري والتحجر العقائدي في نظرة العلامة المطهري، ص 118.
[613] المصدر السابق، ص 122 - 23.
[614] مرتضي مطهري، الجدب والدفع في شخصية علي، ص 165 - 66.
[615] المصدر السابق، ص 167.
[616] يوسف القرضاوي (صحوة الشباب المسلم ظاهرة صحيحة يجب ترشيدها لا مقاومتها)، الصحوة الإسلامية: رؤية نقدية من الدخل ص 30 - 34، نقلا عن مجلة الأمة، العددان التاسع والعاشر1981.
[617] محسن آجينتي، الالتقاط الفكري والتحجر العقائدي في نظرة العلامة المطهري، ص137 - 147.
[618] حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص 10 - 17.
[619] فهمي هو يدي (مقابلة): مجلة التوحيد العدد 16، رمضان - شوال 1405 ه.
[620] محمد الغزالي، (بين الاعتدال والتطرف)، الصحوة الإسلامية، رؤية نقدية من الدخل، ص66 - 67، نقلا عن كتاب الأمة رقم (1) الصادر عن المحاكم الشرعية في قطر.
[621] المصدر السابق، ص 72 - 74.
[622] المصدر السابق، ص 74.
[623] مر ذكر مصادرها هذا الحديث في الفضل الأول من هذا القسم.
[624] محمد الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، ج 2 ص 351، 358.
[625] المصدر السابق، 357.
[626] سعيد أبوب، معالم الفتن، ج 2 ص 373، نقلا عن التطور والتجديد في الشعر الأموي ص 50.
[627] غازي القصيبي، حتي لا تكون فتنة، ص 13.
[628] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 517.
[629] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 1 ص 37.
[630] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 515.
[631] سعيد أيوب، معالم الفتن، ج 2 ص 367، نقلا عن كتاب تاريخ الفرق الإسلامية، ص 9.
[632] أحمد اليماني، المنية والأمل في شرح الملل والنحل، ص 105.
[633] المصدر السابق، ص 87.
[634] مفيد الفقيه، العقل في أصول الدين، ص 27.
[635] محمد حسين فضل الله، تأملات في الفكر السياسي الإسلامي، ص 128.
[636] حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص 194.
[637] محمد الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، ج 2 ص 353.
[638] حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص 191 - 192، 195.
[639] يوسف القرضاوي (صحوة الشباب الإسلامي ظاهرة صحية يجب ترشيدها لا مقاومتها، الصحوةالإسلامية: رؤية نقدية من الداخل، ص 49، نقلا عن مجلة الأمة، ع 1059، 1981 م.
[640] محمد حسين فضل الله، تأملات في الفكر السياسي الإسلامي، ص 125 - 126.
[641] محمد الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص 144.
[642] المصدر السابق، ص 148.
[643] المصدر السابق، ص 156.
[644] صحيح مسلم، كتاب القدر، ج 5 ص 507.
[645] المصدر السابق، ص 509.
[646] المصدر السابق، ص 509 - 510.
[647] المصدر السابق، ص 511.
[648] المصدر السابق، ص 517.
[649] صحيح البخاري.
[650] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، ج 2 ص 356.
[651] المصدر السابق، ص 357.
[652] المصدر السابق، ص 359.
[653] السيد سابق، فقه السنة، ج 1 ص 291 - 292.
[654] النووي في شرحه علي صحيح مسلم، ج 2 ص 359.
[655] مرتضي مطهري، إحياء الفكر في الإسلام، ص 43 - 46.
[656] مرتضي مطهري، الحق والباطل، ص 173.
[657] الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص 7.
[658] محمد حسين فضل الله، تأملات في الفكر السياسي الإسلامي، ص 128 - 29.
[659] راجع تفاصيل الحادثة في الفصل الأول من القسم الثاني.
[660] صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب في الركاز الخمس، ج 1 ص 166.
[661] راجع هذا الموضوع في الفصل الثاني من القسم الثاني.
[662] تاريخ الطبري، ج 5 ص 32.
[663] مرتضي العسكري، معالم المدرستين، ج 2 ص 325.
[664] الفلسفة القرآنية للعقاد ص 73، نقلا عن الدكتور رسل.
[665] المصدر السابق.
[666] المصدر السابق.
[667] المصدر السابق.
[668] الثعلبي والطبراني في تفسيرهما.
[669] محمد تقي الحكيم، الزواج المؤقت، ص 11.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.