لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).

يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14

موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

موضوع:شیعه -- دفاعیه ها

موضوع:Shi'ah -- Apologetic works

موضوع:شیعه -- ردیه ها

موضوع:Shi'ah -- Controversial literature

شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی

رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397

رده بندی دیویی:297/212

شماره کتابشناسی ملی:5308292

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الاول

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمدُ للّه رب العالمين، وصلّى اللّه عليسيّدنا محمّد نبيّه وآله الطيبين الطاهرين.

منذ بداية عصر غيبة مولانا بقية اللّه الأعظم والسرّ الأكبر وصاحب العصر والزمان - أرواحنا له الفداء - ينبري بين الفينة والاُخرى خلال فترات متزامنة علماء وفقهاء أفذاذ، ممّن بذلوا ويبذلون على مرّ التاريخ الغالي والنفيس من أجل إحياء تراث أهل بيت النبوة عليهم السلام، دفاعاً عن العقيدة الحقّة وإيصال علوم الرسالة الإسلامية إلى أذهان معتنقيها ومريديها، والباحثين عنها لأجل الخلاص من الوضع العالمي المأساوي الذي تعيشه الشعوب المستضعفة في ظلّ أنظمة بشرية لا ترى إلّا مصالحها الخاصة....

وقد برز من بين ظهراني هؤلاء الفطاحل شيخُنا المقدام، حامل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المفكر الاسلامي المشهور بالاُطروحة المهدوية في هذا العصر، صاحب منتخب الأثر، وهو بحقٍّ شيخ صدوق زماننا، الفقيه الكبير، المرجع الديني سماحة آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني دام ظلّه الوارف.

لقد كان لرواج هذا السفر العظيم أثراً كبيراً بين الشعوب المسلمة، وفي إثراء المكتبة الإسلامية في بحوثٍ في غاية الأهميّة، ممّا ساعد الاُمّة على تطوّرها ونموّها في المحافل العالمية وعلى مسار المراحل التاريخية الأخيرة.

ص: 7

وكتاب «لمحات في الكتاب والحديث والمذهب» - عزيزي القارئ - الذي بين أيدينا هو مجموعة من المقالات الإسلامية والكتب والرسائل الدينيّة في مواضيع شتّى، من العقيدة والتفسير والحديث والكلام والفقه والتاريخ والقضايا الثقافية والفكرية المهمة، قد كُتبت في مواضيع عدّة وتواريخ مختلفة يعود زمن بعضها إلى أكثر من نصف قرن من حياتنا، وهي ما بين مطوّلة ومختصرة، جُعل كلّ منها بحسب الحاجة إليها في ظروف ساعدت على دفع الشبهات والدفاع عن المذهب والدين الحنيف.

وهذا السفر الثرّ في محتواه، الذي يعتبر عصارة أفكار فقيه اهل البيت عليهم السلام هو جامع للعلوم العقلية والنقلية والمدافع عن ساحة الولاية المقدسة.

وقد وجدنا لهذه الثروة الفكرية النفع الأكيد بعد زيادة الرغبة فيها، والإقبال عليها، والطلب لها في إعادة جمعها وطبعها في ثلاث مجلدات، وهي مجموعة من ثلاثٍ وعشرين رسالة.

ونسأل اللّه تعالى أن يُمِدّ في عمر وعافية وتوفيق كاتبها، وأن يجعل فيما كتبه الخير والبركة لعامة المسلمين وأحرار العالم أجمعين بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

وفي النهاية نتقدّم بالشكر الجزيل والامتنان الوفير لكلّ من ساهم في تهيئة وإخراج هذا الكتاب، ونشكر سماحة العلّامة الاُستاذ الشيخ محمدحسن الصافي الگلپايگانى حفظه اللّه، الذي كان وجوده بركة في إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً في نشر هذا الكتاب القيّم الذي طُبع تحت إشرافه، نسأل اللّه تعالى أن يوفّقه لكلّ خيرٍ، إنّه نعم المولى ونعم النصير، والحمد للّه ربّ العالمين.

قسم النشر العالمي

ص: 8

نبذة موجزة عن شخصية المؤلّف الجليل:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

العلماء مشاعل النور على طريق الكمال والارتقاء، ومصابيح الضوء في ظلمات الحياة، بل إنّهم كنجوم السماء يهتدي بهم التائهون في لجج الأحداث، ويستدلّ بهم الحائرون في ظلمات الدروب(1).

ص: 9


1- قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ مَثَل العلماء في الأرض كمَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، فإذا طُمِست أوشك أن تضلّ الهداة» المحجّة البيضاء: ج 1 ص 21، وبحار الأنوار: ج 2 ص 25. وقال الإمام محمد بن علي الباقر سلام اللّه عليه: «العالم كمَن معه شمعة تضيء للناس، فكلّ من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة» بحار الأنوار: ج 2 ص 4، والمحجّة البيضاء: ج 1 ص 31.

كيف لا وهم يدلّون على اللّه، ويذبّون عن دينه، ويمسكون أزمّة القلوب من أن تزيغ، ويدفعون عن شرائع اللّه تحريف المحرّفين وكيد المبطلين؟

ومؤلّفنا الجليل سماحة آية اللّه العلّامة الشيخ لطف اللّه الصافيّ هو أحد هؤلاء الأعلام، الذين كرّسوا حياتهم للذبّ عن حياض العقيدة والشريعة، والدفاع عن جوانبها بأقلامهم وكتاباتهم ومواقفهم.

ومن هنا ينبغي لقارئنا الكريم أن يتعرّف على هذه الشخصيّة عن كثب، وإن كانت رسائله وكتاباته الحاضرة خير طريق لهذه المعرفة، وأفضل وسيلة لهذا التعرّف.

ولا غرو فمؤلّفنا الجليل من بيت شُيِّد على اسس الزهد والتقوى، ومن شجرة قد ضربت بجذورها في العلم والكمال(1).

فقد وُلد سماحته في 19 جمادى الاُولى من عام 1337 ه، وأخذ المقدمات والعلوم الآلية من الأديب البارع الشيخ ابوالقاسم المشتهر بالقطب، حيث قرأ عليه الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والبديع، كما أنّه قرأ عند والده العلّامة الشيخ محمدجواد الصافي: القوانين والفرائد والمكاسب والكفاية،ل.

ص: 10


1- فوالده هو العلّامة المجاهد الفاضل الجليل الشيخ محمدجواد الصافي، ولد في 27 شعبان المعظّم من عام 1287 ه، وتوفّي في 25 رجب من عام 1378 ه، وقد ترجم له العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في «نقباء البشر». ووالدته العالمة الفاضلة، والشاعرة المُحِبّة لأهل البيت النبوي الطاهر، المربّية لأولادها الأفاضل، على خير الصفات والفضائل.

وذلك في مسقط رأسه في جرفادقان، في عصرٍ كان تحصيل العلوم الإسلامية والانخراط في سلك رجال الدين أمراً صعباً للغاية؛ نظراً للمضايقات التي كانت تمارسها حكومة الطاغية «البهلوي» المقبور، وما كان يقوم به زبانيته من ملاحقة لطلّاب العلوم الإسلامية والمتزيّين بزيّهم، بشتّى الأعذار والحجج الواهية.

إلّا أنّ مؤلّفنا الجليل اختار هذا السبيل بطوع رغبته، ومضى فيه دون أن يعبأ بالمتاعب والمشكلات، واستمرّ في تحصيل العلوم الإسلامية المباركة، كما أ نّه تزيّا بزيّ أهل العلم في تلك الظروف غير عابئٍ بالصعوبات.

ثمّ إنّه عام (1360 ه) انتقل لتكميل دراساته الإسلامية العليا إلى الحوزة العلميّة، التي أسّسها في مدينة قم المقدّسة المجاهد العظيم فقيد الاُمّة الإمام الراحل الشيخ عبدالكريم الحائري عام (1340 ه)(1).

فحضر أبحاث أصحاب السماحة الآيات العظام:

السيد محمدتقي الخونساري المتوفّى عام (1371 ه).

والسيد محمد الحجة الكوهكمري المتوفّى عام (1372 ه).).

ص: 11


1- توفّي آية اللّه الإمام الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة عام (1355 ه)، وقد أرّخ العلّامة الجليل السيد صدرالدين العاملي - الذي كان واحداً من الزعماء البارزين في الحوزة العلميّة في قم، بعد وفاة شيخنا المؤسّس - بقوله: دَعاه مولاه فقل مورِّخاً: لدى الكريم حلَّ ضيفاً عبدُهُ (1355 ه).

والسيد صدرالدين العاملي المتوفّى عام (1373 ه).

والسيد محمدرضا الگلبايگاني قدس سره.

والإمام الراحل الحاج سيد حسين البروجردي - قدّس اللّه روحه الشريفة - المتوفّى عام 1380.

وقد كان أكثر دراسته على الأخير حيث استفاد من أبحاثه ما لم يستفده من سواه.

فقد حضر أبحاث آية اللّه البروجردي - رضوان اللّه تعالى عليه - مدة سبعة عشر عاماً، وتلقّى منه بحوثاً قيّمة في مجالَي علم الفقه والاُصول على مستوى الخارج، وقد كان سماحته يحظى لدى الإمام البروجردي بمكانة خاصة، حتّى أ نّه كان يشترك في مجالس استفتاءاته، وربما أناط رحمه الله إليه مهمّة حلّ الكثير من المسائل الفقهية والعقائدية الوافدة من مختلف الأنحاء والأصقاع.

ومن هنا تبلورت مواهبه وقابلياته تحت رعاية الإمام المحقّق البروجردي قدّس اللّه روحه الشريفة.

ثمّ إنّه هاجر - أثناء دراسته في قم - إلى النجف الأشرف عام (1364) وحضر في حوزتها الإسلامية العريقة أبحاث:

العلّامة الشيخ محمدكاظم الشيرازي، المتوفّى عام (1367 ه).

والعلّامة السيد جمال الدين الگلبايگاني، المتوفّى سنة (1377 ه).

والعلّامة الشيخ محمدعلي الكاظمي، المتوفّى عام (1364 ه).

ص: 12

كما حصل على إجازة الرواية والحديث من خاتمة المجيزين المعاصرين العلّامة المتتبّع الشيخ آغا بزرگ الطهراني والعلّامة الشيخ محمدصالح السمناني ومن والده الجليل رحمهم اللّه.

ثمّ إنّ المترجَم له غادر النجف الأشرف عائداً إلى بلاده، وقد كان العلّامة الراحل الشيخ محمدكاظم الشيرازي مُصرّاً على أن يقيم سماحته في حوزة النجف عندما شَعَرَ بأ نّه يَنوي الرحيل إلى إيران، إلّاأنّ بعض الأسباب والعلل دفعت به إلى أن يغادر النجف إلى إيران وسكن حوزه قم المشرّفة، مواصلاً جهوده العلمية، ومتابعاً حركته الفكرية بحدٍّ كبير.

المرء بأفكاره وآرائه:

إنّ أفضل ما يوقفنا على حقائق الرجال وما يتحلّون به من فضائل وملكات وسجايا، وما ينطوون عليه من علم وفكر وثقافة هو آثارهم وذخائرهم العلمية، وما دبجته يراعاتهم من آراءٍ وأفكار.

ولهذا فإنّنا إذا لاحظنا ما كتبه مؤلّفنا الجليل في طائفة من حقول المعرفة الإسلامية لَعَلِمنا من فورنا بأ نّنا نواجه بحقّ شخصيّة علمية فذّة، وقمّة فكرية قلّما يجود الدهر بأمثالها إلّافي فترات معيّنة من تاريخ الاُمّة.

فهو - دام ظلّه - متخصّص في بعض العلوم الإسلامية ومشارك في بعض آخر، وأفضل دليل على ذلك: كتاباته القيّمة ومؤلّفاته العلمية الثمينة، التي نشير إلى طائفة منها في هذه اللمحة العابرة على سبيل المثال لا الحصر:

ص: 13

1 - منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر:

وهو الكتاب الذي طُبع عدّة مرات، وقد قال عنه العلّامة المحقّق الشيخ آغا بزرگ الطهراني في رسالة إلى المؤلّف بأ نّه لم يَرَ كتاباً في الجامعيّة نظيره.

كما وكتب عنه العالم الراحل الشيخ حبيب المهاجر العاملي في كتابه «الإسلام في علومه وفنونه» كلاماً مفصّلاً قال فيه: ولا ينبغي لمؤمن إلّاأن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب.

ولم تُقتصر الإشادة به على علماء الشيعة، بل وأشاد به جملة من علماء السنّة وبعض المستشرقين أيضاً، ولذلك أصبح هذا الكتاب مرجعاً ومصدراً لكلّ من أراد الكتابة حول الإمام المهديّ المنتظر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطيّبين.

والسرّ في كلّ ذلك: أنّ المؤلّف الجليل جمع فيه كلّ ما ورد من الأحاديث والروايات حول الإمام المهدي عليه السلام وبوّبه أحسن تبويب، ونسّقه أحسن تنسيق، وأشار في نهاية كلّ باب ما يمكن أن يكون شاهداً لهذا الباب ممّا جاء في الأبواب الاُخرى.

2 - مع الخطيب في خطوطه العريضة:

ومحبّ الدين الخطيب - الذي يتعرّض هذا الكتاب للردّ على ما نشره في كتابه الخطوط العريضة - هو من النواصب المعاصرين، الذين لم يكتموآ بغضهم وعداءهم لآل الرسول صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين.

فقد سعى الخطيب هذا في تفنيد كلّ ما ورد حول فضائل أهل البيت النبوي

ص: 14

الطيبين في كتب أهل السنّة، وانكاره وردّه.

ولم يقتصر على هذا، بل أظهر بغضه الدفين وحقده المشؤوم على أهل البيت النبوي في سعيه الحثيث لإحياء ونشر ما ألّفه بعض النواصب من القدامى في الإيقاع بالشيعة التابعين لأهل البيت النبوي وقادتهمم من آل الرسول صلّى اللّه عليه وعليهم، ومن ذلك تعليقه على كتاب «العواصم من القواصم»!

ولا غرابة «فكلّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ»(1).

كما لا غَرو أن يصدر كلّ ذلك في هذا العصر، عصر العلم والتفتّح العلمي ما دامت هناك حكومات وأنظمة تجد بقاءها واستمرارها في إيجاد الفرقة بين طوائف المسلمين، وانقسام الاُمّة الواحدة إلى شعوب متنازعة بدل أن تكون متعارفة متعاطفة، ومن هذه الحكومات «النظام السعودي»، الذي كان ولا يزال يستأجر أقلاماً لتأليب السنّة على الشيعة، وإثارة مشاعر الشيعة ضدّ السنّة، وإذا بهذه الأقلام المأجورة تقدح في الرجال الطاهرين من أئمة المسلمين من أبناء الرسول، بينما تمجّد بالسكّيرين والفاسقين أمثال يزيد بن معاوية، والوليد بن عبدالملك، والملوك والسلاطين المعاصرين الذين حذوا حذوهم واقتفوا أثرهم.

وقد كان كتاب «الخطوط العريضة» لمحبّ الدين هذا من جملة تلك الأوراق المسمومة والصحائف الصفراء التي قامت الحكومة السعودية الجائرة..

ص: 15


1- مع الأسف أنّ بعض الإذاعات في دول الخليج في مثل هذه الظروف الخطيرة من حياة الاُمّة الإسلامية بدأت تروّج لهذا الكتاب، وتلفت نظر المستمعين إليه، ولا ندري ما إذا كان ذلك جهلاً أو...

بطبعها ونشرها وترويجها، وهو الكتاب الذي ألصق فيه «الخطيب الحاقد» تُهماً كثيرةً بالشيعة، وسعى في تشويه سمعتهم الناصعة بهدف إيجاد الشقاق والفرقة بين المسلمين.

فقد طُبع هذا الكتاب على نفقة النظام السعودي، وقامت سلطات السعودية بتوزيعه علىّ الحجيح مجّاناً؛ تحقيقاً لأهداف الاستعمار البغيض الذي لا تروقه وحدة الصفّ الإسلامي وتماسكه.

وقد تصدّى مؤلّفنا الجليل - انتصاراً للحقّ ودفاعاً عن الحقيقة - بالردّ الموضوعي الهادئ والعلمي على هذا الكتاب.

إنّ القرآن الكريم وإن كان يصف المؤمنين بأ نّهم [إذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً](1)، وأ نّهم [إذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً](2) إلّاأنّ قيام أعداء الوحدة ببثّ هذا الكتاب ونشره باللغات المختلفة جعل السكوت عليه أمراً غير جائز ولا وارد؛ ولهذا قام المؤلّف الجليل بكتابه الردّ العلمي المذكور على ذلك الكتاب.

3 - جلاء البصر لمَن يتولّى الأئمّة الاثني عشر:

وقد قام المؤلّف في هذا الكتاب بتوضيح وإثبات أنّ عدد الأئمّة اثنا عشر، لا ثلاثة عشر، وقوّم سنده ومتنه، وقد طُبع أيضاً.3.

ص: 16


1- الفرقان: الآية 72.
2- الفرقان: الآية 63.

4 - صوت الحق ودعوة الصدق:

وقصّة هذا الكتاب هي: أنّه بعد أن انتشر كتابه «مع الخطيب في خطوطه العريضة» الذي كان ردّاً على افتراءاته للشيعة، وتوضيحاً لما ارتكبه الخطيب من جنايات على الإسلام والمسلمين عامّةً وعلى الشعية والتشيّع خاصّةً، أوعزت السلطات السعودية إلى أحَد اللاهوريّين باسم «إحسان اللهي ظهير» بأن يكتب ردّاً قاسياً على ما كتبه مؤلّفنا الجليل وينتصر للخطيب ويؤيّد افتراءاته، وقد سمّى كتابه «الشيعة والسنّة»، وأعلن فيه بقوة بأنّ الشيعة والسنّة لا يمكن أن يتّحدا، وجاء الكتاب ليكون نعرة جديدة من نعرات الخلاف والشقاق، فقام مؤلّفنا الجليل - بحكم الواجب - بتأليف كتاب آخر باسم «صوت الحق ودعوة الصدق»، استعرض فيه ما ارتكبه المؤلّف الثاني من أخطاء.

وكان بهذا الكتاب وقع جيّد، حيث كتب أحد الأفاضل من الجيزة بمصر عنه في رسالة تقدير يقول مخاطباً سماحة المؤلّف دام بقاه:

(طالعت كتابكم الكريم الموسوم «صوت الحق ودعوة الصدق» وهو يسفر عن غيرتكم الصادقة، وحرصكم الشديد على سلامة الدين، ووحدة المسلمين ولَمّ شعثهم وقوّة شوكتهم؛ ليكونوا درعاً حصيناً وجُنّةً وثيقةً لمكافحة كلّ ما يتهدّد سلامة مبدئهم ويؤول إلى تفريق جمعهم.

وليت شعري ما الذي يجنيه هؤلاء - مثل محبّ الدين وأشباهه - من وراء إفكهم؟! ومَن المُستفيد من طعنهم وافترائهم على عباد اللّه المؤمنين؟!

لا أجد مبرّراً لإثمهم وبهتانهم سوى الحسد والشنآن الذي يضمرونه لأهل

ص: 17

البيت عليهم السلام وشيعتهم، ظانّين - بزعمهم - أنّهم بذلك يستطيعون طمس آياتهم الساطعة وإطفاء أنوارهم المتلألأة. هيهات هيهات، فلو اجتمع أهل الأرض على أن يثيروا التراب على السماء فلن يثيروه إلّاعلى أنفسهم، وتبقى السماء كما هي ضاحكة السنّ، بسّامة المحيا).

ثمّ إنّ أحد العلماء الأفذاذ ألّف كتاباً حاكَمَ فيه المؤلّفَين والكاتِبَين باسم «الشيعة والسنّة في الميزان».

5 - العقيدة بالمهديّة:

وأثبت فيه المؤلّف أنّ العقيدة بالإمام المهدي مأخوذة من صميم الإسلام، وأورد فيه ما أورده العلماء السنّة والشيعة في جوامعهم الحديثة في شأنه عليه السلام.

وقد سبق المؤلّف في هذا العمل بعض القدامى الأفذاذ من علماء أهل السنّة، فقد ألّف العلّامة الحجّة علي بن حسام الدين المتّقي الشاذلي المتوفّى عام (977 ه)، كتاباً في هذا المجال أسماه «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان».

وأمّا مؤلّفنا الجليل فقد أورد في كتابه أسماء ثمانية وعشرين من الصحابة، وخمسة وأربعين من التابعين، واثنين وأربعين من المشايخ وأرباب الجوامع ممّن رووا أحاديث المهدي.

وبما أنّ التعريف بتفصيل كلّ واحد من مؤلّفات العلّامة الصافي - دام بقاؤه - ممّا يوجب الخروج عن حجم هذه المقدمة فإنّنا نكتفي بذكر أسماء ما تبقّى من

ص: 18

هذه المؤلّفات على سبيل التعداد:

6 - نويد أمن و أمان: وهو كتاب باللغة الفارسية حول الإمام المهدي - صلوات اللّه عليه - غيبةً وظهوراً، وقد طبع مراراً وتكراراً.

7 - عقيده نجات بخش: وهو أيضاً بالفارسية ومطبوع مراراً، يستعرض فيه الآثار البنّاءة للعقيدة بالإمام المهدي عليه السلام.

9 - انتظار عامل مقاومت و حركت: بالفارسية أيضاً، ويبيّن فيه المؤلّف كيف أنّ انتظار الإمام المهدي خير عامل للمقاومة والحركة، مضافاً إلى ما له من ثواب اخروي، لا أنّه تنحصر ثمرته في الحياة الاُخرى كما توهّم بعض الغافلين والجاهلين؟

10 - فروغ ولايت: بالفارسية، وهو بحث علمي حول دعاء الندبة المعروف، ومعالجته من حيث السند والمتن.

11 - مفهوم وابستگى جهان به وجود إمام عليه السلام: ويستعرض فيه المؤلّف معنى ارتباط الكون بالإمام والحجّة وهو بالفارسية.

12 - نظام إمامت و رهبرى: بالفارسية، ومطبوع مراراً، ويبيّن فيه موضوع نظام الإمامة والفوارق الجوهرية بين هذا النمط من القيادة والأنماط الاُخرى.

13 - حول حديث الافتراق: طبع بالعربية ويتناول فيه المؤلّف حديث ستفترق امّتي بالدراسة والتحليل، وبيان الفرقة الناجية.

14 - اصالت مهدويت: وهو مطبوع بالفارسية، ويردّ فيه على النظرية

ص: 19

القائلة بأنّ فكرة المهدي فكرة باطنية انتهى إليها الشيعة تحت الضغوط والمضايقات السياسية، ويثبت فيه أصالة هذه الفكرة وتجذّرها في الثقافة الإسلامية.

15 - أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف: مطبوع بالعربي وهو يستعرض الطرق التي يمكن أن تؤدّي إلى تقريب وجهات النظر الفقهية وتضييق شقّة الخلاف الفقهي بين الطوائف الإسلامية.

16 - إيران تسمع فتجيب: مطبوع باللغة العربية، وهو يجيب على بعض افتراءات وتساؤلات الندوي التي أوردها في كتابه «اسمعي يا إيران».

17 - راه إصلاح، يا أمر به معروف ونهى از منكر: مطبوع باللغة الفارسية.

18 - پيرامون روز تاريخى غدير: مطبوع بالفارسية.

19 - جابر بن حيان: مطبوع بالفارسية.

20 - المباحث الاُصولية: وهي تقريرات آية اللّه البروجردي - قدّس اللّه روحه - وهي تتمتّع بأهمّية كبرى؛ لأنّها تحتوي على تحقيقات هامّة في مجال علم الاُصول، عُرف بها الإمام الراحل البروجردي.

21 - إرث الزوجة: مطبوع بالعربية.

22 - رسالة في حكم القضاء على المدّعى عليه إذا نكل عن اليمين، أو رد: وهو مطبوع بالعربية.

ص: 20

23 - پرتوى از عظمت حسين عليه السلام: مطبوع باللغة الفارسية مراراً، وهو يتناول نهضة الإمام الحسين عليه السلام من بدئها إلى ختامها في تحليل رائع وقيّم.

24 - شهيد آگاه: وهو مطبوع بالفارسية، ويبحث فيه المؤلّف عن نهضة الإمام الحسين من زوايا خاصّة.

25 - الهيات در نهج البلاغة: وهو مطبوع بالفارسية، ويتناول فيه كلّ ما ورد في نهج البلاغة حول الذات الإلهية المقدسة وصفاتها الكمالية والجلالية.

26 - ولايت تكويني وتشريعي: مطبوع بالفارسية يبحث فيه المؤلّف عن هاتين الولايتين في الثقافة الإسلامية.

27 - حول الاستقسام بالأزلام: باللغة العربية، أجاب فيه على ما كتبه العلّامة الشيخ محمود شلتوت في مجلة «رسالة الإسلام» من أنّ الاستخارة المرويّة عن أهل البيت هي مِن قبيل الاستقسام بالأزلام المنهيّ عنه.

وقد طلب الإمام البروجردي رحمه الله من مؤلّفنا الجليل أن يكتب حول هذه المسألة ويرسل ما يكتبه إلى الشيخ شلتوت.

28 - نداى اسلام از اروپا: وهي مجموعة مقالات وأجوبة ألقاها باللغة الفارسية في مجالس إسلامية عقدت في المجمع الإسلامي بلندن، وقد طُبع مراراً.

29 - پاسخ به پرسشها: بالفارسية.

30 - عاليترين مكتب تربيت يا ماه مبارك رمضان: بالفارسية.

31 - حوادث تاريخى: بالفارسية.

ص: 21

32 - تاريخ حوزه هاى شيعى: بالفارسية، وهو يتناول تاريخ الحوزات العلمية الشيعية وأهمّ مراكزها ونشاطاتها ومقارنتها بغيرها من الحوزات والمراكز العلمية.

33 - پيرامون مسائل اسلامى: بالفارسية.

34 - پاسخ به پرسش هاى يك خانم مسلمان: بالفارسية.

35 - نظام امامت واُمّت: بالفارسية.

36 - حواشى بر عروة الوثقى: بالعربية.

37 - تعليقات بر كفايه: بالعربية.

38 - به سوى آفريدگار: بالفارسية، وهذا الكتاب يعالج 12 سؤالاً حول الالهيات والمعارف الإسلامية.

39 - تفسير آية الفطرة: بالفارسية.

40 - تجلّى توحيد در نظام امامت: بالفارسية.

41 - مسألۀ شناخت: بالفارسية.

42 - پيرامون معرفت إمام: بالفارسية.

43 - شرح دعاى معرفت حجت: بالفارسية.

44 - دربارۀ زندگى يوذاسف: بالفارسية.

45 - اعتبار قصد قربت در وقف: بالفارسية.

46 - التعزير أحكامه وملحقاته: بالعربية.

ص: 22

47 - تفسير آية التطهير: بالعربية.

48 - عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام: بالعربية.

49 - أحاديث الفضائل المخرّجة من الجامع الصغير: بالعربية.

50 - مَن لهذا العالم؟: بالعربية.

51 - چند رسالۀ فقهى: بالفارسية.

52 - سفرنامۀ حج: بالفارسية.

وهذه الرسائل والكتب القيّمة مطبوعة، وله غير هذه الكتب والرسائل كتب اخرى مخطوطة، أو هي تحت الطبع، أو طبعت، ممّا يقارب عدد مجموعها السبعين، وتكشف عن ثقافة المترجَم وسعة اطّلاعه، ومدى ارتباطه بواقع المسلمين.

وفي الختام تفتخر مؤسسة البعثة أن تقوم بنشر مجموعة قيّمة من الرسائل التي ألّفها سماحة المؤلّف الجليل حول القضايا المتنوعة في جزءين، الجزء الأوّل يشتمل على (12) كتاباً، والجزء الثاني يشتمل على (4) كتب.

وتقدّم هذه المؤسسة هذه المجموعة الكريمة والثمينة إلى القرّاء الكرام على أمل أن تخدم بذلك الإسلام والمسلمين، كما هو هدف المؤلّف دام بقاؤه، واللّه خير معين.

جعفر السبحاني

20 جمادي الآخرة، 1404

ص: 23

ص: 24

إلى هدى كتاب اللّه

اشارة

ص: 25

ص: 26

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق. من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار» صدق رسول اللّه الصادق المصدّق الأمين، فلا ريب أنّ المسلمين لم يقعوا فيما وقعوا فيه من ذهاب العزّ وفقد المجد، واختلاف الكلمة وتشتّت الآراء وسلطة الاعداء وتكثر الحكومات والنظامات الجاهليّة المستوردة من الشرق والغرب بدلاً عن الحكومة الاسلامية الواحدة إلّابنبذهم الكتاب الكريم وراء ظهورهم وإخراجهم إيّاه عن شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأصبحوا وكتاب اللّه متروكاً وهو بين أظهرهم لا يعملون به ولا يهتمون بأمره، اكتفوا بتلاوته ودرسه وهو خارجون على هداه وسلطان أحكامه ونظاماته يأوّلون آياته وأحكامه ويحملونها على آرائهم وأهوائهم ولذا التبست عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وصاروا في بلادهم عبيداً أذلّاء بعد ما كانوا في بلاد غيرهم أحراراً أعزّاء.

وهذه رسالة صدرت من مصلح مخلص وداع صادق من دعاة الحركة

ص: 27

الاسلامية العامّة الشاملة لجميع أقطار وطننا الاسلامي الكبير يدعو الأمّة جمعاء إلى هدى القرآن والرجوع إليه. كتبها قبل قيام الثورة الاسلامية بسنوات، نشرناها لأنّ حال غير ايران من بلاد المسلمين وإن أثّرت فيها الثورة الاسلامية في ايران وحركة الغيارى وأيقظت أبناءها لم تتغير من جهة نظاماتهم الفاسدة التي تعمل لمصلحة أعداء الاسلام نشرناها لأنّ يد الاستكبار الامريكى لم تقطع من بلادنا الاسلامية في الشرق الأوسط سيما فلسطين ولبنان وفي افريقيا والاحتلال الروسي المستكبر الآخر في آسيا وإفريقيا وبلاد مثل باكو وتاشكند وسمرقند وبخارا وتاجيكستان وعشق آباد وكازخستان وكرخيزيا وبلاد افغانستان وغيرها.

نشرناها استنهاضاً للمسلمين واستنصاراً منهم لنصرة الاسلام واستعادة بلاد القرآن المنتصبة في شرق الأرض وغربها.

ص: 28

بسم اللّه الرحمن الرحيم

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُروا نِعْمَتَ اللّهِ عليكُم إذْ كُنتُمْ أعْداءً فأ لَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فَأَصْبَحتُم بِنِعمَتِهِ إخْواناً وكُنْتُم عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فأَ نْقَذَكُم مِنْها كذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون](1).

[ وَقالَ الرَّسولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذوا هذا القُرآنَ مَهْجوراً](2)

«إذا الْتبسَتْ عَليكمُ الفِتنُ كقِطَع اللَّيل المُظلِم فعلَيكم بالقُرآن»(3).

هل نحن مسلمون؟

هل نحن مؤمنون؟9.

ص: 29


1- آل عمران: الآية 103.
2- الفرقان: الآية 30.
3- الكافي: ج 2 ص 599.

هل نتلو القرآن حقَّ تلاوته؟ هل نؤمن به ونستعذب حياضَ معارفه وتعاليمه؟ هل اتّخذناه منهاجاً لدنيانا وآخرتنا، نحكّمه في قضايانا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ومصدراً لأنظمتنا، ونظاماً لاُمورنا؟

أخي المسلم: إنّك إن كنت تريد استعادة مجدك الذاهب، مجد آبائك وأجدادك، إن كنت تريد النصر والغلبة على أعداء امتك، وإن كنت تريد النجاة بنفسك، وإنقاذ أبناء امّتك من هذه الشبكات التي حاكتها يد الاستعمار ونشرتها في بلادنا ومدارسنا وكلّياتنا وأسواقنا، وحتى في بيوتنا، وإن كنت من طلّاب الصلاح والإصلاح والفوز والفلاح، فتعال، تعال لنتمسّك بحبل القرآن، نهتدي بهداه، ونستضيء بنوره، ونعيش في ظلاله بأمن وطمأنينة، ونستشفي به من أدوائنا، ونستعين به على لأوائنا، ونرتّله ترتيلاً.

إنّنا يا أخي مسؤولون غداً عند اللّه تعالى عن هذا القرآن في محكمته العادلة: [يَوْمَ لايَنْفَعُ مالٌ ولابَنُونَ إلّامَنْ أتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَليم](1) وسيخاصمنا نبيّنا صلى الله عليه و آله إذا كنّا من الذين نبذوه وراء ظهورهم، يحتجّ علينا بكلّ آية من آياته، ويحاكمنا على كلّ حكم أهملناه من أحكامه.

إنّ داء المسلم المعاصر ليس إلّافي تركه العملَ بالقرآن، والاكتفاء باسم الإسلام مسجّلاً على بطاقة هويّته، محقّقاً بذلك قول الرسول الصادق الأمين «سيأتي زمان على أُمّتي لا يبقى من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا9.

ص: 30


1- الشعراء: الآية 89.

اسمه؛ يسمّون به وهم أبعد الناس منه»(1).

إنّني أدعوك أيّها المسلم لأن ننظر بعين البصيرة إلى الآيات التالية، كرِّر، وأعد، ثم أعد تلاوتها، وتفكّر ثمّ تفكّر في معانيها وما تستهدفه من أغراض حكيمة وتعاليم سامية، ثمّ عرّج بالنظر إلى واقع عالَمنا الإسلامي، وإلى النظم الاجتماعية في بلاد المسلمين، فهل تجد بلداً طبّق هذه الآيات، أو بعضها فيها كمنهاج للحياة في نُظُمه الاجتماعية أو السياسية أو مناهجه التثقيفية أو التربوية؟

أنا لاأقول بأ نّك لم تسمع الآيات التي سأتلوها عليك، بل لاشكّ أنّك قد قرأتها كثيراً في صباحك ومسائك، وفي شهر صومك، وعند دعائك، وحينما أردت استكثار الثواب بقراءة كتاب اللّه تعالى، ولكنّ مجرد القراءة لايكفينا، ولايُنجينا إذا نحن لم نتفهّم معانيه ومقاصده، ولم نأخذ بمضمون ما نقرأ، ولم نعمل بأوامره، ولم ننزجر بزواجره.

إنّ الغاية من نقلها إليك أيّها الأخ المسلم إنّما هي محاولة الاستفادة من تعاليمها السامية؛ علّها تشحذ في الهمّة وتقوّي عزائمنا، وتدفعنا إلى العمل على ضوئها؛ لنعيد بناء مجدنا وعظمتنا، ونترفّع بأنفسنا - التي أراد اللّه لها أن تظلّ كريمة عزيزة - عن الإعتساف في الشهوات، التي أدّت بنا إلى هذا السقوط؛ ممّا جعل أعداءنا يغزوننا في عُقر دارنا، بعد أن كانوا هم هدفاً لغزونا لهم في عقر دارهم، ولاحول ولاقوة إلّاباللّه.

قال اللّه تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤمِنونَ بِاللّهِ واليَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللّهَ3.

ص: 31


1- ثواب الأعمال: ص 253.

وَرَسوُلَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أو أبناءَهُمْ أو إخْوانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُم أوُلئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُم بِرُوُحٍ مِنْهُ](1).

[فَلاَ وَرَبِّكَ لاَيُؤْمِنوُنَ حَتَّى يُحَكِّموُكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْليماً](2).

[قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزواجُكم وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوالٌ اقْتَرَفتُموُها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَها ومَساكِنَ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ واللّهُ لايَهْدِي القَومَ الفاسِقِين](3).

[يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهُم أوْلياءُ بَعضٍ ومَنْ يَتَوَلَّهُم مِنْكُم فَإنَّهُ مِنْهُم إنَّ اللّهَ لايَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمينَ](4).

[يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لاتَتَّخِذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُم سُلْطَاناً مُبِيناً](5).

[وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ](6).

[وَأَطيعُوا اللّهَ ورَسوُلَهُ ولاتَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ ريحُكُم واصْبِروُا إنَّ اللّهَ9.

ص: 32


1- المجادلة: الآية 22.
2- النساء: الآية 65.
3- التوبة: الآية 24.
4- المائدة: الآية 51.
5- النساء: الآية 144.
6- آل عمران: الآية 139.

مَع الصَّابِرِينَ](1).

[وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأنْساهُمْ أنْفُسَهم أُوُلئِكَ هُمُ الفَاسِقونَ](2).

[يَاأ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَايَأْ لُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهم وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم أكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآياتِ إنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ](3).

[يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلوا الَّذِينَ يَلوُنَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَموا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ](4).

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً ولاتَفَرَّقُوا](5).

إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ](6).

[ألَّذِينَ يَأْكُلوُنَ الرِّبوا لايَقُومُونَ إلّاكَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بأنَّهُم قالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبوا وَأحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحرَّمَ الرِّبوا](7).

يَا أيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤمنينَ يُدْنِينَ عَلَيْهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ5.

ص: 33


1- الأنفال: الآية 46.
2- الحشر: الآية 19.
3- آل عمران: الآية 118.
4- التوبة: الآية 123.
5- آل عمران: الآية 103.
6- الحجرات: الآية 10.
7- البقرة: الآية 275.

ذلكَ أدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحيماً](1).

وَلْتَكُنْ مِنْكُم امَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بالمَعرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُونَ](2).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ](3).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أرَضِيتُم بِالحَيوةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرةِ فَمَا مَتاعُ الحَيوةِ الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إلَّاقَلِيلٌ](4).

الرِّجالُ قوّامونَ على النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُم عَلى بَعْضٍ وبِمَا أنْفقُوا مِن أموالِهِم](5).

أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنونَ](6).

وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبونَ بهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعدُوَّكُم وآخَرينَ مِنْ دوُنِهم لاتَعْلَمُونَهُم اللّهُ يَعْلَمُهُم وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيءٍ فِي سَبيلِ اللّهِ0.

ص: 34


1- الأحزاب: الآية 59.
2- آل عمران: الآية 104.
3- آل عمران: الآية 149.
4- التوبة: الآية 38.
5- النساء: الآية 34.
6- المائدة: الآية 50.

يُوَفَّ إلَيْكُم وأنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ](1).

وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّالِبُعُولَتِهِنَّ...](2).

والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولايُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بعَذابٍ أليمٍ](3).

الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِأَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ](4).

إنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفْلِحونَ](5).

ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ](6).

إنَّ المُبَذِّرينَ كانُوا إخْوَانَ الشيَاطِينِ](7).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوِ7.

ص: 35


1- الأنفال: الآية 60.
2- النور: الآية 31.
3- التوبة: الآية 34.
4- النور: الآية 2.
5- المائدة: الآية 90.
6- المائدة: الآية 44.
7- الإسراء: الآية 27.

الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ](1).

وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ](2).

الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أقَامُوا الصَّلوةَ وآتَوُا الزَّكوةَ وَأمَروُا بِالمَعْروفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَر وَلِلّهِ عاقِبةُ الأُمُورِ](3) .

هذه الآيات ومثيلاتها - ممّا تضمَّن تحديد السلوك العام للإنسان المسلم والاُمه المسلمة - تعرفها أنت ويعرفها كلّ مسلم غيرك؛ ولكن أين هو التطبيق؟

إقرأ القرآن كتابَ اللّه ودستور دينك الذي تعتقد في قرارة نفسك أحقِّيَّته بالاتّباع، وقفْ عند كلّ آية من آياته بتدبّر، ثمّ قارن بين ما تضمَّنته من أمر أو نهي وبين سلوكك أنت وسير النظام في بلدك وطريقة حياة قومك، فهل تجد في كافّة هذه الجهات من يأخذ بها، أو يبني مسلكه في الحياة على هُداها؟

بل إنّك لن تجد غير الإنفصال التامّ في حياتك ونظام حكومتك وسلوك مجتمعك عنها، لا بل سوف تجدها خارجة عن نطاق دنياك، وكأنها لا تعنيك ولا تقصدك في الخطاب.

أجَل، إنّني أكرِّر الطلب لمبادرة قراءة هذه الآيات، ثمّ البحث في مطاوي تاريخنا الإسلامي، فهل تجده قد تحدّث في عصر من عصور امّتنا السالفة عن جيل اتّخذ القرآن مهجوراً كما اتّخذه أبناء جيلنا في عصرنا وزماننا هذا؟1.

ص: 36


1- النساء: الآية 135.
2- هود: الآية 113.
3- الحج: الآية 41.

لعن اللّه العلمانية ومن جاء بها، ومن سنَّ شرعية هذا المبدأ الخبيث الذي قلب الإسلام ظهراً لبطن.

تعالَ معي لنتجوَّل في أسواق المسلمين، فنرى أنّ أكثر ما يباع فيها سلع مستوردة من الأعداء، وأكثرها ممَّا لاضرورة في بيعها ولافي شرائها، بل منها ما له خطر الأثر على مقوّمات وجودهم وأخلاقهم، كأنواع الخمور وآلات اللهو وأدوات القمار.

ثمّ لِنُعرِّجَ معاً على معاهد العلم ومدارسه وكلّياته، حيث لانرى في مناهجها وأساليب تعليمها إلّاما يدفع الشباب إلى الانحراف عن العقائد الصحيحة، ويشوّقهم إلى ترك الالتزام بالآداب والتعاليم الإسلامية، وما ذلك إلّا لأنّها من وضع أعداء الإسلام، والمتربّصين به وبأهله الدوائر.

ثمّ لنُلقِ نظرة على ثُكنات الجيش ومراكز القوّات المسلّحة في البلاد الإسلامية ومحافل موظّفي حكوماتها، لنرى أنّ أعظم شعار إسلامي وهو الصلاة لاتقام في أوقاتها بينهم.

ثمّ انظر إلى الشوارع والأزِقّة والأسواق، لتراها غاصَّةً بأفواج النساء المتبرِّجات السافرات العاريات تقريباً، وهنّ يزاحمن الرجال بالمناكب والصدور، وفي ذلك ما فيه من إغراء للشباب، ودفعه إلى هاوية الرذيلة وانعدام الرجولة، ممّا يؤدِّي حتماً إلى انهيار المجتمع و دماره وتفكّكه.

وهيّا لنذهب ونراقب ما يجري في قاعات البرلمان ومجالس الاُمّة، ونصغي إلى ما يطرحه أعضاؤها من مشاريع وقرارات، لنرى كيف يسوِّغون

ص: 37

لأنفسهم حقّ التشريع والتقنين حتى على خلاف أحكام القرآن وضدّ مصالح المسلمين؟!

ولا تغفل يا أخي عن استعراض أراضينا المغتصبة من وطننا الإسلامي، وخصوصاً الجزء المقدّس منها، أعني اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فهل ترى من سبب لبقائها في أيدي الأعداء إلّااختلاف الرؤساء المتغلّبين على بلاد المسلمين، وتفرّقهم وعدم اعتصامهم بحبل اللّه؟ وهل تجد لهؤلاء من عذر عند اللّه تعالى في تنصيب كلّ واحد منهم نفسه رئيساً أو أميراً أو سلطاناً أو ملكاً على مجموعة من المسلمين في بقعة من بقاع وطننا الإسلامي الكبير، من غير أن يتنازلوا عن هذه العروش لمصلحة الإسلام واجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم، تحقيقاً لقول النبي الأعظم «وهم يدٌّ عَلى من سواهم»(1)، حتى غدا العالم الإسلامي موزِّعاً إلى دويلات ضعيفة واهية مشتقة متباعدة في المشارب والأهواء والسياسات؟!

فهذه عميلة لأمريكا، وتلك تعمل لمصلحة روسيا، هذه تقتل الفدائيين وتريد اجتثاثهم من الأرض، ومن كانت حاله أحسن منها فى ذلك تترك نصرتهم بحجة أنها بعيدة عن منطقة المعركة، أو بدعوى ضعف إمكاناتها العسكرية والهجومية، إلى غير ذلك من التُرّهات والأباطيل.

ولقد أصبح المسلمون - ويا للأسف الشديد - في كافّة مظاهر حياتهم وعاداتهم وأوضاعهم مقلِّدين لأعدائهم، ولو كان هذا التقليد فيما ينفع لكان نعمة4.

ص: 38


1- الكافي: ج 1 ص 403، 404.

وهو ليس بمعيب، إذ أنّ الاُمم العاقلة هي التي تقتبس عن مثيلاتها كلّ ما تراه صالحاً لها، ولكنّ الذي اقتبسناه نحن عن الأجنبي من عادات وتقاليد أكثره يكمن فيه الضرر إن لم يكن جميعه كذلك.

فباللّه عليك يا أخي قل، وليكن قولك الحق، أنحن في أكثر عاداتنا ومظاهر حياتنا وقوانين حكوماتنا مسلمون، أم أنّنا في وادٍ و تعاليم ديننا ومفاهيمه في واد آخر؟

ولن أتعرض لما عليه صحافتنا وسائر وسائل إعلامنا، فإن ما هي عليه من ترويج الفساد وسوء الأخلاق والتشجيع على الدعارة، والدعوة إلى الخلاعة، والاستهتار بالقيم، والحثّ على الإلحاد، كلّ ذلك أمر بديهي لايحتاج إلى برهنة.

ومن أشدّ أمراضنا: مرض النفاق، إذ أنّنا نقول بإذاعاتنا ومآذننا وأثناء صلواتنا: «أشهدُ أن لاإله إلّااللّه، وأشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، وعبده ورسوله»، مع أنّنا خارجون عن سلطان دين اللّه وسلطان أحكامه، متمسِّكون بالمناهج الكافرة الداعية إلى الشرك أو الإلحاد، نقرأ القرآن، ونردّد في مفتتح كلّ سورة «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم»؛ إلّاأنّ منّا من يُردّد ويهتف في افتتاحية مقاله وفي الكتابات الرسمية وغيرها باسم سُمُوّ الأمير، أو فخامة الرئيس، أو جلالة الملك والسلطان، غير آبهين بما أمرنا اللّه تعالى بالأخذ به، وجعله شعاراً لهذه الاُمّة، امّة التوحيد، من الابتداء باسمه المجيد.

اللّه أكبر! ما أبعدنا عن مفاهيم الإسلام وتعاليمه! ما الباعث لنا ياترى على قبول الذُل والصغار تجاه عبد ذليل مثلنا، مع أ نّنا نسمع قول اللّه سبحانه ونردّده

ص: 39

[ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرباباً مِن دُونِ اللّه](1)، نؤمن لرسالة رسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله، لكنّنا مع ذلك لا نتّبع ما جاء به من عند اللّه ولانتأسّى به، ثمّ نأخذ بمبادئ أعدائنا، فإذا لم يكن ذلك من النفاق، فما معنى النفاق إذن...؟!

اللهمّ إنّا نستغفرك ونتوب إليك ممّا نحن فيه من ضلال ماحِقٍ لعزّنا، دافعٍ لنا إلى نسيان ديننا وكتابنا وسنّة نبيّنا.

ميلاد جديد:

أَجَل، إنّه لا ريب ولا شكَّ في تحقّق جميع ما تقدّم ممَّا نحن عليه، إلّاأنّ المسلمين أو أكثرهم من الواعين قد أدركوا داءهم، وعرفوا دواءهم، ولولا نفوذ بعض المفاهيم الاستعمارية، والدعاية الشديدة لها في عدّة أقطار من عالَمنا الإسلامي بمختلف الأساليب الخدّاعة، ولولا سيطرة بعض الرؤساء والزعماء ممّن أعمى أبصارهم الجاه وحبُّ الرئاسة، ولولا هذه التمزّقات الإقليمية، والعصبيات العنصرية والقومية، التي وزّعت عالمنا الإسلامي، وحالت بين كلّ إقليم وإقليم آخر، لولا كلّ ذلك لكان المسلمون اليوم على هامة التاريخ يعيشون في عالم كلّه نور، وفي مدنية علمية وصناعية هي أرقى من جميع المدنيات.

وإنّنا ليحدونا الأمل رضوخاً لقول اللّه سبحانه: [لا تَيْأسُوا مِنْ رَوْح

ص: 40


1- آل عمران: الآية 64.

اللّهِ...](1)، و [لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمة اللّه](2)، بانبعاث نهضة إسلامية واعية على أيدي رجال مجاهدين، قد توّزعوا هنا وهناك من بلاد المسلمين، وآلوا على أنفسهم أن يعيدوا الإسلام إلى واقع المسلمين، ويدفعوهم إلى طريق إعادة مجدهم الإسلامي الزاهر، وبناء مجتمعنا على دعائم العقيدة الإسلامية الحقّة، والوقوف صفّاً واحداً في وجه نوايا الاستعمار الخبيثة.

وإنّنا لنجد في كلّ قطر رجالاً مجاهدين قد ثاروا على الباطل، وتنبّهوا لأحابيل الاستعمار، ووقفوا في وجه كلّ دعاية أجنبية تهدف إلى النيل من قداسة الإسلام وعزِّ المسلمين ووحدتهم.

ولقد قام الاستعمار من جانبه، مستعملاً كلّ ما لديه من قوة سياسية ومادية لإبادة هؤلاء الأبطال والتضييق عليهم ومطاردتهم، يساعدهم على ذلك أعوانهم وعملائهم؛ ذلك لأنّه يعلم بأنّ عمل هؤلاء المصلحين الدائب سوف يؤدِّي إلى تيقظ المسلمين، وبالتالي إلى وحدتهم ولو سياسياً، وذلك من أعظم الموانع دون تحقيق نواياه الخبيثة فيهم، إلّاأنّه بعون اللّه سيفشل في العاقبة، وستفشل أحابيل الصهيونية المتمثّلة بإسرائيل والدول المؤيّدة لها والمنفقة عليها، فإنّ الحقّ لابدّ وأن ينتصر في النهاية على الباطل مهما طال الأمد، واللّه ينصر من ينصره.

والوصول إلى الغاية لايتمّ إلّابالدعوة إلى الجهاد المتواصل، والعمل على3.

ص: 41


1- يوسف: الآية 87.
2- الزمر: الآية 53.

إعادة مناهج الإسلام وإرشاداته، وإلى واقع حياتنا الاجتماعية والسياسية، وذلك لايتمّ إلّاباشتراك الباحثين والكتّاب المسلمين ومفكّريهم ومصلحيهم في علاج جميع المشاكل، وبيانها لأبناء امّتهم، وعرض مفاهيم الإسلام وأساليبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها بأشكال واضحة ومفهومة لعموم المسلمين؛ حتى لا ينخدع الجهلة بهذه الحقائق بالمبادئ الكافرة والنظم المستوردة، وللصحافة أكبر الأثر في القيام بهذا الواجب ونقل الأفكار الإسلامية إلى أبناء المسلمين.

ولايخفى حاجتنا اليوم إلى دعاية إسلامية عالمية جامعة، تبلِّغ رسالات الإسلام في جميع نواحي الحياة إلى جميع الأجيال والاُمم المعاصرة، وتعرض على العالم الإسلامي مشاكل المسلمين في كلّ إقليم من أقاليمهم، وتطلب من الجميع العمل على معالجة تلك المشاكل، وتشرح لجيلنا المعاصر، سيّما الشّباب والطلّاب والطالبات أهداف الإسلام وغاياته، وتقوم بالدفاع عن قداسة الإسلام ودفع شبهات المستعمرين عنه.

إنّا نعلم يقيناً أنّ العالم سيلجأ إلى الإسلام، ويقطع رجاءه وأمله عن الأفكار المادية والبرامج البهيمية الشرقية والغربية، فقد ظهر عجز تلك المذاهب عن حلّ المشاكل الإنسانية، بل شدّدتها وكثّرتها هذه المذاهب التي لاترى هدفاً للحياة، ولا ما يعانيه البشر في هذه البسيطة، ولاتفسّر لوجودنا وبقائنا هنا تفسيراً معقولاً مرضياً تطمئنّ به النفوس، وتسوق نحو العمل والحركة.

فهذا من خواص المذهب المادي أّنه لايعرف لهذا العالم مفهوماً معقولاً، ومعنىً صحيحاً، وقصداً وهدفاً، ويوماً بعد يوم تجرّب البشرية، وتذوق مرارة

ص: 42

الأفكار والمذاهب التي بنيت على هذا الأساس، وتدرك أّنها لاتُشبع الإنسان، ولايقنع الإنسان بها.

ولاشكَّ أنّ الإسلام هو الدين الوحيد والرسالة الفرد الَّذي يحلّ كلّ المشكلات، ويفسّر كلّ ما في العالم تفسيراً معقولاً، ويقوّي في النفوس حبّ العمل والخير والإحسان والتضحية دون الحقّ والعدالة.

إذن فعلى عاتق الجيل الحاضر - سيما العلماء والكتاب والمثقّفين والشبّان - مسؤولية كبيرة؛ لأنّ العالم يسير إلى نقطة لابدّ له من الالتجاء إلى الإسلام، وذلك لايحصل إلّابالبلاغ المبين، وعرض الإسلام بمبادئه ونظمه للجيل الحاضر.

فاليوم الإسلام بحاجة كبيرة إلى تبليغ أهدافه وتعاليمه وإرشاداته، كما أنّ العالم بحاجة ملحّة إلى الإسلام وحكومته ونظامه.

فالمستقبل للإسلام، و [إنَّ الأرضَ لِلّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِه وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ](1)، [وَقُلِ اعْمَلوُا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمؤمنون](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني5.

ص: 43


1- الأعراف: الآية 128.
2- التوبة: الآية 105.

ص: 44

أحاديث افتراق المسلمين على ثلاث وسبعين فرقة

اشارة

ص: 45

ص: 46

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

هنالك روايات متواترة ينقلها الشيعة والسنّة عن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد تنبّأ بأنّ ما جرى على الاُمم السابقة سيجري على هذه الاُمّة أيضاً. يروي أبوسعيد الخدري عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قوله:

«لتتّبعنّ مَن كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً ذراعاً، حتّى لو أنّ أحدهم دخل جحر ضبّ تبعتموهم».

قلنا: يا رسول اللّه، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»(1).

ومن المسائل التي جرت على الاُمم السابقة، ووردت عنها أحاديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله هي مسألة «افتراق الاُمم» ففي أمثال هذه الأحاديث يشير النبي صلى الله عليه و آله إلى افتراق امّتَي موسى وعيسى - على نبيّنا وآله وعليهما السلام -

ص: 47


1- مسند أحمد: ج 3 ص 94؛ صحيح مسلم (شرح النووي): ج 16 ص 219، كتاب العلم؛ صحيح البخاري: ج 2 ص 171 (كتاب الأنبياء)؛ كنز العمّال: ج 11 ص 123؛ مسند الطيالسي: ح 2178.

ويقول انّ امّته أيضاً سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة واحدة فقط هي الناجية ومن أهل الجنة، وسائر الفرق الباقية هالكة ومن أهل النار.

انّ هذه المقالة الّتي تمرّ تحت أنظار القارئ الكريم، دراسة إجمالية وجامعة تسعى إلى أن تتعرّف على «الفرقة الناجية» تعرّفاً أوسع وأفضل، وهي تقوم على اسس من الدلائل والشواهد العقلية والنقلية.

إنّ المؤلّف المحترم، بإراءته هذه القرائن والدلائل، يثبت أنّ «الفرقة الناجية» ماهي إلّاأتباع الأئمّة الإثنى عشر ومحبّي أهل البيت عليهم السلام، اللّهمّ اجعلنا في زمرتهم.

ص: 48

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه ربِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيِّد المرسلين أبي القاسم محمدٍ، وآله الطاهرين.

أخرَجَ جمعٌ من أرباب المسانيد والسنن وجوامع الحديث: كأحمد، وأبي داود، وابن ماجة، وابن حبّان، والترمذي، والنسائي، والبغوي، والدارمي، أحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أنّ امّته ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فِرقة:

منها ما لانصّ فيه على الهالكة من الفرق والناجية منها.

ومنها ما فيه أنّ واحدة منها في الجنة والباقين في النار(1).

وفي بعضها: أنّ كلّها في الجنة إلّاالزنادقة.

وعن الشمس محمد بن أحمد بن بشّار المقدسي في «أحسن التقاسيم»:).

ص: 49


1- المناقب: ص 131، ط سنة (1326 ه).

أنّ حديث «اثنتان وسبعون في الجنة، وواحدة في النار» أصحّ إسناداً، و حديث «اثنتان وسبعون في النار وواحدة ناجية»، أشهر.

ومنها ما لاتعرّض فيه لتعيين الهالكة والناجية.

وفي بعضها: أنّ الناجية هي الجماعة، وفي البعض الآخر أنّه قال: «ما أنا عليه وأصحابي».

وفي بعضها كرواية أخرجها أخطب خوارزم موفق بن أحمد المكي، وابن مردويه على ما حكي عنه، عن علي عليه السلام، وحديث رواه الحافظ محمد بن موسى الشيرازي في الجمع بين التفاسير العشرة(1) ، عن أنس بن مالك: «تفترق هذه الاُمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ [وممّن خلقنا أمّة يَهدونَ بالحقِّ وَبهِ يَعدِلُون] وهم أنا وشيعتي».

وأخرج الإمام الحافظ حسن بن محمد الصغاني المتوفّى سنة (650 ه) في «الشمس المنيرة»(2): «افترقت امّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت امّة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلّافرقة واحدة» فلما سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء، وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول اللّه، كيف لنا6.

ص: 50


1- روضات الجنات: ص 508، الطبعة السابقة.
2- نقلنا الحديث عن النسخة المخطوطة من هذا الكتاب، الموجودة في مكتبة «آستان قدس» برقم 1706.

بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبْير نبَّأني أ نّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب، قال: «افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، وتفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، فأمّا اليهود فإنّ اللّه يقول: [وَمِن قَوم موسى أُمةٌ يَهْدون بِالْحقِّ وبه يَعْدِلونَ](1) وأمّا النصارى فإنّ اللّه يقول: [منهم أُمَّة مُقْتَصِدة](2) فهذه التي تنجو.

وأمّا نحن فيقول: [ومِمَّن خَلَقْنَا أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالحقِّ وبه يَعْدِلون](3)، فهذه التي تنجو من هذه الاُمّة(4).

ويُستفاد من بعضها: أنّ الهالكة قوم يقيسون الاُمور برأيهم، وهو ما رواه الحاكم في المستدرك(5) ، كتاب الفتن، وصحّحه على شرطالبخاري ومسلم، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على بضعٍ وسبعين0.

ص: 51


1- الأعراف: الآية 159.
2- المائدة: الآية 66.
3- الأعراف: الآية 181.
4- الدرّ المنثور: ج 3 ص 136.
5- المستدرك للحاكم: ج 4 ص 430.

فرقة، أعظمها فرقة يقيسون الاُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال، ويحلِّلون الحرام»(1).

كلمات العلماء حول هذه الأحاديث:

لقد كثرت كلمات العلماء حول رجال هذه الأحاديث ومتونها، وتعارض بعضها مع بعض، وشرح ألفاظها، وتعيين الفرقة الناجية، فأنكر بعضهم صحّته، وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير وصحّحه ولم يذكر الناجية والهالكة، وعلّل بعضهم ما في أسانيده محمد بن عمرو الليثي، وعبّاد بن يوسف، وراشد بن سعد، ووليد بن مسلم، وبعض المجاهيل.

واختلفوا في أنّ المراد بالاُمّة هل هي امّة الدعوة أم امّة الإجابة؟ وفي اختصاص الاختلاف باُصول الفرق دون فروعها، كما اختلفوا في العدد المأثور، وأنّ العدد لمجرد التكثير أو أنّ العدد لامفهوم له، فلا مانع من الزيادة على العدد المأثور وإن لم يجز النقص، أو أنّ المقصود أُصول الفرق دون فروعها.

وقال الكوثري: إنّ تشعّب الفرق لاينتهي إلى انتهاء تاريخ البشر، فلا يصحّ قصر العدد على فرق دون فرق، ولاعلى قرن دون قرن؛ لاستمرار ابتكار أهواء

ص: 52


1- وإن شئت الإطّلاع على سند هذا الحديث من طرق أهل البيت عليهم السلام، وما ورد عنهم في تفسيره، وكلمات أكابر العلماء وتحقيقاتهم الشافية حول هذه الأحاديث، راجع موسوعة «بحار الأنوار»، الجزء 28 من الطبعة الحديثة، باب افتراق الاُمّة بعد النبي صلى الله عليه و آله على ثلاث وسبعين فرقة. وما أفرده بعض علمائنا بالتأليف حول هذا الحديث.

وتلفيق آراء مدة دوام الحياة البشرية في هذا العالم، فالكلام في الفرق من غير تقيُّد بعدد هو الأبعد عن الحكم، وهو الذي لايكون مَدعاةً لهُزءِ الهازئين من غير أهل هذا الدين(1).

واختلفوا في تعداد الفرق وتفصيل معتقداتهم، وقد وقعوا في اشتباهات وجهالات في هذا المقام، وقالوا عن الشيعة وغيرهم ما يدلّ على جهلهم بأوضح المطالب التاريخية والكلامية ممّا ليس هنا محلّ ذكره. واخترعوا مذاهب وفرقاً لم تخرج بعد إلى عالَم الوجود، فراجع «الفصل» لابن حزم، و «الملل والنحل» للشهرستاني، و «التبصير» لأبي المظفر الإسفَرايني وغيرها.

فلا ينبغي الاستناد في نقل مذهب أيّ فرقة من فرق المسلمين على مثل هذه الكتب المليئة بالخرافات والجهالات، وما فيه شَين للإسلام والمسلمين، والجامعة بين الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، وأعاجيب الأكاذيب، وإن شئت أن تكتب عن طائفة أو شخص من المسلمين وغيرهم فلا تَعْزٌ إلى شخص ولافرقة من الفرق إلّاما سجِّل في كتبهم المعتمدة ومؤلّفاتهم المعتبرة، ولاتلزم أحداً منهم بلازم قوله إلّاإذا كان لازمه لزوماً بيّناً.

واستشكلوا أيضاً في كفر هذه الفرق ما عدا واحدة منها، فعن الشاطبي:

أهل السنة لايكفِّرون كلَّ مبتدع، بل يقولون بإيمان أكثر الطوائف التي فسَّروا بها الفرق، ورجّح أنّ الحكم بكون هذه الفرق في النار ما عدا الجماعة الملتزمة لِما كان عليه صلى الله عليه و آله و سلم هو وأصحابه لايقتضي أ نّها كلّها خالدة خلود الكفار، فجوّز أن8.

ص: 53


1- التبصير في الدين: ص 8.

يكون منها من يُعذّب على البدعة والمعصية، ولا يخلد في العذاب خلود الكفّار المشركين، أو الجاحدين لبعض ما علم من الدين بالضرورة(1).

فهذه الرواية لو لم تقل بدلالتها على كون جميع الفرق مسلمة ومعدودة من الاُمّة لا تدلّ على كفر الجميع إلّاالواحدة. نعم قد دلّ بعضها على دخول الجميع في النار ماعدا الواحدة منها.

ومن أعظم ما وقع الاختلاف فيه في هذه الأحاديث: تعيين الفرقة الناجية، والتي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، على ما في بعض طرقه.

قال الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية سابقاً: وأمّا تعيين أيّ فرقة هي الناجية - أي التي تكون على ما كان النبي عليه وأصحابه - فلم يتعيّن لي إلى الآن، فإنّ كلّ طائفة ممّن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه... إلى أن قال: وممّا يسرّني ما جاء في حديث آخر: أنّ الهالك منهم واحدة(2).

فهذا فهرس موارد الاختلاف في هذا الحديث من حيث السند والمتن والدلالة، ولايخفى عليك أنّ تعيين الفرقة التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، والجماعة الملتزمة لِما كانوا عليه لايثبت بنفس هذه الأحاديث، بل لابدّ من الرجوع إلى غيرها من الروايات والآثار والأدلة العقلية، مضافاً إلى أنّ أخبار (الجماعة) مطعون فيها من حيث السند؛ لاشتماله على مثلة.

ص: 54


1- تفسير المنار: ج 8 ص 220، الطبعة الثانية.
2- المصدر السابق: ج 8 ص 221-222، الطبعة الثانية.

أزهر بن عبد اللّه الناصبي، وعبّاد بن يوسف، وراشد بن سعد، وهشام بن عمار، ووليد بن مسلم، و عن الزوائد: (إسناد حديث عوف بن مالك فيه مقال)، وليس ببعيد أن تكون زيادة (وهي الجماعة) من بعض الرجال، ففسَّر الحديث وبيّن معناه على وفق رأيه وما هو الصواب عنده، ويؤيده: أنّ الدارمي خرّج هذا الحديث ولم يذكر هذه الزيادة، وحديث أنس مضافاً إلى ما في سنده أيضاً معارض بحديثه الآخر، فإن لفظ الحديث في بعض طرقه: «كلّها في النار، إلّا واحدة، وهي الجماعة»، وفي بعضها: «قيل يا رسول اللّه: مَن هم؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».

فالاغترار بهذه الزيادات مع هذه المعارضات في نفس هذه الأحاديث، وابتلاؤها بالمعارضات الخارجية بعيد عن الصواب، ويؤيد زيادة جملة (وأصحابي) بعد قوله: (ما أنا عليه) في بعض متون هذه الأحاديث، وزيادة كلمة (الجماعة) في البعض الآخر عدمُ استقامة مفادهما.

أمّا الأول فلأ نّه إنّما نجا مَن نجا وينجو من هذه الاُمّة بسبب كونه على ما عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولاعبرة بكونه على ما عليه غيره كائناً من كان، وإن كان من أهل النجاة؛ لأنّه أيضاً إنَّما نجا بكونه على ما عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فما معنى قوله:

(وأصحابي)؟ وإن كان المراد الكون على ما هو عليه مدة بقائه في هذه الدنيا، وعلى ما عليه أصحابه بعد ارتحاله فهذا أيضاً لايستقيم؛ لأّنه لاشكّ في وجود المنافقين في الصحابة، كما دلّت عليه آيات كثيرة، كما لاشكّ في ارتداد كثير منهم، كما دلت عليه أحاديث الحوض المتواترة وغيرها.

ولأ ّنه إذا كان الميزان قبل ارتحاله الكون على ما هو عليه، وبعد ارتحاله

ص: 55

الكون على ما عليه الصحابة فما هو الميزان بعد عصر الصحابة؟

مضافاً إلى أ نّه كيف يمكن الكون على ما عليه الصحابة مع ما حدث بينهم من الإختلاف، حتى ضرب بعضهم بعضاً، ولعن بعضهم بعضاً، ووقع بينهم ما وقع؟! هذا، ولاأظنُّ بأحد من المسلمين القول بأنّ ميزان النجاة الكونُ على ما عليه النبي وأصحابه صلى الله عليه و آله و سلم، بمعنى عدم الكون على ما عليه صلى الله عليه و آله و سلم موجباً للنجاة إلّا إذا انضمّ إليه الكون على ما عليه الأصحاب.

إذن فما يقول هؤلاء في نجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟ فهل هي أيضاً متوقفة عندهم على كونه على ما كان عليه أصحابه؟! نعوذ باللّه من جرأتهم على اللّه ورسوله، ومن زياداتهم واختلاقاتهم في الأحاديث حبّاً للبعض وبغضاً لأهل بيت العترة الطاهرة، ولأن يثبتوا باختلاقهم الأحاديث وإدخال الزيادات فيها لغير أهل البيت محناً لايقاس بهم ما يشابه فضائلهم، ولكنَّ اللّه عليم بذات الصدور، يُظهر أكاذيبهم ومفتعلاتهم.

وأمّا الثاني - وهو زيادة (الجماعة) - فالدليل على أ نّها زيادة لايعتدّ بها، سيما مع عدم ذكرها في سائر المتون: أنّ المراد منها: إن كان ما عليه جميع الاُمَّة فهو خلاف المفروض في الحديث من افتراق الاُمّة، وإن كان ما عليه السّواد الأعظم والأكثرية فكيف صار الكون منها أبداً موجباً للنجاة؟ فهذه سيدة نساء الجنة، حبيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تعتقد بعدم شرعية ولاية أبي بكر(1) ، وماتتا.

ص: 56


1- حكى لنا سيدنا الاُستاذ آية اللّه المغفور له السيد محمد تقي الخونساري ما جرى بينه وبين العلامة الشهير الشيخ حسن البنّاء، مؤسّس جمعية إخوان المسلمين من المباحثات حول المذهب، وذكر أنّ الشيخ بعد هذه المناظرات أعلن في المسجد الحرام، أو مسجد النبي صلى الله عليه و آله (الترديد منّي) حسنَ عقيدته بالشيعة، واعتذر عنهم من عقيدتهم في الخلافة، وعدم شرعية خلافة غير الإمام علي عليه السلام، بأنّ ذلك كان عقيدة فاطمة سلام اللّه عليها.

وهي واجدة عليه، وأهل السنة يدَّعون أنّ الجماعة كانت تذهب إلى شرعية ولايته، مع أ نّك تجد في الاُمّة فرقاً كثيرة أعظمها شيعة أهل البيت على عقيدة سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، ولاتجد فيها فرقةً ولاواحداً يشكُّ في كونها من أهل النجاة، وأ نّها سيدة نساء العالمين، بل هذا دليل على عدم صحة زيادة (وأصحابي) أيضاً؛ لأنّ عقيدتها تفترق عن عقيدة جمع من الصحابة من حزب أبي بكر وعمر بن الخطاب.

اللهمّ وإن قيل بإرادة جميع الصحابة من قوله: (وأصحابي)، وعليه يكون المراد: أنّ أهل النجاة مَن يقول بقول جميع الصحابة، ويأخذ بما اتّفقوا عليه كلّهم، وهذا قريب من رواية «كلّهم في الجنّة إلّاالزنادقة»، وعليه فالواحدة هي الخارجة عمّا اتّفق عليه كلّ الصحابة وينكر بعضه أو كلّه فهو ليس من الاُمّة لا انّه منها وليس من الناجية.

والعجب ممّن كتب في الفرق المختلفة، ويقول: إنّ أول اختلاف وقع بين الاُمّة كان في أمر الحكومة وزعامة الاُمّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويذكر مخالفة سيدتنا الزهراء عليها السلام وسائر بني هاشم وشيعتهم، ثمّ يتمسّك بهذه الزيادة، ويقول:

الفرقة الناجية هي (الجماعة).

ويورد عليه على فرض صحة هذه الزيادة، وأن المراد منها السواد الأعظم: أنّ السواد الأعظم ثار على عثمان، وأنكر عليه أفاعيله وبدعه،

ص: 57

واستعماله الخونة وبني امية على المسلمين، وصرفه بيت مال المسلمين في أقاربه وخواصّه، وإهماله حدود اللّه، وطلبوا منه التوبة وإبطال بدعه وطرد الخونة عن الاستيلاء على الاُمور، إلّاأ نّه لم يقبل منهم، ولم يعمل بنصح ناصح مثل الإمام علي عليه السلام، و أصرّ على ما أغضب به رجالات الإسلام حتى قُتِل، فهل يعترف من يروي هذه الزيادة ويقول بصحتها أنّ عثمان لم يكن من أهل النجاة، بل هو من أهل النار؟ وأمثلة ذلك كثيرة في تاريخ الإسلام.

ونسأل ونسأل، حتى نسأل: هل الحنابلة المجسِّمة بما اعتقدوا في اللّه على خلاف سائر المسلمين وجماعتهم، من العين واليد، من أهل النجاة، أو من أهل النار؟

وابن تيمية مع آرائه المخالفة للجماعة من أيِّ الفريقين؟ والشيخ محمد عبده، ورشيد رضا، وفريد وجدي وغيرهم من أهل الثقافة الحديثة والمتأثّرين بالمذاهب الفلسفية الغربية الذين خالفوا جماعة العلماء وجماعة المسلمين، من أيِّهما؟

والفرقة التي أحدثتها أيادي الاستعمار، وأثارت الفتن المخزية الدامية، وهدمت المشاهد والمعالم التاريخية، والبنايات الأثرية الإسلامية، التي كانت من أقوى الدلائل والشواهد على أمجادنا التاريخية وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ومشاهدها، من أيِّ الفريقين؟

وبعد ذلك كلّه فالأقوى في النظر زيادة هاتين الكلمتين، وعدم صدورهما من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعلى فرض الصدور لايمكن الاعتماد عليهما؛ لإجمالهما وعدم استفادة ميزانية ظاهرة مستقيمة منها لمعرفة الفرقة الناجية.

ص: 58

تعيين الفرقة الناجية

فإذن لانجد مرجعاً في نفس هذه الأحاديث لتعيين الفرقة الناجية غير مثل الحديث الذي أخرجه أخطب خوارزم، وابن مردويه، والحافظ الشيرازي عن أنس، وغير الحديث الذي أخرجه الحافظ الصغاني، وقد دلّ الأول على أ نّهم شيعة علي، والثاني على أ نّهم هم المتمسّكون بالثقلين: كتاب اللّه والعترة.

ونحن لا نحبّ الخوض في هذه المسائل الكلامية التي طال اشتغال الفريقين بها، ويغني الباحثين ما كتبه السلف فيها، إلّاأنّ بعض من يكتب كذباً وزوراً عن الشيعة ما يوافق هواه، حيث تعرّض لكلام المحقّق الطوسي في شرح الحديث، واستشهد بزعمه به، لما يريد من إثارة الفتن بين المسلمين والافتراء على الشيعة بأ نّها تخالف المسلمين في الاُصول، أوجب علينا أن نبيِّن له ولأمثاله معنى ذلك، وأ نّهم أرادوا بمباينتهم مع الجميع أنّ الجميع يتشاركون في

ص: 59

الاُصول والعقائد الموجبة لدخول الجنة، ولا يخالفهم أحد سوى الإمامية، فإنّهم اشترطوا فيه بالأدلة الصحيحة ولاية الأئمة الاثني عشر أيضاً، ومعنى ذلك: أ نّهم شاركوا الجميع في العقائد الإسلامية الموجبة لدخول الجنة، وباينوا الجميع لاشتراطهم في دخول الجنة ولاية الأئمة، فهم أهل النجاة، فلابدّ لنا من نقل كلام المحقّق الطوسي عمّن هو الأصل في حكايته عنه، وهو العلّامة الحلي في كتابه «منهاج الكرامة»، وإجراء الكلام على سبيل الإيجاز حول تعيين الفرقة الناجية.

قال العلامة في «منهاج الكرامة»: الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية: ما قاله شيخنا الإمام الأعظم الخواجة نصير الحقّ والملّة والدين محمد بن الحسن الطوسي قدّس اللّه روحه، وقد سألته عن المذاهب؟ فقال: بحثنا عنها، وعن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية، والباقي في النار»، وقد عيّن الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه، وهو قوله: «مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»، فوجدنا الفرقة الناجية هي الإمامية؛ لأنّهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في اصول العقائد(1).

وننقل أيضاً كلام السيد الجزائري عن كتابه «الأنوار النعمانية»، قال بعد نقل كلام المحقّق الطوسي: (وهذا تحقيق متين، وحاصله: أ نّه لو كانت الفرقة الناجية غير الإمامية لكان الناجي كلّهم، لافرقة واحدة؛ وذلك لأنّهم متشاركون9.

ص: 60


1- منهاج الكرامة: ص 49.

في الاُصول والعقائد الموجبة لدخول الجنة، ولايخالفهم أحد سوى الإمامية، فإنّهم اشترطوا في دخول الجنة ولاية الأئمة الاثني عشر والقول بإمامتهم)(1) ، انتهى كلامه.ة.

ص: 61


1- الأنوار النعمانية.

ص: 62

الشيعة الإمامية هم الفرقة الناجية

ولتوضيح ما حقّقه المحقّق الطوسي نقول: الذي نحتجّ به لكون الفرقة الناجية هم الشيعة الإمامية وأتباع علي والأئمة من ولده عليهم السلام، مضافاً إلى ما أخرجه أخطب خوارزم، وابن مردويه، والحافظ محمد بن موسى الشيرازي، عن أنس وعلي عليه السلام من أ نّهم شيعة علي وأصحابه، امور:

1 - إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عينّ الفرقة الناجية والهالكة صريحاً في الحديث المشهور الصحيح، الذي أخرجه جمع كثير من الحفاظ: «إن مَثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك»(1). فالفرقة الناجية هي الفرقة المتمسّكة بأهل البيت، والفرقة الهالكة هي المتخلّفة عنهم، ولاريب في استناد الشيعة في الاُصول والفروع وجميع العلوم الدينية كالتفسير والعقائد والفقه

ص: 63


1- انظر: بحار الأنوار: ج 23 ص 104، والحديث متواتر رواه الخاصة والعامة.

إلى أهل البيت عليهم السلام، وليس لغيرهم هذا الاستناد والاختصاص والتمسّك بفتاواهم، لو لم نقل بإعراضهم عن أهل البيت، فهذه كتب القوم مشحونة بالاحتجاج بأحاديث النواصب، وفتاوى أعداء العترة، أمثال: معاوية، وعمرو، وكعب الأحبار، وعكرمة، ومقاتل، وعِمران بن حَطّان، وحريز بن عثمان، ومروان، وغيرهم، ولم يُخرِّجوا عن أهل البيت إلّانزراً قليلاً لا يُعتدّ به جداً، كما لم يحتجّوا بفتاواهم أيضاً في الفقه(1).

2 - وقد عيَّنهم في غير أحاديث السفينة أيضاً، في الأحاديث الكثيرة التي بعضها متواتر، مثل أحاديث الثقلين الدالة على انحصار الأمن من الضلال في التمسّك بهم وبالكتاب، وعدم افتراقهم عنه، و عصمتهم عن الخطأ، وأنّ التخلّف عنهم سبب للهلاك، ويشهد لذلك الحديث الذي نقلناه عن «الشمس المنيرة» للحافظ حسن بن محمد الصغاني، ومثل أحاديث الأمان، وأحاديث الخلفاء والأئمة الاثني عشر، ومثل ما خرّجوه في تفسير قوله تعالى [إنَّ الذَّينَ آمَنوُا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة](2)، عن ابن عباس، أ نّه قال صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «تأتي أنت وشيعتُك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غِضَاباً مقمَحين»(3). ومثل ما ورد في أ نّه وشيعته هم الفائزون يوم القيامة.9.

ص: 64


1- راجع في ذلك كتابنا «أمان الأُمة»، وكتاب «شيخ المُضِيرة» للاُستاذ الشيخ محمود أبو ريّة، وكتاب «أبو هريرة» للشريف السيد شرف الدين.
2- البيّنة: الآية 7.
3- راجع الدرّ المنثور، والصواعق المحرقة: ص 159.

ومثل ما خرّجه في منتخب كنز العمال (1)«عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (ك طس) عن امّ سلمة.

وما أخرجه أيضاً في المنتخب(2): «من أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فإنّ ربي عزّ وجلّ غرس قضبانها بيده، فليتوَلَّ علي بن أبي طالب، فإنّه لم يُخرِجكم من هدى، ولم يُدخِلْكم في ضلالة» (طب ك) وتعقب، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن زيد بن أرقم.

وأخرج أيضاً (3)«من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربّي قضباناً من قضبانها غرسه بيده، وهي جنة الخلد، فليتولَّ علياً وذرّيته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً، ولن يدخلوكم في باب ضلالة»، مطير والباوردي، وابن شاهين، وابن منده عن زياد بن مطرف.

وما أخرجه أيضاً (4)«تكون بين امّتي فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه على الحقّ، يعني علياً» (طب) عن كعب عجرة، والأحاديث بهذه المضامين كثيرة، وإحصاؤها صعب جداً(5).».

ص: 65


1- المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 30.
2- منتخب كنز العمّال: ص 32.
3- المصدر السابق: ص 32-34.
4- المصدر السابق: ص 34.
5- من أراد الاطّلاع على طائفة منها، وتحقيق إسنادها ومتونها، وبحوث لايستغني الباحث عنها، فليراجع كتابنا «أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف».

وانتهاء الإمامية إلى علي عليه السلام وذريته، وانقطاعهم إليهم ظاهر من كتبهم في الحديث، ومذاهبهم في الفقه.

3 - قد اتّفقت مذاهب أهل السنّة فيما هو السبب للنجاة والخلاص من النار، أي الشهادتين والإتيان بالأركان الخمسة: الصلاة والزكاة، والحجّ والجهاد، ووافقهم الشيعة في جميع ذلك، وزادوا على هذه الاُمور ولاية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام بدلالة روايات متواترة خرّجها حُفّاظ الفريقين، فالإمامية قد أخذوا بما هو ملاك النجاة عند أهل السنّة، ولا عكس، فيجب أن تكون الهالكة غيرهم.

4 - قد اشتركت الشيعة وأهل السنّة في اصول العقائد من التوحيد والنبوة، والمعاد وغيرها، وفي الفروع مثل الصلاة والصوم، والحجّ والزكاة، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وامتازت عن أهل السنّة في مسألة الإمامة. فهي عندهم منصب إلهي يختار اللّه له من يشاء من عباده وينصّبه، ويأمر النبيّ بالنصّ عليه، كما نصّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم على الأئمة الاثني عشر في الروايات الصحيحة، وقد نص النبي على عددهم في الأحاديث المخرّجة في أصحّ كتب حديث أهل السنّة، كصحيح البخاري ومسلم، ومسند أحمد، فإنّه قد خرّجه من أربعة وثلاثين طريقاً، وغيرهم من أرباب الجوامع، وأخرجوه عن غير واحد من الصحابة، كجابر بن سمرة، وابن مسعود، وأنس.

فهذه عقيدة تشهد على صحتها ونجاة صاحبها صحاح الأحاديث، فالفرقة الناجية إن كانت هي الشيعة فهي، وإن كانت غيرهم من أهل السنّة يجب أن تكون الشيعة أيضاً من الناجية؛ لاشتراكها مع أهل السنّة في اصول العقائد الإسلامية

ص: 66

وفي الفروع العملية، مع أنّ القول بكون الناجية أهل السنّة يرجع إلى القول بنجاة جميع الفرق أو أكثرها، بخلاف ما لو كانت الشيعة هي الناجية، فالقول بنجاة أهل السنّة مستلزم للقول بنجاة الشيعة؛ لاشتراكها مع سائر الفرق في ما هو سبب للنجاة، ولاعكس، وهذا الوجه قريب من الوجه السابق.

5 - إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد اختلفوا في مسائل كثيرة، ولم يحصل منهم الاتفاق على جميع الاُمور، ولم يعلم عصمة طائفة منهم بالخصوص، ولم يتّفق الفريقان في جواز الرجوع إلى شخص معيّن منهم، إلّاإلى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فالمتمسّكون بهداهم الآخذون بحجزتهم أهل النجاة والفلاح قطعاً وإجماعاً، بخلاف المتمسّك بغيرهم كائناً مَن كان، فإن نجاة المتمسّك بغيرهم غير مقطوع به ولا متّفق عليه.

6 - إنّ الأخبار الصحيحة قد دلّت على ارتداد أكثر الصحابة إلّاالقليل منهم، مثل ما رواه البخاري في كتاب الحوض(1) ، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ! فقلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمّ إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ! قلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلّامثل همَل النعم».).

ص: 67


1- صحيح البخاري: ج 4 ص 88 (ط مصر، سنة 1320 ه).

وهذا الحديث يدلّ على ارتداد جمع كثير من الصحابة، فلا تكون متابعتهم مطلقاً، وإن لم يثبت ثبات المتبوع وعدم ارتداده سبباً للاندراج في الفرقة الناجية، كما أنّ الحكم بنجاة جميعهم مخالف لصريح هذه الأحاديث، واتفق الفريقان على أنّ علياً وفاطمة والحسن والحسين وشيعتهم، كأبي ذرّ والمقداد وسلمان وعمّار وغيرهم من الصحابة لم يكونوا من المرتدّين، فمن تمسّك بهم ولم يعدل عنهم إلى غيرهم في الاُمور الدينية، سواء كانت اعتقادية أم عملية يكون من الفرقة الناجية.

ومن الروايات المصرِّحة بذلك: ما أخرجه في كنز العمال(1) ، عن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن، عن أبيه، قال: كان علي عليه السلام يخطب، فقام إليه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين أخبرني مَن أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومَن أهل السُنّة؟، ومَن أهل البدعة؟ فقال: «ويحك! أمّا إذا سألتني فافهم عنّي، ولاعليك أن تسأل عنها أحداً بعدي، فأمّا أهل الجماعة فأنا ومَن اتّبعني وإن قلّوا، وذلك الحقّ عن أمر اللّه وأمر رسوله صلّى اللّه عليه وآله، فأمّا أهل الفُرقة فالمخالفون لي ولمن اتّبعني وإن كثروا، وأمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه لهم ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وإن قلّوا، وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر اللّه ولكتابه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهم الفوج الأوّل وبقيت أفواج، وعلى اللّه قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض...»، والحديث طويل، فيه بعض أحكام البغاة، وساقه إلى أن قال:9.

ص: 68


1- كنز العمّال: ج 8 ص 215، ح 3529.

«وتنادي الناس من كلّ جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب اللّه بك الرشاد والسداد» فقام عمار فقال: يا أيّها الناس، إنّكم واللّه إن اتّبعتموه وأطعتموه لم يضلَّ بكم عن منهاج نبيّكم قبس شعرة، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المنايا والوصايا وفصلَ الخطاب على منهاج هارون بن عمران، إذ قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّاأ نّه لانبيَّ بعدي» فضلاً عمّا خصّه اللّه به إكراماً منه لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم حيث أعطاه ما لم يُعطِ أحداً من خلقه...» الحديث.

وهذا الحديث وأشباهه لاتنطبق إلّاعلى الشيعة الإمامية، المنيخين مطاياهم بفناء أهل البيت عليهم السلام، والمتمسّكين بهم.

ويُعجبني هنا ذكر أبيات ذكرها للشافعي أحمد بن القادر العجيلي في كتابه «ذخيرة المآل»، والشريف الحضرمي في «رَشفَة الصادي»، وهي هذه:

ولمّا رأيتُ الناسَ قد ذهبت بهم،5.

ص: 69

فإن قلتَ: في الناجين فالقولُ واحدُ، وإن قلتَ: في الهُلّاكِ خِفتَ عن العَدلِ

إذا كان مولى القوم منهم فإنّني1.

ص: 70

تنبيه:

أخرج الحاكم في المستدرك(1) ، في كتاب الفتن، قال: أخبرنا محمد بن المؤمّل ابن الحسن، ثنا الفضل بن محمد بن المسيّب، ثنا نعيم بن حمّاد، ثنا عيسى بن يونس، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك (رض)، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فرقة قوم يقيسون الاُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام»، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

دلّ هذا الحديث على ذمّ أعظم الفرق، فرقة هي أكثرهم عدداً وجماعة، وهم أهل القياس والرأي، الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام، ولايخفى أنّ معظم أهل السنّة والجماعة هم أهل الرأي والقياس.

ص: 71


1- مستدرك الحاكم: ص 430.

ويؤيد هذا ظاهر حديثه الآخر، وهو ما أخرجه ابن ماجة عنه(1) ، قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنّة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة، والذي نفس محمدٍ بيده لتفترقنّ امّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول اللّه، مَن هم؟ قال: الجماعة». فإن ظاهره السؤال عن الفرق التي تكون في النار، فقال: «الجماعة».

وسواء كان ظاهر حديث ابن ماجة عنه هذا أم لم يكن فلا ريب أنّ حديث الحاكم عنه معارض لحديثٍ فُسّر فيه الناجية بالجماعة، إلّاإذا كان المراد منها ما نصّ عليه علي عليه السلام في حديث أخرجه عنه في كنز العمال، وإذا دار الأمر بين الأخذ بحديث الجماعة وحديث الحاكم وجب الأخذ بالأخير، فإنّ حديث الجماعة مطعون فيه من حيث السند والمتن والدلالة.

وممّا لاشكّ فيه أنّ الشيعة ليست من الفرق العاملة بالقياس والرأي التي دلّ هذا الحديث الصحيح على ذمّها؛ لشدّة تمسّكهم بالكتاب والسنّة، وعدم جواز العمل بالقياس والرأي عندهم، وهذا معروف من مذاهب أئمتهم، مذكور في كتبهم، وقد بيّنّا في بعض تصانيفنا أنّ سبب أخذ القوم بالقياس في الأحكام الشرعية قلّة مصادرهم، وميلهم عن أهل البيت، وعدم رجوعهم إلى الروايات المأثورة عنهم.ى.

ص: 72


1- سنن ابن ماجة: ج 2 ص 479، الطبعة الأُولى.

ثم لايخفى عليك أنّ الأدلة الستّة التي أقمناها على أنّ الناجية من الفرق هي الشيعة قائمة عليها، وإن قيل بعدم صحة أحاديث افتراق الاُمّة.

فكلّ منها دليل مستقلّ وبرهان واضح على انّ المذهب الصحيح بين جميع المذاهب ليس الّا مذهب أهل البيت عليهم السلام والحمد للّه الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

فنعم ما قيل:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً

ص: 73

ص: 74

الأحاديث الدالة على نجاة الموُحِّدين

قد علمت ممّا سبق اشتراك جميع الفرق في اصول العقائد، يعني بذلك:

الإيمان بالتوحيد والنبوة والبعث والصلوات الخمس إلى القبلة والحجّ وصوم شهر رمضان والزكاة، وغيرها من الاُمور التي اتّفقت الاُمّة في دخلها في الإيمان، وعدم حصول النجاة بدون الإيمان بها، وقد أعلن ذلك الصحاح الستّة وغيرها من كتب أهل السنّة، فدلّت رواياتهم على نجاة مَن آمن باللّه ورسوله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وحجّ البيت، وصام شهر رمضان، بل في صحاحهم روايات كثيرة دلّت على نجاة مطلق الموحِّدين.

ففي صحيح البخاري(1) ، في كتاب الرقاق، عن أبي ذرّ قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «قال جبرائيل: مَن مات من امّتك لا يُشرك باللّه شيئاً دخل الجنة،

ص: 75


1- صحيح البخاري: ج 4 ص 75.

قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق».

وفيه(1) ، عن أبي هريرة: أنّ أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: «تعبد اللّه لاتشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». قال: والذي نفسي بيده لاأزيد على هذا، فلمّا ولّى قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم «من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».

وفيه(2) ، في كتاب الرّقاق، عن عتبان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم «لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلّااللّه، يبتغي به وجه اللّه، إلّا حرّم اللّه عليه النار».

وأخرج في اسد الغابة(3) ، في ترجمة أبي سلمى راعي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «من لقي اللّه عزّ وجلّ، يشهد أن لاإله إلّااللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه، وآمن بالبعث والحساب، دخل الجنة»، قلت: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فأدخل إصبعيه في اذُنيه، فقال: سمعت هذا منه غير مرة، ولامرتين ولاثلاث، ولاأربع.

وإن شئت أكثر من ذلك فراجع «مصابيح السنّة» للبغوي(4) ، وغيره من7.

ص: 76


1- البخاري: ج 2 ص 109.
2- البخاري: ج 7 ص 172.
3- اسد الغابة لابن الأثير: ج 5 ص 219.
4- مصابيح السنّة، كتاب الإيمان: ص 3-7.

كتب الحديث.

وهذه الأحاديث دالة على نجاة الشيعة، وأ نّهم من أهل الجنّة؛ لأنّهم يشهدون بجميع ما فيها من التوحيد والنبوة والبعث والحساب، ويؤمنون بها، لايشركون باللّه شيئاً، يقيمون الصلاة، ويؤدّون الزكاة، ويصومون شهر رمضان، وشاركوا أهل السنّة فيما هو عندهم من ملاك الإيمان والنجاة.

وقد أفتى بهذه النصوص، وإيمان المعتقدين بالاُصول المذكورة جماعة من علماء أهل السنّة، فراجع «الفصول المهمة» إن شئت تفصيلاً شافياً في ذلك كلّه؛ حتى تعلم أنّ التقريب بين المذاهب والتفاهم بين الفرق أمر ممكن، وأنّ ما عليه الشيعة من ولاية أهل البيت والقول بإمامتهم والتبرّي من أعدائهم لا يمنع ذلك، ولايخالف الاُصول التي بني عليها الإسلام، فإنّ غير ما تلونا عليك ممّا ذهب إليه أهل السنّة كلّهم أو بعضهم، حتى تصويب ما صدر عن الشيخين وعدالة الصحابة ليس من اصول الدين في شيء، ولادخل لهذه الاُمور في الإيمان أو في كماله، لاسيّما إذا كان مَن يرى خلاف ذلك مجتهداً.

فمَن يُؤوّل رزية يوم الخميس - التي يقول عنها ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثمّ جعل تسيل دموعه على خدَّيه كأ نّها نظام اللؤلؤ، ويعذر عمر ابن الخطاب وحزبه فيما قالوا لمّا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فقال عمر وهو أول من منعه عن ذلك: إنّ النبي غلبه الوجع، وفي بعض طرقه: فقالوا: هجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،

ص: 77

وفي بعضه الآخر: قالوا: إنّ رسول اللّه يهجر(1) ، وعن أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة،(2) فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كيف لا يؤوّل قدح مَن يقدح في عدالة صحابي اجتهاداً، ولايقرّ خلافة الشيخين كما لم يقرّها فاطمة وعلي وغيرهما من بني هاشم، والصحابة الذين امتنعوا عن البيعة.

ومن تأمّل في ألفاظ هذا الخبر يعلم أنّ عمر بن الخطاب هو أول من تكلّم بأ نّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر نعوذ باللّه، وإن قاله غيره أيضاً قاله متابعة له، والتعبير بأ نّه قد غلبه الوجع من النقل بالمعنى لا باللفظ تأدّباً وتحرّزاً عن نقل تلك الكلمة، ولو سُلِّم أ نّه لم يزد على قوله: إنّ النبيّ غلبه الوجع! أفليس معناه أ نّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر أو يغلط؟!

أليس هذا ردَّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضةً صريحة؟! أترى في هذا الكلام دلالة على غلبة الوجع وعدم الاعتداد بكلام المتكلم به لو صدر مثله عن مريض يجوز أن يقال مثل هذا فيه؟

باللّه يا أخي تأمَّل في مغزى هذه الحادثة.

فليس لأحد من الصحابة - كائناً من كان - ردّ قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لاسيّما).

ص: 78


1- راجع صحيح البخاري، باب كتابة العلم: ج 1 ص 21 و 22، والجزء الثاني منه: ص 111، باب جوائز الوفد، وفي باب مرض النبي صلى الله عليه و آله: ج 3 ص 58 بطريقين، وباب كراهية الخلاف: ج 4 ص 167، وراجع أيضاً صحيح مسلم في كتاب الوصية، ومسند أحمد من حديث ابن عبّاس.
2- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 20 (ط مصر).

وهو يريد كتابة وصية لن تضلّ الاُمّة بعدها أبداً.

وما معنى الاجتهاد قبال الأمر الصريح الصادر عن النبي الذي قال اللّه تعالى فيه: [مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَمَا غَوى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلّاوَحْيٌ يُوحَى](1).

وقال: [مَا آتاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذوُهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](2).

فانظر بعين الإنصاف تأوّلات القوم في هذه الرزية، فهذه حاشية السندي على صحيح البخاري، باب كتابة العلم، فاقرأ فيها تأوّلاتهم فيها حتى تعرف أ نّهم لم يأتوا في هذا الباب بشيء تسكن عنده النفس، ويقبله المنصف.

فالذي لايعتريه الشكّ أنّ كلامه صريح في ردّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضته له، وأنّ الاُمّة حرمت بذلك عن الأمن من الضلال، ولم يُرِد ابن عباس بقوله:

«الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين كتابه» إلّاهذا؛ لأنّ حرمان الاُمّة من الأمن من الضلال رزية ليس فوقها رزية، تَرتَّبَ عليها جميع المصائب والاختلافات، فلا إيراد على المسلم المنصف إن وقف عند هذه الواقعة العظيمة وتفكّر في مغزاها، كما لااعتراض عليه إن قال: إنّ الأمر الذي أراد كتابته فمنعوه عنه كان توثيق عهده لأخيه وابن عمّه عليٍّ عليه السلام بالإمامة والخلافة بعده، ولكنّهم لمّا علموا من تنصيصاته المتكرّرة في غدير خمٍّ، وحديث الثقلين الذي حصر فيه الأمن من الضلال بالتمسّك بالكتاب والعترة، وحديث المنزلة وغيرها صدّوه عن كتابته، وهذا هو الأمر الذي أبكى ابن عباس حتّى خضّب دمعه الحصباء، وقال:7.

ص: 79


1- النجم: الآية 2-4.
2- الحشر: الآية 7.

«الرزية كلّ الرزية...».

ولو كان صاحب هذه الكلمة غير عمر لكان موقفهم تجاهها غير هذا، ولكنّ الذي يهون الخطب عنده، ويسهل له قبول التأوّلات المذكورة في حاشية السندي وغيرها أنّ المتكلّم بها عمر.

وليعلم أ نّه ليس غرضنا من هذا المقال الطعن على الخليفة، ولاعلى غيره من المسلمين، ولا ردّ تأوّلاتهم في ذلك، فحساب الخلق على اللّه، [وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى](1)، بل غرضنا النظر في أمثال هذه الحوادث، من الناحية العلمية.

فمَن يتأوّل رزية يوم الخميس وأمثالها، ولايرى في ذلك بأساً، ويجتهد لأن يحملها على المحامل الصحيحة كيف لايؤوّل قول مَن قدح في عدالة أحد من الصحابة اجتهاداً ونظراً إلى مثل هذا الحديث الصريح في ردّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومعارضته معه، وهو في هذا الحال حتى اختصموا عنده، وأكثروا اللغو والاختلاف؟ وكيف يقول بقدح ذلك في الإيمان، ولايقول بقدح ما هو أقبح وأفظع منه؟

وإن شئت أن تعرف مبلغ أفاعيل السياسة فقايس بين أ نّهم منعوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن كتابة الوصية التي لو كتبها لن يضلّوا بعده أبداً، وقالوا ما قالوا، ولم يردّوا على أبي بكر حين أراد الوصية في مرض موته، ولم يقولوا: إنّه يهجر، وحسبنا كتاب اللّه، بل كتب أبو بكر وصيته لعمر حين اغمي عليه وقبل أن ينصّ على عمر، وأفاق بعد ذلك، وصوّب ما كتب، ودعا لعثمان.7.

ص: 80


1- الأنعام: الآية 164؛ الإسراء: الآية 15؛ فاطر: الآية 18؛ الزمر: الآية 7.

اللهمّ أنت الحَكَم العَدل، فاحكم بين أهل بيت نبيك وبين من عاداهم، وأنكر فضائلهم، وأراد إطفاء نورهم، وأظهر كلمتهم الحقّ، وأبطل بهم باطل أعدائهم، واحشرنا مع محمدٍ وآله الطاهرين، صلواتك عليهم أجمعين.

حرره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 81

ص: 82

مَن لهذا العالَم؟

اشارة

ص: 83

ص: 84

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مَن لهذا العالَم المليء بالفساد، والفواصل، والمظالم؟ من لدفع هذه الأساليب الإلحاديّة التي هوت بالإنسانية في أسفل درجات الحيوانية؟ (من نصّ الكتاب).

هذا بيان جميل يفصح عن الواقع الكائن في المجتمع البشري المعاصر، هذا المجتمع المليء بالجهل والضلالة، والظلم والجريمة والفساد وعدم المعرفة... والذي ما فتيء سائراً في هذا المسير المنحط نحو مزيد من السقوط والتردّي.

ترى ما العمل؟ من ذا الذي ينجي هذا الإنسان من بحر الفساد الهائج هذا؟

«كما تعرف تتيقن، انّ المبشّر به في لسان الأنبياء، والكتب السماوية، والقرآن الكريم، والسنّة النبويّة، والأحاديث المرويّة عن العترة الطاهرة، والآثار المخرّجة عن الصحابة، هو ابن الإمام الحسن العسكري بن علي بن محمّد بن

ص: 85

علي بن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو الإمام الثاني عشر، والعدل المشتهر، وصاحب الزمان، أرواح العالمين له الفداء» (من نصّ الكتاب).

بهذا السمو يُنهي مؤلّف كتاب «من لهذا العالَم» مقدمته، ثمّ يأخذ بذكر الآيات الالهية، والأحاديث النبوية بخصوص إمامة ولي العصر - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف - ويشير في المقال إلى أسماء بعض من الصحابة وكتب مشايخ أهل السنّة من الذين يشيرون إلى الروايات المبشّرة بظهور الإمام المنتظر. وفي الختام يورد أسماء بعض من الكتب بعينها ممّا ألّف حول هذا الموضوع.

لقد طُبع هذا الكتاب عدّة مرّات، وطُبِع لأوّل مرّة في بداية الجلد الثاني من كتاب «مكيال المكارم» الشريف كمقدّمة له.

فعسى أن تكون مطالعة هذه الرسالة نافعة للقرّاء الكرام، وتجلب رضا إمام العصر، وسروره، أرواحنا فداه.

ص: 86

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مَن لهذا العالم المليء بالفساد والفواصل والفوارق والمظالم؟

مَن لدفع هذه الأساليب الإلحادية التي هوت بالإنسانية في أسفل دركات الحيوانية؟

مَن لهذه التجهيزات الحربية التي يُنفَق عليها من أموال الفقراء والبائسين في الدقيقة الواحدة أكثر من (3/4) ميليون دولار (750 ألف دولار)، وفي السنة (400) ألف ميليون دولار، وهذا الرقم يساوي ما ينفق على الصحة العامة مرتين ونصف؟(1).

وإحصائية اخرى تقول: بلغت النفقات العسكرية في العالم (3500) مليار فرانك فرنسي، وهذا المبلغ يكفي لتجهيز (35) ميليون فراش لعلاج المرضى، وبناء (50) مليون مسكن، ومليون كيلومتر من الطرق الحديثة، وألفة.

ص: 87


1- حضارة الإسلام: ص 92، من العدد السادس من السنة التاسعة عشرة.

مدينة تتّسع الواحدة ل (200) ألف ساكن(1).

وإحصائية ثالثة تقول: لقد باعت الولايات المتحدة في عام (1973 و 1974) من الأسلحة ما قيمته (83) مليار دولار، والاتحاد السوفياتي ما قيمته (55) مليار دولار، وفرنسا ما قيمته (33) ملياراً من الدولارات، وبريطانيا (13) ملياراً(2) والولايات المتحدة تنفق على تسليح كلّ جندي (60) مرة أكثر ممّا تُنفِق على تعليم كلّ تلميذ(3).

وأيضاً هذه الولايات المتحدة الأمريكية تُنفِق من أول اوكتبر (1978) ولمدة اثني عشر شهراً في غضون سنة ما يبلغ مليارين وتسعمائة وسبعة وسبعين مليون دولار لصرفها على المواد اللازمة لتوليد القنبلة النيترونية(4) ، وذلك ما يساوي مبلغ خمسة آلاف وسبعمائة وسبعة وستّين دولاراً تقريباً في كلّ دقيقة من دقائق هذه المدة.

مَن لهذه القنابل الذرّية، والهيدروجنية، والنيترونية التي تدمّر البلاد الكبيرة، والممالك العظيمة، وتقضي على المدنيات، وتهدّم كيان الإنسانية، فكُرة واحدة في حجم البرتقالة الكبيرة من مادة البلوتونيوم التي تنتجها3.

ص: 88


1- حضارة الإسلام: ص 146، العدد الخامس والسادس من السنة السادسة عشرة، عن مجلة الإكسبريس، أيلول 1974 م.
2- حضارة الإسلام: ص 135، العدد 109 من السنة 17.
3- حضارة الإسلام: ص 97، العدد الثاني من السنة 19.
4- جريدة اطّلاعات الإيرانية: العدد 15743.

المفاعلات الذرّية الغريبة قادرة على قتل مليار إنسان(1) ؟

مَن لدحض هذه الشبهات التي اشغلت أفكار شبابنا وشبيبتنا، وفتياننا وفتياتنا؟

مَن لإزالة هذا الخوف والاضطراب والعناء الذي استولى على جميع البرية؟

مَن لهذه النعرات الطائفية والقومية والدعايات الممزِّقة؟

مَن لهذه الحكومات المستبدّة التي استعبدت الأقوام والأفراد، وازدادت ديكتاتوريتها واستضعافها على استبداد الأكاسرة، والقياصرة؟

مَن لهذه القوانين الكافرة المستوردة من الشرق والغرب؟

مَن لإنقاذ البشرية من هذه المهالك والمساقط التي جاءت بها مذاهب ونظريات الشرق والغرب، ودعاة الشرك والإلحاد؟

مَن لهذه الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي تهبط بالمجتمع إلى مهاوي الشهوات، ورذائل الأخلاق؟

مَن لإلغاء هذه الحكومات الإقليمية والإمبريالية والماركسية، وإعلان تأسيس حكومة اللّه العالمية العادلة على الأرض؟

مَن ذا الذي يقوم بإذن اللّه بإزالة هذه الخلاعة والدعارة التي شملت البلاد؟

مَن الذي يحارب هذه الجاهليات التي هي أخطر وأضرّ لمفاهيم الإنسانية6.

ص: 89


1- حضارة الإسلام: ص 146، العدد 5 و 6 من السنة 16.

الصحيحة من الجاهليات الاُولى؟

مَن هو الذي يُحيي العدل والإنصاف، ويُميت الجور والاعتساف؟

مَن هو الذي يردّ الغيرة إلى الرجال، والحياء والشخصية والعِفّة إلى النساء، ويُزيل عنهنّ عار السفور والخروج إلى الأسواق والأندية، كاشفات عاريات، فأحسنهنّ حالاً الأجيرة في المراقص والملاهي؟

مَن الذي يرفع اللّه به المستضعفين، ويؤمّن به الخائفين، وينجّي به الصالحين، ويضع به المستكبرين، ويجتثّ به اصول الظالمين؟

مَن هو المصلح الذي بشّر اللّه به الاُمم بلسان أنبيائه، وما أوحى إليهم في كتبه وصحفه؟

مَن الموعود الذي يملأ اللّه به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئت ظلماً وجوراً؟

مَن الذي يحقّق اللّه على يده الأمن والأمان، ويمحو به الظلم والعدوان، ويفتح اللّه على يديه مشارق الأرض ومغاربها؟

مَن هو الذي يجمع الكَلِم على التقوى، ويرفع لواء القسط في الدنيا؟

مَن الذي يثور على الظالمين ويُبيدهم، ويهدم قصورهم وديارهم، ويحطِّم آثارهم؟

مَن الذي يُحيي اللّه به الأرض بعد موتها؟

فمتى يقوم بأمر اللّه القائم الذي لمّا قرأ دِعبل قصيدته التائية المشهورة على

ص: 90

الرضا عليه السلام فذكّره بقوله:

خروج إمامٍ لا محالةَ لازمٍيقومُ على اسمِ اللّهِ والبركاتِ(1)

وضع الرضا عليه السلام يده على رأسه، وتواضع قائماً ودعا له بالفرج، وقال:

«اللهمَّ عجِّلْ فَرَجهُ وسَهِّلْ مَخْرَجَهُ»(2)يراجع منتخب الأثر: الباب (2)، الفصل (6).(3) ؟

وإلى متى يبقى في حجاب الغيبة، فقد ظهر كثير من علائم ظهوره وقيامه وعضنا البلاء؟ فمتى يظهر؟

فها هي الفتن شملت الآفاق، والجور قد عمَّ البلاد، وتُرِك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وخرجت النساء كاشفاتٍ عارياتٍ متبرّجات، خارجاتٍ من الدين، داخلاتٍ في الفتن، مائلاتٍ إلى الشهوات، مستحلّات للمحرّمات(3) ، لم يبقَ من القرآن إلّاالاسم، يُسمّون به وهم أبعد الناس عنه.

وها هي الصلاة قد اميتت، والأمانة قد ضُيّعت، والخمر يباع ويشرب علانية، وأهل الباطل قد استعلوا على أهل الحقّ، والأموال الكثيرة تصرف في معصية اللّه، وتنفق في سخطه، والولاة يقرِّبون أهل الكفر، ويبعِّدون أهل الخير، والحدود قد عُطِّلت، والسلطان يُذِلّ المؤمن للكافر، والرجل يتكلّم بشيء من الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه،).

ص: 91


1- ديوان دعبل بن عليّ الخزاعي: ص 63 (ط مؤسسة الأعلمى - بيروت، سنة 1417 ه).
2- منتخب الأثر: 505-506، الباب
3- ، الفصل (10) ح 3 و 4.

ويقول: هذا عنك موضوع، وظهر الاستخفاف بالوالدين، وكثر الطلاق، والنساء قد دخلن فيما لا ينبغي لهنّ دخوله، والقضاة يقضون بغير ما أنزل اللّه، واستُحِلّ الرِبا لا يُرى به بأس، والرجال تشبّهوا بالنساء والنساء تشبّهن بالرجال، وكثر أولاد الزنا، وظهرت القَينات والمعازف، وتداعت علينا الاُمم، كما تداعت الأكلة على القصاع؛ لكراهيتنا الموت وحبّنا للدنيا، وركبت ذوات الفروج السروج، وتغنّوا بالقرآن، وتعلّموه لغير اللّه، واتّخذوه مزامير، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم، وتواخى الناس على الفجور، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، تحزن ذوات الأولاد وتفرح العواقر و... و... و(1)نهج البلاغة: الخطبة 185.(2).

فمتى تشرق شمس الإقبال والسعادة من مشرق بيت الوحي والرسالة والولاية؟

سبحان اللّهِ ولا حولَ ولا قوّة إلّاباللّه، ما أطول هذا العناء وأبعد هذا الرجاء، كما أخبرنا به مولانا أمير المؤمنين عليه السلام(2).

فاللّه أكبر الذي جعل مع كلّ عُسرٍ يُسراً، ولكلّ ضيق رخاء، ولكلِّ فتنة مخرجاً، ولكلِّ شدّة فَرَجاً.

فلا تيأسوا يا إخواني من روح اللّه، إنّه لا ييأس من روح اللّه إلّاالقوم الكافرون.

ولا تحسبوا قوّة الظالمين وسلطة الكافرين شيئاً؛ فإنّهم على شفا حفرة5.

ص: 92


1- يراجع في ذلك كلّه منتخب الأثر: الباب
2- ، الفصل (6).

الهلاك والدمار، وعن قريب يزول ملكهم، ويبور سعيهم.

وإن أمعنت النظر يا أخي في كتاب ربّك - القرآن الكريم - وفي الأحاديث المرويّة عن نبيك والأئمة الطيبين من عترته - صلوات اللّه عليهم أجمعين - زاد رجاؤك بالمستقبل الزاهر، وبَعُدَ عنك اليأس والكسل، ولبعثك النشاط والأمل إلى السعي والعمل، ولأدّيت واجبك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعرفت مسؤولياتك وما أنت مسؤول عنه قِبالَ دينك وكتاب دينك وأحكامه، ولعرفت أنّ الذي خلق العباد لا يهملهم سُدىً، ولا يتركهم في تيّار هذه الخسارات والمهالك، وأنّ الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً.

وتعرف أنّ البشرية ليست محكوماً عليها بالبؤس والشقاء والظلم، وأنّ الأرض للّه يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين.

كما تعرف أيضاً أنّ نهاية المطاف ليس إلّاالنور، وإلّا العلم والمعرفة، وإلّا العدل والأمان.

وتعرف أنّ العالم يسير نحو الكمال، ولا يرجع القهقرى وإلى الوراء، وأنّ الظلم والاستكبار والاستثمار والاستضعاف لابدّ وأن ينتهي، ومحكوم بالزوال والانقراض، وأنّ النّصر مع جنود الحقّ وأنصار العدل ودعاة الخير والثائرين على الظلم والاستبداد، وأنّ حزب اللّه هم الغالبون.

كما تعرف أنّ العالم سيتخلّص من هذه الحكومات المتشعّبة المتفرّقة، التي تأسّست لاستعباد الناس بعضهم بعضاً، وستوحّد الحكومات، وتسقط هذه

ص: 93

الرايات والأعلام، ويُنشَر لواء واحد باسم اللّه، لواء الحق، لواء التوحيد، لواء رسالة الإسلام.

كما تعرف، وتتيقّن أنّ المبشّر به في لسان الأنبياء والكتب السماوية، والقرآن الكريم والسنّة النبوية، والأحاديث المروية عن العترة الطاهرة، والآثار المخرّجة عن الصحابة هو ابن الإمام الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو الإمام الثاني عشر، والعدل المشتَهَر، وصاحب الزمان، أرواح العالمين له الفداء.

فاللّه لا يُخلِف المِيعاد، وهو أصدق القائلين، حيث يقول:

[وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ](1).

وقال تعالى جَدُّه:

[وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدونَني لايُشْرِكُونَ بي شَيئاً](2).

وقال عزّ اسمه:5.

ص: 94


1- القصص: الآية 5-6.
2- النور: الآية 55.

[إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمنَوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ اْلاَشْهادُ](1).

وقال تبارك وتعالى:

[وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ](2).

وقال رسوله الصادق المصدّق صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تقومُ الساعة حتى تُملَأَ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثمّ يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لَو لَمْ يبقَ من الدنيا إلّايومٌ واحدٌ لَطَوَّلَ اللّهُ ذلك اليومَ، حتى يَملك رجلٌ من أهل بيتي يُظهِر الإسلام ولا يُخلِف وعده، وهو على وعده قدير»(4).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّايومٌ واحدٌ لَطَوَّل اللّه ذلك اليوم، حتى يخرج رجل من أُمّتي يواطئ اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً»(5).ى.

ص: 95


1- غافر: الآية 51.
2- الصافّات: الآية 171-174.
3- المستدرك للحاكم: ج 4 ص 557، منتخب الأثر: ص 19، الباب الأول، الفصل الثاني، وفي هذا الباب من الأخبار المبشِّرة بالمهدي عليه السلام ما يزيد على ستمائة حديث.
4- منتخب الأثر: ص 23، ب 1، الفصل الثانى.
5- منتخب الأثر: ص 26، ب 1، الفصل الثانى.

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أبشِروا بالمهدي (قالها ثلاثاً) يخرج على حين اختلاف من الناس، وزلزال شديد، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملأ قلوب عباده عبادة، ويسعهم عدله»(1).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «الأئمة من بعدي اثنا عشر، أوَّلهم أنت يا علي، وآخرهم القائم الذي يفتح اللّه عزّ وجلّ على يديه مشارق الأرض ومغاربها»(2).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم في حديث أبي سعيد الخدري: «الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، فالتاسع قائمهم فطوبى لمن أحبّهم»(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ عليّاً إمام امّتي من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر، الذي إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، والَّذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ الثابتين على القول بإمامته في زمان غيبته لأعزُّ من الكبريت الأحمر».

فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري فقال: يا رسول اللّه، لولدك القائم غيبة؟ قال: «إي وربّي، ليمحّصنّ الذين آمنوا، ويمحق الكافرين، يا جابر، إنّ هذا الأمر من أمر اللّه، وسرٌّ من سرِّ اللّه، مطويٌّ من عباد اللّه، وإيّاك والشكّ فيه؛ فإنَّ الشكّ في أمر اللّه عزَّوجلَّ كفر»(4).ً.

ص: 96


1- منتخب الأثر: ص 80، ب 1، ف 2.
2- منتخب الأثر: ب 4، ف 1، ح 2، وفي الباب 91 حديثاً.
3- منتخب الاثر: ب 7، ف 1، ح 4، وفي الباب 107 حاديثاً.
4- منتخب الأثر: ب 5، ف 2، ح 1، وفي الباب 214 حديثاً.

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «والَّذي نفسي بيده إنّ مهدي هذه الاُمّة الذي يصلّي عيسى خلفه منّا، ثمّ ضرب يده على منكب الحسين عليه السلام وقال: من هذا، من هذا»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «تنقض الفتن حتى لا يقول أحد (لا إله إلّااللّه)، وقال بعضهم: لا يقال (اللّه اللّه) ثمَّ ضرب يعسوب الدين بذنبه، ثمّ يبعث اللّه قوماً كقزع الخريف، وإنّي لأعرف اسم أميرهم ومناخ ركابهم»(2).

وقال عليه السلام: «إنّ ابني هذا (يعني الحسين) السيّد، كما سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيّكم، يخرج على حين غفلة من الناس، وإماتة الحق، وإظهار الجور، ويفرح لخروجه أهل السماء وسكّانها...» - إلى أن قال: - «يملأ الارض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(3).

وقال عليه السلام في بعض خطبه: «وليكوننَّ من يخلفني في أهل بيتي رجل يأمر بأمر اللّه، قويّيحكم بحكم اللّه، وذلك بعد زمان مكلح مفصح يشتدّ فيه البلاء، وينقطع فيه الرَّجاء ويقبل فيه الرّشاء...» الخطبة(4).

وقال عليه السلام في خطبة أُخرى: «فنحن أنوار السَّماوات والأرض، وسُفن النّجاة، وفينا مكنون العلم، وإلينا مصير الاُمور، وبمهديّنا تقطع الحجج، فهو3.

ص: 97


1- منتخب الأثر: ب 8، ف 2، ح 3، وفي الباب 185 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 62.
3- منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 64.
4- منتخب كنز العمال: ج 6 ص 34، منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 63.

خاتم الأئمة، ومنقذ الاُمّة(1).

وقال الإمام السبط الأكبر الحسن المجتبى محدثاً عن أبيه أميرالمؤمنين عليهما السلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر امّتي رجل من ولد الحسين، يملأ الدنيا عدلاً كما ملئت ظلماً»(2).

وقال سيد أهل الإباء وأبو الشهداء، أبو عبد اللّه الحسين عليه السلام: «منّا اثنا عشر، أوَّلهم أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو القائم بالحقِّ، يُحيي اللّه به الأرض بعد موتها، ويُظهِر به دين الحقِّ على الدِّين كلّه ولو كره المشركون، له غيبة يرتدُّ فيها قوم، ويثبت على الدِين فيها آخرون، فيؤذَون ويقال لهم [متى هذَا الوَعدُ إنْ كُنُتُمْ صَادِقِين](3). أما إنَّ الصابرين في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهدين بالسيف بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»(4).

وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في حديث رواه عنه أبوخالد: «تمتدُّ الغيبة بوليِّ اللّه عزّوجلّ الثاني عشر من أوصياء رسول اللّه والأئمة بعده، يا أبا خالد، إنّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلِّ زمان؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى أعطاهم من العقولً.

ص: 98


1- تذكرة الخواص: الباب 6؛ منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 15.
2- منتخب الأثر: ب 8، ف 2، ح 2، وفي الباب 185 حديثاً.
3- يونس: الآية 48؛ الأنبياء: الآية 38؛ النمل: الآية 71؛ سبأ: الآية 29؛ يس: الآية 48؛ الملك: الآية 25.
4- منتخب الأثر: ب 10، ف 2، ح 4، وفي الباب 148 حديثاً.

والأفهام ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه، اولئك هم المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدُعاة إلى دين اللّه عزّوجلّ سرّاً وجهراً. وقال: انتظار الفرج من أفضل العمل»(1).

وقال الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام في حديث: «إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين عليه السلام؛ لأنّ الأئمة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «إنَّ الغيبة سَتَقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم بالحقَّ، بقية اللّه في الأرض، وصاحب الزمان» الحديث(3).

وقال عليه السلام في حديث آخر: «هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيّدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يُظهِره اللّه عزّوجلّ، فيفتح اللّه على يديه مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح اللّه عيسى بن مريم عليه السلام فيصلّي خلفه، فتشرق الأرض بنور ربّها، ولا تبقى في الأرض قطعة عُبد فيها غير اللّه عزوجل إلّاعُبد اللّه عزّوجلّ فيها، ويكون الدين للّه ولو كرهً.

ص: 99


1- منتخب الأثر: ب 24، ف 2، ح 1، وفي الباب 136 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 8، ف 1، ح 34، وفي الباب 50 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 27، ف 2، ح 5، وفي الباب 91 حديثاً.

المشركون»(1).

وقال الإمام أبو إبراهيم، موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في حديث: «القائم الذي يُطهِّر الأرض من أعداء اللّه، ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدّ فيها أقوام، ويثبت فيها آخرون» ثمّ قال عليه السلام: «طوبى لشيعتنا، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا، والبراءة من أعدائنا، اولئك منّا ونحن منهم» الحديث(2).

وقال الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في حديث: «الإمام بعدي ابني محمد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، وهو المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»(3).

وقال الإمام أبو جعفر محمد بن عليٍّ الجواد عليه السلام: «إنَّ القائم منّا هو المهدي الَّذي يجب أن ينتظر في غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً بالنبوة وخصّنا بالإمامة إنّه لَو لَم يبقَ من الدنيا إلّا يومٌ واحد لَطَوَّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» إلى أن قال عليه السلام: «أفضل أعمال شيعتنا انتظارً.

ص: 100


1- منتخب الأثر: ب 22، ف 2، ح 4، وفي الباب 9 أحاديث.
2- منتخب الاثر: ب 16، ف 2، ح 3، وفي الباب 98 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 17، ف 2، ح 3، وفي الباب 95 حديثاً.

الفرج»(1).

وقال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام: «الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً»(2).

وقال الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام: «أما إنَّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس، إلّامن عَصمه اللّه».

وقال عليه السلام في حديث آخر: «أما إنّ له غيبةً يُحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويُكذَّب فيها الوقّاتون، فكأنّي أنظر إلى أعلام بيضٍ تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(3).

وممّا وجد بخطّه عليه السلام: «أعوذ باللّه من قوم حذفوا محكمات الكتاب، ونسوا اللّه ربّ الأرباب، والنبي وساقي الكوثر في مواطن الحساب، ولظى والطامَّة الكبرى ونعيم يوم المآب، فنحن السَّنام الأعظم، وفينا النبوّة والإمامة والكرم، ونحن منار الهدى، والعروة الوثقى، والأنبياء كانوا يغترفون من أنوارنا، ويقتفون آثارنا، وسيظهر اللّه مهديّنا على الخلق، والسيف المسلول لإظهار الحقّ، وهذا بخطِّ الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بنً.

ص: 101


1- منتخب الأثر: ب 18، ف 2، ح 1، وفي الباب 90 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 19، ف 2، ح 1، وفي الباب 90 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 20، ف 2، ح 2 و 3 وفي الباب 146 حديثاً.

أبي طالب عليهم السلام»(1).

هذا غيض من فيض، وقطر من بحر، وقليل من كثير، ومن سَبَر غور كتب الأحاديث والجوامع المعتمدة يعرف أنّ النبي والأئمة من أهل بيته عليهم السلام بشّروا الناس بظهور المهدي عليه السلام في البشائر المؤكَّدة الصّريحة المتواترة، وأنّ ذلك كان عقيدة السلف من عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة، وقام اتفاق المسلمين عليه، ولا اعتناء بمناقشة البعض في بعض الخصوصيات والصفات؛ لقلّة مصادره، أو لبعض الأغراض الفاسدة، والدعايات الباطلة، بعدما ورد فيه من الأحاديث المعيِّنة لشخصه وصفاته ونسبه.

وقد أخرج محدّثو الفريقين من أرباب الجوامع والكتب هذه الأحاديث عن جمع من الصحابة، مثل:

1 - أمير المؤمنين علي عليه السلام.

2 - وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام.

3 - والإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

4 - والإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام.

5 - واُمّ سلمة.

6 - وعائشة.

7 - وعبد اللّه بن مسعود.9.

ص: 102


1- مشارق أنوار اليقين: ص 48 و 49.

8 - وعبد اللّه بن عباس.

9 - وعبد اللّه بن عمر.

10 - وعبد اللّه بن عمرو.

11 - وسلمان.

12 - وأبي أيوب الأنصاري.

13 - وأبي علي الهلالي.

14 - وجابر بن عبداللّه الأنصاري.

15 - وجابر بن سمرة.

16 - وثوبان.

17 - وأبي سعيد الخدري.

18 - وعبدالرحمان بن عوف.

19 - وأبي سلمى.

20 - وأبي هريرة.

21 - وأنس بن مالك.

22 - وعوف ابن مالك.

23 - وحذيفة بن اليمان.

24 - وأبي ليلى الأنصاري.

ص: 103

25 - وجابر بن ماجد الصدفي.

26 - وعَدِيّ بن حاتم.

27 - وطلحة بن عبيد اللّه.

28 - وقرّة بن أياس المزني.

29 - وعبد اللّه بن الحارث.

30 - وأبي امامة.

31 - وعمرو بن العاص.

32 - وعمّار بن ياسر.

33 - وأبي الطفيل.

34 - واُوَيس الثقفي.

كلّ هؤلاء من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّن ظفرنا بأحاديثهم المبشِّرة بالمهدي عليه السلام، وأمّا أسماء أصحاب أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم فأكثر من أن تحصى.

ولا يخفى عليك أنّ أكابر أهل السنّة من حُفّاظهم ومحدّثيهم قد خرّجوا طوائف كثيرة من هذه الأحاديث في مسانيدهم وسننهم، وصحاحهم وجوامعهم، فقلّما يوجد كتاب حديث لم تكن فيه رواية أو أثر في المهدي عليه السلام، فإليك أسماء بعض كتبهم:

1 - مسند أحمد.

ص: 104

2 - السنن، للترمذي.

3 - كنز العمّال، لعليّ المتّقي الهندي المكّي.

4 - منتخب كنز العمّال، له أيضاً.

5 - سنن أبي داود.

6 - سنن ابن ماجة.

7 - صحيح مسلم.

8 - صحيح البخاري.

9 - ينابيع المودّة للقَندُوزي.

10 - مودّة، القربى للسيد علي الهمداني.

11 - فرائد السمطين، للحمويني الشافعي.

12 - المناقب، للخوارزمي.

13 - المقتل، له أيضاً.

14 - الأربعين، للحافظ ابن أبي الفوارس.

15 - مصابيح السنّة، للبغوي.

16 - التاج الجامع للاُصول، للشيخ منصور علي ناصف.

17 - الصواعق، لابن حجر.

18 - جواهر العقدين، للسمهودي.

ص: 105

19 - السنن، للبيهقي.

20 - الجامع الصغير، للسيوطي.

21 - تيسير الوصول، لابن الديبع الشيباني.

22 - جامع الاُصول، لابن الأثير.

23 - المستدرك، للحاكم.

24 - المعجم الكبير.

25 - والأوسط.

26 - والصغير، للطبراني.

27 - الدرّ المنثور، للسيوطي.

28 - نور الأبصار، للشبلنجي.

29 - إسعاف الراغبين، للصبَّان.

30 - مطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي.

31 - تاريخ إصبهان، لابن مندة.

32 - حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم الإصبهاني.

33 - تاريخ إصبهان، له أيضاً.

34 - تفسير الثعلبي.

35 - العرايس، للثعلبي أيضاً.

ص: 106

36 - فردوس الأخبار، للديلمي.

37 - ذخائر العقبى، لمحبّ الدين الطبري.

38 - تذكرة الخواصّ، للسبط ابن الجوزي.

39 - فوائد الأخبار، لأبي بكر الإسكاف.

40 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد.

41 - الغرائب، للنيسابوري.

42 - تفسير الفخر الرازي.

43 - نظرة عابرة، للكوثري.

44 - البيان والتبيين، للجاحظ.

45 - الفتن، لنعيم التابعي.

46 - العوالي، لابن حاتم.

47 - تلخيص الخطيب.

48 - بدايع الزهور، لمحمد بن أحمد الحنفي.

49 - الفصول المهمّة، لابن الصبّاغ المالكي.

50 - تاريخ ابن عساكر.

51 - السيرة الحلبية، لعلي بن برهان الدين الحلبي.

52 - السنن، لأبي عمرو الداني.

ص: 107

53 - السنن، للنسائي.

54 - الجمع بين الصحيحين، للعبدري.

55 - فضايل الصحابة، للقرطبي.

56 - تهذيب الآثار، للطبري.

57 - المتَّفق والمفتَرَق، للخطيب.

58 - تاريخ ابن الجوزي.

59 - الملاحم، لابن المنادي.

60 - الفوائد، لأبي نعيم.

61 - اسد الغابة، لابن الأثير.

62 - الإعلام بحكم عيسى عليه السلام، للسيوطي.

63 - الفتن، لأبي يحيى.

64 - كنوز الحقائق، للمناوي.

65 - الفتن، للسليلي.

66 - عقيدة أهل الإسلام، للغماري.

67 - صحيح، ابن حبّان.

68 - مسند الروياني.

69 - المناقب، لابن المغازلي.

ص: 108

70 - مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الاصبهاني(1).

71 - الإتحاف بحبّ الأشراف، للشبراوي الشافعي.

72 - غاية المأمول، للشيخ منصور علي ناصف.

73 - شرح سيرة الرسول، لعبد الرحمان الحنفي السهيلي.

74 - غريب الحديث، لابن قتيبة.

75 - سنن أبي عمرو المقري.

76 - التذكرة، لعبدالوهّاب الشعراني.

77 - الإشاعة، للبرزنجي المدني.

78 - الإذاعة، للسيد محمد صديق حسن.

79 - الاستيعاب، لابن عبدالبرّ.

80 - مسند أبي عوانة.

81 - مجمع الزوايد، للهيثمي.

82 - لوامع الأنوار البهية، للسفاريني الحنبلي.

83 - حجج الكرامة، للسيد محمد صديق.ا.

ص: 109


1- ذكرناه في طيّ هذه الكتب؛ لاشتهاره بين الفريقين، وإلّا فمؤلّفه شيعي زيدي، وقد أخرج بعض الأحاديث في المهدي عليه السلام غيره أيضاً من الزيدية في كتبهم وجوامعهم، توجد عدّة نسخ منها في مكتبتنا.

84 - إبراز الوهم المكنون، له.

85 - مسند أبي يعلى.

86 - الإفراد، للدارقطني.

87 - المصنَّف، للبيهقي.

88 - الحربيات، لأبي الحسن الحربي.

89 - النظم المتناثر من الحديث المتواتر، لمحمد بن جعفر الكتاني.

90 - التصريح بما تواتر في نزول المسيح، للشيخ محمد أنور الكشميري.

91 - إقامة البرهان، للغماري.

92 - المنار، لابن القيّم.

93 - معجم البلدان، لياقوت الحموي.

94 - مقاليد الكنوز، لأحمد محمد شاكر.

95 - شرح الديوان، للميبدي.

96 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي.

97 - مناقب الشافعي، لمحمد بن حسن الأسنوي.

98 - مسند البزّار.

99 - دلائل النبوة، للبيهقي.

100 - جمع الجوامع، للسيوطي.

ص: 110

101 - تلخيص المستدرك، للذهبي.

102 - الفتوح، لابن أعثم الكوفي.

103 - لوامع العقول، للكشخانوي.

104 - تلخيص المتشابه، للخطيب.

105 - شرح ورد السحر، لأبي عبدالسلام عمر الشبراوي.

106 - الهدية الندية، للسيد مصطفى البكري.

107 - شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني.

108 - روح المعاني، للآلوسي.

109 - لسان الميزان، لابن حجر.

110 - أرجح المطالب، للشيخ عبد اللّه الآمر تسري الهندي الحنفي.

111 - نهاية البداية والنهاية، لابن كثير الدمشقي.

112 - الجمع بين الصحاح الستّة، للعبدري.

113 - التاريخ الكبير، للبخاري.

114 - تاريخ الرقّة، للقشيري.

115 - الفقه الأكبر، للمولوي المشهور بحسن الزمان.

116 - ميزان الاعتدال، للذهبي.

117 - تذكرة الحفّاظ، له.

ص: 111

118 - المقاصد الحسنة، للحافظ السخاوي

119 - الفتاوى الحديثية، لابن حجر المكّي.

120 - أشعّة اللمعات، للشيخ عبد الحقّ.

121 - العرائس الواضحة، للآبياري.

122 - تمييز الطيب، لابن الديبع.

123 - ذخائر المواريث، للنابلسي الدمشقي.

124 - رموز الأحاديث، للشيخ أحمد الحنفي.

125 - الفتح الكبير، للنبهاني.

126 - التدوين، للرافعي.

127 - سنن الهدى، للقدّوسي الحنفي.

128 - الاعتقاد، للبيهقي.

129 - مشارق الأنوار، للحمزاوي.

130 - السراج المنير، للعزيزي.

131 - غالية المواعظ، لنعمان أفندي.

132 - تاريخ الخميس، للدياربكري.

133 - البدء والتاريخ، للمقدسي.

134 - تاريخ الإسلام والرجال، للشيخ عثمان العثماني.

ص: 112

135 - وسيلة النجاة، لمحمد مبين الهندي.

136 - شرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، للنبهاني.

137 - وسيلة المآل، للحضرمي.

138 - الرياض النضرة، لمحبّ الدين الطبري.

139 - شرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، للخرگوشي.

140 - تاريخ بغداد، للخطيب.

وغيرها من الكتب والجوامع.

ولا يخفى عليك أن للقوم في المهدي المنتظر عليه السلام وما يرجع إليه كتباً مفردة، لا بأس بذكر أسماء بعضها ممّا اطّلعت عليه:

1 - البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، للعالم الشهير الملّا علي المتّقي، المتوفّى سنة 975.

2 - البيان في أخبار صاحب الزمان، للعلامة الگنجي الشافعي المتوفّى عام 658.

3 - عقد الدُرر في أخبار الإمام المنتظر، لجمال الدين يوسف الدمشقي، من أعلام القرن السابع.

4 - مناقب المهدي عليه السلام، لأبي نعيم الاصبهاني، المتوفّى سنة 430.

5 - القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، لابن حجر، المتوفّى عام 974.

ص: 113

6 - العرف الوردي في أخبار المهدي، للسيوطي، المتوفّى عام 911.

7 - مهديّ آل الرسول، لعلي بن سلطان محمد الهروي الحنفي.

8 - فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر، للشيخ مرعي.

9 - المشرب الوردي في مذهب المهدي، لعلي القاري.

10 - فرائد فوائد الفِكَر في الإمام المهدي المنتظر، للمقدسي.

11 - منظومة القطر الشهدي في أوصاف المهدي، لشهاب الدين أحمد الخليجي الحلواني الشافعي.

12 - العِطر الوردي بشرح القطر الشهدي، للبليسي.

13 - تلخيص البيان في علامات مهدي آخر الزمان، لابن كمال باشا الحنفي، المتوفّى سنة 940.

14 - إرشاد المستهدي في بعض الأحاديث والآثار الواردة في شأن الإمام المهدي، لمحمد علي حسين البكري المدني.

15 أحاديث المهدي، وأخبار المهدي، لأبي بكر ابن خيثمة.

16 - الأحاديث القاضية بخروج المهدي، لمحمد بن إسماعيل الأمير اليماني، المتوفّى سنة 751.

17 - الهدية الندية فيما جاء في فضل ذات المهدية، لقطب الدين مصطفى بن كمال الدين علي بن عبد القادر البكري الدمشقي الحنفي، المتوفّى سنة 1162.

ص: 114

18 - الجواب المقنع المحرّر في الردّ على من طغى وتجبّر بدعوى أنّه عيسى أو المهدي المنتظر، للشيخ محمد حبيب اللّه بن مايابي الجكني الشنقيطي المدني.

19 - النظم الواضح المبين، للشيخ عبد القادر بن محمد سالم.

20 - أحوال صاحب الزمان، للشيخ سعد الدين الحموي.

21 - الأربعين (من أحاديث المهدي)، لأبي العلاء الهمداني، كما في ذخائر العقبى.

22 - تحديق النظر في أخبار المهدي المنتظر، لمحمد بن عبد العزيز بن مافع، كما في مقدمة الينابيع.

23 - تلخيص البيان في أخبار مهدي آخر الزمان، لعلي المتقي.

24 - الردّ على من حكم وقضى بأنّ المهدي جاء ومضى، للملّا علي القاري، المتوفّى سنة 1014.

25 - علامات المهدي للسيوطي.

26 - المهدي، لشمس الدين ابن قيّم الجوزية، المتوفّى عام 751.

27 - المُهدِي إلى ما ورد في المَهدي، لشمس الدين محمد بن طولون.

28 - النجم الثاقب في بيان أنّ المهدي من أولاد علي بن أبي طالب.

29 - الهديّة المهدويّة، لأبي الرجاء محمد الهندي.

30 - كتاب المهدي، لأبي داود صاحب السنن.

ص: 115

31 - الفواصم عن الفتن القواصم، كما ذكر في السيرة الحلبية 227/1.

32 - رسالة في المهدي عليه السلام، لابن كثير الدمشقي.

33 - كلمتان هامّتان: 1) نصف شعبان، 2) والمهدي المنتظر، لمحمد زكي إبراهيم المعاصر.

34 - رسالة في ردّ من أنكر أن عيسى عليه السلام إذا نزل يصلّي خلف المهدي عليه السلام صلاة الصبح.

35 - فصل الحكم بالعدل، وفضل الإمام العادل.

36 - التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح، للشوكاني الزيدي.

ثمّ اعلم أ نّه مضافاً إلى ما ذكر فقد صرّح جمع من أكابر أهل السنّة بتواتر أحاديث المهدي عليه السلام، وباتّفاق المسلمين على ظهوره، كما قد صرّح جمع منهم بأ نّه هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وصرّحوا بولادته وتاريخه وغيبته وبقائه حياً إلى أن يُظهِره اللّه تعالى(1).ا.

ص: 116


1- يراجع في ذلك مقدمة كتاب «الجواب المقنع المحرر» و «غاية المأمول»: ج 5 ص 362 و 381 و 382 و «الصواعق المحرقة»: ص 99، المطبعة الميمنية، و «حاشية الترمذي»: ص 46 (ط دهلي سنة 1342 ه) و «إسعاف الراغبين»: ب 2 ص 140 (ط مصر سنة 1312 ه) و «نور الأبصار»: ص 155 (ط مصر سنة 1312 ه) و «الفتوحات الإسلامية»: ج 2 ص 200 (ط سنة 1323 ه) و «سبائك الذهب»: ص 78، و «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» ب 13، و «مقاليد الكنوز» المطبوع بذيل مسند أحمد: ج 5 ح 3571، و «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة»، و «الإشاعة لأشراط الساعة»، و «إبراز الوهم المكنون»، وكتبنا «منتخب الأثر»، و «نويد أمن وأمان»، و «مع الخطيب»، وغيرها.

هذا مختصر الكلام في شأن الموضوع عند أهل السنّة والزيدية، وكمال عناية أكابرهم وعلمائهم به.

وأما الشيعة الإثنا عشرية فأحاديثهم ومقالاتهم وكتبهم في ذلك أكثر من أن تحصى، فكن من الشاكرين على ذلك، وإيّاك والتقصير في أداء تكاليفك ومسؤولياتك، وأن يكون حظّك من الإيمان بذلك الظهور وانتظار الفرج، وكشف الغمّة، والتظاهر بالشوق إلى لقائه وانتظار دولته وأيّامه، والدعاء لتعجيل فرجه، فتكتفي بالصراخ والندبة، وتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحبّ في اللّه والبغض في اللّه، ومحادّة من حادّ اللّه ورسوله، وتتقاعد عن العمل والجهاد لإعلاء كلمة اللّه، وتُصبح وتُمسي كسلاناً آيساً فارغاً عمّا يقع في بلاد المسلمين وما يصيبهم.

«من أصبح لا يهتمّ باُمور المسلمين فليس بمسلم»(1)، فما نسخ شيء من أحكام الإسلام وفرائضه، فحلال محمد صلى الله عليه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد صلى الله عليه و آله و سلم حرام إلى يوم القيامة، [ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين](2).

فسنن اللّه تعالى في عصر الغيبة هي سننه في عصر الحضور، و [لن تجدَ5.

ص: 117


1- الكافي: ج 2 ص 163، 164.
2- آل عمران: الآية 85.

لسنّةِ اللّهِ تبديلاً](1)، فلا تجهل حقيقة هذا الأمر وما اريد منه من التمييز والتمحيص، ولا تتّبع مَن يحرّف الكلم عن مواضعه، فلا إذن ولا رخصة لأحد في ترك الفرائض وفعل المحرّمات.

والإيمان بالمهدي عليه السلام ووجوده وظهوره يؤكّد الشعور بالمسؤولية، ويحبّب إلينا إقامة العدل والحقّ، وإماتة الظلم والباطل.

فالمسلم المؤمن به هو القويّ في دينه لا يخاف غير اللّه، ولا يتقاعس عن نصرة دينه، فهو دائماً في السير والحركة حتى يصل هو والعالم إلى نقطة الكمال، ويملأ اللّه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

قال اللّه عزوجل: [قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

5 جمادى الثانية 1398 ه5.

ص: 118


1- الأحزاب: الآية 62.
2- التوبة: الآية 105.

العقيدة بالمهدية

اشارة

ص: 119

ص: 120

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

«لا ريب أنّ العقيدة المهدويّة عقيدة إسلامية خالصة نبعت من الكتاب والسنّة واتّفق المسلمون سلفاً وخلفاً عليه، وحكم بتواتر أحاديثها جمع من الأكابر والأفذاذ» (من نصّ الكتاب).

إنّ القصد من هذه المقالة هو إثبات ما ورد في النصّ المذكور في أعلاه، فالكاتب المحترم، عند البحث في ذلك، يورد مقدمة قصيرة جامعة حول «العقيدة بالمهدية» ثمّ يأخذ بعد ذلك بتعريف كتاب بعنوان «البرهان في علامات مهديّ آخر الزمان» وبتوضيحه.

إنّ الكتاب المذكور من جملة الكتب المستقلّة التي كتبت في هذه العقيدة الشريفة، ومؤلّف الكتاب من مشاهير علماء أهل السنّة، ويدعى «علي بن حسام الدين المتّقي الشاذلي» (المتوفّى سنة 977 ه). إنّه ينقل في كتابه روايات المهدوية عن 28 من الصحابة، و 45 من التابعين، و 42 من المشايخ وأرباب

ص: 121

الجوامع من أهل السنّة. إنّ أسماء هؤلاء مع أربعين حديثاً من الروايات المذكورة في كتاب «البرهان» تأتي في ختام هذه المقالة.

واليوم، لمّا كانت هذه المقالة مفيدة ونافعة، فضلاً عن كونها صغيرة الحجم أيضاً، نُعيد طبعها ونشرها، آملين أن يمُنّ اللّه جلّ جلاله بالقبول الحسن على الكاتب والناشر، وعجّل اللّه فرج مولانا صاحب الزمان.

ص: 122

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمدٍ وآله الطاهرين.

لا ريب أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة إسلامية خالصة، نبعت من الكتاب والسنّة، واتّفق المسلمون سلفاً وخَلَفاً عليها، وحكم بتواتر أحاديثها جمع من الأكابر والأفذاذ.

فهي فكرة إسلامية مبنية على أقوى الأدلة النقلية والعقلية، ويؤيّدها التاريخ والشواهد الكثيرة، ولم يبلغنا إنكارها والشكّ فيها من أحد من المسلمين، خواصّهم وعوامّهم، إلّابعض الناشئة المتأ ثّرين بدعايات الغربيين، والساقطين في شبكات الاستعمار، والذين لا يفسّرون الثقافة إلّابإنكار النصوص أو تأويلها بما يوافق أهواء الملحدين والمادِّيين، وقد حاولوا بذلك فتح باب لو فتحت - ولا وفَّقهم اللّه له - لسقط الاعتماد على السنّة، والاستناد

ص: 123

إليها، وبظواهرها، وظواهر الكتاب، ووقعت الشريعة والدعوة المحمّدية في معرض التغيير والتحريف حسب ما يريده أهل البدع والأهواء. وإذا أمكن إنكار مثل هذه الأحاديث التي صرّح رجال علم الحديث ومهرة هذا الفنّ من المتقدّمين والمعاصرين بتواترها، فما ظنُّك بغيرها من الأحاديث المستفيضة والآحاد؟

وقد نبَّه على خطر هؤلاء الخارجين على الكتاب والسنّة وجرأتهم على اللّه ورسوله جماعة من علماء الإسلام، وأ لّفوا في تفنيد آرائهم الكتب والمقالات، ولا أرى وراء ذلك إلّاأيدي الذين يريدون تضعيف التزام المسلمين وتمسُّكهم بنصوص الشريعة، فما يمنعهم عن النفوذ في بلاد المسلمين والسلطة عليهم إلّا تمسّك المسلمين بالكتاب والسنّة، ولم يفتح لهم باب ذلك إلّابعد ضعف هذا الالتزام والغفلة عنه، عصمنا اللّه تعالى من فتن أهل الزيغ والأهواء، وأذناب الاستعمار.

وممّا يُضحِك الثكلى أنّ هؤلاء الذين اتّبعوا أهواءهم كثيراً ما استندوا في تضعيف هذه الأحاديث: تارةً بأنّ هذه العقيدة ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، ولم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولابين التابعين.

واُخرى بأ نّها سبّبت المنازعات والثورات على الحكومات، والدعايات السياسية، وثالثةً ببعض اختلافات وقع في بعض أحاديثها مع البعض الآخر، وهذا من غرائب ما تشبّث به في رد السنّة النبوية،

أمّا أولاً: فأيُّ دليل أقوى على وقوع ذكرها بين الصحابة والتابعين، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المصدر الأول لبثّ هذه العقيدة بين المسلمين، من هذه الأحاديث

ص: 124

المتواترة، ومن إجماع المسلمين، ومن أ نّهم لم يردّوا دعوى أحد من مدّعي المهدوية بإنكار صحة خروج المهدي عليه السلام، بل ردّوهم بفقدانهم الصفات والعلائم المذكورة له، كما تشهد بذلك حكاية محمد بن عجلان مع جعفر بن سليمان، وما قاله فقهاء أهل المدينة وأشرافهم(1).

فإذا لم تكن هذه الأحاديث مع كثرتها وتواترها، واتفاق المسلمين على مضمونها، دليلاً، فبأيِّ دليل يُستند على صحِّة نسبة أية عقيدة إسلامية إلى الصحابة، وإلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم؟

وثانياً: فلعلّك لا تجد عقيدة ولا أصلاً لم تقع حولها المنازعات والمخاصمات، وقد وقعت حول الإلوهية وحول النبوات المنازعات والمخاصمات أكثر من المهدية بكثير، كما وقع النزاع بين الأشاعرة وغيرهم، وبين أتباع المذاهب من الشوافع والأحناف والحنابلة والمالكية وغيرهم منازعات وحروب كثيرة، بل يمكن أن يقال: إنّ العدل والأمن وغيرهما من المفاهيم التي اتفق أبناء الإنسان كلّهم على لزومها وقعت حولها وحول تحققها، ودفع من اتخذها وسيلة لمقاصدها السياسية معارك دامية. ولعلَّك لاتجد ضحاياموضوع أكثر من ضحاياالبشرية باسم إقامة الحق ورعاية العدل والقسط، والحماية عن حرية الإنسان وحقوقه.

والحاصل: أنّ لبس الحقّ بالباطل، وعرض الباطل مقام الحق وإن كان يصدر من أهل الباطل والمبطلين بكثير غير أ نّه لايضرُّ الحقَّ، واللّه تعالى يقول4.

ص: 125


1- راجع: البرهان في علامات مهديِّ آخر الزمان: ص 174.

[بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ](1)

هذا، مضافاً إلى أن قبول دعوة الدجاجلة المدَّعين للمهدوية كثيراً ما يقع من أجل عدم الاهتداء بعلامات المهديِّ عليه السلام ونسبه، وخصائصه المصرَّحة بها في الأحاديث، وإلّا ليس فيه موضع للإضلال والتضليل. ومن واجب العلماء أن يبيّنوا هذه العقيدة وما تهدف إليه، وما به يعرف المهدي من الدجاجلة المدَّعين للمهدوية وفق الروايات المأثورة.

وثالثاً: أنّ من الفروق بين المتواتر وغيره: أنّ في المتواتر اللفظي التفصيلي يحصل القطع واليقين بصدور حديث معين بعين ألفاظ متنه، وفيه لا يمكن الاختلاف والتعارض إلّامع متواتر آخر، والمتبع فيه علاج التعارض بالتوفيق، والجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ، أو المطلق على المقيّد، أو الظاهر على الأظهر، وغير ذلك، وإلّا فيتساقط ظاهر كلٍّ منهما من صلاحية الاستناد به، وفي المتواتر الإجمالي لاعبرة بالاختلاف وتعارض متون الأحاديث التي علم إجمالاً بصدور واحد منها بلفظه، بل يؤخذ ما هو الأخصّ مضموناً من الجميع.

وفي المتواتر المعنوي - وهو ما اتفق عليه عدة أحاديث يحصل القطع بها عليه وإن لم يكن بينها مقطوع الصدور بلفظه ومتنه، مثل ما جاء في جود حاتم من الحكايات الكثيرة، فإنّ من جميعها يحصل القطع بما هو القدر المشترك والمضمون العام بين الجميع، وهو وجود حاتم في زمانٍ من الأزمنة، وجوده - يؤخذ بالقدر المشترك والمضمون المتفق عليه بين الأحاديث.8.

ص: 126


1- الأنبياء: الآية 18.

فعليه لا يضرّ بالتواتر اختلاف المتون والمضامين، بل في غير المتواتر أيضاً من الأحاديث لا يضرّ الاختلاف بصحة ما هو الصحيح بين المتعارضين، وما هو أقوى بحسب السنّة أو المتن أو الشواهد والمتابعات، وهذه امور لا يعرفها إلّاالحاذق في فنّ الحديث، وإلّا فلو أمكن ترك الأحاديث بمجرد وجود تعارض بينها لزم ترك جلّها لولا كلّها، ولتغيّر وجه الشريعة في أكثر الأحكام الفرعية؛ لأنّه قلَّ موضوع في العقائد والأحكام والتاريخ وتفسير القرآن الكريم وغيرها يكون أحاديثه سليمة من التعارض، ولو بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد.

فالمتّبع في علاج هذه التعارضات التي لايخلو كلام أهل المحاورة عنها وفي تشخيص الحديث الصحيح عن السقيم، والقوي عن الضعيف، والمعتبر والحجة عن غير المعتبر، هي القواعد المعتبرة العقلانية، والرجوع إلى مهرة الفن، وردّ بعض الأحاديث إلى البعض، والجمع والتوفيق بينها في موارد إمكان الجمع والأخذ بما هو أقوى سنداً أو متناً أو أوفق بالكتاب والسنّة الثابتة وغير ذلك، لا ردّها والإعراض عنها.

والأخبار التي وردت في المهدية كلُّها تلاحظ على ضوء هذه القواعد، فيؤخذ بمتواترها، ويعامل مع آحادها معاملة غيرها من أخبار الآحاد، فيقوى بعضها ببعض، ويفسِّر بعضها بعضاً، ويؤخذ بالضعيف منها أيضاً بالشواهد، والمتابعات، وغيرها من المؤيدات المعتبرة، فلا يردُّ مثل هذه الأحاديث إلّا الجاهل بفنّ الحديث، والمثقف المعادي للسنّة، والمتأثر بالدعايات الباطلة وأضاليل المستعمرين.

ص: 127

ص: 128

إيحاءات العقيدة بالمهدية

لا يخفى عليك أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة ينبعث منها الرجاء، والنشاط والعمل، وتطرد الفشل واليأس والكسل، وتشجِّع الحركات الاصلاحية والإسلامية، وتقوّي النفوس الثائرة على الاستكبار والاستضعاف. فالإسلام لم يستكمل أهدافه، ولم يصل إلى تحقيق كلّ ما جاء لأجل تحقّقه، وسيكون المستقبل للإسلام، ولابدّ من يوم يحكم فيه الإسلام على الأرض، ويقضي على كلّ المظالم والاستضعاف. و سيلجأ أبناء العالم إلى الإسلام، كلّ يوم أظهر من أمس، ويرون نوره أسطع، وضياءه ألمع من قبل، وسنشاهد جميعاً فشل هذه الأنظمة السائدة المستكبرة، والأحزاب المتنمّرة الملحدة، وسوف يعرض الإسلام برامجه الاقتصادية والسياسية في بسط الأمن والأمان، وتحقيق أهداف الإنسانية، والقضاء على الجهل والظلم والعدوان والعنصرية، وتتفتّح قلوب البشريّة لقبول الإسلام وبرامجه التي هي العلاج الوحيد للمشاكل اللاإنسانية

ص: 129

العالقة في المجتمعات البشرية الآن.

فالبشرية الحائرة لم ولن تجد ضالّتها في الأنظمة الغربية والشرقية، ولم تنتج هذه الأنظمة والمكاتب إلّازيادة الطين بلّةً، وتعقيد الاُمور والمشاكل، والدعارة والخلاعة والفساد والاستعلاء والاستكبار.

والعقيدة بالمهدية توقظ شعورنا بكرامة الإنسان، وأنّ الأرض للّه لا للظالمين والمستعمرين، وأنّ العاقبة للمتّقين، وأنّ اللّه أرسل رسوله النبي الخاتم سيدنا محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه، وتُشرِبنا حبَّ الحقّ والعدل والإحسان، وتُنهِضنا لإعلاء كلمة اللّه وإقامة حدوده وتنفيذ سلطانه، وتربطنا بمبادئنا الإسلامية، وتطالبنا بالعمل بمسؤولياتنا.

فاللّه تعالى أصدق القائلين، حيث يقول: [هُوَ الَّذي أرْسَلَ رَسولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ](1).

ويقول تعالى: [وَعَدَ اللّه الَّذِين آمَنوُا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِين مِنْ قَبْلهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوْفِهم امْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَاوُلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ](2).

ويقول تعالى شأنه: [وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِين استُضْعِفُوا فِي الأرْضِ ونَجعَلَهُمْ5.

ص: 130


1- التوبة: الآية 33؛ الصف: الآية 9.
2- النور: الآية 55.

أئمّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ](1).

ويقول عز اسمه [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ](2).

الأصل في العقيدة بالمهدية:

والأصل في العقيدة بالمهدية، وظهور الإسلام على جميع الأديان، وانتهاء العالم في سيره إلى حكومة الإسلام وحكومة أحكام اللّه، ووحدة القوانين والأنظمة، وخلافة المؤمنين الصالحين في الأرض، وتبديل خوف البشرية بالأمن، وزوال الاستضعاف بكلِّ صوره ومظاهره هو ما كان في نفس دعوة الإسلام وعقيدة التوحيد وكلمة الإخلاص من القوَّة المبدئية للقضاء على جميع مظاهر الشرك والاستكبار، ولتحرير الإنسان من سلطان الطواغيت، وإخراج البشرية من ذلِّ عبادة الناس إلى عزِّ عبادة اللّه.

وما نرى من أنّ العالم ينحو في سيره لإقامة مجتمع بشري عالمي، وإدغام المجتمعات بعضها ببعض، وتقليل الفوارق السياسية والاجتماعية من الطبقية والعنصرية، والعلم والتقدم الصناعي، أتاح للبشرية أن تكون جملة واحدة، وأن تكون الملل ملة واحدة، وتوسيع العلاقات والروابط بين الملل والأقوام، جعلهم كأهل بلد واحد ومحلة واحدة، فكما خلف البشرية المجتمعات القبلية، ووصلت

ص: 131


1- القصص: الآية 5.
2- الصافّات: الآية 171-173.

في سيرها إلى المجتمعات المدنية التي تأسّست على أساس دويلات ومناطق موزّعة من حيث اللغة، او على أساس منافع سياسية أو اقتصادية أو عنصرية، وترغب كلّ واحدة منها في التغلّب والسلطة والسيطرة على غيرها، فالاُمّة الكبيرة سوف تتخلّص دوماً من هذه الحكومات والوحدات الصغيرة فتصبح وحدة كبرى وحكومة إلهية عالمية عظمى، لا تخص بفرد وطائفة ومنطقة وعنصر دون آخر، بل حكومة الإسلام التي تشمل الجميع، والجميع فيها سواء.

وما وعد اللّه به المؤمنين والبشرية جمعاء في الكتاب المجيد، وبشَّرنا به على لسان أنبيائه ورسله، وما أخبَرنا به نبيُّنا الصادق الأمين صلوات اللّه وسلامه عليه، فكما آمنّا بكل ما أخبرنا به من المغيّبات، وآمنّا بملائكة اللّه وكتبه ورسله، وما ثبت إخباره به من تفاصيل المعاد والجنة والنار وغير ذلك من امور لا يمكن إثبات أصلها أو تفصيلاتها إلّابالوحي وإخبار النبيِّ صلى الله عليه و آله، آمنّا بذلك أيضاً، ونسأل اللّه الثبات عليه وعلى جميع مبادئنا الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة القويمة.

[ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بَعدَ اذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً انَّكَ انْتَ الوَهّابُ](1).8.

ص: 132


1- آل عمران: الآية 8.

الكتب المفردة في المهدية

اهتمّ علماء الإسلام بأحاديث المهدي وإخراجها وتحقيقها وتثبيت الإيمان بها في القلوب اهتماماً كبيراً، فمضافاً إلى إخراجها في كتب السُّنن والجوامع والمسانيد وغيرها أفردوا فيما جاء فيه من الأحاديث والآثار كتباً كثيرة، وقفتُ على ما يربو على الثلاثين ممّا أفرده أكابر أهل السنّة في ذلك، مثل: كتاب «البيان في أخبار صاحب الزمان» و «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» و «عقد الدُرَر» و «العُرف الوَردي» وغيرها من الكتب التي أقلّ ما يثبت بها هو أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة إسلامية، أصلها ثابت في الكتاب والسنّة، وأ نّها عقيدة جميع السلف والصحابة والتابعين، لا تختصُّ بفِرقة من فِرق المسلمين، وهي أحد البراهين على ختم رسالات السماء بنبيِّنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ شريعته لا تُنسَخ أبداً، وأنّ المهدي عليه السلام - كما اختار أبو داود في سننه في كتاب «المهدي» ودلت عليه الأحاديث الصحيحة - خليفته الثاني

ص: 133

عشر، الذين بشّر الرسول الأعظم الاُمّة بهم في الأحاديث المروية بطرق كثيرة في المسند والصحيحين وغيرها.

ومن أراد الاطّلاع على قوة ما استند عليه المسلمون في العقيدة بالمهدية، وكثرة أحاديثها ومخرجيها، واشتهارها بين علماء المسلمين فليراجع كتب الجوامع والسنن والمسانيد والتفاسير والتاريخ والرجال واللغة وغيرها، ليعرف أنّ استقصاء هذه الأحاديث والكتب المخرجة فيها صعب جداً، ونحن نسرد الكلام فيما جاء في كتاب واحد حول هذا الموضوع كنموذج منها، ودليل على كثرة ما في غيره، وهو كتاب «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان».

فنقول بحول اللّه تعالى وقوته: أمّا الكتاب والمؤلّف، فهما غنيّان عن التعريف؛ لأنّ الكتاب معروف، توجد نسخه المخطوطة في عدة من المكتبات الكبيرة، وطبع أخيراً من النسخة الفتوغرافية التي مخطوطتها محفوظة في مكتبة المسجد الحرام بمكة المكرمة، ورأيت نسخة مخطوطة منه ومحفوظة في مكتبة جامع المغفور له الإمام البروجردي بقم.

وأمّا مؤلّفه فهو العالم الكبير المحدّث عليّ بن حسام الدين بن عبدالملك المتقي الشاذلي المديني الهندي، المتوفّى سنة سبع وسبعين وتسعمائة، مشهور، ترجمته موجودة في كتب التراجم، كما أ نّها مذكورة في مقدمة النسخة المطبوعة من كتابه هذا.

وأمّا ما جاء في هذا الكتاب ممّا أردنا الاطّلاع عليه جملةً فهي أسماء المشايخ والمحدّثين وأرباب الجوامع والسنن والمسانيد، الذين خرّجوا هذه

ص: 134

الأحاديث في كتبهم، وأخرجها مؤلف هذا الكتاب عنهم، وأسماء جماعة من المشاهير والتابعين الذين رووا هذه الأحاديث والآثار، وأسماءجمع من الصحابة الذين رووها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وإليك أسماءهم:

أسماء المشايخ وأرباب الجوامع:

1 - الطبراني.

2 - أبو نعيم الإصبهاني.

3 - الخطيب البغدادي.

4 - ابن أبي شيبة.

5 - نعيم بن حماد، أحد شيوخ البخاري.

6 - الحاكم.

7 - أحمد بن حنبل.

8 - الماوردي.

9 - البزّار.

10 - التِرمذي.

11 - الدارقطني.

12 - ابن ماجة.

ص: 135

13 - أبو يعلى الموصلي.

14 - ابن عساكر.

15 - مسلم.

16 - الثعلبي.

17 - أبو داود.

18 - ابن الجوزي.

19 - ابن أبي اسامة.

20 - تمام البجلي.

21 - الروياني.

22 - ابن مندة.

23 - الحسن بن سفيان الشيباني.

24 - عثمان بن سعيد الداني.

25 - أبو الحسن الحربي.

26 - ابن كثير.

27 - ابن سعد.

28 - الواقدي.

29 - أبو بكر بن المقري.

ص: 136

30 - ابن المنّاوي.

31 - أبو غنم الكوفي.

32 - ابن مردويه.

33 - ابن خزيمة.

34 - أبو عوانة.

35 - أبوبكر الإسكافي.

36 - الدَيلمي.

37 - القُرطُبي.

38 - ابن لُهيعة.

39 - أبوبكر أحمد البيهقي.

40 - أبو الحسن الآبري.

41 - ابن حبّان.

42 - أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن صدقة.

أسماء المشاهير من التابعين وغيرهم:

1 - عاصم بن عمرو البجلي.

2 - سعيد بن المسيّب.

ص: 137

3 - أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام.

4 - إسحاق بن يحيى.

5 - شهر بن حوشب.

6 - الزُهري.

7 - مطر الوراق.

8 - طاووس.

9 - صبّاح.

10 - عمرو بن علي.

11 - مكحول.

12 - كعب بن علقمة.

13 - قتادة.

14 - عبد اللّه بن الحارث.

15 - محمد بن جبير.

16 - أرطاة بن منذر.

17 - حكم بن عُيينة.

18 - أبو قبيل.

19 - ابن أبي طلحة.

ص: 138

20 - كثير بن مرّة.

21 - ابن سيرين.

22 - مجاهد.

23 - خالد بن سعد.

24 - أبو مريم.

25 - شريك.

26 - أبو أرطاة.

27 - ضمرة بن حبيب.

28 - حكم بن نافع.

29 - خالد بن معدان.

30 - محمد بن الحنفية.

31 - السدي.

32 - سليمان بن عيسى.

33 - بقية بن الوليد.

34 - وليد بن مسلم.

35 - قيس بن جابر.

36 - عمرو بن شعيب.

ص: 139

37 - ابن شوذب.

38 - دينار بن دينار.

39 - معمر.

40 - فضل بن دكين.

41 - سالم بن أبي الجعد.

42 - محمد بن صامت.

43 - حكيم ابن سعد.

44 - إبراهيم بن ميسرة.

45 - أبو امية.

أسماء الصحابة والصحابيات:

1 - أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

2 - عمار بن ياسر.

3 - حذيفة بن اليمان.

4 - أبو سعيد الخدري.

5 - طلحة بن عبيداللّه.

6 - ابن عمر.

ص: 140

7 - عبد اللّه بن مسعود.

8 - جابر بن عبد اللّه.

9 - عبد الرحمان بن عوف.

10 - عمر بن الخطاب.

11 - ابن عباس.

12 - أبو هريرة.

13 - أنس بن مالك.

14 - أبو أمامة.

15 - الهلالي.

16 - أبو الطفيل.

17 - الحسن عليه السلام.

18 - الحسين عليه السلام.

19 - ثوبان.

20 - ابَيُّ بن كعب.

21 - جابر بن سمرة.

22 - جابر الصدفي.

23 - عمرو بن العاص.

ص: 141

24 - عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

25 - امّ سلمة.

26 - عائشة.

27 - أسماء بنت عُميس.

28 - امّ حبيبة.

ثمّ إنَّا بعد ذلك رأينا لمزيد بصيرة القارئ، ولعدم خلوّ هذه الرسالة من متون هذه الأحاديث، ولأجل كسب الثواب الموعود في أحاديث «من حفظ على امّتي، أو من امّتي...)(1)، إخراج أربعين حديثاً من أحاديث هذا الكتاب التي تربو على مائتين، في هذه الرسالة فيما يلي، وما توفيقي إلّاباللّه.

1 - أخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حمّاد، في الفتن، عن عليٍّ عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: المهديّ منّا أهل البيت، يصلحه اللّه في ليلة»، (ب 2، ص 89، ح 1).

2 - وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم، عن امّ سلمة، قالت:

سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «المهديُّ من عترتي، من ولد فاطمة»، (ب 2، ص 89، ح 2).).

ص: 142


1- نقل عن الشافعي أ نّه قال في هذه الأحاديث: المراد: الحديث في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، ولهذا حكاية عجيبة عن أحمد بن حنبل تطلب من كتاب الأربعين للشيخ أبي الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس (المتوفّى في سنة 412 ه).

3 - وأخرج الحاكم وابن ماجة وأبو نعيم عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «نحن سبعة ولد عبد المطّلب سادة أهل الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي»، (ب 2، ص 89، ح 3).

4 - وأخرج الترمذي وصحّحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«لو لم يبق من الدنيا إلّايوم، لطوّل اللّه ذلك اليوم، حتى يلي المهديّ»، (ب 2، ص 90، ح 2).

5 - وأخرج الطبراني في الأوسط من طريق عمرو بن علي، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أ نّه قال للنبي صلى الله عليه و آله: «أمِنّا المهدي أم من غيرنا يا رسول اللّه؟ قال: بل منّا، بنا يختم اللّه، كما بنا فتح، وبنا يُستنقَذون من الشرك، وبنا يؤلِّف اللّه بين قلوبهم بعد عداوة الشرك»، (ب 2، ص 91، ح 7).

6 - وأخرج نعيم بن حمّاد، وأبو نعيم من طريق مكحول، عن علي، قال:

«قلت: يا رسول اللّه، أمِنّا آل محمدٍ المهدي، أم من غيرنا؟ فقال: لابل منّا، يختم اللّه به الدين كما فتح، بنا ينقذون من الفتنة كما انقذوا من الشرك، وبنا يؤلِّف اللّه بين قلوبهم، وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً، كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم»، (ب 2، ص 91، ح 8).

7 - وأخرج الحارث بن أبي اسامة وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لتملأنّ الأرض ظلماً وعدواناً، ليخرجنّ رجل من أهل بيتي حتى يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت عدواناً وظلماً»، (ب 2، ص 91 و 92،

ص: 143

ح 10).

8 - أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يخرج رجل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي، وخلقه خلقي، يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»، (ب 2، ص 92، ح 11).

9 - وأخرج أبو نعيم، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «وَيحَ هذه الاُمّة من ملوكٍ جبابرة، يقتلون ويُخيفون المطيعين إلّامن أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي ليصانعهم بلسانه ويفرّ منهم بقلبه وجنانه. فإذا أراد اللّه تعالى أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كلَّ جبّار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح امّة بعد فسادها. يا حذيفة، لو لم يبقَ من الدنيا إلّايوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يملك من أهل بيتي رجل، تجري الملاحم على يديه، ويُظهِر الإسلام، لا يُخلف وعده، وهو سريع الحساب»، (ب 2، ص 92، ح 12).

10 - أخرج الحسن بن سفيان وأبو نعيم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّاليلة ليملك فيها رجل من أهل بيتي»، (ب 2، ص 92، ح 13).

11 - أخرج الروياني في مسنده، وأبو نعيم، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «المهديُّ رجل من ولدي، لونه لون عربي، وجسمه جسم إسرائيلي، على خده الأيمن خال كأ نّه كوكب درّي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى في خلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير

ص: 144

في الجو»، (ب 2، ص 93 و 94، ح 16).

12 - أخرج أبو نعيم، عن الحسين عليه السلام: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة: «يا بنيَّةُ، المهدي من ولدكِ»، (ب 2، ص 94، ح 17).

13 - وأخرج ابن عساكر، عن الحسين عليه السلام، أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أبشري يا فاطمة، المهدي منكِ»، (ب 2، ص 94، ح 17).

14 - أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم، عن الهلال(1): أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لفاطمة: «والذي بعثني بالحقِّ، منهما - يعني الحسن والحسين - مهدي هذه الاُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن، وتقطّعت السُبُل، وأغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغير يوقّر كبيراً، يبعث اللّه عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غفلاً، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً»، (ب 2، ص 94 و 95، ح 19).

15 - وأخرج أيضاً (يعني نعيم بن حماد) عن عليّ وعائشة، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «المهدي رجل من عترتي، يقاتل على سنّتي كما قاتلت أنا على الوحي»، (ب 2، ص 95، ح 21).

16 - وأخرج أيضاً، عن عليّ عليه السلام، قال: «المهدي رجل منّا، من ولد فاطمة»، (ب 2، ص 95، ح 23).).

ص: 145


1- في بعض النسخ (الهلالي).

17 - وأخرج الطبراني، عن عوف بن مالك: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «تجيء فتنة غبراء مظلمة، تتّبع الفتن بعضها بعضاً، حتى يخرج رجل من أهل بيتي يقال له: المهدي، فإن أدركته فاتّبعه، وكن من المهتدين»، (ب 4، ف 1، ص 103، ح 20).

18 - وأخرج الداني، عن الحكم بن عُيينة، قال: قلت لمحمد بن علي:

سمعت أ نّه سيخرج منكم رجل يعدل في هذه الاُمّة، قال: «إنّا نرجو ما يرجو الناس، وإنّا نرجو لو لم يَبق من الدنيا إلّايوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يكون ما ترجو هذه الاُمّة، وقبل ذلك فتن شر فتنة، يُمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، فمن أدرك ذلك منكم فليتّقِ اللّه، وليكن من أحلاس بيته»، (ب 4، ف 1، ص 104، ح 7).

19 - وعن عمّار بن ياسر: «إذا قتلت النفس الزكية، وأخوه تقتل بمكة صنيعة، نادى منادٍ من السماء: أنّ أميركم فلان، وذلك المهدي، الذي يملأ الأرض حقّاً وعدلاً»، أخرجه الإمام أبو عبد اللّه نعيم بن حمّاد في كتاب الفتن.

(ب 4، ف 2، ص 112، ح 7).

20 - أخرج الطبراني في الأوسط، عن طلحة بن عبيد اللّه، عن النبي صلى الله عليه و آله:

«ستكون فتنة، لايهدأ منها جانب إلّاجاشَ منها جانب، حتى ينادي منادٍ من السماء: أنّ أميركم فلان»، (ب 1، ص 71، ح 1).

21 - أخرج أبو نعيم، والخطيب في تلخيص المتشابه، عن ابن عمر، قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي: أنّ هذا مهدي

ص: 146

فاتبعوه»، (ب 1، ص 72، ح 2).

22 - وأخرج أبو نعيم، عن علي، قال: «إذا نادى منادٍ من السماء: أنّ الحقَّ في آل محمد، فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشرَبُون حُبَّه، ولايكون لهم ذكر غيره»، (ب 1، ص 73، ح 4).

23 - وأخرج أيضاً (يعني نعيم بن حمّاد)، عن شهر بن حوشب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «في المحرم ينادي منادٍ من السماء: ألا إنّ صفوة اللّه (من خلقه) فلان فاسمعوا له، أطيعوه في سنة الصوت المعمعة»، (ب 1، ص 75، ح 9).

24 - وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، قال: «تختلف ثلاث رايات:

راية بالمغرب، وراية بالجزيرة، وراية بالشام، تدوم الفتنة بينهم سنة - ذكرخروج السفياني وما يفعله من الظلم والجور، ثمّ ذكر خروج المهدي ومبايعة الناس له بين الركن والمقام، وقال: - يسير بالجيوش حتى يسير بوادي القرى في هدوء ورفق، ويلحقه هناك ابن عمّه الحسني في اثني عشر ألف فارس، فيقول له: يا ابن عم، أنا أحق بهذا الجيش منك، أنا ابن الحسن وأنا المهدي. فيقول له المهدي: بل أنا المهدي. فيقول له الحسني: هل لك من آية فاُبايعك؟ فيومي المهدي إلى الطير فيسقط على يديه، ويغرس قضيباً.. فيخضرّ ويُورِق. فيقول له الحسني: ياابن عمي، هي لك»، (ب 1، ص 76 و 77، ح 15)(1).ر.

ص: 147


1- هذا الحديث يدلُّ على أنّ المهدي عليه السلام من ولد الحسين عليه السلام، كما دلّت عليه أخبار كثيرة ذكرناها في منتخب الأثر.

25 - وأخرج نعيم، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«يكون عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له: المهدي، يكون عطاؤه حثياً»، (ب 1، ص 84، ح 33).

26 - وأخرج أبو نعيم، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يكون عند انقطاع من الزمان، ليبعثن اللّه من عترتي رجلاً، أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض عدلاً، يفيض المال فيضاً»، (ب 1، ص 84، ح 32).

27 - وأخرج أحمد ومسلم، عن أبي سعيد وجابر، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسّم المال ولايعدّه»، (ب 1، ص 83، ح 28).

28 - وعن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه و آله في قضية المهدي عليه السلام ومبايعته بين الركن والمقام، وخروجه متوجّهاً إلى الشام، قال: «وجبرائيل على مقدِّمته، وميكائيل على ساقته، يفرح به أهل السماء والأرض، والطير والوحش، والحيتان في البحر». أخرجه أبو عمر وعثمان بن سعيد المقري في سُننه.

(ب 1، ص 77، ح 16).

29 - وأخرج أحمد والباوردي في المعرفة، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «بشراكم بالمهدي، رجل من قريش من امّتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويقسم المال صحاحاً

ص: 148

بالسوية بين الناس، ويملأ قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله حتى أ نّه يأمر منادياً فينادي: من له حاجة؟ فما يأتيه أحد إلّارجل واحد، يأتيه يسأله، فيقول: ائت السادِن يعطيك، فيأتيه، فيقول: أنا رسول المهدي إليك لتعطيني مالاً. فيقول: إحثِ، فيحثى، فلا يستطيع أن يحمله، فيخرج به ويندم، فيقول: أنا كنت أجشع امة محمد نفساً، كلهم دعى إلى هذا المال فتركه غيري، فيرده عليه، فيقول: إنّا لانقبل شيئاً أعطينا، فيلبث في ذلك ستاً أو سبعاً أو تسع سنين، ولا خير في الحياة بعده»، (ب 1، ص 79 و 80، ح 21).

30 - وأخرج أيضاً عن عبد اللّه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه و آله (المهدي منا، أجلى الجبهة، أقنى الأنف) (ب 3، ح 3، ص 99).

31 - وأخرج نعيم بن حماد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ستكون بعدي فتن، منها فتنة الأحلاس، يكون فيها حرب وهرب، ثمّ بعدها فتنة أشد منها، ثمّ تكون فتنة. كلما قيل انقطعت تمادت حتى لايبقى بيت إلّادخلته، ولا مسلم إلّاملته حتى يخرج رجل من عترتي»، (ب 4، ص 103، ح 3).

32 - وأخرج نعيم عن علي، قال: «لا يخرج المهدي حتى يقتل ثلث، ويموت ثلث، ويبقى ثلث» (ب 4، ف 2، ص 111 و 112، ح 4).

33 - وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد، قال: حدَّثني فلان - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله -: «أن المهدي لايخرج حتى تُقتل النفس الزكية، فإذا قتلت

ص: 149

النفس الزكية غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس، فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها، وهو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وتنعم امّتي في ولايته نعمة لم تنعمها قطّ»، (ب 4، ف 2، ص 112، ح 6).

34 - وأخرج أبو عمرو الداني في سننه، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يلتفت المهدي وقد نزل عيسى بن مريم كأ نّما يقطر من شعره الماء.

فيقول المهدي: تقدَّم، صَلِّ بالناس. فيقول عيسى: إنّما اقيمت الصلاة لك، فيصلّي خلف رجل من ولدي»، (ب 9، ص 160، ح 9).

35 - وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم، عن امّ سلمة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يبايع الرجلَ بين الركن والمقام عدةُ أهل بدر، فتأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام، فيغزوه جيش من أهل الشام حتى انتهوا بالبيداء خَسَف بهم»، (ب 4، ف 2، ص 117، ح 18).

36 - وعن محمد بن الحنفية رضى الله عنه، قال(1): كنّا عند علي عليه السلام، فسأله رجل عن المهدي؟ فقال: «هيهات هيهات! ثمّ عقد بيده تسعاً، فقال: ذلك يخرج في آخر الزمان(2) ، وإذا قيل للرجل: اللّه اللّه قيل(3) ، فيجمع اللّه له قوماً قزعاً كقزعه.

ص: 150


1- يعني: وأخرج نعيم، عن محمد بن الحنفية.
2- قيل في معنى ذلك: إنّه عقد بيده تسعاً عدد الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه السلام، فلمّا بلغ إلى المهدي عليه السلام قال: ذلك يخرج في آخر الزمان.
3- الظاهر أنّ الصحيح هكذا: (إذا قال الرجل: اللّه تعالى قُتِل)، كما في كشف الأستار، وقال: أخرجه الحافظ أبو عبد اللّه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يُخرِجاه.

السحاب يؤلّف بين قلوبهم، لايستوحشون على أحد، ولايفرحون بأحد، دخل فيهم على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأوّلون ولا يُدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه»، (ب 6، ص 144، ح 8).

37 - وأخرج ابن ماجة، والطبراني، عن عبد اللّه بن الحارث ابن جزء الزبيدي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يخرج ناس من المشرق، فيوطئون للمهدي سلطانه»، (ب 7، ص 147، ح 2).

38 - وأخرج أبو غنم الكوفي في كتاب الفتن، عن عليّ بن أبي طالب، قال: «ويحاً للطالقان! فإن للّه بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضّة، ولكن بها رجال عرفوا اللّه حقَّ معرفته، وهم أنصار المهدي في آخر الزمان»، (ب 7، ص 150، ح 14).

39 - وأخرج أبونعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «منّا الذى يصلِّي عيسى بن مريم خلفه»، (ب 9، ص 158، ح 1).

40 - وأخرج أبو بكر الإسكافي في فوائد الأخبار، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «مَن كذّب بالدجّال فقد كفر، ومن كذّب بالمهدي فقد كفر»، (ب 12، ص 170، ح 2).

والحمد للّه تعالى على ما شرَّفني بإخراج هذه الأربعين حديثاً من

ص: 151

الأحاديث في المهدي عليه السلام، ومن أراد التوسّع في ذلك فعليه بتتبّع كتب المسانيد والجوامع، والموسوعات الكبيرة كالبحار و العوالم، وكتاب كمال الدين للصدوق، والغيبة للشيخ الطوسي، وكفاية الأثر وكتابنا منتخب الأثر.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرفة - لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

12 رجب الخير - 1401

ص: 152

عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام

اشارة

ص: 153

ص: 154

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

من أعظم ما بُني عليه اليقين بصدق الأنبياء ورسالاتهم السماويّة إلى الرسالة الختميّة الخالدة المحمديّة، وأمان المهتدي بهدى أئمّة أهل البيت عليهم السلام من الضّلال، عصمتهم عن المعاصي والخطأ والسهو والنسيان قد أشبع الكلام فيه علماء الإسلام بما لا مزيد عليه؛ وهذه رسالة فيها بعض ما يتعلّق بالعقيدة بعصمة الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام وعلمهم، وعلى طالب المزيد والتفصيل مطالعة كتب الأساطين كالمفيد والشيخ والخواجة والعلّامة وغيرهم أعلى اللّه مقامهم وشكر اللّه مساعيهم الجميلة.

ص: 155

ص: 156

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وردتنا رسالة من رئيس الجماعة الإسلامية (عادل جوهر) في أمريكا وكندا، تتضمن ثلاثة أسئلة، ترجع كلّها إلى مسألة العصمة في الأئمة الأطهار من أهل البيت النبوي، وقد رفعنا هذه الأسئلة إلى العلامة الحجة آية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي دام ظله، علماً بأنّ سماحته أحد الأبطال في المباحث الاعتقادية، وخاصة ما يتعلق منها بالولاية، فتفضلّ - دام ظله - بتدوين رسالة مفصلّة وافية بالمراد وشافية لغليل السائل، وقد سلّمنا نسخة من هذه الرسالة إلى مندوب الجماعة، حتى يبعثها إلى الجماعة الإسلامية.

ونظراً لأهمية محتويات هذه الرسالة العقائدية قمنا بنشرها ملحقة بكتاب أقطاب الدوائر التي تدور مسائلها حول آية التطهير، التي هي من أوضح دلائل العصمة في أهل البيت عليهم السلام.

ونحن عندما نقوم بطبع هذه الرسالة الجوابية القيّمة ننشر معها نصّ رسالة

ص: 157

الجماعة؛ تدليلاً على اهتمامهم بهذه الاُمور، وإلفاتاً لنظر المفكرين الإسلاميين إلى مايدور في أذهان المسلمين القاطنين في تلكم الديار. واللّهَ نسأل التوفيق والهداية، إنه سميع الدعاء.

17 ربيع الاول - 1403 هجرية

ص: 158

نصّ الرسالة وأسئلتها:

سماحة العلامة الاُستاد الشيخ جعفر السبحاني دامت إفاضاته.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد، إنّنا في الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا نعتزّ أشدّ الاعتزاز بورثة الأنبياء والعترة الطاهرة عليهم السلام، علمائنا الأعلام، حفظهم اللّه تعالى.

ومن جملة النشاطات التي نقوم بها: إصدار مجلّة إسلامية «الرسالة»؛ كي نقوم بجزء يسير من الأعباء والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقنا في بلاد الغربة.

وإنّنا في الحقيقة بحاجة ماسّة إلى البحوث والمقالات الإسلامية، وبحاجة إلى مشاركة العلماء الأجلّاء في دعم تطور مجلّة «الرسالة».

وإنّنا نودّ من سماحتكم التفضّل بالإجابة على الأسئلة التالية، ويفضل أن تكون الإجابة على هيئة بحث علمي، كما نودّ أن تجيزونا بنشرها.

ص: 159

1 - ما هي أدلة عصمة الأئمة عليهم السلام من مصادر التشريع الإسلامي؟ وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء؟

2 - هل يزداد علم الإمام المعصوم عليه السلام مع الأيام؟ وهل أنّ علمه عليه السلام قبل تولية الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد، الذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

3 - كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمّة إيماناً وعلماً وخلقاً، وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم؟

وختاماً أسأل اللّه عزّ وجلّ أن يتّسع وقتكم للإجابة على هذه الأسئلة، التي تتخذ أهمية بالغة في مثل ظروفناالحالية، وأسأله تعالى أن يوفّقكم وإيّانا لتحقيق ما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

رئيس الجماعة الإسلامية

عادل جوهر

الثلاثاء، 14 جمادي الآخرة، سنة 1402 ه

ص: 160

جواب آية اللّه الصافي:

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، سيما سيدهم أبي القاسم محمد وآله الطاهرين المعصومين.

وبعد، فهذه رسالة وجيزة في الجواب عن أسئلة أرسلها بعض الإخوان الأزكياء من أهل الدعوة إلى هدى الإسلام في آمريكا إلى أحد أصدقائي من العلماء وأساتذة الحوزة العلمية، كتبتها التماساً للثواب، وامتثالاً لأمر هذا الصديق العزيز أدام اللّه أيامه، ونفّع المسلمين بعلومه وبركاته.

والكلام بالنظر إلى الأسئلة يقع في مباحث:

المبحث الأوّل: في عصمة الأنبياء والائمة عليهم السلام

المبحث الثاني: في علم الإمام عليه السلام

ص: 161

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الائمة عليهم السلام في الإيمان والعلم والأخلاق.

ص: 162

المبحث الأول: في عصمة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام
اشارة

وهذا سؤاله بلفظه عنها:

ما هي أدلة عصمة الأئمة عليهم السلام من مصادر التشريع الإسلامي؟ وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء؟

والجواب على هذا السؤال يأتي في طيِّ مسائل:

المسألة الأولى: ماهي العصمة؟

المسألة الثانية: ما أنواع العصمة؟ وما النوع الّذي يجب اتّصاف النبي والإمام به؟

المسألة الثالثة: الأدلّة على عصمة الأنبياء والائمة.

ص: 163

المسألة الرابعة: ماهي الدلائل العقليّة على عصمة الأنبياء والائمة؟

المسألة الخامسة: ماهي أدلّة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

ص: 164

المسألة الاُولى: ما هي العصمة؟

الجواب:

أنّ العصمة قوة قدسية، وبصيرة ملكوتية، ونورانية ربانية راسخة في النفس، يَحفظ بها صاحبها نفسه عن القبائح، وعن إتيان كلّ ما في فعله الانصراف عن الحق ونسيان المولى.

وإن شئت قلت: هي حضور خاصّ للعبد عند مولاه لا يرتكب معه ما ينافي هذا الحضور، فلا يشتغل في هذا الحضور إلّابما يناسبه، ففي مثل هذا الموقف الأقدس لا ذنب ولا معصية ولاانصراف عن اللّه تعالى وهذا مقام رفيع لايناله ولايفوز به إلّاعباد اللّه المخلصون الكاملون، الذين ليس لغير اللّه سلطان عليهم، وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

ص: 165

وإن شئت مثالاً لذلك والمثال لا يُسئَل عنه، فانظر إلى نفسك إذا كنت طالباً لسلعةٍ ما فإنّك تذهب إلى السوق لشرائها، فيعرضها البائع لك بدينار، وآخر بدينارين، ولاشكّ أ نّك مختار في اشترائها من الأول أو الثاني، لكن لاتشتريها إلّا من الأول؛ لِما فيكَ من قوة التميز بين نفعك وضررك، والمعصوم في صفاء النفس، والاتصال بعالم الغيب، وقوة الإدرك حتى في ترك الأولى كترك المستحبّات وفعل المكروهات أصفى نفساً منك ومن غيرك نفساً.

وبالجمة: فالحضور ضد الغياب، والتوجّه ضد الانصراف، فمَن كان في محضر المولى ليس بغائب عنه، ومن ذاق حلاوة قربه ومؤانسته لايبتغي عنها بدلاً، ومَن جلس على بساط عبادته وأدرك لذّة مناجاته يقول كما قال زين العابدين عليه السلام:

«متى راحة مَن نصب لغيرك بدنه، ومتى فرح من قصد سواك بنيته؟»(1).

قال العلامة الجليل السيد عبداللّه شبر: (العصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لايغلب مع كونه قادراً على المعاصي كلّها كجائز الخطأ، وليس معنى العصمة أنّ اللّه يجبره على ترك المعصية، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره، مع قدرته عليها، كقوة العقل، وكمال الفطانة، والذكاء، ونهاية صفاء النفس، وكمال الاعتناء بطاعة اللّه تعالى، ولو لم يكن قادراً على المعاصي بل كان مجبوراً على الطاعات لكان منافياً للتكليف، ولاإكراه في الدين، والنبي صلى الله عليه و آله أول0.

ص: 166


1- الصحيفة السجادية: ص 165؛ بحار الأنوار: ج 46 ص 40.

من كُلّف، حيث قال: [فَأَنَا أَوَّلُ العابِدينَ](1) و [أَنَا أَوَّلُ المُسلِمينَ](2) وقال تعالى: [وَاعْبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتيَكَ اليَقينُ](3).

ولأ نّه لو لم يكن قادراً على المعصية لكان أدنى مرتبة من صلحاء المؤمنين، القادرين على المعاصي التاركين لها(4).

وقال الشريف الأجلّ شارح الصحيفة: العصمة في اللغة: اسم مِن عَصَمَهُ اللّهُ من المكروه يَعصِمُه (باب ضرب)، بمعنى حفظه ووقاه.

وفي العرف: فيض إلهي يقوى به العبد على تحرّي الخير وتجنّب الشر...

إلى آخره(5).

وقال الراغب: (وعصمة الأنبياء حفظه إيّاهم أوّلاً بما خصّهم به من صفاء الجوهر، ثمّ بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثمّ بالنصرة وبتثبت أقدامهم، ثمّ بإنزال السَكِينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق)(6).

وقال الشيخ الأكبر المفيد قدس سره: (العصمة من اللّه لحججه هي التوفيق، واللطف والاعتصام من الحجج بها من الذنوب والغلط في دين اللّه تعالى،).

ص: 167


1- الزخرف: الآية 81.
2- الأنعام: الآية 163.
3- الحجر: الآية 99.
4- حق اليقين: ج 1 ص 90.
5- رياض السالكين: الروضة السادسة عشرة.
6- مفردات القرآن للراغب الإصفهاني، في مادة (عصم).

والعصمة تفضّل من اللّه تعالى على مَن علم أ نّه يتمسّك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولامضطرّة للمعصوم على الحسن، ولاملجئة له إليه)(1).

وقال أيضاً رضوان اللّه تعالى عليه: (العصمة لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمنع عنه وقوع المعصية، وترك الطاعة مع قدرته عليها)(2).

وقال العلّامة الحلّي رحمه الله: (هي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكّناً فيها، ولايمتنع فيها عدمها)(3).

وقال الفاضل السيوري قدس سره: (قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية: هي لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية؛ لانتفاء داعيه، ووجود صارفه، مع قدرته عليها، ووقوع المعصية ممكن نظراً إلى قدرته، وممتنع نظراً إلى عدم الداعي ووجود الصارف، وإنّما قلنا بقدرته عليها لأنّه لولاه لَما استحقّ مدحاً ولاثواباً؛ إذ لااختيار له حينئذٍ؛ لأنّهما يستحقّان على فعل الممكن وتركه، لكنّه يستحقّ المدح والثواب لعصمته إجماعاً فيكون قادراً)(4).

وقالت الأشاعرة: (هي القدرة على الطاعة، وعدم القدرة على3.

ص: 168


1- تصحيح الاعتقاد: ص 214.
2- النكت الاعتقادية: ص 45.
3- كتاب الألفين: المبحث السابع، وراجع في ذلك كلامه في شرح تجريد الاعتقاد، المسألة الثانية من المقصد الخامس.
4- اللوامع الإلهية: ص 243.

المعصية)(1).

وقال بعض الحكماء: (إنّ المعصوم خلقه اللّه جبلّة صافية، وطينة نقية، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيِّز النفس العاقلة.

وقيل: هو المختصّ بنفسٍ هي أشرف النفوس الإنسانية، ولها عناية خاصة وفيض خاصّ، يتمكّن به من أسر القوة الوهمية والخيالية، الموجبتين للشهوة والغضب، المتعلّق كلّ ذلك بالقوة الحيوانية).

ولبعضهم كلام حسن جامع هنا حيث قال: (العصمة ملكة نفسانية يمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس، وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاوة والطاعة من السعادة صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة، ثمّ إنّ تلك الملكة إنّما تحصل له بخاصية نفسية أو بدنية تقتضيها، وإلّا لكان اختصاصه بتلك الملكة دون بني نوعه ترجيحاً من غير مرجّح، ويتأكّد ذلك العلم بتواتر الوحي، وأن يعلمة.

ص: 169


1- لايخفى عليك بطلان هذه المقالة لأنّ القدرة على الطاعة لا تُحقَّق إلّامع القدرة على تركها، والقدرة على ترك الطاعة هي القدرة على المعصية.

المؤاخذة على ترك الأولى)(1).

أقول: لاريب أنّ الاختصاص بتلك الملكة إنّما يكون بجهة مرجّحة يعلمها اللّه تعالى، وليس علينا السؤال عن هذه الجهة، وهذا كاختصاص كثير من المخلوقات بل كلّها بأوصاف خاصة، واختلافهم في الأفراد والأنواع، واختصاص السماء والأرض بالخلق وغير ذلك.

وما هو المعلوم عقلاً وشرعاً أنّ كلّ ذلك لم يكن عبثاً، ومن خلق هذا الخلق وجعل هذا النظام المتقن في كلّه وأجزائه لم يكن لاعباً وعابثاً، فالنظام الحاكم على عالم الإنسان، والحاكم على عالم الحيوان والنباتات بأنواعها والجمادات تشهد بحكمه كلّ تلك المخلوقات وتقدّسه عن اللغو والعبث.

وقال سبحانه وتعالى في وصف اولي الألباب:

[وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ وَالأرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذَا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ](2).

وقال تعالى: [وَمَا خَلقنَا السَّماءَ والأرضَ وَمَا بَينَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ](3).

وقال عزَّ مِن قائلٍ: [أفَحَسِبتُمْ أ نَّمَا خَلقنَاكُمْ عَبَثاً وَأ نَّكُم إلَينا لا تُرجَعُون](4).5.

ص: 170


1- اللوامع الإلهية، اللامع العاشر: ص 169 و 170.
2- آل عمران: الآية 191.
3- ص: الآية 27.
4- المؤمنون: الآية 115.

وهذا لايمنع عن القول بأشرفية البعض من البعض، وأفضليته، بل غاية ما يقال فيه: إنّ ذلك بتقديره وحكمته.

فالسؤال الذي ربّما يختلج في بعض الأذهان في اصطفاء من اصطفاه اللّه من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، هو السؤال عن اختصاص كلّ ذوي الفضل في هذا العالم بنوعه أو فرده على غيره.

والجواب على النحو العام هو: أنّ أفعال اللّه تعالى كلّها متقنة محكمة صدرت عنه لأغراض متعالية، والتفضيل المشاهد في العالم: إمّا أن يحصل لعلل يقتضيها ضيق عالم المادة، وما جعل اللّه في كلّ جزء من أجزاء هذا العالم بتقديره من التأثير في غيره أو التأثير منه، وإمّا أن يحصل لعلل اختيارية تؤثّر في كمال النفس وفضلها، وتؤثّر في تفضيل بعض الأفراد من الإنسان والحيوان والنبات على غيرها، وقد يحصل لعلل اخرى اختيارية للعبد وغير اختيارية ممّا توجب الترجيح وتؤثّر فيه، والجهات المرجّحة كثيرة لايمكننا إحصاؤها ومعرفة تفاصيلها، فإذا وجد بإذن اللّه تعالى وتقديره شخص قابل للإفاضة الغيبية والعناية الربانية كالعصمة والعلوم اللدنية لايحرم منها، ويستحيل أن يمنع اللّه تعالى ذلك عنه، واللّه تعالى أعلم بموارد عناياته وإفاضاته.

هذا، ولنا أن نقول: إنّ النظام لايتمّ بل لايقوم إلّاعلى التفضيل والإختصاص والاصطفاء فاختصاص العين بالرؤية، والاُذُن بالسمع، وسائر الأعضاء بخاصّية معينة، وكذا اختصاص هذا الشجر بهذا الثمر، وهذا بهذا هو المقوّم لهذا النظام بإذن اللّه تعالى، ولو لم يكن هذا الاختصاص لم يكن هذا العالم

ص: 171

[ذلِكَ تَقديرُ العَزيزِ العَليمِ](1).

فالاصطفاء والاختصاص والتفضيل أمر واقع في عالم التكوين مهما كانت علله، معلومة كانت لنا، أو مجهولة عندنا، نرى ذلك بالعيان، ونقرؤه في تراجم الأنبياء والأولياء وأرباب العقول الكبيرة وغيرها، كما نلمس عصمة الأنبياء والأولياء من خلال سيرتهم وعباداتهم، وخصائصهم وأخلاقهم، لايمكننا إنكار الواقعيات. والقرآن المجيد أيضاً ناطق باصطفاء بعض الناس على بعض، وبعض الأنواع على بعض، قال اللّه تعالى: [وَلَقَد فَضَّلْنا بَعضَ النَّبيّينَ عَلى بَعضٍ](2)

وقال سبحانه: [تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعضَهُم عَلى بَعضٍ مِنهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعضَهُم دَرَجاتٍ](3)

وقال عزّ من قائلٍ: [وَإذ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَريَمُ إنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ](4)، أي على عالم زمانها كما ورد في التفاسير.

وقال جلّ شأنه: [يَا بَني إسرائيلَ اذكُرُوا نِعْمَتيَ الَّتي أنعَمتُ عَلَيكُم وَأ نِّي فَضَّلتُكُم عَلَى العالَمِينَ](5) أي على عالَمَي زمانهم.

وقال اللّه تعالى: [وَلَقَد كَرَّمنَا بَني آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ0.

ص: 172


1- يس: الآية 38؛ الأنعام: الآية 96؛ فصّلت: الآية 12.
2- الإسراء: الآية 55.
3- البقرة: الآية 253.
4- آل عمران: الآية 42.
5- البقرة: الآية 40.

الطَّيِّباتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضيلاً](1)

وقال تعالى جَدّه: [إنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيمَ وَآلَ عِمرانَ عَلَى العالَمِينَ](2).

وقال تعالى شأنه: [ثُمَّ أورَثْنَا الكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنَا](3).

وقال تعالى: [وَلَا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ](4)

نعم، يستفاد من بعض الآيات الدالة على التفضيل وجهه أيضاً، كقوله تعالى: [فَضَّلَ اللّهُ المُجَاهدينَ عَلَى القاعِدينَ أجْراً عَظيماً](5)

وقوله عزّ شأنه: [يَرفَعِ اللّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالّذينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ](6)

حيث يستفاد من الآية الاُولى أنّ وجه تفضيل المجاهدين على القاعدين هو جهادهم، ومن الثانية أنّ وجه رفع درجات المؤمنين والعلماء هو إيمانهم وعلمهم.

كما يستفاد من البعض الآخر جهة التفضيل، كقوله تعالى: [مِنهُم مَن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفعَ بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَريَمَ البيِّناتِ وَأيَّدناهُ بِرُوحِ1.

ص: 173


1- الإسراء: الآية 70.
2- آل عمران: الآية 33.
3- فاطر: الآية 32.
4- النساء: الآية 32.
5- النساء: الآية 95.
6- المجادلة: الآية 11.

القُدُسِ](1) حيث يستفاد منه أنّ جهة تفضيل موسى على بعض الأنبياء: أ نّه كلم اللّه، وجهة تفضيل عيسى: البينات تأييده من جانب اللّه تعالى بروح القدس، وكما يستفاد من البعض الآخر أنّ التفضيل إنّما يكون لحكمة اخرى خارجة عن المفضل والمفضل عليه، وإن كان فائدته يرجع إليهما وإلى النظام، كقوله تعالى:

[وَرَفَعنا بَعضَهُمْ فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيتَّخِذَ بَعضُهُمْ بَعضاً سُخرِيّاً](2).

إذن فلا استبعاد في اختصاص بعض الناس بالاصطفاء والعصمة وغيرها من الفضائل بعد ما يرى مثلها في نظام اللّه تعالى في خلقه، وبعد ما جرى عليه عادته وسنّته، فلا يجوز السؤال عن ذلك حسداً أو اعتراضاً، ولافائدة فيه، قال اللّه تعالى: [أمْ يَحسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتيهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكمَةَ وآتَيناهُمْ مُلكاً عَظِيماً](3)

وروى شيخنا ثقة الإسلام الكليني في «الكافي» عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد اللّه الكاهلي، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لو أنّ قوماً عبدوا اللّه وحده لاشريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى4.

ص: 174


1- البقرة: الآية 253.
2- الزخرف: الآية 32.
3- النساء: الآية 54.

يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسلِّمُوا تَسليماً](1) ثمّ قال أبوعبداللّه عليه السلام: عليكم بالتسليم»(2).0.

ص: 175


1- النساء: الآية 65.
2- الكافي: ج 2 ص 398، ح 6، عنه مرآة العقول: ج 4 ص 280.

ص: 176

المسألة الثانية: ما هي أنواع العصمة؟

وما هو النوع الذي يجب أن يكون النبي والإمام متّصفين به؟

والجواب:

أنّ العصمة تارةً تطلق ويراد منها العصمة عن الكفر، والكذب في تبليغ الرسالة والإخبار عن أحكام اللّه، والمعارف الدينية.

وتارةً اخرى يراد منها العصمة عن الكفر، ومطلق الكذب بعد النبوة، أو مع ما قبلها.

وثالثةً يراد منها العصمة عن مطلق المعاصي وكلّ ما ينفر عنه بعد النبوة او مع ما قبلها.

ورابعةً يراد منها العصمة عن المعاصي، وكلّ ما ينفر عنه، وعن ترك الأولى

ص: 177

أيضاً بعد النبوة أو مع ما قبلها.

فهذه سبعة أنواع، كلّ نوعٍ تحت نوعٍ أوسع وأشمل، حتى يصل إلى النوع السابع وهو العصمة عن المعاصي، وترك الأولى، وكلّ ما ينفر عنه قبل النبوة وبعدها.

ولاريب أنّ الدليل عليه دليل على الجميع، والأقوال في النوع المعتبر في النبي والإمام مختلف لافائدة في ذكرها هنا، من أراد الإطّلاع عليها فليراجع كتاب «تنزيه الأنبياء» والكتب المؤلفة في الكلام والفِرَق.

والذي نقول به ونعتقده هو عصمة الأنبياء عن جميع المعاصي وعمّا ينفر عنه، قبل النبوة وبعدها، وعن الخطأ والسهو والاشتباه في كلّ ما يرجع إلى تبليغ رسالات اللّه تعالى، وعصمة نبينا محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام عن جميع ذلك وعن ترك الأولى وعن الخطأ والسهو في جميع الاُمور.

ص: 178

المسألة الثالثة: الأدلة التي تقام على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام

هل هي عقلية أو سمعية؟ وأعني بالثانية: ما يستفاد من مصادر التشريع الإسلامي، وهل الأصل في إثبات هذا الموضوع هو العقل أو النقل يكفي في ذلك، فإن لم تقم الأدلة العقلية عليه فهل يجوز إثباته بالنقل؟

والجواب:

أمّا عن الأول فنقول: قد دلّ العقل والنقل على وجوب عصمة الإمام، وأدلتهاالعقلية والنقلية كثيرة جداً، فهذا كتاب «الألفين» لنابغة علوم المعقول والمنقول العلّامة الحلّي رضوان اللّه تعالى عليه، والنسخة المطبوعة منه - وإن كان ناقصة - مشتملة على ما يتجاوز عن ألف دليل عقلي وسمعي على أنّ الإمام يجب ان يكون معصوماً.

ص: 179

وأمّا الجواب عن الثاني: فالأصل في الاعتقاد بعصمة النبي والإمام، ووجوب كون الإمام معصوماً هو حكم العقل، والشرع يؤيد العقل في حكمه هذا، وذلك لأنّ العقل قاطع بوجوب اتصاف النبي والإمام بالعصمة، والشرع إنّما يكون المرجع الأول في كلّ مورد، لو حكم فيه بالإيجاب أو السلب لم يكن حكمه بأيّهما مغايراً لحكم العقل.

وبعبارةٍ اخرى: الشرع هو المرجع الأول في كلّ مورد لم يكن للعقل فيه حكم بالإيجاب أو السلب، بحيث يكون حكم الشرع بالسلب أو الإيجاب موضوعاً لحكم العقل به أيضاً، أو لحكمه الآخر، كحكمه برمي الجمار والسعي بين الصفا والمَروة، فإنّ العقل بعد حكم الشرع به يحكم به كما يحكم بوجوب إطاعته ووجوب الأمر به وذمّ تاركه.

وضابطة اخرى في ذلك: أن لايكون حكم الشرع في مورد تكون حجية حكم الشرع أو أصل الشرع متوقفة على حكم العقل به.

ففي مسألة عصمة الأنبياء فإنّ العقل هو المرجع الأول، ويحكم بوجوب كون النبي معصوماً لأدلته، وأمّا الشرع فالعلم بأصله متوقف على العلم بلزوم بعث النبي وشرائطه وأوصافه، والعلم بهذه لو كان ممكن الحصول من جانب الشرع لزم الدور لأنّ العلم بالشرع وما يخبر عنه النبي متوقف على العلم بأوصافه، ولو كان العلم بأوصافه متوقفاً على إخبار النبي للزم الدور.

فقد اتّضح من ذلك أنّ ما في دائرة حكم الشرع به والشرع هو المرجع الأول فيه هو ما لم يكن للعقل فيه حكم إيجابي أو سلبي، ولم يكن ممّا يتوقف

ص: 180

عليه العلم بالشرع، وإثبات اشتراط العصمة في النبي خارج عن ذلك، وكذا إثبات اشتراط عصمة الإمام، فإنّه وإن لم يكن ممّا يتوقف عليه العلم بالشرع لكنّ العقل حاكم به بالإيجاب، وعليه يكون الشرع فيه مرشداً إلى حكم العقل ومؤيداً ومقرراً له، ومن هنا يعلم أنّ الحكم بوجوب إطاعة اللّه تعالى عقلي وإرشادي، كما أنّ الحكم بوجوب إطاعة النبي والإمام شرعي ومولوي.

فإن قلت: إذا كان العقل هو المرجع الأول في تلك المسألة فمن أيّ طريق نعرف عصمة النبي، وأنّ المعجزة التي أتى بها دليل على صدقه ونبوته، وبالتالي على عصمته.

وبعبارة اخرى صدق مدّعي النبوة يثبت بالمعجزة إذا كان معصوماً، ومن المعلوم عدم وجود دليل عقلي على عصمة مدّعيها، إلّاأن يقال: إنّ المعجزة كما تدلّ على صدق مدّعي النبوة تدلّ على عصمته أيضاً، وعليه كيف يكون العقل هو المرجع الأول؟.

قلت: أولاً: ماقلنا بأنّ العقل هو المرجع الأول فيه هو لزوم العصمة في النبي والإمام، وفرق بين مسألة وجوب كون النبي والإمام معصومين وبين مسألة طريق معرفة المعصوم، والمعجزة دليل على صدق مدّعي النبوة وعصمته بحكم العقل، فما يدلّ عليه العقل أولاً بدون الاستعانة بالمعجزة هو لزوم بعث النبي ونصب الإمام ولزوم اتصافهما بالعصمة، وما يحكم به العقل بالمعجزة هو كون هذا الشخص المعيّن هو النبي المعصوم، والإمام المعصوم.

وثانياً: أنّ المعجزة وإن يثبت بها صدق النبي وعصمته ليست من الأدلة

ص: 181

السمعية والشرعية، بل هي ممّا يثبت بها الشرع وحجية السمع، فمعجزات الأنبياء والأولياء خارجة عن الأدلة السمعية الشرعية، ومدلولها ليست من الاُمور التي تثبت بإخبار النبي والإمام.

فظهر بذلك أن لامنافاة بين كون العقل حاكماً بلزوم العصمة في النبي والإمام، وبين كون المعجزة دليلاً على صدق النبي وعصمته، وكذلك الإمام، وأنّ هذا أيضاً حكم العقل، وليس من الشرع وما يثبت حجّيته وحقّيته بالمعجزة بشيء.

نعم، هنا أمر لابأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ المعجزة إنّما تكون دليلاً على العصمة إذا لم يكن في مدّعي النبوة عملاً وخلقاً وخلقاً ما ينافي العصمة، وإذا كان فيه ما ينافي ذلك كارتكاب القبائح وسوء الأخلاق فهو الدليل على أنّ ما يظهره بعنوان المعجزة ليس معجزة لأنّ اللّه لايؤيد عمل المبطلين، ولايصلح عمل المفسدين، وهكذا يجيء الكلام في النص الصادر عن النبي على نبوة من يأتي بعده أو إمامته، فإذا كان المدّعي لورود النصّ عليه غير مرضيّ الأخلاق والأفعال لايعتنى بما يدّعيه، ويُعلم من ذلك أنّ ما يدّعيه من النصّ لم يصدر، أو صدر في حقّ غيره.

ص: 182

المسألة الرابعة: ما هي الدلائل العقلية على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين؟

الجواب:

أدلتها كثيرة، نذكر نموذجاً منها ممّا يدلّ على معتقد الحقّ.

فمنها: أنّهم لو لم يكونوا معصومين عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الخطأ والنسيان والسهو في كلّ ما يرجع إلى ما يجب اتّباعهم من أقوالهم وأفعالهم وسيرهم وسلوكهم لَيرفع الاطمئنان والاعتماد عن اتّباعهم والاقتداء والتأسّي بهم، وتبطل فائدة بعث الأنبياء ونصب الأئمة، ويُنقَض الغرض الباعث إلى إرسال الرسل، بل خطؤهم ونسيانهم في الاُمور العادية أيضاً يضعف ذلك الاعتماد، وتنزّههم عنه يقوّي ذلك ويؤكّده غاية التأكيد، فاللطف والحكمة يقتضي

ص: 183

اختصاصهم بعنايات وألطاف تدفع عنهم السهو والنسيان.

لايقال: إنّ ذلك غلوّ فيهم، وإنّهم ما فوق الإنسان وأعلى منه.

لأنّه يقال: اختصاصهم بتلك العنايات، وكون ذكرهم وتوجّههم دائمياً ليس فوق حدّ الإنسان، ولايقول ذلك إلّامن قصر عن معرفة الإنسان ومراتب كماله، وما يصل إليه في سيره إلى اللّه تعالى.

قال الإمام أبو عبداللّه الصادق عليه السلام(1) على ما روي عنه: الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ.

ويُنسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام.

وأنتَ الكتابُ المُبينُ الذيبأحرُفِهِ يظهرُ المُضمرَ(2)

الغلوّ إنّما يحصل برفعهم من مرتبة العبودية والمخلوقية، والفقر الذاتي إلى مرتبة المعبودية والخالقية والغنى الذاتي.

والفضائل وكثير من الصفات وما يتقرّب به العبد إلى المولى ويتخلّق بأخلاقه مشتركة بين الإنسان والملائكة، فلم يدلّ دليل على امتناع اتصاف البشر بها وإن لم تحصل إلّاللأوحدي من الناس، وإثباتها لهم ليس غلوّاً فيهم، و غاية ما يقال فيهم: إنّ هذه الصفات في الملائكة فعلية، وليست بالإستعداد2.

ص: 184


1- شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: ج 1 ص 12.
2- تفسير الصافي: ج 1 ص 92؛ شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: ج 1 ص 12.

وبالقوة، والإنسان لابشرط في ذلك عن الفعلية والاستعداد، فبعض أفراد الإنسان فيه هذا بالقوة، وبعضهم حاصل فيه بالفعلية.

هذا، مضافاً إلى أنّ القول بأ نّهم ما فوق الإنسان إن اريد به رفعهم إلى مرتبة الملائكة وإثبات هويتهم لهم فليس هذا رفعاً لهم من مرتبتهم إن لم يكن إثباتاً لقصر لهم إذ الأنبياء والأئمة أفضل من الملائكة؛ لأنّ عصمتهم عن المعاصي ليس معناها عدم تمكّنهم منها، أو نفي ما كان يمكن أن يكون داعياً لهم، وكم فرق بين من لايتحقق له الداعي إلى الأكل لعدم إمكان ذلك له، فلا يسند إليه ترك الأكل حقيقة، وإن اسند إليه فلا يكون إلّامجازاً، كقول القائل: إنّ الحجر لايأكل، فامتناعه عن الأكل ليس عن عمد واختيار، بل لايصحّ أن يسند إليه الامتناع عن ترك الأكل، وبين من يمتنع عنه بالاختيار، ويسند إليه كسائر أفعاله وتروكه الاختيارية؛ ولأجل هذا يقول المحقّق الطوسي القدوسي قدس سره في أفضلية الأنبياء على الملائكة: والأنبياء أفضل؛ لوجود المضاد(1).

وأمّا قوله تعالى: [قُل إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ](2)، وقوله تعالى: [قُل سُبحَانَ رَبّي هَل كُنتُ إلّابَشَراً رَسولاً]. (3) فليس مفادهما أنّ إثبات صفات الملائكة لهم غلوّ ورفع عن درجة الإنسان إلى درجةٍ أعلى، بل المراد نفي الغلوّ بإثبات صفات اللّه المختصة لهم وإثبات الإستقلال لهم في عرض إرادة اللّه3.

ص: 185


1- راجع كتاب: الصراط المستقيم للعاملى النباطى: ج 1 ص 131 الرقم 8 (ط المكتبة الرضوية، المطبعة الحيدرية - ايران، 1384 ه).
2- الكهف: الآية 110؛ فصّلت: الآية 6.
3- الإسراء: الآية 93.

ومشيئته، فهم عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ليس لهم الإتيان بآية إلّابإذن اللّه تعالى، فمثل النبي الخاتم صلى الله عليه و آله الذي:

فاقَ النّبيّينَ في خَلقٍ وفي خُلقٍ

[مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إن هُوُ إلَّاوَحيٌ يُوحى](1).

وأيضاً مثل هاتين الآيتين ردّ على من يطلب من النبي صلى الله عليه و آله ترك ما هو ضرورة وجود الإنسان، كالأكل والشرب والمشي في الأسواق زعماً منه أن ترك ذلك كمال النبي صلى الله عليه و آله؛ ولهذا قالوا [مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمشي فِي الأسْواق](2)، وقال سبحانه وتعالى [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤمِنُوا إذ جَاءَهُمُ الهُدى إلّاأن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُل لَو كَانَ فِي الأرضِ مَلَائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنّينَ لَنَزَّلنَا عَلَيهِم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً](3).

ومن الأدلة التي اقيمت على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام: أ نّه يجب في النبي والإمام قوة الرأي والبصيرة وعدم السهو، وكلّ ما يُنفَر عنه، ومن المعلوم أنّ المعصية كبيرةً كانت أو صغيرةً من أعظم ما يُنفَر عنه ومن أقوى الشواهد على ضعف الرأي، والسهو أيضاً يذهب بمكانته الاجتماعية، وربّما يصير سبباً5.

ص: 186


1- النجم: الآية 3.
2- الفرقان: الآية 7.
3- الإسراء: الآية 94 و 95.

لاستهزاء الناس به، وإنكاره ما عليه وادّعائه ما ليس له، وكلّ ذلك ينافي مصلحة النبوّات.

ومنها: أ نّه يجب متابعتهم وإطاعتهم، ولو لم يكونوا معصومين جاز أن يأمروا بالمعصية وما فيه المفسدة، وينهوا عن الطاعة وما فيه المصلحة، وذلك يؤدّي إلى إغواء الناس وإضلالهم، وهذا ضدّ المقصود من بعث الرسل؛ لأنّ الغرض فيه هداية العباد والبشارة والإنذار.

ومنها: غير ذلك من الأدلة التي تُعدّ بالمئات، ذكرها العلامة الحلّي في «الألفين» وفي سائر كتبه في الكلام والإمامة، وذكر طائفة منها غيره أيضاً، من شاء أكثر من ذلك فليراجع هذه الكتب.

ص: 187

ص: 188

المسألة الخامسة: ما هي أدلة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

الجواب:

أنّ الأدلّة الدالّة عليها مصادر التشريع الإسلامي كثيرة جداً، تجد المئات منها أيضاً في كتاب «الألفين». ونحن نشير إلى بعض تلك الأدلّة بتعبيرٍ منّا.

فنقول: من الأدلّة الدالّة عليها من القرآن المجيد: قوله تعالى: [وَإذِ ابْتَلى إبرَاهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيَّتي قَالَ لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمينَ](1). فهذه الآية الكريمة صريحة في عِظَم أمر الإمامة، وأ نّها عهد اللّه تعالى لاينالها الظالمون، والظلم عنوان عام لكلّ ما لايجوز فعله شرعاً أو

ص: 189


1- البقرة: الآية 124.

عقلاً، كما تعرف ذلك من موارد استعمالاته فى الكتاب والسنّة واللغة.

لايقال: إنّ الآية لاتدلّ على أكثر من عدم لياقة الظالم لنيل منصب الإمام في حال تلبّسه بالظلم، ولاتدلّ على عدم نيله إذا كان متلبّساً به فيما مضى.

لأنّه يقال: أولاً: لا نُسلّم كون المشتقّ حقيقةً في المتلبّس بالمبدأ في الحال، أي في حال الجري والنسبة، بل هو أعم منه وممّا انقضى عنه المبدأ.

وثانياً: أنّ ما هو الملاك في عدم نيل الظالم الإمامة هو صدور الظلم عنه، فما يمنع شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، والسارق وغيرهم من الظالمين عن التشرّف بمقام الإمامة هو شرب الخمر وقتل النفس والسرقة، وإن صدر عنهم في الماضي وتابوا بعده، وليس المراد أنّ الشارب حال تلبّسه بشرب الخمر، والزاني في حال تلبّسه بالزنا، والسارق في حال تلبّسه بالسرقة، وعابد الأصنام في حال تلبّسه بعبادة الأصنام وعدم توبته عن هذه الأفعال غير صالح لهذا المقام، أمّا بعد هذا الحال ولو بساعة ولحظة وبعد التوبة لاتقدح هذه المعاصي في صلاحيته، وهذا واضح يُعرَف بأدنى تأمّل.

إن قلتَ: فما هو معنى قوله صلى الله عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما كان قبله»(1)، و «التوبة تجبّ ما قبلها»(2)، وقوله صلى الله عليه و آله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(3).5.

ص: 190


1- بحار الأنوار: ج 6 ص 22.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص 129، عن عوالي اللآلي.
3- الكافي ج 2 ص 435.

قلتُ: لاريب في ذلك، ولكن قد بيّنّا لك أنّ الشرع إنّما يحكم تأسيساً، وهو المرجع الأول فيما لاحكم فيه للعقل، ففي دائرة الأحكام والتكاليف الشرعية - وضعية كانت أو تكليفية - الإسلام يجب ما قبله، ويذهب بالآثار الشرعية المترتبة على الأفعال التي ارتكبها الشخص قبل إسلامه على التفصيل المذكور في الفقه، أمّا الآثار الوضعية الحقيقية فليست بتشريعية، ولاتنالها يد الإنشاء والاعتبار، فليست قابلة للمحو بالإسلام والتوبة.

فتنفُّر الطباع عمّن ارتكب قبائح الأعمال والشرور وعبد الأصنام قبل إسلامه وتوبته لايزول بهما، وكذا عدم الاعتماد على الكذّابين والخائنين وأهل الفجور والشر والفساد أمر طبيعي لايمكن رفعه بالإنشاء، ومصلحة النبوّات وتربية العباد، وسياسة امورهم تقتضي أن يكون النبي والإمام من غيرهم.

وكم فرق بين من لم يكفر باللّه طرفة عين، وكان له في سالف عمره سوابق حسنة، وكانت حياته مضيئة بالخيرات مشرقة بالصلح والسلم والكرامة الإنسانية والرشد والفلاح ومنع الظلم ورحمة الأيتام والضعفاء والمستضعفين، وبين من مضى برهة من عمره في عبادة الأصنام وارتكاب القبائح حتى وَأْد البنات بقساوة شديدة قلّما يرى مثلها في تاريخ الإنسان(1).).

ص: 191


1- وهذا عمر بن الخطاب قد دفن فيما روي ستّاً من بناته في الجاهلية، وإن كان ليحفر لإحداهنّ الحفرة يريد أن يئدها فيها فيتخلّله غبار الحفر فتنفض البنت عن أبيها غباره، وتمشّط لحيته بأصابعها حناناً ورقةً فلا يلين ذلك من قلبه شيئاً، حتى إذا انتهى زجّها في قبرها وأهال التراب بين بكائها وعويلها واستنجادها به: يا أبتاه! (الأُستاذ محمد سعيد الأفغاني - مجلة حضارة الإسلام، طبع دمشق، العدد 2، ص 21، س 22).

وثالثاً: عدم نيلِ الظالم عهدَ اللّه تعالى في حال ظلمه، سيّما إذا كان ظلمه عبادة الأصنام وارتكاب الفجور، والظلم للعباد بالاستعلاء عليهم واستضعافهم واضح لايحتاج توهّمه إلى دافع، سيّما إذا كان السائل نبياً جليلاً كإبراهيم الخليل الذي بلغ في معرفة اللّه تعالى الغاية القصوى، ودفع توهّمه خلاف البلاغة، فإذن ليس المراد منه إلّامطلق من صدر عنه الظلم، بل خصوص من صدر عنه الظلم في الماضي، أو يعلم اللّه بصدوره عنه في المستقبل، وأمّا المتلبس بالظلم، فعدم أهليّته معلوم بالضرورة لاحاجة إلى التنبيه عليه.

نعم، هذه الآية لاتدلّ على أزيد من عصمتهم عن المعاصي.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: [يَا أ يُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أطيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ واُولِي الأمرِ مِنكُم](1).

وهذه الآية دلّت على وجوب إطاعة الرسول، واُولي الأمر في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه، ولو لم يكونوا معصومين لزم الأمر بإطاعة غير المعصوم، والأمر بإطاعته قبيح؛ لكونه معرّضاً للأمر بالقبيح والنهي عن الحسن.

ومنها قوله تعالى: [يَا أ يُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ](2).

فإنّه يدلّ على وجوب الكون مع الصادقين، والكون معهم عبارة عن متابعة أقوالهم والاقتداء بأفعالهم، والتزام سيرتهم وعدم مفارقتهم، فيجب أولاً عدم خلو الزمان منهم، وثانياً كونهم معصومين عن المعاصي والخطأ والسهو، بل9.

ص: 192


1- النساء: الآية 59.
2- التوبة: الآية 119.

وترك الأولى، وقد روي من طرق الشيعة وأهل السنّة أنّ الصادقين هم أئمة أهل البيت عليهم السلام(1).

وللفخر الرازي في تفسيره الكبير كلام حول تفسير هذه الآية يؤيد بالإفصاح مذهب الشيعة الإمامية، وكلامه في غاية التحقيق، ولاعبرة بما قال في ذيل كلامه من الجواب عمّا تفطّن به فإنّه في غاية الضعف، ويستبعد خفاء ضعفه عن مثله، فلعلّه إنّما قاله خوفاً من النواصب الذين يرون إنكار فضائل أهل بيت النبي عليهم السلام وبغضهم من علائم كون الشخص من أهل السنّة، مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال:

«لايحب علياً منافق، ولايبغضه مؤمن»(2).

وقال علي عليه السلام: عهِدَ إليَّ النبي صلى الله عليه و آله: أ نّه «لايحبّك إلّامؤمن ولايبغضك إلّا منافق»(3).

ومن الآيات الدالة على عصمتهم: قوله تعالى حكايةً عن إبليس: [فَبِعِزَّتِكَ لَاُغوِيَنَّهُم أجمَعينَ إلّاعِبادَكَ مِنهُمُ المُخلَصينَ](4).3.

ص: 193


1- يراجع في ذلك شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1 ص 259-262، والدرّ المنثور للسيوطي: ج 3 ص 90، وخصائص الوحي المبين لابن بطريق: الفصل الثالث والعشرون، ص 136، وغيرها من كتب أعلام الشيعة وأهل السنّة، ولابن بطريق هنا استدلال على أنّ الإيمان والتقوى لاينفعان إلّابعد الكون مع أميرالمؤمنين علي عليه السلام.
2- أخرجه الترمذي وأحمد، فراجع.
3- راجع مسند أحمد: ج 1 ص 84 و 95 و 128، وغيره من الجوامع مثل: سنن النسائي، وابن ماجة، والترمذي.
4- ص: الآية 83.

وقوله تعالى: [إنَّ عِبادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ](1).

وقوله سبحانه: [أَفَمَن يَهدي إلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إِلاّ أَن يُهدي فَما لَكَم كَيفَ تَحكُمُونَ](2)، وقوله عزّ وجلّ: [قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبكُمُ اللّهُ](3). وقوله عزّ من قائل [إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً](4) وغيرها ممّا يطول بنا المقام بذكرها وبيان الاستدلال بها.

إن قلت: إذا كان الأمر بإطاعة غير المعصوم قبيحاً لايصدر عن الحكيم كما ذكرتم في بيان الاستدلال بقوله تعالى: [أطِيعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمرِ مِنكُم](5) فما تقولون في امراء السرايا، وحكام البلاد، والمفتي والقاضي، مع أنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعتهم وعدم عصمتهم؟

قلت: أولاً: إنّهم وإن كانوا ممّن تجب طاعته فيما علم بعدم خطئهم، وفيما لاطريق إلى العلم بخطئهم، إلّاأ نّه لو علم بخطئهم لم تجب إطاعتهم؛ لأنّه «لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق»(6) وليس أمر امراء السرايا وحكم حكّام البلاد بحيث لايمكن تخلّفه عن الواقع وفرض الخطأ فيه، كما هو الأمر في أمر النبي والإمام وحكمهما، لأنّه لايتخلّف عن الواقع، ودليل على الشرع، والشرع1.

ص: 194


1- الحجر: الآية 42؛ الإسراء: الآية 65.
2- يونس: الآية 35.
3- آل عمران: الآية 31.
4- الأحزاب: الآية 33.
5- النساء: الآية 59.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 381.

يعرف به كما يعرف بغيره من مصادر التشريع.

وثانياً: إنّ النبي والإمام إذا أخطأ ليس من ورائهما نبي أو إمام ينبّه على خطئهما، بخلاف امراء السرايا والحكّام فإنّ النبي والإمام من ورائهم يحفظان الشريعة من التحريف والتغيير، وينبّهان على خطأ امراء السرايا والعمال.

وثالثاً: نقول: إمّا أن نقول بوجوب إطاعة الإمام في جميع الأوقات، أو يخصّص عمومه ببعض الأوقات، لاسبيل إلى الثاني، فإنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعته مطلقاً وفي جميع الأوقات، وعلى هذا لو فرض كون الإمام غير المعصوم يمكن أن يقع في الخطأ في وقت مّا، ويأمر على خلاف ما أمر به النبي فحينئذ: إمّا أن تجب إطاعته ومخالفة النبي، وهذا باطل قطعاً، وإمّا أن تجب إطاعة النبي ومخالفة الإمام، وهو مخالف لوجوب إطاعة كلّ واحدٍ منهما؛ لأنّ اللّه ساوى بينهما في الأمر بإطاعتهما، وإما أن تجب إطاعة كلّ واحدٍ منهما وهو محال وتكليف بما لايطاق، فلا يبقى إلّاالأمر الرابع وهو عصمة الإمام كالنبي، وعدم وقوع المخالفة بينهما.

وعلى هذا فنقول: فرق واضح بين إطاعة الإمام وإطاعة أمراء السرايا والحكام، فإن اللّه لم يساوِ بين إطاعتهم وإطاعة الإمام والنبي، وإنّما وجبت إطاعتهم بأمر النبي أو الإمام بتعيينهما إيّاهم لهذه المناصب؛ ولذا يجب أن يكون الإمام كالنبي معصوماً دون غيرهما من امراء السرايا والحكّام.

هذا بعض الأدلة التي اقيمت على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام من القرآن المجيد المصدر الأول للتشريع الإسلامي بتقرير منّا.

ص: 195

وهنا أيضاً أدلة كثيرة من السنّة التي هي المصدر الثاني للتشريع، نشير إلى طائفة منها:

فمنها: الأحاديث المتواترة المشهورة بين الفريقين بأحاديث الثقلين(1) وهذه الأحاديث على كثرتها وتواترها، وكثرة مُخرِجِيها ورواتها من الصحابة قد دلّت على عدم خلوّ الزمان من إمام معصوم عن الذنب والسهو والخطأ، وحصر طريق الأمن من الضلال والاختلاف بالتمسّك بالكتاب والعترة الهادية المعصومة.

ومنها: أحاديث السفينة(2) ، الدالة على أنّ «مثل أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».

وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على وجود إمامٍ معصومٍ من أهل البيت في جميع الأعصار.».

ص: 196


1- منها: ما أخرجه عبد بن حميد في مسنده، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض». إحياء الميت بفضائل أهل البيت: ج 7. ومنها: ما أخرجه أحمد في مسنده: ج 3 ص 17: «إنّي اوشكُ أن ادعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزّوجلّ، وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما».
2- أخرج هذه الأحاديث من أعلام العامة ما يربو على المائة عن جمع من الصحابة وألفاظها في بعض طرقها هكذا: «مَثَلُ أهل بيتي مَثَل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».

ومنها: أحاديث الأمان،(1) وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على عدم خلوّ الزمان من معصوم من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله يكون وجوده أماناً لأهل الأرض، والتمسّك به أماناً من الضلالة والاختلاف.

وقد أشبعنا الكلام حول هذه الأحاديث «أحاديث الثقلين»، و «أحاديث السفينة»، و «أحاديث الأمان» وإسنادها ومتونها ودلالتها في كتابنا «أمان الأمة من الضلال والاختلاف».

ولا يخفى عليك أنّ الأحاديث في عصمة النبي والإمام كثيرة جداً، والأحاديث المذكورة وإن لم تدلّ على عصمة النبي إلّاأ نّها بعد الدلالة على عصمة الإمام تدلّ على عصمة النبي بالطريق الأولى، وإنّما استشهدنا بهذه الأحاديث لتواترها وشهرتها بين الفريقين، ومن أراد أكثر من ذلك فليراجع الموسوعات والجوامع، كالكافي والبحار.

وقد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية عصمة النبي والإمام عن جميع المعاصي عمداً وخطأً وسهواً، وعن السهو والنسيان فيما يؤول إلى تبليغ أحكام اللّه تعالى، وشؤون الرسالة والإمامة، وأمّا العصمة عن الخطأ والنسيان والسهو في الاُمور العادية وترك الأولى لغير نبيّنا والأئمة عليهم السلام من الأنبياء الماضين فغير ثابتة، بل ربما يستظهر من بعض الآيات والأحاديث صدور هذه الاُمور من بعضهم، وهذا وإن كان قابلاً للتأويل إلّاأ نّه ليس في البحث عنه كثير فائدة؛ لأنّ مثل ذلك غير».

ص: 197


1- ولفظها في بعض طرقها هكذا: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف...».

مضرّ بشؤون رسالاتهم ومقاماتهم العلية الثابتة، وليس من الاُمور الاعتقادية التي تجب معرفتها، فيكفينا الإعتقاد في ذلك إن قيل بوجوب الاعتقاد فيه بما هو الواقع.

نعم، لمّا قلنا: إنّ العصمة هي أعلى مراتب حضور العبد عند مولاه، ونورانية نفسانية ملكوتية تذهب بكل الظلام، وتشرق كلّ وجود صاحبها فلا شكّ أنّ لهذه النورانية مراتبَ ودرجاتٍ أعلاها ما حصل لنبيّنا والأئمة عليهم السلام، وأدناها ما يصون الشخص عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الاشتباه والسهو والنسيان في أمر الرسالة وشؤونها، فعلى هذا يمكن أن يوجد في عظماء الأنبياء نورانية وعناية ربانية دائمة تصرفهم عن ترك الأولى، وتدفع عن قلبهم غطاء السهو و حجاب النسيان.

وأمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه و آله وأوصيائه وخلفائه الاثني عشر عليهم السلام فحيث إنّهم في أعلى مراتب القوة القدسية والنورانية الربانية، ولا تفوق رتبتهم في الحضور عند المولى والجلوس على بساط قربه واُنسه رتبة، فعدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصي في نهاية الوضوح، يظهر ذلك لكلّ من درس تاريخ حياتهم النورية وأخلاقهم الإلهية، وأدعيتهم ومناجاتهم، وخشيتهم من اللّه تعالى، وإنابتهم إليه وانقطاعهم عن الخلق.

فهم أكمل المظاهر لإخلاص العبد وترك الاشتغال بغير اللّه تعالى، لايصدرون إلّاعن أمره، كلّ أفعالهم محمودة مرضية، وكلّ حالاتهم حميدة شريفة، لاتؤثر فيهم الدواعي إلّاداعي اللّه، فكمال إخلاصهم يمنعهم عن الاعتناء بغير داعي اللّه تعالى، وعن الاشتغال بغير ذكره وامتثال أوامره ونواهيه، قد

ص: 198

خرقت أبصار قلوبهم حجب النور فوصلت إلى معدن العظمة، وصارت أرواحهم معلّقة بعزّ قدسه، جباههم ساجدة لعظمته، وعيونهم ساهرة في خدمته، ودموعهم سائلة من خشيته، وقلوبهم متعلّقة بمحبّته، وأفئدتهم منخلعة من مهابته، انقطعت همّتهم إليه، وانصرفت رغبتهم نحوه، لقاؤه قرة أعينهم، وقربه غاية سؤولهم. إذن فكيف يصدر ترك الأولى ممّن بعض شؤونه وحالاته ما سمعت؟! رزقنا اللّه تعالى محبتهم وولايتهم وشفاعتهم، وحشرنا في زمرتهم.

ولا يخفى عليك أنّ ترك الأولى ليس معناه ترك المستحبّ أو فعل المكروه فحسب، بل ربّما يكون بترك المستحب أو فعل المكروه، وربّما يكون بفعل المستحب وترك المكروه، والنبي والإمام أعلم بموارد ترك الأولى، فلا يجوز نسبة ترك الأولى إلى النبي والولي، بل إلى غيرهما من الفقهاء العارفين بأحكام اللّه تعالى، وموارد تزاحم المستحبات والمكروهات، بعضها من بعض، بمجرد ترك المستحب أو فعل المكروه، بل يمكن الاستدلال بفعلها على عدم كون هذا الفعل أو الترك مستحباً أو مكروهاً بقول مطلق، وإلّا لَما كان يصدر عنهم.

ثم إنّه قد بقي مطلب آخر، وهو: النظر في الآيات والأحاديث الذي تُوُهِّم منه عدم عصمة الأنبياء، ولئلّا يطول بنا المقام نحيل الباحثين إلى التفاسير المأثورة عن أهل بيت النبوة أعدال القرآن الكريم، وكتاب «تنزيه الأنبياء» و «الشافي» وتلخيصه، و «اللوامع الإلهية»، و «بحار الأنوار» وغيرها من كتب الكلام والحديث، ومجمل القول في الآيات: إنّها غير ظاهرة في عدم عصمة الأنبياء، ولو سلّم ظهور لبعضها يجب تأويله وحمله على المجاز، لدلالة هذه القرائن العقلية على عدم إرادة ظاهرها.

ص: 199

وأمّا الأحاديث فأكثرها من الإسرائيليات، ومخرَّجة في كتب العامة، فهي إمّا موضوعة لاسند لها ولا أصل، كخبر الغرانيق والإسرائيليات التي اخذت من اليهود، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه في قصص الاُمم الماضية وأنبيائهم، تجد فيها من الخرافات والأعاجيب ما تضحك له الثكلى. وإمّا ضعيفة السند لايعتمد عليها، سيّما في اصول الدين، ومعارضة بأحاديث اخرى صحيحة معتضدة بحكم العقل.

وبالجملة: فلا تجد في الأخبار ما يصحّ التعويل عليه، والركون إليه في نفي العصمة للأنبياء صلوات اللّه على نبينا وآله وعليهم أجمعين، واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 200

المبحث الثاني: في علم الإمام عليه السلام

وإليك سؤال السائل العزيز بلفظه:

هل يزداد علم الإمام المعصوم عليه السلام مع الأيام؟ وهل أنّ علمه عليه السلام بعد تولّيه الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد عليه السلام الذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

الجواب: قد عقد شيخ المحدّثين ثقة الإسلام الكليني رضى الله عنه في كتاب الحجة من الجامع الكافي أبواباً في علومهم، منها: «باب: لولا أنّ الأئمة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم».

وإبداء الرأي في هذه الأبواب لو لم نقل بكون بعضها من متشابهات كلامهم

ص: 201

وأسرارهم عليهم السلام موقوف على ملاحظة جميعها، وما فيها من الأحاديث، وردّ مجملها على مفصّلها، وظاهرها على صريحها، وملاحظة أسنادها، ثمّ شرحها وتفسيرها بما لايخالف اصول المذهب، كأفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الأئمة عليهم السلام، وأفضلية رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الجميع.

فلو فرض وجود حديث معتبر يدلّ بلازمه الخفيّ مثلاً على أفضلية بعض الأئمة عليهم السلام من أمير المؤمنين عليه السلام لا يحتجّ به؛ لأنّ المعلوم من ضرورة المذهب، وما يعرفه الخاصّ والعامّ من مذهب أهل البيت عليهم السلام، اتّفاقهم على أفضلية أميرالمؤمنين من غيره من الأئمة عليهم السلام.

فمثل هذا اللازم ليس المراد قطعاً، وهذه القرينة القطعية تكفي في تعيين المراد، وعدم اعتبار مثل هذه اللوازم بل الظواهر.

إذن إذا عرضت هذه الأحاديث على أهل الفن، وعلى من له أنس بأحاديثهم ومعرفة مذاهبهم لايعتني بمثل هذه الاحتمالات، كما أ نّك لاتحتمل إذا سمعت قائلاً يقول: «رأيت أسداً يرمي» أنّ مراده من الأسد هو الحيوان المفترس.

وبعد هذه المقدمة نقول: إنّ ازدياد علم الإمام المعصوم أمر ممكن معقول قد ورد في الأحاديث، ولاشكّ في أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام وإن عُلِّموا الأسماء كلّها، وأنّ الائمّة عليهم السلام عُلِّموا علم ما كان وما يكون(1) إلّاأنّه لا شكّ في أنّ علم2.

ص: 202


1- عقد في الكافي باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأ نّه لايخفى عليهم شيء» كما عقد باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي اخرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام»، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (الخطبة 175): «واللّهِ لو شئتَ أن اخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله؛ ألا وإنّي مُفضيه إلى الخاصّة ممّن يُؤمَن ذلك منه، والذي بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما أنطق إلّاصدقاً، وقد عهد إليَّ بذلك كلّه، وبمهلك مَن يهلك ومنجى مَن ينجو، ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئاً يمرّ على رأسي إلّاأفرغه في اذُنيَّ وأفضى به إلَيَّ» وقال عليه السلام (الخطبة 1): «فاسألوني قبل أن تفقدوني، فواللّه الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فتنة تهدي مائة وتضلّ مائة إلّاأنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحطّ رحالها، ومَن يُقتَل مِن أهلها ويموت منهم موتاً». نهج البلاغة، شرح محمدعبدة: ص 182.

الجميع عند علم اللّه ليس إلّاكما قال اللّه تعالى: [وَمَا اوتيتُم مِنَ العِلمِ إلَّاقَليلاً](1)؛ ولذا خاطب نبيه الذي علَّمه ما لم يكن يعلم وقال: [وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً](2).

فالإمام كالنبي في حركته الكمالية، وسيره الى اللّه تعالى لايقف على حدٍّ، كما أنّ السير إلى اللّه تعالى، في عين أ نّه في كلّ مرحلة من مراحله مرتبة من الوصول ونيل للمقصود، فإنّه لانهاية له، ولاينتهي إلى حدّ، ففي هذا المسير يسير الإمام دائماً إلى الأمام، ولايتساوى يوماه، بل كلّ يومٍ من أيامه أفضل من أمسه، وليس ابتداء هذا السير من حين الولادة الجسمانية، بل يبتدئ من حين وجوده النوري، ويستمرّ في العوالم والنشئآت التي يُسار به قبل هذا العالم، كما أنّ أمده لاينتهي بارتحاله من هذه الدنيا، ولعلّ سائر الناس من الصلحاء في عالم البرزخ4.

ص: 203


1- الإسراء: الآية 85.
2- طه: الآية 114.

كان هذا حالهم، لاينتهي سيرهم الكمالي بالموت العنصري، بل يمكن أن يكون الموت لهم بحسب صلاحياتهم وقابلياتهم مبدأً لمثل هذا السير، واللّه أعلم.

والحاصل: أنّ مثل هذا السير لازم لكل سالك إلى اللّه، ولانهاية له، فهو لايزال في حال الرجوع إلى اللّه تعالى: قال اللّه سبحانه: [إنَّا للّهِِ وَإنَّا إلَيهِ رَاجِعُونَ](1)، وقال تعالى: [أَلَا إلَى اللّهِ تَصيرُ الأُمُورُ](2). ولو فرض لسلوكه وسيره ورجوعه هذا انتهاء فلا دخل لطول حياته العنصرية، وقصرها فيه.

ولايخفى عليك أ نّا وإن عجزنا عن درك حقيقة هذا الشأن والعلوم التي تفاض على الإمام، إلّاأ نّه لاوجه لاستبعاد مثل هذا الشأن لهم وكم لهم من الشؤون بل ولغيرهم ممّا لاندرك حقيقته؟ ولكن نعرفه بآثاره ونلمسه بعينه.

إذن فلا دخل لتولّي الإمامة وعدمه في العلم الذي يزداده الإمام حتى يشكل الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد عليه السلام.

نعم، في العلوم المشار إليها بقوله سبحانه: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمَاءَ كُلَّهَا](3) وفيما هو من مؤهّلات الإمامة فإنّ الأئمة عليهم السلام سواء، لايتفاوت علمهم هذا بعد تولية الإمامة من قبلها، ولايزدادون فيه بتولّيهم.

وعلى هذا يدفع توهّم الإشكال في أفضلية الإمام علي عليه السلام من الإمام الجواد عليه السلام لتولّيه الإمامة في صغر سنّه؛ لعدم ثبوت أفضليّته على سائر الأئمة1.

ص: 204


1- البقرة: الآية 156.
2- الشورى: الآية 53.
3- البقرة: 31.

بذلك.

ومسألة تولِّي أمر الإمامة أمر إداري منظَّم يرجع إلى الحكم والإدارة، لاتنحصر شؤون الإمامة فيه، والإمام صاحب هذه الشؤون هو قبل تولّيه الإمامة كبعد تولِّيه، فمن جملة هذه الشؤون: حجّية أقواله وأفعاله في الأحكام الشرعية، والمعارف الإسلامية، فهذه ثابتة له مطلقاً، ولادخل لتولّيه الإمامة في ذلك.

فالإمام الحسن المجتبى عليه السلام إمام واُسوة، وأقواله وأفعاله وسيرته وهُداه حجّة يجب الأخذ بها، ويحرم ردّها في حياة أبيه وقبل تولِّيه الإمامة واُمور النظام.

كما أنّ الحسين عليه السلام أيضاً قبل تولِّيه الاُمور في عصر أبيه وعصر أخيه كان إماماً، كما نصّ على ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1). فهما إمامان حتى في عصر النبي صلى الله عليه و آله وفي صغر سنّهما.

والإمام عليّ عليه السلام أيضاً كان إماماً وولياً قبل تولِّيه الإمامة والولاية في عصر الرسالة أيضاً، ولاينافي ذلك كونه مأموراً بإطاعة النبي صلى الله عليه و آله، وكون النبي صلى الله عليه و آله متبوعاً ونبياً وحاكماً عليه، والإمام عليه السلام تابعاً له ومقتدياً به، وواحداً من امّته، ومستضيئاً من أنوار علومه، ومتَّبعاً لشريعته، وكون إمامة الإمام وسائر الأئمة عليهم السلام أيضاً جزءاً من شريعته ورسالاته.

ويدلّ على ذلك: الحديث الأول من «باب حالات الأئمة عليهم السلام في صغر السنّ» من كتاب الحجّة من الكافي، والحديث طويل أخرجه بإسناده عن1.

ص: 205


1- بحار الأنوار: ج 43 ص 291.

الكناسي، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام... - إلى أن قال: - فقلت: جعلت فداك، أكان علي عليه السلام حجة من اللّه ورسوله على هذه الأمة في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟ فقال:

«نعم يوم أقامه للناس ونصّبه علماً ودعاهم إلى ولايته، وأمرهم بطاعته»، قلت: وكانت طاعة علي عليه السلام واجبة على الناس في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبعد وفاته؟ فقال: «نعم، ولكنّه صمت فلم يتكلم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكانت الطاعة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله على امّته وعلى عليّ عليه السلام في حياة رسول اللّه، وكانت الطاعة من اللّه ومن رسوله على الناس كلّهم لعلي عليه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان علي عليه السلام حكيماً عالماً»(1).

ثمّ إنّ لنا كلاماً في المقام لابأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ أفضلية بعض الناس من بعض، وبعض الأنبياء من بعض، وبعض الأئمة من بعض إنّما تكون بقول مطلق في الصفات النفسية والخصائص الذاتية، والتخلّق بالأخلاق الإلهية إذا كان المفضل في كلّ هذه الكمالات أقوى وأفضل من غيره، أمّا في غيرها من الفضائل فربّما لايوجد من يكون باعتبار جميع العناوين والأوصاف أفضل من غيره؛ فإنّ الإمام علي عليه السلام أفضل من ابنيه سبطَي نبيّ الرحمة، من جهة: أ نّه ابن عم الرسول، وزوج البتول، وأبو السبطين، فليس لهما ابن عمّ كابن عمّ أبيهما، وزوجة كزوجته، وابنين كابنيه، وهما أفضل من الإمام عليه السلام من جهة: أنّ لهما أباً مثل الإمام، وجدّاً مثل الرسول صلى الله عليه و آله، واُمّاً مثل سيدة نساء العالمين، وليس للأمير عليه السلام هذه الفضائل، وجعفر الطيار الشهيد أفضل من أخيه الإمام، من جهة:2.

ص: 206


1- الكافي: ج 1 ص 382.

أنّ له أخاً كالإمام، وليس للإمام أخٌ كأخِ جعفر رضى الله عنه.

ومسألة تولّي الإمام الجواد عليه السلام الإمامة في صغر السنّ فضيلة، وإن شئت قل: أفضليّةٌ من هذا القبيل، فالإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام استشهد وابنه الإمام الجواد عليه السلام في صغر السنّ لابدّ له من تولّي الإمامة بعد أبيه، وقيامه مقامه؛ لأنّه وسائر الأئمة عليهم السلام في مؤهّلات تولّي الأمر في حال صغرهم وكبرهم سواء.

ومن هنا يعلم أنّ نبوة عيسى ويحيى في صغرهما وكونهما صبيَّين لايدلّ على أفضليتهما من غيرهما من الأنبياء؛ لأنّ نبوتهما في حال الصغر ليس لأنّهما استأهلا لذلك وغيرهما ممّن صار نبياً بعد ما بلغ أشُدَّه لم يستأهل لذلك في حال الصغر، بل ربّما ذلك كان لحكمة ومصلحة اقتضت ذلك فيهما، وتلك في غيرها، فبقاء النبي في القوم أربعين سنة، وظهور صدقه وأمانته، ومكارم أخلاقه في الناس ربّما كان هو المصلحة الموجبة لتأخّر بعثه ومأموريته للدعوة إلى اللّه تعالى، كما ربّما يكون ذلك لحصول الاستعداد اللازم في الناس لقبول الإسلام، وغير ذلك من المصالح التي لايعلمها إلّااللّه والراسخون في العلم [اللّهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ](1).4.

ص: 207


1- الأنعام: الآية 124.

ص: 208

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الأئمة عليهم السلام في الإيمان والعلم والأخلاق

قال السائل المحترم زاد اللّه في سداده ورشاده: كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمة عليهم السلام إيماناً وعلماً وخُلُقاً؟ وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم.

أقول: إن كان المراد من المستويات: مقوّمات الأهلية للإمامة، وتولّي الزعامة والقيادة فكل واحد منهم عليهم السلام واجد لتلك المرتبة، وإن كان المراد اختلاف مستوياتهم في الزائد على هذه المرتبة فالذي دلّ عليه الدليل هو أفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الأئمة ومن أنبياء السلف على نبيّنا وآله وعليهم السلام.

ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ مولانا المهدي عليه السلام - وهو تاسع الأئمة من

ص: 209

ذرّية الحسين عليه السلام - أفضل التسعة عليهم السلام كما أنّ الأحاديث الكثيرة دلّت على أ نّه عليه السلام يؤمّ عيسى بن مريم وعيسى يقتدي به صريحة في أفضليّته من عيسى على نبينا وآله وعليه السلام.

وإن كان المراد: أنّ سيرهم التاريخية دلّت على اختلاف مستوياتهم فنقول:

اولاً: إنّ سيرهم التاريخية إنّما دلّت على علوِّ مستوى أرباب هذه السيرة، ولم نجد فيها ما يدلّ على اختلاف مستوياتهم، ومجرّد عدم حفظ التاريخ سيرة بعضهم، وما صدر عنه من العلوم لايدلّ على أنّ مستوى غيره ممّن حفظ عنه التاريخ ذلك كان أرفع وأعلى منه، لاسيّما مع ما نعلم بأنّ السبب الوحيد في عدم حفظ ما صدر عن بعض الأئمة عليهم السلام مثل الإمامين السبطين عليهما السلام إلّاالنزر اليسير، هو السياسات الغاشمة الجبارة الحاكمة على المسلمين.

وإن شئت أن تعرف أفاعيل السياسة في ذلك، والخسارات العلمية التي منيت بها هذه الاُمّة من أرباب هذه السياسات، التي حرمت الناس حرياتهم في أخذ العلوم الإسلامية من منابعها الأصلية ومصادرها الأولية راجع كتب التاريخ، وكتاب «النصائح الكافية»، وكتابنا «أمان الاُمّة».

نعم، مرّت على هذه الاُمّة أزمنة كان أخذ العلم عن أهل البيت عليهم السلام وروايته من أعظم الجرائم السياسية، يُعذَّب مُحِبُّوهم وشيعتهم شرَّ تعذيب، ويُنكَّل بهم أشدّ التنكيل، يُقطِّعون أيديهم وألسنتهم، ويقتلونهم شرّ قتلة، ويسبّون بطل الإسلام ونفس الرسول وباب علمه وخليفته ووصيّه على المنابر، التي لم تقم في

ص: 210

الإسلام إلّابمجاهداته وتضحياته وبطولاته.

ففي هذه الظروف والأحوال لم تسمح الفرص لبعض الأئمة عليه السلام القيام ببثِّ العلم كما سمحت للبعض الآخر مثل الإمام الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام، ومع ذلك فما في أيدينا منهم يكفي في الدلالة على علومهم اللدُنِّية، وأنّ مستوى كلّ واحد منهم في الإيمان والعلم والأخلاق أعلى المستويات، وأ نّهم خُزّان العلم، ومعادن الإيمان، وينابيع الحكم، وكنوز الرحمن، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، وعلم كلّ واحد منهم علم الجميع.

فهذا الإمام جعفر الصادق عليه السلام قد أخذ العلم منه جماعة يربو عددهم على أربعة آلاف رجل، حتّى أنّ الحافظ الشهير ابن عقدة (المتوفّى سنة 333 ه) صنّف كتاباً في أسماء الرجال الذين رووا عنه أربعة آلاف رجل، وأخرج لكلّ رجل حديثاً وعلماً رواه عن الصادق عليه السلام، وله أيضاً كتاب من روى عن أمير المؤمنين، وكتاب من روى عن الحسن والحسين عليهم السلام، وكتاب من روى عن علي بن الحسين عليه السلام، وكتاب من روى عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، وهو الذي قال في مجلس مناظرة له:

إنّه يجيب بثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت عليهم السلام.

ومَن سَبر غور كتب الحديث، واُصول الشيعة، وكتب التراجم والرجال، وما بقي ممّا صدر عنهم في الأجواء المملوءة بالاضطهاد والضغط والقمع، في جميع حاجات الإنسان المعنوية والمادية يعرف أنّ مستواهم في جميع الكمالات أعلى وأنبل من أن يُقاس إليهم أحد من الناس، جعلنا اللّه تعالى من

ص: 211

شيعتهم، ووفّقنا لمتابعتهم، والاقتداء بهم، والمنتظرين لفرج قائمهم، وصلّى اللّه على محمدٍ وآله الطاهرين.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ليلة السابع عشر من رجب المرجب سنة 1403 ه. ق.

ص: 212

إيران تسمع وتُجيب

اشارة

ص: 213

ص: 214

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

إنّ رسالة «إيران تسمع فتجيب» ردّ على مزاعم كاتب وهّابيّ مغرض، كان هذا الكاتب الذي يدعى «ابوالحسن ندوي هندي» قد زار إيران في عهد حكومة الطاغوت على رأس وفد من عربستان، حيث اجتمع المذكور بعدد من الطاغوتيّين وبشخصيات علميّة ودينيّة، كما زار بعضاً من المساجد والمدارس التي ارتأى له رجال الأمن زيارتها. وعندما رجع ندوي هذا إلى بلاده، كتب رسالة تحت عنوان «إسمعي يا إيران» راح فيها يأخذ بعض المآخذ غير الصحيحة ويورد الاتّهامات الفاسدة على الشعب المسلم في إيران.

وكتاب «إيران تسمع فتجيب» ردّ على التساؤلات والاعتراضات التي يشير إليها هذا الوهّابي، ممّا يكشف بوضوح سياسة الوهّابيّين الاستعمارية، وجواب عالم الإسلام عليها.

إنّ من المسائل المؤسفة التي يذكرها هذا الكاتب الوهّابي هو: لماذا يجهل

ص: 215

الناس في إيران موضع قبر طاغوت كبير مثل هارون الرشيد بحيث أنّ أحداً لم يستطع أن يدلّنا عليه.

إنّنا بإعادة نشر هذه الرسالة نستهدف القضاء على جذور أمثال هذه الاعتراضات والافتراءات الّتي لا تستند إلّاعلى التعرّض وسوء النيّة.

ص: 216

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، وأفضل صلواته وأزكى تحياته على خير خلقه، محمدٍ وعترته الأطهار، ما تعاقب الليل والنهار.

وبعد، فقد قال عزّ من قائل في محكم كتابه الكريم ومبرم خطابه العظيم:

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا](1)، و [اِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقْدامَكُم](2).

لا ريب أنّ الشعوب الإسلامية بحاجة ملحّة إلى استعادة شخصيتها الإسلامية، وتنمية الإحساس بالإسلام، وبتوجيهاته السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية، وإلى أن تقف موقفاً حاسماً أمام التيّارات المدمّرة الملحدة الوافدة من خارج العالم الإسلامي؛ كي لا يجد المستعمر مجالاً لزرع7.

ص: 217


1- آل عمران: الآية 103.
2- محمّد صلى الله عليه و آله: الآية 7.

الأفكار الإلحادية الهدّامة كالصهيونية والشيوعية.

فالمسلمون يواجهون في عقر دورهم، وفي بلادهم، وفي نواديهم ومجتمعاتهم وجامعاتهم وشوارعهم وأسواقهم ومجلّاتهم وجرائدهم جاهليات كثيرة: جاهلية العصر الحاضر، جاهلية القرن، جاهلية الشرق، جاهلية الغرب، جاهلية الرأسمالية والإمبريالية، جاهلية الشيوعية والماركسية...، وجاهليات هي ليست أقلّ خطراً من الجاهلية الاُولى إن لم تكن أخطر.

فحاضر المسلمين في مظاهرهم وظواهرهم، وفي ملابسهم، وفي مطبوعاتهم، وفي إذاعاتهم، وفي أفلام سينماءاتهم يدلّ على أ نّهم أصبحوا بعيدين كلّ البعد عن الإسلام شكلاً ومضموناً.

أمّا شكلاً فيلاحظذلك في عاداتهم، وآدابهم، وأزيائهم، ومخالطاتهم، ومعاشراتهم.

وأمّا مضموناً فيلاحظ ذلك في قوانينهم وبرامجهم وأنظمتهم؛ إذ أنّ أكثر الجماعات الإسلامية اتخذت العلمانية مبدأً رسمياً وعملياً لها، فمن لم يتّخذها رسمياً اتخذها عملياً، فنبذوا الإسلام واُصوله ومبانيه وتعاليمه السامية، وعزلوه عن إدارة المجتمع، وأصبح المثل الأعلى للمسلمين والهمّ الأكبر لهم رجالاً ونساءً، هو مسايرة ركب الحضارة الغربية أو الشرقية ومتابعتها...، وأكثر ما يتجلّى ذلك في نداءات الكثير من قادتهم ومثقّفيهم وكُتّابهم بضرورة الأخذ بتلك الحضارات المليئة بالمضارّ والمفاسد والشرور واتّباعها.

ومن المحزن والمخزي أنّ العامّة من الناس تستجيب لهذه النداءات

ص: 218

المغرية، والدعوات الخلّابة، وهي لا تعلم خلفياتها وحقيقتها وما تنطوي عليه، معتقدة بكلّ صدق وإخلاص وبراءةٍ أنّ هؤلاء الجهلة المأجورين يعالجون أدواءهم، فأصبحت لذلك مناهج التربية والتعليم، ووسائل الثقافة والإعلام، متأثرة بهذا الدواء (السُمّ المعسول).

وبذلك تحقّقت امنية أعداء الدين الإسلامي والاُمّة الإسلامية، حيث كتب أحد المبشّرين (لقد قضينا على برامج التعليم في الأفكار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام، ومن ثمّ أخرجنا الشُبّان المسلمين من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحقّ. والواقع أنّ القضاء على الإسلام في مدارس المسلمين هو أكبر واسطة للتبشير، وقد جئنا بأعظم الثمرات المرجوّة منه)(1).

ففي سبيل إجهاض تلك الحملات الإلحادية الهدّامة - التي إن لم تهدّد كيان الإسلام عقيدة ونظاماً، فإنها تهدد كيان الفرد المسلم - يتحتّم على كلّ مسلم أن يضطلع بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه، والتي لايرضى اللّه تعالى بالاستخفاف والاستهانة بها.

وإذا لم تُجابَه أساليب الاستعمار لدفعها عن وطننا الإسلامي وإبعادها عن أراضينا، ومحو آثارها من اقتصادياتنا، وتعطيل انعكاساتها على حكوماتنا ومدارسنا وكلّياتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية الاُخرى فلايمكننا بأيّ شكل أو سبيل بناء صرح إسلامي جديد.5.

ص: 219


1- حضارة الإسلام: العدد (14)، ص 103، س 15.

لذلك فإنّنا نقول: إنّ حجر الأساس في تحقيق هذه الأهداف هو التمسّك بحبل اللّه، والاعتصام به وبأحكامه وشرعه ومنهاجه القويم، والعمل لتحكيم النظام الإسلامي في جميع نواحي حياتنا المادية والمعنوية، واجتماع المسلمين على صعيد واحد، تحت لواء واحد، وفي وطن واحد، وفي ظلّ سلطان اللّه وسلطان حكمه، وتطبيق الكتاب والسنّة، في جميع المظاهر والظواهر.

وهذا يتطلّب تيقّظاً أكثر، ووعياً أوفر، واتحاداً أوثق، واتفاقاً أضمن، ومجالاً أوسع، وأفراداً صلحاء أنور ضميراً، وأوضح تفكيراً.

ونكاد لانجد مسلماً - شيعياً أو سنّياً - لايرى ضرورة اتحاد الكلمة وتحقيق الوحدة الإسلامية، وحدةٍ تشمل الجماهير المفترقة، والجماعات المتفرقة في ظلّ حكومات مسمّاة بأسماء ليست من الإسلام في شيء، وحدة تعم جميع الفرق والمذاهب، ليعيشوا في ظلّها إخواناً يشدّ بعضهم أزر بعض، ويكونوا كالجسد الواحد، إذا شكا منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

معوِّقات وحدة الكلمة:

كان المانع من تحقيق هذا الهدف المقدّس إلى الآن هو الاستعمار الحربي والعسكري، أو الاقتصادي أو الثقافي ومن ثمّ حبّ الدنيا والمال والجاه، وعدم تقيّد أغلب الرؤساء والاُمراء والملوك والحكّام بنظم الإسلام، وعدم مراعاتهم لمصالحه. وبذلك فرّقوا المسلمين وجعلوهم شيعاً، واختلقوا في كلّ قطر وبلد

ص: 220

حكومة، إن لم نقل: إنّها اسّست في الأصل لمصلحة الاستعمار، فبالإمكان القول: إنها اسّست على قاعدة تجعل لكلّ حكومة سياسة خاصة وأهدافاً مستقلّة، لاينتفع بها الإسلام والمسلمون، اللهمّ سوى الطغمة الحاكمة في تلك المنطقة. والاستعمار بعد ذلك هو المستفيد الوحيد من هذه التفرقة تمام الفائدة، بل إنّه يرى بقاءه في وطننا الإسلامي الكبير منوطاً بهذه التفرقة، مع أنّ الإسلام يؤكد على ضرورة أن يكون لجميع المسلمين، بل لجميع أبناء البشر سياسة موحّدة وحكومة واحدة تحفظ جميع سكان الأرض، شرقها وغربها، إذ يقول اللّه تعالى: [إنَّ هذِهِ امّتُكُم امَّةً واحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدونِ](1).

وهناك مانع آخر كان له فيما مضى أثر كبير في ضعف المسلمين وتفريق كلمتهم، حتى وصل بهم الأمر، إلى رمي بعضهم البعض بالكفر والشرك، ألا وهو النفاق واللجاج والعناد والتعصّب الأعمى والقبلية!

فالباحث في التاريخ الإسلامي يقرأ الكثير عن الحروب الدامية والغزوات المدمِّرة، التي راح ضحيّتها جماعات من المسلمين، إثر البحوث الكلامية بين الأشاعرة والمعتزلة، والخلافات الشديدة بين معتنقي المذاهب الأربعة، والعصبيات التي قضت على حرية التفكير الشيعي، وحالت دون أخذ التفسير والفقه وسائر العلوم الإسلامية عن أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.2.

ص: 221


1- الأنبياء: الآية 92.

وباؤوا خُسراناً:

ولكن هذا المانع أصبح ضعيفاً في عصرنا هذا بفضل المصلحين، وانبثق فجر جديد في تاريخ المسلمين، لايفكّر فيه المسلم - الشيعي أو السنّي - بكيفية الوقوف بوجه أخيه، بل أصبح على العكس من ذلك، يفكر بكيفية القيام إلى جنبه أو وراءه؛ لعونه ونصرته ومؤازرته.

فالعالم الإسلامي قد تحرك وانتفض وانتبه واستيقظ من رقدته، وأخذ يسير في طريق انتشال حقّه وانتزاعه. فهذه النهضات الإسلامية في جميع البلاد قد أعيت السلطات التي ابتُدعت واُوجدت لحفظ منافع الأعداء ومصالحهم، والقضاء على المناهج الإسلامية السامية، والبرامج الدينية الرفيعة، وكذلك الحركات التي تطالب بالرجوع إلى أحكام الإسلام ابتدأت تقطف ثمار النصر والنجاح، ففي تركيا - مثلاً - تشكّلت وزارة ائتلافية بمنتهى الغرابة من حزب الشعب الجمهوري ذي الميول العلمانية، ومن حزب الإنقاذ الوطني ذي الاتجاهات الدينية المحافظة والذي يتزعّمه نجم الدين أربكان، ويدعو أربكان إلى مكافحة الميوعة ومحاربة تردّي الأخلاق، كما يبدو في أحاديثه وتصريحاته حنين إلى الإمبراطورية العثمانية، وقد وافق أجاويد زعيم حزب الشعب على امور طالبه بها شريكه في الحكم، منها إعادة فتح المدارس الثانوية، وتدريس الأخلاق في الكلّيات، وغير ذلك(1).

ص: 222


1- حضارة الإسلام: العدد (1) ص 104، س 15.

واجب العلماء والمصلحين:

بعد هذا العرض للمشاكل الإسلامية المعاصرة يطرح السؤال التالي نفسه:

ما هو واجب العلماء والمصلحين في هذه الأدوار؟ وما الذي يجب عليهم أن يقوموا به لبناء المجتمع الإسلامي الصحيح؟

والإجابة على هذا تنحصر في النقاط التالية:

1 - يجب على العلماء والقادة تشجيع الجماهير الإسلامية، ولاسيّما الشباب منهم على الاتجاهات الدينية، والتمسّك بالآداب والسنن الإسلامية، ورفض العادات الأجنبية، وتحذيرهم من مكائد الاستعمار وشراك الإلحاد الصهيوني والتبشيري والشيوعي، ونهيهم عن التفرق والتشتت والتمزق والاستبداد، وعن الركون إلى دعاة الكفر والضلال، قال اللّه تعالى [يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوُا لَاتَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالْنَّصَارَى أوْليَاءَ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّهُ

ص: 223

مِنْهُمْ إنَّ اللّهَ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين](1).

وقال عزّ من قائل [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤمِنْونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آباءَهُمْ اوْ أَبْناءَهُم أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشيرَتَهُمْ اولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيِمانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ](2).

2 - على العلماء العاملين أن يعلنوا بطلان أي منهج وسياسة وقيادة ونظام، غير الإسلام؛ فإنّ الحكم لِلّه وحده، أمر أن لا يُعبد ولا يطاع غيره، ولا يُحكَم إلّا بحكمه [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ](3).

3 - على العلماء والقادة المصلحين إنشاء جمعيات من ذوي العزائم، المخلصين والغيارى على الإسلام وكتابه وسنّته؛ لتقوم بمهمّة الصلة بين الجماعات المسلمة في شتى الأقطار، وتؤيد الحركات الدينية المؤيدة بنصٍّ من كتاب أو سنّة أو زعيم ديني، والمنبثقة من الجماهير، ولاسيما من الشباب والطلاب والطبقة المثقفة الواعية، وتوفد إلى البلاد المعتنقة للدين الإسلامي من يطّلع على شؤونهم، ويدرس مستواهم الثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي والحكومي، ويدرك مشاكلهم ومتطلّباتهم وحاجاتهم المعنوية والمادية، وما يعانونه من الأعداء، وأنّهم لو غفلوا أو تغافلوا عن ذلك خسروا كيانهم ومجدهم ودينهم ودنياهم وتجارتهم وأخلاقهم.4.

ص: 224


1- المائدة: الآية 54.
2- المجادلة: الآية 22.
3- المائدة: الآية 44.

رابطة العالم الإسلامي

إنّ رابطة العالم الإسلامي لهي في مكة المكرمة، قبلة المسلمين، والبلد الحرام الذي يؤمّه مئات الآلاف من الحجيج في كلّ عام، يأتون من كلّ فجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم اللّه أيّاماً معلومات، هذا البلد الأمين مَشرَق شمسِ نبوة سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والمدينة المنورة مهجره وحرمه ومرقده، وحسبنا مكة والمدينة بما ترمزان إليه؛ لتكونا رابطةً للعالم الإسلامي.

وحسبنا هذا الحجيج رابطةً تربط جميع أقطار العالم الإسلامي بعضها ببعض، فالحج أكبر وأعظم مظهر من مظاهر وحدة الاُمّة، وأنّ الجميع من العرب والعجم والبيض والسود، والفقراء والأغنياء، والقادة والسَوَقة امة واحدة في رحاب اللّه.

اسِّست في هذا البلد الطيب المبارك رابطة العالم الإسلامي وظن الكثير أ نّها اسّست لتكون اسماً ومسمّىً كذلك إن شاء اللّه تعالى، وقد تركت في نفوس

ص: 225

المسلمين وخاصّةً الشباب أثراً كبيراً.

وكان المأمول في هذه الرابطة الدفاع عن مصالح المسلمين، وتشجيعهم في ميادين العمل ضد الاستعمار، ووضعهم في مصافّ الحركات التحررية والتقدمية، وتوثيق عُرى الاُخوّة، والتجاوب والتعايش والتفاهم بين المسلمين، وأن تكون انشودة هذا الجيل الحائر المتخبّط في الاضطرابات الفكرية والاصطدامات العلمية، وأن تأخذ بأيدي الفتيان والفتيات الجامعيين والجامعيات؛ لئلا يسقطوا في مهاوي اليأس والشقاء، والخلاعة والفحشاء، والميوعة والدعارة والإلحاد.

وقد كتبتُ قبل سنتين أو أكثر مقالاً، عرضت فيه على تلك الرابطة بعض ما ينبغي أو يجب أن تقوم به في البلدان الإسلامية، وأشرتُ إلى ضرورة تشجيع النشاط الديني ومكافحة الأساليب الكافرة، وكان أملي وطيداً أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، ولا أدري هل وصل مقالي إليها أم لم يصل، ولعلّ المسؤولين لم يروا مصلحة لهم في نشره في مجلّتهم أو صحفهم.

وعلى أية حالٍ فالرابطة بدأت مهمّتها، وجعلت نفسها في غير موضعها، وأخذت تؤيّد الحكومة السعودية الّتي أنشأها الإستعمار، وكانت ولا تزال في حضانته، يعرفها بهذه الخصّيصة المسلمون وغيرهم. لقد أحيت هذه الحكومةُ الملوكيّة الخبيثة، وسمّت نفسها وبلاد الحرمين الشريفين بالسعودية؛ لتكون رمزاً لمقاصدها المفرّقة، واختصاص الحكم بعائلة خاصّة. فأخذت الرابطة تؤيّد الإستعمار بتأييدها هذه الحكومة، وبدعاياتها الوهّابية التي هي كالأساس لهذه الحكومة وأهدافها الاستعمارية.

ص: 226

ولو كانت الرابطة تقوم بمهمتها سليمةً بعيدةً عن النزعات الاستعمارية والطائفية لكان موقفها غير موقفها الحالي، ومسيرها غير هذا المسير. ولو أراد أعضاؤها والقائمون بأمرها خدمة الإسلام لوجب عليهم أن ينزِّهوا الرابطة عن الدعاية للمستكبرين الذين استضعفوا عباد اللّه، وجعلوهم خُوَلاً، كما جعلوا مال اللّه دُوَلاً، كما وجب عليهم القيام بانتخاب أعضاء صالحين مصلحين مخلصين، غيارى على الإسلام، عالمين بحاضر العالم الإسلامي وبالأسباب والعوامل التي أدّت إلى ضعف المسلمين وتخلّفهم عن مواكبة ركب الحضارة الصناعية؛ ليدركوا حقائق ما يجري في كلّ منطقة، ويرشدوا ويوجّهوا كلّ شعب إلى سبل القضاء على سيطرة الأجانب وأساليبهم الكافرة، ويتجنّبوا ما يورث التفرق بين الأفراد والجماعات، والاختلاف في الآراء المذهبية وتكرارها في صحفهم ومجلّاتهم، وعلى لسان وفودهم إلى الأقطار.

فالجيل الحاضر لايكاد يقبل هذه العصبيات المذهبية، وهو يرى أنّ الاُصول الأولية الجامعة للمسلمين والمقوّية لكيانهم أصبحت معرّضة لخطر الإلحاد وأفكاره الهدّامة، بالإضافة إلى أنّ ذلك يزيد البلاء والمرض، ويورث عصبيات غيرهم وحساسياتهم، ويدعو إلى الظنّ بهذه الجمعية التي نودّ أن تقف في وجه عملاء الاستعمار، وتعمل لتحرير بلاد الإسلام من سلطة الحكومات العميلة.

ص: 227

الإيفاد:

لقد أوفدت جمعية رابطة العالم الإسلامي ممثّلين وهيئات إلى البلدان الإسلامية، وهذا عمل كبير، وكلّما كان الوفد أوسع فكراً وأبعد نظراً وأكثر تجنباً للعصبيات المذهبية، وأعرف بواقع العالم الإسلامي ومشاكله، وأكثر إخلاصاً كانت ثمراته أكثر ومنافعه أوفر، وبالعكس تماماً لو كان الوفد غير خبير، ومتحيِّزاً لفئة دون غيرها، ناظراً إلى العالم الإسلامي وجماهيره بمنظار مذهبه الشخصي ورأيه السياسي، غير عابئ بالمسائل العامة التي اتفقت عليها آراء جميع الفرق فإنّه لا يعود إلّابالضرر والفشل والتنازع المنهيّ عنه في الكتاب العزيز.

ص: 228

وما أدراك ما ايران:

إيران، وما أدراك ما إيران؟ إيران المجاهدة، إيران الصامدة في وجه الاستعمار بفضل نضال شعبها وعلمائها المجاهدين، إيران التي أنجبت للإسلام والمسلمين علماء أعلاماً ورجالاً عباقرة، وكتّاباً ومحدّثين، وفلاسفة ومتكلّمين وغيرهم، إيران التي كانت ولاتزال محطّاً لنظر الاستعماربكل صوره وأشكاله، والتي حاول بكلّ جهده القضاء على كيانها الإسلامي وروحيتها المؤمنة، ولم ينجح - والحمدِ للّه - كما نجح في بعض البلاد. إيران التي بقي شعبها ملتزماً بالمظاهر الإسلامية والأحكام الدينية، إلّامن فُتِن منهم بالأساليب الغربية والدعايات الفارغة الكاذبة المضلِّلة.

إيران؛ وما أدراك ما إيران؟ إيران التي ضحّت وتضحّي كلّ يوم في سبيل الدفاع عن الإسلام وأحكام القرآن، لقد ضحّى علماؤها الأعلام وطلبة العلوم الإسلامية والعصرية، المؤمنون باللّه ورسوله، المتمسكون بمبادئ الإسلام، المطالبون بتطبيق أحكام القرآن، فزُجّوا في السجون، واُبعدوا عن الأوطان،

ص: 229

وعُرِّضوا لأنواع التعذيب الروحي والجسمي.

إيران؛ وما أدراك ما إيران؟ إيران التي اتخذت حكومتها العلمانية (عملياً لا رسمياً) أساس مناهجها وبرامجها: فصل الدين عن السياسة والدولة والقضاء والتربية والتعليم والاقتصاد والعمران، كأكثر البلاد الإسلامية.

ص: 230

اسمعي يا إيران!:

زار إيران وفد الرابطة برئاسة الاُستاذ أبي الحسن الندوي، وبعد الزيارة كتب الاُستاذ المذكور رسالة تحت عنوان «إسمعي يا إيران»، آخَذَ فيها على الشعب الإيراني زيارته لمشهد الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام ومشهد اخته السيدة فاطمة عليها السلام، وزعم أنّ عناية الشعب بالمساجد هي أقلّ من عنايته بالمشاهد، وأنّ المشاهد المشرّفة أكثر عمراناً وأشدّ ازدحاماً، وأنّ كثيراً منها تشكو قلّة المصلّين.

وآخَذَ فيها على شعب إيران وجود صورة النبي صلى الله عليه و آله وصورة أمير المؤمنين علي عليه السلام بكثرة في المساجد والبيوت، وقال: قد رأينا ذلك، وعزّ علينا في مسجد سبهسالار وبعض المساجد والبيوت، وعَدَّ ذلك من الذرائع إلى الشرك.

كما آخَذَ على الشعب الإيراني المسلم حبّه الشديد لأهل البيت عليهم السلام، وخشي أن يكون قد اخذ الشيء الكثير من حق النبوة، حيث قال: «أخشى أن

ص: 231

تكون قد جُعلت الإمامة منافسة للنبوة، ومشاركة لها في كثير من الصفات...»، إلى أن ساق الكلام إلى التقريب، وزعم أنّ الشيعي لايطلب ذلك بالقلب، ولايبسط في سبيل ذلك يده، وطلب من الشيعة إذا أرادوا التقريب تغيير نظرهم في صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وفي أزواجه امّهات المؤمنين، كما حمل على الشيعة بالتلويح في مطاوي كلامه في أكثر من موضع.

ص: 232

مهمات الرابطة:

هذا بعض ما في رسالته ممّا له مساس بالشؤون الإسلامية، وهو بهذا لم يأتِبجديد، فهذه امور طُرِحت من قبلُ واستوفت حقوقها من الجدل والكلام.

ومع هذا نختصر الحديث، ونقول:

إنّ إيران تسمع فتجيب:

أمّا مسألة زيارة القبور والمشاهد التي أثارها في رسالته فإنّها ليست مسألة جديدة تنبَّه لها الاُستاذ الندوي وحده، بل هي من المسائل التي طال البحث والنقاش حولها، فحرّمها فريق خاصّ بلا دليل أو برهان أو شاهد من كتاب أو سنة! وجوّزها الآخرون استناداً إلى الكتاب والسنّة، واتضح الحق بما لامزيد عليه. وقد ا لِّفت في ذلك مئات من الكتب، وكتبت مقالات حولها، واُريقت دماء محترمة بسبب التعصّب في هذه المسألة، وقد خرجت بعد كلّ هذا من معرض التفكير، وإذا ما فكر فيها اليوم مسلم فإنّما يفكّر لمعرفة الواقع والحقيقة فقط،

ص: 233

لالإثارة النقاش والجدل...

وكأنّ الاُستاذ النَدَوي قد زعم وتصور أنّ جمعية الرابطة حينما تشكّلت في مكة المكرمة إنّما تشكّلت لدعم المذهب الوهّابي فحسب، فلم يلفت نظرها الواقع الإسلامي المعاصر، وما يهدّد أحكام الإسلام والمجتمعات الإسلامية من هجمة تقاليد الاستعمار الثقافي الشرقي والغربي، ومن أساليب خداع الشباب، وإبعادهم عن تعاليم دينهم وتقاليد بلادهم التي يكمن فيها الخطر كلّ الخطر على المسلمين. فكأني بالاُستاذ الندوي يرى أنّه ليس في أهداف الرابطة ومشاريعها التدخل في هذه الاُمور، فلايؤاخذ ولايقول شيئاً عمّا جنت أيدي الحكومات على الإسلام والمسلمين، من استبدال المناهج التربوية والبرامج التعليمية الإسلامية بالبرامج الكافرة، في المعاهد والكلّيات والجامعات، ولايشكو من القوانين التي توضع وتطبّق كلّ يوم رغم أنف الشعوب الإسلامية (الشيعة والسنّة) في جميع مرافق الحكومة، وفي الإدارة والقضاء والمجتمع والجيش، وحتى في الأوقاف والمستشفيات وغيرها. وكذلك لايشكو من إلغاء النظام الإسلامي الذي يؤمن به كلّ مسلم شيعياً كان أو سنّياً.

للضيافة الأحكام!!

نعم، لايشكو من ذلك، لأنّه كان في ضيافة مديرية الأوقاف التي لم تؤسّس في إيران إلّاللقضاء على نفوذ رجال الدين والعلماء الأفاضل، وللسيطرة على المساجد ومراقبتها؛ لئلّا تكون مراكز للثقافة والإرشاد والأمر بالمعروف

ص: 234

والنهي عن المنكر؛ كي لا يعترض أحد على أحد، لاسيّما على أرباب المناصب، فلايقال للمسؤول في أية رتبة كان: لِمَ فعلت أو ارتكبت هذا المنكر أو ذاك؟ ولِمَ تجاوزت حدود اللّه والشرع؟ لماذا تصنعون التماثيل وتنصبونها في الميادين وغيرها وتعظّمونها مع أنّ هذا أشدّ نكراً وضرراً من عبادة الأوثان؟ إذ أنّ عبادة الأوثان لاتزيد في طغيان هذه الأوثان واستبدادها أو تكبّرها وغيّها، بينما تعظيم تماثيل الاُمراء والقوّاد يزيد في جبروتهم، ويشجعهم على التمادي في الغيّ والاستبداد والظلم.

لم يسأل الشيخ الندوي مضيِّفه مدير الأوقاف - الذي احتفى به وأكرم ضيافته - عن المساجد الكبيرة القديمة الأثرية في إيران، كمسجد الشاه، ومسجد الشيخ لطف اللّه، والجامع العتيق في إصفهان وشيراز وغيرهما من المدن الإيرانية. لم يسأله: لماذا تسمح الحكومة وأجهزتها بدخول السافرات العاريات إلى بيوت اللّه، وفي هذا هتك لحرمتها؟!

لماذا لم يلفت سفور النساء وأزيائهنّ المخزية، والمؤسّسات الربوية التي تزداد وتتضاعف يوماً فيوماً نظر الشيخ الندوي ولم يعترض على مضيّفيه؟

لماذا لم يسأل مدير الأوقاف عن سبب تشجيع الحكومة للحركات التي هي في محصّلتها النهائية محاربة للإسلام ومحاولة للقضاء عليه؟!

لماذا لم يؤاخذ عليه الأفلام السينمائية التي تفسد الأخلاق وتسوق الشباب إلى هاوية الفحشاء ومهاوي الفساد؟ لماذا لم ينصح أحداً في هذه الاُمور في رسالته هذه؟

ص: 235

لماذا لم ينظر إلى الصحف والمجلّات التي لاتهدف إلّاإلى ترك السنن الإسلامية، وتدعو إلى الفسق والفجور والاستهتار؟

هذه مسائل يجب على وفود الرابطة أن يدرسوها ويلحظوها، ويبحثوا عنها في كلّ بلد يفدون إليه، لافرق بين إيران ومصر والجزائر وتونس والمغرب وباكستان وتركيا، وغيرها من البلاد الإسلامية.

يجب على الوفد نصح الحكومات وشعوبها في هذه المسائل، وإبلاغهم البلاغ المبين: إنّ الإسلام يرفض كلّ قانون يخالف شريعة اللّه، وينبذ كلّ سلطة لاتهتم بتطبيق الأحكام الإسلامية التي يؤمن بها المسلم الشيعي والسنّي على حدٍّ سواء، فلامعنى لهذه القوانين التي ليست من الإسلام في شيء، ولاتمتّ إليه بصلة. وكذلك نصحهم باعتماد أهداف الإسلام في نُظُمهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والإقتصادية، ونبذ النُظُم الوافدة أو المستوردة من الخارج، ونصحهم بالاستعداد للجواب يوم الحساب.

الفكرة القومية:

ثمّ ما هذه الفكرة الخبيثة التي جزّأت العالم الإسلامي ومزّقته شرّ ممزّق، ونبذت تعاليم الكتاب والسنة في المجتمعات المسلمة؟ فكأ نّكم تصوِّبون وتؤيدون مبدأ العلمانية، فلاتناقشون الحكومات في هذه المسائل وفي كلّ ما له دخل بالسياسة، ولاتحثّون الشعوب على أن يكونوا صفّاً واحداً أمام هذه التيارات الملحدة والسياسات المخزية، وكأنّ هذه الاُمور الخطيرة ليست همّاً

ص: 236

للمسلمين ولا تشكل منعطفاً خطيراً وصعباً للعقيدة، بل تناقشون فقط زيارة المشاهد المشرّفة وما رأيتم في مسجد سبسهالار من صورة النبي صلى الله عليه و آله وصورة أمير المؤمنين علي عليه السلام؟! هذا المسجد الذي وضعت الحكومة ومديرية الأوقاف يدها عليه، وهتكت حرمته بحجة أنّه أثري، فسمحت للكفار بزيارته للاستئناس به والتفرّج عليه، ومن جرّاء ذلك عطّلت الجماعة ومجالس الوعظ وقراءة القرآن والتفسير فيه، كما هو الشأن في مئات المساجد العامرة بالصلاة، وإقامة الجماعة والجمعة، ومجالس الوعظ ودرس القرآن والتفسير، في طهران وحدها فضلاً عن سائر المدن.

ألم يعلم الموفَد، أم لعلّه لم يشأ أن يعلم أن كثيراً من العلماء الأفذاذ، والخطباء الغيارى على الإسلام هم إمّا سجناء أو مبعدون عن الأهل والوطن، لالشيء إلّالقيامهم بالواجب الديني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولوقوفهم ضد اليهود والحركات الصهيونية؟!

ص: 237

ص: 238

وفد الرابطة... ماذا زار؟ وبمن التقى؟:

... لم يلتقِ وفد الرابطة في طهران ومشهد الرضا وقم المقدسة بالعلماء المجاهدين الربّانيين، الذين كرّسوا حياتهم وأفنوا عمرهم في سبيل الدفاع عن الإسلام وأحكامه، وهم قِمم وأعلام في شتّى العلوم والمسائل الإسلامية.

نعم، لم يلتقِ الوفد إلّابمن سمحت مديرية الأوقاف بزيارته ولقائه...!

لم يزر الوفد في قم المشرّفة، الجامعة العلمية ومعاهدها التي تدرس فيها المعارف الإسلامية، والتي هي مقرّ الأساتذة الجهابذة، والعلماء والخطباء، والكتّاب والمؤلّفين، كالمدرسة الفيضية، ودار الشفاء، والحجّتية وأمثالها، عند إلقاء المحاضرات العلمية، وإقامة الجمعة والجماعة، التي يشترك فيها المئات من حملة العلم والعلماء والزهّاد والطلّاب، وقد لايكون لها نظير في العالم الإسلامي!

ص: 239

كما لم يزر مئات المساجد في قم عند أوقات الصلاة؛ ليرى بأمّ عينيه اهتمام الشعب الإيراني بإقامة الصلاة جماعة.

كما لم يزر المدارس الدينية ببلدة قم المقدسة، كالمدرسة الصادقية، والجوادية، والرضوية، والمنتظرية، والعلوية، والكرمانية، والحجتية الكبرى، ودار الفقاهة، ومدارس آية اللّه الگُلپايگاني، وآية اللّه المرعشي!

... لم يزر الوفد المكتبات العامة الكبيرة، المليئة بنفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة لعلماء الشيعة والسنّة، كمكتبة الإمام آية اللّه البروجردي، ومكتبة آية اللّه المرعشي وغيرها!

كما لم يزر الجامع الكبير الذي أسّسه وبناه أخيراً الإمام الراحل السيد البروجردي، تغمده اللّه برحمته، والذي يُعدّ من أكبر المساجد، ومن أكبر مراكز العلم ونشر الثقافة الإسلامية، ويلقي فيه مراجع الشيعة محاضراتهم العلمية على جمع غفير من الطلاب والعلماء، في الفقه والاُصول، وهذا المسجد هو آية من آيات الفنّ، يُعرب عن مدى اهتمام الشيعة بأمر المساجد!

كما لم يرَ الوفد في قم من ثمانية آلاف طالب علم إلّاالنفر القليل المشتغلين في بعض فروع الحوزة العلمية!

فلو كان قد زار المراكز التي أشرنا إليها، وجالس أصحاب السماحة العلماء للنقاش والبحث حول المسائل الإسلامية واطّلع على آرائهم السديدة وحججهم البالغة وأدلتهم الدامغة لما آخَذَ على الإيرانيين والشيعة ما آخذ عليهم في رسالته، ولَعَدَل عن تفكيره الباطل حول عقائد الشيعة، ولاسيما عقيدتهم في أهل

ص: 240

البيت عليهم السلام، ولَعَلِم أنّ الشيعة هم أشد المسلمين وأكثرهم سداداً في التوحيد، وفي تعظيم معالم النبوة والرسالة.

ولم يكن حال الوفد في مشهد سيدنا الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام - الذي ملئت العلوم المروية عنه الخافقين - بأحسن منه في قم، بل كان أسوأ، فإنّه لم يلتقِ في تلك الربوع المشرّفة بالعلماء الذين قلّما يوجد مثلهم، اللهمّ إلّا ببعض منهم بطريق رسمي، كما لم يساعده التوفيق للالتقاء بالعلماء المصلحين المجاهدين المقاومين للتيارات الإلحادية والأنظمة غير الإسلامية.

فالالتقاء بأمثال هؤلاء التقاء يفيد الإسلام والمسلمين، وإلّا فاللقاءات المذكورة في «اسمعي يا إيران» تحت إشراف الحكومة والأوقاف والأمن وأجهزة المخابرات ليست غير مفيدة فحسب، بل هي مضرّة تورث يأس الشباب الناهض المتطلّع إلى الإصلاح المنشود عن طريق الرابطة والعلماء.

ص: 241

ص: 242

هذا ما نتوقّع

وهنا أغتنم الفرصة لاُخاطب أعضاء الرابطة: بأنّ المتوقّع منكم أن تختاروا لزيارة أيّ بلد من بلاد المسلمين مَن يدرك مشاكلهم، ويتفهّم واقعهم الذي يعيشونه في المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية، ويتعرّف بسرعة وحذق وإخلاص على المكائد والأشراك المنصوبة للمسلمين بجميع مظاهرها الطائفية والمذهبية، والتي ترمي إلى القضاء على الإسلام بكلّ مظاهره، وعلى الكيان الإسلامي والشعائر والالتزامات الدينية عند الجميع، دونما أي تفريق أو تمييز بين مذهب وآخر.

فالمفروض على الوفود النظر إلى أوضاع البلاد التي يزورونها من هذه الجهة، وبمثل هذه الرؤية، ومطالبة المسؤولين والحكّام بتطبيق أحكام الإسلام، وكذلك الالتقاء بالعلماء المجاهدين المصلحين الذين وقفوا في وجه الأفكار الهدّامة الكافرة، وأبوا أن يكونوا اجَراء للحكومات العميلة، وذلك بدعمهم والتنسيق معهم ومع مواقفهم.

ص: 243

وعليها التمعّن في الأوضاع التعليمية والتربوية ومناهجها التي تسير على غير المنهج الإسلامي عند الجميع، وبرمجة كيفية مؤازرة جماهير المسلمين، التي قابلت بكلّ صمود و مسؤولية الدعايات الفارغة الفاسدة، بالدعوة إلى المناهج الإسلامية، وفي كيفية الوقوف إلى جانبهم لإعلاء كلمة الإسلام، وتجنّب الدعايات التي لم تأتِ إلّابالشقاق والتفرقة والضعف، وملاحظة تدبّر مستوى كلّ شعب في الأخلاق والآداب والحكومة والحرية.

كما عليها أن تدعَ الكلام في المسائل الفرعية الخلافية، وتُترَك كلّ طائفة واجتهادها، ولاتكثر الجدل والنقاش، وتتجنّب ظنّ السوء بالمسلمين، وتسأل عن الاقتصاد والصناعة والتجارة وسائر مقدّرات المسلمين، كيف وقعت في أيدي اليهود وبراثن الفرقة العميلة الضالّة المضلّة البهائية؟

هل سأل الوفد عن أصحاب المصانع الكبيرة والمعامل المهمة والمتاجر العظيمة، أهم من الشيعة الذين يزورون المشاهد - على حدّ تعبير الندوي - أم من اليهود وغيرهم من الفرق غير الإسلامية؟!

ص: 244

هل... وهل... وهل...؟:

هل عرفتم «إلقانيان» اليهودي التاجر الذي استولى على قسم كبير من تجارة هذه المنطقة؟

هل عرفتم «حبيب الثابت» اليهودي البهائي الذي يمتصّ دماء الشعب المسلم بمعامله الكثيرة؟

هل عرفتم مؤسس معامل «أرج» لتعرفوا المسلمين بهم ليقاطعوا بضائعهم؟ إذ أنّ في إمارات الخليج والكويت وبعض البلاد العربية الأخرى تباع منتوجات اليهود والبهائية، ويصرف ريعها لصالح الكفر والاستعمار، وللقضاء على اقتصاد المسلمين في المنطقة!

هل عرفتم يا رئيس الوفد من هذه الاُمور شيئاً؟

هل قرأتم الصحف والمجلّات؟ وهل اطّلعتم على القوانين السائدة في البلاد التي اتفق فقهاء الفريقين (السنّة والشيعة) على بطلانها؟

ص: 245

هل تتبّعتم ما يجري على الشعب الإيراني المسلم العريق، وما تقوم به الدولة من إحياء آثار المجوس، وأيام كورش، وتعظيم العادات والآداب التي قضى الإسلام (الشيعي والسني) عليها؟!

هل فهمتم شيئاً عن التيّارات الإلحادية الهادفة إلى إضعاف الإسلام في إيران وسائر البلاد الإسلامية؟!

هل رأيتم التماثيل المنصوبة في الساحات والميادين كالأصنام، يُجبَر الناس على تعظيمها؟

هل رأيتم التشريفات المزيّفة التقليدية التي يُجرونها ويقومون بها لاحترام الرؤساء والزعماء؟

هل درستم وضع المعاهد التي اختلط فيها الفتيان والفتيات السافرات؟

هل بحثتم مع مَن التقيتم به في قم ومشهد من العلماء حول هذه المسائل؟

هل زرتم المعامل، وكذلك المعاهد المنسوبة إلى المعارف، وما إلى ذلك؟

هل سألتم عن جهاز الدولة، من الحاكم والأمير والوزير والقائد والنائب؟ وهل أ نّهم يحضرون جماعات المسلمين وجُمَعهم، أو يقيمون الصلاة في أوقاتها؟ هل سألتم عن إقامة الجمعة أو الصلاة فرادى في الجيش، وإنّهم ليأمرونهم بترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان المبارك؟!

هل اجتمعتم في مدينتَي قم ومشهد - وفيهما آلاف العلماء والخطباء - بمن تبحثون معه في هذه المسائل التي تعمّ البلاد الإسلامية؟ وهل، وهل، وهل وألف هل؟!

ص: 246

إذا لم تعرفوا هذه المسائل، أو لم يُسمَح لكم بمعرفتها فما فائدة هذه الرحلات والجولات؟!

ص: 247

ص: 248

نظرة العين الواحدة:

رأيتم زيارة الناس للمشاهد، ولكنّكم لم تروا المنكرات والمظاهر المخالفة لروح التوحيد الإسلامي؟ أليس من الشرك أن يختصّ أحد الناس أو جماعة منهم باسم البرلمان بحقّ التشريع ووضع القوانين ذلك الحقُّ الذي هو خاصّ باللّه تعالى وحده؟! أليس الحكم كلّه للّه؟! أليس من الشرك أن تصدّر المراسيم والبيانات الرسمية باسم جلالة الملك أو سموّ الأمير أو سيادة الرئيس بدل تصديرها بالبسملة، أو تدشين البنايات والمعامل والمعاهد والمستشفيات وغيرها باسم هؤلاء المستكبرين، تبرّكاً بأسمائهم التي لاخير فيها ولابركة؟

ألم تسمِّ النظام المسيطر على الحرمين الشريفين والحجاز، أرض الحجاز والمملكة بالسعودية والأرض كلّها للّه، والاُسرة السعودية وأمراؤها ليسوا أرباباً من دون اللّه تعالى، وليسوا أولى بهذه الأراضي المقدّسة من غيرهم من سكّانها، ولولا القبلة التي ولّى اللّه الناس إليها ونشأة الرسول الأكرم والأئمة عليهم السلام وروضة الرسول، وما في تلك الديار ممّا يدلّ على أمجادنا الإسلامية والبنايات الأثرية

ص: 249

تشهد بصحّة تاريخنا المضيء بالإخلاص والبطولات لَما قُدِّست تلك الجزيرة ولَما أمَّها المسلمون، ولَما أتَوها من كلّ فجٍّ عميق؟!

يا أعضاء جمعية الرابطة، ووفدها!:

هذه المصائب لم تُصب إيران وحدها، بل تعاني منها جميع البلاد الإسلامية، وأنتم غافلون أو متغافلون عنها، وتصبّون اهتمامكم في المآخذ التي تورث الشحناء والبغضاء والضعف والتفرقة، لماذا لاتحملون هذه الخلافات على المحامل الصحيحة وعلى اجتهاد من يقول به؟

ذروا المسلمين واجتهاداتهم في هذه الاُمور، واتركوهم ومذاهبهم واجتهادهم في الكتاب والسنّة، وكونوا على يقين أنّ أحداً من المسلمين الذين يتلون سورة التوحيد في صلاتهم ويتلون آية [أنَّمَا إلَهُكُم إلَهٌ واحِدٌ](1) ويتلون آية [وَلاَ يُشرِكْ بِعِبادَةِ ربِّهِ أحَداً](2) لا يعبد القبور، ولايشرك أولياء اللّه تعالى في شؤونه، فالأمر كلّه للّه، وبيده ناصية كلّ شيء، لايملكون لنفسهم نفعاً ولاضرّاً، ولاموتاً ولاحياةً ولانشوراً، نعبده ونستعين به وندعوه ونبتهل إليه، وأنكروا عليهم ما اتفق الكل على خطره وتحريمه، وكونوا أشدّاء على الكفار رحماء بينكم.

فكّروا فيما يهمّ المسلمين، وفي الاُمور التي تورث التودّد وتوحيد

ص: 250


1- فصّلت: الآية 6؛ الأنبياء: الآية 108؛ الكهف: الآية 110.
2- الكهف: الآية 110.

الكلمة، وتوثيق عُرى الاُخوَّة الإسلامية، ولاتشغلوا أنفسكم وأوقاتكم بمباحث أَكَلَ عليها الدهر وشرب، وأدّى التعصّب فيها إلى فتن كبيرة وإلى إتلاف النفوس.

فقد جرّب المسلمون أضرار أمثال هذا الجدل والنقاش وأخطارها، وعرفوها، فاعرفوها أنتم واعتبروا بها، ولنذكر نموذجاً منها: تلك الفتنة التي وقعت بين الحنابلة والشافعية، وكان السبب في إثارتها، أسلافكم الحنابلة وأصحاب أبي محمد البربهاري، كما يُحدّثنا ابن الأثير بما نصّه: (فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: تارةً أ نّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين المذَّهبَين والشعر القَطِط، والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا، تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ثمّ طعنكم على خيار الأئمة، ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه و آله إلى الكفر والضلال، ثمّ استدعاءكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لايشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولانسب ولاسبب برسول اللّه صلى الله عليه و آله وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه!)(1).

والنموذج الجديد أفاعيل الوهّابية والفتن التي أثارتها انجلترا في الحرمين8.

ص: 251


1- الكامل لابن الأثير: ج 8 ص 308.

الشريفين بيد عملائها من آل سعود في الإسلام فيها بخسارات عظيمة لعلك لم تجد مثيلها في تاريخ الإسلام وبعد إنجلترا جاء دور أمريكا والصهاينة في التلاعب بالنظام السعودي، فجعلته تحت رعايتها وحضانتها فذهبت بثروات المسلمين الاقتصادية والمادية والمعنوية.

اجتمعوا، وكونوا صفاً واحداً، واسماً على مسمىً، رابطة بين المسلمين والعلماء الصالحين المصلحين وأصحاب الغيرة على النواميس الإسلامية، لا مع الحكومات وعملائهم، فإنّ أكثرهم كما تعلمون يهابون الوحدة الإسلامية ويخشونها، إيماناً منهم بأنّ وحدة الاُمة الإسلامية تزيل سلطانهم وتزعزع أركان حكوماتهم، وتدكّ صروحهم، فترى بعض الحكومات في المجتمعات السنّية، تحارب فكرة الوحدة السياسية والإقليمية، ولاتسمح لأحد أن يعمل لها أو يدعو إليها.

فكّروا كيف ينبغي أن تعملوا لإعادة مجد الإسلام، وإعادة سلطان أحكام اللّه في الدول الإسلامية وفي مجتمعاتها؟ وكيف ينبغي أن نعمل لتحقيق الوحدة الإسلامية...؟ لاتبادروا إلى نشر مقالات ورسائل مثل «إسمعي ياإيران» و «الخطوط العريضة»، ولا تعاتبوا محبّي أهل البيت عليهم السلام من الشيعة والسنّة، ومن يأخذ بمذهبهم في الأصول والفروع، ويرى أئمتهم أعدال الكتاب بمقتضى «حديث الثقلين» المسلّم به بين الفريقين، وأحاديث كثيرة أخرى، ولاتتَّهموهم بالغلوّ فيهم، ولاتقولوا: إنّ الشيعة جعلت الإمامة - العياذ باللّه - مشاركة للنبوة، فإنّ الشيعة بريئون من هذه التهم، وبعيدون عمّا تقذفونهم به، وليس حبّهم لأهل البيت عليهم السلام إلّامظهراً من مظاهر حبّهم واحترامهم للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله؛ فإنّه صلى الله عليه و آله أمر

ص: 252

بحبّهم ورغّب فيه ترغيبات أكيدة، تشهد بذلك روايات متواترة، أخرجها الحفّاظ وأرباب الجوامع والصحاح والمسانيد في كتبهم، ولايلوم الشيعة على ذلك إلّا مَن في قلبه مرض أو نفاق...

الشيعي متأثّر بحبّ عليّ وفاطمة والحسنين وسائر الأئمة عليهم السلام؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يحبّهم، ويأمر بحبهم، وكانوا أحبّ الناس إليه وأعزّهم عليه.

هُمُ العُروةُ الوُثقى لِمُعتصِمٍ بِها

فماذا تنقمون من الشيعة في ذلك؟ ولماذا تؤاخذونهم على ما هو من علائم الإيمان وطهارة المولد؟

ص: 253

ص: 254

هذا رأينا...:

وأما ما رأيتم في مسجد سبهسالار وغيره من الصور فقد مرّ الجواب عنه، وقد أفتى علماء الشيعة ببدعة هذه الصور وتركها، كما أفتوا بكراهة الصلاة في مكان فيه صورة. وإنّي لم أزُر إلى الآن مسجد سبهسالار، ولكن لم أرَ في غيره من المساجد الكثيرة في طهران وقم وإصفهان ومشهد وغيرها من المدن أية صورة!...

وأمّا ما اقترحتم على الجعفريّين من وجوب تغيير نظرتهم إلى بعض صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وبعض أزواجه امّهات المؤمنين إذا أرادوا التقريب، فإن أردتم بذلك أن يترك الشيعي اجتهاده فأنتم تعلمون أن ترك مؤدّى الاجتهاد والاعتقاد بخلافه غير جائز، ولاينبغي لمجتهد أن يطلب من غيره ترك ما أدى إليه اجتهاده.

وأمّا التقريب فليس معناه ترك السنّي أو الشيعي لمذهبه، بل معناه: أن

ص: 255

لا يؤاخذ كل واحد منهم الآخر بما لايتنافى مع الإسلام في شيء، ويأخذ كلّ منهما في مقام التجاوب والتفاهم بالاُصول الإسلامية، الجامعة المشتركة بين الجميع، وأن لا يُدخِلوا في الدين ما ليس منه، من تأييد الحكومات غير الشرعية ونحوه؛ فإنّ عقيدة الشيعة لاتتجاوز في ذلك عقيدة بنت الرسول سيدة نساء العالمين، وسلمان وأبي ذرّ والمقداد وحذيفة وعمار ونظائرهم. فالواجب على الشيعة وغيرهم أن يتّبعوا في تلك المسائل اجتهادهم الحرَّ في الكتاب والسنَّة والتاريخ الصحيح؛ إذ لايجوز السير على خلاف الاجتهاد إذا أدَّى إلى غلط فلان وخيانة فلان.

فإن كان في الكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام أدلة كثيرة قوية على عدم عدالة بعض الصحابة، وعدم مبالاتهم بمصالح الإسلام والمسلمين وأفاعيلهم الموبقة، كمعاوية وبُسر بن أرطاة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم، من الذين كان يعتقد عمار بن ياسر أنّ دماءهم جميعاً أشدّ حلّيةً من دم عصفور فلاينبغي مطالبة المجتهدين في إيمان هؤلاء وعدالتهم بترك هذه الأدلة.

وإذا لم يمكن تخليص الكتاب والسنّة وتاريخ عصر الرسالة والخلفاء وبني امية وبني العباس من هذه الأدلة، ولايمكن تخليص التاريخ من مثل حرب الجمل وصفّين فإنّه لايجوز عتاب من يجتهد في ذلك، ولايجوز منع المسلمين من مطالعة التاريخ والنظر في تلكم الأدلة، كما لايجوز سدّ باب التقريب بمطالبة ذلك؛ فإنّ جميع الشيعة لو اتفقوا - العياذ باللّه - حتى مع النواصب فالكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام وتراثنا الإسلامي العلمي يأتي بغيرهم شيعة لأهل

ص: 256

البيت عليهم السلام من جديد؛ لأن ذلك أمر طبيعي للبحث ومطالعة الكتاب والسنّة والتاريخ.

نعم، لابأس أن يطلب أحد المذاهب من الآخر تجديد النظر في أدلته، فالواجب على الفريقين أن لايجعلوا هذه المسائل سبباً للعداوة والبغضاء، ولايكفِّر بعضهم بعضاً، ولا سيّما في هذا العصر الذي أصبحت فيه نتيجة هذه المباحث رأياً مجرداً وعقيدة محضة لمن اعتقد. وليس هناك أي مانع من وقوف الشيعة والسنّة صفّاً واحداً ما لم يتركوا التمسّك بالكتاب والسنّة، وتركوا اللجاج والعناد والعصبية العمياء.

فمن لم يَرَ الخير والفضل والعدل في بعض الصحابة أو في معتقدهم، بل ولم يعرف ذلك الصحابي ولم يسمع باسمه لايكون مسؤولاً عن ذلك، ولايضرّ بإسلامه، ولايؤاخذه اللّه تعالى به، لأنه لم يكلف عباده بمعرفة الصحابة والإيمان بهم وبعدالتهم، ولم يجعل ذلك ركناً من أركان دينه، أو حكماً من أحكام شريعته.

إذن فالسبب في التنافر والتباعد والتباغض هو غلوُّ بعض الجامدين والجاهلين في هذه المسائل، والاشتغال بها جهلاً أو غفلة أو عمداً، أعاذنا اللّه من الجهل والغفلة.

وكذلك في أزواج النبي صلى الله عليه و آله، فإنَّهن - ولاشكّ - قد تشرّفنَ بما لم تتشرّف به غيرهنّ من النساء، وإنّ لبعضهن مكانة مرموقة في العبادة والخير وكثرة الصدقة والفهم والحكمة، ومنهنَّ من أطاعت أمر [وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ](1)، فلم يغادرن3.

ص: 257


1- الأحزاب: الآية 33.

البيت، حتى أنّ جميعهنّ حججن، غير سودة وزينب بنت جَحش، فإنّهما قالتا:

لاتحرّكنا دابّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حج بنسائه عام حجة الوداع، ثمّ قال: «هذه الحجة»، ثمّ ظهور الحصر، وهذه منقبة وفضيلة كبيرة لاُمّهات المؤمنين لاتضاهيها أية منقبة، فهنيئاً لهنّ بتلك الكرامة، حيث لم يُدخِلنَ أنفسهنّ في الفتن والحروب الدامية التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه و آله، وحفظنَ الرسول في امّته.

نعم، استنكر الشيعة وغيرهم ما صدر عن بعض امّهات المؤمنين في الفتن التي أدّت إلى قتل عثمان، والفتن التي أسفرت عن قتل جماعة من الصحابة من المهاجرين والأنصار، وفتحت على المسلمين أبواب الفتن وويلات المحن، وأدّت إلى حكومة جبابرة بني امية، وإمارة أمثال الحجّاج وبسر ومسلم بن عقبة وأضرابهم.

فمن تصفح التاريخ استنكر ذلك ورأى ما صدر عنها من عظيم المصائب التي حلّت بالمسلمين، سواء حمل على الاجتهاد، أو على اتّباع الهوى، وبغضها للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال له النبي صلى الله عليه و آله: «لا يُحبُّك إلّامؤمن، ولا يبغضك إلّامنافق»(1). فالخسارة التي أصابت الإسلام والمسلمين بخروجها على ولي الأمر، ومخالفتها له، وبغضها إيّاه لم تُجبَر إلى الآن... ولاعتب على من يقرأ كتب الحديث والتاريخ ويحلل الأمور ولايتمالك من الحكم عليها، حتى أنّ أهل بيتها وخاصّتها كانوا يعيبون عليها خروجها وما أدخل عليهم يوم الجمل1.

ص: 258


1- بحار الأنوار: ج 27 ص 81.

من العار.

وقد روي: أنّها ركبت بغلة وخرجت تصلح بين غلمان لها ولابن عباس، فأدركها ابن أبي عتيق وقال: يعتق ما تملك إن لم ترجعي، فقالت: ما حملك على هذا؟ قال: ما انقضى عنا يوم الجمل حتى يأتينا يوم البغلة(1).

ولايمكن منع الباحثين خاصة الشباب الذين يتطلّعون إلى حرية التفكير والبحث والتنقيب، بعد ما سجّل التاريخ ما لا نحبّ ممّا يمسّ كرامة امّ المؤمنين عائشة، كما لايمكن منع انتهاء البحث إلى الحكم عليها. فالاعتراف بخطئها أولى من الإصرار على تبرئتها، رغم المصادر الوثيقة التاريخية، والأحاديث النبوية، فمتابعة الدليل والبرهان والقول بالحق أولى من القول بلا دليل، والمكابرة في الاُمور الجلية، فالجيل المعاصر يردّ كلّ قولٍ لا يدعمه دليل، ولايقبل إلّاما أدّى إليه أعمال الفكر الحر(2).

وتبرئة امّ المؤمنين من أوزار حرب الجمل ليست من العقائد الإسلامية حتى يطلب ممّن لايراها الاعتقاد بها.

وليت شعري إن كان الفريقان في حرب الجمل وصفّين مجتهدين فمن الباغي منهما؟ أم كيف يجوز الاجتهاد قبال الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض».

ص: 259


1- تهذيب التهذيب: ج 6 ص 11.
2- راجع في ذلك ما كتبناه في «صوت الحق ودعوة الصدق».

يوم القيامة»(1)، و «عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لايفترقان حتى يردا عَلَيَّ الحوض»(2)، وهل الاجتهاد الممنوع في مقابل النصّ سوى هذا؟

ففي مسألة كهذه - التي هي من القضايا التي قياساتها معها ومع هذه الوثائق التاريخية - لايليق بمسلم أن يطلب من غيره الحكم لطرف معيّن، ويسير في بحثه وتنقيبه سيراً ينتهي به إلى نتيجة معينة قبل البحث، بل يجب أن يطلب من الباحثين ترك العصبية، وتشجيعهم على حرية التفكير.

والغرض من ذلك كلّه: أنّ اختلاف الآراء في مثل هذه المسائل لا يمنع من التقريب واتحاد المسلمين، ولايمكن حسم هذه الاختلافات ما دام التاريخ أمام المطالعة والبحث، فكلّ من يراجع التاريخ، خاصة في العصر الحاضر، ولم يقنع بتبرئة امّ المؤمنين عائشة ومعاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وأضرابهم بعذر اجتهادهم، لاينبغي تحميلُ رأيٍ آخر عليه، ولاينبغي عتابه على رأي أدّى إليه اجتهاده، ولايجوز هجرانه وترك موالاته. فمن يرى تصويب كلّ اجتهاد، أو يرى حمل فعل المسلمين على الاجتهاد، ويرى مرتكبي إراقة الدماء المحترمة، وهتك الأعراض، ونهب الأموال في صدر الإسلام مجتهدين معذورين يجب عليه أن يرى من نظر في التاريخ وظهرت له خيانة زيد أو خطأ عمرو مجتهداً معذوراً، بل هذا أولى بالعذر ممّن سبقه!5.

ص: 260


1- بحار الأنوار: ج 38 ص 35؛ الغدير: ج 10 ص 286.
2- بحار الأنوار: ج 38 ص 35.

مقياس صدق الدعوة:

وأمّا ما تمسَّك به في الصفحة (35) من أنّ الناس قد اعتادوا أن يقيسوا صدق الدعوة بكثرة ما أبرزته هذه الدعوة من نماذج رائعة، وسوء النظر إلى الصحابة يضعف تأثير الدعوة وقيمة هذه التعاليم، ويضعف الإيمان بمربّيهم وقائدهم فهذا كلام خطابي شعري ليست له أية قيمة علمية، وإلّا فيدّعي ذلك بالنسبة إلى اللّه تعالى - العياذ باللّه - ويُستدلّ على ضعف هدايته وتعاليمه بقلّة مَن اهتدى بهداه، وعلى قوة إغواء إبليس بكثرة الكفّار وأهل المعاصي، ويُستدلّ لقوة تعاليم بوذا بكثرة مؤيّديه.

على أنّ دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وتربيته أثّرت في جميع الصحابة حتى المنافقين منهم، فغيّر تفكيرهم ومسير حياتهم، فعرفوا للإنسان حقوقاً لم يكونوا يعرفونها لولاهداية اللّه تعالى وتعاليم رسوله، وقدّمت في مجالات مختلفة رجالاً وأبطالاً، وإذا قسنا نجاح دعوة الإسلام بنجاح الدعوات الاُخرى رأينا أنّ الإسلام أكثر نجاحاً من الجميع. فالإسلام وإن لم ينجح بعدُ في جميع أهدافه

ص: 261

ومطالبه وأغراضه لكنّه قدّم للبشرية مثالاً رائعاً ونموذجاً حياً من الرجال الكُمَّل، أمثال أبي ذرّ وسلمان ومقداد وعَمّار وسعد بن معاذ وخُزيمة بن ثابت وابن التيهان وخَبّاب بن الأَرَتّ وحُجر بن عدي وعَمرو بن الحَمق الخزاعي وغيرهم، وبهؤلاء الرجال والآلاف من الجهابذة والأبطال ورجال التضحية والإباء والمثل الإنسانية العليا، الذين أنجبهم الإسلام خلال أربعة عشر قرناً تعرف قيمة تربية الإسلام وأهدافه ومقاصده.

ولا يُعابُ على الإسلام أو الدعوة إن ظهر فيها أشقى البرية كابن ملجم المرادي ويزيد ومسلم بن عقبة والحجّاج، بل يجب أن نعرف الأسباب التي دعت للقيام في وجه هذه الدعوة ومسخها، حتى آل أمر الاُمّة إلى حكومة هؤلاء.

فلا ينبغي لنا تبرئة الخاطئين والخائنين رغم المصادر الوثيقة، ورغم ما نعرف عنهم من الخطأ والخيانة من أجل أن لايسيء أحد ظنّه، خاصة إذا كان يجهل الاُمور ولا يعلم المقاييس الصحيحة، فإن الإسلام أعلى وأقوى برهاناً من أن يمسّ كرامته هذا الزعم الفاسد.

وهذا المنطق يؤدّي بنا - إذا ماأحسنّا الظنّ واعتبرنا ما فعله بعض السلف والصحابة حسناً وسليماً وشرعياً - إلى اتّهام الإسلام وتعاليمه بأنّ هذه التعاليم وهذه المناهج لاتهدي - والعياذ باللّه - إلى الرشاد والعدل و المساواة و المواساة، و إلى الصلاح والإصلاح.

والحق هو إسناد كلّ فعل حسن صدر عنهم إلى الإسلام وتربيته، وإلى

ص: 262

هدى القرآن، وإسناد أفعالهم المخالفة لهدى القرآن وغير اللائقة بشأنهم إلى أنفسهم.

فمثلاً وقعة الحَرّة وأضرابها من الوقائع الكثيرة التي وقعت أيام خلفاء بني امية وبني العباس، والتي سَوَّدت وجه التاريخ ليست من آثار دعوة الإسلام، ولاعلاقة لها - بعيدة أو قريبة - بالإسلام والتربية الإسلامية، إلّاعلاقة التباين والتضاد، وهي بعيدة عنه بُعد المشرقين. وتبرئة الذين لم ينسَ التاريخ خياناتهم وخطيئاتهم مردودة ومرفوضة عند الباحثين المنصفين.

فليس ما ذكرتم عذراً لتحسين الاعتقاد بهم وتصويب أخطائهم. وقد سبق مثل هذا الكلام من الشيخ نظام الدين عبد الملك المراغي - أفضل علماء الشافعية في عصره - عند مناظرته للعلامة الحلي في المذهب، وقد افحِم آنذاك بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة التي أقامها العلّامة، رضوان اللّه عليه، بحيث لم يبقَ للحاضرين شبهة، وبهت الشيخ وخجل، وأخذ في الثناء على العلّامة، وذكر محامده وقال: قوة أدلة هذا الشيخ في غاية الظهور، إلّاأنّ السَلَف منّا سلكوا طريقاً، والخلَفَ ولأجل إلجام العوام ورفع شقّ عصا أهل الإسلام سكتوا عن زلل أقدامهم، فبالحَرِيّ أن لاتُهتَك أسرارهم...

والأخذ بهذه النصيحة إنّما يفيد لو لم يسجّل التاريخ، ولم تدوّن كتب الحديث والجوامع والمسانيد والصحاح ما صدر عن بعض الصحابة، ولم يكن صدر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من أقوال في أهل بيته ومناقبهم وفضائلهم.

أمّا بعد ذلك وبعد مثل أحاديث الثقلين والروايات المتواترة كرواية «الأئمة

ص: 263

اثنا عشر» وغيرها، وما حفظ التاريخ من الأحداث والفتن، رغم كونه تحت رقابة السياسة، فإنّ طلب السكوت وترك البحث والتنقيب غيرُ ممكِنَين ولامُجدِيَين.

ص: 264

قبر هارون الرشيد:

قال رئيس الوفد في الصفحة (15): ولم نعرف أثراً لضريح الخليفة هارون الرشيد الذي دوّى اسمه في الآفاق، ونال من الشهرة حظّاً لم ينله ملك من ملوك المسلمين أو ملوك الشرق، والذي قال لقطعة سحاب مرت على رأسه: امطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.

فإذا كان الاُستاذ الندوي يريد من هذا تنبيه القرّاء بأنّ الدهر هكذا يفعل بالملوك وأهل الدنيا الجبابرة، [فَمَا بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّماءُ وَالأرضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ](1)، ولاتُعرف قبورهم، وإن عُرفت فالناس يعرضون عنها ولايسألون عنها، ولايعتنون بها كاعتنائهم بآثار أولياء اللّه ورجال الدين والخير، فلاريب أن ما ذكر إنّما هو من العِبَر، وما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار، وقد عزف عن قبر هارون والترحّم عليه حتى أهل السنّة، فلم يقصده أحد تقرباً إلى اللّه تعالى أو تقديراً

ص: 265


1- الدخان: الآية 29.

لشخصيته، في حين أنّ أكابر العلماء من أهل السنّة كانوا ولايزالون يزورون مرقد علي بن موسى الرضا عليه السلام في البقعة الهارونية، ويقدّسون قبره، ويروون عنه الكرامات، كما يزورون قبر والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في الكاظمية ببغداد، الذي أخذه هارون ظلماً، وحبسه، ثمّ أمر السندي بن شاهك بقتله.

وإن أراد بحديثه هذا إبداء الأسف على عدم معرفة قبر هارون، وكان يودّ أن يكون له ضريح كضريح الإمام الرضا عليه السلام ويحترمه المسلمون كاحترامهم للإمام، فهذا أمر لايتوقّعه إلّامن لم تكن له بصيرة بفلسفة الاجتماع وآثار مواقف الرجال، فموقف الإمام الرضا وسائر أئمة أهل البيت عليهم السلام موقف يجذب العواطف، وينفذ إلى أعماق القلوب، ويحبّب صاحبه إلى كلّ قريب وبعيد، بينما موقف أعدائهم وظالميهم موقف يجعل صاحبه معرضاً للطعن، وتنفر منه القلوب، وتشمئزُّ منه النفوس، ويبغض صاحبه إلى كلّ قريب وبعيد.

وإنّ من أقوى الأدلة على حرية التفكير الإسلامي واستقرار روح العدل والمساواة، والنفور من الدكتاتورية والظلم عند المسلمين: عدم اعتنائهم بآثار الجبابرة، واعتناؤهم بآثار أهل البيت عليهم السلام والصحابة والعلماء والمصلحين المشهورين بالغيرة على الإسلام والجهاد ضد استبداد المستبدّين.

وإنّي - وقد ساقنا الحديث إلى هنا - أرى أنّه من الضرورة بمكان أن نعلن - كمسلمين واعين - عدم شرعية حكومة هؤلاء المستكبرين، أو اولئك الذين ملكوا المسلمين، وأحيوا سنن الملوكية بكلّ ما فيها من التواء وانحراف عن خطّ الرسالة وصفاء التعاليم السماوية المباركة، وسمّوا أنفسهم خلفاء، ويشهد التاريخ

ص: 266

- كالكامل وغيره - على سيرتهم غير المرضية، وأنّ منهاج الشريعة وبرامج الإسلام لايمكن أن تنجب حكومات كهذه الحكومات، أو تعترف بها وبشرعيتها، كما لايمكن أن تنجب من يعترف بشرعيتها ويدافع عنها.

فالإسلام والمسلم لايفخر بهؤلاء، بل يفخر بمبادئه السامية البنّاءة، وبمُثُله العليا، وقيمه الرفيعة، ورجاله المؤمنين، الذين أدركوا حقيقة رسالة الإسلام، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

فما هي صلة ملوك بني امية وبني العباس في سيرتهم وسلوكهم الحكومي والسياسي والمالي بالإسلام؟ وما عذرنا عند الباحثين في مبادئ الإسلام وتاريخه إن اعتبرنا حكومة هؤلاء شرعية، واعتبرناهم مَثَلاً لسياسة الحكم والإدارة واحترام حقوق الإنسان ومبدأ المساواة والمواساة الإنسانية في الإسلام، ومظهراً بارزاً من مظاهر التربية الإسلامية؟

فما يريد من قبر هارون والمأمون والأمين والمتوكّل والوليد ومعاوية ويزيد وعبد الملك وأمثالهم - مَن لم يكن في قلبه مرض، وهوى نفسه مع الحكّام الجبابرة، الذين استكبروا في الأرض وعتوا عتوّاً كبيراً؟

والمناهج التربوية الإسلامية أسمى وأنزه من أن تؤيّد حكّاماً وقادة يستضعفون الناس، ويتجاهرون بالفسق من الخمر والميسر، والظلم بمصادرة أموال الناس وقتل النفوس البريئة، ولم يكن هؤلاء أحسن سيرةً ممّن يتولّون اليوم امور المسلمين باسم الملك أو الأمير أو القائد. فهل تسمح ياأخي أن تسند سِيَرهم التي يُعلَن عنها في الإذاعات وعلى شاشات التلفاز والصحف

ص: 267

والمجلّات، وسائر وسائل الإعلام، إلى الإسلام، وتقول: إنّ الإسلام ونظامه التربوي يرتضي حاكماً يرقص مع النساء الأجنبيات في النوادي والحفلات والمجالس الرسمية، ويأتي بالمغنّيات والراقصات المحسوبات على المسلمات في مجالس ضيافته للكفّار، ولايحترم السنن الإسلامية، ويسمح باختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات، ولايتجنّب الآداب الغربية في ضيافاتها واستقبالاتها الرسمية، ويشوّق النساء بترك الآداب الإسلامية ويهتك العفاف.

اعرف أيّها المثقّف مناهج الإسلام التربوية، وأهدافه في الحكم والإدارة، وتأمّل في آيات القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة وسيرة الأئمة الهداة المهديّين، وأعرض سيرة هارون وغيره من رؤساء الاستكبار والاستعلاء على كتاب اللّه تعالى، سيّما على مثل هذه الآية الكريمة [تِلكَ الدَّارُ الآخِرةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ](1) حتّى تعرف أنّ الإسلام وبرامجه وتعاليمه لاينجب حكّاماً مثل هؤلاء المستكبرين، الذين أحيوا سنن الأكاسرة والقياصرة الجبّارين، وتركوا سنن الأنبياء والمرسلين.3.

ص: 268


1- القصص: الآية 83.

هذا ما ينبغي:

إنّ ما ينبغي لوفد الرابطة القيام به:

1 - حثّ الشباب وخرِّيجي المعاهد والكلّيات على التمسّك بالمبادئ الإسلامية، والتحلّي بالأخلاق الكريمة، والدعوة إلى الإسلام ونظامه.

2 - زيارة المعاهد العلمية والجامعات وكلّيات العلوم الحديثة، وإلقاء المحاضرات على طلّابها، وتشجيعهم على حفظ الاستقلال الإسلامي، والحفاظ على آدابه، ونبذ ما سواه، ودعوتهم إلى الجد وبذل الجهد في طلب العلم، وتعلّم الصناعات التي سيطر الغرب بها على الشرق.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومطالبة الحكومات برفض الشعائر الكافرة، وعدم تقوية الفرق والأقليات الملحدة التي اختلقها الاستعمار حديثاً لمقاصده والقضاء على الإسلام، وعدم حمايتهم، كالقاديانية والبهائية وغيرها، التي يؤيدها الاستعمار لنواياه الشرّيرة، كالصهاينة والصليبية

ص: 269

والمجوس، الذين تحيا آثارهم باسم «الفلكلور»، تقويةً لقوميات مختلفة متشتّتة، في عقر دار الأمة الإسلامية.

4 - مطالبة الحكومات بنقض حكم السفور، وفرض الحجاب على الفتيات في المدارس والمعاهد والكلّيات، وفصل كلٍّ من الجنسين عن الآخر بمدارس خاصّة، فإنّ المدارس المختلطة تبعّد الطلاب والطالبات عن السنن الإسلامية، وتُميت فيهم روح الغيرة الإسلامية، وتُظهرهم بمظهر الميوعة، وتُذهب بكرم الأخلاق، وتأتي بالفحشاء والمنكر، وفساد الأخلاق والدعارة والاستهتار.

5 - تشجيع طلّاب العلوم الإسلامية والمدارس الدينية من الشيعة والسنّة، وتحفيزهم على أداء واجبهم الديني في شرق الأرض وغربها، وتوحيد الكلمة، وإعلاء كلمة التوحيد، ورفض النعرات الطائفية، وترك المذاهب وشؤونها.

6 - إطلاعهم على مدى الخطر اليهودي والتبشير المسيحي والشيوعية بشتّى مظاهرها على الإسلام والمسلمين ومقدّراتهم.

7 - مناشدة المسلمين في العالم لتوحيد كلمتهم واسترداد حقوقهم المغتصبة؛ لأجل مستقبل إسلامي أفضل.

إلى غير ذلك.

تبصرة:

إنّما لم نناقش ما أشار إليه من الرأي حول المسائل الفرعية والآراء

ص: 270

الطائفية؛ لأنّا لا نُحبُّ إجابة من يكرّر هذه المناقشات لدواعٍ معلومة، سيّما إذا لم يأتِ بجديد.

فعلى الباحث في هذه مراجعة كتب أعلام المسلمين، كالعلّامة السيد محسن الأمين، والعلّامة كاشف الغطاء، والعلّامة شرف الدين، والعلّامة السبكي الشافعي، والشيخ يوسف النبهاني، وغيرهم من فحول العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لِلّه ربِّ العالمين.

قم المقدسة - لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

سنة (1395) هجرية

ص: 271

ص: 272

جلاء البصر

اشارة

ص: 273

ص: 274

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

يتناول كتاب «جلاء البصر لمن يتولّى الأئمّة الإثنى عشر» عدداً من الروايات الّتي تُوهم أنّ عدد الأئمّة عليهم السلام ثلاثة عشر إماماً. وكان هذا الموضوع قد ورد ضمن أسئلة وُجّهت إلى آية اللّه العظمى الگلپايگاني قدس سره فأوكل سماحته حلّ هذا المعضل إلى كاتب هذه المقالة.

وقد جاءت المقالة في أربعة أقسام:

القسم الأوّل: يتناول الأخبار التي تُوهم عدم موافقتها لتلك الأخبار الصحيحة والجمع عليها.

القسم الثاني: حول أسنادها.

القسم الثالث: حول نصوصها.

القسم الرابع: حول ما يصحّ أن يُقال في تأويلها والجمع بينها وبين غيرها من أحاديثنا المتواترة الموافقة لما استقرّ عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم

ص: 275

الطائفة المحقّة الإثنى عشرية (من نصّ الكتاب).

بعد أن يقوم المؤلّف بإيراد توضيح علمي وفنّي حول أسناد تلك الروايات ونصوصها ودلالتها، يستنتج أنّها حتّى وإن كانت واضحة وصريحة، فإنّها ساقطة من الاعتبار، إذ تدحضها أحاديث متواترة تروى عن طريق الشيعة والسنّة تؤكّد أنّ عدد الأئمّة الأطهار إثنى عشر إماماً.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كتاب «جلاء البصر» يدحض كلّ هذه الاحتمالات والتوهّمات، ويثبت أنّه حتّى الروايات الّتي تُوُهِّمَ أنّ ظاهرها على كون الأئمّة الأطهار ثلاثة عشر إماماً، فإنّها عند إعادة نظرة أدقّ تدلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر عليهم السلام لا أكثر.

ص: 276

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأولين والآخرين أبي القاسم محمد المصطفى وآله الطاهرين، حجج اللّه على الخلق أجمعين.

يرد في كلّ يوم من شتّى أقطار العالم الإسلامي على بعض فقهاء العصر ومراجع الشيعة - ممّن لا يرتضي التصريح باسمه الشريف (1)- عشرات من المسائل والاستفتاءات حول المعارف الإسلامية والمفاهيم الدينية، والفروع الشرعية العملية وغيرها، بل قد تنوف في بعض الأيام على المائة، فيتصدى - مدّ ظلّه - للإجابة عليها، مع ما هو عليه من الأعمال المرهقة المتعلقة بالحوزاته.

ص: 277


1- المقصود: هو المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني قدس سره، الذي خسرت الاُمة بفقدها أحد الأفذاذ والأركان، والذي كان مثلاً للتواضع وإنكار الذات، فكان يقوم بأعمال عديدة وكبيرة ولا يرضى بذكر اسمه بالمدح والثناء. تغمّده اللّه برحمته الواسعة وأعلى مقامه.

العلمية والجامعات الدينية وبخاصة جامعة قم الإسلامية الكبرى من إدارة شؤونها، والقيام فيها بمهامّ التدريس العالي، وإلقاء المحاضرات العلمية يومياً على مجموعة كبيرة من فضلاء الحوزة، الذين يحضرون مجلس بحثه للاستفادة من علمه الغزير وتحقيقاته القيّمة، بالإضافة إلى نشاطه في خدمة العلم والدين، عن طريق تأسيس المشاريع العلمية والدينية، كالمدارس والمساجد والمكتبات العامة، وتشجيع القائمين بأمثال هذه المشاريع مادّياً ومعنوياً.

يضاف إلى كلّ ما تقدم تصدّيه لإرسال المبلّغين إلى شتّى الأنحاء من المدن والقرى، وإنشاء مستشفى ضخم مجهّز.

هذا بعض ما يقوم به ذلك الرجل الكبير الرائد، الذي لا يحب أن يذكر اسمه الشريف حياءاً واستخفاءً، ولأنّه يستقلّ ذلك كلّه في جنب اللّه تعالى، أطال اللّه بقاءه، فقد أصبح بنعمة اللّه تعالى عَلَماً هادياً، ونجماً لامعاً يهتدي به المؤمنون.

وممّا ورد من الأسئلة على سماحته في هذه الأيام، السؤال التالي:

ما وجه الجمع بين طائفة من الأحاديث التي تدلّ بظاهرها على كون الأئمة الاثني عشر من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو من ولده، أو من ولده وولد علي، أو من ولد علي وفاطمة عليهم السلام، مع غيرها من الأخبار المتواترة التي اتّفق عليها الكلّ في كون الأئمة مع مولانا أمير المؤمنين عليهم السلام اثني عشر، وأنّ أحد عشر منهم من ولد رسول اللّه، صلى الله عليه و آله و سلم فهل يمكن الجمع بينهما على نحو صحيح عرفي، أم يجب طرح الطائفة الاُولى وعدم الاعتداد بها؟

فأمرني بالإجابة على هذا السؤال وحلّ معضلاته، ودَفعُ ما ربّما يُتوهَّم

ص: 278

ترتّبه على ذلك من الإشكال.

وإنّني امتثالاً لأمره الشريف أتصدّى للإجابة عليه، متوكّلاً على اللّه تعالى ومستعيناً به، فأقول:

اعلم أنّ الأخبار المتواترة الدالة على أنّ الأئمة اثنا عشر مأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام من طرق الفريقين.

وقد أخرج كثيراً منها جمع من أكابر علماء العامة، كأحمد بن حنبل في مسنده من خمسٍ وثلاثين طريقاً، والبخاري ومسلم في الصحيحين، والترمذي، وأبي داود، والطيالسي، والخطيب، وابن عساكر، والحاكم، وابن الديبع، والسيوطي، والمتّقي، والبغوي، وابن حجر، والحميدي، والطبراني، والشيخ منصور علي ناصيف، وأبي يعلى والبزّاز وغيرهم(1).ث.

ص: 279


1- يراجع مسند أحمد: ج 5 ص 86 و 87 و 88 و 89 و 90 و 92 و 93 و 94 و 95 و 96 و 97 و 98 و 99 و 100 و 101 و 106 و 107 و 108 و ج 1 ص 398 (ط مصر المطبعة الميمنية سنة 1313 ه) وصحيح البخاري: ص 175 (ط مصر سنة 1355 ه) وصحيح مسلم: ج 2 ص 191 (ط مصر 1348 ه)، وسنن الترمذي: ج 2 ص 45 (ط دهلي 1342 ه)، وسنن أبي داود: ج 2 ص 207 (ط مصر، الطبعة الثانية) والمستدرك على الصحيحين (ط حيدر آباد سنة 1334 ه) في كتاب معرفة الصحابة: ج 3 ص 617 و 618، ومسند أبي داود الطيالسي: ح 767، و ح 1278، وتاريخ بغداد: ج 2 ص 126 رقم 516، و ج 6 ص 263 رقم 3269، ج 14 ص 353 رقم 7673 (ط سنة 1349 ه)، وتيسير الوصول: ج 2 ص 34 ب 1 ف 1 (ط مصر سنة 1346 ه)، وتاريخ الخلفاء: ص 7، والصواعق: ص 18، ف 3 ب 1 (ط مكتبة القاهرة)، وينابيع المودة: ص 258 و ص 445، ومصابيح السنة: ج 2 ص 265 (ط محمدعلي صبيح)، ومنتخب كنز العمّال، المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 312، ومجمع الزوائد: ج 5 ص 190، وغيرها من جوامع الحديث.

وقد صنّف محمد معين السندي - من علماء الجمهور - كتاباً في هذه الأحاديث سمّاه: «مواهب سيّد البشر في أحاديث الأئمة الاثني عشر» كما قد روى هذه الأحاديث جمع من الصحابة:

1 - كأمير المؤمنين علي عليه السلام.

2 - وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها.

3 - والحسن عليه السلام.

4 - والحسين عليه السلام.

5 - وعبداللّه بن مسعود.

6 - وأبي جحيفة.

7 - وأبي سعيد الخُدري.

8 - وسلمان الفارسي.

9 - وأنس بن مالك.

10 - وأبي هريرة.

11 - وواثلة ابن الأسقع.

12 - وعمر بن الخطّاب.

13 - وأبي قتادة.

14 - وأبي الطفيل.

ص: 280

15 - وشفي الأصبحي.

16 - ومكحول.

17 - وعبد اللّه بن عمر.

18 - وعبد اللّه بن أبي أوفى.

19 - وعمّار بن ياسر.

20 - وأبي ذرّ.

21 - وحذيفة بن اليمان.

22 - وجابر بن عبداللّه الأنصاري.

23 - وعبد اللّه بن عباس.

24 - وحذيفة بن اسيد.

25 - وزيد بن أرقم.

26 - وسعد بن مالك.

27 - وأسعد بن زرارة.

28 - وعِمران بن حصين.

29 - وزيد بن ثابت.

30 - وعائشة.

31 - واُمّ سلمة.

ص: 281

32 - وأبي أيوب الأنصاري.

33 - وجابر بن سمرة.

34 - وأبي امامة.

35 - وعثمان بن عفّان.

36 - وعبداللّه بن عمرو بن العاص(1).

وهذه الأخبار على طائفتين:

فطائفة منها ليس فيها إلّاالتصريح بأنّ الخلفاء والأئمة اثنا عشر.

والطائفة الاُخرى تتضمّن أسماء الاثني عشر بعضهم أو جميعهم.

ثمّ إنّ هذه الأخبار حسب استقصائنا الناقص بلغت قريباً من الثلاثمائة حديثاً، والأخبار الدالة على أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام أول الأئمة عليهم السلام تزيد على ذلك بكثير، منها ما ينوف على المائة وثلاثين حديثاً، من جملة الأحاديث الدالة على أنّ الأئمة اثنا عشر، حسب البيان المتقدم، فضلاً عن غيرها(2) ، فلو وجد حديث لا يتوافق مع ظاهر هذه الأحاديث المتواترة وجب تأويله إن أمكن، وإلّا فيطرح ولا ريب في ذلك.م.

ص: 282


1- يراجع في ذلك الكتب التي أشرنا اليها من كتب أهل السنّة، وجوامع حديث الشيعة ومؤلّفاتهم في هذا الموضوع، كالصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم في ثلاثة أجزاء، وإثبات الهداة في سبعة، وكفاية الأثر، ومقتضب الأثر، والمناقب لابن شهر آشوب، وبحار الأنوار، والعوالم، والعمدة لابن بطريق، وكتابنا منتخب الأثر.
2- إن شئت التثبّت في ذلك فراجع البحار، وإثبات الهداة، والصراط المستقيم.

وبعد هذه المقدمة نطرق باب الدراسة والتحليل لهذه الطائفة من الأخبار؛ حتّى يستبين الحق فيها، ويظهر المراد منها، ودراستنا هذه تدور حول أربع جهات:

الاُولى: حول الأحاديث التي تُوهِم عدم موافقتها لتلك الأخبار الصحيحة، والمجمع عليها.

الثانية: حول أسنادها.

الثالثة: حول متونها؟

الرابعة: حول ما يصحّ أن يقال في تأويلها، والجمع بينها وبين غيرها من أحاديثنا المتواترة الموافقة لِما استقرّ عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم الطائفة المحقّة الاثني عشرية، إن رأينا في هذه الأحاديث تعارضاً مع غيرها من الأخبار.

ص: 283

أما الأحاديث:

فمنها: ما رواه شيخنا ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني قدس سره عن محمد بن يحيى، عن عبد اللّه بن محمد الخَشّاب، عن ابن سَماعَة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زُرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الإثنى عشر الإمام من آلِ محمدٍ عليهم السلام كلهم محدَّث، من وُلدِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن ولد علي، ورسول اللّه وعلي هما الوالدان عليهماالسلام...» الحديث(1).

ومنها: ما رواه الكليني رضى الله عنه أيضاً عن أبي علي الأشعري، عن الحسن بن عُبَيد اللّه، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن علي بن سماعة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول:

ص: 284


1- الكافي: ج 1 ص 531 باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم عليهم السلام (ط دار الكتب الإسلامية).

«الاثنا عَشَر امام(1) من آل محمد كلّهم محدّث من وُلد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن وُلد علي بن أبي طالب، فرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام هما الوالدان»(2).

ومنها: ما أخرجه ثقة الإسلام رضوان اللّه عليه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن أبي سعيد العصفوري، عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي واثنا عشر من ولدي وأنت يا علي رَزّ(3) الأرض، يعني أوتادها «و» جبالها،8.

ص: 285


1- كذا في الأصل، والظاهر (الاثنا عشر إماماً).
2- الكافي: الباب المذكور آنفاً: ج 1 ص 533، ح 14.
3- كذا في النسخة المطبوعة الموجودة عندنا، قال في القاموس: ج 2 ص 176: رزّت الجرادة وترزّ: غرزت ذنبها في الأرض لتبيض كأرزت، والرجل طعنه، والباب أصلح عليه الرزّة، وهي حديدة يدخل فيها القفل، والشيء في الشيء أثبته. وقال العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول: فقوله: «يعني أوتادها» كلام أبي جعفر عليه السلام أو بعض الرواة، والمعنى: أنّه شبّههم عليهم السلام بالرزّ الذي هو سبب استحكام الأرض وشدها وإغلاقها، كذلك هم في الأرض بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض بالنسبة إليها، فقوله: «جبالها» عطف بيان للأوتاد، كما قال تعالى: (والجبال أوتاداً) سورة النبأ: الآية 7. وفي الغيبة: «وجبالها» كما في بعض نسخ الكتاب، وهو أظهر، فيكون عطفاً على «رزّ» من كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، أو على أوتادها، فيكون من كلام الإمام عليه السلام، والأول على هذا أصوب. وفي بعض النسخ: «زرّ الأرض» بتقديم الزاء على الراء المهملة، كما ضبطه في الوافي، ولعلّ هذا هو الأظهر والأبلغ لبيان المراد. قال في القاموس: ج 2 ص 38: الزرّ - بالكسر - الذي يوضع في القميص، (ج) أزرار، وزرور، وعظم تحت القلب، وهو قوامه. انتهى. فعلى هذا أُطلق عليهم ذلك لأنّهم قوام الأرض، فلا تقوم إلّابهم، ولو بقيت الأرض بغير حجّة لساخت بأهلها، كما لا يقوم أمر أهل الأرض إلّابهم، واتّباع آثارهم والاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم عليهم السلام، قد ثبت ذلك بالروايات والنصوص الكثيرة، ويظهر من بعض الأخبار المخرجة من طرق أهل السنّة أيضاً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يدعى في لسان الصحابة بهذا اللقب، ويعترفون له هذا العنوان. قال في النهاية في حديث أبي ذرّ: قال يصف علياً عليه السلام: إنّه لَعالِمُ الأرض وزرّها الذي تسكن إليه، أي قوامها، وأصله من زرّ القلب، وهو عظم صغير يكون قوام القلب به، وأخرج الهروي هذا الحديث عن سلمان. انتهى كلام ابن الأثير. وهذا المقام الدالّ عليه المعنى المتقدّم الذي أفصح أبو ذرّ وسلمان بثبوته لمولانا علي عليه السلام هو مقام الولاية الكبرى والإمامة العظمى، التي لا يمكن تقلّدها إلّابإذن اللّه ونصبه، وهو المنصب الإلهي الذي يكون صاحبه والياً ومشرفاً على جميع امور الدين والدنيا بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهو مقام الخلافة التي لا يليها إلّاأئمة أهل البيت، أعني الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهم بَلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج اللّه وبيّناته. نهج البلاغة: ج 3 ص 178.

بنا أوتدَ اللّهُ الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخَت الأرضُ بأهلها ولم يُنظروا»(1).

ومنها أيضاً: ما أخرجه أبو جعفر الكليني بهذا الإسناد، عن أبي سعيد رفعه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من وُلدي اثنا عشر نقيباً، نجباء، محدَّثون، مفهَّمون، آخرهم القائم بالحق، يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً»(2).8.

ص: 286


1- الكافي: ج 1 ص 534، ح 17.
2- الكافي: ج 1 ص 534، ح 18.

ومنها أيضاً: ما رواه عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد اللّه الانصاري، قال: «دخلتُ على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم عليه السلام، ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي»(1).

وأخرجه الشيخ قدس سره بسنده عن جابر ين يزيد(2).

ومنها: ما رواه أيضاً، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن مُسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه، ومحمد بن الحسين، عن إبراهيم، عن ابن أبي يحيى المَديني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت حاضراً لمّا هلك أبو بكر واستخلف عمر، أقبل يهودي من عظماء يهود يثرب، وتزعم يهود المدينة أنّه أعلم أهل زمانه، حتى رفع إلى عمر، فقال له: يا عمر، إنّي جئتك اريد الإسلام، فإن أخبرتني عمّا أسألك عنه فأنت أعلم أصحاب محمد بالكتاب والسنّة، وجميع ما اريد أن أسأل عنه. قال: فقال له عمر: إنّي لستُ هناك، لكنّي ارشدك إلى مَن هو أعلم امتنا بالكتاب والسنّة، وجميع ما قد تسأل عنه، وهو ذاك، فأومأ إلى علي عليه السلام، ثم ذكر احتجاج اليهودي على عمر، وما سأل أمير المؤمنين عنه... إلى أن قال: فأخبرني عن هذه الاُمة كم لها من إمام هدى؟ وأخبرني عن نبيكم محمد أين منزله في الجنة؟ وأخبرني مَن معه في الجنة؟2.

ص: 287


1- الكافي: ج 1 ص 532، ح 9.
2- الغيبة: ص 92.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ لِهذه الاُمة اثني عشر إمامَ هدىً من ذرّية نبيّها، وهم منّي، وأمّا منزل نبينا في الجنة ففي أفضلها وأشرفها جنة عَدن، وأمّا مَن معه في منزله فيها فهؤلاء الاثنا عشر من ذرّيته، واُمّهم، وجَدّتهم، واُمّ امّهم وذراريهم، لا يشركهم فيها أحد(1).

وأخرجه الشيخ رضى الله عنه بهذا الإسناد، إلّاأنّه قال: عن إبراهيم بن أبي يحيى المدني، وقال «في منزله منها» بدل «في منزله فيها»(2).

ومنها: ما أخرجه الشيخ أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزّاز القمّي، قال: حدّثنا أبو الفضل محمد بن عبد اللّه رحمه الله، قال: حدّثنا رجاء بن يحيى أبو الحسن اليسرباني(3) الكاتب، قال: حدّثنا محمد بن علاء - بسُرَّ من رأى - أبو بكر الباهلي، قال: حدّثنا معاذ بن معاذ قال: حدّثنا ابن عوف، عن هشام بن يزيد، عن أنَس بن مالك، قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن حواري عيسى؟ فقال: «كانوا من صفوته وخيرته، وكانوا اثني عشر..» - إلى أن قال - فقلت:

فمن حواريّك يا رسول اللّه؟ فقال: «الأئمة بعدي اثنا عشر من صلب علي وفاطمة، وهم حوارِيَّ وأنصاري، عليهم من اللّه التحية والسلام»(4).ك.

ص: 288


1- الكافي: ج 1 ص 352، ح 8.
2- الغيبة للطوسي: ص 98.
3- سند الحديث على ما في البحار: ج 36 ص 309، ح 149 هكذا: أبو المفضّل، عن رجاء بن يحيى العبرتائي الكاتب، عن محمد بن خلّاد الباهلي، عن معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك.
4- كفاية الأثر: في باب ما جاء عن أنس بن مالك.

ومنها: ما خرّجه الشيخ الخزّاز قال: حدّثني محمد بن وهبان، قال:

حدثّني جدّي إسحاق بن البهلول، قال: حدّثني أبو البهلول بن حسّان، قال:

حدّثني طلحة بن زيد الرقّي، عن الزبير بن عطاء، عن عمير بن هاني العيسى، عن جنادة بن أبي امية، قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام في مرضه... - إلى أن قال: - فقلت: يا مولاي، مالك لا تعالج نفسك؟ فقال: «يا عبد اللّه، بماذا اعالج الموت؟»، فقلت إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. ثمّ التفت إلي فقال:

«واللّه إنّه لَعَهدٌ عَهِده إلينا رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، إنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من وُلد علي وفاطمة، ما منّا إلّامسموم أو مقتول»(1).

هذا ما عثرت عليه من الأخبار ممّا قد يُوهِم ظاهره خلاف ما دلّت عليه الأخبار المتواترة، من حصر الأئمة في الاثني عشر، وأنّ أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام.1.

ص: 289


1- كفاية الأثر: في باب ما جاء عن الحسن عليه السلام، وأخرجه في الصراط المستقيم: ج 2 ص 128، وفي الإنصاف: ص 121.

ص: 290

أمّا الكلام في أسنادها:

فنقول: أمّا الرواية الاُولى والثانية فقد صرّح العلّامة المجلسي رضى الله عنه في مرآة العقول بمجهوليتهما، وإنّما جعلتا روايتان وتكرّر نقلهما في الكافي لتعدّد سندهما، وإلّا فلا ريب في أنّهما رواية واحدة، رواها زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، كما لا ينبغي الاعتماد على كل واحد من سنديهما. أمّا السند الأوّل: فمحمد بن يحيى هو أبو جعفر العطّار القمي، من مشايخ الكليني، شيخ أصحابنا في زمانه ثقة عين، كثير الحديث، وعبداللّه بن محمد من مشايخه، وهو أخو (بنان) أحمد بن محمد بن عيسى، فهو ليس بالخشّاب، والصحيح عبداللّه بن محمد، عن الخشّاب، والظاهر أنّه الحسن بن موسى الخشّاب، كما وقع في السند الثاني، وهو من وجوه أصحابنا، مشهور كثير العلم والحديث.

وعلّة السند في علي بن سماعة؛ لأنّه غير مذكور في كتب الرجال، والمذكور أخوه الحسن بن سماعة، فيمكن وقوع التصحيف فيه، وما في النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول، والنسخة التي أخرجنا منهاالحديث «ابن

ص: 291

سماعة»، وعليهما فيحتمل أن يكون هو الحسن بن سماعة بن مهران، وهو واقفي لم تثبت وثاقته، ويحتمل أن يكون الحسن بن محمد بن سماعة، فإنّه يروى أيضاً عن علي بن الحسن بن رباط(1) ، وهو أيضاً من شيوخ الواقفية، ثقة، كثير الحديث، وكان يعاند في الوقف، ويتعصّب، ويحتمل أن يكون ابن سماعة، هو محمد بن سماعة بن موسى بن رويد، أو محمد بن سماعة بن مهران، وقد أنكر وجود الثاني صاحب تنقيح المقال.

والكلام في ترجيح هذه الاحتمالات بعضها على بعض لا ينتهي إلى ما تركن إليه النفس، ويخرج السند من الجهالة؛ فلذا لا نطيل الكلام في ذلك. فظهر أنّ علّة هذا السند هو كون الراوي عن علي بن الحسن بن رباط مجهولاً، لم يعلم أنه علي بن سماعة، أو الحسن بن سماعة، أو الحسن بن محمد بن سماعة، أو محمد بن سماعة.

وأمّا علي بن الحسن بن رباط فهو ثقة، معوَّل عليه، من أصحاب مولانا الرضا عليه السلام.

وابن اذَينة شيخ من أصحابنا البصريين، ووجههم، روى عن أبي عبداللّه عليه السلام.

وأمر زرارة في جلالة القدر معلوم.

وأمّا السند الثاني: فالظاهر أنّ أبا علي الأشعري هو أحمد بن إدريس1.

ص: 292


1- يراجع في ذلك الاستبصار: باب ما يحرم جارية الأب على الابن ج 3 ص 211، ح 765، وباب أنّه تحجب الاُمّ عن الثلث ج 3 ص 141، ق 2، ح 524، والتهذيب: ج 9 ص 285، ح 1032، و ج 7 ص 291، ح 1221.

القمّي، الثقة، الفقيه، كثير الحديث، توفّي بالقرعاء سنة ستٍّ وثلاثمائة.

وأمّا الحسن بن عبداللّه أو عبيد اللّه فهو أيضاً قمّي، ولكنّه مرمىً بالغُلوّ، وعلي بن سماعة - على ما بيّنّاه - ليس مذكوراً في كتب الرجال، إلّاأنّ الشيخ قدس سره ذكر «الحسن بن سماعة» بدل «علي بن سماعة»(1) ، وهو - كما قرأت - واقفي لم تثبت وثاقته، مع أنّ المفيد أيضاً أخرجهاعن علي بن سماعة، وبذلك يضعف احتمال التحريف، ويقوي جهالة السند.

ومثل هذا السند غير معتبر أيضاً فلا يعتمد عليه.

وأمّا الحديث الثالث: فمحمد بن يحيى هو أبو جعفر العطّار القمّي المذكور في سند الرواية الاُولى، ومحمد بن أحمد هو محمد بن أحمد بن يحيى، وهو وإن كان جليل القدر ثقة في الحديث إلّاأنه كان يروى عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل، ولا يبالي عمّن أخذ(2).

وكان محمد بن الحسن الوليد يستثني من روايته ما رواه عن جماعة سمّاهم، وهو صاحب كتاب «نوادر الحكمة»، كتاب يعرفه القمّيون بدبّة شبيب(3).ك.

ص: 293


1- غيبة الشيخ الطوسي: ص 97.
2- يراجع في ذلك وغيره مما ذكرناه في هذه الرسالة من أحوال الرجال الكتب الرجالية مثل: جامع الرواة، والفهرست، ورجال العلامة، والنجاشي، والكشي، وتنقيح المقال، ومنهج المقال وغيرها.
3- شبيب فامي كان بقم له دبة ذات بيوت يعطي منها ما يطلب منه من دهن فشبّهوا هذا الكتاب بذلك.

ومحمد بن الحسين هو ابن أبي الخطّاب الهمداني، جليل من أصحابنا، ثقة، عين، عظيم القدر، كثير الرواية.

والظاهر أنّ أبا سعيد العُصفوري وأبا سعيد العصفري وعبّاد بن يعقوب الرواجني واحد، كما نبّه عليه شيخنا النوري عليه الرحمة.

وقال في جامع الرواة في عباد بن يعقوب: تقدّم عن «جش» قول بأن هذا، وأبا سعيد العصفري واحد (مح).

قال ابن حجر: صدوق رافضي. وعن الذهبي: شيعي وثقة، أبو حاتم، له أخبار المهدي.

وأمّا عمرو بن ثابت فهو ابن أبي المقدام، من أصحاب مولانا الصادق عليه السلام، ثقة على الأظهر.

وأبو الجارود هو زياد بن منذر، وإليه تُنسب الجارودية، رويت في ذمّه روايات تضمّن بعضها كونه كذّاباً كافراً.

وأمّا الحديث الرابع: فهو مرفوع، وقد عرفت رجال سنده إلى أبي سعيد.

والحديث الخامس: يظهر ضعف سنده ممّا تقدّم في أبي الجارود.

وأمّا الحديث السادس: فقال المجلسي قدس سره في مرآة العقول: سنده الأول صحيح، لكنّ الظاهر أنّ فيه إرسالاً؛ إذ مسعدة من أصحاب الصادق عليه السلام، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، من أصحاب الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام، لكن يروي هارون بن مسلم عنه كثيراً، مع أنّه قال النجاشي فيه: لقي أبا محمد وأبا الحسن، فيحتمل أن يكون مسعدة معمّراً، روى عنه محمد.

ص: 294

أقول: لا يدفع بذلك احتمال الإرسال؛ لبعد عدم فوز مثل مسعدة بن زياد بلقاء مولانا الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام في مدة تزيد على خمسين سنة، وعدم روايته عنهم ولو بالمكاتبة، أو بالواسطة، فالظاهر أنّه توفّي في زمان الصادق عليه السلام، وقد قبض في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، أو أوائل عصر الكاظم عليه السلام، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، توفّي في سنة اثنتين وستّين ومائتين، وبذلك يستبعد رواية محمد بن الحسين عنه بلا واسطة، بل ورواية هارون بن مسلم، فبقي احتمال الإرسال على حاله، واللّه أعلم.

وأمّا سند الثاني فمجهول عامّي، كما صرّح به في مرآة العقول.

وأمّا الحديث السابع: فضعيف، لم نعثر على بعض رجاله في ما عندنا من كتب رجال الشيعة.

والحديث الثامن: أيضاً لم نعرف بعض رجاله، ولا يخفى عليك، أنّ الأحاديث والنصوص المخرجة في كفاية الأثر أكثر رجالها وأسنادها من العامة، فإنّ مؤلفه رضى الله عنه صنّف هذا الكتاب لتخريج ما روى بأسانيدهم في النصّ على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فلا اعتداد بما في هذين الخبرين (السابع والثامن) إن ثبت أنّ ظاهر بعض ألفاظهما يخالف مذهب الحق، ولا يقبل التأويل، بعدما ملأ الخزّاز كتابه هذا بالأحاديث الصريحة على عددهم، وأسمائهم، وأوصافهم من طرق العامة، فراجع كتابه حتى تعرف كثرة هذه الأحاديث من طرقهم.

هذا تمام الكلام في أسناد هذه الأحاديث، وقد عرفت عللها، وأنّها بنفسها لا تنهض حجة، ولا يُعتَمَد عليها.

ص: 295

ص: 296

متون الأحاديث:

اعلم أنّ متن الحديث الأول والثاني واحد، وحيث إنّ المروي عنه في كليهما أيضاً واحد، وينتهي سند كل واحد منهما إلى علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زرارة، فلا ريب في اتحادهما، كما نبّهنا عليه.

والظاهر أنّه وقع في هذا المتن تحريف، فإنّ المفيد رضى الله عنه أخرج هذا الحديث بسنده عن الكليني، ومتنه هكذا: «الاثنا عشر الأئمة من آل محمد كلّهم محدَّث: علي بن أبي طالب، وأحد عشر من وُلده، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي هما الوالدان»(1).

وأخرجه الصدوق رضى الله عنه أيضاً عن محمد بن علي ماجيلويه رضى الله عنه عن الكليني - رضوان اللّه تعالى عليه - بهذا اللفظ: «اثنا عشر إماماً من آل محمد عليهم السلام كلّهم

ص: 297


1- الإرشاد: ص 375، في باب ماجاء من النصّ على إمامة صاحب الزمان الثاني عشر من الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

محدّثون بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعلي بن أبي طالب منهم»(1).

فالمعوّل على رواية المفيد والصدوق عن الكليني، فإنّها كما توافق غيرها من الروايات المتواترة توافق عنوان الباب الذي أخرج الكليني فيه هذا الحديث، وتوافق الأخبار المخرجة في نفس هذا الباب.

وأظنّ أنّ التحريف في هذا المتن ناتج عن نقل معنى الحديث ومضمونه، دون التقيّد بألفاظه، فاشتبه على بعض الرواة، أو أنّ الناقل تسامح في مقام النقل اتّكالاً على وضوح كون عدد الأئمة اثني عشر، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام منهم وأولهم، وليس خارجاً عنهم، فلا تجد في فرق المسلمين من كان معتقداً بهذا العدد، ولا يرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام منهم.

وكيف كان فالاعتماد على متن الحديث على لفظ الإرشاد، والخصال، وعيون أخبار الرضا عليه السلام.

وأمّا متن الخبر الثالث والرابع: فلا ريب أيضاً في وقوع التصحيف فيهما، فإنّ أصل أبي سعيد الذي روى عنه هذان الخبران من الاُصول الموجودة عندنا، وفيه تسعة عشر حديثاً، ولفظ الحديث الثالث في هذا الأصل هكذا: «إنّي وأحد عشر من وُلدي، وأنت يا علي زرّ الأرض، أعني أوتادها جبالها»، وقال:

«وتَّد اللّه الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها، ولم يُنظروا»(2).6.

ص: 298


1- العيون: ج 1 ص 57، الخصال: ج 2 ص 480، ح 49، البحار: ج 36 ص 393، باب 45، ح 6.
2- أصل أبي سعيد: ص 16، ح 6.

وهذا المتن كما ترى تامّ مستقيم.

ولفظ الحديث الرابع: قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من وُلدي أحد عشر نقيباً نجيباً [نقباء، نجباء خ ل] محدَّثون، مفهَّمون، آخرهم القائم بالحق يملؤها [الأرض خ ل] عدلاً كما ملئت جوراً»(1).

وهذا المتن أيضاً موافق لألفاظ سائر الأحاديث المتواترة.

وأمّا الخبر الخامس: فقد أخرجه الصدوق بطريقين: عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبداللّه الأنصاري بهذا اللفظ: قال: دخلتُ على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم عليه السلام، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي عليهم السلام»(2).

وأخرجه أيضاً في كمال الدين بهذا اللفظ(3).

وأوضح من ذلك شاهداً على وقوع التحريف في خبر الكافي، وأنّه مختصر من متنه الطويل: ما أخرجه الصدوق قدس سره قال: حدّثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدَّب، وأحمد بن هارون القاضي - رضي اللّه عنهما - قالا: حدّثنا4.

ص: 299


1- أصل أبي سعيد: ص 5، ح 4، وفي المناقب: ج 1 ص 300، وفي حديث أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من أهل بيتي اثنا عشر نقيباً محدَّثون، مفهَّمون، منهم القائم بالحق يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً». وهذا اللفظ أيضاً موافق لألفاظ سائر الروايات المعتبرة.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ص 46 و 47، ح 6 و 7.
3- كمال الدين: ج 1 ص 269، ح 13 و ص 311، ح 3، و ص 313، ح 4.

محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري الكوفي، عن مالك السلولي، عن درست بن عبد الحميد، عن عبد اللّه بن القاسم، عن عبداللّه بن جبلّة، عن أبي السفاتج، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: دخلتُ على مولاتي فاطمة عليها السلام وقُدّامها لوح يكاد ضوؤه يُغشي الأبصار، فيه اثنا عشر اسماً، ثلاثة في ظاهره، وثلاثة في باطنه، وثلاثة أسماء في آخره، وثلاثة أسماء في طرفه، فعددتها فإذا هي اثنا عشر اسماً، فقلت: أسماء من هؤلاء؟ قالت: «هذه أسماء الأوصياء، أولهم ابن عمّي، وأحد عشر من وُلدي، آخرهم القائم صلوات اللّه عليهم أجمعين» قال جابر: فرأيت فيها محمداً محمداً محمداً في ثلاثة مواضع، وعلياً وعلياً وعلياً وعلياً في أربعة مواضع(1).

فالعارف الخبير بفنّ الحديث يعرف أنّ ما رواه الكليني في الكافي، والصدوق في العيون وكمال الدين، والشيخ في الغيبة هو مختصر هذا الحديث.

وأمّا متن الحديث السادس: فالظاهر أنّ موضوعه هو مجيء يهودي إلى عمر للسؤال عما أراد، وأنّ عمر أرشده إلى أمير المؤمنين عليه السلام، هو بعينه موضوع ما رواه الكليني أيضاً في هذا الباب: 529/1 و 530، ح 5، و 294/1 و 295 و 296 ح 3. وما رواه الصدوق في كمال الدين عن أبي الطفيل، وما رواه بسنده أيضاً في كمال الدين عن أبي عبد اللّه عليه السلام: 297/1 و 298 و 299، ح 5، وفيه أيضاً في: 299/1 و 300، ح 6، وفيه أيضاً: ص 300، ح 7، و ص 301 و5.

ص: 300


1- كمال الدين: ج 1 ص 311، ح 2، عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 46، ح 5.

302، ح 8، وفي عيون أخبار الرضا: 53/1 و 54، ح 19، وفي الخصال:

476/2 و 477، ح 40، وفي مقتضب الأثر، عن عمر بن سلمة: 14 و 15 و 16 و 17، وأخرجه في ينابيع المودَّة: 443 عن عامر بن واثلة. وفي فرائد السّمطين على ما في العبقات: 240/2، ح 12.

فالظاهر أنّ كلّ هذه الأحاديث حكاية عن واقعة واحدة، ولفظ الحديث في بعضها: «إنّ لمحمدٍ إثني عشر إمامَ عدل».

وفي بعضها: «يكون لهذه الاُمّة بعد نبيها إثنا عشر إماماً عدلاً، والذين يسكنون معه في الجنة هؤلاء الأئمة الاثنا عشر.

وفى بعضها: «فإنّ لهذه الاُمة اثني عشر إماماً هادين مهديّين»، وأمّا قولك: «مَن مع محمد صلى الله عليه و آله و سلم من امته في الجنة، فهؤلاء الاثنا عشر أئمة الهدى».

وفي بعضها: «إنّ لمحمد من الخلفاء اثني عشر إماماً عدلاً، ويسكن مع محمد في جنة عَدن معه اولئك الإثنا عشر الأئمة العدل».

ولفظ بعضها: «يا هارونيّ، لمحمد بعده اثنا عشر إماماً عدلاً، ومنزل محمد في جنة عدن، والذين يسكنون معه هؤلاء الاثنا عشر».

وبعضها هكذا: قال: «كم لهذه الاُمة من إمام هدىً لا يضرّهم مَن خالفهم؟ قال: اثنا عشر إماماً، قال: فمن ينزل معه (يعني مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم) في منزله؟ قال: اثنا عشر إماماً».

وبهذه المتون المعتبرة جدّاً يصحّح متن الحديث المرويّ عن أبي سعيد

ص: 301

الخُدري، وتشهد كلّها بوقوع التصحيف فيه، أو المسامحة في نقل ألفاظه أو مضمونه، فلا ريب في أنّ المعتمد عليه هو هذه المتون الكثيرة(1).

وأمّا الحديث السابع: فلم أعثر بعدُ على متنٍ آخر له.

وأمّا الحديث الثامن: فقد روى في كفاية الأثر في الباب الذي روى فيه هذا الحديث حديثاً آخر عن مولانا الإمام أبي محمد الحسن السبط عليه السلام أيضاً، وساق الكلام إلى أن قال: «ولقد حدّثني حبيبي، عن جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنّ الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته».

وهذا المتن خالٍ من الإشكال، ولا يبعد اتحاده مع ما رواه جنادة بن أبي امية عنه عليه السلام، بل الظاهر اتحادهما.

وعمدة السبب في هذا الاختلاف في ألفاظ بعض الأحاديث: رواية الحديث بالمضمون والمدلول، وغفلة بعض الرواة أو تسامحه، وعدم اهتمامه بحفظ لفظ المعصوم، فلابدّ من تصحيح مثل هذه المتون بغيرها من المتون المعلومة صحّتها، ولابدّ في ذلك من الرجوع إلى خبراء الفنّ العارفين بالمتون السليمة والسقيمة. وعندي أنّ هذا الفن - يعني معرفة المتون - من مهمّات علم الحديث.

هذا تمام الكلام في أسناد هذه الأحاديث ومتونها.

ولقد ظهر لك ممّا تقدم أنّ هذه الأسانيد بنفسها لا تنهض حجّةً في قبالم.

ص: 302


1- راجع البحار: ج 36، الباب 42، باب نصّ أمير المؤمنين على الأئمة عليهم السلام.

الأحاديث المتواترة وأسانيدها، بل ليست بحجّة مطلقاً، كما أنّ هذه المتون أيضاً لا يُحتَجُّ بها، فإذا كان ولابدّ من الاحتجاج بها فلا يحتجّ إلّابما هو خالٍ من الإشكال، مؤيّد بغيره، فإنّ الأخبار يُقوّي بعضها بعضاً.

وعليه فلا حاجة لنا إلى النظر في المتون المذكورة وتأويلها وشرحها، على ما يوافق المذهب واتفق عليه أهل الحق.

ولكن لا بأس بإجراء الكلام في ذلك أيضاً؛ تتميماً للفائدة؛ وحرصاً على دفع هذه الشبهة؛ ووفاءً بما وعدناه في ابتداء هذه الرسالة.

ص: 303

ص: 304

ما يصحّ أن يقال في توجيه هذه الأحاديث:

اعلم أوّلاً: أن بعض هذه المتون ظاهر في انحصار الأئمة في الاثني عشر، وخروج أميرالمؤمنين عليه السلام منهم، كالحديث السادس والسابع والثامن، بل الأول والثاني، وهذا مخالف للضرورة وإجماع الكلّ من عصر المعصومين عليهم السلام إلى زماننا هذا، وهذا الإجماع والضرورة قرينة قطعية على عدم إرادة ظاهرها، وأنّ الكلام على فرض صدوره جرى على ما جرى للغلبة؛ أو لكون أكثرهم من صلب علي، أو من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أو أنّه قد استُعير لفظ «الذرّية» للعترة، واُريد بها ما يعمّ الولادة الحقيقية والمجازية، أو لوجوه اخرى مذكورة في البحار وفي مرآة العقول(1).

وثانياً: الظاهر أنّ كلّ من أخرج هذه الأحاديث - كشيخنا الكليني قدس سره، ومشايخه وتلامذته - إنّما أخرجوها في باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ

ص: 305


1- انظر: بحار الأنوار: ج 36 ص 398، ومرآة العقول: ج 1 ص 437.

عليهم؛ لأنّهم رأوا أنّ هذه المتون تقبل الجمع مع غيرها من الروايات، وبذلك يرتفع التنافي بينهما على فرض وجوده.

وثالثاً: إنّنا إذا سبرنا الأحاديث يتحصّل لنا منها: أنّهم عليهم السلام سلكوا في إطلاقاتهم وألفاظهم في هذا الباب مسلك المجاز، فأطلقوا على الأئمة عليهم السلام ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو ولده، أو أنّهم من ولد علي وفاطمة تغليباً؛ لكون أكثرهم من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن ولد علي وفاطمة عليهم السلام؛ ولمعلومية أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ليس من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن ولد فاطمة، وبهذا الشاهد يرتفع الإشكال.

فمن الأخبار التي اطلق فيها لفظ «الذرّية» على جميعهم: ما أخرجه الخزّاز بسنده، عن مولانا سيد الشهداء الحسين عليه السلام قال: دخل أعرابي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد الإسلام، ومعه ضَبّ...، وساق الحديث إلى أن قال: فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنّك رسول اللّه حقاً، فأخبرني يا رسول اللّه هل يكون بعدك نبي؟ قال: لا، أنا خاتم النبيين، ولكن يكون أئمة من ذرّيتي قوّامون بالقسط كعدد نقباء بني إسرائيل، أولهم علي بن أبي طالب هو الإمام والخليفة بعدي، وتسعة من الأئمة من صلب هذا، ووضع يده على صدري، والقائم تاسعهم يقوم بالدين في آخر الزمان، كما قمت في أوله...» الحديث(1).7.

ص: 306


1- كفاية الأثر: باب ما جاء عن الحسين عليه السلام، بحارالأنوار: ج 36 ص 342 و 343، ح 208، وكتابنا منتخب الأثر: ص 88 و 89، الفصل 1، الباب 7، ح 17.

فمثل هذا الحديث صريح في أنّ هذه الإطلاقات والتعبيرات إنّما صدرت مجازاً واتّكالاً على القرينة ووضوح المراد.

وأمّا الحديث الثالث: فيحتمل فيه أن تكون فاطمة عليها السلام مشمولة به ضمن لفظ «الاثني عشر»، بل إنّ ذلك هوالظاهر من الحديث، ومن قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إني واثنا عشر من ولدي، وأنت يا علي رزّ الأرض».

هذا، مضافاً إلى صحّة إطلاق الولد على أميرالمؤمنين، وعلى سائر الأئمة تغليباً، وعطف «أنت» عليه من قبيل عطف الخاصّ على العام تأكيداً وتشريفاً، كعطف جبرئيل على الملائكة(1).

وفي الحديث الرابع: أيضاً إنّما قال: «من ولدي» تغليباً؛ أو لكون أكثرهم من ولده.

والحديث الخامس: أيضاً مثله، ويمكن أن يكون المراد من قوله:

«فعددت» يعني فعددتهم مع والدهم اثني عشر، آخرهم القائم، ثلاثة منهم - أي من ولدها - محمد، وثلاثة منهم - أي من ولدها - علي، حيث إنّه لا حاجة في مثل هذا المقام إلى ذكر أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه كان معروفاً بالإمامة، فلا يشكّ في إمامته من رأى الإمامة في ولده، وإنّما أخبر الراوي عن سائر من اسمه علي؛ لأنّه لم تُعلَم إمامتهم كما عُلِمت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنّ منهم من لم يكن موجوداً في ذلك الزمان، وهما اثنان: الإمام علي بن موسى الرضا، والإمام علي بن محمد النقي عليهما السلام.0.

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج 36 ص 260.

وحاصل ما ذكرناه في علل هذه الأحاديث امور:

1 - إنّ أسنادها غير معتبرة، فلا يجوز الاعتماد عليها بنفسها.

2 - إنّ متونها مصحفة محرفة، يشهد بتصحيفها وتحريفها غيرها من الروايات المتواترة، فينبغي تصحيح متونها بها.

3 - إنّ لبعضها متوناً اخرى بألفاظ صحيحة وسليمة من الإشكال، فينبغي أن يكون الاعتماد عليها، لا عَلى غيرها.

4 - وعلى فرض صحة صدور هذه المتون فاللازم إنّما هو الجمع بينها وبين سائر الروايات بما ذكرنا، من حملها على التجوّز والتغليب، وغيرهما ممّا لا يأبى العرف وأهل اللسان صحّته.

فإن قلت: فما وجه تخريج هذه الأحاديث في الجامع الكافي مع ما فيها من العلل، ولزوم حمل ألفاظها على المجاز وترك ظواهرها؟

قلت أولاً: إنّ استعمال المجازات ليس خارجاً عن قانون المحاورة، وليس استعمال الألفاظ في معانيها المجازية أقلّ من استعمالها في معانيها الحقيقية لو لم يكن أكثر، ولا فرق في حجّية ظواهر الألفاظ بين الاستعمالات الحقيقية والمجازية، فكلّهما حجّة عند أهل اللسان.

وثانياً: أنّ مَهَرة فنّ الحديث العارفين بعلل الأحاديث، وما وقع فيها من التغيير والتصحيف إسناداً أو متناً لا يطرحون الحديث بمجرد هذه العلل بعد وضوح مورد التصحيف والتغيير، فكثيراً ما نرى في كتب الخاصة والعامة أنّهم يصحّحون الأسانيد وأسماء رجالها وطبقاتها بغيرها، ويصحّحون ألفاظ الحديث

ص: 308

أيضاً بألفاظ حديث آخر، ويحملون بعض الألفاظ على المجاز بقرينة غيرها من الروايات، ولا يشكّون في ذلك.

فبناءً على ما تقدم نقول: إنّ الكليني رضى الله عنه، الخرّيت في صناعة معرفة الحديث إنّما أدخل هذه الأخبار في باب ما جاء في الأئمة الاثني عشر والنصّ عليهم؛ لعلمه الأكيد بأنْ ليس لهذه الأخبار محامل اخرى غير التنصيص على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فلا يجوز رفع اليد عنها وتركها وطرحها، فإنّ ذلك لا يصدر إلّامن الجاهل الذي لا يعرف أحوال الأحاديث، ولا يدري أنّ الأخبار يفسّر بعضها بعضاً، ويبيّن بعضها إجمال بعضها الآخر، وأن إسنادها يقوّي ويعتمد عليها بغيرها.

هذا ما وفّقنا اللّه تعالى إليه من الكتابة حول هذه الأحاديث الشريفة مع كمال الاستعجال، وكثرة المشاغل، وتشتّت البال، وقد ظهر بما لا مزيد عليه صحة الاستناد والاعتماد عليها؛ لإثبات إمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، الذين هم سادتنا، وشفعاؤنا، وأولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعده ابنه الحسن عليه السلام، وبعده الحسين عليه السلام، وبعده ابنه علي بن الحسين عليهما السلام، وبعده ابنه محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وبعده جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وبعده موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام، وبعده علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وبعده محمد بن علي الجواد عليهما السلام، وبعده علي بن محمد النقي عليهما السلام، وبعده الحسن بن علي العسكري الأمين عليهما السلام، وبعده ابنه مولانا وسيدنا ناموس الدهر، وولي العصر الحجة بن الحسن المهدي، عجّل اللّه تعالى فرجه، وصلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين.

ص: 309

اللهمّ اجعلنا من أنصاره وأعوانه ومقوّي سلطانه.

قد تمّ تأليف هذه الرسالة في اليوم السابع والعشرين من جمادى الثانية من شهور سنة 1391 ه ق.

قم المشرّفة

لطف اللّه الصافي الگپايگاني

ص: 310

مشروعية الاستخارة: وأ نّها ليست من الاستقسام بالأزلام

اشارة

ص: 311

ص: 312

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

قبل سنوات نشر شيخ الجامع الأزهر، محمود شلتوت، في مجلة «رسالة الاسلام» القاهرية مقالاً في التفسير، فأورد الآية الشريفة [وأن تَسْتَقْسِموا بالأزلام](1) التي تشير إلى هذه السنّة الجاهلية المنهيّ عنها ويقرنها ب «الاستخارة» التي وردت في روايات معتبرة عن أهل البيت عليهم السلام والمتعارف عليها بين الشيعة.

فانبرى المؤلّف بأمر من المرجع الفقيد آية اللّه العظمى البروجردي قدس سره لكتابة هذه الرسالة ردّاً على الشيخ شلتوت وتذكرة له، وبعث بها إليه.

يقوم الكاتب في هذه الرسالة بإيراد تحقيق كامل عن الاستقسام بالأزلام ويثبت عدم مشابهته للاستخارة.

ومن جملة الاُمور التي يذكرها المؤلف في نقد ما توهّمه الشيخ شلتوت

ص: 313


1- المائدة: الآية 3.

بهذا الخصوص هو أنّ المفسّرين وإن اختلفوا في تفسير الاستقسام بالأزلام إلّاأنّ القول المعتمد في تفسيره أنّ المشركين عندما كانوا ينحرون بعيراً لأمرٍ ما، كانوا يتوسّلون بهذه الطريقة لمعرفة الشخص الذي يكون عليه دفع ثمن البعير، فأبطل اللّه تعالى تلك العادة الجاهلية بإنزال الآية المذكورة.

إنّ المؤلّف، بما بذله من التدقيق والتمحيص بشأن «الاستخارة» يتوصّل إلى إثبات أنّ الاختلاف بين الاستقسام بالأزلام والاستخارة كالاختلاف بين الشرك والتوحيد.

ص: 314

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله الأمين، الذي ترك في امّته ما إن تمسّكوا به لن يَضلّوا أبداً، كتاب اللّه، وعترته أهل بيته صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين.

قال اللّه تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزيرِ وَمَا اهِلَّ لِغَيرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أكَلَ السَّبُعُ إلّامَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأنْ تَسْتَقْسِموُا بالأَزْلامِ](1)

قرأت في «رسالة الإسلام»(2) التي تُصدرها دار التقريب بالقاهرة جزءاً في تفسير القرآن الكريم للأستاذ الشهير الشيخ محمود شلتوت(3) ، ووقفت فيهع.

ص: 315


1- المائدة: الآية 3.
2- العدد الأول من السنة الخامسة.
3- شيخ الأزهر الأسبق، توفّي سنة 1383 ه. وهذا النقد كتب في حياته عندما نشر هذا العدد، واُرسل إليه، وهذا الذي بيد قارئنا العزيز هو ما ارسل إليه مع إضافات اضيفت إليه عند عرضه للطبع.

على ما كتب حول تفسير هذه الآية الكريمة وقوله تعالى [وَأن تَسْتَقْسِموا بِالأزلامِ]، وما اختاره فيه. وقد ألحق فيما ألحق بالاستقسام بالأزلام، من الطَرق بالحَصَى وضرب الفول والرمل، الاستخارةَ من اللّه تعالى بالقرآن الكريم، وحَبّات السبحة المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وزعم أنّ كلّ ذلك ينافي احتفاظ الإنسان بعقله، وأنّ القرآن المجيد يصير بذلك - والعياذ باللّه - أداة الشعوذة.

ولايخفى عليك أ نّه إنّما قال ما قال؛ لأنّه لم يتحصّل أولاً معنى الاستقسام بالأزلام، وثانياً لم يتفهّم حقيقة الاستخارة، وأ نّها لم ترد في مورد استقلّ العقل بحسن فعله أو تركه، أو حكم الشرع برجحان فعله أو تركه، ولاتنافي كرامة القرآن المجيد وكونه كتاب الهداية والإرشاد بالتي هي أقوم، كما أ نّه لاينافي ذلك التبرّك به وبآياته، وقراءته لأجل الثواب، وحصول بعض المقاصد كشفاء الأمراض ممّا هو مجرّب ومأثور في الأحاديث الكثيرة المتواترة.

غير أنّ التأثر بالثقافة المادية المسيطرة على الأفهام والمشاعر يريد أن لايقبل تأثير عالم الغيب في عالَم الشهادة، ويريد أن لايؤمن بعلل غير مادية وتأثيرات غيبية، فينكر أثر التوكّل والتفويض والدعاء والصدقة؛ ولذا ترى بعضهم يُنكرون معجزات الأنبياء، وما صدر عنهم من خرق العادات في عالم المادة، كقلب العصا بالثُعبان، ومعجزة صالح، وحوت يونُس، وإحياء الموتى،

ص: 316

وإبراء الأكمه والأبرص، ونصرة النبي صلى الله عليه و آله بالملائكة.

ومن لايُنكر ذلك منهم يؤوّله، ويرى الإيمان به ضرباً من الإيمان بالخرافات، ويُعدّ إنكاره نوعاً من الثقافة، وفتح باب ذلك في الكتاب والسنّة يقلب الشريعة ظهراً لبطن، أعاذنا اللّه من شر هذه الثقافات.

وفي الاستخارات المأثورة التي هي ليست إلّامظهراً من مظاهر الإيمان باللّه وطلب الخير أو معرفته منه أيضاً يتّبعون هذه الثقافة التي ليست من التفكير الإسلامي بشيء فينكرونها، ويلحقونها تارةً بأفعال المشركين وعاداتهم، واُخرى بما لم يرد فيه حديث ورواية، ولم تثبت شرعيته من جانب الشرع.

هذا، ولزيادة البحث حول تفسير هذه الجملة الشريفة القرآنية [وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ]، نذكر كلام الشيخ المذكور، ثمّ نتكلم حول تفسيرها بحول اللّه وقوته.

قال الشيخ محمود شلتوت: (ويلحق بهذا النوع الذي حرّمه اللّه على الإنسان احتفاظاً بعقله، ما يشبه من وسائل الاستقسام التي يعتادها الناس اليوم:

كالطَرق بالحَصى، وضرب الفول والرمل، والاستخارة بحبّات السبحة، ومن أقبح أنواع الاستخارة: الاستخارة بالقرآن الكريم، الذي جرت به عادة بعض المسلمين، وصار شأناً معروفاً حتى عند أهل العلم والدين، وما كان اللّه ليرضى أن يكون كتاب هدايته وإرشاده بالتي هي أقوم في الحياة العقلية والروحية والعملية أداة الشعوذة، أو لعبة يد عابث أو مضلّل أو محتال).

أقول: في تفسير الاستقسام بالأزلام أقوال:

ص: 317

القول الأول: أنّ المراد بالاستقسام بالأزلام: طلب معرفة الخير والشرّ، وما قسم في مستقبل الحياة واستعلامها من عند الأصنام. وعلل بعضهم حرمة ذلك على تضمّنه العقيدة بالأصنام. وردّه بعضهم: بأنّ ذلك لم يكن في جميع الأحوال عند الأصنام، فربّما كان مع الرجل زَلمان يستقسم بهما إذا شاء.

ويردّ ذلك بأنّ هذا لاينافي كون العلّة تكريم الأصنام، فإنّ الظاهر أنّ الأصل في ذلك عندهم أن يكون عند الأصنام، وعند تعذّر الحضور في بيت الصنم يستقسم بما معه من الأزلام، كما أنّ الظاهر أنّ هذا ليس من العلّة المنحصرة، فيمكن أن يكون لحرمته علل اخرى.

وكيف كان، قال في لسان العرب: (قال الأزهري: الاستقسام مذكور في موضعه، والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي، وافعل ولاتفعل، قد زَلمت وسوّيت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت. فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً أتى السادن، فقال: أخرج لي زَلماً، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عمّا أراده، وربّما كان مع الرجل زَلمان وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما)(1).

وقال أبو البقاء في تفسيره: (كانت سبعة عند سادن الكعبة، عليها أعلام، كانوا يحكمونها (يجيلونها - خ ل)، فإن أمرتهم ائتمروا، وإن نهتهم انتهوا)(2).5.

ص: 318


1- لسان العرب: ج 12 ص 270.
2- تفسير الجلالين: ص 135.

وروى الطبري في تفسيره(1): عن ابن إسحاق، قال: كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت في بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يُهدى للكعبة. وكانت عند هُبَل سبعة أقداح، كلّ قدح منها فيه كتاب - إلى أن قال: - كانوا إذا أرادوا أن يجيبوا غلاماً أو أن ينكحوا منكحاً، أو أن يدفنوا ميتاً، أو يشكّوا في نسب واحد منهم ذهبوا به إلى هبل بمائة درهم وبجزور، فأعطاها صاحب القداح الذي يضربها، ثمّ قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، قالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فاخرج الحق فيه... إلى آخره.

وهذا كما ترى يدلّ على عدم انحصار الاستقسام بالأزلام بمعرفة الخير والشر، بل يعمها ومعرفة الحق عند اختلافهم، فكأ نّهم يحكّمونها أو يحكّمون الصنم الذي يستقسمون بالأزلام عنده.

وقال القفّال: ذكر هذا في جملة المطاعم؛ لأنّه ممّا أبدعه أهل الجاهلية، وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أنّ الذبح على النصب إنّما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك.

وقال بعضهم: وإنّما حرّم ذلك لأنّهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام. وهذا القول هو اختيار جمهور، كما نقل الرازي في تفسيره.

إلّا أنّ سياق الآية يأبى ذلك؛ فإنّ اللّه تعالى قال في أول السورة: [اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأْنْعَامِ](2) ثمّ ذكر استثناء أشياء بقوله تعالى: [إلّا مَا يُتْلَى عَلَيكُم]. وفي هذه1.

ص: 319


1- جامع البيان: ج 6 ص 103.
2- المائدة: الآية 1.

الآية الكريمة ذكر تلك الصورة المستثناة، واستثناء الاستقسام على هذا التفسير من العموم المستفاد من قوله تعالى: [اُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اْلأنعام]، مع أ نّه ليس من المطاعم على هذا القول لايستقيم، وذِكرُهُ في جملة المطاعم أيضاً ينافي هذا القول، وتوجيه القفّال بعيد من الظاهر.

القول الثاني: ما نقله الرازيّ(1) وغيره، وقال: إنّه قول المؤرخ وكثيرٍ من أهل اللغة، وهو: أنّ الاستقسام هو الميسر المنهيّ عنه، والأزلام: قداح الميسر.

وإلى هذا يرجع ما حكي عن مجاهد من أ نّه كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها، وما حكي عن أبي سفيان بن وكيع من أ نّه هو الشطرنج.

وهذا القول إن كان راجعاً إلى أنّ الاستقسام هو من أفراد الميسر المنهيّ عنه يرجع إلى القول الثالث المروي عن أهل البيت الطاهر عليهم السلام. وإن كان المراد منه تفسير الاستقسام بمطلق الميسر يردّه السياق والظاهر، كما رددنا به القول الأول. نعم، تفسير الأزلام بقداح الميسر وبما يتقامرون به لاينافي هذا السياق.

القول الثالث: وهو القول الحقّ؛ لأنّه مرويّ عن أئمة أهل البيت عليهم السلام(2) الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدلاً للقرآن، وقال: «إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض».

وهذا القول - كما في «مجمع البيان» وغيره - روي عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وهو: «إنّ8.

ص: 320


1- تفسير فخرالدين الرازى: ج 11 ص 135 (ط القديمة، الطبعة الثالثة).
2- بحار الأنوار: 35/38.

الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاءً، يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على مَن تخرج له التي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرمّه اللّه تعالى»(1).

وذكر هذا القول أبو السعود في تفسيره، إلّاأ نّه ترك التنويه بذكر قائله عليه السلام، فقال: وقيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعهودة. وذكره البيضاوي والسيوطي وغيرهما.

وقال الآلوسي في «روح المعاني»: وقيل: المراد بالاستقسام بالأزلام:

استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة، أي طلب قسم من الجزور أو ما قسم اللّه تعالى منه، وهذا هو الميسّر، وقد تقدّم ذلك. وروى علي بن إبراهيم، عن الأئمة الصادقين رضي اللّه تعالى عنهم، ورجّح بأ نّه يناسب ذكره مع محرّمات الطعام. إنتهى كلام الآلوسي.

وهذا القول هو القول الموافق لسياق الآية وما قبلها من الآيات.

ومن هذا القليل يعرف المنصف أنّ الاُمّة لو تمسّكوا بالكتاب والعترة، وأخذوا العلم من أهله، واتّبعوا هُدى أهل البيت عليهم السلام أَمِنُوا من الضلال والاختلاف، ومن القول بغير علم، وتفسير القرآن بالرأي، ويُعرف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يأمر الاُمّة بالرجوع إلى أهل بيته إلّالفضائل اختصّهم اللّه بها؛ ولأنّ اللّه تعالى أمره بذلك.2.

ص: 321


1- مجمع البيان: ج 3 ص 272.

وقد فسّر الزمان سرّ ذلك، فصدر عنهم في المعارف الإسلامية والعلوم الحقيقية من التوحيد والتفسير والفقه والحديث والأخلاق والآداب، وشرح معالم الإنسانية ما لم يصدر عن أحدٍ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قد اعترف بذلك الموافق والمخالف.

ثمّ إنّ مِن جميع ذلك يظهر أ نّه لاوجه لإلحاق الاستخارة بالقرآن المجيد وبحبّات السبحة بالاستقسام بالأزلام؛ لوجود الفرق بين الاستقسام بالأزلام وبين الاستخارة. فإنّ حقيقة الاستقسام على القول الأول الذي ظهر لك ضعفه يرجع إلى الشرك، واستعلام ما يكون في المستقبل، وطلب معرفة الخير والشرّ من الأصنام. والاستخارة حقيقتها: الدعاء وطلب الحاجة ومعرفة الخير من اللّه تعالى علاُّم الغيوب. والفرق بينهما هو الفرق بين الشرك والتوحيد، مع أ نّه ليس في الاستخارة طلب معرفة ما يقع في مستقبل الحياة مثل الموت والمرض ووجدان الضالّة وغيرها ممّا يكون مآله طلب معرفة الغيوب.

وإنّما يستفاد منها إذا كان مؤدّاها الخير أنّ الأمر كيف وقع؟ ووقع أم لم يقع، يكون فيه الخير، وأنّ ما يقع هو أصلح الأمرين أو الاُمور. ومثل هذا إنّما يؤثّر في الإقدام على الفعل أو تركه، ولهذا ورد النهي عن التفؤّل بالقرآن دون الاستخارة به. فإنّ التفؤّل إنّما يكون فيما سيقع، كشفاء المريض وقدوم المسافر وغيرهما، بخلاف الاستخارة فإنّها طلب لمعرفة الرشد وما فيه الخيرة.

فعلى هذا فالاستخارة بالقرآن الكريم وبالسبحة ليست مخالفة للكتاب، ولا مانعاً من هدايته وإرشاده للتي هي أقوم ولو قلنا بالقول الأول في تفسير الاستقسام. وأما بحسب القول الثاني والثالث فلا ارتباط بين الاستقسام

ص: 322

والاستخارة أصلاً، ولاوجه لإلحاقها به.

وبعد ذلك فلا بأس بذكر بعض ما ورد في الاستخارة من الأحاديث، فنقول: دلّت الروايات من طرق العامة على استحباب الاستخارة ومطلوبيتها:

فمنها: ما أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما من أرباب السنن والمسانيد، عن جابر بن عبد اللّه، قال: كان رسول اللّه يعلّمنا الاستخارة في الاُمور كلّها، كالسورة من القرآن، يقول «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك...» الحديث.

ومنها: ما أخرجه أحمد في مسنده - ج 1، ص 168 - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من سعادة ابن آدم استخارته اللّه، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه اللّه، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة اللّه، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى اللّه عزّوجلّ».

وعن أنس بن مالك: لما تُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: كان رجل ملحد (يلحد)، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا، فبعث (فنبعث) إليهما، فأيّهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق اللّه صاحب اللحد، فألحدوا له.

وهذا الحديث يدلّ على أنّ الاستخارة بالسبحة جائزة، لاإشكال في جوازها.

وأمّا الأخبار من طرقنا فأكثر من أن تحصى:

فمنها: ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح، قال: قال أبوعبد

ص: 323

اللّه عليه السلام «صلِّ ركعتين، واستخر اللّه، فواللّه ما استخار اللّه مسلم إلّاخار له البتَّة».

ومنها: ما روي عن البرقي في المحاسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال اللّه عزّوجلّ: مِن شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني»(1).

ومنها: ما روي عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قلت له:

ربّما أردت الأمر، تفرق مني فريقان، أحدهما يأمرني، والآخر ينهاني. قال:

فقال: «إذا كنتَ كذلك فصلِّ ركعتين واستخر اللّه مائة مرة ومرة، ثمّ انظر أجزَمَ الأمرين لك فافعله، فإنّ الخيرة فيه إن شاء اللّه»(2).

وفي رواية عن أبي الحسن عليه السلام: «ثم انظر أيّ شيء يقع في قلبك فاعمل به»(3).

وفي رواية اليسع القمّي، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «انظر إذا قمت إلى الصلاة، فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة، أيّ شيء يقع في قلبك فخذ به، وافتح المصحف فانظر إلى أول ما ترى فيه، فخذ به إن شاء اللّه تعالى»(4).

وربّما يُستخار لرفع التحيّر وطلب التعرّف على ما فيه الخيرة بالسبحة،0.

ص: 324


1- المحاسن: ج 2 ص 598.
2- الكافي: ج 3 ص 471؛ المحاسن: ج 2 ص 599.
3- الكافي: ج 3 ص 471.
4- تهذيب الأحكام: ج 3 ص 310.

وهي أيضاً مروية في طرقنا عن الصادق عليه السلام، وكذا بالرقاع، وهي أيضاً مروية عن أبي عبداللّه عليه السلام.

ومنها: ما روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلِّ ركعتين، ثم ليحمد اللّه وليُثنِ عليه، ويصلّي على محمد وأهل بيته، ويقول:

اللهمّ إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسّره لي واقدره، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني...»(1) الحديث.

ومنها: ما روى في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «كان عليّ بن الحسين إذا همّ بأمر حجٍّ وعُمرةٍ أو بيعٍ أو شراءٍ أو عتقٍ تطهّر، ثمّ صلّى ركعتي الاستخارة، وقرأ فيهما سورة الرحمّن والحشر، والمعوَّذتين وقل هو اللّه أحد إذا فرغ وهو جالس في دبر الركعتين، ثمّ يقول: اللهمّ إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فصلِّ على محمد وآله ويسّره لي على أحسن الوجوه وأجملها، اللهمّ وإن كان كذا وكذا شرّاً لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله فصلِّ على محمد وآله واصرفه عني»(2).

ومنها: ما روي عن محمد بن خالد أ نّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الاستخارة؟ فقال: «استَخِر اللّهَ في آخر ركعة من صلاة الليل، وأنت ساجد، مائة مرّة ومرّة»، قال: كيف أقول؟ قال «تقول: أستخيرُ اللّه برحمته، أستخير اللّه0.

ص: 325


1- الكافي: ج 3 ص 472.
2- الكافي: ج 3 ص 470.

برحمته»(1).

ومنها غيرها ممّا هو مذكور في جوامع الحديث.

ولا يخفى عليك أ نّه يستفاد من مجموع هذه الأحاديث: أنّ الاستخارة نوعان:

النوع الأول: مجرّد طلب الخير بالدعاء، كما دلّت عليه رواية محمد بن خالد.

النوع الثاني: طلب التعرّف على ما فيه الخير من اللّه تعالى، أو طلب العزم على ما فيه الخيرة، كما دلّ عليه خبر اليسع القمّي، وأحاديث الاستخارة بالرقاع وبالقرآن المجيد وبالسبحة وحديث إسحاق بن عمار. ومحلّ هذا النوع تحيّر المستخير في أمرين مباحين، أو مستحبّين، بل ومكروهين إذا لم يكن طريق لمعرفة رجحان أحدهما على الآخر، لامن الشرع ولامن العقل، ولامن أحد يشاوره.

فإذا صار حاله كذلك ولم يأتِ منه الجزم على أحد الطرفين يستخير اللّه تعالى؛ لرفع تحيّره وتحصيل الجزم على أحد الطرفين، ويعمل على مؤدّى استخارته، ويبني على أنّ ذلك هو الأرجح، كما أ نّه يصير أرجح أيضاً من جهة أداء استخارته إليه وكونه عملاً بما خار اللّه تعالى له.

وليكن هذا آخر كلامنا في هذا البيان، ومن أراد التوسّع في ذلك فعليه3.

ص: 326


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 563.

بمراجعة جوامع الحديث، وما كتب الأصحاب حول الاستخارة وآدابها وأنواعها.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 327

ص: 328

تفنيد اكذوبة خِطبة الإمام عليٍّ على الزهراء عليهما السلام

اشارة

ص: 329

ص: 330

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

لا يخفى على من له إلمام بالتاريخ والحديث أنّ العلم والتاريخ والحديث تربّى في حجر الحكومة بدلاً عن أن تربّى الحكومة في حجرها وأنّ سياسات الحكّام الجائرة أثّرت في نقل التاريخ ورواية الأحاديث، فنقل المؤرّخون المأجورون تقرّباً إلى الحكّام والطواغيت في التاريخ قصصاً موضوعة وحكايات مفتعلة تؤيّد سياساتهم كما أسقطوا عن الصحيح منها تارة وزادوا عليها اخرى.

وكذا دسّوا في الأحاديث ما لا أصل له وأسقطوا من بعضها وزادوا على بعضها حسب ما ترتضيه سياسات الحكّام. وقد وقع ذلك بالعمدة في الأحاديث المأثورة في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومثالب أعدائهم من المنافقين والذين أخبر النبي صلى الله عليه و آله عن سوء حالهم في أحاديث الحوض فسعوا في ترك رواية تلك الطائفتين من الأحاديث أو تحريفها وإلّا فتأويلها.

ولذا لم يبق في الكتب التي ا لّفت في عصر ملوك بني اميّة وبني العبّاس

ص: 331

واشتهرت بين الناس وأصبحت من المصادر الحكوميّة إلّاالنزر اليسير، وقد سعوا أيضاً في الأحاديث الراجعة إلى الفقه ونظامات الإسلام أيضاً بترك الأحاديث المرويّة عن طرق أهل البيت حتّى أميرالمؤمنين علي عليه السلام إلّاما لا بُدَّ منه واستبدلت السياسة الرجال والعلماء بأفراد مأجورين مشبوهين معروفين بالفساد حتّى عند أرباب تلك السياسات، وقد وقعت الاُمّة بذلك في محنة وبلاء عظيم.

ومن جملة ما دسّوا في الأحاديث عداءً لأهل البيت عليهم السلام اكذوبة خطبة الإمام أميرالمؤمنين على الزهراء سيدة نساء العالمين عليهما السلام فاخترعوها ودسّوها في بعض متون الأحاديث المتواترة المشهورة المرويّة بطرق كثيرة ومتون متقاربة التي مغزيها صحة موقفها وموقف الإمام عليهما السلام قبال ما وقع بين الاُمّة في الحكم والنظام. وهذه رسالة وجيزة في بيان إبطال هذا الدسّ. واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 332

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وسلام على عباده الذين اصطفى، محمّدٍ وآله الطاهرين.

وبعد، فهذه رسالة وجيزة في تفنيد اكذوبة خِطبة الإمام علي على الزهراء عليهما السلام، كتبتها ردّاً على بعض نواصب العصر، وتقرّباً إلى اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، واللّه الموفِّق والهادي إلى الصواب.

ليس يخفى على مَن له إلمام بكتب الحديث أنّ أعداء أهل البيت عليهم السلام قد سعوا في إطفاء نورهم، وطمس علومهم، وكتمان فضائلهم. وما بقي في جوامع الحديث من أحاديث فضائلهم ليس إلّاالقليل منها، فتركوا رواية مناقبهم لأسباب سياسية، وكان في عصر الاُمويين والعباسيين رواية الحديث في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام من أكبر الجرائم، وكان من أهمّ الوسائل للتقرّب بها إلى الحكام وضع الأحاديث المشعرة بتنقيص أهل البيت ومدح آخرين، وفيما يكون مغزاه الاعتراف بشرعية الحكومات، وسيرة الخلفاء والاُمراء، وكانوا يَعدّون مِن

ص: 333

أظهر العلائم بكون الرجل من أهل السنّة ميله عن أهل البيت، ومحبّته للعثمانيين(1).

وكان أقلّ ما عملوا في ذلك كتمانهم فضائل الإمام علي عليه السلام، حتّى أن امّ المؤمنين عائشة تمتنع من التصريح باسم عليٍّ عليه السلام، كما في حديثها في تمريض النبي صلى الله عليه و آله و سلم، حيث كانت تقول: فخرج ويدٌ له على الفضل بن عباس ويدٌ له على رجل آخر، وفي حديثها الآخر تقول: فخرج بين رجلين، تخطّ رجلاه في الأرض بين عباس بن عبدالمطّلب وبين رجل آخر(2) ، فتراها تصرّح باسم الفضل وعباس، وتترك التصريح باسم علي عليه السلام! مع أنّ في هذا ليس كثير فضل لمن هو من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمنزلة هارون من موسى، وكان له مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مشاهده المعروفة، ونزل في فضله ما نزل من الكتاب المجيد، ولا يبغضه إلّا منافق، ولا يحبّه إلّامؤمن، وهذا يدلّ على شدّة اهتمامهم لإخفاء مناقب أهل البيت، ومبالغتهم في ذلك.

وازداد حقدهم شدّةً في عهد معاوية وملوك بني امية وبني عباس، حتّىه.

ص: 334


1- راجع في ذلك كتاب «العتب الجميل» للحضرمي، و «النصائح الكافية» له، وكتابنا «أمان الاُمّة».
2- راجع صحيح البخاري: ج 2 ص 21-22 (ط المطبعة العامرة، سنة 1330 ه). وقال في حاشيته: قوله: لم تُسَمّ عائشة، أي لم تذكر اسمه، ولم ترد ذكره، وكانت - رضي اللّه عنها - واجدة على سيدنا علي؛ لمّا بلغها من قوله حين استشار نبينا - عليه الصلاة - في حديث الإفك «النساء سواها كثيرة». انتهى. ولنا حول أحاديث عبيد اللّه بن عتبة بن مسعود مقال، ليس هنا محلّ ذكره.

ضربوا مثل عطية العوفي أربعمائة سوط وحلقوا لحيته؛ لأنّه أبى أن يسبّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام، واستلّوا لسان إمام العربية ابن السِّكِّيت؛ لأنّه لمّا خاطبه المتوكّل وقال: مَن أحبُّ إليك، هما - يعني وَلَدَيه - أو الحسن والحسين؟ فقال:

قنبر خير منهما. فأمر المتوكّل باستلال لسانه، فاستلّوه حتى مات، وقيل أَمَرَ الأتراكَ فداسوا بطنه حتّى مات.

ومن عجيب ما ادرج ودُسّ في الأحاديث: أكذوبة خِطبة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بنتَ أبي جهل على سيدة نساء العالمين فاطمة البتول عليها السلام، فزادوا على الحديث المتواتر بين الفريقين «فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما آذاها»، وفي رواية اخرى «يُريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»؛ كي تقبلها النفوس، وتقع مورد القبول، ولم يلتفتوا إلى مايمسّ بهذه الزيادة كرامة مقام الرسالة، وقدسية مَن لا ينطق عن الهوى.

ونحن مع الغضّ عمّا في هذه الزيادة من اضطراب المتن، وشدّة الاختلاف من حيث الألفاظ والمضامين، مثل ما في بعضها: «أنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا بنتهم عليّ بن ابيطالب»، وهذا لا يدلّ على أنّه عليه السلام خطبها، أو أراد خطبتها، وفي بعضها: أنّ فاطمة أتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم وشكت من ذلك، وفي بعضها لا يوجد ذكر عن أبي العاص، وغير ذلك ممّا يشهد بدسّ هذه الزيادة في الحديث، مع ما في بعض رواتها من الانحراف عن علي عليه السلام، وكونه من الخوارج، وأتباع ابن الزبير والعثمانيين.

نقول: تشهد بوضع هذه القصة واختلاقها امور:

ص: 335

الأول: عدم وجود هذه الزيادة في بعض طرق الحديث، فأخرجه البخاريُّ(1) هكذا: قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ابن عُيَينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مَليكة، عن المسوّر بن محزمة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و سلم قال: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني».

وأخرجه مسلم، قال: حدثني أبو معمّر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن محزمة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «إنّما فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما آذاها»(2).

الثاني: الظاهر أ نّه لا خلاف بين المسلمين في اختصاص هذا الحكم بفاطمة عليها السلام دون غيرها من أخواتها وسائر النساء، ولم يُفتِ أحد من أهل العلم فيما أعلم بعدم جواز النكاح على سائر بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وليس هذا إلّالما حازته عليها السلام من الفضيلة والكرامة والدرجة الرفيعة عند اللّه تعالى، واختصاصها بفضائلها المشهورة دون غيرها من النساء. ولو كان علة حرمة نكاح امرأة اخرى عليها اجتماع بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبنت عدوّ اللّه مكاناً واحداً لاشتركت معها في هذا الحكم أخواتها زينب ورُقية واُمّ كلثوم، ولَما جاز نكاحهنّ من أبي العاص بن ربيع، وعُتبة وعُتيبة ابنَي أبي لهب في حال كفرهم، بل لَما جاز نكاحهنّ بمن كان قبل الإسلام مشركاً كافراً، فإنّه إذا لم يجز تزويج امرأة مسلمة لكفر أبيها على بنت رسول اللّه، ولا يجب الإسلام لها ذلك لا يجوز نكاح بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من).

ص: 336


1- صحيح البخاري: باب مناقب فاطمة.
2- صحيح مسلم: ح 1417 (ط سنة 1332 ه).

مسلم كان قبل إسلامه مشركاً، وكان أبوه واُمّه أيضاً مشركين، بل هذا أولى منه بهذا الحكم.

هذا، مضافاً إلى أنّ عثمان كان متزوّجاً بامرأة اخرى، وتزوّج معها رقية على ما يظهر ممّا ذكره في الإصابة(1) في قصّة إسلامه في ترجمة سَعدى العَبْشَميَّة، ولم ينقل أنّه طلّق زوجته قبل نكاح رقية، ثمّ إنّه بعد وفاة رقية تزوّج امّ كلثوم، ونكح على رقية أو على امّ كلثوم رملة بنت عدوّ اللّه شَيبة، ولا يتفاوت الأمر في كون نكاحه رملة قبل عُمرة القضية، أو في هذه السنة، فإن عمرة القضية وقعت في سنة سبع، وموت امّ كلثوم - رضي اللّه عنها - وقع في سنة تسع. ويشهد لذلك - أي لأنّ عثمان كان متزوجاً بامرأة اخرى على بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله - حديثُ مفارقته أهله في ليلة وفاة امّ كلثوم رضي اللّه عنها، فعلى ذلك لا يستقيم أن يكون علة حرمة نكاح امرأة اخرى على فاطمة عليها السلام ما ذكروه من عدم اجتماع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه في مكان واحد.

الثالث: أترى علياً عليه السلام ناكحاً ابنة أبي جهل لو طلب النبي وفاطمة عليهما السلام ترك نكاحها؟

أترى علياً يخالف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وفاعلاً ما يغضبه؟ فإذا ما دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإعلان ذلك على المنبر؟ وكيف لم يملك نفسه عن الغضب، وهو الذي قال اللّه تعالى في خُلقه [اِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ](2)، مع ما في هذا الإعلان من تنقيص4.

ص: 337


1- الإصابة في تمييز الصحابة: ج 4 ص 427، رقم 539.
2- القلم: الآية 4.

لمكانة مجاهد الإسلام وابن عمّه ووصيّه والمدافع عنه بنفسه؟

حاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وابن عمّه من ذلك كلّه، وحاشا أن يستولي الغضب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيفعل ما لا يفعله إلّامن لا يملك نفسه عند الغضب.

الرابع: إذا كان الزواج بامرأة اخرى على فاطمة عليها السلام حراماً، وكان ذلك من خصائصها على ما دلّ عليه بعض الأحاديث من طرق الشيعة أيضاً(1) ، هل يمكن أن يكون علي وفاطمة عليهما السلام غير عالِمَين بهذا الحكم إلى هذا الوقت؟

وهل يوجد أرضى من علي وأسلم منه للّه ولرسوله، وهو الذي لم يُسمَع منه إلّاالتسليم المحض لِلّه ولنبيه، ولم يذكر أحد أنّه ردّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حكم أو قضية؟!

إذن فما معنى هذه القصّة؟ وما اريد من نقلها وافتعالها؟

الخامس: وممّا يبعّد ذلك أيضاً: رواية علي بن الحسين عليهما السلام هذه الزيادة، مع ما فيها من التلويح بتنقيص منزلة جده علي عليه السلام، بل وتعريض مقام جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما يجب أن ينزّه عنه مقام الرسالة.

السادس: وأغرب من ذلك أن يقيس النبي صلى الله عليه و آله و سلم أبا العاص بن الربيع - الذي بقي في شركه إلى عام الحُديبية، واُسر مع المشركين مرتين، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولايذكر التاريخ بعد إسلامه موقفاً له في الإسلام غير كونه مع علي عليه السلام لمّا بويع).

ص: 338


1- راجع مناقب ابن شهر آشوب: ج 3 ص 330 (ط المطبعة العلمية). وممّن أفتى بذلك من أهل السنّة: عبد اللّه بن داود، فراجع ذخائر العُقبى للمحب الطبري: ص 38 (ط سنة 1356 ه).

أبوبكر - بأخيه وابن عمّه أمير المؤمنين، مع سوابقه المحمودة ومشاهده المشهورة في نصرة الإسلام ونصرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وفضائله ومكارم أخلاقه، ومع ما قال في حقّه النبيّ صلى الله عليه و آله: «إن عليّاً منّي، وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1) و «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هرون من موسى إلّاأنّه لا نبوة بعدي»(2)، وقال له: «إنّ اللّه عزّوجلّ قد زيّنك بزينة لم يتزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها: الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، ورضوا بك إماماً، ورضيت بهم أتباعاً. فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك، ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الذين أبغضوك وكذبوا عليك فحقّ على اللّه أن يوقفهم موقف الكذّابين يوم القيامة»(3)، وقال صلى الله عليه و آله: «عليّ خير البشر، منَ شكّ فيه كفر (ع)» وفي رواية: «فمن أبى فقد كفر (حظ)»(4).

فحاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُثني على أبي العاص - رضي اللّه عنه - بما فيه التعريض بذمّ علي عليه السلام، وحاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن ينسى مواقف الإمام في الحروب ونجدته وبسالته وإيثاره نفسَ النبي على نفسه، فمن كان أوفى بعهد رسول اللّه من الإمام؟ ومن كان أدفع عن الإسلام منه؟7.

ص: 339


1- شرح النهج: ج 2 ص 450 (ط مصر)، ومصابيح السنّة: ج 2 ص 275.
2- صحيح مسلم: ج 7 ص 120.
3- اسد الغابة: ج 4 ص 23.
4- كنوز الحقائق، المطبوع بهامش الجامع الصغير: ج 2 ص 16-17.

وأضف إلى ما ذكر: أنّك لا تجد في حياة النبي والإمام والزهراء عليهم السلام مثيلاً لهذه القصة، ولا ما يدفع استبعاد وقوعها في حياتهم، بل كلّما سبرنا تاريخ حياة الرسول وصهره العزيز وبنته العزيزة وجدناه حافلاً بالشواهد والحكايات التي تكذّب هذه القصة جداً. فما أحسن مَن ترك إخراج هذه الزيادة كالبغوي في مصابيح السنّة، واكتفى بتخريج قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني»، وفي رواية: «يُريبني ما أرابها، ويُؤذيني ما آذاها»، فكأ نّهم تركوا هذه الزيادة لبعض العلل التي أشرنا إليها.

هذا، ولعلّامة المعتزلة ابن أبي الحديد كلام حول هذا الحديث، وقد نقل عن شيخه أبي جعفر الإسكافي كون هذه الزيادة من الموضوعات.

وقال السيد المرتضى في «تنزيه الأنبياء» (هذا خبر باطل موضوع، غير معروف ولا ثابت عند أهل النقل - إلى أن قال: - على أنّ هذا الخبر قد تضمّن ما يشهد ببطلانه، ويقضي على كذبه من حيث ادّعي فيه أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم ذمَّ هذا الفعل، وخطب بإنكاره على المنابر، ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو كان فعل ذلك على ما حُكي لَما كان فاعلاً لمحظور في الشريعة(1) ؛ لأنّ نكاح الأربع حلال على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، والمباح لا يُنكره الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يصرح بذمّه،ت.

ص: 340


1- لأنّ على قول مَن يأخذ بهذا الخبر لم يكن نكاح امرأة على فاطمة عليها السلام قبل نهيه صلى الله عليه و آله و سلم محظوراً، بل كان مباحاً لأنّه لو كان محظوراً لا يقدم عليه مثل علي بن أبي طالب عليه السلام. فليس مقبولاً عند العقل أن يُنكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم على من أراد فعل مباح قبل أن يصير ممنوعاً في الشريعة، ويبالغ في إنكاره، بل يذمَّه على ذلك، فإنّ الأولى بل اللائق بخُلُقه الكريم ومقامه العظيم أن يُعلِم ذلك علياً من غير ارتكاب هذه التعريضات.

وبأنّه متأذّيه، وقد رفعه اللّه عن هذه المنزلة، وأعلاه عن كلّ منقصة ومذمّة. ولو كان عليه السلام نافراً من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحَسَن والقبيح لَما جاز أن يُنكره بلسانه، ثمّ ما جاز أن يبالغ في الإنكار، ويُعلن به على المنابر وفوق رؤوس الأشهاد، ولو بلغ من إيلامه لقلبه كلّ مبلغ فما هو اختص به من الحلم والكظم، ووصفه اللّه به من جميل الأخلاق وكريم الآداب ينافي ذلك ويحيله، ويمنع من إضافته إليه وتصديقه عليه، وأكثر ما يفعله مثله في هذا الأمر إذا ثقل عليه أن يعاقب عليه سرّاً، ويتكلم في العدول عنه خفياً على وجه جميل، وبقول لطيف.

وهذا المأمون الذي لا قياس بينه وبين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وقد أنكح أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام بنته، ونقلها معه إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، لمّا ورد كتابها عليه تذكر أنّه قد تزوج عليها أو تسرّى، يقول مجيباً لها، ومنكراً عليها: إنّا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه اللّه تعالى، والمأمون أولى بالامتعاض من غيرة بنته، وحاله أجمل للمنع من هذا الباب والإنكار له.

فواللّهِ إنّ الطعن على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بما تضمّنه هذا الخبر الخبيث أعظم من الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام وما صنع هذا الخبر إلّاملحد قاصد للطعن عليهما، أو ناصب معاند لا يبالي أن يُشفي غيظه بما يرجع على اصوله بالقدح والهدم.

على أنّه لا خلاف بين أهل النقل أنّ اللّه هو الذي اختار أمير المؤمنين عليه السلام لنكاح سيدة النساء صلوات اللّه وسلامه عليها، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ردَّ عنها جلّة أصحابه، وقد خطبوها وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لم ازوّج فاطمة عليّاً حتّى زوّجها اللّه إيّاه في سمائه»، ونحن نعلم أنّ اللّه سبحانه لا يختار لها من يُغِيرها ويؤذيها

ص: 341

ويغمّها، فإنّ ذلك أدلّ دليلٍ على كذب الراوي لهذا الخبر.

وبعد، فإنّ الشيء إنّما يُحمَل على نظائره، ويُلحق بأمثاله، وقد علم كلّ من سمع الأخبار أنّه لم يعهد من أمير المؤمنين عليه السلام خلافاً على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولا كان قطُّ بحيث يُكرَه على اختلاف الأحوال وتقلّب الأزمان، وطول الصحبة، ولا عاتبه عليه السلام على شيء من أفعاله، مع أنّ أحداً من الصحابة لم يَخلُ من عتاب على هفوة ونكير لأجل زلّة، فكيف خرق بهذا الفعل عادته وفارق سجيّته وسنّته؟... إلى آخره)(1).

هذا، وقد تلخَّص وتحصَّل من جميع ماذكر: أنّ اكذوبة خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بنتَ أبي جهلٍ على سيدة نساء العالمين عليها السلام اكذوبة اختلقها النواصب وأعداء أهل البيت عليهم السلام، تكذّبها سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخُلُقه الكريم، وسيرة ابن عمّه الإمام علي عليه السلام، فكلّ حالاته وسوابقه تشهد باختلاق هذه الاُكذوبة.

قال اللّه تعالى: [إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذين لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وَاُولئِكَ هُمُ الكاذِبونَ](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

حرّره لطف اللّه الصَّافي الگلپايگاني5.

ص: 342


1- راجع تنزيه الأنبياء: ص 171-173 (ط سنة 1290 ه).
2- النحل: الآية 105.

البكاء على الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

ص: 343

ص: 344

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

حول البكاء على مولانا سيد الشهداء أبي عبداللّه الحسين عليه السلام شهيد العبرة الأحاديث تجاوزت عن حدّ التواتر. فقلّما يوجد موضوع وردت فيه الروايات بالحثّ والترغيب إليه كموضوع البكاء عليه وإظهار الحزن عليه وذكر مصائبه وإنشاد الشعر فيه.

وشعر الشيعة وأدبها وخلوصها في ولاء العترة الطاهرة بل وحياة الحق وروح التضحية لإقامته والدفاع عن حرمات الإسلام، والقيام في وجه الظلم والاستكبار والاستضعاف تتمثّل في الشعائر الحسينية، وهذه كلمة في فضيلة الالتزام بهذه الشعائر وأنّ الاحتفاظ بها احتفاظ بكيان الإسلام وانّها كعلّة مبقية لشريعة سيّد الأنام صلى الله عليه و آله.

والسلام على مولانا الحسين وعلى أولاده وأصحابه الذين واسَوه بأنفسهم وبذلوا مهجهم فيه لتكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ص: 345

ص: 346

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سلام اللّه عليك يا أبا عبد اللّه.

يا سيّدَ الشهداء.

يا مُنقِذَ الاسلام.

يا جمالَ الإنسانية.

ويا مَن هدّمتَ صروح المستكبرين، ونصرت الحق المبين بقيامك وتضحيتك نفسَك الكريمة ونفوس أهل بيتك وأنصارك وأنصار اللّه وأنصار رسوله.

ياليتني كنتُ معكم فأفوز فوزاً عظيماً.

أنتم واللّه معادن الحرية والكرامة، وشهداء الإسلام والحق والعدل، ومبادئ الإنسانية،

لَولا صَوارِمُكُم وَوَقعُ نِبالِكُم لَم تَسمَعِ الآذانُ صوتَ مُكَبِّرِ

ولولا تضحياتكم لَما قام للدين عمود، ولما اخضرّ للإسلام عُود، ولاستُبدِلت الشريعة الإلهية والرسالة المحمدية بالرجعية السفيانية، والجاهلية الاُموية، والإمارة الطاغوتية اليزيدية.

يا حسينَ الحقّ، يا حسينَ العدل، ويا حسينَ القرآن.

يابن رسول اللّه، نفسي لنفسك الفداء، ولنفس من يحبّك، ويحبُّ محبّيك، ويسعد بزيارة قبرك، ويذكر مصائبك ويبكي، ويبكى لها، وينوح عليك الفداء.

يا بطلَ الإسلام، أنت جدَّدت فخر آل هاشم، وأسّست بناءً لايغلق بابه ولا ينهدّ صَرحُه أبداً.

وصيحاتك في وجه كلّ ظالم وغاشم وجبار باقية مدى الدهر، تنذر الطواغيت ومستعبدي عباد اللّه بالخزي والخذلان.

اللّه أكبر! ما أكبر كلمتك الخالدة: «إني لا أرى الموتَ إلّاسعادةً، ولا الحياة مع الظالمين إلّابَرَماً»(1).

لقد أكرمك اللّه تعالى يا سيدي بالشهادة، وقد أَعَدتَ باستشهادك في سبيل اللّه عِزّ الإسلام. فلا ينسى الإسلام وتاريخه، ولا تنسى الإنسانية مواقفك العظيمة.

ولا يُنسى موقفك حين خاطبت والي المدينة المنوَّرة لمّا عرض عليك5.

ص: 347


1- تحف العقول: ص 245.

ص: 348

البيعة ليزيد، فقلت صلوات اللّه عليك: «إنّا أهلُ بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح اللّه، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لايبايع مثلَه»(1).

ولاينسى ثباتك على هذا المبدأ الأصيل في يوم عاشوراء، الذي استشهد فيه شباب آل محمدٍ ورجالات الإسلام وحماة الحق.

فلا يُنسىّ موقفك العظيم في هذا اليوم، حيث قلت صلوات اللّه عليك:

«ألا وإنّ الدَعِيَّ ابن الدَعِيَّ قد ركزني بين اثنتين، بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة! يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحُجُور طابت وطهرت، واُنوف حمية، ونفوس زكية، من أن نُؤثِرَ طاعة اللِئام على مصارع الكرام»(2).

اللّه أكبر! تاهت العقول في واقعة الطفّ، وفي معرفة أبطاله العظماء.

لقد أسّس مولانا الحسين عليه السلام في يوم الطفّ مدرسته الكبرى لكلّ من يريد الدفاع عن كرامة الإنسان، ويحبُّ الاستشهاد في سبيل اللّه مدرسةً لاتندرس تعاليمها وإرشاداتها، ولا تُمحا آثارها.

يا أبا الشهداء، يا جمالَ هذا الكون، ويا نفحةَ الديّان، وصَفوة الإنسان.

على رَغمِ مَن قتلك وقتل أصحابك، وأسر أهل بيتك؛ حرصاً على اجتثاث1.

ص: 349


1- بحار الأنوار: ج 44 ص 325.
2- تحف العقول: ص 241.

أصل الدين وإطفاء نور اللّه فهذا لواء الإسلام يهتزّ في أرجاء البسيطة، وهذه شمس هدايته تشرق على الأرض، وهذا صوت الأذان يُسمع من المآذن ومكبّرات الصوت والإذاعات في أوقات الصلوات، وهذه شعائر الإسلام تُعَظَّم في مشارق الأرض ومغاربها، كلّ ذلك ببركات نهضتك المقدّسة، وإيثارك الإسلام وأحكامه على نفسك الكريمة، ونفوس أهل بيتك، وأصحابك عليك وعليهم السلام.

يا سيّدَ الأحرار، ويا معلّم الشجاعة والغيرة والإباء.

هذه مجالس الشيعة ومحبّي أهل البيت، وحفلاتهم التأبينية تُحيا بذكر مصائبك، وما تحمّلت في سبيل إعلاء كلمة اللّه من النوائب، وما علمت الإنسانية من الدروس العالية في مدرسة كربلاء.

فذكراك، يامولاي، ذكرُ اللّه تعالى، وذكرى الرسول، وذكرى والدك بطل الإسلام، وذكرى امّك سيدة نساء العالمين، وذكرى جميع رجالات الدين، وأنصار الحق، وحماة المستضعفين.

لقد ظلمك بنو امية وأتباعهم، واشتروا لأنفسهم اللعن الأبدي، كما ظلمك من أنكر فضيلة البكاء، والنياحة عليك، وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحركة المواكب والهيئات، ممّا جرت سيرة المتشرّعة من الشيعة، خواصّهم وعوامّهم عليه؛ لِما فيه من إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام والتأسّي بهم. فهؤلاء الذين يعارضون شعائر العزاء لك - وإن ادّعوا أ نّهم من الشيعة - ليس لهم التفكّر الشيعي.

فالشيعة لا تشكّ فيما هو من ضروريات مذهبها، سيما إذا كان من

ص: 350

مقوماته، ولا تشكّ فيما دلّت السنّة النبوية المروية من طرق الفريقين، والأحاديث المتواترة من طرق أهل البيت عليهم السلام على مطلوبيته واستحبابه. لعن اللّه هذه الثقافة الغربية، التي لاتهدف إلّاإبعادنا عن الإسلام وعن أمجادنا وسنننا.

وإنّي لا يكاد ينقضي عجبي ممّن يطلب منّي ومن غيري تسجيل استحباب البكاء، والتعزية، والإبكاء، وإحياء الشعائر الحسينية، بكل شكل ونوع لم يكن منهياً عنه في الشرع، وقد أفتى به الأساطين، وسعوا في ترغيب الناس إليه، وأ لّفوا فيه كتباً مفردة. فقلَّما تجد كثرة الروايات في موضوع من الموضوعات مثل ما جاء في البكاء على الحسين عليه السلام، والتباكي، والإبكاء عليه، وإنشاء الشعر وإنشاده في مصائبه، وإظهار الحزن عليه بكل نحو مشروع. وقد أخرج هذه الروايات في كلّ عصر وطبقة الرواة الثقات ورجالات علم الحديث، وهي فوق التواتر، هذا، مضافاً إلى ما ورد من طرق العامة في ذلك.

ولايخفى عليك يا أخي، أنّ هذه الناشئة الخبيثة، التي هي من أذناب الاستعمار وعملائه، وتعدُّ نفسها من أهل الثقافة تريد صرف أذهان الناس عن هذه الشعائر؛ لأنّها تحيي أمجادنا الإسلامية، وتوقظ شعور المسلمين، وتزيّن للنفوس التضحية في سبيل إحياء الحق، وتُنفِّر الشعوب عن الظلمة والمستعمرين، واُولئك الذين اتخذوا الناس خولاً، ومال اللّه دولاً، ولاغروَ فإنّ المستعمرين والطواغيت لايرتضون سيرة الحسين عليه السلام، ولايحبون إحياء ذكره، واهتداء الناس إلى مأسَاة كربلاء.

فهذه الشعارات الحسينية، وهذه الألوية التي تنصب على بيوت التعزية، وتحمل مع الهيئات في الطرق والشوارع تُهدِّد كيان الظلمة والمستكبرين،

ص: 351

وتُشجِّع الشعوب للقيام والقضاء عليهم وإبطال باطلهم.

هذه الشعارات تُقَوِّي في النفوس حبّ الخير، وحبّ أولياء اللّه، وحبّ الشهادة في سبيل اللّه، وحبّ إعلاء كلمة اللّه، وحبّ أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهل الإيمان إلّاالحب؟

إذن فلانعبأ بالاستعمار، ولانتوقّع من أذنابه تأييد هذه الشعائر، فكل إناء بالذي هو فيه ينضحُ.

فلايضرّ التفكّر الشيعي وأصالتَه الأصيلة الإسلامية قولُ من يقول عداءً لأهل البيت عليهم السلام: إنّ الصفوية ابتدعوا هذه الشعائر، وحملوا الناس عليها، بعد ما دلّت الأحاديث الصحيحة المتواترة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين - سلام اللّه عليهم - هم الذين سَنّوا النِياحة والبكاء والتباكي والإبكاء على مولانا الحسين عليه السلام، وهم الأصل في الشعائر الحسينية، وهم الذين رغّبوا الناس بذكراه وإنشاد الأشعار وغير ذلك، فصارت بذلك سنّة إلى يوم القيامة لايقدر على محوها جبار ولامستعمر ولامستكبر.

وبالجملة: فلاتجد في عبادة مستحبة وعمل راجح ما ورد في ثواب النياحة والنوح والبكاء على سيدنا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام، وفي ثواب زيارة قبره، وكلّ ما يرجع إلى إحياء أمره مِن تذكّر عطشه عند شرب الماء، وتذكّر مصائبه عند المصائب، ومن أنكر هذه الاُمور فهو كمنكر الشمس في رائعة النهار.

فليس يصح في الأفهام شيءإذا احتاج النهار إلى الدليل

وفي ختام هذه المقالة التي كتبتها عُجالةً وارتجالاً يعجبني أن أترنّم بأبيات من قصيدتي باللغة الفارسية التي نظمتها لإظهار شدة شوقي إلى كربلاء، وتقبيل تراب أقدام مجاوري روضة مولانا الحسين عليه السلام، وهي هذه:

كربلا، اى كربلا، اى كربلا،

از تو بانگ انقلاب آيد بگوش

ص: 352

ص: 353

همچو عباس تو ز اخوان صفا

حرَّره أقلُّ من أناخ مطيَّته بأبواب محبّي مولاه الحسين، عليه وعلى أصحابه الكرام أفضل التحية والسلام.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

24 صفر الخير 1392 ه

ص: 354

في تفسير آية التطهير

اشارة

ص: 355

ص: 356

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

لا يخفى أنّ من أشهر الآيات التي تثبت بها طهارة أهل البيت عليهم السلام من رجس المعصية والخطأ آية التطهير التي دلّت الروايات المتواترة المخرّجة في كتب الحديث والتفسير على أنّ المراد منهم هو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة والامامان السبطان الحسن والحسين عليهم السلام، ثمّ من بعدهم من قام مقامهم إلى خاتم الأئمة الأثني عشر مولانا المهدي المنتظر ابن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وقد حاول بعض المعاندين للعترة الطاهرة لمّا رأى عدم إمكان إنكار نزولها فيه لمكان هذه الروايات المتواترة عند الفريقين نفي دلالتها على عصمتهم التي دلّت عليها غيرها من الأدلّة العقلية والشرعية أيضاً، فأنكر دلالة الآية على عصمتهم الاختياريّة إذا كانت الارادة فيه التكوينيّة، وأمّا التشريعية فزعم انّها تعمّ جميع المكلّفين ولا تدلّ على عصمتهم هذا وقد ألّف المحقّقون من العلماء حول

ص: 357

مفاد الآية وأنّ الارادة فيها هي التكوينية وسائر الادلّة التي اقيمت على عصمتهم كتباً مفردة وأثبتوا دلالة الآية على فضيلتهم وعصمتهم، وعدم منافات كون عصمتهم بالارادة التكوينية وكونها من أعظم فضائلهم بما لا مزيد عليه.

ومع ذلك فهذه رسالة تثبت فيها دلالة الآية على عصمتهم وإن تنزّلنا عن كون الإرادة تكوينية وقلنا بأنّ المراد منها الإرادة التشريعية لم يسبق - فيما نعلم - مؤلّفها بهذا البيان غيره فطالعه واغتنمه.

ص: 358

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ر بِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّد رسله أبي القاسم محمدٍ وآله المطهّرين المعصومين.

من الآيات التي استدلّ بها على عصمة سيّدة نساء العالمين وسادتنا الأئمة الهداة الميامين - عليهم أفضل صلاة المصلِّين - وطهارتهم عن كلّ رجس: آية التطهير.

قال اللّه تعالى: [إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً](1).

وجه الاستدلال بها مضافاً إلى الأخبار الكثيرة التي أخرجها أعلام المحدِّثين وأكابر المفسّرين من العامة والخاصة في كتب الحديث والجوامع والمسانيد وكتب التفسير عن النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه: أنّ لفظة «إنما»3.

ص: 359


1- الأحزاب: الآية 33.

محقّقة لِما ثبت بعدها، نافية لِما لم يثبت.

والإرادة التي جاءت في الآية الكريمة هي الإرادة الحتمية والحقيقية التي يتبعها التطهير، دون ما يسمّونه بالإرادة التشريعية التي يتبعها الأمر أو النهي.

وذلك لأنّه تعالى أراد التطهير عن الأرجاس عن جميع المكلّفين بالإرادة التشريعية، أي إنشاء البعث أو الزجر، وأمرهم بكلّ ما ينبغي أن يفعلوه، ونهاهم عن كلّ ما ينبغي أن يتركوه، والآية الكريمة تدلّ على اختصاص الإرادة المذكورة فيها بأهل البيت عليهم السلام دون غيرهم، وهي الإرادة الحتمية الحقيقية التي يتبعها التطهير لا محالة.

وأيضاً لاريب في أنّ هذا التعبير الصريح في اختصاصهم بهذه الإرادة صريح في المدح والتعظيم لأهل البيت عليهم السلام، وإذا كانت الإرادة غير حتمية فلا مدح لهم بها، ويختلّ نظام الكلام المنزّه عنه كلام العقلاء فضلاً عن اللّه تعالى.

وعليه فلا مناص من القول بأنّ المراد منها هي الإرادة المستتبعة للتطهير وإذهاب الرجس؛ وبذلك تختصّ الآية بأهل البيت عليهم السلام؛ لأنّه لم يدّعِ ولم يقل:

أحدٌ بعصمة غيرهم، فيندفع توهّم شمول الآية لغير أهل البيت عليهم السلام ممّن ثبت عدم عصمتهم كأزواج النبي صلى الله عليه و آله.

وممّا يدلّ على أنّ الإرادة هي الإرادة الحقيقية أنّ متعلّق الإرادة في الآية إذهاب الرجس عنهم الذي هو فعل اللّه تعالى، والإرادة التي تتعلّق بفعله تعالى حتمية لاتتخلّف عن المراد، ففرق بين مايكون المراد فعله تعالى وبين مايكون فعل غيره المختار.

ص: 360

فإذا كان متعلّق الإرادة فعل الغير مختار يصحّ أن تكون هي التشريعية، كما يجوز أن تكون التكوينية، وإن شئت قلت: الحقيقية، وإن كان الظاهر من موارد الاستعمالات بلا قرينة صارفة هو الأولى، وإطلاق الإرادة التشريعية على إنشاء ما يصلح لأن يكون باعثاً أو زاجراً مجرد الاصطلاح.

وإذا كان متعلّق الإرادة فعل اللّه تعالى أو صدور الفعل عن غيره المختار بدون اختياره كانت الإرادة حتميةً لاتتخلّف عن المراد، وإلّا لزم إسناد العجز إلى البارئ سبحانه وتعالى شأنه، المنزّه عن كلّ عجز ونقص، والمتعالي عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولايخفى عليك أنّ في الآية ضروباً من التأكيد في المدح والتعظيم لأهل البيت عليهم السلام، كما يدلّ قوله: [تَطهيراً] أيضاً على عِظَم شأن هذا التطهير.

إن قلت: على هذا إذا كان إذهاب الرجس عنهم بفعل اللّه تعالى وإرادته الحقيقية لا التشريعية كيف يوجّه مدحهم وتفضيلهم على غيرهم لأمرٍ لم يكن من فعلهم، ولا باختيارهم؟

قلت: إنّ عنايات اللّه الخاصّة بل والعامّة لاتشمل إلّامَن له قابلية قبولها، وهو عزّوجلّ أعلم بمحالِّها ومواردها.

قال اللّه تعالى: [وإن مِن شَيءٍ إلَّاعِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلّابِقَدَرٍ مَعلُومٍ](1).

وقال جلّ شأنه: [اللّهُ أعلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ](2).4.

ص: 361


1- الحجر: الآية 21.
2- الأنعام: الآية 124.

وقال سبحانه وتعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحمَةَ ربِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَعِيشَتَهُم](1).

وهذا كالتوفيق والخذلان فلايفوز بالتوفيق من اللّه - الذي هو ولي التوفيق - إلّامَن كانت له أهلية ذلك وكسبها بالاختيار، كما لايصيب الخذلان إلّا مَن جعل نفسه في معرضه بالاختيار.

قال اللّه تعالى: [ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الذينَ أسَاؤُا السُوأى أن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَستَهزِؤُونَ](2).

فهذه امور مرتبطة بالشؤون الربوبية، واستصلاح حال العباد وما تقتضيه الحكمة الإلهية، وهو العالم بها وبمواردها، وهو الحكيم العليم الفيّاض الوهّاب الجواد الذي لايبخل، ولا تنفد خزائنه، ولايمنع فيضه ممّن له أهلية ذلك.

ألا ترى اختلاف الناس في الاستعدادات والقوى النفسانية والجسمانية؟ فاللّه تعالى أعطى من أعطاه من قوة الدرك والشعور بحكمته؛ ولأ نّه أهل لقبول عطيته وأخذ موهبته، ولم يُحرم مَن لم يُعطِهِ ذلك ولم يبخس حقّه، بل أعطاه بقدر استعداده وقدرته، وهو العالِم بذلك كلّه وهو الحكيم العليم، ونعم ماقاله الشاعر (بالفارسية):

آنكه هفت اقليم عالم را نهاد0.

ص: 362


1- الزخرف: الآية 32.
2- الروم: الآية 10.

گر بريزى آب را در كوزه اى

ثم إنّ بعض أهل الأهواء من المغترّين بالثقافة الغربية، ومن حذا حذوهم ممّن نعتوا أنفسهم بالثقافة والتنوّر الفكري - وما هم بذلك - زعم أنّ الإرادة لو كانت تشريعية؛ ليكون أهل العصمة وغيرهم سواءً لكان اجتنابهم عن المعاصي والقبائح باختيارهم لكانت أدلَّ على فضيلتهم، وكمال نفوسهم من اجتنابهم عن المعصية بصفة أنّهم معصومون، وأنّ اللّه أراد عصمتهم عن المعاصي، وبهذا البيان التافه أراد نفي العصمة ونفي دلالة آية التطهير على عصمتهم، وإنكارها من الأصل.

والجواب عن هذا الزعم الفاسد: أ نّه لاملازمة بين العصمة وعدم الاختيار، ولامنافاة بينها وبين الاختيار، فإنّ الإرادة الحتمية والتكوينية تارةً تتعلّق بفعله، وما يصدر عنه بلاواسطة أمر بينه وبين المراد، وبعبارة اخرى:

تتعلّق بوقوع أمر بدون واسطة أمر آخر، سواء كان في خارج عالم الاختيار والأسباب والمسببات أو في عالم الاختيار والأسباب، فلاتتخلّف الإرادة عن المراد، حتى إذا كانت متعلّقة بأمر اختياري لولا هذه الإرادة، وبما له أسباب كثيرة؛ لأنّه بعد ما أراد وقوعه مطلقاً بدون واسطة الأسباب واختيار فاعل مختار يقع لامحالة كما أراد.

وتارةً اخرى تتعلّق بما يصدر عن العبد بالاختيار، أو بوقوع ما يكون له أسباب متعددة كذلك، أعني باختياره وبواسطة الأسباب، ففي مثله فإنّ حصول

ص: 363

المراد وتحقّقه وعدم تخلّف الإرادة عن المراد إنّما يكون بصدوره عن العبد بالاختيار، وبكونه مسبّباً لهذه الأسباب، ففي هذه الصورة لاتنافي بين إرادته المتعلقة بما يقع في عالم الإختيار والأسباب والمسببات، وتوسّط الوسائط والأسباب، بل لو وقع بغير اختيار العبد أو بتأثير الأسباب لكان من تخلّف المراد عن إرادته.

وبناءً على هذا نقول: إنّ قضية إذهاب الرجس عنهم عليهم السلام، وتعلق إرادته تعالى به التي لاتتخلّف عن مراده هي عصمتهم، وعدم صدور القبائح منهم، وطهارتهم عن الأرجاس حال كونهم مختارين في الفعل والترك، غير مقهورين، محفوفين بشواغل عالم الطبيعة، ممّا يدعو النفوس إلى الانصراف عن الملأ الأعلى، والاشتغال بذكر اللّه تعالى.

تحقيق دقيق:

ولنا تحقيق دقيق في سدّ ثغور دلالة هذه الآية على عصمة الأئمة عليهم السلام، ألهمنا اللّه تعالى ببركة ما حقّقه الرجل الإلهي الفريد في عصره، الإمام في العلوم الإسلامية، سيدنا الأستاذ البروجردي - أعلى اللّه في الفردوس مقامه - في مباحثه في اصول الفقه، في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، ورفع التنافي المتوهم بينهما. نذكرة ومماشاةً لمن يصرّ على كون الإرادة في الآية تشريعية.

ص: 364

فنقول مستمدّين العون من اللّه تعالى:

اعلم أنّ الإرادة التشريعية هي عبارة عن العلم بالشيء بأ نّه ينبغي أن يُفعل، أو لايفعل، وإنشاء الأمر والنهي، والطلب والزجر لكونهما صالحين أن يكونا داعيين للعبد إذا فعل ما امر به أوْ زاجراً له إن فعل ما نهي عنه. وبعبارة اخرى: هي إنشاء ما يصلح لأن يكون داعياً له إلى الفعل المأمور به، وزاجراً عن الفعل المنهيّ عنه؛ كي ينبعث نحو الفعل من ينبعث بأمره، وينتهي عن المنهيّ عنه من ينتهي عن نهيه، ويُتمّ الحجّة على غيره ممّن يستخفّ بأمره، ولايعتني به.

وهذا قد يجتمع مع الطلب الحقيقي وإرادة الفعل من العبد جداً، وهي روح الحكم كما يمكن أن يفارقه، فإذا علم المولى من حال عبده أ نّه ينبعث بأمره، وينزجر بنهيه، وأنَّ أمره يدعوه إلى إطاعته وامتثاله، يريد منه بالإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه فأمره ونهيه بالنسبة إلى هذا العبد يكون حقيقياً جدّياً.

وإذا علم من حاله أ نّه لايؤثّر فيه أمر المولى، ولايحركه بشيء، ولايصير داعياً له نحو الإطاعة والامتثال فلايعقل أن يكون أمره ونهيه بالنسبة إلى هذا العبد حقيقياً، ولايقترن مثل هذا الأمر والنهي بالإرادة الجدّية من الآمر والناهي.

فإنشاء الأمر والطلب في الصورة الاُولى كما يكون بالإرادة الحقيقية يكون حقيقياً مجامعاً مع الإرادة الجدّية، وفي الصورة الثانية يكون صورياً، ولإتمام الحجة وقطع العذر.

ص: 365

وبالجملة: فلايعقل إرادة الانبعاث الجدية والطلب الحقيقي ممّن يعلم أ نّه لاينبعث بأمر المولى، فلايعقل أن يقول: «قم» أو «لاتزن» أو «لاتشرب الخمر» وطلب القيام وترك الزنا وترك الخمر بالإرادة الجدّية ممّن يعلم أ نّه لاينبعث بهذا الأمر ولايأتمر به، ولاينزجر عن الزنا وشرب الخمر، ولاينتهي بنهيه عنهما حتى لو كان المولى من الموالي العرفيين، ولم يعلم ذلك من العبد، واحتمل في حقّه تأثير أمره فيه وانبعاثه به، وتحريكه نحو الفعل، لاتتأتى منه الإرادة الجدية بمجرد ذلك الاحتمال، بل إنّما يأمر وينهى برجاء انبعاث عبده أو انتهائه.

والحاصل: أ نّه لايعقل تعلّق الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي بصدور فعل عمّن يعلم المريد أ نّه لايفعله، والأمر أو النهي في هذه الصورة لايكون إلّا صورياً. أي إنشاء الأمر لا لغاية الانبعاث، بل لإتمام الحجّة.

وما ذكرناه يستفاد من كثير من الآيات القرآنية الكريمة، كقوله تعالى [ليُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَافرينَ](1).

وقوله تعالى: [إنّما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأجْرٍ كَرِيمٍ](2).

وقوله تعالى جِدّه: [رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللّهُ عزيزاً حكيماً](3).6.

ص: 366


1- يس: الآية 70.
2- يس: الآية 11.
3- النساء: الآية 156.

وقوله سبحانه: [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيّنَةٍ](1).

فإرادة قبول الإنذار من المنذر، والإنذار بقصد أن يُنذَر المنذَر لايكون حقيقياً إلّاإذا كان المنذر ممّن اتّبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، ويؤثّر فيه الإنذار.

أمّا من لم يؤثّر فيه ذلك، ولايُنذَر بالإنذار فإنذاره ليس إلّاصوريّاً ولرفع عذره؛ ولئلّا يكون له على اللّه حجّة.

هذا، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التشريعية على ضربين:

ضرب منها ما يعلم المريد من حال المراد منه أ نّه ينبعث نحو المأمور به بأمره، ويحرّكه ويصير داعياً له، فيطلب منه ذلك بالطلب الحقيقي والإرادة الجدية.

وضرب منها ما يعلم المريد من حال المراد منه أ نّه لايتأثّر بأمره، فيحكم بأمره أو نهيه بما ينبغي أن يفعل أو لايفعل وينشئ ما يصلح أن يكون داعياً له، ولكن لاطلب له حقيقياً في هذه الصورة، ولايريد انبعاث المأمور بهذا الأمر بالإرادة الجدّية، بل لايصحّ إطلاق الطلب والإرادة على ذلك بنحو الحقيقة إلّا مجازاً وبالتمحل، بخلاف الأول فإنّ إطلاق الطلب والإرادة وأ نّه مريد وطالب يكون على نحو الحقيقة.

وعلى هذا نقول: إنّ الإرادة المذكورة في الآية وإن كانت تشريعية إلّاأ نّها2.

ص: 367


1- الأنفال: الآية 42.

جدّية حقيقية من النوع الأول الذي أراد الآمر والناهي بالإرادة الجدّية والطلب الحقيقي انبعاث المأمور، وأمره ونهيه يصدر عنه بداعي انبعاثه، وصراحة الآية في ذلك: أنّ الإرادة المذكورة في الآية وفي كلّ موردٍ لم تكن قرينة على المجاز صريحة في الإرادة الجدّية الحقيقية.

وإن أبى المعاند عن كلّ ذلك أيضاً وقال: إنّ الإرادة التشريعية عامة تشمل جميع المكلفين المطيعين والعاصين على السواء.

قلنا: لاتنازع في الألفاظ والأسماء والاصطلاحات، وقد قيل من قديم:

لامَشاحَّة في الاصطلاح، فعرِّفِ الإرادة التشريعية بما شئت، وقل: إنّ الإرادة التشريعية هي جعل ما يصلح لأن يكون داعياً للعبد أو زاجراً له، وإنشاء ما له قابلية الداعوية وبعث العبد نحو الفعل أو الترك.

إلّا أنّك تعلم أنّ هذا مجرد اصطلاح، ولايحصر مفهوم الإرادة في ذلك، ولا يخرج عن مفهومها الحقيقي ولاينفي ما هو واقع الأمر، وهو أنّ المولى إذا علم من حال عبده أ نّه ينبعث بأمره ويتحرك بتشريعاته يطلب منه ما أمره به بالطلب الحقيقي وبالإرادة الجدّية، وإذا علم من حاله أ نّه لاينبعث بذلك ولايؤثّر أمره ونهيه في تحريكه أو امتناعه لايطلب منه بتشريعاته ما شرّعه بالطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية، ولايدعوه نحو فعل ما أمره به بداعي أن يفعله، بل يدعوه بداعي أن يُتمَّ عليه الحجّة، و هذا ما نسمّيه بالأمر الصوري، ومن راجع وجدانه يعرف منه ذلك.

فيصحّ أن نقول: إنّ إطلاق الإرادة على التشريعية إطلاق مجازي، بخلافه

ص: 368

على الإرادة الجدّية فإنّه إطلاق حقيقي.

وبالجملة: فهل يمكنك إنكار الإرادة الجدّية بالمعنى الذي تلوناه عليك؟

وهل يمكنك أن تقول: إنّها تتعلّق بما لاتؤثّر الإرادة التشريعية في الانبعاث نحوه؟

وهل يمكنك إنكار تعلّقها حقيقةً بالانبعاث، وبوقوع الفعل عن العبد إذا كان الأمر والطلب والإرادة التشريعية مؤثّراً في بعث العبد أو زجره؟

وهل يمكنك أن تقول بعد ذلك بظهور الإرادة المذكورة في الآية في الإرادة التشريعية دون الإرادة الجدّية، مع عدم وجود قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، ووجود الشواهد في الكلام على أنّ المراد بالإرادة هي الجدّية؟

وإن شئت فقل: إنّ الإرادة على قسمين: جدّية، وتشريعية.

فالتشريعية عبارة عن طلب التكاليف عن جميع المكلّفين على السواء بإنشاء ما يصلح أن يكون داعياً لهم، والحكم بما ينبغي أو يجب أن يفعل، أو لايفعل.

والجدّية على ضربين: تكوينية، وغير تكوينية.

فالتكوينية ما يتعلّق بكون شيء بدون واسطة فعل فاعل مختار.

وغير التكوينية ما يتعلّق بفعل فاعل مختار إذا علم من حاله تحريكه وانبعاثه بالطلب منه.

وبعد كلّ ذلك نقول: إنّ اللّه تعالى وإن قطع بالإرادة التشريعية عذر عباده،

ص: 369

وأنشأ بأوامره ونواهيه ما يصلح أن يكون داعياً للجميع نحو الفعل المأمور به، أو زاجراً لهم عن الفعل المنهيّ عنه، وجعل الكلّ في ذلك سواء، إلّاأنّ إرادته الحقيقية وطلبه الحقيقي تتعلّق بفعل مَن ينبعث عن أمره وينزجر عن نهيه، وأنّ المستفاد من الآية الشريفة أ نّه لعلمه بحال هذه الذوات المقدّسة، وأ نّهم عباد مُكرَمون، لايسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، وما يشاؤون إلّاأن يشاء اللّه، أراد بالإرادة الجدية (لاالتكوينية) انبعاثهم نحو جميع الطاعات، وانزجارهم عن جميع المنهيّات، فأمرهم بما أمرهم، ونهاهم عمّا نهاهم لا لأن يكون هذا الأمر والنهي لقطع العذر وإتمام الحجّة عليهم، بل لانبعاثهم نحو ما امروا به، وانزجارهم عمّا نُهُوا عنه؛ وليكون باعثاً وداعياً لهم للامتثال، وتطهيراً لهم عن جميع الأرجاس، وقد أخبرَنا بذلك في هذه الآية الكريمة إعلاماً بجلالة قدرهم، وعلوّ شأنهم، وسموّ مقامهم، وكمال نفوسهم.

وعلى هذا دلّت الآية الشريفة على أنّ فيهم ملكة قبول كلّ ما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه، والاهتداء بهدايته، ومن كان حاله هذا يريد اللّه تعالى إذهاب الرجس عنه، ويوفّر له أسباب التوفيق، ويخصّه بعناياته الخاصّة، ويجعله تحت رعايته الكاملة يلهمه كلّ خير، ويميّز له كلّ شرّ، لايدعه في حال من الحالات، ولا في شأن من الشؤون، يختاره ويصطفيه من بين عباده، وهو القادر على ما يريد، وبكلّ شيء عليم، [لا يُسْئَل عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ](1).

لا يقال: إنّ ما ذكرتَ هو حاصل لغير هؤلاء الذوات الكريمة أيضاً من3.

ص: 370


1- الأنبياء: الآية 23.

الذين يخشون الرحمان بالغيب، ويتّبعون الذكر، ويقبلون المواعظ بحسب مراتبهم ودرجاتهم.

فإنّه يقال: نعم، ونحن نعرف كثيراً من الناس على بعض مراتب تلك الصفة السامية والملكة العالية القدسية، مطيعين للّه خائفين منه، أهل الخضوع والخشوع وقيام الليل، معروفين بالعدالة والزهد، ولكن لانعرف على صفة العصمة المطلقة التامة غير من شهد اللّه تعالى له بذلك؛ لأنّ صاحب ملكة العصمة المطلقة لا يُعرَف إلّامن طريق الوحي، والارتباط بعالم القدس والملكوت الأعلى.

وقد عرّفَنا اللّه تعالى في هذه الآية أهل البيت عليهم السلام، وأخبرنا بطهارتهم عن الأرجاس كلِّها، وعصمتهم صلوات اللّه عليهم أجمعين، ورزقنا اللّه اتّباعهم والاقتداء بهم، وأماتنا بحبّهم وولايتهم، ولايفرّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة، إنّه الكريم المتفضّل الوهّاب.

وآخر دعوانا أنِ الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره تراب أقدام محبّي أهل البيت عليهم السلام

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

16 صفر الخير، 1403 ه

ص: 371

ص: 372

تفسير آية الإنذار: وأحاديث يوم الدار، أو بدء الدعوة

اشارة

ص: 373

ص: 374

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الآيات النازلة في أهل البيت عليهم السلام سيّما في فضائل أميرالمؤمنين الإمام أبي الحسن علي عليه السلام كثيرةً جداً ذكرها الفريقان في كتبهم في أسباب النزول والتفسير وأفرد بعض الأعلام والحفّاظ من أهل السنّة كالحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» كتباً في ذلك. ورغم جدّ أعدائهم في المنع عن رواية الأحاديث حول تفسير هذه الآيات أو تأويلها لم تخلص كتب الجوامع والمسانيد التي صُنّفت تحت إشراف هذه السياسات ورقابتها عنها.

ومن هذه الآيات، آية الانذار التي تقرأ بعض ما يتعلّق بها في هذه الرسالة المسمّاة «حديث يوم الدار» وتعرف أنّ إنكار ما ورد في شأن نزولها، ممّا يدلّ على خلافة عليّ عليه السلام شنشنة اخزميّة وخصلة امويّة حرّكها بغض الإمام عليه السلام الذي هو من أظهر آيات النفاق، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لا يُحبّك إلّامؤمن ولا يُبغِضك إلّا منافق.

ص: 375

ص: 376

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمدٍ وعلى آله الطاهرين.

قال اللّه تعالى: [وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبينَ](1).

لا يزال يأتينا من الناصبة، وبقية الفئة الباغية، والمرتزقة الذين يعيشون في أحضان الاستعمار - وهمّهم الوحيد التفرقة بين المسلمين، وإشغالهم بخلافات مستحدثة؛ كيلا يلبّوا دعوة المصلحين وعباقرة الاُمّة إلى توحيد الكلمة - ما يجرح العواطف، ويُثير الفتنة والتباغض والتخالف، ممّا لا ربح فيه إلّا للأعداء، ولا يزيدنا إلّاالضعف والفشل.

وهذا إن دلّ على شيءٍ، فإنَّما يدلّ على أنّهم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ حتى لايسمعوا صرخات المصلحين؛ لأنّهم لايحبون استيقاظ امتنا الكبيرة، التي4.

ص: 377


1- الشعراء: الآية 214.

لو استيقظت من نومتها، وعرفت صلاحياتها وطاقاتها وإمكانياتها لقامت بوجه كل استكبار واستضعاف وقضت عليه، ورفعت راية التوحيد، وأسَّست المدنية على النظام الإلهيِّ الخالي من الظلم والانظلام، وسلب الحريات التي منحها اللّه تعالى الإنسان في شرائع الأنبياء، سيّما الشريعة الإسلامية الخاتمة.

نعم، لو التفت الجيل الحاضر المسلم إلى مستقبله وإلى حاضره، وما يجري في العالم، وما أحاط البشريةَ من المشاكل التي فرضتها عليها الصهاينة وأذناب الاستعمار، والتبشير والإلحاد وعبدة لنين وماركس أدرك ما يجب عليه من القيام بإبلاغ رسالة الإسلام لإنقاذ البشرية، والسعي للقضاء على كلّ سلطة وسيطرة إلّاسلطة أحكام اللّه تعالى، ويدكّ بذلك عروش الجبابرة والمستكبرين ويهدّد كيانهم.

ولَعَمْرُ الحقّ، ما على البسيطة شيء أشدّ خطراً على الاستكبار العالمي من تيقّظ المسلمين من رقدتهم، واعتصامهم بحبل اللّه تعالى.

إذن فلا عجب من وقوفهم بوجه المصلحين وسعيهم في تفرقة كلمة المسلمين وتجزئة بلادهم؛ ليكون كلّ إقليم ومنطقة تحت أمر حاكم عميل ونظام في خدمة الشرق أو الغرب.

فانظر إلى بلاد المسلمين بعين البصيرة والعبرة؛ لتدرك محنتها من هؤلاء الحكّام والمهتّمين بتفرقة المسلمين، ثمّ انظر هل تجد لهذه الحكومات المتخالفة في السياسة والنظام والإدارة مفهوماً؟ غير أنّ الاستعمار لم يقم ولن يدوم في بلادنا إلّابها. وأوجّه السؤال إلى المسلمين المضطهدين تحت سيطرة هذه

ص: 378

الحكومات الجائرة عن الحاكم الإسلامي الذي قرن اللّه طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه و آله من بينها:

فمن هو إذاً حاكم الاُردن، أو تركيا، أو الجزيرة العربية المسمّاة باسم السعودية، أو حاكم الكويت، أو البحرين، أو قطر، أو أبوظبي، أو سلطنة عما، أو المغرب، أو تونس، أو الجزائر، أو باكستان، أو ماليزيا، أو أندونزيا، أو الصوُمال، أو لبنان، أو نيجيريا، أو اليمن الشمالية، أو اليمن الجنوبية الماركسية، أو ليبيا الاشتراكية، أو السودان، أو مصر، أو العراق، أو تانزانيا، أو سوريا، أو أفغانستان، أو اوزبكستان، أو تاجيكستان، أو ألبانيا، أ، بنگلادش، وأو... وأو...؟!

مَن الذي يحكم من حكّام هذه البلاد بحكم الإسلام؟ وأيُّ هذه الحكومات حكومة شرعية إسلامية تمثّل وحدة الاُمة وحكومتها العالمية التي تسود العالم كلَّه؟

وهل تعرف منها من لايتحكّم في مصيره الشرق الملحد أو الغرب المستعمر؟ ومن هي شبكات هؤلاء المستعمرين الذي لايرقبون في مؤمن إلّاً ولاذمةً، يُنفقون الأموال الطائلة التي يحصلون عليها بامتصاص دماء الشعوب، من أجل اختلاق الخلافات وإنكار الحقائق الإسلامية، وإيجاد الشكّ في التاريخ المليء بأمجادنا وبطولات أبطالنا؟ كما يحاولون أن تبقى اختلافات الفرق بحالها، فحينما يرون أنّ الشعور بالولاء لأهل البيت عليهم السلام والتمسّك بهم سيشمل جميع الاُمة ويوحّدها، ويُذهب بالأحقاد التي أوجدتها السياسة، ويقضي على تفرقة الاُمة بالفريقين الشيعة والسنّة، ويلفّ الجميع حول الكتاب والعترة (الثقلين) ويوحّد المذاهب أجمع، يتوسّلون بأهل التعصّب والعناد والنصاب

ص: 379

يخيفونهم من ظهور الحق ويقظة الشباب المثقّف، وفهمهم ما وراء الوقائع الدامية والخلافات الطائفية من مؤامرات المنافقين ومبغضي أهل البيت عليهم السلام، فيستأجرون لذلك أقلام عبدة الدنيا، ومحبّي الجاه، والضعفاء الذين لايفهمون ما وراء هذه الاُمور، ولايفكّرون فيما يريده الاستعمار من الاحتفاظ بتفرّق المسلمين.

إي واللّه، لقد أدرك الاستعمار أنّ جيلنا المسلم قد استيقظ عن نومته، وانتبه إلى ما حوله، وأدرك أنّ الخلافات المذهبية والسياسات العاملة لمنع الناس عن التمسّك بالثقلين وأخذ العلم عن أهل البيت عليهم السلام الذين هم وحدهم حملته وسَدَنته، تذوب بالإمعان الخالص من التعصّب في الكتاب والسنّة والتاريخ، كما أدرك الكثير من أبناء أهل السنّة، فلبّوا دعوة المصلحين الأفذاذ؛ لترك العصبيات الطائفية، وفهموا أنّ شيعة أهل البيت عليهم السلام لاذنب لهم إلّاولاء أهل البيت، وأخذ العلم عنهم في ظروف لم تكن موافقة لسياسة أرباب السلطة المتغلبين على المسلمين، فتحكّموا في رقاب محبّيهم ورواة فضائلهم ومناقبهم وحملة العلم عنهم، ونكّلوا بهم أشدّ التنكيل وساموهم سوء العذاب، حتى أصبح الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام ونقل الحديث عنهم، وحتى إعانة الذرّية الطاهرة النبوية من أعظم الجرائم السياسية.

وقد بقيت شرذمة ضئيلة من أبناء هؤلاء الذين يقولون بشرعية حكومات الطواغيت، الذين عَلَوا وطغوا واستكبروا في الأرض، أمثال معاوية ويزيد والوليد وهارون والمتوكّل وغيرهم، وكان استكبارهم أكثر من استكبار طواغيت الجاهلية في روما وايران.

ص: 380

وهؤلآء لايزالون يصدّون المسلمين عن التجاوب والتفاهم، ويلبّون دعوة الاستعمار لإثارة الضغائن وإنكار الحقائق، ينظرون دائماً إلى الخلف، ولاينظرون إلى الأمام. لايقبلون من التاريخ والحديث إلّاما يؤيد آراءهم، ويجرحون كأسلافهم كلّ من يروي ما لايوافق أهواءهم، ويطعنون في كلّ حديث يخالف مذهبهم وإن بلغ في الصحة ما بلغ، أو يؤولونه. قد أعمت العصبية أبصارهم وبصائرهم. السنّة عندهم بدعة، والبدعة عندهم سنّة. يقتفون آثار السفيانيين، ويدافعون عن سيرة الجبابرة، ويعملون على كتمان فضائل بطل الإسلام، ونفس الرسول وابن عمه وأخيه، وباب مدينة علمه، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لانبي بعده، ومن لايحبّه إلّامؤمن، ولايبغضه إلّا منافق، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ينكرون مناقبه ومناقب أهل بيته، ويرمون من روى فضائله بالكذب ووضع الحديث، ويعدّون ولاء أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله جريمةً لاتُغتفر، ولكن لو كانت هذه المناقب مرويةً في شأن أعداء آل النبي صلى الله عليه و آله لايقابلونها بالإنكار، وسيّما إذا كان رجالها مطعونين بالنصب وقتل المسلمين وأقبح الظلم وأشنع الفسق. فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

قرأنا في بعض المجلّات (حضارة الإسلام، العدد الخامس من السنة الثامنة عشرة برجب 1397 ه) نقداً من الكاتب محمد حسنين هيكل، على كتاب للجنرال ا. أكرم، ترجمة الركن صبحي الجابي، فيه موارد هامّة من الاشتباه، وقلب الحقائق، من أعظمها: الاستناد إلى المنقولات الضعيفة والحكايات الواهية في شأن بدء الوحي وكيفية نزوله، ممّا لايناسب شأن الرسالة المحمدية، فيتّهم الرسول صلى الله عليه و آله بخشيته على نفسه عندما نزل عليه

ص: 381

الوحي، وجاءه الملك الأمين جبرئيل عليه السلام يرى كأ نّه - والعياذ باللّه - لم يحصل له اليقين بما جعل اللّه على عاتقه، وشرّفه به من النبوة والرسالة، فانطلقت به السيدة خديجة أتت به ورقة بن نوفل.

وهذه وإن كانت رواية البخاري ومسلم في بدء الوحي وكيفية نزوله إلّاأنّها مردودة عليهما وعلى شيوخهما؛ لأنّ شأن الرسول صلى الله عليه و آله في المعرفة والإدراك كان أنبل وأجلّ من الشكّ فيما أوحى اللّه تعالى به، وأمر الرسالة أيضاً أعلى وأنزه من ذلك. وكيف لايعرف الرسول صلى الله عليه و آله ما تعرفه وتؤمن به السيدة خديجة - رضي اللّه تعالى عنها - وقد كان تحت رعاية اللّه تعالى قبل البعثة، وخلق اللّه نوره قبل أن يخلق العالم، مضافاً إلى أنّه يجب أن يكون إلقاء الوحي والتعيين لهذا المنصب العظيم سيما الرسالة المحمدية العظمى على نحوٍ يحصل للمبعوث بها بنفسها اليقين والإيمان على أنّه بعث إلهي ووحي سماوي. وبالجملة شأن الرسالة وشأن الرسول بريء من خشيته صلى الله عليه و آله على نفسه.

اللهمّ إلّاأن يكون المراد خشيته من اللّه تعالى لعظم ما أمره به وجعله على عاتقه، ولاريب أ نّه صلى الله عليه و آله كان أخشى الناس وأخوفهم من اللّه تعالى، وكان أعبدهم وأزهدهم، وأعرفهم باللّه. ولاريب أنّ من كان أعرف الناس باللّه يكون أخوفهم منه وأرجى به منهم، أمّا الشكّ والخشية على نفسه فلم يعرضه حتى لحظة واحدة، وهذا أمر يعرفه من سبر تاريخ حياته وأخلاقه الكريمة، وقد قال اللّه تعالى: [آمَنَ الرَّسُولُ بِما انزِلَ إلَيهِ مِنْ رَبّه](1) فهو مِن أول مانزل به الوحي آمن5.

ص: 382


1- البقرة: الآية 285.

بما انزل إليه وخرج من غار حراء وقلبه مليء بالإيمان بما نزل به.

نقده الآخر:

ثمّ إنّه أنكر على المؤلّف ما ذكر من أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد بقي مدة ثلاث سنوات يتلقّى تعليمات ربّه، دون أن يتكلّم شيئاً عن رسالته، ويوهم القارئ بأنّ علياً وخديجة وأبا بكر أسلموا في زمن واحد، ولم يكن بين إسلام خديجة والإمام واسلام أبي بكر فترة حتى يسيرة، مع أ نّه يظهر لمن يمعن النظر في الأحاديث الصحيحة والتاريخ أنّ أبا بكر لم يسلم إلّابعد فترة طويلة لايستبعد تقديرها بثلاث سنين. ولايأبى العقل أن يكون النبي صلى الله عليه و آله مدة ثلاث سنوات أو أكثر يتلقّى تعليمات ربّه، ولم يكن مأموراً بإظهارها وتبليغها بغير خديجة وعلي من أهل بيته. فكانوا يعبدون اللّه بما تعبّده اللّه به سرّاً، حتّى إذا أمر اللّه النبي صلى الله عليه و آله بإظهار الدعوة بلغ عدد المؤمنين في ثلاث سنوات إلى الأربعين أو أكثر على اختلاف الروايات في ذلك.

ويؤيّد بل ينصّ على ما قلناه: الروايات الكثيرة التي دلّت على أنّ علياً عليه السلام عبد اللّه تعالى مع رسوله صلى الله عليه و آله سبع أو تسع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الاُمّة، وأنّ الملائكة صلّت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلى علي عليه السلام سبع سنين؛ لأنّه لم يصلِّ معه أحد غيره(1).

ص: 383


1- يراجع في ذلك: كنز العمال: ج 13 ح 36389 و ح 36390 و ح 36391، والخصائص العلوية للنسائي: ج 3، وتاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام عليه السلام: ح 71 و 80 و 81 و 91 و 99 و 112 و 113 و 114، وفرائد السمطين: 1، ح 191 و 192 و 187 و 188، وتهذيب التهذيب: ج 7 ص 336، واُسد الغابة: ج 4 ص 18، والرياض النضرة: ج 2 ص 217، وذخائر العقبى: 64، وغيرها.

آية الإنذار وحديث الدار:

وممّا أخذ هذا الناقد على هذا المؤلّف وناقشه: أنّه ذكر حديث الدار ويوم الإنذار، وتجاوز عن الحدّ في نقده، وحكم باختلاف الرواية بالأصل؛ لوجود راوٍ مشهور بالكذب وصنع الأحاديث بزعمه، وهو: أبو مريم الأنصاري عبد الغفار بن القاسم، الذي أثنى عليه الحافظ ابن عقدة وأطراه، كما في لسان الميزان.

والرواية مشهورة مستفيضة أخرجها جمع من الحفّاظ وأكابر المحدِّثين، واختصرها بعضهم، كما أبدل الطبري في تفسيره قوله صلى الله عليه و آله «فأ يُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟» بلفظ «فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وكذا وكذا».

وقوله صلى الله عليه و آله: «إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» بلفظ «إنّ هذا أخي وكذا وكذا».

والطبري - وهو الذي روى الرواية كاملة وتامة في تاريخه - يرويها بهذه الصورة المحرّفة المشوّهة المجملة حتى لايفهم القارئ مغزاه، ولايعرف خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله المنصوص عليه في هذه الروايات وفي غيرها من الأحاديث، أو لايرمونه أهل العناد والنصب بالرفض والتشيّع، ولايفعلون به ما فعله أهل دمشق

ص: 384

بالنسائي صاحب السنن والخصائص العلوية.

وقد تبع الطبري في تفسيره ابن كثير في تاريخه(1) ، وهذا إن لم يدلّ على شيء فقد دلّ على أنّ السياسة هي القوة التي تعيّن منهج سير العلم والحديث والتفكّر. فمثل هذه الكلمة القاطعة: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» لايجوز سياسياً نقلها والتحدث بها، لأنّها إعلان إبطال الحكومات المستبدّة التي قلبت نظام الإدارة والحكم، وأحيت سنن الأكاسرة والقياصرة.

فالنظام الذي يقطع عرقوبَ مثلِ بشير بن مروان، ويضرب عطية العوفي أربعمائة سوط، وينتف لحيته؛ لإبائهما عن سبّ الإمام عليه السلام(2) لايسمح مهما أمكنه التحدّث بمثل هذه الأحاديث والإجهار بها، ويبالغ في المنع عن ذلك تخويفاً وتطميعاً.

وهذا يحيى بن يعمر يُبعَثُ به من خراسان إلى الكوفة بأمر الحجّاج لقوله:

«إنّ الحسن والحسين ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(3).ّ.

ص: 385


1- البداية والنهاية: ج 3 ص 40.
2- تهذيب التهذيب: ج 7 ص 226، و ج 10 ص 157 و 158.
3- قال في وفيات الأعيان: ج 5 ص 222 و 223 ح 868: حكى عاصم بن أبي النجود المقري المقدم ذكره: أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي بلغه أنّ يحيى بن يعمر يقول: إنّ الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما - من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان يحيى يومئذٍ بخراسان، فكتب الحجّاج الى قتيبة بن مسلم والي خراسان - وقد تقدم ذكره أيضاً - أن ابعث إليّ بيحيى بن يعمر. فبعث به إليه، فقام بين يديه، فقال: أنت الذي تزعم أنّالحسن والحسين من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟ واللّه لألقين الأكثر منك شعراً، أو لتخرجن من ذلك! قال: فهو أماني إن خرجت؟ قال: نعم، قال: فإنّ اللّه جلّ ثناؤه يقول: [ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كلّاً هَدَينا ونوحاً هدينا من قبلُ ومن ذرّيته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى] الآية 84 من سورة الأنعام. قال: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر ممّا بين الحسن والحسين ومحمد صلوات اللّه عليه وسلامه، فقال الحجّاج: وما أراك إلّاقد خرجت، واللّه لقد قرأتها وما علمت بها قطّ.

إذن فلا عجب بمؤاخذة هؤلاء المتعصّبين للباطل لهيكل بإخراجه رواية يوم الدار في تاريخه، حتى اضطرّ إلى حذفها منه في طبعته الثانية.

ولاعجب منهم إن لم يؤاخذوا عليه تركه في تاريخه كثيراً من فضائل الإمام التاريخية، وما وقع فيه من الأغلاط والاشتباهات فيما يرجع إلى سيرة النبي صلى الله عليه و آله ومواقف وصيّه وأخيه الرشيدة.

ولاتعجب من الكاتب محمد حسنين، الذي يكتب فى مجلة حضارة الاسلام مؤاخذته على الجنرال ا. أكرم ومترجم كتابه بنقل حديث يوم الدار بالمضمون.

فتلك شنشنة اخزومية، وسيرة اموية، وبدعة مروانية قد الزموا بها في ردّ الأحاديث الصحيحة، وجرح رواة فضائل أهل البيت عليهم السلام، في حين أّنهم يحتجّون بروايات أمثال: المغيرة بن شعبة، وبُسر بن أرطاة، وأزهر الحرازي الحمصي، وحريز بن عثمان الرحبي، وخالد بن عبد اللّه القسري، وشبابة بن سوار، وعمر بن سعيد بن العاص الاُموي، وعمران بن حطّان وغيرهم(1).».

ص: 386


1- راجع في ذلك كتابنا «أمان الاُمة من الضلال والاختلاف».

فانظر كتبهم في الرجال وفي الجرح والتعديل، مثل: لسان الميزان والجرح والتعديل للرازي، وتدبّر في كلماتهم في شأن أبي مريم الأنصاري، الذي روى هذا الحديث في عصرٍ كان رواية مثله من أكبر الجرائم السياسية، وانظر هل تجد في ذلك الرجل موضع غمز وتنقيص إلّاالموالاة ومودّة ذوي القربى، ورواية مثل هذه الرواية؟!

فلا تجد غير ذلك سبباً لتركهم حديثه وحديث أمثاله، فرموه لذلك تارةً بالكذب، وتارة اخرى بعدم الوثاقة، وعلّته الأصلية هو التشيّع وروايته أحاديث الفضائل. فهذا أحمد بن حنبل يقول فيه، كما نقله الرازي عنه في الجرح والتعديل: (إنّه ليس بثقة، كان يحدّث ببلايا في عثمان) ويقول: (هو متروك الحديث، كان من رؤساء الشيعة). وفي لسان الميزان قال: (يقال: كان من رؤوس الشيعة). ثمّ أخرج عنه حديث «عليّ مولى مَن كنت مولاه».

فهذا ذنب الرجل أ نّه أولاً كان يحدث ببلايا في عثمان، وثانياً: أ نّه كان من رؤساء الشيعة. وإذا كان الحديث ببلايا عثمان موجباً للقدح في أحد فما يقولون في عائشة وطلحة والزبير وعمار وغيرهم من الصحابة، الذين كانوا من المتجاهرين في القوم ببلايا عثمان وذمّه المشيرين عليه حتى قتل؟

وإذا كان عثمان أحدث في الإسلام ما أحدث، وصنع ما أغضب الصحابة مثل الصحابي الزاهد الكبير الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حقّه: «ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر»(1) ، فأنكر9.

ص: 387


1- بحار الأنوار: ج 22 ص 329.

عليه صنائعه غير المرضية، فنفاه عثمان إلى الربذة، فمات في منفاه وحيداً مظلوماً، فما ذنب أبي مريم الأنصاري إن حدّث ببلاياه؟ وإن كان هذا سبباً للطعن فيه فمن كان هذه بلاياه أحقّ وأولى بالطعن منه!

أتريدون أن لايقول أحد من التاريخ وممّا جرى على هذه الأمة شيئاً، ولايعرف أحد ما وقع في عصر الصحابة، ولايفهموا تلكم الحقائق التي ترتبط معرفتها بمعرفة رسالة الإسلام، ومناهجها العالية في السياسة والحكومة والمال وغيرها؟

لاواللّهِ، لايمكن ذلك، وإن أمكن إخفاء تلك الحقائق التاريخية في العصور الماضية لايمكن ذلك في عصرنا الحاضر، عصرالطباعة والنشر، والثقافة والفكر، الذي تيقّظ فيه المسلمون من رقدتهم، وأدركوا - سيّما الشبّان المثقّفون - أنّ بلاءنا كلّه يرجع إلى صنائع بعض الأوّلين من أهل السياسة، ممّا شوّه وجه الإسلام في الحكم والإدارة.

وإذا كان قدحاً كون الرجل من رؤساء الشيعة، فما يقول هؤلاء في رؤسائهم، مثل: سلمان، وأبي ذرّ، والمقداد، وعمار بن ياسر(1) ، وغيرهم منم.

ص: 388


1- قال الكاتب الشهير محمد كرد علي - وهو من أبناء السنّة - في كتابه «خطط الشام»: ج 6 ص 245: عُرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله، مثل سلمان الفارسي القائل: (بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له). ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: (امر الناس بخمسٍ، فعملوا بأربع وتركوا واحدة)، ولمّا سُئل عن الأربع؟ قال: (الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج). قيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: (ولاية علي بن أبي طالب). قيل له: وإنّها لمفروضة معهنّ؟ قال: (نعم هي مفروضة معهن). ومثل أبي ذرّ الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة، وكثير أمثالهم.

الصحابة المعروفين بالوفاء والولاء لأهل البيت عليهم السلام، ومن التابعين لهم بإحسان؟

وما يقولون في أئمة الشيعة المعصومين، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا؟

وما يقولون في شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذي هو أول من سن التشيع، وهو الذي لقّب المؤتمّين بأمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام بالشيعة، وبشّرهم بأ نّهم خير البرية؟

هذا، ويُسئل عن حال من جرح أبا مريم الأنصاري: هل هو مرضيّ عند علماء الجرح والتعديل من أهل نحلته؟

فابن معين يتّهم مثل أحمد بن حنبل بالكذب. وقال المقبلي: (نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك من الأسباب الدنيويه والعصبية الطبيعية)(1).

وقال ابن معين: (إنّ مالكاً لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي)(2).

وقال الليث بن سعد: (أحصيتُ على مالك سبعين مسألة، وكلّها مخالفة9.

ص: 389


1- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 345.
2- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 299.

لسنة الرسول صلى الله عليه و آله)(1).

وقالوا في غيرهم من أئمتهم ما قالوا(2). وعلى هذا لايبقى اعتماد على أقوالهم في الجرح والتعديل المبتنية على ما سمعت في تعرّف أحوال رجال الشيعة والمتشيّعين ورواة فضائل أهل البيت عليهم السلام، ولايجوز الركون عليها.

وبعد ذلك كلّه نقول: بأنّ الرواية رويت بإسناد آخر ليس فيه عبدالغفار بن القاسم. فرواه البيهقي في الدلائل عن إبن اسحاق، عن شيخ أبهَمَ اسمه، عن عبد اللّه بن الحارث، الى قوله: (إنّي قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة)(3) ، ولاأدري لماذا أبهم ابن إسحاق شيخه الراوي عن عبد اللّه بن الحارث، كما لاأدري أنّ عدم الانتهاء إلى آخر الحديث هل كان من البيهقي، أو من ابن إسحاق، أو غيرهما، وكان ذلك خوفاً عن النواصب، أو إخفاءً للحقّ عناداً ونصباً؟ ولايبعد أن يكون الشيخ الذي أبهم اسمه ابن إسحاق، هو عبد الغفار بن القاسم(4).

وعلى هذا الاحتمال يكون السند في ذلك موافقاً لسند الطبري، لايثبت به0.

ص: 390


1- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 299.
2- يراجع في ذلك أضواء على السنّة المحمدية: ص 289، والعتب الجميل وغيرهما.
3- دلائل النبوة: ج 1 ص 428 و 429 و 430، البداية والنهاية: ج 3 ص 39-40.
4- بل هو هو كما قال البيهقي، قال أبو عمر أحمد بن عبد الجبّار: بلغني أنّ ابن إسحاق إنّما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن مريم المنهال بن عمرو، عن عبد اللّه بن الحارث، وكان ما أخفى النبي صلى الله عليه و آله أمره واستتر به إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه. قلت: وقد روى شريك القاضي عن المنهال بن عمرو، عن عبداللّه الأسري، عن علي في إطعامه إياهم تقريب (بقريب) من هذا المعنى مختصر (مختصراً). دلائل النبوة ج 1 ص 429 و 430.

وجود سند آخر للحديث غيره، إلّاأ نّه جاء بإسناد آخر ليس فيه هذا الرجل، كما تفطّن به ابن كثير، فقال بعد ما قال في عبد الغفار:

(ولكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد اللّه بن عبد القدّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبداللّه بن الحارث، قال: قال عليّ: «لما نزلت هذه الآية [وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبينَ] قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اصنع لي رِجل شاةٍ بصاعٍ من طعام، وإناءً لبناً، وادعُ لي بني هاشم، فدعوتهم، وإنّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل» فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: «وبَدَرَهُم رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام، فقال: أيّكم يقضي عنّي ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لِسِنّ العباس. قالها مرة اخرى، فسكت العباس، فلمّا رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول اللّه، قال: أنت...

الحديث»(1).

وقال ابن كثير: (وهذه الطريق فيها شاهد لِما تقدم، إلّاأنّه لم يذكر ابن عباس فيها، فاللّه أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد اللّه الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم، أو كالشاهد له)(2).

فابن كثير كما يظهر من كلامه يقوّي ضعف السند من طريق الطبري بغيره ممّا لاضعف فيه، إلّاأنّه أيضاً غلط في أصل تضعيف السند كغيره، كما أ نّه غلط0.

ص: 391


1- البداية والنهاية: ج 3 ص 39 و 40.
2- المصدر السابق نفسه: ص 40.

غلطاً كبيراً في الحكم على عبد الغفَار بن القاسم بأنّه كذّاب شيعي ولم يأتِ بدليل على ذلك، غير أنّ ابن المديني وغيره اتّهمه بوضع الحديث، وضعّفه الباقون.

ولايخفى أنّ من يتّق اللّه، ويعتقد حرمة عرض المسلم كحرمة ماله ودمه لايخوض في عرض المسلم بمجرد التهمة، ولايُسيئ الظنّ به، ولايجوز له أن يقول أزيد ممّا قيل فيه. إذا وجب ذلك، فمن أين قلت يابن كثير: إنّه كذّاب؟ وما كذبه؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما جوابك حين يخاصمك عبد الغفار عند اللّه تعالى؟!(1) هذا، وقد ظهر لك أنّ للحديث طرقاً كثيرة، بعضها فيها عبد الغفار، وبعضها ليس فيه هذا الرجل.ا.

ص: 392


1- لا يخفى عليك أنّ أرباب الرجال والتراجم والفهارس من الشيعة المشهورين بكمال التورّع والاحتياط، سيما في الجرح والتعدل صرّحوا بوثاقة هذا الشيخ الجليل (أبي مريم عبد الغفار بن القاسم القيس الأنصاري)، والرجل من أصحاب الإمام زين العابدين علي بن الحسين وابنه الإمام محمد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، ويكفيه ذلك فخراً وشرفاً وفضلاً. توجد ترجمته في فهرست الشيخ ورجاله، وفهرست النجاشي، والخلاصة للعلّامة، ورجال ابن داود، والكشّي، والوجيزة، والبُلغة، وجامع الرواة وغيرها. وممّا يؤيّد حُسنَ حال الرجال، ويزيد في تعرّف حالهم: معرفة شيوخهم وتلاميذهم ومن أخذ عنهم العلم. وللرجل في هذا شأن سامٍ ومكان عالٍ، فإنّ شيوخه الذين أخذ العقيدة والمذهب منهم، واتخذهم أئمة وتمسّك بهم، واعتصم بحبل ولايتهم الذي هو حبل اللّه، هم مَن عرفتهم: الإمام زين العابدين والإمام باقر علوم النبيين والإمام جعفر الصادق عليهم السلام، فقد تخرّج هذا الرجل من مدرستهم الكبيرة، وتلمّذ عندهم، وأخذ العلم من نَميرهم الصافي. يراجع جامع الرواة، والكشّي، والنجاشي وغيرها.

ونحن نذكر طائفة من هذه الطرق؛ ليظهر لك قوة أسنادها واشتهارها، وأنّ العلماء الحفّاظ والمحدّثين تلقّوها بالقبول، فنقول:

الطريق الأول: ما أخرجه ابن كثير في تاريخه، عن إبن أبي حاتم في تفسيره، وهذا هو الطريق الذي مرّ نقله عنه، وليس فيه عبد الغفار(1).

الطريق الثاني: ما أخرجه البيهقي في الدلائل، عن ابن إسحاق، عن شيخ أبهم اسمه، أخرجه ابن كثير أيضاً عن البيهقي، وقد مرّ نقله أيضاً(2).).

ص: 393


1- وقد روى الحديث عن عطاء، وعَدِيّ بن ثابت، والمنهال بن عمرو، ونافع. الجرح والتعديل للرازي: ج 3 ص 53. وسمع منه يحيى بن سعد الأنصاري، وشعبة، وكان حسن الرأي فيه. الجرح والتعديل: ج 3 ص 53 و 54. وروى عنه جماعة من الأجلّاء والرواة، كالحسن بن محبوب، ومحمد بن موسى خوراء، وصالح بن عقبة، وموسى بن بكر، وعلي بن الحسن بن رباط، وأبو ولّاد، وأبان بن عثمان، وهشام بن سالم، وعلي بن النعمان، وعثمان بن عيسى، وعبداللّه بن المغيرة، وثعلبة بن ميمون، ويونس بن يعقوب، والقاسم بن سليمان، وعبد الرحمن بن حمّاد، ومحمد بن أبي حمزة، ومحمد بن عيسى، والعباس بن المعروف، وسيف، وفضالة، وإبراهيم بن سنان، وظريف، و أحمد بن عمر، وجميل بن صالح والحسن بن سري. جامع الرواة: ج 1 ص 461 و 462. وممّا يظهر منه: جلالة قدره، وحسن عقيدته، وإيمانه بالأئمة الاثني عشر، الذين بشّر النبي صلى الله عليه و آله الاُمة بهم، كما جاء في الروايات المتواترة، ما روى الشيخ الجليل أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزّاز في كتاب «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر»، بسنده عنه، قال أبو مريم الأنصاري:
2- دخلت على مولاي الباقر عليه السلام وعنده اناس من أصحابه، فجرى ذكر الإسلام، قلت: يا سيدي! فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: «مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده»، قلت: فأيّ الأخلاق أفضل؟ قال: «الصبر والسماحة»، قلت: فأيّ المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: «أحسنهم أخلاقاً»، قلت: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من عُقِر جواده واُهريق دمه»، قلت: فأيّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت»، قلت: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: «أن تهجر ما حرّم اللّه عزّوجلّ عليك»، قلت: ياسيدي، فما تقول في الدخول على السلطان؟ قال: «لا أرى ذلك»، قلت: إنّي ربّما سافرت إلى الشام فأدخل على إبراهيم بن الوليد، قال: «ياعبدالغفّار، إنّ دخولك على السلطان يدعو إلى ثلاثة أشياء: محبّة الدنيا، ونسيان الموت، وقلّة الرضا بما قسم اللّه لك»، قلت: يابن رسول اللّه، فإنّي ذو عيلة وأتّجر إلى ذلك المكان لجرّ المنفعة، فما ترى في ذلك؟ قال: «ياعبداللّه، إنّي لست آمرك بترك الدنيا، بل آمرك بترك الذنوب، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة»، قال: فقبّلت يده ورجله، وقلت: بأبي أنت وأُمي يابن رسول اللّه، فما نجد العلم الصحيح إلّاعندكم، وإنّي قد كبرت سنّي ورقّ عظمي، ولاأرى فيكم ما اسَرُّ به، أراكم مُقتَّلين مشرّدين خائفين، وإنّي أقمت على قائمكم منذ حين، أقول: أَخَرَجَ اليوم أو غداً، قال: «ياعبدالغفّار، إنّ قائمنا هو السابع من وُلدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الأئمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم يخرج في آخر الزمان، فيملؤها قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت جوراً وظلماً»، قلت: فإنّ هذا كائن يابن رسول اللّه، فإلى من بعدك؟ قال: «إلى جعفر، وهو سيد أولادي وأبوالأئمة، صادق في قوله وفعله، ولقد سألت عظيماً ياعبدالغفّار، وإنّك لأهل الإجابة»، ثمّ قال: «ألا إنّ مفتاح العلم السؤال»، وأنشأ يقول: شفاء العمى طول السؤال وإنّماتمام العمى طول السكوت على الجهل راجع كتاب منتخب الأثر وكفاية الأثر للخزّاز القمّى: ص 252 (ط منشورات بيدار - قم، 1401 ه).

الطريق الثالث: ما أخرجه الحافظ الكبير عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أحمد، المعروف بالحاكم الحسكاني بطريق ليس فيه عبد الغفار، قال: (حدّثني ابن فنجويه، حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه، حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، عن علي بن هاشم، عن صباح بن

ص: 394

يحيى المزني، عن زكريا ابن ميسرة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ](1) جمع رسول اللّه بني عبد المطّلب، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العسّ، فأمر علياً برِجْل شاة فآدمها، ثمّ قال: ادنوا بسم اللّه، فدنا القوم عشرةً عشرة، فأكلوا حتى صدروا، ثمّ دعا بعقب من لبن، فجرع منه جرعة، ثمّ قال لهم: اشربوا ببسم اللّه، فشرب القوم حتى رووا، فبدرهم أبو لهب، فقال: هذا ما أسحركم به الرجل! فسكت النبي صلى الله عليه و آله يومئذٍ فلم يتكلّم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشرب، ثمّ أنذرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال: يابني عبد المطلب، إنّي أنا النذير إليكم من اللّه عزّوجلّ، والبشير لما يجيء به أحدكم، جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومن يؤاخيني ويؤازرني، ويكون وليّي ووصيّي بعدي، وخليفتي في أهلي، ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي: أنا، فقال: أنت، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب:

أطع ابنك، فقد أمّره عليك)(2).

وأخرجه ابن البطريق بسنده عن الثعلبي في تفسيره(3).

الطريق الرابع: ما أخرجه الحافظ الشهير أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي، المعروف بابن عساكر، قال: (أخبرنا أبو البركات عمر بن إبراهيم الزيدي العلوي بالكوفة، أنبأنا أبو الفرج محمد بن أحمد بن علّان الشاهد، أنبأنار.

ص: 395


1- الشعراء: الآية 214.
2- شواهد التنزيل: ج 1 ص 420 و 421 ح 580.
3- العمدة لابن البطريق: الفصل الثالث عشر.

محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين، أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، أنبأنا عبّاد بن يعقوب، أنبأنا عبد اللّه بن عبد القدّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبّاد بن عبد اللّه، عن علي بن أبي طالب، قال: «لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يا علي، اصنع لي رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد قعباً من لبن - وكان القعب قدَرَ رَيِّ رجل - قال: ففعلت، فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اجمع بني هاشم، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً أو أربعون غير رجل، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالطعام، فوضعه بينهم، فأكلوا حتى شبعوا، وإنّ منهم لمن يأكل الجذعة بأدامها، ثمّ تناولوا القدح فشربوا حتى رووا وبقي فيه عامته، فقال بعضهم: ما رأينا كاليوم في السحر يرون أنّه أبو لهب.

ثم قال: يا علي، اصنع رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد بقعب من لبن، قال: ففعلت، فجمعهم، فأكلوا مثل ما أكلوا بالمرة الاُولى، وشربوا مثل المرة الاُولى، وفضل منه ما فضل في المرة الاُولى، فقال بعضهم: ما رأينا كاليوم في السحر.

فقال في المرة الثالثة: اصنع رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد بعقب من لبن، ففعلت، فقال: اجمع بني هاشم، فجمعتهم، فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالكلام، فقال: أيّكم يقضي ديني ويكون خليفتي ووصييّ من بعدي؟ قال: فسكت العباس مخافة أن يحيط ذلك بماله، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام، فسكت القوم، وسكت العباس مخافة أن يحيط ذلك بماله، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام الثالثة. قال: وإنّي يومئذ لأسوأهم هيئة، إنّي يومئذ أحمش الساقين أعمش العينين، ضخم البطن، فقلت: أنا يا رسول اللّه، قال: أنت يا علي، أنت يا

ص: 396

علي»(1).

الطريق الخامس: ما أخرجه ابن البطريق بإسناده، عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: حدّثنا أسود بن عامر، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي عليه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا ثلاثاً، ثمّ قال لهم: من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي؟ فقال رجل لم يسمِّه شريك: يا رسول اللّه، أنت كنت تجد من يقوم بهذا؟ قال: ثمّ قال الآخر يعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي: أنا»(2).

الطريق السادس: ما رواه أيضاً شمس الدين مفتي الفريقين يحيى بن الحسن بن البطريق الأسدي بإسناده، عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، قال:

حدثنا يحيى بن عبدالحميد الحمّاني، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللّه، عن علي عليه السلام، قال عبد اللّه: وحدثنا أبو خثيمة، قال: حدّثنا أسود بن عامر، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي عليه السلام قال:

«لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعا رسول اللّه بأربعين رجلاً من أهل بيته، أن كان الرجل منهم ليأكل جذعة، وأن كان شارباً فرقاً، فقدّم إليهم،7.

ص: 397


1- مناقب الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام للكوفي: ج 1 ص 378.
2- العمدة: الفصل الثالث عشر، ص 87.

فأكلوا حتى شبعوا، فقال لهم: من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي: أنا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: علي يقضي ديني، وينجز مواعيدي». ولفظ الحديث للحمّاني، وبعضه لحديث أبي خثيمة(1).

الطريق السابع: ما في المسند (حدّثنا عبد اللّه: حدّثنا أبي: ثنا عفان: ثنا أبوعوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي رضى الله عنه قال: «جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بني عبد المطّلب، فيهم رهط، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كأ نّه لم يمسَّ. ثمّ دعا بغمر، فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأ نّه لم يمسّ ولم يشرب، فقال: يابني عبد المطّلب، إني بُعثت إليكم خاصّةً وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، فقال (اجلس) ثلاثاً كان في الثالثة ضرب بيده على يدي».

وأخرجه ابن حجر، وقال: «رواه أحمد، ورجاله ثقات».

وأخرجه ابن عساكر بسنده عن ربيعة(2) ، وروى ابن حجر نحوه، وفيه:

فبدرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: «أيّكم يقضي عني ديني؟» قال: فسكت وسكت القوم، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله المنطق، فقلت: أنا يا رسول اللّه فقال: «أنت يا علي،8.

ص: 398


1- العمدة: الفصل الثالث عشر.
2- مسند أحمد: ج 1 ص 159، مجمع الزوائد: ج 8 ص 302، تاريخ دمشق ترجمة الإمام عليه السلام: ص 98.

أنت يا علي».

قال ابن حجر: رواه البزّار، واللفظ له، وأحمد باختصار، والطبراني في الأوسط باختصار أيضاً. ورجال أحمد وأحد إسنادَي البزّار رجال صحيح غير شريك وهو ثقة)(1).

الطريق الثامن: ما في المسند (حدّثنا عبداللّه: ثنا أبي: ثنا أسود بن عامر:

ثنا شريك، عن الأعمش عن المنهال، عن عباد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي رضى الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] قال: جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: «من يضمّن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟» فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول اللّه، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ قال: ثمّ قال الآخر، فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي رضى الله عنه: أنا»(2).

الطريق التاسع: ما أخرجه علّامة المعتزلة، عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، قال: (وقد روي في الخبر الصحيح أنّه كلّفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاماً، وأن يدعو له بني عبد المطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم ينذرهم صلى الله عليه و آله لكلمة قالها عمّه أبولهب.

فكلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام، وأن يدعوهم ثانيةً،1.

ص: 399


1- مجمع الزوائد: ج 8 ص 302-303.
2- مسند أحمد: ج 1 ص 111.

فصنعه ودعاهم، فأكلوا. ثمّ كلّمهم صلى الله عليه و آله، فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم؛ لأنّه من بني عبد المطّلب. ثمّ ضمّن لمن يؤازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده، وقال: «أنا أنصرك على ما جئت به، واُؤازرك واُبايعك»، فقال لهم - لمّا رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الاجابة -: «هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي»، فقاموا يسخرون ويضحكون ويقولون لأبي طالب: اطع ابنك، فقد أمّره عليك)(1).

الطريق العاشر: ما أخرجه المتّقي، عن علي عليه السلام قال:

(«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يابني عبد المطّلب، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم اليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: يا نبي اللّه، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثمّ قال: هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»). (ابن جرير، وفيه عبد الغفار بن القاسم، قال في المغني: تركوه)(2).

أقول: لم يتركوه إلّالولائه لأهل البيت عليهم السلام، ولروايته فضائل ابن عمّ النبي وأخيه ووصيّه وخليفته.

الطريق الحادي عشر: ما أخرجه أيضاً المتّقي عن علي عليه السلام قال:1.

ص: 400


1- شرح نهج البلاغة: ج 13 ص 244.
2- كنز العمال: ج 13 ص 114، ح 36371.

(«لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: من يضمّن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ وقال رجل:

يا رسول اللّه، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ ثمّ قال الآخر: فرض هذا على أهل بيته واحداً بعد واحد، فقال علي: أنا». (حم وابن جرير، وصحّحه الطحاوي ض).)(1).

الطريق الثاني عشر: ما أخرجه أيضاً المتّقي، عن علي عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعا بني عبد المطّلب، وصنع لهم طعاماً ليس بالكثير، فقال: كلوا بسم اللّه من جوانبها، فإنّ البركة تنزل من ذروتها، ووضع يده أوّلهم فأكلوا حتى شبعوا، ثمّ دعا بقدح، فشرب أولهم، ثمّ سقاهم فشربوا حتى رووا، فقال أبولهب: لقدماً سحركم؟ وقال: يابني عبدالمطّلب، إنّي جئتكم بما لم يجئ به أحد قطّ، أدعوكم إلى شهادة أن لاإله إلّا اللّه، وإلى كتابه. فنفروا وتفرقوا. ثمّ دعاهم الثانية على مثلها، فقال أبو لهب كما قال في المرة الاُولى، فدعاهم، ففعلوا مثل ذلك، ثم قال لهم ومدّ يده: من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟ فمددت وقلت: أنا ابايعك، وأنا يومئذٍ أصغر القوم، عظيم البطن، فبايعني على ذلك. قال: وذلك الطعام أنا صنعته») (ابن مردويه)(2).5.

ص: 401


1- كنز العمال: ج 13 ص 128-129، ح 36408.
2- كنز العمال: ج 13 ص 149، ح 36465.

أقول: وهذه الطرق والمتون كلّها تقوّي ما أسنده الطبري في تاريخه بسند فيه عبدالغفار بن القاسم إن فرضنا ضعفه به، فيرقى السند بهذا السند بهذه الطرق وبشواهد كثيرة صحيحة ومتواترة إلى درجة كمال الصحّة والاعتبار.

وأمّا ما أخرجه الطبري فهو هذا:

(حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمد بن إسحاق، عن عبدالغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد اللّه بن الحارث، عن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبد اللّه بن عباس، عن عليّ بن أبي طالب، قال:

«لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال لي: يا علي، إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد، إنّك إلّاتفعل ما تؤمر به يعذبّك ربّك.

فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عسّاً من لبن، اجمع لي بني عبدالمطّلب حتى اكلّمهم واُبلّغهم ما امرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبوطالب، وحمزة، والعباس، وأبولهب. فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلى الله عليه و آله جذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصحفة، ثمّ قال: خذوا بسم اللّه، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلّاموضع أيديهم، وأيمُ اللّه

ص: 402

الذي نفسي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لهم جميعاً، ثمّ قال:

اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيمُ اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يكلّمهم بدره أبولهب، فقال: لقدماً سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اكلّمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إلي.

قال: ففعلت، ثمّ جمعتهم، ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثمّ قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: يابني عبد المطلب، إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمقهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع)(1).9.

ص: 403


1- تاريخ الطبري: ج 2 ص 216، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 62-63، وأخرجه في كنز العمال عن ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه وأبو نعيم: ج 13 ص 131 و 132 و 133، ح 36419.

ثم اعلم أنّ للحديث طرقاً ومتوناً اخرى، وفيما أتينا بها من الطرق غنىً وكفاية، ولعلّ الفاحص المتتبّع يجد أكثر ممّا اطّلعنا عليه. وفي ختام الكلام نُنبِّه على امور:

الأول: أنّ الاختصار الواقع في الأحاديث إنّما هو لبعض الأسباب والأغراض: فتارةً اختُصِر الحديث لأنّ مجلس إملاء الحديث كان مناسباً للاختصار، واُخرى لأنّ الراوي قصد من رواية الحديث التنبيه على نكتة خاصة وموضوع خاص، وثالثةً لأنّه سئل عن موضوع خاص مربوط ببعض ما في الحديث، ورابعةً لعلّة خوف الراوي من المُسْتَمْلين والمستمعين، وخامسةً لمنافاة نقل تمام ألفاظ الحديث مع أغراضه السياسية والدنيوية، وغير ذلك.

وكلّ ذلك وإن كان ممكناً في الاختصار الذي عرض على هذا الحديث إلّا أنّ في مثله من أخبار فضائل العترة الطاهرة لمّا كان الحذف والتحريف والإبدال والاختصار، وعدم التصريح بالأسامي، والتأويل، وحتى الإعراض عن سماع الحديث، وترك الإملاء قد وقع في موارد كثيرة لاتحصى، الأظهر ان ما وقع في هذا الحديث الشريف أيضاً من الاختصار والإبدال إنّما وقع لإخفاء فضائلهم وكتمان مناقبهم.

فمثل إبدال قوله صلى الله عليه و آله: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» بجملة «إنّ هذا أخي ووصيّي وكذا وكذا» ليس إلّاعناداً ونصباً، كما إنّ

ص: 404

تركهم تخريج المئات بل الاُلوف من تلك الأحاديث أو إعراضهم عن أخذ العلم والفقه عنهم ليس إلّالذلك.

ونِعمَ ما قال خليل بن أحمد اللغوي الشهير لمّا سئل عن فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام: (ما أقول في مدح امرئٍ كتم أحباؤه فضائله خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثمّ ظهر بين الكتمين ما ملأ الخافقين)(1).

وهو الذي قال في شأن الامام عليه السلام: (احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على أنّه إمام الكلّ)(2).

الثاني: أنّه قد ظهر لك أنّ حديث يوم الدار في التنصيص على خلافة علي عليه السلام مستفيض، بل متواتر، وعدم التصريح في متون بعض طرقها بالخلافة لبعض الأسباب التي ذكرناها في الأمر الأول لايضرّ بعدم وجودها في غيرها، وبعد ما علمنا أنّ أصل عدم الزيادة يُقدَّم عند العقلاء على أصل عدم النقيصة، سيّما في مورد يمكن تعدّد صدور الكلام وتعدّد وقوع الواقعة، وسيّما إذا كانت الروايات المتضمّنة للزيادة أقرب بحسب الاعتبار بالقبول، وخصوصاً إذا كانت للزيادة في الأخبار الكثيرة شواهد لاتحصى.

الثالث: أنّه لاريب أنّ الوراثة المذكورة في بعض متون هذا الحديث ليست الوراثة المالية؛ فإنّها مضافاً إلى عدم موافقتها لِما عليه إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من أنّ البنت ترث جميع تركة الأب بالفرض والردّ، ولايرث معها غيرها1.

ص: 405


1- الرواشح السماويّة: ص 289.
2- معجم رجال الحديث: ج 8 ص 81.

من العمومة والخؤولة وأبنائهم، وأن ابن العمّ الأبويني يرث العمّ دون العمّ الأبي من غير أن يكون هذا الحكم مختصّاً بأمير المؤمنين عليه السلام، لاتوافق على مذهب العامة أيضاً الخبر المكذوب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله المخالف للقرآن المجيد، وهو:

(نحن معاشر الأنبياء لانورِّث، ما تركناه صدقة).

والظاهر بدلالة هذه القرينة أنّ الوراثة المذكورة في هذا الحديث إنّما اريد بها وراثة العلم والولاية.

الرابع: أجاب بعضهم عن هذا الحديث الصريح على خلافة الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا فصل أحد: أنّ كلمة «بعدي» لاتقتضي أن يكون هو الخليفة بعده بلا فصل، بل الحديث صادق، وإن سبق عليه الثلاثة الذين تقمّصوا بها قبل الإمام عليه السلام.

وجوابه واضح غنيّ عن البيان، فإنّ قوله: «أنت خليفتي بعدي» صريح في عدم الفصل، ولو قال بعد ذلك (أنت خليفتي بعد أبي بكر وعمر وعثمان) لكان نوعاً من التهافت أو الأحجّية التي ينبغي تنزيه كلام الحكيم في مثل هذه المقامات عنهما، وهذا أصرح من أن يقول: (أنت الخليفة بعدي)، وإن كان هذا أيضاً صريح في ذلك.

ونظير هذا التصريح في شأن علي عليه السلام كثير في الأحاديث، مثل:

«علي وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).4.

ص: 406


1- كنز العمال: ج 13 ص 142، ح 36444.

وقوله صلى الله عليه و آله: «علي بن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، وهو وليّكم بعدي»(1).

وقوله: «أنت وليّ كلّ مؤمنٍ بعدي»(2).

وقوله: «علي منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي»(3).

وقوله: «إنّ علياً وليّكم بعدي»(4).

وقوله صلى الله عليه و آله: «هذا أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني، وهو فاروق هذه الاُمّة، ويعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصِدِّيق الأكبر، وهو خليفتي من بعدي»(5).

الخامس: أنّك قد عرفت كثرة مُخرِجِي هذا الحديث من أكابر أهل السنّة، مثل:

1 - أحمد في مسنده.

2 - ابن أحمد.

3 - ابن مردويه.س.

ص: 407


1- تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: ص 142 و ص 399، ح 465.
2- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 134، ومسند أحمد: ج 1 ص 331.
3- تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: ص 400، ح 466، و ص 401، ح 467 و 468.
4- المصدر السابق: ص 402، ح 479.
5- ميزان الاعتدال: بترجمة عبداللّه بن واهر، بسنده عن ابن عبّاس.

4 - الحسكاني.

5 - ابن إسحاق.

6 - البيهقي في سننه ودلائله.

7 - الثعلبي في تفسيره.

8 - الطبري في تاريخه وتفسيره.

9 - ابن كثير في تاريخه.

10 - الإسكافي.

11 - ابن أبي الحديد.

12 - النسائي في الخصائص.

13 - الحاكم في المستدرك.

14 - ابن أبي حاتم.

15 - ابن عساكر.

16 - الطحاوي.

17 - الضياء المقدسي.

18 - سعيد بن منصور.

19 - ابن الأثير.

20 - المتقي.

21 - الحلبي.

ص: 408

22 - الذهبي.

23 - يحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال.

24 - البزّار.

25 - الطبراني.

26 - جعفر بن محمد الخلدي.

27 - الكنجي الشافعي.

28 - الحموئي.

29 - ابن قتيبة.

30 - ابن عبد ربّه.

وغيرهم من الحفّاظ وأرباب التاريخ، كابن حجر، وأبي نعيم وهَيْكَل.

ولشهرة هذا الحديث ذكره - كما في المراجعات - عدة من الكتاب الغربيين في كتبهم الفرنسية والإنجليزية والألمانية، واختصره توماس كارليل في كتابه «الأبطال» المترجم بالعربية والفارسية.

وليكن هذا آخر ما كتبناه حول آية الإنذار وحديث يوم الدار، حامداً للّه تعالى، ومصلّياً على النبيّ وأهل بيته عليهم السلام، سيّما ابن عمّه سيف اللّه المسلول، ونفس الرسول، وزوج البتول الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وآخر دعوانا أنِ الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 409

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).

يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14

موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

موضوع:شیعه -- دفاعیه ها

موضوع:Shi'ah -- Apologetic works

موضوع:شیعه -- ردیه ها

موضوع:Shi'ah -- Controversial literature

شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی

رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397

رده بندی دیویی:297/212

شماره کتابشناسی ملی:5308292

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الثانى

مع الخطيب في خطوطه العريضة

المقدّمة الأُولى

كتبت هذا النقد بعد ما انتشر كتاب (الخطوط العريضة) بطبعته الاُولى سنة 1380، ثم رأيت أنّ الأولى في هذا العصر الذي تواترت فيه الكوارث والفتن على المسلمين ترك نشره، فخفت أن يكون التعرّض للجواب - أيضاً - سبباً للشقاق والضعف، والفشل والتفرقة المنهي عنها، فذكرت قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن(1). وقوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم(2). وقوله تعالى: وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً(3).

فقلت في نفسي: دع الخطيب ومن يحذو حذوه يكتب، ويتقوَّل على الشيعة ويفتري عليهم كل ما يريد، فاللّه سبحانه يقول: ما يلفظ من قول إلّالديه

ص: 7


1- فصّلت: الآية 34.
2- الأنفال: الآية 46.
3- الفرقان: الآية 72.

رقيب عتيد (1) .

فالحريُّ بنا وبكل مسلم غيور على دينه وأُمته ترك هذه المناقشات المثيرة والظروف والأحوال على ما يشاهد في العالم الإسلامي، فالفتن والكوارث قد أحاطت بنا من كل جانب، وجحافل الإلحاد بكل أفكاره ومبادئه الشرقية والغربية، والإستعمار الصهيوني والصليبي أخذ يحاربنا، وبلا هوادة مستعملاً كافة الأساليب الخدّاعة والمخطّطات الهدّامة، فهم الآن ومنذ زمن غير قريب يغزوننا في عقر دارنا، يهتكون حرماتنا، ويخربون مساجدنا، ويسعون لهدم جميع آثار الإسلام، و صروح الفضيلة والشرف والأخلاق الكريمة التي أشادتها رسالة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وآله.

فالإسلام مهدّد من جانب الإستعمار، ومهدد من جانب الصهيونية، ومن جانب المبشّرين الصليبيين، مهدّد من جانب المجوسية، مهدّد من جانب الشيوعية، مهدّد من جانب الصحف والمجلات الأجيرة لإشاعة الخلاعة والدعارة، مهدّد من جانب النعرات القومية، مهدّد من جانب ما يسمى بالعلمانية، مهدّد... ومهدّد... ومهدّد...

فها هي ذي حرمات اللّه مساجدنا في فلسطين تهتك، وتدنّس بكل وسائل اللهو والخلاعة والمجون.

وها هو ذا المسجد الأقصى المبارك الذي أضرمت فيه إسرائيل نيران حقدها الدفين على الإسلام والمسلمين، وأعلنت بحرقه نواياها الصهيونية8.

ص: 8


1- ق: الآية 18.

الخبيثة.

وهذه فلسطيننا الحبيبة مازالت تئن تحت نير احتلال العدو، وتوجه منها في كل يوم الإعتداءات الإسرائيلية نحو الأراضي الإسلامية والمحيطة بها.

وهذه مئات الأُلوف من إخواننا المسلمين المشرّدين من أبناء فلسطين ما برحوا لاجئين، يعيشون في المخيمات، ويقاسون أنواعاً من الحرمان والإضطهاد.

فيا أخي ماقيمة كتاب (الخطوط العريضة) ونحن في هذه الأحوال الدقيقة الحرجة؟ وما فائدة هذه الأقلام للإسلام والمسلمين؟ ومن ينتفع بمثل هذه النشريات غير أعداء الدين؟ وهل وراء ذلك غير اليد الصهيونية الإستعمارية الأثيمة؟

واجبنا والظروف والأحوال هذا هو الجهاد، والتضحية في سبيل اللّه بنفوسنا وأموالنا وألسنتنا، لتكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

واجبنا سيما القادة والعلماء، والكُتّاب والأثرياء، وذوي القدرة، أن نبذل كل إمكانياتنا لتحرير الأراضي المغتصبة، ومقدساتنا في القدس العزيز، وأن نتسلّح بسلاح الإيمان، والإعتصام بحبل اللّه والإتحاد، وأن ندعو المسلمين إلى التحابب والتوادد، لا أن نشتغل بالبحث عن المفاضلة بين الصحابة، والخلافات المذهبية، ونجعل ذلك سبباً للجفوة والبغضاء، ونوقد ناراً أخمدَتْها الأزمنة والدهور، ونحيي أحقاداً أماتتها الشدائد.

فمن أمرِّ الاُمور علينا، ومما يملأ القلوب حسرة هو أن يرى فريق من

ص: 9

المسلمين في رحاب الحرمين الشريفين، وفي أعظم مؤتمر إسلامي سنوي كرّم اللّه به هذه الأُمة، ويؤمه المسلمون من جميع الأصقاع والأقطار جعلوا همهم تفريق كلمة الأُمة والدعوة إلى التباغض و التقاطع والتنافر، بينما كان من الواجب عليهم أن يوجّهوا هذا المؤتمر الإسلامي العظيم إلى معالجة ماابتلي به المسلمون جميعاً من دعايات الإلحاد، والكفر، فيتخذوا الأساليب الناجحة لدفع هذه النعرات الضالة المضلّة، وأن يستنهضوا بهذه الجموع الحاشدة التي جاءت من كل فج عميق ليذكروا اسم اللّه، وليطوفوا بالبيت العتيق الأُمم الإسلامية في شرق الأرض وغربها للجهاد والنضال، والعمل لكل ما يحقّق النصر، ورفع الظلامة التي حاقت بأُولى القبلتين.

إذا لم نتفهّم هذه الحقيقة البسيطة فكيف نتوقُع أن يعود إلينا مجدنا الذاهب لنعيش كما عاش آباؤنا الذين أكرمهم اللّه، فألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة اللّه إخواناً.

فصاروا في جميع الأرض حراًوصرنا في أماكننا عبيداً

ولا حول ولا قوة إلّاباللّه العلي العظيم.

نعم، إنّي تركت نشر هذا النقد، وأوكلت أمر الخطيب، وما أتى به من البهتان إلى يوم الجزاء، يوم يحكم اللّه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

ولكن لما هو والأيادي الأثيمة، التي كانت ولا تزال وراء هذه النشريات، لم يقتنعوا بطبعته الأُولى فكرروا طبعه ثانياً في جدة وثالثاً ورابعاً في الديار الشامية، وخامساً في القاهرة سنة 1388، وترجم إلى اللغة الأُوردية كأنّهم

ص: 10

عثروا على كنز مخفي يجب نشره، أو على صحيفة علم لم يطّلع عليها أحد.

ثم كرر طبعه للمرة السادسة محرّفاً، ووزّع مجاناً في هذه السنة 1389 في الموسم وفي أرض التوحيد، وفي المملكة العربية التي يدعو عاهلها المسلمين إلى الإتحاد والإتفاق والوحدة الإسلامية، بين الحجّاج الوافدين إلى بيت اللّه الحرام ليحملوا هذه الدعوة الممزقة المفرقة إلى بلادهم، ويثيروا نار الفتن الدامية بين المسلمين، حتى يهدّد كياننا من الداخل، ويتشجّع أعداؤنا علينا من الخارج.

فلعن اللّه الإستعمار، والصليبية، والصهيونية، ولا أخالُك تظن أنّ أي عمل يرتكز على إثارة العصبيات المذهبية بين المسلمين كهذا العمل عملاً بسيطاً يقدم عليه متعصّب لمذهبه، فما وراء هذه النشريات يا أخي إلّايد الإستعمار والصهاينة، وليس المنفق على هذه الدعايات إلّاأعداء الإسلام من إسرائيل وحلفائها!!!

فلهذا طلب مني جمع من الأزكياء الخبراء بما وراء مثل هذه الكتابات نشر هذا النقد، لئلّا يقع بعض من لا معرفة له بعقائد الفرق في مكائد هذه الأقلام، ويعرف أن ما في كتاب (الخطوط العريضة) إما بهتان محض وافتراء بحت، أو ما ليس الإلتزام به منافياً لأُصول الإسلام وما عليه السلف والخلف، خصوصاً إذا كان عن التأول والإجتهاد، فأجبتهم إلى سؤلهم متوكّلاً على اللّه تعالى.

ولا يخفى عليك أنّي في هذا الكتاب استهدفت الحقيقة والتاريخ بروح موضوعية مجرّدة عن كل تعصّب وانحياز، فمن الإنصاف لقارئ الكريم الذي ينشد الحقيقة أيضاً ألّا يتسرّع إلى الحكم حتى يشبع الكتاب دراسةً واستيعاباً، وحتى يتجرّد عن كل تعصّب مقيت، وله بعد ذلك أن يحكم له أو أن يحكم عليه،

ص: 11

وعند ذلك فالإختلاف والإتفاق قيمة علمية، وبينة قائمة مادام الرائد هو الإنصاف، والحق هو المنشود.

قم المقدّسة - لطف الله الصافي الگلپايگاني

29 ذي الحجة 1389 ه

ص: 12

المقدّمة الثانية

لاريب في أنّ الدعوة الإسلامية إنّما قامت على عقيدة التوحيد، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الأنظمة والقواعد، وتوحيد المجتمع، وتوحيد الحكومة، وتوحيد المقاصد.

فعقيدة التوحيد هي المبنى الوحيد لجميع الفضائل، وهي الحجر الأساسي للحرية، واشتراك الجميع في الحقوق المدنية.

فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، وكل الناس أمام الحق والشرع سواء، والناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، و إنما المؤمنون إخوة(1) و إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم(2) و «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد3.

ص: 13


1- الحجرات: الآية 10.
2- الحجرات: الآية 13.

بعضه بعضاً»(1) و «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعض عضوه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»(2) و «من أصبح ولا يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم»(3).

أصبح المسلمون بنعمة اللّه إخواناً معتصمين بحبل اللّه تعالى، قلوبهم مؤتلفة وأغراضهم واحدة، أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم، فتحوا الأصقاع والبلدان، وصاروا سادات الأرض، ودعاة الناس إلى الحرية والإنسانية، وقوّاد الإصلاح والعدالة الإجتماعية.

هدّموا قصور الجبابرة المستبدين، وأنقذوا الضعفاء من استعباد الأقوياء الظالمين، وأخرجوا الناس من ذل سلطان الطواغيت وعبادة العبّاد، وأدخلوهم في عز سلطان اللّه وسلطان أحكامه وعبادته.

هكذا كان المسلمون الذين أخلصوا دينهم للّه، ولولا ما نجم فيهم من النفاق وحب الرئاسة والحكومة، والمنافرات التي وقعت بينهم في الإمارة، لما كان اليوم على الأرض أُمة غير مسلمة.

ولكن فعلت فيهم السياسة فعلها الفاتك، ففرقت كلمتهم، وأزالت وحدتهم ومجدهم، فصاروا خصوماً متباعدين، بعدما كانوا إخواناً متحابين، واشتغلوا بالحروب الداخلية عوضاً عن دفع خصومهم وأعدائهم، ونسوا ما ذكروا به من7.

ص: 14


1- صحيح البخارى: ج 1 ص 123.
2- مسند أحمد: ص 270 ح 4.
3- مستدرك الحاكم: ج 4 ص 317.

الأمر بالإتحاد، والإخوة الدينية، فصرنا في بلادنا أذلّة بعد أن كنا في غير أوطاننا أعزّة.

وأكثر هذه المفاسد إنّما أتتنا من أرباب السياسات، ورؤساء الحكومات، الذين لم يكن لهم إلّاالإستيلاء على عباد اللّه، ليجعلوهم خولاً ومال اللّه دولاً، فأثاروا الفتن، وقلّبوا الإسلام رأساً على عقب، وضيّعوا السنن والأحكام، وعطّلوا الحدود، وأحيوا البدع وقضوا بالعبور والتهمة، واستخدموا عَبَدة الدراهم والدنانير، وأمروهم بوضع الأحاديث لتأييد سياساتهم، وفسّروا القرآن وحملوا ظواهر السنّة وفق آرائهم، ومنعوا الناس عن الرجوع إلى علماء أهل البيت الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدْلاً للقرآن، وأمر بالتمسك بهم(1). فراجع بعين البصيرة والإنصاف كتب التاريخ والحديث حتى تعرف أثر أفاعيل السياسة من الغاشم في تلك الفظائع التاريخ والحديث حتى تعرف الأثر.

ولا تنس أيضاً أثر سياسات خصوم الإسلام من المسيحيين واليهودا.

ص: 15


1- في الأحاديث الكثيرة كحديث الثقلين المتواتر الذي توجد له طرق كثيرة في كتب الحديث مثل صحيح مسلم، ومسند أحمد والطيالسي، وسنن الترمذي والبيهقي والدارمي، وأسد الغابة، وكنز العمال، ومشكل الآثار، والجامع الصغير، والصواعق، وتهذيب الآثار، ومجمع الزوائد، وحلية الأولياء، وغيرها، وإليك لفظ الحديث في بعض طرقه: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروني كيف تخلفوني فيهما. وفي بعضها الآخر: إني أوشك أن ادعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزوجل وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروني بم تخلفوني فيهما.

وغيرهما في تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين المسلمين، فإنّهم لم يسلبوا سلطاناً، ولم يملكوا بلادنا إلّابما أوقعوا بيننا من التفرق والتشتّت، وبما بذلوا من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لبثّ التنافر والتباغض بين المسلمين، ومنعهم من الإتحاد، فهم لا يزالون يضعون حواجز في طريق تقارب الحكومات الإسلامية، ويصرفونهم عن الدفاع عن وطنهم الإسلامي الكبير ليؤسسوا حكومات مستعمرة، وأوطاناً مفتعلة، من غير أن يعتبروها أجزاءاً لوطننا الإسلامي ويطالبونهم بالدفاع عن حدود هذه الأوطان التي أحدثها المستعمرون وذلك لتفريق كلمة المسلمين، وتضاربهم فيما بينهم حتى تقف كل حكومة منهم في وجه الأُخرى.

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّراًوإذا افترقن تكسّرت آحاداً

والعارفون بأهداف الإستعمار يعلمون أن تجزئة الأُمة الإسلامية أعظم وسيلة تمسّك بها المستعمرون للإحتفاظ بسلطتهم.

فيا أخي ما قيمة الوطن الذي افتعله الأجنبي لمصلحة نفسه، وأي امتياز جوهري بين السوداني والمصري، والأردني والسوري، واليماني والباكستاني، والعربي والعجمي، بعد أن كانوا مسلمين خاضعين لسلطان أحكام الإسلام، وأي رابطة أوثق من الروابط الإسلامية والإخوة الدينية.

المسلمون كلّهم أولاد علات، أبوهم واحد وهو الإسلام، وأُمهاتهم شتّى، بلادهم منهم ولكن الإستعمار صيّرهم أقواماً متمايزة، وأراد أن يكون في كل بلد وإقليم حكومة خاصة، وشعائر تميز بعضها من بعض، واللّه تعالى أراد أن يكون الجمع أُمة واحدة.

ص: 16

قال اللّه سبحانه: وإن هذه أُمتكم أُمة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون(1).

وقال عز من قائل: ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البيّنات وأُولئك لهم عذاب عظيم(2).

فالمسلم أخو المسلم سواء كان من أهل قطره أم لا، المسلم الفلسطيني أخ للمسلم العراقي، وللمسلم الإيراني، وللمسلم الصيني، وللمسلم الأرجنتيني، ووو.

جميع بلاد الإسلام وطن لكل مسلم، والإسلام حكومته، وقانونه وسياسته، وعقيدته ودينه، وأما الحكومات العميلة التي لا يتصل بعضها ببعض بالصلات الإسلامية الوثيقة، والتي جعلت شعارها القوميات الضيقة المحدودة، وتشدّقت بالدفاع عنها، ولم تكترث بأوضاع العالم الإسلامي، وما يصيب المسلمين في غير إقليمها من الضعف والإضطهاد، فلا تخدم إلّاأعداء الإسلام ما لم تجعل شعارها الوحيد الإحتفاظ بمصالح المسلمين وتحقيق أهداف الإسلام في شرق الأرض وغربها.

فيا اللّه، يا منزل القرآن، ويا منزل سورة التوحيد وحِّدْ حكوماتنا، وخلّص المسلمين من كل حكومة انفصالية إقليمية، واجمعهم تحت راية حكومة إسلامية واحدة.

المسلمون شعارهم واحد، ومقصدهم واحد، وعقيدتهم واحدة، لا يعين5.

ص: 17


1- المؤمنون: الآية 52.
2- آل عمران: الآية 105.

المسلم غير المسلم على أخيه المسلم، ولا يرغب المسلم في حكومة قامت على خيانة المسلمين، ولا يذل نفسه عند الكفار ليعينوه حاكماً على المسلمين.

المسلم لا يكتب ما يوجب اشتداد البغضاء والتنافر بين إخوانه، ويمنعهم عن التقارب والتفاهم.

هذا شيء يسير من تأثير السياسات الغاشمة في الأُمة الإسلامية، ولم يبق منها في هذا العصر ما يمنع من التوفيق بين المذاهب، واتحاد المسلمين واجتماعهم تحت لواء الإسلام إلّابعض العصبيات الجامدة التي ليس وراءها حقيقة، ولا مصلحة للمسلمين، وإلّا دعايات الإستعماريين (من الشيوعيين والرأسماليين) وقد قام بينهما الصراع في استعمار ممالك المسلمين، وكل منهما يريد أن يستعمر، ولا يرى إلّاما فيه مصلحة لنفسه أبعدهما اللّه عن المسلمين وممالكهم، وخذل عمّالهما وكل حكومة تأسّست على رعاية منافعهما، وموادة من حاد اللّه ورسوله.

هذا بلاء المسلمين في عصرنا، ومنه يتوجه الخطر عليهم، وهذه السياسة هي التي لا تتوخّى إلّافقر المسلم وجهله، وهذه هي التي تشيع الفحشاء في المسلمين، وتبيح بيع الخمر والقمار والربا، تدعو إلى السفور، وتروّج الدعارة والتحلّل، وخروج النساء سافرات عاريات.

هذه السياسة هي التي تريد اشتغال المسلمين بالملاهي والمعازف، وانصرافهم عن حقائق الإسلام والقرآن، وتروّج البطالة، ولاتحب اشتغال المسلمين بالعلوم النافعة والصنائع، وتأسيس المعامل حتى لا يباع في أسواقهم إلّا متاع المستعمرين.

ص: 18

وأمّا السياسات العاملة لتفريق المسلمين في القرون الأُولى والوسطى فقد قضى عليها الزمان، فمضت العصور التي استعبدت الناسَ فيها جبابرة الأُمويين والعباسيين، ومضت الأعصار التي كان فيها تأليف الكتب وجوامع الحديث تحت مراقبة جواسيس الحكومة.

مضت العصور التي كان العلماء فيها تحت اضطهاد شديد، والعمّال والولاة يتقربون إلى الخلفاء والأُمراء بقتل الأبرياء، ونفيهم عن أوطانهم وتعذيبهم في السجون، وقطع أيديهم وأرجلهم.

مضى الذين شجعوا العمل على التفرقة واختلاف الكلمة، وإشعال الحروب الداخلية.

مضت السياسات التي سلبت عن مثل النسائي حرية العقيدة والرأي وقتلته شر قتلة.

مضى عهد الجبابرة الذين صرفوا بيوت أموال المسلمين في سبيل شهواتهم، واتخاذ القينات والمعازف هواية لهم.

مضت العصور التي سبّوا فيها على المنابر أعظم شخصية ظهرت في الإسلام، لا يريدون بسبّه إلّاسب الرسول صلى الله عليه و آله.

مضت الأزمنة التي كان يرمي فيها بعض المسلمين بعضهم بالإفتراء والبهتان وحتى الكفر والإلحاد.

مضت العصور المظلمة التي عاشت فيها كل فرقة وطائفة من المسلمين كأُمّة خاصة لا يهمها ما ينزل على غيرها من المصائب والشدائد، ولم يكن بينهم

ص: 19

أي تعاون أو أدنى تجاوب.

نعم قد مضت تلك العصور، وظهرت في تاريخ الإسلام صحائف مشرقة مملوءة بنور الإيمان والاُخوّة الإسلامية، فقامت جماعة من المصلحين المجاهدين بالدعوة إلى الإصلاح والإتحاد، فأدركوا أن آخر هذا الدين لا يصلح إلّا بما صلح به أوله، وأعلنوا أن المستقبل للإسلام، و إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين(1).

فدعوا إلى اتّباع الكتاب والسنّة، ورفض العصبيات: العصبية الشعوبية، والعصبية المذهبية والقِبَلية، فأدّوا رسالتهم في شرق البلاد الإسلامية وغربها، رزقهم اللّه التوفيق في توحيد الكلمة، وجمع شمل الأُمة، فأثّرت أعمالهم الإصلاحية في نفوس المسلمين أثراً جميلاً، ولبّى دعوتهم جمّ غفير من الغيارى على الإسلام من العلماء الأفذاذ وغيرهم.

فكان من ثمرات هذه الجهود الكبرى بل ومن أحلى أثمارها تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، وإصدار مجلة (رسالة الإسلام) العالمية التي جعلت شعارها قوله تعالى: إن هذه أُمّتكم أُمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون(2) وكتب فيها من كتّاب المذاهب ودعاة الخير والإصلاح، ورجالات الإسلام جماعة من المشايخ، والأساتذة، فحقّقت مساعيهم كثيراً من أهدافهم في رفع التدابر والتنافر.

وكان من فوائد هذه الجهود عرض عقائد كل من الفريقين على الآخر بعد أن لم يكن لأكثرهم معرفة بمذهب غيرهم في الأُصول والفروع، وكان هذا الجهل2.

ص: 20


1- الأعراف: الآية 128.
2- الأنبياء: الآية 92.

سبباً لتكفير بعضهم بعضاً في الأزمنة الماضية، فعرفوا اتفاق الكل في الأُصول، وأنّ بعض الخلافات التي أدى إليها اجتهاد كل فريق لا يضر بالتقريب والتفاهم بعد اتفاق الجميع في الأُصول.

وسيبزغ بفضل هذا الجهاد فجر وحدة المسلمين، ويصبحون كما أصبح أسلافهم في حياة النبي صلى الله عليه و آله إخواناً، ويدخل هذا الدين على ما دخل عليه الليل ولا تبقى قرية إلّاونودي فيها بكلمة التوحيد.

نعم إن قوماً إلههم واحد، وكتابهم واحد، وقِبلتهم واحدة، وشعائر دينهم واحدة، وقد جعلهم اللّه أُمة واحدة، أترى ليس إلى دفع مشاجراتهم واختلافهم سبيل؟

إنّ الإسلام يدعو إلى وحدة الأُمم، ووحدة الأقوام والطوائف في مشارق الأرض ومغاربها.

دين الإسلام دين التوحيد، ودين خلع العصبيات، ورفض ما يوجب الشحناء والعداوات، دين يسير بأبناء البشر نحو حكومة عادلة ومساواة إنسانية كاملة، ونظام عدل للإقتصاد والإجتماع، ونظام للحكم والدستور ونظام للتربية والتعليم، ونظام في جميع نواحي الحياة ونظام للجموع وهم فيه سواء.

أترى أنّ هذا النظام الإلهي لا يقدر على فصل الخصومات، وحسم المنازعات بين أبنائه؟

أترى أنّ الإسلام لم تكن له أساليب وتعاليم صحيحة لتمكين الأُمة في الوطن الإسلامي الكبير الذي يشمل جميع المسلمين، أحمرهم، وأبيضهم، وأسودهم؟

أترى أنّه لا يعرض على أبنائه دواء لدائهم؟

ص: 21

أترى أنّه لا يقدر على رفع المشاجرات التي أحدثها عمّال السياسات الغاشمة. وأيدي الإستعمار الظالمة تلك المشاجرات التي يعود كل فائدتها لأعدائنا؟

أترى أنّ اللّه حرّم على هذه الأُمة أن يجلسوا على صعيدٍ واحد ويعيشوا في ظل حكومة واحدة فأقفل عليهم باب التفاهم والتجاوب؟

هذا هو القنوط من رحمة اللّه واليأس من روحه، وكل دائنا يرجع إلى ذلك.

ودواؤه الثقة باللّه، والإيمان بأنّ النصر من عنده، وأنّ جند اللّه هم الغالبون، وأنّ العالم سيلجأ إلى الإسلام، وأنّه هو الدافع الفذ للمشاكل التي أحاطت بالجامعة الإنسانية، وأنّ المسلمين هم الذين يجب عليهم أن يؤدّوا رسالة الإسلام إلى غيرهم وقد آن وقت ذلك وإن لم يأن فعن قريب سيجيء إن شاء اللّه تعالى.

فإذن لا عجب أن قامت في المسلمين نهضات للإصلاح، ورفع التفرقة وجمع الشمل، وإعادة كيانهم المجيد، ومجدهم العزيز.

ونسأل اللّه تعالى الإستقامة والصبر للمصلحين، ولمن يوازرهم على توحيد كلمة المسلمين إنّه لما يشاء قدير.

ربّنا أفرغ علينا صبراً، وثبّت أقدامنا وانصرنا

على القوم الكافرين

ص: 22

بِسمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمينَ * الرَّحْمنِ الرَّحيمِ * مالِكِ يَومِ الدّينِ * إِيّاكَ نَعْبُدُ وَايّاكَ نَستَعينُ * اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ * صِراطَ الَّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّآلّينَ(1).

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمّدٍ امينِكَ عَلى وَحْيِكَ، وَنَجيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبادِكَ، اماِم الرَّحْمَةِ وَقآئِدِ اْلخَيْرِ وَمِفْتاحِ اْلَبَركَةِ، وَعَلى آلِهِ الطّاهِرينَ.

رَبَّناَ اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلوُبِنا غِلًّا لِلّذَينَ آمَنوُا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوُفٌ رَحيمُ (2) .0.

ص: 23


1- سورة الفاتحة.
2- الحشر: الآية 10.

وكانَ مِنْ دُعائِهِ عليه السلام في الصّلاة على أتباع الرُّسُل ومُصَدّقيهمْ(1):

اللّهُمَّ وَأَتْباعُ الرُّسُلِ وَمُصَدِّقُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ بِالْغَيْبِ عِنْدَ مُعارَضَةِ اْلمُعانِدينَ لَهُمْ بِالتَّكْذيبِ، وَالإِشْتِياقِ إِلى اْلمُرْسَلينَ بِحَقائِقِ الإيمانِ في كُلِّ دَهْرٍ وَزَمانٍ، أَرْسَلْتَ فيهِ رَسُولاً وَأَقَمْتَ لأَهْلِهِ دَليلاً مِنْ لَدُن آدَمَ إِلى مُحَمَّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ أَئِمَّةِ اْلهُدى، وَقادَةِ أَهلِ التُّقى، عَلى جَميعِهِمُ السَّلامُ فَاذْكُرْهُمْ مِنْكَ بِمَغْفِرَةٍ وَرِضْوانٍ.

اللّهُمَّ وَأَصْحابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وَآلِهِ خاصَّةً الذين احْسَنُوا الصَّحابَةَ، وَالّذَينَ أَبْلَوا اْلبَلآءَ اْلحَسَنَ في نَصْرِهِ، وَكانَفُوهُ وَأَسْرَعُوا إلى وِفادَتِهِ، وَسابَقُوا إلى دَعْوَتِهِ، وَاستَجابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حُجَّةَ رِسالاتِهِ، وَفارَقُوا الأَزْواجَ وَاْلأَولاد في اظْهارِ كَلِمَتِهِ، وَقاتَلوُا الابآءَ والأَبْنآءَ في تَثْبيتِ نُبُوَّتِهِ، وَانْتَصَرُوا بِهِ، وَمَنْ كانُوا مُنْطَوينَ عَلى مَحَبَّتِهِ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبوُرَ في مَوَدَّتِهِ، وَالَّذينَ هَجَرَتْهُمُ العَشآئِرُ اذْ تَعَلَّقوُا بِعُرْوَتِهِ، وَانْتَفتْ مِنْهُمُ اْلقَراباتُ اذْ سَكَنُوا في ظِلِّ قَرابَتِهِ، فَلا تَنْسَ لَهُمُ اللّهُمَّ ما تَرَكُوا لَكَ وَفيكَ، وَاَرضِهِمْ مِنْ رِضْوانِكَ، وَبِما حاشُوا اْلخَلْقَ عَلَيْكَ، وَكانُوا مَعَ رَسُولِكَ دُعاةً لَكَ الَيْكَ، وَاشكُرْهُمُ عَلى هَجْرِهِم فيكَ دِيارَ قَوْمِهِمْ، وَخُروجِهِمْ مِنْ سِعَةِ اْلمَعاشِ الى ضيقِهِ، وَمَنْ كَثَّرْتَ في اعْزازِ دينِكَ مِنْ مَظْلوُمِهِم.

اللّهُمَّ وَأَوْصِلْ الى التّابِعينَ لَهُمْ بِاِحْسانٍ الَّذينَ يَقُولوُنَ رَبَّناَ اغْفِرْ لَناة.

ص: 24


1- هذا الدعاء الرابع من الصحيفة السجادية التي يداوم الشيعة على قراءة أدعيتها، نقلناه هنا ليعرف الباحثون منزلة صحابة النبي صلى الله عليه و آله الرفيعة عند الشيعة.

وَلإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبقوُنا بِالإيمانِ خَيرَ جَزآئِكَ، الَّذينَ قَصَدُوا سَمْتَهُمْ، وَتَحَرّوُا وِجْهَتَهُمْ، وَ مَضَوْا عَلى شاكِلَتِهِمْ...

اللّهُمَ وَصَلِّ عَلى التّابِعينَ مِنْ يَوْمِنا هذا الى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلى ازواجِهِمْ، وَعَلى ذُرِّيّاتِهِمْ، وَعَلى مَنْ اطاعَكَ مِنهُمْ صَلاةً تَعْصِمُهُمْ بِها مِنْ مَعْصِيَتِكَ (إلى آخر الدعاء الشريف).

ص: 25

ص: 26

الخطوط العريضة

المسلمون كما أسلفنا الإيعاز إليه في حاجة ماسة إلى الاتحاد، ورفض ما أوجب الشحناء بينهم في الأجيال الماضية، وإذا كانت بينهم بعض الخلافات فيجب عليهم أن لا يجعلوها سبباً للتنازع والتخاصم. قال اللّه تعالى: ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم(1).

سيما في هذا العصر الذي تداعى علينا الأُمم كما تداعى الأكلة على القصاع(2).

ص: 27


1- الأنفال: الآية 46.
2- أخرج أبو داود في باب تداعي الأُمم على الإسلام من كتاب الملاحم: ج 2 ص 210 بطريقه عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يوشك الأُمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ اللّه من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ اللّه في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت.

وأولى الناس برعاية هذا الواجب هم الكُتّاب والمصنّفون، فإنّهم أدلّاء العامة، وهداة الحركات الفكرية، فكما تكون لبعض المقالات والمؤلفات آثار قيمة لجمع الشمل، وعز الإسلام يكون لبعضها الآخر من مصارع السوء، والآثار المخزية ما لايمكن دفعها إلّابعد مجاهدات ومجاهدات، فيجب على المؤلفين الإحتراز عما يوجب إثارة الضغائن المدفونة كما أنّه يجب عليهم التجنّب عن الإفتراء والبهتان، ورعاية الأمانة والصدق، ونصيحة الأُمة.

فإن أراد كاتب أن يكتب حول مذهب ما، كلمة أو كتاباً فالواجب عليه الرجوع إلى مصنفات علماء هذا المذهب في العقائد والفقه، وملاحظة آراء أكابرهم، والنظرات المشهورة بين أهل هذا المذهب، وترك الآراء الشاذة المتروكة بينهم، وأن لا يأخذ البريء منهم بجرم المسيء، ولا ينسب إلى الجميع ما ذهب إليه بعض من ابتلي بالشذوذ في الرأي، فإنه ليس من مذهب إلّاويوجد فيه من له بعض الآراء الشاذة.

ولعمر الحق! لو راعى الكُتّاب والمؤلفون هذا الأمر حق رعايته لذهبوا بكثير من أسباب المنازعات والمخالفات، ولما وقعت بين المسلمين هذه المنافرات، ولما بهت المسلم أخاه المسلم بالكفر والشرك، وهذا أدب يجب على كل كاتب أن يرعاه وإن لم يكن مسلماً.

إذا طهرت الصحف والأقلام من دنس الأغراض والعصبيات، وانتزعت من أيدي الجهّال وغير الخبراء، أدى ذلك إلى تخلّص نفوس العامة من الأحقاد والضغائن، ومن إساءة الظن بالأبرياء.

هذا، ونحن لا نخفي أسفنا الشديد على ما يصدر عن بعض الكُتّاب مما لا

ص: 28

ينتفع به إلّاأعداؤنا، وليست فيه أية فائدة إلّاالضعف والفشل، وخدمة الإستعمار الغاشم مضافاً إلى ما في كلماتهم من الإفتراء والبهتان.

ونحن نحسن الظن بإخواننا المسلمين، ولا نحب أن يصدر عن مسلم بصير بعقائد أهل السنة والشيعة وآرائهم مثل هذه المقالات التافهة، ونرجو أن لا يكون بين المسلمين من يتعمد ذلك، ونكره أن يكون بين الأمة من يخون الإسلام بلسانه وقلمه، ولا يشعر بضرره على قومه وأُمته.

وربّما عذرنا بعض الكُتّاب الذين يكتبون في الأجيال الماضية عن الشيعة وأهل السنة، ويسندون إليهم المقالات المكذوبة عليهم، حيث لم يكن العثور على كتب الفريقين وآرائهم في وسع كل كاتب، وأما في هذا العصر الذي أصبح كتب الفريقين في متناول جميع الباحثين، ويمكن استعلام عقيدة كل طائفة من علمائها بكل الوسائل والسُبل، فلا عذر لمن يرمي أخاه بما ليس فيه، ويتهمه بمجرّد سوء الظن، وقد قال اللّه تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظنّ إثم(1).

ومن الكتب التي نسبت إلى الشيعة المخاريق العجيبة، وسلكت مسلك أنصار الأُمويين وغيرهم من أعداء عترة النبي صلى الله عليه و آله كتاب سمّاه مؤلّفه الخطوط العريضة للأُسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثنى عشرية فبالغ في البهتان والإفتراء، وتجريح عواطف الشيعة وأهل السنة، وفيه من الكذب الظاهر والفحش البين، والخروج عن أدب البحث والتنقيب ما لا يصدر إلّاعن جاهل12

ص: 29


1- الحجرات: الآية 12

بحت، أو من كان في قلبه مرض النفاق، وأراد تفرقة المسلمين وإفساد ذات بينهم، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيما رواه الترمذي وأحمد وأبو داود:(1).

ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة، إصلاح ذات البين فإنّ فساد ذات البين هو الخالقة(2).

وفي خبر من طرقنا إنّه صلى الله عليه و آله قال:

إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة، والصيام(3).

وأخرج الطبراني عنه صلى الله عليه و آله: من ذكر امرءً بما ليس فيه ليعيبه حبسه اللّه في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ماقال(4).

فما ظنّك ياأخي بمن أشاع على طائفة من المسلمين الذين آمنوا باللّه ورسوله وكتابه وباليوم الآخر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون ويحجون، ويحرّمون ما حرّم اللّه في كتابه وسُنّة نبيه، ويحلّون ما أحلّ اللّه ورسوله، ما هم منه أبرياء.

وقد طعن في هذا الكتاب على أئمة المذهب ومفاخر الإسلام، ودافع عن سيرة يزيد بن معاوية، وأظهر انحرافه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي لا يحبه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّامنافق، ليهيّج الشيعة ويستنهضهم على أهل السنة حتى1.

ص: 30


1- الجامع الصغير: ج 1 ص 114 الطبعة الرابعة.
2- وفي نسخة اخرى: «الحالقة».
3- نهج البلاغة: ج 3 ص 47، بشرح محمّد عبده.
4- الجامع الصغير: ج 2 ص 171.

يعارضوا ذلك بالمثل، فيتحقق أمله وأمل أعداء الدين من المستعمرين وغيرهم بإثارة خصومة حادة بين المسلمين، فإن الإستعمار لا يحب أن يرى الشيعي والسني يغزوانه في صف واحد، ولا يريد اتفاقهما في الدفاع عن الصهيونية، ولا يريد اتحاد المسلمين في إحياء مجدهم واسترجاع تراثهم الإسلامي، واستعادة البلاد والأراضي المغتصبة منهم.

الإستعمار يريد الشقاق والنفاق حتى يصفو له الجو وتتحقق أهدافه، ومحب الدين الخطيب كاتب الخطوط العريضة، ومن يسلك سبيله، يمهد له الوصول إلى مطامعه الخبيثة من حيث يعلم أو لا يعلم.

ولكن لا يبلغ الإستعمار آماله إن شاء اللّه تعالى، وسينجح المصلحون، ولا تهِنُ عزائمهم بهذه الكلمات، فإنّهم أعلم بمقالات أرباب المذاهب وآرائهم، والتقريب فكرة إصلاحية كلّما مر عليها الزمان يزداد المؤمنون بها، وإن يرى محب الدين استحالتها لأنّه لم يفهم أو لم يشأ أن يفهم معناها.

وبعد ذلك كلّه فنحن نكره أن نتكلم في نية محب الدين، وأنّه أراد إثارة الفتن، وخدمة أعداء الإسلام، وإعانتهم على هدم كيان المسلمين فاللّه هو العالم بالضمائر، فلا نريد أن نسير معه في مقالاته، ونوضّح أخطاءه وعثراته، بل نريد تخليص أذهان بعض إخواننا من أهل السنة، وتطهيرها من هذه التهم والإفتراءات، وجعلنا كتاب الخطوط العريضة مورد البحث والنقد لأنّه بالغ في التهجّم على الشيعة، وأتى بكل ما أراد من الكذب والبهتان، ولم نعارضه بالمثل

ص: 31

ف إنّما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه واُولئك هم الكاذبون(1) بل لم نتعرّض لما عند أهل السنة من آراء شاذة في الفروع والأُصول، وما نسب أهل الإعتزال إلى الأشاعرة، والأشاعرة إلى المعتزلة، وأتباع بعض المذاهب إلى غيرهم، وما حدث بينهم من المجادلات الكلامية في الكلام وخلق القرآن وغيره، وتكفير بعضهم بعضاً إلّاما دعت الحاجة إليه لتوضيح المراد وتحقيق البحث والتنقيب، فإنا لا نرى فائدة في نقل هذه المناقشات إلّاضعف المسلمين وتشويه منظر الدين ونأخذ بما أدّبنا اللّه تعالى به، فقال سبحانه:

ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم (2) .

ونقول: ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم(3).0.

ص: 32


1- النحل: الآية 105.
2- فصّلت: الآية 34.
3- الحشر: الآية 10.

كيف تمّت فكرة التقريب

قال محب الدين الخطيب في ص 5: ونضرب لذلك مثلاً بمسألة التقريب من أهل السنة والشيعة... ثم هاجم دار التقريب بشدة، لأنّ غرضه الأصلي من تأليفه الخطوط العريضة! مهاجمة مبدأ التقريب.

من سبر أحوال المجتمع الإسلامي في أمسه ويومه، ووقف على الصراع الطائفي الذي أردى المسلمين في مثل هذا الضعف والإنحلال، والسقوط في أحضان الإستعمار وجد أنّ سبب هذا التنافر والتشاجر وجلّه أو كلّه يرجع إلى سياسات غابرة انتهت وكانت من نتائجها إبادة أربابها، ويدرك كما أدرك المصلحون ودعاة الوحدة والتقارب أنّ الإسلام لن تعود إليه دولته الذاهبة إلّاإذا عادت إلى المسلمين وحدتهم في ظل الإسلام.

والواقع: إنّ من أعظم الأسباب في نشوب هذه المعارك المذهبية إنّما هو جهل كل طائفة بآراء الطائفة الأخرى، وإن التقارب بين المذاهب الإسلامية أمر

ص: 33

ممكن إذا ما قدّر للمسلمين أن يعيشوا في أُفق أعلى وأنزه مما عاشوه في بعض أجيالهم الماضية.

بل إنّ ذلك ضرورة حتمية لمصيرهم ومستقبلهم، وليس ذلك من المستحيل كما زعمه الخطيب، بل يمكن أن يعيش المسلمون في محبة ووئام، كما عاش خيار الصحابة في صدر الإسلام، مع اختلافهم في الرأي والفتيا، حيث كانوا إخوة أحباء، تتميز أخوّتهم بالتفادي والإيثار، ولم يفض اختلافهم في الرأي إلى جفوة أو بغضاء، أو تدابر أو تقاطع أو شحناء.

نعم أدرك المصلحون أن المجتمع الإسلامي في عصرنا هذا لا يقبل تكفير المسلم المؤمن بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه و آله بمجرّد المزاعم والإفتراءات والخلافات الفرعية(1).

فليس إذن فكرة التقريب فكرة شيعية أو فكرة سنية فضلاً عن أن تكون وليدة فكرة حكومة شيعية أو سنية، ولم تؤسس دار التقريب للتقريب بين السنة والشيعة فقط، بل تأسست للتقريب بين جميع المذاهب الإسلامية، وقد ساهم في تأسيسها من رجال العلم والدين أفذاذ لايشك في صدق نياتهم.

وأما ما ذكر من إنفاق دولة شيعية على دار التقريب فنحيل الفاحص عن ذلك إلى أقطاب جمعية التقريب السنة وغيرهم.

ولو سلم كون التقريب فكرة شيعية، وصدر من مبدأ شيعي، فلماذا لا يقبلهة.

ص: 34


1- انظر في ذلك ما كتبه الأستاذ العلّامة الشيخ محمد تقي القمي، السكرتير العام لجماعة التقريب تحت عنوان (قصة التقريب) في (رسالة الإسلام) في العدد الرابع من السنة الحادية عشرة.

السني لأنّه فكرة شيعية! ما الذي يمنع من التفكّر والتأمّل حول آراء الطرفين؟

وماذا يخسر السنّي إذا ما عرض له الشيعي آراءه وعقائده لئلّا يسيء إليه الظن ولا يتّهمه بالفسق أو الكفر؟

إنّ الشيعي لا يرى بذلك بأساً ولا يحس ضرراً من أن يدرس عقائد أهل السنّة ومذاهبهم، فهو حر في دراسة جميع العقائد يقرأ كتب أهل السنة وصحفهم ومجلّاتهم.

فهذه مكتبات قم، والنجف وطهران، وجبل عامل وغيرها من البلاد والعواصم الشيعية، والجامعات العلمية مملوءة من كتب السنّيّين القدماء ومن الصحاح، وجوامع الحديث والتفاسير والتواريخ، يدرسونها في مدارسهم، ومن كتب المتأخّرين، والمعاصرين أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي والعقّاد، ورشيد رضا، وهيكل، والطنطاوي، وأحمد أمين، وسيد قطب، ومحمد قطب، والندوي، والمودودي وعفيف طباره، ومحمد الغزالي، وعبد الرزاق نوفل، والشيخ منصور علي ناصيف مؤلف (التاج الجامع للأصول) والشيخ المراغي والشيخ نديم الجسر وغيرهم.

وهذه محاضرات الشيعة في الفقه يدرسون فيها أقوال جميع أئمة الفقه، ورؤساء المذاهب، ويذكرون خلافاتهم، ويبحثون في أدلّة الأقوال، ويأخذون بما هو أوفق بالكتاب والسنة باجتهادهم من غير تعصّب لرأي، وكانت هذه سيرتهم من القديم، فراجع كتاب الخلاف للشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، والتذكرة للعلّامة الحلّي وغيرهما، لم يمنع أحد من العلماء تلامذته، وطلبة العلوم من مراجعة كتب أهل السنة، ولا ينكر أحد على أحد

ص: 35

شراء وبيع كتب أهل السنة في العقائد والحديث والكلام، ولا يرون بذلك كلّه بأساً، بل يستحسنونه ويستحثون عليه.

ص: 36

فرية الخطيب على علماء النجف الأشرف

حكى الخطيب(1) في ص 6 نسبة بشعة من بعض كتب الشيعة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ونسب نشر الكتاب الذي ذكر فيه هذه النسبة إلى علماء النجف، ونسب إليهم أنّهم قالوا فيه عنه كذا...

من أوضح ما يظهر منه سوء نيّة الخطيب، وأنّه لم يرد إلّاإثارة الفتن والشقاق والخلاف بين المسلمين بافتراءاته النابية إسناد نشر الكتاب المذكور إلى علماء النجف، وحكايته عنهم أنّهم قالوا فيه عن عمر بن الخطاب إنّه كان...

ولو أسند نشره إلى ناشر معين وذكر اسمه واسم مؤلّفه لكان له عذر في نقلها، ولكنّه أسند نشره كذباً وبهتاناً إلى علماء النجف يعني به جميعهم، وهم من أحوط الناس على رعاية حرمة الإسلام والمسلمين، لا تجري أقلامهم

ص: 37


1- على ما هو ثابت في طبعته الأولى، ولكن حذفت من الطبعة السادسة.

وألسنتهم الطيبة النزيهة إلّافي الإصلاح بين المسلمين وتوحيد كلمتهم، ودعوتهم وإرشادهم إلى الخير، ورفض البغضاء والشحناء، فهم في طليعة المصلحين المجاهدين لتحقيق الوحدة الإسلامية، ونبذ ما يوجب الخلاف والشقاق.

إذن فلا شك أنّه لم يرد بما حكاه عنهم إلّاتجريح العواطف وتهييج الفتنة، وافتراق كلمة المسلمين أو النيل من الخليفة بنشر هذه النسبة إليه، وتسجيل نقلها عن علماء النجف الأشرف، وفيهم من رجالات الدين والعلم والمعرفة بتواريخ الإسلام، وتراجم الرجال مَنْ آرائه وأقواله في غاية الإعتبار والإعتماد، فكأنّه أراد بتسجيل ما حكاه على علماء النجف الأشرف تسجيل أصل النسبة على الخليفة وإشاعتها، فإنّ الكتاب الذي ذكر فيه هذه النسبة (إن كان الخطيب صادقاً فيما حكاه) ليس معروفاً وفي متناول أيدي الشيعة وأهل السنة، فنحن لم نقف عليه ولا على اسم كاتبه بعد، مع الفحص الكثير في المكتبات، ولم نطّلع على مافيه إلّابحكاية الخطيب في كتابه الذي نشره في أرجاء العالم الإسلامي، وجعله في متناول أيدي أعداء الإسلام، والمتتبعين لعورات المسلمين، وكان الواجب على الحكومات السنية مؤاخذة الخطيب ومصادرة كتابه بإشاعته هذه النسبة، وحكايته في كتاب يقرؤه المسلمون وغيرهم.

وعلى كل حال لا حاجة لنا بتبرئة علماء النجف عما حكى عنهم، فإنّ شأنهم الرفيع أكبر وأنبل من ذكر الأمور الشائكة في كتبهم، فهم معتمدون في مقالاتهم وآرائهم في المذهب والفقه والعلوم الإسلامية على أقوى الأدلّة العلمية.

ص: 38

هذا، ولو فرضنا ذكر شيء من هذا القبيل في نقل لايعتمد عليه، أيجوز له أن ينسب ذلك إلى الشيعة!؟ وإلّا فيجوز أن ينسب إلى السنّيّين عقائد النواصب الذين سبوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأحدثوا في الإسلام ماأحدثوا، وقتلوا سبطي رسول اللّه وريحانتيه صلى الله عليه و آله.

والعجب أنّ الخطيب تارة يقول: إنّ التقية عند الشيعة عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون، وأخرى يقول: بتظاهرهم بأمر، لوكان التقية من دينهم لكان الواجب عليهم أن يستروه، لا أن يذيعوه ويكتبوه، وينشروه حتى يقرأه كل معاضد ومعاند، فتأمل ما في كلماته من التهافت والتناقض، ومجانبة الحق والإنصاف عصمنا اللّه تعالى منها.

ص: 39

ص: 40

الأصول قبل الفروع

قال الخطيب في ص 7: ومن أتفه وسائل التعارف أن يبدأ منها بالفروع قبل الأصول، فالفقه عند أهل السنة وعند الشيعة لا يرجع إلى أصول مسلّمة عند الفريقين، والتشريع الفقهي عند الأئمة الأربعة من أهل السنة قائم على غير الأسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي عند الشيعة، وما لم يحصل التفاهم على هذه الأسس والأصول قبل الإشتغال بفروعها، وما لم يتم التجاوب في ذلك من الباحثين في المعاهد العلمية الدينية للطائفتين فلا فائدة من إضاعة الوقت في الفروع قبل الأصول، ولا نعني بذلك أصول الفقه بل أصول الدين من جذورها الاُولى... إلى آخره.

إن كان مراده من الأصول تلك التي قامت عليها دعوة الإسلام فلا اختلاف

ص: 41

فيها بين المسلمين من الشيعيين والسنيين، لا اختلاف بينهم في أنّ اللّه واحد أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، ولا في أنّه عليم قدير، سميع بصير، له الأسماء الحسنى، ولا في نبوّة أنبياء السلف، ولا في نبوة خاتم الأنبياء وسيّدهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله، ولا في أنّ القرآن كتاب اللّه الذي أُنزل إليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(1).

ولا اختلاف بينهم في المعاد، والثواب والعقاب، والجنّة والنار، وغير ذلك من الأمور الإعتقادية التي يعرفها المسلمون، ويؤمنون بها كلّهم، كما لاخلاف بينهم في وجوب الصلاة، والصوم، والحج والزكاة وغيرها من التشريعات المالية والبدنية، والإجتماعية والسياسية.

وإن كان مراده من الأصول مسائل أخر مما اختلف فيه الصحابة أو التابعون، أو الفقهاء فليست هذه المسائل من تلك، وإذا كان الخطيب يعرف أصلاً من الأصول التي قامت عليها دعوة الإسلام مما يعد الإيمان في عصر النبي صلى الله عليه و آله والصحابة عند الجميع من شرايط الإسلام، ولايعرفه المسلمون من أهل السنة أو الشيعة في هذا العصر فنحن نطالبه به.2.

ص: 42


1- فصّلت: الآية 42.

الاُسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي

وأمّا ما ذكره من أنّ الفقه عند أهل السنة وعند الشيعة لا يرجع إلى أصول مسلّمة عند الفريقين، وأنّ التشريع الفقهي عند الأئمة الأربعة من أهل السنة قائم على غير الأُسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي عند الشيعة.

فجوابه: أنّ الفقه عند جميع المسلمين من الشيعة وأهل السنة يرجع إلى الكتاب والسنة، والشيعة من أشد الناس تمسّكاً بهما إن لم نقل إنّهم أشد الفريقين في ذلك، ومع ذلك كيف تكون الأسس التي قام عليها التشريع الفقهي عند أهل السنة غير الأسس التي قام عليها عند الشيعة، وما الفرق بين السني والشيعي في هذه الأسس(1) ؟ نعم لا يجوز عند الشيعة إعمال القياس والإستحسان والرأي في

ص: 43


1- ونِعم ما قال فضيلة العلّامة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر فيما كتبه جواباً عن مسائل أبي الوفاء الكردستاني، وإليك بعض نصوصه: على انّ تقسيم المذاهب إلى شيعة وسنة إنّما هو اصطلاح في التسمية، وإلّا فكل المسلمين أهل السنة لأنّهم جميعاً يوجبون الأخذ بالسنة، والشيعة كذلك من غير شك، إذ إنّ الشيعي لا يقول: قد يثبت حديث ما عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأرفض العمل به من حيث هو حديث ثابت عن رسول اللّه، ولكنه يقول كما يقول جميع المسلمين: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. وإنّما وقع الخلاف أحياناً في ثبوت الحديث عند فريق وعدم ثبوته عند فريق آخر، وتوضيحاً لذلك نذكر ما ذكره أخونا العلّامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء الشيعي الإمامي في العراق في بعض ما كتب: إنّ عندنا قضية صغرى وقضية كبرى تؤلّفان قياساً واحداً شكله هكذا: (هذا ثبت عن رسول اللّه، وكل ما ثبت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله يجب العمل به شرعاً) فالخلاف بين المسلمين ليس في الكبرى بل كلهم مجمعون عليها إجماعاً لا يتطرّق إليه الشك، وإنّما هو - أى الخلاف - في الصغرى (انظر: رسالة الإسلام، العدد الثالث والرابع من السنة الثانية عشرة).

الشريعة، كما هو المعمول به عند بعض رؤساء المذاهب الأربعة، لأنّ القول بجواز العمل بالقياس والإستحسان يفضي عندهم إلى القول بنقص الشريعة التي لم تترك شيئاً من الأمور الدينية والدنيوية إلّاوقد بينت حكمها، ولعدم مسيس الحاجة إلى إعمال القياس، لإمكان استخراج أحكام جميع الوقايع والأحداث والقضايا من الكتاب والسنة، وعدم وجود واقعة لا يمكن إدراجها تحت الأحكام الكلية، وذلك لم يكن من مختصات الشيعة.

ولا يخفى عليك إنّ أكثر الخلافات الواقعة في الفقه يرجع إلى اختلاف الإجتهاد في استخراج الحكم من النصوص، وثبوت بعض الأحاديث عند مجتهد، وعدم ثبوتها عند مجتهد آخر.

هذا مضافاً إلى أنّه لا إلزام لتبعية المجتهد للأسس التي قام عليها التشريع الفقهي بحسب مذهب خاص، ولا أن يكون مقيّداً بطريقة إمام خاص كالشافعي

ص: 44

وأبي حنيفة وغيرهما، بل يجب أن يكون المتبع هو الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي (الكتاب والسنّة) سواء وافق رأي أهل مذهب خاص أم لم يوافق، فإن وافق اجتهاد مجتهد في مسألة فتوى الشافعي، وفي مسألة فتوى الحنفي، وفي مسألة فتوى المالكي، وفي مسألة فتوى مجتهد شيعي لا بأس به، فإنّ المحذور مخالفة الأصول التي قام عليها التشريع الإسلامي لا الأسس التي قام عليها اجتهاد مجتهد خاص.

وقد كان المسلمون قبل حصر المذاهب في الأربعة يجتهدون في الكتاب والسنة، كما هو سيرة الشيعة الإمامية في الإجتهاد إلى اليوم.

وأمّا صحة الإجتهاد في فتوى مجتهد خاص فلم يدل عليها دليل، ولم يقم على اعتباره لغيره من المجتهدين حجة من الكتاب والسنة، مضافاً إلى أنّه يوجب سد باب الإجتهاد وسلب الحرية عن المجتهدين ووقوف الفقه الإسلامي عن مسيره، وحرمان العلماء عن التفكير والتأمل في الكتاب والسنة، وأظن أنّ الأئمة الأربعة أيضاً لم يريدوا أن يكون مسلكهم في الفقه حجة لسائر المجتهدين، وسبباً لإقفال باب الإجتهاد عليهم، لتنحصر المذاهب في الأربعة(1)ة.

ص: 45


1- وقد أعلن بفتح باب الإجتهاد، وعدم لزوم اتّباع إمام مذهب خاص وعدم حصرها في المذاهب الأربعة، وجواز التعبّد بمذهب الإمامية فضيلة العلّامة شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت في فتواه التاريخية، وفي أجوبة مسائل أبي الوفاء المعتمدي الكردستاني، وفي موارد أُخر، فراجع رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الحادية عشرة، والعدد الثالث والرابع من السنة الثانية عشرة. وما أدلى فضيلته إلى إحدى الصحف المصرية الكبرى بحديث خطير الشأن سجّل أيضاً بعض فقراتها في رسالة الإسلام، العدد الأول من السنة الحادية عشرة، فقد صرّح فيه بإفتائه في كثير من المسائل بمذهب الشيعة خضوعاً لقوة الدليل، ذكر منها على سبيل المثال: مسألة الطلاق الثلاث بلفظٍ واحد، فإنّه يقع في المذاهب السنية ثلاثاً، ولكنّه في مذهب الشيعة يقع واحدة رجعية، ومسألة الطلاق المعلّق فإنّه على مذهب الشيعة لا يقع به الطلاق مطلقاً. وراجع أيضاً حديثه مع مندوب جريدة إطلاعات الإيرانية المسجّل في رسالة الإسلام، في العدد الثاني من السنة المذكورة. وراجع مقالة الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة بالجامعة الأزهرية في رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة المذكورة، تحت عنوان (رجة البعث في كلية الشريعة). وانظر ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة تحت عنوان (الوحدة الإسلامية) في العدد الثالث والرابع من السنة العاشرة.

كما أظن أنّ المجتهدين لو جعلوا نصب أعينهم التشريع الإسلامي، والكتاب والسنة، ولم يقيّدوا أنفسهم باتباع مذهب مجتهد معين، كما كان عليه المسلمون قبل تأسيس هذه المذاهب، لزال كثير من هذه الإختلافات والمنافرات، ولسار الفقه الإسلامي نحو عالم أرقى وأوفق بالكتاب والسنة وبمزاج العصر، ولمزيد البحث في ذلك مجال آخر.

ص: 46

التقية لا تمنع من التجاوب والتفاهم

قال الخطيب في ص 7: وأوّل موانع التجاوب الصادق بإخلاص بيننا وبينهم ما يسمّونه (التقية) فإنّها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون... إلخ.

بعد تصنيف الشيعة في عقائدهم وفقههم كتباً كثيرة لا يمكن إحصاؤها، وبعدما اطّلع عليه الخاص والعام من معتقدات الإمامية، وبعد عرضهم مذاهبهم بما كتب علماؤهم في التفسير والحديث والكلام والفقه على الملأ الإسلامي، وبعد إعلانهم عقائدهم على رؤوس المنابر، وفي الجرائد والمجلات، وبعد هذه الحوارات الحاصلة بين الفريقين، وبعد المشافهات التي وقعت بين عظمائهم من العلماء وغيرهم حيث يزور إخواننا من أهل السنة بلاد الشيعة، ومعاهد علومهم الدينية، ويشاهدون بأعينهم التزام الشيعة بشعائر الإسلام، ويحضرون دروسهم، ومحاضراتهم في العقائد وفي الفقه، هل يمكن للشيعة التظاهر في عقائدهم بغير ما يبطنون؟ وهل ينتفعون بإخفاء عقائدهم.

ص: 47

أيزعم الخطيب أنّ علماء الأزهر، وأقطاب التقريب لم يطلعوا على ما اطلع عليه من كتب الشيعة، ولم يدركوا حقيقة مذهب الإمامية وآرائهم في التقية وغيرها؟

أليس شيخ الأزهر أبصر من الخطيب ونظرائه بالمذاهب الإسلامية؟ هذا المصلح الذي أدرك بعلمه الواسع وغيرته على الإسلام والمسلمين ضرورة الإتحاد والإتفاق، وإمكان التقريب بين الطائفتين، فقام للّه وأدى ما عليه من نصيحة الأُمة، ورفع الجفوة، فأيد الزعماء المصلحين، وأسلافه من مشايخ الأزهر كالعلامة الكبير الشيخ عبد المجيد سليم بإصدار فتواه التاريخية بجواز التعبّد بمذهب الإمامية وجواز الإنتقال من سائر المذاهب إلى هذا المذهب.

ألا يصير أُضحوكة الناس من يقول: إنّ الشيعة حيث يقولون بالتقية لا يقبل منهم إقرار واعتراف في عقائدهم، وإنّهم يبطنون خلاف ما يظهرون.

أليست التقية جائزة عند اهل السنة؟

ألم يعمل بالتقية الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ونزل فيه هذه الآية الشريفة: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان(1)(2).

قال الواحدي في أسباب النزول: قال ابن عباس: (نزلت يعني قوله تعالى:

من كفر باللّه من بعد إيمانه (2) في عمّار بن ياسر، وذلك إن المشركين أخذوه وأباه ياسراً، وأُمه سُمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً، فأما سُمية فإنها ربطت بين بعيرين، ووجئ قلبها بحربة، وقيل لها: إنّك أسلمت من أجل الرجال، فقُتلت،2)

ص: 48


1- و
2- النحل: الآية 106

وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار فإنّه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فأخبر النبي صلى الله عليه و آله بأنّ عماراً كفر، فقال: كلّا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، وأخلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فأنزل اللّه هذه الآية).

ونحن ننقل كلمات بعض أعلام الفريقين في التقية حتى يعلم أنّ القول بها متفق عليه بين فرق المسلمين غير الخوارج، فإنه ينقل أنهم منعوا التقية مطلقاً.

قال الفخر الرازي في تفسيره المسمى بمفاتيح الغيب(1) في تفسير قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلّاأن تتّقوا منهم تقاة(2):

المسألة الرابعة: اعلم أنّ للتقية أحكاماً كثيرة؛ ونحن نذكر بعضها:

(الحكم الأول): إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمعية والموالاة، لكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

(الحكم الثاني للتقية): هو أنّه لو أفصح بالإيمان، والحق حيث يجوز له8.

ص: 49


1- تفسير مفاتيح الغيب: ج 2 ص 437 (ط 1308).
2- آل عمران: الآية 28.

التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرنا في قصة مسيلمة.

(الحكم الثالث للتقية): أنّها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما مايرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا، وغصب الأموال والشهادة بالزور، وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة.

(الحكم الرابع): ظاهر الآية يدل على أن التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين إلّا أن مذهب الشافعي (رض) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.

(الحكم الخامس): التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله: حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله صلى الله عليه و آله: من قتل دون ماله فهو شهيد. ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الإقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز هاهنا واللّه أعلم.

(الحكم السادس): قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا.

روى عوف عن الحسن أنّه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (انتهى كلامه).

وقال الشيخ الطوسي في التفسير المسمّى بالتبيان، في تفسير الآية

ص: 50

المذكورة: والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها (ثم ذكر ما روى الحسن في قصة مسيلمة وقال:

فعلى هذا، التقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة، وظاهر أخبارنا يدلّ على أنّها واجبة وخلافها خطاء(1).

وقال الطبرسي في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا: إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والإستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين، قال المفيد: إنّها قد تجب أحياناً وتكون فرضاً، ويجوز أحياناً من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل، وإن كان فاعلها معذوراً ومعفواً عنه، ومتفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.

فهذه جملة من كلمات علماء الفريقين مفصحة بجواز التقية في الجملة، معلنة بتقارب آرائهم فيها، وأن الكل معتمدون في القول بها على الكتاب والسنة.

إذن فما ذنب الشيعة في القول بها؟ وما وجه مؤاخذتهم عليها إلّاالتعصّب والجهل، نعم رأي الشيعة جواز التقية، وقد عملوا بها في الأجيال التي تغلبت فيها على البلاد الإسلامية أُمراء الجور، وحكّام جبابرة مثل معاوية، ويزيد، والوليد، والمنصور، والهادي، وهارون، وزياد، والحجاج، والمتوكل، وغيرهم ممنً.

ص: 51


1- بل ذلك ظاهر بعض أخبار أهل السنة أيضاً.

عذبوا أئمة أهل البيت أئمة الخير، وقدوة العلم والزهد والدين، وعذّبوا أشياعهم شر تعذيب، وقتلوهم أبشع قتلة(1).

وفي العصور التي كان فيها أخذ الحديث من أئمة أهل البيت و عترة النبي صلى الله عليه و آله وممن يحبهم أو يفضّلهم على غيرهم من أعظم الجرائم السياسية، في العصور التي سلبت عن المسلمين الحرية التي هتف بها الإسلام، وكان سب أمير المؤمنين علي عليه السلام سُنّة جارية لا يجترئ أحد أن ينكره.

نعم عملوا بالتقية في الأزمنة التي كان فيها من بني فاطمة الزهراء بضعة الرسول صلى الله عليه و آله من يخفي انتسابه إليها وإلى بعلها عليهما السلام ليسلم من القتل والسجن والسوط، وأنواع التعذيب للمتشرفين بهذه النسبة الشريفة الطاهرة الزكية، وفي الأجيال التي لا يعد الرجل فيها من أهل السنة إلّاإذا كان في نفسه عن أمير المؤمنين وفاطمة وسائر أهل البيت عليهم السلام شيء من البغض، أو يتظاهر بذلك ويترك أحاديث فضائلهم.

هذا الخطيب البغدادي يذكر في تاريخه(2): أنّ نصر بن علي الجهضمي المحدّث الكبير لمّا حدّث بهذا الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من أحبني وأحب هذين (وأشار إلى الحسن والحسين عليهما السلام) وأباهما وأُمهما كان معي5.

ص: 52


1- راجع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصبهاني المرواني، حتى تعرف فظاعة ماجرى على أهل البيت عليهم السلام من المصائب والمحن، من عبدة الرئاسة وأرباب السياسة.
2- تاريخ بغداد: ج 13 ص 288 رقم 7255.

في درجتي يوم القيامة»(1) أمر المتوكل بضربه ألف سوط، وكلمه جعفربن عبد الواحد، وجعل يقول: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه.

فهل تجد في مثل هذا العصر بداً من التقية. فتأمّل من مغزى هذه القصة وأمثالها، وقد عمل بالتقية في هذه العصور كثير من المحدّثين والعلماء من أهل السنة أمثال أبي حنيفة والنسائي، ولم يكن للمحدّثين وأرباب الصحاح والمسانيد كأحمد وغيره حرية في تخريج ما يخالف سياسة الحكومة وأهواء الأُمراء، ولم يكن للمصنفين في تأليف الكتب ونقل الروايات بد من التقية لكونهم تحت اضطهاد شديد ومراقبة عيون الحكومة التي بثّت جواسيسها في البلاد للفحص عمن يرى أو يروي لأهل البيت منقبة وفضيلة. ولقد أجاد إمام الحنفية في الأشعار المنسوبة إليه:

حب اليهود لآل موسى ظاهري.

ص: 53


1- وأخرجه القاضي في الشفاط سنة 1324: ج 2 ص 42، وابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة نصر بن علي.

لم يحفظوا حتى النبي محمّد في آله واللّه بالمرصاد(1)

هكذا كان حال المسلمين وعلمائهم في تلك القرون المظلمة، وأمّا في هذا العصر فالعلماء والباحثون أحرار في إظهار آرائهم حول المباحث الإسلامية، وليس بين الشيعي والسني ذلك التنافر الذي أوجدته السياسة في تلك العصور، فلا خوف ولا قتل ولا سجن لبيان الرأي، ولا يقاس هذا الزمان بعصر الأمويين والعباسيين، وعصر الحجاج والمتوكل، ذلك زمان وهذا زمان(2) ولكن الخطيب لما رأى أنّ تصريحات علماء الشيعة في رسالة الإسلام، وفي كتبهم في العقائد وغيرها بدأت يدفع عنهم ما افترت عليهم السياسة والتعصّب والجهل ويذهب بالتنافر الذي بقي بين المسلمين أكثر من 13 قرناً لم يتمكّن أن يقول شيئاً غير مقالة إن الشيعة يتظاهرون بغير ما يبطنون.ح.

ص: 54


1- راجع الفاتحة السابعة: ص 115 من شرح الديوان للعلّامة الشيخ حسين ابن معين الدين الميبدي، من أعلام أهل السنة في القرن التاسع والعاشر الهجري.
2- نعم يوجد في بعض الأحيان بعض العصبيات في بعض الممالك الإسلامية الذي لا يملك قطانه من الحرية ما ملك غيرهم من المسلمين، فيأخذون الإقرار من المتّهمين بأنواع التعذيب، فراجع كتاب (جزيرة العرب تتهم حكّامها) ففي ظروف وأحوال يؤخذ الإقرار عن المتّهم بالسياط، وتعليق أظافره بالكلبتين في السجن، وكيِّه بالسفافيد المحماة بالنار، لا عجب أنّ حكم القاضي بقتل مسلم شيعي يحترم مسجد الحرام أكثر من احترام القاضي بتهمة إرادته تلويث المسجد (العياذ باللّه). ولا يستغرب فتوى القاضي بقتل شاب مسلم مخلص بما أبدى من اجتهاده في إسلام أبي طالب عم النبي صلى الله عليه و آله والذابّ عنه وعن الإسلام في كتابه: شيخ الأبطح.

وسواء أراد الخطيب وناشر كتابه أم لم يرد فقد حسن التجاوب بين الفريقين، والتفاهم فيما بينهم، إلى حد أن صدرت عن شيخ الأزهر فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الإمامية، كما صدرت عن علماء الشيعة مثل السيّد شرف الدين والسيّد محسن الأمين، والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وغيرهم مقالات وكتب قضت على الإفتراءات قضاءً حاسماً(1).ر.

ص: 55


1- فراجع كتاب (نقض الوشيعة) و (أصل الشيعة وأصولها) و (الدعوة الإسلامية) و (الفصول المهمة في تأليف الأُمة) و (وأجوبة مسائل موسى جار اللّه) وكتاب (المراجعات) التي جرت بين العلّامة الإمام شرف الدين الموسوي وبين الأستاذ الكبير الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر يوم ذاك وهذا الكتاب كما قال الأستاذ محمود أبو ريه في كتابه (أضواء على السنّة المحمدية) ص 346، نفيس جداً يجب على كل مسلم أن يقرأه لأنّه يحمل من البحوث الدينية والفوائد العلمية مالم يحمله كتاب آخر.

ص: 56

تأويل آيات الكتاب، وتفسيرها عند الشيعة

قال الخطيب في ص 8: وحتى القرآن الذي كان ينبغي أن يكون المرجع الجامع لنا ولهم على التقارب نحو الوحدة، فإنّ أصول الدين عندهم قائمة من جذورها على تأويل آياته وصرف معانيها إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله وإلى غير ما فهمه منها أئمة الإسلام عن الجيل الذي نزل عليه القرآن.

عقائد الشيعة مأخوذة من الكتاب والسنة القطعية، ومن الأدلّة العقلية القاطعة، وتمام الملاك والمناط الفذ والمرجع الوحيد في تمييز العقيدة الصحيحة عن السقيمة عندهم هو العقل وظواهر القرآن والسنة، فالشيعي لا يعتقد بما خالف ظواهر الكتاب أو السنة، نعم إذا صادم الظاهر ما قام عليه البرهان القطعي

ص: 57

العقلي أو تعارض ما دل عليه نص أو صريح من الكتاب أو السنة لا يعتمدون عليه، كما برهنوا عليه في الأصول، ويؤوّلون هذا الظاهر بتأويل صحيح مقبول لدى العقل والشرع، ومع ذلك لا يستندون إلى هذا التأويل، ولا يؤسسون الأمور الإعتقادية، بل والمسائل العملية الفرعية على تلك التأويلات.

وعند الشيعة روايات بطرقهم عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، إسناد بعضها صحيحة وبعضها سقيمة، في تفسير الآيات وبيان مصاديقها، وشأن نزولها وتقييد بعض مطلقاتها، وتخصيص بعض عموماتها، وبيان خاصها وعامها، وغير ذلك.

وأفرد بعضهم في هذا القسم من التفسير، وجمع فيه تلك الروايات وليست مقبولة عند الشيعة، وهو بينهم كتفسير السيوطي المسمى (بالدر المنثور في التفسير بالمأثور) عند الجمهور.

والعجب من الخطيب أنّه يرمي الشيعة بتأويل الآيات، ويغمض النظر عن تأويلات أكابر أهل السنة، وأقطابهم من المتصوّفة وغيرهم مما لا يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم، ومما تضحك به الثكلى.

فاقرأ يا أخي قليلاً من هذه التأويلات الخيالية الباطلة في تفسير النيشابوري (غرائب القرآن). وراجع التفاسير المشهورة المعتمدة عند الشيعة كالتبيان للشيخ الطوسي، ومجمع البيان لأمين الإسلام الطبرسي حتى تعرف نزاهة الشيعة عن هذه التأويلات الوهمية الشعرية وعدم اعتدادهم بها.

ص: 58

صيانة الكتاب من التحريف

قال الخطيب في ص 8: بل إن أحد كبار علماء النجف وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي الذي بلغ من إجلالهم له عند وفاته سنة 1320 ه أنهم دفنوه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف، في إيوان حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين اللّه، وهو إيوان الحجرة القبلية عن يمين الداخل إلى الصحن المرتضوي من باب القبلة في النجف الأشرف بأقدس البقاع عندهم.

هذا العالم النجفي ألّف في سنة 1292 ه وهو في النجف عند القبر المنسوب(1) إلى الإمام علي كتاباً سمّاه (فصل

ص: 59


1- راجع ما كتبنا في دفع هذا التشكيك الخبيث من الحقائق التاريخية تحت عنوان (المشهدالعلوي المقدّس).

الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور بأنّ القرآن قد زيد فيه ونقّص منه، وقد طبع كتاب الطبرسي هذا في إيران سنة 1298 ه، وعند طبعه قامت حوله ضجة لأنّهم كانوا يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصوراً بين خاصتهم ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك في كتاب واحد تطبع منه ألوف من النسخ، ويطَّلع عليه خصومهم فيكون حجة عليهم، ماثلة أمام أنظار الجميع، ولما أبدى عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلفه، وألّف كتاباً آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) وقد كتب هذا الدفاع في آخر حياته قبل موته بنحو سنتين، وقد كافئوه على هذا المجهود في إثبات أنّ القرآن محرّف بأن دفنوه في ذلك المكان الممتاز من بناء المشهد العلوي في النجف... إلخ.

القرآن معجزة نبينا محمد صلى الله عليه و آله الخالدة، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قد عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله، وبمثل سورة وآية منه، وحيّر عقول البلغاء وفطاحل الأدباء، قد بيّن اللّه تعالى فيه أرقى المباني، وأسمى المبادئ، وأنزله على نبيه دليلاً على رسالته، ونوراً للناس، وشفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمةً للمؤمنين.

قال سيّدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: واعلموا أن هذا

ص: 60

القرآن(1) هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّاقام عنده بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم(2).

ولا ينحصر إعجاز القرآن في كونه في الدرجة العليا من الفصاحة والبلاغة، وسلاسة الترتيب، وسلامة التركيب، والتأليف العجيب، والأسلوب البكر فحسب، بل هو معجزة أيضاً لأنه حوى أصول الدين والدنيا، وسعادة النشأتين.

ومعجزة لأنّه أنبأ بأخبار حوادث كثيرة تحقّقت بعده.

كما أنه معجزة في التاريخ، وبما فيه من أخبار القرون السالفة، والأُمم البائدة، التي لم يكن لها تاريخ في عصر الرسول صلى الله عليه و آله مما أثبتت الكشوف الأثرية صحتها.

ومعجزة لأنّ فيه أصول علم الحياة والصحة والوراثة، وماوراء الطبيعة، والإقتصاد والهندسة والزراعة.1.

ص: 61


1- هذا القرآن الذي يشير إليه أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام و يحثّون شيعتهم بالرجوع إليه والإستشفاء به في ألوف من الأحاديث ليس إلّاهذا الذي هو ما بين الدفتين، والكتاب المجيد الذي يعرفه المسلمون جميعاً يقرؤونه في الليل والنهار.
2- نهج البلاغة (ط مصر، مطبعة الإستقامة): ج 2 الخطبة 171.

ومعجزة في الإحتجاج.

وإعجاز في الأخلاق و الآداب وما إلى ذلك.

وقد مرت عليه أربعة عشر قرناً ولم يقدر في طول هذه القرون أحد من البلغاء أن يأتي بمثله، ولن يقدر على ذلك أحد في القرون الآتية والأعصار المستقبلة، ويظهر كل يوم صدق ما أخبر اللّه تعالى به فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا(1).

هذا هو القرآن، وهو روح الأُمة الإسلامية، وحياتها ووجودها وقوامها، ولولا القرآن لما كان لنا كيان.

هذا القرآن هو كل ما بين الدفتين، ليس فيه شيء من كلام البشر، كل سورة من سوره وكل آية من آياته متواتر مقطوع به، لاريب فيه، دلّت عليه الضرورة والعقل، والنقل القطعي المتواتر.

هذا هو القرآن عند الشيعة ليس إلى القول فيه بالنقيصة فضلاً عن الزيادة سبيل، ولا يرتاب في ذلك إلّاالجاهل أو المبتلى بالشذوذ.

وإليك بعض تصريحات أعلام الإمامية ورجالاتهم في العلم والدين، الذين لا يجتري شيعي على رد آرائهم سيما في أصول الدين، وفي أمثال هذه المسائل، لجلالتهم في العلم والتتبع وكثرة إحاطتهم، وقوة حذاقتهم في الفنون الإسلامية.4.

ص: 62


1- البقرة: الآية 24.

قال شيخ المحدّثين محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب بالصدوق (ت 281 ه) ومؤلف كتاب من لا يحضره الفقيه، وعشرات من الكتب القيّمة، في رسالته المعروفة باعتقادات الصدوق: اعتقادنا في القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك - إلى أن قال -: ومن نسب إلينا أنا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب، ثم شرع في إقامة البرهان على ذلك، (فراجع تمام كلامه).

وقال الشيخ المفيد: وأمَّا النقصان! وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة، ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان ثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمى تأويل القرآن قرآناً قال تعالى: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً(1) فسمّي تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل واللّه أسأل توفيقه للصواب.

وأما الزيادة فيه فمقطوع على فسادها(2).

وقال الشيخ الجليل أبو علي أمين الإسلام الطبرسي أحد أعلام الشيعة في علوم القرآن، في تفسيره القيّم المسمى بمجمع البيان(3).ا.

ص: 63


1- طه: الآية 114.
2- أوائل المقالات للمفيد: ص 55.
3- تراجع مقدمة تفسير مجمع البيان، الفنّ الخامس منها.

فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية أهل السنة أن في القرآن نقصاناً، والصحيح من مذهبنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى (قدس اللّه روحه)، واستوفى الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب، فإنّ العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرنا، لأنّ القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته، وحروفه وآياته، فكيف أن يكون مُغَيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد!!

قال: وقال أيضاً: إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من جملتها ما يعلمون من تفصيلها، حتى لو أن مُدخِلاً أدخل باباً من النحو في كتاب سيبويه أو من غيره في كتاب المزني لعُرف ومُيّز، وعلم أنّه ملحق ليس من أصل الكتاب، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أكثر من العناية بضبط كتاب سيبويه، ودواوين الشعراء.

قال: وذكر أيضاً: إنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و آله ويتلى عليه وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبداللّه بن

ص: 64

مسعود، وأُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه و آله عدة ختمات، كل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبتوت، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية من أهل السنة لا يعتد بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته.

وقال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه) ومؤلّف كتاب الخلاف والمبسوط، والتهذيب والإستبصار وغيرها، في تفسيره المسمى بالتبيان(1) أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى (رحمه اللّه)، وهو الظاهر في الروايات (إلى أن قال:) ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته، والتمسّك بما فيه، ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، وعرضها عليه فما وافقه عمل عليه، وما خالفه تجنّب ولم يلتفت إليه.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله رواية لا يدفعها أحد إنّه قال: (إنّي مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض) وهذا يدلّ على أنّه موجود في كل عصر، لأنّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسك بما لا يقدر على التمسك به، كما أن أهل البيت ومن يجب اتّباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته).

ص: 65


1- تفسير البيان: ج 1 ص 3 (ط النجف).

فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه.

وقال العالم الجليل الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المسمى بكشف الغطاء: (والسابع في زيادته) لا زيادة فيه من سورة ولا آية، من بسملة وغيرها، لا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام اللّه تعالى بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين، وأخبار النبي والأئمة الطاهرين عليهم السلام.

وقال: (الثامن في نقصه) لاريب في أنّه محفوظ من النقصان، بحفظ ملك الديّان، كما دلّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وماورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العلم بظاهرها (إلى آخر كلامه المتين).

وقال الشيخ الأكبر العالم الشهير، نابغة الزمان، الشيخ محمد بهاء الدين العاملي على ما حُكي عنه في آلاء الرحمن ص 26:

الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله تعالى: وإنا له لحافظون(1) ، وقال في كتاب الزبدة: القرآن متواتر لتوافر الدواعي على نقله.

وممن صنّف في نفي النقيصة، بعد الإجماع على عدم الزيادة، الشيخ العلّامة الجليل علي بن عبد العالي الكركي، المعروف بالمحقق الثاني.

وقال العلامة الكبير المولى محمد إبراهيم الكلباسي في كتاب الإشارات:

بعد استقراء كلمات علماء الإسلام بأصنافهم في كتبهم الكلامية والأصولية9.

ص: 66


1- الحجر: الآية 9.

والتفسيرية، وما اشتمل على الخطابات والقصص، وما يتعلّق بعلم القرآن بأصنافه، ومنه علم القراءة والتواريخ وغيرها، مع كمال اهتمامهم في ضبط ما يتعلّق بكل واحد منها يتبيّن أن النقصان في الكتاب مما لا أصل له، وإلّا لاشتهر وتواتر، نظراً إلى العادة في الحوادث العظيمة، وهذا منها بل من أعظمها.

وقال العلّامة المغفور له المجاهد المعاصر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في (أصل الشيعة وأصولها): إنّ الكتاب الموجود بين المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه للإعجاز والتحدي، وإنّه لا نقص ولا تحريف، ولا زيادة فيه، وعلى هذا إجماعهم.

وممن فنّد القول بالتحريف زيادة ونقيصة، ورد كل شبهة في ذلك، بأتم بيان، وأوضح برهان، العالم الجليل المفسّر المتكلم المجاهد الشيخ محمدجواد البلاغي صاحب الكتب الممتعة، والتصانيف القيّمة، في مقدمة تفسيره المعروف والمسمى بآلاء الرحمن، فإنه قد أدى حق المقام، ودافع عن قداسة القرآن، وأظهر الحق وأبطل الباطل، فراجعه حتى تعرف قيمة خدمات الشيعة للإسلام والقرآن، وغيرتهم على الدين والكتاب.

وقال الشريف المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين في الفصول المهمة في تأليف الأُمة(1): والقرآن الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، إنّما هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة، ولا لحرف بحرف، وكل حرف من حروفه متواتر3.

ص: 67


1- الفصول المهمّة: ص 163.

في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة، وكان مجموعاً على ذلك العهد الأقدس مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وكان جبرئيل عليه السلام يعارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله مراراً عديدة، وهذا كلّه من الأمور المعلومة لدى المحققين من علماء الإمامية، ولا عبرة بالحشوية فإنّهم لا يفقهون.

وقال العالم المتتبع، والرجالي الكبير السيّد محسن الأمين الحسيني العاملي في أعيان الشيعة(1): لا يقول أحد من الإمامية لا قديماً ولا حديثاً إن القرآن مزيد فيه قليل أو كثير فضلاً عن كلّهم، بل كلّهم متفقون على عدم الزيادة، ومن يعتد بقوله من محققيهم متفقون على أنّه لم ينقص منه.

وقال العالم المفسّر الشيخ محمد النهاوندي في مقدمة تفسيره (نفحات الرحمن): قد ثبت أن القرآن كان مجموعاً في زمان النبي صلى الله عليه و آله، وكان شدة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبي صلى الله عليه و آله وفي زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم (إلى آخر كلامه التام).

وممّن صنّف في الإمامية في ردّ شبهة التحريف العالم الرئيس السيّد محمد حسين الشهرستاني، فإنّه صنّف في ذلك كتاباً أسماه (رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف) وقال فيه على ما حكي عنه، بعد رد ما في فصل الخطاب من الشبهات: لا شبهة في أنّ هذا القرآن الموجود بين الدفتين منزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإعجاز للتسالم على نفي زيادة الآية والسورة فيها، والشكّ إنما هو في نزول ما عداه إعجازاً والأصل عدمه.8.

ص: 68


1- أعيان الشيعة: ج 1 ص 108.

وممن أدّى حق الكلام في بطلان القول بالتحريف العالم الجليل والمرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي في تفسيره المسمى ب (البيان) فراجع ما أفاده في ص 136-181 فقد أثبت بما لا مزيد عليه أن مسألة نقصان الكتاب مما لا أصل له، وقال في آخر كلامه:

وقد تبيّن للقارئ مما ذكرناه أنّ حديث تحريف القرآن حديث خيالي لا يقول به إلّامن ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأ إليه حب القول به، والحب يعمي ويصم، أما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه. انتهى كلامه.

ولنعم ما أفاده العلّامة الفقيه، والمرجع الديني السيّد محمدرضا الگلپايگاني بعد التصريح بأنّ ما بين الدفتين هو القرآن المجيد: ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، والمجموع المرتب في عصر الرسالة بأمر الرسول صلى الله عليه و آله بلا تحريف ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقصان.

وإقامة البرهان عليه: أن احتمال التغيير زيادة ونقيصة في القرآن كاحتمال تغيير المرسل به، واحتمال كون القبلة غير الكعبة في غاية السقوط لا يقبله العقل وهو مستقل بامتناعه عادة.

ولو رمنا استقصاء كلمات علمائنا الأعاظم في كل جيل لطال بنا الكلام، ولايسع ذلك كتاب كبير ضخم، ويكفي في ذلك تصريح أستاذنا الإمام راوية أحاديث أهل البيت وحامل علومهم، نابغة العصر ومجدد العلم والمذهب في القرن الرابع عشر، السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (حشره اللّه مع جده النبي الكريم صلى الله عليه و آله) فإنّه أفاد في بعض أبحاثه في الأصول كما كتبنا عنه في

ص: 69

تقريرات بحثه «بطلان القول بالتحريف»، وقداسة القرآن عن وقوع الزيادة فيه، وإن الضرورة قائمة على خلافه، وضعَّف أخبار النقيصة غاية التضعيف سنداً ودلالةً وقال:

إنّ بعض هذه الروايات مشتمل على ما يخالف القطع والضرورة، وما يخالف مصلحة النبوة، وقال في آخر كلامه الشريف:

ثم العجب كل العجب من قوم يزعمون أنّ الأخبار محفوظة في الألسن والكتب في مدة تزيد على ألف وثلاثمائة سنة، وأنّه لو حدث فيها نقص لظهر، ومع ذلك يحتملون تطرق النقيصة في القرآن المجيد.

ص: 70

الواجب على المسلم

اعلم أنّ الواجب على كل مسلم غيور على الدين والقرآن أن يدفع عن الكتاب الكريم هذه الشبهة، وأن يحتاط في نسبة القول بالتحريف أو التشكيك في القرآن إلى أحد من المسلمين، ويعلم أنّه مسؤول عند اللّه تعالى عما يقول ويكتب.

وكان الأولى بالخطيب أن يتمسك بأقوال العلماء ذوي الإختصاص والمهارة من الشيعة والسنة في صيانة القرآن من النقصان والزيادة، لا أن يركض وراء القول بالتحريف، ويسجل ذلك على طائفة كبيرة من المسلمين.

وقد أراد الخطيب بذلك تشويه سمعة التشيع، ولم يعلم أنّه شوّه سمعة الدين، وضرب الكتاب المبين، وخدم أعداء الدين، وفتح السبل أمام شبهات المبشّرين، وقد نسي هذا الكاتب أنّه يهدم بهذه الفرية على الشيعة أساس الإسلام، والشيعة أشد الناس غيرة على كتاب اللّه تعالى، وأدفعهم عن جلالة القرآن وقداسته، ينكرون القول بالزيادة والنقيصة أشد الإنكار، وكتبهم مشحونة

ص: 71

بالدلائل العقلية والنقلية على تنزّه القرآن عن الريب والشبهات.

فاقرأ أيّها الخطيب كتبهم في التفسير والعقائد والحديث، واقرأ فيها الأحاديث المتواترة القطعية الدالّة على أنّ القرآن هو هذا الذي بيد المسلمين، وانظر إلى الأخبار المأثورة على طرقهم في ثواب قراءة القرآن وقراءة سوره وآياته وكلماته، وفي وجوب الرجوع إليه والتمسك به يقرؤون القرآن في صلاتهم، ويتلونه في ليلهم ونهارهم، يعظمونه كمال التعظيم، ليس عندهم كتاب أعظم من القرآن، فارجع إلى كتبهم في الفقه والحديث، والدعاء إن كنت أهلاً للإنصاف.

ولا يسوؤنا واللّه نسبة هذه الفرية إلى الشيعة كما يسوؤنا ما يمس منها كرامة الدين الحنيف والقرآن المجيد.

أيّها الخطيب لو قال لك بعض المبشّرين أو غيرهم: إن من مذهب الشيعة وهم طائفة كبيرة من المسلمين، وقوع التحريف في الكتاب كما تسجّل عليهم، وفيهم من العلماء والمحقّقين، وأساتذة فن التاريخ والحديث، والعلوم الإسلامية رجال لايستهان بشأنهم وجلالتهم، وهم يسندون عقائدهم وعلومهم إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله أعدال الكتاب بدلالة حديث الثقلين، ما تقول في جوابه؟.

أتقول: إنّهم كفار؟.

أو تقول: إنّهم يسبُّون الصحابة؟ أو تقول: إنّهم يقرؤون دعاء صنمي قريش؟ قل ما تقول في جوابه أيها الكاتب الإسلامي؟.

لو تعلم أنّك وأمثالك كم توقعون بالإسلام والمسلمين من الضرر، والضعف والفشل، بهذيانكم وافتراءاتكم على الشيعة، لتركتم هذه المخاصمات

ص: 72

الباردة، والمناقشات التي لا طائل تحتها، ولغسلتم عن كتبكم هذه المهازل والمخاريق.

وكم من فرق بين الخطيب وبين العلّامة الشيخ رحمة اللّه الهندي! فالخطيب يسند إلى الشيعة فرية يتبرأ منها كل شيعي، ولا يلتفت إلى أنّ تلك النسبة إنّما تجعل القرآن معرضاً للشك، و العلّامة الشيخ رحمة اللّه الذي يعد من أكبر علماء أهل السنة ومن أحوطهم على الإسلام أدرك أنّ هذه النسبة هي منتهى أمل المبشّرين وغاية مناهم، وأنّ الواجب على السنّي كالشيعي أن يدفعها عن الشيعة فأثبت في كتابه (إظهار الحق) الذي هو من نفائس كتب المسلمين في الرد على المسيحيين، بل قيل: لم يكتب مثله في ردّ المبشّرين بطلان هذه النسبة، وأدى ما عليه من إظهار الحق وإزهاق الباطل، وإماتة الشبهة، وقد دفع عن حريم القرآن هذه التهمة، حيث قال في الفصل الرابع من الجزء الثاني ص 89:

القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الإثنى عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم، (ثم نقل كلمات جماعة من أعلام الشيعة كالصدوق والسيّد المرتضى والطبرسي والقاضي نور اللّه، والمولى صالح القزويني شارح الكافي، والشيخ محمد الحر العاملي) وقال:

فظهر أن المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الإثنى عشرية أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنّه كان مجموعاً مؤلفاً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وحفظه ونقله ألوف من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود، وأُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن

ص: 73

على النبي عدّة ختمات، ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر رضي اللّه عنه (إلى أن قال:) وقد قال اللّه تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (1)(قال:) في تفسير الصراط المستقيم، الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة: أي إنّا لحافظون من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان (انتهى كلامه).9.

ص: 74


1- الحجر: الآية 9.

فصل الخطاب في فصل الخطاب

قبل إبداء الرأي حول كتاب فصل الخطاب نلفت من يحتج على الشيعة بهذا الكتاب، ويزعم تفردهم بهذا التأليف إلى كتاب اسمه (الفرقان) جمع فيه مؤلّفه وهو من إخواننا أهل السنة من أمثال ما في فصل الخطاب من الأحاديث الضعيفة المروية عن طرق أهل السنة، وإليك نص الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة بالجامعة الأزهرية قال:

وأما إن الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ اللّه، وإنّما هي روايات رويت في كتبهم، كما روي مثلها في كتبنا، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها وبيّنوا بطلانها، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنّه ليس في السنة من يعتقده.

ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب الإتقان للسيوطي(1) ليرى فيه

ص: 75


1- انظر: ص 30 من الجزء الثاني من كتاب الإتقان.

أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحاً، وقد ألّف أحد المصريين في سنة 1948 م كتاباً اسمه (الفرقان) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة، المدخولة المرفوضة، ناقلاً لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنة، وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل والبحث العلمي أوجُه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب، وصادرت الكتاب فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاً، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.

أفيقال: إن أهل السنة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو لكتاب ألّفه فلان؟ فكذلك الشيعة الإمامية إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا، وفي ذلك يقول الإمام العلّامة السعيد أبو الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية في القرن السادس الهجري في كتابه (مجمع البيان لعلوم القرآن)(1) ثم نقل كلام صاحب المجمع الذي سبق ذكره.

وبعد هذا كلّه نقول: لم نر في علماء الإمامية ومشايخهم من يعتني بكتاب فصل الخطاب، ويستند إليه، وليس بينهم من يعظم المحدث النوري لهذا التأليف، ولو لم يصنف هذا الكتاب لكان تقدير العلماء عن جهوده في تأليفه غيره من المآثر الرائعة كالمستدرك وكشف الأستار وغيرهما أزيد من ذلك بكثير، ولنال من التقدير والإكبار أكثر ما حازه من العلماء وأهل الفضل، ودفنه في3.

ص: 76


1- انظر: رسالة الإسلام، العدد الرابع من السنة الحادية عشرة: ص 382 و 383.

المكان المشرّف ليس لأجل تأليفه هذا الكتاب، إنّما المقام مقدس يدفن فيه من ناله التوفيق، وقد دفن فيه من العلماء وغيرهم من ذوي الثروة والسلطة والعوام جمع كثير.

وليست جلالة قدر الرجل في العلم والتتبع والإحاطة بالحديث مما يقبل الإنكار، وإن خطأه بسبب تأليف هذا الكتاب وصيّر هدفاً لسهام التوبيخ والإعتراض، فنبذ كتابه هذا وقوبل بالطعن والإنكار الشديد(1) بل صنف بعضهم في ردّه وفي إثبات عدم التحريف كتباً مفردة، كالعلّامة الشهير السيّد محمد حسين الشهرستاني مؤلف (رسالة حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف)، والعالم المحقّق الشيخ محمود الطهراني حيث ردّه بكتاب (كشف الإرتياب).

ومع ذلك كلّه نقول: من أمعن النظر في كتاب (فصل الخطاب) يرى أن المحدّث النوري لم ينكر ما قام عليه الإجماع واتفاق المسلمين من عدم الزيادة، ولم يقل إنّ القرآن قد زيد فيه، بل قد صرّح في ص 23 بامتناع زيادة السورة أو تبديلها، فقال: هما منتفيان بالإجماع، وليس في الأخبار ما يدلّ على وقوعها، بل فيها ما ينفيه كما يأتي، وقد اعترف المحدّث المذكور بخطائه في تسمية هذا الكتاب كما حكى عنه تلميذه الشهير وخرّيج مدرسته العالم الثقة الثبت الشيخ آقا بزرگ الطهراني مؤلف الذريعة، وأعلام الشيعة، وغيرهما من الكتب القيمة، فقالذ.

ص: 77


1- قال الشيخ الجليل والعلّامة الخبير الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي في مقدّمة تفسيره (آلاءالرحمن) ص 25: وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المُجدّين في التتبّع للشواذ.

في ذيل ص 550 من الجزء الأول من القسم الثاني من كتابه (أعلام الشيعة):

ذكرنا في حرف الفاء من (الذريعة) عند ذكرنا لهذا الكتاب مرام شيخنا النوري في تأليفه فصل الخطاب، وذلك حسبما شافهنا به، وسمعناه من لسانه في أواخر أيامه فإنّه كان يقول: أخطأت في تسمية الكتاب، وكان الأجدر أن يسمى بفصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب، لأنّي أثبتُّ فيه أنّ كتاب الإسلام (القرآن الشريف) الموجود بين الدفتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهي بجميع سوره وآياته وجمله، ولم يطرأ عليه تغيير أو تبديل، ولا زيادة ولا نقصان من لدن جمعه حتى اليوم، وقد وصل إلينا المجموع الأولى بالتواتر القطعي، ولا شك لأحد من الإمامية فيه، فبعد ذا، أمِنَ الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدى كل خبير؟ كما أني أهملت التصريح بمرامي في مواضع متعددة من الكتاب، حتى لا تسدد نحوي سهام العتاب والملامة، بل صرحت غفلة بخلافه، وإنّما اكتفيت بالتلميح إلى مرامي في ص 22.

إذن المهم حصول اليقين بعدم وجود بقية للمجموع بين الدفتين، كما نقلنا هذا العنوان عن الشيخ المفيد في ص 26 (إلى أن قال:) هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأما عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً، بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنية بل يضرب بخصوصياتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإمامية كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهم، ولم يكن العياذ باللّه يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن، وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا (قدس سره) من لم يطلع على مرامه، وقد

ص: 78

كان باعتراف جميع معاصريه رجالي عصره، والوحيد في فنه، ولم يكن جاهلاً بأحوال تلك الأحاديث.

ولمزيد التوضيح ننقل كلاماً آخر من الشيخ المذكور في ذيل ص 311 من الجزء الثالث من الذريعة قال:

إنّ من الضروريات الأولية عند الأُمم كافة أن الكتاب المقدّس في الإسلام وهو المسمى بالقرآن الشريف، وإنه ليس للمسلمين كتاب مقدّس إلهي سواه، وهو هذا الموجود بين الدفتين المنتشر مطبوعه في الآفاق، كما أن من الضروريات الدينية عند المعتنقين للإسلام أن جميع ما يوجد فيما بين هاتين الدفتين من السور والآيات وأجزائها كلّها وحي إلهي نزل به الروح الأمين، من عند رب العالمين، على قلب سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله، وقد بلغ بالتواتر عنه إلى أفراد المسلمين، وإنّه ليس بين هاتين الدفتين شيء غير الوحي الإلهي لا سورة ولا آية، ولا جملة ذات إعجاز، وبذلك صار مقدساً محترماً بجميع أجزائه، وموضوعاً كذلك للأحكام من تحريم مس كتابته بغير طهارة، وتحريم تنجيسه، ووجب إزالة النجاسة عنه، وغيرها من الأحكام الثابتة، (إلى أن قال):

وقد كتبنا في إثبات تنزيه القرآن عما ألصقه الحشوية بكرامته، واعتقدت فيه من التحريف مؤلّفاً سمّيناه (بالنقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف) وأثبتنا فيه أنّ هذا القرآن المجيد الذي هو بأيدينا ليس موضوعاً لأي خلاف يذكر، ولاسيما البحث المشهور المعنون مسامحة بالتحريف... إلخ.

وقال نحواً من هذا الكلام أيضاً في الجزء العاشر من الذريعة: ص 78-79 وقال في جملته:

ص: 79

إنّ كتاب الإسلام المشهور في الآفاق هو الموسوم بالقرآن الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس هو إلّاهذا الموجود بين الدفتين الواصل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه و آله، وأثبتنا أنّه بجميع سوره وآياته وجملاته وحي إلهي (إلى أن قال:) فهو منزّه عن كل ما يشينه من التغيير والتبديل، والتصحيف والتحريف، وغيرها باتفاق جميع المسلمين، وليس لأحد منهم خلاف أو شبهة أو اعتراض فيه، واختلاف القراءات إنّما هو اختلاف في لهجات الطوائف (إلى آخر ما أفاده).

هذا كتاب فصل الخطاب، وهذا قدره عند علماء الشيعة، وهذا كلام مؤلّفه فيه، وهذا ما يقول عنه أكبر تلامذة مؤلّفه، وهذه عقيدة مؤلّفه وتلامذته فيه.

ص: 80

سورة الولاية، وكتاب دبستان مذاهب

قال الخطيب: وممّا استشهد به هذا العالم النجفي على وقوع النقص من القرآن إيراده في الصفحة 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة سورة الولاية، مذكور فيها ولاية علي: يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي الذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم... إلخ، وقد اطلع الثقة المأمون الأستاذ محمد علي سعودي الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد عبده على مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق براين، فنقل منه هذه السورة بالفتوغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية، وكما أثبتها الطبرسي في

ص: 81

كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم (دبستان مذاهب) باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني الكشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة، ونقل عنه هذه السورة المكذوبة على اللّه العلامة المستشرق فولدكن، في كتابه تاريخ المصاحف: ج 2 ص 102، ونشرتها الجريدة الآسيوية الفرنسية سنة 1842، ص 431-439... إلخ.

السور القرآنية كانت مؤلّفة مشهورة في عصر الرسالة بأمر النبي صلى الله عليه و آله، وكان المسلمون يعرفونها بحدودها، وآياتها وتدلّ على ذلك الروايات الكثيرة المتواترة الواردة في فضل السور وثواب قراءتها، وأنّ من قرأ سورة يس أو سورة البقرة فله كذا وكذا من الأجر والثواب، وما ورد في أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قرأ سورة البقرة وسورة آل عمران في صلاة الآيات، وما ورد في نزول بعض السور جملة، وغيرها من الروايات الدالّة على كون سور القرآن مؤلفة معينة بآياتها في عهد الرسول صلى الله عليه و آله، ولا خلاف بين الشيعة في أنّ سور القرآن ليس أكثر من هذه السور المعروفة مائة وأربع عشرة سورة، واتفق فقهاؤهم بعد الإتفاق على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الأوليين على كفاية قراءة أي سورة من سور القرآن في الصلاة عدا سورتي الضحى وألم نشرح، فإنّهما سورة واحدة، وسورة الفيل ولإيلاف قريش، فهما أيضاً واحدة، ولا تجد في أصل من أصولهم

ص: 82

وفي أحاديثهم ورواياتهم سورة أخرى غير هذه السور الموجودة بين الدفتين.

ولا خلاف معتد به بين أهل السنّة أيضاً في ذلك، أي كون القرآن مائة وأربع عشرة سورة، نعم قال بعضهم: بأنها مائة وثلاث عشرة، فعدّ الأنفال والبراءة سورة واحدة، كما قد حكي عن بعضهم موافقتهم مع الشيعة في كون الضحى وألم نشرح سورة واحدة، والفيل ولإيلاف أيضاً سورة واحدة(1) ، ولكن أخرج أهل السنة في كتبهم روايات دلّت على زيادة سور القرآن على ما بين الدفتين كسورتي القنوت (الحفد والخلع) وأن مصحف أُبَيّ كان عدّد سورها مائة وست عشرة، لأنّه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع(2).

وقد قال ابن حجر في شرح البخاري: وقد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك (يعني إنكار كون المعوّذتين من القرآن) فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه لا يكتب المعوّذتين(3).

وقال هبة اللّه بن سلامة (ت 410 ه) في الناسخ والمنسوخ(4) فيما نسخ خطه وحكمه: وأما ما نسخ حكمه وخطه، فمثل ما روي عن أنس بن مالك (رض) أنّه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله سورة تعدلها سورة التوبة، ماي.

ص: 83


1- يراجع الإتقان: ج 1 ص 67.
2- يراجع الإتقان: ج 1 ص 67.
3- الإتقان: ج 1 ص 81.
4- طبع بمصر، بهامش أسباب النزول للواحدي.

أحفظ منه غير آية واحدة: ولو أنّ لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولو أنّ له ثالثاً لابتغى إليها رابعاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللّه على من تاب.

وهذه الأخبار وإن كانت مطروحة لا يجوز الإتّكال عليها، وقامت الضرورة والإجماع من الفريقين على خلافها، ولا يشك من له معرفة بكلام العرب وفنون الأدب أنّ هذه الجمل لا تشبه بلاغة القرآن، مضافاً إلى ما في بعضها من الأغلاط اللفظية أو المعنوية التي أشار إليها المفسّر الشيعي الشهير البلاغي في مقدّمة تفسيره، إلّاأنّ المنصف يعرف منها أنّه لو جاز نسبة القول بوقوع نقص السورة في القرآن إلى الشيعة أو أهل السنة (ولا يجوز ذلك البتة) لكان أهل السنة أولى بها، فإنّهم نقلوا في كتبهم المعتبرة وتفاسيرهم ذلك، وإن سمى بعضهم بعض هذه بمنسوخ التلاوة والحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، فإنّ ذلك لايدفع الإشكال، لأنّ وقوع النسخ محتاج إلى الإثبات، واتفقت كلمة العلماء على عدم جواز نسخ القرآن بخبر الواحد، مضافاً إلى أنّ بعض هذه الأخبار آبٍ عن هذا التأويل، وقد تردّد الأصوليون من السنة في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز مس المُحدِث كتابته واختار بعضهم عدم الجواز.

وأما الشيعة: فلم يقل أحد منهم بنقص سورة من القرآن، ولا بزيادة سورة أو آية أو كلمة عليه، وليس في رواياتهم ما يدلّ على نقص سورة أو زيادتها،

ص: 84

والسورة التي نسب اختلاقها إلى الشيعة، وسمّاها سورة الولاية لا ترى في أصول الشيعة وكتبهم منها عيناً ولا أثراً، ومقام الشيعة وفيهم ألوف من زعماء فن البلاغة والأدب المشهورين أرفع وأجل من أن يلصقوا بكرامة القرآن هذه الجمل التي يظهر فيها أثر الوضع، ويعرف ضعف تأليفها وخروجها عن أسلوب القرآن من كان له أُنس بكلام الفصحاء والبلغاء.

ولا عجب من نسبة محب الدين هذا الإفتراء إلى الشيعة، فإنّه جعل هذا دأبه في كتابه، ولا يضر الشيعة ذلك بعد كون كتبهم ومصنفاتهم في معرض مطالعة العلماء، ولكن العجب منه أنّه قال، ولم يخشى من ظهور كذبه عند الناس كالشمس في رابعة النهار: (ومما استشهد به هذا العالم النجفي على وقوع النقص من القرآن إيراده في ص 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة (سورة الولاية) مذكور فيها ولاية علي (إلى أن قال:) فكما أثبتها الطبرسي في كتابه، فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم (دبستان مذاهب) باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني كشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة.

فانظر ما في كلامه هذا من الكذب الفاحش والإفتراء البيِّن!!!؟

الكذبة الاُولى: ليس في فصل الخطاب لا في ص 180 ولا في غيرها من أول الكتاب إلى آخره، ذكر لهذه السورة المكذوبة على اللّه تعالى، التي يقول الخطيب: إنّ الشيعة تسمّيها سورة الولاية مذكورة فيها ولاية علي (يا أيّها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم... إلخ).

ص: 85

الكذبة الثانية: ما معنى المصحف الإيراني أيّها الخطيب؟ ألا تستحيي من اللّه تعالى؟ ما هذا المصحف الذي لم يعرفه الإيرانيون، ولم يوجد بعدُ عند خاصتهم وعامتهم، ولم يطّلع عليه أحد إلّامحمد علي سعودي المصري عند براين المسيحي.

أيّها العلماء، أيّها المنصفون، أيّها المصلحون ما هذه الإفتراءات، وما عذر الخطيب وناشر كتابه محمد نصيف... من أهالي جدّة الحجاز وأمثالهما عند اللّه تعالى؟ وما يريدون بانتشار هذه الأكاذيب؟ وما يطلبون من شيعة أهل البيت؟ وما عذر من يتغافل من زعماء السنة وعلمائهم وحكوماتهم عما يرد من هذه الأقلام على الإسلام والمسلمين من الضرر والفشل؟.

أليس في إخواننا أهل السنة والجماعة من يرشدهما إلى ما فيه مصلحة نفسهما، ومصلحة أُمتهما، ومصلحة المسلمين؟

أيّها المسلمون! اسألوا من إخوانكم السنة من أهالي إيران ومن ألوف من الذين زاروا إيران ويزورونها في كل شهر ويوم، هل سمعتم في إيران بمصحف غير هذا المصحف المطبوع المشهور في جميع الأقطار؟

أم هل وجدتم عند إيراني كتاباً يعتقد أنّه وحي إلهي يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار غير القرآن، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ويؤمن به جميع المسلمين؟ ولكن «إذا قل دين المرء قلّ حياؤه»، لا يستحيي من الكذب من اعتاده، ولا يخاف من تشويه سمعة الدِّين، وإيراد الطعن على الكتاب المبين، من

ص: 86

لا يعقل ما يقول أو باع دينه بدنياه، واعتنق خدمة أعداء المسلمين.

الإيرانيون أشدّ الناس احتراماً للقرآن المجيد، ولآياته وكلماته وحروفه، أسواقهم ومجالسهم وإذاعاتهم وبيوتهم ومدارسهم وكلياتهم عامرة بقراءته، لهم في كل قرية وبلد مجالس ومدارس لتعليم التجويد، وقراءة القرآن والتفسير، يهتمون بتعلّم القرآن كمال الإهتمام، ويؤدّبون أولادهم على قراءته، لم يسمع أحد منهم لا قديماً ولا حديثاً بهذا المصحف الذي تقول، ولم يطّلع عليه أحد من علمائهم ولا ادّعى رؤيته من كان فيهم من أهل الفحص والتنقيب.

نعم يوجد عندهم وفي مكتباتهم الكبيرة مثل مكتبة (آستان قدس) في المشهد الرضوي وغيرها أقدم النسخ المخطوطة من القرآن وأنفسها، يرجع تاريخ كتابته إلى صدر الإسلام، وتنسب كتابة بعضها إلى سيّدنا الإمام أمير المؤمنين، وبعضها إلى الإمام السبط الحسن المجتبى، وبعضها إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام، لا تجد لهذه النسخ اختلافاً ما، حتى في حرف واحد مع هذه المصاحف المطبوعة إلّافي رسم الخط.

الكذبة الثالثة: وكذبه الآخر قوله بثبوت هذه السورة في دبستان مذاهب مع أنّه ليس لهذه السورة ذكر في هذا الكتاب أيضاً.

ص: 87

«دبستان مذاهب» ليس من كتب الشيعة

الكذبة الرابعة: ومن افتراءاته على الشيعة إسناده كتاب دبستان مذاهب إليهم، وهو كتاب في الملل والنحل، جمع مؤلّفه فيه بين الغث والسمين، والحق والباطل، وفيه حكايات يأبى العقل احتمال صحتها، واستند في نقل أكثر ما فيه إلى النقل عن المجاهيل، ويظهر من أسمائهم أنّهم كانوا من دراويش الهند، ولم يعلم مذهب مؤلّفه ولا اسمه على التحقيق، فقد أخفى مؤلفه اسمه ومذهبه، لا يوجد في أصل الكتاب اسمه ولا اسم مذهبه، كما هو الشأن في غير هذا الكتاب من ذكر اسم المؤلّف ومذهبه. وغرضه من ذلك: أن لا يحمل كلامه على العصبية، واختلف في اسمه، فحكي عن «سرجام ملكم» أن اسم مولّفه محسن الكشميري المتخلّص في شعره بالفاني ويوجد ترجمته في كتاب (صبح گلشن) من غير أن يذكر له هذا التأليف، وحكي عن مؤلف (مآثر الأُمراء) أنّ اسمه كان ذو الفقار، وقيل: إنّه لسياح، عاش في أواسط القرن الحادي عشر، وعن بعض المستشرقين أن في مكتبة بروكسل نسخة منه مذكور فيها أن اسم مؤلّفه كان (محمد فاني).

وفي كشف الظنون: أنّه تأليف مؤبّد شاه المهتدي صنفه لأكبر شاه، وعن مقدمة قزارستان أنّه تأليف مؤبّد أفراسياب، وقيل: إن اسم مؤلّفه كان كيخسرو ابن آذر كيوان، ولم أجد لهذه الأقوال شاهداً قوياً لا في نفس الكتاب ولا في

ص: 88

غيره.

وأما مذهب مؤلّفه: فيلوح من بعض ما ذكر فيه عدم اعتقاده بالنبوآت وبعث الأنبياء، فراجع ما ذكره في بحث الأديان، وما حكى فيه من المباحث الواقعة بين النصارى والمسلمين، وبين أهل السنة والشيعة، وما ذكر فيه من اختلاف الفرق، ويوجد فيه من نقل أعاجيب الأكاذيب ما ليس في غيره، وذكر فيه مذاهب أهل السنة ثم تعرّض لمذهب الشيعة، ويظهر من بعض مواضيعه أنّه كان إلى مذاهب أهل السنة أميل، ونسبه بعض علماء الشيعة المتتبعين إلى الزندقة والإلحاد، واللّه العالم بحقيقة حاله، وهو عليم بما في الصدور، ومع ذلك كلّه كيف يقول الخطيب إنّه كان من الشيعة الإيرانيين، ثم يقول على سبيل الجزم أنّه تأليف محسن الفاني الكشميري.

ومن الأعاجيب التي تضحك الثكلى ما نقل في «دبستان مذاهب» عن الشيعة من إسقاط سورة من القرآن (غير السورة التي نقلها الخطيب كذباً عنه) ولم يستند في ذلك إلى كتاب أو نقل عن مجهول، ونقلها في «فصل الخطاب» فيما نقل عن كتب أهل السنة، وهذه السورة المختلقة مشتملة على الأغلاط اللفظية والمعنوية، وركاكة الأسلوب يعرف من تدبّر فيها أنّها من اختلاقات أعداء الإسلام، ولا يرتاب من له معرفة بكلام العرب أنّها دون كلام سوقتهم فضلاً عن فصحائهم، وفضلاً عن كلام اللّه تعالى، وقد أوضح ذلك غاية الإيضاح العالم الشيعي الجليل الشيخ البلاغي في مقدمة تفسيره فراجع، واقض العجب عن من

ص: 89

يستند إلى هذه الكتب أو ينقل مثل هذه المهزلة في كتابه.

والحاصل: أنّ نسبة القول إلى نقص سورة من القرآن إلى الشيعة كذب محض، لم يقل به أحد من الشيعة، وليس في رواياتهم منها عين ولا أثر، كما أنّ نسبة تأليف كتاب «دبستان مذاهب» إليهم أيضاً كذب محض، لا شاهد له في نفس الكتاب ولا في غيره، ولم يعتمد أحد من الشيعة على هذا الكتاب.

الكذبة الخامسة: في كلامه هنا قوله بطبع «دبستان مذاهب» في إيران طبعات متعددة، وليت شعري من أين قال ذلك؟ وأيّ نسخة من هذا الكتاب طبع في إيران؟ وما اسم المطابع التي طبع فيها طبعات متعددة؟ ولِمَ لم ينقل تاريخ طبعه في إيران وسائر خصوصياته؟ وما فائدة هذه الأكاذيب؟

نعم قد عثرنا بعد فحص كثير في عدّة مكتبات كبيرة على ثلاث نسخ مطبوعة، الأولى: طبعت في بمبئي الهند، سنة 1262 والثانية: في سنة 1267 غير أنّه لم يذكر فيها مكان الطبع، والثالثة: طبعت أيضاً في بمبئي سنة 1277، ظني أنّ النسخة الثانية أيضاً مطبوعة في الهند، ومع هذا كيف يقول إنّه مطبوع في إيران طبعات متعددة؟!.

ص: 90

المستشرقون دعاة الإستعمار(1)

من أعظم البلاء على المسلمين بل عامة الأُمم الشرقية افتتان بعض شبّانهم ومثّقفيهم بمقالات الغربيين، سيما المتّسمين منهم بالمستشرقين، واعتمادهم على ثقافتهم وآرائهم في المسائل الراجعة إلى الشرق وإلى الإسلام، مع أنّ كثيراً منهم لا يريدون بالإستشراق إلّاالوقيعة بالمسلمين، وتتبّع عوراتهم، وتفريق كلمتهم، وبعضهم يروّجون الحضارات التي كانت قبل الإسلام، ويضعفون العلائق الدينية، يريدون بذلك إرجاعهم إلى الجاهلية، وإحياء شعائر الأُمم الكافرة التي قضى عليها الإسلام قضاءً حاسماً، ففي إيران يروّجون أساطير

ص: 91

كورش وداريوش، وعادات المجوس، وأيامهم وأعيادهم، كسَدَة ومهرجان، وفي مصر يبعثون جمعيات للتحقيق في تاريخ الفراعنة وما يوصل مصر الحديثة بالقديمة. وهذا ما يسمّونه (بالفولكلور) أي ترويج الدراسات الشعبية، والفحص عن عادات الشعب وعقائد أبنائه، ومدنيّتهم وآثارهم وقصصهم في الأجيال الماضية، وكشف آثار الأقدمين، فيدعون الأدباء والكُتّاب إلى البحث عن العقائد التي نسيها الزمان، والعادات والبرامج المتروكة، ويشوّقون بعض الشبّان وضعفاء العقول، ويصرفون الدراهم والدنانير والدولارات لتأليف الكتب وطبعها، ويستأجرون أقلام الصحف والمجلات والجرايد لترويج أهدافهم.

وهذا من أضر ألاعيب الإستعمار على المسلمين، لم يقصدوا بذلك إلّا إحياء الحضارات السابقة على الإسلام، وتكثير العصبيات القومية وتفريق الكلمة، ويرى آثار هذه السياسات الغاشمة في مصر والشام، والعراق وإيران، وتركيا وشمال أفريقية، وهند وأندونيسيا، ولبعض المستشرقين قدم راسخ في تحقيق أهداف الإستعمار، وتضعيف علائق الإتحاد الإسلامي، وإنشاء روح القِبَلية، والنخوة الجاهلية التي حاربها الإسلام.

ومن أعظم البلية أنّ بعض من لاخبرة له بالتاريخ، ومصادر التشريع الإسلامي وأهداف الدين القويم يحسب آراء المستشرقين من أصح الآراء، ويستشهد بها مبتهجاً بذلك.

ولبعضهم حول البحوث الإسلامية، وتاريخ رجال الدين وزعماء الشرق كتب ومقالات ربّما لا تجد فيه خلافاً مع ما عليه المسلمون إلّافي نقطة واحدة، ولكنّه لم يقصد بتأليف كتاب ضخم إلّاإبداء الشبهة في هذه النقطة، وإنكار حقيقة

ص: 92

واحدة.

وللأستاذ عبد الوهاب حمودة مقال تحت عنوان (من زلّات المستشرقين)(1) ذكر فيه زلّات المستشرقين المتكررة، وهفواتهم الشائعة وتصيّدهم للروايات الضعيفة، ونقد كتاب العقيدة والشريعة لجولد تسيهر، وكتاب (الإسلام) لجيوم وغيرهما.

وربّما لم يكن لعناية بعض من لا إحاطة له بالمسائل التاريخية والمباحث الإسلامية إلى أقوال المستشرقين إلّاانخداعهم بالأسماء التي يحسبون أنّ لها شأناً كبيراً أمثال: براون، ونولدكن، وهنري لامنس، وإميل درمنغم، فيحسب المسكين أنّ تحت هذه الأسماء حقائق عالية، وآراء ثاقبة، وليس ذلك إلّا لضعف الشرق، واستيلاء الغرب عليه، حتى أنّ بعض أبناء الشرق يعتقد صعوبة المناقشة في آراء المستشرقين ونظرات الغربيين والرد عليهم، لأنّه يحسبهم من رجالات العلم والإطلاع في جميع العلوم، ويظنّ أنّ تقدّمهم في الصناعات والطب والبيطرة مستلزم لتقدمهم في سائر العلوم، وأن يكونوا أخبر بحال الشرق وطباع أبنائه وتاريخ الإسلام، وأصول التشريع، وعقائد الفرق الإسلامية من علماء المسلمين، ولم يعقل أنّ ما حصل للمستشرقين من العلوم الإسلامية والبحوث التاريخية لم يحصل إلّالأجل الغور في علوم المسلمين، ومطالعة كتب علمائهم(2).0.

ص: 93


1- انظر: رسالة الإسلام، العدد الثالث والرابع من السنة العاشرة.
2- لا شك عند جميع المحقّقين من المسلمين وغيرهم أنّ تأخّر المسلمين ليس لضعف الفلسفة والآداب والتاريخ ونقصان قوانينهم، فإنّ الإسلام أحسن كافل لهم في ذلك، ولكنّهم غلبوا، لأنهم تركوا الإشتغال بالعلوم التجربية المادية بتمام فروعها الكيميائية والطبيعية، والميكانيكية التطبيقية والنظرية وغيرها، غلبوا لأنّهم لم يملكوا المصانع وفقدوا من أدوات الحرب ما يضاهون به عدوهم، وما يتحررون به من هذا السجن الإقتصادي، قد قال اللّه تعالى: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة سورة الأنفال: الآية 60.

هذا مضافاً إلى أنّهم لا يريدون باستشراقهم إلّاخدمة أُمتهم وحكوماتهم، وليست آراؤهم العلمية خالية عن النزعات السياسية، ومع ذلك أليس من أبشع ما في كتاب الخطيب استشهاده بنقل ما وجد عند (براين) وحكاية (فولدكن) والجريدة الآسيوية الفرنسية.

أليس هذا لو كان الخطيب صادقاً في نقله شاهداً لما قلنا من أنّ كثيراً من المستشرقين لا يخدمون باستشراقهم إلّاسياسات حكوماتهم؛ ولا يطلبون إلّابقاء سيادة الغرب على الشرق، واستعباد الأُمم الشرقية سيّما الإسلامية منها، بإلقاء الخصومات والخلافات بينهم، وإلّا فأيّ مستشرق بصير عارف بلسان العرب وتاريخ الإسلام، ومقالات الشيعة وكتبهم، لا يعلم اختلاق هذه النسبة على الشيعة، ولا يعلم أنّ هذه الألفاظ لا تمس كرامة القرآن، وليس للشيعة علم واطلاع على هذه السورة المكذوبة على اللّه تعالى. فكأنّ الخطيب لم يقرأ قوله تعالى: إن جائكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(1).6.

ص: 94


1- الحجرات: الآية 6.

الكلام حول أحاديث المسألة

لا نريد أن نعارض الخطيب بالمثل، ولا نحب نقل هذه الأخبار المطروحة السقيمة، سواء أكان من طرق الشيعة أم من طرق أهل السنة، حذراً من أن يتوّهم جاهل لصوق بعض ما في هذه الأخبار بكرامة الكتاب، أو يتمسّك به بعض المستشرقين والمبشّرين عند من ليس له تضلّع في التاريخ والحديث، ولكن ما ذنبنا بعدما يرمي الخطيب وأقرانه الشيعة بهذا البهتانات، ومع ذلك لا نأتي بمتون هذه الروايات، ونشير إلى مواضعها في كتب القوم على سبيل الإختصار، ونبيّن الجواب عنها بحول اللّه تعالى وقوّته؛ فنقول:

إنّ نقل الروايات حول هذا الموضوع لم يكن من مختصات بعض كتب الشيعة كما أسلفنا مراراً، ولا يمنع من التقريب، ولا يجوز الطعن على الشيعة بذلك، فإنّ الروايات عن طرق أهل السنة في هذه المسألة أيضاً كثيرة جداً، وقد ذكرنا بعض ما ورد عن طرقهم ممّا يدلّ على نقص سورة تامة، بل في أحاديثهم ما يدلّ على نقص سورة كسورة البراءة في الطول والشدّة، وبعضها يدلّ على

ص: 95

نقص آية أو أكثر، والتغيير والتبديل، بل وبعضها يدل على وقوع الزيادة، فراجع الإتقان(1) ، ومسند أحمد(2) ، وصحيح البخاري باب رجم الحبلى من الزنا إذا أُحصنت(3) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر(4) ترجمة أُبيّ بن كعب، وكتاب الأحكام للأمدي(5) ، وتفسير الطبري في تفسير آية: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن أُجورهن(6). وراجع تفسير الفخر الرازي أيضاً في ذلك، وراجع صحيح البخاري في باب: والنهار إذا تجلى(7) من كتاب التفسير(8) وفي باب: ما خلق الذكر والأُنثى(9)، وراجع أيضاً مافي كتاب الأحكام في أصول الأحكام(10) من أنّ ابن مسعود أنكر كون المعوّذتين والفاتحة من القرآن، وقد صرّح في الجزء الأول(11) باختلافهم في كون البسملة من القرآن.3.

ص: 96


1- الإتقان: ج 1 ص 67 و 81، و ج 2 ص 25 و 26.
2- مسند أحمد: ج 5 ص 132.
3- صحيح البخاري: ج 4 ص 125 (ط سنة 1304 و 1305).
4- تاريخ دمشق: ج 2 ص 288.
5- كتاب الأحكام للآمدي: ج 1 ص 229.
6- أخرج فيه بالإسناد إلى كل من: أُبيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، أنّهم كانوايقرؤون: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن»، وأرسل الزمخشري أيضاً في الكشّاف هذه القراءة عن ابن عباس إرسال المُسلّمات.
7- الليل: الآية 2.
8- صحيح البخاري: ج 3 (ص 152 ط 1304).
9- الليل: الآية 3.
10- كتاب الأحكام للآمدي: ج 1 ص 230.
11- المصدر السابق: ص 233.

فعلى قول من يقول بعدم كون البسملة من القرآن كأبي حنيفة يلزم زيادة البسملة في مائة وثلاث عشر موضعاً، وراجع أيضاً صحيح مسلم باب «لو كان لابن آدم» من كتاب الزكاة(1) وذكر في فصل الخطاب أكثر من تسعين حديثاً في هذا الباب من كتب العامة.

وروي عن عمر في آية الرجم إنّه قال: لولا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبتها، يعني آية الرجم، فراجع الإتقان.(2) وذكر اليعقوبي المؤرّخ الشيعي أنّ عمر قال هذا حين حضرته الوفاة.

وفي هذه الروايات على ما حقّقه وبيّنه بعض علماء الشيعة من الإضطراب والتدافع، والتناقض في مضامينها، ومعارضتها بغيرها من الأخبار الكثيرة الصحيحة، وركاكة الأسلوب وضعف المعاني، وانحطاط الفقرات، وعدم مشابهتها بآيات القرآن ما لا يكاد يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام وقواعد البلاغة(3).

وأما الروايات المأثورة عن طرق الشيعة فهي إلّاالنزر القليل منها غير مخرّجة في أصولهم المعتبرة كالكتب الأربعة، ومطعون فيها بضعف السند أو الدلالة أو هما معاً، ويمكن حمل أكثرها على التفسير، وبيان بعض المصاديق الظاهرة، وغير ذلك من المحامل الصحيحة التي يقبلها العقل والعرف.ي.

ص: 97


1- صحيح مسلم: ج 1 ص 386.
2- الإتقان: ج 2 ص 26.
3- راجع مقدّمة تفسير آلاء الرحمن، للعلّامة المغفور له الشيخ البلاغي النجفي.

أضف إلى ذلك أنّك لا تجد في أحاديثهم رواية تدلّ على نقص سورة أو زيادتها كما يوجد في روايات أهل السنة، وقد عرفت أقوال أكابر الشيعة وحال هذه الروايات عندهم، وأنّها مضافاً إلى كونها مطروحة متعارضة معارضة بالأخبار المتواترة القطعية.

هذا مختصر الكلام حول الأحاديث، وغرضنا من ذلك هنا أنّ اعتراض الخطيب وبعض من لا خبرة له بالمسائل الإسلامية على الشيعة مع وجود مثلها بل أصرح منها في كتب أهل السنة وصحاحهم ليس في محله، والإعتذار عن ذلك بأنّها من منسوخ التلاوة ومنسوخ الحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، عين الإعتراف بأنّ ما نزل قرآناً كان أكثر من هذا الموجود بين الدفتين، مع أنّ إثبات النسخ بخبر الواحد ممنوع، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر كما حكي عنهم بامتناع نسخ القرآن بالسنة المتواترة، ولو تم لهم هذا الإعتذار فلا اختصاص لهم به لأنّهم والشيعة فيه سواء:

ولكن التحقيق في الجواب إنكار أصل نزول أكثر من هذا الموجود بين الدفتين، كما حققه محققوا الشيعة، وبرهنوا عليه، لا الإعتراف بالنزول ثم التمسّك بنسخ التلاوة، وعلى كل حال فهذه النقول لا تمس كرامة القرآن المجيد، ولا تقاوم الضرورة وإجماع الفريقين والأخبار المتواترة القطعية.

ص: 98

الشيعة تؤيّد كل حكومة إسلامية

قال في ص 14: والحقيقة الخطيرة التي نلفت إليها أنظار حكومتنا الإسلامية أنّ أصل مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية التي تسمى أيضاً بالجعفرية قائم على اعتبار جميع الحكومات من يوم وفاة النبي صلى الله عليه و آله إلى هذه الساعة عدا سنوات حكم علي بن أبي طالب حكومات غير شرعية، ولا يجوز الشيعي أن يدين لها بالولاء والإخلاص من صميم قلبه (إلخ)؟

زاد في الطنبور نغمة أخرى ليزيد الفتنة تأجّجاً، ويثير بها أولياء الحكومات على الشيعة، فقال: إنّ أصل مذهب الشيعة قائم على اعتبار جميع الحكومات غير الشرعية.

والجواب: هل يعتبر أهل السنة والخطيب - إن كان منهم - هذه الحكومات التي تأسّست في بلاد المسلمين كلها شرعية، وهل يعتبر الحكومات التي أسّسها

ص: 99

المستعمرون والحكومات التي لا عناية لها بشعائر الإسلام والحكومات التي قامت بتفكيك الأمورالسياسية ونظام الحكومة عن الإسلام حكومات شرعية، تلك الحكومات التي ألغت أصول الإسلام ومناهجه السياسية والإجتماعية، والنظامية والعمرانية، ومنعت الإسلام عن التدخّل في شؤون الحكومة، وخضعت لأعداء المسلمين واعتنقت نير المذلة، حتى بدّل بعضها التاريخ الهجري الإسلامي بالتاريخ الميلادي المسيحي.

هل يعتبر السنّي حكومة يقول زعيمها (جمال كورسل) على ما في بعض الجرائد(1): (يجب على الإسلام والمسلمين الخروج عن استعمار اللسان العربي في صلواتهم وأذانهم ودعائهم) حكومة شرعية.

وهل يعتقد شرعية حكومة ألغت نظام الإسلام في الميراث والطلاق وغيرهما؟

أمّا نحن معاشر الشيعة فنؤيّد كل حكومة إسلامية تخدم الإسلام وتقوم بحفظ مصالح المسلمين، وتدافع عن شرفهم وكيانهم وحقوقهم، ونرى تضعيفها والخروج عليها من الموبقات العظيمة، والشيعة تراعي مع كل حكومة مصلحة الإسلام، لم يخرج منهم من خرج في الأعصار الماضية على بعض الحكومات لكون أوليائه من أهل السنة، ولم يتركوا نصيحة الخلفاء والأمراء سيما في ما يرجع إلى قوة الإسلام وظهور المسلمين على غيرهم.

وكان الإمام علي في خلافة أبي بكر وعمر ناصحاً لهما يشير عليهما بآرائه).

ص: 100


1- جريدة (آرزو) الإيرانية، العدد الخامس عشر (شهريور ماه سنة 1340 الشمسية).

السديدة في معضلات الأمور، ودخل في الأعمال الحكومية آنذاك جمع من الصحابة من شيعة الإمام كسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وغيرهم، وكان علي في خلافة عثمان أيضاً من أخلص نصحائه وأحوطهم عليه، ولو قبل عثمان نصيحته لكان تاريخ الإسلام غير هذا.

نعم إنّ الشيعة لا يعتبرون الحكومات اليزيدية حكومات شرعية، كما لا تعتبر حكومة الطواغيت الظالمين المستحلّين لآل محمد صلى الله عليه و آله ما حرّم اللّه ورسوله ومبغضيهم وأعدائهم من أهل النفاق حكومة شرعية، لا تعتبر حكومة معاوية التي حاربت أمير المؤمنين علياً عليه السلام الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

إنّ علياً منّي وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي(1).

وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(2).ة.

ص: 101


1- راجع في ذلك أُسد الغابة ج 4 ص 27 و ج 5 ص 94، ومسند أحمد ج 4 ص 437 و ج 5 ص 356، وسنن الترمذي ج 2 ص 297، ومسند الطيالسي ج 3 ص 111 و ص 360، وحلية الأولياء ج 6 ص 294، ومجمع الزوائد ج 9 ص 109 و 119 و 127 و 128، وكنز العمال ج 6 ص 154 و 155 و 159، و 396 و 401، وتاريخ بغداد ج 4 ص 339، والخصائص للنسائي ص 19 و 23 والرياض النضرة ج 2 ص 171 و 203، والإصابة ج 6 ق 1 ص 225، والمستدرك للحاكم ج 3 ص 111 و 134.
2- راجع سنن الترمذي ج 2 ص 298، وابن ماجة ج 1 ص 58 و 56، ومسند أحمد ج 1 ص 84 و 88 و 118 و 119 و 152 و 330 و ج 4 ص 281 و 368 و 370 و 372 و ج 5 ص 307 و 347. و 358 و 361، و 366 و 419، والمستدرك للحاكم ج 2 ص 129، و ج 3 ص 109 و 11 و 116، و 371 و 533، ومجمع الزوائد ج 9 ص 104 و 106 و 107 و 108 و 109. أقول: استقصاء جوامع الحديث والكتب التي جاء فيها هذا الحديث وغيره من أحاديث الولاية صعب جداً، وإن شئت الزيادة فراجع كنز العمال، والرياض النضرة، والإصابة، وفيض القدير، وحلية الأولياء، والمرقاة، والخصائص، والدر المنثور، وتفسير الفخر، وتاريخ بغداد، والصواعق، وأُسد الغابة، ومشكل الآثار، وكنوز الحقائق، والجامع الصغير، وقد أفرد كل من ابن عقدة، والذهبي، وأبي سعيد السنجري، وأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، وابن الحداد الحسكاني وغيرهم لهذا الحديث كتاباً خاصاً به فراجع مقدّمة الكتاب القيّم الموسوم بفتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي، وخطبته ص 14 و 15 و 21 من الطبعة الثانية.

وقال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي(1).

وقال له ولفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: أنا حرب لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم(2).

حكومة شرعية، تلك الحكومة التي أعلنت سب علي على المنابر،ى.

ص: 102


1- يراجع صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (ج 7 ص 120) والبخاري كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي ص 185 ج 2، وفي باب غزوة تبوك ج 3 ص 54، وسنن ابن ماجة ص 155 ج 1، ومسند أحمد ج 1 ص 170 و 173 و 174 و 175 و 177 و 179 و 182 و 184 و 185 و 330، و ج 2 ص 309 و ج 3 ص 338، و ج 6 ص 369 و 438، ومسند الطيالسي ج 1 ص 28 و 29، والحلية، والخصائص، ومشكل الآثار، وتاريخ بغداد، وأُسد الغابة، وسنن الترمذي، والمستدرك، والطبقات، ومجمع الزوائد وكنز العمال، والرياض، وذخائر العقبى، وتاريخ الطبري، وسيرة ابن هشام، وغيرها من كتب السيرة وجوامع الحديث.
2- سنن الترمذي ج 2 ص 319، وابن ماجة ص 14، والمستدرك للحاكم ج 3 ص 149، وأُسد الغابة ج 5 ص 523، ومسند أحمد ج 2 ص 442 وغيرها من المصادر الأخرى.

ودسّت السُّم إلى الحسن عليه السلام سيّد شباب أهل الجنّة(1) ، ولا تؤيّد حكومة يزيد الفاسق المعلن بالمنكرات والكفر، وقاتل الحسين عليه السلام، والمتمثّل بأشعار ابن الزبعري المعروف فرحاً بحمل رأس ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والذي أباح بأمره مسلم ابن عقبة المدينة ثلاثاً فقتل خلقاً من الصحابة ونهبت بأمره المدينة، وافتض في هذه الواقعة التي سوّدت صحائف التاريخ ألف عذراء حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهنَّ، وهو الذي أمر بغزو الكعبة(2).

الشيعة لا تقول بشرعية هذه الحكومة ولا بشرعية حكومة عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف، الذي قال السيوطي في حقه: لو لم يكن من مساوئه إلّاالحجّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى فضلاً عن غيرهم وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلّهم فلا رحمه اللّه ولا عفا عنه(3).

نحن لا نقول بشرعية حكومة الوليد بن يزيد الفاسق الشريب للخمر، والمتهتّك لحرمات اللّه تعالى، الذي أراد الحج ليشرب الخمر فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه، وهو الذي فتح المصحف فخرج: واستفتحوا وخاب كل جبار7.

ص: 103


1- مقاتل الطالبيين ص 73، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 17 (ط المطبعة الميمنية)، مروج الذهب ج 2 ص 303، النصائح الكافية ص 62 و 63.
2- راجع في ذلك كله: تاريخ الخلفاء، وتاريخ اليعقوبي، والطبري، وابن الأثير، وابن كثير، ومروج الذهب، وتذكرة الخواص.
3- تاريخ الخلفاء: ص 147.

عنيد (1) فألقاه ورماه بالسهم، وقال ما قال، وحكي عنه من قبائح الأعمال(2) ما بقي عاره على من يعتبر تلك الحكومات حكومات شرعية إسلامية.

نحن لا نفتي بشرعية حكومة هؤلاء، ولا حكومة أكثر الخلفاء العباسيين، والجبابرة الذين خانوا الإسلام، وأظهروا الفسق، وارتكبوا الفجور، كما لم يعتبر أبو حنيفة حكومة المنصور العباسي حكومة شرعية، وأفتى بجواز الخروج عليها، وكما لم يعتبر الأُمة المصرية حكومة فاروق حكومة شرعية فخلعته عن الحكم.

ولا تؤيّد الشيعة حكومة تعمل لإثارة الفتن بين المسلمين، وتسعى سعيها لتجديد ذكر الأمويين، وخدمة الإستعمار، وتتبّع سبيل هنري لامنس المسيحي المستشرق الخبيث عدو الإسلام والمسلمين.

وعليك أيّها القارئ العزيز بالتأمل في هذا الحديث، فعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لكعب بن عجرة:

أُعيذك باللّه من إمارة السفهاء، قال: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: أمراء سيكونون من بعدي من دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليسوا منّي ولست منهم، ولم يردوا علَيَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منّي وأنا منهم، وأولئك6.

ص: 104


1- إبراهيم: الآية 15.
2- راجع مروج الذهب: ص 149 ج 3، تاريخ الخلفاء: ص 166.

يردون علَيَّ الحوض(1).

وأخرج في أُسد الغابة(2) عن أبي سلامة الأسلمي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، وإنّهم يحدّثونكم فيكذّبونكم، ويعملون فيسيئون، ولا يرضون منكم حتى تحسّنوا قبيحهم، وتصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحق مارضوا به، فإذا تجوروا فقاتلوهم، فمن قتل على ذلك فإنّه منّي وأنا منه، أخرجه الثلاثة.

وفي حديث آخر وصف فيه حال الفقهاء والقرّاء الذين يأتون الأُمراء الظالمين:

إنّ ناساً من أُمّتي سيتفقّهون في الدين، ويقرأون القرآن، ويقولون نأتي الأُمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزل بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلّاالشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا... قال الراوي: كأنّه يعني الخطايا.

ونِعم ما وصف به فيلسوف المعرّة حال الأُمة مع هؤلاء الأُمراء حيث قال:

قلّ المقام فكم أُعاشر أُمةً

والأساس المتين الذي يجب أن تقوم عليه كل حكومة إسلامية لتكون شرعية يجب على الناس تأييدها أن تكون صالحة عادلة، مصدر تحقيق رسالة الإسلام، ومظهر نظامه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، مجتهدة في رفع ألوِية العلم والدين، تضع أزمَّة الأمور في أنظف الأيدي، وتعترف للجميع حقوقهم، وتحترم الحريات التي منحها الإسلام، ويكون رجالها خدّاماً للإسلام، حرّاساً لحقوق المسلمين.

هذا وقد أيّد الشيعة الحكومة الإسلامية، ودافعوا عن حقوق كافة المسلمين، ودعاياتهم على الحكومات المستعمرة في المؤتمرات العالمية وغيرها، فالعالم الإسلامي لاينسى مساعي الشيعة في سبيل استقلال دولة الجزائر المسلمة والپاكستان وأندونيسيا وحمايتهم عن حكومة الجمهورية العربية المصرية في واقعة قتال السويس ولم يكن فرح أبناء الشيعة بهذه الفتوح أقل من فرح إخوانهم أبناء الجماعة إن لم يكن أكثر.7.

ص: 105


1- مصابيح السنّة (طبع محمد علي صبيح): ج 2 ص 70.
2- أُسد الغابة: ج 5 ص 217.

ص: 106

معنى الناصب

نقل الخطيب في ص 15 بواسطة بعض الكتب عن كتاب مسائل الرجال مكاتبة محمد بن علي بن عيسى إلى الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم عليه السلام، ثم فسّر ما فيها من السؤال عن الناصب والجواب عن ذلك، واستخرج من تفسيره تحامل الشيعة على الشيخين، وأنّه يكفي لأن يُعدَّ أي إنسان ناصباً وعدواً لآل البيت إذ قدّمهما واعتقد إمامتهما.

إن ما افترى على الشيعة وملأ به مجموعته، إما أن لا يكون له مصدر وإما أنّ ليس له مصدر سوى كتاب مجهول، أو شخص مجهول، أو متن شاذ، أو ما لا يؤيّد دعواه إلّاإذا فسّره بما يوافق هواه، أو ما فيه كل هذه العلل، ومن جملة ذلك هذه المكاتبة، فمصدرها كتاب مسائل الرجال كتاب مجهول لم نظفر بعد الفحص الكثير على اسم جامعه ومؤلّفه، ومحمد بن علي بن عيسى أيضاً مجهول، ولم يفسّرها الخطيب بما فسّره إلّاليهيج به أهل السنة على الشيعة، ويوقد نار النزاع، ويفرّق بين المسلمين، ويوقظ الفتن الراقدة التي ترجع تمام فائدتها إلى أعداء

ص: 107

الدين، فما تستفيد الأُمة من ذكر هذه الأمور التي أبلاها الدهر، وأنساها الزمان؟ وما فائدة استعراض هذه المباحث إلّاالتفرّق المنهي عنه في الإسلام؟ وما لنا والدخول في هذه المناقشات، وماذا نخسر لو حملناها على المحامل الصحيحة، وما يحمل الخطيب أن يفسّر مثل هذه المكاتبة التي عرفت علتها بهذا التفسير الشائك؟

وما فائدة الإهتمام في تكثير الفوارق بين المسلمين، ولِمَ لم يكتب بعد كاتب مصلح كتاباً في مشتركاتهم الأساسية، وما اتفق عليه كلمة الكل من العقائد الإسلامية التي هي الملاك الفذّ للحكم بالإسلام؟

وما يمنع الخطيب من مراجعة كتب الشيعة المعتمدة عندهم وأحاديثهم الصحيحة، وفتاوى فقهائهم حتى يعرف أنّ الناصب عندهم وفي اصطلاحهم كما صرّح به أكابر علمائهم من ينصب العداوة لأهل البيت، ويسبّهم، ويبغضهم(1).

قال شيخ المحدّثين محمد بن علي بن الحسين الملقّب بالصدوق (ت 381 ه) في (من لا يحضره الفقيه) وهو أحد الجوامع الأربعة التي يدور عليها فقه الشيعة الإمامية في جُلّ أبوابه بل كلها. والجهّال يتوهّمون أنّ كل مخالف ناصب وليس كذلك(2).

وبعد ذلك كله نسير في هذا البحث على نحو عام، بحيث يظهر منه أن مجرّد تخريج خبر في كتاب لا يصحّح الإحتجاج به حتى على مؤلفه فضلاً عن5.

ص: 108


1- راجع كتاب (المعتبر) و (تذكرة الفقهاء) و (المنتهى) وغيرها.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 285.

أهل مذهبه، فتخريج الأحاديث وجمعها وحفظها مطلب، وملاحظة إسنادها ومتونها ودلالة ألفاظها وعامها وخاصها ومطلقها ومقيّدها، والنظر في متابعاتها أو معارضاتها، مطلب آخر.

فنقول: أولاً: لو كان إخراج كل رواية في كتاب من كتب أهل السنة أو الشيعة حجة عليهم وإن لم تكن الرواية معتبرة عندهم حتى عند مخرجيها حسبما ذكروه في كتب الحديث والدراية والرجال لكان حجة الشيعة على أهل السنة أقوى، فيستندون بروايات عن طرقهم في الأصول والفروع وفي صفات اللّه تعالى مما خالف ضرورة العقل والكتاب والسنة ويحتجّون على أهل السنة بعقائد بعض مشايخهم من المتصوّفة وغيرهم مما لا نحب ذكره.

وثانياً: إن الشيعة لا يعملون بالأحاديث إلّابعد الفحص والتنقيب عن حال رواتها ومخرجيها، وبعد حصول الإطمئنان بكون رواة الحديث في جميع الطبقات من الثقات الأثبات، أو حصول الوثوق بصدور الحديث من الأمارات المذكورة في محلها، ولو كان حديثاً معارضاً بحديث آخر يأخذون بما وافق منهما الكتاب والسنة القطعية، ولهم في ذلك أصول تكشف عن كمال تدقيقهم في تمييز الأحاديث الصحاح والحسان من الضعاف، ويعتبرون في حجية الحديث أن يكون معمولاً به بين رؤساء المذهب وقدماء الشيعة المعاصرين لأئمة أهل البيت، أو من قارب عصرهم، فلو كان حديثاً متروكاً لم يعمل به الفقهاء أو لم يعمل به إلّاالشاذ منهم وأعرض عن الفتوى والعمل به المشهور لا يعتمدون عليه، ولا يفتون بظاهره، فلا يحتج على طائفة هذا مسلكهم في العمل بالأحاديث والأخبار بكل حديث خرّجوه في كتب الحديث فضلاً عن غيره.

ص: 109

فلا ينبغي معاتبة الشيعة وغيرهم والحكم عليهم بمحض تخريج خبر في بعض كتبهم قبل الفحص عن حال الكتاب، وقبل النظر في سند الخبر وفي متنه، وأنّه وقع مورد القبول عند علمائهم وحكموا له بالصحاح والإعتبار أم لا.

وثالثاً: الحديث الذي يحمله الراوي مشافهةً قراءةً أو سماعاً أقرب إلى الصحة والإعتبار عند الشيعة من الحديث الذي تحمله بالمكاتبة، لأنّ في كثير من الموارد بواسطة وقوع الإشتباه في تشخيص خط المروي، وعدم حصول الوثوق بذلك، ودخالة اجتهاد الراوي وحدسه في تشخيص الخط يسقط الحديث عن الإعتبار، نعم لو كانت هناك قرائن معتبرة تدل على وقوع المكاتبة وكون الكتاب بخط المروي عنه لاكلام في اعتباره.

ورابعاً: هب أنّ في الشيعة من يتحامل على بعض الصحابة ولا يرى بأساً بحسب اجتهاده، أيكون هذا مانعاً من التقريب والتجاوب؟ أو يوجب خروجه عن الإيمان، أترى أنّ اللّه تعالى يقبل عذر بعض الصحابة في مشاتمات وسباب وقعت بينهم بحضرة النبي صلى الله عليه و آله أو بعد ارتحاله إلى الرفيق الأعلى، وفي محاربات وقعت بينهم، وشهادة بعضهم على بعض بالزنا وشرب الخمر، وقتل النفس والسرقة والكفر(1) ، ولا يقبل عذر من يتحامل على بعضهم اجتهاداً ونزولاً على حكم الأدلة الشرعية، فليس هذا معذوراً مأجوراً، أليس هذا أولى بقبول عذرهه.

ص: 110


1- راجع أسباب النزول للواحدي ص 118، ومسند أحمد ج 2 ص 436، والباب الأول من القسم الرابع من كتاب الشفاء، وراجع ترجمة قدامة بن مظعون في الإستيعاب والإصابة، وطبقات ابن سعد في ترجمة أبي هريرة، وكتب التواريخ في قتل خالد مالك بن نويرة وهما صحابيان ونكاحه زوجة مالك من ليلته.

من الأول؟

قال ابن حزم: من سب أحداً من الصحابة (رضي اللّه عنهم) فإن كان جاهلاً فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمن زنى وسرق، وإن عاند اللّه تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه و آله فهو كافر، وقد قال عمر (رض) بحضرة النبي صلى الله عليه و آله عن حاطب وحاطب مهاجري بدري: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأوّلاً(1). وقال: من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر، ومن تأوّل من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة، ولا تبيّن له الحق فهو معذور مأجور أجراً واحداًُ لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه... إلخ(2).

وقال أيضاً: أمّا الشيعة فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه و آله، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم(3).

ولا ريب أنّ الشيعة لم تقل في الإمامة والمفاضلة ما قالت إلّابالحجج التي عندها من الكتاب والسنة، ولو كانوا بزعم غيرهم مخطئين متأوّلين فهم معذورون مأجورون على كل حال، ويأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء اللّه تعالى في بعض المباحث الآتية، واللّه الهادي إلى الصواب.3.

ص: 111


1- الفصل: ج 3 ص 257 (الطبعة الأولى).
2- الفصل: ج 3 ص 258.
3- الفصل: ج 2 ص 213.

ص: 112

الدعاء الذي نقله عن مفتاح الجنان

وفي ص 15 نقل عن مفتاح الجنان دعاء، ثم فسّره بما يهين بعض الصحابة، وقال: هو يعني كتاب مفتاح الجنان بمنزلة دلائل الخيرات(1) في بلاد العالم الإسلامي... إلخ.

لم أجد هذا الدعاء في أصل من أصول الشيعة، ولم أسمع بواحد من مشايخي، ولا بأحد من الشيعة يقرأ هذا الدعاء، ولم أعثر بعدُ عليه إلّافي كتاب الخطيب، والكتاب الذي ذكره ليس من الكتب المعتمدة، وليس له هذا الشأن والإعتبار والإشتهار، فقد تفحصّت عنه في عدّة من المكتبات فلم أجد فيها وفي فهارسها منه عيناً ولا أثراً.

نعم يوجد عند الشيعة كتاب دعاء أسماه مؤلّفه المحدّث الشيخ عباس

ص: 113


1- كتاب «دلائل الخيرات» رائج بين العامة، وفيه أشياء تخالف السنة على ما نبّه عليه بعضهم في ذيل ص 17 من الخطوط العريضة في الطبعة السادسة، ومع ذلك لم ينكر عليه الخطيب كما أنكر على مفتاح الجنان.

القمي (مفاتيح الجنان) ليس فيه هذا الدعاء، ويوجد فيه طعن شديد على الكتاب الموسوم بمفتاح الجنان، ولعلّه هو الكتاب الذي ذكره الخطيب، وهذا الكتاب لو كان أصله من تأليف بعض الشيعة لا شك في وقوع التصرّف والدسّ فيه، وذكر المحدث القمي أنّ فيه زيادات ليست في كتب الأدعية المعتبرة، قد دسّها فيه الوضاعون، والمحدث المذكور صنّف المفاتيح لتخليص المفتاح عن هذه الزوائد، وما لا مأخذ له في كتب الدعاء.

وعلى كل حال فلم أر لهذا الدعاء فيما بأيدينا من كتب الشيعة رواية، والأدعية التي يداوم الشيعة على قراءتها هي الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام.

ومن أراد أن يرى الشيعة في مرآة أدعيتهم ينبغي له الرجوع إلى الكتب التي صنفها علماؤهم الأجلّاء، كالشيخ الطوسي، والسيّد ابن طاووس، وغيرهما في الدعاء، وقد أفردوا في جوامعهم في الحديث أيضاً كتباً في الدعاء لا ترى لهذا الدعاء فيها اسماً ولا أثراً، وهذه الأدعية مشتملة على المطالب العالية في المعارف والأخلاق الإسلامية، والآداب الإجتماعية بأفصح الألفاظ، وأبلغ العبارات، تهذّب الأخلاق وتصفّي الأرواح، وتكمّل النفوس وتطهّرها عن الأوساخ المادية، وتزيد في الوعي الإسلامي، فاقرأ الدعاء الذي علّمه الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام أبا حمزة الثمالي، والدعاء الذي علّمه سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام كميل بن زياد، ودعاء الحسين عليه السلام في يوم عرفة، وأقرأ الصحيفة السجادية وسائر الأدعية حتى تعرف مبلغ ثروة الشيعة العلمية والروحية في الدعاء، وتعرف أنّ الخطيب وزملاءه ممن يعيب الشيعة بدعاء صنمي قريش الذي عرفت حاله، ويتركون هذه الأدعية لا يريدون إلّاإثارة الضغائن المدفونة بالإفتراء وتتبّع عورات المسلمين.

ص: 114

افتراؤه على الشيعة بالتعصّب للمجوسية

قال في ص 16: وقد بلغ من حنقهم على مطفىء نار المجوسية في إيران، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام سيّدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه سمّوا قاتله أبا لؤلؤة المجوسي (بأبا شجاع الدين) روى علي بن مظاهر من رجالهم، عن أحمد بن إسحاق القمي الأحوص شيخ الشيعة ووافدهم أنّ يوم قتل عمر بن الخطاب هو يوم العيد الأكبر، ويوم المفاخرة، ويوم التبجيل، ويوم الزكاة العظمى، ويوم البركة، ويوم التسلية... إلخ.

الشيعة طائفة كبيرة من المسلمين منتشرون في الممالك الإسلامية وغيرها كسوريا، ولبنان، وإمارات الخليج، والمملكة العربية، والأفغان، وهند وپاكستان، وإيران، والعراق، واليمن وتركيا، وتايلاند، وأندونيسيا، وتانزانيا، وبِرما، وسائر بلاد آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، وأكثر قدمائهم كانوا من

ص: 115

عظماء المهاجرين والأنصار والتابعين، وليس جميعهم إيرانيين حتى يقال عنهم أنّهم سموا أبا لؤلؤة (بأبي شجاع الدين) تعصّباً للمجوسية، وحنقاً على الخليفة.

ومطفىء نار المجوسية في إيران هو مطفىء نار الكفر والشرك وعبادة الأوثان في البلاد العربية، وسائر الممالك الإسلامية، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام هو السبب في دخول جميع المسلمين من الصحابة وغيرهم في الإسلام، وليس هو إلّاالرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه و آله المبعوث إلى كافة الناس، والذي أرسله رحمة للعالمين، وبالهدى ودين الحق، وليظهره على الدين كلّه، وهو أكرم خلق اللّه وأعزهم وأحبهم إلى الشيعة، ومن كان في قلبه حنق عليه مثقال ذرة وأقل من ذلك فهو كافر عندهم خارج عن الإسلام، والقسط الأكبر والسهم الأوفر في نصرة الرسول صلى الله عليه و آله لإطفاء نار الوثنية والمجوسية وسائر أنواع الكفر والشرك لأصحابه المجاهدين الأولين السابقين الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس من المهاجرين والأنصار الذين بذلوا أنفسهم دونه، وجاهدوا في سبيل اللّه وقاتلوا وقتلوا: كأبي دجانة الأنصاري، وسيّد الشهداء حمزة، وجعفر الطيّار، وبطل الإسلام ومجاهده الأكبر، رجل الحق والتضحية، فارس الغزوات وقاتل صناديد الشرك علي بن أبي طالب.

وكل باحث في التاريخ يعلم أن سبب فتوحات المسلمين بعد ارتحال النبي صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى هو إيمان المجاهدين بحقيقة الرسالة، وخلوص عقائدهم، وصدق نياتهم وقوة عزائمهم، وثباتهم وصبرهم عند لقاء العدو، وحبهم للتضحية والشهادة، والجهاد في سبيل اللّه، فهذه الفتوحات فتوحات الدين، فتوحات الإيمان والعقيدة، فتوحات التربية المحمدية، وفتوحات الأُمة

ص: 116

الإسلامية لا تنسب إلى شخص واحد أو قوم واحد، لأنّها ليست كغيرها من فتوحات الجبابرة مثل: إسكندر ونابلئون التي ليس ورائها قصد إلّااستعباد الناس، وبسط السلطة والملك، واغتصاب الأراضي، وليس الغلبة فيها بالسلاح وكثرة العُدّة والعدد، بل كان بقوة الإيمان والثقة باللّه، وإنّ النصر منه، والأرض له يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

وأما دخول أسلاف أهل إيران في الإسلام فإنه لم يكن بالإكراه والإجبار حتى يوجب الحنق على من أدخلهم فيه، بل كان عن كمال الإشتياق والإختيار، فقد فتحت حقيقة دعوة الإسلام وخلوصها عن الشرك وسماحة شرائعه وأحكامه، وجامعية تعاليمه وأكمليته قلوب الإيرانيين إلى الإسلام، وثباتهم على العقيدة الإسلامية، وشدة تمسّكهم بمبادئه إلى اليوم، وخدماتهم للإسلام - كما تأتي الإشارة إليها - سجّلت في التاريخ الإسلامي، والخطيب يفتري عليهم ويرميهم بالتعصّب للمجوس، وينسى حنق المنافقين على علي بن أبي طالب لأنّه قتل آبائهم وأبنائهم وأقاربهم في سبيل اللّه، وحنق الأمويين وغيرهم من مبغضي أهل البيت على الإسلام على الإمام علي، فلم يسند ما ظهر من الفتن الدامية بين المسلمين إلى حنق هؤلاء الذين لم تذب بالإسلام عصبياتهم الجاهلية، وبقيت قلوبهم مملوءة بالحقد والحنق على النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته، وعلى المجاهدين الأبطال الذين جعل اللّه بسيوفهم ومجاهداتهم كلمة الإسلام هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ص: 117

فراجع ما ذكره المسعودي في مروج الذهب(1) في حوادث سنة اثنتي عشرة ومأتين من سبب أمر المأمون بلعن معاوية على المنابر حتى تعرف حنق هؤلاء على الرسول صلى الله عليه و آله وعلى أهل بيته.

وعلى كل حال، فالمؤمنون كلهم إخوة، لافرق بين إيرانيهم وعربيهم، وأبيضهم وأسودهم إلّابالتقوى، قال اللّه تعالى: إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم(2).

وأما ما ذكره من رواية علي بن مظاهر فهي رواية ضعيفة المتن وضعيفة السند، لم نجدها في الجوامع والأصول المعتبرة عند الإمامية، كما لم نجد ترجمة علي بن مظاهر الذي عده الخطيب من رجال الشيعة لا في كتب الرجال ولا في غيرها، ولا يستغرب وجود مثل هذا النقل عن مجهول في بعض المجاميع الكبيرة المبسوطة التي اعتاد مؤلفوها بجمع الأخبار من غير أن يكترثوا لاعتبار إسنادها وتحقيق متونها، وأمثالها في كتب أهل السنة أيضاً، فلا ينبغي مؤاخذة السنّة أو الشيعة بهذه الأخبار، بل يجب الرجوع إلى الماهرين في علم الحديث من علماء الفريقين العارفين.

وما ذكره من أنّ أبا لؤلؤة كان مجوسياً فلم يثبت، بل قيل كما حكي عن الذهبي والطبري إنّه كان نصرانياً حبشياً، وروي أنّه كان مجوسياً، وهو عم أبي الزناد الذي كان عالم أهل السنة في المدينة، وإمامهم في الحساب والفرائض، والفقه والحديث والشعر، وكان عبداً للمغيرة بن شعبة، وهل كان معتنقاً للإسلام3.

ص: 118


1- مروج الذهب: ج 1 ص 361 و 362.
2- الحجرات: الآية 13.

حين ما كان في المدينة المنورة أم لم يكن قد أسلم بعد؟ الظاهر أنّه اعتنق الإسلام، لأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمر بإخراج الكفّار من المدينة المنورة المكرمة، فلو كان كافراً لم يكن مأذوناً من الخليفة في المقام بالمدينة، والدخول في مسجد النبي صلى الله عليه و آله، والوقوف في صف المصلّين(1).

وعلى كل: لو كان فيمن يتولّى حبيبة الرسول فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ويبالغ في ولايتها من سمع بمقالة النظام(2) ، أو قرأ كتاب الإمامة).

ص: 119


1- كان عمر لا يترك أحداً من العجم يدخل المدينة، أو لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة، فكتب إليه المغيرة وهو على الكوفة يذكر له غلاماً عنده جملة صنائع، ويستأذنه أن يدخل المدينة، ويرغّبه في ذلك، ويقول: إنّ عنده أعمالاً كثيرة فيها منافع للناس إنّه حدّاد، نقّاش نجّار، فأذن له في دخول المدينة (راجع: تاريخ الخلفاء، ومروج الذهب). فليسمح لي القاري أن أقول: إنّ هذه القصة ليست بسيطة، فما أراد المغيرة من استئذانه الخليفة أن يدخل غلامه المدينة وترغيبه في ذلك مع علمه بأنّه لا يأذن ذلك لمثله ولا يقبل النفس أن يكون ما ذكره المغيرة الداهية هو السبب لاستئذانه. فإنّ مثل هذا الغلام العارف بهذه الصنائع لم يكن بقليل في ذلك الزمان، أليس هذا شاهداً على أنّ بعث الغلام كان من أفاعيل السياسة وعلى تدخّل المغيرة فيها أمر يحتاج إلى البحث والتنقيب. وذهب بعض الباحثين إلى أنّ وراء قتل عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء كانت مؤامرات يهودية، وأنّ لكعب الأحبار الذي كان من أشد المنحرفين عن أهل البيت وكان من أصدقاء معاوية ومقوية سلطانه يداً في تدبير المؤامرة على قتل عمر، وليس ذلك بعيداً فإنّهم لا يزالون وراء أكثر الفتن التي أصابت المسلمين إلى عصرنا هذا، قاتلهم اللّه أنى يؤفكون.
2- نقل الشهرستاني في الجزء الأول من الملل والنحل (المطبوع بهامش الفصل) ص 73 إنّه قال: إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها، وكان يصيح: إحرقوها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. (انتهى كلامه).

والسياسة لابن قتيبة(1) وغيره، فسمى - بزعم الخطيب - أبا لؤلؤة بأبي شجاع الدين لا يخرجه ذلك من الإيمان، ولا يجوز تفسيقه إذا كان عن اجتهاد، بل لا يجوز تكفير قاتله إن ثبت إسلامه، ولم تقم قرينة على معاندته للحق، وخصومته للإسلام، بل كان ذلك منه تشفّياً لغيظه وغضبه على عمر، لأنّه لم يكثر خراجه، ولم ينتصف له بزعمه من المغيرة.

فالمسلمون لم يكفروا من نقم على عثمان من الصحابة وغيرهم ولم يكفروا قتلته، وفي أهل السنة من لا يكفر عمران بن حطان الناصبي الذي مدح أشقى الآخرين، وشقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم المرادي بأبياته المشهورة الخبيثة، بل أخذوا عنه الحديث، بل اجترأ بعضهم وعدَّ ابن ملجم من الصحابة مع قولهم بأنّ الصحابة كلهم عدول(2).ن.

ص: 120


1- الإمامة والسياسة: ج 1 ص 11-14 (الطبعة الأولى).
2- إذا كان الصحابة كلهم عدولاً فما معنى الحديث الذي أخرجه البخاري ج 3 ص 136 (المطبوع في المطبعة الميمنية) ص 1320، وهو الحديث الثاني من كتاب الفتن بإسناده عن النبي صلى الله عليه و آله: أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إليَّ رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني. فأقول: أي ربّ أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. وفي صحيح مسلم ج 8 ص 157 (ط المطبعة العامرة) ص 1333 بإسناده عن ابن عباس قال: قام فينا رسول اللّه خطيباً بموعظة... (إلى أن قال:) ألا وإنّه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم، فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد، إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم، قال: فيقال لي: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم. وفي حديث معاذ: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وإن شئت زيادة على ذلك فراجع أيضاً صحيح مسلم (باب إثبات الحوض ج 7 ص 65 إلى 71) حتى تعرف كثرة هذه الأحاديث الصحيحة التي رواها خلق من الصحابة، منها ما أخرجه بإسناده عن أنس إنّه صلى الله عليه و آله قال: ليردن علَيَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلَيَّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ أصحابي أصحابي، فيقالن لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فإذا كان الصحابة كلهم عدولاً لايوجد مصداق لهذه الأحاديث والآيات النازلة في المنافقين.

فمن لم يكفر أمثال عمران بن حطان، وحريز بن عثمان الرحبي الذي قال عنه يحيى بن صالح: صلّيت معه سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً (عليه الصلاة والسلام) سبعين مرة(1). وغيرهما من مبغضي علي بن أبي طالب(2) ، ويأخذ منهم، ومن شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد...

الحديث.

ويذكر ابن ملجم في عداد الصحابة، كيف يعاتب الشيعة بزعم أنّ فيهم من يمدح أبا لؤلؤة، ويسميه بأبا شجاع الدين، ويعد ذلك مانعاً من التقريب واتحاد كلمة المسلمين.ة.

ص: 121


1- تهذيب التهذيب: ج 3 ص 140.
2- أخرج في أُسد الغابة: ج 5 ص 101 بإسناده عن يحيى بن عبد الرحمن الأنصاري قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: من أحب علياً محياه ومماته كتب اللّه تعالى له الأمن والإيمان ما طلعت الشمس وما غربت، ومن أبغض علياً محياه ومماته فميتته جاهلية، وحوسب بما أحدث في الإسلام. أخرجه أبوموسى. أقول: الأخبار بهذا المضمون ونحوه كثيرة متواترة.

فأُمّ المؤمنين عائشة سجدت لقتل الإمام علي شكراً، وقالت ما قالت حتى عابها الناس(1) ، وهذا معاوية أظهر السرور بقتل أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام، وسبه وأمر بسبه على رؤوس المنابر، ألم يظهر العثمانيون والمروانيون السرور بقتل الحسين عليه السلام، واتخذوا يوم عاشوراء عيداً، ووضعوا في فضيلته الأحاديث؟

فإذا كان إظهار الفرح بقتل عمر بن الخطاب سبباً للفسق أو الكفر أو العتاب فِلمَ لا تعاتبون ولا تكفرون هؤلاء الذين أظهروا سرورهم بقتل أهل بيت النبي والوصي عليهم السلام واتخذوا يوم قتلهم عيداً.

كانت مآتم بالعراق تعدّهاأُموية بالشام من أعيادها

فإذن ما ذكره الخطيب لا يمنع من التقريب والتجاوب، والتفاهم واتحاد الكلمة، بعد الإتفاق على الأُسس التي قام عليها الإسلام، وعلى المسلمين أن لا يتركوا الإعتصام بحبل اللّه لهذه الآراء التي أحدثتها سياسة الأُمراء الجبّارين، وأن يتمسّكوا بالدعوة المحمدية، وهدى القرآن والسنة، ويأخذوا بقوله تعالى: تلكي.

ص: 122


1- هذا الطبري وابن الأثير وغيرهما من المؤرخين ذكروا: لما انتهى الى عائشة قتل علي (رض) قالت: فألقت عصاها واستقرت بها النوىكما قرّ عيناً بالإياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت: فإن يك نائياً فلقد نعاهغلام ليس في فيه التراب فقالت زينب بنت أبي سلمة: ألعلي تقولين هذا؟ فقالت: إنّي أنسى فإذا نسيت فذكّروني.

أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون (1) .

وأن لا يجدّدوا هذه المناقشات، ولا يخوضوا في هذه المباحث، فإنّه ليس عليهم حساب الأموات، ولا ينبغي أن يكون لهم غرض إلّانشد الحقيقة، فإنّ اللّه عليم بما في صدور العالمين.

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد1.

ص: 123


1- البقرة: الآية 134 والآية 141.

ص: 124

خدمات الفرس للإسلام والمسلمين

يجب على كل مسلم في شرق الأرض وغربها أن يقدّر خدمات الفرس للإسلام وعلومه، وأن يفتخر بهم وبمساعيهم الجميلة في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ومعارفه وآدابه، قوم مدحهم اللّه في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه واللّه الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(1).

أخرج البغوي(2) عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله تلا هذه الآية: وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(3) قالوا: يارسول اللّه، من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناله رجال من الفرس.

ص: 125


1- محمد صلى الله عليه و آله: الآية 38.
2- تفسير البغوي: ج 2 ص 289.
3- محمد صلى الله عليه و آله: الآية 38.

وأخرج أيضاً(1) عن أبي هريرة قال: ذكرت الأعاجم عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لأنا بهم أو ببعضهم أوثق مني بكم أو ببعضكم».

وأخرج أيضاً(2) عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه و آله إذ نزلت سورة الجمعة، فلمّا نزلت هذه: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم(3) قالوا: من هؤلاء يا رسول اللّه؟ قال وفينا سلمان الفارسي، ثم قال: فوضع النبي صلى الله عليه و آله يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء. وأخرج ابن الأثير(4) عن قيس بن سعد: لو كان العلم متعلّقاً بالثريا لناله ناس من فارس.

وأخرج السيوطي في مفحمات الأقران في تفسير مبهمات القرآن (5)(سورة الجمعة) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: إنهم قوم سلمان، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم الأعاجم.

وأخرج البخاري(6) عن أبي هريرة قال: كنّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه و آله فأنزلت عليه سورة الجمعة: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال: قلت: من هم يا رسول اللّه؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل5.

ص: 126


1- البغوي كما في المصدر السابق ص 300.
2- تفسير البغوي: ج 2 ص 285.
3- الجمعة: الآية 3.
4- تاريخ ابن الأثير: ج 4 ص 216.
5- مفحمات القرآن في مبهمات القرآن: ص 46.
6- صحيح البخاري: ج 3 ص 125.

من هؤلاء»، وأخرج مسلم نحوه في كتاب الفضائل، باب فضل سلمان.

وأخرج الحافظ أبو نعيم(1) بإسناده أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه و آله في فضل الإيرانيين وأنّهم المبشّرون بمنال الإيمان والتحقق به وإن كان عند الثريا، ولفظ بعضها: لوكان الدين عند الثريا لذهب رجل أو قال: رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه، وفي بعضها إنّه قال صلى الله عليه و آله: «أعظم الناس نصيباً في الإسلام أهل فارس، لو كان الإسلام في الثريا لتناوله رجال من أهل فارس»، وفي بعضها:

«لو كان الدين معلقاً»، وفي بعضها: لو كان هذا العلم بالثريا لناله قوم من أهل فارس، وفي بعضها: لو كان الخير منوطاً بالثريا لتناوله منكم رجال (إلخ).

قوم نشأ فيهم من رجالات العلم والفقه والحديث والتاريخ، والفلاسفة والمتكلّمين، وأساتذة البلاغة والأدب من يفتخر بهم الملأ الإسلامي، كالبخاري والنسائي، وأبي داود السجستاني، والترمذي وابن ماجة ومسلم من أرباب السنن، والطبري وابن ماكولا الجرفاذقاني (الگپايگاني) والحاكم والنيسابوري، والفخر الرازي والبيضاوي والفيروز آبادي وغيرهم من أعلام السنيين.

وكالصدوق والكليني والشيخ الطوسي، وأمين الإسلام الطبرسي والطبري الشيعي، وابن شهر آشوب، والأردبيلي، والسيّد عليخان الشيرازي وقطب الدين الرازي، والشيخ الرضي مؤلّف كتاب شرح الرضي، والعلّامة المجلسي، والفيلسوف أبي نصر الفارابي، وأبي علي سينا البلخي، والخواجه نصير الدين الطوسي وابن مسكويه، والحكيم الإلهي السيّد الداماد، وصدر المتألهين).

ص: 127


1- حلية الأولياء: ج 1 ص 12 إلى 14 (ط ليدن 1931 م).

الشيرازي والفاضل الآوي، وسالار الديلمي، والشيخ بهاء الدين محمد العاملي، والوحيد البهبهاني، والفاضل النراقي، والشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، وفي هذا العصر ترجمان العلوم الإسلامية أستاذنا السيّد الزعيم آغا حسين الطباطبائي البروجردي المتوفى سنة 1380(1) وغيرهم من أعلام الشيعة.

فحق للإيراني بل لكل مسلم أن يفتخر بأُلوف من أمثال هؤلاء الجهابذة، والنوابغ الذين لا ينسى التاريخ مساعيهم المشكورة في خدمة الإسلام، وجهودهم في الإحتفاظ بشعائر الدين الحنيف، وهذه كتبهم ومدارسهم ومساجدهم تنبي عن قدمهم الراسخة في الغيرة على الإسلام وكتابه وأُمته، وعن خلوص نياتهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد وإن نسب إليهم الخطيب التعصّب للمجوس، فاللّه تعالى يقول: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(2) ، ويقول عز شأنه: ولو نزّلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(3).9.

ص: 128


1- وقد كان أكبر همّه إعلاء كلمة الإسلام، وبسط تعاليمه في العالم، وكان من الزعماءالمصلحين الداعين إلى الإتحاد والإتفاق، والأُخوّة الإسلامية والإعتصام بحبل اللّه تعالى، وله في التقريب خطوات واسعة، وجهوده مشكورة لا تنسى، فرحمه اللّه تعالى وأرضاه.
2- محمد صلى الله عليه و آله: الآية 38.
3- الشعراء: الآية 198-199.

الإيمان بظهور المهدي عليه السلام فكرة إسلامية

مما اتفق عليه المسلمون خلفاً عن سلف، وتواترت فيه الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله: أنّه لابد من إمام يخرج في آخر الزمان من نسل علي وفاطمة يسمى باسم الرسول ويلقّب بالمهدي، ويستولي على الأرض ويملك الشرق والغرب، ويتبعه المسلمون ويهزم جنود الكفر، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، وينزل عيسى من السماء ويصلّي خلفه...

وأخرج جمع من أعلام أهل السنة والجماعة روايات كثيرة في أنّه من عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومن ولد فاطمة، ومن ولد الحسين، وإنّه يملأ الأرض عدلاً، وإنّ له غيبتين إحديهما تطول، وإنّه الخليفة الثاني عشر من الخلفاء الذين أخبر النبي صلى الله عليه و آله بأنّهم يملكون أمر هذه الأُمة، وإنّه لا يزال هذا الدين منيعاً إلى اثنى عشر، وفي شمائله وخلقه وخُلقه، وسيرته بين الناس، وشدّته على العمّال،

ص: 129

وجوده بالمال، ورحمته بالمساكين، وفي اسم صاحب رايته وما كتب فيها، وكيفية المبايعة معه بين الركن والمقام، وما يقع قبل ظهوره من الفتن وذهاب ثلثي الناس بالقتل والموت، وخروج السفياني واليماني والدجال، ووقوع الخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية، وفي علائم ظهوره وأنه ينادي ملك فوق رأسه: (هذا المهدي خليفة اللّه فاتبعوه) وإن شيعته يسيرون إليه من أطراف الأرض، وتطوى لهم طياً حتى يبايعوه، وإنّه يستولي على البلدان، وإنّ الأُمة ينعمون في زمنه نعمة لم ينعموا مثلها. وغيرها من العلائم والأوصاف التي اقتطفناها من روايات أهل السنة، فراجع كتبهم المفردة في ذلك: كأربعين الحافظ أبي نعيم الإصبهاني، والبيان في أخبار صاحب الزمان لأبي عبداللّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 ه)، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان للعلامة المتقي صاحب منتخب كنزالعمال (ت 975 ه)، والعُرف الوردي في أخبار المهدي للسيوطي (ت 911 ه)، والقول المختصر في علامات المهدي المنتظر لابن حجر (ت 974 ه)، وعقد الدرر في أخبار المنتظر للشيخ جمال الدين يوسف الدمشقي من أعلام القرن السابع، والتوضيح في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح للشوكاني (ت 1250 ه).

أضف إلى ذلك روايات أخرجها أكابر المحدّثين منهم في كتبهم وصحاحهم ومسانيدهم كأحمد، وأبي داود، وابن ماجة، والترمذي، ومسلم، والبخاري، والنسائي، والبيهقي، والماوردي، والطبراني، والسمعاني، والروياني، والعبدري وابن عساكر، والدار قطني، وأبي عمرو الداني، وابن حبّان، والبغوي، وابن الأثير، وابن الديبع، والحاكم النيسابوري، والسهيلي، وابن

ص: 130

عبد البر والشبلنجي، والصبّان والشيخ منصور علي ناصف، وغيرهم ممن يطول الكلام بذكر أسمائهم.

وأضف إليها تصريحات جماعة من علمائهم بتواتر الأحاديث الواردة في المهدي عليه السلام(1).

فلا خلاف بين المسلمين في ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وإنّما الخلاف وقع بينهم في أنّه ولد أو سيولد، فالشيعة الإمامية يقولون بولادته، وبوجوده وحياته وغيبته، وإنّه سيظهر بإذن اللّه تعالى، وإنّه الإمام الثاني عشر، وهو ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

ورواياتهم في ذلك تجاوزت حدّ التواتر، معتبرة في غاية الإعتبار، مؤيّدة بعضها ببعض، وكثير منها من الصحاح بل مقطوع الصدور، رواها في جميع الطبقات الأثبات الثقات، من الأجلّاء الذين لا طريق للغمز فيهم، وإن شئت أن تعرف مقدار ذلك فارجع إلى ما ألّفه الحافظ الجليل الثقة أبو عبداللّه النعماني بإسناده العالية، وما ألّفه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الإمام فيا.

ص: 131


1- راجع في ذلك: غاية المأمول ج 5 ص 362 و 381 و 382، والصواعق ص 99 (ط المطبعة الميمنية بمصر)، وحاشية الترمذي ص 46 (ط دهلي) ص 1342، وإسعاف الراغبين ج 2 ص 140 (ط مصر س 1312)، ونور الأبصار ص 155 (ط مصر 1312)، والفتوحات الإسلامية ج 2 ص 200 (ط 1323)، وسبائك الذهب ص 78، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان ص 13، ومقاليد الكنوز المطبوع بذيل مسند أحمد ج 5 ح 3571، والإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، والإشاعة لأشراط الساعة، وإبراز الوهم المكنون، وغيرها.

جميع العلوم الإسلامية، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة تأليف الشيخ المحدّث الكبير محمد بن علي ابن الحسين الصدوق (ت 381 ه) وكتابنا منتخب الأثر، ومئات من الكتب المصنفة في ذلك.

وهذه الروايات مخرّجة في أصول الشيعة وكتبهم المؤلّفة قبل ولادة الإمام الحجة بن الحسن العسكري عليهما السلام، بل قبل ولادة أبيه وجده عليهم السلام.

منها كتاب المشيخة لإمام أهل الحديث الشيخ الثقة الثبت الحسن ابن محبوب السرّاد الذي كتابه هذا في كتب الشيعة أشهر من كتاب المزني ونظرائه، وصنفه قبل ولادة المهدي بأكثر من مائة سنة، وذكر فيه أخبار الغيبة فوافق الخبر المخبر، وحصل كلما تضمنه الخبر بلا اختلاف.

وأما ولادته عليه السلام (فقد ثبت بأوكد ما يثبت به أنساب الجمهور من الناس إذ كان النسب يثبت بقول القابلة، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهنّ بحضور ولادة النساء، وتولّي معونتهن عليه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الإبن منه، وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل، والورع والزهد، والعبادة والفقه، عن الحسن بن علي أنّه اعترف بولادة المهدي عليه السلام، وآذنهم بوجوده، ونص لهم على إمامته من بعده، وبمشاهدة بعضهم له طفلاً، وبعضهم له يافعاً، وشاباً كاملاً)(1).

وهذا الفضل بن شاذان العالم المحدّث المتوفى قبل وفاة الإمام أبي محمدد.

ص: 132


1- الفصول العشرة في الغيبة للمفيد.

الحسن العسكري عليه السلام، روى عنه في كتابه في الغيبة خبر ولادة ابنه المهدي، وكيفيتها وتاريخها، وكانت ولادته عليه السلام بين الشيعة وخواص أبيه من الأُمور المعلومة المعروفة، وقد أمر أبوه عليه السلام أن يعق عنه ثلاث مائة شاة، وعرضه على أصحابه يوم الثالث من ولادته.

والأخبار الصحيحة الواردة بإسناد عالية في ذلك كثيرة متواترة جداً، وقد أحصى بعض العلماء أسماء جماعة ممن فازوا بلقائه في حياة أبيه وبعدها، كما قد نقل عن بعض أهل السنة الإجتماع به عليه السلام، بل أخرج بعض حفّاظهم مثل حافظ زمانه أحمد بن محمد بن هاشم البلاذري الحديث عنه عليه السلام.

نعم كان أبوه وشيعته يسترون ولادته عن أعدائه من بني عباس وغيرهم، وكان السر في ذلك إن بني العباس لما علموا من الأخبار المروية عن النبي والأئمة من أهل البيت عليهم السلام أنّ المهدي هو الثاني عشر من الأئمة، وهو الذي يملأ الأرض عدلاً، ويفتح حصون الضلالة، ويزيل دولة الجبابرة، أرادوا إطفاء نوره بقتله، فلذا عيّنوا العيون والجواسيس للتفتيش عن بيت أبيه، ولكن أبى اللّه إلّاأن يجري في حجته المهدي سُنة نبيه موسى عليهما السلام، وقد ورد في الروايات الكثيرة عن آبائه عليهم السلام خفاء ولادته، ومشابهته في ذلك بموسى عليه السلام، فراجع الباب الثاني والثلاثين من الفصل الثاني من كتابنا منتخب الأثر.

فعلى هذا لم ينبعث الإيمان بظهور المهدي عليه السلام إلّامن الإيمان بنبوة جده محمد صلى الله عليه و آله، وليس في الخصوصيات المذكورة أمر غير مألوف مما لم نجد مثله في هذه الأُمة أو الأُمم السالفة، فلابد لمن يؤمن باللّه وبالنبي الصادق المصدّق بعد العلم بهذه الأخبار الكثيرة الإيمان بظهور المهدي المنتظر صاحب هذا النسب

ص: 133

المعلوم، والسمات والنعوت المشهورة، ولا يجوز مؤاخذة الشيعي بانتظار هذا الظهور، ولا يصح دفع ذلك بمحض الإستبعاد.

فالمسلم الذي يؤمن بحياة عيسى، بل وحياة الدجّال الكافر، وخروجه في آخر الزمان، وبحياة خضر وإدريس، ويروي عن نبيه في أصح كتبه في الحديث(1) إنّه احتمل كون ابن صياد هو الدجّال، ويروي عن تميم الداري ما هو صريح في أنّ الدجّال كان حياً في عصر النبي صلى الله عليه و آله وأنه يخرج في آخر الزمان، ويؤمن بطول عمر نوح ويقرأ في القرآن: فلبث فيهم ألف سنة إلّاخمسين عاماً(2) وقوله تعالى: فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون(3) وأمثال هذه الأمور مما يستغربه بعض الأذهان لقلة الأُنس به، كيف يعيب الشيعة على قولهم ببقاء الإمام المنتظر، وينسبهم إلى الجهل وعدم العقل، ومفاسد هذه الإستبعادات في المسائل الدينية كثيرة، ولو فتح هذا الباب لأمكن إنكار كثير من المسائل الإعتقادية وغيرها مما دلّ عليه صحيح النقل بالإستبعاد، ويلزم من ذلك طرح ظواهر الأخبار والآيات بل وصريحها، ولا أظن بمسلم أن يرضى بذلك وإن كان الخطيب ربّما لا يأبى عن ذلك ويراه نوعاً من الثقافة.

ووافق الإمامية من أعلام أهل السنة في أنّ المهدي هو ابن الحسن4.

ص: 134


1- يراجع صحيح مسلم، القسم الثاني من الجزء الثاني، باب ذكر ابن صيّاد وباب خروج الدجّال، وسنن الترمذي ج 2، وأبي داود، باب خبر ابن صايد من كتاب الملاحم، وابن ماجة ج 2 أبواب الفتن، باب فتنة الدجّال، وخروج عيسى عليه السلام.
2- العنكبوت: 14.
3- الصافّات: 143-144.

العسكري عليهما السلام جمع كثير كصاحب روضة الأحباب، وابن الصباغ مؤلف (الفصول المهمة) وسبط ابن الجوزي مؤلّف (تذكرة الخواص) والشيخ نور الدين عبدالرحمن الجامي الحنفي في كتاب (شواهد النبوة) والحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي مؤلف (البيان في أخبار صاحب الزمان) والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي الفقيه في (شعب الإيمان) فإنّه يظهر منه على ما حكي عنه الميل إلى موافقة الشيعة بل اختيار قولهم، وذلك لأنّه نقل عقيدة الشيعة ولم ينكرها، وكمال الدين محمد بن طلحة الشافعي صاحب (العقد الفريد) صرّح بذلك في كتابه (الدر المنتظم) و (مطالب السؤول) وله في مدحه عليه السلام أبيات، والقاضي فضل بن روزبهان شارح الشمائل للترمذي، ومؤلف (أبطال نهج الباطل) وابن الخشاب والشيخ محيي الدين، والشعراني، والخواجه محمد پارسا، وملك العلماء القاضي شهاب الدين دولت آبادي في (هداية السعداء) والشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان البلخي القندوزي في (ينابيع المودة) والشيخ عامر بن عامر البصري صاحب القصيدة التائية المسمّاة بذات الأنوار وغيرهم من العلماء ممن يطول بذكرهم الكلام.

وقد صرّح بولادته جماعة من علماء أهل السنة الأساتذة في النسب والتاريخ والحديث كابن خلكان في (الوفيات) وابن الأزرق في (تاريخ ميافارقين) على ما حكى عنه ابن خلكان، وابن طولون في (الشذرات الذهبية) وابن الوردي على ما نقل عنه في (نور الأبصار) والسويدي مؤلف (سبائك الذهب) وابن الأثير في (الكامل) وأبي الفدا في (المختصر) وحمداللّه المستوفي في (تاريخ گزيده) والشبراوي الشافعي شيخ الأزهر في عصره في (الإتحاف)

ص: 135

والشبلنجي في (نور الأبصار) بل يظهر منه اعتقاده بإمامته، وأنه المهدي المبشّر بظهوره، وإن شئت أن تقف على أكثر من ذلك فراجع كتابنا (منتخب الأثر) الباب الأول من الفصل الثالث منه.

ومع هذا أليس من عجيب جرأة الخطيب وعناده وتحامله على الشيعة إنكاره في ص 16 و 29 ولادة المهدي عليه السلام لأنّها لم تسجّل بزعمه في سجل مواليد العلويين، وقد خرج هنا عن حدود الأدب وبالغ في الفحش والإفتراء، وأظهر سجيته «وكل إناء بالذي فيه ينضح» ولم يستند فيما ذكره من الأراجيف والأضاليل إلى البرهان، وادّعى أنّ ولادته لم تسجّل في مواليد العلويين، كأنّهم جعلوا سجل مواليدهم عنده، وكان هو النقيب القائم على سجل ولاداتهم، وعلم أنساب أهل البيت مذخور عنده دون غيره من العلويين وشيعتهم ودون أرباب التواريخ وعلماء الأنساب، فمن لم يعرفه الخطيب ليس منهم؟

أيّها الخطيب! ما هذاالسجل الذي سجّل فيه ولادة العلويين في عصرالإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، ومن أين يطلب؟ ومن أخبرك به؟ ومن أطلعك على مواليد جميع العلويين؟ ومن كان النقيب في تلك الأعصار؟ ومن أين تقول إنّ العلويين لا يعرفون ولداً للحسن العسكري عليه السلام، مع أن كثيراً منه من أخلص الناس ولاء له؟ وهل يوجد طريق لإثبات ولادة المولود أوثق من أخبار والده وقابلته، وخواص أهل بيته؟ أيشك عاقل في ولادة من رآه مئات من الناس، والأخيار الأثبات، وظهرت منه الكرامات الكثيرة؟

إذا كان هذا ومثله معرضاً للشك فلا يبقى اعتماد على ما نقله التاريخ من حوادث الأعصار ووقايع الأمصار.

ص: 136

نعم قد خفيت ولادته عن أعدائهم لأنّهم كانوا ساعين في إطفاء نوره والإستيلاء عليه، لما وصل إليهم من الأخبار المبشّرة بظهوره، وأنّه هو الشخص الذي يزيل دولة الجبابرة، فهذا المعتضد الخليفة العباسي يرسل الجواسيس إلى بيت الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام لأخذ ابنه(1).

ومن الأغلاط الفاحشة التي أسندها هذا الرجل (تبعاً لأسلافه) إلى الشيعة هو أنّ الإمام المنتظر مخبوء في سرداب بيت أبيه، وأسند اختراع هذه الفكرة إلى محمد بن الحسن النميري المعروف بين الشيعة بالكفر والزندقة والإلحاد، والملعون في لسان الإمام أبي الحسن علي الهادي عليه السلام، وأعجب من ذلك عدّه النوّاب ووكلاء الإمام باباً للسرداب إلى آخر ما قال من الهذيان والإفتراء.

أقول: هذه كتب الشيعة المؤلفة قبل ولادة المهدي وولادة أبيه وجده عليه السلام إلى هذا الزمان ليس فيها لهذا البهتان أثر في كتاب واحد من أصاغر علماء الشيعة فضلاً عن أكابرهم كالكليني والصدوق والنعماني، والمفيد والشيخ، والسيدين المرتضى والرضي وغيرهم، فراجع كتب الشيعة حتى تقف على مبلغ عصبيةة.

ص: 137


1- ذكرنا في منتخب الأثر أسماء جماعة ممن شاهدوه في حياة أبيه، وأما أسماء الذين شاهدوه من ابتداء زمان غيبته إلى هذا الزمان فليس في وسع الكاتب إحصاؤها وضبطها، وقد صنف في أسمائهم وحكاياتهم كتباً مفردة ككتاب (تذكرة الطالب فيمن رأى الإمام الغائب) و (تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي عليه السلام) و (دار السلام فيمن فاز برؤية الإمام) و (بدائع الكلام فيمن فاز بلقاء الإمام) و (بهجة الأولياء فيمن فاز بلقاء الحجة عليه السلام)، وكذا ذكرنا فيه أخبار ولادته وعلة غيبته، وشباهته في ولادته بموسى على نبينا وآله وعليه السلام، فعليك بالرجوع إليه فإنّا قد استقصينا الكلام حول نواحي وجوده وشخصيته الكريمة.

الخطيب ونظرائه وعنادهم، وتعرف ميزان ثقافتهم وعلمهم بآراء الفرق والمذاهب.

نعم لو قرأ هو وأسلافه كتب الشيعة لوجدوها مشحونة من أحاديث تكذّب هذه النسبة، ولكنهم لم يعتادوا الفحص والتتبّع والتحقيق سيما في الفِرَق والمذاهب فيقولون فيهم ما يشاؤون، ويتبعون ما لا يعلمون وما لهم بذلك من علم إن هم إلّايظنون.

ص: 138

الشيعة والعقيدة بالرجعة

وقع البحث بين الشيعة وغيرهم في مسألة الرجعة منذ عهد قديم، مما يرجع تاريخه إلى المائة الأولى من الهجرة، ولهم فيها مقالات وبحوث واحتجاجات، يجدها المتتبّع في كتب الفريقين، وكان القول بالرجعة رأي العترة الطاهرة، و كان البحث فيها رائجاً بينهم وبين غيرهم، ومستندهم في ذلك آيات من القرآن المجيد، وروايات رووها بإسنادهم الذهبية عن جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها لدى الباحثين في المسائل الإسلامية أنّ المصدر في العقيدة بالرجعة أئمة أهل البيت الذين ثبت وجوب التمسّك بهم بحديث الثقلين وغيره.

فالشيعة تقول بالرجعة على نحو الإجمال لاستلزام إنكارها رد القرآن والروايات المتواترة المخرجة في كتبهم المعتبرة، ولعدم مانع عقلي أو شرعي من القول بها.

ص: 139

واستشهدوا لأصل إمكان الرجعة ووقوعها وعدم استحالتها بوقوعها في الأُمم السالفة، وقد أخبر اللّه تعالى عنه في آيات: منها قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثم أحياهم(1) وقوله تعالى: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مأة عام ثم بعثه(2).

ويمكن الإستشهاد له أيضاً بقوله تعالى: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين(3).

واستدلوا بأنها سيقع في هذه الأُمة لا محالة بقوله تعالى: ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذّب بآياتنا فهم يوزعون(4) فإنّ هذا اليوم ليس يوم القيامة لأنّ فيها يحشر اللّه تعالى جميع الناس، لقوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا(5).

فأخبر اللّه تعالى في الآيتين بأنّ الحشر حشران: حشر عام، وحشر خاص، فاليوم الذي يحشر فيه من كل أُمة فوجاً لابد أن يكون غير يوم القيامة وهو يوم الرجعة، واعتمدوا أيضاً فيها على روايات كثيرة، منها الخبر المعروف بين الفريقين: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا7.

ص: 140


1- البقرة: الآية 242
2- البقرة: الآية 259.
3- الأنبياء: الآية 84.
4- النمل: الآية 83.
5- الكهف: الآية 47.

جحر ضب تبعتموهم(1).

فيجب أن يكون من هذه الأُمة قوم يرجعون إلى الدنيا بعد موتهم كما وقع ذلك في الملأ الذين خرجوا من ديارهم وفي غيرهم.

فلا وجه لأن يستبعد الرجعة من يؤمن باللّه تعالى وبقدرته، بعد دلالة العقل والنقل على إمكانها، وبعد وقوعها في الأُمم السابقة وإخبار النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته بوقوعها في هذه الأُمة، ولا قيمة للإستبعاد في إنكارها، وإلّا لجاز أن يرد به كثير من معجزات الأنبياء، وإحياء الموتى يوم القيامة، وعذاب القبر، وغيرها من المطالب الثابتة بالنقل.

وأما ما ذكر الخطيب في ص 16 و 17 وغيرهما حول تفاصيل الرجعة وكيفيتها فليس أكثره مما دلت عليه آية، أو وردت فيه رواية معتمدة صحيحة، بل لا يلزم الإعتقاد ببعض هذه التفاصيل، وإن وردت فيه رواية، لعدم حجية أخبار الآحاد في المسائل الإعتقادية.

هذا مضافاً إلى ضعف كثير من هذه الأخبار الدالّة على التفاصيل؛ إما من جهة الدلالة أو من جهة السند، ومع هذا كيف أسند هذا المفتري على الشيعة ما ذكره في ص 20 من الإعتقاد برجعة الشيخين وصلبهما على شجرة في زمان المهدي عليه السلام، وأعجب من ذلك إسناده هذه العقيدة إلى السيّد الشريف المرتضى الذي اشتهر عنه عدم جواز الإحتجاج بأخبار الآحاد في الفروع الفقهية، فضلاً عن مثل هذه المسألة، وهذا كتاب مسائل الناصرية موجود عندها، لم نجد فيه2.

ص: 141


1- مصابح السنّة: ج 2، ص 182.

بحثاً عن الرجعة.

ومما ينبغي التنبيه عليه: أنّ القول بالرجعة ليس مورد اتفاق جميع الشيعة(1) وليس التشيّع منوطاً به، ولا من لم يتحصّله خارجاً عنه، ولم يؤمن بها من آمن بها إلّاتسليماً بما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله، وتصديقاً لما أنبأ عن المغيبات، ولكن القوم ينكرون ذلك على الشيعة ويؤاخذونهم به كأنّهم عبدوا حجراً أو صنماً.

فعلى ما ذكر ليس في العقيدة بالرجعة سيما على وجه الإجمال ما يمنع من التفاهم والتقريب، ولا منافاة بين هذه العقيدة وبين جميع ما يجب أن يلتزم به المسلم من أركان الدين وما بني عليه الإسلام.).

ص: 142


1- سئل الشريف المرتضى في المسائل التي وردت عليه من الري عن حقيقة الرجعة فأجاب: بأنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية أنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي عليه السلام قوماً ممن كان تقدم موته من شيعته وقوماً من أعدائه، وأنّ قوماً من الشيعة تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات. (أعيان الشيعة ص 173 و 174 ج 1).

من سوء أدب الخطيب بنسبة التزوير إلى السيدين

نسب الخطيب في ص 20 إلى الشريف المرتضى وأخيه الشريف الرضي الإشتراك في تزوير الزيادات على نهج البلاغة. فقال فيما ذكر أخيراً في الرجعة السيّد المرتضى مؤلف كتاب أمالي المرتضى وهو أخو الشريف الرضي الشاعر، وشريكه في تزوير الزيادات على نهج البلاغة، ولعلّها أكثر من ثلث تلك الكتاب، وهي التي فيها تعريض للصحابة وتحامل عليهم إلخ.

إذا وصف الطائي بالبخل مادر

من هو أنّ الدنيا أنّ من ملأ كتاباً بأبشع الأكاذيب، وخان الإسلام بقلمه وتزويراته، ينسب إلى التزوير من بلغ في الصدق والأمانة والتثبّت درجة قلّما يوجد نظيره في العلماء الأثبات الثقات، وإنّي أرى أنّ الإعراض والصفح الجميل عن سوء أدبه بالسيّدين أولى، فإن تحامل مثله عليهما لا يمس ما هما عليه من الجلالة وقداسة النفس والشخصية والعبقرية وعلوّ المقام، فهما المثلان البارزان في العلم والأدب والبلاغة، وإباء النفس وعلو الطبع، والتقوى وكرائم الأخلاق ومحامد الأوصاف.

وقد شهد بعظمة قدرهما ونبوغهما في العلم والأدب والورع والدين عظماء الفريقين، وترجمهما علماء التاريخ والرجال، ومؤلّفو المعاجم، وأثنوا عليهما بكل الثناء.

وهذه عشرات من تصانيفهما تنبئ عن شموخ مقامهما، وخدماتهما للعلوم الإسلامية والأدب العربي، فجدير بكل مسلم في شرق الأرض وغربها أن يعتز بهما.

وقد تخرّج من مدرستهما جماعة من العلماء الفطاحل الأفذاذ، وشُدّت إليهما الرحال، ووفد إليهما الناس من كل الأصقاع ليس فيهما وضع غمز، ومكان عيب.

والحق أنّهما معجزتان من معجزات الإسلام، ومفخرتان لأهل بيت سيّد الأنام، وآيتان ظاهرتان من آيات اللّه البيّنات، وشأن من هذا مكانته في الجلالة والتقوى أعلى وأنبل من التزوير والكذب، ولو كان مثل السيّدين معرضاً لتهمة الكذب والتزوير لما بقي في العلماء ونقلة الأحاديث من يعتمد على أقواله

ص: 143

ص: 144

ورواياته.

ولو كان جميع ما في نهج البلاغة مما يوافق هوى الخطيب لكان الشريف الرضي عنده من أوثق الرواة، وكان كتابه عنده في المرتبة العليا من الإعتبار.

ص: 145

ص: 146

نهج البلاغة

إليك ما قاله الاُستاذ الشيخ محمدحسن نائل الرصفي في مقدّمة كتابه شرح نهج البلاغة:

أما كتاب نهج البلاغة فهو الكتاب الذي أقامه اللّه حجة واضحة على أنّ علياً (رضي اللّه عنه) قد كان أحسن مثال حي لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته، اجتمع لعلي في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، خاض علي في هذا الكتاب لُجّة العلم والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرزاً، ولئن سألت عن مكان كتابه من العلم فليس في وسع الكاتب المسترسل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق أن يبلغ الغاية من وصفه، والنهاية من تقريظه، وحسبنا أن نقول إنّه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة، والمنزل الفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها

ص: 147

منزلاً تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت به المنازل في كل لغة(1).

وهو كتاب تتجلّى فيه روح شريفة، يكسب القارئ في هذا الكتاب منها العصبية للحق، والشدة في الدين، والقصد في الحكمة والسياسة، وعندنا أن الذين يسمون إلى الإصلاح في هذا البلاد يجب عليهم أن يتخذوا هذا الكتاب إماماً في إصلاحهم من جهاته اللغوية، والعلمية والدينية، وأن الناشئين لو تأثّروا هذا الكتاب في العبارة وصدق النظر، لبلغوا من قوتي العقل واللسان تلك المنزلة التي نتمنّى لهم، ونودّ أن لو يصلون إليها في وقت قريب(2).

والذي لا يعتريه الشك هو كون الجامع لهذا الكتاب الشريف الرضي، قد ثبت ذلك بالتواتر القطعي، وصرح به في غيره من تصانيفه(3) وفي الجزء الخامس من تفسيره،(4) ونسخة كتبت في عصر الشريف الرضي وشحت بخطه الشريف موجودة مشهورة، لم يشترك معه أحد في جمعه لا الشريف المرتضى ولا غيره، وهذا غني عن البيان.

ولا شك أيضاً في أنّ الشريف الرضي اختار ما فيه من الخطب والكلمات المأثورة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الكتب المعروفة، والأُصول المعتمدة المعتبرة، وكانت هذه الخطب والكتب والكلمات وحتى الخطبة الشقشقية أيضاً7.

ص: 148


1- من مقدّمة شارح نهج البلاغة الأستاذ الشيخ محمد حسن نائل المرصفي، مدرّس البيان بكلية الفرير الكبرى (طبع مصر سنة 1328): ص 4.
2- شرح نهج البلاغة للشيخ محمد حسن نائل المرصفي المذكور.
3- المصدر السابق: ص 41 و 161 و 223 و 252.
4- المصدر السابق: ص 167.

من خطب أمير المؤمنين عليه السلام المعروفة بين العلماء والمؤلفين، أثبتوها في الكتب قبل ولادة الرضي والمرتضى وولادة أبيهما، وقد سبق الرضي (في جمع خطب أمير المؤمنين) أبو سليمان زيد الجهني، فألّف في عصر أمير المؤمنين كتاب (الخطب) جمع فيما أملاه أمير المؤمنين عليه السلام كما قد شرح خطب أمير المؤمنين (قبل تأليف نهج البلاغة) جماعة كأبي الحسين أحمد بن يحيى الراوندي المتوفى سنة 245 ه، والقاضي أبي حنيفة نعمان المغربي المتوفى سنة 363 ه.

وكيف يقبل العقل أن يزوِّر مثل الشريف على مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب اطّلع عليه السنّي والشيعي في عصره، سيما في مدينة بغداد الحافلة بجماهير من العلماء، من غير أن ينكر ذلك أحد عليه أو يرده، مع وجود الدواعي الشديدة لهم في تكذيبه، وإظهار تزويره، فاحتمال ذلك حتى بالنسبة إلى كلمة من هذا الكتاب مقطوع العدم، وإن شك الخطيب فيها، فمثل العلّامة الشيخ محمد عبده يصرّح بأنّ جميع ألفاظ كتاب نهج البلاغة صادر عن الإمام علي عليه السلام، ويجعل ما فيه حجة على معاجم اللغة، فراجع ما كتبه الأستاذ محمد محيي الدين المدرّس في كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر مقدّمة على نهج البلاغة وشرحه، وراجع أيضاً مقدّمة شرح الشيخ محمد عبده، وشرح ابن أبي الحديد، وغيرها من الشروح، وكتاب (ما هو نهج البلاغة) و (الذريعة: ج 14 ص 111-161) وكتاب مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه حتى تعرف مبلغاً من مكانة هذا الكتاب وقوة اعتباره.

ص: 149

ص: 150

بيعة الرضوان

نقل الخطيب في ص 21 عن بعض الشيعة أنّه نفى نعمة الإيمان عن أبي بكر وعمر، لأنه قال في كتابه: وإن قالوا إنّ أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الذين نص على الرضا عنهم في القرآن في قوله في هذه السورة (يعني الفتح):

لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة (1) قلنا: إنّه لو قال: لقد رضي اللّه عنه الذين يبايعونك تحت الشجرة أو عن الذين بايعوك لكان في الآية دلالة على الرضا عن كل من بايع، ولكن لما قال: لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك فلا دلالة فيها إلّاعلى الرضا عمن محض الإيمان.

ص: 151


1- الفتح: الآية 18.

(ثم قال الخطيب): ومعنى ذلك أنّ أبابكر وعمر لم يمحضا الإيمان فلا يشملهما رضا اللّه.

نحن نسوق الكلام أولاً: فيما يستفاد من الآية، وثانياً: في أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة إذا كان النافي مجتهداً متأوّلاً، هل يوجب الكفر أو الفسق عند أهل السنة أم لا؟ ونبحث في كلتا الجهتين من ناحيتهما العلمية.

أمّا الكلام في الآية الكريمة: فلا شك في دلالتها على فضل بيعة الرضوان وفضل المؤمنين الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه و آله تحت الشجرة، ولكن لا دلالة لها على الرضا عن كل من بايعه حتى المنافقين الذين لا دافع لاحتمال دخول بعضهم في المبايعين.

فالحكم بالرضا عن شخص معيّن إنّما يصح إذا كان إيمانه محققاً معلوماً، فلا يشمل من ليس مؤمناً وإن كان من المبايعين، كما لا تشمل الآية المؤمن الذي لم يكن حاضراً تحت الشجرة فلم يبايع هناك، كما لا يجوز التمسّك بالآية لإثبات إيمان بعض معيّن من المبايعين لو صار معرضاً للشك، كائناً من كان، فإنّه هو التمسّك بعموم العام في الشبهة المصداقية الذي برهن في الأصول على عدم صحته، نعم لو قال لقد رضي اللّه عن الذين بايعوك تشمل كل من بايعه كائناً من كان وإن شك في إيمانه، ولكن لا يجوز التمسّك به فيمن شككنا في أصل بيعته، كما لا يثبت إيمان من شككنا في إيمانه بقوله: لقد رضي اللّه عن المؤمنين(1) وهذا كلام متين في غاية المتانة، ولذا سكت الخطيب عن جوابه.8.

ص: 152


1- الفتح: الآية 18.

وأيضاً هذه الآية لاتدلّ على حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين، وإن فسق بعضهم أو نافق، لأنها لا تدلّ على أزيد من أن اللّه تعالى رضي عنهم ببيعتهم هذه، أي قبل عنهم هذه البيعة ويثيبهم عليها، وهذا مشروط بعدم إحداث المانع من قبلهم. والحاصل أن اتصاف الشخص بكونه مرضياً لا يكون إلا بواسطة عمله المرضي، والعامل لا يتصف بنفسه بهذه الصفة، فهذه صفة تعرض الشخص بواسطة عمله، فإذا صدر عنه الفعل الحسن والعمل المرضي يوصف العامل بهذه الصفة أيضاً، ولا دلالة للآية على أنّ من رضي اللّه عنه بواسطة عمله يكون مرضياً طول عمره، وإن صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك، ورضا اللّه تعالى عن أهل بيعة الحديبية ليس مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد، والدليل على ذلك قوله تعالى في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة وتعظيمها:

إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً (1) .

فلو لم يجز أن يكون في المبايعين من ينكث بيعته وكان رضا اللّه عنهم مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد لافائدة لقوله تعالى: فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه.

وأيضاً قد دلّت آيات من القرآن وأحاديث صحيحة على وقوع غضب اللّه تعالى وسخطه على من يرتكب بعض المعاصي، ومع ذلك لم يقل أحد بأنّ هذا مانع من حسن إيمانه في المسقبل، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الأنفال:0.

ص: 153


1- الفتح: الآية 10.

ومن يولهم يومئذٍ دبره إلّامتحرفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة فقد باء بغضبٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير (1) .

فإذا لم يكن بوء شخص أو قوم إلى غضب اللّه مانعاً من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضاً سبباً لعدم صدور فسق أو كفر من العبد بعد ذلك.

والقول بدلالة الآية على حسن حال المبايعين مطلقاً، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال المذكورة، فيمن ولّى دبره عن الجهاد من المبايعين، لأنّها أيضاً تدلّ بإطلاقها على سوء حال من يولي دبره، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك.

هذا وقد أخرج مالك في الموطأ في باب الشهداء في سبيل اللّه، من كتاب الجهاد(2) عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد اللّه: أنّه بلغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لشهداء أُحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر الصدّيق: يا رسول اللّه، ألسنا بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول اللّه: بلى ولا أدري ما يحدثون بعدي، قال: فبكى أبو بكر ثم بكى، ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟

وهذا الحديث صريح بأنّ حسن خاتمة مثل أبي بكر من الصحابة المبايعين المهاجرين موقوف على ما يحدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله.).

ص: 154


1- الانفال: الآية 16.
2- الموطّأ لمالك: ص 173 و 174 (ط مطبعة الفاروقي).

هذا مختصر الكلام حول مدلول الآية الكريمة، وعليه ليس المستفاد منها أنّ أبا بكر وعمر لم يمحضا الإيمان، نعم لايثبت بها إيمان واحد معيّن من المبايعين على نحو التفصيل، فلا يصح التمسّك بها في إثبات إيمان صحابي خاص وعدم نفاقه، أو حسن حاله إذا شك فيه، وإن كان الخطيب يرى دلالتها على أكثر من هذا، فليبين لنا حتى ننظر فيه.

ص: 155

ص: 156

حكم من نفى الإيمان عن بعض الصحابة أو سبب بعضهم عند أهل السنّة

لا حاجة إلى الإشارة إلى ماورد في ذم سب المؤمن، فإنّ هذا معلوم بالضرورة من الدين، وإنكار أصل حرمته موجب للكفر، ولا شك في أنّ المناقشات الحادثة بين المسلمين مناقشات صغروية، مثل عدالة شخص أو إيمانه، أو فسقه أو نفاقه، فالنزاع في هذه الأمور وأشباهها يرجع إلى إثباتها بالأدلّة الشرعية وعدمه، ويذهب كل من اختار أحد الطرفين إلى ما تقتضيه الأدلّة باجتهاده، ولو علموا جميعاً ثبوت شيء في الدين أو عدم ثبوته لم يختلفوا فيه، وقلما يوجد من حملته العصبية واللجاج على إنكار الحق فلا ريب في أنّ أكثر المسلمين من الطائفة الأولى لاينكرون ما ثبت عندهم بالأدلّة الشرعية.

فمن أنكر من المسلمين أمراً يراه غيره من الدين لعدم ثبوته عنده أو ثبوت خلافه ليس كافراً ولا فاسقاً، وإذا كان الحال هذا لا اعتراض على من قال الخطيب في ص 21: إنّ معنى كلامه إن أبابكر وعمر لم يمحضا الإيمان فلا

ص: 157

يشملهما رضا اللّه، ولا يحكم بكفره وفسقه إذا كان ذلك منه عن اجتهاد وتأوّل، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديث أخرجه البخاري ما نصّه(1): إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.

وهذا ابن حزم يقول(2): وذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفّر ولا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك، فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال، وإن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجرٌ واحد.

(قال:) وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة، والشافعي وسفيان الثوري، وداود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً.

وقال الفاضل النبهاني في أوائل كتاب (شواهد الحق) على ما حكي عنه:

اعلم أنّي لا أعتقد ولا أقول بتكفير أحد من أهل القبلة لا الوهابية ولا غيرهم، وكلّهم مسلمون تجمعهم مع سائر المسلمين كلمة التوحيد والإيمان بسيّدنا محمد صلى الله عليه و آله، وما جاء من دين الإسلام.

وبالغ في ذلك الشيخ أبو طاهر القزويني (على ما حكي عنه) في كتابه (سراج العقول) فقال بإثبات الإسلام لكل فرد من أهل القبلة، وجزم بنجاة الجميع من كل فرق الإسلام، وحكي عن شيخ السادة الحنفية ابن عابدين في7.

ص: 158


1- في باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ: ج 4 ص 165 (ط مصر سنة 1320).
2- المصدر السابق: ج 3، ص 247.

باب المرتد من كتاب الجهاد ص 302: أنّه حكم قاطعاً بإسلام من يتأوّل في سب الصحابة، مصرّحاً بأنّ القول بتكفير المتأوّلين في ذلك مخالف لإجماع الفقهاء.

وقد أسلفنا في بعض المباحث السابقة مقالة ابن حزم فيمن سب أحداً من الصحابة، وما قال في تكفير عمر بحضرة النبي صلى الله عليه و آله حاطباً، وهو صحابي مهاجري بدري. ولا يخفى أنّه لو كان في من ينتحل دين الإسلام مَن سبَّ بعض الصحابة أو غيرهم من المسلمين عناداً للّه ورسوله فلا شك في كفره، وأما إذا كان الساب جاهلاً، أو أوردته الشبهة ذلك المورد، يكون على ما صرّح به ابن حزم معذوراً.

وعن الأوزاعي إنّه قال: لئن نشرت لا أقول بتكفير أحد من أهل الشهادتين. وعن صاحب الإختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً لكن يضلل.

وعن صاحب فتح القدير: إنّه قطع بعدم كفر من يكفّر الصحابة ويسبّهم، وذكر أنّ ما وقع في كلام أهل المذهب في تكفيرهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون إنّما هو من كلام غيرهم.

وصرّح ابن حجر(1): بأنّ مذهبه فيمن لعن أنّه لا يكفّر بذلك.

ولو سردنا الكلام في نقل فتاوى أعلام أهل السنة في ذلك خرجنا عن طريق الإيجاز، ومقتضى كلام غير واحد من هؤلاء أن الساب لا يكفّر، وإن كان متعمّداً في ذلك، عالماً بحرمته، مثل أن يسبّه لمناقشة وقعت بينهما.1.

ص: 159


1- فتح القدير: ص 251.

وأضف إلى جميع ذلك كلّه النصوص الكثيرة المخرّجة في الصحاح الستة الحاكمة على أهل الأركان الخمسة بالإسلام ودخول الجنة، وإذا كان الخوارج الذين استحلّوا دماءالمسلمين، وكفّروا الصحابة، وحاربوا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ونص النبي صلى الله عليه و آله على أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، وأنّهم شر الخلق والخليقة، وطوبى لمن قتلهم وقتلوه، عند أهل السنة من المسلمين والمعذورين في مذهبهم، فغيرهم ممن تمسّكوا بالثقلين وتمذهبوا بمذاهب أهل البيت أعدال الكتاب، واقتفوا أثرهم واهتدوا بهديهم أولى بذلك.

ومن شاء أن يطّلع على الكلام الفصل في ذلك فعليه بكتاب (الفصول المهمة في تأليف الأمة) للعلّامة المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين، فإنّه (رضوان اللّه عليه) قد أدى حق التحقيق والإفادة في ذلك، وسعى في جمع الشمل ولمّ الشعث، فراجع كتابه هذا ومراجعاته، وكتابه (إلى المجمع العلمي العربي) وكتاب (أبي هريرة) وغيرها من تصانيفه القيّمة.

والحاصل: أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة وسبّهم إذا كان النافي والساب مجتهداً لايضر بالإسلام عند أكابر أهل السنة، وليس مانعاً من التقريب ورفض الشحناء والبغضاء، واعتصام الجميع بحبل اللّه تعالى، والعجب ممن لا يكفّر ولا يفسّق معاوية وأتباعه في سب أمير المؤمنين علي عليه السلام على منابر المسلمين، ويفسّق من سب الشيخين تأوّلاً واجتهاداً أعاذنا اللّه تعالى من العصبية واللجاج.

نصيحة وتذكرة

ينبغي لمن يرى جواز سب أحد من المسلمين أن لا يعلن بذلك، ولا يجهر

ص: 160

به بمشهد منه أو بمشهد أقاربه، ومن لا يرى رأيه بل يحرم ذلك في بعض الموارد إذا كان السب إيذاء لمسلم حاضر أو سبباً لتجريح العواطف، وحدوث الفتن وضعف المسلمين، وظهور التخاصم والتنازع بينهم.

ص: 161

ص: 162

منزلة النبي والإمام عند الشيعة

ذكر الخطيب في ص 22: أنّ الشيعة يرفعون أئمتهم من منزلة البشر، ونقل عناوين أبواب من الجامع المعروف بالكافي في علوم الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، وأنهم يعلمون علم القرآن كله وغير ذلك، وافترى على الشيعة بأنّهم يثبتون لأئمتهم علم الغيب وينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ما أوحى اللّه به من أمر الغيب... إلخ.

الشيعة لا يعتقدون فضيلة ومنقبة لأئمتهم إلّاويعتقدون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله تلك الفضيلة على النحو الأتم الأكمل، ولا يفضّلون أحداً من السابقين واللاحقين من الأنبياء والأئمة، والملائكة وغيرهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بل يفضّلونه على جميع المخلوقات ويعدون الإمام من أتباع الرسول ومن أُمته، لا يعدل النبي عند الشيعة أحد من أُمته، والإمام مأمور بطاعة الرسول لا يسعه غير

ص: 163

أتباعه، ولا يرفعون النبي ولا أحداً من الأئمة من منزلة البشر، والنبي والأئمة هم المثل الأعلى لكمال الإنسان، اختصهّم اللّه بعناياته الخاصة، والإمامة عندهم منصب يختار اللّه له من كان مستأهلاً لتقلده، ويأمر نبيه بالنص عليه، وصنفوا في هذه النصوص كتباً مفردة، خرّجوا فيها طائفة من تلك النصوص عن الكتب المعتمدة عند أهل السنة وصحاحهم.

ومن النصوص المعروفة المتواترة على كون الأئمة اثنى عشر الأحاديث التي خرّجها مسلم، وأحمد، والبخاري، والترمذي، والطيالسي، وأبو نعيم الإصبهاني، والسجستاني، والحاكم، والمتقي، وابن الديبع، والخطيب، والسيوطي وغيرهم، في عدد الأئمة عن غير واحد من الصحابة كجابر بن سمرة وعبداللّه بن مسعود، وأنس بن مالك، ومن المعلوم أنّ هذا العدد لا ينطبق إلّاعلى الأئمة الإثنى عشر.

وأفرد في هذه الأحاديث العلّامة محمد معين السندي كتاباً أسماه (مواهب سيّد البشر في حديث الأئمة الإثنى عشر).

ويدل على وجوب التمسّك بأئمة أهل البيت، وأخذ العلم عنهم، وعصمتهم، وبقائهم إلى يوم القيامة، وعدم خلو الزمان من إمام منهم، وكونهم أعلم الناس بعد النبي صلى الله عليه و آله، وأن التمسّك بهم أمن من الضلال، وانحصار سبيل النجاة في التمسّك بهم، وبالكتاب الكريم، أحاديث الثقلين المتواترة، وأحاديث الأمان، وأحاديث السفينة، وغيرها من النصوص الكثيرة، وقد صرّح بجميع ذلك جمع من أعلام أهل السنة، ذكرنا أسمائهم ومقالاتهم في كتاب أفردناه في وجوب الرجوع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام في الفقه والمعارف الإسلامية، وفي

ص: 164

وجوب العمل بالأحاديث المخرّجة في جوامع الشيعة.

ولو قرأ الخطيب كتب الإمامية، ودرس العلوم المأثورة عن أئمتهم لأقرّ بأنّ الأبواب المعنونة في الكافي ليس إلّاعناوين لبعض ما ورثوا عن جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولعرف أن من أشدّ ما ابتلي به المسلمون، وأضره عليهم انصرافهم عن أهل بيت نبيهم، وإعراضهم عمن أوجب اللّه تعالى ورسوله عليهم الرجوع إليه في الأمور الدينية، والأحكام الشرعية.

ومن تتبّع قليلاً في الكتب الإسلامية يعرف اختصاص أئمة أهل البيت سيما أمير المؤمنين علي عليه السلام بعلوم كثيرة من التفسير، والفقه، والحديث، والتوحيد، وغيرها مما ليس عند غيرهم.

هذه عقيدة الشيعة في أهل البيت وعلومهم، وإليك بعض ما قال سيدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام في ذلك:

قال: لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه و آله من هذه الأُمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة(1).

وقال: موضع سره، ولجأُ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه(2).

وقال: فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن4.

ص: 165


1- نهج البلاغة (ط مصر مطبعة الاستقامة) ج 1 الخطبة 2 ص 24 و 25.
2- نهج البلاغة: ج 1 الخطبة 2 ص 24.

صمتوا لم يسبقوا(1).

وقال: هم عيش العلم، وموت الجهل، ويخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وسمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الإعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن مقامه، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير، ورعاته قليل(2).

وقال: وإنّما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنّة إلّامن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّامن أنكرهم وأنكروه(3).

هذا ما يقول الشيعة في أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يقولوا ما قالوا فيهم اختراعاً واقتراحاً من عند أنفسهم، بل أخذوه من الأحاديث النبوة، والنصوص العلوية، والأخبار المروية عن أهل بيت النبوة، وأئمة العترة (عليهم الصلاة والسلام).4.

ص: 166


1- نهج البلاغة: ج 2 الخطبة 150 ص 58.
2- نهج البلاغة: ج 2 الخطبة 134 ص 259 و 260.
3- نهج البلاغة: ج 2 الخطبة 148 ص 54.

غلط الخطيب في فهم كلام العلّامة الآشتياني

قال في ص 22 و 23: وبينما يدعون لأئمتهم الإثنى عشر ما لا يدّعيه هؤلاء لأنفسهم من علم الغيب، وأنهم فوق البشرية، فإنّهم - أي الشيعة - ينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ما أوحى اللّه به إليه من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنة والنار، وقد سجّلت ذلك مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدرها دار التقريب في القاهرة إذ نشرت في عددها الرابعة من السنة الرابع صفحة 368 بقلم رئيس المحكمة العليا الشرعية الشيعية في لبنان، ويعدّونه من ألمع علمائهم العصريين، مقالاً عنوانه (من اجتهادات الشيعة الإمامية) نقل فيه عن مجتهدهم الشيخ محمد حسن الآشتياني إنّه قال في كتابه (بحر الفوائد) ج 1 ص 267: إنّ الرسول إذا أخبر عن الأحكام الشرعية أي

ص: 167

مثل نواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس يجب تصديقه، والعمل بما أخبر به، وإذا أخبر عن الأمور الغيبية مثل خلق السماوات والأرض، والحور والقصور فلايجب التديّن به بعد العلم به (أي بعد العلم بصحة صدوره عن الرسول) فضلاً عن الظن به (إلخ).

ذكرنا عقيدة الشيعة في النبوة والإمامة، وأنّ النبي ينص على الإمام بأمر من اللّه، وأنّه تبع للنبي، والنبي مفضّل عليه في جميع الكمالات، فالنبي كالأصل والإمام فرعه، وليس في الشيعة من يستبيح لنفسه الشك فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله فضلاً عن إنكاره، سواء كان المخبر به من الأمور العادية كقيام زيد وقعود عمرو، أم من الأمور الدينية، فالنبي هو الصادق المصّدق في جميع ما أخبر به، وما ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحيٌ يوحى(1) ، ومن أنكر أو أظهر الشك فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنة والنار بعد حصول اليقين بإخباره عنه كافر، لا شك عند الشيعة في كفره.

ولكن الخطيب حيث عجز عن فهم كلام العلّامة الآشتياني، وكلام رئيس المحكمة العليا الشرعية في لبنان الذي هو من ألمع العلماء المجاهدين المعاصرين، حمله على ما يوافق هواه، وخاض في الإفتراء والهذيان، فادّعى أنّ الشيعة ينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ماأوحى اللّه به من أمر الغيب.

وحيث إنّ المسألة المبحوث عنها في كلام المحقّق الآشتياني في نفسها4.

ص: 168


1- النجم: الآية 3 و 4.

من المسائل العلمية النظرية لا بأس بالإشارة إليها هنا، حتى يعلم أنّ الأولى للخطيب ونظرائه عدم الخوض في هذه المسائل، وإيكال البحث عنها إلى أهلها.

فنقول في توضيح ما أفاده الآشتياني:

إنّ ما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله على قسمين: أولهما ما يكون من الأُمور العادية كقيام زيد ومجيء عمرو، ولا يكون مرتبطاً بالدين لا بأُموره الإعتقادية، ولا بأحكامه الشرعية، ولا بأحكامه العملية، كالصلاة والصوم والحج وغيرها.

وثانيهما: ما يكون من الدين، وهذا أيضاً على قسمين: أحدهما: ما يكون في الأُمور الإعتقادية، وما يجب أن يعتقده المسلم كالتوحيد والنبوة والمعاد وغيرها.

وثانيهما: ما يكون في الأحكام الدينية العملية كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها.

فالقسم الأول: أعني ما ليس مرتبطاً بالدين كالإخبار عن الأُمور العادية والإخبار ببعض كيفيات خلق السماوات والأرض، والكواكب وبدء الخلق، وبعض تفاصيل الجنة والجحيم، وخصوصيات الحور والقصور، وأشجار الجنة وأنهارها ومياهها(1) ليس من الأُمور الإعتقادية التي بني عليها الإسلام، ولا يحكم بإسلام من لم يكن عارفاً بها، فمن لم يؤمن باللّه أو لم يعتقد النبوة أو المعاد، أو أنكر الثواب والعقاب، والجنة والنار، كافر خارج عن الإسلام، أما منه.

ص: 169


1- تفاصيل بعض هذه الأُمور، وإن كان لا يعلم إلّامن جهة بيان النبي صلى الله عليه و آله، وبهذا الإعتبار تُعدّمن الأُمور الدينية، ولكن ليست مما يجب التديّن به.

لم يعرف بعض خصوصيات الجنة وبعض أنواع الملائكة وأسمائهم، وكيفية مبدء خلق السماء وعدد قصور الجنة أو عدد ولدانها، ولم يقرع سمعه ماورد في ذلك من الأحاديث لا يضر ذلك بإسلامه، ولا يكلّف بتحصيل هذه المعارف، وهذا كالإطّلاع على عدد غزوات النبي صلى الله عليه و آله، وعدد أولاده وزوجاته، فإنّ المعرفة بهذه الأُمور والأحوال وإن كانت في حدّ نفسها راجحة مرغوباً فيها، لكن ليست من الأُمور الإعتقادية التي يدور مدار معرفتها ترتيب آثار الإسلام، ويحكم بكفر منكرها.

نعم من ثبت عنده إخبار الرسول عن هذه الخصوصيات والتفاصيل يحصل له الإعتقاد بها لاعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه و آله في كل ما أخبر به، وإظهار الشك فيها أو إنكارها بعد العلم بإخبار النبي عنها موجب للكفر قطعاً لرجوع ذلك إلى تكذيب النبي صلى الله عليه و آله.

وأما القسم: الثاني فيجب الإعتقاد وتحصيل الإيمان والمعرفة به، لم يختلف في ذلك اثنان من الشيعة.

وأما القسم الثالث: أي إخباره عن الأحكام العملية فيجب العمل به، ولا يجوز إنكاره بعد ثبوته عنده، وإنكاره بعد العلم بإخباره موجب للكفر والخروج عن الإسلام(1) ، ولا يتفاوت في ذلك أي عدم وجوب التدين بالأُمورى.

ص: 170


1- ولأجل إيضاح بطلان افتراء الخطيب ننقل كلام العلّامة الآشتياني في بحر الفوائد: ص 276 قال: المعارف بالمعنى الأعم على قسمين: أحدهما: مالا يكون من الدين، ولا دخل له بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه و آله مثل كيفية خلق السماء والأرض، والحور والقصور، وغير ذلك مما عرفت الإشارة إليه عن قريب. ثانيهما: ما يكون من الدين، لا يقال: لا معنى للتقسيم المذكور لأن كل ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله يكون من الدين لا محالة، وإلّا لم يبيّنه، لأنّا نقول: هذا غلط واضح، وخلط ظاهر، فإنّ الرسول قد يخبر عن الشيء من حيث كونه شارعاً ومبلّغاً عن اللّه تعالى، ومأموراً بتبليغه على العباد، وقد يخبر عن الشيء لا من الحيثية المذكورة، بل من حيث كونه عالماً بالغيب بإفاضة اللّه سبحانه، ومن المعلوم أنّ هذا لا يرجع إلى الإخبار عن الأمر الديني. ثم الثاني: أي ما يكون من الدين، وشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه و آله ينقسم على قسمين: أحدهما: مايتعلّق بالعمل بالمعنى الأعم من التعلّق الأولي الذي يسمى بالحكم الفرعي، والتعلّق الثانوي بالواسطة الذي يسمى بالحكم الأُصولي العملي. ثانيهما: ما يكون المقصود منه والغرض الأصلي الأولي المطلوب منه الإعتقاد وإن ترتّب عليه عمل أحياناً. أما الأول: أي ما لا دخل له بالدين أصلاً، فلا إشكال في أنّه لا يوجب التديّن به بعد حصول العلم به فضلاً عن الظن به، نعم لا يجوز إنكاره بعد ثبوته من حيث إيجابه لتكذيب النبي صلى الله عليه و آله فيكون كفراً. وأما الثاني: فما يتعلّق منه بالعمل ولو بالواسطة، فلا إشكال في إمكان التعبّد فيه بغير العلم بل وقوعه في الجملة على ما عرفت مفصّلاً، وإن كان مقتضى الأصل الأولي البناء فيه على عدم وقوع التعبّد، وما يتعلق منه بالإعتقاد قد عرفت سابقاً أنه على قسمين: أحدهما: ما يجب به الإعتقاد مطلقاً فيجب تحصيل المعرفة به. وثانيهما: ما لا يجب فيه ذلك، بل إن حصلت المعرفة به حصلت الإعتقاد قهراً، ويجب التدين بمقتضاه، والمعتقد في المقامين قد يكون أمراً إجمالياً بمعنى أنّه قد يجب الإعتقاد بشيء والتدين به إجمالاً، سواء كان وجوباً مطلقاً أو مشروطاً بالمعنى الذي عرفته، فلا يجب تحصيل تفصيله، نعم لو حصل العلم به وجب التديّن به من حيث كونه عين ما وجب الإعتقاد والتديّن به إجمالاً، ضرورة كون المفصّل عين المجمل، وإن افترقا من حيث الإجمال والتفصيل، وقد يكون أمراً تفصيلياً... وقال في هذه الصفحة: تكذيبه (يعني تكذيب الرسول صلى الله عليه و آله) ولو في أخباره العادية موجب للكفر، قطعاً، وهو ما يرجع إلى بيان أُمور واقعية لا تعلّق لها بالدين، مثل بيان مبدأ خلق السماوات والأرض، وحور العين والفصل بين كل سماء، إلى غير ذلك مما يرجع إلى بيان خلقة المخلوقات، فإنّه ليس أمراً دينياً اعتقادياً بحيث يجب التديّن به، والإقرار به، وإن لم يجز إنكاره بعد العلم بثبوته من صاحب الشرع. هذا وتوهّم كون جميع ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله من الدين فاسد كما عليه. انتهى.

ص: 171

العادية، وخصوصيات الأُمور المذكورة بين إخبار النبي وإخبار الإمام عليهما السلام، ووجوب تصديق النبي في إخباره عن المغيّبات أولى من وجوب تصديق الإمام، ومقدّم عليه بحسب المرتبة، فإنّ وجوب تصديق الإمام فرع وجوب تصديق النبي صلى الله عليه و آله، هذا حاصل كلام الآشتياني في المقام.

وقد صرح في موضعين من عباراته في ص 276 بكفر من أنكر إخبار الرسول في الأُمور العادية، ولكن الخطيب يفتري على الشيعة، ويقول: إنّهم يرفعون مرتبة أئمتهم في إخبارهم عن الأُمور الغيبية (والعياذ باللّه) فوق مرتبة النبي صلى الله عليه و آله ونسي أن في أهل السنة من يقول: إنّ النبي كان فيما قال وعمل في الأُمور الدينية مما لا نص فيه مجتهداً كسائر المجتهدين(1).

ثم إنّه لم يقنع بذلك فقال: إنّ جميع رواة الغيبيات عن الأئمة الإثنى عشر معروفون عند علماء الجرح والتعديل من أهل السنة بأنّهم كانوا كذبة، وهذا من أبشع افتراءاته على علماء الجرح والتعديل، فإنّ كرامات الأئمة الإثنى).

ص: 172


1- راجع تفصيل هذه المسألة في كتاب (المستصفى من علم الأُصول: ج 2 ص 104 و 105) و (عدة الأُصول: ص 294 و 295).

عشر عليهم السلام، وإخبارهم عن الأُمور الغيبية بما هو مخزون عندهم من علوم جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وورثوا عنه ثابتة بالتواتر، قد خرج طائفة منها جمع عن أعلام أهل السنة، لا سيما ما صدر منها عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولا عجب في ذلك لأنّ النبي صلى الله عليه و آله اختصهم بعلوم ليست عندهم، ولذلك أمر أُمته بالرجوع إليهم، وجعل الأمان والنجاة والأمن من الضلال في التمسّك بهم.

وقد احتجّ بروايات رجال الشيعة جمع من علماء أهل السنة(1) رواة أحاديث الشيعة الأثبات الثقات معروفون في كتب الرجال، ومن راجع كتب الجرح والتعديل للشيعة يقف على اهتمامهم بتعرّف أحوال الرجال، وعدم احتجاجهم بأحاديث الضعاف سواء كان الراوي شيعياً أم سنياً، ولو كان للخطيب أدنى خبرة بكتب الشيعة لعلم مبلغ اعتنائهم بتحقيق حال الرواة، ولو قرأ كتاب (تأسيس الشيعة) لعرف تقدّمهم في علم الحديث، والفحص عن أحوال الرواة وسائر الفنون الإسلامية.

والأُصول التي يعتمد عليها الشيعة في استخراج الأحاديث الصحاح والحسان في غاية المتانة والإنضباط.ه.

ص: 173


1- قال العلّامة المحدّث أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي: قد جمع الحافظ أسماء من روى لهم البخاري منهم (يعني من الشيعة) فسمى نحو السبعين: وما أراه استوعب. وأما صحيح مسلم ففيه أكثر من ذلك بكثير، حتى قال الحاكم: إنّ كتابه ملآن من الشيعة، راجع كتاب (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ص 106 من طبعته الثانية) وهذا الكتاب نفيس جداً يجب على الباحث أن يقرأه لأنّ فيه من البحوث العلمية والفوائد الرجالية ما ربّما لا يوجد في غيره.

والحاصل: أنّ كثيراً من الروايات المأثورة في إخبارهم عن الحوادث المستقبلية والأ؛ مور الغيبية من صحاح الأحاديث، رواها الثقات بأسناد عالية.

ولا يرتاب المتتبّع في تواترها إجمالاً بل بعضها متواتر تفصيلاً، وإنكار جميع هذه الروايات زلّة كبيرة، فمن أين علم الخطيب أنّ جميع رواة هذه الأحاديث معروفون بالكذب، ومن أين اطّلع على جميع تلك الأحاديث ورواتها، مع أنه لا يعرف من أسماء كتب الشيعة واحداً من الأُلوف، وفي أي كتاب ذكر علماء الجرح والتعديل من أهل السنة أنّ جميع رواة تلك الأحاديث كانوا كذبة، ولِمَ لم يأت بأسماء هؤلاء المعروفين؟

وهذه أخبار أمير المؤمنين علي عليه السلام عن المغيّبات مخرّجة في كتب أهل السنة في التاريخ والحديث، وبعضها ثابت بالتواتر التفصيلي وبعضها بالتواتر الإجمالي.

والعجب من جماعة يثبتون لرؤساء الصوفية والدراويش أخباراً عن الأمور الغيبية، وكرامات يأبى العقل قبولها، ثم يستبعدون ما صدر عن أئمة أهل البيت مثل أمير المؤمنين وسبطي رسول اللّه، والسجاد والباقر عليهم السلام وغيرهم أعدال الكتاب، وعدول أهل البيت الذين بشّر النبي صلى الله عليه و آله بأنّهم ينفون عن الكتاب تحريف الغالين، وإبطال المبطلين، ويقدحون في رجال هذه الأخبار بأنّهم كانوا كذبة، مع أنّه لا ذنب لهم إلّاروايتهم بعض فضائل أهل البيت والنصوص المأثورة في إمامتهم وعلومهم من الأحاديث التي كانت روايتها في عصر الأُمويين والعباسيين من أكبر الجرائم السياسية.

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب أفردناه لإثبات حجية روايات أصول الشيعة، ووجوب الرجوع إليها والتمسّك بها في الفقه، كما قد أفردنا لتخريج

ص: 174

مناقب كل واحد من الأئمة الإثنى عشر وتاريخ حياتهم عن كتب أهل السنة كتاباً (لكل واحد من الأئمة كتاباً).

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإتمامها ونشرها.

ص: 175

ص: 176

افتراء الخطيب على الشيعة بالتملّق للحكومات و تدخّل الخواجة و ابن العلقمي في فاجعة بغداد

نسب الخطيب في ص 24 إلى الشيعة أنّهم يتملّقون أيَّ حكومة من الحكومات الإسلامية بألسنتهم إذا كانت قوية، فإذا ضعفت أو هوجمت من عدو انحازوا إلى صفوفه، واستشهد أخيراً على خروج المغول وما صدر منهم في بغداد من سفك الدماء وهتك الأعراض، وغيرها من الجرائم العظيمة، واتّهم حكيم الشيعة وفيلسوف الإسلام الخواجة نصير الدين الطوسي الشهير، وابن أبي الحديد المعتزلي من السنية، وابن العلقمي مؤيّد الدين الوزير بالتدخّل في هذه الفاجعة... إلخ.

كان الأولى أن يترك الكلام عن أفعال الشيعة، وما صدر بزعمه عنهم فإنّ عقيدة طائفة ورأيها شيء وعملها شيء آخر، وربّما لا يوافق أعمال بعض الناس

ص: 177

عقيدتهم، ولا يجوز الإعتماد في استنباط آراء الفرق وعقائدهم على مجرّد أعمال بعضهم، فإنّه ما من قوم إلّاويوجد فيهم من يخون قومه، ويقدّم على ضرر أُمته، ولو جعلنا تاريخ الإسلام نصب أعيننا لعثرنا على خيانات كثيرة من عصر الرسالة إلى هذا الزمان صدرت من المنافقين وفسّاق المسلمين، وأُولئك الذين أوهن قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت.

وهل تأخر المسلمون عن غيرهم إلّالخيانات صدرت من عمّال السياسة وعبدة الرئاسة وأتباع الشيطان، أُنظر بعينك أيّها المنصف إلى الملأ الإسلامي، وانظر إلى القوّاد العملاء والأُمراء العبيد للإستعمار الذين لم تقع الأُمة فيما وقعت فيه إلّابخياناتهم افترى سبباً لبقاء الحكومة الغاصبة الإسرائيلية التي أنشأها المستعمرون في بلاد المسلمين غير خيانة بعض الحكّام والأُمراء؟ أنسيت ما فعلت يد الخيانة بالجيش المصري في حكومة فاروق؟ ألم تقرأ في الصحف والمجلات خيانات تصدر من بعض رؤساء الحكومات المسمّات بالإسلامية على الإسلام وأبنائه؟

ألم يقرع أُذنك ما وقعت فيه الأُمة في الحرب العالمية الأُولى بسبب خيانة بعض القوّاد وطلّاب الرئاسة والحكومة، فتمزّقت الوحدة الإسلامية، وتأسّست في كل قطر حكومة ضعيفة مستعمرة، وأصاب المجتمع الإسلامي ما أصاب حتى ألغى بعض تلك الحكومات سنن ديننا الحنيف في جميع الشؤون الحكومية، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّاباللّه.

ولو نظرت إلى التاريخ وقايست بين الشيعة وأهل السنة في ذلك لطمست ما كتبت أيها الخطيب، ولعلمت أنّ أي الفريقين أحق باللوم والتوبيخ.

ص: 178

ومما هو جدير هنا بالذكر نموذجاً لهذه المخاصمات التي أذهبت مجد المسلمين وسلطانهم ما أصاب الناس من القتل والسبي والنهب عند افتتاح جيوش التتار بلدة إصبهان، وذلك بعد أن عجزوا عن افتتاحها ونزلوا عليها مراراً في سنة سبع وعشرين وستمائة، ووقع الحرب بينهم وبين أهلها، وقتل من الفريقين خلق كثير، ومع ذلك لم يبلغوا التتار غرضهم حتى وقع الإختلاف بين أهل إصبهان في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة؛ وهم طائفتان: حنفية وشافعية، وبينهم حروب متصلة، وعصبية ظاهرة.

فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم من التتار، فقالوا لهم:

اقصدوا بلدنا حتى نسلّمه إليكم، وكان ذلك في سلطنة ابن چنگيزخان، فأرسل جيوشاً نزلوا على إصبهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة، فحصروها فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة، فتحها الشافعية على عهد كان بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفو عن الشافعية، فلما دخلوا البلد قتلوهما جميعاً وبدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبّوا النساء وشقّوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا إصبهان حتى صارت تلولاً من الرماد(1) وأمثال هذه الحادثة بين أرباب المذاهب ليست بقليلة، مثل الفتنة الكبرى التي هاجت ببغداد لاختلاف الحنابلة وغيرهم في معنى قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً(2) فقالت9.

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة للحديدي: ج 8، ص 464.
2- الإسراء: الآية 79.

الحنابلة: معناها يقعده اللّه على عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة ودام الخصام، واقتتلوا حتى قتل جماعة كثيرة(1) ومع ذلك لا لوم على جميع أهل هذه المذاهب، إنّما اللوم والذنب على سفهائهم وجهّالهم، وعلى الذين اتخذوا هذه المذاهب سبباً للإختلاف والتفرقة بين المسلمين وتفسيق غيرهم من سائر الفرق، وجعلوها وسيلة لتحقيق أغراضهم الدنية.

ثم إن التملّق لأرباب السلطة والحكومات كيف صار من خصائص الشيعة، وكيف نسي تملّق بعض السنيين من الحكومات في عصر الأُمويين والعباسيين، فاقرأ دواوين الشعراء وانظر إلى جماعة زيّنوا للناس قبائح أعمال الأُمراء في تلك العصور المظلمة، وانظر إلى العلماء والمحدّثين الذين لم يطعنوا في سيرة هؤلاء وتركوا نصيحتهم، ولم يطلبوا منهم الرجوع إلى الكتاب والسنّة في حين أنّهم يفتون بوجوب إطاعتهم، ويعدّون الخروج عليهم من أعظم المحرّمات، فلو تملّق بزعم الخطيب بعض الشيعة لجبابرة الملوك عملاً بالتقية وحقناً للدم، وحفظاً للعرض تملّق بعض السنيين للحطام الدنيوي، والزخارف الفانية.

ويكفيك مثلاً وشاهداً ما وقع لغياث بن إبراهيم النخعي، حيث دخل على المهدي العباسي فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال إسناداً إلى النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: (لا سبق إلّافي نصل أو خف أو حافر أو جناح) اتباعاً لهوى المهدي، فأمر له المهدي ببدرة، فلما قام قال المهدي: أشهد على قفاك إنّه قفا كذّاب على5.

ص: 180


1- تاريخ الخلفاء: ص 255.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ثم أمر بذبح الحمام لكن لم يتعرّض له ولم يأخذ ما أعطاه، حتى فعل نحواً من ذلك مع هارون الرشيد(1).

وخبر شقّ أبي البختري وهب بن وهب أمان الرشيد ليحيى ابن عبد اللّه بن الحسن بالسكين، فوهب له هارون بذلك ألف ألف وستمائة ألف، وولّاه القضاء(2) ، ونظائر ذلك كثيرة لا سيما في استيلاء بني أُمية وبني العباس، وإذا كان هذا حال بعض السنيين فهل يجوز أن يسند ذلك إلى جميعهم؟ وهل تجد قوماً أو أُمة لم يكن فيهم أمثال هؤلاء؟

فلا يجوز لأهل السنة مؤاخذة الشيعة على ما صدر على بعضهم، كما لا يجوز للشيعي أيضاً أن يؤاخذ السني بأعمال الحجّاج ومسلم بن عقبة وغيرهما من الجبابرة.

هذا ولا ريب في أنّ استيلاء التتار على بغداد كان من أعظم مصائب المسلمين في التاريخ، ولكن هل كان ابتلاؤهم بهذه الفاجعة أعظم أم ابتلاؤهم بحكومة معاوية، ومحاربته أمير المؤمنين علياً عليه السلام؟ فما ترتّب بعد على حادثة ما ترتّب على أفاعيل معاوية ومحاربته علياً عليه السلام من المفاسد.

قال أحد كبار علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية ابن أبي سفيان في0.

ص: 181


1- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: ص 86، نخبة الفكر: ص 61 و 62، نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر: ص 61، تاريخ الخلفاء: ص 183، أخبار مكة المشرفة: ج 3 ص 98.
2- مقاتل الطالبيين: ص 480.

ميدان كذا من عاصمتنا (برلين).

قيل له: لماذا؟ قال:

لأنّه هو الذي حوّل نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب، ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كله، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عرباً مسلمين(1).0.

ص: 182


1- تفسير المنار: ج 11، ص 260.

كارثة خروج المغول واستيلائهم على بلاد مسلمين وأسباب سقوط بغداد

قال اللّه تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا(1).

تحكّموا واستطالوا في حكومتهم

كانت حادثة خروج التتار حادثة عظمى، ومصيبة كبرى، عمّت الخلائق وخص المسلمون بشدة بلائها، لم يطرق الأسماع بمثلها، شوّهت تاريخ الإنسانية وما قيل في شرحها من قتل العلماء والصلحاء، والخواص والعوام،

ص: 183


1- الإسراء: الآية 16.

وتخريب البلاد، وشقّ بطون الحوامل، وقتل الأجنة، وهدم الجوامع والمعابد، وإحراق الكتب وهتك الأعراض في كل مدينة افتتحوها ليس إلّاإجمال عن تفاصيل هذه الأحوال، فشملت الفتنة المسلمين وممالك الإسلام، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وكانت مدينة بغداد من البلاد التي أُصيبت في هذه الحادثة بأشدّ المظالم، وبلغ عدد من قتل فيها على ما قيل أكثر من مليون نسمة، بل قيل: إنّه لم يسلم إلّامن اختفى في بئر أو قناة، ووقع فيها من القتل الفظيع وهتك الأعراض ونهب الأموال وغرق الناس في دجلة وضياع الكتب ماقلّ نظيره في تاريخ العمران، ولم تكن خسارة الشيعة في هذه الكارثة لا في بغداد ولا في غيرها من بلاد خراسان وما وراء النهر بأقل من خسارة أهل السنة، فقتلوا فيمن قتل، وكان في القتلى من الأشراف والفاطميين ما لا يحصى.

وكان من أقوى أسباب انهزام المسلمين(1) ما حدث بينهم من المنازعات والحروب الداخلية، والرغبة في الملك والسلطان، وانهماكهم في المعاصير.

ص: 184


1- من الجدير بالذكر: أنّ أسباب هذه الفاجعة لم تتولد جميعها في زمن المستعصم، وإنّما كان لهاجذور تاريخية ذات صلة وثيقة بحصول هذه المأساة، نجمت واكتمل نموّها في زمن الخليفة المذكور، فأدّت إلى ما أدّت إليه من الفظائع والآلام. وكان عدم قيام خلافة هؤلاء الخلفاء على أُسسها الرشيدة الإسلامية عنصر شر كبير في وقوع هذه الكوارث والمحن التي قضت على عزة الإسلام وتقدّم المسلمين، فلم يكن المنهج الذي انتهجوه في سياسة الحكم المال وغيرها موافقاً لمنهج الإسلام العادل في الحكم والمال، بل جدّدوا سيرة السلاطين والملوك الأكاسرة والقياصرة، وشر من هؤلاء من صوب حكوماتهم واعتبرها شرعية ولم ينكر، عليهم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والشهوات، وضعف الخلفاء في تدبير الأُمور،(1) وظهور العصبيات الباردة في المسائل الكلامية، والخلافات المذهبية،(2) واشتغال أرباب المناصب بالملاهي وتكبّر الخليفة المستعصم، وبخله بالأموال، فكان كما وصفه في تاريخ الخلفاء(3) تائهاً في لذّاته لا يطلع على الأُمور، وليس له غرض في المصلحة.

وقال ابن كثير: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، استهلت هذه السنة، وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدّمة عساكر سلطان التتار هولاكوخان... إلى قوله: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولّدة تسمى (عرفة) جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها، وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من9.

ص: 185


1- فالخليفة العباسي الناصر لدين اللّه هو الذي يقال: إنّه كاتب التتار وأطمعهم في البلاد (راجع تاريخ الكامل ج 9 ص 361، وابن كثير ج 13 ص 107، والأعلام للزركلي ج 1 ص 106، وروضة الصفا ج 5 ص 78 و 79).
2- قال الصفدي في الوافي بالوفيات (ج 1 ص 280) في ترجمة البروي الشافعي أحد المشاهيرالمشار إليهم بالتقدّم في النظر وعلم الكلام والفقه، وكان يبالغ في ذم الحنابلة، وقال: لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية، فجاءته امرأة في الليل بصحن حلوى، قالت: أنا أغزل وأبيعه، وقد اشتريت هذا الصحن وهو حلال وأُريد أن يأكل الشيخ منه، فأكله هو وزوجته وولد له صغير فأصبحوا موتى. فانظر كيف ضرب الإختلاف المذهبي بعض المسلمين ببعض، وكيف نسوا ما ذكروا به.
3- تاريخ الخلفاء: ص 309.

ذلك، وفزع فزعاً شديداً(1).

وقال ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية(2): كان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللّه و... واللعب، وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنعّم واللذّات، لا يراعون له صلاحاً.

وفي بعض الأمثال: (الخائن لا يسمع صياحاً)، وكتب له الرقاع من العوام وفيها أنواع التحذير وأُلقيت وفيها الأشعار في دار الخلافة فمن ذلك (مجتث):

قل للخليفة مهلاً

فانهض بعزم وإلّا

وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصمية من قصيدة أوّلها:

يا سائلي ولمحض الحق يرتاد3.

ص: 186


1- البداية والنهاية: ج 13، ص 200.
2- الفخري في الآداب السلطانية: ص 33.

قتل، وهتك، وأحداث يشيب بها رأس الوليد، وتعذيب وإصفاد(1)

كل ذلك، وهو عاكف على سماع الأغاني، واستماع المثالث والمثاني، وملكه قد أصبح واهي المباني، ومما اشتهر عنه أنّه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هلاكو إليه، يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: انظروا إلى المطلوبين وابكوا على الإسلام وأهله، وبلغني أنّ الوزير مؤيّد الدين محمد بن العلقمي كان في أواخر الدولة المستعصمية ينشد دائماً (خفيف):

كيف يرجى الصلاح من أمر قوم

(انتهى كلام الفخري).

وكان من حبّه للمال أنّ الملك الناصر داود المعظّم أودع عنده في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار، فجحدها الخليفة، فاستقبح هذا من مثله، وهو مستقبح ممن دونه بكثير، بل ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك(2).ن.

ص: 187


1- قبله: إن جئت يثرب أو شارفت ساحتهافقل لمن أنزلت في حقه صادالكفر أضرم في الإسلام جذوتهوليس يرجى لنار الكفر أخماد يراجع تاريخ ابن الفوطي البغدادي الموسوم بالحوادث الجامعة: ص 321.
2- يراجع تاريخ ابن كثير: ج 13 ص 205 و 214، والآية 75 من سورة آل عمران.

وكان من بخله أن فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم، ولحقوا ببلاد الشام في سنة خمسين وستمائة(1).

وكان من قلة تدبيره وضعفه تركه ما أشار عليه به الوزير من المهادنة وإرسال التحف والهدايا إلى هلاكو وخواصه وقوّاده، بعدما قبل أوّلاً، فترك الحزم واقتصر على إنفاذ شيء يسير،(2) وأخذ برأي أعداء الوزير وحسّاده، فإنّهم خطّأوه وشجّعوا الخليفة على الحرب وترك المهادنة(3).

وقد كان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جداً، ومع ذلك كان يصانع التتار ويهادنهم ويرضّيهم(4) ، ولعلّه لو قبل هذه النصيحة، وسلك على منهاج أبيه لدفع عن المسلمين هذه المصيبة العظمى.9.

ص: 188


1- تاريخ ابن الفوطي: ص 261.
2- قال في (تاريخ مختصر الدول: ص 269): ولما فتح هلاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة، وعاتبه على إهماله تسيير النجدة، فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه، فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبّار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصّه، وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر والمرصعات والثياب، والذهب والفضة، والمماليك والجواري، والخيل والبغال والجمال، قال الدويدار الصغير وأصحابه: إنّ الوزير إنّما يدبّر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكّنه من ذلك، فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة، واقتصر على شيء نزر لا قدر له، فغضب هولاكو... إلخ.
3- يراجع تاريخ ابن كثير ج 13 ص 200، وروضة الصفا ج 5 ص 240 و 241، والحوادث الجامعة ص 319، جامع التواريخ ج 2 ص 702، وذيل تاريخ جهانگشا الجويني ج 3 ص 280 و 281.
4- تاريخ الخلفاء: ص 309.

ويظهر مما أنشأه الشيخ الأديب الشاعر سعدي الشيرازي في مرثية المستعصم أنّ الملك أبابكر بن سعد الزنكي أيضاً أشار إلى المستعصم بالمصانعة والمهادنة فلم يقبل نصيحته، وقد دفع هذا الملك التتار بالمصانعة والتدبير عن بلاد فارس.

وذكروا(1) من تكبّر الخليفة أنّه كان في طريق بلاطه حجر كالحجر الأسود عليه غطاء أطلس أسود، وكان الملوك والسلاطين وكبراء الناس وغيرهم يزورون ذلك الغطاء ويستلمون الحجر، وذكروا أنّ العالم المتورّع مجد الدين إسماعيل الفالي الذي أرسله أتابك مظفّر الدين سعد رسولاً إلى الخليفة امتنع عن تقبيل الحجر المذكور ونعم ما فعل، فإنّه يجب على كل مسلم موحّد مؤمن باللّه ورسوله أن يمتنع عن ذلك، فلمّا ألزموه وضع المصحف الشريف على الحجر وقبّل المصحف.

ومن أفظع الوقائع الحادثة في خلافة المستعصم تخريب محلّة الكرخ في بغداد، وقتل جماعة كثيرة من الشيعة من بني هاشم وغيرهم، ونهب أموالهم وأسر البنات، وحملهنّ عاريات على الخيول في السوق بأمر أبي العباس أحمد بن المستعصم(2).ا.

ص: 189


1- روضة الصفا: ج 5 ص 235 و 236، تاريخ وصاف الحضرة: ص 27.
2- يراجع في ذلك تاريخ روضة الصفا ج 5 ص 236، ومجالس المؤمنين ص 437، والفخري ص 244 وتاريخ ابن كثير ج 13 ص 196، وتاريخ ابن الفوطي ص 314، وقد استبيحت دماء الشيعة ووضع السيف فيهم في بغداد غير مرة، فراجع تاريخ ابن الأثير وغيره حتى تعلم ما فعلت جهالات السفهاء وعصبياتهم الباطلة. فمن ذلك ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، فاقرأ في تاريخه تفصيل هذه الحادثة وما ظهر من الجهّال من سوء الأدب إلى المشهد الكاظمي عليه السلام والحرب والحرق والهدم والقتل، وما جرى من الأمر الفظيع مما لم يجر في الدنيا مثله، مما قد تركنا ذكر تفاصيله حذراً من جرح عواطف الشيعة، ونكتفي بذكر أبيات من قصيدة أنشأها المؤيد في الدين أبو نصر هبة اللّه بن موسى بن أبي عمران في هذه الحادثة: ألا ما لهذا السماء لا تموروما للجبال ترى لا تسيرفموسى يشق له قبرهولما أتى حشره والنشور ويسعر بالنار منه حريمحرام على زائريه السعيروتقتل شيعة آل الرسولعتواً وتهتك منهم ستورفوا حسرتا لنفوس تسيلويا غمتا لرؤوس تطير وقد جرى على الشيعة مثل هذه الحادثة الفظيعة في سنة خمس وأربعين وأربعمائة وفي غيرها.

وعلى كل حال احتمال كون اتهام الوزير العلقمي بالمواضعة مع هلاكو من مختلقات المتعصّبين(1) وأعداء الشيعة قريب جداً لا يدفعه شيء، وإسناده.

ص: 190


1- والذي ظهر لي بعد الفحص الكثير في التواريخ سيما التواريخ المؤلفة في القرن السابع الهجري الذي وقعت فيه هذه الفاجعة ككتاب: مختصر تاريخ الدول، والحوادث الجامعة، وجامع التواريخ، ورسالة كتبها الخواجه نصير الدين في شرح هذه الحادثة التي ينبغي أن تُعدّ من أوثق المصادر بل أوثقها في هذه الواقعة أن نسبة المؤامرة إلى الوزير مع هلاكو إنّما صدرت من حسّاده وأعدائه، كالدويدار الصغير وأتباعه ممن يريدون الإستبداد بالأُمور، فألقوا في الألسنة والأفواه مؤامرة الوزير واتهموه بالخيانة لا لأنه شيعي والدويدار سني، بل لأنّ الوزير كان واقفاً قبال نواياهم ويمنعهم من الإستيلاء على الأُمور والإستبداد، ولذلك لم ير الدويدار والشرابي بعد وفاة المستنصر تقليد الخفاجي الأمر، وهو الذي كان فيه شهامة وشجاعة زائدة، وكان يقول: لئن ولّيت لأعبرنّ بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم، فآثروا المستعصم للينه وانقياده ليكون لهم الأمر (تاريخ الخلفاء: ص 306 و 308) ولم يقنع الدويدار بذلك حتى عمل على خلع المستعصم، والمبايعة لولده (تاريخ ابن الفوطي: ص 249). ويظهر من التواريخ أن الخليفة الضعيف المستضعف كان عاجزاً عن دفع أمثال الدويدار وقطع أيديهم عن الأعمال، وكان الدويدار لا يعتني بمقام الوزير ولم يكن للوزير مع الدويدار وأتباعه كثير تمكّن في تمشية الأُمور، وإنفاذ تدبيراته الحكيمة، والمترجّح في النظر أنّه لم يرد أحد من هؤلاء الأُمراء لا ابن العلقمي ولا الدويدار ولا غيرهم تغلّب التتار على بغداد، ولكنهم تركوا الحزم ولم يَدَعوا قبال هذه الحادثة العظمى اختلافاتهم، فمنع الدويدار الصغير الخليفة عن العمل برأي الوزير واتهمه تارة بالخيانة وأُخرى بالحمق والسفاهة، وقال: لحيته طويلة، لأنّه يرى أنّ تدبير الوزير لدفع شر التتار لو نجح لصار سبباً لزيادة تقربه إلى الخليفة. وخلاصة الكلام: أن المتتبّع في كتب التواريخ يعرف أن ما أشار الوزير على الخليفة كان عين المصلحة، وأدى به النصيحة، ولو عمل بها لما وقعت هذه المذبحة العامة، وربّما لا يجد في مثل تاريخ (مختصر تاريخ الدول) لابن العربي (ت: 1286 م) ورسالة الخواجة التي كتبها في شرح هذه الواقعة وتاريخ ابن الفوطي (ت: 723 ه) وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل اللّه الوزير (من أعلام القرن السابع وأوائل القرن الثامن) من المصادر والكتب التي أُلّفت في القرن الذي وقعت فيه هذه الحادثة ذكراً ولا أثراً من مؤامرة، فلا حقيقة تحت هذه النسبة إلّاإذا أخذنا بقول بعض الكتاب (الكذبة إذا شاعت أصبحت حقيقة). إذن فلا ينبغي لمسلم أن يتهم غيره بمجرد المزاعم والنقول التي لا سند لها ولا يعتمد عليها. هذا ما ظهر لي بعد التتبّع والتأمل التام. وأشهد اللّه تعالى أنّي لا أقول ما أقول في ذلك لأنّ ابن العلقمي كان شيعياً، فليس قصدي إلّانشدان الواقع والحقيقة، وتطهير النفوس عن البغضاء والشحناء ولا قوة إلّاباللّه.

الإشتراك في هذه الجرائم الفظيعة إلى أحد من المسلمين من غير دليل قطعي لايجوز عند العقل والشرع.

ص: 191

ولأجل زيادة التوضيح ننقل كلام (ابن الطقطقي) في الفخري (ص 246) قال: كان (يعني العلقمي) رجلاً فاضلاً كاملاً لبيباً كريماً وقوراً محباً للرئاسة، كثير التجمّل، رئيساً متمسّكاً بقوانين الرئاسة، خبيراً بأدوات السياسة، لبيق الأعطاف بآلات الوزارة، وكان يحبُّ أهل الأدب، ويقرب أهل العلم، اقتنى كتباً كثيرة نفيسة (إلى أن قال:) وكان مؤيد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزّهاً مترفّعاً. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمه الخليفة وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدى لي هذا، واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأسأل قبوله فقبل، ثم إنّه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئاً من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه أن لا يهدي إليه شيئاً بعد ذلك.

وكان خواص الخليفة جميعاً يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه، وكثروا عليه عنده، فكفّ يده عن أكثر الأُمور، ونسبه الناس إلى أنّه خامر وليس ذلك بصحيح.

قال(1): وفي آخر أيامه قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هلاكو فلم يحرّك ذلك منه (يعني المستعصم) عزماً ولا نسبة منه همّة، ولا أحدث عنده همّاً، وكان كلّما سمع عن السلطان من الإحتياط والإستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال (إلى أن قال:) وكان وزيره4.

ص: 192


1- الفخري في الآداب السلطانية: ص 244.

مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك، ويكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقّظ والإحتياط والإستعداد، وهو لا يزداد إلّاغفولاً، وكان خواصه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر (إلخ).

وليس عندي ببعيد أنَّ نسبة الخيانة إلى الوزير العلقمي صدرت أوّلاً من بعض المتعصّبين كما أسلفنا الإيعاز إليه، ثم نقلها بعض الشيعة ممن جرح عواطفهم ما صدر من العباسيين وعمّالهم على الشيعة من سلب الحرية والإضطهاد، والقتل والتعذيب، مما تقشعرُّ من ذكره الأبدان، فكأنّه أراد بنقل ذلك شفاء ما في صدره من هذه الأعمال الفجيعة، والسياسات الظالمة، ومن نقلها من السنيين لم يسندها إلى مصدر معتبر موثوق به، ولم أعثر في كتب التراجم والمعاجم الشيعية ذكراً لهذه النسبة، فضلاً عن الإفتخار به، ولو كان فيهم من يفتخر بذلك (العياذ باللّه) لذكروا في كتبهم المؤلفة في عصر الخواجة والعلقمي.

وهذه كتب العلّامة الحلّي في الإمامة وخلاف الأُمة ليس فيها ذكر عن ذلك، مع أنّه كان من تلامذة الخواجة في المعقول، نعم في الأعصار الأخيرة ذكر ذلك القاضي نور اللّه الشهيد المتوفى سنة 1021 في مجالس المؤمنين، وتبعه مؤلف روضات الجنات المتوفى س 1313 من غير استناد إلى أصل موثوق به، وسواء أكان تدخّل العلقمي في هذه الحادثة معلوماً أم مشكوكاً. فأُصول الشيعة تأبى عن الرضا بهذه الكارثة، وماجرى فيها من القتل العام، وذبح المسلمين والمسلمات، فالشيعي لا يجوِّز قتل مسلم واحد سنياً كان أو شيعياً إلّابالحق، فكيف يرضى بهذء المذبحة العامة وقتل الشيوخ والأطفال، وتغلّب الكفّار على

ص: 193

المسلمين، وليس في فقهاء الشيعة من أفتى بجواز قتل واحد من أهل السنة لأنّه سنّي، فضلاً عن قتل عامة أهل بغداد مع ما فيهم من العلماء والأشراف من السنيين والشيعيين.

وأما الخواجه نصير الدين المحقّق الطوسي فشأنه أجل وأنبل من التدخّل في هذه الفاجعة، وقد كان هلاكو قبل استخلاصه الخواجة من يد الإسماعيلية أرسل إلى الخليفة وطلب منه أن يعينه بالجنود والعساكر، وكان غرضه من ذلك توطئة الوسيلة للخروج عليه، وفتح بغداد كغيره من البلاد، ولم يكن لمنع الخواجه في فسخ عزيمته قليل تأثير، فهو وإن كان مكرّماً عنده ظاهراً، وكان هلاكو يفتخر بوجوده في البلاط السلطاني، وأراد أن ينتفع بعلمه وحكمته، لكن لم يكن الخواجة ممن لازم السلطان وصحبه بالإختيار، بل كان مكرهاً مجبوراً في ذلك، لم يكن له بدّ من صحبة السلطان، وما كان حاله عند هلاكو أحسن من حاله عند الإسماعيلية.

ومما يبعد نسبة وجود مواضعة بين هذا الفيلسوف وابن العلقمي أنّ ابن العلقمي كتب إلى الأمير ناصر الدين المحتشم أنّ نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بمكاتبة الخليفة، وأنشأ قصيدة في مدحه، وأراد الخروج من عندك، وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا، فلما قرأ المحتشم كتابه حبس المحقّق(1).

وعلى كل حال، فمثل هذا الحكيم الفيلسوف الذي قلّما يجود الزمان بمثله في العلم والأخلاق، والفضائل النفسانية، والكمالات الإنسانية، ويضرب به المثل في التواضع والحلم، والرحمة البشرية، لا يقدم على أمر لا يقدم عليه إلّا0.

ص: 194


1- تاريخ وصاف الحضرة ص 29 و 30، مجالس المؤمنين ص 340.

من ألقى جلباب الإنسانية عن نفسه، ورفع اللّه الرحمة عن قلبه، وأين هذا من رجل كان معلّم الأخلاق، ولايزال يكون تصانيفه في الحكمة العملية من مصادر التربية، وتعليم إصلاح الباطن وتهذيب النفس(1).

نعم ليس لمثل الخواجة ذنب غير حب أهل البيت، فصار بهذا الذنب غرضاً لسهام الجهّال، كما أنّ الشارح المعتزلي السني الذي توفّي قبل استيلاء المغول على بغداد(2) ليس له ذنب غير شرح نهج البلاغة، وما أبان فيه من الحقائق التاريخية، وفضائل أهل البيت، ومثالب مبغضيهم، فلم يحرّمه الخطيب من افتراءاته، ونسب إليه الإشتراك في هذه الفاجعة، ولم يسند ذلك إلى أي كتاب من كتب التراجم والتاريخ، ولم يأت في تحامله على هذا الشرح الذي يُعدّ من نفائس كتب المسلمين في الأدب والتاريخ واللغة، والكلام وغيرها، إلّابالفحش والشتم، والخروج عن أدب الكتابة.

هذا مختصر الكلام حول هذه الحادثة وأسبابها، ولا ريب أنّها من أعظم عبر التاريخ، ويجب على المسلمين الإعتبار بها وإن يعرفوا ضرر التنازع والتدابر، والإنهماك في المعاصي، والإشتغال بالملاهي والملذّات.

وما كان اللّه ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (3) .0.

ص: 195


1- قال ابن كثير في تاريخه (ج 13 ص 267) وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغادة فأثنى عليه، وقال: كان عاقلاً فاضلاً، كريم الأخلاق.
2- فإن سقوط بغداد كانت في سنة 656 ه وابن أبي الحديد توفي سنة 655 ه (تاريخ ابن كثير: ج 13 ص 199 و 200).
3- التوبة: الآية 70.

ص: 196

من عجيب افتراءات الخطيب على الشيعة

لم يدع الخطيب شيئاً من الإفتراء والبهتان إلّاأسنده إلى الشيعة، وترك عنان القلم في ذلك حتى قال في ص 27:

إنّهم لا يرضون من المسلمين إلّابأن يتبرؤا من كل من ليس شيعياً، حتى آل البيت من بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

الشيعة أعظم الناس احتراماً وأشد حفظاً للرسول في عترته وذريته، ليس عندهم أعز من أبناء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبناته وذريته، ويتوسلّون إلى اللّه تعالى بحبهم، ويتقرّبون إلى رسوله بولايتهم، ولم ينفك شيعي عن ذلك قط، ولا تجد لهذا الإفتراء أثراً عند الشيعة، لا في كتبهم ومقالاتهم، ولا في محافلهم وأنديَتهم، فاذهب أيها المفتري إلى مجالس الشيعة حتى تعلم مبلغ تحسّرهم وصراخهم، وصياحهم عند ذكر مصيبة الرسول بفقد ولده العزيز إبراهيم، وعند ذكر ما جرى على زينب بنت رسول اللّه من هبار، وحاشا ثم حاشا أن تكون في نفوس الشيعة إلا محبة أولاد الرسول وشيعتهم ومحبيهم.

ص: 197

وهل التشيّع غير الولاء الخالص لأهل البيت، وكم من الفرق بينهم وبين من هو عندك معدود من أهل السنة ممن سب علياً وسائر أهل البيت عليهم السلام وترك التمسّك بهم وتقرّب بذلك إلى الأُمراء طمعاً في جوائزهم وصِلاتهم.

نعم الشيعة يفضّلون فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين على إخوتها وأخواتها وغيرهنّ من النساء، لفضائلها ومناقبها التي عرفها الخاص والعام، ولاختصاصها بأبيها.

قالت عائشة: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها، وأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه(1).

وفي رواية أُخرى عنها: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا دلاً وهدياً برسول اللّه صلى الله عليه و آله من فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله. قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه و آله قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته في مجلسها(2).

وقال صلى الله عليه و آله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني(3).

وقال صلى الله عليه و آله: هي بضعة مني، وهي قلبي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه(4).1.

ص: 198


1- مستدرك الصحيحين: ج 3 ص 154.
2- سنن الترمذي: ج 2 ص 319، وأبي داود: ص 345، والمستدرك للحاكم: ج 4 ص 272.
3- صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق: ج 2 ص 185، وفي كتاب النكاح: ج 3 ص 164 (هي بضعة مني، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها).
4- نور الأبصار: ص 41.

منزلة زيد الشهيد وسائر أهل البيت عند الشيعة

أخذ الخطيب عن أسلافه المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام ما اخترعوه من الكذب الفاحش، والإفتراء البيّن على الشيعة، ومن أفحش هذه الإفتراءات البراءة من زيد بن علي بن الحسين وغيره من أكابر أهل البيت عليهم السلام، وهذا بهتان يكذّبه كتب الشيعة ورواياتهم، فإنّ من أظهر شعائر التشيّع الحب الخالص والولاء لأهل البيت والعلويين، لا سيما الفاطميين منهم.

فهذه كتب التاريخ تنبئ عن ذلك، وتشهد على مواقفهم ومشاهدهم في سبيل الدفاع عن أهل البيت، وتخبرك عمن قتل منهم دون العلويين.

وهذه الشيعة ضيقوا عليهم أعداء أهل البيت والنواصب، وابتلوهم بأنواع الإضطهاد والمصائب والفتن، من القتل وقطع الأيدي والأرجل، والسجن والجلد، والقذف بالكفر والخروج عن الدين، والآراء المفتعلة، وليست لهم جريمة إلّاحب علي وفاطمة وابنيهما، والتمذهب بمذاهبهم.

وهذه الشيعة تخاصمهم أنت ونظراؤك لأنّهم يكرمون أبناء علي وفاطمة،

ص: 199

ويعرفون لهم ما حباهم اللّه من الكرامة والفضيلة، ثم تنسبون إليهم أنهم لا يرضون من المسلمين إلّاأن يتبرّؤا من آل الرسول مثل زيد الشهيد.

وهذه كتب الإمامية في التراجم والنسب، مشحونة بالثناء البليغ لزيد الشهيد، ووصفه بكل جميل وجلالة قدره وكرامة مقامه عند الشيعة، أشهر من أن يذكر، وأمره في الورع والعلم، والبسالة وشدة البأس وإباء النفس، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى ما فيه الصلاح وخير الأُمة غني عن البيان، حاز الشرف النبوي، والمجد العلوي، والسؤدد الفاطمي، والروح الحسيني، خرج الشيعة عنه الأحاديث وأثنوا عليه، ومدحه شعراؤهم وأبنوه، وللإمامية في ترجمته كتب مفردة تنبئ عن منزلته عندهم، وخرّجوا أيضاً في شأنه وفضله روايات كثيرة عن النبي والوصي، والإمام الباقر والصادق والرضا عليهم السلام.

هذا حال الشيعة وسيرتهم في احترام العلويين، وأهل هذا البيت المبارك، فيا أهل الإنصاف! هذه كتب التراجم والتاريخ اقرؤوا فيها كيف هدر دم زيد خلفاء الأُمويين وأتباعهم الذين يفتخر الخطيب بهم، ويعتبر حكوماتهم شرعية، وينقم على الشيعة بأنّهم لا يعتبرونها شرعية.

إسألوا الخطيب عن أسماء قتلة زيد، وعمن أمر بقتله ومن قطع رأسه الشريف، والخليفة الذي أمر بإحراقه، وبعث رأسه إلى المدينة، فنصب عند قبر الرسول صلى الله عليه و آله يوماً وليلة واسألوه عن الخليفة الذي أمر أبا خالد القسري بقطع لسان كميت ويده بقصيدة رثى بها زيداً، وابنه يحيى، هل كان هؤلاء من الشيعة أو من أسلاف الخطيب؟

ص: 200

أيّها الخطيب أو ليس محمد بن إبراهيم المخزومي عامل خليفتكم بالمدينة يعقد الحفلات بها سبعة أيام، ويخرج إليها، ويحضر الخطباء فيلعنون هناك علياً وزيداً وشيعته من قومك الماضين؟ أو ليس الحكم الأعور القائل:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة... إلخ. من شعراء رهطك الأولين؟(1)

إقرأ كتب التاريخ، وانظر هل تقدر على إحصاء أسماء من قتل من الشرفاء الأجلّاء، ثم انظر هل تجد في قاتليهم غير بني العباس وبني أُمية وعمّالهم؟ واسأل عن مذاهبهم، هل كانوا من الشيعة أم من غيرهم؟

إسألوا الخطيب عن أبي البختري وهب بن وهب الذي شق أمان الرشيد ليحيى بن عبداللّه بن الحسن بالسكين، وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيّره سيوراً، فأجازه الرشيد بألف ألف وستمائة ألف، إنّه كان من قضاة الشيعة أو من أصحاب مذهبه، وأرباب نحلته؟

هذا كتاب مقاتل الطالبيين، اقرأ فيه شيئاً من مصائب أهل البيت ومحنهم، وما أصابهم من الخلفاء وحكوماتهم الشرعية من الظلم والقتل، وقطع الأيدي والأرجل والحبس في أعماق السجون، وتعذيبهم بمنع الماء والطعام، وارجع إلى نفسك وانظر هل تقر القول بشرعية حكومة هؤلاء الجبابرة؟ وهل ترى من أيّد تلك الحكومات وأفتى بوجوب طاعتها، واشترك في مظالمها وجرائمها علىم.

ص: 201


1- ومن طريف أخبار زيد ما ذكره عبد الرحمن بن عيسى بن حمّاد الهمداني في كتاب (الألفاظ الكتابية) المطبوع للمرة الثامنة في بيروت، سنة 1911 م في ص 143 قال: ولمّا أصاب زيد بن علي السهم، وأحسّ بالموت قال لرجل سأل عنهما: أين السائلي عن أبي بكر وعمر، هما أقاماني هذا المقام.

الإسلام والمسلمين لحطام الدنيا لم يرتكب ذنباً، ولم يقترف إثماً؟.

ص: 202

المشهد العلوي المقدّس

من الحقائق المسلمة التاريخية، والأُمور التي لا تقبل الريب والإنكار كون مدفن أمير المؤمنين علي عليه السلام في المكان المشهور الذي يتشرّف الناس بزيارته، وقد أخفى أهل بيته وأولاده قبره الشريف عن أعدائه من بني أُمية وغيرهم، فلم يعرف هؤلاء موضع مضجعه، وأهل بيته وأولاده كانوا عارفين بموضع قبر أبيهم عليه السلام. وقد أخبروا بذلك شيعتهم وخواصهم، وكانوا يزورونه في هذا المكان الطيب، فزاره علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بالزيارة المأثورة عنه، المعروفة بأمين اللّه، وزاره أيضاً أبو عبداللّه جعفر بن محمد عليهما السلام وغيرهم من الأئمة ومشايخ أهل البيت، والنصوص في تعيين محل القبر وأنّه بالغري في هذا المكان الذي يزار فيه عن الإمام الحسن والحسين وزين العابدين وابنيه محمد الباقر وزيد الشهيد، وأبي عبداللّه الصادق، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وغيرهم من الأئمة وأكابر أهل البيت متواترة، ومن يكون أعرف بموضع قبر الميت من أبنائه، وأقاربه، وعشيرته وخواصه.

ص: 203

وأخرج أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 42 بسنده عن الحسن بن علي الخلال، قال: قلت للحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله، حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري.

وأخرج ابن أعثم الكوفي أيضاً في تاريخه (على ما في ترجمته) عن الحسن بن علي عليهما السلام إنه قال: دفناه بالغري.

وأخرج أيضاً(1) بسنده عن أبي قرة قال: خرجت مع زيد بن علي ليلاً إلى الجبّان، وهو مرخي اليدين لا شيء معه، فقال لي: يا أبا قرة أجائع أنت؟ قلت:

نعم، فناولني كمثراة ملأ الكف، ما أدري أريحها أطيب أم طعمها؟ ثم قال لي: يا أبا قرة، أتدري أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنة، نحن عند قبر أمير المؤمنين علي.

وأخرج الحافظ الصغاني في (الشمس المنيرة) أن من المشهور أن زيد بن علي عليه السلام الذي ينتسب إليه أهل هذا المذهب الزيدي قال لأصحابه، وهم يسلكون معه طريق الغري: أتدرون أين نحن؟ نحن في رياض الجنة، في طريق قبر أمير المؤمنين.

وأخرج العلّامة المحدّث الثقة ابن قولويه المتوفى سنة 367 أو 368 في كامل الزيارة، والسيّد ابن طاووس في فرحة الغري النصوص المأثورة المتواترة في ذلك عن النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين، والحسن والحسين والسجاد، وسائر8.

ص: 204


1- تاريخ ابن أعثم الكوفي: ص 128.

الأئمة عليهم السلام.

نقول هذا، وفيه الكفاية وفوق الكفاية، غير متعرّضين لما ظهر من كرامات كثيرة، وآيات بيّنة عند الضريح المقدس، مما لا تسعه الأوراق، وتعجز عن إحصائه الأقلام، ذكر طائفة منها العلماء والمحدّثون في كتبهم بأسناد معتبرة، وصرّح بذلك ابن بطوطة في رحلته(1) وذكر بعض ما يتعلّق بليلة المحيا ليلة السابع والعشرين من رجب.

وقد أفرد الباحثون والمحقّقون في تعيين قبره، وأنّه مدفون بالنجف، وفي تاريخ هذا المشهد الشريف مؤلفات قيمة، منها كتاب فرحة الغري للسيّد النقيب العلّامة غياث الدين عبد الكريم بن طاووس، المتوفى سنة 693 ه، وهو كتاب حسن نافع جيد جداً.

وكتاب موضع قبر أمير المؤمنين لأبي الحسن محمد بن علي بن الفضل بن تمام الكوفي الدهقان أحد أعلام القرن الرابع الهجري.

وأيضاً كتاب موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام لأبي جعفر محمد بن بكران عمران الرازي من القرن المذكور.

وكتاب الدلائل البرهانية في تصحيح الحضرة العلوية للعلّامة الحلّي، وكتاب نزهة الغري للشيخ محمد الكوفي.

وكتاب نزهة أهل الحرمين في تعمير المشهدين (الغروي والحائري) للسيّد العلّامة السيّد حسن الصدر.0.

ص: 205


1- رحلة ابن بطوطة: ج 1 ص 110.

وماضي النجف وحاضرها للشيخ جعفرالنجفي آل محبوبة.

واليتيمة الغروية للسيّد حسون المتوفى سنة 1333 ه.

ولؤلؤ الصدق للسيّد عبداللّه ثقة الإسلام الإصبهاني.

وحدّ الغري وغيره، وصرّح بكون القبر في الغري جمع من أكابر المؤرخين كاليعقوبي المتوفى سنة 292 ه فقال على سبيل الجزم في تاريخه:

ودفن بالكوفة في موضع يقال له الغري.

وقال أبو الفداء في المختصر:(1) والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره أنّ قبره هو المشهور بالنجف وهو الذي يزار اليوم.

وقال ابن الطقطقي في الفخري:(2) وأما مدفن أميرالمؤمنين عليه السلام فإنّه دفن ليلاً بالغري ثم عفي قبره إلى أن ظهر حيث مشهده الآن صلوات اللّه وسلامه عليه.

وفي معجم البلدان(3) وهو (يعني النجف) بظهر الكوفة كالمسناة تمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، والنجف وقشور الصليان، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وفيه أيضاً(4) والغريّان طربالان، وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة، قرب قبر علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.6.

ص: 206


1- المختصر لأبي الفداء: ج 2، ص 93.
2- الفخري في الآداب السلطانية: ص 74.
3- معجم البلدان: ج 5 ص 271 (ط بيروت).
4- المصدر السابق: ج 4 ص 196.

وفي مراصد الإطلاع(1): والنجف أيضاً بظهر الكوفة كالمسناة تمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المشهور.

وأخرج الگنجي الشافعي(2) بسنده عن الحاكم أبي عبداللّه الحافظ بإسناد رفعه قال: لما حضرت وفاة علي عليه السلام قال للحسن والحسين عليهماالسلام: إذا أنا متّ فاحملاني على سرير ثم أخرجاني ليلاً ثم آتيا بي الغريين، فإنّكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فإنّكما ستجدان فيها ساجة فادفناني فيها فدفناه وانصرفنا.

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:(3) وقبره بالغري (إلى أن قال) وأولاده أعرف بقبره، وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب، وهذا القبر الذي زار بنوه لما قدموا العراق، منهم جعفر بن محمد عليهما السلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم.

وقال أيضاً في شرح النهج:(4) وهذا القبر الذي بالغري هوالذي كان بنو علي يزورونه قديماً وحديثاً، ويقولون: هذا قبر أبينا لا يشك أحد في ذلك من الشيعة ولا من غيرهم، أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدمين منهم والمتأخرين ما زاروا، ولا وقفوا إلّاعلى هذا القبر بعينه.).

ص: 207


1- مراصد الإطلاع: ص 394 (ط مص سنة 1310).
2- كفاية الطالب: ص 323.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 5 (ط مصر مطبعة دار الكتب العربية الكبرى).
4- المصدر السابق: ج 2 ص 45 (ط مصر مطبعة دار الكتب العربية الكبرى).

وقد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم وفاة أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون الرسي المقري بأبي نجودة قراءته قال: توفّى أبوالغنائم هذا في سنة عشر وخمسمائة، وكان محدثاً من أهل الكوفة، ثقة حافظاً، وكان من قوام الليل، ومن أهل السنة، وكان يقول: ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة وأصحاب الحديث غيري، وكان يقول:

مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم معروفاً إلّاقبر أمير المؤمنين، وهو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن، جاء جعفر بن محمد، وأبوه محمد بن علي بن الحسين عليهما السلام فزاراه... إلخ.

وقد زاره أيضاً جمع من الخلفاء كالمنصور، والرشيد، والمقتفي، والناصر، والمستنصر، والمستعصم(1).

وفي كتاب (السيّدة زينب) الذي وضعته لجنة نشر العلوم والمعارف الإسلامية بالقاهرة: وخفي قبره إلى أن ظهر حيث مشهده الآن (وفيه): قد ثبت أن زين العابدين علي بن الحسين، وجعفراً الصادق، وابنه موسى زاروه في المكان المذكور، ولم يزل قبره مستوراً لا يعرفه إلّاخواص أولاده، ومن يثقون به بوصية كانت، لما علم من دولة بني أُمية في عداوتهم له، فلم يزل مختفياً حتى كان زمن هارون الرشيد (ثم ذكر حكاية خروج هارون إلى ظهر الكوفة للصيد، وما رأى من كرامة الإمام عليه السلام، وظهور القبر له بدلالة بعض شيوخ الكوفة، وأمره ببناء قبة عليه)(2).ب.

ص: 208


1- فرحة الغري: ص 100-104، الحوادث الجامعة لابن الفوطي: ص 188 و 257.
2- السيدة زينب: ص 5 و 6 و 7، وقال ابن حوقل في (صورة الأرض: ص 215) وقد شهر أبو الهيجاء عبداللّه بن حمدان هذا المكان، وجعل عليه حصاراً منيعاً، وابتنى على القبر قبّة عظيمة مرتفعة الأركان من كل جانب لها أبواب، وسترها بفاخر الستور، وفرشها بثمين الحصر السامان، وقد دفن في هذا المكان المذكور جُلّة أولاده وسادات آل أبي طالب من خارج هذه القبّة، وجعلت الناحية مما دون الحصار الكبير ترباً لآل أبي طالب.

هذا وإيضاح موضع دفن جثمان الإمام عليه السلام وأنه في النجف في المحل الذي يزار الآن غني عن البيان، قام عليه اتفاق أهل بيته والأئمة من ولده وشيعته، لم يختلف في ذلك منهم اثنان، ولكن الخطيب أنكر هذا الواقع المسلّم حسداً وبغضاً، لأن في رحاب هذا المشهد تحيى مآثر العترة الطاهرة، وتأسّست منذ ألف سنة أعظم جامعة إسلامية لا تزال ترسل أشعتها إلى أرجاء العالم الإسلامي.

يحسد الخطيب أهل البيت على ما آتاهم اللّه من فضله، ومنحهم من المحبة في قلوب المؤمنين، وعلى أيامهم ومشاهدهم ومواقفهم التي ترسخ في النفوس حب الشرف والفضيلة.

هذه المشاهد تقول: إنّ أعداء الحق وأتباع الباطل، وإن جهدوا جهدهم وسعوا سعيهم، وقتلوا أصحاب الحق وهدموا بيوتهم، وفرّقوا جموعهم، وعذّبوهم في قعر السجون، وسبّوهم على المنابر، لا يقدرون على إطفاء نور اللّه، ويأبى اللّه إلّاأن يتم نوره ولوكره الكافرون.

هذه المشاهد تصيح في وجوه الظلمة وتنادي البشرية وتقول: كونوا أحراراً وأنصاراً لدين اللّه وأعواناً لعباد اللّه، وادفعوا عن كيان الإسلام، وشرف الإنسان يبقى لكم الذكر الخالد وتقول:

قف دون رأيك في الحياةإنّ الحياة عقيدة وجهاد

هذه القبور شعائر الحرية، وشعائر إخلاص أبناء البشر، وأهل الآباء والحمية، وتدعو الناس إلى إعانة المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق الإنسانية الكبرى.

هذه القبور تقول: إنّ أنصار الحق هم الغالبون، وإنّ حزب اللّه هم المفلحون، وإنّ المستقبل لهم، وإنّ الدهر لا ينساهم، واللّه يورثهم الأرض ويجعلهم الأئمة ويجعلهم الوارثين.

لقد حارب هذه القبور و أراد هدمها، ومنع الناس عن زيارتها جبابرة الأرض وأعداء الحرية، والخطيب ومن كان فيه نزعة أُموية يتبع أثر هؤلاء فيثقل عليه ما يرى من ميل النفوس إلى زيارة هذه المشاهد، فكأنّهم يحبّون أن يكون هذه الضرائح التي تهوي إليها الأفئدة، وتحن إليها القلوب لأعداء أهل البيت، وجبابرة التاريخ الذين حاربوا الفضائل الإنسانية، وسعوا في إطفاء نور الحق وكان من ألذّ الأشياء عندهم قتل الأبرياء، وتعذيب الصلحاء، فيقول في جملة من كلماته التي يظهر منها التعصّب والعناد، وبغض أهل البيت عليهم السلام، بعد تكرار افتراءاته السابقة على الشيعة من القول بوقوع التحريف في القرآن في ص 27 و 28: وقد زعموا ذلك (يعني القول بالتحريف)(1) في جميع عصورهم وطبقاتهم على ما نقله عنهم، وسجّله لهم نابغتهم العزيز عليهم، الحبيب إلى قلوبهم الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب في إثباتب.

ص: 209


1- قد أشبعنا الكلام في صيانة القرآن من التحريف، وذكرنا جملة من أقوال أكابر الشيعة وأحاديثهم في جميع طبقاتهم، وعصورهم في بطلان القول بالتحريف، فراجع تمام كلامنا في هذا الباب.

ص: 210

تحريف كتاب رب الأرباب) الذي اقترف جناية كتابة كل سطر منه في جانب قبر الصحابي الجليل أمير الكوفة المغيرة بن شعبة (رض) الذي تزعم الشيعة أنّه قبر علي بن أبي طالب(1).

انظر إلى هذه الكلمات بعين الإنصاف، واقض العجب عما يريد الرجل من التفريق بين المؤمنين، وانظر كيف يكرر افتراءاته، وكيف يأتي بكل ما يهيّج السنة على الشيعة وبالعكس، فيتعرّض لما لا يعد من الخلافات المذهبية، ولا مساسب.

ص: 211


1- لم يسبق الخطيب في نقل هذه الفرية أحد إلّاالخطيب البغدادي، فإنّه حكى عن أبي نعيم عن أبي بكر الطلحي: أنّ أبا جعفر الحضرمي كان ينكر ذلك، من غير أن يسنده إلى مأخذ أو أصل، أو ينقله عن مجهول، أو يذكر له مصدراً، ولم يعتمد على هذه الحكاية الواهية أحد من المؤرّخين، لا قبل الخطيب ولا بعده، وعدّه العلّامة السبط ابن الجوزي من أغلاط أبي نعيم، وقال: إن المغيرة بن شعبة لم يعرف له قبر، وقيل: إنه مات بالشام (تذكرة الخواص: ص 187، الطبعة الثانية. وقال ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج: ص 45، 46: سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه أنّ قوماً يقولون: إنّ هذا القبر الذي تزوره الشيعة جانب الغري هو قبر المغيرة بن شعبة، فقال: غلطوا في ذلك قبر المغيرة، وقبر زياد بالثوية من أرض الكوفة، ونحن نعرفها وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا (إلى أن قال:) وسألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبداللّه الحسين بن الأقساسي (رحمه اللّه تعالى) عن ذلك، فقال: صدق من أخبرك، نحن وأهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية، وهي إلى اليوم معروفة، وقبر المغيرة فيها إلّاأنّها لا تعرف، قد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها، واختلط بعضها ببعض، ثم قال: إن شئت أن تتحقّق أنّ قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور، فوجدت الأمر كما قاله النقيب.

له بتحقيق الوحدة الإسلامية.

انظر كيف يثني على المغيرة بن شعبة، ويأبى ذلك في حق من هو مجمع الأوصاف المحمودة الإنسانية، فيأتي بعد هذا الثناء على المغيرة بذكر اسم أمير المؤمنين عليه السلام مجرّداً عن جميع أوصافه وألقابه.

وانظر كيف لا يستحيي من العلماء، ومن قلمه وقرطاسه، فيقول جازماً من دون أن يذكر خلافاً في ذلك: إنّ الذي تزعم الشيعة أنّه قبر علي بن أبي طالب هو قبر المغيرة كأنّه من أولاد المغيرة، أو كان حاضراً حين واروه في التراب.

فاسألوه من أين عرفت موضع قبر المغيرة؟ ومن أين ثبت ذلك عندك؟ ومن أيّ مصدر صحيح أخذته؟ وهذا العلّامة الشهير السبط ابن الجوزي يقول:

لم يعرف له قبر، وقيل: إنّه مات بالشام، وهذا ابن حبّان يقول على ما حكي عنه في معجم البلدان في (الثوية): إنّ المغيرة بن شعبة دفن بالكوفة بموضع يقال له الثوية، وهناك دفن أبو موسى الأشعري في سنة خمسين، وقال في (مراصد الإطلاع) قيل بالثوية دفن المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد.

أم كيف ينكر معرفة ولد أمير المؤمنين الذين دفنوا أباهم، وزاروه في هذا الموضع الذي عرفوا الناس به، وكيف ينكر معرفة شيعته بقبره، فمن كان أبصر وأعلم منهم بذلك، وما قيمة إنكار شخص بعيد عن الميت بعد إخبار أولاده وخواصه بقبره، ومن يعتد بكلام مثل هذا المجازف الذي لا مأخذ له، وأبطله الأخبار المتواترة المذكورة، وتصريحات أعلام المؤرخين، وظهور الكرامات الكثيرة عنه عليه السلام عند القبر الشريف.

ص: 212

سيرة يزيد

لم يقنع كاتب (الخطوط العريضة) في إظهار الإنحراف عن أهل البيت، أصحاب الكساء، وبني فاطمة عليهم السلام، والميل إلى أعدائهم ومبغضيهم بما افترى على الشيعة حتى مدح في ص 31 سيرة يزيد بن معاوية، وكفى به عبقرية أن يكون من أمجاده يزيد المخمور الذي أخجل تاريخ الإنسانية بما يرتكبه من أنواع الجرائم والمنكرات(1).

ص: 213


1- راجع كتب التواريخ: كتاريخ الطبري ج 7، وابن الأثير ج 3، ومروج الذهب ج 3، والبداية والنهاية ج 8، وتاريخ اليعقوبي ج 2، وسير النبلاء ج 3 (في عبداللّه بن حنظلة) وسمو المعنى في سموّ الذات، أو أشعة من حياة الحسين ص 66-68، وأبو الشهداء، وحياة الحيوان ج 2 ص 224، والبدء والتاريخ، وتذكرة الخواص، وغيرها.

غلو الخطيب في الصحابة

أعلن الخطيب عقيدته في ص 32، وخالف جميع الأُمة فرفع أبا بكر وعمر وعثمان، وحتى عمرو بن العاص، حتى جعل منزلتهم أعلى من مرتبة جميع الأنبياء، وجبرئيل وميكائيل وسائر الملائكة، وجميع خلق اللّه، فانظر كيف يعلن بذلك ويصرح بتفضيل الشيخين وعثمان، وحتى مثل عمرو بن العاص على الأنبياء والمرسلين، كسيّدنا إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، وعلى جميع خلق اللّه، وهو الذي يمقت الشيعة لقولهم بتفضيل الإمام على سائر الصحابة، ويفتري عليهم بأنّهم (ونعوذ باللّه من ذلك) يرفعون مرتبة أئمتهم عن مرتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

وإنّما ذكر عمرو بن العاص فيمن فضله على جميع خلق اللّه تلويحاً بتفضيل معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، ومن يحذو حذوهما في بغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسفك الدماء، وقتل الأبرياء على الأنبياء عليهم السلام أيضاً.

ص: 214

عقائد الشيعة، والتقريب بين المذاهب

قال في صفحة 33: إن استحالة التقريب بين طوائف المسلمين، وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأُصول، قال: ومما لا ريب فيه أنّ الشيعة الإمامية هي التي لا ترضى بالتقريب... إلخ.

الشيعة الإمامية كما تشهد به كتبهم القديمة والحديثة المطبوعة وغيرها لا تخالف سائر المسلمين في أُصول الإسلام: التوحيد والنبوة والمعاد، يؤمنون باللّه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد ويؤمنون بأنبياء اللّه ورسله، ومعجزاتهم وكتبهم لا يفرّقون بين أحد منهم، ويؤمنون بماأُنزل على سيدنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، وأنّه لا نبي بعده، وبشريعته التي ختمت الشرائع، وأنّ القرآن المجيد هذا الكتاب الكريم الذي يقرؤه أهل السنة والشيعة هو الكتاب المنزل عليه، ويؤمنون بسؤال القبر، وقيام الساعة، وإحياء الأموات للحساب، وبالجنة والنار، والصراط والميزان وبملائكة اللّه، لا سبيل

ص: 215

للشك في هذه العقائد عند شيعي، وأيضاً يؤمنون بوجوب الصلوات المفروضة وغيرها من الواجبات، كما يؤمنون بحرمة الخمر والميسر، والميتة ولحم الخنزير، والكذب والغيبة، والربا والزنا، واللواط ونكاح المحارم، وغيرها من المحرّمات المعلومة الثابتة بالكتاب والسنة المعدودة من ضروريات الدين الحنيف، فمن شك في ذلك ليس من الشيعة بشيء بل لا يحكمون عليه بالإسلام، ويحكمون جميع فقهائهم عليه بالكفر والإرتداد، وهكذا يؤمنون بسائر أحكام اللّه تعالى في المعاملات، والقضاء، والنكاح، والطلاق، والظهار والإيلاء، والحدود والديات.

ولا يضر في الحكم بالإسلام عندهم اختلاف أرباب المذاهب في الفروع الفقهية فيحكمون بإسلام المعتنقين بالمذاهب الأربعة المعروفة، بل ومن لم يعتنق خصوص مذهب من هذه المذاهب، لأنّ باب الإجتهاد عندهم مفتوح، فليس على المسلم إلّاأن يأخذ بالكتاب والسنة، وليس لحصر المذاهب في الأربعة المشهورة أصل صحيح، بل يجب على من أدى اجتهاده إلى خلاف هذه المذاهب اتباع اجتهاده، ومع هذا كيف لا ترضى الشيعة بالتقريب.

وأما افتراؤه في ص 33 و 34 عليهم بأنّهم يرفعون الأئمة عن مرتبة البشر إلى مرتبة آلهة اليونانيين فبهتان محض، يعرف كذب هذا الإفتراء كل من كان له قليل معرفة بكتب الشيعة وعقائدهم، فهم أبعد الفريقين من هذه المقالات، لا يقولون بمثل ذلك في رسول اللّه صلى الله عليه و آله فضلاً عن الأئمة، ويعتقدون فيهم أنّهم عباد اللّه تعالى، مخلوقون مربوبون، محتاجون إليه، وأنّ من غلى فيهم فاعتقد تأليههم، أو اشتراكهم مع اللّه تعالى في أمر الخلق والرزق، والإماتة، والإحياء

ص: 216

وغيرها كافر مرتد خارج عن الإسلام يحكمون بنجاسته.

وأظن أنّ الخطيب أيضاً كان عالماً بتنزّه الشيعة عن هذه المقالات والعقائد الباطلة، ولكن لما لم يجد شيئاً يمنع عن التقريب والتجاوب بين الطرفين جاء بهذا البهتان العظيم، ونسب الشرك والكفر بالقول بتأليه أئمة آل البيت إلى طائفة كبيرة من المسلمين المؤمنين الموحّدين، الذين يشهدون في مآذنهم وإذاعاتهم بكلمة التوحيد، ويتبرؤون عمن يعتقد تأليه الأئمة وغيرهم، أو يرفعهم عن مرتبة البشر.

فليس ما بينهم شيء يمنع عن التقريب والتجاوب، وليس معنى التقريب أن يترك الشيعي مذهبه ويصير سنياً أو بالعكس(1) ، بل معناه أن يُترك كل على اجتهاده فيعيشوا في مجال أوسع من هذا المجال، وأن يتركوا العصبيات الباردة، ويعترف كل واحد منهم للآخر بالحقوق الإسلامية، لايتهم السني الشيعي بالشرك والكفر، والإستهانة بالفرائض وفعل المحرّمات، ولا يتهم الشيعي السني بالنصب وعداوة آل البيت، فلا يسيرون إلّاعلى ضوء الحقائق فيأوِّلون بعض ما يصدر عنهم بحسب اجتهادهم في الكتاب والسنة بما يتأوّلون بعض ما صدر من السلف، فإنّ حاجة المسلمين بهذه التأوّلات فيما بين أنفسهم في عصرنا أكثر وأشد من حاجتهم إلى تأويل أعمال السلف، فإنّ حسابهم على اللّه، والزمان حال بيننا وبينهم.م.

ص: 217


1- وهو صريح بيان دار التقريب أيضاً. وصرّح به مؤسسها العلّامة القمي في مناسبات شتى (راجع النقط على الحروف) من أبحاث رسالة الإسلام.

إن الشيعة لا يعتمدون على الإفتراء والأكاذيب حين يناقشون غيرهم، بل يعتمدون على الكتب المعتبرة الموثوق بها عندهم، ولا يقابلون الشتيمة بمثلها كشتائم الخطيب وغيره ممن لا نريد سرد أسمائهم، وسيحكم اللّه بينهم وبين هؤلاء يوم يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.

فالشيعة أرضى الفريقين بالتقريب، وقد خطت في سبيله خطواتها الواسعة، ولكن من يريد بقاء الملأ الإسلامي في ظلمة المناقشات والمنافرات لتبقى عليهم سلطة الإستعمار لا يحب التقريب وتحقّق الأُخوة الإسلامية بين الطائفتين، لا يحب أن يعيش أهل القبلة كلهم في عالم واحد معتصمين بحبل اللّه، فيفتري على الشيعة أُموراً لم تخطر على قلب شيعي، وينسب إليهم من العقائد ما هم أبعد منه من المشرق إلى المغرب كالقول بتأليه الأئمة ونبوتهم، وتارة يكفرهم بآراء لا توجب الكفر بل ولا الفسق إذا كانوا مجتهدين، وذلك مثل التبرّء من أعداء أهل البيت كمعاوية وعمرو بن العاص، والحجّاج ويزيد، وغيرهم ممن ثبتت عداوته لأهل البيت وبغضه لعلي عليه السلام، وقاتلوا علياً وحسناً وحسيناً، فإن ترك التبرّي لا يعد من أُصول الدين، ولا بمرغوب فيه شرعاً، بل دلت الروايات الصحيحة على وجوبه.

وأما ما قال في ص 34 من مخالفة أُصول الشيعة لجميع اصول المسلمين فنسأل الخطيب عن معنى الأصل والأُصول، وما قصد من أُصول الشيعة وأُصول المسلمين.

فإن كان مراده من أُصول الشيعة ماامتازوا به عن أهل السنة وغيرهم من فرق المسلمين من التمذهب بمذهب أهل البيت أعدال الكتاب وسفن النجاة، فلا

ص: 218

تجد فرقة من الفرق إلّاولها جهة امتياز عن غيرها، وليس معنى ذلك أنّها تخالف أُصول الإسلام.

وإن كان مراده أن أُصول الشيعة تخالف أُصول الإسلام والأُسس التي عليها يقوم الإيمان، وأن الشيعة لم تأخذ بأصول الإسلام الثابتة بالكتاب الكريم والسنة، فهذا بهتان على الشيعة، فإنّهم من أشد الناس أخذاً بأُصول الإسلام وبالكتاب والسنة، ولا ذنب لهم سوى أنّهم لم يؤمنوا بشرعية حكومة أمثال معاوية ويزيد والوليد من الحكّام الجبابرة والطواغيت، واهتدوا بهدى أهل البيت عليهم السلام فهل ترى الرجوع إليهم في العلوم الشرعية والتمسّك بهم وبالكتاب المأمور به في حديث الثقلين موجباً لجواز تكفير الشيعة أو تفسيقهم؟

وهل يكون الإيمان بصحة خلافة الشيخين وعثمان من أُصول الإسلام؟

وهل يجوز تكفير مسلم إن أدى اجتهاده إلى عدم صحتها؟

فإن جاز ذلك فلِمَ لا تحكمون بكفر النواصب والخوارج، وأصحاب الجمل وصفين، وبني أُمية وأتباعهم من الذين أنكروا خلافة علي عليه السلام الشرعية بإجماع الفريقين وفعلوا ما فعلوا.

ألا ترى أنّه لم يكفر أحد من الصحابة المسلمين الذين خرجوا على عثمان حتى قتل، وكان في من نقم عليه أُم المؤمنين عائشة، ولا ينكر ذلك عليها.

وإذا كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول اللّه وسيدة نساء العالمين لم ترض بحكومة أبي بكر ولم تقرها، ولم تعتبرها شرعية، وماتت واجدة عليه كيف يجوز تفسيق من اتّبع مذهبها مجتهداً في ذلك، ولو كان الإيمان بشرعية هذه

ص: 219

الحكومات من أُصول الإسلام كيف خفي على سيدة نساء أهل الجنة، وعلى بعلها باب علم النبي، وعلى غيرهما من بني هاشم، كالعباس والصحابة الذين امتنعوا عن البيعة(1).

فيعلم من ذلك كلّه أنّ الإعتقاد بشرعية هذه الحكومات ليس من أُصول الإسلام في شيء، ولا يجوز تفسيق من أدى اجتهاده إلى عدم شرعيتها، ولا يجوز لأهل السنة تكفير من لا يرى حكومة مضت عليها الدهور باد أهلها شرعية، ولا ينبغي للمسلمين الإشتغال بهذه المباحث التي قضت عليها الأزمنة، وليس حساب أهلها علينا، إن حسابهم إلّاعلى اللّه، وتلك أُمة قد خلت ولا مساس للقول بسوء صنيع هذه الأفراد، والقول بحسن حالهم بالإسلام، فإنّه أوسع من هذه المجادلات، فإذا لا ينبغي مناقشة الشيعي بما يرى من جواز التبرّء من أعداء آل محمد ومبغضيهم، وليس هذا مانعاً من التقريب والتجاوب، فكل في تلك المسائل على مذهبه، لا يضر ذلك بالتقريب بعد اتفاق الفريقين على اتّباع الكتاب والسنة، فإنّ الخلافات ترجع إلى الإختلاف في فهم مدلول الكتاب أو السنة، واعتبار بعض الأحاديث وعدمه، فإحدى الطائفتين إن أدى اجتهادها5.

ص: 220


1- يراجع صحيح البخاري ج 3 ص 35، ومسلم ج 5 ص 154، وأُسد الغابة ج 3 ص 222 و 223، وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 63 و 64، والإمامة والسياسة ج 1 ص 10 14، ومروج الذهب ج 3 ص 24، وشرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 407، والإستيعاب في باب من اسمه منهم عبد اللّه، والعقد الفريد ص 250 و 285 ج 2، والطبري ج 3 ص 198 و 199 و 210 و ج 4 ص 52، وتاريخ الخلفاء ص 45، والصواعق ص 12 و 13، والرياض النضرة ج 1 ص 167، وأعلام النساء ج 3 ص 1206 و 1207، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 103 و 104 و 105.

في مسألة إلى خلاف ما اختارته الأُخرى فإنّما اختارته تمسّكاً بالكتاب أو السنة، كما أنّ الطائفة الأُخرى أيضاً اختارت كذلك، وإن كان في أهل السنة من يعمل بالقياس فالشيعة لا يعملون به، ولا يحتجّون إلّابالكتاب والسنة، فلا يليق أن يكون مجرّد ذلك سبباً للجفوة والتباعد، ولا يوجب اختبار رأي في هذه المسائل، لا سيما إذا كان عن اجتهاد، وكان عارياً عن العصبية والعناد، موجباً للخروج عن الإسلام أو جواز التفسيق، أو استحقاق اللوم والتوبيخ.

ص: 221

ص: 222

الشيوعية والتشيع

زعم الخطيب في ص 34 أن الشيوعية التي تفاقمت في العراق وبحزب توده في إيران أكثر مما كان لها من أثر في سائر العالم الإسلامي هي وليدة التشيّع، والشيوعيون في ذينك القطرين من صميم أبناء الشيعة (إلخ).

الشيوعية لم تؤثر في ذينك القطرين لا سيما في إيران أكثر مما أثّرت في سائر العالم الإسلامي، وقد بذلت في سبيل تحقّق أُمنياتها في إيران منذ ظهرت إلى الآن أموالاً كثيرة، وفعلت السياسية الهدّامة، وعاونها في ذلك عوامل استراتيجية، وكون إيران محاددة لأُم الحكومات الشيوعية، وأعظمها سلطة وقدرة، ورغبها في بسط نفوذها الغاشم في إيران ما فيها من آبار الزيت وغيرها، وكونها طريقاً للإستيلاء على الهند والپاكستان، ولقد احتل الجيش الروسي في الحرب العالمية الثانية إقليم خراسان، ومازندران، وآذربايجان وجيلان، فأُسست في آذربايجان تحت اضطهاد الجنود الأجنبية وإشرافها حكومة

ص: 223

شيوعية ومع ذلك لم تنجح مساعيها في إيران ولم تنل ما أرادت من السلطة على إيران الشيعي، فقاومت آذربايجان الإتجاهات الأجنبية، واستقامت بالقوة الروحية الإسلامية، وتحمّلت الكوارث والمحن الشديدة، حتى فشلت دعايات الشيوعيين، فلم تؤثر في الآذربايجانيين ولا في غيرهم، لكونه من صميم أبناء الشيعة، وأغنياء من الأساليب الإقتصادية التي تعرض عليهم الشيوعية، ولأنّهم مؤمنون بأنّ التعاليم الإسلامية تضمّنت جميع ما يحتاجه الإنسان من النظم الإقتصادية والإجتماعية.

ولو كان التشيّع سبب تأثر إيران والعراق بالشيوعية فما سببه في تأثر البلاد السنية منها، ففي بعض الممالك السنية نرى الحزب الشيوعي من أقوى الأحزاب تأثيراً في الثورات والحوادث السياسية، وبعضها كألبانيا اعتنقت الشيوعية، وهذه كتب علمائهم ومثقّفيهم، حتى الإسلامية منها بين أيدينا قد تأثّر بعضها بآراء الشيوعيين، ويرى القارئ ميل مصنفيها إلى النظام الشيوعي، وتفسير تعاليم الإسلام على نحو يوافق ذلك النظام، وأضف إلى ذلك جرائد الأحزاب الشيوعية ومجلاتها، ودعاياتها بمختلف الأساليب في تلك البلاد.

وأما في إيران فقد فشلت تلك الدعايات، وقضى عليها الإسلام والتشيّع قضاءً حاسماً، واستنكرها الخواص والعوام استنكاراً شديداً.

ونسأل اللّه أن يحفظ بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من شر الأعداء، وأن يمنّ عليها بالخير والبركة والأمان والسلام.

ص: 224

الشيوعية وليدة مظالم المستعمرين

والحق أنّ الشيوعية مهما ظهرت وأنّى ظهرت في بلاد المسلمين ليست إلّا وليدة جنايات المستعمرين، فإنّ الإستعمار يمنع اجتماع المسلمين حول أحكام القرآن، ويسعى سعيه لتفريق كلمتهم ليحفظ سلطته على الممالك الإسلامية، ولينهب ما في أيديهم من الثروة ويقضي على مجدهم وكيانهم.

إنّ الإستعمار يرى الإسلام صخرة تقاوم مقاصده وأغراضه، فيسعى سعيه لتحطيمها، ولئلّا تكون الحكومات رمزاً لعلائق المسلمين، ولا تتحقّق مقاصد الإستعمار في بلادنا إلّاإذا عمّ الجهل والفقر، وشملت أبناءنا الرجعية والتقهقر إلى الجاهلية، فالإستعمار يريد اضمحلال المعارف الإسلامية التي هي أرقى المعارف البشرية ليسلب من المسلمين حرياتهم التي منحهم الإسلام، ولا يريد إلّا أن يصبحوا أرقاءه وعبيده.

الإستعمار هو الذي يرغب الفتيان والفتيات وأرباب المناصب والرؤساء والمترفين بترك الآداب الإسلامية، ورفض الشعائر الدينية، ويشوّقهم إلى

ص: 225

الإشتغال بالملاهي والمعازف، وشرب الخمر والقمار، والفحشاء واختلاط النساء بالرجال، ويستأجر الأقلام لتشويق المجتمع إلى الفساد والمنكرات.

وإنّ خوف الإستعمار من اتحاد المسلمين وتيقّظهم، واجتماعهم حول كلمة التوحيد أشد من خوفه من استيلاء الشيوعية، لأنّ العالم الإسلامي لو استيقظ من رقدته يدافع عن الإنسانية وحقوقها المغتصبة، ويعرض عليها أرقى الأساليب والنظم الإجتماعية، وأنفعها في حياتها الإجتماعية والروحية، والإقتصادية والمدنية، وينقذ الناس من مظالم المستعمرين، واستبداد الشيوعيين، ويقضي على استثمار الناس بعضهم بعضاً.

ولا تدخل الشيوعية في إقليم إلّابعد دخول الإستعمار فيه، فالإستعمار يمهّد السبيل للشيوعية لأنّه يأتي بالفقر والمشاكل الإقتصادية ويذهب بالحرية، ويمنع عن التقدم وعن قيام الأُمة بما فيه صلاح نفسها وعلاج دائها.

الإستعمار هو السبب للضعف وذهاب قوة الأُمة، ويقضي على الدين والآداب، والشعائر الإسلامية.

فالإستعمار ينتهي إلى الشيوعية، فإذا بلغ مظالمه غايتها أخلى السبيل للشيوعيين للقضاء على ما بقي من الحريات والفضائل، ولم تفتتن الجماعات بما يعرض عليها الشيوعية من أساليبها الخادعة إلّابما جنت عليها أيدي المستعمرين الجبّارين.

الإستعمار يفرّق بين المسلمين، ويؤسس في كل إقليم حكومة مستعمرة لتحفظ مصالحه، ويسعى سعيه كي لا تستولي عليه الشيوعية ولا تذهب بسلطانه، ولا يدري أن الشيوعية وليدته، وأن التخلّص من نكباتها خصوصاً في

ص: 226

الممالك الإسلامية لا يتحقّق إلّابهدم جميع البنايات الإستعمارية وإيكال أُمور المسلمين إلى أنفسهم.

الإسلام ديننا، وعزنا ومجدنا وتاريخنا، وتعاليمه وأحكامه آدابنا وشريعتنا، وسياسته سياستنا، وحكومته حكومتنا، وبلاده في شرق الأرض وغربها وطننا، لا يصلح أُمورنا إلّاالإسلام، ولم يفسد ما فسد منها إلّاالبعد عن الإسلام، والمستعمر يريد هدم هذه المباني فيجعل لأهل كل قطر تاريخاً ووطناً، ويشجّع العصبيات القومية(1) ، ويكثرون أسباب الإمتياز بين الأقاليم الإسلامية،ن.

ص: 227


1- لا اعتبار في المجتمع الإسلامي بالقومية، وإذا كان مفهوم القومية شعور جماعة من الناس أنّهم طائفة واحدة فشعور المسلمين أنّهم كلهم أبناء الإسلام وأُمة القرآن، وأنّهم كلهم مشتركون في المصالح والمنافع، وأنّه يجب على كل مسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقوى وأوسع وأشمل من ذلك، والتعبير عن الرابطة الإسلامية بالقومية ونحوها يقصر عن أفهام تلك الرابطة والأُخوّة الدينية التي هي نعمة اللّه على المسلمين، وإذا كانت القومية اتحاد جماعة في اللغة والعنصر والأرض والتاريخ والمصالح فلا اعتبار بها، ولا يجوز لمسلم أن يتميّز عن سائر المسلمين بهذه الأُمور، بل التمسّك بها يوجب التفرّق المنهي عنه، فالتفاهم والتجاوب يجب أن يكون بالإسلام وعقيدة التوحيد، وأمّا غير ذلك إن هي إلّاأسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم سورة النجم: الآية 23، فلا يقيم الإسلام لوحدة اللغة أو لوحدة العنصر والأرض وأمثال هذه وزناً، سيما إذا صارت سبباً للتفرّق وتميز طائفة من المسلمين عن سائر المسلمين. هذا مضافاً إلى أنّ العصبية للقومية بالمعنى المذكور خصوصاً إذا كان قبال قومية أُخرى من المسلمين مذمومة شرعاً، ولا ريب أنّ الإسلام جاء ليوحِّد الناس عقيدة ومجتمعاً، فليس إذن هنا غير الإسلام، وليس نعرات القوميين والوطنيين والعنصريين في داخل بلاد الإسلام إلّاشبائك للإستعمار، ولا شيء خارج الإسلام، وكل حركة يجب أن تنتهي إلى الإسلام، ولا يصغي المسلم إلى هتاف المستعمرين.

ويحيون آثار الأقدمين، ويربطون كل شعب بالعصور البائدة الحياة القِبَلية، لأن ذلك يقطع أسباب الإرتباط بين المسلمين، فيجب على أيّ شعب من المسلمين الإهتمام بإحياء أيام الإسلام وشعائره، دون ما ليس منه شيء من أيامهم الماضية، وشعائرهم التي أبطلها الإسلام، وأن يعظّموا رجالاتهم لأنهم رجالات الإسلام، وأن يعتزّوا بتاريخ شعبهم لأنّه صفحة من صفحات تاريخ الإسلام المشرقة لا لأنّه تاريخ شعب خاص أو مملكة أو أُمة خاصة، لأن هذا من أضر مكائد الإستعمار على الوحدة الإسلامية.

اللهم ادفع عنّا شر الأعداء، واجمعنا في ظل راية الإسلام، واجعلنا معتصمين بحبلك، وانصرنا على القوم الكافرين.

ص: 228

آذربايجان إقليم شيعي

زعم الخطيب في ص 34: أن علي محمد الشيرازي الذي ادّعى قبل مائة سنة أنّه باب المهدي المنتظر ثم ادعى أنّه هو المهدي نفي إلى آذربايجان لأنّها مباءة السنيين من أهل المذهب الحنفي، ولم تقم الحكومة بنفيه إلى بلد شيعي لأن من طبيعة مذهب الشيعي قبول أهله لهذه الأوهام.

هذا من آثار جهله العجيب بأحوال البلدان، ولا تثريب عليه لأنّه لا يحترز من القول بغير علم، فيقول ما يوافق هواه، بل ينكر الحقائق الظاهرة، فإنّ إقليم آذربايجان من الأقاليم العريقة بالتشيّع والولاء الكامل الخالص لأهل البيت عليهم السلام، ومعاهد الشيعة العلمية ومدارسهم وجوامعهم فيها كثيرة، وسكان هذا الإقليم مهتمون غاية الإهتمام بالإلتزام بالشعائر الإسلامية. وقد أبلوا في سبيل اللّه والتشيّع بلاءاً حسناً، ظهر فيه ثباتهم وصدق عزائمهم وحسن إسلامهم، وقوة إيمانهم، ونفي علي محمد إلى آذربايجان كان لأسباب سياسية أُشير إلى بعضها في كتاب (بى بهائي باب وبها) وكتاب (يادداشتهاي كينياز دالكوركي الروسي) وقد

ص: 229

منع أهل آذربايجان من الإفتتان بدعاوي علي محمد تشيّعهم والتزامهم بأُصول الإسلام، وولاء أهل البيت عليهم السلام، فصلب علي محمد هناك (في تبريز) بعد أن تاب ورجع عن دعاواه، وأظهر الإسلام وكتب توبته بخطه، لكن لم تقبل منه لعدم قبول توبة المرتد عن الفطرة في الظاهر.

حركة البابية والبهائية

وليعلم أنّ حركة البابية والبهائية في جميع مراحلها كانت تحت حماية السياسة الإستعمارية(1) ، فهي التي ربّتها وقامت بنفقاتها، فاستعملتها أولاً الحكومة الروسية لأهداف سياسية معينة، فشجّعت عمّالها هذه الحركة للقضاء على الحكومة الإيرانية، أو التدخّل في الشؤون الحكومية وتفريق كلمة المسلمين، وكانت حكومة إيران في تلك الأزمنة لأسباب معلومة مضطرة إلى المسامحة في الأُمور مع حكومة روسيا، ولكن مع ذلك لم تنجح سياسة حكومة روسيا، ولم تتحقّق أُمنياتها لأنّ إيران الشيعية قامت في وجه هذه السياسات وأخمدت نار فتنها.).

ص: 230


1- المذاهب والأديان التي أحدثتها السياسة، أو ربّتها في القرن الأخير في الشرق كثيرة ليست منحصرة بالبهائية، ولافرق بينها وبين الجمعيات والأحزاب السياسية التي تأسّست بنفقة بعض الحكومات في أهدافها إلّافي الإسم؛ ومن هذه الفرق القاديانية التي تسمى بالأحمدية، والآقاخانية، فكل هذه الدعوات أوجدها الإستعمار واليهودية العالمية والبهائية، كما صرح به الباحثين في أفكارها لا تتعدّى كونها فكرة ماسونية، ولا سيما في النظام المحفلي (راجع حضارة الإسلام، العدد 9 و 10 من السنة العاشرة).

ثم دخلت هذه الفرقة في مرحلة جديدة، حيث استخدمتها حكومة إنكلترا للعمل في إداراتها الجاسوسية إلى أن اتخذت لها حيفا وعكا مركزاً للدعاية، لأنّهم أدركوا أنّ الظروف والأحوال في إيران لا تساعد على قبول مثل هذه الدعايات السخيفة، فخدم الحزب البهائي حكومة إنكلترا خدمات خانوا بها الشرق والإسلام والمسلمين، لا سيما في الحرب العالمية الأُولى، فالتمس عباس أفندي رئيس البهائية من القائد الإنكليزي اللورد النبي الذي دخل بيت المقدس في الحرب العظمى الأُولى وقال: اليوم فقد انتهت الحروب الصليبية أن يحصل له لقب (سر) فحصل له، فكانت البهائية في أحضان جواسيس إنكلترا إلى أن شاركتهم في ذلك حكومة آمريكا لتستخدمها أيضاً في مقاصدها السياسية في الشرق الأوسط وغيره، فأصبحت البهائية حركة صهيونية أمريكية.

قال الكاتب الكبير الدكتور شلبي في كتابه (مقارنة الأديان: ج 1 ص 309) فيما كتبه حول الجمعيات السرية الخطرة التي كانت ولا تزال من أهم المؤسسات التي اعتمد عليها اليهود لتنفيذ أغراضهم، والوصول إلى هدفهم، فعدّ منها البابية والبهائية: (ومن الواضح أن حياة البهائية في عكا بين جماعات اليهود أثّرت فيها تأثيراً واسعاً، وقطعت ماكان باقياً بينها وبين الإسلام من صلات طفيفة إن وجدت فأصبحت البهائية وجهاً آخر لليهودية وللصهيونية).

وقال في ص 310 بعد ذكر موت البهاء: وخلّفه ابنه (عباس أفندي) الذي كان في خدمة الحلفاء خلال الحرب العالمية الأُولى فأنعمت عليه بريطانيا برتبة فارس مع لقب سير، وتوفي سنة 1931 م فخلّفه ابن بنته شوقي رباني الذي مات بعد ذلك دون أن ينجب ولداً، وفي ظل الفكر الجديد للبهائية دفعها اليهود إلى

ص: 231

أقطار الأرض ورعوها بالمال، ومنحوها الرعاية التامة فأصبحت البهائية (حركة صهيونية أمريكية) كما يسمّيها الكُتّاب والمحدّثون، وأسفرت البهائية عن وجهها الصهيوني إذ بعد وفاة ميرزا شوقي رباني اجتمع المجلس الأعلى للطائفة البهائية في إسرائيل وانتخب صهيونياً آمريكياً اسمه (ميسون) ليكون رئيساً روحياً لجميع أفراد الطائفة البهائية في العالم (انتهى كلام الدكتور شلبي).

وليس لتدخّل البهائية في بعض الأُمور سبباً غير السياسة، وليس لأكثرهم لولا الكلّ سيّما زعمائهم ورؤسائهم إيمان بالبهائية، فلم يعتنقوها للتدين بها بل اعتنقوها ليتقرّبوا بها إلى أعداء الإسلام ويكسبوا الدراهم والدنانير.

هذا، وأخيراً نلفت أنظار الباحثين في تاريخ البابية والبهائية وآراءهم، ولعب السياسات بهم إلى كتاب (تاريخ الباب أو مفتاح باب الأبواب) المطبوع في مصر مطبعة المنارس 1321 ه، تأليف الدكتور محمد مهدي زعيم الدولة، وصاحب جريدة (حكمة) نزيل القاهرة، وكتاب (مهازل البهائية على مسرح السياسة والدين)، تأليف أنور ودود المطبوع في حيفا مطبعة الكشاف، وكتاب (ساخته هاي بهائيت در صحنۀ دين وسياست) له أيضاً وكتاب (بى بهائي باب وبهاء) تأليف محمد علي الخادمي الشيرازي، وكتاب (يادداشتهاي كينياز) تأليف كينياز دالكوركي الروسي الوزير المفوّض للحكومة الروسية في طهران، وكتاب (محاكمه وبررسي در تاريخ باب وبها) تأليف الدكتور ح م ت وكتاب (نصائح الهدى) تأليف العلّامة البلاغي، وكتاب (بزبگير شرح دزد بگير)، وكتاب (يارقلي) وغيرها.

كما نلفت الأنظار أيضاً إلى التواريخ المؤلّفة في عصر حدوث فتنة الباب

ص: 232

مثل (روضة الصفا) و (ناسخ التواريخ) وغيرهما، وإلى كتاب (كشف الحيل) في ثلاثة أجزاء للفاضل البحّاثة (الآيتي) الملقّب عند البهائية ب (آواره)، وهذا الرجل كان داعيتهم العظيم ونحريرهم الكبير، ومنتهى أملهم، وكانوا يعتزون به كمال الإعتزاز فاستبصر وتاب عن ضلالاته، واعتنق الإسلام وأظهر بطلان مقالات هذه الطائفة، وأظهر حيلهم ومخازيهم وشنائع أعمال رؤسائهم، وصنف في ذلك كتباً كثيرة ككشف الحيل، ومجلة نمكدان، وغيرهما(1).ه.

ص: 233


1- ومما ينبغي أن نلفت إليه أنظار الباحثين أنّ للآيتي كتاب تاريخ موسوم بالكواكب الدرية في تاريخ البابية والبهائية، وهو كتاب أُلّف لقلب الحقائق التاريخية، وإخفاء فضائح هذه الفرقة، وقد شهد مؤلفه (الآيتي) بعدما استبصر بعدم اعتبار هذا التاريخ، وأنهم قد دسّوا فيه أربع مرات، وأسقطوا عنه ما كان ثابتاً من الوقائع التاريخية، وزادوا عليه المئات من الأكاذيب، فراجع كتابه (كشف الحيل ج 1 ص 70 63 و ج 2 ص 191 و 192 الطبعة الرابعة سنة 1307 الشمسية). وقرض الكواكب الدرية (للميرزا حسن نيكو) وهو أيضاً شهد في كتابه (فلسفۀ نيكو ج 1 ص 125 الطبعة الأُولى سنة 1306 الشمسية) بأنّ أكثر ما في كتاب الكواكب الدرية مجعول موضوع لا أصل له، فاحفظ ذلك حتى لا تعتمد على هذا التاريخ المزوّر الموضوع كما اعتمد سعد محمد حسن من علماء الأزهر، ومؤلف كتاب (المهدية في الإسلام) فوقع في اشتباهات كثيرة، وزلّات عجيبة، واعتمد سعد محمد حسن في كتابه هذا أيضاً على كتب المسيحيين واليهود، فنقل عقائد الشيعة بواسطة دوايت دونلدوس، وجولدزيهر وقان قلوتن ونيكلسون، وديقتسكي، ومرجليوث من الذين خدموا الإستعمار، والتبشير بكتبهم، ولم يفهموا عقائد الفرق أو لم يكتبوا ما فهموا وكتبوا ما سمعوا من المجاهيل وما لم يسمعوا، واعتمد أيضاً على كتاب (الوشيعة) المشحون بالأباطيل والنسب المفتعلة على الشيعة، ولم يراجع في ذلك ما كتبه علماء الشيعة في نقض (الوشيعة) مثل (نقض الوشيعة) لسيد الأعيان الإمام السيد محسن الأمين وأجوبة مسائل موسى جار اللّه) للعلّامة الإمام السيد شرف الدين. فهذه مصادر سعد محمد حسن في كتابه (المهدية في الإسلام) وما كتب عن الشيعة، وكان الواجب عليه مراجعة كتب أهل السنة المعتبرة في المهدية ومراجعة كتب الشيعة، أو علمائهم في سوريا ولبنان، وإيران والعراق وسائر الأقطار، أو مراجعة أقطاب التقريب من علماء الأزهر حتى يرشدوه الى عقائد الشيعة، ولا حول ولا قوة إلّاباللّه.

وقد ردّ عليهم أيضاً (الميرزا حسن نيكو) في كتاب أسماه: (فلسفۀ نيكو) في ثلاثة أجزاء، وكان هو أيضاً معدوداً من دعاة البهائية، ولكنّه أنكر اعتناقه هذا المسلك السخيف، واعتذر أنّه إنّما دخل فيهم للفحص عن حقيقة مسلكهم وبواطن أُمورهم وأسرارهم.

هذا آخر ما وفّقنا اللّه تعالى في نقد (الخطوط العريضة) مع ضيق المجال وكثرة الإشتغال، واللّه الهادي إلى سواء الصراط، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلّى اللّه على سيّدنا ونبينا محمد، وآله الهداة وأصحابه الأبرار، والتابعين لهم بإحسان.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

شوّال المكرّم 1382 ه

ص: 234

صوت الحق ودعوة الصدق

اشارة

ص: 235

ص: 236

المقدّمة

قال اللّه تعالى: وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلَى اللّهِ وَعَمِلَ صاَلِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسلِميِنَ(1).

من أعظم الواجبات الملقاة على عواتق العلماء، والكُتّاب، وقادة الأُمة، لا سيّما في هذا العصر أَن يخلصوا نيّاتِهم، ويُنزّهوا أقلامهم عن كل ما يورث الوهن والفشل، ويؤدي إلى الضعف في صفوف المسلمين، ويبعدوا نُفوسهم عن سوء الظن، وأَن يَتَّقوا اللّه فيما يقولون. لا يكتمون الحقائق، ولا ينشرون الأباطيل، ولا يعتمدون فيما يكتبون على الزور والبهتان، والإفتراءات الظالمة التي تُؤَدّي بالناس إلى الضَّلال، وإثارة العصبيات البغيضة الممزِّقة لجسم الأُمة، والمفرِّقة للجماعة، والدافعة للجهّال على تنمية التباغض والصِّدام، وفعل ما لا يُجوِّزه العقل والشرع كما يجب عليهم أن ينتهجوا أُسلوب الأنبياء عليهم السلام في

ص: 237


1- فصّلت: الآية 33.

المناقشة والجدال والدَّعوة إلى الحق على ضوء ما أَدّبنا اللّه به في كتابه العزيز حيث: قال عزَّ اسمه: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ(1).

وقال سبحانه: أُدْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هيَ أَحْسَنُ(2).

وقال تبارك وتعالى: يا ايُّهاَ الَّذيِنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(3).

وقال تعالى شأنه: إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ(4).

وقال تعالى حكاية عن نبيه شعيب لمَّا قال له قومه: إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبينَ * يا قَوْمِ لَيْسَ بي سَفاهَةٌ وَلكنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ(5).

وقد أمر نبيَّه الأَعظم صلى الله عليه و آله أن يقول للمشركين: إنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(6).

فلم يصرّح بضلالة المشركين في مقام التخاطب معهم مع أنّ المشركين في ضلال مبين من دون أدنى شك أو ريب.4.

ص: 238


1- العنكبوت: الآية 46.
2- النحل: الآية 125.
3- الاحزاب: الآية 70.
4- فصلت: الآية 34.
5- الاعراف: الآية 66-67.
6- سبأ: الآية 24.

فأقرب الطرق الموصلة إلى الحقيقة، الأخذ بهذا المنهج الإلهي، وهو الجدال بالتي هي أحسن، وأكمل المناهج هو هذا المنهج الذي أمر اللّه به أنبياءه ورسله ليسيروا عليه في أداء رسالاته.

فأحرى بنا أن لا نتّبع سواه أثناء الدعوة إلى الدين الحنيف ومحاولتنا اجتذاب الآخرين إلى رسالة رسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله، وفيما نتناقش حوله من المسائل الخلافية بين المسلمين لأنّه المنهج الوحيد البعيد عن الغلط في القول، والمنزّه عن أساليب الشتم والفحش والإفتراء، والمتحلِّي باللين واللطف، والمستند على العلم والمعرفة، والداعي إلى حمل أقوال المسلمين وأفعالهم على المحامل الصحيحة مهما أمكن، والإجتناب عن المزاعم والظنون الباطلة، ومتابعة الهوى، والعصبية الممقوتة.

قال اللّه تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أوُلئِك كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(1).

وقال سبحانه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَلَهُمْ وَلَوْكُنْتَ فَظّاً غِليظَالْقَلْبِ لاَ نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(2).

وإذا كان القرآن الكريم يخبر عن قوم شعيب، وهم كفّار أثناء ردّهم عليه بقوله: وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبينَ(3). مما يشير إلى أنّهم تحلَّوا بشيء من الأدب6.

ص: 239


1- الإسراء: الآية 36.
2- آل عمران: الآية 159.
3- الأعراف: الآية 66.

حيث لم يقطعوا بكذبه حسب ما توحي به عبارتهم.

فكيف يجوز للمؤمن الذي يأخذ بأدب اللّه أن يحكم على أخ له في اللّه، أو على طائفة كبيرة من إخوانه المسلمين بالكفر أو الفسق يتهمهم بما لا يقولون به، وما عذره عند اللّه تعالى إن كفَّر مسلماً بما لا يوجب الكفر، أو استعمل في رده عليه أُسلوب الشتم والفحش إلى جانب الإفتراء والبهتان اللذين يؤديان إلى إثارة الضغائن، ويحولان دون ظهور الحق وانكشاف الواقع.

فالباحث النزيه إذن لا يجوز لنفسه إن لم يكن في قلبه مرض أن ينحرف عن النهج الإلهي في حواره ومناقشاته مع الآخرين، ويتبع عوضاً عن ذلك أُسلوب الشتم، والدس، والضغينة، والتهريج بالباطل حين يؤدّي به الأمر إلى أن يحكم على طائفة لعلها الكبرى بين طوائف المسلمين، ولعلمائها واُدبائها على امتداد التاريخ عشرات الأُلوف من المؤلفات في مختلف الموضوعات، والعلوم الإسلامية عقيدة ونظاماً، أن يحكم على مثل هذه الطائفة من خلال أخبار آحاد شاذة أهملها العلماء والمحققون، وأساطين علم الحديث، لعدم الإعتماد عليها والأخذ بها، بل وإيمانهم بكذبها، فيتّهم هذه الطائفة نتيجة أخذه بشواذّ الأخبار هذه بما هي بريئة منه، ويرميها بالآراء والأقوال الشاذة.

وإننا لنستعيذ باللّه إذا كان بين المنتحلين للعلم والكتابة من لا يحمل سلاحاً للدفاع عن آرائه إلّاالشتم والإفتراء والمغالطة، والقول بغير علم، بل على خلاف العلم، وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه تعالى: إِنَّما يَفتَري الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

ص: 240

بِآياتِ اللّهِ وأولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (1) .

كما نستعيذ به من كُتّاب يؤثرون خصائصهم الطائفية على مقوّمات الشخصية الإسلامية فيؤيّدون الأُولى بما يذهب بالثانية، ويفترون على غيرهم بما لو ثبت (وهو ليس بثابت قطعاً) لأَصبح عاراً على الإسلام.

فهؤلاء إذن خطر على الإسلام كمبدأ وعقيدة، وخطر على جماعة المسلمين كأُمة يجب أن تصان وحدتها، والعمل على جمع كلماتها، وخصوصاً في هذه الظروف العصيبة التي تواجه الإسلام والمسلمين من جانب أعدائهم.

إنّني لأتساءل في نفسي، كما يتساءل كل مخلص في نفسه، عما يقصد أمثال هؤلاء من كتاباتهم الباطلة المملوءة حقداً وبهتاناً على شيعة أهل بيت النبوة، ومذهبهم غير تشويه جوهر الإسلام بتشويه منظر التشيّع.

ناهيك عما في ذلك من بث روح العداء والخلاف، والفرقة بين المسلمين، وخصوصاً فيما بين الشيعة والسنة في ظرف يعمل المخلصون فيه بكل جهد وإخلاص لبث روح التفاهم والتعارف بينهما.

كم كان حَرِيّاً بهؤلاء عوضاً عن بث هذه السموم أن يجرّدوا أقلامهم إن كانوا حقيقة ذوي علم وإيمان وعمل للكتابة حول الإسلام وبيان جوهره الإنساني، وحقائقه السامية، ومفاهيمه الراقية ليجتذبوا إليه هذه الأجيال التائهة، وخصوصاً في عصرنا المادي هذا، وأن يكتبوا الحقائق التي تُقرِّب بين السنة والشيعة، وتؤلِّف بين مختلَف المذاهب الإسلامية.5.

ص: 241


1- النحل: الآية 105.

وبذلك يكونون قد أدَّوا ما أوجبه اللّه عليهم من الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

الحوادث المنذرة

الحوادث التي تقع كل يوم في داخل بلاد المسلمين من الشيعة والسنة، وفي خارج عالمنا الإسلامي تنذر الجامدين، والغافلين، والمعرضين عن الإعتصام بحبل اللّه، وتحتم علينا جميعاً أن ننتبه من رقدتنا، ونستيقظ من نومتنا، ونتمسّك بكتاب ربّنا وسنّة نبينا، ونحسن الظن بأنفسنا كمسلمين إلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وحجهم واحد، وشعائر دينهم لا تكاد تختلف في شيء.

نعم، الأجدر بنا ما دمنا كذلك أن نلتفت إلى هذاالجيل المسلم خصوصاً بعد أن شاهدنا، ونشاهد طغيان الإلحاد، وامتداد الكفر، وسموم الدعايات (المضللة) التي تنفثها الإرساليات المسيحية، والشيوعية العالمية في نفوس أبنائنا وأفكارهم لتسلخهم عن الإسلام، وتُصيِّرهم أدوات في يدها للقضاء عليه، وسلاحاً ضد جماعة المسلمين.

ثم إنّ أفواجاً كثيرة في مجتمعنا الإسلامي من الأجيال الصاعدة باتت لا ترحّب بدعاة العصبية المذهبية، وتقاوم كل من يحاول منعها عن التفكير الحر، ولا يستسيغون استعراض كل ما يؤدي إلى الإختلاف بين مذاهب المسلمين، ولا ينصلتون وراء دعوات البهتان والإفتراء، بل يعترفون بالحق أنّى كان، وفي أيّ مذهب انحصر.

ص: 242

وما ذلك منهم إلّالتأكيد الإتصال، والإتحاد، والتجاوب، والتحابب بين المسلمين.

فلا يمكن لأحد في هذا العصر وإن جهد جهده. وكتب ما كتب من الكذب والإفتراء، أن يجعل طائفته بعيدة عن معرفة آراء غيرها، فالشيعي والسنّي يلتقيان كل يوم وكل آن، ويتجاوبان(1) ، ويعرض كل واحد منهما مذهبه علىة.

ص: 243


1- لا يخفى عليك أيّها القارئ العزيز أنّ كُتّاب الشيعة لم يحاولوا قط إبعاد أبناء الشيعة عن معرفة آراء المذاهب الأُخرى لا سيما أهل السنة، فهم منذ بداية بحوثهم العلمية الإسلامية وتعليمها وشروعهم في التصنيف والتأليف كانوا مهتّمين بمعرفة جوهر آراء غيرهم، وحقيقة مذاهبهم في الأُصول والفروع. فلم يعرضوا قط عن كتاب علم وبحث لأن مؤلفه سني، ولم يمنعوا طائفتهم عن مطالعة مؤلّفات غيرهم من طوائف المسلمين، وعلمائها وكتبهم في الأُصول، والفقه، وفي المسائل الخلافية بين المسلمين تشهد بذلك كما تشهد بأمانتهم وعلمهم الواسع بالمذاهب، فنراهم يذكرون في كتبهم في الأُصول والفقه، والتفسير وغيرها أدلّة أهل كل مذهب، ثم يناقشونها بكل إنصاف وتبحّر وعلى ضوء الكتاب والسنة. وفي هذا العصر لا تجد في مدينة قم المشرفة، وجامعتها الإسلامية الكبرى وفي سائر البلاد والمدن الشيعية مكتبة عامة أو خاصة إلّاوهي مشحونة بمؤلفات أهل السنة في مختلف العلوم، وهي في متناول الجميع، يراجعها تلامذة الجامعة بكل حرية من غير أن يكون لهم غرض إلّاالأخذ بالرأي الصحيح الأوفق بالكتاب والسنة. فلا يشتبه على أحد منهم شيء من آراء المسلمين ومذاهبهم لقلة المصادر فضلاً من أن يتعمّد ذلك ويأتي بالزور والبهتان كما يشتبه على الكاتب السني لقلة مصادره، ولاعتماده على أفائك الأولين وما نسجته أيدي السياسات الجائرة في ذلك. فترى مثل الأُستاذ عبدالكريم الخطيب مع ما كتب حول المعارف الإسلامية يعتمد في كتابه (اللّه ذاتاً وموضوعاً) فيما ينقل عن الشيعة، وهم أرقى الطوائف الإسلامية، وأعمقهم تفكيراً في المعارف الإلهية على الملل والنحل للشهرستاني الكتاب المملوء بالخرافات والإشتباهات. فيسند إلى الشيعة القول بالحلول والتناسخ، والتجسيم والتجسيد، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، ولا يذكر عن آرائهم وعقائدهم الإسلامية التي بنوها على الأدلّة العقلية والنقلية شيئاً، فكأنه لم يكن عنده من كتب الشيعة في الكلام والفلسفة كتاب أو لم يُرد أن يراجع هذه الكتب، لأنّ ما فيها يكذب ما في مثل (الملل والنحل) ويثبت جلالة شأن الشيعة، ورفعة منزلتهم في العلوم الإلهية والمعارف الحقيقية الإسلامية.

الآخر، ويتفاهمان ثم يخرجان بنتيجة مقنعة، وهي أنّ الأُسس التي تدعو كل واحد منها إلى التقارب والتلاحم مع الآخر أكثر وأهم من غيرها الذي يدعوهما المغرضون بسببه إلى الإبتعاد، والتضارب، ويعرفان أنّ بعض الكُتّاب ممن نشير إليهم لم يريدوا بكتاباتهم إلّاالإحتفاظ بافتراق الأُمة، ولم يأتوا إلّابما أتى به من سبقهم في أعصار لم تكن فيها الظروف مهيأة لتحقيق الإتصال، كما هو حالهم اليوم في اللقاءات الحسنة والإتصالات الوُدِّية ذات الروح الإسلامية الفاضلة.

نظراً لكل ذلك فإنّني أقول، وأُكرر بأنّ جيلنا المعاصر، بما أصبح فيه من وعي، لا يستسيغ أيَّة صيحة تدعو المسلمين إلى الفرقة والإختلاف، ولا يجيب نداء إلّامن كان يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وإلى ما فيه عز الإسلام والمسلمين، وتوحيد كلمتهم وإعلاء أمرهم.

ومع ذلك كلّه فإنّ بعض الكُتّاب يغفلون أو يتغافلون عما عليه جيلنا لا سيما الشبّان، وتلامذة الجامعات، وأساتذتها من المستوى الثقافي، ويظنون أن هؤلاء يقرؤون كل كتاب، ويسمعون كل نداء، وأنهم لا يدركون ما يريد أمثال

ص: 244

هؤلاء المرتزقة من الإفساد بين المسلمين أعاذ اللّه الإسلام من شرورهم، ووقى المسلمين فتنة أقلامهم وكتاباتهم.

فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (1) .9.

ص: 245


1- البقرة: الآية 79.

كتب الفتنة والتمزيق والإلحاد

إنّ من أعظم الأخطار على وحدة المسلمين، وتعاونهم ضد عدوهم المشترك إقدام بعض المستهزئين الأغبياء، الذين لا يقدِّرون عواقب ما يفعلون، على ما يؤدي إلى انشغال أبناء الأُمة الإسلامية الواحدة بصراعات كلامية لا تبتني على أساس سليم، قد يؤدي في حالة عدم وضع حد لعبثهم، إلى تعميق جذور التباغض والتمزّق، والإنهيار المخيف الذي تعاني منه امتنا اليوم شر معاناة.

ومن ثمَّ فإنهم يكونون قد ساهموا مساهمة مخلصة! في تحقيق أغراض الإستعمار والصِّهيونية، من تكريس التفرقة والنزاع الداخلي، ليحولوا بين المسلمين وبين الوحدة، لعلمهم بأنّها الكفيلة لو تحققت بإزالة نفوذهما عن البلاد الإسلامية وسيطرتهما عليها.

ففي كل فترة من الزمن يطلع على الأُمة واحدة من أمثال هؤلاء الجهلاء يدافع عن عصبيتهم المذهبية الممقوتة ضد مذهب أو آخر من مذاهب المسلمين

ص: 246

بأكاذيب ملفقة، وأراجيف مزيفة قد بان الحقد الأعمى من خلال أسطرها، والجهل بحقيقة الإسلام، وبحقيقة المذهب الذي يفتري على قدسيته من مطاوي مواضعها يحبر بها أوراقاً قد أطلق عليها اسم رسالة أو كتاب، وهي في مضمونها أبعد ما تكون عن مدلول هذين اللفظين، بل أول ما تدلّ عليه فراغ واضعها من العلم والفضل والأدب؛ لأنّهم سدّوا على أنفسهم أبواب التعمّق والتحقيق خصوصاً فيما يتعلّق بالمذاهب الإسلامية من مصادرها الأساسية، لذلك تراهم ويا للعار يخبطون في أبحاثهم خبط عشواء فيرمون غيرهم بالكفر حيناً، وبالفسق أحياناً استناداً إلى كلام أخذوه عن هذا، أو رأي نسبوه إلى ذاك، أو قول سمعوه من ذلك من الناس، كأنّما عند هؤلاء علم الأولين والآخرين أو أنّهم معصومون عن الخطأ والكذب والإفتراء.

وهناك من الأقوال ما يتركون بعضاً منه، وينقلون بعضاً لغرض في نفوسهم مما يجعل الإنسان الذي يدفع به سوء الطالع لقراءة تضليلاتهم يساءل نفسه: إذا كان الحق هو غرض هؤلاء، والحقيقة غايتهم فلِمَ يفعلون ذلك، ولِمَ لا يحقّقون في صحة ما يسمعون، وما يقولون؟

ولِمَ لا يرجعون إلى مصادر المذهب الذي يكتبون عنه حين ينتهي بحثهم إلى ما يريده الباحثون المنصفون، ولكن هؤلاء ليست لهم من غاية إلّاتشديد العداء، وإضعاف الصداقة.

لذا تراهم يأتون بالغث لا السمين، أو يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.

ص: 247

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة المحترمين.

إلى علماء پاكستان لا سيما مدينة لاهور.

إلى قادة الفكر ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والذين على جهادهم المخلص يتوقّف مستقبل الإسلام الأزهر.

إلى كل من يؤمن باللّه تعالى، وبمحكمته العادلة.

وبعد، فإنّه قد نشرت في السنوات الأخيرة رسالة أسماها مؤلفها (الخطوط العريضة في الأُسس التي قام عليها مذهب الشيعة الإمامية) وملأها بالأقاويل العجيبة التي يعرف كذبها كل من له أدنى بصيرة بالمذاهب الإسلامية، وتحت هذا الستار سعى في هدم الأُسس التي قام عليها دين الإسلام الحنيف حتى جعل كتاب اللّه تعالى القرآن المجيد هدفاً لسهامه، وبالغ في الدعوة إلى التخاصم، والتنازع، والتفرقة المنهي عنها، وتهييج العصبيات الطائفية.

ثم إنّي لما قرأتها أدركت خطرها على الإسلام، وعلى كتاب اللّه الكريم ووجدتها أمنيَّة دعاة التبشير والإلحاد، وكل من يُكنُّ عداءً للقرآن والإسلام وحرماته من المستشرقين، وغيرهم يتخذونها سنداً لأضاليلهم وضلالاتهم.

ص: 248

ومن جانب آخر تؤدي إلى تفرقة الأُمة، وبث روح التنافر والتشاجر، وإيقاد نار الشحناء والبغضاء.

فرأيت أنّ من الواجب على كل كاتب إسلامي دفع ما في هذه الرسالة من الشبهات سيما حول الكتاب الكريم الذي اتفقت كلمة المسلمين من الشيعة والسنة، بل وغيرهم على أنّه هو هذا الكتاب الموجود بين الدفتين المطبوع المنتشر في أقطار الأرض، وأنّه لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه تنزيل من حكيم حميد.

فكتبت كتاب (مع الخطيب في خطوطه العريضة)، وأثبت فيه صيانة الكتاب المجيد من التحريف، وأوضحت ما في هذه الرسالة من الضلالات والجهالات.

فأثّر بحمد اللّه تعالى ومنِّه في قلوب المسلمين، والأوساط الثقافية أثراً إيجابياً، ووقع عند العلماء والمصلحين، ورجالات الإسلام وأساتذة الجامعات، والباحثين المنصفين موقع القبول والشكر والتقدير، ولذلك طبع مرات عديدة.

واللّه تعالى يعلم أنّه ما دعاني إلى كتابة هذا الكتاب إلّاخدمة للإسلام وللقرآن المجيد، والدفاع عن كرامته والسعي لجمع الكلمة، ولمِّ الشعث، والتحابب، والتوادد بين الأُمة.

وما كنت أظن بعد ذلك أنّ كاتباً يزعم أنّه يكتب للإسلام ولمصلحة أمّته يتّخذ قبال هذا الكتاب وما دافعنا به عن قداسة القرآن الكريم، وصيانته من التحريف، والدعوة إلى الوحدة الإسلامية موقفاً سلبياً يكرر ما في (الخطوط العريضة). ويقفو أثر مؤلفها ليعطي المبشّرين، وأعداء الإسلام، ودعاة التفرقة،

ص: 249

والتمزيق بالزور والبهتان سلاحاً انتزعناه منهم في (مع الخطيب في خطوطه العريضة).

حتى جاءنا بعض الإخوان بعد رجوعه من العمرة وتشرّفه بزيارة الحرمين الشريفين بكتاب (الشيعة والسنة) وذكر بأنّ نائب جامعة المدينة المنورة الإسلامية قد أهداه إليه مع كتاب (العواصم من القواصم) الذي كان قد شرحه محب الدين الخطيب شرحاً أظهر فيه نصبه وعدواته للعترة النبوية، وولاءه لأعدائها، وأنكر فيه الحقائق التاريخية المعلومة ظلماً وعدواناً. فقرأته، وعجبت من سعي كاتبه في تفريق كلمة المسلمين، ولعمر الحق! ما كان يخطر ببالي أنّ أحداً من المسلمين يجعل مهمته الإحتفاظ باختلاف الكلمة، والتباعد، وتشديد المجادلات الطائفية، ويعارض دعوة المصلحين من الزعماء والرؤساء والعلماء في التقريب إلى الوحدة الإسلامية، ويخطئهم جميعاً، ويتبع غير سبيل المؤمنين، ويرد هذه النداءات والصيحات التي ارتفعت من العلماء والرجال البارزين الغيارى على الإسلام من الشيعة والسنة في شرق الأرض وغربها، ويتهم الجميع بالجهل والكذب، والنفاق والخداع.

وأعجب من ذلك وأعظم مصيبة على المسلمين أن يكون القائم بنشرها جامعة المدينة المنورة الإسلامية التي ينبغي أن تكرّس كل جهودها للدفاع عن وجودنا الإسلامي شيعة وسنة، وإرشادالمسلمين إلى ترك الجفوة والبغضاء، وأن تساهم بما عندها من طاقاتٍ مع العلماء المصلحين من الفريقين لتحقيق التقريب والأُخوّة الإسلامية.

ويسوءنا زيادة على ذلك إنّ الحكومة السعودية التي تنفق على هذه

ص: 250

الجامعة هي التي تعتني بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية اعتناءاً كبيراً، فجلالة الملك الراحل فيصل آل سعود كان من أُولئك الرجال الذين ينادون الأُمة بالوحدة الإسلامية، وهو الذي أدرك بثاقب نظره أنّ الشيعة لو لم تكن في عقائدها الإسلامية، والإلتزام بأحكام الشريعة، والدفاع عن كرامة القرآن الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحادة من حاد اللّه ورسوله، والمحافظة على مصالح المسلمين أقوى من سائر الطوائف فهي ليست أقل من غيرها في ذلك كلّه.

فهم الذين يضحون بأنفسهم في الدفاع عن أحكام القرآن، ويجعلون نصب أعينهم اللّه ورسوله فيما يقولون وما يفعلون، دليلهم كتاب اللّه وسنة رسوله الكريم.

وجلالة الملك الحالي الملك خالد أيضاً يعرف ذلك، ويقفو أثر أخيه لا يرتضي هذه النعرات الطائفية، ولا يحب التباعد والتباغض، ووثوقه واعتماده في المشاكل الإسلامية على أبناء الشيعة ليس بأقل من وثوقه واعتماده على أبناء السنة، بل ربّما يكون بعض أبناء الشيعة أوثق عنده من بعض أبناء السنة المتأثّرين بالدعايات الإلحادية.

والحكومة العربية السعوديّة هي التي تشجِّع الحركات الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية وغيرها، وتنفق عليها، وتؤيّدها وتدرك أنّ الإسلام في برامجه وأحكامه، ومناهجه مهدّد من جانب الإستعمار والإلحاد في البلاد الشيعية والسنيّة.

وإذا اشتغل المسلمون بالمنازعات الطائفية، وإذا كانت حصيلة بعض

ص: 251

الجامعات وانتاجات كتابهم وناشريهم لا سيما في المملكة السعودية مطلع شمس هداية الإسلام ومهبط وحي القرآن، مثل كتاب (السنة والشيعة)، وكتاب (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) وكتاب (العواصم من القواصم) بشرح الخطيب، وغيرها من الكتب كل ما فيها بعيد عن روح الإسلام، بل هي مجلبة لغضب اللّه سبحانه لما فيها من طعن بأهل بيت رسوله الأعظم ونصب العداء لهم، والولاء لأعدائهم، وتحقيق أمل الأعداء في قطع جذور الإسلام من البلاد سواء أكانت شيعية أم سنية، والتفشيل لسعي الزعماء والمصلحين.

ولا ريب أنّ ما يكتبه هؤلاء المتمذهبون بولاء بني أُمية، وبني مروان والمصوّبون لمظالمهم، والمعلنون العداء لسيّدة نساء العالمين، وبعلها أخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ووصيه، وابنيها سيّدي شباب أهل الجنة، وسائر أهل البيت عليهم السلام لا يتوافق مع ما عليه أكثر أهل السنة فهذه كتبهم، ومؤلّفاتهم في الحديث والتاريخ، والتراجم مملوءة بفضائل أهل البيت لا سيما أمير المؤمنين، والسيّدة الزهراء، والسبطين كما هي مشحونة بمثالب أعدائهم، وقد دوّنوا حتى المعاصرين منهم (شكر اللّه مساعيهم) كتباً مستقلة في فضائل أهل البيت، وفي الخرافات ومثالب أعدائهم مثل معاوية وغيره، وأثبتوا فيها مطاعنهم وبدعهم.

فمن كان في قلبه حب لآل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولعلي عليه السلام الذي لا يحبه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّامنافق، لا يمكن أن يشجّع مثل هؤلاء الكُتّاب وينشر ما هو ضد مصلحة الإسلام والمسلمين.

فإلى رئاسة جامعة المدينة المنورة الإسلامية الموقّرة، وأساتذتها المحترمين نوجّه نداءاتنا المتكررة، طالبين منهم أن يكونوا عند مسؤولياتهم

ص: 252

الإسلامية مراعين مصلحة الإسلام العليا، وأن لا يظنوا بأنّ أمثال هذه النشرات تفيد المسلمين.

والذي نرجوه منهم هو أن يكونوا من كتّابها وناشريها على حذر، وأن يقرؤوا عليهم قول اللّه تعالى:

فَوَيلٌ لِلَّذينَ يَكْتُبُونَ الْكتابَ بِأَيْديهمْ ثُمَّ يَقوُلوُنَ هذا مِن عِنْد اللّهِ لِيَشْترُوا بِهِ ثَمناً قَليلاً فَويْلٌ لَّهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (1) .

ثم إنّكم أيّها الإخوة الكرام لفي أقدس بلاد اللّه في الحرمين الشريفين، فإنّ القلوب من شرق الأرض وغربها تهفو إلى دياركم، وتشتاق إلى بلادكم، وأنتم يا علماء الحرمين، ويا مجاوريهما محترمون عند الجميع لشرف مكانكم.

فيا ساكني أطراف طيبة كلّكمإلى القلب من أجل الحبيب حبيب

خذوا أُهبتكم، وجدّدوا النظر في مناهجكم، وكتبكم ومقالاتكم ودروسكم وبحوثكم فقد أعطاكم اللّه في كل سنة فرصة سعيدة اختص اللّه سبحانه بها أُمتنا، وأقدركم بها على أن تصلحوا بين المسلمين، وتعرضوا عليهم أساليب إسلامية قيمة في مناهج حياتهم التي أثرت فيها الأساليب الكافرة، وأن تشجّعوا الحركات الإسلامية، وتؤيدوا العلماء المصلحين، وتدعوا أبناء الأُمة جميعاً من الشيعة والسنة إلى تطبيق أحكام القرآن.

فعلى الخطيب الذي يخطب في المسجدين لهذه الجموع الغفيرة القادمة لأداء فريضة الحج المقدسة من كل فج عميق أن يزوِّدهم من تعاليم الإسلام بما9.

ص: 253


1- البقرة: الآية 79.

يؤدي بهم إلى اتّباع سبيل الإستقامة، والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، والجهاد ضد الإلحاد الذي أحاط بالعالم الإسلامي من كل جانب، ويحثَّهم على مقاومة التيارات الخبيثة، ويطلعهم على الأسباب التي أدت إلى إبعاد الشيعة والسنة عن المناهج الإسلامية، وجعلت مجتمعاتهم أشبه بالمجتمعات الغربية، وأنّ برامج تعاليمهم وسياساتهم، وحكوماتهم بعيدة عن روح الإسلام ومبادئه السمحاء التي لا خلاف فيها بين الأُمة شيعة وسنة.

لا أن يقول عن طوائف المسلمين ما يورث الشنآن والبغضاء، وما لا يستقبله جيلنا الحاضر إلّابالنفور، ولا يزيد الأُمة إلّاجهلاً، وفي كليهما خدمة لأعداء الإسلام: الإستعمار والصهيونية.

فلا يتشوّق المسلم المعاصر إلى مسألة أهم من مسألة الوحدة الإسلامية، والتقريب بين الشيعة والسنة لأنّه لا يرى مانعاً من تحقيقها في عقائد الشيعة، ولا في عقائد السنة، ولو لم يوجد في بعض المنتحلين للعلم والكتابة مثل كاتب (الخطوط العريضة) و (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)(1). و (الشيعة والسنة) وناشر (العواصم من القواصم) وشارحه لأصبح المسلمون في وئام ووداد.ء.

ص: 254


1- يأتي ما نشرته (رسالة الجامعة، جامعة الرياض) حول هذا الكتاب، وأنّه هراء في هراء.

عقائد الشيعة والسنة

المسلمون جميعاً من الشيعة والسنة يعتقدون بأنّ اللّه عز وجل وحده لا شريك له إله الجميع، وخالق كل شيء، وأنّه الرزاق ذو القوة المتين، والغفار والوهاب، ومجيب الدعاء، وقاضي الحاجات، وإليه يرجع الأمر كلّه، له الأسماء الحُسنى لا إله إلّاهو الحي القيّوم.

إنّ الإسلام دين الجميع والقرآن هذا الموجود بين الدفتين الذي يتلى في إذاعات المسلمين، ويقرؤه الشيعة والسنة آناء الليل وأطراف النهار في صلواتهم، وفي شهر رمضان يتقرّبون إلى اللّه بقراءته، وتعلّمه وتعليمه هو كتابنا، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وسيّد الخلق وأفضلهم أجمعين هو محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نبينا، وأنّ حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة لا نبي بعده، وأنّ كل ما جاء به من اللّه حق نؤمن به، وأنّ الكعبة قبلتنا، وأنّ الصلوات الخمس، والزكاة الواجبة، وحج بيت اللّه الحرام، والجهاد في سبيل اللّه، وولاية أولياء اللّه، ومحادة من حاد اللّه ورسوله فرائضنا، وأنّ اللّه

ص: 255

يبعث من في القبور لتجزي كل نفس بما كسبت.

فالمسلمون كلّهم في هذه العقائد وأمثالها، وفي عباداتهم ومعاملاتهم شرع سواء، يعتقد الجميع أنّ الإسلام عقيدة ونظام، وحكم وسياسة، ولا اعتداد بسائر المناهج السياسية، والإجتماعية والمالية والتربوية، إذا كانت خارجة عن نطاق الإسلام، ونظاماته الجامعة(1).

لا يشك أحد في اتفاق الشيعة وأهل السنة على جميع ذلك، ولا ينكره إلّا من كان في قلبه مرض، أو يسعى من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر إلى إثارة الفتنة بين المسلمين ككاتب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) و (حقائق...) و (مجلة البعث الهندية) ممن يحسدون المسلمين على ما آتاهم اللّه من الوحدة، وجعل أُمتهم أُمة واحدة، فقال سبحانه وتعالى: إنَّ هذِهِ امَّتُكُمْ امَّةٌ واحِدَةٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(2).

يعتمدون في آرائهم وأحكامهم على كتب ابن تيمية وأمثاله، أشد وأكثر مما يعتمدون على الكتاب والسنة، يردُّون الأحاديث الصحيحة، ويسعون لأن يَسدوا على المسلمين طريق التفكّر والتعقّل، ويشجّعون على الجمود الفكري والوقوف، وعدم الإنطلاق إلى الأمام، حتى أنّ بعضهم ممن يعد عند طائفته من أكابر علماء المسلمين كفر في مقال نشرته جريدة البلاد كما نشرته جريدة الدعوة2.

ص: 256


1- ولا اعتداد بما أفتى به بعض علماء أهل السنة ممن تأثّر بآراء الغربيين والمستعمرين على خلاف جمهور علمائهم من القول بالعلمانية، وفصل الدين عن الدولة، والحكومة عن الإسلام فراجع كتاب (موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين).
2- الأنبياء: الآية 92.

الإسلامية كل من قال من المسلمين بأنّ الشمس ثابتةٌ والأرض جارية، فقال بكل جرأة وصراحة: إن كل من قال هذا القول فقد قال كفراً وضلالاً(1) ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

ومن عجيب أحوالهم إنّهم يكتبون حول المذهب، ويسعون في تفريق كلمة المسلمين، ويغضبون على من يجيب عنهم، ويظهر زورهم وبهتانهم ومخاريقهم، وسوء نياتهم، وكيدهم للإسلام والمسلمين.

والجدير بنا بعدما ذقنا مرارة المجادلات والإختلافات، في الأجواء المشحونة بالعصبيات، والسائرة في ركاب الأطماع والإتجاهات السياسية، وجربنا ما أدى إليه تضارب الطوائف، من المعتزلة والأشاعرة والوهابية، والسنة والشيعة، وأصحاب المذاهب الأربعة، من الضعف والفشل القضاء على هذه الحالة المنكرة بالإعتصام بحبل اللّه، وحسن الظن بالمسلمين، والتزام طريق الإنصاف والعقل، وعدم التسرّع إلى تكفير أهل القبلة وتفسيقهم بمجرّد المزاعم، والإستناد إلى بعض الأخبار المتروكة أو المتشابهة التي يوجد الكثير منها في كتب الفريقين.

ونحمل ما نعرف من غيرنا مما هو خلاف مذهبنا مهما أمكن على المحامل الصحيحة وأنّه ناتج عنده من الإجتهاد بعد اتفاق الكل على الأُصول الإسلامية التي دلّت صحاح الأحاديث على أنّها هي الميزان والملاك في الحكم على).

ص: 257


1- وقد أحدث هذا التكفير ضجّة كبيرة في الأوساط العلمية، ورد هذا المقال ردّاً شافياً الأُستاذمحمد محمود الصواف في رسالته القيّمة (المسلمون وعلم الفلك).

الآخرين بالإسلام وعدمه.

فتعالوا نجلس إخواناً متحابين على صعيد إسلامي واحد، لننظر كيف يجب أن نقف قبال الأعداء، ونصون شبّاننا عن الإنضياع وراء الأفكار الإلحادية التي تأتي من الشرق أو الغرب، ونوحّد مساعينا لتطبيق أحكام الإسلام، ونعمل على طرد هذه البرامج التربوية المادية، التي كادت أن تذهب أو أنّها ذهبت بالغيرة الدينية، وأثّرت على الفتيان والفتيات حتى صاروا يفخرون بالدعارة والخلاعة، والرقص والغناء، والقمار وشرب الخمر والسفور، واختلاط النساء بالرجال الأجانب، وتقليد الكفار في جميع أطوار حياتهم حتى المجالس والملابس، بعد ما كانوا يفخرون بالآداب الحسنة من الحياء والغيرة، والشجاعة والفتوة، والعفة والطهارة والشرف، وغير ذلك من أخلاق الأنبياء سيما نبينا الذي وصفه اللّه تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(1).

وبعدما كانوا لا يخضعون إلّالسلطان الدين وسلطان أحكام اللّه.

تعالوا لنذهب إلى المدارس وإلى الكليات والجامعات، والبارلمانات ودواوين القضاء، ومراكز الجند، ولننظر إلى ما تحتويه أفلام السينما ومناهج التلفزيون في بلادنا، وإلى ما ينشر كل يوم في الجرائد والمجلات، وإلى...

وإلى...

حتى نرى كيف خرجت كلّها عن مناهج الإسلام، وبشكل يؤدي إلى القضاء على شخصيتنا الإسلامية.4.

ص: 258


1- القلم: الآية 4.

تعالوا لنرى بين من يتسمون بالمسلمين، من يبدأ بإسم سمّو الأمير أو الرئيس أو السلطان، بدلاً عن بسم اللّه الرحمن الرحيم.

تعالوا لنرى ما أُصيبت به أُمتنا من تجزئة البلاد، وتفرقتها بين حكومات متعددة، ودويلات صغيرة ضعيفة خاضعة للإستعمار، يوجه بعضها ضد البعض لتعميق جذور التفرقة فيما بينها، والإبقاء على عدم التلاقي بين الأشقَّاء من شعوبها.

ثم إن هذه الحكومات التي تحتفظ بتفرقة الأُمة، لتحتفظ بوجوداتها لا يمكن أن تسمح لها بوحدة حكومية سياسية، بل إنّها أخذت بتطبيق مبدأ العلمانية المستلزم لفصل الدين عن الدولة، والإسلام عن مسلكية الحكومة، وإبعاده عن الحياة الإجتماعية حتى أنّ التواريخ الإسلامية في بلاد المسلمين بدّلت بالتواريخ والتقاويم الغربية.

ص: 259

كتاب الشيعة والسنة وتحريف القرآن

كان الدفاع عما ألصق محب الدين الخطيب بكرامة القرآن وإثبات صيانته عن التحريف، وإبطال دعوى الزيادة والنقصان منه أهم ما دعانا إلى تأليف كتابنا (مع الخطيب في خطوطه العريضة) فردَدنا على الخطيب بالأدلّة القاطعة، وأوضحنا أنّ ما في كتب الحديث والتفسير سواء عند الشيعة أو أهل السنة مما يوهم التحريف كلُّه أخبار آحاد، أعرض عنها محقّقو الفريقين إما لضعف إسنادها، أو لضعف دلالتها، فحقّقنا ذلك تحقيقاً كاملاً، وأبطلنا ما كتب حول ذلك من أهل السنة ككتاب (الفرقان) كما أوضحنا أيضاً استنكار علماء الشيعة لكتاب (فصل الخطاب) وذكرنا أن مخرجي هذه الأخبار الضعيفة أيضاً لم يعتمدوا عليها حتى في مورد واحد(1) ، وأن اعتماد الشيعة والسنة على الأخبار المتواترة

ص: 260


1- قد تركنا التعرّض تفصيلاً لأحاديث أهل السنة، وما ألصقوه بكرامة القرآن المجيد لأنّنا ننزّه جميع طوائف المسلمين من القول بالتحريف والإعتماد على هذه الأحاديث، ولا يحملنا العناد والعصبية (إن شاء اللّه تعالى) على أن نقول في طائفة من المسلمين ما يحطّ من كرامة الكتاب الكريم كما فعل محب الدين الخطيب وإلهي ظهير، وناشري كتابيهما من الفضلة المتعصّبين المنتمين للوهابية. وإن رأيت في محدّثي أهل السنة ورجالهم من اعتمد بما قيل إنّه حذف من القرآن كالسيوطي، فإنه آتى بسورتي الخلع والحقد في تفسيره الدر المنثور، وفسّرهما كسورتين من القرآن فلا اعتداد به ولا اعتناء.

القطعية الصريحة على أنّ القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله اللّه على الرسول الأعظم نبينا محمد صلى الله عليه و آله، هو هذا الكتاب الموجود بين الدفتين الذي يعرفه المسلمون من الشيعة والسنة، ويعرفه غيرهم أيضاً لا شك في ذلك ولا ريب.

كما قد بيّنت حال كتاب (دبستان مذاهب) المجهول مؤلّفه المطبوع بالهند بأنّه إن صح صدوره عن بعض طوائف المسلمين (وهو بعيد) فهي غير الشيعة قطعاً لأدلّة كثيرة، وشواهد تحكم بذلك من نفس هذا الكتاب، وبيّنت أنّ ما أُلصق بكرامة القرآن الكريم من الآيات والسور المختلقة ليست من الوحي بشيء، وأنّ هذا هو الحق الواضح الذي عليه الشيعة والسنة.

يعرف ذلك كل من جال في البلاد الشيعية والسنية، ويعرفه حتى أساتذة جامعة المدينة المنورة الإسلامية وإن أُعجب بعضهم برسالة (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) لإصرار كاتبيهما على إسناد القول بالتحريف إلى الشيعة.

وبالجملة: فليس في الإسلام والمسلمين كتاب غير هذا القرآن، الذي هو بين الدفتين لا يقدمون عليه كتاباً ولا يقدسون، ولا يحترمون مثله أي كتاب، وهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار.

ص: 261

وإنّني أعلن ذلك، وأطلب من كل من يشك فيه، ويريد أن يتأكد من كذب القائمين بنشر هذه المخاريق، سواء كان هذا الشاك من السنة أو الشيعة أو من المستشرقين، الذين يريدون أن يكتبوا عن القرآن حقاً وصدقاً، لا كذباً ووفقاً لأهوائهم الإستعمارية.

أنا أطلب من الجميع أن يجولوا في بلاد الشيعة في إيران والعراق وسوريا، ولبنان واليمن، والبحرين والكويت، وسائر إمارات الخليج، والهند وپاكستان، والقطيف والأحساء وأفغانستان، وسائر البلاد الإسلامية، ويسألوا ويفحصوا عن الشيعة وعن شأن القرآن المجيد الموجود بين الدفتين عندهم وعند جميع المسلمين، وعقيدتهم فيه وعن كيفية معاملتهم له، حتى يعرفوا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم، وتقديسهم وتعظيمهم له، وحتى يتخلّصوا مما أوقعهم فيه البغاة من الشك والتهمة، حتى يعرفوا به قيمة غير ذلك مما في كتاب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة)، وغيرها من الطعن على الشيعة.

ولو أتى (إحسان إلهي ظهير) المتخرّج من جامعة المدينة المنورة، بأضعاف ما أتى به من الأحاديث الضعاف والمتشابهات، مع تعمّده كتم الأحاديث الصحيحة المتواترة في جوامع حديث الشيعة، وكتبهم المعتبرة المصرحة بأنّ الكتاب الذي نزل على نبينا محمد صلى الله عليه و آله هو هذا الكتاب الموجود المطبوع المنتشر في أقطار الأرض، يكذّبه هذا الفحص والتجوال.

ولو بالغ في نسبة التحريف إلى الشيعة، فإنّ كتبهم وتصريحاتهم المؤكدة تكذبه وتدفعه، كما أنّ احتجاجهم بالقرآن في مختلف العلوم، والمسائل الإسلامية في الأُصول والفروع، واستدلالهم بكل آية آية وكلمة كلمة منه،

ص: 262

واعتبارهم القرآن أول الحجج وأقوى الأدلّة يظهر بطلان كل ما افتراه.

فيا علماء پاكستان، ويا أساتذة جامعة المدينة المنورة ما الذي يريده إحسان إلهي ظهير، وموزّع كتابه الشيخ محسن العباد، نائب رئيس الجامعة من تسجيل القول بتحريف القرآن على طائفة من المسلمين يزيد عدد نفوس أبنائها عن مائة مليون نسمة، وفيهم من أعلام الفكر، والعلماء العباقرة أقطابٌ تفتخر بهم العلوم الإسلامية؟

وما فائدة الإصرار على ذلك إلّاجعل الكتاب الكريم في معرض الشك والإرتياب؟

ولماذا ينكران على الشيعة خواصهم، وعوامهم وسوقتهم، قولهم الأكيد بصيانته عن التحريف؟

ولماذا يتركان الأحاديث الصحيحة المتواترة المروية بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت المصرحة بأنّ القرآن مصون بحفظ اللّه تعالى عن التحريف؟

ولماذا يقدحان في إجماع الشيعة وضرورة مذهبهم، واتفاق كلمات أكابرهم، ورجالاتهم على صيانة القرآن الكريم من التحريف، ويجعلان إجماع المسلمين، واتفاق طوائفهم في ذلك معرضاً للشك والريب إن لم يريدا كيداً بالقرآن المجيد؟

أبهذا تزوّد جامعة المدينة المنورة خريجيها حتى لا يعقلون ما يقولون، ويردّون بلجاجهم الطائفي على من أثبت في غاية التحقيق والتدقيق صيانة الكتاب عن التحريف؟

ص: 263

فيا علماء المسلمين اقرأوا (مع الخطيب) وما كتبتُ وحقّقتُ فيه حول صيانة الكتاب عن التحريف، وانظروا هل كان اللائق بشأن جامعة المدينة المنورة أن توزّع كتاب (مع الخطيب في خطوطه العريضة) أو كُتيّب (الشيعة والسنة)، و (العواصم من القواصم) مع شرحه الخبيث؟

فقد دفعتُ بعون اللّه تعالى وحمده كل شبهة، ورددتُ على جميع الأحاديث الموهمة لذلك من طرق السنة والشيعة، وبيّنتُ علل إسنادها، وضعف إسنادها، ومتونها، وأثبتّ عدم ارتباط كثير منها بمبحث التحريف.

فَمَن خدِم القرآن إذن يا أساتذة الجامعة، ويا علماء پاكستان؟ ومن هو الذي أدى حقه؟ ومن الخائن له؟ أهو الذي يصر على نسبة القول بتحريفه إلى إحدى الفرقتين الكبيرتين من المسلمين زوراً وبهتاناً، وجهلاً وعدواناً، ومن ينفق على طبعه، ويوزّع كتابه في أرجاء العالم الإسلامي، ويجعله في متناول أيدي المستشرقين المأجورين الذين يغتنمون صدور هذه الزلات من جهلة المسلمين؟

هل هذا هو الخائن؟ أو من يدفع عن الكتاب الكريم هذه المقولة النكراء هو الخائن يا ترى؟

أنا واللّه لا أدري ما أقول لهؤلاء فأمرهم عجيب، يهتكون أعظم الحرمات، ويجعلون كتاب اللّه هدفاً لسهام الأعداء لكي يدخلوا بزعمهم شيناً وعيباً على شيعة أهل البيت، ويبلبلوا على الناس أمرهم، وعقائدهم: أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا

ص: 264

الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (1) .

فيا أساتذة جامعة المدينة المنورة، فقد ضل سعيكم إن كان حصيلة مناهجكم في التعليم والإرشاد من لا ينزل عن مركب الباطل واللجاج، وإن جيء له بألف دليل حتى أنّه كرر ما أجبنا عنه في (مع الخطيب) من نسبة القول بأُلوهية الأئمة، والتعصّب للمجوسية، والإشتراك في كارثة بغداد وغيرها إلى الشيعة، ولم يلتفت إلى الأجوبة المنطقية، والتاريخية المذكورة فيه عن جميع هذه الإفتراءات.

كما كرر الكلام أيضاً حول طعن الشيعة، ككثير من أهل السنة على بعض الصحابة، ولم يلتفت إلى ما في (مع الخطيب) من التحقيق حول هذه المسائل، وحكم من نفي الإيمان عن بعض الصحابة، وسب بعضهم عند أهل السنة، وإن ذلك على مذهب أهل السنة، وسيرة سلفهم لا يخرج المسلم عن الإسلام والإيمان، فلا يجوز بهذا الحكم على أحد بالتكفير والتفسيق كما لا يمنع من التقريب.

فما أتى به هذا المغرض المضلل المتطاول على العلماء حتى الشيخ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، الأسبق الراحل في كتابه ليس إلّاتكراراً بما أتى به أسلافه وقد أجبتُ عنه في (مع الخطيب). ولكن لم يلتفت هو إليه لأنّه أراد المخادعة، والتباس الحق بالباطل. ولو لم يكن من أهل العناد واللجاجة لنظر إلى (مع الخطيب) وإلى ما فيه من الأدلّة الحلية والنقضية، والبراهين الجلية المأخوذة6.

ص: 265


1- البقرة: الآية 16.

من صريح الكتاب أو السنة بعين الإنصاف، ولم يكرر دعاوى البهتان، ولم يسلك سبيل العداء والنفاق.

ولو وافقنا ووافق مصلحي الأُمة، ولاستجاب لصيحاتهم، ونداءاتهم في الدعوة إلى التقريب والإتحاد فاللّه تعالى هو الحكم بيننا وبينه ثم الباحثون المنصفون(1).

فجدّدوا يا أساتذة الجامعة النظر في مناهجكم التعليمية حتى يكون المتخرّجون من مدرستكم مزوّدين بلباس التقوى والعلم، والصدق والإخلاص، وشعارات الإسلام متجنّبين النعرات الطائفية الممزّقة، متمسّكين بالوحدة الإسلامية.

فناشدتكم باللّه تعالى أن تنظروا فيما كتب تلميذكم هذا حول القرآن الشريف، وما رمى به الشيعة، هل خدم بهذا دينه، وأُمته، وبالتالي طائفته أم خدم به أعداء القرآن والإسلام؟ء.

ص: 266


1- ومن حيائه وهو الذي رمانا كثيراً في كتابه بعدم الحياء والخداع، إنّه يقول في كتابه (والحق إنّه لا يوجد في كتب أهل السنة المعتمد عليها عندهم رواية صحيحة تدل على أنّ القرآن الذي تركه رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند وفاته نقص منه أو زيد فيه). ولم يلتفت إلى ما أخرج في (مع الخطيب) عن أكابرهم وكتبهم المعتمدة مما يدلّ على الزيادة والنقيصة، فراجع مع الخطيب (ص 59 و 60 و 71 و 72) كما لم يلتفت إلى أنّه ليس في كتب الشيعة أيضاً رواية صحيحة تدل على ذلك. فاقض العجب عن هذا الحي المغالط الذي لا يتعرّض لما لا يقدر على جوابه لئلّا يتبيّن عجزه عند القرّاء.

وناشدتكم باللّه أن تطالعوا (مع الخطيب) و (أمان الأُمة من الضلال) وما عرضتُ فيهما على جميع الأُمة، من المنهج الذي ينبغي أن يكون الجميع عليه، وما بينته فيهما مما يذهب بالتنافر والتشاجر، فانظروا فيهما، وفيما يكتب في مجلة (البعث)، وفيما كتب مؤلف (الشيعة والسنة) وشارح العواصم، وكاتب (حقائق عن...) بعين الإنصاف وقارنوا بينهما وبينها، حتى تعلموا أي الفريقين أشد نفاقاً، وأيهما على هدى أو في ضلال مبين.

أنا أقول: واللّه تعالى يعلم أني صادق فيما أقول عن عقيدة الشيعة في القرآن وفي النبي صلى الله عليه و آله، وفي الأئمة عليهم السلام وفي معنى الرجعة، والبداء أن كل عقائدهم مأخوذة من الكتاب والسنة، وإنّهم يعتقدون بكل ما يجب الإعتقاد به، وما هو شرط للحكم بالإسلام، والنجاة عند أهل السنة، ودلّت عليه صحاح أحاديثهم.

فلا موجب إذن لهذه الجفوة والبغضاء، والتنافر بين المسلمين، وتفسير عقائدهم بما هم بريئون منه، ولا يقولون به.

فكم سأل علماء أهل السنة الأكابر المصلحون وغيرهم، علماء الشيعة عن عقائدهم في كل ذلك وقولهم بالرجعة والبداء، وحتى التقية؟ فما رأوا بعد الجواب شيئاً في عقائد الشيعة يخالف روح الإسلام، وما دلّ عليه الكتاب والسنة، وما وجدوا في آرائهم في الفروع والأُصول ما يجوز به تفسيق أحد من المسلمين، ولا يمكن على الأقل حمله على الإجتهاد(1) ، ولا ما يمنع أن يكونا.

ص: 267


1- راجع في ذلك كتاب المراجعات، وأجوبة مسائل موسى جار اللّه، ونقض الوشيعة، وغيرها.

الجميع صفاً واحداً، وجسداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ومعتصمين بحبل اللّه تعالى.

ومع ذلك هؤلاء يأتون كل يوم بكتاب زور، غايته التمزيق والتفريق وجرح العواطف، وإحياء الضغائن، فيوماً يكتبون (الخطوط العريضة)، ويوماً ينشرون (العواصم من القواصم) مع شرح خبيث، ويوماً يكتبون (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) حشر اللّه تعالى كاتبه وناشره معه، ويوماً يأتون بكتيّب (الشيعة والسنة) ويقولون عن الشيعة الذين فيهم أئمة أهل البيت عليهم السلام والصحابة الكبار، والتابعين والمحدّثين، ورجالات الدين والعلم والتحقيق في جميع العلوم الإسلامية ممن لا تنكر مقاماتهم الرفيعة في العلم، ولا يستهان بشأنهم وبخدماتهم لهذا الدين، وغيرتهم على الإسلام وشعائره، يقولون بتحريف كتاب الإسلام (القرآن المجيد)، وإنّه قد زيد فيه، ونقص منه كالسورة المختلقة الموسومة بالولاية(1).

فإن قيل لهم: إذا أثبتم (ولا يثبت أبداً) أن هذا رأي الشيعة فكيف تدفعونً.

ص: 268


1- هذه السورة المكذوبة على اللّه تعالى التي اخترعها أعداء القرآن والإسلام ثم أسندهاالنصّاب إلى الشيعة هي التي ذكرها الخطيب، وذكر أن النوري أوردها في الصفحة 180 من كتابه، ورددنا عليه في (مع الخطيب) أنه لم يوردها لا في هذه الصفحة، ولا في غيرها (وإن أشار إلى اسمها، كما أشار إلى اسم سورتي الحفد والخلع اللتين ذكرهما أهل السنة). ومع ذلك أخذَنا بذلك كاتب (الشيعة والسنة) وأتى بما هو سيرته، وسيرة أسلافه النصّاب من الفحش، وإسناد الكذب إلى أهل الصدق، ومع أنه رأى كذب الخطيب ترحّم عليه ومضى، ولم يقل منه شيئاً كما لم يدفع عما أتى به بعض أهل السنة، من سورتي الحفد والخلع كأنه يقول بذلك أيضاً.

شبهة التحريف عن كرامة القرآن المجيد، فلا يقبل أعداء الإسلام أن هذه الجماهير الغفيرة من عصر الصحابة إلى هذا الزمان قد اختاروا هذا الرأي من غير أن يكون له أصل وأساس، ولا يسمع منكم في رد ذلك ما تأتون به من الإفتراء والشتم، كقولكم إن الشيعة ربيبة اليهود أو إنهم يكفرون الصحابة؛ لأنّ الباحثين من الأعداء في كتب التاريخ والتراجم والرجال أيضاً يعرفون أنّ هذه الإفتراءات كلها جاءت من سياسة الحُكّام، في عهود كان الميل إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله من أكبر الجرائم السياسية.

ولهم أن يقولوا: إذا كانت الشيعة وهي ليست إلّاربيبة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ربيبة اليهود، فالسنة ربيبة المنافقين والمشركين الذين دخلوا في الإسلام كرهاً، وربيبة معاوية ويزيد، ومروان وعبدالملك والوليد ابنه، ومسلم بن عقبة، وبسر بن أرطاة، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن سمية، والحجاج، ووليد بن عقبة، والحصين بن نمير، وشبيب بن مسلمة، وعمران بن الحطان، وحريز بن عثمان، وشبابة بن سوار، وشبث بن ربعي، وغيرهم من الجبابرة ومن في حاشيتهم من الأُمراء وعلماء السوء.

فلماذا لا تتركون العداء والعصبية حتى في هذا، ولا تقطعون جذور هذه الشبهة، ولِمَ لا تبرّؤون الشيعة عن هذا القول كما هم يبرّؤونكم، وتعرضون عما عند الشيعة، من أدلّة كثيرة قاطعة علمية وتاريخية، على صيانة القرآن عن التحريف، وعن ما هو المشاهد منهم في بلادهم، ومجالسهم وعباداتهم.

فهم أشد الأُمة تمسّكاً بالقرآن المجيد، وينكرون هذا الرأي السخيف أشد الإنكار، ويردّون أيضاً ما ورد في أحاديث أهل السنة القائلة بأنّه نقص من القرآن

ص: 269

مما أُشير إليه في (مع الخطيب) إشارة إجمالية.

نعم إذا أوضحتُ كل ذلك لهذه الفضلة والمتفضّلة، وهم لا يدركون قيمته من الناحية العلمية والدينية، ولا يحبون وضوحه وتقريره، يقولون: لا يقبل ذلك منهم لأنّهم يجوّزون التقية، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

فما عذركم عند اللّه تعالى؟ فإن كنتم معادين، ومعاندين لأهل البيت وشيعتهم - كما يظهر من كتبكم ومقالاتكم - فلا تجعلوا القرآن معرضاً للشك بعدائكم لأهله، وافترائكم على حملته.

فحسبكم أن ضيّعتم وصية الرسول الرؤوف الرحيم ولم تحفظوه، ولم تحفظوا وصيته في أهل بيته، وذريته وشيعتهم، وتركتم هداهم والتمسك بهم، واقتديتم بأعدائهم الذين نكلوا بهم، وعملوا للقضاء على فضائلهم، ودافعتم عن سيرة هؤلاء الأعداء وعمّالهم، فاعملوا ما شئتم إن اللّه تعالى يقول: إنَّ الَّذيِنَ يُلْحِدوُنَ في آياتِنا لاَيَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتيِ آمِناً يَوْمَ الْقيامَة اعْمَلوُا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(1).

ولا تظن يا أخي أني أظن بجميع إخواننا من أهل السنة سوءاً، فإنّ أكثرهم من أهل الغيرة على الإسلام والقرآن وحرمات اللّه، ويقدرون الدفاع عن صيانة القرآن من التحريف سواء كان في الملأ الشيعي أو السني، ولا يرتضي أحد من عوامهم فضلاً عن علمائهم ومصلحيهم أن يمس أمثال الخطيب وإحسان ظهير ومن يوزّع كتابهما كرامة القرآن المجيد بمقالاتهم وكتبهم، فأمثالهما وإن عدّوا0.

ص: 270


1- فصّلت: الآية 40.

أنفسهم من أهل السنة إلّاأنّ فيهم نزعات ليست من الإسلام، تحملهم على نشر هذه المقالات لتكون الشريعة سفيانية، والملّة يزيدية مروانية.

أنشدكم باللّه يا أساتذة جامعة المدينة المنورة، ويا علماء لاهور! أما عرفتم عن جيرانكم من شيعة المدينة المنورة، ومن شيعة لاهور وپاكستان عقيدة الشيعة في صيانة القرآن المجيد وسلامته من التحريف؟

أما رأيتم تعظيمهم وتقديسهم له، وإنّهم لا يقدّسون كتاباً مثله، ولا يكون تعظيمهم له أقل من أهل السنة إن لم يكن أكثر؟

فلِمَ لا ترشدون هؤلاء الجهّال الذين أعمت بصيرتهم العصبية الطائفية؟ ولم لا تؤاخذون من يرغّبهم ويشوِّقهم، وينفق عليهم ليكتبوا عن الإسلام والمسلمين، وينشروا عليهم أمثال هذه المقالات الشانئة الشائكة.

ولعمر الحق إنّ مقالاتهم هذه في عدائهم للشيعة زيّنت لهم كل كذب وافتراء، فهم مصداق لما قيل: (حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء).

فقد حفظوا عداءهم القديم الذي ورثوه عن أعداء آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وشيعتهم الذين لا ذنب لهم غير ولائهم لعترة النبي صلى الله عليه و آله والتمسك بهم وبسيرتهم، تمسكاً بحديث الثقلين المتواتر وغيره من الأحاديث المتواترة.

فتارة يحكمون عليهم بما زيّنته لهم عصبيتهم مستندين في ذلك إلى الأحاديث الضعاف أو المتشابهة، التي توجد في كتب أهل السنة، سواء في أُصول الدين أم فروعه، وفي التراجم والتاريخ أضعاف أضعافها.

وأُخرى يفترون عليهم بأنّهم يقولون في رسول اللّه بأنّ علياً وأولاده أفضل

ص: 271

منه، وأنّهم فوق البشر بل آلهة(1).

وتارةً يقولون: إنّ شيعة أهل بيت النبي عليهم السلام، وأبناء بنته سيّدة نساء العالمين هم ربيبة اليهود، وأتباع عبداللّه بن سبأ الموهوم(2) ، متغافلين عما في كتب أهل السنة حتى الصحاح منها من أحاديث يأباها العقل، ولا توافق روح القرآن.

ونسوا ما ملأوا كتبهم من الفضائل والكرامات، والعلم بالغيب لغير الأنبياء من رؤساء الصوفية، وأئمة مذاهبهم مما لا يؤيّده الكتاب ولا السنة، ولم يثبت بنقلٍ معتبر.

ونسوا ما رووا في بعض الصحابة من أنّ علمه سبق علم النبي صلى الله عليه و آله، بل استبق في علمه إرادة اللّه عزوجل فيما أوحى إلى النبي صلى الله عليه و آله، فهو عرف ما لم يعرفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل نزول الوحي.

ونسوا اعتماد عمر بن الخطاب وعثمان ومعاوية، وعلمائهم ومحدّثيهم على كعب الأحبار اليهودي الذي كان من أوثق الناس عند عمر ومعاوية، وكانا يرجعان إليه، ويأخذان بقوله كحجة شرعية في تفسير الكتاب والسنة، كما نسوا اعتماد معاوية، وابنه يزيد على غير المسلمين ومشاورتهما لهم.

وتارةً يذكرون احتراق قلوب الكفّار والمجوس واليهود، وحنقهم علىي.

ص: 272


1- قد أجبتُ عن ذلك كله، ودفعتُ هذه الإفتراءات في (مع الخطيب) في فصل (منزلة النبي والإمام عند الشيعة) وفي فصل (غلط الخطيب في فهم كلام العلّامة الآشتياني).
2- يراجع في ذلك أصل الشيعة وأُصولها للإمام كاشف الغطاء، و (عبداللّه بن سبأ) للعلّامة المحقّق المجاهد السيد مرتضى العسكري.

الإسلام والمسلمين، ثم يهاجمون شيعة أهل البيت(1) ، ويأتون بأُسطورة عبداللّه ابن سبأ، وينسبون إليه إضرام نار الثورة على عثمان التي لم تقم عليه إلّابأسباب كلّها ترجع إلى سيرة عثمان، وما ارتكب من الأحداث والأعمال مما لا يرتضيه المسلمون، وكان خارجاً عن روح العدل الإسلامي، وما ابتنت عليه سياسة الحكم والإدارة في الإسلام وإلى استبداده بالأمر، وعدم اعتنائه بنصيحة الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكان في طليعة من أضرم عليه نار الثورة، وحرك الناس وهيجهم عليه جماعة من الصحابة كطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة(2).

نعم يذكرون حنق اليهود والمجوس على الإسلام، ثم يحملون على شيعة أهل البيت، يجعلونهم هدفاً للإفتراء والبهتان، وينسون احتراق قلوب المنافقين الذين قتل آبائهم وأقاربهم المشركون، في غزوة بدر وغيرها، ودخلوا في الإسلام كُرهاً، ولم يذهب بالإسلام حقدهم وحنقهم على نبي الإسلام وعلى بطله المجاهد الإمام علي. مثل أبي سفيان، ومعاوية، والحكم وابنه مروان، وعبداللّه ابن سعد بن أبي سرح، والوليد بن عقبة، وغيرهم ممن اندرجوا في حاشية عثمان وكانوا معتمدين عنده، فهو لا يدخل في أمر ولا يخرج عن أمر إلّابمشورة هؤلاء.

إي واللّه حفظ هؤلاء، شيئاً وغابت عنهم أشياء!ة.

ص: 273


1- يراجع في ذلك (مع الخطيب): ص 89-100.
2- يراجع في ذلك جميع مصادر التواريخ المعتبرة.

الإستعمار والإلحاد يريدان القضاء على الفكر الشيعي في المناطق الشيعية، وعلى الفكر السني في المناطق السنية؛ لأنّهما أرادا القضاء على الفكر الإسلامي والشعائر الإسلامية، وتاريخ الإسلام ومناهجه، والتزام المسلمين شيعة وسنة بأحكام القرآن، وحلاله وحرامه.

وهؤلاء عوضاً عن أن يؤيّدوا مواقف الشيعة قبال أعداء الإسلام، ويزوّدوهم ويلتحقوا في صفوفهم، ويقدروا جهادهم ونضالهم يأتون بأُسطورة عبداللّه بن سبأ الموهوم، والبهتانات التي يكذّبها التاريخ، يساعدون بكل ذلك الإستعمار، ويضربون المسلمين بعضهم ببعض، ويفتحون باب الجدال والنزاع.

فياليتهم كانوا قد قصروا عداءهم وحقدهم على الشيعة فقط، وتركوا إعلان ما في سرائرهم من العداء لأهل البيت، والولاء لظالميهم أمثال معاوية ويزيد.

فواللّه إنّكم إن لم تكونوا مرتزقة تعملون لأعداء الإسلام! ولا تريدون غير خدمتهم، وكنتم تقصدون بكتبكم الممزّقة للأُمة خدمة طائفتكم، وإرشاد أبنائها فأنتم من أجهل الناس بواقع الأُمور، وما يجري في العالم الإسلامي المعاصر.

حفظتم ما ورثتم من أسلافكم من حب معاوية، وعمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة، وأمير مؤمنيكم يزيد بن معاوية، والوليد وغيرهم من مبغضي أهل البيت، وناصبي العداء لعلي عليه السلام والحرب عليه، وذلك من أظهر الأدلّة على نفاقهم ومروقهم لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: (يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن، ولا يبغضك إلّامنافق).

حتى قلتم: إنّ الرجل لا يكون من أهل السنة إلّاأن يكون فيه شيء من بغض علي عليه السلام، وضيّعتم مودة أهل بيت نبيكم التي فرضها اللّه عليكم في القرآن،

ص: 274

وحث الرسول صلى الله عليه و آله عليها، وأكّدها في الروايات المتواترة، وأمَرَ الأُمة بالتمسّك بهم، وجعل التمسّك بهم أماناً من الضلال والإختلاف.

حفظتم بولائكم لآل أبي سفيان، وآل مروان، وقلتم بشرعية حكوماتهم وحكومات ملوك بني العباس كالمنصور، وهارون، والمتوكل، وحكومات غيرهم من الجبابرة الذين لا فرق بينهم، وبين جبابرة سائر الأُمم إلّاأنّهم سمّوا أنفسهم: أُمراء المؤمنين، وأنتم وعلماء السوء قبلكم لم تأمروهم بالمعروف ولم تنهوهم عن المنكر، بل صوّبتم أفعالهم وأعمالهم التي سوّدت صحائف تاريخ الإسلام، وقلتم بوجوب إطاعتهم، وحرمة الخروج عليهم، ونسيتم أنّ الإسلام وشريعته لايرتضيان مثل هذه الحكومات.

لأنّ الإسلام جاء لإحياء العدل، وإماتة الجور والإستضعاف، وإزالة الإستبداد، وقد أمر الناس بأن يخرجوا من ذل حكومة المستعبدين إلى عز حكومة اللّه، جاء الإسلام معلناً حرية الناس، وأبطل الملوكية والكسروية والقيصرية، والحُكّام الذين تدعونهم أُمراء المؤمنين كان أكثرهم شراً من الأكاسرة والقياصرة في الجور والإستبداد، والإسراف والاشتغال بالملاهي والمناهي والمعازف.

فأنتم شوّهتم تعاليم الإسلام الراشدة في الحكومة، وولاية الأُمور إذ صوّبتم استمرارية حكومات لا ينسى التاريخ جرائمها وجناياتها، ومظالمها على العباد، ووددتم أن تكتب سيرتها وتاريخها سيما تاريخ مثل يزيد بن معاوية وهارون بالذهب.

فواقعة مثل واقعة الحرة وواقعة الطف، وقتل سيّد شباب أهل الجنة،

ص: 275

وضرب الكعبة بالمنجنيق، وما وقع في عصر بني أُمية وبني العباس من هتك الحرمات، والغدر والخيانة، والحروب الدامية، وتعطيل الأحكام، الجدير عندكم بأن يكتب بماء الذهب.

فهنيئاً لكم يا كُتّاب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) و (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) وناشري (العواصم من القواصم) وجزاكم اللّه تعالى حين يجازي معاوية، وعمرو بن العاص، ويزيد ومسلم بن عقبة، والحصين بن نمير، والمتوكل وغيرهم من مبغضي الإمام علي عليه السلام، وحشركم اللّه معهم، وفرّق بينكم وبين أهل بيت الرسالة والنبوة بحبّكم لأعدائهم، والمرء مع من أحبّ.

نعم أنتم لا تفهمون كل ذلك، ولا اعتداد بكم بعدما أدرك ذلك كثيرون من علماء أهل السنة، ودافعوا عن الإسلام ومناهجه وتعاليمه، ووقفوا في وجه هذه الحكومات حتى لا يزعم جاهل أن الإسلام أتى بها، وأن مناهجها كانت إسلامية، وإنّ أنظمتها كانت مما يقرّه الإسلام، وأوضحوا - وإن كان الأمر في نفسه - في كمال الوضوح أنّ هذه الحكومات لم تكن سائرة على جادة الحق، ولا على مناهج الإسلام في السياسة والحكومة، والتعليم والتربية.

ولعمر الحق! إنّ هذا واجب على كل من يدافع عن الإسلام، ومناهجه العادلة الراشدة.

وأيضاً لما رأيتم أيّها النصاب، ومصوّبي أعمال معاوية ويزيد، ومسلم بن عقبة والحجّاج، وغيرهم من الجبابرة، أنّه لا يمكن الدفاع على ضوء العلم والمنطق عن هؤلاء وأمثالهم، وعما صدر عن أسلافكم من الجرائم، والجنايات، وسفك الدماء بغير حق، تشبّثتم تارة بحديث رويتموه عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا

ص: 276

تمس النار مسلماً رآني أو رأى من رآني(1).).

ص: 277


1- إن لم يكن هذا الحديث وأمثاله مما دسّته السياسات الحاكمة على الحديث، والتفسير والفقه والدين في الأحاديث الشريفة ما مغزاه؟ أترى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهو الذي قال اللّه في حقه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحي يوحى أراد من هذا الكلام - إن صح صدوره منه - ما يريد إحسان إلهي ظهير وغيره، من تبرئة الظلمة المستعبدين لعباد اللّه الذين خالفت أعمالهم وحكوماتهم روح الدين الإسلامي، ودعوته ورسالته؟. أترى أنّه أراد بذلك نجاة الأبرار والفجّار جميعاً، ونجاة القاتل والمقتول، والقاهر والمقهور، كسعد بن عبادة وقاتله، وكمالك بن نويرة وخالد بن الوليد، وعثمان وقتلته ومن شجّع الناس على الثور عليه، وطلحة وقاتله مروان، والزبير وقاتله عمرو بن جرموز، والإمام علي عليه السلام وقاتله أشقى الآخرين ابن ملجم، والإمام ومن كان معه، وقتل بين يديه من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وشهداء مرج عذراء، ومعاوية وأصحابه، وزياد والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب وبسر بن أرطاة، والإمام الحسين السبط سيد أهل الإباء وسيد شباب أهل الجنة، ويزيد وعامله ابن زياد، ومسلم بن عقبة وشمر وسنان بن أنس، والحجّاج، وجميع من رأى النبي صلى الله عليه و آله أو رأى من رآه من الصلحاء السعداء، ومن الفجار الأشقياء الذين يعدُّهم إحسان إلهي ظهير من المسلمين، ولا يقبل نفاق واحد منهم ولا ارتداده، فكلهم أهل النجاة، واختصهم اللّه تعالى بذلك دون سائر الناس. مع أنّه إذا كان الأمر كذلك فغير من ذكرناه في هذه الأسماء من الظلمة الخَوَنة أولى بأن لا تمسّه النار لأنّ مظالم غيرهم لا تقايس بمظالم الذين يشملهم الحديث بزعمه، وإذن لبطل الثواب والعقاب، والتكليف والأمر والنهي، ويلزم تعطيل الشريعة بالنسبة إليهم. فهل هذا مراد النبي الأعظم صلى الله عليه و آله من هذا الكلام؟ وهذا مغزاه. حاشا رسول اللّه، وهو الذي لا ينطق إلّابالحق أن يريد مثل ذلك، وحاشا الشريعة الإسلامية أن يكون هذا منهاجها القويم، إننا لم نسمع بمثل هذا في أُمة من الأُمم، وشريعة من الشرائع. فهل توافق من يقول: إنّ الأُمة بحاجة ملحّة إلى تنقيح كتب الأحاديث، حتى المسانيد والصحاح الست، بل والتفاسير والتواريخ والتراجم، وتخليصها من الإسرائيليات، ومما يأباه العقل وما لا يمكن أن يكون الناطق به النبي الحكيم الذي علّمه اللّه ما لم يكن يعلم، وكان فضله عليه عظيماً. فيجب أن يغسل عنها ما دسته السياسة فيها، بل يترك منها كل ما يشم منه رائحة السياسة، والنزعات التي ليست من الإسلام، وسواء توافق أم لم يتوافق، فقد بدأت هذه الحركة العلمية، حيث نرى أن بعض المجلات العلمية العربية من أهل السنة تشرع في البحث حول أحاديث الصحيحين، وحتى بعض المثقفين المتضلعين في علم التراجم شرع في تنقيح تراجم الصحابة على ضوء علمي دقيق. فراجع في ذلك (شيخ المضيرة) و (أضواء على السنة المحمدية) وأبو هريرة وأحاديث عائشة أُمّ المؤمنين و (خمسون ومائة صحابي مختلق).

وأُخرى أتيتم بقول منكر مخالف لصريح الكتاب والسنة، وما في أصح كتبكم في الحديث فقلتم: (إنّ الصحابة كلهم عدول) ما قصدتم بذلك إلّاتعديل فسقتهم وظلمتهم، والمنافقين الذين أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن ارتدادهم في أحاديث الحوض.

فجمعتم بين المتناقضين الفسق والعدالة، وبنيتم بزعمكم سدّاً وحُصناً بينهم وبين الباحثين في التاريخ، وعمّا جرى على الإسلام والمسلمين في عصر الصحابة والتابعين، ونسيتم أنّ فسق جماعة منهم ثابت بالتاريخ والأثر الصحيح، وأنّ القرآن المجيد ناطق بنفاق جمع من الصحابة في غير واحدة من الآيات، وأنّ أحاديث الحوض الصحيحة صريحة في ارتداد جماعة من الصحابة.

نظراً لكل ذلك، فإنّ ما قلتموه لا يقنع الباحثين، ولا يمنعهم عن البحث والتنقيب، ولا يخفى على العلماء المحقّقين ما أردتم إخفاءه سيما ما جرى على

ص: 278

أهل البيت من ظالميهم.

فلا يمكن للجيل المسلم المثقّف، والباحثين المنصفين أن يستعرضوا تاريخ الإسلام دون أن يقرأوا مثل حديث يوم الدار أو يقرأوه ولا يفهموا معناه من التنصيص على خلافة الإمام علي عليه السلام.

كما أنّه لا يمكن أن يقرأوا تاريخ عصر الصحابة، ولا يعرفون منه شيئاً، ولا يدركون مغزى الأحداث التي وقعت قبيل ارتحال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله من واقعة غدير خُم التاريخية، ومنع بعض الصحابة النبي صلى الله عليه و آله عن الوصية، وكتابة ما لا تضلّ الأُمة بعده أبداً، فقال في رسول اللّه ما قال... وما وقع في السقيفة مما أدى إلى الإستبداد بالأمر دون أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وبني هاشم، ثم منعهم السيّدة الزهراء عن حقها في فدك حتى ماتت وهي غاضبة، تمسّكاً بحديث نسب إلى النبي صلى الله عليه و آله، مع أنّهم قالوا حين أراد الرسول صلى الله عليه و آله أن يكتب وصية لا تضلّ الأُمة بعدها أبداً: حسبنا كتاب اللّه، ومنعوا الأُمة عن كتابة الحديث وحفظه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

مع أنّهم لم يردُّوا على الخليفة الأول حين أراد الوصية في مرض موته ولم يقولوا: إنه يهجر، وحسبنا كتاب اللّه، بل كتبوا وصيته للخليفة الثاني قبل أن ينص هو على ذلك، وكان مغمىً عليه.

كما لا يمكن أن يمنع الباحثون عما حدث في عصر عثمان حتى كتب بعض الصحابة إلى بعض، ودعوا الغائبين عن المدينة أن اتركوا محاربة الكفّار وتعالوا إلى المدينة للنهي عن المنكر، ودفع ما وقع من الأحداث.

وقد أسفرت تلك الحوادث عن الثورة التاريخية على السلطة التي صارت

ص: 279

أُلعوبةً بيد بني أُمية الذين داسوا على أحكام الإسلام في الحكومة والولاية والمال، واستهزؤوا بأحكام اللّه تعالى مما دفع المسلمين إلى النهوض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخلاص الحكم من أيدي أمثال مروان، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، ومعاوية بن أبي سفيان.

فطلبوا أولاً من الخليفة الرجوع إلى الكتاب والسنة، و إبعاد هؤلاء سيما مروان عن التدخّل في أُمور المسلمين فلم يقبل منهم، وبقي جاداً على أفعاله بل اشتدّ البلاء وأصرّ الخليفة على سيرته التي لا يرتضيها الصحابة إلّامن كان منهم في حواشي بني أُمية أو من زمرتهم.

وكان ممن نقم على الخليفة، وحرّض عليه غاية التحريض أُمّ المؤمنين عائشة، وطلحة والزبير، وغيرهم من الصحابة حتى انتهت هذه الحركة بقتل عثمان بعدما كان أمير المؤمنين علي عليه السلام من أشد المدافعين عنه، وأخلص نصحائه، وبعدما استقر الأمر وسكنت الإضطرابات، وسكتت أصوات الثائرين بعد تمامية البيعة والولاية لعلي عليه السلام، ولم ينل بعض الثائرين والناقمين على عثمان كأُمّ المؤمنين عائشة، وطلحة والزبير، ما أرادوا من تهييج الناس على عثمان الذي انتهى بقتله أخذوا. ويا للسخرية يطالبون بدمه، والإقتصاص من قتلته، فنكث طلحة والزبير بيعتهما وخرّجا بأُمّ المؤمنين عائشة إلى البصرة، وفتحوا على المسلمين أبواب الحروب الداخلية، وتتابعت الأحداث والفتن، وتغلّب على بلاد الإسلام وأُمور المسلمين ولاة وحُكّام لم يقلّ استبدادهم واستضعافهم المسلمين عن الأكاسرة والقياصرة، وصار ما صار، وآل الأمر إلى ما آل من قضاء على الإسلام، وتمزيق للمسلمين، وديارهم، وتسليط أعدائهم

ص: 280

عليهم.

ومع هذا كله لا يمكن مطالبة المسلم الباحث بأن يصوِّب أعمال هؤلاء مع أنّ التاريخ حفظ من هذه الأحداث وآثارها المخزية ما حفظ، كيف يمكن في هذا العصر عصر الكتابة والطباعة، والقضاء على الأُمِّيَّة منع جيلنا المسلم عن مطالعة التاريخ، وعن البحث في هذه الأحاديث، والسؤال عما كان ورائها، وعمن كان المسبّب لها، والمحقّق لمآسيها وفظائعها.

فلو فرض محو اسم الشيعة وكتبهم ومعارفهم عن صفحة الوجود فلا يقتنع الباحثون المعاصرون بقراءة التاريخ من غير تدبير ومعرفة، ولا يمكن منعهم عن ذلك، كما لا يمكن إقناعهم بحمل كل ذلك على الإجتهاد وصدوره عن نيات صادقة خالصة.

إذ لا يمكن أن تكون نتيجة النيات الخالصة هذه الفتن الكبيرة والحروب الدامية، ولا سبيل لكم أيها المغرضون إلّاترك تضليل الناس وإلّا دعوتهم إلى الكتاب وسيرة الرسول وسنته، وأن لا تزيدوا على ما قرره الرسول صلى الله عليه و آله شيئاً من وجوب القول بعدالة الصحابة، وشرعية الحكومات التي غلبت على الأُمور، وحتى كأتباع سيرة الشيخين الذي ابتدعه ابن عوف، وردّه الإمام علي عليه السلام، وخسر ثمن قبوله الذي ما كان أغلى منه عند أهل الجاه والرئاسة وطلّاب الحكومة وهو إمارة المسلمين، وقبله الخليفة الثالث ثم لم يعمل في حكومته لا بسيرة النبي صلى الله عليه و آله ولا بسيرة الشيخين.

فعليكم أن تجدّدوا النظر في رأيكم في هذه الحكومات، ومن استبد على ولاية أُمور المسلمين إلى هذا العصر، فلا تعرّضوا هذه المسائل وغيرها إلّاعلى

ص: 281

الكتاب والسنة، وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، أو اجعلوا ذلك رأياً واجتهاداً منكم، ولا تطالبوا الباحثين المنصفين أن يوافقوكم فيه على رغم ما تؤدي إليه بحوثهم ويعرفونه من الروح الإسلامي، وعدله ومناهجه في الحكم.

ولا تجعلوا ذلك مانعاً عن التقريب والتجاوب وتحقيق الوحدة الإسلامية، ولا تفرّقوا كلمة المسلمين، فالباحثون والجيل المثّقف ورأيهم واجتهادهم، وأنتم يا مقلدة علماء السوء الذين باعوا دينهم بدنيا أُمراء الجور ورأيكم.

نعم احتفظتم بعدائكم لشيعة أهل البيت، ولما وقعتم في العجز أمام قوة أدلّة الشيعة من الكتاب، وصحاح الأحاديث الدالّة على أن النجاة منحصرة في التمسك بعترة النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته، والأخذ عنهم والرجوع إليهم، وأنّهم سفن النجاة، وأنّ الحق يدور معهم، وأنّهم والكتاب لن يفترقا حتى يردا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحوض، وأنّ حربهم حرب رسول اللّه، وسلمهم سلم رسول اللّه، وأنّ من سلك طريقاً غير طريقهم زُجّ إلى النار، افتريتم عليهم بأنّهم يقولون (العياذ باللّه) إنّ الأئمة أفضل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أو أنّهم آلهة، أو أنّهم يقولون بعد تسليمهم في الصلوات «خان الأمين(1)» يريدون أمين وحي اللّه تعالى والملك المقرّبة.

ص: 282


1- من الكلمات الحكيمة (إذا لم تستح فاصنع ما شئت أو فقل ما شئت) فباللّه أسألك يا أخي أن تقرأ كتب الشيعة في الأدعية والأذكار، وما يدعون به اللّه في تعقيبات صلواتهم، وأن تذهب إلى أي بلد وقرية من البلاد الشيعية، وفي مساجدهم وصفوف صلواتهم فاسمع واسأل وافحص حتى تعرف أن ليس في الشيعة من العوام فضلاً عن خواصهم أحد يعرف هذه الفرية، واقض العجب العجاب من قلة حياء هؤلاء المفترين. وانظر بعينك واسمع بأُذنك أن الشيعة بعد صلواتهم يرفعون أيديهم للتكبير إلى حيال آذانهم ثلاث مرات ويقولون في كل مرة (اللّه أكبر) وهؤلاء يقولون إنّهم يقولون: خان الأمين، فليقولوا ما شاؤوا وليفتروا ما أرادوا، فلا تحسبنّ اللّه غافلاً عما يفترون، ولا يقول الشيعة في الملائكة الذين منهم جبرئيل عليه السلام إلّاما قال اللّه تعالى فيهم: عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون سورة الأنبياء: الآية 26 و 27. ثم ما هذه المصاحف الخاصة التي جعلوها لأنفسهم؟ وعند من، وفي أيّ مكتبة يوجد واحد منها، وعند من رأيت نسخة منها؟ أهكذا تعرفون دين الحق؟ أدين الحق أمركم بالكذب والإفتراء والبهتان؟ أدين الحق يأتي بالكتب المزوّرة، ومايوجب تفريق كلمة المسلمين والجفوة والبغضاء. قال اللّه تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آبائنا واللّه أمرنا بها قل إن اللّه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللّه ما لا تعلمون سورة الأعراف: الآية 28. ثم إنه وقع بيدي بعدما كتبت هذا الكتاب كتاب أسماه مؤلفه عبدالرحمن بن حماد آل عمر (دين الحق) وجدت فيه أغلاطاً كثيرة، فعجبت من جهل هذه الطائفة وإصرارهم على الكذب، والقول بغير علم وتركهم التثبّت والتحقيق وركونهم على ما يفضحهم ويوضّح جهلهم ووهن ما بنوا عليه في إثبات مذهبهم ورد غيرهم، وإذا كان هذا حال علمائهم وكُتّابهم فما ظنّك بعوامهم!!! ونذكر لك نموذجاً مما في هذا الكتاب من الهذيان ما قال في ص 88: (ومن الفِرَق الخارجة عن الإسلام وإن كانت تدّعيه، وتصلّي وتصوم وتحج، فرقة كبيرة العدد من فرق الشيعة تدّعي أنّ جبرئيل عليه السلام خان في الرسالة حيث صدها إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد كان مرسلاً إلى علي رضي اللّه عنه. ويقول هؤلاء: إنّ القرآن الذي بأيدي المسلمين الآن فيه زيادة ونقص، وجعلوا لهم مصاحف خاصة، وصنعوا فيها سوراً من عند أنفسهم... إلخ). فيا أهل الإنصاف والدين! ويا حملة الكتاب والسنة! ويا من يريد أن يعرف أتباع ابن تيمية، انظروا في هذه المخاريق، واعرفوهم فهذا أساس كتبهم ومقالاتهم الطائفية. واسألوهم عن هذه الفرقة الكبيرة التي تقول بهذه المقالة الكافرة وتنسب إلى أمين وحي اللّه تعالى بالخيانة. ففي أي بلد هم ساكنون، فأتوا يا أتباع ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب بواحد منهم إن كنتم صادقين، وإلّا فاعلموا أنّكم في ضلال مبين. فما عذركم عند اللّه تعالى، لعنة اللّه على من يقول بهذه المقالة.

ص: 283

(جبرئيل عليه السلام) أو أنّ لهم قرآناً غير هذا القرآن، أو أنّهم يكفِّرون جميع الصحابة من افتراءات لا خلاف بين الشيعة في كفر من قال بواحد منها، أو أنكرتم عليهم ما يثبتون من الفضائل والمناقب والكرامات والعلوم لأهل البيت عليهم السلام مما ثبت بالأثر الصحيح وشهد بكثير منها، وأخرجها جماعة من أعلام أهل السنة ممن يطول بنا الكلام بسرد أسمائهم حتى أنّ جمعاً منهم صنفوا في ذلك كتباً مفردة.

أو أخذتموهم بعقائدهم الصحيحة التي تعتقدونها أنتم إن كنتم من أهل السنة (ولستم منهم) كالتقية التي نزل بها القرآن الكريم.

أو أخذتموهم بآراء وأقوال لم تحصلوها، وما دريتم قولهم فيها أو دريتم وتجاهلهم كالرجعة(1) والبداء(2) ، وقلتم فيها ما تريدون، وتركتم النظر حول هذهى.

ص: 284


1- لا يخفى عليك أن الرجعة ليست على إطلاقها عند من يقول بها من الشيعة، وإلا كانت بعثا، و من الآيات التي استدلوا بها على الاولى قوله تعالى: (و يوم نحشر من كل امة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) سورة النمل: الآية 83، كما اسدلو ايضا بآيات صريحة على و قوعها في الامم الماضية.
2- راجع في الرجعة (مع الخطيب)، فيها وفي البداء كتاب (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) وكتاب (نقض الوشيعة) وللشيعة في هاتين المسألتين كتباً مفردة. ومن عجيب ما قرأت حول أسئلة الرجعة ما أخرجه ابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 5، 323 ص 187 و 188) عن أبي حريز البصري قاضي سجستان: وهو من الشيوخ الأربعة، والبخاري في التعلقيات (قال ابن حجر) وقال الآجري عن أبي داوود، حدّثنا الحسن بن علي، حدّثنا أبو سلمة، حدّثنا هشام السجستاني قال: قال لي أبو حريز: تؤمن بالرجعة؟ قلت: لا، قال: هي في اثنتين وسبعين آية من كتاب اللّه تعالى.

المسائل، ولم تكلفوا أنفسكم النظر في أدلّتهم من الكتاب والسنة، فأوَّلتموها بمزاعمكم ليكون لكم عذر عند العوام والجهّال حتى لا يسألوكم عن حقيقة ما يقوم عليه مذهب شيعة أهل البيت.

فإنّ السؤال إذا وصل إلى هنا لا يمكنكم أن تدفعوا الناس عن الميل إلى مذهب أهل البيت وإلى التشيّع؛ لأنّ مذهبهم اقتصر على الأخذ عن أهل البيت والتمسّك بهم دون غيرهم، كما قال أبان بن تغلب: إنّ الشيعة هم الذين إذا اختلف الناس عن النبي صلى الله عليه و آله يأخذون بقول الإمام علي عليه السلام، ويتركون غيره من الأقوال(1).ه.

ص: 285


1- أخرج في الأمالي الخميسية (ج 1 ص 153، ط مصر) بسنده عن أبي مسعود قال: إنّ لهذه الأُمة فرقة وجماعة فجامعوها إذا اجتمعت، فإذا افترقت فارقبوا أهل بيت نبيكم، فإن سالموا فسالموا، وإن حاربوا فحاربوا، فإنّهم مع الحق والحق معهم، لا يفارقهم ولا يفارقونه.

والبحث والتنقيب إذا كان للوصول إلى الحقيقة ينتهي إلى مذهب الشيعة كما ترى ذلك في كتب جماعة من رجالات العلم من المتقدمين، والمعاصرين من أهل السنة في مسائل كثيرة، فبعضهم صرح بما ينتهي إليه البحث في ضوء علمي، وبعضهم إن لم يصرّح فلقد أورد البحث وأتمه على نحو يلتفت من يقرأه إلى نتيجة بحثه.

ولا يقبل المسلم المثقّف، والجيل المعاصر ما ذكره بعض السلف من أعذار مختلقة للأحداث التي وقعت بعد ارتحال الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، فترى مثل سيد قطب لا ينكر سوء سيرة عثمان وضعف سياسته، وما خسر المجتمع الإسلامي به في كتابه (العدالة الإجتماعية) ويعظّم نهضة الإمام الحسين عليه السلام وقيامه لحفظ الإسلام غاية التعظيم، يذكر عمله مع عمل إبراهيم الخليل النبي العظيم عليه السلام في تفسيره.

ولعلّك لا ترى من الكُتَّاب المثقُفين من يدفع عن سيرة معاوية، وعمرو بن العاص، ويزيد بن معاوية، ويحمل أفاعيلهم المنكرة وأفاعيل أمثالهم على الإجتهاد، فأمر هؤلاء صار أوضح من أن يخفى على الباحث المنصف، وكلما قلت العصبيات زاد الأمر وضوحاً إلى أن يقطع اللّه دابر المنافقين.

ومع ذلك كلّه نحن لم نطلب في (مع الخطيب) وفي سائر كتبنا حول الدعوة إلى الوحدة الإسلامية من هؤلاء الذين جعلوا شعارهم الدعوة إلى التفرقة

ص: 286

والإختلاف إلّاالإعتصام بالوحدة الإسلامية، وأن لا يغالوا في ولاء المنافقين الذين أظهر آثار النفاق فيهم بغضُهم الإمام علي عليه السلام، وعداءهم لأهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، وأمرنا الرسول الأعظم بالتمسّك بهم، وأن يأخذوا بالروابط الأصلية الإسلامية التي تربط بين جميع الفرق والمذاهب.

فلا يحكموا بكفر من صرّحت صحاح الأحاديث، وسيرة الرسول وسيرة أصحابه على إسلامه؛ لأنّه يتمسّك بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ويأتمّ بهم، ويقتدي بهداهم وسيرتهم، ويتبرء من أعدائهم، ولا يقول بأنّ الصحابة - حتى من ثبت فسقه بل ارتداده بالأثر الصحيح - كلهم عدول، بل يحكم على كل منهم بما يحكم عليه التاريخ، ويؤدي إليه اجتهاده.

فإذا أنتم لا تكفرون قتلة عثمان ومن شرك في دمه، وأثار الفتنة عليه كأُمّ المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وعمار وغيرهم، ولا تفسقونهم كما لا تفسقون عايشة وطلحة والزبير، ومن كان معهم في وقعة الجمل، وتحملون كل ما صدر عنهم على خطأهم في الإجتهاد، وتقولون للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، وتقولون بوجوب إطاعة أمير مؤمنيكم مروان، وهو الذي قتل طلحة يوم الجمل، وكان طريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولعينه، وقد أسلم عام الفتح إسلام الطلقاء، وهو الذي كان من وراء الأحداث التي أثارت المسلمين على عثمان.

فَلِمَ تكفرون وتفسقون إذن من أدّى اجتهاده إلى فسق بعضهم أو نفاقهم؟ ومن أين جئتم بأنّ الإيمان بشرعية حكومة جبابرة هذه الأُمة، ووجوب إطاعتهم وإطاعة ولاتهم داخل في الإيمان؟

ولِمَ لا يجوز الحكم بفسق من شهد التاريخ، والأثر الصحيح، والأحاديث

ص: 287

المعتبرة بفسقه.

وهل أنّ هذه الآراء جاءت إلّامن قبل السياسات التي سلبت حرية التفكير الديني عن المسلمين بعد عصر الرسالة؟

وإلّا فهذه فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه وحبيبته سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء أهل الجنة المطهرّة عن الرجس بحكم آية التطهير، ماتت وكانت عقيدتها ورأيها عدم شرعية حكومة أبي بكر، وماتت غاضبة على الشيخين فمن كانت عقيدته عقيدتها لا يؤاخذ بها، ونفس هذه العقيدة كانت عند غيرها ممن امتنع عن البيعة لأبي بكر.

ومن جانب آخر فهذه أُمّ المؤمنين عائشة حاربت علياً الذي قال النبي صلى الله عليه و آله في حقه: «علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار»، وقال:

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»، فحدثت من جراء ذلك في الإسلام فتنة كانت هي كالأساس لجميع الفتن التي حدثت بعدها إلى يومنا هذا.

ومع ذلك فأنتم تفضّلونها على سائر أُمهات المؤمنين(1).5.

ص: 288


1- حتى على زينب بنت جحش التي أطاعت أمر النبي صلى الله عليه و آله في حجة الوداع، حيث قال صلى الله عليه و آله في هذه الحجة مخاطباً نساءه: (هذه الحجة ثم ظهور الحصر) وبالغت في الإطاعة حتى بلغ الأمر بها إلى حدّ أنّها بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم تخرج من بيتها حتى للحج، وكم كان بينها وبين عائشة في معارضة الأخيرة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وردّها عليه وعدم إطاعتها له من فرق. ولإثبات ذلك نذكر مثالاً مما وقع في حجة الوداع وهو ما في السيرة الحلبية (ط مطبعة مصطفى محمد ج 3 ص 292 و 293) من أنّه في حجة الوداع (كان جمل عائشة (رضي اللّه عنها) سريع المشي مع خفة حمل عائشة، وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخر الركب بسبب ذلك، فأمر صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة وأن يجعل حمل عائشة على جمل صفية، فجاء صلى اللّه عليه وسلم لعائشة (رضي اللّه عنها) يستعطف خاطرها، فقال لها: يا أُم عبداللّه، حملك خفيف وجملك سريع المشي وحمل صفية ثقيل وجملها بطيء، فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها وحملها على جملك ليسير الركب، فقالت له: إنّك تزعم أنّك رسول اللّه (فقال) صلى اللّه عليه وسلم: أفي شك أنّي رسول اللّه أنت يا أُمّ عبداللّه؟ قالت: فما بالك لا تعدل؟ قالت: فكان أبو بكر (رضي اللّه عنه) فيه حدّة فلطمني على وجهي، فلامه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أما سمعت ما قالت؟ فقال: دعها فإنّ المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله (ثم ذكر قصة عجيبة من أبي بكر لا حاجة لذكرها هنا). أفيقاس من يردُّ على النبي صلى الله عليه و آله بهذه الكلمة بغيرها من أُمّهات المؤمنين اللاتي لم يحفظ عنهنّ التاريخ دون ذلك. أتعرف في النساء الصحابيات من المهاجرات والأنصار من خاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بمثل هذا الخطاب؟ ألا تقرُّ أن أُمّ المؤمنين عائشة لم تحز ما حازت من الإجلال إلّالأنّ السياسة شاءت واقتضت أن يكون لها هذا الشأن، وأنّ كثرة حديثها ومن يحدث عنها والإعتناء بها لم تكن إلّالذلك؟ نعم لا شك في أنها طاهرة مما قذفت به، ومن أنكر ذلك فهو كافر باللّه وبكتابه، كما أن سائر أُمهات المؤمنين أيضاً كلهنّ طاهرات مما قذفت هي به، وإن كان القرآن نزل بطهارتها خاصة، أما خطأها فيما صدر عنها من الخروج على الإمام عليه السلام فذنب تاريخي لا ينكر، وما صدر عنها إلّالأنّها كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله كانت (لا تعرف أعلى الوادي من أسفله). ألا تعجب ممن يذكر اسمها حتى قبل اسم سيدة نساء العالمين الزهراء، وسيدة النساء خديجة؟ وعندي أن تفضيل كل واحد من الأُمة، وغيرهم على سائر الناس لا يصح إلا بدليل صريح قاطع كما دل على أفضلية سيدة نساء العالمين الزهراء والسيدة خديجة أُمّ المؤمنين، والسيدة مريم بنت عمران، والسيدة آسية، وأما غيرهنّ فلا دليل على فضلهن على جميع النساء، ولم يدل دليل على أنّه لا يوجد في نساء الأُمة من غير أُمهات المؤمنين أفضل من غير هذه الأربع لو لم نقل بدلالة الكتاب والسنة عليه بدليل قوله تعالى: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً سورة التحريم: الآية 5.

ص: 289

فلِمَ تؤاخذون من يؤدي به اجتهاده إلى الحكم على عائشة بأنّها خالفت رسول اللّه بخروجها على الإمام، وأنّ اللّه سائلها عن هذه الدماء التي أُريقت في وقعة الجمل، وما بعدها من صفّين والنهروان؟

والحاصل: نحن نطالبكم أن لا تُدخلوا في الدين ما ليس منه، فقد عرف اللّه تعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه و آله في سنته الإسلام وحدوده، وما به يخرج المرء عن دينه، ولا يوجد فيها شيء مما اعتبرتموه أنتم عناداً وعصبية خروجاً عن الدين.

فعدم الإيمان بشرعية بعض الحكومات، وبصحة إيمان أبي سفيان وابنه معاوية، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة، وغير ذلك مما تنقمون بسببه على شيعة أهل البيت عليهم السلام ليس خروجاً عن الإسلام، وقد أفردنا رسالة خاصة كتبناها حول حديث افتراق الأُمة وما هو الميزان في النجاة، وأنّ شيعة أهل البيت أخذت بكل ماله دخل في الإسلام، وسبب للنجاة عند أهل السنة والجماعة.

ومن جهة أُخرى: فهذه الأُمور التي تأخذونها على شيعة أهل البيت

ص: 290

ومتبعي سبيلهم ومذهبهم، وتجعلونها مانعاً من التقريب واعتصام الأُمة بالوحدة الإسلامية، لم يبق لها في هذه العصور أثر عملي في اتجاهاتكم السياسية والإجتماعية، وإنّما هي آراء وتفكيرات أنتجتها السياسات الغاشمة، وأنتم تتبعون سلفكم فيها، فلا معاوية ولا يزيد، ولا الوليد ولا المنصور، ولا هارون ولا الحجّاج ولا مسلم بن عقبة، ولا بسر بن أرطاة ولا زياد بن أبيه وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة أُمراء مؤمنيكم، وولاة أُموركم حتى تلتحقوا بصفوفهم، وتحاربوا معهم الإمام علياً، والإمام الحسين، وشيعتهم من الصحابة مثل سلمان، والمقداد وأبي ذر، وعمّار وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وأُلوف من الصحابة ممن كانوا في حزب علي، ومعه في واقعة الجمل، وصفّين والنهروان، وتقتلوهم.

والتفكير الشيعي أيضاً عقيدة وفكر لا يخرج في حقيقته عما يعتبر في الإسلام مما دلّت عليه صحاح أحاديثكم.

نعم.... إنّه فكرة وعقيدة تجيء طبعاً من مراجعة الأحاديث الصحيحة المتواترة، ومن مطالعة تاريخ الإسلام، والبحث والتنقيب في سيرة الرسول وأهل بيته وأصحابه، وفي سيرة من تولّى الأمر بعده، وما أثُر في مسير التاريخ وظهور الحكومات في العالم الإسلامي، وسيرة الحُكّام المخالفة لتعاليم الإسلام الرشيدة في الحكم والإدارة، وحساب هؤلاء على اللّه تعالى.

وأنتم على عقيدتكم ورأيكم فيما تقولون فيهم من أنّهم كانوا فيما فعلوه وأحدثوه متّبعي هوى الإسلام، لم يريدوا بما فعلوا رئاسة وسلطاناً ولا جاهاً دنيوياً، وما مخالفتهم لأمر الرسول صلى الله عليه و آله واستباحتهم الدماء المحقونة وتحليلهم

ص: 291

الحرام وتحريمهم الحلال إلّالرأي رأوه واجتهاد أدى بهم إلى ذلك.

أنتم وشأنكم قولوا ما شئتم، واحكموا أو تحكموا بالتاريخ كما يحلو لكم، فنِعم المجتهدون مجتهدوكم: معاوية، وعمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة، ووليد بن يزيد، وسمرة بن جندب، وحصين بن نمير، ومروان وغيرهم.

فنعمت الحصيلة حصيلة اجتهادهم: الإستبداد بأُمور المسلمين، وقتلى الجمل وصفّين ومرج عذراء، وأمارة يزيد، وقتل الإمام الحسن السبط الأكبر وأخيه الإمام الحسين ريحانتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقتل غيرهم من أهل بيت الرسول وأصحابه، وقتل مالك بن نويرة، ونكاح زوجته قهراً قبل انقضاء عدّة الوفاة، ونفي أبي ذر الذي قال رسول اللّه في حقّه ما قال(1) ، وغير ذلك من المنكرات.ر.

ص: 292


1- أخرج أحمد في مسنده (ج 5 ص 197) عن عبدالرحمن بن غنم أنّه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، وأمر بحماره فأوقف، فقال أبو الدرداء: ما أراني إلّامتبعك، فأمر بحماره فأسرج، وسارا جميعاً على حماريهما، فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إنّ الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر نفي، قال: نعم واللّه، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرات.. ثم قال أبو الدرداء: ارتقبهم واصطبر كما قيل لأصحاب الناقة: اللهم إن كذّبوا أبا ذر فإنّي لا أُكذبه، اللهم وإن اتّهموه فإنّي لا أتهمه، اللهم وإن استغشوه فإنّي لا أستغشه، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً، ويسر إليه حين لا يسر إلى أحد. أما والذي نفس أبي الدرداء بيده! لو أنّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر.

فأنتم ورأيكم في هذه الأُمور، ولكن لماذا تطلبون ممن أدى اجتهاده إلى خلاف اجتهادكم في أصحاب هذه الأحداث ترك اجتهاده، ولا تحترمون اجتهاده فيهم كأنّه ارتكب كبيرة من الكبائر.

وإذا كان من الجائز أن تحمل أعمال هؤلاء، وحروبهم، وقتلهم النفوس، وبغضهم للإمام علي عليه السلام الذي كان بغضه من أظهر آثار النفاق، بل يعد في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله من علائم خبث الولادة، على الإجتهاد، وإذا أنتم تعذرون معاوية، وقلتم بأنّه مجتهد مخطئ لا ذنب له مع أفاعيله المنكرة الموبقة الجسيمة، وقد سنّ سب أخ الرسول، ومن هو بمنزلة نفسه على المنابر، وتحملون جميع ما صدر عنه، وعن أتباعه من بني أُمية، وغيرهم على الإجتهاد لا تفسقون واحداً منهم.

لماذا لا تحترمون اجتهاد من أدى اجتهاده إلى ما كان تراه فاطمة سيّدة نساء العالمين والإمام علي، وأبوذر والمقداد وعمار، ووجوه الصحابة الذين رأوا وجوب الجهاد ضد معاوية وقتله وقتل أصحابه حلالاً، وكانوا يتقرّبون إلى اللّه بذلك وبالبراءة منه؟

فإذا كانت السيّدة فاطمة المطهرّة عليها السلام وبنو هاشم وغيرهم ممن امتنع عن بيعة أبي بكر مجتهدين، فالذي يرى رأيهم في ذلك عذره أولى بالقبول.

مضافاً إلى أن الرأي بشرعيتها لا يدخل أحداً في الإسلام كما أن القول بعدم شرعيتها لا يخرج أحداً عنه، فتلك المسائل والعقيدة بشرعية الحكومات التي تولّت الأُمور بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليست من أُصول الدين، ولا يخرج أحد بإنكارها عن الإسلام، كما لم يخرج المسلمون الأولون بذلك عنه.

ص: 293

فمن لم يعرف أصحاب هذه الحكومات، ولم يسمع باسمهم لا يسئل عن ذلك في القيامة أصلاً ولا يجوز لكم أن تعرضوا على الناس عند عرض الإسلام وأُصوله وأهدافه شرعية حكومة هؤلاء أو اتّباع سيرتهم أو الإيمان بعدالتهم إلّا إذا كنتم تريدون أن تزيدوا ذلك على ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله.

فمسألة (الصحابة كلهم عدول) ليست من أُصول الدين وفروعه بشيء، ولا مدخلية لمثل هذه مما نسجته يد السياسة الأثيمة، ومبغضي أهل البيت عليهم السلام في إسلام المسلم أصلاً، ولا يجوز تكفير المسلم أو تفسيقه إذا رأى غير ذلك مع التزامه بأحكام الإسلام من الصلاة، والصيام، والحج والزكاة، وغيرها، وتركه ما حرّمه اللّه تعالى في كتابه وسُنّة رسوله.

وكل باحث في تاريخ الإسلام إذا كان منصفاً يعرف أنّ الأصل في إدخال هذه الأُمور في الدين، ما كان إلّاسياسة الحُكّام الذين قلّبوا الإسلام ظهراً لبطن، حتى قال أبو الدرداء: «واللّه لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه و آله شيئاً إلّاأنّهم يصلّون جميعاً»(1).

وقال أنس: «ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه و آله، قيل: الصلاة قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟»(2).

ولكنّهم منعوا بكلمتهم (الصحابة كلهم عدول) الأُمة عن البحث والتنقيب حول ما شجر بين الأولين لما رأوا أنّ ذلك يؤدي إلى معرفتهم ما لا يحبون،ا.

ص: 294


1- يراجع مسند أحمد: ج 6 ص 443.
2- يراجع صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تضييع الصلاة عن وقتها.

ويحتم عليهم النزول عن عروشهم الإستبدادية، وينتهي إلى الحكم بعدم شرعية حكوماتهم، وجعلوا هذا كبعض الأُمور التعبديّة، الذي لا يجوز لأحد أن يسأل عنه لعدم اهتداء العقل إلى حقيقته، فلا يجوز لأحد أن يتكلّم في صحابي، ولو كان بسراً، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، والوليد بن عقبة، بل ولا في من رأى صحابياً، ولو كان هو الحجّاج أو مسلم بن عقبة. وأما إذا كان ممن اعتلوا عرش الحكم واستبدّوا بمقدّرات الأُمة، فلا يجوز القدح في أعماله أصلاً؛ لأنّ على الأُمة إطاعة الولاة؛ ولأنّهم (العياذ باللّه) صنائع الإسلام، ومطبّقوا مناهجه السياسية، فلا يجوز لأحد أن يقف أمام مواقفهم السياسية حراً، وينظر إليها بعين الفهم والعقل، والمحاكمة الواعية.

لأنّ هذا يسفر طبعاً عما لا يناسب ما اتخذوه عقيدة في بعض الصحابة، كأنّ الإسلام مع ما في كتابه من الآيات الكثيرة في منافقي الصحابة، ومع ما أخبر النبي صلى الله عليه و آله في أخبار الحوض عن ارتداد ملأ منهم قد سنّ للصحابة قواعد غير ما سنّه لسائر أبناء الأُمة.

وما أدري إلى متى ستستمر أمثال هذه المجادلات؟ ومتى ينتهون من الوقوف في وجه تبصر الأُمة وتيقّظها؟ وإلى متى يسدّون أسماعهم عن نداءات الوحدة الموجّهة من مصلحي الأُمة، وزعماء المسلمين من الشيعة والسنة؟ ومتى يمتنعون عن خيانة الإسلام والمسلمين بمقالاتهم وكتاباتهم الممزّقة لشمل الأُمة؟

نحن لا نحب معارضة ما كتب كاتب (الشيعة والسنة) وغيره عن الشيعة، وما أخذوه عليهم من الكذب والبهتان، ولو شئنا لكتبنا نحن صدقاً وواقعاً

ص: 295

أضعاف ما قاله هؤلاء عن الشيعة، فإنّ ما في كتبهم المعتمدة المشهورة من فضائح أعمال كثيرة من هؤلاء حتى قضاتهم مثل: يحيى بن أكثم، وابن أبي داود، وما قاله علماؤهم في الجرح والتعديل في أمثال: ابن حزم، وابن تيمية، وأبي حنيفة وغيرهم، من المطاعن ما يتعسّر استيعابه، فمن أراد معرفة ما قيل في هؤلاء فليراجع كتب أهل السنة في التاريخ والتراجم.

نعم إنّنا لن نملأ كتابنا بذكر مساوئ هؤلاء، فحسابهم وما فعلوا، وما أفتوا به، ودم من قتل بفتاويهم في الفتن التي وقعت بين الأُمة: كفتنة اختلافهم في خلق القرآن، واختلاف أتباع المذاهب، والصدمات الدموية التي وقعت نتيجة هذا الإختلاف على اللّه تعالى، وهو الذي يجازيهم عليه، ولسنا بحاجة لأن نخوض في هذه الأُمور بعدما كان معنا من الآيات الكريمة، والأحاديث المتواترة ما يدلّ على صحة مذهب الشيعة، وبعدما قام بكشف فضائح جماعة من هؤلاء علماء أفذاذ من أهل السنة، فكَفَوْنَا هذه المهمة.

فإن أردنا أن نستشهد بخيانات الأُمراء والوزراء، والحُكّام وعلماء السوء، ومحبّي الجاه والرئاسة، وراجعنا التاريخ للكشف عنهم لما وسعنا الوقت، لأنهم أكثر من أن يستقصى ذكرهم، وشرح خياناتهم في كتاب وكتاب وكتاب، وإن جاء إحسان ظهير بواحد من المتسمّين بالشيعة، ورماه بالخيانة نقابله بالمئات بل بالأُلوف من المتسمّين بالسنة.

فإن كنت تقول: يا إحسان ظهير! إن پاكستان الشرقية ذهبت بزعمك في أيدي الهندوس ضحية، بخيانة يحيى خان الشيعي، فماذا أنت قائل عن فلسطين، ذهبت ضحية بأيدي اليهود بخيانة من؟ ولماذا لا تقول بأنّ مجيب الرحمن

ص: 296

وحزبه الذين تولّوا الهندوس، وذهبت پاكستان الشرقية بسعيهم ضحية في أيدي الهندوس كانوا من الشيعة أو السنة؟ وأثرهم في انفصال الپاكستانيين كان أكثر أم يحيى خان؟(1)

وبماذا تُجيب لو سُئلت عن الحكومة العثمانية وبلادها الواسعة؟ وعن الذين تمزّقت بخيانتهم وذهبت ضحية في أيدي الكفّار؟ فطاغية تركيا الذي ألغىى.

ص: 297


1- كل من له أدنى خبرة بما يجري في البلاد الإسلامية يعرف أن پاكستان الشرقية لم تنفصل عن الغربية بغتة، وأنّ أسبابه نشأت من قبل بسنوات كثيرة، بل يرجع بعضها إلى زمان تأسيس حكومة پاكستان، والحكومات التي تولّت الأُمور فيها لم تعمل لرفعها كما لم تعمل لإصلاح ما شجر بين زعماء الپاكستانيين، ولرفع الفساد الذي ظهر في الأُمور السياسية والإقتصادية، والإجتماعية والتعليم والتربية، وكما لم تأخذ الحكومة بنصائح المصلحين من مسلمي پاكستان الشرقية والغربية ولم تأخذ أيضاً بمبادئ الإسلام ثم ترأّس يحيى خان في الحالة التي تؤدي لا محالة إلى ما أدت، ومما أثّر في ذلك الإنفصال، بعد مساعدة الظروف والأحوال الإجتماعية والإقتصادية التي لم تعمل الحكومات في إصلاحها بنية صادقة، قوة بعض السياسات المستعمرة وضعف بعضها ومع ذلك كله لم تقع في أيدي الهندوس، وقتل مجيب الرحمن. والآن نرى أنّ اختلاف پاكستان الشرقية (بنكلادش) وحكومة الهند رفع إلى جامعة الدول وقامت بنكلادش حكومة الهند، واللّه يعلم ما يحدث في المستقبل. ولا يظن أحد أنا نريد تبرئة يحيى خان، فما ذلك عندنا بشيء حكم عليه بالخيانة أو لم يحكم، فيحيى خان حاكم من الحُكّام الذين لم نعرف لهم عملاً في مصلحة الإسلام، ونحن لا نكرمهم، ولا نرحّب بهم، كما لا نوالي الظالمين والخائنين سواء كانوا من الشيعة أو السنة. بل نريد أن نبيّن ضعف مقال كاتب (الشيعة والسنة) ونظرائه، ومغالطاتهم وما يستندون إليه فيما يكتبون في المذهب حتى يعرف الباحث المنصف بماذا يحكم هؤلاء على شيعة أهل البيت، ويفترون عليهم، ويضلون الناس عن سبيل اللّه تعالى.

الخلافة وأعلن اللادينية والإلحاد، ورفض شعائر الإسلام كان من الشيعة أو السنة؟

وبماذا تُجيب إذا سألوك عن هذه التفرقة الموجودة في البلاد الإسلامية التي هي الأساس لاستيلاء الكفّار على بلادنا، وشؤوننا جاءت من خيانة من؟

ثم إنّ هؤلاء الحُكّام الذين لا مقصد لهم إلّاالإحتفاظ بحكوماتهم وإماراتهم، والذين اتخذوا اليهود والنصارى والشيوعيين أولياء، وارتدوا عن الإسلام يحاربونه بكل سلاح بعد أن أهملوه إهمالاً تاماً، وأخذوا مكانه بالمبادئ العلمانية أهم من الشيعة أو السنة؟

فهل ترى سبباً لبقاء العدو في بلادنا وأراضينا، وأفكارنا غير خيانة الرؤساء؟

وهذه لبنان قد ابتُليت بالحروب الداخلية، وانْهار كل شيء فيها معنوياً وإنسانياً، واقتصادياً وعمرانياً، وأصبحت حواضرها خربة، والمسلمون يقتلون فيها بعضهم بعضاً، وقد أذاقهم اللّه لباس الجوع والخوف بخيانة من؟

نعم الشيعة تقول: لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام ليس من اللّه كما تقول:

أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة، والزكاة، والولاية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا تعتقد أنّ للجبابرة نصيباً من الحكم والولاية والتصرّف في الأُمور، لأنّ الشيعي معتقد بنظام الإسلام السياسي، ولا يرى لغير اللّه ولا لأحكامه حكماً وحكومة، فمن لم يدِنْ بحكومة شرعية من اللّه لا اعتداد بعباداته وأعماله؛ لأنّ المجتمع إذا لم يقم على حكومة رشيدة صالحة تطبّق مناهج الإسلام في السياسة والقضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن الحاكم من الذين قال

ص: 298

اللّه فيهم: الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمُور(1) لا عبرة بالاعتناء بالتكاليف الفردية.

لأنّ ذلك لا يكفي في صلاح المجتمع، واستقامة مناهجه التربوية والمالية، والسياسية والإجتماعية، وحفظ النظام والأمن، كما أنّه على خلاف الغاية التي أرادها اللّه من بعث الرسل والأنبياء.

فإنّ اللّه سبحانه يقول: ولقد بعثنا في كل أُمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت(2) من هذه الآية الكريمة نستفيد بأنّ أمر المجتمع الذي لم يكن حاكمه من اللّه، ولم تكن حكومته شرعية آيل لا محالة إلى عبادة غير اللّه، وإطاعة الطواغيت، وقد أمر اللّه الناس بأن يخلصوا إطاعتهم للّه في قوله تعالى: وما أُمروا إلّاليعبدوا اللّه مخلصين له الدين(3).

ومن هذا يظهر سر التأكيد على معرفة الإمام في الحديث المعروف: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) وسر تأكيد النبي صلى الله عليه و آله على إرجاع الأُمة إلى الأئمة من أهل بيته في الأحاديث المتواترة كحديث الثقلين.

والشيعة قد أخذوا بهذا المبدأ، فلا يرون لغير اللّه وغير أحكامه حرمة، وليس لمن استمدّ حكمه وحكومته من غير اللّه سلطان ولا حكومة، قال تعالى:

إن الحكم إلّاللّه أمر ألّا تعبدوا إلّاإيّاه ذلك الدِّين القَيِّم (4) ، وقال سبحانه: إنَّ هذه0.

ص: 299


1- الحج: الآية 41.
2- النحل: الآية 36.
3- البيّنة: الآية 5.
4- يوسف: الآية 40.

أُمتكم أمةٌ واحدة وأنا رَبُّكُمْ فَاعْبدُونِ (1) .

هذا هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه نظام الحكم في الإسلام، وهذا هو النظام الإسلامي الذي يجب أن ترتكز عليه أية حكومة تدَّعي الإسلام.

فهل تجد لهذه الحقائق في البلاد الإسلامية رسماً أو اسماً؟ ففي كل قطر ومنطقة حاكم ونظام يدعوان إلى أُسلوب في الحكم ليس من الإسلام في شيء.

فهل يجوز للمسلم في نظركم إطاعة الحاكم مهما كان، وأياً كان نظامه؟ وهل يجوز للمسلمين التسليم بالأمر الواقع حتى ولو كان في هذا الواقع إبقاء على تمزّق بلاد المسلمين إلى دويلات صغيرة ضعيفة؟ والأُمة المسلمة إلى شعوب لكل منها في محيطه الخاص عاداته وتقاليده وطرق تفكيره، لا يكاد يتحسّس آلام إخوانه في سائر الأقطار؟

فإذا كانت الأرض في نظر الإسلام كلها للّه، والأُمة الإسلامية أُمة واحدة كما صرّح بذلك القرآن، فيجب أن يكون حاكمها واحداً، وحكومتها واحدة، فما هو موقف حكّامنا من ذلك؟ وما هو موقفهم من رأي الإسلام هذا؟ وما داموا مسلمين، فلماذا لا يحقّقون كلمة الإسلام فيهم؟ ولماذا يصدّون الناس عن سبيل اللّه؟ ولماذا هذه الإمتيازات التي ليست من الإسلام وهم يؤثرون أنفسهم بها على سائر المسلمين؟!

وإذا كانت بلاد المسلمين كلها دار الإسلام وبها يتحقّق الوطن الإسلامي الكبير، فلماذا إذن هذه الحدود والحواجز، والجنسيات المختلفة؟ ولماذا لا2.

ص: 300


1- الأنبياء: الآية 92.

توزّع الأموال العامة على جميع المسلمين؟ ولماذا كان العكس من ذلك هو الحاصل فعلاً؟ فترى بعض أقطارهم يعاني من التخم، بينما أقطاراً أُخرى تعاني من الجوع؟ فلماذا هذه الإختصاصات، والإستيثارات؟

فما دمنا لم نجتمع تحت كلمة اللّه الواحدة وحزب اللّه الواحد ونظام واحد وجنسية واحدة، فما دمنا لم نرفض هذه المناهج والبرامج والنظم الكافرة التي جاء بها الإلحاد والعلمانية والإستعمار الفكري والمادي في بلادنا، وهذه الجنسيات التي مزّقنا الإستعمار بها، حتى جعل في كل قطر وإقليم حاكماً لحفظ مصالحه الإستعمارية، وحال بين المسلمين وبين تشكيل دولة واحدة، نعم... ما دمنا كذلك فهل يمكن أن يكون واجباً هناك أهم من توحيد المساعي لتشكيل دولة إسلامية واحدة ودخول الجميع في ولاية اللّه، وأن لا يدينون بولاية إمام ليس من اللّه؟

فماذا عملتم وماذا تعملون لتحقيق هذه الأهداف الإسلامية الأصيلة؟ كأنّكم يا أساتذة الجامعة لستم من أبناء هذا العالم المعاصر، ولم تطّلعوا على ما كتبه أبناء السنة المصلحون حول هذه المسائل، وكأنّكم تعيشون في عالم غير عالم المسلمين؟

أفما تلاحظون ما يجري على المسلمين وبلادهم وعليكم من الإستعمار وأذنابه؟ وكأنّكم لم تسمعوا بالنظم والمناهج السياسية والإقتصادية غير الإسلامية، بل الإلحادية التي تعرض على المسلمين من الشيعة والسنة صباحاً ومساءً في المدارس والجرائد والمجلات والكتب، ودور السينما ومحطّات التلفزيون، ولم تلاحظوا أيضاً أنّ شخصية الإنسان المسلم في جميع البلاد

ص: 301

أخذت تتغيّر وتتحوّل إلى شخصيات أُخرى غير إسلامية.

وكأنّكم لم تفكّروا فيما يحتاج إليه المسلم المعاصر، وما يجب أن يزوّد به من المعارف الإسلامية الأصيلة، والدراسات العميقة حول وجود (اللّه) تعالى الذي قام الإلحاد على إنكاره بأشنع الوجوه، ويعتبر الإعتقاد به من الرجعية، ومانعاً من التقدّم في مجالات الحياة الإجتماعية والصناعية وغيرهما، وحول نبوآت الأنبياء عليهم السلام سيما نبوءة سيّدنا محمد صلى الله عليه و آله، وحول معجزاتهم حتى أنّ الناشئة الجديدة وكبار مثقّفيكم ينكرون المعجزات المادية، أو إنهم يكتمون إيمانهم بتلك المعجزات وحول القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ألم تلتفتوا إلى ما يعمل ضد قدسيته؟ أو ما قرأتم الكتاب الخبيث الذي وضعه أخيراً المأجورون؟ وطبع في بعض البلاد العربية بنفقة المستعمرين والملحدين، وقد أنكر فيه واضعه كون القرآن وحياً، واستدلّ على صحة مدعاه حتى بآيات من القرآن المجيد، وبروايات كلها واردة في كتبكم(1) تتعامون عن كل ذلك، ثم تتسارعون على شيعي أثبت صيانة القرآن عن التحريف، واستنكر نسبة القول بالتحريف إلى الشيعة، وأتى بأقوى الأدلّة المثبتة لذلك، أو عداءكم للشيعة، ومعاندتكم للحق ادّى بكم إلى هذه الدرجة من التعامي؟ قال تعالى في كتابه العزيز:ء.

ص: 302


1- قد قام بعض الكُتّاب العلماء من أبناء الشيعة على الردّ عليه في أجزاء كثيرة نشرها في طهران عاصمة إيران جزاه اللّه تعالى عن الإسلام والقرآن والمسلمين خير الجزاء.

أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدِّي إلّاأن يهدى فما لكم كيف تحكمون (1) .

ويبدو أنّكم غافلون عما يجري في بلاد المسلمين من العمل على إقصاء الشريعة الإسلامية من مسرح الحياة، وتطبيق أنظمة أُخرى في الحكومة والمال، والقضاء والتعليم والتربية التي ليست من الإسلام بشيء، ولعلّكم غافلون أو تتغافلون أيضاً عما انتهى إليه وضع شبّان المسلمين من التأثّر بالآداب الغربية الإستعمارية أو الشرقية الملحدة، ثم تتوجّهون بكل حماس للرد على دعوة مخلصة تستنهض المسلمين ليقوموا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص لدفع هذه الكوارث التي أصابتنا جميعاً.

وكأنّكم لم تقرأوا الكتب والصحف التي تدعو الفتيان والفتيات إلى الخلاعة والدعارة، وتحثّهم على رفض جميع الشعائر والآداب الإسلامية.

كل هذه المخاطر التي تهدّد الإسلام بالصميم، وتزلزل أُسس الدين وما أتى به سيد المرسلين محمد صلى الله عليه و آله غير مهمة في نظركم، ولا تستنهض همتكم، والمهم الوحيد عندكم أمر يزيد وأبيه، ومروان وهارون، والدفاع عن سيرهم ومخازيهم.

فما هو موقفكم من هذه التيارات، وماذا عملتم؟ واللّه تعالى يقول: وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون(2) غير نشر (الخطوط العريضة) و5.

ص: 303


1- يونس: الآية 35.
2- التوبة: الآية 105.

(حقائق عن أمير المؤمنين يزيد) و (الشيعة والسنة) و (العواصم من القواصم) مع شرحه الخبيث؟ وبماذا تزوّدون الشباب الباحث عن دينه وعقيدته الإسلامية؟ وماذا عملت جامعة المدينة المنورة في هذا السبيل؟

فهذا شاب مسلم يأتي جامعتكم بواسطة أحد تلامذتها المثقّفين من الذين لم يتأثّروا أبداً بدعاياتكم الطائفية يطلب منكم بكل رجاء وأمل أن تزوّدوه بالكتب الإسلامية، وما يتمكّن أن يتخذه سلاحاً فكرياً في بلاده لتوحيد كلمة المسلمين، ودفع الدعايات الإلحادية والإرساليات التبشيرية وغيرها من المذاهب الكافرة، فإذا بكم تعطونه كتاب (العواصم من القواصم) وشرحه، وكتاب (الشيعة والسنة) المملؤان بالكذب والإفتراء والغلط والخلط، ولسان حالكم يقول لهذا الشاب ولأمثاله: دع الدعايات الكافرة تعمل عملها المدمّر في أفكار أبناء الأُمة، وتذهب بعقيدتك في التوحيد والنبوة، والقرآن والمعاد، والآداب الإسلامية.

افسح لها المجال في ذلك وعاد شيعة أهل البيت ومحبّي أصحاب الكساء، وقل فيهم كل ما تريد، واجعل ذلك شغلاً لطائفتك خاصة، ولأهل السنة عامة، شاغلاً لهم عمّا يتعرّض له الإسلام ممن يحاربه بلسانه ويده وقلمه، وقوته وماله، فلا ضير إن خسرنا في سبيل ذلك الإسلام وكتابه، بعدما نكون قد احتفظنا بشريعة أُموية يزيدية، وملة مروانية وليدية، ودافعنا عن شرعية حكومات أمثال معاوية ويزيد، ومروان وعبد الملك بن مروان، وغيرهم ممن نعرفهم من أصحاب المثل العليا في الحكومات الإسلامية.

هذا حاصل ما تؤدي إليه هذه الكتيبات، وهذه الإفتراءات وصيحات الزور

ص: 304

والبهتان، التي تقشعر منها الجلود، يكررونها واحداً بعد واحد كل يوم لا يصغون إلى أجوبتها، ولا يقرأون ما كتب في دفعها، ولا يلتفتون إلى نتائجها المخزية، حتى أن مؤلف (الشيعة والسنة) لم يأت بشيء إلّاتكرار ما قاله أسلافه، ولم يلتفت إلى الأجوبة الشافية التي كانت بين يديه في (مع الخطيب في خطوطه العريضة).

لأنّه يرى أنّه إن تعرّض لما ذكر فيه من الأجوبة لا يبقى له مجال للتكرار، ولا يمكنه الرد عليها أو مناقشتها، سيما في المسائل العلمية التي ليس الخوض فيها إلّامن شأن العلماء والباحثين المحقّقين، ولو كان منصفاً وأتى في كتابه في كل مبحث رد به علينا بفكرتنا التي هي موضوع رده وتكراره، وذكرها بألفاظه لما أمكنه التعمية والمغالطة، ولظهرت للقرّاء أكاذيبه ومغالطاته، كما تظهر لهم أُكذوبات الخطيب.

ومما تركنا التعرّض له أو اقتصر على الإشارة إليه في (مع الخطيب) حول التقية وتأويل الآيات، وصيانة الكتاب من التحريف، وحول كتاب (فصل الخطاب) وكتاب (الفرقان)(1) وكتاب (دبستان مذاهب)، والأحاديث المخرّجة في كتبهم وجوامعهم التي تدلّ على وقوع النقص والزيادة في الكتاب المجيد، وحول رأي الشيعة في الحكومات، والأحاديث الكثيرة التي استشهدت بها، وحول افترائهم على الشيعة باتّهامهم لهم بالتعصّب للمجوسية، وحول الفتوحات الإسلامية وأبطالها، وسبب دخول أسلاف أهل إيران في الإسلام وخدماتد.

ص: 305


1- جمع في هذا الكتاب مؤلفه السني، وحشّاه بروايات من طرق أهل السنة مما يدل على وقوع الزيادة والنقص (العياذ باللّه) في الكتاب المجيد.

الإيرانيين للإسلام والمسلمين، وحول إيمان الشيعة بظهور المهدي عليه السلام وعقيدتهم بالرجعة ومعناها، وحول نهج البلاغة وبيعة الرضوان، وحكم من نفى الإيمان عن بعض الصحابة، أو سب بعضهم عند أهل السنة، ومنزلة النبي والإمام عند الشيعة، وحول غلط الخطيب في فهم كلام العلّامة الآشتياني وتبرئة ابن العلقمي، والشيعة عن تسبيب كارثة في فاجعة بغداد، وأسباب سقوط بغداد، وحول التقريب بين المذاهب، وحول الشيوعية وأسباب تفاقمها في البلاد الإسلامية وغيرها، وغير ذلك.

فمن يراجع ما في (مع الخطيب) حول هذه المباحث يظهر له أنّ مؤلف (الشيعة والسنة) ومن يتبع سبيله لا يسلكون إلّاسبيل العناد، ولا يستهدفون إلّا إلباس الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، ويخافون أنّه لو انسدّ بمثل كتاب (مع الخطيب) و (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) و (نقض الوشيعة) و (الفصول المهمة)، و (أصل الشيعة وأُصولها) و (المراجعات) و (موسوعة أعيان الشيعة) و (الغدير والدعوة الإسلامة) وغيرها باب هذه المغالطات والإفتراءات التي يلفقونها على الشيعة أن يعرف الناس حق أهل البيت وما خصّهم اللّه به، ويطّلعوا على فضائلهم ومناقبهم، ووصية النبي صلى الله عليه و آله فيهم ومانزل في شأنهم، ولم يلتفتوا إلى أنّ هذا أمر لا يمكن ستره عن الناس أو تضليلهم عنه، ونحن في عصر أصبحت فيه الكتب والمقالات التي تتعرّض لمختلف الموضوعات في متناول الجميع، فمن لم يطلع اليوم على الحقيقة فسيطّلع عليه، ويعرفها غداً.

وياليت هؤلاء يدركون بأنّ مزاج العصر - مضافاً إلى الوعي الإسلامي الحديث - لا يقبلان إثارة الرواسب القديمة التي سببت العداء بين المسلمين،

ص: 306

والتي قامت على سياسة حكومات ذهبت في طيّات الدهور.

والذي يبدو أنّ هؤلاء إنّما يخافون من الفكر الإسلامي القويم الذي ترتكز عليه عقيدة الشيعة المأخوذة عن مصدر الوحي، ومن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة؛ لأنّهم خطر على مذاهب بني أُمية وسيرة يزيد ومعاوية، وعلى الحُكّام الجبابرة ومبادئهم، وهم في نفس الوقت لا يخافون دعاة الإلحاد وعملاء الإستعمار، مع أنّهم خطر على الإسلام والقرآن، وسيرة محمد وإبراهيم، ورسالات جميع الأنبياء (صلى اللّه عليهم أجمعين)، والمبادئ الإنسانية القويمة.

يخافون من تمسّك الأُمة بأهل البيت وعترة نبيهم واتخاذهم أئمة، ويخشون من أن تمتثل الأُمة أمر الرسول صلى الله عليه و آله بالتمسّك بهم وأخذ معالم الإسلام ومعارفه عنهم دون غيرهم، ولا يخافون من النواصب والذين يدعون إلى ولاء بني أُمية، ويزيد بن معاوية، ومبادئهم الرجعية وسيرتهم الجاهلية.

يخافون من أن تكون الشريعة محمدية وعلوية، وفاطمية وحسنية وحسينية، وباقرية وجعفرية، ولا يخافون من أن تكون أُموية عثمانية، ويزيدية ومروانية.

فأيّ المذاهب أصح من مذهب أهل البيت الذي نص على صحته النبي صلى الله عليه و آله في الأحاديث المتواترة، فنِعم ما قيل فيهم:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً

ص: 307

ووال أُناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري(1)

ونِعم ما قال الفرزدق في قصيدته المشهورة:

من معشر حبّهم دين وبغضهم

فما عذركم عند اللّه تعالى إذ تزوّدون الناس بكتب المعروفين بالإنحراف عن عترة أهل البيت الطاهرة، ومنكري فضائلهم: كابن تيمية، وابن العربي، وتهملون الكتب التي كتبها علماء أهل السنة في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، وتحدّثوا فيها عن فضائلهم ومناقبهم.حل

ص: 308


1- ونِعم ما قال الشافعي على ما نسب إليه في ذخيرة المآل، ورشفة الصادي: ولمّا رأيت الناس قد ذهبت بهممذاهبهم في أبحر الغي والجهلركبت على اسم اللّه في سفن النجاوهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسلوأمسكت حبل اللّه وهو ولاؤهمكما قد أمرنا بالتمسّك بالحبلإذا افترقت في الدين سبعون فرقةونيفاً على ما جاء في واضح النقلولم يك ناج منهم غير فرقةفقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقلأفي الفرقة الهلاك آل محمدأم الفرقة اللاتي نجت منهم، قل ليفإن قلت في الناجين فالقول واحدوإن قلت في الهلاك حفت عن العدلإذا كان مولى القوم منهم فإنّنيرضيت بهم لا زال في ظلّهم ظليرضيت علياً لي إماماً ونسلهوأنت من الباقين في أوسع الحل

ما هكذا تورد يا سعد الإبل! فإذا كنتم تريدون خدمة الإسلام فاللّه تعالى يعلم أن هذه الكتب، وهذه الطريقة المشحونة بالعصبية الطائفية لا تجلب إلّا الضرر على الإسلام والقرآن، ولا تؤدي إلّاإلى الضعف، ومضاعفة المشاكل بين المسلمين.

وإن كانت لكم غيرة على القرآن فزوّدوا الشباب والخواص والعوام بمثل كتاب (مع الخطيب) المدافع عن قداسة القرآن وحرمته، لا أن تأتوا بضده وتنسبوا بزعمكم إلى طائفة من المسلمين، حيث يزيد عددها على المائة ميليون نسمة، القول بالتحريف وهم يستنكرون هذا القول أشدّ الاستنكار.

فما الذي تريدونه إن لم يكن هدفكم الفرقة والإختلاف وجرح العواطف؟ ما الذي تريدون من نشركم أمثال كتاب (حقائق عن أمير المؤمنن يزيد بن معاوية) ومن (العواصم من القواصم)؟ وإلّا فأيّ مسلم يرضى بعد واقعة الطف والحرّة أن يقول ليزيد (أمير المؤمنين)؟

قال نوفل بن أبي الفرات: كنت عند عمر بن عبدالعزيز فذكر رجل يزيد، فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال: تقول: أمير المؤمنين، وأمر به فضرب عشرين سوطاً.

وأخرج مسلم، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من أخاف أهل المدينة أخافه اللّه، وعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.

ويزيد هو الذي أباح المدينة ثلاثة أيام لأهل الشام، حتى ارتكبوا فيها الجرائم الكبيرة من قتل الصحابة، وافتضاض العذارى، ونهب الأموال، وغير ذلك مما سوّد به وجه الإنسانية.

ص: 309

وإن كنتم يا ناشري كتاب (حقائق...) لا تعرفون يزيد، أو أنكم تحبّون ما ارتكبه من الجرائم، ولذا تحاولون تحسين سيرته، فولده معاوية عرفه وأباه وعرّفهما للناس(1) كما تشهد عليه وقعة الطف والحرّة وغزوة الكعبة، وحبر الأُمة عبداللّه بن عباس، وجمع من الصحابة والتابعين.

قال ابن حنظلة الغسيل: واللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنّه رجل ينكح أُمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر، ويدع الصلاة.

فاهنأوا إذن يا أيّها المؤمنون! بأميركم يزيد، حشركم اللّه معه ومع أبيه معاوية، ومع جده أبي سفيان، وجدّته هند، وزياد وعبيد اللّه بن زياد ومروان والوليد (فقل في نفسك إن كنت موقناً بصحة طريقتك، وطريقة محب الدين الخطيب: اللهم آمين). يامن ترحَّمت في كتابك على الخطيب ودافعت عنه.

وحشرنا اللّه مع الحسين، وجدّه، وأبيه، وأُمه، وأُخته وجدّته أُمّ المؤمنين، وشيعة أهل البيت، ومحبّيهم، ومبغضي أعدائهم (نقول: اللهم آمين، اللهم آمين، ويرحم اللّه عبداً قال: آمينا).

ولا تظنن يا أخي أن يكون بين الكُتّاب المثقّفين، وعلماء أهل السنة من غير طائفة محب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير، وهزاع بن عبد الشمري وناشري كتبهم، وغيرهم من أتباع ابن تيمية، وابن العربي، من يدنّس قلمه بمثل2.

ص: 310


1- يراجع في ذلك حياة الحيوان ج 1 ص 61، و تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227، و الصواعق المحرقة ص 222.

هذه الكتابات، أو يوجد غير هؤلاء من يجب افتراق الأُمة، ويبغض التجاوب والتفاهم، ولا تقاس جامعات القاهرة والإسكندرية، والرياض(1) وغيرها، وأساتذتها وتلامذتها وعلماء مصر ولبنان، والهند والمغرب والكويت، وكذلك الكثير من علماء لاهور موطن إحسان إلهي ظهير، وعلماء الحرمين الشريفينن.

ص: 311


1- فجامعة الرياض عمّرها اللّه تعالى بالإيمان والعلم والسداد هي التي نشرت في رسالتها (رسالة الجامعة) ع 1395/12/27 مقالة الأُستاذ عبد اللّه بن عبد اللطيف آل الشيخ بعنوان، وكيف أفلت من إدارة المطبوعات. وقال فيها: ومنذ مدة وجيزة صدر كتاب، لا أعرف كيف سمحت إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام بنشره، وهو كتاب حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية تأليف (هزاع بن عبد الشمري). فهذا الكتاب في الواقع أجمل ما فيه ورقه الصقيل وطباعته الأنيقة، أما غير ذلك فهراء في هراء، ويكفي القارئ أن يقرأ مقدّمته ليرى العجب في ركاكة الأُسلوب، وانعدام الفكرة، وعدم التركيز، ثم هو يستدل بنصوص تاريخية يعتقد أنها دليل لقوله وهي في الواقع دليل على بطلان ما ذهب إليه. ولعل ذلك عائد إلى عدم فهمه لتلك النصوص مطلقاً... إلى أن قال: نحن هنا لسنا في معرض نقد الكتاب فهو أقل من أن ينقد سواء في اسلوبه أو في أفكاره ومعانيه. ولكننا نعجب من أن يعطى كتاب في مثل هذه العُجالة الإذن له بالطباعة، وهم بذلك يعطونه ميزة الانتشار بين الناس في داخل المملكة، وربّما في خارجها. فهل ترضى أن يكون ذلك الكتاب صورة لنتاج بلادنا الفكري. وهل يمكن القول بأنّ قلة الإنتاج المنشور ترجع إلى عدم وجود كتب كثيرة من هذا النوع؟ ماذا يقول مراقبونا الأفاضل في إدارة المطبوعات؟ أقول: ولا ريب إنّ أمثال هذا الكاتب الخبير ممن لا يرضى أن يكون نتاج بلده الفكري مثل هذا الكتاب في المملكة السعودية، وفي علمائها وتلامذة وأساتذة جامعاتها حتى جامعة المدينة المنوّرة الإسلامية ليس بقليل، وفّق اللّه تعالى الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

المصلحين بهؤلاء.

فإنّ شأنهم أجلّ وأنبل من أن يقاسوا بالمستغرقين من كتب النواصب ومبغضي أهل البيت، وإنّ في مكتبتي عشرات من كتب علماء مصر ولبنان المعاصرين حول وجود اللّه تعالى والنبوة، وكثير من المسائل الإسلامية، وفي التفسير والحديث والتاريخ، وحتى حول المذاهب وحياة الصحابة، بأقلام نزيهة بريئة من العناد والعصبية الطائفية، وغير ذلك مما يفيد الشيعة والسنة، ويزيد في الوعي الإسلامي، ويؤكّد الصلات الوثيقة بين الأُمة، ويسلّح الشبّان بسلاح الإيمان باللّه والثقة به، والإيمان برسوله وبكتابه، وأُصول الدين وفروعه. زاد اللّه في وعيهم وتوفيقهم.

فكم من فارق بين من يكتب للأُمة كتاب (قصة الإيمان) و (روح الدين الإسلامي) و (مع الأنبياء في القرآن) و (روح الصلاة في الإسلام) و (الإنسان بين المادية والإسلام) و (العدالة الإجتماعية في الإسلام) و (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام) و (محمد صلى الله عليه و آله المثل الكامل) و (نظام الأُسرة وحل مشكلاتها) و (النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية) و (معاوية بن أبي سفيان في الميزان) و (أبو الشهداء) و (سُموّ المعنى في سُموّ الذات) و (شيخ المضيرة) و (أضواء على السنّة المحمدية) و (التعريف بالإسلام) و (الإمام الحسين) و (الإمام الصادق) و (الإسلام دين ودنيا) و (الإسلام دين وفكر) و (العلم يدعو للإيمان) و (في موكب الدعوة) و (هذا ديننا) و (الحجاب) و (عقيدة المسلم) و (خلق المسلم) و (شبهات حول الإسلام)، و (حكمة القرآن في بناء المجتمع) و (الإسلام والإستبداد السياسي) و (الإسلام والأوضاع الإقتصادية) و (القرآن والعلم الحديث) و (مع اللّه

ص: 312

في السماء) و (المسلمون والعلم والحديث) و (طريقي إلى اللّه) و (الحياة الأُخرى) و (الإسلام والعلم الحديث) و (السماء وأهل السماء) و (القرآن والمجتمع الحديث) و (اللّه والعلم والحديث) و (بين الدين والعلم) و (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) و (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) وغيرها...

هذه من المؤلفات القيّمة التي وضعها علماء أهل السنة، وكتّابها من الذين أثّرت أقلامهم في الشباب، وأخذوا بأيديهم من الكبوة والسقوط في أحضان الإلحاد.

فهل يقاس هؤلاء الكُتّاب بغيرهم ممن لا يعتني بمصلحة الإسلام وشؤون المسلمين، والظروف والأحوال الخطيرة التي أحاطت بهم، ولا يجتنب عن الإفتراء، وسوء الظن بالمؤمنين.

ولا أقول: إنّ جميع الكتب المذكورة خالية من الخطأ والإشتباه، ومن النزعات الطائفية في بعض الموارد، فإنّ هذا وأمثاله قد يصدر عن الكاتب ولا نؤاخذ أحداً من أرباب المذاهب على خوضه في موارد الإختلاف والبحث والمناقشة، إذا كان ذلك على ضوء العلم والإنصاف بعيداً عن العناد والشنآن، والإفراط في الذم والشتم.

فليكتبوا عن الشيعة، ولينظروا في أدلّتهم بكل إمعان وتدبر، فهذا هو الذي تطلبه الشيعة من كل باحث، لأن ذلك لا يزيد الحق إلّاوضوحاً كما أنّه يرسخ التجاوب والتفاهم بين الطائفتين، ويؤكد الأُخوة الإيمانية بينهما.

فكم يوجد من أهل السنة من يراجع كتب الشيعة في التفسير والفقه،

ص: 313

والكلام والأدب، ويقدّر نبوغهم وجهودهم في العلوم الإسلامية(1) ويعظّم اتصاف علمائهم بالصدق والورع والأمانة، ويتعمّق في آرائهم ومقالاتهم، وربّما يأخذ بها كما يأخذ بآراء علماء طائفته، بل إنّه بعد التحقيق يرجّح في بعض المسائل مذهب الشيعة(2).

وقد أعجب بكتاب (مع الخطيب) (كما أشرنا إليه) المنصفون من علماء أهل السنة وأساتذة بعض الجامعات، وقدَّروا ما فيه من التحقيقات العلمية حول صيانة الكتاب من التحريف، والرد العلمي على الخطيب وإيضاح غلطه في فهم كلام العلّامة الآشتياني وغيره، كما قدّروا ما فيه من دعوة الأُمة إلى الوئام والإتحاد.

فإن كنت أردت يا أخي الإطلاع على جوهر ما اختلف فيه الشيعة والسنة، فلا تغتر بما يصدر عن هذه الأقلام المفترية، وعليك بالإمعان في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، والمناقب والفضائل، مثل الخصائص للنسائي، وشواهد التنزيل للحافظ الحاكم الحسكاني، وأنساب الأشراف للبلاذري، وترجمةح.

ص: 314


1- منهم الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق، والشيخ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق أيضاً، فهما قد قدّرا جهود الإمام الشيعي المفسّر مؤلف التفسير القيّم (مجمع البيان) وتفسير (جمع الجوامع) وكتاب (إعلام الورى) وكتبا على مجمع البيان تقريظاً ومقدّمة، وأدّيا حق التقدير والتعظيم والثناء عليه.
2- كالشيخ الأكبر شلتوت الذي أفتى بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية في فتواه التاريخية التي استقبلها مصلحو الأُمة، وعلماؤها المخلصون، ولا غرو أن نال من مقامه الرفيع مؤلف (الشيعة والسنة) وبالغ في الخروج عن حدّ الأدب، فكل إناء بالذي فيه ينضح.

الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ ابن عساكر، وتاريخ صفّين لنصر بن مزاحم، والسقيفة، والولاية، والغدير، والعبقات، والمراجعات، والنص والإجتهاد، والفصول المهمة في تأليف الأُمة، وأعيان الشيعة، وأجوبة مسائل موسى جار اللّه، ونقض الوشيعة، وإلى المجمع العلمي العربي، وأصل الشيعة وأُصولها، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ورسالة محمد معين السندي في أحاديث الأئمة الإثنى عشر المخرّجة في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد، وغيرهما، بطرق صحيحة متواترة لا تنطبق إلّاعلى الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام، وفتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي، وفضائل الخمسة، وإحقاق الحق، والدعوة إلى الإسلام، ودلائل الصدق، وجواهر العقدين، ونظم درر السمطين، وكفاية الطالب، وأمان الأُمة من الضلالة والإختلاف، وحديث افتراق المسلمين على ثلاث وسبعين فرقة، وغيرها.

وعليك أيضاً بتتبّع كتب الفريقين في الحديث والتاريخ، والتفسير، والفقه، واللغة، فإنّ في جميعها مواضيع كثيرة تشرح لك حقيقة مذهب الشيعة وأنّهم اتّخذوا أتباع العترة الطاهرة، واقتدوا بهم واهتدوا بهداهم.

لأن النبي صلى الله عليه و آله أوصى إليهم، وأوجب على الأُمة التمسّك بهم، وجعل التمسّك بهم أمناً من الضلال في أحاديث الثقلين المتواترة وفي حديث الغدير المتواتر، وأحاديث الأمان، وأحاديث السفينة، وأحاديث الأئمة الإثنى عشر، وحديث يوم الدار، وغيرها من الأخبار الكثيرة المتواترة المخرّجة كلها في أصح كتب الحديث عن أهل السنة.

وسترى بعد اطلاعاتك أنّه ليس للشيعة من ذنب إلّاتمسّكهم بولاية أهل

ص: 315

البيت، حيث اعتبر ذلك من أعظم الجرائم السياسية في عصر بني أُمية وبني العباس، حيث عذّب هؤلاء شيعة أهل البيت - وخصوصاً العلماء والمفكّرين منهم، حتى ولو كانوا من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - بمختلف أنواع العذاب، وسجنوهم في أظلم السجون وأشقِّها، وقتلوهم شر قتلة، ومنعوهم عن رواية الأحاديث من طرق أهل البيت، ونقل علومهم ومذاهبهم في الأُصول وفي الفقه.

ولكن الشيعة سيقفون مع خصومهم وظالميهم، ومن افترى عليهم وعلى مذهبهم، سيقفون وإياهم في محكمة اللّه العادلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فيا أساتذة جامعة المدينة المنورة! عليكم أن تفكّروا في وحدة المسلمين وتطبيق مبادئ الإسلام وشرائعه وأحكامه، والتخلّص عن ضيق العصبية الطائفية، وأن لا تكتبوا ولا تنشروا ما تستعين به الأعداء على المسلمين، ولا تغترّوا بهذه الأقلام الأثيمة التي تحول دون ارتفاع الجهل، وقلع جذور الضلال والإختلاف.

وإن أبيتم ذلك وقررتم مواصلة السير على الطريق التي أنتم عليه لأنّكم لا تريدون توحيد كلمة المسلمين من الشيعة والسنة على أساس كلمة التوحيد والقرآن والسنة، فكونوا فيما بين أنفسكم معتصمين بحبل اللّه، فالوحدة الإسلامية صارت ضحية لخيانة القادة، والحُكّام بتشجيع منكم. يا حملة الفكر الوهابي، إذ أنّ دعوتكم هي التي تسبّبت في تمزيق بلاد المسلمين بشكلٍ عام، والعرب بشكلِ خاص.

إذ أنّها بدافع حب السيطرة، والإنتشار من قبل داعيتها الأول (محمد بن

ص: 316

عبدالوهاب) ساعدت الإستعمار في القضاء على نفوذ الخلافة العثمانية في الحجاز، وأحداث الإنفصال عن حكومتها تحت ستار مذهب جديد أعني:

الدعوة الوهابية، ومما زاد في الطين بَلّة والمسلمين بُعداً عنكم تصدّي رؤساء مذهبكم الأوائل بإصدار فتاوي التكفير لأتباع المذاهب الإسلامية الأُخرى والعياذ باللّه.

وهذا مما لا يمكن إنكاره، لأنّ اشتهاره يكاد أن يجعله في درجة البديهيات(1).

ثم إنّه بعد تحقّق انفصال الحجاز ونجد تحت ستار هذه الدعوة، أخذ الإستعمار ينفث سمومه في سائر الأقطار الإسلامية، بتشجيع ذوي النفوذ فيها على الثورة ضد العثمانيين، وهكذا حتى تحقّق له ما أراد من تمزيق الأُمة بين دويلات ضعيفة خاضعة لنفوذه خادمة لأغراضه قهراً أو اختياراً.

ثم إنّ الإستعمار لم يكتفِ بهذا بل تجاوزه بالتعاون مع الصهيونية العالمية على ترسيخ أُسس التمزّق بين المسلمين على صعيدٍ عرقي، فعمل على إثارة العصبية العربية تحت ستار القومية ضد إخوانهم الترك والفرس، وغيرهما، وكذا إثارة العصبية الطورانية في نفوس الأتراك ضد إخوانهم المسلمين... من القوميات الأُخرى، وعملا أيضاً على إثارة القومية الفارسية في مقابل إخوانهم الآخرين من الشيعة والسنة.

وياليتهم اكتفوا بذلك، بل تجاوزوه إلى ما هو أخطر، إذ استخدموا الأقلامة.

ص: 317


1- كما أفتى أكبر علمائهم المعاصرين بكفر كل من قال: الشمس ثابتة والأرض متحرّكة.

المأجورة وأوحوا إلى أصحابها بالكتابة لإثارة الحسّاسيات المذهبية، والطائفية كي يرسخوا جذور العداء، وما أنتم إلّابعض ضحاياه الغافلين أو المتغافلين، وما كتاباتكم المتعصّبة ضد مذاهب المسلمين بشكل عام، والشيعة منهم بشكل خاص إلّاتنفيذاً لهذه المخطّطات الصهيونية الحاقدة، والإستعمارية الجهنمية.

فنحن لو تفحّصنا مبررات الثورة لدى الخارجين على الخلافة العثمانية لوجدنا أن أكثرهم كان يتعلّل بشعار القومية العربية، والتخلّص من السيطرة التركية على أُمة العرب، وهكذا حتى سقطت الخلافة العثمانية بعد أن تمزّق جسم الأُمة الإسلامية إلى دويلات، وهذا بينما كان الشيعة، وحكومة إيران الشيعية في ذلك الوقت تؤيّد الخلافة العثمانية، وتدافع عنها لعلمها بأنّ الإستعمار إنّما يريد القضاء على الإسلام لا على فساد الخلافة العثمانية.

وكان الساعد الأيمن للإستعمار الكافر على ذهاب الدولة العثمانية هو أحد أبناء السنة، وربيب اليهود لا سيما يهود الدونمة مصطفى كمال الذي لاقى كل التشجيع والتأييد - وبكل أسف - من جانب علمائكم، وزعمائكم آنذاك، فصوّبوا ما أتى به من المناهج ضد الإسلام كالعلمانية وغيرها(1).

وقد قامت إنكلترا بكل ما عندها من وسائل الغدر والمكر، بالتعاون مع عملائها في الداخل ممن لهم نفوذ ونزعة ودعاية خاصة أمثال من حملوا لواء الوهابية، للقضاء على ما كان ينادي به العرب والمسلمين من الوحدة تحت ظلً.

ص: 318


1- يراجع في ذلك (موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين) لمصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقاً.

حكومة إسلامية، وإحياء الخلافة في الجزيرة العربية، رافضين تمزيق الأُمة بتطبيق شعار اللا مركزية الذي كان الإستعمار وعملاؤه يركّزون عليه، وينكّلون بمعانديه ومحاربيه من المسلمين، الذين يدركون بأنّ من المبادئ الإسلامية الرئيسية إقامة الحكومة الشرعية على أساس الإمامة الكبرى(1).

ولكن إنكلترا بالتعاون مع عملائها، خصوصاً دعاة الطائفية الوهابية الذين غذتهم وأيّدتهم، قد نجحت في القضاء على فكرة الخلافة والإمامة في الجزيرة العربية التي من لوازمها إقامة الوحدة العربية والإسلامية بتمامية الإنقلاب الوهابي الإنفصالي، وإقامة الحكومة المسمّاة بالسعودية(2)

ص: 319


1- لا خلاف في ذلك بين السنة والشيعة وإنّما الخلاف وقع بينهم في الصغرى، وشرائط الإمام، وأن النبي صلى الله عليه و آله أوصى إلى علي، وإلى أولاده الأئمة عليهم السلام، وعينهم ونصبهم بأمر اللّه تعالى أم ارتحل إلى الرفيق الأعلى، وأهمل هذا الأمر. والتفصيل يطلب من الكتب الكلامية مثل (تجريد الإعتقاد) وشروحه من الشيعة والسنة، و (الشافي) و (إحقاق الحق)، و (دلائل الصدق) و (عبقات الأنوار) و (الغدير) وغيرها.
2- في هذه التسمية أيضاً رمز انفصالي يعرفه الخبراء بالسياسة، فالرسول الأعظم ومؤسس الحكومة الإسلامية وزعيمها الأول لم يسمّ تلك الحكومة باسمه الشريف أو باسم العرب، مع أنّ الإنسانية بجميع مبادئها الفاضلة ومفاخرها تفخر باسمه الرفيع، وهذه الأسامي تؤكد انفصال مسمّياتها من البلاد عن غيرها، وترمز إلى الإحتفاظ بحكومات ما قامت إلّاعلى الغلبة، والإستيثار واستعباد الناس، وتمنع بعنوانها واسمها عن اتّحاد مع غيرها. فالحكومة الهاشمية مع بقائها بهذه الشخصية لا يمكن أن تتحد مع السعودية، وهي مع جمهورية كذا، وحكومة اشتراكية كذا، فما الإسلام وما حكومة الإسلام إذن أيها المسلمون، ويا أبناء السنة؟

وفي هذه الأجواء المحمومة التي فجّرها مصطفى كمال ضد الإسلام والمسلمين، وبينما كان يحمل لواء العصبية الطورانية في تركيا، وتثيرها في عروق الأتراك ضد العرب، ويقضي بالموت البطيء على نفوذ الخلافة العثمانية في نفس هذا الوقت، حمل الوهابيون في نجد والحجاز لواء العصبية المذهبية ضد المسلمين باستحلالهم دماءهم، وتوجيه بأسهم وسطوتهم، وأفواه بنادقهم كلّها إلى قتالهم خاصة، وغزوهم كلّما سنحت لهم فرصة، وقتلهم بأنواع الغدر والبغي(1).

وقد كشفت الأحداث وأثبتت الوقائع أنّهم كانوا يقومون بكل هذه الفظائع بتأييد من بريطانيا العظمى آنذاك، عدوة المسلمين الأُولى وأداة الصهيونية النافذة، وقد كانت هذه تمهيداً في نفس الوقت لطعن المسلمين في فلسطين بإقامة دولة إسرائيل بعد تمزيق العالم الإسلامي إلى دويلات ضعيفة متنافرة لا تقوى على مواجهة الدولة اليهودية الجديدة.

فمن يكون السبب بعد هذا لذهاب عزّ المسلمين وإضعافهم، والقضاء على كيانهم؟ ومن يكون العامل على تشويه سمعة الإسلام، والساعي في إطفاء نوره؟

أهم الشيعة الذين قاوموا - كما يشهد لهم التاريخ عند المنصفين، وكما تشهد بذلك مؤلفاتهم التي لا تحصى - كلّما أدى أو يؤدي بالمسلمين إلى الضغفب.

ص: 320


1- راجع: تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي، وخلاصة الكلام في أُمراء البلد الحرام، للشيخ أحمد بن زيني دحلان، وراجع كذلك: كشف الإرتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب.

والوهن والتشتّت، ودافعوا عن الإسلام بكل ما لديهم من وسائل، وتعرّضوا لدفع كافة الشبهات التي تعرّض لإثارتها أعداء الإسلام لزلزلة أبناء المسلمين عن عقيدتهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك كل أنواع الأذى والإضطهاد والتشريد والقتل، أم هم غيرهم؟ وخصوصاً محبّو الرئاسة والسيطرة منهم، والمتهالكون على الحكم، وفي مقدّمتهم زعماء المذهب الوهابي كما يشهد بذلك التاريخ.

ففي جميع أنحاء العالم الإسلامي لم تجدوا خائناً بزعمكم غير يحيى خان المنسوب إلى التشيع، فمن أين تجيء الوقائع الدامية، والفضائح التي تقع في بلاد الإسلام كل يوم، وتؤيّد الإستعمار، وتقوي التشتّت والتمزّق؟ ومن العميل فيها؟ ومن العامل على مجابهة الدولة العربية بعضها مع بعض، كالحكومة المغربية مع الجزائرية، والليبية مع المصرية والسودانية، والسورية مع العراقية و... و... غير أبناء أهل السنة؟

وإذا ثبت تدخّل ابن العلقمي في كارثة بغداد التي لم تقلّ فيها خسارة أبناء الشيعة عن السنة، والشواهد التاريخية التي ذكرتُ بعضها في (مع الخطيب) تدلّ على عدم تدخّله.

فهل جميع المتدخّلين في سائر الكوارث، والمحن والحروب، والفتن التي ابتليت بها الأُمة في شرق الأرض وغربها من عصر الصحابة إلى زماننا كانوا من أبناء الشيعة أو من أبناء السنة؟

أنسيتم صنائعكم في الحرمين الشريفين؟ وما ارتكبتم بجهالاتكم من هتك للقبور؟ وهدم للمشاهد المشرفة؟ والأبنية التاريخية التي كانت من أقوى الشواهد على صحة تاريخ الإسلام، ومواقف رسوله ومناقب أبطاله؟ فجعلتم

ص: 321

تاريخاً كان له في كل بقعة من بقاع نزل فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وأبوه وجده، وأُمه وأقاربه شاهداً على صحة ما يحكيه ويثبت من أمجادنا، خالياً عن تلك الشواهد العينية، وجعلتموه معرضاً للضياع والنسيان.

فالتاريخ الخالي من الشواهد الأثرية لا يعتمد عليه عند المؤرخين المعاصرين.

فهل تعرف شاهداً أقوى على وجود إبراهيم الخليل، وإسماعيل وهاجر من الكعبة المعظّمة، ومن حِجر إسماعيل، ومقام إبراهيم؟

ولو كانت هذه الآثار والبنايات التاريخية التي تجدّد الناس بها في كل يوم ذكرى رسول اللّه وأهل بيته، ومنازل الوحي، ومواقفه العظيمة، ومواقف أبطال صحابته، لو كانت بيد غير المسلمين لما باعوها ولما تخلّوا عنها، ولو دفع لهم ثروات الدنيا بأجمعها، ولعلّه ما كان عملٌ مما قام به زعماء المذهب الوهابي بجمودهم الفكري والعصبية المذهبية أقر لعين الإستعمار من هدم هذه البقاع، وجعلهم تاريخ الإسلام سيما في المستقبل في معرض الشك والإرتياب.

فهذا عمل لا يمكن للإستعمار أن يقوم به بيده الآثمة؛ لأنّه يتهم بالوحشية والرجعية، ولكن تحت ستار المذهب وبيد غيره من أبناء المسلمين وصل إلى مناه، ولا حول ولا قوة إلّاباللّه.

فحياة الأُمم والملل، ومواقفهم الجليلة في التاريخ إنّما تعرف بما خلفوا من آثار تدلّ عليها، فهل يعرف شاهد على المدينة الإسلامية وحضارتها وعصرها الذهبي في الأندلس غير الآثار الأندلسية الباقية عن المسلمين.

ص: 322

أنسيتم ما فعل أمراؤكم الأقدمين الذين تقدسونهم من التجاوز على حرمات اللّه في الحرمين الشريفين، ومنهم مسلم بن عقبة عامل أمير مؤمنيكم يزيد، والحصين بن نمير، والحجاج عامل أمير مؤمنيكم الآخر عبد الملك الذي روج الخلاعة والدعارة في مدينة الرسول صلى الله عليه و آله؟ وتفترون على الشيعة، ويقول إحسان إلهي ظهيركم: (وها هي الكعبة جريحة بجريمة طائفة منكم).

فما هي الجريمة، ومن هذه الطائفة؟ خذل اللّه ولعن اللّه الكاذب والمفتري، ومن لا يخاف من اللّه، ويأتي بأقبح الكذب والإفتراء، ولا يستحيى من اللّه تعالى، ولعن اللّه من لا يحترم الكعبة، ويرى جواز هتك لبنة من المسجد الحرام وسائر الأبنية المشرفة في الحرمين وغيرهما.

ولعن اللّه من لا يعتقد في الكعبة أنّها أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات مقام إبراهيم من دخله كان آمناً.

وها هي ألوف من كتب فقه الشيعة وكتب أدعيتهم، منتشرة في جميع الأقطار الإسلامية، فيها أحكام الكعبة المعظمة وأحكام الحرم، وآداب الورود في الحرم، والأدعية التي يدعى اللّه تعالى بها في الحرم وفي مكة المكرمة وفي المسجد الحرام وفي الكعبة المعظمة، وما يجب في الحرم على المحرم وغيره مما يرجع إلى حفظ احترام الحرم والمسجد والكعبة.

فقولوا ما شئتم واللّه يحاسبكم بما تقولون وتفترون، وهو يعلم أنّ الشيعة أبعد الطوائف عن هذه الإفتراءات، بُعدَ المشرق من المغرب.

فقولوا واكتبوا، وافتروا على شيعة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله كما تريدون، فهم بريئون من كل افتراءاتكم مقتدين في ذلك أثر أئمتهم عليهم السلام.

ص: 323

فهذا الإمام السبط الأكبر الحسن المجتبى عليه السلام حج راجلاً خمساً وعشرين حجة، وإمامهم الثالث أبو الشهداء وسيد أهل الإباء الحسين عليه السلام حج أيضاً ماشياً عشرين حجة أو أكثر، وهو الذي ترك مكة المكرمة بعدما علم أنّ بني أُمية يريدون قتله فيها غيلة حذراً من هتك حرمتها، ولما قال ابن الزبير: أقِم في هذا المسجد أجمع لك الناس، قال: واللّه لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحب إليَّ من أن أُقتل فيها، ولئن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحب إليَّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر، وايم اللّه لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، واللّه ليعتدن علَيَّ كما اعتدت اليهود في السبت(1).

ولا يخفى عليك أنّنا لا نؤاخذ أهل السنة بالأفاعيل المنكرة التي صدرت من جهّالهم، وطلبة الجاه والرئاسة وعُمّال السياسة، ولا نريد الإستشهاد بهذه الأُمور على بطلان طائفة وأحقّية أُخرى، فإنّ هذه ليس معياراً لتمييز الحق من الباطل، أو لمعرفة الصحيح من السقيم في المسائل الخلافية، ولا يتمسّك بهذه الأُمور إلّامن يريد المغالطة، وقد ضعفت حجته، وليس عنده من الأدلّة العقلية أو النقلية ما يثبت به مذهبه، وعند الشيعة بحمد اللّه تعالى في جميع المسائل أقوى الأدلّة، وأصرح النصوص وأصحها.

بل أُريد إلفات القارئ إلى أنّا لو فرضنا صحة ما استشهد به إحسان إلهي ظهير والخطيب مما أسنداه إلى بعض الشيعة فحجج الشيعي في ذلك أقوى؛ لأنّه يأتي بها من أوثق المصادر التاريخية عند أهل السنة، فقم أنت يا إحسان إلهي8.

ص: 324


1- الكامل لابن الأثير: ج 4 ص 38.

ظهير واقرأ التاريخ بتجرد وفهم، أو تجوَّل في البلاد الإسلامية حتى تعرف الخائنين من غير الشيعة من الذين باعوا أمجادنا الإسلامية من الكافرين، واتخذوهم أولياء.

وحينئذٍ يمكنك أن تعرف أنّ الخائن ليس منحصراً بمن ترميه بالخيانة في واقعة انفصال الپاكستانيين من بين جميع القادة والأُمراء، والوزراء الذين كانوا يشاركونه في الحكم.

فهذه الوقائع من المصائب التي ابتلى بها المسلمون (الشيعة والسنة)، على حدّ سواء، أعاذ اللّه الجميع منها.

ولو قد أخذنا بمبدأ التحابب والتوادد الإسلامي، ولم يتهم بعضنا بعضاً بما هو بريء عنه، ولم نجعل ما أدى إليه اجتهاد طائفة في المسائل الخلافية دليلاً على الكفر أو الفسق لأصبح المسلمون يعيشون في الوئام والإتفاق.

ص: 325

الكلام حول الأحاديث

لا يخفى أنّ كتب الحديث بما فيها من الصحيح والسقيم، والقوي والضعيف والغريب، والمرفوع والمرسل والمتروك وغيرها، لا يحتج بكل ما فيها، ولا يجعل كل حديث منها حجة على ما اعتقده المسلمون من الشيعة أو السنة(1) ، يعرف ذلك الحذاق في هذا الفن، ويصح أن يقال: إنّ كل عقيدة إسلامية جاءت من الكتاب والحديث ولا يصح أن يقال: كل حديث جاء بالعقيدة، وبناء على

ص: 326


1- نعم يعتبر أهل السنة ما في الصحاح الستة ولا سيّما الصحيحين حجة، فلا يجوّزون القدح في صحة ما أخرجه البخاري أو مسلم، أما الشيعة فيجوّزون المناقشة حتى في جوامعهم الأربعة. فاعتبارهم أنّ الحديث صحيحاً ليس باعتبار أنّه في (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) أو (الإستبصار) أو (التهذيب). بل لهم في قبول الحديث والحكم باعتباره، وجواز العمل به قواعد وشرائط تكشف عن كمال دقتهم في الحديث متناً وسنداً، فلا تؤخذ عقائدهم بل ولا آراؤهم من كتب الحديث، بل يضاف إلى ذلك كتبهم في الكلام والفقه التي يبحثون فيها عن الأُصول والفروع، وعن الأحاديث التي نحتج بها على ضوء علمي.

ذلك فلا يقبل من الحديث إلّاما توفّرت فيه شرائط الصحة والقبول، ولا يكون متروكاً ولا معرضاً عنه.

اللهم إلّاأن يعلم جهة الترك والإعراض وأنّها ليست شرعية، كما يجب أن لا يكون الحديث مخالفاً لصريح القرآن، وإلّا يضرب على الجدار، وهذا من أعظم ما أخذت به سيدة نساء العالمين عليها السلام على القوم في مسألة تركة النبي صلى الله عليه و آله، فإنّ بعضهم حدّث عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ولم يلتفتوا إلى أنّ هذا مخالف لكتاب اللّه تعالى.

كما يجب أن لا يكون الحديث مخالفاً لضرورة عقلية، وإلّا يجب تأويله وحمله على المحامل الصحيحة، وجعل الضرورة قرينة على المجاز، والأحاديث الدالّة على التحريف سواء أكان من طرق الشيعة أو السنة كذلك.

فإذا فرض أن يكون بينها الظاهر في ذلك فهو مخالف لضرورة العقل كما أنّه مخالف للقرآن المجيد، ولذا تركها العلماء، ولا تجد أحداً من الشيعة حتى من يتبع الشواذ من يعمل بها، كما لا أظن أن يكون بين أهل السنة من يفتي بذلك ويعتمد عليها إلّاالقليل ممن لا نحب التصريح بذكر أسمائهم.

وسواء أساء المنحرفين عن أهل البيت ومحبّي أعدائهم ممن لا يعتد بآرائهم عند أهل السنة أو لا يسوؤهم، وسواء أرادوا أم لم يريدوا فالمسلمون كلهم من الشيعة والسنة تفكيرهم في المسائل الإسلامية ومناهجهم في حل المشاكل وخططهم وسيرتهم في مواجهة التيّارات المخرّبة الإلحادية غير تفكير هؤلاء، فقادتهم وزعماؤهم وعلماؤهم والمصلحون يجتمعون في مجلس واحد ويتذاكرون في مستقبل الأُمة مجتنبين سوء الظن فيما بينهم، وربّما يعتمد السني

ص: 327

على الشيعي في هذه المسائل، والغيرة على حفظ نواميسنا الإسلامية، والإحتفاظ بأمجادنا أكثر من اعتماده على بعض أهل السنة، فقد عرف الكثيرون من علماء السنة حقيقة التشيّع والشيعة، وأدركوا مبلغ إخلاصهم لدين اللّه وكتابه، كما يعرفون أنّ كل ما يقول هؤلاء عن الشيعة من الكذب والنفاق والخداع زور وبهتان.

فهم أفصح الناس للإسلام والمسلمين وكتاب اللّه وسُنّة رسوله، فليتجوّل كل من يريد أن يعرف عقيدة الشيعة في كتاب اللّه، ولا يريد الفساد والفتنة في بلاد الشيعة، وليراجع مؤلفاتهم حتى يعرف عقيدتهم فيه، وأنّهم ما اختاروا رأياً، ولا اعتقدوا عقيدة في الأُصول والفروع إلّااستندوا فيها إلى الكتاب والسنة.

وإذن فلن تحصلوا من وراء سعيكم في إيقاد نار التباغض والمجادلة بغير الحق إلّاالخسران، وإلّا تكريس الضعف في صفوف المسلمين، وخيانة الزعماء والمصلحين.

مع أنّه لا يكاد يجول في خاطري ولا في خاطر أحد من الواعين أو يدور في مخيلته، ونحن في هذا العصر عصر النور، ومع توفير كتب الحوار المنطقي بين الفريقين، وخصوصاً تلك التي تتضمّن المناظرات القيّمة، حول جميع المسائل الخلافية بين أقطاب المذهبين ككتاب (المراجعات) وغيره.

نعم ما كنا نتصوّر بعد هذا كله أن يأتي كاتب يتلبّس ثوب العلم فيكرر نقل الأكاذيب التي اخترعتها سياسة الجور والظلم، ووضعها تجّار الدين ممن باعوا أنفسهم للشيطان إرضاءً لهؤلاء الساسة ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام.

فكل ما أتى به من الزور والبهتان وافتراه على الشيعة ليس إلّابعض ما

ص: 328

كتب موسى جار اللّه، وقد رد عليه رداً شافياً كافياً لم يجعل لالتباس الحقيقة بالباطل مجالاً السيّد شرف الدين في (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) وسيّد الأعيان السيّد محسن الأمين مؤلف (أعيان الشيعة) و (نقض الوشيعة).

فيا أهل الإنصاف اقرأوا هذه الكتب (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) و (نقض الوشيعة) و (إلى المجمع العلمي العربي) و (المراجعات) و (النص والإجتهاد) و (الفصول المهمة) و (أبو هريرة) و (عبداللّه بن سبأ) و (أصل الشيعة وأُصولها) و (أمان الأُمة من الضلالة والإختلاف) و (مع الخطيب في خطوطه العريضة).

فانظروا هل بقي بعدما تضمّنته هذه الكتب من حقائق، سؤال عن الشيعة؟

وهل يرد اعتراض عليهم؟

وهل بقي مجال لتكرار ما نسجته أيدي أهل العناد واللجاج؟

وهل يقول بعد هذه الكتب أحد بعدم إمكان حصول التفاهم والتجاوب، والتقريب بين الفريقين؟ إلّاالمعاند اللجوج ومن يكتب لمنفعة أعداء الإسلام.

اقرأوا هذه الكتب حتى تعرفوا أنّه ليس هنا ما يمنع من تحقيق وحدة الأُمة، وتوحيد الكلمة، والتقريب والتجاوب، إلّاافتراءات المفترين، وجهالات المتعصّبين الجامدين.

ص: 329

اقتراح جذري لحسم الخلاف

وأخيراً نطلب من جامعة المدينة المنورة، وأساتذتها المصلحين تشكيل مؤتمر من أقطاب فكرة التقريب، والسكرتير العام لدار التقريب، وغيرهم من العلماء المصلحين من الشيعة والسنة ومن هذا الخادم الضعيف للمسلمين، وليكن مقره في المدينة المنورة حتى ينظر الجميع فيما يعرض من جانب المصلحين في التقريب بين الفريقين، والتجاوب والتفاهم، وحتى يتضح لهم أن لا شيء بين الفريقين يوجب هذه الجفوة والتباعد، والتنافر والبغضاء.

وان امتياز الشيعة عن السنة في بعض جوانب العقيدة إنّما هو عقيدة لهم أدى اجتهادهم في الكتاب والسنة إليها، ولا تختلف عقائد الشيعة مع السنة في أركان الإسلام الإعتقادية والعملية التي يكون الإعتقاد بها من شرائط الإسلام، والتي اتفقت عليها كلمات أكابر أهل السنة، ودلّت عليها صحاح أحاديثهم.

وحتى يظهر للجميع أن قد آن أن نترك هذه المناقشات ونشر هذه الكتيبات، ونختم على الكلام حول الخلافات والإفتراءات المذهبية، فقد كفانا

ص: 330

السلف مؤونة ذلك بما يغني الباحثين، فلا تجتني ثمرة من المقالات الشائكة سيما على أساس العصبية والزور والبهتان إلّاالضعف والتخالف والتخاصم، أعاذنا اللّه تعالى منها، ونسأله أن يجمع شملنا، ويلمّ شعثنا، ويشعب صدعنا، ويرتق فتقنا، وينصرنا على القوم الكافرين.

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (1) .

رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ القِيمَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْميعادَ (2) .

رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخِوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونا بِاْلإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلّاً لِلَّذينَ آمنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ (3) .

لطف اللّه الصافي

26 ذي الحجة الحرام 1396 ه

إيران - قم المشرفة0.

ص: 331


1- آل عمران: الآية 8.
2- آل عمران: الآية 194.
3- الحشر: الآية 10.

ص: 332

أمان الاُمّة

اشارة

ص: 333

ص: 334

المقدّمة

لا ريب في اتفاق المسلمين وإجماعهم على وجوب الأخذ والتمسّك والعمل بالكتاب والسنة، كما لا ريب في حصر مدارك الأحكام ومصادر الفقه الإسلامي فيهما عند الشيعة الإمامية وغيرهم ممن لا يجوز العمل بالقياس(1) ، فما خالف الكتاب والسنة أو لم يؤخذ منهما ولم يكن مستنداً إليهما مزخرف وباطل يضرب على الجدار.

ولا ريب أيضاً في أن الشيعة يتبعون أهل البيت عليهم السلام، ويهتدون بهداهم ويقتفون آثارهم، ويحتجّون بالسنة المروية عنهم، ويقدّمون أقوالهم وأحاديثهم في كل من اختلف فيه الفقهاء وتعارضت فيه الأحاديث على أقوال غيرهم

ص: 335


1- أخرج ابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 4 ص 274 عن عوف بن مالك رفعه قال: تفرق هذه الأُمة بضعاً وسبعين فرقة شرّها فرقة قوم يقيسون الرأي، يستحلّون به الحرام ويحرمون به الحلال. وأخرج نحوه عن عوف عن النبي صلى الله عليه و آله في مجمع الزوائد: ج 1 ص 179.

ورواياتهم(1).

فحقيقة مذهب الشيعة وجوهره: إنّهم يأخذون في كل مسألة وقع الخلاف فيها بين الأُمة بقول الإمام أمير المؤمنين وأولاده الأئمة المعصومين عليهم السلام، لا يقدّمون عليهم أحداً من الأُمة.

وهم يستندون في عملهم هذا إلى أدلّة كثيرة، نذكر بعضها في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.

كلام أبان بن تغلب في تعريف الشيعة:

أخرج الشيخ الجليل الثقة أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي (ت 450) بسنده عن أبان بن تغلب(2) قال: تدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا).

ص: 336


1- أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب: ج 3 ص 40 من المطبوع بهامش الإصابة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به. وأخرج ابن سعد في الطبقات: ج 2 ص 338 عنه: إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها. وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف: ج 2 ص 100 بسنده عن عكرمة، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 25 ص 38.
2- أبان بن تغلب الربعي الكوفي، راجع ترجمته في الجرح والتعديل وتهذيب التهذيب، وثّقه أحمد ويحيى وأبو حاتم والنسائي. قال ابن عدي: له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الروايات، مات - \كما في جامع الرواة عن الفهرست للشيخ الطوسي - سنة 141 ه، فما في تهذيب التهذيب أنّه مات سنة 241 ه وهم: وأبان أول من صنّف في القراءة ودوّن علمها (تأسيس الشيعة: ص 319).

اختلف الناس عن رسول الله صلى الله عليه و آله أخذوا بقول علي عليه السلام، وإذا اختلف الناس عن علي عليه السلام أخذوا بقول جعفر بن محمد عليه السلام(1).

وقد روى أحاديث أهل البيت عليهم السلام وأقوالهم في الفقه من لدن عصرهم إلى عصرنا هذا، جماعات كثيرة من الصحابة والتابعين والعلماء والمصنفين والثقات والأثبات الممدوحين بالعدالة والوثاقة ممن يتجاوز عددهم حدّ التواتر في جميع الطبقات، ناهيك عن ذلك كتب الأحاديث والتراجم.

وقد اتفق المسلمون في الصدر الأول وفي عصر التابعين على صحة الرجوع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، واستغنت الإمامية من بين المسلمين بسبب2.

ص: 337


1- رجال النجاشي: ص 9 (ترجمة أبان)، وصدر الخبر هكذا: قال عبد الرحمن بن الحجّاج: كنا في مجلس أبان بن تغلب فجاءه شاب فقال: يا أبا سعيد، أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله؟ قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي بمن تبعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فقال الرجل: هو ذاك. فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلّاباتّباعهم إياه... الخبر. ومثل هذا المقال قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شأن أمير المؤمنين علي عليه السلام في ترجمة عمّار: ج 2 ص 539: «ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثّروا بخزيمة وأبي الهيثم وعمّار وغيرهم، لو أنصف الناس هذا الرجل (يعني علياً عليه السلام) ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنّه لو كان وحده وحاربه الناس كلهم أجمعون، لكان على الحق وكانوا على الباطل». وأخرج الديلمي عن عمّار وعن أيوب إنّه صلى الله عليه و آله قال: «إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس، إنّه لن يدلك على ردي، ولن يخرجك من الهدى.» كنز العمّال: ح 32972.

الرجوع إليهم والأخذ برواياتهم وعلومهم، عن الاعتماد على القياس والاستحسان باعتبار أنّ الأحاديث المروية بطرقهم الصحيحة عن أئمتهم عن آبائهم عن النبي صلى الله عليه و آله قد أحاطت بأحكام جميع الوقائع، حيث إنّهم لم يدعوا واقعة إلّاوقد بيّنوا حكمها؛ وذلك ما نراه ونلمسه فيما رواه عنهم جماهير من الثقات في كل طبقة، وأقوالهم محفوظة في كتب الحديث المؤلفة من عصورهم المتعاقبة حتى وقتنا هذا. وإلى ذلك يرجع الفضل كله في سعة دائرة فقه الشيعة واستغنائهم عن استعمال القياس وغيره من الطرق المخترعة في استنباط الأحكام الشرعية، فلا تجد فيهم من يقول برأيه ولا من يعمل بالقياس، وما ذلك إلّا لأنّهم أخذوا العلم من منهله الصافي وطلبوه من معينه الفيّاض، وولجوا فيه من الأبواب التي فتحها الله تعالى لهم، ومن هنا قيل فيهم:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً

وفيهم أيضاً يقول الشاعر كما في رشفة الصادي ص 122:

إن كنت تمدح قوماً

إسنادهم عن أبيهم عن جبرئيل عن الله

***

وإنّما احتاج إخواننا أهل السنة إلى إعمال الأقيسة والاستحسانات في الأحكام الشرعية لتركهم التمسّك بالعترة الطاهرة وأقوالهم وأحاديثهم، ولقلّة

ص: 338

الأحاديث الحاكية عن السنة من طرقهم، كما تشهد بذلك جوامعهم سيّما الصحاح الست.

قال ابن رشد القرطبي في مقدّمة كتابه (بداية المجتهد) وقال أهل الظاهر:

القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له، ودليل العقل يشهد بثبوته، وذلك أنّ الوقائع بين الأشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والاقرارات متناهية، ومحال أن يقابل مالا يتناهى بما يتناهى. وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى.

ومن قرأ كتب الشيعة الإمامية في العقائد من التوحيد والنبوة والمعاد وفي التفسير والفقه وغيرها، يعرف أن عندهم علم كثير من العلوم الإسلامية مما لا يوجد عند غيرهم، وأنّ السياسات التي استولت على شؤون المسلمين ومنعت الناس عن التمسّك بأهل البيت(1) حملتهم على ترك روايات رجال الشيعة، فوّتت على غير الشيعة علوماً كثيرة وحرمتهم عن تلك الأحاديث الصحيحة والاهتداء بهدى العترة الطاهرة، فآل أمر الدين الحنيف والسنة النبوية إلى ما آل،).

ص: 339


1- فالسياسة تسمح لأبي البختري الكذّاب الخبيث أن يحدّث كذباً عن الإمام جعفر بن محمد ولاتسمح لمثل حفص بن غياث أن يحدّث عنه. قال عمر بن حفص: قلت لأبي: هذا أبو البختري يحدث عن جعفر بالأعاجيب ولا ينهى؟ فقال: يا بني، أما من يكذّب على جعفر فلا يبالون به، وأما من يصدّق على جعفر فلا يعجبهم. وأبو البختري هو قاضيهم الذي يصوّب جناياتهم، وشق أمان الرشيد ليحيى بن عبد الله بن الحسن، فوهب له هارون بذلك ألف ألف وستمائة ألف. فالسياسة تأتي بمثل هذا الخبيث ليحدث بالأعاجيب كذبا عن جعفر بن محمد عليه السلام وتمنع من اخذ عنه العلم ان يحدّث بما أخذ عنه (راجع الجرح والتعديل: ج 4 ص 25، ومقاتل الطالبيين: ص 479-480).

حتى قال أنس: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قيل: الصلاة. قال: أليس ضيّعتم ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟(1).

وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّاهذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيّعت(2).

وفي حديثٍ آخر عن ثابت عنه قال: «ما من شيء كنت أعرفه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّاقد أصبحت له منكراً إلّاإنّي أرى شهادتكم ثابتة قال: فقيل له: يا أبا حمزة! فالصلاة؟ قال: قد قيل فيها ما رأيتم»(3).

وقالت أُم الدرداء: دخل علَيَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أُمة محمد صلى الله عليه و آله شيئا إلّاإنّهم يصلّون جميعاً(4).

وأخرج أحمد بسنده عن أُم الدرداء قالت: دخل علَيَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه و آله شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً(5).0.

ص: 340


1- صحيح البخاري: ج 1 ص 65، باب تضييع الصلاة عن وقتها. الإبانة: ج 4 ص 574 ح 719 وفيه: «ما أعرف شيئاً مما كنّا عليه».
2- صحيح البخاري: ج 1 ص 65، باب تضييع الصلاة عن وقتها. الإبانة: ج 4، ص 574، ح 719 وفيه: «ما أعرف شيئاً مما كنا عليه».
3- الإبانة لعبيداللّه بن محمّد بن بطة العكبري (ط دار الرياض): ج 4، ص 573، ح 718.
4- صحيح البخاري: ج 7 ص 77، باب فضل صلاة الفجر جماعة.
5- مسند أحمد: ج 6 ص 443، الإبانة: ج 4، ص 574، ح 720.

وعن ابن عبّاس: إنّه كان يتمثّل بهذا البيت:

فما الناس بالناس الّذين عهدتم ولا الدار بالدار الّتي كنت تعرف(1)

وعن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبداللّه بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه و آله: كيف حالنا من حال من كان قبلكم؟ قال: سبحان اللّه! لو نشروا من القبور، ما عرفوكم إلّا أن يجدوكم قياماً تصلّون(2).

وعن سالم: قال أبوالدرداء: «لو أنّ رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه(3) ثمّ تفقّده اليوم ما عرف منه شيئاً»(4).

ولا يخفى أنّ الواجب على العلماء الأخذ بأخبار الثقات الممدوحين بالأمانة والوثاقة ممن يحصل الإطمئنان بصدقهم. ومن جملة الثقات الذين هم كذلك ثقات الشيعة، فلا ينبغي للفقيه ولكل من يروم تعلّم الفقه الإسلامي ومعرفة نظمه ومناهجه في شؤون الحياة، الإعراض عن أحاديثهم وترك الروايات الموثوق بصدورها المخرّجة في جوامعهم لمجرّد أنّ في سندها شيعي أو موال لأهل البيت، أو راو لشيء من فضائلهم(5) ، كما أنّه لا يجوز الاتّكال على أخبار).

ص: 341


1- الإبانة: ج 4، ص 574، ح 721.
2- الإبانة: ج 4، ص 572-573، ح 717.
3- في ذيل المطبوعة كذا في الظاهر، ولعلها: وأهله.
4- الإبانة: ج 2 ص 576 ح 724.
5- انظر كتب الرجال حتى تعرف أفاعيل السياسات الظالمة والأقلام المأجورة، وإنّهم كيف تركوارجالاً لتشيّعهم أو نسبتهم إلى الغلو في التشيّع، أو لتقديمهم علياً عليه السلام على عثمان أو جميع الصحابة أو لعقيدة كذا وكذا. فتركوا ما عند هؤلاء المحدّثين من الأحاديث والكتب والنسخ المأخوذة عن أهل البيت عليهم السلام، بل تركوا أحاديثهم عن غيرهم لذلك، في حين أنّهم يأخذون بأحاديث النواصب وأهل البدع والأهواء، فلم تبق هذه السياسات وعملاؤهم شيئاً يعرفه أنس مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله. هذا وقد بنوا الجرح والتعديل على أُمور تخالف سيرة أهل العرف، ولا ريب أنّ هذا التغيير والتبديل لم يقع فيما كان عليه أهل البيت و شيعتهم فيه، بل وقع فيما كان عليه الجمهور والسواد الأعظم وفي دين الدولة والحكومة وبعد ذلك كيف يتبع سيرة والسلف كانوا على ذلك ويترك ما كان عليه أهل البيت أعدال الكتاب في البناء على الأخذ بأخبار الآحاد. راجع في جميع ذلك على الاختصار الكتاب القيّم (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل).

الكذّابين والوضّاعين، فلا يجوز للباحث في الفقه والأحكام الشرعية الإعراض عن هذا العلم الجمّ الموجود عن شيعة أهل البيت.

وسنحاول في هذا المختصر إيراد بعض ما يدلّ على وجوب أتباع الأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبوّة والعترة الطاهرة برواياتهم، والأحاديث المخرّجة عنهم في أُصول الشيعة وجوامعهم المعتبرة. فعمدنا إلى إخراج بعض الأحاديث الواردة عن طرق إخواننا أهل السنة الدالّة من وجهة نظرهم على حجية أقوالهم ومذاهبهم وإجماعاتهم في الفقه وكلّ مسائل الشرعيّة.

ونبحث في هذا الكتاب على ضوء الأدلّة الصحيحة والأحاديث المعتبرة عن مسألة ترتبط بواقع حياتنا الإسلامية في هذا العصر وفي جميع العصور، يجب أن ندرسها ونبحث عنها ونتفهمها ونعين موقفنا منها، لا الإعراض عنها، وليس فيها إن نظرنا بعين البصيرة والإنصاف أقلّ ما يوجب التباعد، بعدما كان اختلاف الفقهاء غير عزيز، وبعدما كان الكتاب والسنة مصدر الجميع في

ص: 342

الاستنباط والاجتهاد، بل النظر في هذه المسألة يأتي بالتفاهم والتجاوب، والتقريب بين المذاهب الفقهيّة، والأخذ بما هو أوفق بالكتاب والسنة وتمركز الآراء والمذاهب في مذهب من اتّباعه بالاتّفاق موجب للنجاة وأمان من الضلال، ويوجب تحكيم أساس الفقه من غير تعرّض لمسألة الخلافة والزعامة العامة، وما وقع فيها بين الفريقين من النقاش، وما استدل به أعلام الطائفتين من أجل إثباتها لهم أو عدم إثباتها.

وإنّما اقتصرنا هنا على ذلك لأنّ علماء الفريقين قد أشبعوا الكلام حول مسألة الخلافة والحكومة، وأطالوا البحث فيها في كتبهم ومقالاتهم من لدن ارتحال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلى زماننا هذا بما يظهر به الحق للباحثين في هذه المسألة. ولأنّ إثبات حجية أقوال أئمة العترة ووجوب اتباعهم والأخذ برواياتهم وإجماعاتهم لا تدور مدار إثبات الإمامة العامة والولاية والزعامة الكلية لهم في جميع الأُمور الدينية والدنيوية بعد النبي صلى الله عليه و آله. بل يجب على من لا يعرف لهم هذه الخصائص واختصاصهم بها، الأخذ بأقوالهم واتّباعهم والاحتجاج بأحاديثهم والركون إلى آرائهم، حتى يسير الفقه مسيره، ويصان عن القول بغير علم، ويكون التعويل فيه على أصح الأدلة، لافرق في ذلك بين الشيعة ومن لا يعتقد من أهل السنة أحقيّتهم بمنصب الخلافة الكبرى، وتخصيصها من قبل الله سبحانه وتعالى بهم.

فالولاية الشرعية التي كانت ثابتة للنبي صلى الله عليه و آله وبعده لخلفائه وولاة الأمر من أهل بيته وعترته، وان كانت لا تنفكّ عن وجوب الاتّباع والتأسّي والتمسّك بهم وحجية أقوالهم وأفعالهم، إلّاأنّ الثاني لم يقصر على زمان حياتهم وتمكّنهم من

ص: 343

التصرّف في الأُمور فحسب، بل يجب التمسّك بهم وبأقوالهم وأفعالهم مطلقاً.

فالمسألة من ناحيتها الأُولى في عصرنا اعتقادية، وللكلام فيها مجال غير هذا، وليس لها في زماننا كثير مساس بالعمل، فليس في مقدور أحد في هذا الزمام أن يعمل لتكون تلك الولاية في الخارج لشخص دون آخر ممن مضى عصره، فليس في وسع أحد تغيير ما وقع.

الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام امام وولي، لا شكّ في ولايته وإمامته، ولا يقبل إيمان عبد إلّابولايته، ولا ريب في أنّه كان على الحق، كما لا شك أنّ معاوية كان على الباطل وباغياً عليه، إلّاأنّ الإمام استشهد بجناية ابن ملجم على الاسلام والمسلمين، وتغلّب معاوية على الأمر، وآل أمر المسلمين - سيّما في سياسة الحكم والإدارة - إلى ما آل إليه.

والحسين عليه السلام أبو الشهداء وسيّد الأحرار، لا شك في إمامته وأنّه سيّد شباب أهل الجنة، وثار لطلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما لا ريب في سوء أعمال يزيد ومظالمه وجرائمه وموبقاته. إلّاأنّه لا يمكننا أن نغيّر التاريخ وأحداثه الواقعة بعد أربعة عشر قرن، فلا يمكن لمحبّي أهل البيت عليهم السلام ومن يعتقد عدم شرعية حكومات غيرهم ممن استبدّوا بالأمر أن يمنعوا عن عرش الخلافة هؤلاء الحُكّام الذين حالت بيننا وبينهم الأزمنة والقرون، ويجلسوا أئمة أهل البيت في المسند الذي وضعه الله تعالى لهم وأجلسهم عليه واختصهم به.

إذن فلا عمل لهذا، ولا اختلاف عملياً في ذلك بين الشيعة والسنة، ولا وجه لعتاب من يعتقد عدم شرعية هذه الحكومات إذا كانت عقيدته نابعة من طول

ص: 344

البحث والاجتهاد في الكتاب والسنة، ولا ينبغي أن يكون سبباً للتباعد والتنافر والشحناء والبغضاء، والرمي بما هو بريء منه من الكفر والشرك والضلال مع الشهادة بالتوحيد والرسالة.

وأما من ناحيته الأُخرى التي نبحث عنها في هذا الكتاب - \على ضوء الأدلة الصحيحة والأحاديث المعتبرة، فهي مسألة ترتبط بواقع حياتنا الإسلامية في هذا العصر وفي جميع العصور، يجب أن ندرسها ونبحث عنها ونتفهّمها ونعين موقفنا منها، لا الإعراض عنها. وليس فيها - \إن نظرنا بعين البصيرة والإنصاف - \ أقل ما يوجب التباعد، بعدما كان اختلاف الفقهاء غير عزيز، وبعدما كان الكتاب والسنة مصدر الجميع في الاستنباط والاجتهاد، بل النظر في هذه المسألة يأتي بالتفاهم والتجاوب، والتقريب بين المذاهب الفقهية، والأخذ بما هو أوفق بالكتاب والسنة، ويوجب تحكيم أساس الفقه كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وقد أقر هذا المبدأ وأخذ به جمع من أعيان أهل السنة: ومنهم الفخر الرازي، فنراه يقدّم الاقتداء بأمير المؤمنين علي عليه السلام على غيره من الصحابة، فهو يقول في تفسيره في مسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة:

وأما أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه بقوله عليه السلام: «اللهم أدر الحق مع علي حيث دار»(1).9.

ص: 345


1- تفسير الفخر (مفاتيح الغيب): ص 159.

وقال: إطباق الكل على أنّ علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(1).

وقال في مقام الاستدلال: الجهر بذكر الله على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره، ولا شك أنّ هذا مستحسن في العقل فيكون في الشرع كذلك.

وكان علي بن أبي طالب يقول: «يا من ذكره شرف للذاكرين»، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في اخفائه، ولهذا السبب نقل أنّ علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات. وأقول: إنّ هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين(2).

وقال أيضاً: إنّ الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه(3).

ومع ذلك قال: قالت الشيعة: السنّة هي الجهر بالتسمية، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه(4) ، لماذا؟ لأنّهم شيعة أهل البيت، والمتمسّكون بهم بالتمسّك المأمور به في حديث الثقلين.

والقارئ العزيز إذا تأمّل فيما نذكره في هذا الكتاب، وتتبّع مصادر الشيعة وكتب حديثهم وفقههم، إن لم يصدق شيئاً فيصدق على الأقل أنّ إجماع فقهاء الشيعة في كل مسألة من المسائل الفقهية - \كهذه المسألة التي ذكرها الفخر - \1.

ص: 346


1- المصدر السابق: ص 160.
2- تفسير الفخر: ص 158-\159.
3- المصدر السابق: ص 161.
4- المصدر السابق ص 161.

كاشف عن إجماع عترة النبي صلى الله عليه و آله وعن رأيهم ومذهبهم فيها.

إذن فماذا عذر الجمهور عند الله تعالى في مخالفة الشيعة في مثل هذه المسألة، وترك الاقتداء بعلي بن أبي طالب عليه السلام، وترك التمسّك بالعترة.

وخلاصة القول: إنّ ما يدور حوله البحث في هذه الرسالة أمران:

(الأول) وجوب الأخذ بأحاديث أهل البيت، وما رواه عنهم أعلام الشيعة بطرقهم المعتبرة المعتمدة في جوامعهم.

(الثاني) حجية أقوالهم ومذاهبهم وآرائهم، بل وأفعالهم، ووجوب اتّباعهم الرجوع إليهم والسؤال منهم والتمسّك بهم وتقديم قولهم على غيرهم(1).ه.

ص: 347


1- لا يخفى الفرق بين الأمرين، ففي الأُولى: نبحث عن وجوب الأخذ بروايات أهل البيت المخرجة في جوامع الشيعة، على ما يراه العقل ميزاناً لحجية أخبار الثقات، وأنّه لا يعذر من ترك هذه الأحاديث الكثيرة والعلم الجم وأعرض عنها، واتكل على روايات المجروحين الذين تأتي الإشارة إلى ترجمة بعضهم. وفى الأمر الثاني: نبحث عن حجية أقوالهم ومذاهبهم وأفعالهم ووجوب الاقتداء والتمسّك بهم بحسب الشريعة، والأحاديث التي اتّفق الفريقان على صحتها بل تواترها، فمن تمسّك بغيرهم واستند إلى سواهم خالف أمر النبي صلى الله عليه وآله الصريح في وجوب التمسّك بهم، وأنّهم عِدل القرآن، والعالمون بأحكام الشرع وأوامره ونواهيه، وتفسير الكتاب، وعموم القرآن والسنة وخصوصهما ومطلقهما ومقيدهما ومحكمهما ومتشابههما، وهم العارفون بجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والحلال والحرام والفرائض والقضاء والحدود والديات وغيرها مما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وأوحى به إليه.

سبب إعراض الجمهور عن أحاديث أهل البيت عليهم السلام:

وإنّنا لنرغب قبل الدخول في الموضوع إلفات النظر إلى شيء هو من الأهمية بمكان حسبما نراه، وهو أنّ السبب الوحيد والباعث الحقيقي لعدول من عدل عن الأخذ بأحاديث أهل البيت، وما رواه المحدّثون من الشيعة - \كما يظهر لكل باحث لم يكن إلّاالسياسة وغلبة الاُمراء والملوك المستبدّين الذي سوّدت مظالمهم صفحات التاريخ، وعملوا على تحريف حقائق هذا الدين، وأحكام شريعته الحنيفة السمحاء، أو تأويلها لتوافق أهوائهم الفاسدة وسياساتهم الغاشمة. فعدلوا بالناس نتيجة لذلك عن الصراط المستقيم، وحالوا بينهم وبين الاعتصام بحبل الله المتين والتمسّك بالثقلين، حيث أشعروهم بأنّ الرجوع إلى أهل بيت النبوة وأخذ العلم والاستفتاء منهم من أكبر الجرائم السياسية التي يستحقّ مرتكبها القتل والسجن على أقل تقدير.

وقد لاقى الكثير ممن روى عن أهل البيت أو في فضائلهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله والتابعين ورجالات الدين وأئمة الحديث وغيرهم أنواعاً من القتل والسجن والتعذيب على أيدي هؤلاء الحُكّام والظَّلَمة، وما قصدهم من ذلك إلّا إطفاء نور العلم النبوي الخالد معاندة للحق وأهله.

ومن له إلمام بتاريخ العصر الأُموي والعباسي يعلم موقف الحُكّام من كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويستنكر سيرتهم السيئة(1) ، وسيما من آلم.

ص: 348


1- أخرج ابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 3 ص 357 قال الهيثم ابن عمران العنسي: دخل زيادبن جارية مسجد دمشق وقد تأخّرت صلاة الجمعة إلى العصر، فقال: والله ما بعث الله نبياً بعد محمد صلى الله عليه وآله يأمركم بهذه الصلاة. قال: فأخذ فأدخل الخضراء فقطع رأسه. وذكر ابن الأثير في أُسد الغابة: ج 1 ص 308 أن عبد الله بن العلاء بعدما روى الزهري حديث ولاية علي في غدير خم قال له: لا تحدّث بهذا في الشام وأنت تسمع ملء أُذنيك سب علي. فقال الزهري: والله أنّ عندي من فضائل على ما لو تحدّثت بها لقتلت. وفى كتاب نور القبس: ص 57 في ترجمة الخليل: قال يونس: قلت للخليل: ما بال أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله كأنّهم بنو أُمّ واحدة وعلي بن أبي طالب كأنّه ابن علة (غلة - ن ل)؟ فقال: من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أُريد أن تجيبني. فقال: علَيَّ أن تكتم علي ما دمت حياً. قلت: أجل. فقال: تقدّمهم إسلاماً، وبذهم شرفاً، وفاقهم علماً، ورجحهم حلماً، وكثّرهم زهداً، وأنجدهم شجاعة فحسدوه، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم.

البيت عليهم السلام وشيعتهم ومن روى علومهم وحديثهم. ويكفيك الرجوع إلى كتاب (النصائح الكافية) وغيره مما ألّف في هذا الموضوع.

ونحن نرى أنّ الإضراب عن الخوض في هذه المسألة أصلح والتفرّغ للبحث عن المقصود أولى، لأننا لو تعرّضنا لها لاستغرق ذلك بحثاً طويلاً.

إلّا أنّ الباحث فيما نحن بصدده لا يسعه دراسة الموضوع دراسة وافية من دون تعمّق في موقف السياسة ضد أئمة أهل البيت وأشياعهم، كما لا ينبغي الإغماض وعدم التعرّض - \ولو بالإيجاز - \لكشف دور السياسة الغاشمة في وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه و آله لمصلحة الحاكمين، ومن استولى على مركز الخلافة بالسيف والقهر.

فهذا معاوية بن أبي سفيان يأمر بسبّ أمير المؤمنين، باب مدينة العلم

ص: 349

وبطل الإسلام وابن عم الرسول وأخيه، ومن أنزله من نفسه بمنزله هارون من موسى، وعمل على قتل ريحانة الرسول وسبطه الأكبر، وكتب بعد عام الجماعة:

«أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته» واستعمل على أهل الكوفة زياد بن أبيه وضم إليها البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وبسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق(1).

نذكر مثالاً لذلك: أنّه بعث في طلب صيفي بن فسيل الشيباني، فلما أُتي قال له: يا عدوّ الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب، فقال: ما أعرفك به، أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. فقال: كلّا ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا؟ قال: فان كذب الأمير اكذب أنا وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضا، علي بالعصا فأتي به. فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال:

اضربوه حتى لصق بالأرض. ثم قال: اقلعوا عنه، ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلّاما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربنّ عنقك.

قال: لا أفعل، فأوثقوه حديداً وحبسوه(2).

واشتد الأمر حتى أنّ المقري قال: كان بنو أُمية إذا سمعوا بمولود اسمه على قتلوه(3).9.

ص: 350


1- النصائح الكافية: ص 72.
2- الكامل في التاريخ: ج 3 ص 477 و 478.
3- تهذيب التهذيب: ج 7 ص 319.

ومن عمّاله على المدينة مروان بن الحكم، وكان لا يدع سب علي عليه السلام على المنبر كل جمعة تنفيذاً لأوامر معاوية.

وكتب إلى عمّاله نسخة واحدة «أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاه ورزقه».

وشفع ذلك بنسخة أُخرى: «من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوه به واهدموا داره».

فلم يكن البلاء وأكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق بدينه فيدخل بيته فيلقى إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدث حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.

ونقل أبو عثمان الجاحظ: إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم إنّ أبا تراب (إلى آخر ما قال مما لم نذكره حياءاً من الله ورسوله).

وروى فيه أيضاً: أنّ قوماً من بني أُمية قالوا لمعاوية: إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن هذا الرجل. فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً(1).ي.

ص: 351


1- راجع في ذلك النصائح الكافية: ص 72-\75. وذكر في العتب الجميل: ص 74 و 75 أنّ عمر بن عبد العزيز لما ترك تلك البدعة المنكرة، وهي التطاول على مقام أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبة الجمعة ارتج المسجد بصياح من فيه بعمر بن عبد العزيز «تركت السنة تركت السنة». وزعم أهل حران لما نهوا عن استمرارهم على تلك السنة الملعونة أن الجمعة لا تصح بدونها. قال: ويوجد الآن كثير من علماء السوء يعتقدون في أُمور أنّها من السنة وهي من النصب. وذكر المستشرق مارجليوث في كتابه (دراسات عن المؤرخين العرب) ص 100 عن المدائني: أنّه لم يسمع بالشام في عهد الأُمويين أحداً يسمى علياً ولا حسناً ولا حسيناً، وإنّما معاوية ويزيد والوليد من أسماء خلفاء بنى أُمية، فمر مسافر في ذلك الوقت بدار فاستسقى صاحبها، فسمعه ينادي ابناً له باسم الحسن ليسقيه، فسأل المسافر: كيف سمى ابنه بذلك الاسم؟ فكان جوابه: إنّ أهل الشام يسمون أولادهم بأسماء خلفاء الله ولا يزال أحدنا يلعن ولده ويشتمه وإنّما سمّيت أولادي بأسماء أعداء الله، فإذا لعنت إنّما ألعن أعداء الله. وفي كتاب غاية الأماني في أخبار القطر اليماني: ص 117 قال: لما أمر عمر بن عبد العزيز برفع اللعن عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في جميع الآفاق، ووصل الأمر بذلك إلى صنعاء وأن يجعل مكانها إن الله يأمر بالعدل والاحسان... الآية، وخطب الخطيب بها في جامع صنعاء، فقام إليه ابن محفوظ - \لعنه الله - \وقال: قطعت السنة. قال: بل هي البدعة. فقال: والله لأنهضنّ إلى الشام، فإن وجدت الخليفة قد عزم على قطعها لأضرمنّ الشام عليه ناراً. وخرج ابن محفوظ من صنعاء فلحقه أهلها إلى طرف القاع المعروف بالمنجل غربي صنعاء، فرجموه بالحجارة حتى غمروه وبغلته، فهو يرجم إلى الآن كما يرجم قبر أبي رعال قائد فيل أبرهة الحبشي.

وأفرط في ذلك حتى أظهر ما في صدره، وعرض على كريم ابن عفيف الخثعمي البراءة من دين علي الذي يدين الله به، وأمر زياد أن يقتل عبد الرحمن بن الحسّان العنزي شر قتلة لشهادته في علي عليه السلام أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً، ومن الآمرين بالحق، القائمين بالقسط، والعافين عن الناس، ولمقاله في عثمان، فدفنه زياد حياً(1).

وأمر بافتعال الأحاديث في شأن عثمان واكرام من يروي في فضله، حتى أكثروا في فضائله لما كان يبعث إليهم من الصلات والقطائع، فليس يجد امرؤ من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة إلّاكتب اسمه وقربه6.

ص: 352


1- الكامل في التاريخ: ج 3 ص 486.

وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً، فكتب إلى عُمّاله: أنّ الحديث في عثمان قد جهر وفشا في كل مصر وكل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّاواتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحب إلَيَّ وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أحاديث كثيرة في مناقب الصحابة مختلقة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقى إلى معلمي الكتاب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤن والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا في مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنّها حق، ولو علموا أنها باطل لما رووها ولا تديّنوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى قتل الحسن بن علي عليه السلام بالسم ظلماً، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّاوهو خائف على دمه أو طريد على الأرض، ثم

ص: 353

تفاقم الامر بعد استشهاد الحسين عليه السلام(1).

وان شئت الإحاطة بدوافع معاوية من منعه الملح عن ذكر فضائل أمير المؤمنين علي وسائر أهل البيت عليهم السلام فراجع ما ذكره المسعودي في حوادث سنة اثنتي عشرة ومائتين من حديث مطرف بن مغيرة(2) ، حتى تعلم أنّهم لم يريدوا من سب علي إلّاسب رسول الله وإطفاء نوره صلى الله عليه و آله.

وهذا عبد الملك بن مروان قد شدّد الضغط على محبي أهل البيت، وولّى عليهم الحجّاج الذي أخذ يقرّب إليه كل من كان أشد بغضاً لأهل البيت وأكثر موالاة لأعدائهم، حتى جاء واحد منهم يوماً إليه - \يقال جد الأصمعي - \وقف للحجّاج فقال: إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك الحجّاج وقال: للطف ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا(3).

والحجّاج هو الذي كتب إلى محمد بن القاسم أن يعرض عطية العوفي بن سعد على سب علي عليه السلام، فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته، فأبى عطية أن يسب، فأمضى محمد بن القاسم حكم الحجّاج فيه(4).

وقد عرقب الحجاج أو بشير بن مروان أبو يحيى الأعرج المعرقب من7.

ص: 354


1- النصائح الكافية: ص 72-73.
2- مروج الذهب: ج 3 ص 361-\362.
3- راجع في جميع ما ذكرناه هنا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 14-17، والنصائح الكافية: ص 67-74.
4- تهذيب التهذيب 226/7.

شيوخ الأربعة ومسلم لما عرض عليه سب الإمام عليه السلام فأبى فقطع عرقوبه. قال ابن المديني: قلت لسفيان: في أيّ شيء عرقب؟ قال: في التشيّع(1).

وهكذا استمر الأمر إلى أيام عمر بن عبد العزيز، وأشرار الولاة يتطاولون على مقام أمير المؤمنين عليه السلام حتى من كان منهم في المدينة المنورة، وبجوار القبر الشريف وعلى منبر الرسول صلى الله عليه و آله(2).

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم في تاريخه: أنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية تقرّباً إليهم. وذكر السيوطي أنّه كان في أيام بني أُمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بما سنه لهم معاوية(3).

فانظر أيها القارئ بعين الإنصاف إلى هذه المخازي، وإن شئت فراجع9.

ص: 355


1- تهذيب التهذيب 158/10-157، العتب الجميل ص 35.
2- ومما يؤكد ذلك ما ذكره السمهودي المدني في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) ج 4 ص 356 قال: وقال يحيى: حدثنا هارون بن عبد الملك بن الماجشون: أنّ خالد بن الوليد بن الحارث بن الحكم بن العاص وهو ابن مطيرة قام على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة فقال: لقد استعمل رسول الله علي بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) وهو يعلم أنّه خائن، ولكن شفعت له ابنته فاطمة (رضي الله عنها). وداود بن قيس في الروضة فقال: اس، أي يسكته. قال: فمزّق الناس قميصاً كان عليه شقائق حتى وتروه وأجلسوه حذراً عليه منه، وقال: رأيت كفّاً خرجت من القبر قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: كذبت يا عدو الله، كذبت يا كافر، مراراً. وأخرجه في ينابيع المودة عن أبي الحسن يحيى في كتابه: أخبار المدينة: ص 275.
3- النصائح الكافية: ص 79.

الكثير منها في كتب القوم، حتى تعرف ما اقترفته أفاعيل السياسة المجرمة من أجل إمالة الناس عن أهل بيت الوحي والنبوة.

قال سيدنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في جواب الحرث بن الجارود التميمي، لما رآه في جماعة من أهل بيته في المدينة وهم جلوس في حلقة، فقال الحرث: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، كيف أصبحتم رحمكم الله؟ فرفع الإمام رأسه إليه فقال: أما تدري كيف نمسي ونصبح، أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون الأبناء ويستحيون النساء، وأصبح خير الأُمة يشتم على المنابر، وأصبح من يبغضنا يعطى الأموال على بغضنا، وأصبح من يحبنا منقوصاً حقه أو قال: حظه، أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمّداً قرشي، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً كان عربياً، فهم يطلبون بحقّنا ولا يعرفون لنا حقّاً، اجلس يا أبا عمران فهذا صباحنا من مسائنا(1).

وأخرج نحوه ابن سعد بسنده عن المنهال بن عمرو(2).

دور بني العباس في الظلم والاستبداد:

جاء بعد بنى أُمية بنو العباس، فلم تكن وطأتهم على أهل البيت وعترة الرسول صلى الله عليه و آله وشيعتهم ومحبّيهم بأخف من أسلافهم، إن لم نقل بأنّهم كانوا أشد منم.

ص: 356


1- تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب: ص 135-136.
2- الطبقات الكبرى: ج 5 ص 219-220 ترجمة الإمام علي بن الحسين عليه السلام.

أُولئك ظلماً وعنفاً واضطهاداً لهم.

إذ أنّهم بالإضافة إلى المسلك المنحرف الذي سلكوه من وضع الأحاديث، وبالإضافة إلى أنّهم كبني أُمية أحيوا ما أماته الإسلام من السنن الملوكية، أخذوا يباشرونهم بأنفسهم أو بالإيعاز إلى عمّالهم المنحرفين، قتل كل من يعترض سبيل مسلكهم الظالم أو يخشون اعتراضه، حتى أزهقوا الكثير من النفوس الطاهرة، وسفكوا الجَمّ من الدماء الزكية من أكابر أهل البيت وشيعتهم ومحبّيهم.

لم يهمل التاريخ مظالم مثل المنصور والهادي وهارون وغيرهم من ملوك بني العباس(1).

ولم يهمل ما فعله المتوكل بابن السكّيت إمام العربية المعروف، فإنّه كان قد ندبه تعليم أولاده، حتى جاء يوم جمعهم في مجلس واحد، فنظر المتوكل إلى ولديه المعتز والمؤيّد وخاطب ابن السكّيت قائلاً له: من أحب إليك هما يعني ولديه المذكورين أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر يريد به مولى علي عليه السلام خير منهما، فأمر حينئذٍ الأتراك فداسوا بطنه حتى مات. وقيل: أمر باستلال لسانه فاستلّوه حتى مات(2).

وذكر ابن حجر في ترجمة علي بن نصر الجهضمي من شيوخ الستة: قال أبو علي بن الصواف عن عبد الله بن أحمد لما حدّث نصر بن علي بهذا الحديث8.

ص: 357


1- راجع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني.
2- تاريخ الخلفاء: ص 231، الكامل في التاريخ: ج 7 ص 91، وفيات الأعيان: ج 5 ص 423 و 438.

يعني حديث علي بن أبي طالب (أنّ رسول الله أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة) أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه(1).

ذلك هو الأثر لتدخّل السياسة المنحرفة في الأُمور، فهل ترى أنشدك الله لهذه الأعمال وجهاً إلّاالمحافظة على الاستمرار في القبض على أزمة الأُمور ومقاليد الحكم، وإلّا القضاء على الفكر الحر، وإلّا التنكّر للحق والقضاء عليه، وإلّا بغض علي بن أبي طالب وسائر أهل البيت الذي هو من أظهر آثار النفاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا يحبّ علياً منافق، ولا يبغضه مؤمن(2). وقال جابر: ما كناا.

ص: 358


1- تهذيب التهذيب: ج 10 ص 430، ولفظ الحديث كما أخرجه الترمذي (مناقب 20) ومسند أحمد: ج 1 ص 77 (من أحبّني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة). ثم إنّ مما شدد به المتوكّل على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله أن استعمل على المدينة ومكة عمر بن فرج الرخجي، فمنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشيء وان قل إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعنه، ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر (مقاتل الطالبيين: ص 599).
2- راجع في ذلك صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أنّ حب الأنصار وعلي من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق. والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ومسند أحمد، وتذكرة الحفّاظ، وكنز العمال، ومجمع الزوائد، والمستدرك، وتاريخ بغداد، وحلية الأولياء، والدر المنثور، والرياض النضرة، وذخائر العقبى وغيرها.

نعرف منافقينا إلّاببغضهم علي بن أبي طالب(1).

وهل هنا من المصاديق أجلى من أن يؤمر بضرب المتحدّث عن فضل علي والزهراء والحسنين عليهم السلام الذين هم أصحاب الكساء وأهل المباهلة ألف سوط لذلك؟

فما ظنّك إذن بمن يتتلمذ ويأخذ العلم والحديث عن سائر أئمة أهل البيت كالباقر والصادق والكاظم عليهم السلام، وكيف تكون نظرة هؤلاء إليه، وإلى أيّ مدى يكون حقدهم عليه؟!

ثم إنّ الحكّام العبّاسيين لم يكونوا أقل حماساً في هذا الميدان من الأُمويين، فقد أخذوا يقرّبون الكثير من المحدّثين الذين عرفوا عنهم عزوفهم عن الحديث بما روي في فضائل أهل البيت أو الأخذ عنهم وعن شيعتهم في الفقه والتفسير والعقائد، وشددوا النكير على من حدّث شيئاً في فضائلهم ومناقبهم عليهم السلام منزلين به أشد العقوبات، وأوجدوا محدّثين مأجورين يضعون الأحاديث في فضائل بني العباس وما يؤيّد سيرتهم وسياستهم، ويسردونها على العوام.

ذكر الذهبي في ترجمة ابن السقاء الحافظ عبد الله بن محمد الواسطي:

اتفق أنّه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به وأقاموه وغسلواا.

ص: 359


1- تذكرة الحفّاظ: ج 2 ص 272-273، وأخرج نحوه الترمذي (مناقب 20) وروى مثل ذلك عن أبي ذر ابن مسعود وأبي سعيد، فراجع الرياض النضرة، والترمذي، والمستدرك، وتاريخ بغداد، والدر المنثور وغيرها.

موضعه، فمضى ولزم بيته(1).

وأغرب من ذلك ما فعله أهل دمشق بالنسائي صاحب السنن وخصائص أمير المؤمنين علي عليه السلام.(2)

***

وبالغ بغضهم في رد فقه أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وجعلهم النبي صلى الله عليه و آله عدل القرآن وكسفينة نوح وباب حطّة حتى قال ابن خلدون في مقدّمته: وهو ممن كان يخدم الملوك والاُمراء ويتزلف إليهم ويؤيّد آرائهم السياسية، هذا الرجل الذي وقعت منه في مقدمته هذه أخطاء فاحشة قد نبّه على بعضها الأُستاذ شاكر، وما ذلك إلّالأنّه نظر في المسائل الإسلامية من زاوية وجهة نظر السياسة للدول الأُموية الأندلسية التي يقول عنها العقّاد: إنّها أنشأت للشرق الإسلامي تأريخاً لم يكتبه مؤرخوه ولا يكتبونه على هذا النحو لو أنّهم كتبوه(3) ضمن الفصل الذي عقده في علم الفقه: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به(4). فسبحان الله! إذا كان أهل البيت مبتدعين، فلِمَ جعلهم رسولن.

ص: 360


1- تذكرة الحفّاظ: ج 2 ص 966. قال الذهبي: ج 3 ص 1044: وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً قد أفردتها بمصنف.
2- تذكرة الحفّاظ: ج 2 ص 700.
3- معاوية بن أبي سفيان في الميزان: ص 201.
4- مقدمة ابن خلدون: ص 374. ومع ذلك لا ينكر ما لأئمة أهل البيت عليهم السلام من العلم بالغيوب التي أطلعهم الله عليها، إذ يقول: فهم (يعني أئمة أهل البيت) أهل الكرامات، وقد صح عنه (يعني الإمام جعفر الصادق عليه السلام) أنه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم، فتصح كما يقول، وقد حذّر يحيى ابن عمه عن مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف، وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة وعناية من الله، بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة. وقال: تقرر في الشريعة أنّ البشر محجوبون عن الغيب إلّامن أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. وقال: وقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك، مستندهم فيه والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية. وقال: فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة. المقدمة: ص 280 277 الفصل الرابع والخمسون.

الله صلى الله عليه و آله أعدالاً للكتاب، جعل التمسّك بهم أمانا من الضلال؟ وما معنى هذا الحث الملح والترغيب الواردين في الكتاب والسنة على محبتهم وولايتهم؟

وقد سمعت بأنّ جماعة من المحدّثين الذين انضافوا وراء هذه الأباطيل قد أعرضوا وضعّفوا روايات جمّ غفير من الثقات لمجرّد كونهم شيعة أو مغالين بزعمهم في محبة أهل البيت، مع كونهم في نفس الوقت يحتجون بروايات النواصب والخوارج والمنافقين المعروفين بالانحراف عن أهل البيت، والمشهورين بالظلم والخيانة والمآثم والمعاصي.

والعجب أنّ مثل البخاري الذي يروي عن ألف ومائتين من الخوارج(1) ، ويحتج بأكثر من مائة مجهول(2) ، وبأعداء أهل البيت مثل: المغيرة ومروان وعمرو بن العاص وغيرهم من المنافقين الذين ظهر فيهم أبرز أمارات الإنفاق).

ص: 361


1- نص عليه السلام السيد أبو محمد الحسن الصدر في نهاية الدراية، وتصدّى لذلك من أهل السنة ابن حجر صاحب المصالت وعبد الحق الدهلوي شارح المشكاة وغيرهما (أجوبة مسائل جار الله: ص 72).
2- نص على ذلك ابن يسع في معرفة أُصول الحديث (أجوبة مسائل جار الله: ص 72).

وهو بغضهم لعلي عليه السلام وصحّ فيهم أحاديث الحوض المتواترة وغيرها(1). هذا البخاري لا يروي شيئاً من حديث ريحانتي الرسول وسبطيه سيدي شباب أهل الجنة، ويحتج بحديث سمرة بن جندب(2) ، ص 138 من الجزء الثاني من صحيحه قبل باب ما جاء في صفة الجنة بأربعة أحاديث، وكذا في غير ذلك من الموارد التي لا تخفى على المتتبّع.

ويحتج أيضاً بحديث عكرمة وعمران بن حطان(3). دون حديث واحد من).

ص: 362


1- يراجع صحيح البخاري: كتاب الفتن، ج 1 و 2 و 3، والرقاق باب كيف الحشر، والتفسير (سورة الأنبياء)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، وكتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية. وكتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا، وكتاب الجنة، باب فناء الدنيا، والنسائي: كتاب الافتتاح باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وكتاب الجنائز، باب ذكر أول من يكسى، والموطأ: باب الشهداء في سبيل الله من كتاب الجهاد، وابن ماجة: أبواب المناسك باب الخطبة يوم النحر، ومسند أحمد: 39، 50، 235، 384، 402، 407، 425، 439، 453، 455، 28، 3، 102، 281، 396، 4، 48، 5، 50، 388، 393، 400، 412 وغيرها.
2- اخرج الطبري بالإسناد إلى ابن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: أهل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يحصى من قتلهم سمرة بن جندب، استخلفه زياد على البصرة فأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت (تاريخ الطبري: ج 6 ص 122). وأخرج ابن الأثير: قال أبو السوار العدوي: قتل سمرة من قومي غداة واحدة سبعين وأربعين كلهم قد جمع القرآن (الكامل: ج 3 ص 462-462).
3- إن شئت أن تعرف أحوال جماعة من رجال البخاري وشيوخه، راجع الجزء الرابع من المجلدالأول من شرح نهج البلاغة لعلّامة المعتزلة ابن أبي الحديد. وقال الأُستاذ محمود أبو رية في أضواء على السنة المحمدية: ص 275 (ط 1383) قال البدر المعيني: في الصحيح جماعة جرحهم بعض المتقدمين، وفي (العلم الشامخ) في رجال الصحيحين من صرّح كثير من الأئمة بجرحهم... إلخ. قال ابن الصلاح: احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح له، كعكرمة مولى ابن عباس وإسماعيل بن أويس (وإلى آخر ما نقل عن ابن صلاح في البخاري ومسلم، وما نقل عن الشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد زاهد الكوثري، فراجع كتاب الأضواء).

مثل الإمام جعفر بن محمد الصادق والإمامين الكاظم والرضا عليهم السلام.

***

والآن يحق لنا أن نتساءل: لماذا كان موقف بني أُمية وبني العباس من أهل البيت هذا الموقف المخزي؟

وهل يمكن أن يكون الجواب غير أنّ أهل البيت ليس لهم من ذنب سوى أنّهم وشيعتهم لم يدخلوا في حزب هؤلاء الجبابرة الذين قلبوا الإسلام، ولم يقبلوا أن يكونوا أعواناً لمثل يزيد ومروان وعبد الملك والوليد المتجاهر بالكفر، ومنصور وهارون والمتوكل وغيرهم، ولم يكونوا ليسكتوا على مظالمهم وجرائمهم فضلاً عن أن يشاركوهم فيها؟

وهل يمكن أن يكون لذلك من سبب غير أنّ هؤلاء الحُكّام المجرمين لما رأوا أنّهم لو أقرّوا أحاديث أهل البيت وأخذوا بمذاهبهم في الفقه لزال سلطانهم(1) ولم يبق لهم من نفوذ ولا سيطرة على عباد الله تعالى، ولانكشف كافةا.

ص: 363


1- أخرج البلاذري في أنساب الأشراف: ج 2 ص 184 قال مروان لعلي بن الحسين: ما كان أحدأكف عن صاحبنا من صاحبكم. قال: فلِمَ تشتمونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم لنا هذا إلّابهذا.

ألاعيبهم وانحرافاتهم عن الجادة المستقيمة ولما استطاعوا أن يلغوا بدماء المسلمين وينهبوا أموالهم ويهتكوا أعراضهم، ولما تمكّنوا من استلاب بيت مال المسلمين وإنفاقه على أنفسهم وخاصتهم لبناء القصور وشراء الإماء والقينات والخوض في اللهو واللعب وأنواع المعاصي وفنونه الخلّاعة والدعارة والترف، وامتلاء ارجاء بيوتهم بأصوات المعازف، والتنعّم بمطارف الحرير وألوان الأطعمة، ولقد حكى الكثير من مجالسهم المحرّمة التي كانوا يعقدونها لمعاقرة أنواع الخمور.

كل ذلك والبلاد التي نكبت بحكمهم تعجّ بالجياع الذين كانوا بأمسّ الحاجة إلى ما يسدّ جوعهم ويدفع عنهم غائلة الفاقة ويحفظهم عن الحر والبرد، فراجع كتب التاريخ حتى ترى الأعاجيب مما كان يحدث في بلاط الملوك والخلفاء والاُمراء.

هذا مختصر الكلام في سبب إعراض الجمهور عن أحاديث أئمة العترة الطاهرة، ومن هنا نشرع بعون الله تعالى في المقصود. والله ولي التوفيق.

ص: 364

حجية أخبار الثقات

أجمع العقلاء كافة على الأخذ والعمل بأخبار الثقات، واعتبارها حجة في مقام التعامل والخصومة. ولولا ذلك لما قامت لهم سوق ولاختلّ نظام أُمورهم.

والشريعة الإسلامية قد قرّرت هذه الطريقة العقلائية وأقرّتها، ولم تردع الناس عنها. وتبعاً لذلك استقر بناء المسلمين منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله إلى زماننا هذا على رغم من رام إمالة الناس عن التحدّث بأحاديث الرسول(1)

ص: 365


1- ما حكي عن نهىِ الخليفتين الأول والثاني عن رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنّ أبا بكر حرق بالنار خمسمائة حديث جمعها من أحاديث الرسول، وأنّ عمر كان يتوقّف في خبر الواحد، واشتد في ذلك حتى قال لأبي موسى: لتأتيني على ذلك بيّنة أو لأفعلنّ بك. وإنّه أمر بالتقليل في الرواية عن النبي، بل أنشد الناس، كما أخرج ابن سعد في الطبقات: ج 5 ص 188 أن يأتوه بالأحاديث، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها. وإنّ معاوية كان يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإنّه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله. لم يكن منهم هذا المنع الأكيد؛ لأنّهم لم يعرفوا حجية أخبار الثقات من الشرع، والمسلمون كانوا يعملون بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد سمعوا النبي بالخيف يقول: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وقد منع أبو بكر السيّدة الزهراء عليها السلام عن ميراث أبيها برواية رواها عنه وماتت واجدة عليه. بل السبب في ذلك وفي منعهم الرسول الأعظم عن كتابة وصيته، وقول من قال: (حسبنا كتاب الله وغلب عليه الوجع) أيضاً يرجع إلى سياسة الحكم، حتى لا يتمسّك بالأحاديث الكثيرة الواردة في شأن علي عليه السلام من يرى أنّه الإمام والخليفة المنصوص غيره. أو يعتقد أقل من ذلك أحقيّته من غيره. ولا ريب أنّ معاوية لم يقر ما كان في عهد الخليفة الثاني إلّالذلك. صنف الحافظ الشهير ابن عقدة (ت 332) كتاب أسماء «الرجال الذين رووا عن الإمام الصادق عليه السلام»، وقد أوصل عددهم إلى أربعة آلاف رجل، وأخرج فيه عن كل رجل حديثاً مما رواه. وله أيضاً كتاب من روى عن أمير المؤمنين ومسنده، وكتاب من روى عن الحسن والحسين، وكتاب من روى عن علي بن الحسين وأخباره، وكتاب من روى عن أبي جعفر محمد بن علي وأخباره، وكتاب من روى عن زيد بن علي ومسنده، وكتاب من روى عن فاطمة من أولادها، وكتاب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكتاب طرق حديث المنزلة، وكتاب الولاية ومن روى يوم غدير خم، وكتاب التاريخ، وهذا في ذكر من روى الحديث من الناس كلهم الشيعة وأهل السنة. والحافظ ابن عقدة هو الذي ذكر في جامع الرواة أنّ الشيخ الطوسي قال: سمعت جماعة يحكون أنّه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها وأُذاكر بثلاثمائة ألف حديث. قال الشيخ: أخبرني بجميع كتبه أحمد بن عبدون عن محمد بن أحمد بن الجنيد (راجع الفهرست للشيخ الطوسي، ورجال العلّامة، والروضات، وغيرها من كتب التراجم والرجال).

والاحتجاج بخبر الثقات، حتى أنّهم اعتبروا تحمل الحديث وحفظه ونقله من أعظم المناصب الدينية وأفضل القربات إلى الله سبحانه، ولذا أكرموا المحدثين

ص: 366

غاية الاكرام وأنزلوهم أحسن المنازل، وأسندوا إليهم الوظائف ومنحوهم الصلات، حتى صارت مجالس املاء الحديث على كثرتها من أعظم المجالس اعتبارا وقدرا ومنزلة وشرفا، وقد تنقل الكثير من الشيوخ الحديث ورجالات العلم في الآفاق، وشدوا الرحال إلى كثير من البلاد لاستماع الحديث ونقله وتدوينه.

وكان في طليعة شد الرحال إليهم لذلك من مختلف الآفاق هو الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، حتى زاد مجموع من نقل عنه على أربعة آلاف رجل كلهم يقول: حدثني جعفر بن محمد (1.

ومما تقدم يعلم مدى المكانة العالية والشأن الكبير اللذين كانا للحديث عند المسلمين، ولقد كان له على تنقله أحداث التاريخ التأثير الخطير في نفوسهم وتوجيه أمورهم وأحوالهم وفى مسلكهم مع حكوماتهم، مما يعتبر العامل في كثير من الأزمنة في دعم الحكم وتأسيسه، وكذا التدخل في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية وغيرها.

وقد اشتهر بحفظ الحديث جماعة كالبخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي والنسائي وأبي داود ومالك وأحمد والبيهقي والطبراني وابن عساكر والطيالسي والدارمي والحاكم وابن أبي شيبة والسيوطي وغيرهم من أهل السنة وأعلامهم.

وكمؤلّفي الأُصول الأربعمائة من أعلام القرن الثاني والثالث الهجري، والكليني صاحب الجامع المعروف بالكافي، والصدوق مؤلّف من لا يحضره الفقيه، والشيخ الطوسي مؤلّف كتابي التهذيب والاستبصار، والبحراني صاحب كتاب العوالم، والمجلسي مؤلّف كتاب بحار الأنوار، والفيض الكاشاني صاحب

ص: 367

كتاب الوافي، والحر العاملي مؤلّف وسائل الشيعة، وغيرهم من الإمامية.

كما قد صنف علماء الفريقين كتبا كثيرة وأسفاراً ضخمة، سواء في معرفة الرجال والطبقات والتمييز بين المشتركات أم في معرفة الحديث وأقسامه وأنحاء تحمله، ما لو أردنا التكلّم حولها لطال بنا المقام، إلّاأنّنا طلباً للاختصار نقتصر على ذكر شيء من مصنفات الشيعة في ذلك:

فمن مؤلفاتهم في الرجال(1): رجال الفضل بن شاذان (ت قبل 260)، وطبقات الرجال لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 274 أو 280)، ورجال الكشّي من أعلام القرن الثالث الهجري الموسوم بمعرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين، الذي اختصره الشيخ الطوسي وسمّاه «اختيار الرجال»، ورجال أبي علي المحاربي من أعلام القرن الثالث الهجري وقبله، ورجال محمد بن أحمد بن داود بن علي (ت 378) في الممدوحين والمذمومين، ورجال العقيقي من أعلام القرن الرابع الهجري، ورجال ابن عيّاش (ت 401)، ورجال ابن عبدون (ت 423)، ورجال النجاشي (ت 450)، ورجال الشيخ الطوسي والفهرست له (ت 460)، ومعالم العلماء لابن شهرآشوب (ت 588)، ورجال ابن داود من أعلام القرن السابع الهجري، ورجال ابن طاووس (ت 673)، وكتب الرجال للعلّامة الحلّي (ت 726): الخلاصة وإيضاح الاشتباه وكشف المقال، ورجال الأمير مصطفى التفريشي (ت 1015)، ومجمع الرجال للمولى عناية الله الأصبهانين.

ص: 368


1- قال في تأسيس الحاشية الشيعة لعلوم السلام: ص 233: أول من أسّس علم الرجال وصنف فيه فهو أبو محمد عبد الله بن جبلة بن حيّان بن البحر الكناني، ونقل عن فهرست أسماء المصنفين من الشيعة للنجاشي أنّه مات سنة تسع عشرة ومائتين.

ومعاصر التفريشي، وكتب الرجال للمحقّق الأسترآبادي (ت 1028) الثلاثة الكبير والوسيط والصغير، وكتابي رجال السيّد علي خان المدني (ت 1120) المعروفين بسلافة العصر والدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ورجال العلّامة المجلسي (ت 1111)، ورجال الشيخ سليمان البحراني الماحوزي (ت 1121)، والرجال الموسوم برياض العلماء لميرزا عبد الله أفندي الأصبهاني (ت حدود 1130)، ورجال الشيخ أبي علي الحائري (ت 1159)، وأعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين العاملي، وغيرها مما يطول الكلام بسرد أسمائها.

ومن الكتب المصنّفة لتمييز المشتركات: كتاب تمييز المشتركات للمولى محمد أمين الكاظمي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، وكتاب جامع الرواة للأردبيلي (ت 1101) وغيرهما.

ونذكر من الكتب المؤلّفة في الطبقات: كتاب سيّدنا واُستاذنا زعيم الشيعة الإمام السيّد حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1380) أعلى الله في القدس درجته ودرجة جميع العلماء العالمين.

ص: 369

وجوب العمل بالأحاديث المخرّجة في أُصول الشيعة و جوامعهم المعتبرة

عرفت أنّ العمل والاحتجاج بأخبار الثقات مما اتفق العقل والنقل على صحته، فالواجب الأخذ بخبر الثقة الممدوح بالأمانة والوثاقة، سواء كان من الشيعة أو من أهل السنة. كما أنّه لا ينبغي الأخذ والاتّكال على أخبار الكذّابين والوضّاعين والمجهولين والمنافقين من أيّ فرقة كانوا.

فالإعراض عن الروايات المخرّجة في جوامع الشيعة المنقولة إليهم عن أئمتهم بسندهم المتصل إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ينافي ما استقر عليه بناء العقلاء ودلّت عليه الأدلّة السمعية.

فإنّ الأمانة والإخلاص يحتّمان على كل باحث في الفقه استنباط الأحكام من الروايات المعتبرة المخرّجة في كتب الفريقين، وأن لا يقتصر في ذلك على أحاديث طائفة دون أُخرى، فلا يجوز له ترك هذا العلم الكثير في أبواب المعارف الإسلامية من الفقه والعقائد والأخلاق والآداب والتفسير والاحتجاج.

ص: 370

ومن جهة أُخرى، فإنّه يظهر لكل مطّلع على كتبهم الرجالية سعة تحقيقاتهم في التعرّف على أحوال الرجال، وأنّهم أشدّ من غيرهم بكثير في الاعتماد على الممدوحين بالوثاقة والعدالة، كما يظهر لكل باحث في كتبهم الفقهية شدة تورّعهم في الفتيا واحتياطهم في استنباط الأحكام وملاحظة خصوصيات الأحاديث من السند والمتن وموافقتها الكُتّاب، واجتنابهم الشديد عن القول بغير علم، واستنادهم في الجرح والتعديل ومعرفة رجال الحديث إلى أقوال أكابر علمائهم الذين لم يقدح فيهم قادح، واتفقت الكلمة على جلالة قدرهم وصدقهم وورعهم.

وأما الرجاليون من إخواننا أهل السنة وإن كان فضلهم أيضاً لا ينكر في المسائل الرجالية لأنّ لهم في هذا العلم دراسات لا يستغني الباحث في الرجال والحديث عنها، غير أنّ بعض علمائهم في الجرح والتعديل مطعون عندهم بشيء من الهوى والحسد والعداوة والتدليس وغيرها، حتى أنّ ابن معين يتّهم أحمد بن حنبل بالكذب(1).

وذكر الشيخ الصالح المقبلي في كتابه (العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشائخ) أنّ أحمد لما تكلّم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها جعلها عديل التوحيد أو زاد، حتى أنّه بلغه أنّ محمد بن هارون قال لإسماعيل بن علية:

يا بن الفاعلة! قلت القرآن مخلوق أو نحو هذه العبارة. قال أحمد: لعلّ الله يغفر له يعني محمد بن هارون، وكان إسماعيل بن علية أحق أن يرجو له أحمد... إلخ(2).0.

ص: 371


1- تهذيب التهذيب 7/347.
2- أضواء على السنة المحمدية ص 290.

وقال المقبلي: نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية، كما رووا أنّ ابن الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته، فقيل له: قال الشافعي الربيع أحق بمجلسي، فغضب وتمذهب لمالك وصنّف كتاباً سمّاه (الرد على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنّة)(1).

وتكلّموا في علي بن المديني لمّا أجاب في الفتنة، والذابّون عنه لم يجدوا من الذبّ إلّاأنّه قال: من قال: إنّ القرآن مخلوق فقد كفر، ومن قال: إنّ الله لا يرى فقد كفر، فإن صحّ عنه ذلك فقد كفر مثل عائشة ومن وافقها من الصحابة والتابعين على نفي الرؤية(2).

وقال يحيى بن معين: كان عمرو بن عبيد دهرياً، قيل: وما الدهري؟ قال:

يقول لا شيء، وما كان عمرو هكذا. وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن عاص ثقة، وهو جليس الحجّاج.

وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه والمتسبّب لخروجه على علي عليه السلام وفعل كل طامة.

وقال ابن حجر العسقلاني في ترجمة مروان: إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه، كأنّ الصحبة نبوة أو أنّ الصحابي معصوم(3).2.

ص: 372


1- أضواء على السنة المحمدية: ص 289.
2- أضواء على السنة المحمدية: ص 292. راجع فيما طعنوا فيه وان أحمد كذبه، تهذيب التهذيب: ج 7 ص 354-357.
3- أضواء على السنة المحمدية: ص 292.

وقال ابن معين: إنّ مالكاً لم يكن صاحب حديث بل كان صاحب رأي.

وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وآله(1).

وقال أحمد أمين: إنّ بعض الرجال الذي روى لهم البخاري غير ثقات، وضعّف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين(2).

وكان الحافظ أبو زرعة الرازي يذم وضع كتاب صحيح مسلم في كلام طويل(3).

ويطول بنا الكلام لو سردناه في سائر الصحاح وما قالوا فيها، وقد حكموا على مثل ابن حبّان بالزندقة، وطعنوا في ابن حزم بأنّه ينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا. وكان مع كلّما طعنوا فيه متشيّعاً لأُمراء بني أُمية ماضيهم وباقيهم، ويعتقد صحة إمامتهم(4).

ونحو ذلك قال المقبلي في ابن حزم، فوصفه بأنّه كان يتكلّف الغمز في أهلظ.

ص: 373


1- أضواء على السنة المحمدية: ص 246. كان مالك من علماء الدولة والحكومة، فروى الشافعي أنّ المنصور بعث إلى مالك لما قدم المدينة وقال له: إنّ الناس قد اختلفوا في العراق فصنع للناس كتاباً يجمعهم عليه (الأضواء: ص 246). ولا ريب أنّ المنصور لم يرد بذلك إلّاالقضاء على المذاهب والأحاديث التي ترد سياسته وسيرته، فما ظنك بكتاب صنف في تلك الظروف والأحوال؟.
2- أضواء على السنة المحمدية: ص 250.
3- أضواء على السنة المحمدية: ص 255، 256، 262.
4- راجع: ترجمة ابن حزم وابن حبّان في تذكرة الحفّاظ.

البيت عليهم السلام، ويعمى عن مناقبهم ويحابي بني أُمية سيّما المروانية(1) ، وحكى عن طبقات الشافعية: والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله.

وقالوا في أبي حنيفة: كان لا يعمل بالحديث حتى وضع أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه (المصنف) باباً للردّ عليه ترجمه (باب الرد على أبي حنيفة)، وقال ابن عدي: إنّه لم يرو إلّاثلاثمائة حديث، بل قال ابن خلدون في مقدّمته: يقال إنّه إنّما بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها إلى خمسين(2).

وحكموا على جمع من المحدّثين بأنّ لهم تعنّت في جرح الأحاديث بجرح رواتها، منهم ابن الجوزي، وعمر بن بدر الموصلي، والرضي الصغاني، والجوزقاني، وابن تيمية الحرّاني مؤلّف منهاج السنّة، وأبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن حبّان وغيرهم(3).

وكثيرا ما جرحوا من تعصّب أو عداوة أو منافرة، ومثّلوا لذلك جرح مالك محمد بن إسحاق، وقدح النسائي في أحمد بن صالح المصري، وقدح الثوري في أبي حنيفة، وقدح ابن معين في الشافعي، وأحمد في الحارث المحاسبي، وابند.

ص: 374


1- أضواء على السنة المحمدية: ص 291.
2- الرافع والتكميل في الجرح والتعديل: ص 58 (المتن والتعليق).
3- الرفع والتكميل: ص 176-200 وقال: فكم من حديث قوى حكموا عليه بالضعف (إلى أن قال:) فالواجب على العالم ألّا يبادر إلى قبول أقوالهم بدون تنقيح أحكامهم، ومن قلّدهم من دون الانتقاد ضلّ وأوقع العوام في الإفساد.

مندة في أبي نعيم الأصبهاني(1).

واحتجّوا على جرح الرواة أو تعديلهم بما ليس بحجة، فمن الحجة لهم في ذلك ما ساقه الخطيب في الكفاية ص 99 بسنده عن يعقوب النسوي أنّه قال في (تاريخه): سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيف؟ قال:

إنّما يضعّفه رافضي مبغض لآبائه، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنّه ثقة. قال الخطيب: فاحتج أحمد بن يونس على أنّ عبد الله العمري ثقة بما ليس بحجة؛ لأنّ حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح(2).

وقد رد ابن تيمية الحرّاني في كتابه منهاج السنة كثيراً من الأحاديث الجياد، حتى قال ابن حجر في حقه: وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي (يعني العلّامة الحلّي) أدته إلى تنقيص علي رضي الله عنه(3).

واتهموا فقهاء أهل الرأي، فقال أبو العباس القرطبي صاحب كتاب المفهم شرح صحيح مسلم: استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة0.

ص: 375


1- الرفع والتكميل: ص 259-268، لسان الميزان: ج 1 ص 16 و 70 و 71 الرقم 65، وراجع في ذلك ما قاله البيهقي في الطحاوي وما قيل في البيهقي في ذلك لسان الميزان: ج 1 ص 277-278.
2- الرفع والتكميل: ص 200.
3- لسان الميزان: ج 6 ص 319-320.

بأحاديث تشهد متونها بأنّها موضوعة... إلخ(1).

وأخرج ابن أبي حاتم في ترجمة إسحاق بن نجيح الملطي عن ابن أحمد قال: سمعت أبي يقول: إسحاق بن نجيح الملطي من أكذب الناس، يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه و آله برأي أبي حنيفة(2).

وقد جهل ابن حزم جماعة من المشهورين، كالترمذي والبغوي وابن ماجة وغيرهم(3).

وتراهم تركوا رواية من فيه بزعمهم الرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبى بكر وعمر والدعاء إلى ذلك، بل من كان فيه شيئاً من التشيّع، حتى عدّ السيوطي من قرائن الوضع كون الراوي رافضياً والحديث في فضائل أهل البيت(4).

مع أنّ العِبرة في الرواية بصدق الراوي وتحرّزه عن الكذب ووثاقته وحصول الإطمئنان بنقله، والمتتبّع في كتب التواريخ والرجال يعرف أنّالموصوف بهذه الصفات في الشيعة وأتباع أهل البيت وخرّيجي مدرستهم لو لم يكن بأكثر منهم في سائر الفرق ليس بأقل من غيرهم.

وليت شعري كيف جوّزوا ترك رواياتهم لمكان ما ذكروا لهم من العقيدة1.

ص: 376


1- الباعث الحثيث: ص 85.
2- الجرح والتعديل: ج 1 ص 235.
3- الرفع والتكميل: ص 183-185.
4- الباعث الحثيث: ص 83 و ص 101.

التي أدى اجتهادهم إليها، فعدّوا ذلك جرحاً لرجال الشيعة والمتمسّكين بأهل البيت، في حين أنّهم يأخذون بروايات من يبغض علي بن أبي طالب والزهراء والسبطين عليهم السلام ومن حاربهم وسبّهم، فإذا كان الحطّ على أبي بكر وعمر جرحاً في الراوي كيف لا يكون بغض علي ومحاربته وسبّه جرحاً فيه؟

ليس من جانب العقل أو السمع ما يدلّ على صحة هذا الأساس غير أنّهم رأوا عدم إمكان الجمع بين الأخذ بفقه أهل البيت ورواياتهم وفقه غيرهم، ورأوا أنّ القول بترك أقوال مبغضي أهل البيت ممن تعرف أحوال بعضهم فيما يأتي والأخذ بروايات الشيعة يضطرهم إلى اعتناق مذهب أهل البيت، وترك المذاهب الحكومية التي أيّدتها السياسات طوال القرون. اتهموا الشيعة بما هم بريئون منه، فحكموا على كل من كان فيه الرفض الكامل والتشيّع لأهل البيت بأنّ الكذب شعارهم والنفاق دثارهم. والله يعلم أنّ أيّ الفريقين أولى بالكذب والنفاق.

فمبغضو أهل البيت وسابّوهم ومن حاربهم وقتلهم بزعمهم هم الصادقون المخلصون البريئون من الكذب والنفاق وهم أهل السنة، وأنّ حكم رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم بالنفاق والمروق من الدين وغير ذلك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولا يخفى عليك أنّ اتّهامهم هذا يرد بما شرطوا أيضاً في قبول الجرح بأنّه إذا كان لعداوة أو لمذهب لا يعتدّ به(1).

ثم إنّهم قد احتجّوا بروايات كثير من المجهولين والنصّاب والخوارج ومن9.

ص: 377


1- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل: ص 259 وص 269.

طعن فيه بالكذب ونحوه، حتى حُكي عن الذهبي وابن حجر في كتابيهما (الميزان) و (تهذيب التهذيب) أنّ البخاري احتجّ بجماعة في صحيحه مع أنّه ضعّفهم بنفسه(1).

وحُكي عن الميزان في ترجمة إسرائيل بن يونس: أنّ يحيى بن سعيد القطّان قال: لو لم أرو إلّاعمّن أرضى ما رويت إلّاعن خمسة.

وقد جمعت بعض ما قاله علماء الجرح والتعديل في بعض الرجال من شيوخ الستة أو بعضهم، وطعنوا فيه مثل قولهم: (كذّاب، أو متّهم بالكذب، أو متروك، أو هالك، أو لا يكتب حديثه، أو ضعيف جداً، أو مجمع على ضعفه، أو ذاهب الحديث، أو متهم في الإسلام، أو لص يسرق الحديث، أو أكذب الناس، أو يضع الحديث) أو غير ذلك، نشير هنا إلى أسمائهم، ومن طلب التفصيل فعليه بمراجعة تراجمهم في تهذيب التهذيب وغيره من كتب الرجال. فمنهم:).

ص: 378


1- استوفى الكلام في هذه الجهات الشيخ العلّامة محمد الحسن المظفر في كتابه: دلائل الصدق: ص 471 ح 1، وسبقه في بعض تلك الجهات الشيخ أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري (أحد أعلام القرن الرابع الهجري) في كتابه المسترشد، وذكر أيضاً العلّامة الكبير السيّد مير حامد حسين (ت 1306) في كتابه استقصاء الأفحام المجلد الأول والثاني، من المنهج الثاني من أكابر أهل السنة ورواتهم ومفسريهم وعلمائهم وأرباب الصحاح الستّ جماعة من المطعونين عندهم بالكذب والوهم والضعف والعقائد الباطلة والأعمال السيئة، وبإيراد الحديث ناقصاً مبتراً والرواية عن الكذّابين. وممّن أدّى حق الكلام في هذه الجهات، وأوضح حال الصحاح الست والمسانيد والاختلافات في نسخها وما قيل في جرح رواتها وأسرد الكلام حول عدالة الصحابة وناقش في كل ذلك بالطريقة الفنية العلمية هو الأُستاذ محمود أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية).

1 أزهر الحرازي الحمصي(1).

2 إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة.

3 أحمد بن عيسى بن حصان المصري.

4 إسرائيل بن يونس.

5 إسماعيل بن سميع الكوفي البيهسي الخارجي.

6 إسماعيل بن عبد الله الأصبحي(2).

7 إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني(3).ً.

ص: 379


1- من رجال أبى داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة، كان يسب علياً عليه السلام وقال: كنت في الخيل الذين سبّوا أنس بن مالك، فأتينا به الحجاج. وأزهر هذا وأسد ابن وداعة وجماعة كانوا يجلسون ويسبون علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان ثور (ثور بن يزيد الكلاعي) لا يسبه، فإذا لم يسب جرّوا برجله، ومع ذلك أخذوا منه الحديث واعتمدوا عليه في أمر دينهم بل وثّقه البجلي. فإذا كان مثل هذا من مبغضي أمير المؤمنين وأعوان الحجاج على مظالمه ثقة، فمن الذي ليس بثقة؟ والعجب ممن يحتج بحديثه ويترك حديث أبي حمزة الثمالي لتشيّعه، ولأنّ في صحيفته حديث سوء في عثمان، أو يترك حديث ثعلبة بن يزيد الحماني الكوفي عن علي عليه السلام لتشيعه (تهذيب التهذيب: ج 1 ص 203 و ص 204، و ج 2 ص 7 و 8 و 26 و 34).
2- هو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأبي داود، مطعون بالسرقة والارتشاء وبقوله: ربّما كنت أضع الحديث... إلخ.
3- من رجال أبي داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، قال ابن حبّان: كان حروري المذهب، وكان صلباً في السنة إلّاأنّه من صلابته ربّما يتعدّى طوره. أقول: أظنه أراد بكونه صلباً في السنة، إنّه كان شديد الميل كما قال ابن عدي إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي عليه السلام. وقال الدارقطني: فيه انحراف عن علي عليه السلام، ثم ذكر اجتماع أصحاب الحديث على بابه وتطاول جاريته على مقام أمير المؤمنين. فاعرف أصحاب الحديث المتصلّبين في السنة عندهم، وأعجب من ذلك كون هذا الناصب من أئمتهم في الجرح والتعديل، وإكرام أحمد بن حنبل له إكراماً شديداً.

8 بسر بن أرطأة(1).

9 بشر بن رافع الحارثي.

10 بقية بن الوليد.

11 جعفر بن الزبير الدمشقي.

12 حريز بن عثمان الرحبي الحمصي الناصبي(2).

13 حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي.

14 حصام بن مسك الأزدي.2.

ص: 380


1- هو من شيوخ أبي داود والترمذي والنسائي، وأمره في الأعمال السيئة وقتل الشيوخ وذبح الأطفال ونهب أموال المسلمين وسبى نسائهم أشهر من أن يذكر. فراجع ترجمته في الاستيعاب، وتهذيب التهذيب، ومروج الذهب، وأنساب الأشراف، والكامل لابن الأثير. واقض العجب عمن يأخذ منه الحديث ويحتجّ بروايته ويترك أحاديث العترة الطاهرة.
2- بغضه لعلي وأهل البيت عليهم السلام مشهور مقطوع به، وهو الذي قال: هذا الذي يرويه الناس... وهو الذي لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين مرة. وهذا المنافق من رجال الستة غير مسلم. راجع ترجمته في العتب الجميل: ص 108-112.

15 حصين بن نمير الواسطي(1).

16 خالد بن سلمة المخزومي(2).

17 خالد بن عرفطة(3).

18 خالد بن عبد الله بن يزيد القسري(4).

19 خالد بن عمرو الأُموي السعيدي.

20 خيثم بن عراك.

21 داود بن الزبرقان الرقاشي.

22 زهير بن محمد التميمي المروزي.

23 زهير بن معاوية.4.

ص: 381


1- مطعون بأنّه يحمل على علي عليه السلام، وهو من شيوخ البخاري والترمذي والنسائي.
2- مطعون بكونه من المرجئة وبغض علي عليه السلام، وذكر ابن عائشة أنّه كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجى بها المصطفى صلى الله عليه و آله، وهو مع ذلك من شيوخ الستة غير البخاري ومن شيوخه في الأدب المفرد. قال في العتب الجميل: ص 113: هنيئاً لهم بهذا الإمام الثقة القدوة يوم يُدعى الناس بإمامهم، وإنّي أقطع بأنّ من كان ينشد ما هجى به أبو بكر وعمر مثلاً للرافضة لا يختلف إثنان منهم في فسقه ولعنه ورد مروياته، فيا للعار! وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
3- هو الخارج على الحسين عليه السلام، ومن رجال النسائي وأبي داود.
4- كان رجل سوء يقع في علي عليه السلام، وكان والياً لبني أُمية، له أخبار شهيرة وأقوال فظيعة، ذكرها ابن جرير والمبرد وأبو الفرج وغيرهم، لا يصدر عمن كان في قلبه شيء من الشعور الإنساني، وهو من رجال أبى داود والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام. راجع ترجمة خالد القسري في العتب الجميل: ص 113-114.

24 أبو خيثمة الكوفي الجعفي(1).

25 زياد بن جبير حبة الجعفي(2).

26 زياد بن علاقة الثعلبي(3).

27 سفيان بن سعيد الثوري.

28 سليمان بن داود أبو داود الطيالسي (صاحب المسند).

29 سهيل بن أبي صالح.

30 شبابة بن سوار المدائني(4).

31 شبث بن ربعي التميمي اليربوعي(5).ي.

ص: 382


1- من رجال الستة، كان ممن يحرس خشبة زيد بن علي لمّا صلب.
2- من رجال الستة، روى ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن أبي نعيم قال: كان زياد بن جبير يقع في الحسن والحسين عليهما السلام، فقلت له: يا أبا محمد، إنّ أبا سعيد حدّثني عن النبي صلى الله عليه و آله قال: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة.
3- كان سيّء المذهب منحرفاً عن أهل البيت، وهو من شيوخ الستة.
4- قال أحمد: تركته للإرجاء، وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج: حدثني أبو علي السختي المدائني، حدثني رجل معروف من أهل المدائن، قال: رأيت في المنام رجلاً نظيف الثوب حسن الهيئة فقال لي: من أنت؟ قلت: من أهل المدائن الذي فيه شبابة. قال: فإنّى أدعو الله فأمّن على دعائي: (اللهم إن كان شبابة يبغض أهل بيت نبيك فاضربه الساعة بفالج). قال: فانتبهت وجئت إلى المدائن وقت الظهر وإذا الناس في هرج، فقلت: ما للناس؟ فقالوا: فلج شبابة في السحر ومات في الساعة. وهذا الناصبي المنافق من رجال الستة.
5- قال شبث: أنا أول من حر الحرورية، وقال العجلي: كان أول من أعان على عثمان وأعان على قتل الحسين. وقال الدارقطني: يقال إنّه كان مؤذّن سجاح وكان من الخوارج، وهو من شيوخ أبي داود والنسائي.

32 صالح بن حسان النضري.

33 طارق بن عمرو المكي، مولى عثمان(1).

34 عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب.

35 عبد الله بن ذكوان.

36 عبد الله بن زيد العدوي.

37 عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم.

38 عبد الله بن شفيق العقيلي(2).

39 عبد الله بن طاووس بن كيسان اليماني(3).

40 عبد الرحمن بن آدم البصري(4).

41، 42 عبدالرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وأبوه.د.

ص: 383


1- كان طارق من ولاة الجور، قال عمر بن عبد العزيز لما ذكره والحجّاج وقرة بن شريك، وكانوا إذ ذاك ولاة الأمصار: امتلأت الأرض جوراً. وذكر الواقدي: إنّه قتل بخيبر ستمائة، وهو من شيوخ مسلم وأبي داود.
2- كان يحمل على علي عليه السلام ويبغضه، ومع ذلك يقول ابن خيثمة عن ابن معين: ثقة من خيار المسلمين، وهو من شيوخ مسلم والأربعة والبخاري في الأدب المفرد.
3- كان كثير الحمل على أهل البيت، وكان على خاتم سليمان بن عبد الملك، وهو من شيوخ الستة.
4- كان من عمّال عبيد الله بن زياد، ولم يكن له أب يعرف، وهو من رجال مسلم وأبي داود.

43 عبد العزيز بن المختار الدباغ البصري.

44 عبد الكريم بن أبي المخارق.

45 عبد الملك بن عمير اللخمي.

46 عبد الملك بن مروان.

47 عبد الوهاب بن عطاء الخفاف.

48 عثمان بن حيان الدمشقي.

49 عثمان بن عاصم بن حصين.

50 عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص.

51 عثمان بن عبد الرحمن الحرّاني.

52 عكرمة البربري، المطعون بطعون كثيرة.

53 علي بن طبيان (ظبيان).

54 علي بن عاصم.

55 عمر بن علي بن عطاء المقدمي البصري.

56 عمر بن سعد بن أبي وقّاص(1).ي.

ص: 384


1- قال العجلي هو تابعي ثقة، وقال ابن خيثمة عن ابن معين: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟ قال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدثنا إسماعيل حدثنا العيزار عن عمر بن سعد فقال له موسى - رجل من بني ضبية -: يا أبا سعيد، هذا قاتل حسين؟ فسكت، فقال له: عن قاتل الحسين تحدّثنا فسكت. وروى ابن خراش عن عمرو بن علي نحو ذلك، وقال: فقال له رجل: إنّا نخاف الله تروي عن عمر بن سعد، فبكى وقال: لا أعود. وقال الحميدي: حدثنا سفيان عن سالم قال: قال عمر بن سعد للحسين: إنّ قوماً من السفهاء يزعمون أنّي أقتلك، فقال الحسين: ليسوا سفهاء، ثم قال: والله إنّك لا تأكل من بر العراق بعدي إلّاقليلاً. وعمر بن سعد هذا من شيوخ النسائي.

57 عمرو بن سعيد العاص الأُموي(1).

58 عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليماني.

59 عمران بن حطان الخارجي(2).

60 عمير بن هاني(3).ة.

ص: 385


1- هو الذي قال على المنبر بعد قتل الحسين عليه السلام مخاطبا لرسول الله صلى الله عليه و آله: ثار بثارات، ورعف على منبر رسول الله حتى سال رعافه. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بنى أُمية فيسيل رعافه (مجمع الزوائد: ج 5 ص 240)، وولي المدينة لمعاوية ويزيد، وضرب أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله خمسمائة سوط ليقول: أنا مولاكم، وهو الذي هدم حين سمع قتل الحسين عليه السلام دار علي عليه السلام ودار عقيل ودار زوجة الحسين، كما حكي عن ابن فندق البيهقي (ت 565 ه) في لباب الأنساب، وقتله عبد الملك غدراً، وهو من رجال مسلم والترمذي وابن ماجة وأبي داود في المراسيل.
2- هو الخارجي الذي مدح ابن ملجم بأبياته المشهورة، وهو من شيوخ البخاري وأبي داود والنسائي، وإن شئت أن تعرف قليلا من مخازيه فراجع العتب الجميل ص 124-121.
3- كان والياً من قبل الحجّاج على الكوفة، وهو القائل على المنبر حين بويع ليزيد بن عبد الملك: سارعوا إلى هذه البيعة، إنّما هما هجرتان هجرة إلى رسول الله وهجرة إلى يزيد، وهو من شيوخ الستة.

61 عنبسة بن خالد الأُموي(1).

62 عنبسة بن سعيد الأُموي(2).

63 فائد بن عبد الرحمن.

64 فليح بن سليمان المدني(3).

65 قتادة بن دعامة.

66 قيس بن أبي حازم، واسمه حصين بن عوف، ويقال: عوف بن الحارث(4).

67 كثير بن عبد الله المزني المدني.

68 لمازة بن زبار البصري(5).

69 مجاهد بن جبر المكي.ة.

ص: 386


1- قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: ج 3 ص 402: سألت أبى عن عنبسة بن خالد فقال: كان على خراج مصر، وكان يعلّق النساء بالثدي، وهو من شيوخ البخاري وأبي داود. قال في العتب الجميل: ص 100: حري بمن يعمل هذه الوحشية التي ذكرها أبو حاتم أن يكون...
2- كان جليس الحجّاج، وقال الزبير: كان انقطاعه إلى الحجّاج. وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود.
3- قال الطبري: ولّاه المنصور على الصدقات لأنّه أشار عليه بحبس بني الحسن. وهو من رجال الستة.
4- كان يحمل على علي عليه السلام، وهو من شيوخ الستة.
5- كان من أعداء علي عليه السلام ويشتمه ويسبه، وهو من شيوخ أبي داود والترمذي وابن ماجة.

70 محمد بن أشعث بن قيس الكندي(1).

71 محمد بن بشار.

72 محمد بن جابر السحيمي.

73 محمد بن حميد الرازي.

74 محمد بن خازم الضرير الكوفي.

75 محمد بن زياد الألهاني(2).

76 محمد بن سعيد المصلوب.

77 محمد بن عبد الله بن علاثة.

78 محمد بن كثير الصنعاني.

79 محمد بن مسلم بن تدرس، أبو الزبير المكي.

80 محمد بن الفضيل بن عطية العبسي.

81 مروان بن الحكم(3).جل

ص: 387


1- الذي حضر قتل الحسين عليه السلام وأعان عليه، وهو من شيوخ أبي داود والنسائي.
2- اشتهر عنه النصب كحريز بن عثمان، وهو من شيوخ الأربعة والبخاري في الأدب المفرد.
3- سوء حاله معروف، ومثالبه مشهورة، قتل طلحة، وله القدح المعلّى في إثارة الفتنة في أيام عثمان. قال العلّامة المصلح الحضرمي في العتب الجميل: ص 101 بعدما ذكر قليلاً من أعمال مروان، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال فيه، (هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون) فتعديل مثل مروان تفريط واضح. ومما يحيّر منه العاقل المتديّن رواية البخاري عن مروان وأشباهه وترفّعه عن الرواية عن وارث علوم النبي جعفر الصادق، ولله قول القائل: وحيث تركنا أعالي الرؤوسنزلنا إلى أسفل الأرجل

82 معاوية بن خديج(1).

83 معاوية بن أبي سفيان(2).

84 نجيح السندي.

85 نعيم بن أبي هند الكوفي.

86 المغيرة بن شعبة(3).

87 مهلب بن أبي صفرة(4).

88 نعيم بن أبي هند الكوفي.

89 هشام بن حسان.

90 هشام بن عمّار، خطيب دمشق.

91 هشيم بن بشير.ي.

ص: 388


1- هو قاتل محمد بن أبي بكر، والقائل له: قتلت ثمانين من قومي في دم عثمان، والله تعالى يقول: «النفس بالنفس»، وهو من شيوخ البخاري في الأدب المفرد وابن ماجة والنسائي وأبي داود.
2- يراجع كتب التاريخ: كالكامل، وتاريخ صفّين، وكتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان للعقّاد، والنصائح الكافية لابن عقيل، وهو من شيوخ الستة.
3- يعرفه كل من سبر تاريخ الإسلام، وهو مع ما اقترف من المآثم من شيوخ الستة.
4- الوالي من قبل الحجّاج على خراسان، وهو من رجال أبي داود والترمذي والنسائي.

92 الوليد بن مسلم الدمشقي.

93 الوليد بن عقبة بن أبي معيط(1).

94 يحيى بن أكثم القاضي.

95 يحيى بن العلاء البجلي.

96 يزيد الرقاشي.

97 يزيد بن أبي كبشة السكسكي، خليفة الحجّاج على الخراج ووالي العراقين.

98 يزيد بن معاوية بن أبي سفيان(2).

99 يزيد الرشك(3).

100 أبو بكر بن أبي موسى الأشعري(4).

وغيرهم ممن يقف عليهم الباحث في الرجال، وهؤلاء ونظراؤهم كلّهمة.

ص: 389


1- الذي نزل فيه قوله تعالى: ان جاء كم فاسق بنبأ سورة الحجرات: الآية 6، وخبر صلاته بهم وهو سكران، وقوله: (أزيدكم) بعد أن صلّى الصبح أربعاً، مشهور من حديث الثقات، وله أخبار فيها نكارة وشناعة، وهو من شيوخ أبي داود.
2- هو من شيوخ أبي داود في المراسيل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
3- كان من اتباع الحجّاج، وهو الذي نقل عنه ابن الجوزي في كشف النقاب، قالوا: دخلت عقرب في لحيته فمكثت فيها ثلاثة أيام ولم يعلم بها، وهو من شيوخ الستة.
4- كان يذهب مذهب أهل الشام، جاءه أبو غادية الجهني قاتل عمّار، فأجلسه إلى جنبه وقال مرحباً بأخي، وهو من شيوخ الستة.

مطعونون كما ذكرنا، إما بالكذب، أو بوضع الحديث، أو بالضعف، أو ليس بشيء، أو كذّاب، أو لا تجوز الرواية عنه، أو ليس بثقة، أو بالتدليس، أو يروي الموضوعات، أو متروك، أو مجمع على ضعفه، أو بالسرقة، أو شرب الخمر، أو عامة حديثه كذب، وغيرها من الطعون التي ذكروا، وفي غيرهم في كتب الرجال مثل تهذيب التهذيب.

***

وما ذكرنا من أسماء شيوخ الحديث ليس إلّاغيض من فيض، إلّاأنّه يظهر لك مما تقدم أنّه لا عذر لمن يتمسّك بأحاديث المنافقين والنصّاب والمرجئة والمعروفين بالفسق والكذب والظلم الفاحش والدعارة والخلاعة والضعفاء والمدلّسين في ترك أحاديث جوامع الشيعة، وروايات أهل البيت الطاهرين.

كما يظهر لك أن ترك حديث العترة الطاهرة ليس إلّالعلة سياسية من أظهر مصاديقها التقرّب إلى الولاة والاُمراء(1) ، أو الخوف منهم ومن أعوانهم، وللعصبيات المذهبية والضغائن الجاهلية، ثم الجهل بما عند الشيعة من الثروة العلمية والأحاديث المعتبرة.ي.

ص: 390


1- قال أحمد شاكر في الباعث الحثيث: ص 86 في الأسباب التي دعت الكذّابين والوضّاعين إلى وضع الحديث: ويشبههم بعض علماء السوء الذين اشتروا الدنيا بالآخرة، وتقرّبوا إلى الملوك والاُمراء والخلفاء بالفتاوى الكاذبة، والأقوال المخترعة التي نسبوها إلى الشريعة البريئة، واجترأوا على الكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله إرضاءً للأهواء الشخصية ونصراً للأغراض السياسية، فاستحبّوا العمى على الهدى. ثم ذكر ما صدر عن غياث بن إبراهيم النخعي ومقاتل بن سليمان البلخي.

وليس غرضنا قدح السلف والطعن فيهم: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»(1) ، بل الغرض من ذلك التقريب بين المذاهب وأن يكون سير الفقه الإسلامي سيراً لائقاً به، وأرقى وأرفع من العصبيات الطائفية، وأن لا يترك الفقيه وكل باحث في العلوم الإسلامية ما عند غير طائفته من العلوم والأحاديث المعتبرة، ولا يعتبر كله ضلالاً وباطلاً، سيّما إذا لم يكن اعتباره أقل مما عند طائفته، بل كان ما عند غير طائفته أقوى وأصح سنداً ومتناً، فلا يجوز الاقتصار على أحاديث طائفة وترك أحاديث غيرها، فكيف يترك الطالب الفاحص عن الحق هذه العلوم الجمّة التي حصلت عند الشيعة(2) وعند جهابذتها ورجالها من لدن عصر الرسالة وعصر الإمام علي إلى زماننا هذا، بفضل تمسّكهم بأئمة أهل البيت.

وكيف يضرب على هذه الجوامع والكتب الكثيرة التي لا ريب في أنّها من أغلى ذخائر الترات الإسلامي؟ ومن أين يحكم المنصف (العياذ بالله) على كل ما في هذه الجوامع بالبطلان؟ ومن أين يقول من يحتج بالحديث بعدم جواز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع ما يرى من إتقان فقه الشيعة وكونه أوفق بالكتاب والعقل.

وهذا حجر أساسي للتقريب بين المذاهب وأهلها، فإنّهم إذا جعلوا على أنفسهم أن لا يتجاوزوا عن الكتاب والسنة وأن لا يقولوا إلّابما دلّت عليه).

ص: 391


1- إشارة إلى سورة البقرة: الآية 141.
2- فقد حصل عند واحد من حفّاظهم وهو الحافظ أبو العباس ابن عقدة ثلاثمائة ألف حديث من أهل البيت عليهم السلام (لسان الميزان: ج 1 ص 262).

الأحاديث المعتبرة، سواء كان من طرق الشيعة أو السنة، ونظروا في الأحاديث والأقوال نظرة من لا يريد إلّاالواقع والحقيقة، يحصل بينهم الوئام والوفاق أزيد مما هم عليه الآن(1).

وفائدة أُخرى تحصل عند مراجعة الأحاديث المروية في جوامع الشيعة والاطّلاع على العلوم الاسلامية المدوّنة فيها: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بالرجوع إلى أهل بيته والتمسّك بهم ولم يجعلهم عدلاً للقرآن إلّالأنّهم معادن العلم وينابيع الحكم، وأعلم من غيرهم بالأحكام الشرعية.

ونِعم ما قاله أبو الحسن بن سعيد كما نقل عن كتابه كنوز المطالب:

يا أهل بيت المصطفى عجبا لمن2.

ص: 392


1- قد تفطّن لبعض ما ذكرنا العلّامة الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر سابقاً وأكبر علماء أهل السنة المعاصرين، وأعظم مفكّريهم، حيث أطلق فتواه التاريخية بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية، وأفتى خضوعاً لقوة أدلّة الشيعة بمذهبهم في مثل مسألة التطليقات الثلاثة بلفظ واحد، فإنّها تقع في المذاهب السنيّة ثلاثاً، وفي مذهب الشيعة تقع واحدة رجعية.

وجوب تقديم روايات أهل البيت عليهم السلام على روايات غيرهم

اتفق علماء الفريقين على تقديم من كان اختصاصه بالمروي عنه أكثر، فيقدّم ما يرويه أهل بيت رجل أو تلميذه أو خادمه أو قريبه على ما يرويه غيره، ولذلك يقدّمون ما يرويه أبو يوسف والشيباني عن أبي حنيفة، وما يرويه المزني والربيع عن الشافعي على ما يرويه غيرهم عنهما.

وقد اتفقوا أيضاً على تقديم الأعدل من المخبرين على من ليس له تلك المنزلة من العدالة، وهذه طريقة العقلاء في أُمورهم الدينية والدنيوية.

ومن ذلك نعلم وجوب تقديم أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام على روايات غيرهم لوجهين:

أحدهما: أنّ الأُمة أجمعت على عدالتهم ووثاقتهم وفضلهم وتقواهم وجلالة قدرهم ووجوب حبّهم وموالاتهم، ولم يتحقّق منهم إجماع على عدالة

ص: 393

غيرهم من الصحابة(1) والتابعين.

ثانيهما: أنّه لا ريب في اختصاص أهل البيت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم أدرى بما في البيت، فهم أهل بيت الوحي والنبوة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة. وقد أجمعت الأُمة على اختصاص الإمام علي عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله في معرفة الأحكام الشرعية والعقائد الإسلامية وتفسير القرآن والسنة ومعرفة المحكم والمتشابه والمطلق والمقيّد والعام والخاص والتأويل والتنزيل وغيرها.

وقد قال صلى الله عليه و آله في حقه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، ومن أراد المدينة فليأت الباب»(2).ه.

ص: 394


1- راجع ما كتبه الأُستاذ محمود أبو رية حول عدالة الصحابة في كتابه (أضواء على السنة المحمدية: ص 285-306.
2- أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3 ص 126 و 127، والخطيب في تاريخ: ج 4 ص 348، وج 7 ص 172، و ج 11 ص 48 و 49 بطرق مختلفة، وابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 7 ص 377، وابن الأثير في أُسد الغابة: ج 4 ص 22، والمتقي في كنز العمال: ج 6 ص 152 و 156 و 401، وابن عبد البر في الاستيعاب، والسيوطي في الجامع الصغير عن ابن عدي، والطبراني والعقيلي عن ابن عباس، والحاكم وابن عدي أيضاً عن جابر. وذكر في الغدير من مصادره 143 مصدراً، كما ذكر كلمات الأعلام المصرّحة بصحة الحديث. وأما العلّامة اللكهنوي فقد صنف حول هذا الحديث كتاباً ضخماً في جزئين بلغت صفحاته 1345 مشحوناً بالتحقيقات العلمية وجعله المجلد الخامس من المنهج الثاني من موسوعته الكبيرة المسمّاة بعبقات الأنوار، وأفرد فيه العالم المغربي الشريف أحمد بن محمد الحسني كتاباً أسماه (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي)، وهو أيضاً مع اختصاره كتاب جامع لفوائد كثيرة في علم الجرح والتعديل وغيره ينبغي للباحثين مراجعته والاهتمام به.

وقال: «أنا دار الحكمة وعلي بابها»(1).

وقال: «علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(2).

وقال: «علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار»(3).

وقال: «أعلم امّتي من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام» (عن سلمان)(4).

وقال: «علي باب علمي، ومبيّن لاُمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة»(5).

وقال علي عليه السلام: «علّمني رسول الله ألف باب، كل باب يفتح ألف باب» أخرجه أبو نعيم والإسماعيلي في معجمه(6).6.

ص: 395


1- سنن الترمذي مناقب 20، ذخائر العقبى: ص 77.
2- الجامع الصغير: ج 2 ص 6، تاريخ الخلفاء: ص 116، المستدرك: ج 3 ص 124، مجمع الزوائد ج 9 ص 134، الصواعق المحرقة، فيض القدير، كنز العمال: ح 32912 و 36462 وغيرها.
3- شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 422، وبهذا المعنى أخبار كثيرة في الترمذي والمستدرك وتاريخ بغداد ومجمع الزوائد وكنز العمّال وغيرها.
4- كنز العمّال: ح 32977.
5- كنز العمال: ج 12 ص 212 و ج 6 ص 156، القول الجلي: ح 38 وغيرهما، ونحوه ما روي في المستدرك ج 3، وكنوز الحقائق: ص 188، وحلية الأولياء: ج 1 ص 63.
6- فتح الملك العلى ص 19، كنز العمال 6/392، ونحوه ما رواه الفخر في تفسير (ان الله اصطفى) نظم دررا السمطين 113، فرائد السمطين ص 86.

وقال رسول الله صلى الله عليه و آله: «إنّ الله أمرني أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأن أُعلّمك وأن تعي لك أن تعي». قال: فنزلت هذه الآية تعيها اذن واعية. أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي(1).

وقال: «إنّي أردت أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأن أُعلّمك وأن تعي وحقّ لك أن تعي» قال: فنزلت هذه الآية وتعيها اذن واعية. أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير عن ابن أبي مرة الأسلمي، وابن المغازلي عن ابن بريدة عن أبيه، وأخرجه الطبري(2).

ومن هذا الوجه أخرجه ابن جرير، وأخرجه أيضاً من وجه آخر عن بريدة، ومن وجه آخر عن مكحول مرسلاً لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي». وهكذا أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأخرجه الثعلبي من وجهٍ آخر عن حسن(3).5.

ص: 396


1- فتح الملك العلى ص 19، حلية الأولياء 1/67، كنز العمال 6/408 ح 6160.
2- فتح الملك العلى ص 19، تفسير الطبري 29/35، الدر المنثور في تفسير الآية، أسباب النزول ص 329 الا انهم رووا وحق على الله المناقب لابن المغازلي ص 319 ح 364، لباب النقول 225.
3- فتح الملك العلي: ص 19، تفسير الطبري: ج 29 ص 35، وراجع أيضاً الكشّاف، والدر المنثور، ومجمع الزوائد: ج 1 ص 131، كنز العمال: ج 6 ص 398 ح 408، مناقب ابن المغازلي: ص 265 ح 312، روح المعاني: 29/43، قال: وفي الخبر: إنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعلي كرّم الله وجهه: إنّي دعوت الله أن يجعلها اذنك يا علي. قال علي كرّم الله تعالى وجهه: فما سمعت شيئاً فنسيته، وما كان لي أن أنسى. وإن شئت المزيد على ذلك فراجع شواهد التنزيل: ص 281-285.

وعن ابن عباس قال: كنا نتحدّث أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره. ورواه الطبراني في معجمه بسنده عن السندي بن عبدويه(1) ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا الطبراني به(2).

وقال عبد اللّه بن عباس: والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم اللّه لقد شارككم في العشر العاشر(3).

وروى طاووس عنه أنّه قال: كان علي ولي اللّه، قد ملئ علماً وحكماً(4).

وقال ابن عباس أيضاً: إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها.

وفي أُسد الغابة: إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.

وفي الإصابة: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به(5).

وقالت عائشة: إنّه أعلم الناس بالسنة، وكانت كثيراً ما ترجع إليه في المسائل(6).ا.

ص: 397


1- تهذيب التهذيب: ج 1 ص 197.
2- فتح الملك العلي: ص 20 19.
3- الاستيعاب وأسد الغابة في ترجمته، فتح الملك العلي: ص 36، ذخائر العقبى: ص 78.
4- فتح الملك العلي: ص 19 و 20.
5- الإصابة وأُسد الغابة والاستيعاب في ترجمته، والخصائص الكبرى: ج 2 ص 338، تاريخ الخلفاء: ص 115، الشرف المؤبد: ص 65، تهذيب التهذيب: ج 7 ص 337، فتح الملك العلي: ص 36.
6- الشرف المؤبّد: ص 64 65، فتح الملك العلي: ص 36، وراجع صحيح مسلم، كتاب الطهارة، وسنن النسائي: ج 1 ص 32، وابن ماجة: ص 42، ومسند أحمد: ج 1 ص 96، 100، 112، 117، وغيرها.

وعن أبي الطفيل قال: شهدت علياً يخطب، وهو يقول: «سلوني، فواللّه لا تسألوني عن شيء إلّاأخبرتكم به، وسلوني عن كتاب اللّه، فواللّه مامن آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل، ولو شئت أوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب»(1).

وقال ابن عباس: علم رسول اللّه من علم اللّه، وعلم علي من علم رسول اللّه، وعلمي من علم علي، وما علمي وعلم أصحاب محمّد صلى اللّه عليه وآله في علم علي إلّاكقطرة في سبعة أبحر(2).

ولقد كان معاوية يكتب فيما ينزل به فيسأل علي بن أبي طالب، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت علي بن أبي طالب(3).

كما قد شهد بكثرة علمه وأنّه أعلم الناس جماعة من الصحابة، ذكر أسماء».

ص: 398


1- الشرف المؤبّد: ص 64 و 65، كفاية الطالب للشقيطي: ص 47، المناقب للخوارزمي: ص 56، ذخائر العقبى: ص 83، الإتقان: ج 2 ص 18 و 186، تهذيب التهذيب: ج 2 ص 338، الاستيعاب والإصابة في ترجمته عليه السلام، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 338، أخبار مكة للأزرقي: ج 1 ص 50 مع اختلاف في ألفاظ بعضها مع بعض واختصار متون بعضها، وصدر الخبر في أخبار مكة: «سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى القيامة إلّاحدّثتكم به!». وفى كتاب شواهد التنزيل عقد فصلاً في توحّده بمعرفة القرآن ومعانيه وتفرّده بالعلم بنزوله وما فيه: ص 29-38.
2- الشرف المؤبد: ص 64.
3- الشرف المؤبد: ص 65. وفي ذخائر العقبى: ص 79 «إنّ جمعا منهم معاوية وعائشة لما سئلوا أحالوا في السؤال عليه».

جمع منهم في كتاب فتح الملك العلي.

وقال علي عليه السلام: «واللّه ما نزلت آية إلّاوقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولاً ولساناً طلقاً»(1).

وقيل لعلي عليه السلام: مالك أكثر أصحاب رسول اللّه حديثاً؟(2) فقال: «إنّي كنتة.

ص: 399


1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 338، الشرف المؤبد: ص 65، تاريخ الخلفاء: ص 124.
2- ومع ذلك لم يخرجوا من أحاديثه إلّاالقليل، وأخرجوا عن مثل أبي هريرة مع تأخّر إسلامه وأنّه لم يصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلّاسنة واحدة وتسعة أشهر أحاديث كثيرة جدّاً، حتى ذكر ابن حزم: أنّ مسند بقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة (5374) روى البخاري منها 446 حديث، وعلي عليه السلام أول من أسلم وتربى في حجر النبي وعاش تحت كنفه قبل البعثة واشتد ساعده في حضنه وظل معه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يفارقه لا في حضر ولا في سفر، وهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين وشهد المشاهد كلها سوى تبوك، فقد استخلفه النبي فيها على المدينة فقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول الله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي. رواه الشيخان وابن سعد. ولو كان علي قد حفظ كل يوم عن النبي وهو الفطن اللبيب الذكي الحافظ ربيب النبي (حديثاً واحداً) وقد مضى معه رشيداً أكثر من ثلث قرن لبلغ ما كان يجب أن يروي أكثر من اثني عشر ألف حديث. هذا إذا روى حديثاً واحداً في كل يوم، فما بالك لو كان قد روى كل ما سمعه وكان له الحق في روايته ولا يستطيع أحد أن يماري فيه ولا تنس مع ذلك أنه كان يقرأ ويكتب. وهذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعاً في العلم، قد أسندوا له كما روى السيوطي (589)، وقال ابن حزم: لم يصح منه إلّاخمسون حديثاً، ولم يرو البخاري ومسلم منها إلّانحو عشرين حديثاً (راجع شيخ المضيرة: ص 48، 108، 113)، وراجع أيضاً أبو هريرة حتى تعرف أفاعيله السياسية وإنّهم لم يعرضوا عن أحاديث أهل البيت وجوامع الشيعة المملوءة بعلومهم إلّالأنّها لا توافق أهواءهم وبدعهم، ولا تصوّب سيرهم في الحكم والسياسة.

سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني»(1). وروي عنه: «كنت إذا سألت أعطيت وإذا سكت ابتدئت»(2).

وقال سعيد بن المسيّب: كان عمر يتعوّذ باللّه من معضلة ليس فيها أبو حسن(3). وقال: لم يكن أحد من الصحابة يقول (سلوني) إلّاعلي(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه و آله لفاطمة الزهراء عليها السلام: «أما ترضين أن أُزوّجك (زوّجتك - خ ل) أقدم أُمتي سلماً وأكثرهم علما وأعظمهم حلماً» رواه أحمد والطبراني برجال وثقوا(5).

وفي حديث أخرجه الحافظ أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني: «لقد زوجتكه وأنّه لأول أصحابي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً»(6).

وعن سلمان قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّ لكل نبي وصياً فمن وصيك؟ فسكت عني، فلما كان بعد رآني فقال: «يا سلمان، فأسرعت إليه، قلت: لبيك.9.

ص: 400


1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 338، تاريخ الخلفاء: ص 115، كنز العمال: ج 6 ص 396.
2- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 346، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص 30.
3- تهذيب التهذيب: ج 7 ص 337، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 339، أسد الغابة: ج 3 ص 22 و 23، تاريخ الخلفاء: ص 115، ذخائر العقبى: ص 82.
4- ذخائر العقبى: ص 83، أُسد الغابة: ج 4 ص 22، تاريخ الخلفاء: ص 115.
5- مجمع الزوائد: ج 9 ص 101 و 114، ذخائر العقبى: ص 78، ونحوه في شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 236.
6- المصنف: ج 5 ص 49.

قال: تعلم من وصي موسى؟ قال(1): نعم يوشع بن نون. قال: لِمَ؟ قلت: لأنّه كان أعلمهم يومئذٍ. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عِدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب»(2).

وأخرج ابن سعد عن جبلة بن المصفّح عن أبيه قال: قال لي علي عليه السلام: «يا أخا بني عامر! سلني عمّا قال الله ورسوله، فنحن أهل البيت أعلم بما قال اللّه ورسوله»(3).

وأخرج الرازي عن علي عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال له: «ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً»(4).

وعن ابن عباس رضي اللّه عنه، وقد سئل عن علي عليه السلام فقال: رحمة الله على أبي الحسن، كان والله علم الهدى وكهف التقى وطود النهى ومحل الحجى وغيث الندى ومنتهى العلم للورى، ونورا أسفر في الدجى، وداعياً إلى المحجة العظمى، مستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمّص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبو السبطين، وزوجة خير النساء، فما يفوقه أحد، لم تر عيناي مثله ولم أسمع بمثله، فعلى من بغضه لعنة الله8.

ص: 401


1- الظاهر أنّ (قال) سهو من بعض النسّاخ والصحيح (قلت).
2- مجمع الزوائد: ج 9 ص 113-114، تهذيب التهذيب مختصراً: ج 3 ص 106، الرياض النضرة: ج 2 ص 234.
3- الطبقات الكبرى: ج 6 ص 240.
4- ذخائر العقبى: ص 78.

ولعنة العباد إلى يوم التناد. أخرجه أبو الفتح القواس(1).

والأحاديث في هذه المعاني كثيرة جدّاً لا شبهة في تواترها.

وقال علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالقاصعة: «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني في صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللّه به صلى الله عليه و آله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أُمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يرى غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّاأنّك لست بنبي ولكنّك وزير وإنّك على خير»(2).

وقال: «كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله حينئذٍ صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ»(3).5.

ص: 402


1- ذخائر العقبى: ص 78.
2- نهج البلاغة، صبحي الصالح: خ 190.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 5.

وقال: «لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأُمة سبع سنين»(1).

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لقد صلّت الملائكة علَيَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنّه لم يصل معي رجل غيره». أخرجه ابن الأثير بسنده عن أبي أيوب الأنصاري، وأخرجه المحب الطبري إلّاأنّه لم يذكر (سبع سنين)، وقال: لأنّا كنّا نصلّي ليس معنا أحد يصلّي غيرنا(2).

والأخبار في هذا المعنى وأنّه أول من صلّى وأسلم كثيرة.

وأخرج ابن الأثير عن أبي الطفيل قال: قال بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله: «لقد كان لعلي من السوابق ما لو أن سابقة منها بين الخلائق لوسعتهم خيراً». ثم قال: وله في هذا أخبار كثيره تقتصر على هذا منها، ولو ذكر ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره لأطلنا(3).

وأخرج المحب الطبري عن أبي الحمراء قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى يحيى بن زكريا في زهده وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه»، أخرجه أبو الخير الحاكمي.3.

ص: 403


1- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 5، وأخرج مثله ابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 7 ص 336 إلّاأنّه قال: «خمس سنين».
2- أُسد الغابة: ج 4 ص 18، الرياض النضرة: ج 2 ص 217، ذخائر العقبى: ص 64.
3- أُسد الغابة: ج 4 ص 23.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:

«من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حمله وإلى نوح في حكمه وإلى يوسف في جماله فلينظر إلى علي بن أبي طالب» أخرجه الملا في سيرته(1).

وأخرج ابن أبي الحديد عن أحمد والبيهقي: «من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه والى آدم في علمه والى إبراهيم في حلمه والى موسى في فطنته والى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام»(2).

وأخرج ابن المغازلي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وآله: «من أراد أن ينظر إلى علم آدم وفقه نوح فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(3).

وأخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن أبي الطفيل وجعفر ابن حبّان إنّ الإمام الحسن السبط عليه السلام قال في خطبته: «أنا من أهل البيت الذين كان جبرئيل ينزل فينا ويصعد من عندنا»(4).

هذا وسيأتي في بعض الفصول الآتية ما يدل عَلى ذلك إن شاء الله تعالى(5).

ومما ذكرنا يظهر ما اختص به علي عليه السلام دون غيره، وناهيك عن علمهث.

ص: 404


1- ذخائر العقبى: ص 93-\94، ينابيع المودة: ص 214.
2- شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 249، ونحوه ما أخرجه في ص 236.
3- المناقب: ص 212.
4- نظم درر السمطين: ص 148.
5- لمزيد الاطلاع يراجع شرح نهج البلاغة والغدير وكتب التواريخ والتراجم وجوامع الحديث.

الواسع المستفاد من علم النبي صلى الله عليه و آله كتاب (نهج البلاغة) وما روي عنه في الأحكام الشرعية وقضاياه.

ثم إنّه لا ريب في اختصاص الحسن والحسين عليهما السلام برسول الله صلى الله عليه و آله وبأمير المؤمنين، وهما ممن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. كما أنّه لا شك في اختصاص أبنائهم بهم اختصاصاً يقصر غيرهم عن بلوغه.

إذن فلا شك في وجوب تقديم ما رواه أعلام أهل بيت النبوة، مثل الإمامين محمد الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بإسنادهم المتّصل إلى جدّهم الرسول، وتعيّن الأخذ به دون حديث غيرهم كائناً من كان، فضلاً عن كون الراوي من الخوارج والنصّاب والمنافقين ومن عمّال أمية وقتلة الأخيار، أو من دعاة المرجئة وأهل الزندقة والمتقرّبين إلى الولاة وحكّام الجور بوضع الأحاديث.

وظهر لك أيضاً وجه إعراضهم عن أحاديث العترة الطاهرة وقلة تخريجها في مثل الصحيحين، وعدم احتجاجهم بأقوالهم، مع أنّ الأخبار المتواترة من طرق الفريقين في فضلهم ووجوب موالاتهم واتباعهم يؤكد وجوب التمسّك بهم غاية التأكيد، ويأمر بالأخذ بأقوالهم وأحاديثهم، كما يدلّ على وجوب الرجوع إليهم غاية الإيجاب والإلزام.

هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصا

ص: 405

ص: 406

العمل بالقياس

استدلّ القائلون بحجية القياس وجواز العمل به في الأحكام كما نص عليه ابن رشد في مقدمة كتابه «بداية المجتهد» بأنّ النصوص وكذا الأفعال والإقرارات الشرعية متناهية، بينما الوقائع والقضايا غير متناهية، ولا يمكن شمول المتناهي لغير المتناهي(1).

ص: 407


1- قال الغزالي في المستصفى: ج 2 ص 57: الحكم في الأشخاص التي ليست متناهية إنما يتم بمقدّمتين كلية كقولنا: «كل مطعوم ربوي» وجزئية كقولنا: «هذا النبات مطعوم» أو «الزعفران مطعوم» وكقولنا: «كل مسكر حرام، وهذا الشراب بعينه مسكر» إلخ. ولكن يسأل منه: إذن فما وجه رجوعكم إلى القياس؟ فإن قلتم: إنّ وجه ذلك عدم إحاطة النصوص بجميع الوقائع لقلتها، ولأنّ الشارع سكت وأهمل كثيراً من الوقائع الكلية. يقال: هذا ينافي كمال الدين وتمام النعمة، والقول به قول بالنقص في الشريعة. وإن قلتم: إنّ الوجه فيه إعواز النصوص وضياعها، فلم يبق منها ما يعتمد عليه إلّاالقليل حتى قيل: إنّ أبا حنيفة بلغت روايته إلى 17 حديثاً أو نحوها ولم يعتمد على ما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب (الأضواء: ص 330-331)، بل قيل: كان أبو حنيفة لا يعمل بالحديث حتى وضع ابن أبي شيبة في كتاب المصنف باباً للرد عليه ترجمة (باب الرد على أبي حنيفة) (الرفع والتكميل: ص 58)، فلجأوا إلى العمل بالقياس والرأي. قلنا: نعم الخبير لا يعتمد على أكثر هذه الأحاديث المخرّجة عن النواصب والمنافقين والمجروحين وعلى الجوامع والمصنفات التي صنّفت في عصور كانت السياسة مشرفة على نقل الأحاديث وتصنيف الكتب. كانوا يضعون الأحاديث لدعم السياسات وتأييد المذاهب التي تمذهب الحُكّام بها حفظاً لحكوماتهم، ويتهمون من يأخذ الحديث عن غير من تسمح له الحكومة بالتحديث. إلّاأنّ هذا لا يصحّح العمل بالقياس، سيما بعدما كان أئمة أهل البيت بين ظهرانيهم، وعندهم كل ما تحتاج إليه الأُمة في أمر دينها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله الأُمة بالتمسّك بهم. وبعدما قرع أسماعهم من أنّ حافظاً من حفّاظ الشيعة كابن عقدة قال: (أنا أُجيب بثلاثمائة ألف حديث من أهل البيت) وإنّ الحافظ عبد الرحمن النيسابوري الخزاعي الذي كان من أعلم الناس بالحديث وأبصرهم به، ويقال: كان في مجلسه أكثر من ثلاثة آلاف محبرة، يقول قوله المشهور منه في الصحيحين، ويقول: لو كان لي سلطاناً يشد على يدي لاخسقطت خمسين ألف حديث يعمل بها ليس لها أصل ولا صحة، وكان يقول: احفظ مائة ألف حديث (لسان الميزان: ج 3 ص 405). وإن قلتم: إنّ القياس أيضاً من أحكام الشرع تعبّدنا به. نقول: هذا ممنوع، وما استدلوا به مزيّف، وسكوت الشارع عن بيان الحكم الكلي وإيكاله إلى القياس والرأي مع اختلاف المجتهدين فيه ينافي كمال الدين الذي لا يتحقق إلّابأن يكون لله تعالى في كل واقعة حكماً واحداً معينا بينه على لسان النبي صلّى اللّه عليه وآله. مضافاً إلى أن الشارع منع من القياس، ومضافا إلى اجماع أهل البيت على بطلان التعويل عليه. وتمام الكلام يطلب من كتب الأُصول ككتاب العدة للشيخ الطوسي وغيره. وعلى كل حال، ظهر أن التمسّك بالقياس مع إمكان الرجوع إلى أهل البيت والروايات الحاكية عن السنة من طرقهم الوافية بأحكام جميع الوقائع لا يجوز.

ص: 408

فالعمل بالقياس عند من يقول بجوازه إنّما هو بالنسبة إلى الوقائع التي لم يرد فيها حكم من الشارع وسكت عنها، أما الوقائع والقضايا التي ورد حكمها من قبل الشارع فلا يجوز العمل به فيها.

ونحن تركنا التعرّض في هذا المختصر للرد على الأدلّة التي أقاموها على حجية القياس وتفنيدها، إذ أنّ ما كتب حول هذا الموضوع في كتب الأُصول من قبل كثير من محقّقي الشيعة وغير واحد من محقّقي أهل السنة يكاد أن لا يحصى، فمن شاء أن يتبيّن له الحق فليراجع.

ولكن الذي نريد أن نقول: هو مجمل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع، ويتلخّص في عدم جواز العمل بالقياس والاخالة(1) في أحكام الله تعالى، وعدم جواز القول بخلو الكتاب والسنة عن أحكام أكثر الوقائع، وعدم وفائهما بها.

وذلك لوجود أئمة أهل البيت وعترة النبي صلى الله عليه و آله إلى القرن الثالث بين ظهراني الأُمّة محيطين علماً بأحكام جميع الوقائع، فلا توجد واقعة إلّاوحكمها عندهم، وقد أجمعوا على حرمة العمل بالقياس، وإجماعهم حجة.

أضف إلى ذلك رواياتهم الكثيرة في حرمته عن جدّهم رسول الله صلى الله عليه و آله،).

ص: 409


1- الاخالة: مسلك من مسالك العلة التي ذكرها الأُصوليون في مباحث أُصول الفقه، لا يقول به الحنفية ويقول به الشافعية. قال الشوكاني في إرشاد الفحول: المسلك السادس المناسبة، ويعبّر عنها بالاخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد، ويسمى استخراجها تخريج المناط، وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه (الرفع والتكميل: ص 61).

ونصوصهم من أنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وأنّ السنة إذا قيست مُحِقَ الدين(1).

وأضف أيضاً إلى ذلك أنّ موضوع جواز العمل بالقياس على القول به إنما يتحقّق في واقعة سكت الشارع عن حكمها، وبعد ارجاعه الأُمة إلى أهل بيته والزامه بالتمسك بهم والأخذ بأقوالهم، يجب الرجوع إليهم لا العمل بالقياس، لأنّهم عيبة علم النبي صلى اللّه عليه وآله وهداة الأُمة من بعده وأمانهم من الضلال، فكيف يجوز العمل بالقياس مع وجود أئمة من أهل البيت مثل جعفر بن محمد الصادق بين الأُمة وهم يقولون ببطلان العمل بالقياس وعلمهم بأحكام جميع الوقائع.

نعم لو لم يكن في أحاديثهم والعلوم المذخورة عندهم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله حكم واقعة، تصل النوبة إلى البحث عن حجية القياس والرأي والاخالة في استكشاف حكم تلك الواقعة وعدمها، فلا يجوز الاجتهاد والقياس مع النص.

ومع ذلك كيف يرضى المسلم المؤمن بما آتاه الرسول وبما نهى عنه أن يدين بالقياس ويأخذ بالاستحسان ويعمل على وفق الفتاوى التي يأباها العقل ولا تقرّها الشريعة المقدسة السمحاء، وترك أحاديث أئمة أهل البيت المخرّجة في جوامع الشيعة، ويضرب على كل هذه الأحاديث والعلوم بالرد، ويستند في أحكام دينه على روايات النواصب والخوارج والمنافقين والمجاهيل ممن أشرنا).

ص: 410


1- كما قد دلت من طرق أهل السنة روايات كثيرة على عدم جواز العمل بالقياس، وإنّ ما سكت الله عنه فهو عفو ولا يبحث عنه (راجع مجمع الزوائد: ج 1 ص 171، 172، 179).

إلى بعضهم.

ونختم الكلام في هذا الموضوع بما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال:

«ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. فأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال: فيه تبيان كل شيء وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تكشف الظلمات إلّابه»(1).

هذا مختصر الكلام في الأمر الأول، وهو وجوب الأخذ بأحاديث أئمة أهل البيت وما روي عنهم بالطرق المتصلة إليهم عليهم السلام، ويأتي الكلام في الأمر الثاني، وهو حجية أقوال أئمة العترة وأفعالهم وسيرتهم ووجوب اتباعهم والرجوع إليهم(2).ة.

ص: 411


1- نهج البلاغة: خ 18 شرح صبحى الصالح.
2- راجع الفرق بين الأمرين في المقدّمة.

ومما يؤيّد صحة هذه الأحاديث أنّ الفقه الشيعي المستند إليها أوفق بالكتاب والسنة والعقل والشريعة الحنيفية السمحة، كما لا يخفى على كل باحث في الفقه والكتب المؤلفة في خلافات الفقهاء، كالخلاف للشيخ الطوسي، وتذكرة الفقهاء للعلّامة الحلي وغيرهما.

ولَنِعم ما قال ابن الوردي عمر بن المظّفر بن عمر التيمي مؤلف (تاريخ ابن الوردي) وناظم البهجة:

يا أهل بيت النبي من بذلت5.

ص: 412

النصوص الصحيحة في وجوب التمسّك بأهل البيت عليهم السلام

قد دلّت النصوص الصريحة الكثيرة المتواترة التي خرّجها أكابر علماء الجمهور وأعاظم أئمتهم المحدّثين وحفّاظهم، على وجوب التمسّك بأهل البيت وأخذ العلم عنهم وحجية أقوالهم وأنّ اتّباعهم هو طريق النجاة، وهم الآخذون بالكتاب والسنة، نذكر بعون الله تعالى طائفة منها في هذا المختصر:

الأول: نصوص الثقلين

نصوص الثقلين(1) متواترة قطعية، أجمعت الأُمة على صحتها، وقد أخرجها أكابر أهل السنة ومحدّثيهم في صحاحهم وجوامعهم ومسانيدهم

ص: 413


1- قال ابن الأثير في النهاية: ج 1 ص 216: سمّاها ثقلين لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل، ويقال لكل خطير: نفيس ثقل، فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما.

بأسانيد صحيحة، وقد بقيت على تواترها في جميع الأعصار إلى العصر الحاضر، وقلّما يخلو عن روايتها مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل، منذ أن بدأ تدوين الأحاديث في الكتب، بل قد رويت في كتاب واحد بطرق متعددة.

وتواترها وقوة اشتهارها بين أهل السنة فضلاً عن الشيعة يغني عن ذكر مصادرها ومخرجيها، فراجع كتاب (عبقات الأنوار) وما كتب فيه حول هذه الأحاديث(1). وراجع كتب الحديث عند العامة وتفاسيرهم وتواريخهم وكتبهم في اللغة، حتى تعرف شأن هذه النصوص من الاشتهار والتواتر.

قال ابن حجر: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً لا حاجة لنا ببسطها(2).

ونصوص الحديث على كثرتها وإن كانت ترجع إلى معنى واحد وهو وجوب التمسّك بالكتاب والعترة إلّاأنّ لفظها قد يختلف عند مخرّجيها بحسب اختلاف أسانيدها الصحيحة، وإنّها صدرت في غير مورد ومكان.

النص الأوّل: فعند الطبراني وغيره بسنده صحيح أنه صلى الله عليه و آله قال في خطبة خطبها بغدير خم تحت شجرات: «إني أظن أن يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت).

ص: 414


1- راجع حول سند الحديث وألفاظه ودلالته المجلد الأول والثاني من الجزء الثاني عشر من العبقات، وقد طبعا في الطبعة الجديدة في ستة أجزاء (2188) صفحة، وهو سفر قيّم نافع مشحون بالتحقيقات في الحديث والتراجم وغيرهما. وراجع الباب الرابع من كتاب ينابيع المودة: ص 27-41، وكنز العمال ج 1 ح 943 إلى 953 و 957 و 958.
2- الصواعق المحرقة: ص 226 (طبع مكتبة القاهرة).

وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً. فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلّاالله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنته حق وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللّهم اشهد. ثم قال: أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه - \يعني علياً - \اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال: أيّها الناس إنّي فرطكم وإنّكم واردون علَيَّ الحوض، حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قد حان من فضة، وإنّي سائلكم حين تردون عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).

النص الثاني: وعند الترمذي وغيره بإسنادهم عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول:

«أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». (قال الترمذي) وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد(2).

النص الثالث: وأخرج بطريق آخر عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله2.

ص: 415


1- الصواعق المحرقة: ص 41، مجمع الزوائد: ج 9 ص 164 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وفيه (لن يفترقا) وغيرهما.
2- سنن الترمذي: ج 2 ص 308، مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، طبع سنة 1292.

صلى الله عليه وآله: «إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني كيف تخلفوني فيهما»(1). وأخرجه ابن الأثير إلّاأنه قال: (لن تضلّوا أحدهما أعظم)...

الحديث(2).

النص الرابع: وعند أحمد في مسنده: «إني أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبروني أنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما»(3).

أقول: ولأحمد في مسنده لهذا الحديث طرق كثيرة جداً مضامينها متقاربة(4) ، وأخرجه ابن سعد عن أبي سعيد إلّاأنه قال: «فانظروني كيفه.

ص: 416


1- سنن الترمذي: ج 2 ص 308، جامع الأحاديث الكبير، الحديث 6527.
2- أُسد الغابة: ج 2 ص 412.
3- مسند أحمد: ج 3 ص 17، مسند أبي يعلى: ص 1021 ح 48، الصواعق المحرقة: ص 147 عن المسند.
4- وممّا يؤيّد ما ذكرناه في المقدّمة، من تأثير السياسات في ترك الأحاديث المأثورة في أهل البيت، إصرار الاُمراء والحُكّام على ترك الصحابة ما سمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ونهى الخليفتين عن رواية الحديث ما أخرجه أحمد في مسنده (ج 4 ص 367) بعد تخريجه حديث الثقلين عن يزيد بن حيّان (قال) قال يزيد بن حيان: حدثنا زيد بن أرقم في مجلسه ذلك، قال: بعث إلَيَّ عبيداللّه بن زياد فأتيته، فقال: ما أحاديث تحدّثها وترويها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا نجدها في كتاب اللّه تحدّث أنّ له حوضاً في الجنّة؟ قال: قد حدّثناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ووعدناه قال: كذبت ولكنك شيخ قد خرفت قال: إنّي قد سمعته اذناي ووعاه قلبي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من جهنم وما كذبت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

تخلفوني فيهما»(1).

5 - \وعند مسلم في صحيحه من بعض طرقه عن زيد بن أرقم قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه وآله فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أمّا بعد، ألا أيّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّى فأجيب، وانا تراك فيكم ثقلين كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي». وأخرج الحديث بطرق أخرى أيضا(2) ، وأخرجه البيهقي باسناده عن يزيد بن حيان(3).

النص السادس: وفي رواية صحّحها ابن حجر: «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي». زاد الطبراني:

«إنّي سألت ذلك لهما فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(4). وأخرجه الحاكم عن زيد وصححه على شرط8.

ص: 417


1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 194.
2- صحيح مسلم: ج 7 ص 122-\123، مصابيح السنّة: ج 2 ص 278.
3- السنن الكبرى: ج 2 ص 148.
4- الصواعق المحرقة: ص 148.

الشيخين، وفيه بعد قوله: «وأهل بيتي عترتي» ثم قال: «أتعلمون إنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ثلاث مرات قالوا: نعم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).

النص السابع: وفي رواية أُخرى أنّه صلى الله عليه وآله قال في مرض موته: «أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، إلّاإنّي مخلف فيكم كتاب ربّي عز وجل وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض، فأسألهما ما خلّفت فيهما»(2).

النص الثامن: وفي رواية صححها أيضاً ابن حجر: «إنّي تارك فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي»(3).

النص التاسع: وعند الطبراني في الكبير وأحمد أيضاً في مسنده بسندٍ صحيح: «إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(4).

وأورده السيوطي أيضاً بسند صحيح بلفظٍ آخر عن أحمد وعبد بن6.

ص: 418


1- المستدرك: ج 3 ص 109.
2- الصواعق المحرقة: ص 124.
3- الصواعق المحرقة: ص 143.
4- الجامع الصغير: ج 1 ص 104، إحياء الميت: ح 56 عن زيد بن ثابت جامع الأحاديث الكبير، ح 6526.

حميد(1) ومسلم، وأخرجه ابن عقدة في الموالاة بسنده عن زيد بن ثابت(2) ، وأخرجه الهيثمي مختصراً عن زيد بن ثابت وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات(3).

النص العاشر: وأخرج الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن زيد قال:

لما رجع رسول اللّه صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن فقال: «كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض. ثم قال: إنّ اللّه عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(4).

النص الحادي عشر: ومثله في كنز العمال نقلاً عن ابن جرير في تهذيب الآثار بسنده عن أبي الطفيل، وفي آخره فقلت لزيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال:... ما كان في الدوحات أحد الّا قد رآه بعينه وسمعه بأُذنيه (ثم قال في الكنز) أيضاً عن ابن جرير عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك(5).0.

ص: 419


1- الجامع الصغير: ج 1 ص 64.
2- ينابيع المودة: ص 36.
3- مجمع الزوائد: ج 1 ص 170.
4- المستدرك: ج 3 ص 109.
5- كنز العمال: ج 6 ص 390.

النص الثاني عشر: وأخرج النسائي بسنده عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن، ثم قال: «كأنّي دُعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض. ثم قال: إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه». فقلت لزيد: سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال: وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلّارآه بعينه وسمعه بأُذنيه(1).

النص الثالث عشر: وأخرج الحافظ ابن عقدة (في المولاة) عن عامر بن أبي ليلى بن ضمرة وحذيفة بن أُسيد قالا: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:

«أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا أولاكم من أنفسكم، ألا ومن كنت مولاه فهذا مولاه. وأخذ بيد علي فرفعها حتى عرفه القوم أجمعون، ثم قال: اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، ثم قال: وإنّى سائلكم حين تردون علَيَّ الحوض عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، قالوا: وما الثقلان؟ قال: الثقل الأكبر كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم، والأصغر عترتي، وقد نبّأني العليم الخبير أن لا يفترقا حتى يلقياني، سألت ربّي لهم ذلك فأعطاني، فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم». وأيضاً أخرجه ابن عقدة من طريق عبد اللّه بن سنان عن أبي الطفيل عن عامر وحذيفة بن أُسيد نحوه(2).7.

ص: 420


1- خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص 21.
2- ينابيع المودة: ص 37.

النص الرابع عشر: أخرج الدولابي في (الذرية الطاهرة) روى الحافظ الجعابي عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي، ولفظه:

«إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه حبل طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).

النص الخامس عشر: وأخرج ابن عقدة من طريق سعد بن ظريف عن الأصبغ ابن نباتة عن علي، وعن ابن أبي رافع مولى رسول اللّه ما لفظه: «أيّها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأما الأكبر هو حبل اللّه فبيد اللّه طرفه، والطرف الآخر بأيديكم، وهو كتاب اللّه إن تمسّكتم به لن تضلّوا ولن تذلّوا أبداً، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبير أخبرني إنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، وسألت ذلك لهما فأعطاني، واللّه سائلكم كيف خلّفتموني في كتاب اللّه وأهل بيتي»(2).

النص السادس عشر: أخرج ابن عقدة من طريق محمّد بن عبد اللّه بن أبي رافع عن أبيه عن جده، وعن أبي هريرة ما لفظه: «إنّي خلّفت فيكم الثقلين إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(3).

النص السابع عشر: أخرج أبو نعيم عن أبي الطفيل: إنّ علياً قام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أنشد اللّه من شهد يوم غدير خم إلّاقام، ولا يقوم رجل8.

ص: 421


1- المصدر السابق: ص 37.
2- المصدر السابق: ص 37-\38.
3- ينابيع المودة ص 38.

يقول: نبّئت أو بلغني إلّارجل سمعت أذناه ووعاه قلبه، فقام سبعة عشر رجلاً منهم خزيمة بن ثابت وسهل بن سعد وعدي بن حاتم وعقبة بن عامر وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو شريح الخزاعي وأبو قدامة الأنصاري وأبو يعلى الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان ورجال من قريش، فقال علي: هاتوا ما سمعتم. فقالوا: نشهد أنا أقبلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من حجة الوداع نزلنا بغدير خم، ثم نادى بالصلاة فصلّينا معه، ثم قام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما أنتم قائلون؟ قالوا: قد بلّغت. قال: اللّهم اشهد - \ثلاث مرات - \ثم قال: إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون. ثم قال: أيها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، نبّأني بذلك اللطيف الخبير. ثم قال: إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، ألستم تعلمون أنّي أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى ذلك ثلاثاً. ثم أخذ بيدك يا أمير المؤمنين فرفعها، وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقال علي:

صدقتم وأنا على ذلك من الشاهدين»(1).م.

ص: 422


1- ينابيع المودة: ص 36، وأخرج في أُسد الغابة حديث مناشدة علي عليه السلام مختصراً في عدّة مواضع: ج 1 ص 368 و 369 و ج 3 ص 307 و 312 و ج 5 ص 276 و 375، وأخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص 307 وفيه: «فقام ثلاثون من الناس» وأخرجه أيضاً مختصراً في ج 5 ص 307، وأخرجه النسائي في الخصائص: ص 22 و 26، وابن حجر في الإصابة، وابن المغازلي في المناقب: ص 21، 26، 27، وأبو نعيم في أخبار أصبهان: ج 1 ص 107 مختصراً وغيرهم.

النص الثامن عشر: أخرج المتقي الهندي خطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في غدير خُمّ منها: «أيّها الناس ألا هل تسمعون! فإنّي فرطكم على الحوض وأنتم واردون علَيَّ الحوض، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين.

قالوا: وما الثقلان يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تضلّوا، والآخر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، من كنت أولى به من نفسه فعلي وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه». قال: رواه الطبراني في الكبير عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم(1).

النص التاسع عشر: وأخرج الشريف الحضرمي: «إنّي فرطكم على الحوض فأسألكم عن ثقلي خلّفتموني فيهما. فقام رجل من المهاجرين فقال:

وما الثقلان؟ قال: الأكبر منهما كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه وسبب طرفه بأيديكم فتمسّكوا به، فالأصغر عترتي، فمن استقبل قبلتي وأجاب دعوتي فليستوص بهم خيراً (أو كما قال:) فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم، وإنّي قد سألت اللطيف الخبير فأعطاني أن يردوا علَيَّ الحوض كتين - أو قال:

كهاتين وأشار بالمسبحتين - ناصرهما لي ناصر وخاذلهما لي خاذل ووليهما لي ولي وعدوّهما لي عدو»(2).7.

ص: 423


1- كنز العمّال: ج 1 ص 48.
2- رشفة الصادي من بحر فضائل بنى النبي الهادي: ص 71، نظم درر السمطين: ص 233-234، ينابيع المودة: ص 37.

النص العشرون: أخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن ثابت قال:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).

النص الحادي والعشرون: وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بلفظ: «إنّي تارك فيكم ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم به، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(2).

النص الثاني والعشرون: أخرج الحسن بن محمد الصغاني الحافظ (ت 650) في «الشمس المنيرة»: (3)«افترقت أُمة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أُمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم هالكة إلّافرقة واحدة. فلما سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول اللّه، كيف لنا بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمدث.

ص: 424


1- إحياء الميت بفضائل أهل البيت: ح 7.
2- عبقات الأنوار: ج 2 م 12 ص 42.
3- توجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة في «مكتبة آستان قدس» رقمها (1704) عنها أخذناالحديث، وفي أحاديث افتراق الأُمة بعض الشواهد لما في هذا الحديث، وهو كون الفرقة الناجية المتمسّكين بالكتاب والعترة ذكرناه في رسالة أفردناها في تعيين الفرقة الناجية، ولا يجوز ترك هذا الحديث لغرابة متنه، فإنّ أحاديث الثقلين وطوائف كثيرة من غيرها من الأحاديث كلها ترشد إلى معنا، كما ستعرف بعض ذلك في فصل دلالة الأحاديث.

عليها؟ فقال صلى اللّه عليه وآله: إنّى تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض».

النص الثالث والعشرون: وأخرج الدارمي بسنده عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوماً خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:

«أيها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيبه، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فتمسّكوا بكتاب اللّه وخذوا به». فحثّ عليه ورغّب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أُذكّركم اللّه في أهل بيتي - \ثلاث مرات». وأخرجه المتقى أيضاً عن زيد بن أرقم(1).

***

النص الرابع والعشرون: وأخرج الحافظ الطحاوي: أنّ النبي صلى الله عليه و آله حضر الشجرة نجم مخرج آخذاً يد عليّ فقال: «يا أيّها الناس! ألستم تشهدون أنّ اللّه ربّكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تشهدون أنّ اللّه أولى بكم من أنفسكم وأنّ اللّه ورسوله مولاكم؟ قالوا: بلى، قال: إن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه بأيديكم، وأهل بيتي»(2).

النص الخامس والعشرون: وفي المعجم الأوسط: «إنّي تارك فيكم7.

ص: 425


1- سنن الدارمي: ج 2 ص 431 كتاب فضائل القرآن، منتخب كنز العمال المطبوع بهامش المسند ج 1 ص 96.
2- مشكل الآثار: ج 2 ص 307.

الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(1).

النص السادس والعشرون: وأيضاً فيه: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي - أهل بيتي - ولن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(2).

هذه بعض ألفاظ نصوص الثقلين، وقد ظهر منها أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد كرّر عليهم ذلك في موارد متعددة، في غدير خم والجحفة كما رواه الحاكم(3) ، وابن الأثير(4) ، والنسائي في الخصائص، والذهبي في التلخيص وغيرهم، وفي حجة الوداع بعرفة كما سمعته عن الترمذي، وفي مرض موته كما أخرجه ابن حجر، وبعد انصرافه من الطائف لمّا قام خطيباً، وفى غيرها من المواطن.

ويستفاد من ذلك شدّة اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بإبلاغ ذلك وبإرجاع الأُمة إليهما، فكرر ذلك بحسب المواطن والمواقف، حتى لا يبقى لأحد عذر في ترك الرجوع إليهما والتمسّك بهما.

قال ابن حجر: ثم اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنّه قال بحجة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنّه قال بالمدينة في مرض7.

ص: 426


1- المعجم الأوسط: ح 3463، مسند أبى يعلى: ح 54 ص 1027.
2- المعجم الأوسط: ح 3566.
3- المستدرك: ج 3 ص 533 ح 109.
4- أُسد الغابة: ج 3 ص 92، الرقم 147.

موته وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أُخرى أنّه قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مر. ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة(1).

دلالة أحاديث الثقلين:

يستفاد من هذه النصوص أُمور:

(الأمر الأول) وجوب التمسّك بالكتاب والعترة، والمراد به إنّما هو وجوب السير على وفق أوامرهم ونواهيهم وإرشاداتهم، لكونهم أعدال القرآن، وعدم افتراق أحدهما عن الآخر.

(الأمر الثاني) انحصار سبيل النجاة والعصمة عن الضلالة بالتمسّك بهم وبالكتاب دون غيرهم كائناً من كان، لأنّه جعلهم عدل الكتاب وغير مفترقين عنه، ولأنّه لو كان التمسّك بغيرهم مؤمناً من الضلال لوجب أن ينبّه عليه، خصوصاً في مثل تلك المواطن.

ويدلّ على ذلك أيضاً قوله صلى اللّه عليه وآله «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهّم أعلم منكم» وأنّه خاطب الجميع في هذه النصوص، فما من الأُمة أحد إلّاوهو مأمور بالتمسّك بهم.8.

ص: 427


1- الصواعق المحرقة: ص 148.

(الأمر الثالث) تعليق الأمن من الضلالة بالتمسّك بالكتاب وأهل البيت جميعاً، فالتمسّك بأحدهما إن لم يقترن بالتمسك بالآخر لا يوجب الأمن من الضلالة، فإنّه صلى الله عليه و آله لم يقل: «ما إن تمسّكتم بأيّهما أو بأحدهما». وعليه: فمفهوم الحديث يدل على وعيد عظيم، وهو أن من لم يتمسّك بهما أو تمسّك بأحدهما فقط يقع في الضلال، وذكر ذلك الفاضل الشهير أحمد أفندي المعروف بالمنجّم باشي (ت 1113 أو 1116) في طي ما أفاده من النكات الجليلة، وهو من أعلام السنّة ومحقّقيهم(1). بل التمسّك الحقيقي بأحدهما من غير التمسّك بالآخر لا يتحقّق، فلا يمكن التمسّك بأحدهما دون الآخر.

(الأمر الرابع) عصمة العترة عن الخطأ والاشتباه، وذلك لوجوه:

1 - \عدم افتراقهم عن الكتاب، فتجويز افتراقهم عن الكتاب، وهو منافٍ لقوله صلى اللّه عليه وآله: «لن يفترقا».

2 - \لو لم يكونوا معصومين لجاز أن يكون المتمسك بهم ضالاً، ويدفع هذا أمر النبي صلى اللّه عليه وآله بالتمسّك بهم.

3 - \لو لم يكونوا معصومين لما أمكن أن يكونوا منقذين من الضلالة مطلقاً، ولم يكن التمسّك بهم أمناً من الضلال كذلك، وهو ينافي قوله صلى الله عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

4 - \أنّهم لو لم يكونوا معصومين من الخطأ لم يكن التقدم عليهم والتخلف عنهم سبباً للتهلكة على سبيل الإطلاق، وقد قال صلى اللّه عليه وآله: «فلا9.

ص: 428


1- يراجع كشف الأستار: ص 108-\109.

تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

5 - \أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر باتّباعهم والتمسّك بهم على سبيل الإطلاق، ولا يجوز اتّباع أحد على الإطلاق إلّاإذا كان معصوماً.

(الأمر الخامس) كون العترة أعلم الناس بعد النبي صلى اللّه عليه وآله إذ لا معنى لإختصاصهم بالاقتران بالكتاب وعدم افتراقهم عنه إلّاإذا كان عندهم من العلوم اللدنية ما ليس عند غيرهم، وكانوا أعلم بالكتاب والسنة من غيرهم، وكان لهم من اللّه عنايات اختصّهم بها، وإلّا فحالهم وحال غيرهم سواء، ولا يصح اقترانهم بالكتاب في كون التمسّك بهم منقذاً من الضلالة، ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله: «فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(1).

(الأمر السادس) بقاء العترة الهادية إلى يوم القيامة، وعدم خلوّ الزمان من عالم من أهل البيت تكون أقواله حجة كالكتاب المجيد، ويدل على ذلك أُمور:

أوّلاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم الثقلين»(2) وقوله: «إنّي مخلّف فيكم»(3) وقوله: «إنّي تارك فيكم خليفتين»(4) وقوله: «إنّى قد تركت فيكم»(5) وقوله: «إنّي قد خلفت فيكم الثقلين»(6) فإنها تدل على أنّه صلى اللّه عليه وآله ترك في أُمته من يكون مرجعاً في أُمورهم وخليفته عليهم، وهو القرآنق.

ص: 429


1- ومن هذا الباب ما في (سيرة يحيى بن الحسين) ص 26-\27: أهل بيتي أئمة الهدى، فقدّموهم ولا تقدّموا عليهم، وأمّروهم ولا تأمروا عليهم، وتعلّموا منهم ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.
2- راجع: نفحات الأزهار: ج 1 و 2، وشرح إحقاق الحق.
3- راجع: نفحات الأزهار: ج 1 و 2، وشرح إحقاق الحق.
4- راجع: نفحات الأزهار: ج 1 و 2، وشرح إحقاق الحق.
5- راجع: نفحات الأزهار: ج 1 و 2، وشرح إحقاق الحق.
6- راجع: نفحات الأزهار: ج 1 و 2، وشرح إحقاق الحق.

والعترة. ومن المعلوم أنّ احتياج الأُمة اليهما ليس مختصّاً بزمان دون زمان، فلو لم يبق ما ترك في الأُمة مدى الدهر لا يصدق عليه أنه ترك فيهم من يكون كذلك، وعليه فلا يصح صدور هذه التعابير والتصريحات منه. والفرق واضح بين أن يكون تاركاً ومخلّفاً في الجميع ما إن تمسّكوا به لن يضلوا أو في البعض، وهذه العبارات كلها صريحة في الأول دون الثاني.

ثانياً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا» وقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» فإنّ نفي الضلال على سبيل التأبيد إن تمسّكوا بالثقلين لا يصح إلّاإذا كان ما يتمسّك به باقياً متأبّداً.

ثالثاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض» فإنه لو لم يكن في زمن من الأزمنة من هو عدل الكتاب وقرينه لزم افتراق كل منهما عن الآخر، وهذا ينافي ما هو صريح الحديث من كونهما عدلين وعدم افتراقهما أبداً.

رابعاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «لن ينقضيا حتى يردا علَيَّ الحوض» فإنه يدلّ على دوامهما وعدم انقضائهما أبداً.

قال ابن حجر: وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السالف: «في كل

ص: 430

خلف من أُمتي عدول من أهل بيتي...» إلى آخره(1).

ومما يدلّ على وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت في جميع الأزمان وعدم خلوّ الزمان من إمام معصوم إلى يوم القيامة - \كما هو مذهب الإمامية - \مضافاً إلى أخبار السفينة والأمان وغيرهما من الأخبار الكثيرة التي يأتي الإيعاز إلى بعضهما إن شاء اللّه تعالى، الحديث المشهور الذي أخرجه الحميدي في الجمع بين الصحيحين على ما حُكي عنه: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ونحوه ما عن الحاكم عن ابن عمر، وفيه من الحث الشديد على وجوب معرفة الإمام والتهديد والوعيد لمن قصر في أداء حقه ومعرفته وعدم خلوّ الزمان إلى يوم القيامة مِنْ وجود إمام معصوم ما لا يخفى.

وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يوم ندعو كل أُناسٍ بإمامهم» قال: يُدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسُنّة نبيهم(2).

وأخرجه الثعلبي مسنداً عنه صلى اللّه عليه وآله(3).

هذا ومن شاء استقصاء ما يستفاد من الحديث من شؤون أهل البيت عليهم السلام9.

ص: 431


1- الصواعق المحرقة: ص 149، وقد نص عليه أيضاً السمهودي والدولة آبادي والعجيلي وكمال الدين الجهرمي وغيرهم ممن سرد أسماءهم وتصريحاتهم في الطبقات فراجع.
2- الدر المنثور: ج 4 ص 194، روح المعاني: ج 15 ص 112.
3- خصائص الوحي المبين لابن بطريق: ص 129.

ومقاماتهم فعليه بكتاب عبقات الأنوار: ج 12 م 12، فإنّه ذكر أُمور كثيرة واستشهد لها بالأحاديث وتصريحات أعلام أهل السنة في غاية التحقيق(1).

واللّه هو الهادي إلى الصراط المستقيم.ن.

ص: 432


1- والعلّامة الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ت 583) بحث قيّم حول أحاديث الأئمة الاثني عشر ورواتها ودلالتها، وكذلك أحاديث الثقلين والسفينة والأمان في كتابه القيّم (متشابهات القرآن ومختلفه): ج 2 ص 55-\58 في نهاية الدقة والإتقان.

من هو الذي يجب التمسّك به من العترة؟

لا ريب في أنّ المراد بالعترة التي أمر النبي صلى الله عليه و آله الأُمة بالتمسّك بها ليس كل واحد منها، بل المراد منها - \بمناسبة عدم افتراقهم عن الكتاب وكونهم معصومين ووجوب متابعتهم وأنّ التمسّك بهم أمن من الضلال - \أئمتهم وعلماؤهم والمستجمعون للفضائل والكمالات العلمية والعملية، وقد صرح بذلك غير واحد من أهل السنة.

قال ابن حجر: (تنبيه) سمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم القرآن وعترته، وهي بالمثنّاة الفوقانية: الأهل والنسل والرهط الأدنون، ثقلين لأن الثقل كل خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولذا حث صلّى اللّه عليه وآله الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم، وقال: «الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت». وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما.

ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب اللّه وسنة رسوله،

ص: 433

إذ هم الّذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق: «ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم». وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأنّ اللّه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرّ بعضها(1).

وقال السمهودي: والحاصل: أنّه لمّا كان كل من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدناً للعلوم اللدنية والحِكَم والأسرار النفيسة الشرعية وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها، أطلق رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثه صلى الله عليه و آله في بعض الطرق السابقة على الاقتداء والتمسّك والتعلّم من أهل بيته، وقوله في حديث أحمد: الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت،(2) ما سيأتي من كونهم إماماً للأُمّة(3).

وقال السّيد أبو بكر العلوي الشافعي: قال العلماء: والذين وقع الحث على التمسّك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة، هم العلماء بكتاب اللّه عز وجل منهم، إذ لا يحث صلى اللّه عليه وآله على التمسّك إلّابهم، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتى يردوا الحوض، ولهذا قال: «لا تقدّموهما3.

ص: 434


1- الصواعق المحرقة: ص 149.
2- أخرج أحمد في المناقب (كما في كفاية الطالب لمناقب علي بن أبي طالب للشنقيطي: ص 56 وينابيع المودة 2/98 وغيرهما) عن جميل بن عبد اللّه بن يزيد المدني قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه و آله قضاء قضى به علي، فأعجب النبي صلى اللّه عليه وآله فقال: الحمد للّه الذي جعل الحكمة فينا أهل البيت.
3- رشفة الصادي ص 72-\71 ط مصر 1303.

فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا» واختصوا بمزيد الحث على غيرهم من العلماء كما تضمنته الأحاديث السابقة، وذلك مستلزم لوجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحث إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً للأُمة كما سيأتي، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض(1).

وقال الحكيم الترمذي: وهذا (يعني أهل بيتي) عام أُريد به الخاص، وهم العلماء العاملون منهم(2).

وقال التفتازاني في شرح المقاصد: ألا ترى أنّه عليه الصلاة والسلام قد قرنهم بكتاب اللّه في كون التمسّك بهما منقذ عن الضلال، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلّاالأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا في العترة(3).

وقال ابن أبي الحديد علّامة المعتزلة: وقد بيّن رسول اللّه عترته من هي لما قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين» فقال: «عترتي أهل بيتي»، وبين فيما مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم الكساء وقال حين نزلت: إنما يريد اللّه ليذهب:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس»(4).

وقال ابن حجر: ثم أحق من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته، ومن ثم قال0.

ص: 435


1- رشفة الصادي: ص 72-\73.
2- عبقات الأنوار: ج 2 م 12/293.
3- عبقات الأنوار: ج 2 م 12/6.
4- شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 130.

أبو بكر: علي عترة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم(1) ، أي الذين حث على التمسّك بهم، فخصه لما قلنا، وكذلك خصه صلى اللّه عليه وآله بما مر يوم غدير.

وقد(2) خص علياً بالأمر بالتمسّك به في روايات أُخرى متواترة أخرجها العام والخاص في كتبهم، فمنها: ما أخرجه الحافظ أبو نعيم بسنده عن الإمام السبط الحسن عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ادعوا لي سيّد العرب - \يعني علي بن أبي طالب - \فقالت عائشة: ألست سيّد العرب؟ فأقل: أنا سيّد ولد آدم وعلي سيّد العرب. فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه، فقال لهم: يا معشر الأنصار! ألا أدلّكم على ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعده أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: هذا علي فأحبّوه بحبّي، وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم من اللّه عز وجل» ورواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن عائشة نحوه في السؤدد مختصراً(3).

كما قد نص عليه في نفس هذه النصوص، وأخرجه غير واحد من أكابر أهل السنة كابن حجر المكي، والدارقطني، والسمهودي وغيرهم(4).

وقد خص علياً والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام بالأمر بالتمسّك بهم،4.

ص: 436


1- لسان الميزان: ج 7 ص 44.
2- الصواعق المحرقة: ص 149.
3- حلية الأولياء: ج 1 ص 63، شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 450، نزهة المجالس: ص 457-\458.
4- راجع عبقات الأنوار الجزء الأول من المجلد 12 والثاني ص 90-\89 من المجلد 12 والصواعق المحرقة: ص 124.

وأنّهم وكتاب اللّه لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض في حديثٍ أخرجه الثعلبي في العرائس عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك(1) ، وفي غيره من الأحاديث.

وخص الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بالأمر بالتمسك بهم في حديثٍ أخرجه الحافظ أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس في أربعينه، وفي أحاديث كثيرة أُخرى.

وقد ظهر مما ذكرناه في دلالة أحاديث الثقلين وجه تعيّن وجوب التمسّك بالأئمة الاثني عشر من بين العترة الطاهرة واختصاصهم بذلك المنصب، فإنّ غيرهم من العترة لم يدع العصمة والعلم بأحكام جميع الوقائع.

ويدلّ عليه أيضاً إجماع المسلمين على أنّ من عداهم ليس معصوماً وعالماً بجميع الأحكام الشرعية، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة التي خرّجها مسلم وأحمد والبخاري والترمذي وأبو داود والحاكم والمتقي وابن الديبع والخطيب والسيوطي وغيرهم في عدد الأئمة والخلفاء عن جابر بن سمرة، وابن مسعود، وأنس وغيرهم(2).ث.

ص: 437


1- نزهة المجالس: ص 468، كشف الأستار: ص 113.
2- راجع في ذلك كتابنا «منتخب الأثر» وكتابنا الآخر «جلاء البصر» وكتابنا باللغة الفارسية «نويد أمن وأمان» وإن شئت الرجوع إلى الصحاح والمسانيد والجوامع فراجع مسند أحمد (ط مصر سنة 1313) و ج 5 صحائف 86-108 و ج 1 ص 398، صحيح البخاري: ص 175 (ط مصر 1355)، صحيح مسلم (ط مصر سنة 348) ج 2 ق 1 ص 191، سنن الترمذي: ج 2 ص 45 (ط دهلي 1342)، سنن أبي داود ج 2 ص 207 (ط مصر المطبعة التازية)، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 617-\618، معرفة الصحابة (ط حيدر آباد 1334)، مسند أبى داود الطيالسي: ح 767 و 1278، تاريخ بغداد: ج 2 ص 126 رقم 516 و ج 6 ص 263 رقم 3269 و ج 4 ص 353 رقم 7673، تيسير الوصول ج 2 ص 34 (ط مصر 1346)، تاريخ الخلفاء، ينابيع المودة، مصابيح السنّة، منتخب كنز العمال، مجمع الزوائد، وغيرها من جوامع الحديث.

ومن المعلوم أن هذا العدد لا ينطبق إلّاعلى الأئمة الاثني عشر، وقد صرّح بأسمائهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في روايات كثيرة متواترة أخرجها الإمامية بطرقهم المعتبرة في صحاحهم وجوامعهم، كما قد أخرج طائفة منها جمع من شيوخ السنّة وأعلامهم، وأفرد جماعة من أصحاب الحديث من الفريقين في فضائلهم ومناقبهم وكراماتهم وما ورد فيهم من النصوص وتنصيص كل واحد منهم على الإمام الذي يلي الأمر بعده، وفي العلوم الصادرة عنهم كتباً نافعة قيّمة(1).

قال الفاضل القندوزي: قال بعض المحقّقين: إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه و آله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أنّ مراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنى عشر من أهل بيته وعترته إذ لا يمكن أن يحل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثنى عشر ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأُمويين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّاعمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم لأنّ النبي قال: «كلّهم من بني هاشم» في رواية عبد الملك عن جابر.

وإخفاء صوته في هذا القول يرجح هذا الرواية، لأنّهم لا يحسنون خلافة بني هاشم. ولا يمكن أن يحمل على الملوك العبّاسيين لزيادتهم على العدد9.

ص: 438


1- يراجع في ذلك عبقات الأنوار: ج 1 م 253-\12/259.

المذكور ولقلة رعايتهم الآية قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودة في القربىوحديث الكساء. فلابد أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى اللّه عليه وآله، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند اللّه. وكان علومهم من آبائهم متّصلاً بجدّهم صلى اللّه عليه وآله وبالوراثة اللدنية، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتدقيق. ويؤيد هذا المعنى - \أي أنّ مراد النبي صلى اللّه عليه وآله الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته - \ويشهده ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب... إلخ(1).

وقال محمد معين السندي في كتابه «دراسات اللبيب» في طي كلماته في حديث الثقلين: ولما كان هذا بطريق دلالة النص انتظرنا نصاً فيهم يدلّنا على إمامتهم في العلم، فوجدنا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الحمد للّه الذي جعل الحكمة فينا أهل البيت»، فعلمنا أنّهم الحكماء العارفون والعلماء الوارثون الذين وقع الحث على التمسّك بهم في دين اللّه تعالى وأخذ العلوم عنهم، وأيّدنا في ذلك ما أخرج الثعلبي في تفسير قوله: واعتصموا بحبل اللّه جميعا(2) عن جعفر الصادق عليه السلام قال: «نحن حبل اللّه الذي قال تعالى واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا» انتهى.

وكيف لا وهم أحد الثقلين، فكما أنّ القرآن حبل اللّه الممدود من السماء فكذلك أهل هذا البيت المقدّس (صلوات اللّه تعالى وتسليماته عليهم أجمعين)،3.

ص: 439


1- ينابيع المودة: ص 446.
2- آل عمران: 103.

وقد قال قائلهم عليه السلام مُخبِراً عن نفسه القدسي وسائر رهطه المطهّرين:

وفينا كتاب اللّه أنزل صادقاوفينا الهدى والوحي والخير يذكر

ثم ساق الكلام إلى أن قال: فعلمنا من كلام الأئمة (عليهم رضوان اللّه تعالى) معنى التمسّك بهم بما لا ريبة فيه، إلّالمن ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون.

وقال أيضاً: فإذا انضمّ إلى ذلك ما ورد من الأخبار في الأئمة الاثني عشر ممّا بسطنا أكثرها في المقامات الأربعة من كتابنا المسمى «مواهب سيّد البشر في حديث الأئمة الاثني عشر» بالترتيب بسطناها، وما اجتمع عليه السلف والخلف من غزارة علوم هذا العدد المبارك وخرقهم العوائد وما اختصّوا به من المزايا الباهرة من بين سائر الرجال الأبطال من هذه الفئة الفائقة على معاصريها في كل عصر، يتيقّن بأنّهم الأولى بصدق أحاديث التمسّك عليهم من غيرهم.

وقال أيضاً في طيّ تحقيقاته: فلا وجه لأن يمتري من له أدنى إنصاف في أن من صدق عليهم هذه الأحاديث والآية من غير شائبة، وهم الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام وسيدة نساء العالمين بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمّ الأئمّة الزهراء الطاهرة، على أبيها وعليها الصلاة والسلام، لا شائبة في كونهم معصومين كالمهدي منهم عليهم السلام... إلخ(1).

وقال الشبراوي الشافعي: قد أشرق نور هذه السلسلة الهاشمية والبيضة الطاهرة النبوية والعصابة العلوية، وهم اثنا عشر إماماً مناقبهم عليه وصفاتهم6.

ص: 440


1- عبقات الأنوار: ح 2 م 295-\12/296.

سنية ونفوسهم شريفة أبية وأرومتهم كريمة محمدية، وهم محمد الحجة ابن الحسن الخالص ابن علي الهادي ابن محمد الجواد ابن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الإمام الحسين أخي الإمام الحسن ولدي الليث الغالب علي بن أبي طالب (رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين)(1).

وقال الشبراوي أيضاً: ويكفيه (يعني الإمام الحسن العسكري عليه السلام) بأنّ الإمام المهدي المنتظر من أولاده، فللّه درّ هذا البيت الشريف والنسب الخضم المُنيف، وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطيب الجرثومة، كأسنان المشط متعادلون ولسهام المجد مقتبسون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلّاً، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بغير ولا بالاً، وانتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلئ، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم واللّه يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم واللّه يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم مالا يهمله اللّه ولا يضيّعه. أحيانا اللّه على حبّهم وأماتنا عليه(2).8.

ص: 441


1- الإتحاف بحب الأشراف: ص 69.
2- الإتحاف بحب الأشراف: ص 68.

ص: 442

أحاديث السفينة

الثاني من النصوص الصريحة المرشدة إلى التمسّك بأهل البيت وحجية مذاهبهم وأقوالهم ووجوب التأسّي بأعمالهم، أحاديث السفينة الّتي أخرجها من أعلام السنّة ما يربو على المائة: كأحمد والطبراني وأبي نعيم والبزّار وابن عبد البر والسيوطي والسمعاني وابن الأثير والفخر ومحمد بن طلحة الشافعي والمتّقي والملّا وسبط ابن الجوزي والمحب الطبري والخطيب وابن كثير وابن المغازلي والسمهودي وابن الصبّاغ وأبي بكر الحضرمي والصبان والشبلنجي والقندوزي وابن حجر وغيرهم، عن أبي ذر وابن عباس وابن الزبير وأنس وأبي سعيد الخدري وسلمة بن الأكوع، وإليك بعض ألفاظ الحديث:

النص الأوّل: اخرج الحاكم بسنده عن حنش الكناني قال: سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ باب الكعبة: أيّها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

ص: 443

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن المغازلي إلّا أنّه قال: «إنّما مثل» وقال «من ركب فيها»، وفي حديثٍ آخر زاد: «ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجّال» وأخرجه الطبراني عن أبي ذر إلّا أنّه قال: «سفينة نوح في قوم نوح» قال: «هلك» بدل «غرق» وزاد: «ومثل باب حطة بني إسرائيل»، وأخرجه أبوطالب يحيى بن الحسين المتولد سنة 340 ه بأمل بسنده عن حنش إلّاأنّه قال: «من عرفني فقد عرفني» وقال: «مثل أهل بيتي فيكم»، وأخرج نحوه الهيثمي وابن حجر والسيوطي(1).

النص الثاني: أخرج البزّار وغيره عن ابن عباس: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(2).

النص الثالث: أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «إنّما مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة0.

ص: 444


1- المستدرك: ج 2 ص 343 و ج 3 ص 150، احياء الميت: ح 26، الصواعق المحرقة: ص 184، الجامع الصغير: ج 1 ص 97، الجامع الكبير: ح 19733، كنز العمال: ج 12، ح 34151 و 34169 و 34170، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 92، مجمع الزوائد: ج 9 ص 168، نظم درر السمطين: ص 235، المناقب لابن المغازلي: ص 133 و ص 134، تيسير المطالب: ص 136.
2- إحياء الميت: ح 25، الصواعق المحرقة: 184، الجامع الصغير: ج 2 ص 155، كفاية الطالب: ص 233، مجمع الزوائد: ج 9 ص 168، المناقب لابن المغازلي: ص 134، حلية الأولياء: ج 4 ص 306، ذخائر العقبى: ص 20.

في بني إسرائيل من دخله غفر له»(1).

النص الرابع: أخرج البزّار عن عبد اللّه بن الزبير أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق»(2).

النص الخامس: وأخرج الثعلبي: «مثل عترتي كسفينة نوح، من ركب فيها نجا»(3)، وأخرجه القندوزي عنه إلّاأنّه قال: «من ركبها نجا»(4).

النص السادس: وأخرج الخطيب بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّما مثلي ومثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(5).

النص السابع: أخرج الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي اللّه عنهما) قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، ولن يؤتى المدينة إلّامن قبل الباب، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك، لأنّك مني وأنا منك، لحمك من لحمي ودمك من دمي وروحك من روحي وسريرتك من سريرتي وعلانيتك1.

ص: 445


1- إحياء الميت: ح 27، رشفة الصادي: ص 80، الأربعين النبهانية: ص 216، مجمع الزوائد: ج 9 ص 168.
2- إحياء الميت: ح 24، مجمع الزوائد: ج 9 ص 168 إلّاأنّه قال «أهل بيتي» وقال «وسلم»، الجامع الصغير: ج 9 ص 155، الصواعق المحرقة: ص 184.
3- كنوز الحقائق ج 2 ص 89.
4- ينابيع المودة: ص 181.
5- تاريخ بغداد: ج 12 ص 91.

من علانيتي، سعد من أطاعك وشقي من عصاك وربح من تولّاك وخسر من عاداك، فاز من لزمك وهلك من فارقك، مثلك ومثل الأئمة من ولدك من بعدي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، ومثلكم كمثل النجوم كلّما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة»(1).

النص الثامن: أخرج الشبلنجي والصبان قالا: وروى جماعة من أصحاب السنن عن عدة من الصحابة أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. وفي رواية: غرق، وفي أُخرى:

زُجّ في النار»(2).

النص التاسع: قال ابن حجر: وجاء من طرقٍ عديدة يقوّي بعضها بعضاً:

«إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا»، وفي رواية مسلم:

«ومن تخلّف عنها غرق» وفي رواية «هلك»(3). وقال: وفي رواية: «إنّ مثل أهل بيتي» وفي رواية: «ألا إنّ مثل أهل بيتي» وفي رواية «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم» وفي رواية: «من ركبها سلم ومن تركها غرق»(4).

النص العاشر: وقال ابن حجر أيضاً: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب4.

ص: 446


1- ينابيع المودة: ص 27، عبقات الأنوار: ج 2 م 12/1139، وكأنّه اقتبس الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من النبي صلى الله عليه و آله فقال: ألا إنّ مثل آل محمد كمثل نجوم السماء، كلّما خوى نجم طلع نجم (نهج البلاغة: خ 100).
2- نور الأبصار: ص 103، إسعاف الراغبين: ص 114.
3- الصواعق المحرقة: ص 150.
4- الصواعق المحرقة: ص 234.

حطة في بني إسرائيل، من دخل غفر له، وفي رواية: غفر له الذنوب»(1).

النص الحادي عشر: وأخرج ابن السري عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تعلّق بها فاز، ومن تخلّف عنها زُجّ في النار»(2).

النص الثاني عشر: أخرج الديلمي أبو منصور شهردار بن شيرويه في كتاب «مسند الفردوس» عن أبي سعيد الخدري قال: صلّى بنا رسول اللّه صلاة الأُولى، ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: «يا معاشر أصحابي، إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطة بني إسرائيل، فتمسّكوا بأهل بيتي بعدي الأئمة الراشدين من ذريتي، فإنّكم لن تضلّوا أبداً». فقيل: يا رسول اللّه، كم الأئمة بعدك؟ قال: «اثنا عشر من أهل بيتي. أو قال: من عترتي»(3).

النص الثالث عشر: وأخرج ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام قال: «إنّما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب حِطّة»(4).

النص الرابع عشر: وأخرج القطّان في أماليه وابن مردويه عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي في حديثٍ أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «واللّه إنّ مثلنا في هذه الأُمّة كمثل سفينة نوح في قوم نوح، وإنّ مثلنا في هذه الأُمّة كمثل باب8.

ص: 447


1- المصدر السابق: ص 150.
2- ذخائر العقبى: ص 20.
3- عبقات الأنوار: ج 2 م 12/980.
4- الدر المنثور: في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية سورة البقرة: الآية 58.

حطّة في بني إسرائيل»(1).

النص الخامس عشر: وأخرج الطبراني عن جعفر بن المعتمر قال: رأيت أباذر الغفاري أخذ بعضادتي الكعبة وهو يقول: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبوذر الغفاري، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله (يقول): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح في قوم نوح من ركبها نجا، من تخلّف عنها هلك، وكمثل باب حطّة بني إسرائيل»(2).

وقال ابن حجر: وجه تشبّههم بالسفينة فيما مرّ أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم صلى اللّه عليه وآله، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغان، ومرّ في خبر: أنّ من حفظ حرمة الإسلام وحرمته صلّى اللّه عليه وآله وحرمه رحمه حفظ اللّه تعالى دينه ودنياه، ومَن لا لم يحفظ دنياه ولا آخرته، وورد: «يرد الحوض أهل بيتي، ومن أحبّهم من أُمّتي كهاتين السبّابتين»، ويشهد له خبر «المرء مع من أحبّ»، وباب حطّة أنّ اللّه تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمة مودة أهل البيت عليهم السلام سبباً لها كما سيأتي قريباً(3).

وقال السيد أبو بكر بن شهاب الدين العلوي الحسيني الشافعي الحضرمي:

ووجه تمثيله صلّى اللّه عليه وآله لهم بسفينة نوح، أنّ النجاة من هول الطوفان1.

ص: 448


1- كنز العمال: ج 6 ص 250.
2- المعجم الأوسط: ح 3502.
3- الصواعق المحرقة: ص 151.

ثابتة لمن ركب تلك السفينة، وأنّ من تمسّك بأهل بيته صلى الله عليه و آله وأخذ بهديهم كما حَثّ عليه في الأحاديث السابقة نجا من ظلمات المخالفات واعتصم بأقوى سبب إلى ربّ البريات، ومن تخلّف عن ذلك وأخذ غير مأخذهم ولم يعرف حقّهم غرق في بحار الطغيان واستوجب الحلول في النيران، إذ من المعلوم مما سبق. ويأتي أنّ بغضهم منذر بحلولها موجب لدخولها.

وأمّا وجه تمثيله صلّى اللّه عليه وآله لهم بباب حطّة - \وهو باب أريحاء وقيل: باب بيت المقدس - \فذلك أنّ المولى سبحانه وتعالى جعل لبني إسرائيل دخولهم الباب مستغفرين متواضعين سبباً للغفران، كما تقدّم عن ثابت البناني في قوله عزّ وجلّ: وإنّي لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى(1) قال:

إلى ولاية أهل البيت، فجعل الاهتداء إلى ولايتهم مع الايمان والعمل الصالح سبباً للمغفرة(2).

وفي فرائد السمطين: أنّ الواحدي بعد نقل ما رواه الحاكم بسنده عن حنش بن المعتمر قال: سمعت أبا ذر وهو آخذ بباب الكعبة وهو يقول: أيّها الناس! فأنا من قد عرفتم ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من دخلها نجا ومن تخلّف عنها هلك».

قال: أُنظر كيف دعا الخلق إلى التسبّب إلى ولائهم والسير تحت لوائهم بضرب مثلهم بسفينة نوح، جعل ما في الآخرة من مخاوف الأخطار وأهوال0.

ص: 449


1- طه: الآية 82.
2- رشفة الصادي: ص 80.

النار، كالبحر الذي لجّ براكبه فيورده مشارع المنية ويفيض عليه سجال البلية، وجعل أهل بيته عليه وعليهم السلام سبب الخلاص من مخاوفه والنجاة من متالفه، وكما لا يعبر بحر الهياج عند تلاطم الأمواج إلّابالسفينة كذلك لا يؤمن لفح الجحيم ولا يفوز بدار النعيم إلّامن تولّى أهل بيت الرسول (صلوات اللّه عليه وعليهم)، ونحل لهم ودّه ونصيحته وأكّد في موالاتهم عقيدته، فإنّ الّذين تخلّفوا عن تلك السفينة آلوا شر مآل وخرجوا من الدنيا إلى أنكال وجحيم ذات أغلال، وكما ضرب مثلهم لسفينة نوح، قرنهم بكتاب اللّه فجعلهم ثاني الكتاب وشفع التنزيل(1).

***

أقول: من تدبّر حق التدبّر في أحاديث السفينة، وما يأتي من أحاديث الطائفة، وأحاديث من مات ولم يعرف إمام زمانه، وأحاديث الخلفاء والأئمة الاثني عشر، وأحاديث الثقلين، وحديث في كلّ خلف، وحديث من سرّه.

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي أخرجنا بعضها في هذا الكتاب، يحصل له العلم بعدم خلوّ الزمان من إمام معصوم من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، يجب التمسّك به في الأُمور الدينية ومعرفته ومتابعته والتأسّي به وأخذ العلم عنه، فهو خليفة الرسول في بيان الأحكام وتبليغ مسائل الحلال والحرام وتفسير القرآن، كما أنّ الكتاب العزيز أيضاً خليفته، وهما لا يفترقان عن الآخر.

وعلى هذا الأساس المتين المستفاد من هذه الأخبار المتواترة القطعية6.

ص: 450


1- كشف الأستار ص 105، عبقات الأنوار ج 2 م 12/976.

وغيرها، بني مذهب الإمامية القائلين بوجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان من أهل البيت، وانحصار الإمامة في الاثني عشر إلى قيام الساعة. ويرشد إلى ذلك - \أي عدم خلوّ الأرض من الإمام - \ما رواه الخاص والعام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة أما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج اللّه وبنياته، وكم ذا، وأين أولئك؟ أولئك واللّه الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته». أخرجه الشريف الرضي والذهبي مع اختلاف يسير وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص والموفق بن حمد الخوارزمي في المناقب وعلي المتقي في كنز العمال وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء(1).

وقد ظهر مما ذكر أن أحاديث السفينة صريحاً حصرت طريق النجاة بالتمسك بهم، فلا ينجو إلّامن تمسك بهم، كما أنّه لم ينج من قوم نوح إلّامن ركب السفينة، فمن لم يركبها وتخلّف عنها غرق.6.

ص: 451


1- نهج البلاغة، باب الحكم ح 147، تذكرة الحفّاظ: ج 1 ص 11-\12، عبقات الأنوار: ج 2 م 241-\12/246.

ص: 452

أحاديث الأمان

الثالث من الأحاديث الدالّة على نجاة المتمسكين بأهل البيت، وانحصار نجاة غيرهم من الأُمة كائناً من كان بالتمسّك بهم، وأنّهم أمان للأُمة من الاختلاف والهلاك والاندثار (أحاديث الأمان). وإليك بعض ألفاظها:

النص الأول: أخرج الحاكم عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لامّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»(1)، وأخرجه ابن حجر والسيوطي(2).

النص الثاني: وأخرج ابن حجر أيضاً: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض،

ص: 453


1- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 149.
2- الصواعق المحرقة: ص 150 و 234، إحياء الميت: ح 35.

فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون»(1).

النص الثالث: وأخرج أبو يعلى في مسنده عن سلمة بن الأكوع بسندٍ حسن: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لاُمّتي»(2)، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادره(3) ، وأخرجه ابن حجر، وأخرج عن أحمد: «فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(4)، وأخرجه الهيثمي عن الطبراني عن سلمة إلّاأنّه قال: «النجوم جعلت أماناً لأهل السماء وإنّ أهل بيتي أمان لاُمّتي»(5)، وأخرجه ابن أبي شيبة والمسدد في مسنديهما(6).

النص الرابع: أخرج أحمد في المناقب عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».1.

ص: 454


1- الصواعق المحرقة: ص 150.
2- الجامع الصغير: ج 2 ص 189، ذخائر العقبى: ص 17، كنز العمال، ج 12، ح 34155 و 34188 و 34189 عن ابن عباس.
3- كنوز الحقائق: ص 133.
4- الصواعق المحرقة: ص 150.
5- مجمع الزوائد: ج 9 ص 174.
6- إحياء الميت: ح 21.

أقول:(1) روى أحاديث الأمان بطرق كثيرة وألفاظ متقاربة، جمع كثير من أعلام أهل السنة عن أمير المؤمنين علي وأنس وأبي سعيد الخدري وجابر وأبي موسى وابن عباس وسلمة بن الأكوع، لا حاجة هنا إلى إخراج ألفاظها وسرد أسماء مخرجيها أزيد من ذلك(2).

قال ابن حجر: الآية السابعة (يعني من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم السلام) قوله تعالى: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم(3) ، أشار صلّى اللّه عليه وآله إلى أنّ وجود ذلك المعنى في أهل بيته، وإنّهم أمان لأهل الأرض، كما كان هو صلّى اللّه عليه وآله أماناً لهم، وفي ذلك أحاديث كثيرة(4).

وقال بعضهم: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان علماؤهم، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون، وذلك عند نزول المهدي لما يأتي في أحاديثه... إلخ(5).

وقال أحمد: إنّ اللّه خلق الأرض من أجل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله،0.

ص: 455


1- رشفة الصادي: ص 78، الصواعق المحرقة: ص 233-\234، ذخائر العقبى عن أحمد في المناقب: ص 17 إلّاأنّه قال «ذهبت النجوم».
2- يراجع لاستقصاء ذلك والاطّلاع على كلمات العلماء حول هذه الأحاديث وما يستفاد منها كتب الحديث والمناقب وعبقات الأنوار: ج 2 م 1123-\12/1135.
3- الأنفال: الآية 33.
4- الصواعق المحرقة: ص 150.
5- الصواعق المحرقة: ص 150.

فجعل دوامها بدوام أهل بيته وعترته(1).

وقال الشريف السمهودي بعد إيراد هذه الأحاديث: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الّذين هم أمان للأُمة علماؤهم الّذين يهتدى بهم كما يهتدى بنجوم السماء، وهم الّذين إذا خلت الأرض منهم جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون وذهب أهل الأرض، وذلك عند موت المهدي الّذي أخبر به النبي صلّى اللّه عليه وآله(2).

أقول: إنّ دلالة هذه الأحاديث على حجية مذاهب أهل البيت عليهم السلام وكونهم أماناً من الاختلاف لعصمتهم، ووجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كل زمان إلى قيام الساعة، وإنّ المراد من أهل البيت الذين هم أمان لأهل الأرض أئمتهم، في غاية الوضوح؛ فإنّهم لم يختصوا بهذا التشريف من دون الناس إلّا لكونهم معدناً للعلوم النبوية والأحكام الشرعية والفضائل المحمودة، فلابد أن لا يخلو الزمان ممن يكون منهم موصوفاً بهذا الصفات وأهلاً لأن يكون مشرّفاً بهذا التشريف، وأماناً لهذه الأُمّة المرحومة ولجميع أهل الأرض من الزوال والفناء والاختلاف.

وأصرح من الجميع في أنّ المراد من أهل البيت أئمتهم وعلماؤهم، ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس وصحّحه، فإنّ اتّصاف أهل البيت بكونهم أماناً للأُمة من الاختلاف على سبيل الإطلاق في الأُمور الدينية وغيرها، كما قال8.

ص: 456


1- ينابيع المودة: ص 19-\20.
2- رشفة الصادي: ص 78.

صلى اللّه عليه وآله: «وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف» ليس إلّابعلمائهم وأئمتهم عليهم السلام الّذين نص عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في غير هذه الأحاديث.

وهم الذين وصفهم سيّدهم وأفضلهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فيما قال في أوصافهم: «لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه(1) ، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي(2) ، وهم أزمة الحقّ وأعلام الدين وألسنة الصدق(3)».

هم الراقون في أوج الكمال3.

ص: 457


1- نهج البلاغة: خ 234.
2- نهج البلاغة: خ 2.
3- نهج البلاغة: خ 83.

ص: 458

سائر الأحاديث

من تدبّر في أحاديث الثقلين والسفينة والأمان يظهر له أنّ سبيل النجاة للجميع منحصر في التمسّك بأهل البيت عليهم السلام، وإليك طوائف أُخرى من الأحاديث الدالّة على ذلك:

(فالأول) من هذه النصوص المرشدة إلى صحة الاحتجاج بفتاواهم والإقتداء بهم، ما أخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من أُمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي»(1).

وأورده المتقي عن الطبراني في الكبير، والرافعي في مسنده مع اختلاف

ص: 459


1- حلية الأولياء ج 1 ص 86.

في بعض ألفاظه(1) ، وكذلك أخرجه الحمويني(2) ، وأخرجه السيوطي في جمع الجوامع(3) وابن أبي الحديد(4). وأخرج نحوه أحمد في مسنده وفي مناقب علي عليه السلام(5) ، وأخرجه الكنجي الشافعي مسنداً عن ابن عباس(6) ، وابن شهرآشوب عن أبي نعيم بطرق متعددة عن زيد بن أرقم وابن عباس(7) ، وأخرجه أيضا أبو نعيم في (منقبة المطهّرين)، والرافعي في (التدوين) والدهلوي في (تحقيق الإشارة) وغيرهم(8).

(الثاني) أخرج المتقي عن زياد بن مطرف قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربّي قضباً من قضبانها غرسها بيده وهي جنة الخلد، فليتولّ علياً وذريته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة». أخرجه عن مطير والباوردي وابن شاهين وابن مندة بأسانيدهم عن زياد بن مطرف(9) ، وأخرج نحوه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في (ذيل2.

ص: 460


1- كنز العمال: ج 12، ح 34197، منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 94.
2- فرائد السمطين: ص 41.
3- كشف الأستار: ص 113.
4- شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 450.
5- شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 449.
6- كفاية الطالب: ص 94.
7- المناقب: ص 207.
8- عبقات الأنوار: ج 2 م 1152-\12/1155.
9- كنز العمال ج 11، ح 32960، منتخب كنز العمال: ج 5 ص 32.

المذيّل) بسنده عن(1) زياد، وساق السند هكذا: حدّثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدّثنا أحمد بن أشكاب، قال: حدّثنا يحيى بن يعلى المحاربي، عن عمار بن زريق الضبي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن زياد بن مطرف.

وأورده ابن حجر العسقلاني في ترجمة زياد بن مطرف قال: وأخرجوا من طريق ابن إسحاق عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة فليتول علياً وذريته من بعده». قال ابن مندة: لا يصح، قلت: في إسناده يحيى بن يعلى المحاربي وهو واهٍ(2).

أقول: يحيى بن يعلى المحاربي من شيوخ البخاري، روى عنه وروى الباقون سوى الترمذي له بواسطة أبي كريب، ومحمد بن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد اللّه بن نمير وغيرهم، وذكره ابن حبّان في الثقات، مات سنة 216 ه(3).

وقال ابن أبي حاتم: روى عنه أبي وأبو زرعة ومحمد بن مسلم والناس، أنبأنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عنه فقال: هو ثقة(4).

فالحكم بعدم صحة الحديث من غير علة فيه ليس إلّالما اعتادوا من ردّالأحاديث الواردة في فضل أهل بيت النبوّة، فمالوا بالناس عن طريقهم السوي والصراط المستقيم.7.

ص: 461


1- عبقات الأنوار: ج 2 ص 12/1156.
2- الإصابة: ج 1 ص 559.
3- تهذيب التهذيب: ج 11 ص 303.
4- الجرح والتعديل: ج 9 ص 197.

وأخرج الطبراني وأبونعيم في فضائل الصحابة: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي، فإنّ ربي غرس قضبانها بيده، فليتولّ عليّ بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم ضلالة»(1).

(الثالث) أخرج الخوارزمي بسنده عن سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين السبط عليه السلام قال: سمعت جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي (مماتي - خ ل) ويدخل الجنة التي وعدني ربّي فليتول علي بن أبي طالب وذريته وأهل بيته الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعدهم، فإنّهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة».

وأخرج عن الباقر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده الحسين عليهم السلام نحوه(2) ، وأخرجه ابن شهرآشوب عن أبي المؤيد المكّي(3).

(الرابع) أخرج ابن سعد عنه صلى الله عليه و آله: «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا»(4)، وأورده المحب الطبري لأبي سعيد في شرف النبوة إلّاأنّه قال: «فمن تمسّك بنا اتّخذ...» الحديث(5).6.

ص: 462


1- كنز العمّال ج 11، ح 32959.
2- المناقب للخوارزمي: ص 44-\45.
3- المناقب لابن شهرآشوب: ص 206.
4- الصواعق المحرقة ص 148.
5- ذخائر: العقبى ص 16.

وأورده القندوزي عن شرف النبوة عن عبد العزيز(1) ، وأخرجه الحضرمي عن أبي سعيد(2).

(الخامس) أخرج الملّا عن عمر: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «في كل خلوف من أُمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه عز وجل، فانظروا بمن توفدون»(3). وأخرجه ابن حجر إلّاأنّه قال: «في كل خلف» وقال: «تحريف الضالّين» وقال: «وانظروا من توفدون»(4)، وأخرجه الحضرمي(5) ، والقندوزي(6).

وأخرج علي بن محمد بن عبد اللّه العبّاسي العلوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «في أهل بيتي عدول، ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه تعالى، فانظروا من تقدّمون في دينكم وصلاتكم»(7).

(السادس) أخرج الصبان عن أبي ذر: اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس3.

ص: 463


1- ينابيع المودة: ص 191.
2- رشفة الصادي: 89.
3- ذخائر العقبى: ص 17.
4- الصواعق المحرقة: ص 148.
5- رشفة الصادي «ص 72.
6- ينابيع المودة: ص 191، 273، 297.
7- سيرة يحيى بن الحسين: ص 33.

من الجسد ومكان العينين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلّابالعينين(1). وأخرجه الشريف الحضرمي(2) ، والنبهاني(3) ، وحكى إخراجه عن جماعة من أصحاب السنن بالإسناد إلى أبي ذر مرفوعاً. وأخرج أبو القاسم علي بن محمد الخزّاز القمّي في كتابه القيّم «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر» مسنداً عن واثلة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنزلوا أهل بيتي بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العينين من الرأس، والرأس لا يهتدي إلّابالعينين، اقتدوا بهم من بعدي لن تضلّوا». فسألنا عن الأئمة، فقال: «الأئمة بعدي من عترتي» أو قال:

«أهل بيتي عدد نقباء بني إسرائيل»(4).

وأخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن عليم بن سلمان قال: أنزلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العين من الرأس، فإنّ الجسد لا يهتدي إلّا بالرأس، وأنّ الرأس لا يهتدي إلّابالعينين(5) ، وأخرجه ابن حجر عن الطبراني عن سلمان إلّاأنّه قال: «وبمنزلة العينين»(6).

(السابع) أخرج المسعودي في جواهر العقدين عن ربيبة السعدي حديثاً طويلاً عن حذيفة في فضل الحسين عليه السلام إلى أن قال: «أيّها الناس، إنّه لم يعد أحد2.

ص: 464


1- إسعاف الراغبين: ص 114.
2- رشفه الصادي: ص 91.
3- الشرف المؤبد: ص 31.
4- راجع المصدر السابق.
5- ذكر اخبار أصبهان: ج 1 ص 44.
6- مجمع الزوائد: ج 9 ص 172.

من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي الحسين بن علي خلا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم. أيّها الناس، إنّ الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول اللّه وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل»(1). وأخرجه الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي الحنفي عن صاحب كتاب «السنة»(2) ، وأخرج ذيل الحديث الحضرمي(3) ، والقندوزي(4) ، وابن حجر(5).

(الثامن) أخرج الحمويني بسنده عن أصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في قوله تعالى: إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون(6) قال: «الصراط ولايتنا أهل البيت».

وأخرج الثعلبي في تفسير الفاتحة من تفسيره الكبير عن أبي بريده أو أبي يزيد - \كما أخرج ابن البطريق عن الثعلبي - \: إنّ الصراط المستقيم هو صراط محمد وآله.

وعن تفسير وكيع بن جراح عن سفيان الثوري عن السدي عن أسباط ومجاهد عن ابن عباس في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: قولوا: أرشدنا إلى حب آل محمد وأهل بيته. وأخرج القندوزي عن المناقب عن زيد بن موسى4.

ص: 465


1- ينابيع المودة: ص 279.
2- نظم درر السمطين: ص 207-\208.
3- رشفة الصادي: ص 91.
4- ينابيع المودة: ص 22، 169.
5- الصواعق المحرقة: ص 174.
6- المؤمنون: الآية 74.

الكاظم عن أبيه عن آبائه عليهم السلام نحو حديث الأصبغ(1).

وأخرج الشريف الحضرمي أنّ عبد الرحمن بن زيد قال في قوله تعالى:

اهدنا الصراط المستقيم هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته(2) ، وأخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في «شواهد التنزيل» عشرين حديثاً في ذلك(3).

(التاسع) أخرج ابن حجر في الآية الخامسة من الآيات التي ذكر أنّها وردت فيهم، وهي قوله تعالى: واعتصموا بحبل اللّه جميعا عن الثعلبي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «نحن حبل اللّه الذي قال اللّه فيه:

واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا»(4).

وقد فسّر الشافعي حبل اللّه بولاء أهل البيت في الأبيات التي ذكرها له أحمد بن عبد القادر العجيلي في كتابه «ذخيرة المآل» والشريف الحضرمي في كتابه «رشفة الصادي»، وهي هذه:ا.

ص: 466


1- ينابيع المودة: ص 114، خصائص الوحي المبين.
2- رشفة الصادي: ص 25.
3- شواهد التنزيل: ج 1 ص 57-\66.
4- الصواعق المحرقة: ص 149، ينابيع المودة: ص 119، رشفة الصادي: ص 25، نور الأبصار: ص 101، إسعاف الراغبين: ص 112، عبقات الأنوار: ج 2 م 12 ص 279 عن الثعلبي في تفسيره وص 293 عن القادري الشيخاني في «الصراط السوي»، شواهد التنزيل: ج 1 ص 131 وفيه في هذا الباب أحاديث أُخرى غير هذا.

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم5.

ص: 467

رضيت علياً لي إماماً ونسله وأنت من الباقين في أوسع الحل(1)

(العاشر) أخرج الخوارزمي موفق بن أحمد عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي اللّه عنهما) قال: الصادقون في هذه الآية يعني: يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين(2) محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته. أخرجه أبو نعيم والحمويني بلفظه، وأخرجه أبو نعيم عن الصادق جعفر بن محمد، وأخرجه أيضاً وصاحب المناقب عن الباقر والرضا عليهما السلام قالا: «الصادقون هم الأئمة من أهل البيت»(3).

وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السير: معناه: كونوا مع علي وأهل بيته.

قال ابن عباس: علي سيّد الصادقين(4). وعن جماعة كأبي نعيم وابن مردويه وابن عساكر عن جابر وابن عباس وأبي جعفر، قالوا: مع علي بن أبي طالب(5).

وأخرج ابن حجر أنّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام كان إذا تلا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين يقول دعاءاً طويلاً يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين والدرجات العلية، وعلى وصف المحن وما انتحلته المبتدعة المفارقون لأئمة الدين والشجرة النبوية، ثم1.

ص: 468


1- عبقات الأنوار: ج 2 م 50-\12/51.
2- التوبة: الآية 119.
3- ينابيع المودة: ص 119، خصائص الوحي المبين: ص 136.
4- تذكرة الخواص: 10.
5- الدر المنثور: ج 3 ص 290، كفاية الطالب: ص 111.

يقول: «وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن وتأوّلوا بآرائهم واتّهموا مأثور الخبر» إلى أن قال: «فإلى من يفزع خلف هذه الأُمة، وقد درست أعلام هذه الملة ودانت الأُمة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً واللّه يقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البيّنات(1)»، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلّاأهل (أعدال - خ ل) الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتج اللّه بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفهم أو تجدونهم إلّامن فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرّأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب(2).

وأخرجه الحافظ عبد العزيز بن الأخضر عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وهو آخر الصحابة موتاً(3) ، وأخرجه الحضرمي(4) ، والسمهودي في جواهر العقدين(5) ، ثم قالا:

هم العروة الوثقى وهم معدن التُّقىوخير حبال العالمين وثيقها

وفي الباب روايات أُخرى أخرجها الحاكم الحسكاني(6).2.

ص: 469


1- آل عمران: الآية 105.
2- الصواعق المحرقة: ص 149-\150.
3- ينابيع المودة: ص 273-\274.
4- رشفة الصادي: ص 77.
5- عبقات الأنوار: ج 2 م 12 ص 278-\279.
6- شواهد التنزيل: ج 1 ص 259-262.

(الحادي عشر) أخرج ابن حجر في الآية الرابعة من الآيات التي ذكر أنّها وردت فيهم، وهي قوله تعالى: وقفوهم إنّهم مسؤولون(1) عن الواحدي: أي عن ولاية علي وأهل البيت، لأنّ اللّه أمر نبيه صلى الله عليه و آله أن يعرف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلّاالمودة في القربى، والمعنى أنّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي أو أضاعوها وأهملوها، فتكون عليهم المطالبة والتبعة؟ انتهى.

وأشار بقوله: «كما أوصاهم النبي» إلى الأحاديث الواردة في ذلك، وهي كثيرة(2). ورواه الحضرمي عن الواحدي أيضاً(3) ، وفي الباب روايات أُخرى أخرجها الحسكاني(4).

أقول: حق موالاتهم هو تصديق أقوالهم واتّباع آثارهم واتّخاذهم الأئمة في الدين، وأولى بالأنفس والأموال والاحتجاج بأحاديثهم.

(الثاني عشر) أخرج ابن حجر أيضاً في الآية الثامنة، وهي قوله تعالى:

وإنّي لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (5) عن ثابت البناني أنّه قال: اهتدى إلى ولاية أهل البيت عليهم السلام وجاء ذلك عن أبي جعفر الباقر أيضاً(6).1.

ص: 470


1- الصافّات: الآية 24.
2- الصواعق المحرقة: ص 147.
3- رشفة الصادي: ص 24.
4- شواهد التنزيل: ج 2 ص 106-\108.
5- طه: الآية 82.
6- الصواعق المحرقة: ص 151.

وأخرجه الحضرمي وقال: جعل الاهتداء إلى ولايتهم مع الإيمان والعمل الصالح سبباً لوجود المغفرة(1).

وأخرج ابن البطريق عن الحافظ أبي نعيم بسنده عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن علي عليه السلام أنّه في هذه الآية: إنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال: «إلى ولايتنا»(2)، وفي الباب روايات أخرى أخرجها الحاكم الحسكاني(3).

(الثالث عشر) أخرج القاضي: قال صلى اللّه عليه وآله: «معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب»(4).

وأخرجه الحمويني مسنداً عن المقداد والسمهودي في جواهر العقدين(5) ، وأخرجه في كتاب السبعين في فضائل أمير المؤمنين في الحديث التاسع والستين، وقال: أورده أبو إسحاق في كتابه، وأخرج تمام هذا الكتاب الشريف (كتاب السبعين) في ينابيع المودة: ص 230-241.

أقول: لا ريب في أن معنى معرفتهم ليس معرفتهم بأسمائهم وأشخاصهم، بل المراد معرفتهم بأنّهم أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله والعالمون بأحكام اللّه، وبأنّهم2.

ص: 471


1- رشفة الصادي: ص 27.
2- خصائص الوحي المبين: ص 32-\33.
3- شواهد التنزيل: ج 1 ص 375-\377.
4- الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
5- ينابيع المودة: ص 22.

مراجع النّاس في أُمورهم الدينية والدنيوية. ومن جهة أُخرى: فإنّه لا يصح هذا الحث الأكيد على معرفتهم وحبّهم وولايتهم إلّاإذا كانت مذاهبهم صحيحة واتّباعهم سبيل للنجاة والإعراض عنهم سبب للهلاك.

(الرابع عشر) أخرج الطبراني في الأوسط عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «ألزموا مودتنا أهل البيت، فإنّه من لقي اللّه عز وجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده! لا ينفع عبداً عمل عمله إلّا بمعرفة حقنا»(1). وأخرج ابن حجر(2) والشريف الحضرمي(3) ، والسيّد علي الهمداني في المودة الثانية من (مودة القربى) عن جابر والصبان(4) والنبهاني(5) وغيرهم.

(الخامس عشر) أخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه، وعن محبتنا أهل البيت»(6).5.

ص: 472


1- المعجم الأوسط ج 3، ح 3251، إحياء الميت: ح 18، مجمع الزوائد: ج 9 ص 172.
2- الصواعق المحرقة: ص 171.
3- رشفة الصادي: ص 44.
4- إسعاف الراغبين: ص 115.
5- الشرف المؤبد: ص 96.
6- المعجم الأوسط: ج 10، ح 9402، إحياء الميت: ص 115.

وأخرجه أبو المؤيّد الخوارزمي عن أبي هريرة(1) ، والحموي عن علي عليه السلام(2) نحوه. وأخرجه ابن حجر عن الطبراني في الكبير والأوسط(3) والمتقي(4) أخرجا عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة» قالا: «فيما» بدل «فيم» و «عن حبنا أهل البيت»، وأخرجه ابن المغزلي بلفظ كنز العمال والطبراني(5).

(السادس عشر) أخرج الثعلبي في تفسيره عن محمد بن أسلم الطوسي عن يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح في قبره بابان من الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه تعالى زوّار قبره ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على0.

ص: 473


1- ينابيع المودة: ص 106.
2- ينابيع المودة: ص 112.
3- مجمع الزوائد: ج 10 ص 346.
4- كنز العمال: ج 7 ص 212.
5- المناقب: ص 120.

السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه «آيس من رحمة اللّه»، آلا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة»(1).

وأخرجه الزمخشري في الكشّاف في تفسيره آية المودة، والحمويني في فرائد السمطين(2) ، والشبلنجي(3) ، والشريف الحضرمي(4) ، والصفوري مختصراً وقال: حكاه القرطبي في سورة(5) الشورى، وصاحب فصل الخطاب وروح البيان(6).

(السابع عشر) أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي برزة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربعة: عن جسده فيما بلاه، وعمره فيما أفناه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت. قيل: يا رسول اللّه، فما علامة حبكم؟ فضرب بيده على منكب علي»(7).

وأخرج أبو طالب يحيى بن الحسين بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول6.

ص: 474


1- ينابيع المودة ص: 27، 369.
2- ينابيع المودة: ص 263.
3- نور الابصار: ص 104.
4- رشفة الصادي: ص 45.
5- نزهة المجالس: ص 469.
6- ينابيع المودة: ص 27.
7- المعجم الأوسط: ج 3، ح 2212، مجمع الزوائد: ج 10 ص 346.

اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأله اللّه عز وجل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت». فقال أبو برزة: ما علامة حبكم يا رسول اللّه؟ قال: «حب هذا - \ووضع يده على رأس علي عليه السلام»(1).

(الثامن عشر) أخرج السيوطي والحضرمي عن الديلمي عن علي عليه السلام قال:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وعلى قراءة القرآن، فإنّ حملة القرآن في ظل اللّه يوم لا ظل إلّاظله مع أنبيائه وأصفيائه»(2). وأخرجه المتقي إلّاأنّه قال: «وقراءة القرآن»(3) وأخرجه ابن حجر إلّاأنّه قال «وقراءة القرآن والحديث» ولم يذكر ما بعده(4).

أقول: الأخبار في هذه المعاني كثيرة متواترة، وفيها من ضروب التأكيد والترغيب في محبة أمير المؤمنين علي والزهراء والحسنين وأولادهم عليهم السلام وذم مبغضيهم، ما يَجعل حبهم بأعظم الواجبات والفرائض، وبغضهم والإعراض عنهم بأشدّ المحرّمات، بل يجعله من أكبر الكبائر، ونعم ما قاله الشافعي:ث.

ص: 475


1- تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب: ص 73.
2- إحياء الميت: ح 46، رشفة الصادي: ص 46.
3- كنز العمال: ج 8 ص 278.
4- الصواعق المحرقة: ص 170، والظاهر زيادة الواو في «والحديث» من النسّاخ، وعليه فالحديث رمز لتمام الحديث.

يا أهل بيت رسول اللّه حبّكم

وللفرزدق في قصيدته المعروفة:

من معشر حبّهم دين وبغضهم

وأخرج السيوطي والنبهاني عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن يقترف حسنة(1) قال: المودة لآل محمد صلى اللّه عليه وآله(2).

وفي هذه الآية وآية: قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى(3) روايات كثيرة(4).

وأخرج النبهاني عن ابن مسعود: حب آل محمد يوماً خير من عبادة سنة(5).5.

ص: 476


1- الشورى: الآية 23.
2- إحياء الميت: ح 3، الشرف المؤبد لآل محمد: ص 95.
3- الشورى: الآية 23.
4- راجع كتب التفسير وشواهد التنزيل: ج 2 ص 130-\150.
5- الشرف المؤبد: ص 95.

وأخرج أيضاً عن الديلمي عن علي عليه السلام: «أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي». وأخرجه المناوي أيضاً عن الديلمي(1).

ومن المعلوم البديهي أنّ الحث على محبّتهم بهذا التأكيد واهتمام النبي صلى الله عليه و آله في بيان فضائلهم ومناقبهم وتنزيلهم منزلة نفسه في حبهم وبغضهم وسلمهم وحربهم واختصاصهم بفضائل كثيرة دون غيرهم، أقل ما يدلّ عليه هو صحة الإقتداء بهم في الأحكام الشرعية، وحجية أقوالهم وأفعالهم وحرمة الإعراض عن أحاديثهم وعلومهم.

(التاسع عشر) أخرج السيوطي في تفسير قوله تعالى: ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب(2) عن علي عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا نزلت هذه الآية قال: «ذاك من أحب اللّه ورسوله وأحب أهل بيته صادقاً غير كاذب». قال: أخرجه ابن مردويه، وأخرجه المتقي(3).

وأخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن أنس أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في هذه الآية: «أتدري من هم يا بن أُمّ سليم؟ قلت: ومن هم؟ قال:

نحن وشيعتنا»(4).

وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير في تفسير قوله تعالى: فاسئلوا أهل4.

ص: 477


1- الشرف المؤبد: ص 97، كنوز الحقائق: ص 9.
2- الرعد: الآية 28.
3- الدر المنثور في تفسير الآية من سورة الرعد، كنز العمال: ج 1 ص 251.
4- خصائص الوحي المبين: ص 114.

الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) عن جابر قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: «نحن أهل الذكر». وأخرجه الطبري في تفسيره(2).

وأخرج الحسكاني في ذلك روايات غيرها(3).

وأخرج الشارح المعتزلي عن شيخه أبي عثمان عن أبي عبيدة عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ألا أنّ الأبرار عترتي وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، ألا وأنّا أهل بيت من علم اللّه علمنا، وبحكم اللّه حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتّبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم بأيدينا، معنا راية الحق، من تبعها محق ومن تخلّف عنها غرق، ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم وبنا فتح لا بكم»(4).

وأخرجه الحافظ عمرو بن بحر في كتابه عن أبي عبيدة(5).

(العشرون) أخرج الكنجي بسنده عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقني وعلياً من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمرها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى، ومن زاغ عنها هوى، ولو أنّ عبداً3.

ص: 478


1- النحل: الآية 43.
2- ينابيع المودة: ص 119، تفسير الطبري: ج 7 ص 5.
3- شواهد التنزيل: ج 1 ص 334-\337.
4- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 92.
5- ينابيع المودة: 23.

عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام ثم لم يدرك محبتنا أكبّه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى(1)»(2). وأخرجه ابن حجر عن فضائل ابن جبر(3) ، وأخرج نحوه ابن المغازلي عن جابر(4).

وأخرج الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد مرفوعاً إلى أبي امامة الباهلي نحوه(5) ، والحمويني بسنده عن جابر بن عبد اللّه أيضاً نحوه(6).

وأخرجه الهمداني في (مودة القربى) في المودة الثامنة، وزاد: «وأشياعنا أوراقها»، وأخرجه الطبري وابن عساكر بعدة طرق عن أبي أُمامة(7).

ونحو هذا الحديث في المضمون والدلالة على نجاة المتمسّكين بهم عليهم السلام ما أخرجه أحمد في المناقب، والسمهودي في جواهر العقدين، والطبراني في معجمه الكبير، وابن عساكر في تاريخه، والنيسابوري في تفسيره، والمتّقي والصبان عن الطبراني عن أبي رافع وابن حجر وغيرهم(8).1.

ص: 479


1- الشورى: الآية 23.
2- كفاية الطالب: ص 178.
3- لسان الميزان: ج 4 ص 434.
4- المناقب: ص 90، 297.
5- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 9 ص 28-\29، شواهد التنزيل: ج 1 ص 141-\142.
6- فرائد السمطين: ص 39-\38.
7- الغدير: ج 2 ص 277.
8- راجع رشفة الصادي: ص 82، ينابيع المودة: ص 269، الصواعق المحرقة: ص 159، كفاية الطالب: ص 185، تاريخ ابن عساكر: ج 4 ص 318، لسان الميزان: ج 6 ص 263، كنز العمال: ج 6 ص 212، اسعاف الراغبين: ص 131.

(الحادي والعشرون) أخرج الديلمي في مسنده عن علي عليه السلام: «يا علي، إنّ اللّه قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك وشيعتك ولمحبي شيعتك، فأبشر فإنّك الأنزع البطين»(1). وأخرج ابن حجر نحوه(2).

وأخرج الخوارزمي أنّه صلى الله عليه و آله قال: «يا علي، إنّ اللّه قد غفر لك ولأهلك وشيعتك ومحبي شيعتك، فإنّك الأنزع البطين، منزوع من الشرك بطين من العلم».

وروى الإمام سيدنا علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام مثل ما رواه الديلمي، وقال في آخره: «منزوع من الشرك، مبطون من العلم»(3).

(الثاني والعشرون) أخرج الحافظ الزرندي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئك هم خير البريّة(4) قال لعلي: «هو أنت وشيعتك، تأتى يوم القيامة أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين. فقال: يا رسول ومن عدوى؟ قال: من تبرأ منك ولعنك. ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: رحم اللّه عليا رحمه اللّه»(5).9.

ص: 480


1- رشفة الصادي: ص 81.
2- الصواعق المحرقة: 159.
3- المناقب: ص 235، مسند الإمام علي الرضا عليه السلام المطبوع مع مسند زيد الشهيد: ص 456.
4- البيّنة: الآية 7.
5- نظم درر السمطين: ص 92-\93، الصواعق المحرقة: ص 159.

وأخرج الحاكم عن ابن عباس أيضاً قال: نزلت في علي وأهل بيته(1).

قال السيوطي في الدر المنثور في تفسيرها: أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت: إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات(2) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعلي: «أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين»، وأخرجه الشبلنجي إلى قوله: «مقمحين»(3).

(الثالث والعشرون) أخرج الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عليه السلام قال: سمعت علياً يقول: «حدّثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنا مسنده إلى صدري، فقال: يا علي، أما تسمع قول اللّه تعالى: إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين»(4).

وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ألم تسمع قول اللّه: إنّ الذين آمنوا(5) الآية، هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون2.

ص: 481


1- شواهد التنزيل: ج 2 ص 366، مجمع البيان: ج 10 ص 124.
2- البقرة: الآية 277.
3- نور الأبصار: ص 102.
4- شواهد التنزيل: ج 2 ص 356، المناقب للخوارزمي: ص 179 نحوه، الفصول المهمة لشرف الدين العاملي: ص 39، روح المعاني.
5- البقرة: الآية 62.

غُرّاً محجّلين»(1).

وفي الباب روايات كثيرة أخرجها الحاكم الحسكاني الحنفي(2).

(الرابع والعشرون) أخرج الهيثمي عن عبد اللّه بن أبي نجى أنّ علياً عليه السلام أتى يوم البصرة بذهب وفضة، فقال: «ابيضّي واصفرّي وغرّي غيري، غرّي أهل الشام غداً إذا ظهروا عليكِ. فشق قوله على الناس، فذكر ذلك له، فأذن في الناس فدخلوا عليه قال: إنّ خليلي صلى الله عليه و آله قال: يا علي، إنّك ستقدم على اللّه وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليك عدوك غضبان مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم الأقماح». رواه الطبراني في الأوسط(3).

(الخامس والعشرون) أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبي صلى اللّه عليه وآله فأقبل علي عليه السلام فقال النبي: «والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت: إنّ الذين آمنوا الآية»(4)، وأورده القندوزي في حديثٍ طويل ذكر فيه بعض فضائل علي عليه السلام عن المناقب عن أبي الزبير المكي عن جابر(5).

(السادس والعشرون) أخرج الكنجي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال:

نظر النبي صلى الله عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال: «وشيعته هم الفائزون يوم القيامة». وقال: وقد2.

ص: 482


1- الدر المنثور في تفسير الآية، روح المعاني أيضاً في تفسير الآية.
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص 356-366.
3- مجمع الزوائد: ج 9 ص 131.
4- الدر المنثور في تفسر الآية.
5- ينابيع المودة: ص 62.

سمعته من جمّ غفير بطرق مختلفة، وأخرج المناوي: «شيعة علي هم الفائزون» وأخرج أيضاً: «علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(1). وأخرج البلاذري عن أُمّ سلمة نحوه، كما أخرج عنها ابن عساكر أيضاً قالت: سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله يقول: «إنّ علياً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(2).

(السابع والعشرون) أخرج الديلمي في الجزء الأول من كتاب الفردوس في باب الألف عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنا شجرة، وفاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، والمحبّون لأهل البيت ورقها من الجنة حقاً حقاً»(3). ومر نحو ذلك عن أبي أُمامة، وفي الباب نحوه عن عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد الخدري وجابر(4).

وأنشد بعضهم شعراً في هذه الأحاديث:

يا حبّذا دوحة في الخُلد نابتة3.

ص: 483


1- كفاية الطالب: ص 175، كنوز الحقائق: ج 1 ص 150 و ج 2 ص 17.
2- أنساب الأشرف: ج 2 ص 182، و في ذيل الصفحة عن تاريخ دمشق: ج 38 ص 41 ح 851.
3- خصائص الوحي المبين: ص 141.
4- شواهد التنزيل: ج 1 ص 288-291 و 312-313.

(الثامن والعشرون) أخرج الزمخشري عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه و آله قال له:

«إذا كن يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذت شيعة ولدك بحجزتهم، فترى أين يؤمر بنا»(1).

وأخرج في ربيع الأبرار: «إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذوا ولدك بحجزتك، وأخذوا شيعة ولدك بحجزهم، فنودي أين من يؤنس بنا»(2).

وفي مسند الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام المطبوع مع مسند الإمام زيد في الباب الرابع ص 455، أخرج بالإسناد، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يا علي، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزتهم، فترى أين يؤمر بنا». قال أبوالقاسم الطائي: سألت أبا العباس بن ثعلب عن الحجزة قال: هي السبب، وسألت ابن نفطويه النحوي عن ذلك فقال: هي السبب.

(التاسع والعشرون) أخرج الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي الحنفي عن إبراهيم بن شيبة الأنصاري قال جلست إلى الأصبغ بن نباتة فقال: ألا أقرأ عليك ما أملاه على علي بن أبي طالب، فأخرج لي صحيفة فيها مكتوب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به محمد رسول اللّه صلى اللّه عليهم.

ص: 484


1- أساس البلاغة: ص 155.
2- توجد نسخة مخطوطة منه في خزانة كتب مشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام رقم 53، أخذنا منه الحديث في باب الخير والصلاح، وذكر أخبار الصلحاء وأحوالهم وما جاء فيهم وعنهم.

وآله أهل بيته وأُمته، أوصى أهل بيته بتقوى اللّه ولزوم طاعته، وأوصى أُمته بلزوم أهل بيته، وأنّ أهل بيته يأخذون بحجزة نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنّ شيعته آخذون بحجزهم يوم القيامة، وإنّهم لن يدخلوكم في باب ضلالة، ولن يخرجوكم من باب هدى»(1)، وأخرجه الشريف الحضرمي الشافعي(2).

أقول: الأحاديث الواردة في نجاة من تمسّك بهم وفي فضل شيعتهم عليهم السلام كثيرة جداً تجاوزت حدّ التواتر(3) ، وصنف فيها جمع من أعلام الشيعة والسنة كتباً مفردة.

(تنبيه) شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله والصحابة إلى العصر الحاضر على أتباع علي عليه السلام والذين اختصوا به وبأولاده، واتخذوهم أولياء واتخذوهم أئمة في الدين، وفي تبليغ الأحكام عن الرسول صلى اللّه عليه وآله، وفى تفسير القرآن والسنة، وفي سائر الأُمور، وقد نص على ذلك علماء اللغة:ث.

ص: 485


1- نظم درر السمطين: ص 243.
2- رشفة الصادي: ص 72.
3- يراجع الفصول المهمة: ص 40، ينابيع المودة: ص 63، 91، 98، 130، 257، الصواعق المحرقة: ص 230، كفاية الطالب ص 98، 135، كنوز الحقائق: ج 2 ص 193، نزهة المجالس: ص 469، أُسد الغابة: ج 1 ص 206، المناقب لابن المغازلي، أخرج فيه من أحاديث مناقبهم (467)، شواهد التنزيل الكتاب القيّم الذي لا غنى للباحث عنه، للحافظ الحنفي المعروف بالحاكم الحسكاني، قد جمع فيه مما يدل على ذلك أكثر من (1160) حديث.

قال الجوهري في الصحاح: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره. وقال الفيّومي في المصباح: الشيعة: الأتباع والأنصار. وقال الراغب: من يتقوّى بهم الإنسان وينتشرون عنه. قال الفيروزآبادي في القاموس: وشيعة الرجل - \بالكسر - \ أشياعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولّى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً.

وقال ابن منظور في لسان العرب: الشيعة: اتباع الرجل وأنصاره، جمعها شيع وأشياع (إلى أن قال:) قد غلب هذا الاسم على من يتولّى علياً وأهل بيته (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم، وأصل ذلك من المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة. وقال الأزهري: والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى الله عليه و آله ويوالونهم.

وذكر نحوه ابن الأثير في النهاية.

وقال الشيخ أبو محمد الحسن النوبختي في الفرق والمقالات المطبوع في إستانبول: الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون بشيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه و آله، وما بعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(1).

وقال أبو حاتم السجستاني في الجزء الثالث من كتاب «الزينة»: أنّ لفظ الشيعة كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله لقب أربعة من الصحابة: سلمان وأبي ذر9.

ص: 486


1- نقض الوشيعة: ص 39.

والمقداد وعمّار(1).

وقال علي بن محمد الجرجاني في كتاب «التعريفات» في باب الشين:

الشيعة هم الذين شايعوا علياً (رضي اللّه عنه) وقالوا: أنّه الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده.

ومما ذكرنا يظهر الأحاديث المذكورة على أن الشيعة اسم أطلقه النبي صلى اللّه عليه وآله على جماعة خاصة من أُمته، وهم أتباع علي عليه السلام وأشياعه ومن اتخذه ولياً واقتفى أثره وأثر ولده، ويتأسّى ويقتدى به وبأولاده الأئمة في عقائده وأعماله. ولا معنى لهذا إلّاكونهم أئمة في الدين وأولياء الناس بتعيين رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكون الأخذ بأقوالهم والعمل بفتاواهم في الفروع والأُصول سبباً للنجاة في الدارين.

وليس المراد منها كل من يحب علياً ولا يبغضه، فإنّ مجرد ذلك لا يصحّح إطلاق الشيعة عليه ولا يختصه بأهل البيت، فلا يقال لمن يحب أحداً أنّه من شيعته إلّاإذا اقتدى به وتولّاه وتابعه وشايعه والتزم بمتابعته ومشايعته، كما لا ينتمي من أخذ العلم عن جميع العلماء إلى واحد منهم إلّاإذا كان له اختصاص به.

ولا ريب في أنّه ليس في فِرَق المسلمين وطوائفهم فرقة تنتمي إلى أهل البيت غير الشيعة، ولا شبهة في إضافة علومهم وفقههم إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، كمالا شبهة في صحة إضافة فقه الحنابلة إلى أحمد بن حنبل والحنفية إلى أبي حنيفة والشافعية إلى الشافعي والمالكية إلى مالك. فكما لا يجوز لأحد إنكار9.

ص: 487


1- المصدر السابق: ص 39.

صحة حكاية فقه المذاهب الأربعة بين أهل السنة عن مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، لاستفاضة الفتيا عنهم، لا يجوز أيضاً لأحد إنكار صحة فقده المذهب الجعفري وما عند الإمامية من الحديث والعلم، وصحة انتمائه إلى جعفر بن محمد وآبائه وأولاده الأئمة عليهم السلام، سيما مع استفاضه كونهم من أجله أهل العلم والفتيا في جميع الأحكام وتواتر ذلك بين المسلمين، ومعروفية فتاواهم ومذاهبهم بين الشيعة دون غيرهم من الفرق.

(الثلاثون) أخرج شيخ الإسلام إبراهيم بن محمد الحمويني الشافعي في حديثٍ بإسناده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكر فيه بعض فضائل علي عليه السلام (إلى أن قال): «والحسن والحسين إماما أُمتي بعد أبيهما وسيدا شباب أهل الجنة، وأُمهما سيدة نساء العالمين، وأبوهما سيد الوصيين، ومن ولد الحسين تسعة تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، إلى اللّه أشكو المنكرين لفضلهم والمضيعين لحرمتهم بعدي، وكفى باللّه ولياً وناصراً لعترتي وأئمة ومنتقماً من الجاحدين حقهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(1)»(2).

(الحادي والثلاثون) أخرج القندوزي عن المناقب بالإسناد عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبداللّه الأنصاري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حديثاً ذكر فيه أيضاً بعض فضائل علي عليه السلام (إلى أن قال): «وزوجته الصدّيقة الكبرى ابنتي، وابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي، وهو وهما والأئمة من3.

ص: 488


1- الشعراء: الآية 227.
2- فرائد السمطين: ص 42-\43.

بعدهم حجج اللّه على خلقه بعد النبيين، وهم أبواب العلم في أُمتي، من تبعهم نجا من النار ومن اقتدى بهم هدى إلى صراط مستقيم، لم يهب اللّه محبتهم لعبد إلّاأدخله الجنة»(1).

(الثاني والثلاثون) أخرج الزمخشري بإسناده قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها امناء ربّي، وحبل ممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا ومن تخلّف عنهم هوى»(2).

(الثالث والثلاثون) أخرج الحمويني والخوارزمي مسنداً والهمداني في (مودة القربى) عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي قال: دخلت على النبي صلى الله عليه و آله، فإذا الحسين بن علي على فخذيه، وهو يقبّل خدّيه ويلثم فاه ويقول:

«أنت سيّد ابن سيّد أخو سيّد، وأنت إمام ابن إمام أخو إمام، وأنت حجة ابن حجة أخو حجة، وأنت أبو حجج تسعة تاسعهم قائمهم المهدي»(3).

(الرابع والثلاثون) أخرج الهمداني في (مودة القربى) في المودة العاشرة عن أصبغ بن نباتة عن عبد اللّه بن عباس قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون»،4.

ص: 489


1- ينابيع المودة: ص 62-\63.
2- كشف الحق ونهج الصدق: المبحث الرابع من المسألة الخامسة، ينابيع المودة: ص 82، وأخرجه الحمويني بسنده إلّاأنّه قال: «وحبله الممدود».
3- ينابيع المودة: ص 168 و 445، كشف الأستار: ص 61، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: ج 1 ص 94.

وأخرجه الحمويني(1).

(الخامس والثلاثون) أخرج الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن عباية بن ربعي عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أنا سيد النّبيّين، وعلي سيد الوصيين، وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم علي وآخرهم المهدي»(2). وأخرجه في (مودة القربى) في المودة العاشرة.

(السادس والثلاثون) أخرج الحمويني في فرائد السمطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على الخلق بعدي الاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي. قيل: يا رسول اللّه، ومن أخوك؟ قال: علي ابن أبي طالب. قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق بشيراً! لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، ينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربّها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»(3)، وأخرجه في روضة الأحباب في ذكر الإمام الثاني عشر(4).

(السابع والثلاثون) أخرج القندوزي عن المناقب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة - \وهو آخر من مات من الصحابة - \عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:8.

ص: 490


1- ينابيع المودة: ص 258 و 445.
2- ينابيع المودة: ص 258 و 445، كشف الأستار: ص 74.
3- عبقات الأنوار: ج 2 م 12/237، ينابيع المودة: ص 447.
4- عبقات الأنوار: ج 2 م 237-\12/238.

«أنت وصيي، حربك حربي وسلمك سلمي، وأنت الإمام أبو الأئمة الأحد عشر الذين هم المطهّرون المعصومون، منهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فويل لمبغضيهم. يا علي، لو أنّ رجلاً أحبك وأولادك في اللّه لحشره اللّه معك ومع أولادك، وأنتم معي في الدرجات العلى، وأنت قسيم الجنّة والنّار، تدخل محبيك الجنة ومبغضيك النار»(1).

(الثامن والثلاثون) أخرج القندوزي عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من أحب أن يركب سفينة النجاة ويستمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل اللّه المتين، فليوال علياً وليعاد عدوه، وليأتم بالأئمة الهداة من ولده، فإنهم خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على خلقه من بعدي وسادات أُمتي وقوّاد الأتقياء إلى الجنة، حزبهم حزبي وحزبي حزب اللّه، وحزب أعدائهم حزب الشيطان»(2)، وأخرجه الهمداني في (مودة القربى) في المودة العاشرة(3).

وأخرج أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري الخركوشي في (شرف المصطفى) عن علي عليه السلام أنّه قال: «فيكم من يخلف من نبيكم صلى الله عليه و آله، ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا، وهم الدعاة، وهم النجاة، وهم أركان الأرض، وهم النجوم، بهم يستضاء من شجرة طاب فرعها وزيتونة طاب (بورك - ظ) أصلها، نبتت في الحرم وسقيت من كرم، من خير مستقر إلى خير مستودع،8.

ص: 491


1- ينابيع المودة: ص 85.
2- ينابيع المودة: ص 445.
3- المصدر السابق: ص 258.

من مبارك إلى مبارك، صفت من الأقدار والأدناس ومن قبيح ما نبت به شرار الناس، لها فروع طوال لا تنال، وحسرت عن صفاتها الألسن، وقصرت عن بلوغها الأعناق، فهم الدعاة وبهم النجاة، وبالناس إليهم حاجة، فاخلفوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بأحس الخلافة، فقد أخبركم أنهم والقرآن الثقلان وأنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فالزموهم تهتدوا وترشدوا ولا تتفرقوا عنهم ولا تتركوهم فتفرقوا وتمرقوا»(1).

(التاسع والثلاثون) أخرج الديلمي في حديث عن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال: «فمن سره أن يلقى اللّه وهو عنه راض فليتول علياً وعترته، فإنهم أوليائي ونجبائي وأحبّائي وخلفائي»(2).

(الأربعون) أخرج الحافظ أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس (ت 412) في أربعينه بإسناده حديثاً طويلاً، وهو الحديث الرابع من أربعينه، ذكر فيه أسماء الأئمة الاثني عشر من الإمام علي ابن أبي طالب إلى المهدي محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وذكر فضيلة موالاة كل واحد منهم واتخاذهم أولياء(3).9.

ص: 492


1- عبقات الأنوار: ج 2 م 265-\266 ص 12.
2- عبقات الأنوار: ج 2 ص 239 ح 12.
3- يراجع كتاب الأربعين للحافظ أبي الفتح، ومقدّمتنا على كتاب مقتضب الأثر ص يب يج وكتابنا منتخب الأثر: ج 1 ب 8 ح 30 ص 120، عبقات الأنوار: ج 2 م 253-\254 ص 12، كشف الأستار: ص 27-\29.

ومن الروايات الواردة فيهم الدالة على وجوب التمسّك بهم والمصرحة بعددهم وأسمائهم، ما أخرجه القندوزي عن واثلة وصاحب فرائد السمطين عن عمر بن سلمة(1) ، وشارح غاية الأحكام عن أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام(2) ، وصاحب روضة الأحباب والمناقب(3) عن جابر، والخوارزمي بسنده عن أبي سلمى راعى إبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وبسنده عن علي عليه السلام(4) ، والحمويني في حديث مناشدة أمير المؤمنين علي عليه السلام(5) وغيرها.

***

أقول: الأحاديث في إرجاع الأُمة إلى أهل البيت وفي التصريح بأسماء الأئمة الاثني عشر كثيرة متواترة، لا يمكن في مثل هذا الكتاب استقصاؤها، وإنما ذكرنا منها - \مضافاً إلى أحاديث الثقلين والسفينة والأمان - \هذه الأحاديث الأربعين تبركاً، ولما نقله الحافظ أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس في أوّل أربعينه عن الشافعي بعد ذكر حديث «من حفظ عني من أُمتي أربعين حديثا كنت له شفيعا» أن المراد من هذه الأربعين مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ونقل بإسناده عن أحمد بن حنبل أنه قال: خطر ببالي من أين صح عند الشافعي، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وآله في النوم.2.

ص: 493


1- ينابيع المودة: ص 442-\443، عبقات الأنوار: ج 2 م 12 ص 240.
2- كشف الأستار: ص 74.
3- عبقات الأنوار: ج 2 م 238 ص 12.
4- مقتل الحسن عليه السلام: ج 1 ص 94-\95، ينابيع المودة: 485-\487.
5- عبقات الأنوار: ج 2 م 265 ص 12.

وهو يقول: شككت في قول محمد بن إدريس عن قولي: من حفظ من أُمتي أربعين حديثاً في فضائل أهل بيتي كنت له شفيعاً يوم القيامة، أما علمت أنّ فضائل أهل بيتي لا تحصى؟.

من أراد الاطّلاع على طائفة من هذه الأحاديث فعليه بكتابنا منتخب الأثر، فقد أخرجنا فيه ما يزيد على 270 من الأحاديث المروية في الأئمة الاثني عشر من طرق الفريقين، وما كتبناه مقدمة على كتاب مقتضب الأثر للعلامة المحدّث ابن العيّاش الجوهري (ت 401).

وليراجع أيضا الكتاب القيّم ينابيع المودة، ومودة القربى، والمناقب للخوارزمي، وفرائد السمطين للحمويني، ونظم درر السمطين للزرندي، وجواهر العقدين للسمهودي، والفصول المهمة لإبن الصبّاغ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي، وتذكرة الخواص، والصواعق المحرقة، ووفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ص 73، وحسن التوسل بهامش الاتحاف ص 74، ورشفة الصادي ص 28 تفسيراً لآية النور، والمناقب لإبن المغازلي، وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني، وغير ذلك من جوامع الحديث والصحاح والمسانيد والتفاسير والتواريخ مما جاء أسماؤها في كتاب عبقات الأنوار. فإنك إن سبرت هذه الكتب وكتبا عبقات الأنوار تجد في هذه المعاني روايات كثيرة.

وقد أفرد العلامة محمد معين السندي مؤلف «دراسات اللبيب في الأُسوة بالحسنة الحبيب» كتاباً أسماه «مواهب سيد البشر في حديث الأئمة الاثني

ص: 494

عشر»(1).

كما قد ذكر فضائلهم جمع من الأعلام وأرباب التراجم، وقد أفردوا في ذلك كتباً عديدة.

وأما الإمامية فأفردوا في ذلك كتباً كثيرة لا يستغني الباحث عنها، فممن صنف منهم في ذلك: الشيخ الجليل الثقة الثبت أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزار الرازي من أعلام القرن الرابع الهجري، فصنف كتابه القيّم «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر»، وأخرج فيه في ذلك بأسانيده وطرقه المعتبرة عن جماعة من الصحابة كأمير المؤمنين علي والحسن والحسين عليهم السلام وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وعمار وجابر بن سمرة وأبي ذر وسلمان وجابر بن عبد اللّه وزيد بن ثابت وأُمّ سلمة وغيرهم.

ومما يؤيّد هذه الأحاديث روايات أُخرى أخرجها في غير هذه الأبواب جمهرة من علماء الفريقين. وقد صنف في كراماتهم ومناقبهم وما سمع منهم من العلم والحديث من عصر الصادقين بل من النصف الثاني من القرن الأول كتباً لا).

ص: 495


1- قد صرّح هذه العلّامة المحقّق بحجية مذهب أهل البيت وبطلان كل إجماع على خلافهم، فقال في كتابه "دراسات اللبيب" في مسألة الجمع بين الصلاتين: وممن لم يحمل جواز الجمع في الحضر على أدنى حاجة واتّخذه مذهباً من غير عذر رأساً، الإمام الحق الصدق الصديق الصادق (رضي اللّه عنه)، ومذهب واحد منهم مذهب باقيهم كما قال أبوه محمد باقر حقائق الوجود كله، على ما نقله ابن الهمام في "فتح القدير" لما سئل في مسألة هل يوافقه فيه علي بن أبي طالب (رضى اللّه تعالى عنه)؟ يصدر أهل بيته إلّاعن رأيه، ولو فرضنا وجود إجماع على خلاف هذا الحديث، فلا إجماع بمخالفة أهل البيت... إلخ (عبقات الأنوار: ج 2 م 306 ص 12).

يسع هذا المختصر سرد أسمائها، فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بمطالعة أجزاء كتاب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة».

وأقل ما يستفاد من هذه الأحاديث هو حجية أقوال أهل البيت ومذاهبهم في الفقه والعلوم الشرعية ووجوب الرجوع إليهم وإلى أحاديثهم ونجاة من تمسّك بهم. وقد عرفت مما أسلفنا أنّ ما بيد الشيعة في الفقه والأحكام الشرعية وما في جوامعهم مأخوذ من أهل البيت عليهم السلام لا ريب في ذلك، فلا يعرف مذاهبهم ولا يؤخذ علومهم إلّامن كتب الشيعة، وهذا أمر واضح يعرفه كل منصف متتبّع خبير.

***

ونختم الكلام بإيراد بعض الكلمات الصادرة عن إمام البلغاء وسيّد الفصحاء نفس الرسول وسيف اللّه المسلول، قائد البررة وقاتل الكفرة، ولي كل مؤمن ومؤمنة، أمير المؤمنين أبي الحسن والحسين علي بن أبي طالب عليه السلام في شأن أهل البيت ووجوب الاقتداء بهم:

1 - \فمن ذلك قوله عليه السلام في خطبته في مدح النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بجامع الكوفة: «فنحن أنوار السماوات والأرض وسفن النجاة، وفينا مكنون العلم وإلينا مصير الأُمور، وبمهديّنا تقطع الحجج، فهو خاتم الأئمة ومنقذ الأُمة ومنتهى النور»(1).

2 - \وقال عليه السلام: «موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه8.

ص: 496


1- تذكرة الخواص: ص 138.

وكهوف كتبه وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه - إلى أن قال -: لا يقاس بآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذه الأُمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله»(1).

3 - \وقال عليه السلام: «تاللّه لقد علمت تبليغ الرسالات وإتمام العدات وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر، ألا وإنّ شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة، من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضل وندم»(2).

4 - \وقال عليه السلام: «أُنظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم واتبعوا أمرهم، فلم يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(3).

5 - \وقال عليه السلام: «وأنّى تؤفكون، والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، وأنزلوهم بأحسن منازل القرآن(4) ،ن.

ص: 497


1- نهج البلاغة: خ 2.
2- نهج البلاغة: خ 118.
3- نهج البلاغة: خ 93.
4- في شرح الشيخ محمد عبده: أي أحلوا عترة النبي من قلوبكم محلّاً من التعظيم والاحترام، وإنّ القلب هو أحسن منازل القرآن.

وردوهم ورود الهيم العطاش(1) ، أيّها الناس خذوها من خاتم النبيين صلى الله عليه و آله:

«أنّه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلي منّا وليس ببال، فلا تقولوا بمالا تعرفون، فإنّ أكثر الحق فيما تنكرون، واعذروا من لا حجة لكم عليه، وأنا هو ألم اعمل فيكم بالثقل الأكبر(2) وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، واديتكم كرائم الأخلاق من نفسي»(3).

6 - \وقال في وصف النبي صلى اللّه عليه وآله: «أرسله بأمره صادعاً وبذكره ناطقا، فأدى أميناً ومضى رشيداً، وخلّف فينا راية الحق، من تقدّمها مرق ومن تخلف عنها زهق ومن لزمها لحق(4) ، دليلها مكيث الكلام بطئ القيام سريع إذا قام - إلى أن قال -: ألا إنّ مثل آل محمد صلى اللّه عليه وآلهب.

ص: 498


1- في الشرح المذكور: هلمّوا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم - \إي الإبل العطشى - \إلى الماء.
2- في الشرح المذكور أيضاً: الثقل بمعنى النفيس من كل شيء وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» أي النفيسين، وأمير المؤمنين قد عمل بالثقل الأكبر وهو القرآن وترك الثقل الأصغر وهو ولداه - \ويقال عترته - \قدوة للناس.
3- نهج البلاغة: خ 83.
4- قال ابن أبي الحديد في شرحه: راية الحق الثقلان المخلّفان بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وهما الكتاب والعترة، وقال: «دليلها مكيث الكلام» يعني نفسي عليه السلام، لأنّه المشار إليه بالعترة وأعلم الناس بالكتاب.

كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم»(1).

7 - \وقال عليه السلام: «نحن شجرة النبوة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبّينا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضينا ينتظر السطوة»(2).

8 - \وقال عليه السلام: «فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده! لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة، إلّاأنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت منهم موتاً»(3).

9 - \وقال عليه السلام، وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر: إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً (إلى أن قال في آخر هذه الخطبة): «وليس كل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من كان يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ، فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلّاسألت عنهر.

ص: 499


1- نهج البلاغة: خ 96.
2- نهج البلاغة: خ 109.
3- نهج البلاغة: خ 93 و 189، وفي الرياض النضرة: ج 2 ص 262 عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً يقول: سلوني، واللّه لا تسألوني عن شيء إلّاأخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه، فواللّه ما من آية إلّاوأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم جبل. أخرجه أبو عمر.

وحفظته»(1).

10 - \وقال: «أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً، أن رفعنا اللّه ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى»(2).

11 - \وقال عليه السلام: «وإنّما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلّامن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّامن أنكرهم وأنكروه»(3).

12 - \وقال عليه السلام: «نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلّامن أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً (ومنها) فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا»(4).

13 - \وقال عليه السلام: «هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم يخالفون الحق ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل».4.

ص: 500


1- نهج البلاغة: خ 210.
2- نهج البلاغة: خ 144.
3- نهج البلاغة: خ 152.
4- نهج البلاغة: خ 154.

14 - \أخرج ابن سعد عن جبلة بنت المصفّح عن أبيها قال: قال لي علي عليه السلام: «يا أخا بني عامر سلني عما قال اللّه ورسوله، فإنّا نحن أهل البيت أعلم بما قال اللّه ورسوله»، قال: والحديث طويل(1).

***

هذا آخر ما كتبناه حول وجوب الأخذ بأحاديث جوامع الشيعة وحجية أقوال أئمتهم عليهم السلام، ووجوب التمسّك بهم قبل عشر سنين، فجدّدت النظر فيه ولخّصته وأعددته للطبع طلباً لمرضاة اللّه تعالى ومرضاة رسوله صلى اللّه عليه وآله.

والرجاء ممن يطّلع عليه إن رأى فيه هفوة أن يتجاوز عنّي ويدعو لي ليغفر لي ربي هفوتي وذنوبي ويستر عيوبي ويحشرني ووالدي وجميع أساتذتي ومشايخي وأهلي وأولادي في زمرة المتمسّكين بولاية أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

إن تجد عيباً فسد الخللاجلّ من لا عيب فيه وعلا

وكان إتمام ذلك في السادس عشر من ربيع الثاني من سنة 1389 ه، ثم أجّلت النظر فيه واستنسخته وراجعت مصادره ومآخذه ثالثاً، وزدت عليه في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن من شهور سنة 1394 ه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني4.

ص: 501


1- الطبقات الكبرى: ج 6 ص 24.

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).

يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14

موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

موضوع:شیعه -- دفاعیه ها

موضوع:Shi'ah -- Apologetic works

موضوع:شیعه -- ردیه ها

موضوع:Shi'ah -- Controversial literature

شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی

رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397

رده بندی دیویی:297/212

شماره کتابشناسی ملی:5308292

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الثالث

الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغيّر

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي جعل دين الإسلام خاتم الشرائع والأديان، وضمن صيانة أحكامه عن النسخ والتغيير في جمع الأدوار والأزمان، والصلاة والسلام على خير من أرسله لهداية نوع الإنسان، سيّدنا أبي القاسم محمد المنزل عليه القرآن، وعلى آله الطيبين الطاهرين أُمناء الرحمن.

قال اللّه تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإِنَّ كثيراً مِنْهُمْ لَفَاسِقُونَ](1).

قال اللّه تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ](2).

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديثُ عنّي وهو متكِئٌ

ص: 7


1- المائدة: الآية 49.
2- المائدة: الآية 50.

على أَريكَتِه فيقول: بيننا وبينكم كتابُ اللّه فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإنَّ ما حرّم رسول اللّه كما حرَّم اللّه»(1).

وذكر عند ابن عباس الضب، فقال رجل من جلسائه: أُتي به رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلم يحلِّه ولم يحرّمه، فقال: «بئس ما تقولون، إنّما بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله محللاً ومحرّماً»(2).

الإسلام دين إلهي عالمي لجميع العصور

من الأُمور التي لاريب فيها والتي اتفق عليها المسلمون، ودلَّت عليها البراهين المحكمة العقلية والسمعية أنّ الإسلام دينٌ عالميٌّ لنوع الإنسان كافة، ولجميع الأعصار والأزمان، وأنّه أقوم الأديان وأوضحها، وأوسط الطرق وأشملها، وأنّه صالحٌ لإدارة المجتمع الإنساني دائماً، فكلّما يمضي عليه الزمان لاتسبقه الحضارات والمدنيات، ولايتأخّر عن العلم والتكنيك، فهو يقود البشرية ويهديها إلى الرشد والكمال، فلايوجد باب إلى خير الإنسان وفلاحه وسعادته، إلّا وقد فتحه عليه، ولا يوجد باب يؤدي إلى الشقاء والبوار والتبار، إلّاوقد أغلقه عليه.

قد تكفّل وشمل بسعة تعاليمه وأحكامه وشرائعه جميع ما يحتاج إليه البشر من النظم المادية والمعنوية، والروحية والجسمية، الفردية والإجتماعية، وغيرها

ص: 8


1- سنن الترمذي: ح 2664، كتاب العلم، باب 10.
2- الحديث المسند: ج 1 ص 294 و 345.

مما هو مبيّن بالكتاب والسنة، فقد أنزله اللّه تعالى ليكون دين الجميع ودين العالم كله، ودين الأزمنة والأعصار كلها، ورفع به جميع ما يمنع الإنسان عن الرُّقي والتقدّم السليم الحكيم، وحرّر به الإنسان عن رقيّته السيئة المخزية، وأخرجه من ذلّ عبادة الطواغيت المستكبرين وحكومة الجبّارين، وأدخله في عز حكومة اللّه تعالى خالق الكون ورب العالمين، وهتف به وناداه أنّه لا فضل لعربي على عجمي، وأنّ كل الناس عالمهم وجاهلهم، غنيهم وفقيرهم، قويَّهم وضعيفهم أمام الحق سواء، وأنّ أكرمهم عند اللّه أتقاهم، وأنّ الدار الآخرة للذين لايريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين، وأنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وهذا قَبَسٌ قَليلٌ من الإسلام الذي ختم اللّه به الأديان، دين اللّه الخاتم، دين الفطرة ودين الحياة، دين العلم والعدل والإنصاف وكرائم الأخلاق، دينٌ كله نظام: نظام العقيدة الصحيحة الخالصة من الخرافات، نظام الآداب الحسنة، نظام العبادة للّه تعالى، نظام الحكومة والسياسة، نظام المال والإقتصاد، نظام الزواج والعائلة والأحوال الشخصية، نظام التعليم والتربية الرشيدة، نظام القضاء وفصل الخصومات، نظام الحقوق والمعاملات، نظام الصلح والحرب، ونظام كل الأُمور، فهو عقيدةٌ وشريعةٌ، وسياسةٌ وحكومة.

نظام لاينسخ ولا يزول ولا يتغيّر أبداً؛ لأنّ اللّه تعالى ختم به وبالمرسل به، سيّدنا وسيّد الخلق أجمعين، وسيّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله، النبوّات والرسالات، فلاشريعة بعده ولاكتاب ولانبوَّة، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.

ص: 9

ولاريب أنّ معنى خاتمية الدين بقاء أحكامه الخمسة من الكراهة والندب والإباحة والوجوب والإستحباب، وأحكامه سواء كانت أحكام موضوعات بعناوينها الأولية مثل حرمة أكل الميتة، أو بعناوينها الثانوية مثل جواز أكل الميتة في حال الإضطرار، وسواءكانت من الأحكام الظاهرية أو الواقعية، على ما بُيِّن تعريفها في علم أُصول الفقة، وهكذا أحكامه الوضعية كالزوجية والملكية والولاية والحكومة وغيرها، سواء قلنا بأنّ الوضعية منها متأصلة بالتشريع والجعل الإلهي، أو منتزعة من الحكم التكليفي الشرعي.

فهذه الأحكام بجملتها وبكل واحد منها مصونةٌ عن التغيير والتبديل، فلاتنالها يد الإنسان كائناً من كان بتغيير ولاتبديل، لا لأنّها أحكام خالدة حَكَم اللّه تعالى بخلودها وبقائها ما بقي من الإنسان كائن حي فحسب، بل لأنّه مضافاً إلى ذلك ليس لغير اللّه تعالى - على أساس الإيمان بالتوحيد وبصفات اللّه الكمالية التي هو سبحانه متفرد بها - صلاحية التشريع والحكم، والولاية على غيره، بل وعلى نفسه.

فالنظام المؤمن باللّه تعالى لايعدل عن أحكام اللّه تعالى، ولايرى لشعبه ولالقيادته حق التشريع، ولايتخذ حاكماً وولياً من دون اللّه، بل يقدّس اللّه وينزّهه عن أن يكون له شريك في الحاكمية والمشرِّعية، وذلك بخلاف مبادئ الأنظمة المشركة الملحدة، التي من مبادئها أنّ الحكومة ووضع القوانين والأنظمة حق للشعب والأكثرية دون اللّه تعالى، ولا فرق بينها وبين حكومات الطواغيت الماضية والأنظمة المَلكية المطلقة في الشرك ونفي حاكمية اللّه تعالى، إلّاأنّ هؤلاء المؤمنين بالديمقراطية يرون الحاكمية والإستبداد بالأمر، وتشريع البرامج

ص: 10

والنظم السياسية والقضائية وغيرها حقاً للشعب والناس، والحكومات الديكتاتورية الطاغوتية تراها للديكتاتور الطاغوت، فهذه حكومة طاغوتية جَماعية خارجة عن حكومة اللّه تعالى، وهذه حكومة طاغوتية استبدادية فردية، وكل منهما ليست من الحكومات الشرعية المؤمنة باللّه تعالى وحكومته وأحكامه وشرائعه.

ولايخفى عليك أنّ صيانة الأحكام الإلهية عن تصرّف أفراد البشر بالنسخ والتغيير والتبديل خصيصة عامة لجميع الشرائع والأديان السماوية، فلا ولاية لأحد على تغيير حكم من أحكام اللّه، نعم عدم جواز نسخ الأحكام من جانب اللّه تعالى كما في الشرائع السابقة خصيصة اختص بها دين الإسلام؛ لأنّه خاتم الأديان والشرائع، وأفضلها وأقومها، فلانبوة ولانبي بعده كما جاء في الخبر المتواتر عن الرسول صلى الله عليه و آله إنّه قال لعلي عليه السلام: «أنت منِّي بمَنْزلة هارون منْ مُوسى إلّاأَنه لانبيَّ بَعْدي» وفي لفظٍ: «إلّا أَنَّه لانُبُوَّةَ بَعْدي»(1).

والخاتمية سرّها وباطنها وعلتها أكملية الدين، فالدين الخاتم، يجب أن يكون أكمل الأديان، كما أنّ الأكمل لابد وأن يكون الخاتم؛ لأنّه نهاية الغرض والحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، فلا رسالة بعده. فالرسالة المحمدية هي تمام الرسالات وكمالها، وجاء بها نبينا الأعظم سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وما أحسن ما قيل بالفارسية:8.

ص: 11


1- الحديث متواتر رواه الفريقان؛ للمزيد راجع: شرح إحقاق الحق: ج 5 و 16، ونفحات الأزهار: ج 17 و 18.

نام أحمد نام جمله أنبيا است چونكه صد آمد نودهم پيش ما است

نعم جاء برسالته صلى الله عليه و آله عندما بلغ المجتمع الإنساني بلوغه الصالح لتحمل هذه الرسالة والعمل بها، ومهما تتقدّم العلوم والمعارف، وتتقارب البلدان وتسير إلى الأمام والوحدة الإجتماعية والسياسية، يتكامل هذا البلوغ والصلاحية.

وجدير بالذكر: أنّ هذا الأساس والعقيدة عند المسلمين، بأنّ الأحكام مصونة عن التغيير والتبديل، كان من أدلّ الأدلّة لرد المتجاوزين والمتعدّين حدود اللّه وأحكامه، ونفي إبطال المبطلين طوال أربعة عشر قرناً.

ولو لم نحتفظ بهذا الأصل الأصيل، ولم ننكر على من يتخلّف عنه أو يقول باختصاصه بالنصوص القرآنية، أو باختصاصه بغير الأُمور الدنيوية والمالية، لرأينا الدين غير الدين والملة غير الملة، ولتلاعب أهل الأهواء والآراء في كل عصر بلعب جديد يوافق بزعمهم مزاج العصر.

ومن هذه التلاعبات مقالٌ نُشِر في مجلة «العربي» الكويتية العدد 379 ص 33 ذوالعقدة 1410 ه يونيو 1990 م. تحت عنوان «الفتاوى والأحكام الإسلامية بين التغيّر والثبات» بقلم الدكتور عبدالمنعم النمر، نلفت أنظار الباحثين الأعزّاء إلى الأُمور التالية فيه:

الأمر الأوّل: الخلط بين الحكم الشرعي والفتوى.

الأمر الثاني: التفصيل بين الأحكام في الثبات والتغيّر.

الأمر الثالث: أحكام المعاملات.

الأمر الرابع: هل أنّ أحكام المعاملات إلهية أو اجتهادات من الرسول صلى الله عليه و آله.

ص: 12

الأمر الخامس: النبي والاجتهاد.

الأمر السادس: الأحكام كليتها وجزئيتها.

الأمر السابع: فتاوى السابقين لا حصانة لها.

الأمر الثامن: الآراء والأحكام البشرية.

الباب التاسع: باب الاجتهاد مفتوح للجميع إلى يوم القيامة.

الباب العاشر: الأحكام الحكومية.

الباب الحادي عشر: بعض الأمثلة فى الفتاوى والأحكام الإلهية.

ص: 13

ص: 14

الأمر الأوّل: الخلط بين الحكم الشرعي والفتوى

قال: «ليس لكل الأحكام والفتاوى الإسلامية حصانة من تغيّرها حسب الزمان والمكان، والظروف التي تمر ببيئة المسلم ومجتمعه».

فتراه خلط بين الحكم والفتوى ولم يفرق بينهما، مع أنّ الأحكام الشرعية لاتتغير وهي ثابتة باقية، وفعليتها متقوّمة بوجود موضوعاتها في الخارج، كما أنّها باقية ببقائها، سواء في ذلك أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الشرائع السابقة، غير أنّ الثانية قد نالتها يد النسخ دون الأُولى، فلاتنالها يد النسخ أبداً لخاتمية دين الإسلام، فلايأتي بعده حكم جديد من السماء، وحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

نعم لو أراد بالحكم الأحكام السلطانية الموقتة المنشأة في موارد الضرورة وتزاحم الأحكام والتي يدور بقاؤها مدار الضرورة التي أوجبتها، لصح ذلك؛

ص: 15

لأنّها بطبيعتها تقتضي التغيّر، ولكن الظاهر من كلامه إرادة غير ذلك أو الأعم من ذلك، أو القول بكون الأحكام كلها إلّاما كان منصوصاً عليه في القرآن من الأحكام السلطانية، فلايكون ما صدر عن الرسول صلى الله عليه و آله من الأحكام الشرعية.

وإن أراد من الحكم الأحكام القضائية فهي وإن كانت تقبل التغيير والنقض أيضاً كما هو مذكور في كتاب القضاء كما لو تبيّن للقاضي خطؤه، إلّاأنّ كلامه لايشمل ذلك، والظاهر من كلامه نفي كلية حصانة جميع الأحكام الشرعية عن التغيير، والقول بتغييرها في الجملة على نحو الموجبة الجزئية، ولكن العقل والنقل والضرورة وخاتمية الدين تدلّ على عدم جواز وقوع أي تغيير في الأحكام الشرعية، فلايجمع بينها وبين الفتاوى بنفي الحصانة عنها، والحكم بجواز تغييرها في الجملة.

وأما الفتوى التي هي نتيجة اجتهاد المجتهد ونظره في الأدلّة من العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبيّن، والأُصول اللفظية، والأُصول العملية وغيرها، واستنباط حكم الشرع منها فهي قابلة للتغيير، وليس من لوازمها الثبات، لعدم حصانة المجتهد من الإشتباه والخطأ في اجتهاده، فربّما يفتي المجتهد مثلاً بإطلاق أو عموم، أو بالبراءة من التكليف لعدم عثوره على مقيّد للإطلاق أو مخصّص للعموم، أو دليل على التكليف مع الفحص المتعارف، ثم يطلع على الدليل المقيّد للإطلاق، أو المخصّص للعموم، أو الدال على التكليف مما يستظهر به خطؤه وبطلان فتواه، فيرجع لامحالة عن فتواه الأُولى ويتغيّر رأيه لا من جهة أنّ الحكم الذي أفتى به تغيّر، بل لظهور أنّ الحكم الشرعي لم يكن على ما أفتى به.

ص: 16

فالرأي الإجتهادي حيث أنّه يحصل من الظنِّ المعتبر الحجية بحكم العقل والشرع، يجب اتباعه عملياً ما دام لم يكشف خلافه، أما لو انكشف خلافه فيؤخذ بالظن المعتبر الذي قام على خلافه، وليس هذا من تغيير حكم اللّه في شيء، فحكم اللّه تعالى واحد إلّاأنّ اجتهاد المجتهد ورأيه يتغير إذا ظهر له خطؤه وعدم إصابته حكم اللّه تعالى.

وبعبارة أُخرى: إنّ الطريق الذي يقوم عند المجتهد للوصول إلى الواقع قد يؤدي إليه وقد لايؤدي إليه على مذهب المخطِّئة القائلين: بأنّ حكم اللّه الواقعي للجميع من الجاهل به والعالم سواء، فللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.

أما على قول المصوِّبة القائلين: بتعدد أحكام اللّه تعالى بتعدّد ظنون المجتهدين وآرائهم تبعاً لما يقوم عندهم من الطرق، فلابد من القول بتحمّل الواقعة الواحدة حكمين متخالفين بسبب تخالف ظنون المجتهدين أو تغيّر ظن المجتهد الواحد، وهذا أيضاً غير تغيُّر حكم اللّه تعالى، بل هو نظير انتفاء موضوع حكم وتحقّق موضوع حكم آخر.

نعم أصل مسألة التصويب محل إشكال لاستلزامه الدور المحال، واستلزامه دخالة ظن المجتهد أو علمه بالحكم، في وجود الحكم.

وهنا كلام في التفصيل بين الأدلّة الظنية القائمة لتعريف أصل التكليف وبيانه، وبين الأدلّة الظنية المبينة لشرائط التكليف وأجزائه، مثل شرائط الصلاة وأجزائها نفياً وإثباتاً، ذكرناه في الأُصول ولانطيل ببيانه هنا؛ لأنّ النتيجة على كل صورةٍ أنّ حكم اللّه تعالى لا يتغيّر وإن تغيّرت فتوى المجتهد فيه.

ص: 17

ص: 18

الأمر الثاني: التفصيل بين الأحكام في الثبات والتغيُّر

فصَّل الكاتب بين الأحكام العبادية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، وبين الأحكام الدنيوية المتعلّقة بالمعاملات والتصرفات الحياتية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، مثل حلِّ البيع وتحريم الربا وكيفية تقسيم المواريث وحكم قتل العمد والخطأ وشبه العمد، والطلاق والزواج، وقاعدة: [فللذّكر مثل حظّ الأُنثيين](1) فهذه أحكام وقواعد دلّت عليها النصوص، ولامجال لأحد أن يغيّرها ويدّعي أنّها كانت أحكاماً لظروف خاصة، بل هي تسري في كل الظروف.

على أنّه ربّما يظهر من الكاتب في آخر بحثه حول مسألة حق الإنتخاب للمرأة، أنّه يقول بجواز تغيير الأحكام المنصوص عليها أيضاً كما سيأتي.

ص: 19


1- النساء: الآية 176.

قال: «ومع ذلك فلهذه الأحكام الثابتة تفصيلات لم يكن بها نص قاطع المعنى، بل يكون معناه محتملاً لأكثر من وجه، وهذه يجري فيها الرأي الذي يقوم به العالم المتخصّص على ضوء ما يفهمه من الكتاب والسنة لا على ضوء ظروف الحياة وتحقيق المصلحة» إلى آخر كلامه.

والظاهر أنّ مراده: أنّ ما ورد فيه نص قطعي لايحتمل إلّامعنى واحداً فليس فيه مجال للإجتهاد، وما يحتمل أكثر من معنى يجري فيه الإجتهاد، ولكن هذا لايختص بما ذكره من تفاصيل الأحكام، بل إذا ورد نفس الحكم في نص يحتمل أكثر من معنى فهو قابل للإجتهاد وتغيّر الرأي أيضاً كما ذكرناه.

مثلاً: القول بكفاية مسح بعض الرأس أو بوجوب مسحه كله، ليس من باب تغيّر الحكم، وكيف يكون الرأيان المتقابلان في زمانٍ واحد من تغيّر الحكم؟ بل على القول بالتصويب يكون كل منهما بالنسبة إلى من اختاره حكم اللّه تعالى؛ لأنّ الحكم على هذا القول متعدّد، أو يتعدّد بعدد آراء المجتهدين أو المجتهد الواحد.

والإشكال على هذا الرأي بأنّه إذا كان الأمر كذلك فعن أيّ حكم يفحص المجتهد ويطلب عليه الدليل؟ مع أنه معلّق على علمه أو ظنّه ولا تحقّق له قبل رأيه، هذا الإشكال وارد على القائل بالتصويب ولا جواب عنده عليه، إلّاأنّ ما يهمّنا هنا أنّه على كلا القولين بالتخطئة والتصويب، فإنّ اختلاف آراء المجتهدين وتغيّر فتاواهم بأسبابها المعروفة ليس من باب تغيير الحكم بل يؤيّد ثبات الأحكام وصيانتها عن التغيير.

كما ينبغي الإشارة إلى ما ورد في كلامه من تفسير الإجتهاد، فقد ذكر أنّ مثل

ص: 20

فهم الباء في قوله تعالى: [وَامْسَحُوا بِرُؤوُسِكْم](1) وهل أنّها للتبعيض أو هي زائدة ليس اجتهاداً بالمعنى الصحيح، بل هو اختيار لمعنى من المعنيين.

ولكن ذلك محل نظر ونقاش، فكأنّه توهّم أنّ للناظر في الأدلّة المحتملة لمعانٍ متعددة الخيار في اختيار واحد منها، مع أنّ عليه أيضاً أن ينظر في اللغة والشواهد التي أُقيمت على كل واحد من المعاني والقرائن الدالّة على إرادة بعضها المعيّن، فيرجّح باجتهاده واحداً من المعاني ويفتي به، وإلّا فيتوقّف عن الفتوى.6.

ص: 21


1- المائدة: الآية 6.

ص: 22

الأمر الثالث: أحكام المعاملات

قال: «أما المعاملات وترتيبها وأحكامها فهي حق للعباد، ومن أجل مصالحهم في دنياهم، فمن حقّهم أن يحدّدوا أين تكون مصالحهم إذا لم يأت من الشرع الحكيم نص قرآني يحدّدها، كما جاء مثلاً في المواريث لما يعلمه سبحانه من تدخّل العواطف فيها فحسم الرأي، وقد أشار الرسول صلى الله عليه و آله إلى هذا في حديثه المشهور بعدما حدث في تلقيح النخل: «إذا أَمَرْتُكُمْ بأمرٍ مِنْ أُمُورِ دِيِنكُمْ فُخُذُوا منه مَا اسْتَطَعْتم، وما كان من أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فإلَيْكُم، أنتمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دنْيَاكُمْ»(1). وكأنّ هذا الحديث هو الأصل في إمكان تغيير بعض الأحكام الخاصة بالمعاملات حسب تغيير عللها وظروفها والمصلحة للناس فيها، على أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية مثل: لاضرر ولاضرار، ودرء المفاسد

ص: 23


1- أُنظر: مجمع الزوائد: ج 1 ص 179، الأحكام لابن حزم: ج 6 ص 776.

مقدّم على جلب المصالح» إلى آخر ما قال.

أقول: أوّلاً: إذن لا كلام في أنّه إذا لم يأت من الشارع الحكيم نصُّ قرآني «ولانبوي وإن لم يذكره واقتصر على القرآني منه» في مورد ولم تشمله النصوص العامة بعمومها أو إطلاقها، فمباح بحكم الشرع أيضاً للمكلّفين فعله وتركه، وهذا - أي حكم الشرع بالإباحة فيما لا نص فيه - حكم ثابت لايقبل التغيير، فليس لأحد تحريم تركه أو إيجاب فعله.

وثانياً: لايوافق هذا الخبر وما هو بمضمونه لقوله تعالى: [مَا آتَاكُم الرّسُولُ فَخذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنْهُ فانْتَهُوا](1) ، وقوله تعالى: [وَمَا يَنطِقُ عَن اْلَهوى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى](2) ، وقوله عزَّ مِن قائل: [لَقَد كَان لَكُم في رَسُولِ اللِّه أُسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّه وَالْيوْمَ الآخِرَ](3). لأن مفاد الخبر على ما بنيتم عليه أنّ الأُمة أعلم من الرسول صلى الله عليه و آله بشؤون دنياهم، ولذا يجوز لهم مخالفة أوامره المربوطة بأُمور الدنيا من المعاملات وغيرها مما لم يَرِد فيه النص القرآني، وعليه: فلا يجب اتّباع شيء من أوامر النبي ونواهيه المربوطة بالسياسات والمعاملات وغيرها من الأنظمة المقرَّرة الثابتة بلسانه أو بسيرته في الأحوال الشخصية والإجتماعية والمالية وغيرها، فيكون النبي صلى الله عليه و آله كسائر الناس في أقواله وأفعاله وسيرته، فلاوجوب لاتّباعه ولا حسن للتأسّي به! وهذا أمر لا أظن أحداً من المسلمين فضلاً عن علمائهم وفقهائهم الراسخين في العلوم الإسلامية يلتزم به.1.

ص: 24


1- الحشر: الآية 7.
2- النجم: الآية 3-4.
3- الأحزاب: الآية 21.

وما نفهمه نحن من الخبر - بعد الغض عن اضطراب متنه ومخالفته لما ثبت بالكتاب والسنة - أنّ المراد منه أنّه ليس من شأن الرسول صلى الله عليه و آله بمقتضى رسالته ولا زعامته وقيادته السياسية وإدارته أُمور الناس أن يتدخّل، في شؤونهم الفردية التي يعمل كل أحد فيها ما يريد ويختار وتختلف فيه الأنظار، فهذا يرى هذه المهنة وافية لمعاشه والآخر يرى غيرها كذلك، وهذا يرى سقي الزرع في المواعيد المعينة وذاك يراه في غيرها، وهذا يرى تلقيح النخل مفيداً والآخر يرى أن يبقيها على حالها، هذا يرى أن يبيع مثلاً سكناه للإتجار بثمنه، والآخر يرى غير ذلك، وهذا الطبيب يرى علاج المرض الخاص بكيفية خاصة وغيره يرى غيرها. فالدين والشرع وحتى القوانين التي تنشأ من قِبَل البرلمانات والمراكز التي لها صلاحية وضع القانون أو الدستور في الأنظمة العلمانية لا تتدخّل في أمثال هذه الأُمور، بل كل واحد من الناس حر مختار فيها.

وفي تلقيح النخل أيضاً الأمر هكذا، فكل قوم وكل شخص يعمل على طبق ما يرى فيه صلاح نفسه ولا يتدخّل فيه الشرع ولا القانون الوضعي، نعم ربّما تقتضي الضرورة كحفظ النظام وإدارة المجتمع وأمن الأموال والنفوس المحترمة أن يحجز الحاكم الناس عن بعض حرياتهم في زمان أو مكان ما، ولكن مع أنّ وجوب إطاعة الحاكم من الأحكام الشرعية؛ فإنّ حكمه هذا ليس حكماً شرعياً مثل: أحكام العبادات والمعاملات والسياسات والحقوق والأحوال الشخصية وغيرها، ولابحث لنا فيه.

وثالثاً: إن كان المراد من الخبر الذي استشهد به أنّ النبي صلى الله عليه و آله لايأمرهم في أُمور دنياهم بأمر وحكم، فالإستدلال به لإثبات جواز التغيير في أحكام

ص: 25

المعاملات والأُمور الدنيوية ضربٌ من التهافت والتناقض. وإن كان المراد منه أنّهم أعلم بشؤون دنياهم من النبي صلى الله عليه و آله ويحق لهم أن ينظروا في أُمور دنياهم ونظام أُمورهم الدنيوية، فشأن النبي صلى الله عليه و آله الذي أدّبه اللّه تعالى وأحسن تأديبه أجلُّ وأنبل وأعلى من التدخل فيما لا حق فيه، بل هو حق للعباد وهم أبصر منه به، فهو يجتنب لا محالة عن هذا اللغو، وقد قال اللّه تعالى في حقه: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى](1) وهو صاحب الخلق العظيم وأسمى مراتب الأدب ومكارم الأخلاق.

هذا مضافاً إلى أنّ الخبر إن كان يدلّ على أنّ أمر دنيا الناس مفوّض إليهم، فلا اعتبار بأوامره ونواهيه فيه، وعليه: فتخرج أكثر الأحكام الشرعية الراجعة إلى أُمور الناس ومعايشهم وسياسة المدن والإدارة الثابتة بسنة الرسول صلى الله عليه و آله وأوامره ونواهيه من دائرة الدين، ونبقى نحن وأحكام العبادات وقليل من غيرها من الأحكام المنصوصة في القرآن!

هذا إذا لم يأت من المتنوّرين العصريين من يقول فيها أيضاً شبه ما قال عبدالمنعم النمر في الأوامر النبوية والأحكام الثابتة بالسنة، وعليه: يلزم على الفقهاء حذف أكثر أبواب الفقه الإسلامي التي هي من أعظم براهين صدق هذه النبوة الخاتمة وكمالها.

ورابعاً: إذا كانوا هم أعلم بأُمور دنياهم من رسول ربّالعالمين صلى الله عليه و آله فهم أعلم من الفقهاء بالطريق الأولى، فما معنى موقف الفقهاء في الإجتهاد في هذه الأُمور والنظر في السنة بعدما كان الناس أولى وأحقّ بدنياهم وأعلم حسب الفرض من3.

ص: 26


1- النجم: الآية 3.

الرسول صلى الله عليه و آله!

بل إذا كان موقف الناس هكذا قِبال أوامر النبي صلى الله عليه و آله ونواهيه حتى في حياته وكان يجوز لهم ترك العمل بأوامره، وكان الأصل والمعتبر ما يرون هم بأنفسهم في أُمورهم حسبما تقتضيه المصالح والظروف، فما قيمة اجتهاد الفقهاء في أُمور الناس الدنيوية؟

وخامساً: أنّ مغزى هذا الرأي أنّه لا اعتناء بسيرة النبي صلى الله عليه و آله وسنته في الأنظمة الدنيوية، بل الناس هم وما رأوا فيها من مصالحهم ومنافعهم، وإذن فليس فيها تشريع و لايوجد حكم شرعي، فما معنى تغيّر الحكم؟

وسادساً: إذا اشترطتم أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية فليس معنى «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» إلّاالكرّ على ما فرَّضه، وقد ذكر أنّ مراده من هذه القواعد العامة، مثل لاضرر ولاضرار، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، فإن أراد من القاعدة الثابتة - كما لابد أن يكون - أنّ درء المفاسد التي نهى عنها الشرع مقدّم على جلب المصالح التي أمر بها، فذلك، وإن لم يكن قاعدة كلية عامة؛ لأنّ مفسدة ارتكاب بعض المحرّمات ربّما لاتكون أهم من مفسدة ترك بعض الواجبات ومصلحة فعلها، بل تكون هذه أهم من الأُولى، ولكن القائل بها لا يريد بها إلّاالقاعدة الشرعية التي هي كالشارح والمفسّر لأدلّة سائر الأحكام ومعها لاتغيير أيضاً في الحكم؛ لأنّ المعيار في المصلحة هو المصالح التي أمر الشارع بحفظها والمفاسد التي نص الشارع على وجوب درئها.

وسابعاً: إن أُريد من تغيير الأحكام تغييرها بظروفها وعللها والمصلحة للناس حسب ما أمره الشارع، مثل أكل الميتة الذي يباح عند الإضطرار، أو ارتكاب أي

ص: 27

محذور آخر أخف إذا دار الأمر بين المحذورين، والأهم والمهم، أو ترك واجب لدفع الضرر، أو نحو ذلك، فهذا ليس من تغيير الحكم - كما أشرنا إليه - بشيء، بل هو انتفاء حكم خاص بانتفاء موضوعه، ووجود حكم آخر بوجود موضوعه، فأكل الميتة لغير المضطر حرام شرعاً وللمضطر حلال شرعاً، وكل منهما حكم شرعي لموضوعه المختص به ثابت لايقبل التغيير.

والوضوء واجب إذا لم يكن فيه ضرر على صحة جسم المتوضّي، وهو حرام وبدعة إذا كان فيه خطر على صحته.

أما في دوران الأمر بين الأهم والمهم، أو المهمين المتساويين عند الشرع، فحيث أن المكلف لا يتمكّن من امتثال الوجوبين لابدَّ له عقلاً في الصورة الاُولى من حفظ الأهم، وفي الصورة الثانية هو بالخيار في الإتيان بأيّهما شاء.

ففي كل هذه الصور لاتغيير في الحكم الشرعي.

ولايخفى عليك أنّ ذلك يجري في الأحكام الجزئية لا الأحكام الكلية، فلا تجد حكماً كلياً مزاحماً بكليته لحكم كلي آخر.

وكذا قاعدة أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح ليس معناها - كما مر الإشارة إليه - تغيير الحكم الشرعي، بل المراد أنّ الحكمين الشرعيين اللذين أحدهما شرّع لدفع مفسدة، والآخر لجلب مصلحة، كأن يكون أحدهما حكماً تحريمياً توجب مخالفته الوقوع في المفسدة، والآخر وجوبياً توجب مخالفته تفويت المصلحة، ولايمكن للمكلف الجمع بين امتثال كلا الحكمين، فيأتي بالذي يدرء المفسدة أو يترك ما فيه المفسدة دون الذي يجلب المصلحة، وعليك إن أردت المزيد بملاحظة باب تزاحم الأحكام في الكتب الأُصولية.

ص: 28

الأمر الرابع: هل أنّ أحكام المعاملات إلهية، أو اجتهادات من الرسول صلى الله عليه و آله؟

صرّح في مقاله بأنّ أحكام المعاملات التي عبّر عنها بالأُمور الجزئية لم تكن على أساس الوحي، بل كانت باجتهاد منه صلى الله عليه و آله! وإليك نصّ ما قال: «جاء الرسول صلى الله عليه و آله إلى المدينة فوجدهم يتبايعون في الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها دون تضرر ونزاع فأباحها لهم في ظل الإسلام، ثم بدأ المتعاملون بها يتنازعون وتكثر شكواهم لثمرة أصابها مرض... وجاؤوا للرسول صلى الله عليه و آله يتحاكمون إليه، فغير رأيه الأول بناء على هذا، وقال لهم: «أما وقد تنازعتم فلاتبيعوا الثمر قبل ظهور صلاحه ونضجه» ومنع بذلك بيع الثمر قبل ظهور صلاحه، حتى لا يتعلّل المشتري بما طرأ عليه من تلف ليرجع في الصفقة أو ينقص له البائع من ثمنها الذي تبايعا عليه... ومعنى ذلك بوضوح: أنّ أحكام الرسول صلى الله عليه و آله في مثل هذه الأُمور الجزئية لم تكن على أساس وحي من اللّه نزل عليه خاص بهذه الجزئية، بل كانت باجتهاد منه وتقدير للمصلحة على ضوء الظروف التي أمامه» إلى آخره.

ص: 29

أقول: أوّلاً: لماذا لايكون مثل هذا من النسخ؟ وأنّ الحكم الأول قد نسخ بالثاني، ونسخ الحكم لا مانع من وقوعه إذا وقع في عصر الرسالة، وإلّا فهل يقول أحد بجواز العمل بالحكم الأول إذا اقتضى اجتهاد المجتهد ذلك، ولايراه من الإجتهاد في مقابل النص؟

وثانياً: لقائل أن يقول: ما كان عليه أهل المدينة من التبايع في الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها لم يكن من الأحكام الشرعية الموحى بها إلى النبي صلى الله عليه و آله، بل كان المجتمع في هذه القوانين والعادات التي كان ملتزماً بها قبل بزوغ شمس النبوة الخاتمة باقياً على حاله، والأحكام إنّما نزلت على الرسول صلى الله عليه و آله تدريجاً وفي المناسبات، فالحكم الشرعي الإلهي الذي لايتغير هو عدم جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها على التفاصيل المذكورة في الفقه، لا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله عدل عن رأيه الأول وظهر له خطؤه، وأنّ الحكم الثاني كان من رأيه أيضاً وهو قابل للتغيير.

فالصحيح أنّ الحكم الثاني ثابت أبداً لا يتغيّر، صارت الظروف ما صارت وتغيرت الأحوال ما تغيرت، والنص النبوي كالنص القرآني لا فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات فكلها مصونة عن التغيير.

نعم الأحكام السلطانية التي تصدر تحقيقاً لتنفيذ الأحكام الشرعية، وحفظ النظام، وإقامة العدل، وإيصال حق كل ذي حق إليه، والدفاع عن حوزة الإسلام، ربّما تحدّد حريات الأفراد في أموالهم وأنفسهم في مقدار من الزمان، وما دامت الضرورة الموجبة للتحديد المذكور باقية، فللحاكم مثلاً أن يحكم على مالك الغلّات بعرض غلّته للبيع عند احتياج الناس إليها دفعاً للحرج عن العامة، وحفظاً

ص: 30

للنفوس المحترمة.

والفرق بين حكم الحاكم وحكم الشارع أنّ الأول غيري موقت، شرّع جوازه من الشارع حفظاً لنظام الدين ومصالح المسلمين، والثاني حكم ثابت نفسي، نسبته إلى الأحكام الحكومية كنسبة الأصل إلى الفرع والهدف إلى الوسيلة، والأول لايستند بنفسه إلى اللّه تعالى بل إلى الحاكم نبياً كان أم غيره، نعم جواز حكمه وجواز حكومته ووجوب إطاعته من الأحكام الشرعية الثابتة التي لاتقبل التغيير.

ولكن مع ذلك فإنّ للأحكام الحكومية الصادرة عن النبي صلى الله عليه و آله قداسة ليست لغيرها، فلا يجوز تغييرها؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله لا يحكم إلّابوحي من اللّه تعالى على ما نص به القرآن الكريم: [وَمَا يَنْطِقُ عَن الْهَوى إنْ هُوَ إلَّاوَحْيٌ يُوحى](1) ، وأكّد لزوم التأسي به في قوله تعالى: [لَقَد كَان لَكُمْ في رسُولِ اللّه أُسوةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كان يَرجُو اللّهَ والْيومَ اْلآخِر](2) فالنبي صلى الله عليه و آله في صيانة اللّه وحفظه عن الخطأ في أحكامه وجميع أفعاله وأقواله، سواء كان في الشرعيات أو الإخبار بالملاحم وحالات الأُمم الآتية والماضية، وأحوال الملائكة، وكيفيات عالم الغيب مثل الجنة والنار، أو بيان المعارف والأخلاقيات، أو الأحكام الحكومية.

لكنّ القوم حيث رأوا أنّ بعض الصحابة قد تجرّأ على التصرّف في الأحكام الإلهية والرد على النبي الأعظم صلى الله عليه و آله فأنكر عليه صلح الحديبية، ولم يقبل منه1.

ص: 31


1- النجم: الآية 3-4.
2- الأحزاب: الآية 21.

تشريع متعة الحج وحرَّمها، وحرّم متعة النساء بعد ارتحال الرسول صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى، ومنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من كتابة وصيته، وقال كلمته الخبيثة التي لا ننقلها تأدّباً وحذراً من التعدّي على ساحة صاحب الخلق العظيم، الرسول الرؤوف الرحيم، صلوات اللّه عليه وعلى آله، وغير ذلك مما فعل أو قال هو أو غيره - لما رأوا ذلك - استهانوا بمخالفة النصوص الشرعية، والسنة النبوية، ونسبوا الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلى الإشتباه والخطأ! ولاحول ولاقوة إلّاباللّه العلي العظيم.

ثم إنّ الأمثلة التي ذكرها لإثبات مرامه كلها قابلة للمناقشة لايثبت بها مدّعاه.

فالمنع عن التقاط ضالة الإبل، وإجازة التقاطها أيضاً، ليس من قبيل تغيير الحكم، بل يمكن الجمع بينهما بأنّ مورد المنع عن الإلتقاط غير مورد الجواز، فإذا لم يخش على الإبل التلف لامتناعها على السباع واستمرارها بالرعي، لا تتعرّض لها ولاتلتقط؛ لأنّ العادة جرت بطلب مالكها لها حيث فقدها، أما إذا كانت فاقدة الأمرين فيجوز التقاطها، وفي الصورتين راعى الشارع الأقدس مصلحة المال والمالك، والحكمان حكمان ثابتان لا يقبلان التغيير إلى يوم القيامة.

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجل ترك دابته من جهد، قال: «إن تركها في كلأ وماء وأمن فهي له يأخذها حيث أصابها، وإن تركها في خوف وعلى غير ماء ولاكلأ فهي لمن أصابها».

وفي خبر مسمع عنه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول في الدابة إذا سرحها

ص: 32

أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للذي أحياها. قال وقضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل ترك دابته في مَضْيَعَة فقال: إن كان تركها في كلأ وماء وأمن فهي له، يأخذها متى شاء، وإن تركها في غير كلأ وماء فهي للذي أحياها».

وأما امتناع الرسول صلى الله عليه و آله عن التسعير فلايستفاد منه الإطلاق، وأنّه كان ممتنعاً عنه ولو عُرض مثل الحنطة وأشباهها، ممّا تتقوّم به الحياة والمعاش بسعر لايستطيع أكثر الناس شراءه، ويقعون بذلك في الحرج والمشقة الشديدة والمجاعة.

هذا مضافاً إلى أنّ أكثر الموارد التي استشهد بها هذا الكاتب وغيره على اجتهاد الرسول صلى الله عليه و آله وكون حكمه حكماً موسمياً ورأياً رآه دون أن يكون مستمداً من الوحي، هي موارد دار الأمر فيها بين ارتكاب أحد المحذورين الشرعيين والمتزاحمين، فرجّح صلى الله عليه و آله ارتكاب المحذور الأخف، في ضوء إرشادات الشارع وتعاليمه.

والحاصل: أنّ هذه الأُمور لا تعد من التغيير به، وهكذا عمل القاضي شريح، مضافاً إلى أنّه ليس بحجة، فقد بقي قاضياً إلى عصر غلبة بني أُمية، العصر الذي سلب فيه الناس حرياتهم الإسلامية، ولم يكن لأحد حق النصيحة لعمّال الحكومة وقضاتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّابتعريض ماله ونفسه وخاصته للنهب، وأنواع التعذيب والقتل، مضافاً إلى ذلك؛ فإنّه يمكن حمل عمل شريح على هذه المحامل إن كان هو ممن يفهم هذه الأُمور، فمثلاً قوله صلى الله عليه و آله:

ص: 33

«البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(1) ، وقاعدة حجية البيّنة، لاريب أنّها قاعدة شرعية وطريق لإثبات الدعاوي وفصل الخصومات، إلّاأنّها كذلك إذا كانت بحسب النوع تفيد الظن ويعتمد عليها العرف، أما إذا تغيّر حال الناس وآل الأمر إلى ما آل من ظهور بني أُمية وأعوانهم وأتباعهم على الأُمور، ورأى القاضي المسكين أن أعوان القاضي والشهود الذين يشهدون على دماء الناس وأموالهم يتقربون إلى أرباب السياسة والحكومة بالشهادة على المخالفين والثائرين عليهم، ويشهدون كذباً وزوراً على محبّي أهل بيت النبوة وشيعة الحق، فلابد له أن يعتذر بعدم اعتماده على البيّنة، وأنّه باجتهاده استنبط من دليل اعتبار البيّنة أنّ مناط حجيتها حصول الإطمئنان بها للنوع غالباً واعتماد العرف عليها؛ فإذا انتفت تلك الخصوصية تنتفي حجيّتها لا محالة، ولاريب أنّه لم يمكن له في مثل ذلك العصر ردّ الشاهد ضد أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بسبب فسقه العملي والقولي.

على كل، لاريب في أنّ اختلاف آراء القضاة أو القاضي الواحد في القضايا المتشابهة، كاختلاف أهل الفتيا في فتاويهم، أو المفتي الواحد في فتواه في موضوع واحد لاربط له بتغيير الحكم الشرعي، بل الواقع أنّه هو يجتهد ولايرى مثلاً لدليل حجية البيّنة أو الحلف أو غيرهما إطلاقاً يشمل بعض القضايا، وإلّا فلايجوز لأيّ قاضٍ كائناً من كان مع الإعتراف بشمول إطلاق النص وعمومه).

ص: 34


1- أُنظر: الكافي: ج 7 ص 415، وسائل الشيعة: ج 27 (طبع بيروت).

الإمتناع عن القضاء، أو القضاء على خلاف النص.

الأمر الخامس: النبي والإجتهاد

تقدّم أنّ الكاتب قال: إنّ أحكام الرسول صلى الله عليه و آله في مثل هذه الأُمور الجزئية....

إلى آخره، وهذا التصريح منه بأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان فيما يأمر به وينهى عنه يعمل بالإجتهاد، وعليه: يجوز وقوعه في الخطأ كسائر المجتهدين، والمسألة خلافية.

والذي نذهب إليه ونؤمن به تنزيه النبي صلى الله عليه و آله عن الخطأ في الشرعيات فيما هو فيه أُسوة للأُمة وغيرها، وهذا واضح للمتدبّر بأدنى تدبّر وتأمل؛ لأنّه إذا كانت سيرة الرسول وسنته القولية والفعلية من مصادر اجتهاد المجتهدين وتفسير الكتاب وبيان مراداته، وإذا كان هو العالم الأول بخصوصه وعمومه، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومفاهيم ألفاظه، ومعانيها الحقيقية والمجازية، وكان هو العالم - بتعليم اللّه ووحيه - بموضوعات أحكام اللّه تعالى الكلية وتفاصيلها، ففي ماذا يجتهد وهو العارف بكل ذلك؟

ص: 35

ولو لم يكن عالماً بجميع تفاصيل الأحكام بتعليم اللّه ووحيه يبقى الدين ناقصاً فاقداً للمصادر الكافية لاستنباط جميع الأحكام منها.

اللهم إلّاأن يقال: إنّه يجتهد عند اشتباه الموضوع بغيره مع أنّه مبين للمفهوم عنده، ولكن هذا غير الإجتهاد المصطلح الذي يقوم به الفقهاء والمجتهدون، وهو خارج عما نحن فيه، فالناس كلهم يجتهدون في تشخيص موضوع الحكم عند اشتباهه بغيره، مثل اشتباه مائع بأنّه دم أو ماء، مع أنّ مفهوم الدم الذي هوموضوع الحرمة مبين لا سترة عليه، فتارة يقعون في الخطأ وأُخرى يصيبون الواقع، ولكنّه ليس من اجتهاد الفقيه المصطلح بشيء.

مضافاً إلى أنّ شأن النبي صلى الله عليه و آله أنبل وأجل من ذلك، فهو مصون عن ذلك الخطأ وغيره من الأخطاء، بل ربّما يحطّ مثل هذا الخطأ مع كونه في الموضوع وتطبيقه الخارجي من كرامته صلى الله عليه و آله، وشخصيته الرسولية صلى الله عليه و آله أكثر من خطئه في تبليغ أصل بعض الأحكام، فهو مصون عنه، وهو المؤيّد من عند اللّه تعالى المحفوظ من الخطأ والزلل.

وبالجملة: المجتهد هو الذي يفحص عن أدلّة الأحكام في الكتاب والسنة ويفتي بما ظفر به من الأدلّة بعد النظر في عامها وخاصها و.... وتارة لايظفر بالدليل الخاص مع وجوده فيفتي بعموم العام، أو يظفر بسببٍ آخر. أما النبي صلى الله عليه و آله فهو العالم بالأحكام سواء كانت جزئية أم كلية، فإطلاق المجتهد على النبي دون شأنه الجليل، وكذا أهل بيته الذين هم عِدْل القرآن، فهم معصومون عن الخطأ لأنّهم والقرآن لن يفترقا؛ ولأنّ التمسّك بهم أمان من الضلال، وهم سفينة النجاة، كما وردت بذلك صحاح الفريقين.

ص: 36

نعم لابأس بأن يقال: إنّ النبي صلى الله عليه و آله بعدما نزلت عليه الأحكام الكلية كان يبيّن جزئياتها وتفاصيل ما أوحى اللّه إليه، إلّاأنّه في هذا أيضاً مصون عن الخطأ والإشتباه، وإن قلنا: إنّ إخباره عن هذه الجزئيات بالخصوص ليس مما نزل به جبرئيل على قلبه الطاهر الأقدس، بل هو بيان لجزئياته أو مصاديقه ولكنّه في كل ذلك تحت رعاية اللّه الخاصة، لايخطئ ولايقول إلّابوحي من اللّه تعالى: [ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إنْ هُوَ إِلّا وَحيٌ يُوحى](1).

هذا ولايخفى عليك أنّ الدليل على أنّه لايخطئ في موضوعات الأحكام التي تشتبه على غيره هو عين الدليل على عصمته وعدم خطئه في أصل الأحكام.4.

ص: 37


1- النجم: الآية 3-4.

ص: 38

الأمر السادس: الأحكام كليتها وجزئيتها

الأحكام الكلية هي الأحكام المحمولة على الموضوعات الكلية، مثل الصلاة والصوم والحج والبيع والنكاح والرهن. وهكذا تفاصيلها وشرائطها وأجزاؤها من السجود والركوع والقراءة وخيار الغبن وخيار العيب. وكذا موضوعات الأحكام التحريمية مثل الخمر والربا والميسر والغش وإيذاء المؤمن والزنا وغيرها... فالحكم يكتسب كليته من موضوعه.

وأما الأحكام الجزئية فهي ما يتعلق بالجزئيات الخارجية للموضوع الكلي، فالحكم الجزئي جزئي من جزئيات الحكم الكلي، وهذا مثل حرمة شرب هذا الخمر، أو حرمة غصب ملك زيد، أو حرمة الزنا بامرأة معلومة، أو حرمة نكاح هذه المرأة، أو وجوب أداء زكاة هذا المال المعين، أو وجوب صلاة ظهر هذا اليوم، أو وجوب الوضوء لهذه الصلاة، أو خيار الغبن في هذه المعاملة.

ص: 39

ولكن اشتبه الأمر على هذا الكاتب فعدّ نهي النبي صلى الله عليه و آله عن بيع الثمر قبل ظهور صلاحه ونضجه - الذي استقرت عليه فتاوى الفقهاء وبنوا على بطلانه - عدّة من الأحكام الجزئية ولم يتفطّن إلى أنّ الجزئي والكلي متلازمان، لايوجد أحدهما بدون الآخر، فإذا كان هذا الحكم أي بطلان بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها جزئياً، فما هو إذن الحكم الكلي الذي هذا من جزئياته؟!

وليت شعري كيف يخفى على الذي يكتب في الفقه وفي مثل هذا الموضوع الذي شغل فكر أكثر أهل الثقافة العصرية المغترّين بالأساليب الشرقية والغربية، أنّ الحكم ببطلان هذا البيع والنهي عنه هو من الأحكام والنواهي الكلية التي لاتحصى جزئياتها، مثل بيع هذه الثمرة أو بيع تلك أو بيع هاتيك. (1)ر.

ص: 40


1- راجع آراء الفقهاء وأقوالهم في المسألة وأحاديث هذا الباب في كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي، مسألة 139 و 140 و 141 من كتاب البيوع. وكتاب (المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف) مسألة 135 من كتاب البيوع. والموسوعة الفقهية الكبيرة (جواهر الكلام) كتاب التجارة، الفصل الثامن في بيع الثمار.

الأمر السابع: فتاوى السابقين لاحصانة لها

نعم لا حصانة لرأي أحد من السابقين من الصحابة والتابعين فضلاً عن غيرهم، إلّارأي من نص النبي صلى الله عليه و آله على عصمته وحصانة رأيه، وأنّه مع الحق والحق معه يدور حيثما دار، وأنّه مع القرآن والقرآن معه. وكذا رأي الأئمة من العترة النبوية عليهم السلام الذين لايخلو الزمان من واحد منهم؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله نصَّ على عصمتهم، فقال في الحديث المتواتر المشهور: «إنِّي تَاركٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْن كتَابَ اللّه وَعِتْرَتي أَهْل بَيْتي إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلّوُا أَبَداً، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَردَا عَلَيَّ الْحَوضَ».

ولم يدع أحدٌ تلك الحصانة والعصمة لأحدٍ من الأُمة إلَّاللأئمة الإثنى عشر عليهم السلام المنصوص عليهم في أحاديث الخلفاء والأئمة الإثني عشر عليهم السلام المتواترة.

ويدل أيضاً على حصانة أقوالهم وآرائهم وأحاديثهم عليهم السلام أحاديث متواترة

ص: 41

أُخرى ليس هنا مجال الإشارة إليها، ذكرنا طائفة منها في كتابنا «أمان الأُمة من الضلال والإختلاف».

وأما غيرهم من الصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين فلم يدّع أحد لهم ذلك، بل ثبت خلاف العصمة لأكبرهم، ومع ذلك ترى كاتب المقالة يستشهد بأقوالهم، ويستشهد بعمل شريح وبكلامه، وبرأي سعيد بن المسيب، وآراء غيرهما من المجتهدين والصحابة وأعمالهم، ثم يقول: فتاوى السابقين لا حصانة لها.

ص: 42

الأمر الثامن: الآراء والأحكام البشرية

الأحكام السلطانية وإن كانت بشرية غير إلهية، وكانت لا محالة متأخّرة عن الأحكام الإلهية؛ لأنّها لتحقيق إجراء الأحكام الإلهية وتنفيذها، لكن أصل جواز الحكم للحاكم وولايته على إصدار هذه الأحكام وإلزام الآخرين في الموارد التي قرّرها الشارع حكم شرعي، كما أنّ وجوب طاعة الحاكم في أحكامه حكم شرعي أيضاً كما ذكرنا.

وإذا لم يكن الحاكم في هذه الأحكام من المعصومين وأُولي الأمر الذين قرن اللّه إطاعتهم بطاعة الرسول صلى الله عليه و آله - ولو كان من عمّالهم والمنصوبين من قبلهم بالنصب الخاص أو العام - فإنّه يجوز وقوعه في الخطأ والإشتباه، ولكن تجب إطاعته حفظاً للنظام إلّاإذا علم خطؤه، وحينئذٍ فلا يجب على العالم بذلك إطاعته، بل ينبغي في بعض الموارد تنبيهه على خطئه. ومن لايعلم ذلك - وإن احتمله - فيجب عليه إطاعة الحاكم، على تفصيلاتٍ ليس هنا مقام ذكرها.

ص: 43

وهذا نظير تطبيق غير الحاكم الأحكام الشرعية على موضوعاتها الخاصة الخارجية، فتارة يصيب فيها، وتارة يخطئ، وهذا يصيب والآخر يخطئ.. وهذا مبنى قوله صلى الله عليه و آله في خبر أحمد والترمذي وابن ماجة ومسلم: «وإذَا حَاصرْتَ حِصناً فَأَرادوكَ أن تُنْزِلَهُم على حُكْمِ اللّه فلاتُنْزِلْهُم على حُكْمِ اللّه، ولكنْ أَنْزِلْهُم على حُكْمِكَ فإنَّك لاتَدْري أتصيبُ حكَم اللّهِ فِيهم أم لا»(1) فإنّ المراد منه - واللّه أعلم - أنّ إنزالهم على حكم اللّه لابد وأن يكون بما هو حكم اللّه برأيه، وحيث يمكن أن لايكون في رأيه مصيباً حكم اللّه تعالى يمكن أن ينزلهم على غير ما شرط لهم، وهو حكم اللّه الواقعي. وأما لو شرط عليهم إنزالهم على حكمه فإنّه وإن أنزلهم على ما هو حكم اللّه برأيه لكن إن لم يصب حكم اللّه لم يتخلّف عن الشرط، مضافاً إلى أنّه بذلك يسدّ باب مناقشتهم إياه بأنّك ما أنزلتنا على حكم اللّه تعالى. وهذه الرواية صريحة بصحة القول بالتخطئة وبطلان التصويب.0.

ص: 44


1- أُنظر: مسند أحمد: ج 5 ص 358؛ سنن الترمذي: ج 3 ص 86؛ سنن ابن ماجه: ج 2 ص 954؛ كتاب مسلم: ج 5 ص 140.

الأمر التاسع: باب الإجتهاد مفتوح للجميع إلى يوم القيامة

من الأخطاء الكبيرة القول بسدّ باب الإجتهاد وحصر المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة، وإلزام العامي بتقليد أحد أرباب هذه المذاهب، وإلزام المجتهد أن يكون مجتهداً في الفقه المنسوب إلى واحد منهم، فيسلبونه بذلك حرية التفكير والإجتهاد الحر، والنظر في الأدلّة من الكتاب والسنة، والإفتاء بما يؤدي إليه نظره وإن خالف جميع المذاهب، كما يسلبون بذلك العامي حريته في التقليد، فلايجوّزون له تقليد مجتهد إذا خالف رأيه في المسألة رأي فقهاء هذه المذاهب، وإن كان موافقاً لرأي كثير من الصحابة والتابعين، والفقهاء الذين كانوا قبل هذه المذاهب الأربعة!

لقد جعلوا هذه الأُمة بذلك شيَعاً مختلفين متفرقين، وأحدثوا بهذه البدعة فتن الطوائف الشافعية والحنابلة والأحناف والمالكية، التي تسبّبت في حدوث حروب دامية بينهم، لا يتسع المجال لذكر بعضها.

ص: 45

وليت شعري مامرادهم بأنّ فلاناً مجتهد حنفي أو شافعي، أو أو....؟ فإن كان مرادهم أنّه مجتهد في فقه فلان وأنّه يعرف آراءه وفتاواه من النظر في كلماته فلا يخلو إما أن يقدر هو بنفسه على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فهو مجتهد والحجة له، ولمن يأخذ بفتواه اجتهاده الشخصي لا اجتهاد الشافعي مثلاً، فهو مجتهد مثل الشافعي، مستقل بآرائه وفتاواه، وإن خالف فيها سائر الفقهاء.

وإن كان لايتمكّن من الإجتهاد فهو عامي يجب عليه تقليد المجتهد الجامع لشرائط التقليد والإفتاء كائناً من كان، أو عليه الإحتياط في الفروع.

لقد خسرت الأُمة الإسلامية بسبب قول إخواننا السنيين بسدّ باب الإجتهاد آراء علمية دقيقة، وفتاوى هامة مفيدة، كان بإمكانهم أن يستنبطوها من الكتاب والسنة بحرية تفكيرهم، لولا هذه المقولة التي جعلوها ديناً يدان به، بينما نرى مذهب الإمامية شيعة أهل البيت عليهم السلام ما زال ببركة فتح باب الإجتهاد والبحث الحر في الكتاب والسنة ينمو فقهه ويزداد قوةً وعمقاً وسعةً، وما زال يظهر منهم في كل عصر فقهاء كبار ينتقدون آراء الفقهاء الماضين، ويصلون بالتعمّق في الكتاب والسنة إلى ما لم يصل إليه المتقدّمون.

والذي يسهل الخطب أنّه بفضل جهود جمع من أكابر فقهاء إخواننا السنة، وإدراكهم عمق الخسارة التي تسبّب فيها سدّ باب الإجتهاد، قد تزلزل هذا البناء الذي بُني لأغراض سياسية، وسيأتي زمان إن شاء اللّه تعالى لاترى بفضل جهود المصلحين المخلصين هذا التفرّق المذهبي، ولايبقى من العلماء المجتهدين من ينسب نفسه إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد، بل يتبع اجتهاده

ص: 46

واستنباطه هو؛ لأنّه لم تدل آية ولا رواية على أنّهم أولى من غيرهم ممن يأتي بعدهم، وأنّ اجتهادهم أقوى من اجتهاد مجتهدي عصرنا، فهم واجتهادهم ونحن واجتهادنا، والباحث يعرف قصة هذا الحصر في الإجتهاد الذي لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه و آله ولا في عصر الصحابة، إلّاأنّ أرباب السياسة خافوا أن يؤدي فتح باب الإجتهاد إلى ظهور شخصيات علمية مرموقة، فلايكون لهم بدّ من الخضوع لفقههم وآرائهم وزعامتهم الدينية، الأمر الذي يتعارض مع سلطتهم الإستبدادية، وأنظمتهم الكسروية والقيصرية، لأنّ العلماء إذا ملكوا القلوب يقومون بواجبهم، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر والظلم والإستبداد والإستعباد.

وهؤلاء علماء الإمامية بفضل نعمة فتح باب الإجتهاد، ومايترتّب عليه من وجود مرجعية دينية نافذة القول في قلوب الناس، ترى منهم رجالاً في كل عصر يحرسون الاسلام ويُبَلِّغون رسالته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقفون في وجه ظلم الحُكّام والأُمراء، وربما ثاروا على المستكبرين الجبارين، وبذلك يؤكدون على أنّ الدين هو العقيدة والسياسة والنظام والقضاء والعبادة والأخلاق، وأنّه يجب أن يكون رجالات الدين رجالات السياسة والإدارة والحكومة، لاتنفصل الأُولى عن الثانية، بل السياسة من الدين داخلة فيه دخول الجزء في الكل، فالحكومة الشرعية الرشيدة هي الحكومة التي يتولّاها الفقيه مباشرة أو يكون تحت رعايته وإرشاده وأمره ونهيه.

هذا وقد عرفت أنّ فقهاء الشيعة مع قولهم بفتح باب الإجتهاد اتفقوا خلفاً عن سلف على ثبات أحكام اللّه تعالى، ولايجوّزون تغيير أي حكم من أحكام اللّه تعالى لأحد حتى لأئمتهم الذين يقولون بعصمتهم، ومع أنّ فقهاء الإمامية لايقولون بالرأي والقياس بل يفتون بالكتاب والسنة في المسائل المستحدثة

ص: 47

كغيرها، ويرون أن ما أدّى إليه اجتهادهم حكم اللّه تعالى الذي لايتغير أبداً، إلّاأن ينكشف خطؤهم في إصابته.

ص: 48

الأمر العاشر: الأحكام الحكومية

تقدّمت الإشارة إلى أنّ الأحكام الحكومية التي هي من أجل ضمان تطبيق الأحكام الإلهية تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة حتى لو كانت من حاكم واحد، فيوماً يرى إرسال الجيش إلى شرق الدولة مثلاً، وفي زمان يرى تسييرها إلى غربها، وفي زمان آخر يطلب من الناس أن لايسافروا إلى بلاد الكفر مثلاً، وفي وقت يطلب منهم السفر إليها تحصيلاً لغرض خاص.

فهذه الأحكام طبيعتها عدم الثبات، بخلاف أحكام المعاملات ونظائرها، فإنّ قوانينها وأحكامها ثابتة لاتقبل التغيير.

والذي اخترناه في الفقه، بدلالة تقصِّي بعض الأحاديث المروية عن طريق العترة الطاهرة، أنّ الأحكام إذا كانت نبوية صادرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان النص الدال عليها مطلقاً لايخصها بزمان خاص أو ظرف خاص، فلايجوز رفع

ص: 49

اليد عنها بالإجتهاد، وحملها على أنّها أحكام حكومية، فمثلاً: نصٌّهُ صلى الله عليه و آله على أنّ «مَنْ أَحْيَا أرضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»(1) وإن قلنا: إنّ المستفاد منه ليس الحكم بسببية الإحياء للملكية، وجواز التملّك بالإحياء، بل هو إذن منه في الإحياء والإنتفاع من الأرض، لكن مع ذلك لايجوز لأحد ممن يلي الأمر بعده رفع هذا الأمر وهذا الإذن ومنع الناس عن إحياء الأرض الموات، أو جعله مشروطاً بشرط.

ولذلك نقم المسلمون فيما نقموا على عثمان أنّه آوى الحَكَم بن العاص وردّه إلى المدينة، وأعطاه مائة ألف بعدما كان منفياً في حياة النبي صلى الله عليه و آله وفي زمان أبي بكر وعمر، وقد سألهما إدخاله المدينة فامتنعا عن الإذن له وقال أبو بكر: هيهات هيهات أن أُغيّر شيئاً فعله رسول اللّه واللّه لا رددته أبداً. وقال عمر: ويحك يا عثمان! تتكلّم في لعين رسول اللّه وطَرِيِده وَعَدُوِّ اللّه وعدوّ رسوله!3.

ص: 50


1- الكافي: ج 5 ص 280؛ وسائل الشيعة: ج 25 ص 413.

الأمر الحادي عشر: بعض الأمثلة في الفتاوى والأحكام الإلهيّة

في الأمثلة التي مثّل بها الكاتب خلط أيضاً بين الأحكام الإلهية وفتاوى الفقهاء التي ليست مصونة من التغيير وليس ذلك بسبب أنّ الحكم الذي أفتى به المفتي يتغيّر فتتغيّر الفتوى بتغيّره؛ فإنّ المفتي إذا أفتى بحسب ما أدى نظره إليه يرى مؤدى نظره حكماً شرعياً لايقبل التغيير، وعندما يرجع عنه لايرجع بسبب تغيّر الحكم الشرعي الذي استنبطه بل لأنّه ليس مصوناً من عدم إصابة حكم اللّه تعالى، فربّما مخطئ في فتواه ثم يظهر له خطؤه فيرجع عن فتواه، ورجوع المجتهدين عن رأيه إلى رأي جديد ليس بعزيز.

فلايقاس الحكم الشرعي الثابت المصون عن التغيير بفتوى المجتهد الذي ليس مصوناً من الإشتباه والخطأ.

وبعض الأمثلة التي ذكرها الكاتب ليس من تغيير الفتوى أيضاً بشيء بل هي

ص: 51

أشبه بالإجتهاد في مقابل النص ورد النص بالتأويل:

قال في مسألة كون المرأة ناخبة أو نائبة «فقد صدرت مثلاً فتوى في النصف الأول من هذا القرن بعدم السماح للمرأة أن تكون ناخبة أو نائبة، وتجاوز الزمن هذه الفتوى كما تجاوزتها الفتوى البصيرة من العلماء الآن إذ لم يقرّوا الدليل الذي استند عليه المانعون، ونظروا إليه من وجهة نظر أُخرى، فوق أن المرأة تعلّمت وقطعت أشواطاً في العلم كالرجل، وكذلك في الوظائف، وبرز الكثير في عملهنّ وتخصّصهنّ فلم يعد من المستساغ باسم الدين منعهنّ من إبداء الرأي في الإنتخابات أو المجالس التشريعية أو الأعمال الإدارية بينما نعطيه الرجل الأُمي، على أن لكل بلد وضعاً يراعيه المفتون في فتاواهم قد لايوجد في بلد آخر» إلى آخره.

ونحن لانريد الكلام والبحث في المسألة هنا لإبداء رأينا الفقهي، ولكن حيث ندرك خطر المسار الخارج على الأحكام الشرعية الذي يسيّره مثل هذا الكاتب، لانخفي أسفنا الشديد على هذه المواجهة الهدّامة مع نصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة والأُمة! فكأنّه يرى أنّ لكل أحد أن ينظر إلى النصوص والأدلّة بأيّ وجهة شاء، ولو انتهت وجهته إلى ترك النصوص، فلا معيار ولا ميزان للنظر في النصوص والإستنباط منها!

وكأنّه ظن أنّ الشارع الحكيم العالم بالمغيّبات الذي أرسل رسوله الخاتم بالدين الذي ختم به الأديان، وشرائع الأحكام التي ختم بها الشرائع، لم يكن عالماً بأنّ المرأة سوف تقطع أشواطاً في العلم.

وكأنّه زعم أن ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام المختصة بالنساء أو

ص: 52

الرجال مختص بعصر الرسول صلى الله عليه و آله وعصور لم تتقدّم فيها المرأة التقدّم الذي وصفه! فقوله تعالى: [الرِّجَالُ قَواَّمُونَ عَلى النِّسَاء](1) ، وقول نبيه صلى الله عليه و آله: «لَنْ يفلح أمر قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» وغيرهما من النصوص ساقطة - والعياذ باللّه - عن الإعتماد والإستناد إليها!

أو لم يكن في عصر الرسالة من النساء من كانت أبصر وأحذق في الأُمور من كثير من الرجال؟ ألم تتولَّ في إيران السلطنة والملك امرأة من بني ساسان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيها: «لَنْ يُفْلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة»(2).

هذا مضافاً إلى أنّ الرجال كانوا إلّاالقليل منهم كالنساء في الأُمية، فلو كانت علّة بعض الفروق الشرعية بين المرأة والرجل أُمية النساء كان اللازم جعل ذلك اللأُميّين وغيرهم رجالاً ونساءاً.

فاتضح بذلك أنّ حكمة الفرق في بعض الأحكام بين الرجال والنساء ليست ما زعمه الكاتب من أُمّية النساء في عصر الرسالة وتأخّرهن عن الرجال في بعض الكفاءات.

وقد ظهر مما ذكرناه أنّه لايجوز للمؤمن بالدين الحنيف وخاتميته وبقاء أحكامه إلى آخر الدهر مواجهة النصوص، وردها بهذه المحامل الفاسدة التي لو فتح بابها لايبقى نص ولاحكم في مأمن منها، بل تكون كل الأحكام والقوانين المالية والسياسية والإجتماعية والشخصية معرضاً للتغيير والتبديل المستمر.5.

ص: 53


1- النساء: الآية 34.
2- تحف العقول: 35.

فيمكن أن يقال مثلاً: إنّ الطلاق إنّما جعل بيد الرجل دون المرأة حينما كانت المرأة تعيش عيشة الأُمّية، ولاتعرف شيئاً عن حقوقها الإنسانية إلّاأن تكون خادمة للزوج والبيت حاضنةً للطفل، وأما في عصر تتنافس النساء مع الرجال في العلوم والفنون، وظهور المرأة أكثر حذقة من الرجال في تدبير المجتمع والدولة، فكيف نسمح أن يكون أمر الطلاق بيد الرجل يطلّق امرأته في أيّ زمان شاء، ولايكون للمرأة ذلك؟!

وهكذا يقال: «لاغفر اللّه لقائله» في العدّة وغيرها حتى تكون النتيجة، أن يأتي هؤلاء الذين يعدّون أنفسهم من أهل التنوُّر والثقافة بشرعٍ جديد، وفقهٍ حديث هو أبعد عن فقه ديننا الحنيف، وشرعه القويم، الذي جاء به رسولنا النبي الكريم صلى الله عليه و آله، من المشرق عن المغرب؛ لأنّه فقه يحلّل الربا المحرّم ويسمِّيه استثماراً وفائدة، ويحلّل سائر المحرّمات ويسمّيها بأسماء أُخر، أو يبقيها على أسمائها!

أعاذنا اللّه وجميع المسلمين وأحكام دينه المبين من هذا الفقه الخارج عن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، الفقه الغربي الأمريكي الذي يؤيّده وينشره ويدعو إليه فقهاء الأنظمة العميلة.

ولاحول ولاقوّة إلّاباللّه العلي العظيم، وصلى اللّه

على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لطف اللّه الصافي

25 ذي الحجة 1410 ه - لندن

ص: 54

مسألة التعصيب

اشارة

ص: 55

ص: 56

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وحبيبه وصفيه خير خلقه سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

وبعدُ، فقد طالعت كلمة فضيلة شيخ الأزهر الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - ألهمنا اللّه تعالى وإياه الخير والصواب - التي نشرتها جريدة الأهرام المصرية الصادرة بتاريخ 27-1-89 حول مطالبة الأُستاذ أحمد بهاء الدين المالكي مراجعة الفقه الشيعي في باب المواريث، وهو منع العَصَبة من إرث باقي التركة وردُّ ما بقي على أصحاب الفروض كالبنت والبنات، طالباً إعادةَ النظر في المسألة وملاحظة أدلّة القائلين بعدم إرث العصبة وردِّ ما بقي إلى أصحاب الفروض وأدلّة القائلين بإرث العصبة، والأخذ برأي الذي أدلّته من الكتاب والسنة أقوى من الآخر، وأنّه لاينبغي الإعراض عن رأي انفرد به تلامذة مدرسة أهل البيت عليهم السلام لأنّه رأي شيعي، فالْحَريُّ بالمجتهد أن يكون حُرّاً في اجتهاده لاينظر إلى الأدلّة ليصل إلى مذهب فقهي معين، بل ينظر فيها ليصل إلى ما تنتهي الأدلّة إليه، ولايختار رأياً إلّابعد ملاحظة أدلّة آراء الفقهاء والغور فيها، ومقارنة بعضها مع بعض، سواء انتهى اجتهاده إلى ما يوافق الفقه الشيعي أو السني.

ص: 57

والبحث كله يجري في أنّ أي المذهبين في الموضوع معتمد على نصوص الكتاب والسنة وأيّهما خرج عنهما.

قال الشيخ جاد الحق: والواضح من نصوص القرآن الكريم في آيات المواريث، ومن نصوص السنة الشريفة التي وثّقها جمهور المحدّثين إنّ ما انفرد به فقه المذهب الشيعي الإمامي في هذا الموضوع وغيره خروج على نصوص القرآن والسنة الصحيحة فضلاً عن عمل الصحابة. إنتهى.

ومن الواضح: أنّ هذا كلام معارض بمثله من الشيعة وهو: أنّ ما انفرد به فقه المذهب السني في القول بالتعصيب واستحقاق العصبة ما بقي من السهام المقدّرة وغيره خروج على نصوص القرآن العزيز والسنة الشريفة، ومستلزم في الموضوع للآراء الفاسدة التي لايقبلها العقل والعرف، وينزّه الدين الحنيف منها.

عيد سعيد عيد سعيد

ص: 58

ما يستدل لإثباته في الفقه السني أو الشيعي

الذي يستدلّ لإثباته في الفقه السني أمران:

أحدهما: أنّ رد ما بقي من السهام إلى أرباب الفروض خروج على النصوص.

وثانيهما: أنّ التعصيب والقول باستحقاق العصبة ما بقي من السهام مأخوذ من النصوص كتاباً و سنةً.

والذي يستدلّ لإثباته في الفقه الشيعي أمران أيضاً:

الأول: أنّ القول بالتعصيب خروج على النصوص.

والثاني: أنّ القول بردّ ما بقي إلى أقرباء الميت من ذوي الفروض مأخوذ من الكتاب والسنة.

ونحن نتكلّم في كل واحد من هذه الأُمور الأربعة من غير تعصّب لمذهب دون آخر إن شاء اللّه تعالى.

ص: 59

هل ردّ ما بقي من السهام إلى أرباب الفروض خروج على النصوص؟

والجواب: أما النصوص القرآنية، فاعلم أنّ المقطوع به من دلالة آيات الفرائض عليه أنّ لأربابها الفرائض المقدرة، فإذا لم ينقص المال عن السهام المفروضة يرثونها بالفرض أما إنّهم إذا بقي من السهام شيء يرثونه أم لايرثونه؟ فلا دلالة لهذه الآيات عليه، فكما لا دلالة لهذه الآيات على أنّ ما بقي للعصبة والأولى من الذكور دون الأُنثى، لادلالة لها على حرمان أرباب الفرائض عما بقي إذا زاد المال عن السهام، والحكم على الفقه الشيعي بخروجه على النصوص القرآنية موقوف على استظهار حصر نصيب البنت أو البنات وسائر أرباب الفروض في السهام المقدّرة، وحرمانهم عمّا بقي من آيات المواريث بالإستظهار العُرفي المعتبر المفقود في الموضوع، لأنّ هذا الإستظهار مبني على الأخذ بمفهوم اللقب المعلوم عدم اعتباره، قال الغزالي في درجات دليل الخطاب: الأُولى - وهي أبعدها -: وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا(1).

وعلى هذا لا نص من القرآن على حصر نصيب أرباب الفروض فيها، وحرمانهم عمّا بقي حتى يكون القول برده إليهم خروجاً عليه.

وأما النصّ في السنّة الشريفة:

فالذي يستدلّ به على خروج القول بردّ ما بقي إلى أرباب الفروض خروجاً6.

ص: 60


1- المستصفى: ج 2، ص 46.

عليه هو عين ما يستدلّ به في الفقه السني على استحقاق العصبة ما بقي من المال وهو خبران:

الخبر الأول: ما رووه عن طاووس مرسلاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعن ابن عباس مسنداً بألفاظ مختلفة.

ويناقش فيه أوّلاً: بضعفه؛ لإرساله في بعض طرقه كما في الترمذي، واختلاف الطرق في لفظ الحديث، ففي بعضها: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) وفي بعضها: (أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب اللّه فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر).

ويدلّ ذلك على عدم ضبط الخبر سنداً ومتناً، وعلى وقوع الإشتباه إما في الطريق المرسل بوقوع النقص فيه أو الزيادة في الطرق المسندة، ولاترجيح لأحدهما على الآخر، ولايرجّح الطريق المسند على المرسل، لتقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، لعدم تقدّم الأصل الأولي على الثاني مطلقاً، سيما إذا كان الطريق الذي يجري فيه أصالة عدم النقيصة أضبط وأحفظ، وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتب أُصول الفقه.

وثانياً: بضعفه؛ لأنّ راويه عبداللّه بن طاووس مجروح بأنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك الأُموي المرواني، قاتل أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن علي (ابن الحنفية) بالسمّ ظُلماً وخداعاً، وكان ابن طاووس كما هو شأن كل من يوالي بني امية كثير الحمل على أهل البيت عليهم السلام(1).8.

ص: 61


1- العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل: ص 103-104، الكامل لابن الأثير:، ج 5، ص 44، تهذيب التهذيب: ج 5 ص 268.

وثالثاً: روي عن ابن عباس وطاووس والد عبد اللّه تكذيبه، وتبرّؤهما من هذا الخبر، روى ذلك أبو طالب الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، عن أبي إسحاق، عن قارية بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة فقلت: يابن عباس، حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أنّي أقول: إنّ قول اللّه عزوجل: [آباؤكم وأبناؤكم لاتدرون أيّهم أقرب لكم نفعا فريضة من اللّه](1) وقوله: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](2) وهل هذه إلّافريضتان، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، ولاطاووس يرويه علَيَّ، قال: قارية بن مضرب: فلقيت طاووس فقال: لا واللّه ما رويت هذا على ابن عباس قط، وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال سفيان:

أراه من ابنه عبد اللّه بن طاووس، فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك، وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً، يعني: بني هاشم(3).

ورابعاً: بضعفه؛ من جهة دلالته، وأنّه لايثبت به ضابطة عامة أو نظام جامع كلِّي، فمن أين ذهبتم إلى إرادة العموم من لفظي (المال) و (الفرائض) فلعلّه صلى الله عليه و آله أمر بذلك في مورد خاص، وواقعة خاصة، وأراد بالمال ما كان معهوداً بين7.

ص: 62


1- النساء: الآية 11.
2- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.
3- تهذيب التهذيب: ج 5 ص 268، تهذيب الأحكام: ج 9، ص 262، الخلاف للطوسي: ج 2، ص 67.

المتكلم والمخاطب: أي مال ميت خاص، وبالفرائض أيضاً: فرائض أهلها في مورد خاص، خفي علينا وطرأ عليه الإجمال لتقطيع الخبر، وحذف السبب الذي اقتضى صدور هذا الكلام، وكم لذلك من نظير من الأحاديث، ويؤيّد ذلك وأنّ الخبر ليس على ظاهره، إجماعهم على ترك الأخذ بظاهره في موارد كثيرة(1).

هذا، ومن تأمل في ما ذكر من العلل يعرف أنّ ترك مثل هذا الخبر بها ليس من الخروج على السنة بشيء، وإلّا فليعدَّ كل من ترك خبراً لعلّة من العلل خارجاً على السنة، وسواء قَبِلَ القائل بالتعصيب سقوط هذا الخبر عن الإعتبار، أم لم يقبل فهو معارض بالأخبار الصحيحة المخرّجة في الصحيحين وغيرها، وبالنصوص القرآنية كما سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى.

الخبر الثاني: خبر جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنهما.

ففي الترمذي: في باب ما جاء في ميراث البنات: حدثنا عبد بن حميد، حدثني زكريا بن عدي، أخبرنا عبيداللّه بن عمرو، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبداللّه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولاتنكحان إلّاولهما مال، قال: «يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى عمّهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أُمّهما الثمن، وما بقي فهو لك»(2).0.

ص: 63


1- يراجع في ذلك: تهذيب الأحكام: ج 9 ص 263، 264، وكتب فقه المذاهب السنية.
2- سنن الترمذي: ج 3 ص 280.

وأخرجه أحمد في مسنده، وأخرج نحوه ابن ماجة في باب فرائض الصلب قال: حدثنا محمد بن عمرو العدني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر.

وأخرجه أبو داود بسنده عن عبد اللّه في باب ما جاء في الصلب وساق نحوه.

والإحتجاج به ضعيف لأُمور:

الأول: لأنّه معارض بغيره من الأخبار الواردة في سبب نزول الآية أيضاً عن جابر.

قال السيوطي: أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طرق، عن جابر بن عبداللّه قال: عادني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبوبكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه و آله لاأعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضّأ منه ثم رشّ علَيَّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول اللّه، فنزلت: [يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثيين](1).

وأخرج عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعودني وأنا مريض، فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علَيَّ شيئاً ونزلت:

[يوصيكم اللّه في أولادكم] (2) .

الثاني: لضعف سنده؛ لأنّ راويه عبد اللّه بن محمد بن عقيل، وهو وإن وصفه5.

ص: 64


1- النساء: الآية 11.
2- الدر المنثور: ج 2، ص 124-125.

ابن حبّان بأنّه من سادات المسلمين وفقهاء أهل البيت وقرّاءهم، إلّاأنّهم لايحتجون بروايته، وضعّفوه وقالوا بوجوب مجانبة أخباره، ورموه برداءة الحفظ(1) والراوي عنه في مسند الترمذي والمسند عبيد اللّه بن عمرو، وهو مرميّ بأنّه كان أخطأ(2) ، والراوي عنه وهو زكريا بن عدي، قال أبو نعيم فيه: ماله وللحديث هو بالتوراة أعلم، وكان أبوه يهودياً فأسلم(3).

ومحمد بن أبي عمرو الواقع في سند ابن ماجة هو محمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني المكي، قال أبو حاتم: كان به غفلة، ورأيت عنده حديثاً موضوعاً حدث به عن ابن عيينة(4).

الثالث: لأنّه أخرج أبو داود الحديث بلفظٍ آخر قال: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضّل(5) حدثنا عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن جابر، عن عبداللّه قال:

خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق فجاءت المرأة باثنتين، فقالت: يا رسول اللّه، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أُحد، وقد استفاء عمّهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالاً إلّاأخذه، فما ترى يا رسول اللّه؟ فواللّه لاتنكحان أبداً إلّاولهما مال، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:ة.

ص: 65


1- المجروحين من المحدّثين: ج 2 ص 41، الجرح والتعديل: ج 2 ص 154، تهذيب التهذيب: ج 6، ص 13-15.
2- تذكرة الحفّاظ: ج 1، ص 241.
3- تهذيب التهذيب: ج 3، ص 331، تذكرة الحفّاظ: ج 1، ص 396.
4- الجرح والتعديل: ج 4 القسم الأول ص 124 و 125 الرقم 560.
5- بشر بن المفضّل كان عثمانياً، أي منحرفاً عن علي عليه السلام، فوصفوه بأنّه صاحب السنة.

«يقضي اللّه في ذلك»، قال ونزلت سورة النساء: [يوصيكم اللّه في أولادكم]... (1) الآية، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ادعو لي المرأة وصاحبها، فقال لعمّهما: أعطهما الثلثين، وأعط أُمّهما الثمن، وما بقي فلك»، فقال أبو داود:

أخطأ فيه، هما بنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة(2).

وهذا الخبر كما ترى مخالف لفظاً ومدلولاً لما رواه الترمذي والمسند وابن ماجة وأبو داود في طريقه الآخر، ولاريب أنّه لايحتج به؛ لأنّ ثابت بن قيس - كما ذكره ابن داود وغيره - كان حيّاً إلى واقعة اليمامة، وقتل في هذه الواقعة، إلّا أنّه حيث إنّ الأقرب أنّ الذي وقع في هذا الغلط والإشتباه هو عبد اللّه الذي وصفوه برداءة الحفظ يكون هذا الخبر أيضاً شاهداً على ذلك، وسقوط روايته عن الإعتبار.

وبعد ذلك كله هذا الخبر لايصلح للإحتجاج به؛ لأنّه أيضاً معارض بغيره مثل خبر سعد بن أبي وقاص الذي سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

ما هو الدليل من الكتاب والسنة على القول بالتعصيب؟

قد علم مما ذكرناه أنّه ليس هنا نص من القرآن الكريم يدلّ على حرمان أرباب الفرائض عما بقي منها، وحصر نصيبهم في السهام المقدّرة، فضلاً من أن يدلّ على استحقاق العصبة له.4.

ص: 66


1- النساء: الآية 11.
2- سنن أبي داود: ج 2 ص 4.

وأما السنّة الشريفة فما تعلّقوا به كما عرفت هو خبر ابن طاووس وجابر بن عبد اللّه، وقد تبيّن لك حال خبريهما وأنّهما لايصلحان للإحتجاج بهما.

ما يترتّب على القول بالتعصيب من الآراء الفاسدة:

بعدما عرفت من عدم وجود نص قرآني على صحة القول بالتعصيب، وضعف ما تعلّقوا به من السنة سنداً ودلالة، فاعلم أنّه يضعف هذا القول بما يترتّب عليه من الأقوال الباطلة:

منها: أنّهم الزموا أن يكون الولد الذكر للصلب أضعف سبباً من ابن ابن ابن عم، بأن قيل لهم: إذا قدّرنا أنّ رجلاً مات وخلّف ثمانية وعشرين بنتاً وابناً، كيف يقسّم المال؟ فمن قول الكل: إن لِلْابنِ سهمين من ثلاثين سهماً ولكل واحدة من البنات جزء من الثلاثين، وهذا بلا خلاف، فقيل لهم: فلو كان بدل الابن، ابن ابن ابن العم؟ فقالوا: لابن ابن ابن العم عشرة أسهم من ثلاثين سهماً وعشرين سهماً بين الثمانية والعشرين بنتاً، وهذا على ماترى تفضيل للبعيد على الولد الصلب، وفي ذلك خروج عن العرف والشريعة(1).ب.

ص: 67


1- من جهة زيادة نصيب ابن ابن ابن العم إذا كان مع البنات على نصيب الولد الصلب، ومن جهة زيادة نصيب ابن ابن ابن العم إذا كان مع البنات على نصيب الابن إذا كان معهن، والمثال الآخر لذلك إذا كان له خمس بنات وابن فللابن سهمان من سبعة أسهم، ولكل من البنات سهم واحد، وإذا كان له خمس بنات وابن عم فلكل من البنات سهمان من خمسة عشر، ولابن العم خمسة أسهم، وفي كل ذلك تفضيل للبعيد على القريب.

وترك لقوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

ثم قيل لهم: فما تقولون إن ترك هذا الميت هؤلاء البنات ومعهم بنت ابن، فقالوا: للبنات ثلثان وما بقي فللعصبة، وليس لبنت الابن شيء: لأنّ البنات قد استكملن الثلثين، فإذا استكملن فلاشيء لهنّ، قيل لهم: فإنّ المسألة على حالها إلّا أنّه كان مع بنت الابن ابن ابن، قالوا: للبنات ثلثان وما بقي فبين ابن الابن وابنة الابن، للذكر مثل حظّ الأُنثيين، قلنا لهم: فقد نقضتم أصلكم وخالفتم حديثكم، فلم لاتجعلون ما بقي للعصبة في هذه المسألة كما جعلتموه في التي قبلها؟ ولِمَ لم تأخذوا في هذه المسألة بالخبر الذي رويتموه فتعطوا ابن الابن، ولاتعطون ابنة الابن شيئاً، في أيّ كتاب أو سنّة وجدتم أنّ بنات الابن إذا لم يكن معهنّ أخوهنّ لايرثن شيئاً، فإذا حضر أخوهنّ ورثن بسبب أخيهن الميراث؟(2) القول بالتعصيب خروج على النصوص القرآنية:

إعلم أنّه يستدل على بطلان القول بالتعصيب بخروجه على النصوص القرآنية المبيّنة لأنظمة المواريث وقواعدها المحكمة.

منها: قوله تعالى: [للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ممّا قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً](3).7.

ص: 68


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.
2- تهذيب الأحكام: ج 9، ص 265-266.
3- النساء: الآية 7.

قد أبطل اللّه تعالى بهذه الآية النظام الجاهلي المبني على توريث الرجال دون النساء مثل توريث الابن دون البنت، وتوريث الأخ دون الأُخت، وتوريث العم دون العمة، وابن العم دون بنته، فقرر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة، كالابن والبنت والأخ والأُخت، وابن الابن وبنته والعم والعمة وغيرهم، فلايوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلّاوهي ترث من الميت بحكم هذه الآية الكريمة.

والآية صريحة ونص على إبطال النظام الجاهلي المذكور، وإعطاء النظام الإلهي المبني على توريث أهل طبقة واحدة، كما أنّها صريحة في توريث الرجال مع النساء، فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم في طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً والحال هذا نقض لهذه الضابطة القرآنية.

ومثل هذا النظام الذي تجلى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة، ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها، يقتضي أن يكون عاماً لايقبل التخصيص والإستثناء إلّاإذا كان وجهه ظاهراً بنظر العُرف لايعد عنده نقض القاعدة المقررة، كما هو كذلك (أي نقض للقاعدة) على القول بالتعصيب.

فالفرق واضح بين إخراج الوارث الكافر أو القاتل من تحت العمومات بالتخصيص، وإخراج العمة إذا كانت مع العم عن إرث ابن الأخ بالتعصيب، وكذا إخراج بنت العم إذا كانت مع ابن العم، والحكم بحرمانها عما بقي من الفرائض، واختصاص ما بقي بابن العم، فإنّ في الأول تخصيص عمومات الإرث بالوارث الكافر والقاتل، تخصيص عرفي يحمل به العام على الخاص تحكيماً للأظهر

ص: 69

على الظاهر، فإخراج الولد القاتل عن عموم قوله تعالى: [للرجال نصيب]الآية، لايعد نقضاً لأصل القاعدة التي بيّنتها هذه الآية، بخلاف تخصيص هذه القاعدة بالنساء فيما بقي من الفرائض؛ فإنّه عند العرف يعد نقضاً لهذة القاعدة التي قررت مشاركة النساء مع الرجال في الميراث بلاموجب ظاهر، فلايراه العرف إلّاكنفي تلك القاعدة ورفع اليد عن حكمتها وفائدتها قاعدة تقتضي شمولها لجميع الموارد.

وهذا أمر يظهر بالتأمل وملاحظة مناسبة الحكم والموضوع، ففي الأول ليس التخصيص والإخراج منافياً لمناسبتهما، بخلاف الثاني فإنّ الحكم باختصاص المرء بالمال منافٍ لمناسبة الحكم والموضوع في النظام المذكور الآبي عن الإستثناء.

إن قلت: لااعتبار بفهم العرف وجهَ حكم الشرع، فسواء فهِمه أم لم يفهمه وجب علينا القول والإتباع والتسليم، قال اللّه تعالى: [وما كان لمؤمن ولامؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم](1) وهذا أي عدم دخل فهم وجه حكم الشرع في وجوب الإمتثال والتسليم القلبي والعملي ثابت بالعقل والشرع، ولعلّك لم تجد عارفاً بحكمة جميع الأحكام بالتفصيل لا من العلماء ولا من غيرهم إلّامن علّمه اللّه تعالى ذلك.

قلنا: نعم يجب علينا التسليم والإطاعة وإن لم نفهم وجه حكمة الحكم، بل كمال العبودية للّه تعالى لايتحقّق إلّابالتسليم المحض قبال أوامر المولى،6.

ص: 70


1- الأحزاب: الآية 36.

فلايسأل العبد في مشهد العبودية عن وجه أمر المولى، لايلتفت إلى نفسه ولايرى إلّامولاه، لايقصد بعمله إلّاوجه اللّه تعالى وإطاعة أمره، قال اللّه تعالى: [وما أُمروا إلّاليعبدوا اللّه مخلصين له الدين](1) ، وقال سبحانه وتعالى:

[ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه للّه وهو محسن] (2) .

إلّا أنّ ذلك لايدفع ما ذكرناه، ولايبطل به ما يستظهر العرف بمناسبة الحكم والموضوع من الألفاظ، فيرى في مورد العموم المستفاد من اللفظ آبياً عن التخصيص، فيردّ دليل المخصّص أو يحمله على ما لاينافي العموم، وفي مورد آخر لايرى بأساً بتخصيص العموم، فبعد ورود المخصّص يحمل العام على الخاص حملاً للظاهر على الأظهر كما مر، وهذا أمر واضح عند العارف بالمحاورات العرفية.

ولمزيد التوضيح وظهور إباء الآية عن التخصيص بالنسبة إلى المرأة، وعدم جواز تخصيص عمومه بالخبرين المذكورين، حتى ولو سلما عن المناقشة فيهما دلالةً أو سنداً نقول: إنّ الأحكام الشرعية على قسمين:

قسم منها الأحكام العبادية المتعلّقة بما بين العبد وبين اللّه تعالى، والوظائف التي يتقرّب بها كل فرد إلى اللّه تعالى، ويستكمل بها الكمالات الإنسانية، ويحضر بها مشاهد القرب، ويتشبّه بها بالملائكة الروحانية، و يرتفع بها إلى الحضور في عالم القدس والأُنس.5.

ص: 71


1- البيّنة: الآية 5.
2- النساء: الآية 25.

وهذه الأحكام وإن كانت أساس السعادات الدنيوية والأُخروية، والجسمية والروحية، وروح جميع الأنظمة الشرعية إلّاأنّ الغرض الأول والأسنى من تشريعها إيصال العباد إلى المقامات المعنوية، والتوجّه إلى خالقهم ومنعمهم الحقيقي، وجلوسهم على بساط الشكر وحصول حال التعبّد والتسليم والإنقياد للحق في نفوسهم وغير ذلك.

فهذه أحكام تعبّدية صرفة لايطّلع على ما فيها من الحكم بالتفصيل إلّا الأوحدي من الناس ممن أكرمه اللّه تعالى بالإطلاع على ذلك، ولايتحقّق الغرض الأصلي منها إلّابامتثالها بقصد الإطاعة والتعبّد الخالص، فلو اطّلع العبد على بعض ما فيه من الفائدة والحكمة غير ما يتحقّق بالعبادة والإتيان به تعبّداً، فأتى به لتحصيل هذه الفائدة والحكمة لم يكن ممتثلاً لها، ولايستحق بها ما يستحق عباد اللّه المخلصون.

والقسم الثاني: الأحكام المشروعة لنظم أُمور الدنيا، وسياسة المدن، وإدارة المجتمع، وروابط الأفراد بعضها مع بعض في الأموال وغيرها، ففي مثل هذه الأحكام بملاحظة الأحكام وموضوعاتها والمناسبة بينهما، يفهم العرف في الجملة غرض الشارع، وما يحقّقه وما يرتبط به، ويكون لهذا الفهم دخل في استظهار مراده من كلامه من العموم والخصوص وغيرهما، وتكون هذه المناسبات التي يفهمها العرف من القرائن الحالية أو المقالية الدالّة على ما أراده المتكلم من كلامه.

فإذا قرّر الشارع الذي أخذ بيد المرأة المسكينة، وأنقذها من دركات السقوط والشقاء، أنّ للنساء نصيباً مما ترك الوالدان والأقربون كما قرر ذلك للرجال،

ص: 72

بمناسبات كثيرة من عناية بحفظ حقوق النساء وكرامتهنّ الإنسانية والمنع عن إستضعافهن، يفهم أنّ عموم هذا الحكم الحافظ لشؤون المرأة وتثبيت حقوقها في المجتمع لايقبل التخصيص بحرمان المرأة عن حقها واستقلال المرء بإرث جميع ما بقي لكونه من الكرّ على ما فرّ.

فكما لايقبل التخصيص قوله تعالى: [اعدلوا هو أقرب للتقوى](1). وقوله تعالى: [ما على المحسنين من سبيل](2) وقوله تعالى: [وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به](3) وغيرها من القواعد الشرعية القرآنية، لاتقبل هذه القاعدة المحكمة، الحاكمة بإرث المرأة من الميت إذا كانت مع المرء في طبقة واحدة، أيضاً التخصيص.

وهذه أُمور لابدّ للفقيه ملاحظتها عند النظر في أدلّة الأحكام.

فإن قلتم: فكيف اختلف نصيب المرء والمرأة من الميراث وصار للذكر مثل حظّ الأُنثيين.

قلنا: إنّ اختلاف الذكر والأُنثى في تقدير الميراث لاينافي القاعدة المذكورة، فإنّها تقرّر إرث المرأة مع الرجل من تركة الميت إذا كانت معه في درجة واحدة، وأما تقدير السهام فأمر آخر يثبت بدليله، لاينافي المحافظة على حقوق المرأة ورفع الإستضعاف عنها، سيما إذا كان ذلك بملاحظات اقتصادية مثل أن المرء6.

ص: 73


1- المائدة: الآية 8.
2- التوبة: الآية 91.
3- النحل: الآية 126.

يعطي ولايعطى، والحاصل أنّ تقدير المواريث بالإختلاف أمر لايخالف القاعدة المشار إليها بخلاف حرمانها عن الميراث.

هذا، وقد ظهر مما ذكر بطوله أنّ هذا النص القرآني الدال على إرث المرأة من تركة الميت إذا كانت مع الرجل في درجة واحدة لايقبل التخصيص، سواء كان المال الذي يرثاه تمام تركة الميت، أو بعضها مما بقي من سهام أرباب الفرائض، وهذا - أي إباء هذا النص من قبول هذا التخصيص - من أقوى الشواهد على ضعف خبر ابن طاووس وخبر جابر.

آية أُخرى:

ومن النصوص القرآنية التي يكون القول بالتعصيب خروجاً عليها هو قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

فقد دلّت على قاعدة مهمة مبنية على أهم ما بنيت عليه أحكام المواريث الشرعية، وهي أنّ الإرث على ترتيب الطبقات، الأقرب فالأقرب، والأقرب ذكراً كان أو أُنثى يمنع الأبعد، ومن كان منهما في الطبقة المتقدمة يمنع من كان في الطبقة المتأخرة، ولاريب أنّ البنت أقرب من ابن ابن أخ ومن ابن العم ومن العم؛ لأنّها تتقرب إلى الميت بنفسها وهؤلاء يتقربون إليه بغيرهم، فالحكم بتقديم كل واحد من هؤلاء عليها تقديم للأبعد على الأقرب، ومن يتقرب بالميت بغيره على من يتقرّب بنفسه، ولاريب أن هذا خروج على هذا النص القرآني الذي قرر 6

ص: 74


1- الأنفال: الآية 75، الأحزاب: الآية 6

أنّ الأقرب من أولى الأرحام أولى من الأبعد.

ومن جانب آخر يخالف القول بالتعصيب الآيتين الكريمتين؛ لأنّ مدلولهما أنّ الأقربية إلى الميت هي تمام المناط لإرث الوارث لتركته، ففي أي شخص وجد هذا المناط فإنّه يرث الميت، لاترجيح لأقرب على أقرب إذا كان الأقرب أكثر من واحد، سواء كان الجميع ذكوراً أم إِناثاً، أو بعضهم من الذكور وبعضهم من الإِناث، وسواء كان ما يرثونه جميع تركة الميت، أو بعضها مما بقي من الفرائض، فالقول بأنّ ما بقي من الفروض لأولى رجل ذكر، دون من كان في درجته من الإِناث خروج على ما تنص عليه الآيتان، من أنّ تمام المناط في إرث المال الأقربية إلى الميت والحال.

فإن قلتم: إنّ المستفاد من الآيتين أنّ أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، إلّا أنّه لم يعيّن هذا البعض الأولى، فذلك يستفاد من غير الآيتين من الكتاب والسنة.

قلنا: إن ما قلتم خلاف الظاهر؛ فإنّ مدلولها ليس أنّ بعضهم أولى ببعض تشريعاً وقانوناً وإن كان أبعد من الميت من غيره، بل في الآيتين مضافاً إلى تشريع أولوية بعضهم ببعض إشارة إلى جهة واقعية، ورابطة تكوينية تكون بين الوارث والمورّث وهي: المناط في أولوية الوارث، فمن كان بهذه الرابطة أقرب إلى الميت فالعُرف والإرتكاز يراه أولى به، والشرع قرر هذا الإرتكاز العرفي، فجاء تشريعه موافقاً للتكوين، فكأنّه بقوله: (وأُولوا الأرحام...) بيَّن ما يراه العُرف، ويأمر به حسب اقتضاء طبع الموضوع.

وكيف كان، فلاريب في أنّ الأقرب يمنع الأبعد بحكم الآيتين، وأن توريث الأبعد بالعصبة في الموارد الكثيرة نقض لهذه القاعدة المرتكزة في الأذهان التي

ص: 75

حكم بها الشارع، وأبطل بها غيرها من أحكام الجاهلية، كما أنّه لاريب في أنّ خصوص الذكر الأقرب إلى الميت دون الأُنثى التي هي في درجته، كما يفعله القائل بالتعصيب، خروج على هذا النص القرآني.

آية أُخرى:

ومما خرّجوه على النصوص القرآنية قولهم بأنّ الأخ يرث النصف مع البنت، فإنّه مضافاً إلى خروجه على قوله تعالى: (وأُولوا الأرحام...) خروج على النص القرآني الآخر، وهو قوله تعالى: [إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أُخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهاإن لم يكن لها ولد](1) وذلك لأنّ إرث الأخ من الأُخت مشروط بحكم الآية بانتفاء الولد، ولاريب في أنّ البنت ولد، بدليل قوله تعالى: [يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثيين] فلايكون الأخ وارثاً مع الولد مطلقاًبنتاً كان الولد أو ابناً؛ لأنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، فتوريث الأخ النصف مع البنت خروج على الكتاب العزيز.

ومن جهة أُخرى خالفوا الكتاب في توريث أُخت الميت لأبيه واُمه النصف مع بنت الميت فإنّ ذلك أيضاً خروج على قوله تعالى: [إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أُخت]، لصدق الولد على البنت.

وقد أخرج الحاكم في المستدرك أنّه سئل ابن عباس عن رجل توفى وترك بنته وأُخته لأبيه وأُمه فقال: ليس لأُخته شيء، والبنت تأخذ النصف فرضاً76

ص: 76


1- النساء: الآية 176

والباقي تأخذه ردّاً... الحديث.

القول بالتعصيب خروج على نصوص السنة الشريفة:

منها ما أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وكذا مسلم وغيرهما، ومن جملة طرقه ما رواه البخاري في باب ميراث البنات قال: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: «مرضت بمكة مرضاً فأشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه و آله يعودني، فقلت: يا رسول اللّه، إن لي مالاً كثيراً، وليس يرثني إلّاإبنتي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس»...(1) الحديث.

وفي مسلم في باب الوصية بالثلث وفيه: (ولايرثني إلّاابنة لي واحدة) وفي الترمذي في باب ما جاء في الوصية بالثلث قال: وهذا حديث حسن صحيح.

وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن سعد بن أبي وقاص، وأخرجه كما في الدر المنثور مالك والطيالسي، وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي، وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان.

وهذا الحديث نص على بطلان القول بالتعصيب؛ لأنّه قال: (وليس يرثني إلّا ابنتي) ولم ينكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقرره على ما قال، ومقتضاه كون جميع5.

ص: 77


1- كتاب البخاري: ج 8 ص 5.

التركة للبنت، ولاتجوز جميعها إلّابالرد عليها، ويؤكد دلالة هذا النص على المذهب المختار في الفقه الشيعي، وأنّه لا دلالة لآيات الميراث في الفرائض على حرمان أربابها عما بقي، أنّ واقعة سعد ومرضه هذا وقعت بعد نزول آيات المواريث.

نص آخر من السنة يدلّ على بطلان التعصيب

ومما يدلّ من السنة الشريفة على بطلان القول بالتعصيب خبر واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: (المرأة تحوز ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي تُلاعن عليه) وفي لفظه الآخر: (والولد الذي لاعنت عليه)(1).

وجه دلالته أنّه لما منعت الملاعنة إرث الأب من الولد تحوز الأُم - مع أنّها من أرباب الفرائض - ما بقي من فرضه بالرد لا محالة، ولايسمع دعوى انصراف ما دل من الكتاب عن سهم الأُم من تركة ولدها الذي لاعنت عليه حتى يكون الخبر وارداً في مورد لم يفرض له فريضة في الكتاب، لعدم وجه لهذا الانصراف مع شمول الآية للأُم مطلقاً، سواء كان ولدها الولد الذي تلاعنت عليه أو غيره.

نعم هذا الخبر نص على صحة رد ما بقي من الفرض على صاحب الفرض، كما بُيّن في الفقه الشيعي، وهو وإن لم يدل على حرمان العصبة من الباقي، لأن لازم الحكم لعدم لحوق الولد بالملاعن عدم وجود العصبة له بحكم الشرع، إلّا أنّ القائل بالتعصيب حيث يقول بحرمان أرباب الفرائض من الباقي، سواء كان

ص: 78


1- المسند: ج 3، ص 490 وج 4 ص 107، وابن ماجه: باب تحوز المرأة ثلاث مواريث.

للميت عصبة أم لا، هذا الخبر يرد مااختاره في المال الباقي من السهام فتدبّر.

وكيف كان، فالإعتماد على خبر سعد المخرّج في الصحيحين النص على بطلان التعصيب.

ومثله ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال. قال: كان علي عليه السلام يعطي الإبنة النصف، والمرأة الثمن ويرُد ما بقي على الإبنة(1).

ما هي الأدلّة في الفقه الشيعي على صحة قولهم بالردّ؟

ربّما يقال: إنّه وإن ثبت بما ذكرتم بطلان القول بالتعصيب وخروجه على النصوص القرآنية كما ثبت أنّ القول بمنع العصبة من إرث الباقي وردّه إلى أرباب الفرائض من قربى الميت ليس خروجاً على النصوص إلّاأنّه لايثبت بذلك أنّ حكم اللّه تعالى فيما بقي هو الرد إلى أرباب الفرائض (غير الزوج والزوجة) بحسب سهامهم المقدّرة، فلايجوز الفتوى بذلك والقول به إلّابدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

فيقال: نعم هذا صحيح لابد من إثبات القول بالرد من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وعلى ذلك بني الفقه الشيعي في جميع المسائل.

وفي مسألتنا هذه، وإن ظهر مما ذكرناه أدلّة القول بالرد من الكتاب والسنة،8.

ص: 79


1- كنز العمال: ج 11، ص 7، ح 30388.

إلّا أنّه لمزيد التوضيح نقول: قد ثبت هذا القول بالدليل من الثلاثة:

أما الإجماع: فإنّه لا شك في أنّ إجماع الأُمة قد انعقد على قولين، ولا شك في أنّ إجماعهم كذلك إجماع على نفي القول الثالث يعبّر عنه في الإصطلاح بالإجماع المركب، ومعه لايجوز لأحد إلّااختيار أحد القولين، ومعناه أنّ الحق ليس خارجاً عنهما فبإثبات بطلان أحدهما تثبت صحة الآخر وإن لم تثبت صحته بدليل خاص، فلابد من القول به، وإلّا يلزم ردّ ما عليه جميع الأُمة ومخالفة إجماعهم.

وأما الكتاب العزيز: فيدلّ على أن ما بقي من المال بعد إلحاق الفرائض بأهلها يكون لذوي قرباهم قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1) حيث دل على أن من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بتركته، سواء كان هنا عَصَبة أم لم تكن، أو كان له التسمية أو لم تكن؛ لأنّه مع كونه أقرب يكون هو أولى بإرث جميع المال من غيره الأبعد.

فإذا لم يكن للميت غير البنت أو البنات، ترث بحكم هذه الآية تمام التركة، لكونها أقرب دون غيرها.

فإن قلتم: لاتصريح في الآية الكريمة بأنّ أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث أو أنّ هذه الأولوية في غير ذلك.

قلنا: لاريب في ظهور الآية في الميراث، وإن احتمل اللفظ الميراث وغيره، وغاية الأمر حمله على العموم مما يحتمله اللفظ من الميراث وغيره، فادعاء6.

ص: 80


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.

التخصيص بغير الميراث مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه خلاف الظاهر، فإنّ أظهر مصاديق العموم وما يتبادر منه هو الميراث والآية نص فيه.

وأما السنة: أمّا من طرق أهل السنة، فالذي يدلّ عليه من الصحيحين وغيرهما خبر سعد بن أبي وقاص الذي هو نص على صحة مذهب الشيعة، وخبر واثلة بن الأسقع وخبر سويد بن غفلة، وقد مر بيان الإستدلال بهما، فلانعيد الكلام في ذلك.

وأما من طرق الشيعة: فالأحاديث الثابتة عندهم من طرق أهل البيت عليهم السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله كثيرة متواترة مخرّجة في جوامعهم في الحديث في باب الفرائض والمواريث، بحيث لايشك من راجعها أنّ أهل البيت عليهم السلام هم الأصل لهذا المذهب بأحاديثهم ورواياتهم، وأقوالهم الثابتة بالأحاديث المتواترة لا عذر لمن ترك الرجوع إلى هذه الأحاديث التي تحمل فقهاً ضخماً، وعلوماً جمّة، وتغني المراجع عن إعمال القياس والقول بالرأي والإستحسان في دين اللّه، والعجب ممن يأخذ بأخبار النصاب وأعوان الظلمة، ويترك هذه الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام.

وقد قيل فيهم ونِعم ما قيل:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا

هذا مضافاً إلى أنّ حجية ما عند أهل البيت من العلم قد ثبت بمثل أحاديث الثقلين المتواترة، التي نص فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله على وجوب التمسّك

ص: 81

بالكتاب والعترة، وقال: [ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا فإنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض](1) فالعلم الذي هذا شأنه مأمون عن الخطأ فيه، ورواية من شأنه عدم الإفتراق من الكتاب أولى بالأخذ والإتباع من رواية غيرهم كائناً مَن كان، وإذا كان مثل الشافعي في مسألة التعويل على أخبار الآحاد يعوِّل على عمل أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويقول: وجدنا علي بن الحسين رضى الله عنه يعوّل على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي(2).

فكيف يجوز الإعراض عن علومهم وأحاديثهم تعصّباً لأعدائهم، وتمسّكاً بالخوارج والنواصب، وجرحهم الثقات الأثبات بجرم ولائهم لأهل البيت عليهم السلام والتمسّك بهداهم، فتراهم يخرجون حديث مَن ثبت نفاقه ببغض أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي قال له النبي صلى الله عليه و آله: «لايحبك إلّامؤمن ولايبغضك إلّامنافق»، ويصدّقونه، مع أنّ اللّه تعالى يقول: [واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون](3) وربّما يأوّلون هذا الحديث وأمثاله بتأويلات باردة غير مقبولة(4) ، وقد خسر الإسلام وأُمته بهذه السيرة السيئة خسارات كبيرة، لايمكن تداركها إلّابإعادة النظر في الأحاديث بقطع النظر عن الشرائط السياسية السائدة على أخذ الحديث وتحمله وروايته.ف.

ص: 82


1- أُنظر: نفحات الأزهار: ج 1؛ شرح إحقاق الحق: ج 9 و 24.
2- المستصفى: ج 1 ص 96.
3- المنافقون: الآية 1.
4- راجع كتاب: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، ومقدّمة دلائل الصدق، وكتابنا أمان الأُمة من الضلال والإختلاف.

المقارنة العلمية

قال فضيلة الشيخ جاد الحق في آخر كلمته المنشورة في الأهرام: (وبالمقارنة العلمية إجمالاً بين أدلّة من يرون الإرث بالتعصيب وهم فقهاء المذاهب السبعة المدوّن فقههم وغيرهم، ومن الفقهاء الذين توالت الروايات عنهم في كتب الفقه العام، وبين من لايرون هذا وهم الشيعة الجعفرية، إنَّ المقارنة ترجّح أدلّة الأولين على الآخرين؛ و ذلك لأنّ الشيعة حينما منعوا الإرث بالتعصيب كمبدأ لمذهبهم قالوا: يرد باقي التركة على أصحاب الفروض بوجهٍ عام، حتى إذا ما كان للمتوفى بنت أو بنات فقط، ووجد معها أو معهنّ عاصب من غير الأبناء والأب، حازت البنت أو البنات كل التركة فرضاً ورداً، والتوريث بالرد أمر اجتهادي لايستند إلى نص خاص، ومن ثم كان الإختلاف واسعاً في مداه وفي مواضعه، وليس لدى الشيعة من سند في هذا إلّاما يتردّد في كتبهم - على ما سبقت الإشارة إلى نصه المنقول في كتاب جواهر الكلام - وهو قول أئمتهم وهو قول لايثبت عند غيرهم).

ص: 83

أقول: أما المقارنة العلمية فمن تأمل فيما ذكرناه من الأدلّة على عدم وجود نص قرآني على القول بالتعصيب، والمناقشة فيما استندوا به من السنة للقول بالتعصيب سنداً ودلالة، وفيما يترتب على القول به من اللوازم الفاسدة والأدلّة على خروج القول به على النصوص القرآنية والسنة الشريفة يظهر له رجحان قول المانعين من إرث العصبة ما بقي من السهام.

وأما استناد الشيعة الجعفرية إلى نص خاص فنقول: كأنه يرى دلالة النص العام على الفقه الشيعي في الموضوع فيسأل منه أنه ما الفرق بين دلالة النص الخاص على حكم ودلالة النص العام عليه بعمومه، نعم إذا كان النص الخاص وارداً على النص العام يقدّم عليه لكونه أخص وأظهر، وأما العام الذي لم يرد عليه الخاص فهو حجة لجميع الأفراد، فكما لافرق بين أن يكون دليل وجوب إكرام زيد العالم قوله: أكرم زيد العالم الدال بخصوصه، أو قوله: أكرم العلماء الدال بعمومه على وجوب إكرامه، وكذلك لافرق بين أن يكون في البين نص خاص يدلّ على ردّ ما بقي من الفرائض إلى أصحابها أيضاً، أو يثبت ذلك بدليل عام يشمل عمومه الموضوع، مثل قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

هذا وقد ظهر لك وجود الدليل الخاص على بطلان القول بالتعصيب ووجوب رد ما بقي إلى أصحاب الفرائض من طرق أهل السنة فضلاً عن طرق الشيعة، فإنّ ذلك ثابت من طرقهم المتواترة.6.

ص: 84


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.

وأما قوله: إنّ قول أئمتهم قول لايثبت عند غيرهم فلم يعلم ماذا أراد بذلك فضيلة الشيخ.

يقول: إن قول أئمتهم ليس بحجة فلايحتج مثلاً بقول الإمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر عليهم السلام، وبأحاديثه التي تفرّد هو بروايتها عن آبائه عن جده رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟

فهذا خروج ظاهر على نصوص الثقلين المتواترة التي نصت على أنّ التمسّك بالكتاب وبعترة النبي صلى الله عليه و آله هو سبب الأمن من الضلال، ولا أظنّه يقول هذا، وكذا قول الإمام أبي عبداللّه جعفر الصادق عليه السلام ورواياته، والشيعة ترجّح أقوالهم ورواياتهم في علوم الدين من العقائد والتفسير والفقه على روايات غيرهم أخذاً بهذه النصوص ونصوص متواترة أُخرى، فيرجّحون قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام على قول غيره من الصحابة، وإن كان الجميع على قول والإمام على قول يخالف الجميع، كل ذلك ثابت عندهم بالأدلّة القاطعة الصحيحة(1).ة.

ص: 85


1- وقد مدح أئمتهم جماعة من أسلاف الشيخ جاد الحق من شيوخ الأزهر السابقين عليه مثل الشيخ عبداللّه الشبراوي الشافعي مادح أهل البيت عليهم السلام بقصائده الرائعة، ومؤلّف كتاب الإتحاف بحب الأشراف المملوء بفضائل أئمة الشيعة ومناقبهم، فقال ناقلاً عن بعض أهل العلم ومعجباً بكلامه ومصدّقاً له: إنّ آل البيت حازوا الفضائل كلها علماً وحلماً، وفصاحة وصباحة، وذكاء وبديهة، وجوداً وشجاعة، فعلومهم لاتتوقّف على تكرار درس، ولايزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس، بل هي مواهب من مولاهم، من أنكرها وأراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس، فما سألهم في العلوم مستفيد ووقفوا، ولاجرى معهم في مضمار الفضل قول إلّاعجزوا وتخلُفوا، وكم عاينوا في الجلاد والجدال أُموراً فتلقّوها بالصبر الجميل، وما استكانوا وما ضعفوا، تقر الشقائق إذا هدرت شقائقهم، وتصغي الأسماء إذا قال قائلهم ونطق ناطقهم سجايا خصّهم بها خالقهم... إلخ (الإتحاف بحب الأشراف: ص 9). وهذا الشيخ سليم البشري المالكي من شيوخ الأزهر يقول: مخاطباً للشريف الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: أشهد أنّكم في الفروع والأُصول على ما كان الأئمة من آل الرسول، وقد أوضحت هذا الأمر فجعلته جليّاً، وأظهرت من مكنونه ما كان خفياً، فالشك فيه خيال والتشكيك تضليل، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه الطيبة فأنعشني قدسي مهبّها بشذاه أيضاً... إلخ (المراجعات: المراجعة رقم 111 ص 337 و 338) وأما الشيخ الأكبر الشيخ محمد شلتوت فقد أفتى بفتواه التاريخية جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية.

أو أن الشيخ يريد بقوله: إن قول أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يثبت عند غير الشيعة، يعني لم يثبت صدوره منهم عند غير الشيعة.

فيقال له: وهل يثبت قول الشخص ورأيه إلّامن طريق أصحابه وخواصه وتلامذته الذين أخذوا منه العلم، فمن راجع كتب الشيعة في الحديث والفقه والتفسير يعرف اختصاصهم بأهل البيت عليهم السلام، وإن علومهم مذخورة عندهم وفي كتبهم، لا شك أنّهم معتمدون في مذهبهم وفقههم على هؤلاء الأئمة الذين شهد بعلمهم وفقههم حتى أَلد أعدائهم، لم ينكر ذلك أحد عليهم، وصحة نسبة كثير مما انفرد به فقه المذهب الشيعي الجعفري إلى أئمة العترة عليهم السلام ثابتة عند أهل العلم والباحثين، مشهور بين العلماء كقولهم ببطلان العول والتعصيب.

وبعد ذلك نقول: يا فضلية الشيخ! أنتم تقولون: إنّ الشيعة لم يستندوا إلى نص خاص، ومنعوا الإرث بالتعصيب حتى إذا كان للمتوفى بنت أو بنات فقط ووجد معها عاصب من غير الأبناء والأب حازت البنت أو البنات كل التركة فرضاً وردّاً.

فما تقولون في خبر سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه الشيخان في عدّة

ص: 86

مواضع من صحيحيهما، والترمذي وغيرهم، ألا يدل على أنّ البنت الواحدة ترث جميع التركة، وأن الأب إن أوصى بثلث ماله ترث بنته الباقي وهو الثلثان؟ فإن لم يكن هذا النص الخاص فما هو إذن النص الخاص؟

فإن كان الشيعة هم القائلون بالتعصيب أفلا تحتجون عليهم وتستدلّون على بطلانه به، وتقدّمونه على خبر ابن طاووس وخبر عبداللّه بن محمد بن عقيل لما فيهما من العلل الكثيرة، وصحة سند خبر سعد بن أبي وقاص وقوة متنه فليكن عملكم هكذا والحال بالعكس فأنتم القائلون بالتعصيب، والشيعة قائلون بمنع العصبة عن إرث ما بقي من المال ورده إلى أرباب الفرائض من قرابة الميت، فلماذا تركتم هذا النص الصحيح السالم من العلل، وخبر واثلة بن الأسقع المخرج في المسند وسنن ابن ماجة، وخبر سويد بن غفلة المخرج في السنن الكبرى للبيهقي، وأخذتم بالخبرين المذكورين مع ما فيهما من العلل ومخالفتهما لنصوص الكتاب، وهل بعد ما علم، الترجيح يكون مع خبر سعد وخبر واثلة وسويد مع موافقتها لنصوص الكتاب أو لهذين الخبرين؟ أنتم وفقهكم وإنصافكم.

وإذا كان الحال في الموضوع الذي درسه الشيخ ونظر فيه هكذا، فما ظنّك بغيره مما حكم فيه على الشيعة أهل البيت بالخروج على النصوص في سائر الأبواب، واللّه هو المستعان على ما يصفون.

ص: 87

نكتة مهمة

من راجع الأحاديث المخرجة في جوامع حديث أهل السنة يعرف أنّهم في الفروع التي لا نص فيها من القرآن والسنة الثابتة معتمدون على آراء عدة من الصحابة متناقضة بعضها مع بعض، ففي مسألة واحدة ينقلون مثلاً أن عمر قال كذا، وزيد بن ثابت قال كذا، وابن عباس قال كذا، في حين إنّهم كثيراً ما لم يستندوا فيما قالوا إلى دليل من الكتاب والسنة، حتى أنّهم رووا عن عبيدة السلماني أنّه قال: حفظت من عمر بن الخطاب في الجد مائة قضية مختلفة كلها، ينقض بعضها بعضاً(1).

وقضى هو في ميراث، فلمّا اعترض عليه رجل بأنّه قد قضى فيه في عام كذا خلاف هذا القضاء، فقال عمر: تلك على ما قضيناه يومئذ وهذه على ما قضيناه(2).

ومن قضاياه أنّه لم يورِّث أحداً من الأعاجم إلّاأحداً ولد في العرب(3).

وورَّث عمر جدةَ رجل مع ابنها، وكان عثمان لايورِّث الجدة وابنها حي(4).

وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: إنّه

ص: 88


1- كنز العمال: ج 11، ص 58، ح 30613.
2- راجع كنز العمال: ج 11، ص 26 ح 30481.
3- كنز العمال: ج 11، ص 29، ح 30493.
4- كنز العمال: ج 11، ح 30487 وح 30518.

دخل على عثمان فقال: إنّ الأخوين لايردّان الأُم عن الثلث، قال اللّه: [فإن كان له إخوة] فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لاأستطيع أن أردَّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس(1).

وأخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر إنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله كيف تورث الكلالة؟ فأنزل اللّه: [يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة](2) إلى آخرها فكان عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته، فقال: أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها، فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما قال.

والأخبار بذلك عن عمر كثيرة(3).

فهذه المناقضات القولية والفعلية التي نرى نموذجاً منها في باب المواريث من أقوى الشواهد على أنّه يجب أن يكون في الأُمة عالمٌ بالأحكام يكون قوله حجة على الجميع، لا يفارق الحق ولا يفارقه الحق، وهم الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدلاً للقرآن، وأخبر بأنّ التمسك بهم وبالكتاب أمان من الضلالة أبداً، وهم الذين أراد النبي صلى الله عليه و آله الوصية بهم والنص عليهم بالكتاب لما قال في مرضه: «ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده» فخرج بعضهم على نص النبي صلى الله عليه و آله وقال: غلبه الوجع وحسبنا كتاب اللّه فاختصموا، ومنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه و آله كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر، فلما كثر اللغو9.

ص: 89


1- الدر المنثور: ج 2، ص 126، كنز العمال: ج 11، ص 34-35، ح 30517.
2- النساء: الآية 176.
3- الدر المنثور: ج 2، ص 249.

والإختلاف عند النبي صلى الله عليه و آله ورأى بأبي هو وأُمي أنّ الأمر انتهى إلى التخاصم، وأنّهم مصرون على منعه من كتابة وصيته، وآل الأمر إلى ما آل، قال: قوموا، فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب(1).

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيدم.

ص: 90


1- يراجع في ذلك: البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم، وكتاب المرضى والطب، باب قول المريض: قوموا عنّي. وكتاب المغازي، والإعتصام، والمسند، وصحيح مسلم.

إجماع الصحابة

من راجع جوامع الحديث رجوع تبصّر وتعمّق يظهر له أنّ ادّعاء إجماع الصحابة في مسائل كثيرة ليس مقطوعاً به، لايثبت بنقل أقوال عدّة قليلة منهم، فإنّهم لم ينقلوا في المسائل التي عدوّها إجماعية إلّاأقوال عدّة من الصحابة لعلّها لاتتجاوز في مسألة واحدة عن العشرة، وأكثر هؤلاء أيضاً كان من الفئة السياسية الغالبة على الأمر والحكم والسلطة، ثم في نقل أقوالهم ورواياتهم أيضاً عملت السياسة عملها الغاشم، ومع ذلك من أين يأتي الجزم بإجماع الصحابة ويحكم بتحقّقه وهم أُلوف، وفيهم مئات من أكابرهم وعظمائهم.

ومن أين يحصل العلم بالإجماع الذي يدعى تحقّقه بعد عصر الصحابة في المسائل التي امتاز أهل البيت عليهم السلام برأيهم الخاص بهم، الذي لاترضى السياسة والحكومة الأخذ بها واتباعها وإشاعتها دون آراء غيرهم، ممن يرى شرعية حكوماتهم ولاينكر عليهم استبدادهم واستضعافهم عباد اللّه، واتخاذهم إياهم خولاً ومال اللّه دولاً.

ص: 91

وكيف يحكم بإجماع الصحابة بعدما نرى أنّ مثل حبر الأُمة عبداللّه بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حينما يقول: (ترى إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟ وقال: أول من عال الفرائض عمر بن الخطاب، قال: واللّه ما أدري كيف أصنع بكم ما أرى أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر، ثم قال ابن عباس: وايم اللّه لو قدّم من قدّم اللّه، وأخّر مَن أخَّر اللّه ما عالت فريضة، فقيل: ما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ قال: هبته واللّه(1).

فإذا كان هذا حال مثل ابن عباس فما ظنّك بغيره، وما ظنّك بأعصار وقعت فيها شيعة أهل البيت عليهم السلام وحاملوا علومهم وحفظة أحاديثهم تحت أشد الإضطهاد من الحُكّام، وصار نقل العلم عنهم من أكبر الجرائم السياسية، فمع ما نرى ذلك في نقل آراء الصحابة وأنّ السياسة لم تكن تسمح لنقل الحديث وآراء الصحابة إلّاعن فئة ممن كان هواه موافقاً لهوى الحكام كيف يجوز للعارف بالتاريخ الحكم بإجماع الصحابة في المسائل الفقهية.

هذا مضافاً إلى أنّ حجية إجماع الصحابة إن تحقّق لاتكون إلّابأمرين:

أحدهما: أنّ إجماعهم قد يكشف عن السنة الشريفة وأنّهم أخذوا ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فإجماعهم يكون بمنزلة رواية الجميع عنه صلى الله عليه و آله وذلك إذا علم أنّهم لم يعتمدوا فيما أجمعوا عليه على آرائهم.

وثانيهما: وجود من ثبت بالنص الصحيح أنّه لايفارق الحق ولايفارقه الحق9.

ص: 92


1- كنز العمال: ج 11، ص 27-28، ح 30489.

يدور معه حيثما دار فيهم، وأما إذا كان مَنْ هذه صفته خارجاً عنهم ويقول غير ما قالوه فلاحجية لقول السائرين.

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد

ص: 93

ص: 94

الفقه المدوّن الصحيح الثابت

لايكاد ينقضي عجبي من فضيلة الشيخ وهو شيخ الأزهر الأكبر، وما في كلمته من الغمز بالشيعة بأنّه ليس لهم فقه صحيح مدون.

قال: (ولهم - يعني للشيعة - في هذا فروع تردّدت في المصادر الفقهية لمذهبهم هذا الذي انفرد بهذه القاعدة دون باقي مذاهب الفقه الإسلامي التي نقل فقهَها نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً).

يقول الشيخ هذا، تعريضاً على الشيعة في حين أنّه يقول عنده أحد الموسوعات الفقهية الشيعية (جواهر الكلام) وهي موسوعة كبيرة طبعت في هيئتها الجديدة في أكثر من أربعين مجلداً تتضمّن جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات، والقضاء والشهادات و الحدود والديات وغيرها قد أبدى فيه مؤلّفه في المسائل الفقهية أقوى الأدلّة على ضوء الكتاب والسنة المأثورة المروية من طرق أهل البيت عليهم السلام، وأقوالهم المعتمدة على ما عندهم من العلوم والأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

ص: 95

وللشيعة موسوعات كبيرة في خلافات الفقهاء، والنظر في أدلّتهم، ومقايسة آراء المذاهب بعضها مع بعض، مثل كتاب الخلاف للشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (م 460) المؤلّف في أكثر العلوم الإسلامية، وهو كتاب قيِّم لايستغني عنه الباحث في المذاهب الفقهية ممن لم يجعل اجتهاده تقليداً ومحصوراً في فقه مذهب خاص ويجتهد في مستوى أعلى من ذلك، ويرى لنفسه الحق أن يقابل كل هذه المذاهب برأيه الفقهي الذي استنبطه باجتهاده في الكتاب والسنة.

ومثل كتاب تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي (م 726) وكان سيّدنا الأُستاذ الفقيه الأكبر الإمام البروجردي (م 1380) تغمده اللّه بغفرانه عالماً بفقه جميع المذاهب وبآراء جميع الفقهاء والصحابة والصحابيات يتذاكرها ويدرسها في بحوثه الفقهية التي كان يلقيها يومياً على مئات من الفقهاء والمجتهدين وطلبة الفقه.

ومن يراجع كتب الفقه للشيعة يظهر له جلياً أنهم متمسّكون في العقائد والأُصول والفروع بأقوى الأدلة من الكتاب والسنة، لايحكمون آراءهم ولا رأي أحد من الناس على دين اللّه، إليهم ينتهي الفخر في الإبتداء بالتأليف في أكثر العلوم الإسلامية، وهم بدؤوا واهتموا بحفظ الحديث وضبطه وكتابته، حينما تركه غيرهم حتى نهوا عن كتابته، وأمروا بمحو ما كتب منه(1).

وبعد ذلك نقول: ماذا يريد الشيخ من نقل المذاهب السبعة فقهَها نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً، فإن أراد به مثلاً أنّ الشوافع أو الأحناف نقلوا فقه الشافعي أو أبي).

ص: 96


1- يراجع في ذلك (كتاب أضواء على السنة المحمدية) و (كتاب تأسيس الشيعة).

حنيفة بالنقل الصحيح الثابت، فمضافاً إلى اختلافهم في ذلك ما قيمة هذا النقل لغيره من المجتهدين وإن كان صحيحاً، فكل مجتهد هو واجتهاده وما يستنبطه من الكتاب والسنة سواء ثبت عنده نقل المذاهب السبعة نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً أم لم يثبت؛ لأنّ المجتهد ينظر في هذا المقام إلى المنقول لا إلى المنقول منه؛ فإن وجده صحيحاً عندما يعرضه على الكتاب والسنة يختاره ويقول به وإن لم يثبت نقله عن المنقول منه، وإن لم يجده صحيحاً عليه أن يذره ويتركه وإن ثبت نقله عن الشافعي وغيره أو سمعه بنفسه منه، فلم يدلّ دليل من الشرع على أنّ ما أدّى إليه اجتهاد أئمة المذاهب السبعة هو أصوب وأقرب إلى الواقع من اجتهاد غيرهم، ولم ينفع تقسيم المذاهب الفقهية بالمذاهب المعروفة إلّاالإختلاف بين الأُمة وإثارة الفتن الدامية التي ليس هنا محلّ الإشارة إلى بعضها.

وتمام القول والقول التمام أنّه لا حجية لهذه المذاهب بنفسها للمجتهد والباحث في الأدلّة، ولايجوز للمجتهد أن يقصر اجتهاده في فقه مذهب خاص من المذاهب الأربعة أو السبعة، ولايكفيه هذا الإجتهاد في العمل بالتكاليف الشرعية.

إن قلت: فما تقول في الفقه الشيعي؟

قلت: أوّلاً: في الفقه الشيعي يجتهد الفقيه بالنظر في أدلّة المذاهب ويرجّح ما هو أقوى من الأدلّة التي أُخذت من الكتاب والسنة.

وثانياً: يمتاز الفقه الشيعي بأنّه معتمد على فقه العترة الطاهرة الثابت حجيته ووجوب الأخذ به بالسنة الثابتة المتواترة، فكما لايجوز التقدّم على الكتاب ولاالتأخر عنه، كذلك لايجوز التقدّم عليهم ولاالتأخّر عنهم، قال رسول

ص: 97

اللّه صلى الله عليه و آله: «فلا تقدّموهما (الكتاب والعترة) فتهلكوا، ولاتقصّروا عنهما فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».

ولاريب أن مذاهب أهل البيت عليهم السلام في الفقه منقولة عنهم بالنقل الصحيح المدوّن الثابت من عصر الأئمة عليهم السلام إلى زماننا، وليس في الأُمة من يختص بهم في فقهه غير الشيعة الإمامية.

وإن أراد الشيخ من نقل فقه المذاهب نقلاً... نقل مصادرهم في الفقه فهذا أمر لايعترف أهل كل مذهب للآخر، ولايخلو من المجازفة سيما في المسائل الخلافية التي ربّما ينتهي القول بصحة مصادر الجميع إلى التناقض والتهافت.

ثم إنّ في ذلك - أي نقل المصادر - الفقه الشيعي معتمد على الأدلّة الصحيحة من الكتاب والسنة، ينظر في عمومهما وخصوصهما ومطلقهما ومقيّدهما ومجملهما ومبينهما، وهم في معرفة الرواة وتمييز المجاهيل عن المعاريف، والثقات والأثبات عن الضعاف معتمدون على الأُصول العقلائية العُرفية المقبولة، ومصادر فقههم من السنة الشريفة التي جلها ثبت من طرق أهل البيت عليهم السلام، كانت في الأعصار المتتالية ثابتة مدوّنة.

حتى أنّه حُكي أنّ الحافظ ابن عقدة الشهير، خرج عن أربعة آلاف رجل من تلامذة مدرسة الإمام جعفر الصادق عليه السلام.

والحاصل: أنّ استناد الشيعة في مذهبهم وفقههم إلى أهل البيت عليهم السلام من الأُمور المعلومة الثابتة بالتاريخ والنقل الصحيح بل المتواتر، من يطلب علوم أهل هذه البيت لايجدها عند غير الشيعة، وفي غير الجوامع الشيعية، مثل

ص: 98

الجوامع الأربعة المعروفة وغيرها.

ولم يكن لترك هذه العلوم الكثيرة والأخذ بأخبار أمثال سمرة بن جندب، وعمران بن حطان، وحريز بن عثمان، وأزهر الحمصي، وخالد بن سلمة الذي ينشد بني مروان الأشعار التي هجا بها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وشبابة بن سوار، وشبث بن ربعي، وعمرو بن سعيد، والمغيرة بن شعبه، وغيرهم وغيرهم باعث إلّا سياسة الحُكّام والأغراض السياسية التي حملت الناس على سب أخ النبي صلى الله عليه و آله أميرالمؤمنين علي عليه السلام على رؤوس المنابر، حتى عدّ ذلك من السنة، وكان منهم من يفتخر علناً تقرّباً إلى الولاة ببغض من قال النبي صلى الله عليه و آله: «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّامنافق»(1) وآل الأمر إلى ما آل، وصار الحديث في يد تجّاره وسيلة للتقرب إلى الحُكّام وأخذ الجوائز منهم، وترك حديث من عرف بالميل إلى أهل البيت عليهم السلام أو اتُّهم بذلك، وقتل وسجن وعذب في سبيل ذلك خلائق كثيرة، وهدرت دماء الأبرياء، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولاحول ولاقوة إلّاباللّه العلي العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

حرّره في شهر رمضان المبارك 1409 ه

لطف اللّه الصافي..

ص: 99


1- رواه الفريقان؛ راجع: الغدير: ج 3، تاريخ مدينة دمشق: ج 42، وشرح إحقاق الحق: ج 7، 17، 21، 22، 23، 30، و....

ص: 100

القرآن مصون عن التحريف

ص: 101

ص: 102

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

من الأُمور الواضحة البيّنة أنّ الكتاب المُبين الَّذي: [أحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبيرٍ](1) ، والذي نزّله اللّه على عبده محمد صلى الله عليه و آله: [تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِين](2) و [لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً](3) و [لِيَهْدي بِه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلام](4) و [لِيُخْرجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلَى النّور...](5).

هو هذا الكتاب المشهور المعروف الذي وصل منذ عصر نزوله، ولايزال في أيدي المسلمين شيعة وسنة، يعرفونه جميعاً أنه هو كتاب اللّه المنزل على قلب1.

ص: 103


1- هود: الآية 1.
2- النحل: الآية 89.
3- الفرقان: الآية 1.
4- المائدة: الآية 16.
5- إبراهيم: الآية 1.

الرسول الكريم صلى الله عليه و آله الموسوم بالقرآن، والمشتمل على مائة وأربعة عشر سورة، يحترمونه أسمى الإحترام ويعظّمونه أعظم التقديس بكله، بسوره وآياته وكلماته وحروفه، لايستثنون من هذا الإحترام والتعظيم والتقديس كلمة واحدة ولا حرفاً واحداً.

ولا ريب أنّ هذا التعظيم والتقديس، الذي أخذه الخلف عن السلف، ينتهي إلى عصر نزوله، عصر بزوغ شمس الرسالة الخاتمة المحمدية، وأنّهم كانوا يستنكرون ما يشعر الإهانة به عملاً أو لفظاً في جميع الأدوار والأعصار أشد الإنكار، ويعتبرونه جريمة كبيرة كإهانة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يكفّر فاعلها ويعاقب عليها. لايلصق بكرامته وعلو قدس فصاحته وبلاغته كلام أحد من البشر، فهو بنفسه وبلاغته يشهد بقدسيته الكاملة ويردّ دعوى لحوق غيره به (رد الغيور يد الجاني عن الحرم).

ومن البراهين القائمة التامة القاطعة على عدم وقوع التحريف فيه زيادة ونقيصة أنّه معجزة الإسلام الخالدة، معجزة باقية تثبت بها رسالة سيدنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، بل وسائر رسالات السماء لأنها كلها تثبت بالقرآن الكريم.

والتحدي به لإثباته مستمر إلى زماننا هذا وما بعده، فلكل مسلم أن يتحدى به في جميع الأزمنة.

ولاريب أنّ وقوع الزيادة أو النقيصة فيه تمنع من ذلك، لأنه حينئذٍ لايكون مصوناً من المعارضة والإتيان بمثله، فعجز البشر عن الإتيان بمثله في مر الزمان، مع هذا الإعلام والإعلان العام الشامل لجميع الأعصار والأدوار، دليل واضح على صيانته من الزيادة والنقصان.

ص: 104

فها نحن وجميع المسلمين نتحدى به لإثبات رسالة الإسلام ونبوة سيدنا محمد بن عبد اللّه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، ونقول: يا أيها الناس! إن كنتم في ريب من أن القرآن مصون وأنّه في حفظ اللّه من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان:

[فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدّت للكافرين] (1) .

هذا مضافاً إلى أن العارف بالتاريخ الإسلامي واهتمام النبي صلى اللّه وآله بشأن القرآن تبليغاً وحفظاً وكتابة، وكذا اهتمام الصحابة بأخذه وحفظه وتعليمه وتعلّمه، وكذا تجزءته بالآيات والسور بأسمائها المعروفة في عصره، يعرف أن مثل هذا الكتاب مع هذا الإهتمام البليغ بشؤونه لايمكن عادة أن يزاد عليه أو ينقص منه، فإذا كان ديوان شعر شاعر مشهور مصوناً من التصرف فيه والتغيير، والقصائد السبع المعلقة في نزول القرآن محفوظة عن ذلك، وإن زيد عليها بيت عرفه أهل الأدب والعارفون بفنون البلاغة بل وغيرهم، فكيف يمكن عادة وقوع ذلك في القرآن الكريم مع كثرة الدواعي إلى حفظه لفظاً بلفظ وكلمة بكلمة؟ ومن الذي لايعرف من أهل اللسان أنّ ما نقل في المنقولات الضعيفة أنه سقط من القرآن لايلتصق به فصاحة وبلاغة وأُسلوباً ومضموناً وهداية.

فإن قلت: نعم احتمال الزيادة مردود قطعاً، وأما احتمال النقيصة وإن كان بمكان من الضعف لايعتد ولايعتنى به، إلّاأنّه غير مقطوع به.

قلت: أوّلاً: إنّ بقاء التحدّي به إلى يوم القيامة وعجز الإنس والجن عن الإتيان4.

ص: 105


1- البقرة: الآية 23 و 24.

بمثله ينفي هذا الإحتمال.

وثانياً: هذا الاحتمال كما ذكرتم لايعتنى به عند العرف فهو كالعدم، والعلم بالشيء لغةً وعرفاً أعم من ذلك ومن عدم احتمال الخلاف.

وثالثاً: هذا الاحتمال منفي بدلالة آيات من القرآن الكريم الذي أثبتنا ضرورة عدم وقوع الزيادة فيه، مثل قوله تعالى: [إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الِذّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحافِظُونَ](1) ، وقوله عز من قائل: [لايأتِيِه الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ](2).

ورابعاً: بالإحاديث المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و آله.

وخامساً: بالأحاديث المتواترة المروية عن الأئمة المعصومين من عترته عليهم السلام مثل الأحاديث المروية في ثواب قراءة السور، والأخبار الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، وكذا الأحاديث المتواترة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والتمسّك به، والأخبار الدالة على استشهاد الأئمة عليهم السلام بالآيات الكريمة، وأحاديث الثقلين المتواترة، وغيرها.

وأما الأخبار الضعيفة التي يستشعر منها النقيصة فضعاف جداً، معلولة بعلل كثيرة في أسنادها وألفاظها ومداليلها يطول الكلام بنا بالإشارة إليها، وكلها لاتقاوم الطائفة الاُولى من الأخبار الدالة على أنّ القرآن المنزل من اللّه تعالى هو هذا الكتاب.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه الأخبار مردودة مطروحة بمخالفتها للكتاب والإجماع2.

ص: 106


1- الحجر: الآية 9.
2- فصّلت: الآية 42.

العملي من جميع المسلمين شيعة وسنة القائم على صيانة القرآن من التحريف، ولذا لم يقع ذلك محل خلاف بين الأُمة شيعة وسنة، إلّاما عن بعض الحشوية من أهل السنّة وظاهر بعض الإخباريين من الشيعة الذين لايعتد بخلافهم، فصار خلافهم متروكاً مهجوراً، وصار القول بعدم التحريف قولاً ظاهراً واضحاً عرفه الخاص والعام من الفريقين وحتى العوام، حتى صار أنّ التفوّه باحتمال خلاف ذلك يعدّ من التفوّه بخلاف الضرورة.

فلايصح عدّ ذلك من الخلافات الواقعة بين الفريقين التي يقال فيها رأي الشيعة كذا، ورأي السنة كذا.

فالقرآن الموجود بين الدفتين هو كتاب دين الفريقين، وهو أصلهم الأول الذي تأتي بعده السنة المشروط صحة الإعتماد عليها بأن لاتكون مخالفة للقرآن، وهذا الأمر يحتج به الجميع في الأُصول والفروع، وفي خلافاتهم ويعتمدون عليه وعلى السنة.

فكل الأُمة شيعة وسنّة يتمسّكون بجميع محكماته وفي متشابهاته أيضاً يقولون: [آمنّاً به كلٌ من عند ربّنا](1).

ومن عجيب ما وقع في هذه المسألة التي سمعت الإتفاق والإجماع عليها من السنة والشيعة وعدم الخلاف بينهم فيها: أن العصبيات الطائفية، والأغراض السياسية العاملة لتوهين الإسلام، وكتابه العزيز، ولتمزيق المسلمين، وتفريق كلمة الأُمة، والقضاء على وحدتهم الإسلامية، بعثت بعض الكتاب إلى نسبة7.

ص: 107


1- آل عمران: الآية 7.

القول بالتحريف إلى الشيعة، لوجود أخبار ضعيفة لم يعمل بها أحد منهم، ولم يعتبروها حجة حسب أُصولهم المحكمة للأخذ بالحديث والإعتماد عليه والإحتجاج به.

والذي يزيد في التعجّب أنّ هذا الخلاف المحدث من جانب هؤلاء ليس في دعوى وقوع التحريف من جانب وإنكاره من جانبٍ آخر.

بل في العمل على إلصاق تهمة التحريف بالشيعة بسبب هذه الروايات المشتركة في مصادر الجميع، ثم العمل على تصوير الشيعة بصورة مشوّهة، مع أنهم طائفة تعتقد عقيدة مؤمنة بالكتاب وصيانته عن التحريف، وتدافع عن كرامته بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة وينكرون التحريف أشد الإنكار بأعمالهم وعباداتهم وكل سيرتهم العملية، وبأقوالهم وتصريحات علمائهم ورجالاتهم، والجميع يعلم أن تمسكهم بالكتاب واعتقادهم بصيانته أضوء وأنور من الشمس في رائعة النهار.

وأعجب من ذلك أنّ مثل هذه الروايات من طرق إخواننا السنة، الصحيحة عندهم، كثيرة جداً، ولو جاز نسبة القول بالتحريف إلى إحدى الطائفتين دون الأُخرى، بسبب نقل مصادرها لمثل هذه الأحاديث، لكان نسبته إلى غير الشيعة أولى، لأن في الأخبار المخرّجة في كتب غيرهم ما يعتبر عندهم من الصحاح دون ما ورد من طرق الشيعة فإنّها ضعاف.

مضافاً إلى أن أكثرها ورد في تفسير الآيات وبيان مصاديقها وشأن نزولها، ولاإرتباط لها بالتحريف.

ص: 108

ولكن مع ذلك لم تقابل الشيعة غيرهم بالقول بالتحريف لما في جوامعهم ومسانيدهم من الأخبار الصريحة الدالة عليه:

أوّلاً: لأن غيرهم إلّاالنزر القليل الذين لايعتدّ بهم متفقون مع الشيعة على صيانة الكتاب من التحريف.

وثانياً: لأن رميهم بهذا القول يحط من إعتبار القرآن وإصالته، والشيعة لاتسلك طريقاً ينتهي إلى ذلك.

وثالثاً: لأنهم في المسائل الخلافية يعتمدون على أقوى الحجج والأدلة من الكتاب والسنة ولايحتاجون إلى رمي غيرهم بمثل ذلك.

والذين يتهمون الشيعة بهذا القول لجؤوا إلى ذلك حيث رأوا أنّه لا حجة لهم في المسائل الخلافية على الشيعة، فرموهم بافتراءات هم أبعد عنها من المشرق عن المغرب، ومن جملتها نسبة القول بتحريف الكتب والإعتقاد - والعياذ بالله - بأُلوهية الأئمة عليهم السلام، أو أن أمين الوحي جبرائيل خان، لأنه كان مأموراً بالنزول على الإمام ونزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله والعياذ باللّه، وفسّروا به ما قيل في أبي عبيدة الجرّاح الملقّب بالأمين: خان الأمين وصدّها عن حيدر! فسّروا ذلك أنه في جبرئيل عليه السلام، إلى غير ذلك من الإفتراءات التي سوف يحاكمهم الشيعة عليها عند اللّه تعالى، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

وأعجب من ذلك أنهم في الموسم الذي يأتي الناس من كل فجّ عميق لحج بيت اللّه الحرام العتيق، والحضور في أعظم مشاهد عظمة اللّه تعالى، وأكرم المواقف القدسية العبادية التي يظهر فيها جلال وحدة الأُمة، وعزّة توحيد

ص: 109

كلمتهم، وإعلانهم نفي الطواغيت والمستعبدين المستكبرين بإعلان كلمة التوحيد، كلمة الإسلام وكلمة الحرية، وكلمة المساواة الإنسانية، وكلمة السماء والأرض.

نعم، في مثل هذا المشهد العظيم، والمؤتمر الكبير الذي ينبغي، بل يجب على المسلمين، سيما علمائهم ومصلحيهم وقادتهم أن يجلسوا على بساطٍ واحد، بساط الاُخوّة الإسلامية، والإعتصام بحبل اللّه تعالى، وينظروا فيما أحاط بالمسلمين، وابتلوا به من المشاكل والمصاعب وفي علاجها، فهذه فلسطيننا العزيزة اولى القبلتين أرض النبؤات مازالت مغتصبة في أيدي الصهاينة، وهذه ... وهذه... مما أنت أيها القارئ العزيز أعلم به، وترى منه ما ترى وتعلم منه ما تعلم.

نعم، في هذه الظروف الحرجة نرى في كل سنة منشورات توزّع على ضيوف الرحمن تدعو الأُمة إلى التباغض والتباعد، منشورات مملوءة بالزور والبهتان من أمثال نسبة القول بتحريف الكتاب إلى شيعة العترة الطاهرة، والذين لهم سهم بارز وقدم راسخ في إعلاء كلمة اللّه وإعلان الإسلام النظام الوحيد الذي فيه نجاة الإنسان.

وليس وراء هذه التهم غير إشغال المسلمين بما فيها، وصرفهم عن مواجهة المشاكل السياسية ووقوفهم في مواجهة أعداء الإسلام.

وإلّا فمن لايعلم أنّ نسبة القول بالتحريف إلى الشيعة هجوم عنيف على الكتاب أكثر من الهجوم على الشيعة؟ من لايعلم أنه لو كان لناشري هذه الأكاذيب، والذين من ورائهم، والذين ينفقون عليهم، أقل غيرة على الإسلام

ص: 110

وعلى كتابه العزيز، لَاتخذوا موقفاً غير ذلك، ودافعوا عن الكتاب، وردّوا تهمة التحريف عن الشيعة، ولسلكوا مسلك أعلام الأُمة ومصلحيهم من السنة والشيعة، ونشروا مقالات الشيعة العلمية في صيانة الكتاب وتصريحات أعلامهم، ولم يفتحوا لأعداء الإسلام والقرآن باب الغمز بكتاب اللّه تعالى والإشكال عليه، فمَنِ المستفيد يا ترى من إلصاق تهمة تحريف القرآن بطائفة كبيرة من المسلمين، فيها من أعاظم علماء الإسلام وأئمة العلم والأدب وأعلام الفكر والورع؟!

وهل يحسب ذلك إلّاعملاً لمصلحة الإستعمار؟ وهل يكون هدف القائم بنشر هذه الكتيبات في عصرنا هذا، الذي قام فيه المسلمون بحمد اللّه تعالى سيما شبابهم لإعادة مجدهم وعزّهم الذي ذهب، إلّاإيجاد المجادلات والمخاصمات وقلب الحقائق؟!

فالواجب على كل مسلم غيور على دينه وقرآنه الكريم الوقوف في وجه هذه الحركات الشيطانية، وتنزيه المسلمين شيعة وسنة عن هذا الرأي.

كما أنّ الواجب على المسلم أيضاً أن يعرف الذين هم من وراء هذه الأقلام المأجورة وما قصدوا به من الحط من عظمة القرآن وإسناده الثابت اليقيني إلى الوحي النازل على الرسول الأمين صلى الله عليه و آله.

ومن شاء أن يعرف الشيعة وإجلالهم وتعظيمهم القرآن الكريم فليتجوّل في بلادهم في ايران ولبنان والعراق والبحرين والقطيف والإحساء وغيرها، وفي مكتباتهم ومساجدهم، حتى يرى رأي العين في جميع مجتمعات الشيعة، في شرق الأرض وغربها، كمال اهتمامهم بشؤون القرآن وتعظيمهم له، وإنّه ليس لهم

ص: 111

ولا عندهم كتاب غير ما هو عند جميع المسلمين، فلاتجد منهم بيتاً ليس فيه القرآن، بل لا تجد منهم أحداً إلّاويتقرّب الى اللّه بتلاوته، فهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، وفي إذاعاتهم وفي مجالسهم للذكر والوعظ والإرشاد والدعاء وجميع المناسبات، ليس عندهم ما يقدّسونه ويعظّمونه مثل تعظيمهم القرآن الكريم حتى بمقدار آية أو جملة أو كلمة منه، حتى لو كان ذلك كلام الرسول صلى الله عليه و آله أو الأئمة الطاهرين من عترته الطاهرة عليهم السلام.

ولكن المصيبة كل المصيبة أنّ البعض يكذّبون أسماعهم وأعينهم التي تكذب افتراءاتهم ويصرون على عدائهم لشيعة أهل البيت عليهم السلام وتفريق كلمة المسلمين، ويشوّهون بافتراءاتهم كرامة كتاب اللّه، ويجعلونه غرضاً لتشكيك الأعداء.

قال اللّه تعالى: [يا أُيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَديداً](1).

وقال عزّ شأنه: [إنَّ الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لايخْفُونَ عَلَيْنا أفَمَنْ يلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أمَّنْ يَأتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](2).

وقال: [يا أيّهَا الَّذين آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنّ إنّ بَعْضَ الظَّنّ إثْمٌ وَلايَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً](3).

وقال: [وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاتَفَرَّقُوا](4).3.

ص: 112


1- الأحزاب: الآية 70.
2- فصّلت: الآية 40.
3- الحجرات: الآية 12.
4- آل عمران: الآية 103.

[ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلاًّ للَّذين آمنوا، ربنا إنك رؤف رحيم] (1) حرّره إجابةً لالتماس بعض الفضلاء الأعزّة

لطف اللّه الصافي0.

ص: 113


1- الحشر: الآية 10.

ص: 114

وقت الغداة فى بلاد الاغتراب

اشارة

ص: 115

ص: 116

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين وصلوات اللّه وسلامه على خير خلقه وسيد أنبيائه أبي القاسم محمد وآله الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين.

وبعد... فهذه رسالة وجيزة حول بعض الفروع المتعلقة بأوقات الصلوات لا سيّما وقت صلاة الغداة، وابتداء الزمان الذي يجب فيه على الصائم ترك الأكل والشرب وسائر المفطرات كتبتها في (لندن) عاصمة انكلترا، وقد وقع الاختلاف موضوعاً وحكماً في وقت صلاة الغداة فيها، وما جاورها من البلدان، وفي أول زمان يجب على الصائم الإمساك عن المفطرات.

وقد عرضت المسألة جمع من المؤمنين على حضرة فقيه عصره ومرجع الطائفة المحقّة السيد الگپايگاني (قدّس سرّه).

وإليك نصّ الاستفتاء بطوله:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

وبعد، فان في بعض النقاط من الكرة الأرضية وبالتحديد في شمالها ينعدم

ص: 117

الفجر المتعارف في البلاد الإسلامية حيث ان الكرة الأرضية مائلة المحور فهذه البلدان لايغيب عنها نور الشمس تماماً بل يصلها عبر القطب الشمالي (حيث لاحاجز بينها وبين البلدة) ويتم هذا في أواخر الربيع وأوائل الصيف (حيث النهار الأطول) فعندما تغرب الشمس يبقى تمام الليل ذا نور كنور الفجر الذي هو متعارف في البلدان الإسلامية (مثلاً) حيث أنّ الشمس لم تغب بالمقدار الذي تغيبه في البلدان الأُخرى أو الأيام الاُخرى.

ولكن هناك حالة ثانية وهي التي يبتدئ بازدياد النور بعد ثباتها. وللمثال على هذا: فإنّ الفجر في مدينة «لندن» ينعدم في خلال شهرين تقريباً من 23 آيار الى 20 تموز؛ وفي هذه الأيام المذكورة نرى حالة الليل فيها حالة الفجر، حيث لم يكن هناك ظلام مطبق لأن الشمس لم تغب عنها تماماً كما في سائر البلدان أو سائر الأيام فيها، بل إنّ نور الفجر في هذه الليالي متواصل فلم يكن أن يتحقّق الفجر، ولكن هناك في وقت مبكّر من الصباح يبتدىء هذا النور بالإزدياد والإنتشار، فلو اعتبرناها فجراً لهذا البلد لكان الفارق بين اليوم الذي يتحقّق فيه الفجر بلندن مثلاً كسائر البلدان يكون الفجر في الساعة (1:22) وطلوع الشمس في الساعة (4:58)(1) وفي يوم 23 آيار الذي لم يتحقق فيه الفجر كسائر البلدان أو الأيام يكون ابتداء إزدياد النور فيه في الساعة (3:12) وطلوع الشمس في الساعة (4:57).ي.

ص: 118


1- بتوقيت مدينة لندن الصيفي.

هناك ملاحظات لابدّ من ذكرها:

1 - انّ الفجر الحقيقي يتحقّق بنزول الشمس عن خط الأُفق ب (18) درجة في سائر البلدان، ولكن في لندن مثلاً في بعض الأيام من (23 آيار الى 20 تموز) فقط لايتحقق نزول الشمس عن خط الأُفق (18) درجة بل غاية نزوله (12) درجة فقط، فيبقى نور الشمس مباناً - كما في الفجر في الأيام العادية - في تمام الليل.

2 - \إنّ المتعارف عند المسلمين في لندن مثلاً هو الاعتماد في تمام السنة على (12) درجة حتى في الأيام التي يتحقّق فيها الفجر الحقيقي والتي هي عشرة أشهر تقريباً خلافاً للبلدان التي يتحقّق فيها الفجر في تمام السنة فإنّهم يعتمدون على (18) درجة.

3 - \إنّ الشهرين المذكورين اللذين لم يتحقق فيهما الفجر مختص بمدينة لندن وما جاورها، وأما البلدان التي في أقصى الشمال فالمدة التي لايتحقق فيها الفجر أكثر.

4 - إنّ عدم تحقّق الفجر غير مختص بشمال الكرة الأرضية بل إن هذه الحالة موجودة في جنوبها أيضاً، فالبلدان التي لم يتحقّق فيها الفجر في بعض الأيام كثيرة، فالسؤال الآن بالنسبة إلى هذه البلدان يتوجّه على النحو التالي:

1 - هل الاعتماد في تمام السنة على الحالة التي يبتدء بإنتشار النور (درجة 12) ولو تحقّق الفجر في بقية أيام السنة وعلى هذا نقطع بأن أكثر أيام السنة (يعني ما يقارب عشرة أشهر في لندن مثلاً) لم يكن الاعتماد على الفجرالحقيقي

ص: 119

رغم تحققه.

2 - \أو أن الاعتماد في تمام السنة الحقيقي (18 درجة) وفي الأيام التي لم يتحقق فيها الفجر يتماشا فيه على الفجر التقديري حيث يتجدّد الفجر بتقدم الفجر وتأخره التدريجي كما في سائر الأيام، وفي هذه الحالة يلزم في أكثر البلدان أو في أكثر الأيام تقدم وقت الفجر التقديري على الغروب الحقيقي، وهذا غير صحيح قطعاً.

3 - أو إن الاعتماد على ما له فجر حقيقي، كما في الأشهر العشر مثلاً بلندن على الفجر الحقيقي (18 درجة) وعلى ما ليس له فجر حقيقي (كما في الشهرين مثلاً بلندن) على الوقت الذي يبتدئ النور بالازدياد والانتشار (12 درجة) ولكن سبق وقلنا: إنّ الفارق بين اليوم الذي يتحقّق فيه الفجر (18 درجة) واليوم الذي لم يتحقّق فيه الفجر (12 درجة) كثير جداً.

ففي يوم 22 آيار بلندن مثلاً الفجر الحقيقي يكون الساعة (1:22) وفي 23 آيار الذي لم يتحقق فيه الفجر يكون الساعة (3:12) على اعتبار انتشار النور وازدياده (12 درجة) فالفارق بين القولين (1:50) أي مائة وعشرة دقائق (110) وهذا غير مألوف.

4 - أو إن الاعتماد على ماله فجر حقيقي كما في الأشهر العشر بلندن مثلاً على الفجر الحقيقي (18 درجة) وعلى ما ليس له فجر حقيقي (كما في الشهرين بلندن مثلاً) على أقرب بلد يتحقق له فجر حقيقي والذي هو نصف ما بين مجموع غروب الشمس وشروقها بمعنى: أنّ الفجر في هذين الشهرين مثلاً يبقى ثابتاً تقريباً.

ص: 120

5 - أو إن اللجوء إلى الاحتياط فيمسك عن المفطر على (18 درجة) ويصلّي على (12 درجة) وهذا موجب للعسر والحرج في أكثر البلدان إن لم تصل إلى كلها؟

6 - أو أن هناك حل آخر؟

ولابأس بإبداء رأيكم إنّ الفجر والغروب هل هما موضوعيان أو طريقيان؟

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جمع من المؤمنين - لندن.

10 رمضان 1406 ه

هذا تمام الاستفتاء بألفاظه والجواب عن الأسئلة التي وردت فيه يظهر من بيان أُمور:

الأمر الأول

هل الفجر والصبح والدلوك والغسق وغيرها مما له مسمى حقيقي في الخارج أُخذت في لسان الأدلة الشرعية على نحو الموضوعية، فأحكامها مختصة بمسمّياتها، وتدور مدار تحققّها كسائر الموضوعات التي لها أحكام خاصة، أو أُخذت على نحو الطريقة مثلاً: يكون الفجر طريقاً الى أمرٍ آخر هو في الحقيقة موضوع الحكم كمواجهة معينة معلومة بين الشمس والأرض، مثل: نزول

ص: 121

الشمس عن خط الاُفق ب (18 درجة) أو مضى مدة معلومة من غروب الشمس، أو أول مدة معينة تطلع عند انتهائها الشمس عرض السنة بحساب معين، وعليه:

لو فرض في بعض البلاد أو الأزمنة عدم تحقّق الفجر - سواء كان مفهومه الضوء، الحادث المنتشر بعد انعدام نور الشمس أو أعم منه ومن اشتداد الضوء كما يجيء في الأمر الآتي - المعيار تحقق ما هو الفجر طريق اليه، فلو علم ذلك من الطرق الفنية وغيرها يبنى عليه وهو المعتبر شرعاً؟

ظاهر الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة هو الموضوعية كقوله تعالى:

[وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً] (1) وقوله سبحانه وتعالى: [من قبل صلاة الفجر](2) وقوله عز من قائل: [سلام هي حتى مطلع الفجر](3) وأظهر منها في الأحاديث الشريفة كقوله عليه السلام: «اذا طلع الفجر فقد دخل وقت الغداة»(4) ، وقوله عليه السلام: «وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»(5).

فإن قلت: إن لازم أخذ الفجر أو طلوع الشمس مثلاً على نحو الموضوعية تأخير البيان عن وقت الحاجة، وسكوت الشارع عن بيان ما هو التكليف الواقعي لطائفة من المكلفين، أو القول بعدم كونهم مكلفين بمثل الصلاة، وهو خلاف الإجماع والضرورة.8.

ص: 122


1- الإسراء: الآية 78.
2- النور: الآية 58.
3- القدر: الآية 5.
4- الكافي: ج 3 ص 448.
5- تهذيب الأحكام: ج 2 ص 38.

لايقال: إنّ ذلك إنّما يتم إذا لم تكن الأحكام الظاهرة مجعولة من قبل الشارع، ولم يتمكّن المكلف من الإحتياط ومعها يرجع الشاك في الحكم الواقعى إليها، وان لم يجد في الأحكام الظاهرية مايرجع إليه في ظاهرالحال، ويرفع شكه، بالعمل بالإحتياط لامحالة.

لأنّه يقال: إنّ الموضوع في الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، والإحتياط إنّما يستحسن ويرغب فيه إذا احتمل المكلف اشتغال ذمته بأمر، وفيما نحن فيه لازم القول بالموضوعية عدم كلية الضابطة التي أعطاها الشارع وعدم شمولها لسائر الأماكن والأزمنة التي لايتحقّق الفجر فيها مثلاً، فمع العلم بخروج أهالي هذه البلاد عن تحت ما صدر من الشارع في بيان أحكامه (كما هو الفرض) لايبقى موضوع للحكم الظاهري، والإحتياط أيضاً في مثل هذا الفرض أي صورة عدم احتمال التكليف بلا موضوع، لاحسن له.

قلت: أوّلاً: من أين علم أنّ الشارع لم يبين ما هو وظيفة المكلف في هذه المناطق والأزمنة؟ فلعله بَيِّنٌ وخفي علينا لعدم ابتلاء المشافهين به، والبيان الذي يحتج به وإن كان هو البيان الواصل الى المكلف، ومع عدمه يكون معذوراً في المخالفة، ولايجب عليه الإحتياط إلّاأنّ حسنه محفوظ، فلايقال: إنّ الاحتياط بلاموضوع بالمرة.

وثانياً: لايخفى عليك الفرق بين الحكم الواقعي الأصلي المتّصل وبين التكليف والحكم التبعي الذي يبين ويحدّد موضوع الحكم الكلي ويبين أجزائه وشرائطه ومصاديقه وأفراده بحسب حالات المكلف.

ففي الأول: وهو الحكم الواقعي الأصلي إذا علم بعدم صدور بيان من الشارع

ص: 123

لامحل للشك فيه للعلم بعدم التكليف فضلاً عن الحكم الظاهري الذي هو موضوعه الشك في الحكم الواقعي. نعم لو شك فيه لإحتمال صدور البيان وعدم الظفر به، فالمرجع فيه البراءة، ويجوز فيه الاحتياط.

وأما في الثاني: فالحكم الذي يدل الدليل على أجزاء ما هو موضوع له، وشرائطه إما أن يكون معلوم التعلق بجميع المكلفين مطلقاً وإن كان الشرط الذي دلّ على شرطيته الدليل متعذّراً، أو كان تعلّقه به في صورة تعذّر شرطه مشكوكاً فيه، فإن كان مشكوكاً فيه فظاهر دليل الشرطية والجزئية انتفاء التكليف بالمشروط بتعذّر الشرط أو الجزء.

وأما إن كان الحكم معلوم التعلق بالمكلف في جميع حالاته، فالدليل الدال على الشرائط واجزاء موضوع الحكم الكلي الثابت على جميع المكلفين مثل:

الصلاة إذا كان قاصراً عن شموله للجميع، فالواجب علينا الاحتياط إن أمكن وقلنا بوجوبه وعدم جواز اجراء البراءة في الشرائط والأجزاء، وإلّا فيجوز الاكتفاء بما بقي من الأجزاء والشرائط.

وإن شئت قلت: إن في تحديد موضوع الحكم الكلي وتعيين شرائطه وأجزائه لايجب على الشارع بيان تكليف المكلف في الحالات النادرة، أو تكليف النادر من المكلفين، بل وغير النادرين بعد إمكان إتيان المكلف بالتكليف الكلي بالعمل بالاحتياط، أو العمل بالاُصول العملية لو كان مورد ابتلائه مجرى تلك الأُصول كما فيما نحن فيه، فإنّه في جانب الصلاة يأتي بها بعد العلم بدخول الصبح وفي جانب الصوم يأخذ باستصحاب جواز الأكل والشرب (استصحاب الحكم).

وأما استصحاب الموضوع أي الليل، فقد يقال بعدم جريانه لتردد مفهومه بين

ص: 124

الفرد المحقّق عدم بقائه وبين الفرد المتيقّن بقائه.

وفيه: إنّ الزمان مثل الليل إن كان موضوعاً للقطعة الخاصة منه المحدودة بين الحدّين، وتردّد مفهومه بين قطعة خاصة محدودة بالحدّين الكذائيين ما، وما هو محدود بالحدّين الآخرين اللذين يكون بهما أطول من الاُولى، وبعبارة أُخرى:

يكون بالحدين الأولين مقطوع التحقيق وبالحدّين الآخرين غير المحقّق، فلاريب في عدم جريان الاستصحاب فيه لافرداً ولاكلياً، لأنه إن كان الأول فقد تحقّق بعد وصول الى حدّه الثاني، ومضى وتصرم بعده، فلاشك في تحقّقه في الزمان السابق وعدم تحقّقه في الزمان اللاحق، وإن كان الثاني فلاشك في عدم تحقّقه قبل تحقّق حدّه الثاني، وهذا نظير الحركة القطعية التي لاتتحقق بالنسبة إليها اجتماع اليقين والشك.

وأمّا إن كان موضوعاً لما يتحقّق بين الحدّين (لا لما يتحقّق بالحدّين) كالحركة التوسطية، فإجتماع اليقين والشك فيه يتحقّق بالوجدان سواء كان الشك فيه من جهة وصول الفرد المتحقّق الى منتهاه، أو من جهة أن الفرد المتحقّق هو الذي ينتهي وجوده ويزول بعد ساعة أو ما يزول ويرتفع بعد ساعتين، وسواء كان ذلك من جهة تردد مفهومه بين ما يزول بعد ساعة وما يرتفع بعد ساعتين، ففي الجميع يجتمع اليقين والشك ويجري الاستصحاب فيه.

نعم لايجري استصحاب الفرد إلّافي الصورة الاُولى، وهي التي شك في بقاء الفرد المتحقّق من جهة الشك في وصوله الى منتهاه المعلوم، وأما الكلي فيجري في هذه الصورة وسائر الصور، وعلى هذا لا إشكال في استصحاب بقاء الليل على نحو الكلي، وترتيب آثاره وأحكامه عليه مثل جواز الأكل وغيره مما

ص: 125

لايكون من أحكام فرد خاص من الليل.

فإن قلت: سلّمنا ظهور العناوين المذكورة الدالة على الظواهر المسمية بها في الأدلة على الموضوعية إلّاأنّ العرف بعدما يرى من الربط بين هذه الظواهر وأوضاع فلكية أُخرى، وإنّ الاُولى لاتحدث بدون الثانية.

ويرى أنّ بعض المقصود من جعل هذه العناوين دخيلاً في الحكم توزيعه على الأوقات واشتغال المكلف بالعبادة في فصل زماني خاص، يرى بمناسبة الحكم والموضوع عدم الفرق بين أزمنة حدوث هذا الوضع الفلكي الخاص، فلايرى فرقاً بين كون حدوثه سبباً عرفياً لظاهرة خاصة مثل الفجر وكانت هذه معه، أو لم تكن معه.

ويرى أنّ الأخذ بالظاهرة في لسان الدليل كان لأجل عدم إمكان دلالة العرف إلى هذا الوضع الفلكي في المتعارف والأغلب إلّابه، فلذلك يلحق العرف بالفجر مثلاً الزمان الذي يتحقق فيه الوضع الفلكي الفجري وإن لم يتحقق الفجر معه، لأنّ المناط بتنقيحه أعم مما يتحقّق معه الفجر ومما لايتحقق، وهذا قول بالموضوعية لكن لا بدلالة المنطوق، بل بدلالة المفهوم وتنقيح ما هو مناط الحكم.

قلت: في الموارد التي يكون الوضع الفلكي الخاص مسيره موافقاً على حسب المتعارف مع مسيره في الأزمنة التي تكون معه الظاهرة المجعولة في لسان الدليل موضوعاً للحكم كالفجر مثلاً، فلايتفاوت مثلاً مدة ما بين الطلوعين في الأيام التي لايتحقّق فيها الفجر مع الأيام التي يتحقّق فيها تفاوتاً فاحشاً بحيث لايرى العرف فرقاً بين الحالتين إلّاأنّه في حالة يؤثر هذا الوضع في حدوث الظاهرة الخاصة، وفي حالة بواسطة فقد شرط أو عروض مانع لايؤثر، يمكن

ص: 126

دعوى تنقيح المناط والقطع به خصوصاً إذا كان المدعى من العارفين بالهيئة والأوضاع الفلكية إلا أن الموارد مختلفة جداً، ودعوى القطع بتنقيح المناط في بعضها يجب أن يكون مقبولا عند العرف لايعدّ من الاجتهاد في مقابل النص هذا في الموارد المذكورة، وأمّا في الموارد التي يتفاوت آثار وجود هذه الظاهرة مع غيرها فالقول بتنقيح المناط باطل قطعاً.

ثم إنه لايخفى عليك أنه لامجال للبحث عن موضوعية الفجر أو طريقيته عند القائل بموضوعية التبيّن في قوله تعالى: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر](1) إلّاإذا كان ما يعدّ الفجر طريقاً اليه قابلاً للتبين مثل الفجر حتى يقول بقيام تبينه مقام تبيّن الفجر، وأمّا إذا لم يكن ذلك الأمر قابلاً للتبيّن فلامجال للبحث عن طريقية الفجر أو موضوعيته مع القول بموضوعية التبيّن، وهذا واضح جداً.7.

ص: 127


1- البقرة: الآية 187.

الأمر الثاني: في مفهوم لفظ (الفجر) لغةً واصطلاحاً

قال الراغب في «مفرداته»: الفجر شق الشيء شقاً واسعاً (إلى أن قال:) ومنه قيل للصبح: فَجْر لكونه فَجرَ الليل قال: [والفجر وليال عشر] (1)[إن قرآن الفجر كان مشهوداً](2) وقيل: الفجر فجران الكاذب وهو كذنب السرحان والصادق وبه يتعلّق حكم الصوم والصلاة.

وفي «لسان العرب»(3): الفجر: ضوء الصباح وهو حمرة الشمس في سواد الليل، وهما فجران؛ أحدهما المستطيل وهو الكاذب الذي يسمى ذنب السرحان؛ والآخر المستطير وهو الصادق المنتشر في الأُفق الذي يحرم الأكل والشرب على الصائم، ولايكون الصبح إلّاالصادق. قال الجوهري: الفجر آخر

ص: 128


1- الفجر: الآية 1.
2- الإسراء: الآية 78.
3- لسان العرب: ج 11، ص 130، باب حرف الفاء.

الليل كالشفق في أوله.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ الفجر موضوع للضوء الحادث المنتشر في الأُفق ويفجر ظلمة الليل التي حصلت بسبب غروب الشمس، وتكملت ووصلت الى نهايتها بسبب بعد الشمس عن الاُفق، سواء وصلت الظلمة إلى نهايتها بإنعدام نور الشمس عن الاُفق بالمرة بسبب غيبوبتها كما هي الحال في البلاد المتعارفة، أو لم تصل وبقي تمام الليل بواسطة عدم غيبوبة الشمس بتمام ضوئها عن الأرض ذا نور كنور الفجر، ففي كلتي الصورتين النور يطلع ويفجر الظلمة الحادثة بسبب غروب الشمس، وإن كانت ظلمة الليل في الصورة الثانية ضعيفة، إلّاأنّه لا شك في وجودها كظلمته في أول الليل التي هي توجد بغروب الشمس عن الاُفق، والضوء الحادث على الاُفق يفجر هذه الظلمة وإلّا لم يكن مرئياً.

وبعبارة أُخرى نقول: إنّ الفجر عبارة عن حالة نورية تحدث بشروق الشمس وتفجر ظلمة الليل وتشقّها شقّاً وتزداد إلى أن تطلع الشمس؛ سواء كان الليل ظلمته مطبقة أو غير مطبقة، وسواء انعدم نور الشمس فيها أو لم ينعدم، وبقي تمام الليل ذا نور كنور الفجر، فكل هذه الحالات التي تحدث بشروق الشمس من أفراد الفجر، وكما في لسان العرب، ضوء الصباح.

فإن قلت: هذا مقبول لو كان اشتداد الضوء في الليالي التي لاينعدم نور الشمس فيها موافقاً لطلوع الفجر في غيرها بحساب التقاويم، أو لايختلف عن سائر الأيام اختلافاً فاحشاً، وأمّا مع الاختلاف الفاحش كما إذا كان طلوع الفجر المتعارف على ما ذكر في الاستفتاء في (لندن) في يوم 22 آيار في ساعة (1:22) وفي يوم 23 آيار الذي لايتحقّق فيه الفجر المتعارف، بل يشتد الضوء

ص: 129

الموجود ويزداد، يكون الفجر أي أول زمان شروع النور في الشدة والإزدياد في ساعة (3:12) فيكون الفارق بين يومين متواليين مائة وعشرة دقائق (1:50) وهو وضع غير مألوف.

قلت: لااعتناء بهذا الإختلاف والتفاوت بعد تحقّق الفجر وشق ظلمة الليل وطلوع ضوء الصباح تارة بالكيفية المألوفة وتارة بكيفية غير مألوفة.

هذا مضافاً إلى أنّ في إنكار صدق اسم الفجر على شروع النور بالإزدياد الذي لايمكن تحقّقه إلّابشروق الشمس على الاُفق، وتحقّق الوضع الفجري، لافائدة عملية فيه، فإنه كما يظهر من عمل مسلمي (لندن)، على ما في هذا الاستفتاء، واعتمادهم على (12 درجة) في تمام السنة، لاخلاف بين عرفهم في دخول الصبح ووجوب الإمساك عن المفطرات عند اشتداد الضوء.

فلاينبغي الإختلاف في أن هذا هو الفجر الحقيقي والإعتماد عليه، والحكم بجواز ارتكاب المفطر قبل حدوثه لعدم تحقّق الفجر واقعاً، أو إنّ هذا الانتشار والاشتداد بعد مضي (1:50) من زمان الفجر المتعارف في اليوم السابق عليه، وإن كان دليلاً على اليوم ويجب الإمساك عنده إلّاأنّه لايدل على تحقّق الفجر به فلعلّه تحقّق قبل ذلك وإنما منع من ظهوره ورؤيته النور الباقي من أول الليل، كما يمنع منه نور القمر في الليالي المقمرة، ولكن مع ذلك يحكم بعدم جواز الأكل والشرب قبل ذلك بحكم الاستصحاب، فلافائدة عملية في ذلك، فإنه كيف كان يجوز الأكل والشرب قبل ذلك كما يجب تركهما بعده.

نعم، لو ادعى أحد بمناسبة الفارق الزماني المذكور سبق طلوع الفجر على زمان اشتداد الضوء وانتشاره، وادّعى تحقّقه في زمان معين قبل ذلك، فعليه

ص: 130

العمل على طبق قطعه، فلايجوز له الأكل والشرب من هذا الزمان.

هذا تمام الكلام في هذا الأمر واللّه هو الموفّق للصواب.

ص: 131

الأمر الثالث

هل الحكم المستفاد من قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود](1) حكم واقعى أم حكم ظاهري مجعول للشاك في بقاء الليل وجواز الأكل والشرب؟ وهل التبيّن المذكور في الآية الكريمة اخذ على نحو الطريقية أو الموضوعية؟

والجواب: إنّه يجوز أن يكون حكم جواز الأكل والشرب المستفاد من الآية الشريفة حكماً واقعياً تكون غايته التبيّن المذكور فيها، وهي تتحقّق بتحقّق الخيط الأبيض المتبيّن من الخيط الأسود للناس من ذوي الأبصار المتعارفة كسائر المبصرات إذا لم يكن عن تبيّنه مانع كغلبة نور القمر في الليالي المقمرة، وعليه: يكون الحسّ والرؤية الطريق للإحراز هذا الأمر المتبيّن بنفسه كسائر

ص: 132


1- قال في مجمع البيان: والخيط الأبيض بياض الفجر، والخيط الأسود سواد الليل، وأول النهارطلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياءً. وقال ابن الأثير في النهاية: وفي حديث عدي: (الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يريد به بياض النهار وسواد الليل.

الموضوعات المحسوسة والمبصرة من غير احتياج إلى جعل من الشارع، وعلى هذا الاستظهار يكون ما هو الموضوع لتحقّق الغاية أمراً واحداً، وهو الخيط الأبيض المتبيّن بنفسه من الخيط الأسود، لاأمرين يكون أحدهما الخيط الأبيض والآخر تبيّن ذلك.

وعليه: حيث يكون التبيّن لازماً لوجود الموضوع لاينفك عنه ليس هو من الموضوع بشيء، أي لم يؤخذ فيه وليس هو طريقاً إليه، فيكفي حصول العلم بذلك الأمر المتبيّن بنفسه، ويقوم مقام رؤيته في الليالي المقمرة التي لايدرك ذلك بالبصر لمنع المانع. ويجوز أن يكون الحكم المذكور واقعياً غايته التبيّن المذكور على أن يكون التبيّن جزء للغاية المركّبة منه ومن الخيط الأبيض.

وعليه: أيضاً الحكم بجواز الأكل في الليالي الغير المقمرة يكون حكماً واقعياً لامحالة، وأما الليالي المقمرة فلاتشملها الغاية المذكورة إذا شك في بقاء الليل، نعم يجوز الأكل والشرب إلى العلم بدخول اليوم بالاستصحاب.

هذا، وهل - على البناء على استظهار الحكم الواقعي من الآية - الأظهر هو الوجه الأول أو الثاني؟

يمكن أن يقال: إنّ الوجه الثاني وهو كون التبين جزءً للموضوع خلاف الظاهر، أو كون الأول أظهر منه.

أوّلاً: لأنّه خلاف مفهوم الفجر بحسب العرف فإنّه أعمّ من تبيّن الخيط الأبيض حسياً أو تقديراً.

وثانياً: لاستلزامه عدم شمول الضابطة المستفادة من الآية لليالي المقمرة مع

ص: 133

ظهور الابتلاء بها ولزوم بيان حكمها، فلذلك يستضعف استظهار الوجه الثاني من الآية الكريمة ويرجّح الوجه الأول.

هذا كله مبني على استظهار كون الحكم المذكور حكماً واقعياً.

ولكن التحقيق أنّه كما يجوز ذلك يجوز أن يكون الحكم المذكور حكماً ظاهرياً مجعولاً للشاك في الفجر وبقاء الليل حكماً أو موضوعاً كالاستصحاب، فالشاك في بقاء الليل يبني على بقائه الى أن يتبيّن له الفجر.

ويمكن عدّ الآية من أدلة حجية الاستصحاب في غير هذا المورد أيضاً بادّعاء دلالة الآية الكريمة على إرجاع العرف الى ما هو المركوز في أذهانهم، واستقر عليه عملهم من إبقاء ما كان على ما كان، والأخذ بالحالة السابقة عند الشك في بقائها، وأنها لاتنقض إلّاباليقين، وسواء استظهرنا ذلك منها أو لم نستظهره.

القول بظهور الآية في كون حكم جواز الأكل ظاهرياً قوي جداً، ولازمه الالتزام بطريقة التبيّن الحسّي وقيام القطع وكل طريق شرعي معتبر مقامه، وأما القول بموضوعيته فرده الظهورَ المذكور وصحتُه منوط بكون الحكم المستفاد من الآية الحكم الواقعي، ومع ظهور الآية في طريقية التبيّن وكون الحكم حكماً ظاهرياً مجعولاً للشاك لاوجه للذهاب إليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بظهور قوله تعالى: [كلوا واشربوا...](1) في الحكم الواقعي فالقول بموضوعية التبيّن عليه أيضاً خلاف الظاهر كما أشرنا إليه، فالظاهر على هذا البناء هو الوجه الأول وهو كون الغاية تحقّق الخيط الأبيض7.

ص: 134


1- البقرة: الآية 187.

المتبيّن للناس؛ سواء أحرز ذلك بالحسّ والبصر أو بالعلم أو بطريقٍ معتبر آخر، فتأمّل جيداً.

هذا ولو شككنا في طريقية التبيّن وموضوعيته فالمرجع في الصوم هو الإستصحاب، وفي الصلاة الإحتياط بتأخير أدائها إلى زمان العلم بانقضاء الليل ودخول الصبح.

ولايقال: إنّ مقتضى الأخذ بالظاهر هو الموضوعية.

فإنّه يقال: الأمر كذلك في مثل قولنا: صلّ حتى الفجر، أو قوله تعالى: [أقم الصلاة لدلوك الشمس].

وأمّا إذا قال: أقم الصلاة حتى يتبين لك الفجر، أو دلوك الشمس، فالظاهر هو الطريقية، وفرض الشك في الطريقية أو الموضوعية تنزّل عن هذا الظهور.

ثم لايخفى عليك أنه على القول بموضوعية التبيّن والقول بأنّ مفهوم الفجر أعم من الفجر المتعارف ومما هو مثل شروع النور في الإزدياد والشدة بشروق الشمس على الاُفق كما لابد من التبيّن الحسّي في الفجر المتعارف لابد من تبيّضه بشروع النور في الاشتداد.

هذا، وقد تم بيان ما أردنا من الأُمور فنذكر الجواب عن المسائل المطروحة في الإستفتاء والمربوطة بها في ضمن فروع:

الأول: الأظهر بل الظاهر أنّ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة، مثل الفجر والمغرب وغيرهما اخذت على نحو الموضوعية، فلايتعدّى عنها إلى غيرها إلّا بمفهوم الموافقة من المساواة أو الأولوية، أو تنقيح المناط كما مر في الأمر الأول.

ص: 135

الثاني: إنّ مفهوم الفجر وهو شق ظلمة الليل - سواء كانت مطبقة أم غير مطبقة - أعمّ من الفجر المتعارف الذي يحدث في الاُفق بعد الفجر الكاذب، واشتداد النور وشروعه في الإزدياد في البلاد أو الليالي التي لاينعدم نور الشمس في الليل ويبقى في كمال ظلمته كالفجر.

وعليه: ففي مثل مدينة لندن التي في أشهرها العشر - على ما في هذا الاستفتاء - ينعدم نور الشمس، ويتحقّق الفجر كسائر البلاد، الاعتماد على الفجر المتعارف، وفي الشهرين اللذين لاينعدم نور الشمس في الليل الإعتماد على شروع النور في الإزدياد والإشتداد، وهو فجر هذين الشهرين لأنّ النور الزائد يفجّر الظلمة المختلطة بالنور ويذهب بها شيئاً فشيئاً إلى أن لايبقى منها شيء كما هو الحال في الفجر المتعارف.

الثالث: الاعتماد على اشتداد الضوء في الفرض المذكور في الاستفتاء في الشهرين اللذين لاينعدم نور الشمس في الليل معتبر شرعاً؛ إمّا لأجل صدق الفجر على حالة اشتداد النور كما ذكرناه في الفرع الثاني، وإمّا لأجل القطع بتحقق النهار عنده، فلايجوز بعد ذلك تناول المفطر.

نعم، بالنسبة إلى قبله وإن كان يجوز تناول المفطر ولايجزي الإتيان بصلاة الصبح إلّاأنّ جواز المفطر وعدم إجزاء الصلاة على الأول للعلم ببقاء الليل، وعلى الثاني للعمل بالاستصحاب والتعبّد على بقاء الموضوع أو الحكم.

الرابع: لايجوز ترك الإعتماد بالفجر المتعارف المحقّق في عشرة أشهر السنة والإعتماد في كل السنة على الفجر الذي يتحقّق باشتداد الضوء في الشهرين، بل يختص ذلك بهما.

ص: 136

الخامس: الظاهر أنّ التبيّن المذكور في الآية طريقي، فيكفي وجود الفجر بمصداقيه سواء احرز بالحس أو بالقطع أو بأيّ طريق معتبر شرعي.

السادس: لو لم يتحقّق الفجر في بعض البلاد أو الأزمنة إذا شك في بقاء الليل يعتمد في صومه على الاستصحاب وفي صلابته على الاحتياط، فيجوز له الأكل والشرب إلى أن يعلم بتحقّق النهار ويؤخّر أداء الصلاة الى ذلك.

السابع: إذا اشتبه تحقّق الفجر وعدمه في بعض المناطق على أهله، فإمّا أن يكون الأمر مشتبهاً على الجميع لعدم وصول فحصهم إليه فحكمه يظهر مما تقدم في الفروع السابقة.

ولو اختلف أهله في تحقّقه وعدمه، فادعى طائفة منهم تحقّقه استناداً الى رؤيتهم الحسّية وطائفة ادّعت عدم تحقّقه استناداً إلى عدم رؤيتهم مع الفحص الكامل المستمر وربما يؤيد ذلك ببعض القواعد العلمية الدال على عدم تحقّق الفجر في ذلك المكان، ففي هذا الفرض يعمل كل منهم على مقتضى علمه.

وأمّا الشاك في تحقّق الفجر في المنطقة المذكورة، فهل يرجع الى الطائفة الاُولى التي ادّعت تحقّقه استناداً الى رؤيتها الحسية؟

الظاهر جواز الرجوع إذا كانوا من العدول أو الثقات، ولايعارض شهادتهم عدم انتهاء الفحص الطائفة الثانية إلى رؤيته والتصديق بتحقّقه، بل والتصديق بعدم تحقّقه لأنّه لو كان أمر قابل للمشاهدة والرؤية لرأوه.

وذلك لأنّ ما هو الموضوع للأحكام هو تحقّق الفجر الذي يحرز بشهادة الشهود، اللهم إلّاأن يكون اللذين يدعون عدم الرؤية جمع لايجوز في العادة

ص: 137

عدم رؤيتهم مع الفحص وعدم المانع سيّما إذا كان فحصهم مستمراً في طول السنين والأعوام، وبقي الأمر مختلفاً فيه، فالإعتماد على قول مدّعي الرؤية وإن كانوا من أهل العدالة والوثاقة في مثل هذا الفرض لايخلو عن الإشكال، لأنّ من مباني الاعتماد على قول العادل أصالة عدم الاشتباه، ومع إختلاف جماعة من ذوي الأبصار الصحيحة في ذلك لايعتمد بأصالة عدم الإشتباه، فالشاك يعمل على طبق الأصل والإحتياط، واللّه العالم بأحكامه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين سيّما بقية اللّه في الأرضين وحجته على العالمين أرواحنا له الفدا.

كتبه في بعض ضواحي (لندن) في شهر اللّه الأعظم من شهور سنة 1407 ه عبده المفتاق الى رحمة اللّه، وجدّدت النظر في بلدة قم المشرّفة، عش آل البيت عليهم السلام.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

7 - \جمادى الأُولى - 1408 ه

ص: 138

حديث عرض الدِّين

اشارة

ص: 139

ص: 140

المقدّمة في الإيمان و مراتبه

إنَّ الاعتقاد بالمبدأ و المعاد و النبوّة و الإمامة، يُعدُّ من موجبات السعادة و إطمئنان القلب و رفع الاضطراب الروحي، و إحياء الأمل و التفاؤل بالحياة، و السير نحو الفلاح و الفوز.

و لا نبالغ إذا ما قلنا: أنّه لا توجد طلبات أدعى للسعادة و الراحة من هذه الطلبات الثلاث التي ذكرت في هذا الدعاء:

«اللّهُمَّ إنِّي أسألكَ إيمانا تباشر به قَلْبي، و يقيناً صادقاً حتى أعلمَ أنَّه لَنْ يصيبني إلاّ ما كتبتَ لي، و رضَّني من العَيش بما قسمتَ لي»(1).

الحاجة الأُولى: الايمان الذي يجعله اللّه تعالى مستولياً على قلب الإنسان و

ص: 141


1- ورد في أدعية عدَّة، منها: دُعاء أبي حمزة الثمالي.

محيطاً به.

الحاجة الثانية: اليقين الصادق، و هو أن يعتقد الإنسان أن لن يصيبه إلاّ ما كتب اللّه له.

الحاجة الثالثة: الرضا بالرزق المقسوم و العيش المقرّر من قبل الحق جلَّ و علا.

إنَّ الإيمان و اليقين و الرضا، من الحالات و المقامات التي لها درجات و مراتب متفاوتة بين البشر، ففي الوقت الذي يصح إطلاق الإيمان و اليقين و الرضا على كل مرتبة منها، لكنَّ أفرادها متفاوتة كتفاوت مراتب و أفراد النور، و قد تصل الفاصلة بين مرتبة و أُخرى إلى درجة بحيث لو كان بالإمكان تطبيق مقياس سرعة الضوء عليها، لأشرنا إليها بذلك المقياس.

فكما نعلم، أنَّ نور الشمس نورٌ، و نور المصباح نور، و نور السراج نور، و نور الشمعة نور أيضاً، و لكنها متفاوتة الشدَّة و الدرجة، فكذلك الإيمان الذي عُبِّرَ عنه في القرآن الكريم بالنور، كما في تفسير الآية الشريفة: [ربَّنا أتْمِم لَنا نُورَنا](1).

و الآية الشريفة: [يَومَ تَرى المؤمنين و المؤمنات يَسعى نُورُهُم بَيْنَ أيديهِمْ](2).

و لذا فإنَّ إيمان النبيِّ الأكرم صلى الله عليه و آله إيمانٌ و نورٌ مكَّنهُ من القيام بأكبر وأثقل وظيفةٍ أوكِلَت إلى أحدٍ من الخليقة من قِبَل اللّه تعالى، حيث قام بمهمته على2.

ص: 142


1- التحريم: الآية 8.
2- الحديد: الآية 12.

أفضل وجه ممكن متحدياً الدنيا بأسرها ومغيِّراً الكفر و العادات الباطلة، والشرك إلى التوحيد و الصلاح.

و كذلك إيمان أمير المؤمنين عليه السلام نورٌ و إيمان وصل إلى مرتبة قال عنه علي عليه السلام:

«لَوْ كُشفَ الغِطاءُ ما إزْدَدْتُ يَقيناً»(1).

و قال عليه السلام: «لَوْ أُعطيتُ الأقاليم السَبعَةَ بما تحت أفلاكها على أنْ أعْصي اللّه في نَملةٍ أسلُبُها جُلبَ شعيرةٍ ما فعلتُهُ»(2).

و هكذا سائر الأئمة المعصومين و الأنبياء العظام عليهم السلام كانوا مظاهرَ لقوة الإيمان و مراتبه الكاملة، التي تعدُّ دورساً نافعة و مثبتةً لإيمان الناس.

و الحاصل: أنَّ إيمانَ خواصَّ الأصحاب و الشخصيات الإسلامية الذي تجلى في عملهم و إيثارهم و فدائهم في الغزوات مثل بدرٍ و أُحدٍ و الخندق و الجمل و صفّين و النهروان و يوم عاشوراء قد إرتفع بهم إلى أعلى مراتب تجلّيات الإيمان، و كان نوراً.

إنَّ إيمان حمزة بن عبد المطلب و جعفر الطيار و أبي الفضل العباس و سلمان و المقداد و عمّار و حبيب بن مظاهر و زهير و رشيد و ميثم، و المئات بل الآلاف من المؤمنين الذين خرجوا من بوتقة الامتحان خالصين من الغشّ و إن لم يكونوا في درجة واحدة من الإيمان، لكنَّ ما قام به كلُّ واحدٍ منهم كان تجلّياً من تجلّيات4.

ص: 143


1- بحار الانوار: ج 46 ص 135، غرر الحكم، الفصل 75، ح 1 و 2 ص 603.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224.

عظمة إيمانهم و قوّة عقيدتهم و حاكياً عن إطمئنانهم و عدم إضطراب قلوبهم.

وإيمان الأشخاص الآخرين إيمان أيضاً، لكن درجة التفاوت بين إيمانهم و إيمان اولئك الخُلَّص، يصعب قياسها و تقديرها.

فكلُّ هؤلاء و بحسب درجات إيمانهم، يتمتّعون بالإستقرار و سكون الباطن وراحة البال و التسليم و الرضا و التوكل على اللّه و الثقة بالنفس، ليتصلوا إلى المرتبة العالية، فلا يفرحوا بما يصلهم و لا ييأسوا على ما يفوتهم من الدنيا مصداقاً لقوله تعالى: [لِكَيْلا تَأسَوا على ما فاتَكُمْ و لا تَفرَحُوا بِما آتاكُمْ](1) و يصلوا إلى حيث لا يخافون إلاّ اللّه: «حَدُّ اليقين أن لا تخافَ مَعَ اللّهِ شيئاً»(2).

والحاصل: أنَّ للتوكّل و التسليم و الرضا و التفويض إلى اللّه - و كلها من مقامات السعداء - مراتب يحوزها بعض الناس بمقدار قوّة درجات إيمانهم و خلوص عقيدتهم عن الشرك و الخرافات و الانحرافات الاُخرى.

وعلى هذا، ليس ثمَّة وسيلة لنيل الإنسان السعادة الواقعية، أعلى من الإيمان الصحيح و اليقين الخالص، فإنّه يدفع كل إضطرابٍ و خوفٍ من زوال النعم، و يرفع كلَّ اضطراب و توجس من إبهام المستقبل.

[الّذينَ آمنوا و تَطْمَئنُّ قلوبُهُم بِذِكرِ اللّه ألا بِذِكرِ اللّه تطمئنُّ القُلوب] (3) .8.

ص: 144


1- الحديد: الآية 23.
2- بحار الأنوار: ج 67 ص 180 و 143.
3- الرعد: الآية 28.

فطالب السعادة عليه أن يسعى جاهداً للإيمان بحقائق مفاهيم هذه الجمل النورانية:

[حَسبُنا اللّه و نِعْمَ الوَكيل] (1) .

[ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه] (2) .

[أُفَوِّضُ أمري إلى اللّه إنَّ اللّه بصيرٌ بالعباد] (3) .

[وَ مَنْ يَتَوكَّل على اللّهِ فَهوَ حَسْبُه] (4) .

[حَسبيَ اللّه] (5) .

[إنّا للّهِ و إنَّا إلَيهِ راجَعُونَ] (6) .

لينجو من ظلمات الحيرة و الترديد.6.

ص: 145


1- آل عمران: الآية 173.
2- الكهف: الآية 39.
3- غافر: الآية 44.
4- الطلاق: الآية 3.
5- التوبة: الآية 129، الزمر: الآية 38.
6- البقرة: الآية 156.

ص: 146

عرض الدّين على قادة الدّين

من جملة الطرق الرئيسية لتحصيل الإيمان الثابت و تقويته، هي التأمل في الآيات الآفاقية و الأنفسية، و التفكّر في خلق السماوات و الأرض ضمن مضامين القرآن المجيد. كما إنَّ مطالعة سيرة النبيِّ الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السلام و مراجعة الأحاديث و الروايات الواردة عنهم و خطبهم و أقوالهم في مختلف المجالات العقائدية مفيدٌ في توسيع المعرفة و دليلٌ للوصول إلى منبع عين الإيمان و اليقين الصافية.

و في طيّات الكتب، كبحار الأنوار، كمٌّ هائل من الروايات و الأحاديث الواردة عنهم عليهم السلام في العقائد، ما يُغني عن الجوع إلى الآخرين و طرق أبوابهم.

و من جملة الطرق التي يمكن بها معرفة العقائد و مطابقتها للوحي و هدي القرآن الكريم و تعليمات الرسول الأعظم و أهل بيته الطاهرين عليهم السلام و التي تؤدي إلى الإطمئنان و سكون القلب أكثر فأكثر، هو «عَرضُ الدّين» على قادة الدين، و خاصة في تفصيلات المسائل العقائدية التي ينحصر إثباتها بطريق الوحي و إخبار الرسول الأعظم و أهل بيته عليهم السلام و لا طريق لمعرفتها إلاّ بالرجوع إلى

ص: 147

المدارك الصحيحة السماعية من الكتاب و السنة.

فمثلاً: في تفاصيل الثواب و الجزاء، و هل أنّه روحاني أو جسماني أم أنّه بكلاهما؟ أو في تفصيلات الميزان و الصراط و وجود الملائكة و الحقائق؟ و أمور كثيرة اخرى من هذا القبيل، يعتبر المرجع الوحيد المصون من الاشتباه هو رسول اللّه و الأئمة الطاهرين عليهم السلام.

لا يخفى، إنَّ الشرع و العقل يتّفقان في أصل بعض العقائد، كما إنَّ الحاكم في اصول العقائد هو العقل، و القرآن الكريم ساق الإنسان و أرجعه إلى العقل و أمر الناس باتباع العقل فيها، و لكن في التفصيلات و الاعتقادات الاُخرى - \غير الاُصول - \لابدَّ من مراجعة الشرع، و من ثمَّ نجد أنَّه لا طريق للعقل في معرفة تلك الاُمور، أو أنَّ الإنسان غير مكلف بمعرفة تلك الاُمور، بملاحظة أنَّ بعض الأُمور و المطالب الاعتقادية ليست من المستقلاّت العقلية و الأوَّليّات البديهية و الفطرية، و لذا لا تكون نتائج البحث العقلي فيها مصونة من الاشتباه و الخلط، و بلحاظ غموض فهمها و دركها من قبل أغلب الناس أو جميعهم، سيكون التكليف بمعرفتها تكليفاً بما لا يطاق. و من هنا نُهي الناس عن تحصيل الاعتقاد بها عن طريق العقل لاحتمال الوقوع في الضلالة، و حينئذٍ يكتفى بالدليل السماعي الذي ثبت جواز الاعتماد عليه عقلاً، فلا يكون الإنسان معذوراً فيما إذا وقع في الضلالة نتيجة سلوكه طريق العقل لمعرفة تلك الاُمور.

و كما نعلم، فإنّ الكثير من المواضيع التي تبحث في الفلسفة و الكلام و ما يصطلح عليه بالعرفان، و التي ترتبط بالإلهيّات هي من هذا القبيل.

و الحاصل: أنَّ المرجع الوحيد المصون من الخطأ و الاشتباه في مثل هذه

ص: 148

المسائل هو الشرع، و إنَّ اولئك الذين يسلكون طريقاً آخر لمعرفتها، و الذين يُأوّلون الكتاب و السنَّة بما يوافق استنتاجاتهم العقلية، يكونون قد سلكوا طريقاً خطراً، يطوون به الظلمات بلا دليلٍ و مرشدٍ من الكتاب و السُنَّة، و إنَّ هذا الطريق لن يوصلهم إلاّ إلى الحَيرة و التشكيك و الترديد.

و إنَّك لن تجدَ تعارضاً أبداً بين الاستنتاج العقلي في الموارد التي يجوز لنا اتباع المسلك العقلي لمعرفتها، و بين الأدلة القطعية من القرآن و السنَّة القطعية الصدور، و لو فرض ووجد مثل هذا التعارض، فإنَّ الفهم القطعي العقلي سيكون قرينة قطعية عقلية على عدم إرادة ظاهر الكلام، و هذا الحكم العقلي سيكون قرينة على المجازية، و سيكون الحاكم هو قاعدة «إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات هو المتعيِّن».

و أمّا في غير هذه المباحث، إذا تعارض الاستنتاج العقلي مع دلالة الكتاب و السنّة، و وقع الشخص في الاشتباه، فلا يكون معذوراً لأنه منهيٌّ من البداية عن الورود في هذا الطريق.

و كمثال لما ذكرنا نقول: نحن و من خلال الآيات القرآنية الكثيرة و الأحاديث الشريفة، نفهم بالقطع و اليقين أنَّ الخالق هو غير المخلوق، و لا يوجد أيُّ قدر مشترك ذاتي أو حقيقي بينهما، [لَيسَ كَمِثلِه شيء](1) و هذه الحقيقة لا يمكن تطبيقها على بعض المسالك العرفانية أو الفلسفية المبتنية على أصالة الوجود، أو القول بأنَّ كل شيء هو اللّه تعالى.1.

ص: 149


1- الشورى: الآية 11.

أو تشبيه الخلق و الخالق بالموج و البحر و الحبر و الحروف، أو الإصطلاحات و التشبيهات الاُخرى، و صرف النظر عن واقعية كلِّ عالم الكون الذي تعرّض له القرآن الكريم و أخبر عن واقعيته كُلاًّ و أجزاءاً، فمن غير المعقول القول: أنَّ كلَّ هذه السماوات و المجرّات و المنظومات و الجبال و البحار و المخلوقات اللامتناهية التي يتركّب الإنسان نفسه و كذا الحيوانات الاُخرى من الملياردات منها، غيرُ متحقّقةٍ واقعاً، و أنَّ كلَّ ما هو موجود هو الوجود المطلق و ظهوراته فقط، أو مطلق الوجود و مراتبه فقط، و أنَّه لا شيء حقيقي في العالم إلاّ نفس الوجود و لو وجد إختلافٌ فهو في المراتب فقط.

و حتى لو قلنا بأنَّ وجود الأشياء غيرُ وجود الحقِّ، و أنَّ كلِّ شيء هو غير وجود الاشياء الاخرى، لكن قلنا بالاشتراك المعنوي و اعتبرنا أنَّ كُنه الحقِّ و كُنه الأشياء الاُخرى واحدٌ بهذا المعنى، و ادَّعينا معرفتها، و أنّه يُطلق على الجميع بنحو التشكيك «الوجود» فهذا المسلك مخالف للكتاب و السنة و الاعتقادات الشرعية و غير منسجم معها.

فما نفهمه من ظاهر الكتاب الكريم هو شيئية الأشياء كلِّها و واقعيتها و تحقّقها الخارجي، و مغايرة الذات الإلهية المقدّسة لها و تنزّهها عن المشابهة معها.

و كذلك في مسألة ربط الحادث بالقديم، و التي إذا لم يكن الكلام فيها منهياً عنه، فإنّه بلا شك غيرُ مأمورٍ به، فإذا وصل البحث إلى حيث القول: أنَّ اللّه عاجز - \ نعوذ باللّه - \عن خلق غير ما هو موجود، و أنَّ صدور العالم و الكائنات عنه بالإيجاب، و أنَّه لا إبداع في ما يسمى بعالم العقول و المجردات، و أنَّ العالم عبارة عن تشكيلات ميكانيكية، فكما أنَّ المخترع البشري أو الصانع الذي هو

ص: 150

استاذ في صنعته فقط و يمكنه أن يصنع ما هو ماهرٌ في صنعه فقط، فكذلك في خلق الكائنات، فلا يمكن أن يترك هذا النحو من الخلق - \نعوذ باللّه - \و أنَّه عاجز خلق خلقٍ آخر، إذا وصل الكلام إلى مثل هذه النظريات أو ما يقاربها، و يُشابهها - \ حتى لو لم يقال بهذه الصراحة - \فإنّه مخالف لظواهرالقرآن المقبولة و المسلَّمة، و منافٍ لها.

فقولنا: إنَّ هذا العالم قد أُوجد طبقاً لحكمةٍ و مصلحة و أنَّ اللّه أحسن الخالقين و أنَّه حكيم عليم، هو غير ما يقوله هؤلاء من أنَّ برنامج الإيجاد و الخلق لا يمكن أن يكون إلاّ بهذه السلسلة - \التي يدّعيها هؤلاء - \و أنَّ النظام الأتمّ هو النظام القائم على أساس الصادر الأول للمعلول الأول و... إلخ، و أنَّه بدون الصادر الأول للمعلول الأوّل و العقل الأوّل و غيره مما يقولون، يكون اللّه عاجزاً - \ والعياذ باللّه - \عن خلق عالم المحسوسات بدون وسائط، و سلسلة عوامل يفترضها هؤلاء.

فهذه الآراء لا يمكن مطابقتها للقرآن الكريم أبداً، فإنَّ مفهومها هو إدّعاء عجز اللّه عزوجل، و إثبات عوالم و مخلوقات و نظم [ما أنزل اللّه بها من سُلطانٍ](1).

و بحسب ما جاء في الكتاب و السنّة، فإنَّ اللّه هو الخالق، و مفهوم هذا القول لايساوي مفهوم: أنَّ اللّه علّة و أنّه علَّة أُولى.

و الخوض في مثل هذه المباحث قد يجرُّ إلى القول بقدم العالم، و قد ذهب البعض إلى أنَّ إجماع المسلمين قائم على أنَّ هذا القول يوجب الكُفر.0.

ص: 151


1- النجم: الآية 33. يوسف: الآية 40.

و قد اعترض العالم المتبحّر الملاّ محمد إسماعيل الخاجوئي رحمه الله في رسالة له في تفسير قوله تعالى: [و كان عرشُهُ على الماء](1) على أحد كبار أساتذة الحكمة حيث قال: (إنَّ اسم «الماء» قد أُطلق في كثير من الموارد في الكتاب و الحديث على العلم و العقل القدسي الذي يحمل العلم، و إنَّ اسم «الأرض» قد اطلق على النفس المجرَّدة القابلة للعلوم و المعارف) بأنّ هذا الحمل هو حمل اللفظ على غير ظاهره و لا شاهد من الكتاب و السنة و العقل على مثل هذا الحمل، كما أنَّه لا قائل به من المفسّرين و المحدِّثين، و أنّ هذه التأويلات هي من قبيل التعبير عن السماء بالحبل.

ثم يبسط الخاجوئي اعتراضه و يقول: كلُّ من يقول بوجود العقل المجرد ذاتاً و فعلاً، فهو قائل بقدمه، و هذا يستلزم القول بقدم العالم، و من قال بقدم ما سوى اللّه تعالى فهو كافرٌ بإجماع المسلمين حتى لو كان من الإمامية.

و كما قال آية اللّه العلاّمة في جواب من سأله عن حال رجل يعتقد بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، لكنه قائل بقدم العالم، و عن حكمه في الدنيا و الآخرة، قال العلّامة:

«مَنْ اعتقد قِدَم العالم فَهُو كافرٌ بلا خلاف، لأنَّ الفارق بينَ المسلم و الكافر ذلك، و حكمه في الآخرة حكم باقي الكفّار بالإجماع»(2).

و الحاصل: إننا و إن لم نكن في مقام ردِّ و إبطال و إثبات بعض الآراء و7.

ص: 152


1- هود: الآية 7.
2- الأجوبة المهنّائية: ص 88، بحار الانوار: ج 54 ص 247.

الأفكار و لا في مقام بيان الحكم الفقهي لمعتقدي تلك الآراء، و لكن نقول: بأنّ طرق هذه المباحث - \حتى لو تصوّر القائلون بها إنّهم غير ملزمين بتبنّي القول بالحدوث الدهري أو الزمان التقديري و تبعاته - \و البحث فيها ليس لازماً، لا شرعاً و لا عقلاً، و أنَّه خطير، و لا ضمان بالخروج بنتيجة صحيحة منها حتى من قِبل أساطين الحكمة و الفلسفة، و إنْ انحرف في نقطةٍ و مورد واحد، و ضلَّ ضلالة بسيطة.

و هنا نبيِّن هذا المعنى بذكر عدّة جُمَل من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الرائعة المعروفة بخطبة الأشباح، و التي يقول عنها السيد الرضي (عليه الرحمة) أنَّها من جلائل خطبه عليه السلام، ليتّضح هذا المطلب العرفاني الدقيق، بل هو من أعلى المطالب العرفانية الصادرة عن لسان اللّه الناطق و أمير البيان عليه السلام.

روى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أنشأ هذه الخطبة على منبر الكوفة بعد أن سأله رجل قائلاً:

«يا أميرَ المُؤمنين، صِفْ لَنا ربَّنا مثلَما نَراهُ عياناً لنزداد له حُبّاً و بِهِ معرفةً»

فغضب عليُّ عليه السلام و دعا الناس للصلاة جامعة، و لمّا اجتمع المسلمون و غصَّ المسجد بالمصلّين، صعد عليّ عليه السلام المنبر و لم يزل على غضبه...

و هنا، يطرح هذا السؤال نفسه، لماذا غضب الإمام علي عليه السلام من مثل هذا السؤال؟

يبدو أنَّ كيفية طرح هذا السؤال هي التي أثارت غَضَب علي عليه السلام حيث أنَّ

ص: 153

السائل كان يظن إمكانية توصيف الباري عزوجل بدرجة من الوضوح يتمكن عامة الناس من معرفة كُنه حقيقته و صفاته، كما لو كان يُشاهَد عياناً، أو أنَّ عبداً من عباده و إنْ كان رئيس العارفين و مولى الموحدين يمكنه حَدُّ صفاته أو معرفة حقيقة ذاته و توضيحها و تبسيطها لدرجة التصور و لو كان تقريبيّاً، و مهما كان ظن السائل، فإنَّ مجرد التفكير في مثل ذلك يثير غضب أمير المؤمنين عليه السلام حيث انه عليه السلام استعظم نفس السؤال، فكان علي عليه السلام يرى أنّه ليس لأحدٍ الحقّ مهما عَلَت معرفته أن يسأل مثل هذا السؤال فضلاً عن أن يكون لأحدٍ الحق في وصف الباري عزوجل إلى درجةٍ أكبر مما وصف هو نفسه به تبارك و تعالى.

و هذا هو الذي دعاه إلى أنْ يصعد المنبر و يخطب تلك الخطبة التي إفتتحها بالحمد و الثناء ثم الصلوات على النبي محمد صلى الله عليه و آله حتى توجّه بخطابه إلى السائل قائلاً:

«فَانظُر أيُّها السائلُ: فما دَلَّكَ القرآنُ عليه مِن صفتِه فأتمَّ به و استَضِيءْ بنورِ هدايتِه و ما كلّفكَ الشَّيطان عِلمِه ممّا ليسَ عليكَ في الكتابِ فرضُه و لا في سنَّة النَّبي صلّى اللّه عليه و آله و أئمَّة الهُدى أثَرَه فكِلْ عِلمَه إلى اللّه سبحانَه فإنَّ ذلكَ منتَهى حقِّ اللّه عليكَ. و اعلَم أنَّ الرّاسخينَ في العلمِ هُمُ الَّذينَ أغناهُم عن إقتِحامِ السُّدد المَضْروبة دونَ الغُيوبِ الإقرارُ بجملةِ ما جَهِلوا تفسيرَه مِن الغيبِ المحجوبِ، فمَدَح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تَناولِ ما لَمْ يُحيطوا به علماً. و سَمّى تَركَهم التَّعمُّقَ فيما لم يُكلِّفهم البحثَ عن كُنهه رُسوخاً فاقتصِر على ذلك، و لا تُقدِّرْ عظَمَةَ اللّه على قدرِ عقلِكَ

ص: 154

فتكونَ من الهالِكينَ...»(1)

و هذا الكلام الإعجازي لأمير المؤمنين عليه السلام هو أفضل دليل و مرشدٍ و أعلى مرتبة من المعرفة الممكنة للملائكة و الإنسان، و كلّ ما عدا ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام و كل ما كتب خارج حدود هذه الخطبة، فهو غرور و التباس عقلي، أو هي مجرد كلمات و إصطلاحات و ألفاظ.

يقول الشيخ الأجلّ، فخر الشيعة و عالم الإسلام الكبير، الشيخ المفيد قدس سره في مسألة توقيفية الأسماء الحُسنى:

«لا يجوز تسمية الباري تعالى إلاّ بما سمّى به نفسه في كتابه أو على لسانِ نبيِّه أو سمّاه حُجَجُه و خُلفاء نَبيِّه و كذلك أقول في الصفات، و بهذا تطابَقَتْ الأخبار عَن آل محمد عليهم السلام و هو مذهبُ جماعة الإماميَّة و...»(2).

و قال المحقق القدوسي الطوسي قدس سره في كتاب الفصول (ص 22) و هو مصنف باللغة الفارسية، قال ما ترجمته:

لطيفة: بعد أنْ علمنا أنَّ الباري سبحانه و تعالى ذاتٌ واحدةٌ منزّهةٌ، لا مجال للتعدد و التكثّر في كبرياء عظمته من أيِّ جهة كانت، أطلق على نفسه لفظ «اللّه» بلا ملاحظة أي اضافة و أطلق الأسماء الحسنى الاُخرى باعتبار الإضافات أو بحسب تركّب الإضافة و السّلب، كالحيِّ و العزيز و الواسع و الرّحيم. و عليه:

فكلَّ لفظ لائقٍ بجلاله و كماله، يمكن إطلاقه عليه، إلاّ أنَّه من غير الأدب إطلاق3.

ص: 155


1- نهج البلاغة: الخطبه 91.
2- أوائل المقالات للمفيد، ص 53.

الأسماء التي لم تصدر الإجازة من حضرته لإطلاقها عليه، إذ لعلَّه لا يليق بمقامه من جهة أُخرى لأنَّ ظاهر الحال يقتضي أنَّه إذا لم يكن قد تلطّف برأفَته و عنايته اللامتناهية و ألهَمَ أنبيائه و المقربين من عباده، لما كان لأحدٍ اللياقة بإطلاق أيِّ لفظٍ على حقيقته، إذ لا يمكن بأيّ وجه مطابقة الاسم على المسمّى.

و بحسب بعض الآيات مثل قوله تعالى: [اللّهُ يَعلَمُ ما تحمِلُ كلُّ أُنثى](1) و قوله تعالى: [إنَّ اللّهَ بكلِّ شيءٍ عَليمٌ](2) فإنَّ الشيء المعلوم هو غير العالم، و بحسب بعض المسالك أنَّه لا يوجد شيءٌ غيرُ علم اللّه بذاته و مراتب ظهور وجوده.

و أما البحث في حقيقة العلم و كيفيته و ماهيته، فإننا إذا كنّا مجازين في البحث عن حقيقة علمنا نحن و ماهيته، و الوصول الى الآراء المختلفة فيه، لكننا ممنوعون عن البحث في حقيقة علم اللّه الذي هو عين ذاته، إذْ لا يمكن لنا درك حقيقة علمه: [و لا يُحيطونَ به علماً](3).

إذن، فلسان الكتاب العزيز و السنَّة الشريفة و مفهوم الاصطلاحات الإسلامية و الأسماء الحسنى التي يُسمع بإطلاقها على ذات الباري تعالى، هي غير مفهوم الاصطلاحات الاُخرى التي راج إطلاقها عليه، و التي ظهرت بعد ظهور الفلسفة و العرفان الاصطلاحي و اشتغال المسلمين بهذه المباحث و رواجها، و التي حجبتهم عن السير العلمي الإسلامي الخاص، و عن التفكير في الآيات الإلهية0.

ص: 156


1- الرعد: الآية 8.
2- البقرة: الآية 231.
3- طه: الآية 110.

التي أُمروا بالبحث فيها.

فلابدَّ من معرفة اللّه بالطريق الّذي عرَّفَ نفسه به و هو طريق الوحي و رسالات الأنبياء و الكتاب و السنّة و السبل المنطقية القرآنية، و يستحيل معرفته بغير هذا الطريق، و ينبغي عدم التقدّم على هذه الإرشادات كما ينبغي عدم التأخّر و الابتعاد عنها.

إنَّ معرفة اللّه في القرآن المجيد و في أحاديث العرض، عريضة و شاملة، بل هي غير متناهية، كلما سار الإنسان في إطار الإرشادات القرآنية و الأحاديث الشريفة و تقدّم فيها، فإنَّه سيبقى المجال أمام سيره و عروجه مفتوحاً على مصراعيه.

و لابدَّ من طرق باب أهل بيت الوحي عليهم السلام و الالتزام باتّباعهم، و أخذ الاصطلاحات المطابقة للواقع عنهم، و توسعة المعرفة بالتفكّر و العبادة و الدعاء و الرياضات الشرعية.

و هناك في الأدعية المأثورة عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام و سائر الأئمة الأطهار عليهم السلام، من العبائر و الجمل ما يفتح أبواباً الى طريق المعرفة.

ففي الوقت الذي تتضمّن فيه تلك الأدعية مضامين عالية و عرفانية حقيقية، فهي أيضاً كانت ترشد اولئك المسلمين من سكنة الصحاري و البوادي الذين لم يتتلمذوا في مدرسة ما، و لم يقرأوا «الشفاء» و «النجاة» و «الإشارات» و «الأسفار» و «الفصوص» و جعلت منهم مؤمنين إلى مرتبة لم يحلم بمثلها أمثال ابن سينا و الفارابي.

ص: 157

فلو أنّنا اشتغلنا بقراءة تلك الأدعية و شرحها و تفسيرها بدلاً من تلك الكتب، لفهمنا بأننا مع ما نملك من هذه المعارف و الآثار، لا ينبغي أن نذهب إلى غيرها و ننسى حديث: «لَوْ كانَ موسى حيَّا لَما وسِعَهُ إلاّ إتّباعي»(1).

فكلامنا هنا هو أنّ علينا أن نعرض عقائدنا على القرآن الكريم و على الأحاديث الصحيحة و على حملة هذين المصدرين الأساسيين، أمثال «زكريا بن آدم» الذي قال فيه الإمام الرضا عليه السلام: «المَأمونُ على الدّين و الدُنيا»(2) و الشيخ الطوسي و المجلسي، ليشهد هؤلاء على أنَّ الدين الذي عُرض عليهم، دينٌ موافق لما أنزله اللّه تعالى على نبيه الأكرم صلى الله عليه و آله، و أن يقولوا:

«هذا دينُ اللّه الذي أنزلَه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و بلَّغه عنهُ أوصياؤهُ».

إنَّ اولئك الذين أمضَوا أعمارهم في طي الطرق الأُخرى، و اشتغلوا بغير ما ورد عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، سيذعنون بأنّه لا يمكن نسبة محصول و نتائج بعض الاشتغالات و البحوث إلى اللّه و النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فمدرسة الأنبياء و مدرسة القرآن و الوحي و الإمام الباقر و الصادق عليهما السلام يعرفها زرارة و أبان بن تغلب و محمد بن مسلم و عمّار بن ياسر و الأصبغ بن نباتة و حذيفة و أبوذر و أمثالهم، لا الآخرون.

فلم نعهد و لم نسمع يوماً أنَّ شخصاً ذهب إلى مثل يعقوب ابن إسحاق الكندي0.

ص: 158


1- بحار الأنوار: ج 30 ص 361.
2- جامع الرواة: ج 1 ص 330.

و عرض عليه دينه، فأمثال يعقوب بن إسحاق و سائر الفلاسفة و العُرفاء الاصطلاحيين، هم أنفسهم إذا أرادوا عرض دينهم، كان عليهم عرضه على النبي صلى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام و رواة أحاديثهم.

ص: 159

ص: 160

عَرْض الدّين في العصر الراهن

و في عصرنا الحاضر، على الجميع و خاصة جيل الشباب و المثقّفين و الجامعين المؤمنين الأعزاء، أن يهتمّوا بمسألة عرض الدّين على علماء الدّين الذين عرفوا الدين من القرآن الكريم و أحاديث أهل البيت عليهم السلام فقط، إذ أنَّ يد التحريف و التأويل و التصرّف و إتباع الاستحسان و السليقة الشخصية، قد امتدّت إلى العقائد و التعاليم الإسلامية من قبل بعض الأشخاص، و لاسباب عديدة منها: التأثر بالحضارة الغربية، و إنَّ بعض فاقدي الأهلية و الصلاحية قد نصَّبوا أنفسهم خطباء للدّين، فتراهم يعقدون جلسات الحوار و المناقشة، و يخطبون و يكتبون المقالات الدينية التي تستهدف الإسلام و التزام الناس بالعقائد و الاحكام الشرعية، و يوحون للناس بأنَّ التقيّد بالأحكام الشرعية و مداليل الكتاب و السنة، بعيدٌ عن الانفتاح الفكري و الحضاري، و يحاولون تخطئة ما تلقّاه كبار العلماء و الفقهاء على إمتداد القرون المتمادية، معتقدين بأنّ الكثير من الأحكام الالهية لا تناسب المزاج العصري الذي أسسه الغرب أو الشرق،

ص: 161

متوسّلين ببعض المصطلحات الرنّانة مثل «الفقه المنفتح» أو «انقباض و انبساط الشريعة» لاتهام بعض الأحكام و تعطيل خاتمية و أبدية المنهج الشرعي و نظام الجزاء و القوانين الاجتماعية الإسلامية و غيرها.

و قد تدخَّل هؤلاء حتى في العقائد و عرّفوا الكتاب و السنة باصطلاحات عرفانية، و بذلك يكونوا قد سلكوا طريقاً إذا استمروا به لم يؤد إلاّ إلى تضعيف الالتزام الديني عند الكثير من الناس.

لقد كان عمل الأنبياء المهم و العظيم هو هداية الناس إلى المنهج الذي أُمروا بتبليغه من قبل اللّه، و حثِّهم على العمل بهذا المنهج و الالتزام الوجداني به، هذا العمل الجبّار الذي عجز عن مثله كلَّ الفلاسفة و كل أدعياء الفكر و الثقافة الحديثة، و لا زالوا عاجزين.

إنَّ هؤلاء الأشخاص الذين يدّعون الثقافة و الفكر، أينما وجدوا فإنّهم حاولوا إضعاف الإيمان و مواجهته، و يفتخرون بأنّهم يستطيعون أن يخدشوا المعتقدات و المسلَّمات الإسلامية و أن يقلّلوا من تمسّك الناس و التزامهم بدينهم، و يفسّرون الدين بما تشتهيه أذواقهم المتأثرة بالثقافات الأجنبية و أحوال و أوضاع الغرب، و ينكرون أو يشككون في الأصالة الفكرية الإسلامية.

و للأسف الشديد، فإنّ بعض هذه الأحابيل قد أثّرت في بعض طبقات المجتمع الإسلامي برجاله و نسائه، خاصة و أنها منمَّقة و مطلية بطلاء التجديد الديني و الرجوع إلى الذات مما أدّى إلى إدخال الوسوسة في بعض المسائل الدينية المسلّمة، و الالتزامات الإسلامية عند البعض.

ص: 162

و لا يخفى أنَّ مثل هذه المخالفات و المواجهات للشرع الحنيف يكون لها صدى إعلامي، و من هنا تجد أنَّ أبطال مثل هذه الاتجاهات هم من عشّاق الشهرة و الصيت الذائع الذين يحاولون الظهور على ساحة المجتمع بأيِّ ثمن حتى لو كان إنكار المسلَّمات الدينية و المقدسة عند المسلمين، فهؤلاء عاجزون تماماً عن شق طريق الوجاهة و الرفعة، لخوائهم و ضعفهم و عدم أهليتهم، فيتشبّثون بمثل هذه الإطروحات الهزيلة لكسب السمعة و الشهرة، و هم يعرفون تماماً، أنَّهم كلما إزدادوا في هتك الحرمات و إثارة الشبهات و إهانة المقدسات و إنكار القيم الاجتماعية، إزدادت شهرتهم، و هذا ما يطمحون اليه، و لا شكَّ في أنَّ هؤلاء سيكون لهم أتباع و مروّجين ممن تتعارض مصالحهم الشخصية و أهوائهم و أمزجتهم مع تلك المسلّمات العقائدية و الدينية.

فالكثير من المتأثّرين بالغرب و من يتصوّرون أنهم من المجدّدين يعتبرون أنَّ الكاتب و الخطيب المتحرر المثقّف هو الأكثر جرأةً على محاربة المقدّسات و المسلّمات الإسلامية و الاستهزاء بها.

و من ثمَّ تجد بأنَّ كتاب المرتدّ سلمان رشدي، و الذي كان عارياً عن أيِّ استدلال منطقي و توجيه معقول، و الخالي من أيِّ ردٍّ فكري وجيه، قد عدَّته بعض المحافل التي لا ترى للحرية حدّاً، من الكتب الفكريّة المتحررة المنفتحة، كلُّ ذلك لأنّ ما ورد في الكتاب هو أعلى ما يمكن من درجات الإهانة و الجرأة على الشخصيات المقدّسة عند المسلمين بل عند كل العالم، فصار رشدي و كتابه مشهوراً عن طريق هتك القداسة و إهانة العصمة و الطهارة، و لذا فقد قامت القوى الاستعمارية التي رقصت على أنغام هذه السنفونية، قامت بحماية هذا المرتد و

ص: 163

الدفاع عنه، مع أنَّ الكتاب فاقدٌ للمحتوى الفكري المنطقي المستدل.

و لذا، فإنّ شبابنا إذا ما أرادوا الأمان من شرِّ إضلال مثل هؤلاء المجدّدين الصوريين، و أن يتعلّموا الدين الإسلامي الصحيح و المنزّه و كما أُنزل على قلب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و أخذه من مصادره الأصيلة النقيّة، عليهم أنْ يراجعوا بأنفسهم تلك المصادر، و أن يعتبروا الكتاب و السنة الخاليين من التأويل و التوجيه، حُجَّة دامغة، أو أن يرجعوا إلى حَملَة الإسلام، أي أُولئك الذين أخذوا الدين من مكتب أهل البيت عليهم السلام، و الذين غاصوا بحار هذين المصدرين و سبروها، فإنَّ هؤلاء معروفون عند الجميع، أمثال أبي ذر و المقداد و سلمان و سُليم و محمد بن مسلم و ابن أبي عُمير و الفضل بن شاذان و ابن بابويه و الكليني و الشيخ الطوسي و تلامذتهم و تلامذة تلامذتهم إلى يومنا هذا، من العلماء والفقهاء والمراجع الكرام.

فهذه الطبقة من العلماء هم الذين تناقلوا الإسلام و الدين الصحيح على مرِّ الأعصار و الأدوار بعد أن تلقّوه من مصارده الأصلية يداً بيد و صدراً بصدر و روحاً بروح، و نقلوه إلى الخَلَف عن السلف، فلو لم يكن هؤلاء المخلصون لم يتمكّن الآخرون من الحفاظ على هذه الأمانة الغالية، و لعمَّت غوغاء البحوث الفلسفية و أفكار و آراء الصوفية لهذا و ذاك، و لم يكن ليبق شيء ثابت و خالص و لا لتسلّم المباني الاعتقادية الإسلامية من خطر الانحراف و التأويل.

فكلُّ المطَّلعين المنصفين يعرفون تماماً أنَّ أمثال هؤلاء الأفذاذ من العلماء هم المنفردون من سائر أقرانهم من أرباب العلوم العقلية و المشهورين من المتبحّرين في العلوم الإسلامية، في حفظ الإسلام و صيانته، فكان لهم الدور الأساسي في

ص: 164

تبليغ الدين للأجيال اللاحقة، و المناهج الاُخرى كالفلسفة و العرفان الاصطلاحي لم يكن لها مثل هذا الاهتمام و لم تسعى لتحقيق هذا الهدف.

و لا شك في أنّه لو خُلّي الأمر بين المسلمين و بين أمثال علاء الدولة السمناني و بين يزيد و أبو سعيد و صوفية الهند و ايران و الخانقاهات الكئيبة، كان الشيء الوحيد الذي يفتقده المسلمون اليوم هو «الإسلام» و كل ما كان موجوداً حينها، يعجز عن إدارة الدين و الدنيا.

فمثل «ابن الفارض و السهروردي و ابن العربي»، لم يكن لهم دورٌ في هذا المجال، و ما قام به السيد المير داماد (عليه الرحمة) من خدمات في حفظ الدين و صيانة آثار أهل البيت عليهم السلام، لا يمكن حسابه في خانة تجرّه في الفلسفة و ما قال هو عنه في مشاركته لفلاسفة اليونان فيه، و مع أنَّه (رحمه اللّه) قد استعان بالفلسفة في بعض آرائه و نظراته في بعض المسائل الإسلامية، لكن خدماته وخدمات أمثاله للإسلام، كانت نتيجة تخصُّصه في مجالات العلوم الإسلامية والمعارف القرآنية و آثار أهل البيت عليهم السلام لا غير.

و على أيِّ حال، في مسألة «عرض الدين» و تحصيل الإطمئنان بمطابقة دين الشخص مع الدين الذي جاء عن النبي و الأئمة الأطهار عليهم السلام وأنّه دين اللّه، يكون المعيار و المناط الوحيد هو الوحي الإلهي و كلمات أهل البيت عليهم السلام.

و بمقتضى: «هذا العِلمُ دينٌ فانْظُروا عَمَّنْ تأخُدونَ دينَكُمْ»(1) لابدَّ من أخذ دين اللّه و علم الدين من أهله و في كل المجالات.9.

ص: 165


1- منية المريد: ص 239.

ص: 166

تأريخ عَرْضُ الدّيْن

إنَّ قضية تحصيل الإطمئنان بمطابقة المعتقدات الدينية مع النصوص الشرعية و الوحي النازل على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و ما ورثه عنه الأئمة الطاهرون عليهم السلام بصورة عرض الدين و العقائد، أو بصورة السؤال عن أُصول و مباني الدين، كانت موجودة منذ زمن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فكان بناء الأشخاص المؤمنين من ذوي المعرفة على عرض معتقداتهم و ما فهموه من الإسلام على نفس النبي صلى الله عليه و آله أو على أهل بيته، أو يعرضونه على كبائر العلماء الذين كانت لهم إحاطة بالنصوص الشرعية، و هذا ما يندر القيام به في زماننا الحاضر على أهمية هذه القضية.

نقل في البحار الشريف(1) ضمن روايات عن كتاب أمالي الشيخ الطوسي و معاني الأخبار للشيخ الأجلّ الصدوق، و رجال الشيخ الجليل الكشّي، قضية عرض دين إبراهيم المخارقي و حمران بن أعين و عمرو بن حريث و خالد

ص: 167


1- بحار الأنوار: ج 66 ص 3-\9.

البجلي و الحسن بن زياد العطار و يوسف، على حضرة الإمام الصادق عليه السلام.

و في الكافي الشريف روى رواية عرض دين إسماعيل بن جابر على حضرة الإمام الباقر عليه السلام، و عرض دين منصور بن حازم على حضرة الإمام الصادق عليه السلام.

و لم يكتف أمثال هؤلاء العظام بما حصلوا عليه من العلم و اليقين بالاجتهاد في الاُمور العقائدية، فكانوا يعرضون ما يتقنوه من الدين على الأئمة عليهم السلام ليطمئنوا من تطابقه مع ما نزل من اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله و مع ما عند الائمة عليهم السلام وخشية الزيادة و النقصان.

ص: 168

السيّد عبد العظيم عليه السلام يَعرضُ دينَه

من جملة الشخصيات المرموقة الكبيرة التي عرضت دينها على إمام زمانها هو السيد أبو القاسم عبد العظيم بن عبد اللّه بن عليّ بن الحسن بن زيد بن السبط الأكبر الإمام أبي محمد الحسن المجتبى، ابن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

هذا السيد الجليل من أعاظم ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و أولاد المرتضى و البتول عليهم السلام، و من أجلَّة معارف علماء أهل البيت و من كبار أصحاب الإمامين الجواد و الهادي عليهما السلام، و من محارم أسرار الأئمة عليهم السلام، و يظهر أنَّه كان من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام - \كما يقول بعض علماء الرجال - \بمقتضى كونه من نفس الطبقة في سلسلة النسب إلى حضرة أمير المؤمنين و سيدة نساء العالمين الزهراء البتول عليهما السلام.

و السيد عبد العظيم الحسني و إن لم يدرك عصر إمامة الإمام الحسن العسكري عليه السلام، كما سياتي في الرواية، و لكن يقوى الاحتمال بدرك خدمته عليه السلام قبل إمامته.

ص: 169

و أمّا الرواية الدالة على فضل زيارة السيد عبد العظيم، و وفاته في عصر إمامة الهادي عليه السلام فهي الرواية التي نقلها الصدوق في ثواب الأعمال بسندٍ عن شخص تشرَّف بحضرة الإمام الهادي عليه السلام فسأله الإمام عليه السلام قائلاً:

«أين كُنْت؟» قال: «زُرتُ الحسين عليه السلام» فقال الإمام الهادي عليه السلام: «أما إنَّكَ لَوْ زُرتَ قَبرَ عبد العظيم عنْدَكُم لكُنتَ كَمَنْ زارَ الحُسَين بنَ علي عليه السلام»(1).

و من جملة الروايات الدالة على فضل و علم هذا الشريف الجليل، الرواية المروية عن الإمام الهادي عليه السلام حيث يقول لأحد شيعة الرّي:

«إذا أشْكلَ عليك شيءٌ من أمرِ دينك بناصيتك فَسَلْ عَنهُ عبدَ العظيم بن عبد اللّه الحَسَني و إقرأهُ منّي السّلام»(2).

و يُعلم من قضية عرض دين مثل هذه الشخصية الجليلة، أهميَّة تصحيح العقائد، أعم من ما يجب الاعتقاد به أو أكثر من ذلك و أبعد.

و ما يجب الاعتقاد به أُمور يجب الاعتقاد بها - \بحسب إرشادات الكتاب و السنَّة - \بمفهومها و تعريفها الوارد في الكتاب و السنة ليصح إطلاق لفظ المسلم و المؤمن على المعتقد بها.

و ما هو أبعد من الواجب، و هو ما لا يضر عدم الالتفات و الاعتقاد به، بإسلام و إيمان الإنسان، و لكن الاعتقاد بها بعنوان الاُمور الدينية، أيضاً يجب أن يكون0.

ص: 170


1- ثواب الأعمال للصدوق: 99، كامل الزيارات: باب 107، ص 537.
2- مستدرك الوسائل، كتاب القاضي - \باب حكم التوقّف و الاحتياط في القضاء و الفتوى و العلم ج 17 ص 321 ح 32 الرقم 21470.

بدليل معتبر من الكتاب و السنة، كما إنَّ عدم الاعتقاد بها مع وجود الدليل عليها من الكتاب و السنّة و الالتفات إلى ذلك الدليل، يُعدُّ من عدم الإيمان بالنبوّة.

و على هذا، يجب على كل مسلم أن يُحرز مطابقة عقائده مع الكتاب و السنّة، و بهذا الترتيب:

أوّلاً: أن يعرف ما وجب شرعاً الاعتقاد سلباً أو إيجاباً به.

ثانياً: أن يحرز مطابقة معتقداته مع ما عرفه.

ثالثاً: أن يعرض معتقداته في المسائل الاُخرى بالمعنى الذي ذكرنا من عدم لزوم الاعتقاد بها، على الكتاب و السُنَّة.

رابعاً: أن لا يحمل الكتاب و السنة على ما يعتقده بدون قرينة عقلية أو شرعية واضحة للعُرف بلا إشكال و لا خلاف في قرينيَّتها، فمن أراد التحصُّن من التعرّض للضلالة و الانحراف عليه أن يطبّق هذا الترتيب ليطمئن من رضى اللّه تعالى عن معتقداته، و لا طريق سوى القرآن و السنة لضمان السلامة من الوقوع في خطر الضلالة و البدعة و الانحراف.

فإذا كان مثل السيد الجليل عبد العظيم الحسني عليه السلام مع ما أُوتي من علم وإطلاع بالكتاب و السنَّة، و تأليف كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام، و أنّه كان يحمل من المعتقدات الجزمية القطعية، يرى ضرورة عرض عقائده على حضرة الإمام عليه السلام ليحصل على تصديق الإمام عليه السلام لتلك المعتقدات و ذلك الدين.

فالآخرون - و خاصة أمثالي أنا - ينبغي عليهم بالأولويّة المبادرة إلى عرض دينهم لكسب الإطمئنان بالموافقة، بل عليهم تكرار العرض على أكثر من طرف

ص: 171

من علماء القرآن و الحديث و معارف أهل البيت عليهم السلام والذين استقوا علومهم من الأئمة عليهم السلام.

فلابدَّ إذن، و بكل تواضع و خضوع، أن نعرض معتقداتنا على الخبراء المعتمدين و العلماء بالصحيح و السقيم و الكامل و الناقص منها.

ص: 172

أدب و أخلاق كريمة

في قضية عَرض الدين للسيد الشريف الجليل عبد العظيم الحسني عليه السلام، نكتةٌ أدبيّة أخلاقية مهمة ينبغي تعلّمها، ألا و هي عدم الاغترار بالعلم و المقام العلمي، و التواضع في سبيل نيل المكارم. فالغرور آفة خطيرة تهدّد شجرة الإنسانية و تمنع من رُقيّ الإنسان و نيل الكمالات، و من أخطر أنواع الغرور هو الاغترار بالعلم و العقل و الفهم، فلابدَّ من الحذر منه و تهذيب النفس و تخليتها من هذا المرض.

و لذا، فإنّ الأعاظم و تلامذة مدرسة أهل بيت الوحي و النبوّة الذين وصلوا إلى مقام الإنسانية، كلَّما إزدادوا علماً و دركاً للحقائق، إزدادوا خضوعاً و تواضعاً قِبال أساتذتهم و مربّيهم، و ابتعدوا عن العناد و التعنّت، و باصطلاح الفقهاء، لا يتسرّعون في الفتوى، فهؤلاء يعرفون تماماً أنَّ رفع أيِّ جَهل يوجبُ الالتفات إلى جهلٍ بمجهولاتٍ و مجهولات، و إنَّ كلَّ جوابٍ يحصلون عليه سيكون مصدراً لأسئلةٍ و أسئلة.

ص: 173

و لذا، فإنّك لو سألت من شخص قليل المعرفة عمّا يعرفه عن الإنسان أو الحيوان أو الشجرة أو الشمس و القمر و حقيقة الحياة و أُمور اخرى، فإنّه و بلا تأمل و تفكير سيدّعي أنَّه يعرف كل شيء عنها، لكنّك لو سألت عالماً قضى عمره في الفنون المختلفة للمعرفة و مجالات العلم، عن هذه الاُمور التي هي مظاهر لقدرة اللّه تعالى، فإنّه سيجيب قائلاً: للأسف إنَّ أكثر هذه الأشياء لازالت مجهولة لدينا. فنفس هذه الإدراك دليل على وصول هذا العالم إلى أوج معرفته و إلى سعة أفق علمه و فكره، تلك المعرفة التي يفتقدها الشخص المسؤول الأوَّل، و السيد عبد العظيم الحسني عليه السلام، مع كثرة دركه للحقائق و العلوم و المعرفة، نجده يتقدم بكل تواضع و يجلس متأدّباً بين يدي إمام زمانه و يعرض عليه دينه بلا تكبّر و لا غرور.

نقطة أُخرى:

و هنا صفة ممتازة أُخرى و أدبٌ يضاف إلى أدب هذا السيّد الجليل في هذه القضية، و هي صفة التسليم و القبول من الإمام عليه السلام بلا أيِّ إعتراض أو تشكيك، و هذا درسٌ لابدَّ أن نتعلّمه جيداً في مقابل مقام الولاية و الإمامة و بين يَدي حجة اللّه، فعلى المؤمن أنْ يُذعن للحق و يقبله بلا تغطرس و عناد، و هذا شعبة من «إنصافُ النّاسِ مِنْ نَفسِك»(1) و هو أحد أصعب الأعمال الجليلة و الفضائل5.

ص: 174


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، باب وجوب اجتناب المحارم: ج 11 ص 20 ح 4387 و ج 15 ص 255.

الممتازة الثلاث التي وردت في الحديث، و التي لا يقوى كل واحدٍ على الاستمرار في ميدان السبق عندها.

إنَّ السيد عبد العظيم الحسني عليه السلام ينتسب إلى الإمامين الهُمامين الحسنين عليهما السلام و هو أقرب في سلسلة النسب إليهما من الإمام الهادي عليه السلام بواسطتين، إذ أنَّ الإمام علي الهادي ينتهي نسبه إلى الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام بستة وسائط، فهو في عمود النسب، السابع من ولد الحسين عليه السلام و الثامن من ولد أمير المؤمنين عليه السلام و فاطمة الزهراء عليها السلام، و أمّا السيد عبد العظيم فهو ينتهي إلى الإمام الحسن المجتبى بأربعة وسائل فقط.

ففي عمود النسب: يعتبر الخامس من ولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والسادس من ولد أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء عليهما السلام، و مع هذا نجده متأدّباً بين يدي حجة اللّه و صاحب الولاية، متواضعاً في أخذ المعارف و العلوم من أهل البيت عليهم السلام، فنفس هذا الأدب و عرض دينه على الإمام الهادي عليه السلام دليل باهر على كمال معرفته و جلالة قدره و إحكام اعتقاده بولاية و إمامة علي الهادي عليه السلام، مع أنّه الأقرب في سلسلة النسب إلى رسول اللّه و أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء عليهم السلام من الإمام الهادي عليه السلام، و لكنه و لعمق معرفته، كان يعي تماماً أنَّ الوقوف في وجه مقام الولاية و الإمامة و الحجّة هو محوٌ وفناء، و أنَّ الإيمان بالولاية يقتضي رعاية أعلى درجات التواضع و الأدب و التسليم و الإطاعة، فهو لا يعتبر نفسه رقماً في قبال وجود الإمام الهادي عليه السلام و هو حجّة اللّه على الناس.

و قد عُرفَ مثل هذا التواضع و الأدب عن السيد الجليل عليِّ بن جعفر عليه السلام و هو من مشاهير و أعاظم علماء و محدّثي أهل البيت عليهم السلام و صاحب تأليفات و

ص: 175

آثار مهمة، فلقد كان تام الانقياد و التسليم للإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام، مع أنَّ علي بن جعفر هو عمُّ أب الإمام الجواد عليه السلام و أنَّهُ ينتسب إلى الإمام الحسين عليه السلام بثلاث وسائط، بينما ينتسب الإمام الجواد عليه السلام بخمس وسائط إلى الإمام الحسين عليه السلام، و كان عليّ بن جعفر شيخاً كبيراً و لم يكن الإمام الجواد عليه السلام قد تجاوز مرحلة الصبى و الشباب، و مع ذلك كان هذا السيد الجليل يظهر كمال الأدب و الاحترام و يقبِّل يَد الإمام الجواد عليه السلام.

ص: 176

شرح حديث عرض الدّين

اشارة

ص: 177

ص: 178

البحث في جهتين

الاولى: الحديث سنداً

الثانية: الحديث لفظاً و دلالةً

سند الحديث

إنَّ سندَ الحديث و بحسب ما جاء في كتاب «كمال الدين» للصدوق هو:

«حدثنا عليّ بن أحمَد بن موسى الدّقاق و عليُّ بن عبد اللّه الورّاق - \ رضي اللّه عنهما - \قالا: حدثنا محمَّد بن هارون الصّوفي قال: حدَّثنا أبو تُرابٍ عَبد اللّه بن موسى الرَّويانيُّ عن عَبد العظيم الحسني»(1)

و سند الحديث في كتاب التوحيد للصدوق أيضاً هو:

ص: 179


1- كمال الدين، الباب 37، ما أضربه الهادي عليه السلام من وقوع الغيبة: ص 379 ح 1.

حدثنا عليّ بن محمّد بنُ عمران الدّقاق - \رحمه اللّه - \و عليُ بن عبد اللّه الورّاق قالا: حدَّثنا محمّد بن هارون الصوفي قال: حدَّثنا أبو تراب عُبيد اللّه بن موسى الروياني عَن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ»(1)

و ما نراه هو إنَّ هذا السند و إنْ لم يُعدُّ صحيحاً أو حسناً بحسب الاصطلاح الحديثي، ولكن إذا اعتبرنا أنَّ الصحيح هو ما يمكن الإطمئنان له، كان هذا الحديث صحيحاً، فانَّ مثل الصدوق قد ذكره في عدَّة كتب في مقام الإحتجاج به على صحة المذهب، مضافاً إلى إنَّه ترضّى على راويين من رواة السند و هم من مشايخه يعني عليّ بن أحمد و عليّ بن عبد اللّه أو عبيد اللّه.

و الظاهر أنَّ محمد بن هارون و عبد اللّه أو عُبيد اللّه بن موسى و هما من مشايخ الصدوق بواسطة، كانا معروفين عنده أيضاً و من رواة الأحاديث.

أضف إلى ذلك إحتمال كون محمد بن هارون هو محمد بن هارون بن عمرانّ و الذي يُعلم جلالةُ قدره من كتاب الارشاد و الكافي و كمال الدين.

و أمّا عبد اللّه بن موسى الرويانيّ، فالظاهر أيضاً أنَّ الصدوق قد إعتمد على روايته في مثل «كمال الدين» و «التوحيد»، هذا و قد صرّح صاحب «روح و ريحان» و «جنّة النعيم» بحسن حاله.

و فوق هذا كلّه، فإنَّ جمعاً من الأعاظم قد احتجّ في مؤلفاته بهذا الحديث و إستند عليه، كما في الكتب التالية:7.

ص: 180


1- التوحيد: ص 81، باب 2، ح 37.

1 - \صفات الشيعة.

2 - \كمال الدّين.

3 - \التوحيد.

4 - \كفاية الأثر.

5 - \أعلام الورى.

6 - \كشف الغُمَّة.

7 - \روضة الواعظين.

8 - \كفاية المهتدي (ألأربعين).

9 - \العوالم.

10 - \بحار الأنوار.

11 - \الإنصاف.

12 - \إثبات الهداة.

و غيرها من الكتب.

و على هذا، و بالأخذ بنظر الإعتبار أنَّ هناك شواهد كثيرة في سائر الروايات على مضمون هذا الحديث، و عدم وجود شاهدٍ على ضعفه و وضعه و جعله، يكون هذا الحديث معتبراً سنداً و متناً، و يمكن الاعتماد عليه.

ص: 181

نكتةٌ روائيّة

و أود أن أشير إلى نقطة هنا، و هي: أنَّ نظري القاصر في الروايات التي لم يذكر بعض الرجال أسانيدها في كتب الرجال المتداولة و التي تختص بذكر رجال الاسانيد مثل «الكافي» و «من لا يحضره الفقيه» و «التهذيب» هو إنَّ مثل هذه الروايات إذا ذكرت في كتب مثل مؤلفي تلك الكتب المختصة أو من طرازهم و المقاربين لزمانهم أو السابقين على عصرهم، و لم تكن متونها مشتملةً على مطالب ضعيفة و مستغربة، و خاصة إذا كان في سائر الروايات ما يتضمن مثل تلك المداليل، كان بالإمكان الإعتماد على مثل هذه الروايات، فانَّ ظاهر رواية هؤلاء الأعاظم لها دليل، على إعتمادهم عليها و قبولها.

أجل: إذا كان هناك قرينة في البين على إنَّ المؤلف كان في مقام جمع مطلق الأخبار، دون الإعتماد عليها، لم يكن نقل الرواية مع جهالة الراوي موجباً للإعتماد عليها و قبولها.

و لذا، فانَّ مثل كتاب «التوحيد» للصدوق أو «كمال الدين» أو «غيبة الشيخ

ص: 182

الطوسي» أو «غيبة النعماني» لا يمكن ترك الروايات الواردة فيها إذا لم يرد قدحٌ ظاهرٌ ثابتٌ لسندها أو متنها و عدم الاعتناء بقبولها من قبل مؤلفي تلك الكتب لمجرَّد أنَّ واحداً أو أكثر من رواتها مجهول، في حين أنَّ السيرة العقلائية قائمة على الأخذ بالاخبار المرسلة التأريخية إذا لم تقم الشواهد الثابتة على ردِّ مضمونها فضلاً عن دلالة الشواهد على مضمونها.

و على أيِّ حال، و بالإلتفات إلى الروايات الكثيرة الأخرى، يكون مضمون هذه الروايات مقطوع الصّدور عن الائمَّة عليهم السلام و خاصة هذه الرّواية فإنّها ليست بأقلَّ من سائر أخبار الآحاد المعتبرة، و لذا فانَّ العلماء اعتمدوها، و إنَّ الأفاضل شرحوها، حيث نقل إنَّ من جملة من تناولها هو المرحوم القاضي سعيد القمي حيث كتب فيها شرحَيْن مفصلين.

ص: 183

ص: 184

متن الحديث و شرحه

روى الصدوق في كمال الدين الحديث بهذا اللفظ:

«قال: دَخَلتُ على سَيِّدي عليَّ بن محمَّدٍ عليهما السلام»

إنَّ شرح الحقائق الدقيقة التي يتضمنها هذا الحديث الشريف بشكل وافٍ و إن كان مستعصياً على أمثالي، بل قد يكون خارجاً عن قدرة الكثير من الأعاظم وشرحه بالشكل المتعارف يحتاج إلى فرصة كافية و مجالٍ واسع، و لكن انطلاقاً من «ما لا يُدركُ كُلّه لا يُترك كلّه» سنحاول و بنحو الإختصار تفسير و بيان معنى ألفاظه جملةً فجملة، مستمدّين العون من اللّه تعالى و مستجدين عناية الإمام الهادي عليه السلام على ذلك.

«1 - \قال: دَخَلتُ على سيِّدي عليِّ بن محمَّد - \عليهما السلام - \فَلَمّا بَصَرَ بي قال لي: مَرحباً يا أبا القاسم، أنتَ وليُّنا حقّاً»

و هنا أمور مهمة لابدُّ من الإشارة اليها:

أوّلاً: تكريم و تعظيم السيد عبد العظيم الحسني للامام الهادي عليه السلام و وصفه

ص: 185

بسيِّدي.

ثانياً: تلطف الإمام الهادي عليه السلام و عنايته بالسيد عبد العظيم و ترحيبه به و مخاطبته بكنيته (أبو القاسم)، مما يدلُّ على إحترامه.

ثالثاً: وصف الإمام عليه السلام للسيد عبد العظيم بالوليّ الحقيقي، و هذا تصديق مهمٌّ من قبل الإمام مع الأخذ بنظر الإعتبار ما في الروايات و الأحاديث من مدحٍ لتولّي أولياء اللّه، و هو دليل على عظمة مقام السيد عبد العظيم، و من أهمّ ثمار هذا التولي هو حشر الولي مع إمامه يوم القيامة بمقتضى «يُحشَرُ المرءُ معَ مَنْ أحبّ». (1)«2 - \قال: فَقُلتُ لهُ: يابْنَ رسولِ اللّه إنّي أُريدُ أنْ أعْرِضَ عليكَ ديني فإنْ كانَ مرضِياً ثَبَتُّ علَيه حتّى القى اللّه عزّوجل»

«3 - \فقال: هاتِ يا أبا القاسِم»

«4 - \فقلتُ: إنّي أقولُ إنَّ اللّهَ تبارك و تعالى واحدٌ لَيسَ كَمثلِهِ شيءٌ»

إنَّ لفظ الجلالة «اللّه» هو أشهر أسماء اللّه الحُسنى و اليه تنسب الأسماء الاُخرى كالرّحيم و الرّحمن و الغفّار و التوّاب و الخالق، فيقال: أنَّها من أسماء اللّه، و لا يقال: إنَّ اللّه اسمٌ من أسماء الرّحيم أو الخالق أو الرزاق أو الواحد أو الأحد، و السِّرُ في ذلك هو إنَّ «اللّه» اسمٌ للذات المقدسة للباري تعالى، و أمّا الباري، و الخالق، و العليم، و العلاّم، و القدير، و الاسماء الاخرى هي أسماء1.

ص: 186


1- بحار الأنوار: ج 66 ص 81.

لصفات الذات أو صفات الأفعال له عزوجل.

و الحاصل، إنَّ هذا الإسم الجليل يطلق على الذات الإلهية الجامعة لكل صفات الكمال، و مقدَّمٌ على سائر الأسماء، و حاوٍ لمعاني كل الاسماء الحسنى، و أمّا الأسماء الاخرى، فانَّ كلَّ واحدٍ منها يدلُّ على أحد تلك المعاني لا كلِّها.

فمثلاً إسم «القادر» الشريف، يدلُّ فقط على قدرة الحق تعالى و لا يدلّ على علمه، و إن دلَّ على بعض الأسماء الاخرى كالحيِّ فعلاً، فانَّ ذلك من باب الإلتزام، لا أنَّ مفهوم ذلك الإسم هو المعنى المطابقي للقادر.

و الأمر الآخر هنا: هو إنَّ المشار اليه و مرجع الضمير في مثل قوله تعالى: «إنَّهُ حميدٌ مجيدٌ» أو «إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قدير» هو لفظ الجلالة، و أمّا في مثل قوله تعالى: «هو اللّه لا إله إلاّ هو» فقد يكون الضمير الأول هو ضمير الشأن، أو انَّه إشارة إلى الذات و مسمّى «اللّه»، كما إنَّ الضمير الثاني قد يكون إشارة إلى الذات الإلهية المقدسة، و قد يكون راجعاً إلى «اللّه».

و على أيِّ حالٍ، فإن كتب شروح الأسماء الحسنى و كتب الأدعية الشريفة، تناولت هذا اللفظ الذي هو أجلَّ الألفاظ و اشرف الكلمات، باسهاب و تفصيل، كما انَّ الروايات الواردة في فضيلة هذا الاسم الشريف كثيرة و من جملتها ما ورد عن الصادق عليه السلام من أنَّ من قال عشر مرات «يا اللّه» فسيقال له:

«لبَّيكَ عَبْدي، سَل حاجَتَكَ تعطَه» (1)7.

ص: 187


1- وسائل الشيعة، باب أنَّه يستحب أن يقال في الدعاء...: ج 7 ص 88 ح 8807.

و أمّا «الواحد» فهو أحد الأسماء الحسنى، و لكن هناك عناية خاصة بخصوص هذا الاسم و إسم «الاحد» من بين سائر الأسماء، و بالاقرار به من خلال كلمة التوحيد التي لا يتحقق إسلام الشخص إلاّ بها، و بالإعتقاد بمعناها و أنَّه لا يتحقق الإيمان الا بإدرك معنى هذا الاسم الشريف و الإعتقاد به.

و بحسب ما جاء في رواية الصدوق في «التوحيد» عن أمير المؤمنين عليه السلام فانَّ إطلاق «الواحد» على اللّه تعالى له معنيان:

أحدهما: أنَّه لا شبيه له و لا نظير.

ثانيهما: أنّه لا يقبل الإنقسام لا في عالم الوجود الخارجي و لا في العقل و لا في الوهم، بمعنى أنه لا يتصور التركيب و التجزئة فيه.(1) و بعد هذه المقدمة القصيرة نقول:

إنَّ السيد عبد العظيم قال: أقول إنَّ اللّه تبارك و تعالى واحد، أي ليس له عضوٌ و لا جزءٌ و لا عديل و لا نظير، و لا شريك له و لا شبيه و لا مماثل، «ليسَ كَمثلِهِ شيءٌ» فالكلُّ مخلوق و هو خالق، و الكلُّ فقير و هو الغنيّ، و الكلُّ عاجز و هو القادر المقتدر، و الكلُّ مسبوق بالغير و هو السابق على الكلّ، فلا شيء مثله.

سواءً كان ذلك الشيء خارجياً أو ذهنياً، و سواء كان شيئاً أو جزء الشيء، و سواء كان ذلك الجزء مما به الامتياز عن الاشياء الاخرى، أو كان مما به الاشتراك الحقيقي معها.3.

ص: 188


1- التوحيد، باب معنى الواحد و التوحيد و الموحد: ح 3 ص 83.

إذن، فهو شيءٌ و لا شيءَ هوَ، و بهذا يُعرَف بأنَّ كلَّ ما نقوله أو نراه أو نتصوره في أذهاننا، فهو غير اللّه، لان معنى عدم المثلية هو أنّه غيرُ أيِّ شيء على الاطلاق و إلاّ لزم أن يكون له مثل.

«5 - \خارجٌ عن الحَدَّين حدِّ الإبطال و حدِّ التَشبيه»

و لشرح و تفسير هذه الجملة العميقة و الدقيقة لابد من ذكر نقطة و هي: أنه ورد في الرواية عن الإمام الجواد عليه السلام ما يستفاد منه أنَّ توصيف الباري عزوجل ب (الخارج عن الحدّين حدّ الابطال و حدّ التشبيه) هو توصيف ذاته جلّ شأنه بهذا الوصف، يعنى ان ذاته خارجة عن هذين الحدّين.(1)ه.

ص: 189


1- ) لا يخفى أنه في النسخة المطبوعة، إبتداءاً ربط البحث في جملة الأبطال و التشبيه بالصفات، و قد بيّنا رأينا هناك بأنّه و بملاحظة هذه الروايات الواردة يتضح لنا بأنّ البحث مرتبط بالذات، و لكن و لأنَّ أصل ذلك المطلب صحيح في حدَّ ذاته أيضاً، و يرتبط نوعاً ما بكلِّ البحث و جمله (خارجٌ عن الحدّين) تشمل بإطلاقها البحث في الصفات، لذا سنأتي بوجهة نظرنا تلك في هوامش هذا الكتاب: الخارج عن الحدّين... يعني أنَّ اللّه ليس محدوداً بهذين الحدّين و ليس معرَّفاً بهذين التعريفين: الأول: حدُّ الإبطال و هو القول بنفي الصفات الثبوتيَّة له بالمرَّة، و هذا القول ناشي عن الإفراط في الحذر من القول بالتركيب و إثبات صفة له عزّ اسمُه، و نتيجة هذا الرأي هي القول بأنّ الباري تعالى - \نعوذ باللّه - \فاقد لصفاتٍ مثل العلم و القدرة. الثاني: حدُّ التشبيه، و هو القول بتشبيه الباري بالخلق و إنَّ العلم و القدرة و بعض الصفات الاُخرى خارجة عن ذاته و حاله حال سائر الموجودات، و الحقُّ أنّه هنا لابد أيضاً من القول بالأمر بين الامرين و أن نعتقد بانَّ صفاته هي عين ذاته، لا أن ننفي عنه الصفات، فانّ ذلك مخالف للعقل و الشرع، و لا أن نشبهه بخلقه و نعتبر أن تلك الصفات أمور زائدة عن ذاته فكما أن ذاته منزهة عن الشبيه فكذلك حقيقة صفاته التي هي عين ذاته منزهة عن معرفتها. فنحن نعلم بان علمه ليس امراً زائداً على ذاته مثل علم المخلوقات، كما نعلم بأنه عالم بكلِّ شيء في العالم و عليم به.

1 - \روى العلامة المجلسي - \رضوان اللّه تعالى عليه - \عن كتاب المحاسن للبرقي أنَّه سُئل الإمام الجواد عليه السلام:

«أ يجوز أن يُقال للّه أنّه موجود؟ قال: نعم تُخرجهُ عن الحَدَّين حدِّ الإبطال و حدِّ التشبيه»(1)

2 و 3 - \روى الصدوق - \أعلى اللّه مقامه - \روايتين عن الإمام الجواد عليه السلام بانه سُئل: «أ يجوز أن يُقال إنَّ اللّه عزّوجل شيء؟

فقال: «نعم تُخرجه عن الحدَّين حدِّ التعطيل و حدِّ التشبيه»(2).

شرح و بيان:

حدُّ الابطال و التّعطيل هو أننا كما ننزه الذات عن أن تكون موضوعاً لحمل عناوينٍ مثل الجسم، و الجوهر، و سائر العناوين الخاصة التي تطلق على المخلوقات، فكذلك ننزهه عن أن يكون موضوعاً لحمل العناوين العامة كالشيئية و الموجودية أيضاً، و حدُّ التشبيه أن نحمل على الذات ما يمكننا أن1.

ص: 190


1- بحار الانوار: ج 3 ص 265.
2- التوحيد، باب 7، ح 1 و 7، ص 104، الاُصول في الكافي، كتاب التوحيد، باب إطلاق القول بأنّه شيء، ج 2 ص 82 ح 1.

نتصوره، سواء أكان لهذا المتصوَّر فردٌ خارجي حيث يستلزم الشرك أم لم يكن، وكان وجوداً ذهنياً فحسب.

و بعبارة اخرى نقول: لأنَّ كُنه و ماهية اللّه المتعال منزهة عن التصور و التوهم، إذن فكلَّ ما يمكن تصوره إذا قيل أنه هو، فليس ذلك صحيحاً، فما ذلك التصور هو اللّه و لا يمكن حمله عليه و لا يصدق عليه، إذ فرض صدقه عليه يستلزم التشبيه بغيره.

و بعبارة اخرى: إنَّ كُنه ماهية اللّه تعالى لمّا كانت منزهة عن التصور و التوهم، لذا فانّ كلَّ ما يمكن تصوره إذا حمل على الذات و قيل أنَّه هو، فليس هو و لا يمكن حملُه عليه و لا يصدق عليه ذلك، إذ أنَّ فرض صدق هذا الحمل يستلزم التشبيه بغيره، و نتيجة ذلك هي: إنّه اذا لم يُحكم على الذات بحكمٍ و لم يُخبر عنها بخبر فهذا هو التعطيل و الابطال، و ترك الاعتراف و الاقرار بها. اذا حكم عليها بحكم و قيل عنها أنها شيء متوهم و متصور في الذهن، فهذا هو التشبيه بالأشياء المتصورة، فالشخص بين أمرين و محذورين، الإلتزام بايٍّ منهما باطل فلابد من الخروج عن هاذين المأزقين و الإعتراف و الإقرار بالذات و لتوضيح هذا المطلب الدقيق نقول:

إنَّ الإخبار عن الصفات و الاسماء الحُسنى مثل الخالق و القادر و الرزاق و العالم و اطلاقها على اللّه تعالى، أمرٌ صحيح يقيناً و قد نطق الكتاب و السنَّة بذلك، و كذلك سلب الصفات السلبية عنه عزّ اسمه صحيح و لا إشكال فيه، مع أنَّ صحة هذا الاطلاق تتوقف أيضاً على جواز الاخبار عن الذات و الاعتقاد بها، و هو بين المحذورين السابقَين.

ص: 191

و على كل حال، فانّه لا يصحُّ الإخبار عن كنه و حقيقة الذات الإلهية تعالت و جلَّت بانَّها شيء معيَّن حتى لو كان في الذهن، لانَّ تصور ذاتِه و كُنهِه غيرُ مقدور لاحدٍ حتى الأنبياء أولي العزم و الملائكة المقربين، إذن، فلا يمكن أن تكون الذات بعنوان القضية الموجبة موضوعاً لاثبات محمولٍ و عنوانٍ خاصٍ أبداً، و لايصدق عليه مثل تعريف الإنسان بالحيوان الناطق أو الجوهر أو العرض و التي تصدق على الإنسان، فذاته المقدسة تأبى عن التعريف لانَّ ذلك فرع إمكان تصور كنهه و حقيقته و هو محال، و كلُّ ما قيل من أنه ذات اللّه و كنهه فهو يستلزم المحذورين و يتوقف على محالين و هما:

الاول: تصور و معرفة كنه و ذات الباري تعالى.

الثاني: تشبيهه بالغير و بما يُتصور في الذهن.

و الحاصل هو أن الإخبار عن ذات و كنه اللّه عزوجل، أمرٌ دائر بين التعطيل و الإمتناع عن الإخبار و الاقرار أو الإخبار و التشبيه، و كلاهما باطل و الخروج عن هذين المحذورين، انما يكون فقط بما ذكره الإمام الجواد عليه السلام بحسب ما جاء في هذه الروايات، و ما ذكره السيد عبد العظيم في قضية عرض دينه على الإمام عليه السلام من إنَّ اللّه تعالى خارج عن هذين الحدَّين و إن لم يُبيّن تفصيل كيفية ذلك الخروج، و كأنَّه إكتفى بوضوح ذلك الأمر فيما بينه و بين الإمام عليه السلام، و حاصل هذه الروايات هو الاقرار و الاعتراف و الاعتقاد بالذات بانها موجودٌ و شيءٌ بدون القول بالتشبيه، و اللّه هو العالم بذاته و صفاته و نعوذ باللّه أن نقول فيه ما لم يقُله هو سبحانه و تعالى، و أنبياؤه و أولياؤه.

و في كتاب «التوحيد» الشريف، روى أنَّ إبن أبي نجران قال: سألت أبا

ص: 192

جعفر الثاني (الإمام الجواد عليه السلام) فقلتُ: «أتوهَمُ شيئاً» أي أنّي أتوهَّم اللّه تعالى شي. «فقال: نعم غير معقول و لا محدود فما وقع وهمك عليه من شىء فهو خلافُه لا يشبهه شيءٌ و لا تدركه الأوهام، كيف تدركه الاوهام و هو خلاف ما يعقل و خلاف ما يتصور في الأوهام، إنَّما يتوهم شيٌ غير معقول و لا محدود»(1)

و للعلامة المجلسي - \رضوان اللّه تعالى عليه - \بيانٌ فيما يرتبط بهذا الحديث يقول فيه: إنّ المفاهيم و المعاني على قسمين، مفاهيم لها عمومية و شمول و لا يخرج عنها شيءٌ من الأشياء الذهنية و العينية منها: مثل مفهوم الشيء و الموجود و المخبَر عنه، و لذا فهي تطلق أيضاً على ما لا يقبل التعقل و التصور و غير المحدود.

ومفاهيم عند اطلاقها يمكن توهم و تصور مصاديقها.

وإطلاق المفاهيم من القسم الأول على اللّه المتعال هي إثبات و نفي إنكارٍ و إبطال و تعطيل، و نفي إطلاقها على اللّه تعالى هو إبطال و تعطيل و إنكار.

و لذا نجد أنّ الإمام عليه السلام يجيز أن يقال «اللّه موجود» أو «اللّه شيءٌ»، إذ لا يتصور له مصداق في الذهن، و لأنّ المفهومَ عام يصدق على غير المتصور، و المنزّه عن التصور، بل ليس به مفهومٌ متصور و مصداقٌ ذهني خاص، فيصدق إطلاقه على الباري تعالى، و كلّ ما يتصور في الذهن من المفاهيم فلا يعقل أن يكون هو اللّه، و أنَّ اللّه ليس ذلك الشيء و هو منزه عنه، و لذا فانّ إطلاق6.

ص: 193


1- التوحيد: باب 7، ص 106، ح 6.

«الشيء» و «الموجود» على ذات الباري عزوجل، خارج عن حدِّ التعطيل و مأذون و مجاز، و إثبات، و نفي «الشيء» و «الموجود» عنه تعالى في حدِّ الابطال و الانكار و التعطيل غير مأذون و مجاز.

و بالجملة، يمكن القول أنَّ المستفاد من هذه الأحاديث و الروايات هو: لمّا كانت معرفة حقيقة الذات و كنه الحق تعالى محالة، و أنَّ الشي غير المحدود لا يقبل التعقل و التصور، فلا يوجد لفظ و إسمٌ و عنوانٌ يدل عليه، و في مقام التعريف و الإشارة إلى تلك الذات يقتصر فقط على إستعمال العناوين العامة مثل «موجود» و «شيء» و «حقّ» و «ثابت» و هذا نهاية التعريف و معرفة الذات الإلهية المقدسة، و الذي ينبغي أن يعرفه الجميع، و إذا قال أحدٌ أنّه «ليس بموجود» أو «ليس بشيء» أو «ليس بحقّ» حذراً من التشبيه، كما يخبر عن تلك الذات بأنها ليست جسماً و لا صورةً و لا جوهراً و لا عرضاً، فإنَّ ذلك الحادٌ و تعطيلٌ و إنكار، بخلاف الأول الذي يعدُّ إيماناً و إعترافاً و إقراراً، و هذا هو أيضاً جواب للشبهة القائلة: إذا كان اللّه تعالى لا يمكن لاحدٍ أن يتصوره و يتعقله بما نتصور و نتعقل به الممكنات من الحدِّ و التعريف و التوصيف، فكيف يُشار اليه إذن؟

فالجواب: هو أنّه يمكن الإشارة اليه بهذه العناوين العامّة من أنّه «شي» و لا يصح إطلاق غير هذه العناوين عليه، و لا وجود للفظٍ خاص يدلُّ على كنه ذاته حتى لو كان مثل «الوجود بالمعنى» الذي يقوله القائل بأصالة الوجود.

و مثال ذلك: ما لو رأينا نقشاً أو بناءاً أو أمراً حادثاً و لم نشاهد النقاش أو البنّاء أو المحدِثْ، و لم نسمع بوصفه، لكننا مع ذلك نحكم بوجوده و عدم تصور شكله

ص: 194

لا يكون مانعاً عن الحكم بوجوده، فكذلك إستحالة تعقل ذات الباري تعالى، لا تمنع من إطلاق لفظ «الشيء» و «الموجود» عليه و الإشارة اليه بها، و غاية و نهاية معرفة الذات هي: «أنَّه شيءٌ و موجودٌ و ليس كمثله شيء» و هذا هو معنى أنّه خارج عن الحدَّين، فهو منزَّه عن التعطيل و الإبطال و منزه عن التشبيه، فباثبات أنَّه شيءٌ و موجود و قادر و عالم و ليس كمثله شيء، نكون قد أقررنا و آمنا و إعتقدنا به، و هذا لا يعني أنَّ ذاته تعالى هي أمرٌ بين أمرين، بل المقصود هو أنَّه فيما يرتبط بالإقرار و الإعتراف به و قبوله لابد أن نعتقد أنها أمرٌ بين أمرين، بمعنى أنّه حصل الاقرار بوجود اللّه تعالى و كذلك حصل تنزيه عن التشبيه، ففي مقابل الإنكار أو الاقرار و مع تشبيه كان إثبات الذات و نفي التشبيه بين هذين الأمرين، و بعبارة أخرى، إنَّ مقابل عدم الثبوت أو الثبوت و التشبيه هو الثبوت و عدم التشبيه.

و على أيّ حال، سواءٌ كان التعبير بالأمر بين الامرين دقيقاً أو لم يكن كذلك، فالمطلب معلوم، و ليس الكلام في هويّة و كُنهِ الباري تعالى ليقول قائل: إنَّ التعطيل و التشبيه ليسا نقيضين، إذ يمكن ارتفاعهما فلا تعطيل و لا تشبيه، فاذا لم يكن تعطيلاً و لا تشبيهاً فما هو إذن؟

و يقول هو أوسع و هو حقّ، لا بمعنى أنّه ثابت، و أنَّ له واقعية و حقيقة و أنه موجد الأشياء و خالقها طبق حكمة و مصلحة، و لا بالمعاني الاخرى التي ذكرت في كتب التفسير للحق، و التي بيَّنها مثل الراغب الاصفهاني في مفردات القرآن، بل إنَّ الحق هنا بمعنى أنَّ في مقابله العَدَم، لا عدمه هو بل عدم كل الأشياء، و حقُّ غيرُ متناهٍ و أنَّ كل ما هو موجود فهو هو و أنَّ غيره باطل و عدمٌ

ص: 195

صرفٍ.

و هذا المعنى للخارج عن حدِّ الابطال و التشبيه، معنى عجيب لا يخلو من المغالطة، ففي هذه الروايات طرحت مسألة الإثبات و الإقرار بوجود اللّه و نفي الإبطال و الإنكار و التعطيل، و ليست المسألة مسألة ماهية اللّه و لا الحديث عن كنهه جلَّ و علا ليقول هذا القائل: أنّه الحقُّ أو يقول أنّه الوجود غير المتناهي و أنَّ غيره باطل حقيقي و عدمٌ محض.

فلا يستفاد ذلك أبداً من الروايات فاللّه تعالى هو اللّه و أنَّ ذاته هي ذاته، فلا يمكن تفسير رواية عرض الدين و الروايات المشابهة لها بهذه المعاني التي قالها بعض العامّة في القرن السابع و بعض الخاصة في القرن العاشر، فينبغي أن لا تنسب هذه المعاني الى مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم الأصيلة.

فاللّه شيءٌ و موجودٌ أو له وجود، و مثل هذه العناوين العامة يجوز إطلاقها على اللّه تعالى، و كذلك مثل «اللّه حقّ» بمعنى أنَّه ثابت و أنّه خلق العالم طبق الحكمة و لم يخلقه بالباطل، و أنَّ غيره باطل يعني غير ثابت، و أمّا أنّ «اللّه حقّ» بمعنى أنّه حقٌّ و وجود و أنَّ مقابله باطل و عدمٌ و أنّ وجود أيِّ شيء عداه هو نقيضه، فهذا ما لا يوافق القرآن و الروايات و الوجدان، و الاسماءالحسنى و الرحمن و الرحيم و الخالق و البديع و الرزاق و المحي و المميت و المعزّ و المذلّ و المجيب و الشافي و الغفّار و التوّاب و... الخ. بل هو مخالف لها.

فوجود الشيء أو عدم وجوده يعني أنَّه موجود أو غير موجود، لا الوجود أو العدم بالمعنى المستقل الذي هو أنَّه لا يوجد شيء غير الوجود و أنَّ وجوده وجود الوجود و عدمُه عدمُ الوجود.

ص: 196

فاللّه تعالى حقٌّ، يعني أنّه ثابت و دائم و أزلي و أبديّ و أنَّ غيره باطلٌ بمعنى أنّه زائل و فانٍ، وهذا هو معنى:

ألا كلُّ شيء ما خلا اللّه باطلو كلَّ نعيم لا محالة زائلٌ(1)

و بهذا التوجيه يصدق هذا الشعر، و أمّا إذا قيل: إنَّ اللّه حقٌّ بمعني أن كلَّ شيء هو اللّه، أو أنّه لا شيء سواه و أنّ الأمر يدور بين أمرين، إمّا الحق و الوجود أو الباطل و العدم، و إنَّ السماوات و الأرض و كل المخلوقات التي هي باطلٌ، إذا كانت موجودة أيضاً، كما كان اللّه تعالي الذي هو الحقّ أو الحقّ الذي هو اللّه موجوداً، كان ذلك من قبيل إجتماع النقيضين و إجتماع الحق و الباطل! فهذا الكلام ليس صحيحاً، لأنَّ الحقَّ و الباطل ليسا من النقيضين و اجتماعهما ممكن و الباطل بمعناه الصحيح الذي يعني أنَّ الموجودات مُحدثَةٌ و لها وجود، كما أنَّ الحقَّ و الوجود الثابت الأزلي الأبدي محدِثُ الممكنات، موجودٌ و معنى أنَّ اللّه تعالى واجب الوجود هو أن وجوده واجب و عدمه ممتنع، لا إنَّ وجوده وجودٌ و في مقابله عدمٌ، بمعنى نفي ممكن الوجود الموجود بالوجدان.

و الآيات القرآنية الشريفة، ابتداءاً من بسملة الفاتحة إلى سورة الناس صريحة بهذا المعنى، فالرحمن و الراحم و الخالق و الرازق و المالك و الحق و الثابت و المصور و القادر و الحافظ و الغفّار و... الخ، موجود و كذلك المرحوم و المخلوق و المرزوق و المملوك و المحفوظ و المغفور له و... الخ، لها وجود.

و لا يخفى، أنَّ المستفاد من كلمات البعض هو: لمّا كان معنى الخروج عن حدّ7.

ص: 197


1- بحار الأنوار: ج 22 ص 267.

التعطيل أو حدِّ التشبيه ليس هو الأمر بين أمري التعطيل و التشبيه أو الإنكار و التشبيه، إذن لابدَّ أن يكون شيءٌ رابع أبعد من هذه الثلاثة، و هو الحقّ و الوجود، بذلك المعنى للحق و هو، الغير متناهي و المقابل للباطل و العدم، و كأنَّ هذا البعض يريد القول بأنّ الخروج عن الحدّين لا يكون بإطلاق «الشيء» عليه تعالى و الذي له معنى عام، بل إن الخروج عن الحدّين هو إثبات الذات و الاخبار عن الذات و ما به الذات، و هو الحق و الوجود، و استشهدوا لذلك بالحديث الأول من الباب 36 من كتاب التوحيد، و الذي ينتهي سنده إلى هشام بن الحكم - \ رحمه اللّه - \، و هو حديث غنيّ بالمعاني مشحون بالحقائق الراقية في معرفة اللّه.

يقول في ضمن هذا الحديث: و لابدّ من إثبات صانع الأشياء خارج من الجهتين المذمومتين إحداهما النفي إذ كان النفي هو الابطال و العدم، و الجهة الثانية التشبيه إذ كان التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب و التأليف...

الخ.(1) فيقول البعض: أنّ المستفاد من جملة: «و لابدَّ من اثبات صانع الاشياء..» أنّ المراد من «خارج عن حدِّ الابطال و حدِّ التشبيه» ليس هو الإقرار و إثبات أنّهُ شيٌ أو موجودٌ، بل لابدَّ من إثبات صانع الاشياء بعنوانه الخاص و بذاته الخاصة و أنّه حقٌّ و وجودٌ و أنَّه غير متناهٍ، و الذي يتضمن نفي الإبطال و التشبيه، و أمّا القول بأنَّه شيءٌ، فهو أعم من نفي أو إثبات التعطيل و التشبيه، حتى لو دلَّ6.

ص: 198


1- التوحيد للصدوق: باب 36، ح 1، ص 246.

على نفي الابطال فانه لا يدل على نفي التشبيه و لذا يقول في الرواية أنّه لابد من إثبات صانع الاشياء بنحو ينفي التعطيل و التشبيه معاً.

و من هنا يمكن القول بأن قول السيد عبد العظيم «خارجٌ عن الحدين» هو عبارة أخرى عن «الحقّ» و «الوجود» و «غير المحدود» و «غير المتناهي» و لكن ذلك السيد الجليل، إعترف بالخارج عن الحدّين، إما بنحو الإجمال مع أنه آمن بالحق و الوجود مع عدم معرفته بان الخارج عن الحدّين هو الحق و هو الوجود، و إمّا أنه اعترف بذلك مع معرفته بان الخارج عن الحدّين هو «الحقّ» و «الوجود» و لكنه اكتفى بذلك التعبير لدلالته عليه.

الجواب:

أمّا ما يرتبط بانّ القول بأنّه «شيءٌ» أو «موجودٌ» هو إخراج عن حدِّ التعطيل و التشبيه فبيانه هو أنَّ التشبيه إمّا في الذات أو في الصفات، و ما تشير اليه الرواية هو إنكار الذات أو تشبيه الذات، و القول بأنَّه شيءٌ أو موجودٌ، لا هو تعطيلٌ و لا هو تشبيه و إمتناع عن القول بالتعطيل و التشبيه.

وظاهر الرويات هو أنّ السائل كان خائفاً من الوقوع في التعطيل و التشبيه، فكان محتارا في إختيار اللفظ الذي يثبت به الذات الالهية و يُخبر عنها، و لذا، سأل الإمام عليه السلام عن لفظ «الشيء» و لفظ «الموجود» فاجابه الإمام عليه السلام بانَّ هذين اللفظين ليس فيهما خطر التعطيل و التشبيه بل و فيهما الخروج عن هذين الحدَّين.

كما أنَّ المستفاد من رواية هشام، لا يعدو هاتين الصفتين، «هو صانع

ص: 199

الأشياء» و «هو خارج عن الحدين»، و الصفة الاولى ثبوتية و الصفة الثانية تنزيهية، أي: إنَّه منزهٌ عن الحدين و إنَّ التعبير عنه بالشيء لا يشتمل على مفهوم التعطيل و التشبيه، بل إنَّ فيه دلالة على إثبات الذات.

و بعباة أخرى، إنَّه أطلق عليه لفظاً ليس فيه مفهوم الابطال و لا التشبيه، إذ في مقام الاخبار عنه عزَّ إسمه، قد يتلفظ بلفظ يشتمل على مفهوم الإنكار أو التعطيل و التشبيه مع أنَّ اللافظ يُنزه ذلك الإله عن التعطيل و التشبيه واقعاً، و أمّا لفظ «الشىء» و «الموجود» فانه يدلّ على الذات و الإقرار بها فقط، بدون الدلالة على تلك المفاهيم المحذورة.

و نضيف في خاتمة هذا البحث الدقيق، أنَّ البعض قالوا:

ليس المراد من الابطال و التعطيل، ترك إثبات وجود اللّه تعالى، و الذي هو بديهي، بل إنَّ المراد من ذلك، التعطيل في التعبير عن حقيقة ذات الالوهية بالألفاظ، و تعطُّل العقل عن معرفة ذاته عزَّ إسمه، إذ لا يوجد لفظٌ دالٌ على ذلك الوجود، فيكتفى في إثبات تلك الذات المقدسة و الاعتراف و الاقرار بها، باطلاق تلك العناوين العامّة مثل «شيء» و «الوجود» و «ثابت»، كما إنَّ الأسماء الحسنى مثل القادر و العالم و بإعتبار دلالتها على الذات أو الشيء الموجود الذي له قدرة و علم، تدلُّ على الذات و الصفة كليهما، و إثباتها أيضاً إثبات للذات و للشيء.

يقول العلامّة المجلسي: «حدُّ التعطيل هو عدم إثبات الوجود و الصفات الكمالية و الإضافيّة له، و حدّ التشبيه الحكم بالاشتراك مع الممكنات في

ص: 200

حقيقة الصفات و عوارض الممكنات»(1)

أقول: اذا كان حدّ التعطيل ما ذكره بالتفصيل فلا يخرج منه بالقول بانه شيء.

و حدّ التشبيه لا ينحصر بالاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات، بل يكون بالاشتراك في حقيقة الذات مثل ما يقوله القائل بأصالة الوجود و اللّه هو العالم و نستغفره و نتوب اليه من الورود في المباحث التي لم يكلفنا بالورود فيها لعجز عقولنا عن إدراكها أو لصعوبة فهمها و لكونها من مزال الاقدام و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم.

«6 - \و إنَّه ليسَ بجسمٍ و لا صورة و لا عَرَضٍ و لا جَوهَرٍ»(2)

فلا هو بجسم و لا صورة، و لا هو بعرضٍ و لا جوهر، و لا فرق في سلب الجسمية و الصورتية و العرضية و الجوهرية، سواءٌ فسَّرناها طبقا لإصطلاح أهل المعقول كما نقل عن المحقق الطوسي - \عليه الرحمة - \أو فسرناها بالمعنى العرفي و الذي يبدو أنه أظهر، و هو أنَّ الجسم بمعنى الجَسد أو الشيء الذي له الأبعاد الثلاثة (الطول و العرض و العمق)، و إنَّ الصورة بمعنى التشكُّل بشكل يتميز به عن الأشكال الاخرى، و العَرَض في الإصطلاح العرفي هو الشيء القائم بالغير و في المحل.

و بعبارة أخرى: الجوهر الذي هو عرفاً في مقابل العرض، لا الجوهر الذي هوة.

ص: 201


1- مرآة العقول، كتاب التوحيد، باب إطلاق القول بأنّه شيء: ج 1 ص 282 ذيل ح 2.
2- و لو أن جملة (ليس كمثله شيء) تدلُّ بالالتزام على تنزّه الباري عن الجسمية و سائر صفات و ذاتيات الممكنات، لكن جملة «ليس بجسم...» تدلّ على ذلك بالمطابقة.

في مقابل المعاني الاخرى و الذي ينقسم في الاصطلاح إلى خمسة أقسام، و أحدُ قسمي الممكن، و أما الجوهر بمعنى ذات الشيء و حقيقة الشيء فليس مراداً.

و على كل حال، فاللّه تعالى، منزَّهٌ عن هذه المعاني، أعم من أن يكون المقصود هو المعاني الاصطلاحية أو كان المقصود، المعاني العرفية في مقابل المعاني الاخرى.

«7 - \بَلْ هُوَ مُجسِّمُ الأجسام و مصوِّرُ الصُور و خالقُ الأعراضِ و الجواهِر»(1)

إنَّ الأجسامَ و الأعراض و الجواهر و الصور، لم توجد من قبل نفسها، كما أنَّ وجودها ليس قديماً و دائمياً، و لا أنها غير محتاجة لخالقٍ و موجد، فكما يُصرِّح القرآن الكريم: «أم خُلقوا مِنْ غَيرُ شيءٍ أم هُمُ الخالِقون»(2)

فجواب هذا التساؤل الشريف في الآية، هو النفي بداهةً و فطرةً، فمثل هذا الوجود غير متصور و ممتنع، فكلّ هؤلاء عاجزون عن إيجاد أنفسهم، كما أنَّ كسب الوجود من أمثالهم محالٌ أيضاً، كما لو طلب محتاج من محتاج شيئاً، و طلب مقروضٌ من مقروضٍ دَيناً.

و عليه، اذا كان اللّه تعالى و هو مجسِّم الأجسام و مصور الصُور، جسماً أو صورةً، كان محتاجاً إلى مجسِّم ومصوِّر.5.

ص: 202


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص 419.
2- الطور: الآية 35.

لذا، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«بتَشعيرِهِ المشاعِرَ عُرِفَ أنْ لا مَشعَرَ لَهُ، و بمضادَّتِهِ بينَ الأمور عُرفَ أن لا ضِدَّ له و بمقارَنَته بَيْنَ الأشياءَ عُرفَ أنْ لا قَرينَ لَهُ»(1)

«8 - \و رَبُّ كُلِّ شيءٍ و مالِكُهُ و جاعِلُهُ و مُحدِثُهُ»

الرَّب، بمعنى المربّي و موصل الشيء من النقص إلى الكمال، و هذا المعنى للتربية متصور في الموجودات التي ليس لكل أو بعض كمالاتها فعليَّةُ و لكنها حائزة على الإستعداد للكمال بالقوَّة، لتكون تربيتها مؤثرة، و لإيصالها من النقص إلى الكمال و من القوَّة إلى الفعليَّة.

و على هذا، تدلُّ جملَة «ربُّ كلِّ شيءٍ» على أنَّ كل الاشياء بحاجة إلى تربية، و ليس لها الفعليّة المستغنية عن المربي، حتى لو كانت من قبيل المجردات و العقول، التي يعتقد القائلون بوجودها أنها فعلية محضة، فالقول بها و أنَّ صدور المخلوقات غير المجردة لابدَّ أن يترتب على صدورها و خلقتها، مستلزمٌ لعيوب و مفاسد عديدة.

والمعنى الآخر للرَّب هو السيد و الصاحب و المالك. و من يصنف المخلوقات إلى صنفين، لابد أن يقول بأن إضافة «ربّ» إلى كلِّ شيء، يفيد أن المراد من الربّ هو المعنى الثاني، إذْ بعد فرض أنّ المخلوقات على قسمين تكون إضافة «ربّ» إلى كلّ شيء جاعلةً المعنى الأول بحاجة إلى تفسير و تأويل و توجيه.6.

ص: 203


1- نهج البلاغة، الخطبة 186.

و عليه، يكون المعنى هو إنَّ من أوصاف اللّه تعالى هو انَّه صاحبُ كلِّ شيء و مالكه، و جاعِلَه و موجده.

و لا يخفى أنَّ الصفات التي وردت في هذه الفقرات من كلام السيد عبد العظيم في مقام عرض الدين، هي بعض الصفات السلبية و بعض الصفات الثبوتية الفعلية، التي مصدرها الصفة الثبوتية الذاتية، لانَّ كلَّ الصفات الفعلية ترجع إلى صفة العلم و القدرة، و تدلُّ على صدور الفعل و الظهور الخارجي للقدرة.

و المطلب الدقيق هنا هو إنَّ عدّة مسائل اخرى ترتبط بعرض العقائد و التي لم يبيّنها السيد عبد العظيم الحسني، كالإعتقاد بالعلم و قدرة اللّه، و مسألة الكلام و الإرادة، و يبدو أنَّه أوكلها لوضوحها، مضافاً إلى استفادتها بالملازمة من تلك الجمل، لا أنَّه غفل عنها تماماً.

و قد يكون المراد و المقصود هو بيان العقائد المختلف فيها بين الشيعة و سائر الفرق الاسلامية، و خاصة الأشاعرة، و إنَّ الغرض هو بيان العقيدة الحقَّة في هذه المسائل الخلافية، و بعض الجمل الاخرى ناظرَة إلى هذا المعنى أيضاً.

و الأمر المهم هنا هو إنَّ هذا الوصف للباري عزوجل، إما هو للصفات الثبوتية الفعلية، أو للصفات السلبية للذات الإلهية المنزهة عنها، و لا يستفاد إثبات الصفات الثبوتية الذاتية إلاّ من جملة «خارج عن الابطال»:، و أمّا ما يرتبط بكنه و حقيقة هذه الصفات التي هي منزهة عن الإدراك مثل تنزه الذات عن إدراكها من قبل المخلوقات فلم تتعرض له أيّ عبارة، و ذلك لأن الكلام عنها منهيٌ عنه و ممنوع.

ص: 204

و من هنا يُعلم عدمُ جواز البحث في هذه الصفات الذاتية كالعلم و الحياة و الذي يرتبط بحقيقة هذه الصفات، و أنَّ البحث فيها قد يوجب الضلال و الإضلال.

و ما أجمع و أتمَّ و أكمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المعنى حيث يقول:

«دَعْ القَول فيما لا تعرف، و الخطابُ فيما لا تُكلّف و أمْسِك عَن طريقٍ إذا خِفتَ ضلالَته فانَّ الكفَّ عِندَ حَيَرة الضَّلالة خيرُ مِن ركوبِ الاهوال»(1)

و ما أروع ما أنشأهُ الفاضل المعتزلي أبنُ أبي الحديد:

و اللّه لا موسى، و لا، عيسى المسيح و لا محمد0.

ص: 205


1- وسائل الشيعة، كتاب القضاء، باب وجوب التوقّف و الاحتياط في القضاء، ح 3346، ح 20، ج 18 ص 117.

ص: 206

عرض الدِّين و النبوَّة

«9 - \وَ أنَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله عَبدُه و رسولُه خاتِمُ النبيّين فلا نَبيَّ بَعدَهُ إلى يوم القيامَةِ و إنَّ شريعَتَه خاتِمَة الشرائع فلا شريعَةَ بَعدها إلى يَومِ القِيامَة»

الجملة الاولى من هذه الفقرة هي نفس العبارة التي نردِّدها تسع مرات يومياً في صلواتنا اليومية «وَ أشهَدُ أنَّ محمَّداً عَبدُه و رسولُه» و يُستفاد من هذه الجملة الشريفة، عظمة مقام العبوديَّة للّه، و بطبيعة الحال فإن الجميع هم عباد اللّه بالمعنى العام بهذه الكلمة، أي: أنَّ جميع الخَلق هم في ملكية اللّه و تحت إرادته و أمره، و لا يملكون لنفسهم نفعاً و لا ضرّاً، و إنَّ نشأتهم و نموّهم و تكاملهم كلّها من اللّه تعالى و كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي:

«سيّدي أنا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيتَهُ و أنا الجاهلُ الَّذي عَلَّمتَهُ و أنا الضّالُ الَّذي هَديتَه،... و الفقيرُ الَّذي أغنَيتَهُ» (1)

ص: 207


1- إقبال الأعمال: ص 165، الصحيفة السجاديَّة: ص 223.

و لكن اذا نسب العبد تشريفاً إلى سيِّده و مولاه، فالمناسب هو إلتزام هذا العبد بلوازم العبودية له، و إلاّ لم تصح هذه النسبة، كما أنَّ المولى لا ينسب عبداً إليه إلاّ اذا كان ذلك العبد قد سلَّم أمره إلى مولاه تسليماً مطلقاً محضاً، و لم يتبع هواه و لم يكن له إرادة في عرض إرادة مولاه.

و بناءً عليه، عندما نشهد بعبودية خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله للّه تعالى، فاننا نشهد بنيلة أعلى مراتب العبودية و التسليم و الطاعة للّه عزوجل، الأمر الذي من اكتسبه و مهما كانت الدرجة و المقام المقدس الذي وصل اليه، فانه باعتبار درجة عبوديته و تسليمه و إطاعته للّه تعالى.

و لذا، فان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو الشخص الاول، لانَّه العبد الاوَّل. فبحسب الروايات هو أوَّل من أقرَّ بالربوبيَّة من الأنبياء في مرحلة أخذ الميثاق من الخلق.

و كذلك، فانّ اللّه تعالى، و باعتبار أنَّ النبي محمد صلى الله عليه و آله هو العبدُ الحقيقي الذي حاز أتمّ و أكمل مقامات العبودية للّه، وصفه بأنه عبد و قال:

«سُبحانَ الَّذي أسرى بِعَبدِهِ»(1)

و كذلك الاشخاص الذين ذكرهم تعالى في سورة الفرقان بقوله:

«و عبادُ الرَّحمنِ الّذينَ يَمشونَ على الارضِ هَوناً»(2) و الذين نسبهم اليه، فقد قبل عبوديتهم له.3.

ص: 208


1- الإسراء: الآية 1.
2- الفرقان: الآية 63.

و العبودية بالمعنى الاول و الشاملة لجميع البشر، لها جنبة تكوينية و قهرية، ليس لأحدٍ التمرُّد عليها و لو بمقدار ذرَّة، و أمّا بالمعنى الثاني، للعبودية فهي إختيارية إرادية فالعبد في مسير هذه العبودية يتعرف على نفسه و يدرك فقره و إحتياجه إلى اللّه، و أنَّ عليه أن يفوِّض أمره اليه تعالى و أن يتقدم في طريق التسليم و الطاعة المحضة و يرضا برضاه.

أجل، بعد الاقرار بعبودية خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، يقرّ برسالة و خاتمية النبي محمّد صلى الله عليه و آله و أنَّه لا نبيَّ بعده إلى يوم القيامة، و أنَّ شريعته هي خاتمة الشرائع و الأديان إلى يوم الدّين.

أمّا الاقرار و الشهادة بالرسالة، فهو شرطٌ في إسلام الشخص فما لم يشهد أحدٌ بالرسالة، لا يُحكم باسلامه، و لا تجري عليه أحكام الإسلام إلاّ إذا كان مسلماً بفطرته فيحكم باسلامه تبعاً لأبويه، و لا يبعد أن يبقى هذا الحكم بإسلامه جارياً عليه بعد بلوغه مادام لم يظهر ما يخالف الإسلام.

و على كلّ حال، لا توجد كلمة أعظم من الشهادة بالرسالة و الاقرار بنبوة محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله، بعد كلمة التوحيد و الاقرار بالوحدانية للّه تعالى، و كما إنها تأتي بعد الشهادة بالتوحيد في الأذان و التشهد، فكذلك بين الأمور الاعتقادية يأتي الاقرار بالرسالة و النبوَّة في المقام الثاني بعد التوحيد.

و من ضمائم الإيمان بالرسالة، الايمانُ بان محمداً صلى الله عليه و آله هو خاتم النبيّين، فلا نبيّ بعده.

و الظاهر أنَّ السرّ في إنَّ السيد عبد العظيم الحسني و في مقام الإعتراف

ص: 209

بالنبوَّة، يعبِّر عن النبي بالرسول الذي يفهم منه الواسطة و السفير بين الخالق و الخلق، و أمّا في مقام الاقرار بالخاتمية فعبَّر عنه بخاتم النبيّين، لا خاتم المرسلين، السرُّ هو أنَّ الرسول معنى و مفهوم أخصّ من النبي صلى الله عليه و آله، فكل رسول هو نبي و لا عكس.

و عليه يكون معتقده هو أنَّ الرسول مضافاً إلى إنَّه خاتم المرسلين فكذلك هو خاتم النبيّين، و لذا عبّر بخاتم النبيّين ليفهم المعنيان معاً، فانَّ ختم النبوَّة يعني بالضرورة ختم الرّسالة.

و من الواضح: أنَّه بختم النبوَّة، تختم الشرائع، إذ إنَّ تشريع شريعة جديدة يتوقف على مجيء سفير و نبي جديد، و بدون ذلك لا يمكن مجيء دين جديد.

و هذه الخاتمية ثابتةٌ في كلِّ أبعادها، بالأدلَّة القرآنية و الاحاديث القطعية المسلَّمة، و منكرها يُعدُّ منكراً لضرورة من ضروريات الدين.

و هذا الدّين، كما إنَّه عامٌ لكلِّ الازمنة، «حلالُ محمد حلالٌ إلى يَوم القيامة و حرامُ محمد حرامٌ إلى يوم القيامة»(1) ، فكذلك هو شامل لكلِّ الامكنة، فقد مرَّ اكثر من 1400 سنة على ظهور هذا الدّين، و هذه الفترة تؤيد خاتمية هذا الدّين.

إذ طيلة هذه الفترة الطويلة، لم نسمع بنبوة ثابتة و معقولة و مقبولة، و لم نسمع بشريعة جديدة صالحة و جامعة و كافية و محكمة و وافية إدَّعى أحد بالمجيء بها.35

ص: 210


1- بحار الأنوار: ج 26 ص 35

فهذا الدين متأصّل و خالدٌ، و باقٍ ما طلع قمرٌ و أشرقت شمس، و هو أكمل الأديان و اكثرها جمعاً للشرائع و التعليمات، و لعلَّ أحد أسرار إعطاء النبي صلى الله عليه و آله المعجزة الباقية و هي القرآن الكريم، هو الخاتمية لهذا الدين، فهذه المعجزة باقية إلى الأبد، و لازال إعلان «و إن كُنتُم في رَيبٍ ممّا نَزَّلنا على عَبدِنا فَإتُوا بِسورَةٍ مِن مِثلِه و ادْعُوا شُرَكائَكُم مِن دونِ اللّهِ إن كُنتُم صادِقين فإنْ لَم تَفعَلُوا و لَنْ تَفعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ التي وَقُودُها النّاسُ و الحجارَة أُعِدَّت لِلكافِرينَ»(1) يرنّ في أسماع أهل العالم، يترنم به كلّ مسلم و في كل عصر و مكان متحديا الدنيا باجمعها.

«10 - \و أقول إنَّ الإمامَ و الخليفَةَ و وليّ الأمر بَعدهُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمَّ الحسنُ، ثمَّ الحُسينُ، ثمَّ عليُّ بنُ الحسين، ثمَّ محمّد بن عليّ، ثمَّ جعفَرَ بنَ محمَّد، ثمَّ موسى بن جعفر، ثمَّ عليّ بن موسى، ثمَّ محمَّدُ بن عليّ، ثمَّ أنت يا مولاى فقال عليه السلام و من بعدى الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده؟ فقلت: فكيف ذاك يا مولاى؟ قال: لانّه لا يُرى شخصه و لا يحلُّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً»

و هنا ينبغي التنبيه على أُمور:

الأوَّل: إنَّ كلمة «إمام» و «خليفة» و «وليّ الأمر» ليست مترادفة، و إن كانت متجسّدة في مصداقٍ واحد، أي أنه يصدق اطلاق الولي و الإمام على4.

ص: 211


1- سورة البقرة: الآية 23-\24.

الخليفة كما يصدق إطلاق خليفة و وليّ على من يصدق إطلاق «الإمام» عليه، فهذه الالفاظ متلازمة في التصادق، و لكنّها ليست مترادفة في المفهوم، فمن كل واحدٍ منها يُستفاد بعدٌ من أبعاد الشخصية التي هي مصداقٌ لهذه العناوين، و إنْ كان لازم الاتصاف بمعنى كلِّ واحدٍ منها، هو الإتصاف بمعنى الآخَرين أيضاً.

فالمفهوم الظاهري للفظِ «إمام» هو الزعيم و القائد، و من يكون فعله و سيرته و كلامه، أسوة و حجّة، و يجب على الجميع الإقتداء و التأسّي به و إطاعته.

و من الواضح: أنّ مثل هذا الشخص لابدّ أن يكون الأعلم من بين الجميع، و أن يكون معصوماً عن الخطأ و الاشتباه، و إلاّ لم تتحقق الأمامة في وجوده، ذلك أنَّه إذا لم يكن كذلك، لم يكن لاحدٍ الثقة و الإطمئنان بصحة متابعته و الاقتداء به فضلاً عن وجوب طاعته و التسليم له. فمع إحتمال خطأ و اشتباه المرشد و الدليل، لا يكون طي طريق بمعيته مقبولاً عند العقلاء، كما أنّه لا يجوز شرعاً تجويز طي مثل هذا الطريق فضلاً عن ايجابه.

و المستفاد من قوله تعالى، «و إذ ابتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بكَلماتٍ فأتَمَّهُنَّ قال إنِّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً قالَ و مِن ذُرّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهدي الظّالِمينَ»(1)

كذلك يستفاد من الحديث الوارد في تفسير هذه الآية الشريفة، و من الدرجات التي طواها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حتى وصل إلى مرتبة الإمامة، المستفاد هو أنَّ مقام الامامة مقام عظيم.

كما إنَّ المستفاد من الحديث المشهور «مَن ماتَ و لَمْ يَعرِف امامَ زمانِهِ4.

ص: 212


1- البقرة: الآية 124.

ماتَ ميتَةً جاهليَّةً»(1) هو إمامة و لزوم عصمة صاحب هذا المقام.

و أمّا الخلافة و التي تعني بمفهومها العام النيابة عن الغير و القيام بدوره و عمله، فمفهومها الخاص هنا هو أنّها منصب إلهي، بنحو يستلزم نسبة ما يصدر من الخليفة، إلى اللّه، و أنَّ الخليفة هو عاملٌ و مجرٍ لارادة اللّه، إذ لا يمكن هداية العباد أو الحكم بينهم بلا وساطة البشر، فيتمُّ ذلك بواسطة الخليفة، و لا شكَّ حينئذٍ في وجوب إتّصاف الخليفة النائل لهذا المنصب الشريف بالأعلميَّة و العصمة، و التقوى العالية التي اشترطناها في الإمامة.

و أمّا ولاية الأمر، بمعنى صاحب الإختيار في الأمور من قبل اللّه تعالى، فهو منصبٌ من المناصب التشريعية، مشروط بشرائط تختلف باختلاف إقتضاء سعة و ضيق متعلقات الولاية و حدود مداخلات الوليّ.

فولاية النبي أو الإمام و الخليفة، و لأنَّ حدودها واسعة، تشمل كلّ الأمور، و لوجوب الطاعة لهم بصريح الآية الكريمة «أطيعُوا اللهَ و أطيعُوا الرَّسولَ و أولي الأمرَ منكُمْ»(2) تكون هذه الولاية مطلقة و غير مشروطة، و هي مثل مقام الإمامة و الخلافة مشروطة بالعصمة، و بهذا المعنى عُدَّت في رديف الصلوة و الصوم و الزكوة و الحج، في الحديث المعروف:

«بُنيَ الإسلام على خَمسْ على الصلوةِ و الزَّكوةِ و الصَّوم و الحجِّ و9.

ص: 213


1- الغدير: ج 10 ص 359 و قد ذكر بعبارات مختلفة.
2- النساء: الآية 59.

الوِلايَة وَ لَمْ يُنادَ بِشَيءٍ كما نوديَ بالوِلايَة»(1)

و بجملة «وَ لم يُنادَ بشيءٍ كما نُوديَ بالولاية» يُشار إلى أهميتها الخاصة فالملاحظ في الحديث أنَّ الولاية عُدَّت في سلسلة أحكام اللّه، مع أنَّ صاحب هذا المقام لا يكون إلاّ الإمام و الخليفة.

و موضوع وجوب إطاعة ولي الأمر، هو نفس الأوامر الولايتية للإمام و الخليفة، و الأوامر الصادرة بعنوان إدارة النظام، و رتق و فتق الأمور.

و بهذا اللحاظ، تكون ولاية أمر و نهي الولي مستندة اليه هو، بينما هي مستندة إلى اللّه في حالة الخليفة.

عباراتُنا شَتّى و حُسنُكَ واحدٌو كُلٌّ إلى ذاكَ الجَمالِ يُشيرُ(2)

الثاني: و الدرس المستفاد من كلام السيد عبد العظيم و المقرون بتأييد الإمام عليه السلام، و هو قوله: «إنَّ الإمام و الخليفة و ولي الأمر بعده...» هو أنَّ النبي عليهما السلام أيضاً إمامٌ و خليفةٌ و وليُّ أمرٍ، و لذا فيجب أن تستمر هذه الإمامة و الخلافة و الولاية من بعده، بخلاف النبوَّة، التي أقرّ بها في الفقرة السابقة فإنّها ختمت برسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله و أنه لا يجب إستمرارها، حيث إنّها تدور مدار وجود مصلحة و حاجة في المجتمع، و من جعلها الخاتمة يظهر عدم وجود مصلحة و حاجة في الدين الجديد، بخلاف الامامة و الخلافة و ولاية الأمر، فانه لا يخلو زمنٍ من الحاجة اليها و لا أرضٍ من ضرورتها، و كما رُوي عن أمير1.

ص: 214


1- الاُصول من الكافي، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام: ج 1 ص 81 ح 2.
2- كشف الرموز: ص 81.

المؤمنين عليه السلام:

«أللهمَّ بَلى! لا تَخلو الارضُ مِن قائمٍ للّهِ بحُجَّة إمّا ظاهراً مشهوراً و إمّا خائفاً مغموراً»(1)

و مما ذُكر، يمكن القول: إنَّ بُعدَ الخلافة و الإمامة في شخصية الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله الجامعة لمقام النبوّة و الخلافة و ولاية الأمر، هو أشرف من بُعدِ النبوَّة و الولاية، و ليس مفهوم ذلك أفضليَّة الائمَّة - \عليهم السلام - \على النبي صلى الله عليه و آله - \ نعوذ باللّه - \فان هؤلاء الأطهار و إنْ حازوا منصب الامامة و الخلافة و الولاية، لكنهم لم يتصفوا بصفة النبوّة، أمّا النبي الاكرم صلى الله عليه و آله فقد حاز المقامات الاربعة جميعاً.

أضف إلى ذلك، إنَّ ولاية و إمامة أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان أفضل كلِّ الائمَّة المعصومين - \عليهم السلام - \كانت خاضعة لولاية و امامة النبي الاكرم صلى الله عليه و آله و كان النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم بما فيهم أمير المؤمنين عليه السلام، إذ أنَّ الآية الكريمة: «النّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفُسِهِمْ»(2) تشمل أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً.

الثالث: بيان خلافة أمير المؤمنين عليه السلام لرسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا فصل و ولايته من بعده، و على ذلك أدلّة قطعية و مدارك يقينية ثابتة، من جملتها نص الغدير المتواتر، و الذي رواه العامة و الخاصة من المحدثين و المورخين و المفسرين و6.

ص: 215


1- نهج البلاغة، الحكمة 147.
2- الأحزاب: الآية 6.

علماء الرجال و غيرهم، في الكتب و الجوامع و المجاميع و المسانيد و بأسانيد متعددة عن جماعة كثيرة من الصحابة و التابعين و تابعي التابعين.

و من جملتها واقعة يوم الإنذار، و النصوص على امامته و ولايته عليه السلام في المشاهد و المواقف الاخرى، كثيرة و لو أنصف المناقش و لم يُعاند، لما كان بالإمكان خفاء هذا الأمر عليه و عدم إتضاحه كونه كالشمس في رابعة النهار.

و كل الفضائل و المناقب التي ذكرت لأمير المؤمنين عليه السلام في آلاف المصنفات و الكتب المعتبرة، تثبت هذا المعنى و هو أنَّ الشخص الوحيد الصالح لمقام خلافة اللّه و خلافة الرسول صلى الله عليه و آله، لم يكن الاّ علي بن أبي طالب عليه السلام و كل العلوم التي كشفها علي عليه السلام للمسلمين، و عدم إحتياجه إلى غيره، و احتياج الكلّ اليه، و اخباراته عن المغيّبات و سائر معجزاته، كلها تشهد على خلافته بلا فصل للنبي صلى الله عليه و آله فكلُّ ما نقوله و نكتبه هو من قبيل توضيح الواضحات، و هو أقلّ من قطرة من بحر و ذرةٍ من شمس.

«سُبحانَ الَّذي خَلَقَه و جعلهُ آيتهُ الكُبرى و حُجَّته العظمى و أعطاهُ و مَنَحهُ مِن العُلوم و الكمالات ما حيَّر به عُقول ذَوي الالباب»

الرابع: الأمر الرابع: المستفاد من هذه الرواية هو إمامة الائمة الإثني عشر - \ عليهم السلام - \، و بحسب مآت الروايات الصحيحة و المعتبرة من طرق الشيعة و السنّة، فانَّ إمامتهم ثابتة و محرزة، من جملتها ما نقله الإمام أحمد بن حنبل لوحده، فقد نقل باربعين طريقاً عن جابر و عبد اللّه بن مسعود، من الروايات ما يفيد حصر عدد الائمة و الخلفاء في إثني عشر رجلاً، و هذا العدد لا ينطبق على رأي أيّ فرقة من الفرق الاسلاميّة إلاّ الفرقة الإمامية الاثني عشرية،

ص: 216

فعلى المنصف إما أن يطرح كل هذه الروايات المتواترات المسلمات و يرتكب ما لا يرتكبه ايُّ مسلم مؤمن برسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله، و على أقل التقادير إذا لم يشأ التجاسر و ردِّ قول النبي صلى الله عليه و آله، أن يعتذر بجهله بالمقصود من هذه الروايات فيطرحها، أو أن يقبل مذهب الشيعة الذي ينفرد في إنطباق هذه الروايات على رأيه و منهجه في الامامة.

مضافاً إلى ذلك، فانَّ أكثر من مئتي حديث من هذه الأحاديث تضمن شرح و تفسير تلك الطائفة التي تضمنت ذكر عدد الخلفاء و الائمة فقط، فوضحتها بالصفات و العلامات، بل و حتى ذكر اسماء هؤلاء الاثني عشر من أوّلهم و هو علي ابن أبي طالب عليه السلام و إلى آخرهم و هو المهدي بن الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

أضف إلى أنَّ روايات كثيرة أخرى، و شواهد عديدة من معجزاتهم و خوارقهم للعادة، تثبت إمامة هؤلاء الأئمة الإثني عشر بما لايبقي مجالاً للشك و الشبهة.

و من جملة ذلك: نفس هذه الرواية التي تحصر الائمة و تعيّنهم في هؤلاء الاثني عشر، و السيد عبد العظيم الذي توفي قبل وفاة الإمام الهادي عليه السلام و قبل ولادة صاحب العصر - \أرواحنا فداه - \رَوى خبر ولادة الإمام الحجة بن الحسن - \ أرواحنا فداه - \و غيبته عن الإمام الهادي عليه السلام.

الخامس: لقد وردت الاشارة في هذه الرواية إلى ثلاث صفات من أوصاف صاحب الزمان - \أرواحنا فداه - \بنحو الاجمال.

الأولى: لا يُرى شخصُه، و هو إشارة إلى استتاره عن الأنظار، و هذا لا يعني

ص: 217

النفي الكلّي لرؤيته، إذ تشرف بزيارته قبل الغيبة الكبرى جماعة من المؤمنين، و كذا نال شرف زيارة قطب عالم الإمكان و كهف الأمان جماعة في غيبته الكبرى، و إنّما المقصود من العبارة أنَّ الالتقاء به غير ميسر للجميع بصورة عادّية، و إنَّ أغلب الناس محرومون من لقائه، و يجهلون مقر إقامته و أحواله و إنَّ اولئك الذين يحظون بشرف لقائه خاصة في الغيبة الكبرى إنَّما يوفقون لذلك بنحوٍ غير طبيعي و بالاتّفاق، كما أنَّ الظاهر من نفي الرؤية في الرواية هو نفي الرؤية مع المعرفة الشخصية التي لا تتيسر إلاّ للأوحدي من الناس، و أمّا الرؤية مع عدم المعرفة الشخصية فهي جائزة و لا تنافي الهدف من غيبته و الحكمة فيها.

الثانية: الصفة الثانية هي، عدم حليّة ذكره باسمه الشريف، فبحسب هذه الرواية و روايات أخرى، لا يجوز ذكره باسمه الذي هو اسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

و في حكم تسميته - \أرواحنا فداه - \في عصر الغيبة و أنّه هل إنَّ ذلك لا يجوز مطلقاً أو يجوز مطلقاً؟ و إن كان مكروهاً مطلقاً أو أنَّه مكروه في المجامع فقط، أو أن الحرمة خاصة بذكره في المجالس و المجامع، أو أنّ الحرمة من باب التقية و أن ذكره جائز مع عدم التقية، إحتمالات، و لعلَّ إحتمال أنَّ النهي عن التسمية إلى زمان الظهور مختص بالمجالس و المجامع تعظيماً له، و أنّه جائز في الموارد الاخرى، هو الإحتمال الأرجح.

و على أى حال، فالقول بالحرمة مطلقاً و الجواز مطلقاً ضعيف، و الاحتياط يقتضي ترك التسمية، إلاّ في بعض الموارد، كما لو ورد إسمه الشريف في رواية يُراد نقلها، أو في مورد الضرورة التي يلزم فيها إعلان إسمه الشريف، و هذه المسئلة من جملة المسائل التي اختُلف في الفتوى بها بين الشيخ الأجلّ بهاء

ص: 218

الدين العاملي و السيد الجليل ميرداماد - \عليهما الرحمة - \و قد كتب الميرداماد كتاب «شرعة التسمية» و الذي طبع أخيراً بتوصية من الدّاعي تأييداً لنظره و رأيه في المسألة.

الثالثة: ما ذكره الإمام الهادي عليه السلام من أنّ خليفة الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً. و قد ورد اكثر من مائة حديث معتبر بطرق الشيعة و السنة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و الائمة الطاهرين، وصف المهدي - \عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - \بهذا الوصف، و هو من أوصافه البارزة و المهمة إلى حدٍّ عَدّت هذه الصفة و هي من أوصافه الفعلية، في جملة أهداف و غايات الظهور المهمة، كظهوره و غلبة الإسلام على سائر الأديان و إنتشار عقيدة التوحيد و الحكم الإسلامي في كل العالم و... الخ، من أهداف الظهور.

و هذه الصفة و إن كانت في هذه العبارات من جملة أوصافه الفعلية و أنّ ذلك من منجزاته المهمة و الكبيرة، و لكن تدلّ بالإلتزام على إتّصافه ذاتاٍ بصفة العدالة و كمال النفس و استقامة الفكر و الروح - \صلوات اللّه و سلامه عليه - \فمن البديهي، أنَّ القيام بمثل هذه الاعمال و تحقيق هذه الاهداف و البرامج، يتوقف على الاتصاف الذاتي بهذه الكمالات، و على حيازة الأهلية العظيمة التي لم يحزها إلاّ الأنبياء و الائمة الطاهرين - \عليهم السلام - \، المؤيّدين من عند اللّه تعالى.

«11 - \قال: فقلتُ: أقرَرتُ و أقولُ: إنَّ وليَّهُم وليُّ اللّه، و عدوَّهُم عدُوّ اللّه و طاعَتَهُم طاعَة اللّه و مَعصِيَتَهُم معصيةُ اللّه»

ص: 219

من خلال هذه الكلمات التي قالها السيد عبد العظيم الحسني، نقف على عظمة مقام الإمامة و الولاية، و التي يظهر مما ذكرناه، أنّها تالي ولاية اللّه تعالى، فوليّهم وليُّ اللّه.

و يستفاد من بعض الأحاديث المعتبرة، أنَّ العبد لو عبد اللّه مدة دعوة نوح في قومه (950 سنة)، يصوم يومه و يقوم ليله، و قُتل بين الركن و المقام مظلوماً، لم يشمّ رائحة الجنَّة ما لم يتولى هؤلاء الأطهار. (1)«مَن أتاكُم نَجى و مَن لَمْ يأتِكُم هلك» (2)«مَن أطاعَكُم فقد أطاعَ اللّه و مَن عصاكُم فقدْ عصى اللّه»(3).

و قد ورد في بعض الروايات التي نقلت بطرق العامّة أيضاً، أنَّ العبد يُسئَل يوم القيامة و قبل أن يرفع قدماً على قدم في جملة أمور أربعة عن ولاية أهل البيت - \ عليهم السلام - \بكل معانيها، و عن محبتهم و أنّهم أولياء الأمر و الائمة و الخلفاء، و هذا أمرٌ مسلّمٌ بين المسلمين منذ صدر الإسلام و عصر الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله

يقول الفرزدق في قصيدته:

مِنْ مَعشَرٍ حُبُّهُم دينٌ و بُغضُهُم كُفرٌ و قربُهُم مَنجى و مُعتَصَمُ

«12 - \و أقولُ: إنَّ المِعراجَ حقٌّ و المُسائَلَةَ في القَبرِ حقٌّ و إنَّ الجَّنَّة حقٌّ و1.

ص: 220


1- بحار الأنوار: ج 27 ص 172.
2- تهذيب الاحكام، باب الزيارة الجامعة: ج 6 ص 98.
3- المصدر السابق: ج 6 ص 101.

النارَ حقٌّ و الصراطَ حقٌّ و الميزانَ حقٌّ و إنَ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا ريبَ فيها و إنَّ اللّه يَبعَثُ مَن في القُبور»

و في هذا القسم، يعرض السيد عبد العظيم قسماً آخر من معتقداته، و يشهد بحقانية المعراج و سؤال القبر و الجنة و النار و الصراط و الميزان و الساعة و القيامة و البعث و الإحياء، و سنحاول بيان هذه الامور بنحو الإختصار.

نُذكِّر مقدمةً بأنَّ الاعتقاد بالمعاد و حشر الأموات و الثواب و العقاب واجبٌ، و إن اكتفينا في مقام الحكم باسلام الإنسان، باقراره بالشهادتين و التوحيد و الرسالة، و الذي يتضمن الاعتقاد بحقانية كلِّ ما نزل على النبي صلى الله عليه و آله و الاقرار الاجمالي به، لكن الاعتقاد تفصيلاً بخصوص المعاد و عالم العقبى و إحياء الموتى للحساب، واجبٌ كما إنَّ الاعتقاد بالجنّة و النار و الصراط و الميزان بنحو التفصيل لازمٌ واجب، و لعلّ علّة وجوبه تفصيلاً و عدم كفاية الاجمال هنا، هو وضوح و ظهور و ضرورة إشتمال دعوة النبي صلى الله عليه و آله على هذه الامور، كالاعتقاد بالملائكة و الأنبياء السابقين و الكتب السماوية النازلة عليهم.

و بعد بيان هذه المقدمة، نبيّن عدة امور ترتبط بهذه المواضيع:

الف) المعراج

من جملة معتقدات المسلمين، أنَّ اللّه سبحانه و تعالى، و في ليلةٍ سمّيت بليلة المعراج، سار بحبيبه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله من مكّة المكرمة (المسجد الحرام) إلى المسجد الاقصى، و من هناك عرج بجسمه العنصري إلى العوالم

ص: 221

العليا حتى وصل إلى مرتبة «ثمَّ دَنى فتدلّى فكانَ قابَ قَوسَينِ أو أدنى»(1)

و تفاصيل هذا الإسراء و المعراج الذي تمَّت بالقدرة الالهية و بالإعجاز و خرق النواميس الطبيعية، ذُكِرَ بعضها في القرآن الكريم و بعض الاحاديث، و إن كان الاعتقاد بكلِّ تفاصيلها التي جاءت في الاحاديث و خصوصاً أخبار الآحاد، ليس بواجب.

و من جملة الآيات الدالة على هذا المعراج، قوله تعالى:

«سُبحانَ الَّذي أسْرى بَعبدِهِ ليلاً من المَسجدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى الّذي بارَكنا حَولَهُ لِنُريَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هُوِ السَّميع البَصير»(2)

و كذلك ورد في سورة النجم عدة آيات في هذا المعنى، و كذلك قوله تعالى:

«وَ إسأل مَن أرسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رُسُلِنا»(3)

و قوله تعالى:

«فَسْئَل الَّذينَ يَقرَؤُنَ الكِتابَ مِنْ قَبلِك»(4)

و بناءً على هذا، فانَّ أصل المعراج، حقٌّ و هو أمرٌ ثابت و مسلّمٌ لا يتردّد فيه المسلمون و يعدّونه من معجزات الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله الكبيرة، و أنَّ العروج كانَ بالجسد العنصري، و الظاهر أنَّ مثل هذا الأمر إنَّما يكون إعجازيا فيما لو تمَّ94

ص: 222


1- النجم: الآية 8-\9.
2- الإسراء: الآية 1
3- الزخرف: الآية 45
4- يونس: الآية 94

بالجسد، لأنَّ السير الروحي متيسر لكلِّ البشر و الى كلِّ النقاط في هذا العالم، و إن كان سَيرُ النبي صلى الله عليه و آله يختلف عن سير أرواح الآخرين بانكشاف الحقائق التي لا تنكشف لغيره عادةً.

و لكن الإنصاف هو إنَّ التلقّي الأول للمسلمين من هذا المعراج و الذي آمن به المؤمنون و صدَّقوا النبي الاكرم صلى الله عليه و آله عَليه، و الذي أنكره الكفّار حينها و استهزؤا به، هو المعراج الجسماني، و ليس في الادلة ما يدلُّ على أنَّ النبي صلى الله عليه و آله قال لهم إنه أسري بروحه لا بجسمه، دفعاً لاستغرابهم و استبعادهم، بل الظاهر أنه - \ صلوات اللّه عليه - \أكّد جسمانية المعراج لهم.

و على أيّ حالٍ، فان الكثير من العلماء يرى أنَّ إنكار جسمانية المعراج هو إنكار لضرورة من ضروريات الدين و موجبٌ للكفر، و تترتب عليه أحكام الارتداد، و البعض الآخر منهم قيَّده بصورة استلزامه إنكارَ النبي صلى الله عليه و آله.

و ما لا ينبغي إهماله و السكوت حياله هو إنَّ شبهات بعض أهل المعقول في مورد المعراج الجسماني و انَّه يستلزم الخرق و الالتئام في الأفلاك، مردودةٌ لعموم قدرة اللّه و صدور المعجزات و خوارق العادة الكثيرة، و لإخبار الرسول الصادق المصدَّق، مضافاً إلى منافاتها للإكتشافات العلمية المعاصرة الثابتة.

فهؤلاء الحضرات، قد رسموا لما سوى اللّه خارطةً فرضية على أساس نظرياتهم الشخصية، عيّنوا على أساسها هيكلية الكون و الأفلاك، ظناً منهم أنهم رسموا خارطة ربط الحادث بالقديم، و صدور الكثير عن الواحد، و كأنّهم كانوا مع اللّه في كل مكان و زمان و شاهدوا كلَّ التَّحوّلات التي جَرت على هذا الكون و الكيوان في كل أدوار العالم، و على هذا الأساس عنونوا عالم العقول و

ص: 223

المجرّدات، و اعتقدوا بسلسلاتٍ ظهر بطلانها بتقدم العلوم و الفنون الحديثة.

و طريق الصواب و المصون من الخطر هو الإكتفاء بأخبار النبي الصادق المصدَّق في هذه الأمور، و الاعتقاد بالمعراج و إنْ عجزنا عن معرفة كيفيته و ديناميكيته و امكانه للبشر و أن لا نقول من عندنا ما لم يصلنا من الشرع و أن لا نكلَّف أنفسنا في فهم ما لم يكلفنا الشرع فهمه و معرفته و الخوض فيه.

و قد حاول بعض الماضين من أهل المعقول التوفيق بين القول بالمعراج الجسماني و القول بالمعراج الروحاني، في رسالة موسومة ب «الورديّة» على ما حُكي عنها، فقال: إنَّ النبي صلى الله عليه و آله كان له معراج جسماني و معراج روحاني و معراج عقلاني، و معراجه الجسماني كان مسير جسده الشريف إلى منتهى مراتب الأجسام، و الذي طواه على البُراق.

و العبارة التي نقلت عن صاحب الرسالة الورديّة هي:

«و سُري بسَيرهِ إلى اللّه مِن ظلماتِ عالَم الأجسامِ و الأجرام على مركبه الذي سُمّي بالبُراق في كمال السُّرعَة»

و يقول في خصوص الجنبة الروحانيّة للمعراج:

«وَ إرتَقى بِروُحه القُدسيَّة إلى مَدارجِ الأرواح و خَرق الحُجُب و بلغَ قِمَّة الضِراح إلى أن صارَ إماماً لصفوف الأرواح النوريَّة»

و يقول في المعراج العقلاني:

«ثُمَّ تَرقّى بِعَقلِه النُوريّ و نورِهِ العقليّ و دَخَلَ سُرادقاتِ الجَلالِ و رَفَعَ أستار البَهاء و الجَمال إلى أنْ وَصَلَ إلى حدٍّ لَمْ يكن بينَهُ و بَينَ رَبِّه أحدٌ حتّى

ص: 224

نَفسه الشريف و ذاتِهِ الرفيعة»

و هذه العبارات و إن كانت لا تخلو من لطافةٍ، خاصة تعبيره عن المعراج الجسماني ب «سُري» و عن الروحاني ب «إرتقى» و عن العقلاني ب «تَرَقّى»، و كذلك لطافة تقسيمه المعراج إلى ثلاث مراتب و تحديد الجسماني منه بالسير إلى منتهى عالم الأجسام، تخلصاً من مخالفة ضرورية المعراج الجسماني، و لكن من الواضح إنَّ المعراج الذي كان مرتكزاً في أذهان المتشرعة و المستفاد من ظواهر الآيات و الروايات هو إنَّ كلَّ المعراج كان معراجاً جسمانياً، و أنَّه صلى الله عليه و آله أينما ذهب، فقد ذهب بجسده العنصري لا غير، و ما أروع ما قاله الشهيد - \قدس سره - \في مديحة للنبي صلى الله عليه و آله، حيث يقول:

وَ مَن قَد رقى السَبع الطِباقَ بَنَعلِهِو عَوّضَهُ اللّهُ البُراق عن المهر(1)

و يقول الآخر:

سُبحانَ مَن خصَّ بالإسراء رُتبَتَه7.

ص: 225


1- الروضة البهيّة - \ترجمة حياة الشهيد الثاني - \قدس سره - \شعر الشهيد: ج 1 ص 187.

له البُراق جوادٌ و السما طُرُقٌ مَسْلوكَةٌ و دَليل السَيْرِ جبريلُ(1)

و أما ما ذكره من أنَّه ترك جسمه في منتهى عالم الأجساد و عرج بروحه إلى منتهى عالم الارواح النورية و من ثمّ ذهب بعقله النوري و نوره العقلي إلى حيث لم يكن بينه و بين اللّه سبحانه احدٌ حتى نفسه الشريفة و ذاته الرفيعة، فالحقيقة أنّنا لا ندري شيئاً من هذا الكلام، و حتى اولئك الذين عاصروا هذه الواقعة، و الذين جاءوا من بعدهم، لم يفهموا هذه المعاني منها، فهذه العبارات أشبه ما تكون ب «رجماً بالغيب»، فلو أنَّ الإنسان أذعن بعجزه عن معرفة حقائق هذا المطلب، كان أدلّ على علمه و فهمه و معرفته من إظهار علمه عن هذا الطريق.

فلا يمكننا أن نقيس كلَّ الأشياء بميزان خيالي مبتنٍ على أساس سلسلة مزاعم و نظريات حول ما سوى اللّه و عوالم خيالية رتبناها بمخيلتنا، ذلك الميزان الذي لا يصلح الا لقياس التخيلات.

إذن، بحسب دلالة القرآن الكريم، و ألاحاديث الشريفة، كان معراج النبي جسمانياً، و إنَّ كل الحقائق التي انكشفت له صلى الله عليه و آله كانت قد إنكشفت لشخصه المتجسم بهذا الجسم الشريف، و لا نفهم معنى لما ذكره الفاضل المذكور، فإن كان مراده أنَّ روحَ أو عقلَ النبي صلى الله عليه و آله قد عرجا إلى عالم الارواح و العقول مع بقائها في الجسد العنصري، فهذا لا ينسجم مع ما قاله من سير الجسم إلى منتهى عالم الاجسام، و إنْ كان مراده أنَّ هذه الروح الشريفة قد خلعت البدن العنصري و3.

ص: 226


1- الأنوار البهيّة، فصل في بيان ولادة النبي صلى الله عليه و آله...: ص 33.

اخترقت العوالم الاخرى فوصلت إلى عالم الارواح و من ثمَّ إلى عالم العقول، فانّ هذا المعنى لا يفهم من الآيات و الروايات إلاّ بالتأويل و التوجيه، ثم إنَّ أصل وجود عوالم ماوراء عالم الاجسام و بالمعنى الذي يطلق على الملائكة (أولي أجنحة)، هو محل كلام.

و الحاصل، إنَّ هؤلاء الحضرات قد خططوا للكائنات، و إصطنعوا عالم الأرواح و عالم العقول، و طبقوا المعراج و حقائقه على اساس هذا المخطط الذهني الشخصي، و أوّلوها بما ينسجم معه، فلا نبالغ إن قلنا إنَّ كلامهم مصداقٌ لقوله تعالى: «إنْ هيَ إلاّ أسماءٌ سمّيتموها أنتُم و آباؤُكُم ما أنزل اللّه بها من سُلطانٍ»(1) إذ ليس لديهم دليلٌ شرعي على دعواهم.

يقول السيد شبّر: إنَّ المعراج من ضروريات الدين في الجملة و منكره خارج عن ربقة الإسلام و المسلمين، و قد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«لَيسَ مِن شيعَتِنا مَن أنكَرَ أربَعَة أشياء: المعراج و المسائلة في القَبرِ و خلق الجنَّة و النار و الشفاعة»(2)

ثم يقول: و ما عليه الإمامية هو إنَّ المعراج كان ببدن و جسم النبي صلى الله عليه و آله الشريف.

و من جملة الروايات المهمة و التي رويت في كتب أهل السنة، هذه الرواية عن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد سئل:8.

ص: 227


1- النجم: الآية 23.
2- بحار الأنوار ج 8 ص 197، ح 8.

«بأيّ لُغَةٍ خاطَبَكَ ربُّك ليلة المعراج؟

فقال صلى الله عليه و آله: خاطَبني بلغة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فألهَمَني أن قُلت يا ربّ أنتَ تحاطبُني أم عليّ؟

فقال: يا أحمد أنا شيءٌ لَيسَ كالأشياء لا أقاس بالناس و لا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري و خَلَقتُ عَليّاً مِن نَورك إطَّلَعتُ على سرائرِ قَلبِك فَلَمْ أجد في قَلبِكَ أحبّ اليكَ من عليِّ بن أبي طالب عليه السلام فخاطبتكَ بَلسانِهَ كَيْما يَطمئنُّ قلبُك»(1)

ب) سؤال القبر

من المسائل الاعتقادية التي ينبغي الإيمان بها، هي مسألة القبر و المسائلة بعد الموت، و التي ثبتت بالاحاديث و الروايات الكثيرة، و إنَّ إنكارها مخالف للاسلام و ردٌّ للأحاديث المتواترة، و لذا فانَّ السيد عبد العظيم قد عرض إعتقاده بهذه القضية على الإمام عليه السلام.

روى الصدوق (عليه الرحمة) في كتاب «الاعتقادات» إنَّ مسألة القبر حقٌّ لا مهرب منه، و من أجاب في القبر بالصواب و المطابقة للواقع، فقد فاز بروح و ريحان، و من لم يجب بالصواب فله نُزلٌ من حميم.6.

ص: 228


1- الجواهر السنيَّة: ص 295. بحار الأنوار: ج 18 ص 386.

ج) الجنَّة و النار

إنَّ الاعتقاد بحقانية الجنّة و النار، لهوَ من العقائد المحكمة و المسلّمة عند المسلمين، و قد صرّحت الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة الكثيرة بهذه الحقيقة، خذ مثالاً على ذلك:

قال اللّه تعالى في وصف الجنَّة:

«مَثَلُ الجنَّة الّتي وُعِدَ المتَّقونَ فيها أنهارٌ من ماءٍ غَيْرِ آسِن»(1)

و قال عزَّوجل:

«إنَّا أعْتَدنا للظّالمينَ ناراً أحَاطَ بِهم سُرادِقُها و إنْ يَستَغيثُوا يُغاثُوا بماءٍ كالمُهلِ يَشوي الوُجوهُ بئسَ الشَّرابُ و ساءَتْ مُرتَفَقاً»(2)

د) الميزان

و كذلك الاعتقاد بالميزان، عقيدةٌ انبثقت من الآيات القرآنية المجيدة و الاحاديث الشريفة، و لابد من الإعتقاد بها إجمالاً، و إن لم يعتقد بتفاصيلها التي لا ضرورة في الإعتقاد بها.

و التفاسير و التعاريف التي ذكرت للميزان و ما يوزن به متعددة، و كلها قابلة9.

ص: 229


1- محمد صلى الله عليه و آله: الآية 15.
2- الكهف: الآية 29.

للتحقق، و قد تختلف الكيفيات باختلاف الأشخاص و باختلاف مواقف القيامة و الحساب.

ه) الصراط

يقول السيد شبَّر - \عليه الرحمة - \إنَّ الصراط من ضروريات الدين و لا يخالف فيه أحدٌ من المسلمين، و هو بحسب الروايات جسرٍ على جهنم، أحدُّ من السيف و أدقُّ من الشعرة.

و كما يقول الصدوق - \عليه الرحمة - \فانَّ جميع الناس لابدّ أن يعبروا من على هذا الجسر.

و هناك معنى آخر للصراط ورد في الروايات و هو أئمة أهل البيت - \عليهم السلام - \و أنَّ المراد من «الصراط المستقيم» هو ولاية أمير المؤمنين و سائر الأئمة الاطهار - \عليهم السلام - \.

و بالتأمل بالآيات القرآنية و الروايات الشريفة، يستفاد أنَّ لفظ الصراط قد إستعمل في لسان القرآن و السنَّة و أطلق على كلّ واحدٍ من المعنيين مستقلاً، كما أنه فسِّر في المورد الواحد بالمعنيين معاً.

و) المعاد

يُبيِّن السيد عبد العظيم إعتقاده بالمعاد بهذه العبارة:

ص: 230

«و أنَّ السَّاعَةَ (القيامة) آتيةٌ لا ريبَ فيها و أنَّ اللّه يَبعثُ مَن في القبورِ.»

إنَّ مسألة القيامة و عودة الأرواح إلى الأجسام و يوم البعث و احياء الموتى من المعتقدات الأوليّة و الأصيلة في الإسلام، و قد دلت على ذلك آيات قرآنية كثيرة:

و لا يخفى، أن يوم القيامة له اسماء متعددة، أحدها: الساعة.

و قد سُمّي به يوم القيامة في موارد عديدة من الآي الحكيم، كقوله تعالى:

«يا أيُّها النّاسُ إتَّقوا رَبَّكُم إنَّ زَلزَلَةَ السِّاعَةِ شيءٌ عظيم»(1) و قوله تعالى:

«و إنَّ السّاعةَ آتيةٌ»(2) و قوله تعالى: «يَسئَلونَكَ عَنِ السَّاعَة»(3).

و من جملة أسماء القيامة، كما يقول تعالى: «لا أُقسِمُ بِيَومِ القِيامَة»(4)

و من أسمائها: الحاقَّة، القارِعَة، الآزِفَة، يومُ الدّين، يوم الحساب، يوم الحسرة، يوم التغابُن و غيرها من الأسماء المصرَّح بها في الآيات القرآنية الشريفة.

«14 - \و أقولُ: إنَّ الفرائض الواجبة بَعدَ الولاية: الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»

هنا عدّة أمور يمكن إستفادتها من هذا الكلام: 1

ص: 231


1- الحج: الآية 1
2- طه: الآية 15
3- الاعراف: الآية 187
4- القيامة: الآية 1

أوّلاً: أهمية الولاية و تقدمها على الصلوة و سائر الواجبات، إذ بدون الولاية لا يكون العملُ مقبولاً مِن قبل اللّه تعالى.

ثانياً: أهميَّة الفرائض المذكورة من بين كلِّ الفرائض الاخرى، مع عدم إنحصار الفرائض في المذكورات.

ثالثاً: إنَّ فضيلة هذه الفرائض كثيرة كما ورد في القرآن و الأحاديث فقد أكدت الآيات القرآنية على الصلوة و الزكوة، و كذلك الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما هو ثابت و مسلّم عند الجميع، و أنَّ على المسلم الإعتقاد و التديّن بوجوبها.

رابعاً: الظاهر أنَّ المراد بالفرائض هنا كلُّ التقديرات و الأنظمة و التعليمات الإلزامية الشرعية، بقرينة وصفها بالوجوب.

و قد يكون المقصود من الفرائض، التكاليف المأمور بها و الالزامية و إنّ المقصود من وصفها بالواجبة، ثبوتها بحسب القرآن المجيد.

خامساً: كما أشرنا، لا تنحصر الفرائض في هذه الأبواب و إنْ كانت الفرائض المذكورة هي عمدة و أهم الفرائض.

«15 - \قال عليُّ بن محمّدٍ عليه السلام: يا أبا القاسم هذا و اللّه دينُ اللّه الذي إرتضاه لعباده فاثبت عَليه ثَبَّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و (في) الآخرة»

و هذا القسم الأخير من الحديث يتضمَّن تصديق الإمام عليه السلام بصحة دين السيد عبد العظيم الحسني، و أمره بالثبات عليه، و دعاؤه له.

ص: 232

و لنا على هذا الفقرة توضيحات ثلاث:

الاول: إنَّ الإمام عليه السلام قال للسيد عبد العظيم: «يا أبا القاسم هذا و اللّه دين اللّه الذي إرتضاه لعباده»

و كما نعلم، إنَّ المعتقدات الدينية و كذلك الفرائض الواجبة، لا تنحصر بما ذكره السيد عبد العظيم هنا، بل هناك مسائل أخرى في الإلهيات و في النبوّة و غيرها، لم يُشر اليها صراحةً هنا، كمسألة الإيمان بالعدل الالهي و الإيمان بالملائكة و الأنبياء السابقين، و مع ذلك نجد أنَّ الإمام عليه السلام يقول له: «هذا و اللّه دين اللّه».

و يبدو إن ذلك بملاحظة ما يلي:

1 - \إنَّ الإيمان باللّه و رسالة خاتم الأنبياء متضمّن لكل هذه المسائل الإعتقادية الإسلامية.

2 - \بعض هذه الامور ليست جزءاً من العقائد التي تُعَدُّ معرفتها و الاعتقاد بها بخصوصها شرطاً في الاسلام و النجاح و النجاة، بل حتى لو غفل عنها الإنسان، و كانت معتقداته الاصلية صحيحةً و عمل بتكاليفه، كان من الناجحين الناجين أيضاً.

فمثلاً، لو أنَّ شخصاً لم يعرف الملائكة معرفة تفصيلية، أو أنَّه لم يعرف بعض الأنبياء السابقين كذلك، مثل داود و سليمان و شعيب، بل و لم يعرف أسماءهم و عناوينهم، أو انّهُ لم يعرف بعض الأحكام الواجبة التي لم يبتل بها، فان كلَّ ذلك لا

ص: 233

يقدح في إيمانه و إسلامه، إلاّ اذا كان معتقده مخالفا لما جاء عن النبي صلى الله عليه و آله مع التفاته لذلك، و هو ما يستلزم إنكار النبي صلى الله عليه و آله و الذي يعدُّ كفراً و إرتداداً.

و لذا و تفاديا لخطر مخالفة الاعتقاد الديني لما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و ثبت بالكتاب و السنَّة، ينبغي على المرء أن يكتفي بالمعرفة الإجمالية في غير الامور التي يلزم الاعتقاد بها تفصيلاً، و إلاّ كان عليه عرض عقيدته و دينه في كل الامور على الكتاب و السنة لئلا يقع في الضلال و البدعة عن قصدٍ أو بدونه.

الثاني: المسألة الاخرى التي تستفاد من كلام الإمام عليه السلام، هي مسألة الثبات على العقيدة الصحيحة و على الإيمان السليم، فعلى المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ و الثبات على عقيدته، و أن يحذر دائماً وسوسة الشيطان و النفس الأمارة، و خاصة في زمن غيبة حضرة وليّ الأمر - \أرواحنا فداه - \، حيث الإمتحانات شديدة على أهل الإيمان، إلى الدرجة التي عبَّر عنها الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديث جابر المعروف، حيث قال:

«ذاك الّذي يَغيبُ عَن شيعتِه و أوليائه غَيبَةً لا يَثبتُ فيها على القول بامامته إلاّ مَنْ إمتحَنَ اللّه قلبَه للإيمان»(1)

ففي هذا الزمن الذي كثرت فيه الأفكار و الآراء المضلّة، و في هذا الدور الذي هو دور التمحيص و التخليص، على المرء أنْ يستغيث باللّه طلبا للثبات على العقيدة الصحيحة، و أنْ يداوم على هذا الدُّعاء:4.

ص: 234


1- كمال الدين، الباب الثالث و العشرون، ح 1-\3، و كفاية الأثر: ص 54.

«يا أللّه يا رحمن يا رحيم يا مقلِّبَ القلوب ثَبِّت قلبي على دينِك»، و أن يستحضر دائماً عقائده، و أن يودعها عند ربِّ العالمين بقراءة هذا الدعاء المنقول عن فخر المحققين - \عليه الرحمة - \:

«اللّهمَّ يا أرحَمَ الراحمين إنّي قَدْ أودَعتُكَ يَقيني هذا و ثَبات ديني و أنتَ خيرُ مُستَودَعٍ و قد أمرتَنا بحِفظِ الوَدايِعِ فَرُدَّهُ عليَّ وقتَ حُضور مَوْتي»(1)

و نُقل عن البعض، قراءة هذا الدعاء بعد الإقرار بالعقائد الحقَّة:

«يا أللّه يا رحمان يا رحيم أودَعتُكَ هذا الإقرار بكَ و بالنَّبي صلى الله عليه و آله و بالائمة - \ عليهم السلام - \و أنت خير مُستودعٍ فرُدَّ عليَّ في القبْر عند مسألة منكرٍ و نكير»(2)

إجمالاً، إنَّ جوهرة الاعتقاد باللّه و بالرسول و الائمة - \عليهم السلام - \لا تضاهيها لا تساويها جوهرة في الكمال و الغلاء، فلو أنَّ الإنسان فَقَد الدنيا بما فيها و حافظ على عقيدته، فلا ضَير عليه، و أمّا إذا فقد عقيدته فقد خسر الدنيا و الآخرة مهما كان عنده، و من ثمَّ نجد المحتالين و القراصنة و السَّراق قد نصبوا شباكهم لإختلاس هذه الجوهرة النفسية.

«عصمنا اللّه تعالى من فساد العقيدة و رزقنا الإيمان بتمامه و كماله و6.

ص: 235


1- مفاتيح الجنان: ص 86، و من جملة الأدعية لحفظ الدين و كمال الإيمان، الدعاء المنقول في المفاتيح أيضاً عن الشيخ الطوسي - \عليه الرحمة - \عن الإمام الصادق عليه السلام و الذي يُقرأ بعد كل صلاة واجبة، و الدعاء موجود في مفاتيح الجنان: ص 68.
2- منازل الآخرة: ص 116.

الثّبات عليه بحقِّ محمد و آله الطاهرين - \صلوات اللّه عليهم - \.

الثالث: في هذا القسم، نلاحظ أنَّ الإمام عليه السلام قد دعا للسيد عبد العظيم بتثبيت اللّه له على القول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة، و هذا الدعا مقتبس و ماخوذ من قوله تعالى:

«يُثبِّتُ اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدَّنيا و في الآخرة»(1)

و التي يستفاد منها أن اللّه تعالى يثبت إيمان المؤمنين على القول الثابت - \و الذي هو بحسب بعض الروايات، كلمة التوحيد، و في كلام الإمام هنا هو كلُّ هذه الأقوال الثابتة - \في الحياة الدنيا و في الآخرة.

و يظهر من كلمات البعض، إنَّ أحد مصاديق أو أهمّ مصاديق التثبيت على القول الثابت، هو في حالة الإحتضار و النزع و ظهور سكرات الموت، و هي حالٌ خطيرة جدّاً، نعوذ باللّه من هولها.

فينبغي على المؤمن أن يطلب من اللّه، حُسنُ العاقبة و الموت بإيمان خالصٍ.

و من الطبيعي فانّ المواظبة على الطاعات و العبادات و ترك المحرمات، و مجالسة الأخيار، و المواظبة على قراءة القرآن و التأمل في الآيات و سائر الأعمال النافعة، موثرة بأجمعها ساعة الإحتضار، و إنَّ خواتيم الامور مرتبطة بنحوٍ ما بسوابقها الحسنة.

فعلى المؤمن السالك لطريق الشرع أن يواظب في كلِّ الجهات و أن يحذر7.

ص: 236


1- إبراهيم - \الآية 27.

سوء الخاتمة، و أن يداوم على قراءة الأدعية المفيدة لحسن العاقبة و النجاة من العدول عن العقائد الحقة.

كما إنه يستحب لذوي الميت أنْ يلقّنوه الشهادتين و العقائد الحقَّة في حال إحتضاره، و خاصة كلمة التوحيد، و كما ورد في الخبر: «لَقِّنو مَوتاكُم لا إلهَ إلاّ اللّه»(1)

و يقول السيد في «الدُّرَّة»:

و لقن الشهادتين المحتضر

و أمّا الثبات على العقيدة في الآخرة، فقد ورد في جملة تفاسيره أنّه الثبات حال سوآل منكرٍ و نكير، عند ما يسألونه: من ربُّك؟ ما دينُك؟ من نبيُّك؟ من إمامُك؟

فيقول: اللّه جلَّ جلاله ربّي، و الاسلامُ ديني، و محمّد نبيّي، و علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمّد و موسى بن8.

ص: 237


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 78.

جعفر و علي بن موسى و محمد بن علي و علي بن محمد و الحسن بن علي و الحجَّة بن الحسن - \عليهم السلام - \ائمتي.

«اللهمَّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا و لقنَّا حجَّتنا عند موتنا و لا تكِلنا إلى انفسنا طرفة عين أبداً في الدنيا و الآخرة و أحينا حياة محمد و أهل بيته و أمتنا مماتهم، و ارزقنا شفاعتهم و أحشرنا في زمرتهم، و صلّ عليهم صلاة لا يحصى عددها و اغفر لنا و لوالدينا و لمن كان له حق علينا و لجميع المؤمنين و المؤمنات يا خير الناظرين و يا ارحم الراحمين.»

ص: 238

بين العلمين الشيخ الصدوق و الشيخ المفيد

اشارة

ص: 239

ص: 240

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدللّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء

والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين

لاريب في أنّ للإعتقاد الصحيح أو الفاسد تأثيراً كبيراً في تقدم الإنسان ورقيه وكماله وسعادته، وبناء شخصيته في الدنيا والآخرة، أو إنحطاطه وتأخّره فيهما فالعقيدة هي التي تدفع الإنسان إلى العمل والنشاط والتضحية والإيثار، والعقيدة هي التي تسوق إلى النهضة والثورة والمقاومة والثبات في الجهاد والحرب، وهي من وراء السلام والإعمار أو الدمار.

وإنّ مظاهر التمدن والحضارة التي تبدو في صور مختلفة كلها ناشئة عن العقيدة...

فالمسجد تبنيه العقيدة، ومعبد الأصنام ترعاه العقيدة أيضاً، ومراحل النمو السياسي والفكري والإجتماعي والإقتصادي في كل أُمة أو قوم إنّما ترتبط بعقيدتهم.

ص: 241

والأنبياء والرسل أساس هدايتهم العقيدة، العقيدة بالتوحيد وسائر الاعتقادات النزيهة عن الخرافات.

وقد أوضح نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه و آله للبشرية بكلمة طيبة وهي: (لاإله إلا اللّه) عقيدة التوحيد، ونفي الشرك وجعلها أساس دعوته وتبليغه، وإن قسما مهماً من آيات القرآن المجيد يدعو إلى الإعتقاد الصحيح والعقائد الحقة.

والمسائل الأخلاقية والعبادية والعملية تعد في المرحلة الثانية والثالثة من مراحل هداية الأنبياء وتعاليمهم للبشر (بعد مرحلة التوحيد)، والفقه الأكبر الذي هو حسن المعرفة باللّه، الشامل لجميع المسائل الاعتقادية كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، إنّما هو الإيمان والاعتقاد بهذه الحقائق...

وجميع المواجهات والتصديات التي كان يقوم بها المشركون بوجه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله إنّما كانت مواجهات وتصديات لما كان يبديه من إعتقاده!...

وعلى كل حال؛ فإنّه ما لم تصح عقيدة الإنسان والمجتمع وتخلص من الخرافات وتتنزه عن الأوهام، فلاسبيل للمجتمع إلى الرقي الحقيقي والرشد والتقدم، بل حتى لو قدر له أن يتقدم في المظاهر المادية أو الظواهر الإقتصادية فإن ذلك سيحدث له صعوبات ومشاكل، وسيبتلي بالظلم والإستكبار والإستعلاء، ولذا فإنحراف العقيدة وتلوّن الاعتقاد أشد خطراً من أي سقم ومرض...

لذا فثمة تعاليم مهمّة يطبّقها الإسلام صوناً للأنام عن الانحراف العقائدي والفساد الفكري، لئلا يختطف المدلسون وسرّاق العقيدة هذه الثروة الإنسانية

ص: 242

النفيسة التي لا نظير لها، فكان من هذه التعاليم والفرائض المهمة وجوب كشف البدع والبراءة من أهل البدع، والرد على شبهاتهم، وتحريم نشر عقائدهم الفاسدة، والحظر على انتشار كتب الضلال، ووجوب إبطال الباطل وإظهار الحق، ونظائر هذه الأمور وذلك من أجل صيانة العقائد عن الانحراف، وحماية ثغور المسلمين الفكرية والعقائدية.

فمثل هذا التحذير (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) والتأكيد على مجالسة العلماء والإجتناب عن مجالسة أهل البدع إنّما كان ذلك لهذا الغرض.

وما يأمر به القرآن الكريم في قوله تعالى: [وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره](1) وفي قوله تعالى: [إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذاً مثلهم](2) كل ذلك للحفاظ على العقائد والأخلاق وصونها...

وإنّ على كل مسلم أن ينظر في عقائده ليطمئن إلى مطابقتها لتعاليم القرآن المجيد وإرشاداته، وتعاليم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسيرته. وليخلص نفسه من خطر الضلال.

والمرجع الأول أو الأساس لبلوغ الإنسان هذا الهدف هو القرآن المجيد، والأحاديث المتواترة المقطوعة الصدور التي رواها رواة أحاديث علوم أهل0.

ص: 243


1- الأنعام: الآية 68.
2- النساء: الآية 140.

البيت عليهم السلام وحملة علومهم.

ثم عليه أن يعرض دينه في الدرجة الثانية على العلماء الذين لهم تعمّق في القرآن والحديث، وليس الغرض من ذلك التقليد طبعاً، بل من أجل أن يتعلّم منهم ويصل إلى اليقين والإعتقاد بالاستدلال المناسب في كل باب.

ومن جملة السبل لتصحيح الاعتقاد من حيث مباني الاعتقاد الإسلامي مطالعة الكتب التي ألّفها أساطين العلماء أمثال الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ المجلسي(1) والشيخ البهائي، والشهيدان ونصير الدين الطوسي، وغيرهم من الأعاظم ممن كتب في الاعتقادات.

ولايخفى أنّ كتب الاعتقادات والعقائد في أصول الدين وسائر عناوينه كثيرة جداً، يضاف إليها ما كتب بكثرة في بعض المسائل الإعتقادية بوجه خاص، كالتوحيد والنبوة والإمامة.

والهدف من تأليف هذه الكتب هو أن لئلّا يضيف ذوو الأهواء والأغراض والمبدعون شيئاً على العقائد والمعارف الإسلامية، ولتصان المسائل الاعتقادية والمباحث التي استنبطت من مصدر اسلامي للرد ثانياً على أُولئك الذين ينسبون إلى المسلمين وخاصة شيعة أهل البيت عليهم السلام منهم العقائد الفاسدة ردّاً قامعاً،ه.

ص: 244


1- من الطريف أن نذكر هنا أن هذه (الاعتقادات) التي جمعها العلامة المجلسي في 750 بيتاً، وفقاً لما يرويه المحدث النوري في ليلة من اخريات ليالي محرم الحرام سنة 1086 ه ق في مشهد الرضا عليه السلام، هي حسب تصورنا دليل على تأييده من عند اللّه لاستحضاره الذهني وإحاطته الشاملة، وهي كسائر التوفيقات التي لا نظير لها التي كانت من نصيب مفخرة الإسلام المجلسي قدس سره.

والفائدة الثالثة: هي أن ينظر المسلمون فيها ليصححوا اعتقاداتهم ويعرفوا آراء علماء مذهبهم.

ومما لاينبغي أن يجهل أن بعض هذه الكتب لو اشتملت على مسائل لا يجب الاعتقاد بها في حد نفسها، فهو لكي تحتضن الثقافة الإسلامية جميع المسائل التي تتعلّق بالمعارف الإسلامية من تفسير، وقصص أنبياء، وما يجري في القيامة وعالم البرزخ، والملائكة والجنة والنار، والأمور الأخرى المستفادة من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة، ولئلا يؤول أحد القرآن أو الحديث حسب ظنه وسليقته على خلاف ظواهره، والمعاني المقبولة فيعد ذلك عرفاناً أو فلسفة من نفسه، ثم ينسبه إلى الإسلام وأولياء الإسلام.

من أجل ذلك كانت مطالعة كتب العقائد مفيدة جداً، نافعة مانحة الوعي والمعرفة.

كتابان قيمان

من جملة الكتب القيمة النفيسة التي ألفت في هذا الحقل كتاب (الاعتقادات) للشيخ الجليل الحافظ لأسرار علوم آل البيت عليهم السلام الشيخ الصدوق، وكتاب (تصحيح الاعتقاد) للشيخ الأعظم فخر الشيعة، وقامع البدع، ورافع رايات الحق الشيخ المفيد رضوان اللّه تعالى عليهما.

فهذان الكتابان قيمان نافعان متضمنان فوائد جمة، وإنّ مطالعتهما جميعاً تفتح للقراء آفاقاً بعيدة المدى. في كتاب (الاعتقادات) مسائل يجب على الكل

ص: 245

الاعتقاد بها، كما ذكرت إلى جانبها مسائل لايجب الاعتقاد بها، وفي بعض الموارد أُثيرت بحوث فقهية وفرعية وعملية، وهي تحت عنوان (اعتقادنا) ولم تفرق بين هذه المسائل لامن قبل الشيخ أبي جعفر الصدوق نفسه، ولا من قبل أبي عبداللّه المفيد.

وما هو مسلم في المسائل التي لايجب الاعتقاد بها أنّه ينبغي أن يكون الاعتقاد بها غير مخالف للمسائل والاعتقادات الواجبة الأصلية، ولامخالفاً لضروريات الدين، لكن لايلزم أن يكون الإنسان معتقداً بهاأو بكيفيات بعضها الآخر، وإن كان يجب الاعتقاد بأصلها ولا يكلف الانسان بأن يعتقد بها او يبلغ درجة اليقين فيها.

فمثلاً في باب الاعتقاد في التكليف: الاعتقاد بأنّ اللّه تعالى يكلف بما لايطاق لكان ذلك منافيا للعقيدة بعدل الباري، وتنزهه عن الصفات والأفعال القبيحة، إلّاأنّه لا يلزم مع الاعتقاد بتنزه اللّه تعالى عن فعل القبيح، الالتفات إلى تفاصيله مثل أنه تعالى لا يكلّف بما لايطاق.

وفي باب الجبر والتفويض: الإعتقاد بالجبر المستلزم إثبات صدور الظلم والقبيح عن اللّه مناف للاعتقاد بالعدل، والاعتقاد بالتفويض في بعض معانيه مناف للتوحيد، إلّاأن عدم الالتفات (بالأمر بين الأمرين) إذا لم يكن مفهومه العقيدة بأحد الأمرين لا يوجب الخروج عن الإيمان، فليست معرفة الأمر بين الأمرين شرطاً في الإيمان.

وفي مسألة الوحي: يجب الاعتقاد بالوحي وارتباط النبي بعالم الغيب، ورسالته من قبل اللّه ونبوته، لكن لايجب الاعتقادبكيفية ذلك وإن افترضناإمكان

ص: 246

معرفته واستيعابه.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في الاعتقادات مما لسنا في صدد استقصائه، ولعلنا سنشير إلى بعضها خلال بحثنا في أبواب هذين الكتابين.

والآن نَود بمراجعتنا هذين الكتابين للتلمذة أن نجلس في مدرسة علم هذين نابغتين في الحديث والكلام وعَمَدَين معارف الدين، ونَنهل من معانيهما الفياض، وأن نقتطف من ثمار علومهما اليانعة.

وأول باب فتحه أبو جعفر عليه الرحمة في هذه الرسالة الموسومة بالاعتقادات، باب له تقدم مطلق على جميع الأبواب، وهو باب التوحيد الذي عبر عنه ب (باب اعتقاد الإمامية في التوحيد) ثم قال:

(إعلم أنّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ اللّه تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولايزال سميعاًبصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيوماً، عزيزاً قدوساً، عالماً قادراً غنياً، لايوصف بجوهر ولاجسم ولاصورة ولاعرض ولاخط ولاسطح، ولاثقل ولاخفة، ولاسكون ولاحركة، ولامكان ولازمان، وإنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج (عن الحدين) حد الإبطال وحد التشبيه).

ثم واصل هذه الكلمات الرفيعة العرفانية مشيراً إلى بعض آيات القرآن وتفسيرها.

ومنها: هذه الآية الكريمة: [يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود.. وهم

ص: 247

سالمون] (1) فقال في مقام نفي توهم دلالة الساق على ساق الرِجل: الساق وجه الأمر وشدته.

وقال المفيد قدس سره أيضاً «يوم يكشف عن ساق» يريد به: يوم القيامة ينكشف فيه عن أمر شديد صعب عظيم وهو الحساب والمداقّة على الأعمال والجزاء.

ومنها هذه الآية: [والسماء بنيناها بأيد](2) فقال في تفسيرها: الأيد: القوة، ومنه قوله تعالى: [واذكر عبدنا داود ذا الأيد](3) يعني ذا القوة.

وجاء في كلام المفيد (ومضى في كلام أبي جعفر رحمه اللّه شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: [واذكر عبدنا داود ذا الأيد](4) فقال: ذو القوة).

قال الشيخ المفيد: وفيه وجه آخر وهو أنّ اليد عبارة عن النعمة قال الشاعر:

له عليّ أياد لست أُكفرهاوإنّما الكفر ألاّ تشكر النعم

فيحتمل أن قوله تعالى: [داود ذا الأيد](5) أن يريد به: ذا النعم، ومنه قوله تعالى [بل يداه مبسوطتان](6).

أقول: كأنّه اشتبه الأيد المفرد الذي هو بمعنى القدرة والقوة بالأيد الذي جمع64

ص: 248


1- القلم: الآية 42 و 43.
2- الذاريات: الآية 47
3- ص: الآية 17
4- ص: الآية 17.
5- ص: الآية 17.
6- المائدة: الآية 64

يد، والشيخ أبو جعفر فسّر الآية على الأيد المفرد لا على الأيد الذي هو جمع، والشيخ أبو عبد اللّه فسّره على ما هو جمع اليد. والظاهر هو الأول الذي فسر اللفظ به.

ومنها تفسيره لهذه الآية: [ونفخت فيه من روحي](1) إذ قال: وهو روح مخلوقة جعل اللّه منها في آدم وعيسى، وإنّما قال روحي كما قال بيتي وعبدي وجنّتي، أي مخلوقي وناري وسمائي وأرضي.

وقد استدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد على هذا التفسير فقال (ليس وجه إضافة الروح إلى نفسه والبيت إليه من حيث الخلق فحسب، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام والإجلال).

لكن هذا الاستدراك على الصدوق - كما يبدو - غير موجه؛ لأنّ الظاهر هو أنّ الغرض من وصف الروح بقوله: هي روح مخلوقة، بيان حدوث الروح ومخلوقيتها وإثبات صفات الحدوث والمخلوقية لها، ودفع توهم عدم حدوثها لا أنّه لم يلتفت الى أنّ الإضافة تكريمية وتشريفية، ويكفي دليلاً على التفاته إلى هذه اللطيفة أنّه في مقام التشبيه شبه إضافة الروح بإضافة البيت إلى ذاته المقدسة.

ومن الآيات التي فسرها الصدوق في هذا الباب في رفع توهم المجسمة قوله تعالى: [يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَىَّ](2) فقال: إنّ المراد: بقدرتي5.

ص: 249


1- الحجر: الآية 29 و ص: الآية 72.
2- ص: الآية 75.

وقوتي.

وقد استدرك عليه الشيخ المفيد فقال: هذا يفيد تكرار المعنى فكأنّه قال:

بقدرتي وقدرتي، أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة، بل المراد من (بيدىَّ) هو: بنعمتيَّ، والمراد منهما نعمة الدنيا ونعمة الآخرة و (الباء) في قوله تعالى (بيدىَّ) تقوم مقام اللام واللام لام الغاية، أي خلقت لنعمتيَّ كما قال في سورة الذاريات: [وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون](1) ثم قال: وفي تأويل الآية وجه آخر وهو أن المراد باليدين فيهما هو القوة والنعمة فكأنّه قال:

خلقت بقوتي ونعمتي، وفيه وجه آخر وهو أن إضافة اليدين إليه إنّما اريد تحقق الفعل وتأكيد إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة، وشاهد ذلك قوله تعالى: [ذلك بما قدّمت يداك](2) والعرب تقول (يداك أوكَتا، وفُوك نَفخ).

ومما تجدر الإشارة إليه هو أنّ الصدوق قال في تفسير الآية أيضاً: [بل يداه مبسوطتان] يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وربّما استفيد ذلك من قول اليهود: [يد اللّه مغلولة](3) حيث ذكروا اليد مفردة بمعنى أنّ اليهود لما كانوا غير معتقدين بعالم الآخرة، بل كانوا يعتقدون بنعمة الدنيا وهذا العالم فحسب، فإنّهم عبروا عن ذلك باليد، وبما أنّهم كانوا يزعمون أنّ4.

ص: 250


1- الذاريات: الآية 56.
2- الحج: الآية 10.
3- المائدة: الآية 64.

هذا العالم يجري لوحده وأنّ اللّه فرغ منه وخرج عن أمره، فقد أنكروا استمرار نعمة اللّه وإفاضة فيضه، ولذا فقد عبر عن قولهم: [يد اللّه مغلولة]

وفي عبارة: [بل يداه مبسوطتان] رد على الإعتقادين الفاسدين، وذلك بأنّالدنيا ونعمتها واستمرارها منه سبحانه، والآخرة ونعمتها واستمرارها من قبله أيضاً. فاللّه لم يفرغ من الأمر و [كلُّ يومٍ هو في شأن](1).

أما تفسيره لقوله تعالى: [لما خلقت بيدي] حيث إعتبر الباء بمعنى اللام وجعل اللام للغاية فيبدو بعيداً، أضف إلى ذلك أن لفظي القوة والقدرة ليسا مترادفين بمعنى واحد، فمعناهما مختلف بحسب اللغة، ولذا فقد قيل في الأسماء الحسنى للّه: إن معنى القادر غير معنى القوي.

وبعد هذا نقول: يبدو أنّ أظهر الوجوه في تفسير الآية الشريفة هو الوجه الثالث من الوجوه التي أشار إليها المفيد، وهو بما أن ظهور قدرة الإنسان إنّما يكون بكلتي يديه، وبكلتي اليدين تتجلى القدرة بصورة أكمل وأكثر لذا فقد بيّن بهذا التعبير ظهور كمال قدرة اللّه في خلق آدم وعبر عن ذلك [بيديَّ]، وليس المراد منه أنّ قدرة اللّه لها مراتب، وليس شأنها كما هي الحال بالنسبة إلى المقدورات كالإنسان مثلاً، إذ لايستطيع أن يحمل بيد واحدة ما ينبغي حمله بيديه معاً.

وفي علم اللّه وقدرته لايوجد هذا التفاوت والإختلاف فيهما بالنسبة إلى المقدورات والمعلومات، لكن قدرة اللّه الواسعة غير المتناهية هذه هي التي9.

ص: 251


1- الرحمن: الآية 29.

أظهرها بخلق المخلوقات الصغيرة والكبيرة، وما يرى وما لايرى، والإنسان والحيوان، والملائكة والمجردات، والنمل والجراد، والذرة الخ.

وفي ذكر بيان وجود الإنسان إظهار للقدرة بصورة أجلى، ومن البشر الكاملين آدم عليه السلام وسائر الأنبياء، وخاصةً الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه و آله وأوصياءه، فهم أكمل وأجلى وأتم صورةً لإظهار قدرة اللّه.

ولهذه الجهة كان التعبير (بيديّ) في خلق آدم أكثر ملائمة ومناسبة وموافقة للبلاغة. واللّه هو العالم بمراده.

ومن جملة الآيات التي فسّرها الصدوق في هذا الباب، دفعاً لتوهم النقص في ذات الباري تعالى، هذه الآيات: [يخادعون اللّه وهو خادعهم](1) وقوله تعالى:

[ومكروا ومكر اللّه] (2) و [اللّه يستهزي بهم](3) فقال: وفي القرآن: [يخادعون اللّه وهو خادعهم](4) وفيه أن [اللّه يستهزئ بهم](5) وفي القرآن: [سخر اللّه منهم](6) وفيه: [نسوا اللّه فنسيهم](7) ومعنى ذلك كله أنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر، وجزاء المخادعة، وجزاء الإستهزاء، وجزاء النسيان، وهو أن67

ص: 252


1- النساء: الآية 142
2- آل عمران: الآية 54
3- البقرة: الآية 15
4- النساء: الآية 142.
5- البقرة: الآية 15.
6- التوبة: الآية 79
7- التوبة: الآية 67

ينسيهم أنفسهم كما قال عزوجل: [ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم](1) ؛ لأنّه عزوجل في الحقيقة لايمكر ولايخادع ولايستهزيء ولايسخر ولاينسى، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقد استدرك المفيد عليه قائلاً (هو كما قال إلّاأنّه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه أنّ العرب تسمي الشيء باسم المجازى عليه للتعلّق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء سمي بأسمائها (ص 21).

ثم استشهد بهذه الآية: [إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً](2) ثم قال (فسمى ما يأكلون من الطيبات تسمية النار وجعله ناراً لأن الجزاء عليه النار).

وبديهي أنّه إذا كان غرض المفيد من الإستشهاد بهذه الآية ليبين أنّه بمجرّد المقارنة بين الجزاء والمجازى عليه يطلق أحدهما على الآخر كما هي الحال في آيات المكر والخديعة والإستهزاء، اذ اطلق الجزاء وأُريد به المجازى عليه، وفي هذه الآية انعكس الأمر فاُطلق المجازى عليه مكان الجزاء وهو النار، فذاك إتمام للمطلب.

وقد استدرك المفيد على الصدوق في تفسير قوله تعالى: [نسوا اللّه](3) فقال:9.

ص: 253


1- الحشر: الآية 19
2- النساء: الآية 10
3- الحشر: الآية 19.

النسيان في اللغة هو الترك والتأخير، وبناء على هذا فمعنى: [نسوا اللّه] تركوا إطاعة اللّه ومعنى: [نسيهم] تركهم من ثوابه، ومعنى قوله تعالى: [فأنساهم أنفسهم](1) أي ألجأهم إلى ترك تعاهدها إلخ.

لكن يمكن أن يقال إنّ المتبادر إلى ذهن العرف هو تفسير الصدوق واللّه أعلم.9.

ص: 254


1- الحشر: الآية 19.

الاعتقاد في صفات الذات وصفات الأفعال

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق (كلما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته؛ فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدها عنه عز وجل ونقول: لم يزل اللّه عز وجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً، وهذه صفات ذاته (ص 8) ولانقول: إنّه عز وجل لم يزل خلاقا فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً، لأن هذه الصفات صفات أفعاله وهي محدَثة لايجوز أن يقال: إنّ اللّه لم يزل موصوفاً بها).

أما المفيد فقد استدرك على الصدوق قائلاً (صفات اللّه تعالى على ضربين، أحدهما: منسوب إلى الذات فيقال: صفات الذات وثانيهما: منسوب إلى الأفعال، فيقال: صفات الأفعال والمعنى في قولنا: صفات الذات أنّ الذات مستحقة لمعناها استحقاقاً لازماً لا لمعنى سواها، ومعنى صفة الفعل: أنّ اللّه - بوجود الفعل وصدوره عنه - يوصف بالفعل وبدونه، أو كما قال المفيد... قبل وجوده لايوصف به، فصفات الذات تطلق على الذات، واللّه متصف بها دون

ص: 255

واسطة معنى آخر غير ذاته جل وعلا، إلّاأنّ اتصافه بصفة الفعل بواسطة معنى آخر وهو صدور الفعل عنه.

وقال: إنّ صفات الذات لايصح لصاحبها الوصف بأضدادها ولاخلوه منها، وأوصاف الأفعال يصح الوصف لمستحقيها بأضدادها وخروجه عنها، ألا ترى أنّه لايصح وصف اللّه تعالى بأنّه يموت، ولا بأنّه يعجز، ولا بأنّه يجهل، ولايصح الوصف عن كونه حياً عالماً قادراً ويصح الوصف بأنّه غير خالق اليوم ولارازق لزيد ولامحيي لميت، الخ.

وتوضيحاً لذلك نقول: الظاهر أنّ الصدوق أراد من قوله (كلما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته؛ فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدها...) نفي الصفات الزائدة على الذات ولانقول (اللّه علمٌ وعالم ذاته وعلمه).

كأنّه أراد أن يقول: إنّ مدلول العالم والقادر... وما يفهم من ذلك مع ملاحظة نفي الصفات الزائدة على الذات: أنّ اللّه ليس بجاهل أو اللّه ليس بعاجز، وبتعبير آخر: لعل مراده أنّ الفرق بين صفة الذات وصفة الفعل، أنّ مفهوم صفة الذات هو نفي ضدها عن اللّه، أي معنى (اللّه عالم) هو إثبات العلم للّه، بهذا المفهوم أن ضده منفي عن اللّه، وأن اللّه ليس متّصفاً بضد ذلك و (ليس بجاهل) الذي مفهومه نفي كل نوع من الجهل كالجهل بالجزئيات، لأنّ نقيض السالبة الكلية (ليس بجاهل) الموجبة الجزئية (جاهل بالجزئيات) بخلاف قولنا (اللّه الشافي) أو اللّه الكافي الذي ليس مفهومه أن اللّه ليس بالشافي وليس بالكافي. وبهذين المعيارين تتميز صفات الذات عن صفات الفعل.

واللطيفة المهمة الأخرى هنا: هي أنّه إذا كانت في الصفات التي ذكرها

ص: 256

الصدوق، وسائر صفات اللّه الكمالية، سواء كانت جمالية أو جلالية، ما اختلف فيه أهي صفة الذات أم صفة الفعل، ولم تتضح ماهيتها من الكتاب والسنة؛ فإنّ طريق السلامة والنجاة أن نتجنب الخوض فيها ونكتفى بالإعتقاد الإجمالي في مورد الاعتقاد والتدين بها، وأن نعرض عن الجدل والنقاش في مثل هذه الأمور.

وينبغي أن نروي بعض الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة في هذا المقام لمناسبة الكلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لمحمد بن مسلم: «يا محمد، إن الناس لايزال بهم المنطق حتى يتكلموا في اللّه فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لااله إلا اللّه الواحد الذي ليس كمثله شيء»(1). وروي عنه عليه السلام أنه قال أيضاً «من نظر في اللّه كيف هو هلك»(2).

كما روي عن أحد الصادقين (إما الباقر أو ابنه أبي عبد اللّه عليهما السلام) أنّه عند ما سُئل عن شيء من الصفة: «فرفع يده إلى السماء ثم قال: تعالى الجبار تعالى الجبار من تعاطى ما ثَمَّ هلك!»(3).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الإقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: [آمنا به كلٌ من عند ربنا](4) وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم7.

ص: 257


1- الكافى: ج 1 ص 92.
2- الكافي: ج 1 ص 93.
3- الكافي: ج 1 ص 94.
4- آل عمران: الآية 7.

التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً»(1).

الاعتقاد في التكليف

لم يستدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب على الشيخ الصدوق رحمهما اللّه وخلاصة كلام الشيخ أبي جعفر هو أن اللّه تعالى لم يكلف عباده إلّا دون ما يطيقون واستشهد بقوله تعالى: [لايكلف اللّه نفساً إلا وسعها](2) ثم فسّر الوسع بأنه (دون الطاقة) كما تمسك بحديث روي عن الصادق عليه السلام في هذا الشأن أيضاً.

الاعتقاد في أفعال العباد

قال الصدوق عليه الرحمة: اعتقادنا في أفعال العباد أنّها مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالماً بمقاديرها.

وقد إستدرك الشيخ المفيد قدس سره على الشيخ أبي جعفر بقوله: الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه و آله أنّ أفعال العباد غير مخلوقة للّه، والذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معمول به ولامرضي الإسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أنّ العلم بالشيء هو خلق له، ولو كان ذلك - كما قال المخالفون للحق - لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه و آله فقد خلقه، ومن عَلِمَ

ص: 258


1- نهج البلاغة [شرح صبحي الصالح]: الخطبة 91.
2- البقرة: الآية 286.

السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئاً من صنع اللّه تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقاً له. وهذا محال لايذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الأئمة عليهم السلام فضلاً عنهم...

فأما التقدير فهو الخلق في اللغة؛ لأنّ التقدير لايكون إلّابالفعل، فأما بالعلم فلايكون تقديراً ولايكون أيضاً بالفكر، واللّه تعالى متعالٍ عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال.

وعقّب على ذلك برواية عن أبي الحسن الثالث عليه السلام فقال: إنّه سئل عن أفعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة للّه تعالى؟ فقال عليه السلام: «لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه: [اللّه بريءٌ من المشركين ورسولُه](1) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرّأ من شركهم وقبائحهم»(2). ثم ذكر الإمام عليه السلام ما جرى بين أبي حنيفة والإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في هذا المقام واستشهد ببعض الآيات التي تدلّ على تنزّه اللّه عن فعل القبيح.

ونحن نقول في هذا البحث: من المتيقن به أنّ الشيخ الصدوق كالشيخ المفيد لا يرى أنّ اللّه فاعل أفعال العباد، وما ذكره الشيخ المفيد من الآيات والروايات فيه تطابق نظر ووحدة رأي بينه وبين الشيخ الصدوق، إلّاأنّه هنا أراد أن يفسر ظواهر من قبيل (اللّه خالق كل شيء)(3) أو (كلٌّ من عند اللّه)(4) ففي الوقت78

ص: 259


1- التوبة: الآية 3
2- بحار الأنوار: ج 5، ص 20.
3- الزمر: الآية 62
4- النساء: الآية 78

الذي يكون الإنسان نفسه فاعل أفعال نفسه، لكن لما كان العلم بما فيه من هذا النظام والترتيب والتقدير، ومن جملته كون الإنسان مختاراً هو فعل اللّه ومحكوم تقديره، فمن هذه الجهة يكون صدور المعصية والقبيح من الإنسان باختياره بتقدير اللّه ومن لوازم خلقه وتقديره وآثارهما أيضاً، لذا فلو قيل بأنّ أفعال العباد هي مخلوقة من اللّه، فإنّه لم يقع في ذلك خلاف ولاإثبات نقص واستناد قبيح إليه سبحانه، ولعل ذلك هو معنى (الحديث القدسي) (يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك).

وبديهي أنّ العالم بالمقادير هو خالق التقادير، ومن هذا المنطلق جاز أن يطلق عليه خالق المقادير، وهذا هو غير الفعل المتعلق بالتقدير الواقع في التقدير، كما أن تقدير أمور عالم الخلق ونظامه المقدر والمقرر، غير العلم بالنظام والتقدير، وعلم اللّه وإن كانت حقيقته التي هي حقيقة الذات عينها غير معلومة لأحد، إلا أننا نعلم هذا القدر وهو أن غير العلم مخلوق.

إذن فلايمكن القول: بأنّه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة بخلق التقدير فمن علم النبي فقد خلقه فهذا الإشكال لا يرد ونقول: فإنّه لايرد على الصدوق، أي:

إشكال، وما قاله الصدوق وتوضيحنا عليه هو ما قاله الشيخ المفيد في ذيل (باب الجبر والتفويض).

وعلى كل حال فما قاله المفيد هو الحقيقة عينها، وهو أنّ (اللّه تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال) وهذه حقيقة يعتقد بها الصدوق وأهل العلم جميعاً والشيعة قاطبة، والآيات والروايات صريحة في ذلك، ولايتهم أي شيعي بغير هذا الإعتقاد.

ص: 260

أما الاستدلال بخصوص الآية: [ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت](1) فمحل نظر وتأمل، لأننا إذا لم نقل: إنّ الخلق - هنا - ظاهر في معناه المصدري وهو الإيجاد، لابمعنى اسم المصدر، فعلى الأقل أنّ المعنى الثاني غير راجح أو ليس بأرجح من المعنى الأول.

الاعتقاد في نفي الجبر والتفويض

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق: إعتقادنا في الجبر والتفويض قول الإمام الصادق عليه السلام «لاجبر ولاتفويض بل أمر بين أمرين» فقيل له: وما أمر بين أمرين؟ فقال: «ذلك مثل رجل رأيته على معصيته فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لايقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».

ولتوضيح هذا الحديث الشريف وقبل التعرض إلى كلام الشيخ أبي عبد اللّه المفيد نقول: يحتمل أن يكون المراد أن الأمور غير مفوَّضة إلى الناس أنفسهم، وإلّا لكان كل من التكليف والأمر والنهي في غير محله، كما أنّ الإختيار لم يسلب منهم، وإلا لما كان يتحقق منهم العصيان في التكاليف.

وهذا البيان يكون وجيهاً في صورة مالو كان المراد من التفويض هو التفويض المطلق، أي: الأعم من التفويض التكويني و التشريعي؛ لأنّ التفويض التشريعي ينتفي بهذا البيان.

ويمكن أن يبين بهذا النحو وهو أنّ الأمر بين الأمرين، يعني أن نهي العبد عن

ص: 261


1- الملك: الآية 3

المعصية لايكون سبباً عن صدّه عن المعصية، وتركه على حاله لايكون دافعاً له إلى المعصية، وفي هذا الأمر (الوسط) يكون اختياره محفوظاً لكنّه ليس بلاتكليف ولامفوض إليه.

إلّا أنّ الشيخ أبا عبد اللّه المفيد عرف الجبر أولاً فقال: هو الحمل على الفعل... بالقهر والغلبة، وحقيقته إيجاد الفعل في الخلق دون أن يكون لهم القدرة على الإمتناع. ثم قال: وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف والإلجاء، أنه جبر، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على إمتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لأنهم يزعمون أنّ اللّه تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والإمتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك، فهم المجبرة حقاً والجبر مذهبهم على التحقيق.

والتفويض: هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين: أنّ اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها الخ...(1).

وتعقيباً على ما قاله هذان الشيخان العظيمان، ينكشف بما ذكرناه آنفاً من شرح توضيحي لمفاد الرواية التي رواها الشيخ الصدوق عليه الرحمة - أن3.

ص: 262


1- راجع تصحيح الاعتقاد: ص 32-33.

التفويض عندهما جميعاً بمعنى واحد.

كما ينبغي أن نستدرك قائلين: إن التفويض اطلق على معنيين آخرين:

أحدهما: تفويض الخلق والرزق إلى الأئمة عليهم السلام كما روي عن الإمام الرضا عليه السلام حيث قال: «من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليه فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ اللّه فوّض الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال:

بالتفويض. فالقائل: بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك»(1).

وما يلمس من خلال هذا التعريف: أنّ مورد الجبر والتفويض ليس واحداً، فالجبر في مورد أفعال العباد، والتفويض في أمر الخلق والرزق، ووفقاً لهذا التعريف، فإنّ تصور الأمر بين الأمرين اللذين هما في مورد واحد يكون بغير موضوع.

وثانيهما أنّ العباد في أفعالهم مخيرون وهم في غنى وإستقلال عن المدد الإلهي وقوته، وأعمالهم تصدر دون حوله وقوته، ولاتوجد في البين مسائل من قبيل التوفيق والخذلان.

والظاهر: أنّ المسألة التي أُثيرت بين المتكلمين والأشاعرة والعدلية في الجبر بمعناه المذكور والتفويض، هي بهذا المعنى، والحديث الشريف «لاجبر ولاتفويض بل أمر بين الأمرين» والأحاديث الكثيرة الأخرى والوجوه المذكورة في المراد من «الأمر بين الأمرين» تشعر بهذا المعنى وهو أنّ التفويض في قبال الجبر، كالرواية الواردة عن محمد بن عجلان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فوّض اللّه الأمر إلى العباد؟ فقال: «اللّه أكرم من أن يفوّض الأمر إليهم،4.

ص: 263


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1 ص 124.

قلت: فأجبر اللّه العباد على أفعالهم؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه»(1).

وقال عليه السلام في حديث آخر: «اللّه تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لايطيقونه، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لايريد»(2).

الاعتقاد في الإرادة والمشيئة

ما قاله الصدوق عليه الرحمة في هذا الباب ليس بمكان من الوضوح يصل إليه فهم مثلي بسهولة، ونستطيع أن ندرك نظرات هذا الرجل العظيم، لذا فنحن في حدود ما فهمناه واستظهرناه من أقواله في هذا الشأن نسجل ملاحظاتنا فنقول:

الظاهر من كلمات الصدوق: أنّه عدّ الإرادة والمشيئة بمثابة اللفظين المترادفين، وفرق بينهما وبين الحب والرضا والسخط والكراهة.

فما كان متعلق الإرادة والمشيئة فهو حتمي الوقوع، وما كان متعلق الحب والرضا فلايلزم منه الوقوع، كما أنّ ما هو متعلق السخط والكراهة لايلزم منه العدم، بل أراد ما يكون متعلق حبه أو كرهه أن يُفعل أو يُترك بإختيار الفاعل.

ولإيضاح هذا الأمر أستشهد بآيات من قبيل: [لايرضى لعباده الكفر](3) و

ص: 264


1- التوحيد للصدوق: ص 361.
2- الكافي: ج 1 ص 389.
3- الزمر: الآية 7.

[ولو شاء ربُّك لآمن في الأرض كلهم جميعاً] (1) ولديه عبارات هي محل نقاش، كما نرى كقوله (شاء أن لايكون شيء إلّابعلمه)؛ لأنّ الإرادة أو المشيئة تتعلّق بأمر لايوجد لولا الإرادة والمشيئة، أما الشي الذي لايكون إلّابعلمه فهذا تحصيل حاصل وواقعية ثابتة...

وما ينبغي التنويه عنه هنا أنّ العبارة في النسخة المطبوعة عندي من إعتقادات الصدوق وردت كلمة (بعلمه) في جملة (شاء اللّه أن لايكون شيء إلّابعلمه) بالباء الموحدة، وإذا أردنا أن نؤوّل هذه الجملة بما يلي: شاء اللّه أن لايقع شيء إلّا بسبب علمه، أي: أراد أن لايقع ما لايعلمه، فهذا مستلزم للجبر والدور، وهو ما نقله الشيخ المفيد عن قول المجبرة الذين لم يصرحوا أنّ اللّه أراد المعصية فيكونوا كفاراً بذلك، فقالوا: يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها!.

والجواب على ذلك: أنّه يستلزم الدور؛ لأنّ إرادة (ما علم) - (المعلوم) مثلاً وجود زيد - متوقفة على إرادة وجوده، وإرادة الوجود ستكون متوقفة على كونه معلوما...

وخلاصة الكلام هنا - ولعله ينسجم ونظري في هذين الشيخين الجليلين - هو أنّ النظام المقرر بتقدير اللّه وتدبيره في العالم كله، واللّه عالم به، سيقع وفقاً للنظم المقرر بالإرادة الإلهية، ومن جملته صدور الأفعال عن العباد بإختيارهم متعلق هذه الإرادة، أما الكفر والظلم والأعمال القبيحة فلايرضاها وقد نهى عنها ولو صدرت عن العباد في هذا النظام فقد اسند صدورها إليهم أنفسهم، فما هو9.

ص: 265


1- يونس: الآية 99.

متعلّق الإرادة كون العباد مخيرين، ومن هذه الجهة، فإنّه لم يجبر العباد ولم يضطرهم على صدور أفعال الخير، ولم يرد أن يضيق عليهم ويثقلهم ويعسر عليهم، لذا فإن جميع العالم يجري وفقاً لإرادة اللّه تعالى ومشيئته، ولايقع شيء خارج إرادته ومشيئته، ومن ذلك أفعال العباد أيضاً فلاتصدر عنهم جبراً، ومع ذلك فجريان نظام العالم تحت رعايته ولاحول ولاقوة إلّاباللّه وهو يجري بحوله وقوته و (كل يوم هو في شأن).

الاعتقاد في القضاء والقدر

ذكر الصدوق رحمه اللّه في هذا الباب روايات مهمة وغزيرة جداً، يدرك مضامينها المتضلعون في المعرفة إلى حدٍّ ما.

وهذه الروايات تشير إلى غموض أمر القدر وعظمة أسرار الخلق ودقائقه، وعجز البشر عن أن يتوصل إلى معرفة جميع أسرار عالم الخلق والأفعال، بحيث يبسط العارفون ألسنة التقديس والتسبيح تلقائياً خاضعين خاشعين للّه وهم يصغون إلى هذا النشيد الصوفي الرائع:

أنى يحيط بكنه ذاتك عابد

فسبحان الذي دانت له السماوات والأرض بالعبودية.

ص: 266

والغرض أن هذه الروايات عند أُولئك الذين ذاقوا من عين طعم معرفة اللّه وأسماءه الحسنى، في منتهى العذوبة واللذة والانعاش.

أما الشيخ أبو عبداللّه المفيد فقد أشار في ما يتعلق بمعنى القضاء إلى أربعة معان بل إلى (خمسة معان) وهي (الخلق) و (الأمر) و (الإعلام) و (القضاء في فصل الخصومات و (الفراغ من الأمر) وقد استدل على هذه المعاني مستشهداً بالقرآن المجيد، وإن كان الأنسب أن يستشهد في الإستدلال على (الفراغ من الأمر) بقوله تعالى: [فإذا قضيت الصلاة](1).

وواضح أن المعنى المناسب من هذه المعاني الخمسة للقضاء الذي يقترن ذكره بالقدر، هو: الأمر والحكم الذي يشمل الحكم والقضاء التكويني والحكم والقضاء التشريعي.

وما ورد النهي عن التكلم فيه هو الكلام في القدر، وليس المراد منه أن الكلام والفحص عن كيفية الأشياء ممنوع ومنهي عنه - كما لو أردنا أن نعرف مثلاً ممَّ يتألف الماء وكم هي نسبة عناصره بالمئة، أو نعرف مقدار الهواء والأشياء الأخرى - فكل ذلك ليس منهياً عنه، وما هو بوادٍ مظلم حتى يكون السلوك فيه خطراً، فإكتشاف علل الأشياء الظاهرية والطبيعية والكلام فيها وفي ما هو مبدأ العلوم المتعارفة، كالطب والكيمياء والفيزياء والهيئة وغيرها، كل ذلك غير منهي عنه، بل التدبر والتفكر فيه مما رغبت فيه الآيات وحضّت عليه الأحاديث كما يقول القرآن الكريم: [وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون](2).0.

ص: 267


1- الجمعة: الآية 10
2- الذاريات: الآية 20.

كما أنّ البحث أو الفحص عن الحكمة من الأحكام الإلهية وما فيها من مصلحة، وهو ما تتناوله أقلام المتكلمين، كل ذلك ليس بحثاً عن القدر، إلّاأنّ يكون البحث في سلسلة أحكام عبادية بحتة، ومعرفة أسرارها وعللها لاتتم إلّا عن طريق الوحي والنبي الأكرم نفسه صلى الله عليه و آله والأئمة من بعده عليهم السلام الذين هم خلفاءه، فبواسطتهم يمكن استكشافها ومعرفة كنهها، فليس بيان حكمتها تعويلاً على الحدس والتخمين فيها مقنعاً والقول بغير علم فيها منهي عنه.

ولعل المقصود من القدر، الغامضة معرفتُه والمظلم مسلكه وواديه، هو المعايير والمقادير والنظم الكائنة في عالم الخلق - غير النظم الظاهرية والأسباب والمسببات المعلومة - والأمور التي لايرقى إليها إدراك البشر والبعيدة عن متناول العلوم البشرية، وبعبارة اخرى أسرار الخلق والإيجاد والنظم والأحوال الكلية، العامة الجارية على العالم وسر قسمة الأرزاق.

والخلاصة: الأمور التي يكون البحث فيها والفحص عنها، موجباً للشك والحيرة والتردد وظهور فلسفة التحير (لست أدري)، وربّما يكون مدعاة للإعتراض وسوء الظن، وسالباً لحال الإطمئنان في النفس وحسن ظن الإنسان بكل ما يجري في العالم، ومزلزلاً لركونه وتسليمه لأمر اللّه الذي يكون فيه في أحسن الحالات وأسعدها، أي: أنّ السلوك في هذا الوادي والتفكير فيه لايعيق الإنسان من أن ينتهي إلى هدف فحسب بل يجعله مبتلى بمرض سوء الظن والحيرة، وهو من أخطر الأمراض النفسية، وربّما تسوق صاحبها إلى التفكير في انتحاره وتدمير أحبابه.

والكلام الآخر - هنا - الذي فيه مجال للاستدراك على الشيخ المفيد رحمه اللّه أنّه قال: قال الشيخ أبو جعفر في القضاء والقدر: والكلام في القدر منهي عنه،

ص: 268

وروى حديثاً لم يذكر إسناده.

فإذا كان مقصوده الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب رجل سأله عن القدر فأجابه: «بحر عميق فلاتلجه»(1) ، فلم يكتف السائل بذلك وسأله ثانية فقال له: طريق مظلم فلاتسلكه، ثم سأله ثالثة فقال له: «سرّ اللّه فلاتتكلّفه»(2) ، وهذا الحديث هو الحديث الثالث من الكتاب القيم (توحيد الصدوق) وقد رواه في الباب (60) (باب القضاء والقدر والأرزاق والأسعار والآجال) عن أبيه علي بن الحسين بن بابويه القمي بسند ينتهي إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يذكر مسنده في هذه الرسالة (الإعتقادات)؛ لأنّها مختصرة.

واستدراك المفيد الآخر على الصدوق قوله: عوّل أبو جعفر في هذا الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت و ثبت أسنادها ولم يقل فيه قولاً محصلاً.

أوّلاً: لم يكن الصدوق في صدد بيان معنى القضاء، وإنّما روى حديثاً قيماً عن زرارة أنه سأل الصادق عليه السلام فقال له: يا سيدي ما تقول في القضاء والقدر؟ قال:

أقول: «إن اللّه تعالى إذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم»(3) ، وروى نظير هذا الحديث في الباب المذكور من كتابه (التوحيد) بسند ينتهى إلى ابن أُذينة. وروى حديثاً آخر في باب القضاء والقدر من كتابه المشار إليه آنفاً بسندٍ ينتهى إلى الأصبغ بن نباته.5.

ص: 269


1- التوحيد للصدوق: ص 345.
2- التوحيد للصدوق: ص 365.
3- التوحيد للصدوق: ص 365.

ومع ذلك فإنّ الصدوق إذا لم يكن هنا قد بيّن معنى القضاء و ربّما أعرض عنه لوضوحه، فإنّه ذكر للقضاء في كتابه (التوحيد) عشر معان ٍ، واستشهد لجميع هذه المعاني بآيات القرآن الكريم، بينما لم يذكر المفيد قدس سره هنا أكثر من أربعة معان للقضاء، وإن كانت المعاني العشرة يمكن إرجاعها بعضها إلى بعض، ونحن لسنا في مقام البحث اللغوي عنها هنا، وإنّما مقصودنا أن يعلم أن مثل هذه المعاني لم تكن خافية على الصدوق.

وثانياً: على أي أساس ومعيار عدت هذه الأخبار من الشواذ، مع أنّ الصدوق نفسه روى في كتابه التوحيد في باب القضاء والقدر ستة وثلاثين حديثاً؟!.

ومما رواه من الأحاديث في هذا الباب حديث آخر مهيب وقيم جداً وهو:

«ألا إن القدر سر من سر اللّه، وستر من ستر اللّه، وحرز من حرز اللّه، مرفوع في حجاب اللّه»(1).

وعلى كل حال فإننا في هذا الباب نتزوّد من كلمات هذين العلمين ونجلس على خوان نعمةٍ ومائدة بسطها هذان العلمان وأمثالهما للاُمة الإسلامية عامة وللعلماء والباحثين خاصة، فشكر اللّه مساعيهم.

والأولى أن نتأدب في هذه الأبواب بأدب الروايات وأن نتجنب عن الخوض في القدر، والأولى من ذلك: أن نقيد النهي المطلق في هذه الروايات ونعتبره خاصاً باُولئك الذين يعد تكلمهم في القدر خلاف مصلحتهم ويعرضهم للضلال.

وعلى أي حال، نحن نظن أن إثارة مسألة قضاء اللّه وقدره والإيمان بها، من فوائدها أن لا يعد أحد أن يد اللّه لادخل لها في الأمر، ولايغفل الناس عن التوكل0.

ص: 270


1- كتاب التوحيد: ح 32، ب 60.

على اللّه والإستمداد من حوله وقوته، في الوقت الّذي هم يتوسلون بالأسباب الظاهرية، ولايبسطوا ألسنة الاعتراض والشك بوجه الحوادث والمصائب المكدرة أيضاً، وأن لاينسوا الحقيقة المشار إليها في هذه الآية الكريمة: [عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لاتعلمون](1) فيرضوا بقضاء اللّه الذي هو (من الأركان الأربعة) وفقاً لتعبير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، واللّه هو العالم.

الاعتقاد بالفطرة

للشيخ المفيد في بحث الاعتقاد بالفطرة رأي آخر غير ما ذهب إليه الشيخ الصدوق.

ولتوضيح ذلك نقول: توجد في باب الإعتقاد بالفطرة وآيات الفطرة وأحاديثها كالحديث: «فطرهم على التوحيد»(2) أو «كل مولود يولد على الفطرة»(3) ، ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنّ المراد من ذلك هو أنّ اللّه جعل فطرة الإنسان نقية مقتضية للتوحيد والعقائد الحقة، وحب الحق والخير، والتصديق بحسن العدل وقبح الظلم، والنفور عن الباطل والشر، بحيث لو لم يحجب هذه الفطرة تلك الأُمور المخالفة من قبيل سوء التربية، فالإنسان بنفسه سيهتدي إلى اللّه ويقر بوجود

ص: 271


1- البقرة: الآية 216.
2- الكافي: ج 2 ص 13.
3- الكافي: ج 2 ص 13.

الصانع كما يتقبل العقائد الحقة عند ما تعرض عليه.

والصدوق فسّر الفطرة بهذا المعنى وقد بحثنا بتفصيل في (رسالتنا) في تفسير آية الفطرة حول هذا الوجه، وكونه موافقاً لأصول العقائد الإسلامية في الفطرة والأحاديث الشريفة التي تدلّ على هذا المعنى.

2 - والوجه الثاني: أنّمعنى «فطر اللّه الخلق على التوحيد»(1) فطرهم للتوحيد، أي: خلق الناس للإعتقاد بالتوحيد، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الأعظم الشيخ المفيد وإختاره.

3 - الوجه الثالث: هو أنّه عبّر عن إرادة التوحيد منهم بالإرادة التكوينية، والظاهر أنّ المفيد استظهر من كلام الصدوق هذا الوجه فأجاب عن ذلك بقوله:

لو كان الأمر كذلك لكان الجميع موحدين.

وبديهي أنّه لوكان الأمر دائراً بين الوجه الثاني والثالث فالقول الصحيح والمعتبر هو قول المفيد (الوجه الثاني) لكن بما أنناقلنا: بأنّالوجه المعتبرالمستفاد من الآية والروايات هو القول الأول، وهو مااختاره الصدوق ظاهراً، وفيه رجحان على القول الثاني ظاهراً.

الإعتقاد في الإستطاعة

إختلاف وَجهتي نظر هذين العلمين في باب الاعتقاد أشبه ما يكون بإلاختلاف اللفظي، فتعريفنا بأن الاستطاعة بأنّها الوجود المقتضي للقدرة، أو

ص: 272


1- تصحيح اعتقادات الإمامية: 60.

الوجود المقتضي للقدرة على الفعل بشرطه فعلى كل حال: لما كان عدم القدرة مستنداً إلى عدم المقتضي فمع وجود المقتضي وعدم الشرط، فالمستند هو عدم الشرط.

وقد عبر عن الاستطاعة بالمعنى الأول في الآيات والروايات أحياناً، وعبر عنها بالمعنى الثاني في موارد أُخرى، فإذا كان المقصود من مصطلح الإستطاعة ما يقابل عدم الاستطاعة والجبر، فالقدرة على الفعل وتركه استطاعة وإن لم يوجد شرط أعمالها، وعلى أيّ حال، لايوجد اختلاف جوهري بين هذين العلمين، أو لانعرفه.

الإعتقاد في البداء

يبدو أنّ هذين العلمين متفقان في رأى مسألة البداء، وإن كان تعبير المفيد أكثر تفصيلاً ونفعاً، وانا الحقير كاتب المقال قد تعرّضت لجميع جوانب هذه المسألة في رسالة (سر البداء) وبوسع القارىء العزيز أن يرجع إلى تلك الرسالة.

الإعتقاد في التناهي عن الجدال

يظهر أنّ هذين العلمين متفقا النظر في باب الجدال أيضاً، وإن كان كلام المفيد أبسط وأبين، ولو قلنا: بأنّ كلام المفيد موضح لكلام الصدوق وشرح له لم نعدُ في ذلك وجهَ الصواب.

ص: 273

الاعتقاد في اللوح والقلم

الرواية التي رواها الصدوق في باب (اللوح والقلم) يحتمل أن يكون المراد منهما الملكين القائمين على اللوح والقلم بأمر اللّه، وهما يقرآن ما يكتب بقلم القدرة ويبلغانه سائر الملائكة.

وأما القول بأنّ الملائكة يدعون بالألواح والأقلام فغير مستبعد، حيث يكفي في التسمية أدنى مناسبة، وما ورد في حديث (سلسلة الذهب) المعروف الذي رواه الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وذكر سند الحديث فقال «عن اللوح عن القلم عن اللّه تبارك وتعالى»(1) الذي يظهر منه أنّ اللوح والقلم إسم ملكين.

وعلى كل حال فإنّ ما ورد في هذه المصطلحات على لسان الشرع من اللوح والقلم والعرش والكرسي، وما يتعلّق بعالم الغيب، فمصدر رواياته صحيح حتماً، والإستظهار البدائي منها غير صحيح، وما قاله الصدوق من هذه الجهة قابل للمناقشة، إذ كيف يمكن التعويل على خبر الواحد الذي لايكون موجباً للعلم، فيدعى الإعتقاد به، ثم يعبر عنه بلفظ (اعتقادنا) الذي يوهم بأنّه هو عقيدة الشيعة جميعهم.

وفي تعريف هذه المصطلحات الإسلامية والعقائدية:

أوّلاً: كل تعريف مخالف للأُصول الإسلامية، مثل تنزه الخالق عن صفات المخلوق فهو باطل ومردود.

ص: 274


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2 ص 136.

ثانياً: لايصح التعبير القاطع بالجزم بمحض خبر الواحد خاصة إذا كان سنده ضعيفاً غير قوي؛ فإنّه لايحصل الاعتقاد واليقين بالخبر الظني الصدور، وكل تعريف ينافي اصول المذهب أيضاً في مثل باب (الكرسي والعرش)، وعدم تنزه الباري تعالى عن الجسمية وصفات المخلوق الأخرى فهو في عقيدة الشيعة باطل ومردود.

أما تعريف العرش بالملك أو المعاني الأخرى، بالإستناد إلى ظاهر اللفظ أو الروايات الشارحة فقابل للطرح، لكن الروايات إذا لم تكن متواترة أو قطعي الصدور، فلاتوجب اليقين والعلم والعقيدة نوعاً ما وتجري في مثل هذه الروايات عبارة (لايوجب علماً ولاعملاً).

فكما قال الشيخ المفيد: لايجوز القطع والعمل بالروايات التي هي أخبار آحاد، أي: أن القطع لايحصل منها عادةً، إلا أنها إذا لم يعارض مضمونها اصول المذهب فلا يجوز ردها أيضاً.

وعلى هذا ففي مقام الكرسي والعرش أيضاً يرد هذا البحث في المراد من «اعتقادنا» وهو أنّه اذا كان المقصود منه اعتقاد جميع الشيعة، وأنّه يجب على جميع الشيعة أن يكونوا معتقدين فكيف يمكن أن يحصل الاعتقاد في شيء غالباً ما يكون سبباً للإحتمال أو الظن؟ عد هذا المعنى من المسائل الإعتقادية عند الشيعة؟ كيف يكون توجيه وإذا كان المراد هو اعتقاد الصدوق شخصياً فلانقاش فيه طبعاً... فقد يحصل لمثله من أخبار الآحاد هذا الاعتقاد بها لوجود القرائن، لكن ذلك لايلزم منه اعتقاد الآخرين بها، ويكون القول ما قاله الشيخ المفيد عندئذ (إذا كان لمثل كلمتي (الكرسي والعرش) ظاهر، فيعول على ذلك الظاهر،

ص: 275

وإلا فالوجه الوقوف عندها)(1).

الإعتقاد في الكرسي

قال الصدوق رحمه اللّه: اعتقادنا في الكرسي أنّه وعاء جميع الخلق والعرش والسماوات والأرض وكل شيء خلقه اللّه تعالى، والكرسي في وجه آخر هو العلم، وقد سئل الصادق عليه السلام عن قول اللّه عز وجل: [وسع كرسيه السموات والأرض](2) قال: هو علمه، وليس للمفيد استدراك على الصدوق في هذا الباب.

الاعتقاد في العرش

يستفاد من كلام الصدوق أنّ العرش يطلق على مجموع الخلق، ويطلق على (العلم) أيضاً، وروى الشيخ الصدوق هنا حديثاً عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قد رواه في كتاب (التوحيد) أيضاً، إذ سئل عليه السلام عن تفسير الآية: [الرحمن على العرش استوى](3) فقال عليه السلام: «استوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء». والظاهر من هذه الرواية أنّه استشهد بإطلاق العرش على العلم، وإستفاد منه أن نسبة جميع الأشياء إلى علم اللّه على سبيل الإستواء والتساوي، فليس شي أقرب إليه من شيء.

ثم روى بعض الأخبار الواردة عن حملة العرش من الملائكة، وينبغي أن

ص: 276


1- لم نقف على نص للشيخ المفيد وإنما نقلنا مضمون الترجمة.
2- البقرة: الآية 255.
3- طه: الآية 5.

نقول: إنها إذا لم يمكن تأويلها من الأخبار نفسها فلاننفي ظاهرها بل نقول: [وما يعلم جنود ربّك إلا هو](1) وسبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر عظيمه في جنب ما غاب عنا من قدرتك.

ومع ذلك كما اشرنا آنفاً للاعتقاد واجب بهذه المعاني، ولا بأخبار الاحاد يحصل اليقين والإعتقاد لكل أحد.

وفي القسم الآخر من هذا الباب فسّر حملة العرش بالمعنى الثاني، أي: (العلم) ومن جملتهم بل أكملهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله والأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، وكل شيعي مؤمن بولاية الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام يعتقد بذلك، وقد أدلى المفيد في هذا الباب بدلوه فقال (2)(العرش في اللغة هو الملك، والإستواء عليه هو الإستيلاء عليه، فأما الوصف للعلم بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها... فأما العرش الذي تحمله الملائكة فهو بعض المُلك، والأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش، أحاديث آحاد وروايات أفراد لايجوز القطع بها ولاالعمل عليها) واللّه هو العالم.

الاعتقاد في النفوس والأرواح

في بحث النفوس والأرواح جرى نقاش من قبل فأورد على كلام الصدوق حيث قال (اعتقادنا في النفوس أنّها هي الأرواح، وأنّها الخلق الأول، وأنّها

ص: 277


1- المدّثر: الآية 31.
2- يحسن بنا أن نشير أنّ ما بين المعقوفين هو مقاطع من أقوال المفيد ذكرت مراعاة لترجمة الأصل؛ لأنّ الكاتب لم يذكر من أقوال المفيد إلّاعصارتها - المترجم.

خلقت للبقاء، وأنّها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة). فرد عليه بشدة قائلاً (كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو إقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكرَ معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه). ثم ذكر المفيد لكل من النفس والروح أربعة معانٍ لاتلاقي بين كل معنى و معنى لا في الترادف ولا في المفهوم.

ونحن نقول هنا محتملين: إنّ الظاهر أنّ الصدوق أراد بالنفوس هنا ذوات الناس، أي: الخصوصية أو الإمتياز ما بين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وهذا هو المعنى الأول من المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد (للنفس).

وبعبارة اخرى: إّن نفس الإنسان وذاته روح، وفي قبال هذا المعنى ما قيل في نفس الحيوان(1) وذاتِه: بأنّها بدنه العنصري الحي، فإذا لم نقل بأنّ الحيوانات لها روح بحسب طبيعتها ونفسها، أو روح أطلقها الصدوق على النفس، لاتصح على أي معنى من المعاني التي عرفها المفيد للنفس.

فإنّ معنى هاتين الكلمتين غير منحصر بهذا العدد من المعاني.

فقد قال المفيد (وأما الروح فعبارة عن معان، أحدها: الحياة. والثاني:

القرآن. والثالث: ملك من ملائكة اللّه تعالى. والرابع: جبرئيل عليه السلام).

مع أنّه ورد في أحاديث كثيرة التعبير بالروح واُريد بها روح الإنسان، والمفيد نفسُه أشار إلى أن الروح تطلق على سائر الملائكة أيضاً، وقال إضافة إلى ذلك - بصراحة -: (إن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين) مع أنّ هذا المعنى هوم.

ص: 278


1- ورد التعبير في أصل المقال بصيغة الجمع وقد استغنى المترجم بصيغة المفرد الداخلة عليهالامُ الجنس لأنها تدل على العموم، فاعلم. المترجم.

غير المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد للروح.

وعمدة ما في نقاش المفيد وإشكاله على الصدوق في ما يلي:

أوّلاً: في خلق الأرواح قبل الأجسام الذي يعتقد به الصدوق وفقاً لدلالة الروايات الكثيرة عليه، وكأن المفيد أنكر ذلك حتى نسبه إلى القائلين بالتناسخ والحشوية من الشيعة الذين يقولون بأنّ الذوات الفعالة أو الأرواح مخلوقة في عالم الذر، واستدل على نفي كل ذلك بقوله: (ولو كان ذلك كذلك، لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا ذكّرنا به ذكرناه ولاخفي علينا الحال فيه).

وقد فسّر حديث الأرواح بالملائكة، وإعترض على شيخه الصدوق بشدة حتى قال: (والذي صرّح به أبو جعفر في معنى النفس والروح هو قول التناسخية بعينه! من غير أن يعلم أنه قولهم، فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة)(1).

وينبغي أن ننوه هنا قائلين: إنه وإن كانت حقيقة الروح والنفس والعقل وما بطن من وجود الإنسان، كسائر كثير من الحقائق الأخرى، ما تزال مجهولة، إلّا أنّه ورد التصريح بخلق الأرواح قبل الأجساد في أحاديث كثيرة، ولما لم يكن للصدوق رحمه اللّه سبيل إلى ردها فقد أظهر اعتقاده بها، ولاعلاقة لهذا الاعتقاد بالتناسخ؛ لأنّ التناسخ هو عبارة عن تعلق الروح بالأجسام العنصرية المتعددة في هذه الدنيا، فهي تحلّ بعد فناء كل جسم بجسم آخر(2) ، وأن تظهر الحقيقة الواحدة في صور متعددة، وأن تنال في كل مرحلة جزاء المرحلة السابقة منم.

ص: 279


1- راجع تصحيح الاعتقاد: ص 68، طبعة قم.
2- ليس هذا رأي صاحب المقال بل هو زعم القائلين بالتناسخ. المترجم.

ثواب أو عقاب، مع أنّ خلق الأرواح قبل الأجسام، يعني تعلق الروح منحصراً بجسم عنصري واحد، وهو غير الأرواح والأجسام الأخرى روحاً وجسماً.

وهذا المعنى ممكن في حد نفسه دون أن نكون في صدد إثباته، وإن كان عند مثل الصدوق ثابتاً فقد أخذه عن رجال كان لهم تحذق وتتبع كامل في الأخبار، ولاينبغي قياسه بالقول بالتناسخ!...

والبحث الآخر: ويظهر أنّ مناقشةَ المفيد الثانيةَ للصدوق، في مسألة بقاء الأرواح، حيث قال: (اعتقادنا أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء، لقول النبي صلى الله عليه و آله: «ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار وإنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة» واعتقادنا أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منعّمة ومنها معذّبة إلى أن يردّها اللّه عزوجل بقدرته إلى أبدانها).

فاستدرك المفيد على هذا التعبير بقوله (ما ذكره من أنّ الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضادّ ألفاظ القرآن، قال اللّه تعالى: [كل من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام](1).

وفي استدراكنا على كلام الشيخ المفيد نقول: إنّ بقاء الأرواح بالجملة مستفاد من آيات القرآن، وفي مقام الجمع بين هذه الآيات والآية التي تمسّك بها المفيد، يرد هذا الإحتمال، وهو أنّ الحكم أو الإخبار في قوله تعالى: [كل من عليها فان](2) يتعلق بمخلوقات الكرة الأرضية، ولاينافي بقاء الروح بعد فناء ذات6.

ص: 280


1- الرحمن: الآية 26، 27.
2- الرحمن: الآية 26.

الإنسان بعد الموت، كما ورد التصريح بحياة الشهداء بعد الموت في هذه الآية:

[ولاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون. فرحين بما آتاهم اللّه...] (1) وجاء التصريح في بعض الآيات الأخرى، وكثير من الأخبار بحياتهم بعد الموت، وأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام كل منهما خاطباهم بعد الموت.

مضافاً إلى ذلك أنّ الشيخ الأعظم أبا عبد اللّه المفيد نفسه بَيَّن الحياة بعد الموت في هذا الفصل، وأكد على ذلك في الجملة، وفي كتابه (أوائل المقالات) أيضاً، في مثل باب (القول في احتمال الرسل والأنبياء والأئمة، الآلام وأحوالهم بعد الممات)، أبان المفيد حياة الأنبياء والأئمة عليهم السلام بعد الموت، واستشهد بهذه الآية: [ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً](2) واستشهد في قصة مؤمن آل فرعون بالآية: [قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين](3) ، وأكّد على هذا المعنى أيضاً في المسألة 24 من (المسائل العكبرية)، وصرّح بحياة الروح في أبواب (القول في أحوال المكلفين) و (القول في نزول الملكين) و (القول في تنعيم أصحاب القبور) أيضاً.

وعلى هذا فالظاهر أنّ مراد المفيد هو:

أوّلاً: أنّ أرواح الجميع في البرزخ لاتنتقل إلى حال الثواب أو العقاب، وهو في قبال جماعة يقولون: إنّ أرواح المؤمنين تحيا في البرزخ جميعاً، وأما من لم7.

ص: 281


1- آل عمران: الآية 169.
2- آل عمران: الآية 169.
3- يس: الآية 26-27.

يمحّضوا الإيمان أو الكفر فتنعدم أرواحهم.

وثانياً: كل الأرواح تفنى وتنعدم بحكم الآية: [كل من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام](1).

وكما يستفاد من كلامه في باب (المسألة في القبر) أنّها تحيا هناك، حيث قال (وهذا يدلّ على أنّه تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه)(2).

وبديهي أنّه لاالاعتقاد بأنّ الأرواح تفنى، ولاالاعتقاد بأنّ الأرواح لاتفنى، لايصطدم بالبرهان العقلي على استحالتها، وينبغي استفادة ذلك من دليل النقل، ومسلك المحدثين في هذا الباب - طبعاً - هو أكثر مظنة للاعتماد، وتصريحهم بالبقاء أدعى للاطمئنان، وإن كان لايصح الاعتماد على التقليد في مثل هذه المسائل، لأنه لايكون موجباً لعلم ولا لعمل.

وأكثر الكلمات - كما يظهر - متفقة على أنّ الأرواح باقية إلى يوم القيامة، فإما هي في العذاب والنقمة، أو الثواب والنعمة، والحديث المعروف «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفرات النيران» يشير إلى هذا المعنى.

وقال المفيد في باب (في ما يوصف به الموت): «الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه»(3).6.

ص: 282


1- الرحمن: الآية 26-27.
2- تصحيح الاعتقاد: ص 79، ط قم.
3- تصحيح اعتقادات الإمامية: ص 96.

الاعتقاد في الموت

إعترض المفيد على الصدوق في باب الاعتقاد في الموت فقال: (ترجم الباب بالموت، وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن يذكر حقيقة الموت، أو يترجم الباب بمآل الموت، وعاقبة الأموات)(1) إلّاأنّ أبا جعفر عنون الباب بالاعتقاد بالموت لابحقيقة الموت حتى يرد عليه هذا الاعتراض من قِبَل المفيد، كما أنّ قصده في بعض الأبواب الأخرى لم يكن بيان الحقيقة، مثل باب النفوس والأرواح.

وأما التعريف الذي ذكره المفيد للحياة وهو (ما كان بها النمو والإحساس، وتصح معها القدرة والعلم)، فليس تعريفاً لحقيقة الحياة أيضاً، بل هو تعريف لأثر الحياة وحقيقة الحياة، حسب اعتقاد بعض من الأمور المجهولة أيضاً.

فبناءً على هذا فإنّ تعريف الموت بأنّه (ما استحال معه النمو والإحساس) ليس تعريفاً لحقيقة الموت أيضاً، أجل لو قلنا: إن الموت: هو إنعدام الإحساس واستحالة النمو والعجز عن الحركة، والحياة: هي النمو والإحساس أنفسهما فنحن وإن لم نعرف حقيقةَ كلٍ منهما الا أنَّنا عرفنا لفظيِ الحياة والموت ظاهراً.

وأما ما قاله أبو عبد اللّه المفيد: (وليس يُميت اللّه عبداً من عبيده إلّاوإماتته أصلح له من بقائه، ولايحييه إلّاوحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فمراده غير واضح عندنا، وبديهي أنّ (كل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فهو مُسلَّم وثابت في نظام (الكل) وكل النظام، ولاريب فيه، والإحياء والرزق

ص: 283


1- تصحيح الاعتقاد: ص 74، ط قم.

والخلق، ومثل هذه الأمور التي تعطى هي في صالح العباد جميعاً.

أما إذا كانت (إماتة العبد) المقصود منها الإماتة عند الأجل المسمى، فهذه هي الإماتة التي في صالح العبد، ولكن إذا اريد بها ما يشمل غير الأجل المسمى، أيضاً من أسباب يحصل بها الموت كالقتل ظلماً مثلاً، فتصور هذه الإماتة في صالح العبد هو في منتهى الإشكال!.

ومما لاريب فيه، أنّه في نظام الخلق قُدِّر أنْ يحصل ويقع الموت بالأسباب العدوانية أيضاً، والمصلحة الكلية تقتضي ذلك، أما فهم المصلحة الشخصية تقتضي ذلك أيضاً فهذا مشكل جداً... وأكثر إشكالاً من ذلك أن يقال أو يحكم:

بأن جميع الهالكين بالحوادث المختلفة من زلزال، أو حادثة دهس أو هجمة حيوان كاسر أو انهدام، أو غرق كلُّ ذلك من مصلحة الشخص، فذلك ما يدعوا تأمل.

وأن قلنا: بأنّ اللّه يتدارك الضرر الوارد على الشخص، فإن نسبة مثل هذه الإماتة إلى اللّه تختلف عن نسبة الشرور والسيئات إلى الباري تعالى...

ويبدو أنّه وإن كان الموت بسبب ارتكاب القتل وتأثير فعل القاتل في القتل، ماضياً ومقرراً في نظام كل العالم الذي هو خلق اللّه وفعله، إلّاأنّ هذا الفعل ينسب إلى الفاعل القريب آن يكون قاتلاً وإن كان الفعل صادراً من الفاعل القريب من القدرة التي منحها اللّه، وتأثيره أيضاً وفقاً للنظام الذي قرره اللّه سبحانه.

لايقال: فما تقولون: إذاً في معنى قوله تعالى: (يحيي ويميت)؟.

والجواب: أن جريان الموت والحياة في الكائنات على الدوام، في جسم الإنسان، وفي خلايا الإنسان والحيوانات وجميع الموجودات الحية، حتى

ص: 284

النباتات، فالأرض تحيا بالربيع ثم تموت في فصلي الصيف والخريف تدريجاً، واللّه يميتها ويحييها بحكم الآية الكريمة: [واعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها](1) إنّ آثار إماتة اللّه وإحياءه واسعة وكثيرة إلى درجة لايتم شرحها وبسطها بكتابة مجلدات كثيرة! كما أن أسرار هذا الإحياء والإماتة في غاية من الغموض والكثرة إلى درجةٍ يجد البشر نفسه معها - على الرغم من جده واجتهاده وبحثه في كائنات هذا العالم - ما يزال في المرحلة الابتدائية من الدراسة، وفي صفها الأول.

فاللّه سبحانه المميت والمحيي وهو يميت ويحيي، ولكن الفلاح مثلاً: ينثر حب من الحنطة أو البذور الأخرى ويحرث الأرض ويسقيها، واللّه هو الذي ينمي الزرع وهو الزارع الحقيقي كما قال سبحانه في كتابه: [أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون](2) ؟

ولكن هناك فرقاً بين من ينثر الحب ويحرث الأرض أو يغرس الشجر، واللّه ينمي كل ذلك، ويهبه النضرة والخضرة، ويونعه بالأزهار والأثمار... وبين من يهلك الحرث ويحرقه ويقطع الشجر، فهذا الأمر وإن كان بسبب القوة التي منحها اللّه إياه، وما أودعه من أثر في الآلات، لكن ذلك لايسند إليه ولايكون في صالح العبد دائماً.

وعلى كل حال فنحن لانسهب في الكلام هنا خوفاً أن ننتهي إلى الخوض في قدر اللّه المنهي عنه، ونأتمر مطيعين لأمر الامام الصادق عليه السلام: «إذا انتهى الكلام4.

ص: 285


1- الحديد: الآية 17.
2- الواقعة: الآية 64.

إلى اللّه فأمسكوا»(1).

يا من علا كل شيء

المساءلة في القبر

يبدو أن هذين العلمين متفقان في المسألة (المساءلة في القبر)، وإن كان الشيخ أبو عبد اللّه المفيد بين ذلك بتفصيل أكثر، وبما أنّ أبا عبد اللّه لم يعترض على أبي جعفر الصدوق في أمر (الرجعة)، فيبدوا أنّه متفق معه، كما أنّه لم يعلق على الأبواب التالية (البعث بعد الموت) و (الحوض) و (الشفاعة) و (الوعد والوعيد) و (ما يكتب على العبد).

وفي مسألة العدل جاء كلام أبي عبد اللّه ببيان وافٍ وشرح كافٍ مكملاً ومتمماً لكلام أبي جعفر رحمه اللّه.

الإعتقاد في الأعراف

وفي باب (الأعراف) أيضاً لايوجد اختلاف كبير بين وجهتي نظر الصدوق

ص: 286


1- الكافي: ج 1 ص 92.

والمفيد، سوى ما قاله الصدوق في الأعراف: إنّه (سورٌ بين الجنة والنار).

أما المفيد فقد قال: قد قيل: إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار، وقيل: أيضاً إنّه سورٌ بين الجنة والنار.

فالإختلاف بينهما إن وجد فهو من حيث الإيجاز والتفصيل، وكلام المفيد في ذيل هذا الباب في منتهى الكمال إذ قال: (وكل ما ذكرناه جائز في العقول وقد وردت به أخبار واللّه أعلم بالحقيقة من ذلك، إلّاأنّ المقطوع به في جملته أنّ الأعراف مكان بين الجنّة والنار، يقف عليه من سميناه من حجج اللّه تعالى على خلقه، ويكون به يوم القيامة من المرجئين لأمر اللّه، وما بعد ذلك فاللّه أعلم بالحال فيه)(1).

وفي (باب الصراط) كلام كلٍ منهما قريب من الآخر بل موافق للآخر، قدس اللّه سرهما.

الاعتقاد في العقبات

خلاصة رأي الشيخ أبي جعفر الصدوق في العقبات على طريق المحشر: أنّها (اسمُ كل واحدةٍ منها اسمٌ على حدة، اسمُ فرضٍ أو أمر أو نهي، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة إسمها الفرض وكان قصَّر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحق اللّه، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه و برحمة تداركه، نجا منها إلى عقبة اخرى، فلايزال يدفع من عقبة إلى اخرى، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء، وإن لم ينجه عمل صالح ولاأدركته من اللّه تعالى رحمة، زلت به قدمه

ص: 287


1- التصحيح للمفيد: ص 86، ط قم.

عن العقبة فهوى في نار جهنم، (نعوذ باللّه منها)(1).

ثم قال: (وهذه العقبات كلها على الصراط، اسم عقبة منها الولاية، يوقف جميع الخلائق عندها، فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام من بعده، فمن أتى بها نجا وجاز، ومن لم يأت بها بقي فهوى الخ...).

أما خلاصة رأي المفيد هي قوله (ليس المراد بها جبال في الأرض تقطع، وإنّما هي الأعمال شبهت بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من التقصير في طاعة اللّه تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها)، واستشهد بقول اللّه تعالى: [فلا اقتحم العقبة وما أدريك ما العقبة فكُّ رقبة](2) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لابد من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمةٍ من اللّه نجوتم وإما بهلكة ليس بعدها انجبار».

ونقول تعقيباً على ذلك، إنّ استظهار أبي عبد اللّه المفيد لطيف في حد نفسه، إلّا أنّه غاية ما يمكن أن يقال هنا: إن استظهار الشيخ أبي جعفر لايرجح عليه، وكل على استظهاره! لكن الاستدلال على ذلك، بالاستناد إلى ما ظنه الحشوية، وأنّ الحكمة لاتقتضي هذه العقبات، ولاوجه لخلق عقبات تسمى بكذا وكذا...

فذلك موقوف على إحاطة الإنسان بجميع الحِكَم من الأفعال الإلهية، والمعيار هنا هو أوّلاً: وجود خبر معتبر وصحيح، ثانياً: الترجيح العرفي لأحد الاستظهارين. واللّه سبحانه هو العالم.3.

ص: 288


1- مقاطع من أقوال الصدوق في باب الاعتقاد في العقبات.
2- البلد: الآية 13.

في باب الحساب والميزان

لايظهر في هذا الباب اختلاف بين هذين العالمين العلمين أيضاً، إلّاأنّ الشيخ أبا عبد اللّه في كتابيه (تصحيح الاعتقاد) و (أوائل المقالات) قال:

(بأنّالحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها والمواقفة للعبد على ما فرّط)، وأراد به ان يختص اصحاب المعاصي من أهل الايمان وقال: (الكفار حسابهم وعقابهم على حسب الاستحقاق، ويوفّى المؤمنون أجرهم بغير حساب).

وقال: وليس هو (أي الحساب) كما ذهب العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما، على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح.

وأنكر ما ذهب إليه أهل الحشو من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها؛ إذ الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها. وبديهي أن مطالب في هذه المقولة مرجع السمع، وهي تستفاد من ظواهر القرآن والأحاديث الشريفة، ويمكن أن يكون المراد من وزن العمل هو وزن المثال، كما هو مذكور في باب تجسم الأعمال، وهي أُمور خفيت حقائقها علينا، فلايمكن إنكارها بمثل هذا المعيار: (الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها).

وإجمالاً: ما يمنع أن تكون هناك موازين تزان فيها الأعمال ليعلم موافقتها من مخالفتها للأوامر والنواهي، وليوزن صاحب العمل، أو العمل نفسه مع سجل العمل وصحائف الأعمال، وقد وردت عندنا في باب تجسم الأعمال روايات

ص: 289

تقول: بتجسم العمل الذي يقول عنه إنّه عرض، فيبدو في صورة حسنة جميلة، وإليه أشارت الآية الكريمة: [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره](1).

ويحتمل أن يكون المراد منه أنّ العمل نفسه يحفظ، كما يلاحظ اليوم في التلفاز، مع أنّ صاحب العمل ترك مكانه مثلاً، أو انه قد مات لكن عمله يعرف في التلفزة.

ويحتمل أن يكون المراد منه سجل الأعمال، أو يكون المراد جزاء العمل الثواب، أو العقاب عليه. فكل هذه الأمور محتملة، ولاينبغي أن يقال: إنّ الصوت لايسمع في ذلك العالم، مع أنّه قد أمكن سمعه في هذا العالم.

والخطأ الذي وقع فيه بعض المتكلمين هو أنّ هذه الأمور التي أخبر عنها الوحي والنبى صلى الله عليه و آله، جعلوها محلاً للمناقشة والرفض والقبول بسلسلة من المعلومات الناقصة عندهم، ثم أرادوا أن يزنوا الأشياء الضخمة الهائلة، بميزان توزن فيه الأشياء اليسيرة، شأن من يريد أن يَزِن الكرات والمجرات بميزان أعده للبطيخ مثلاً، أو العكس من ذلك، كمن يَزِن الذهب بميزان يوزن فيه الصخر الذي اجتلب من ظهور الجبال!!

وعلى كل حال فإن الصدوق والمفيد كليهما متفقان على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمة من أهل بيته عليهم السلام هم المتولون أمر الحساب.7.

ص: 290


1- الزلزال: الآية 7.

الاعتقاد في الجنة والنار

في ما يتعلق بالجنة والنار وجهتا نظر هذين العلمين متقاربتان في كتابيهما، وفي كل من الكتابين تفاصيل لم يذكر بعضها في الكتاب الآخر، فما هو ثابت من هذه التفاصيل بموجب الآيات والأخبار الصحيحة فهو حق وإن لم يجب الاعتقاد به، لكن إنكاره بل الشك فيه بعد الاطلاع على موارده ومصادره غير جائز.

والأمر الذي لايوافق الشيخ المفيد فيه أبا جعفر الصدوق، هو أنّ الصدوق جعل أهل الجنة أنواعاً (على مراتب منهم المتنعمون بتقديس اللّه وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته الخ...).

إلّا أنّ المفيد ردّ على هذا القول بما يلي: (وقول من زعم أن في الجنة بشراً يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لايطعمون ولايشربون ولاينكحون) ثم عقّب على ذلك مستشهداً بآيات من الكتاب العزيز كقوله تعالى: [اكلها دائم وظلّها تلك عقبى الذين اتّقوا](1) وقوله تعالى: [إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون](2) وغير ذلك من الآيات... ومثل هذه الآيات كثير في القرآن، وما قاله المفيد أوفق بمدلول هذه الآيات.

ولاريب أنّ التنعم بهذه النعم غير منافٍ للالتذاذ بحصول القرب الإلهي، وبلوغ

ص: 291


1- الرعد: الآية 35.
2- يس: الآية 55، 56.

الثواب ومجالسة الأنبياء والأئمة الطاهرين والمقربين... واللّه أعلم.

الاعتقاد في كيفية نزول الوحي

ما قاله الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في حقيقة الوحي ونزوله، أكثر قبولاً (ومتانةً) مما قاله الشيخ أبو جعفر الصدوق.

فالوحي والعلاقة القائمة بين اللّه سبحانه والمصطفيْن من عباده لرسالتهم إلى الناس حقيقةٌ إظهارُ العجز عن إدراكها، والاكتفاء بمعرفتها عن طريق آثارها، خير من إظهار وجهة النظر في حقيقتها، فالأمور التي تعرف بالآثار فحسب، أو تعرف بإخبار الأنبياء، كثيرة، ولايلزم أن تكون منحصرة بالوحي... وقد عرّف الشيخ المفيد الوحي قائلاً (قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره، والتخصيص له به دون سواه).

الإعتقاد في نزول القرآن

رأي الشيخ أبي عبد اللّه المفيد في هذا الباب، أرجح وأقوى من رأي شيخه الصدوق، وملخص ما قاله الشيخ المفيد: أن نزول القرآن جملة في بدء البعثة مع وجود آيات كقوله تعالى: [قد سمع اللّه](1) ، أو قوله: [لقد سمع اللّه](2) ، أو الآيات النازلة في مناسبات خاصة ونزولها قبل تلك المناسبات، لاينطبق

ص: 292


1- المجادلة: الآية 1.
2- آل عمران: الآية 181.

معانيها، ولو كانت هناك رواية صحيحة معتبرة، فينبغي حملها على معنى يوافق هذه الآيات، لأن حمل الحديث على خلاف الظاهر أولى وأهون من حمل القرآن على خلاف الظاهر.

الإعتقاد في مَبْلَغ القرآن

لم يضف الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب شيئاً على ما قاله أبو جعفر الصدوق، ويبدو أنّه متفق وإياه في أنّ القرآن النازل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، هو هذا الذي (ما بين الدفتين)، وأنّه وافقه في سائر الأمور الأخرى هنا.

الإعتقاد في الأنبياء والرسل والحجج والملائكة

إتفق هذين العلمين الجليلين إتفاقاً تاماً في الاعتقاد بالأنبياء والرسل والحجج والملائكة، وفي عدد الأنبياء والأوصياء والأئمة الطاهرين عليهم السلام حتى خاتم الأئمة ومنقذ الأمة مولانا وسيّدنا المهدي المنتظر أرواح العالمين له الفداء إتفاق تام متطابق، ولاشبهة ولاكلام في ذلك...

الإعتقاد في العصمة

قال أبو جعفر الصدوق في باب الإعتقاد بالعصمة (اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنّهم معصومون، مطهرون من كل دنس، وأنّهم لايذنبون ذنباً، لاصغيراً ولاكبيراً، ولايعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم. وإعتقادنا فيهم أنّهم

ص: 293

معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل امورهم وأواخرها، لايوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولاعصيان ولاجهل)(1).

لكن يستفاد من كلام أبي عبد اللّه المفيد أنّ الأنبياء جميعهم والأئمة الطاهرين معصومون وموصوفون بالكمال حال النبوة، إذ قال (والأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم، من الكبائر كلها والصغائر، والعقل يجوز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمد للتقصير والعصيان، ولايجوز عليهم ترك مفترض؛ لأنّ نبينا صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها)(2).

ومع أنّه صرّح بأنّهم (لم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل؛ فإنّهم يجرون مجرى عيسى ويحيى في حصول الكمال لهم مع صغر السن...)، وقال (هذا أمر تجوزه العقول ولاتنكره، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل) إلّاأنّه قال (والوجه أن نقطع على كمالهم عليهم السلام في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة، ونتوقف في ما قبل ذلك، وهل كانت أحوال نبوة وإمامة أم لا؟ ونقطع على أنّ العصمة لازمة منذ أن أكمل اللّه تعالى عقولهم إلى أن قبضهم...).

وينبغي أن ننوّه موضحين بأنّ هذا الكلام مخالف لضرورة المذهب والأحاديث المتواترة، فالشيعة متفقون على أنّ النبي صلى الله عليه و آله قبل بعثته، والأئمة عليهم السلام قبل تكليفهم بالقيام بمسؤولية الإمامة، كانوا في مقام العصمة وكمال الصفات الإنسانية. فهذا الكلام لاينسجم، وقداسة مقام خاتم الأنبياء الرفيعِ صلى الله عليه و آله7.

ص: 294


1- اعتقادنا: ص 7، ط قم.
2- تصحيح الاعتقاد: 107.

الذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بما كان عليه قبل بعثته.

وفي إعتقاد كل شيعي ومن جملتهم أبو عبد اللّه المفيد نفسه أنّ أمير المؤمنين كان معصوماً في عصر النبي صلى الله عليه و آله، وإن كانت مسؤولية الإمامة مناطة بشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله يومئذٍ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام مؤهلاً لكل ما يستلزم الإمامة معصوماً.

وكذلك الحال بالنسبة للحسن عليه السلام وهو في عهد أبيه إذ كان معصوماً مؤهلاً لمستلزمات الإمامة. ومثله أخوه الحسين عليه السلام في عهد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام، حيث كان معصوماً مؤهلاً لخصائص الإمامة ومستلزماتها... هكذا سائر الأئمة عليهم السلام كانوا معصومين مؤهلين للإمامة قبل إمامتهم...

والأحاديث الدالّة على هذه العقيدة فاقت حد التواتر، وتترتب عقلاً على عدم عصمة النبي والإمام قبل النبوة والإمامة من المفاسد الكثيرة ما تترتب من المفاسد نفسها في حال النبوة والإمامة إذا قلنا بعدم عصمتهم.

ولايجوز شرعاً ولاعقلاً التفكيك أو الفصل بين هاتين الحالتين وقبول النبوة وإمامة أصحاب السوابق السيئة، وليس من حقنا أن نُسيء إلى ساحة المفيد القدسية، لكن الشيخ الصدوق لو قدر له أن يواجهه في عالم مّا من العوالم كعالم الرجعة أو العالم الذي هما فيه الان وعاتبه على كلماته، لكان يقول له: إذا كنت مقلداً ولم تكن من أهل التقليد إلّاإنّك مع إحاطتك بالعلوم الاسلامية وتحذقك في معارف أهل البيت عليهم السلام قد وقعت في هذا الخطأ!!

وعلى كل حال فنحن نقر بعظمة هذين العلمين، ونقول: العصمة عن الخطأ خاصة باللّه تعالى وبمن أعطاه هذه الحالة القدسية من أنبيائه والأئمة الطاهرين

ص: 295

والملائكة عليهم السلام والجواد قد يكبوا.

الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض

لايوجد إختلاف جوهري في هذا البحث ما بين هذين العلمين وكلاهما يتفقان في نفي الغلو والتفويض، لكن في مسألة من نسب بعض المشايخ إلى التقصير كأن الشيخ المفيد قد تدارك الشيخ المفيد في البحث السابق، وأورد على الصدوق في قوله (علامة المفوضة والغلاة وأصنافهم، نسبتهم إلى مشايخهم (أو مشايخ قم وفقاً لما جاء في كلام الشيخ المفيد) وعلمائهم، القول بالتقصير).

فقال المفيد: ليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامةً على غلو الناس، الخ... ثم قال الشيخ المفيد: وقد سمعنا حكاية ظاهرةً عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه، لم نجد لها رافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنّه قال (أول درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي والإمام) ثم قال المفيد (فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنّه من علماء القميين ومشيختهم).

وعقّب ذلك بقوله (وقد وجدنا جماعةً وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهرا في الدين، وينزلون الأئمة عليهم السلام عن مراتبهم ويزعمون أنّهم كانوا لايعرفون كثيراً من الأحكام الدينية، حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنّهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لاشبهة فيه).

ثم قال: ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة، سمات الحدوث، وحكمه لهم بالإلهية والقدم إلى أن قال: ولايحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم

ص: 296

وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر (الصدوق) سمة للغلو على كل حال)(1).

الإعتقاد في الظالمين

لم يستدرك الشيخ المفيد في هذا الباب، على الشيخ أبي جعفر الصدوق، ويظهر أن وجهتي نظرهما متحدتان.

الإعتقاد في التقية

في فصل التقية التي تعرض لها أبو جعفر بإجمال، فصّل الشيخ أبو عبد اللّه فيها، وكما قال الشيخ المفيد: فإنه لايجوز كتمان الحق بصورة مطلقة، والصدوق وإن لم يصرح بذلك إلّاأنّ مراده هذا المعنى نفسه أيضاً.

وبديهي إذا لم يكن موجب للتقية ولاضرورة في الأمر، ولايجوز حينئذٍ إنكار الحق وترك الاعلان به، وجميع أدلّة التقية في القرآن والأحاديث تدلّ على هذا التفصيل، ومعنى ما يقال: إنّ التقية ثابتة والعمل بها واجب حتى ظهور المهدي أرواحنا له الفداء، هو أنّه قد تحصل ضرورات أو أخطار قبل ظهور المهدي سلام اللّه عليه مما توجب التقية أو تجيزها وذلك ممكن، لكن بعد ظهوره حيث يظهر اللّه الإسلام والإيمان على الدين كله وينتشر ذلك في العالم وبحكم قوله تعالى:

[يبدل اللّه المؤمنين من بعد خوفهم أمناً] (2) لا وجود للخوف حينئذٍ، فلايبقى

ص: 297


1- تصحيح الاعتقاد: ص 114.
2- النور: الآية 55.

موضوع للتقية.

الإعتقاد في آباء النبي صلى الله عليه و آله

كلا العلمين متفقا القول أنّ آباء النبي صلى الله عليه و آله كانوا موحدين مؤمنين، وكما قال المفيد: إجماع عصابة الحق على هذا الاعتقاد، ويتفق الشيخ المفيد والصدوق في وجهتي نظريهما في إيمان أبي طالب وآمنة ام النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يصرح الشيخ المفيد بذلك.

الإعتقاد في العلوية

إن اختلاف نظر هذين العالمين العليمين الجليلين هو في تفسير الآية الكريمة:

[قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى] (1) حيث فسّر الصدوق كلمة (إلا) في الآية بمعنى الإستثناء، لكن المفيد جعل كلمة (إلّا) بمعنى لكن، فيكون مفاد الصدوق بناءً على هذا أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لأمته ما معناه لاأطلب منكم أجراً غير مودة القربى ويكون مفاد الشيخ المفيد من تفسير الآية إنّي لاأطلب منكم أجراً، وإنّما أطلب منكم أو أُوجب عليكم المودة في القربى.

وقد قال المفيد: لايصح القول بأنّ اللّه تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل بيته عليهم السلام ولا أنّه جعل ذلك من أجره عليه السلام؛ لأن أجر النبي صلى الله عليه و آله في التقرب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه،

ص: 298


1- الشورى: الآية 23.

وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد؛ لأنّ العمل يجب أن يكون للّه تعالى خالصاً، وما كان للّه فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره.

هذا مع أنّ اللّه تعالى يقول: [يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلّاعلى الذي فطرني](1) فلو كان الأجر على ما ظنّه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن حتى قال فيكون قوله: [قل لا أسألكم عليه أجراً](2) كلاماً تاماً، ويكون قوله: [إلا المودة في القربى](3) كلاماً مبتدأ إلخ...(4)

لكن الظاهر أنّ هاتين الجملتين بعضها مرتبط ببعض مسوقتان للترغيب في:

[المودة في القربى] (5) وليست الجملة الأولى: [لا أسألكم عليه أجراً](6) هي لعدم سؤال الأجر، بل هي مقدمة وتمهيد لبيان مفاد الجملة الثانية، فهي بهذا المعنى أنّي لاأُريد منكم أجراً قبال حق الرسالة العظيم عليكم سوى المودة في القربى، ولما كانت الجملتان مترابطتين فلاتهافت بينهما.

وأما (قول المفيد) بأن الرسالة لكونها عملاً للّه فأجرها على اللّه، فجواب هذا الكلام: أنّه لازم أداء هذا العمل للّه هو إثبات الحق لرسول اللّه على أُمته، والأمة مسؤولة أيضاً أن تؤدي ما عليها من الحق، لذا فقد كلّفت هذه الأمة عرفاً وترغيباً لأداء حق الرسالة بهذا البيان وهو مودة ذوي القربى من أهل بيت محمد صلوات3.

ص: 299


1- هود: الآية 51.
2- هود: الآية 51،؛ الشورى: الآية 23، الأنعام: الآية 90.
3- الشورى: الآية 23.
4- تصحيح الإعتقاد ص 118
5- الشورى: الآية 23.
6- الشورى: الآية 23.

اللّه عليهم أجمعين...

وعلى كل حال، فينبغي أن يعالج هذا الكلام برُمّته في التفسير، لكن ما ينبغي الإشارة إليه وبناءً على التفسيرين ووفقاً لما ورد في الروايات الكثيرة فإنّ المراد بالقربى هو قربى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقد إتفقت وجهتا نظر الصدوق والمفيد على ذلك.

الإعتقاد في الأخبار المفسّرة والمجملة

لايوجد في هذا الباب نقاش بين الصدوق والمفيد، إلّاأنّ الظاهر اتفاقهما على أنّ الأخبار المفسرة حاكمة على الأخبارالمجملة.

الإعتقاد في الحظر والإباحة

قال الصدوق في هذا الباب (الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهي) وخلاصة كلام الشيخ المفيد المتين: أنّه ليست الأشياء كلها مطلقة ومحكومة بالإباحة فالأشياء في أحكام العقول على ضربين:

أحدهما: معلوم حظره بالعقل... كالظلم والسفه والعبث (فالعقل لا يجيز ارتكابها وإن لم يصلنا نهي عنها). والضرب الآخر: وهو ما ليس للعقل فيها حكم، فهذه القاعدة جارية في هذا الضرب.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ رأي الصدوق يوافق هذا الرأي أيضاً وهذا تعبيره إنّما هو بلحاظ أنّ كل ما قبّحه العقل ووبّخ عليه فاعلَه فقد نهى عنه الشارع، لذا بوسعنا أن نقول: الناس أحرار في جميع الأمور، إلّاما ورد النهي عنه.

ص: 300

الإعتقاد في الأخبار الواردة في الطب

في باب (الأخبار الواردة في الطب) أيد الشيخ أبو عبد اللّه شيخه أبا جعفر الصدوق وأضاف قسماً آخر على هذه الأحاديث التي ذكرها الشيخ أبو جعفر...

غاية ما في الأمر أنّ الشيخ المفيد قال: الطب صحيح والعلم به ثابت وطريقه الوحي وإنّما أخذ العلماء به عن الأنبياء... إلخ.

ولكن الظاهر أنّه وإن لم يكن هناك سبيل إلى النفي، أن (الطب وتعلّمه إنّما هو من تلقين الأنبياء) إلّاأنّ القول بأنّ علم الطب كله من السماء مخالف للتجربة والحس. فالبشر وقف على الطب الذي هو واحد من العلوم الكثيرة والصناعات التي تعلّمها بذكائه واستعداده وتجاربه، وإن قلنا بجواز الإقتباس في بعض موارده وأقسامه من الأنبياء والوحي في ما مضى، أو في ما سيأتي من الزمن.

الإعتقاد في الحديثين المختلفين

هذا البحث طويل الذيل وقد اشبع تفصيلاً في باب التعادل والترجيح في الأصول، لذا فقد ارتأينا أن لانلج هذا البحث الذي تعرض له هذان العلمان الجليلان بل نحيل تحقيق مطلبه إلى مراجعة أصول الفقه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام

على سيّدنا محمد وآله الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين

لطف اللّه الصافي

7 جُمادى الأُولى 1413 ه

ص: 301

ص: 302

سِرُّ البداء

اشارة

ص: 303

ص: 304

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب والصلاة والسلام على أفضل أولى الألباب سيدنا أبي القاسم محمد وآله الأطياب أعدال الكتاب سيما الإمام الذي يملأ الأرض بالعدل والصواب، ويجعل كيد الكافرين في تباب، واللعن على اعدائهم من الآن إلى يوم الحساب.

وبعد: فهذه رسالة وجيزة في البداء سمّيتها (سرّ البداء) كتبتها تبصرة لنفسي ورجاء ان ينتفع بها غيرى، وإن يجعلها اللّه تعالى ذخراً لي ويتقبلها منّى بفضله وكرمه ويعفو عن زلاتى وخطيئاتي بعفوه ورحمته انه كريم رحيم ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم.

ص: 305

ص: 306

حول البداء

والكلام فيه يقرر في ضمن مباحث:

الأول: إعلم إنَّ من جملة معتقدات الشيعة الإمامية والفرقة الناجية المقتبسة من الكتاب والسنة وممّا يفصح عنه اتفاق كلمات علمائهم في التفسير والحديث والكلام والعقايد أمران:

الأمر الأول: الاعتقاد بأن اللّه تعالى عالم لجميع الأشياء من الأزل وقبل وجودها لا يزيد في علمه شيئاً، ولايزداد فيه ولاتأخر لعلمه عن ذاته، ولاهو غير ذاته بل هو عين ذاته، وهو العالم بالاشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها ليس علمه مسبوقاً بالجهل كما أن وجوده ليس مسبوقاً بالعدم، وقدرته ليست مسبوقة بالعجز فهو منزّه عن كل ما فيه وصمة الجهل، والنقص، ومقدس من أن يظهر له أمر على خلاف ما علم أو بعد خفائه عنه (تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً)

وقد أثبتوا في كتبهم الكلامية وغيرها إستحالة خفاء شيء عنه كاستحالة كونه محلاً للحوادث والتغيير والتبديل. ويترتب على كل من الإستحالتين إستحالة

ص: 307

البداء بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء، وحصول العلم به بعد الجهل به على اللّه سبحانه وتعالى.

الأمر الثاني: اعتقادهم بان اللّه تعالى قادر مختار ينشئ الاشياء بمشيته، ويفعل ما يشاء بحكمته. له الخلق والامر والتدبير، لم يفرغ من أمر الخلق والرزق لايفعل ما يفعل بالايجاب، بل بالارادة والمشيّة.

فكل يوم هو في شأن، ولايغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بانفسهم.

يمحو ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب.

يقدّم أجل هذا ويؤخر مدة ذاك.

يخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحى.

يعزّ من يشاء ويذل من يشاء يرسل الرياح وينزل الغيث، وما من دابّة في الارض الا عليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.

بعث النبيين واحداً بعد واحد مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم الكتاب كتاباً بعد كتاب.

يسمع دعاء عباده ويستجيبه، ويدفع عنهم ميتة السوء، والبلاء، ويفرّج عنهم الغموم، ويكشف منهم الهموم. يزيد في الأعمار، والآجال، والأرزاق، والأمطار، والبنين، وسائر ما أنعم به على عباده بالايمان والتقوى والأعمال الصالحة كالصدقة وقضاء حوائج الناس، والاحسان اليهم، وصلة الرحم، والبرّ بالوالدين وشكر النعمة، والإستغفار، والتوبة.

ص: 308

قال اللّه تعالى: [لئن شكرتم لازيدنكم](1).

وقال سبحانه: [استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم باموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً](2).

وقال عز وجل: [ولو أنهم اذ ظلموا انفسهم جاؤك فاستغفروا واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحيماً](3).

وقال سبحانه وتعالى: [ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب](4).

وقال: [ولو أنّ اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذّبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون](5) و... و...

فالآيات الكثيرة المشتملة على الجملة الفعلية المضارعة دالة على أن اللّه تعالى لم يفرغ من الأمر والتدبير، ومنها يعلم تفسير قوله تعالى: [كل يوم هو في شأن](6) وانه لايشغله شأن عن شأن، وان نزول كثير من النعم ودوامه وبقائه مشروط بأعمال العباد وحسن تصرفهم في النعم ومقدار شكرهم عليها.9.

ص: 309


1- إبراهيم: الآية 7.
2- نوح: الآية 10-12.
3- النساء: الآية 64.
4- الطلاق: الآية 2-3.
5- الأعراف: الآية 96.
6- الرحمن: الآية 29.

وأما الأحاديث: فهى أيضاً من طرق الشيعة فوق حد الإحصاء، كقوله صلى الله عليه و آله:

«صلة الرحم تزيد في العمر وتدفع ميتة السوء وتنفي الفقر»(1).

وقال صلى الله عليه و آله: «من أكثر الإستغفار جعل اللّه له من كل همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لايحتسب»(2).

وروايات كثيرة رويت في الترغيب على الإنفاقات والصدقات والخير والإحسان، واكرام الذرية الطاهرة، واعانة الضعفاء، وقضاء الحوائج، والبرّ بالوالدين، والأيتام واداء حقوق الجار والاخوان وغيرها من الاعمال الصاحلة سيما الصلاة والصيام والدعاء.

ومن طرق العامة ايضاً كذلك:

منها ما أخرجه السيوطى في الدر المنثور(3) قال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي رضى اللّه عنه انه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية (يمحو اللّه....)؟ فقال له: لاقرن عينيك بتفسيرها ولاقرّن عين امتى بعدى بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة، ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء.

(وقال) اخرج ابن ابى شيبة في المصنف، وابن ابى الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات الا وسع اللّه له في6.

ص: 310


1- بحار الأنوار: ج 74 ص 172.
2- نفس المصدر.
3- الدر المنثور: ج 4 ص 66.

معيشته:

(يا ذا المن ولا يمنّ عليه يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول لااله الاانت ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين ان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً فامح عنّى اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً، وإنْ كنت كتبتني عندك في أمّ الكتاب محروماً فامح حرمانى ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فانك تقول في كتابك الذي انزلت: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب](1).

وأخرج أيضاً في الدر المنثور (2)(قال) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (يسأله من في السماوات والارض) يعنى: يسأل عباده ايّاه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك.

(قال) وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والبزاز وابن جرير والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الايمان، وابن عساكر عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه: (كل يوم هو في شأن) قال: من شأنه ان يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين، وزاد البزاز وهو يجيب داعياً.

ومنها ما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: من سره ان ينبسط له رزقه او ينسا له في اثره فليصل3.

ص: 311


1- الرعد: الآية 39.
2- الدر المنثور: ج 6 ص 143.

رحمة(1) وكذلك يبتلى عباده بالفقر والمرض، ونقص الأعمار والأرزاق وتغير النعم وحبس الدعاء ونزول البلاء بكفرانهم النعم وتكذيبهم الرسل، وظلم بعضهم بعضاً وقطع الرحم والزنا وسائر المناهى والمعاصى لإستصلاحهم، وتكفير ذنوبهم، وتمحيصهم ولحكم اخرى وعنايات يختص بها بعض عباده المخلصين فيبتليهم لترفيع درجاتهم وظهور شؤونهم العالية، وتسليمهم وانقيادهم ليكونوا اسوة حسنة لمن اراد أن يتأسى بهم ولغير ذلك من الحكم المتعالية التي هو أعلم بها.

قال اللّه تعالى: [ضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بانعم اللّه فاذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون](2) وقال جلّ ثناؤه: [ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون](3).

وقال تبارك وتعالى: [ذلك بأن اللّه لم يك مغيراً نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بانفسهم](4).3.

ص: 312


1- صحيح البخاري ج 2، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق ص 4 صحيح مسلم: ج 8، كتاب البرّ، ص 8 قال ابن الأثير: الأثر الأجل وسمى به لأنّه يتبع العمر، قال زهير: المرء ما عاش ممدود له أمل لاينتهي العمر حتى ينتهي الأثر.
2- النحل: الآية 112.
3- الروم: الآية 41.
4- الانفال: الآية 53.

وقال عز وجل: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](1).

وقال سبحانه: [وواعدنا موسى ثلثين ليلة واتممناها بعشر فتمّ ميقات ربه اربعين ليلة](2).

وقال اللّه تعالى: [ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشّر الصابرين](3).

وقال سبحانه وتعالى: [ولقد اخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون](4).

وقال عز وجل: [وان يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له الا هو، وان يردك بخير فلا رادّ لفضله](5).

وقال: [امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض](6).

وقال تعالى شأنه: [فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين](7).8.

ص: 313


1- فاطر: الآية 11.
2- الاعراف: الآية 142.
3- البقرة: الآية 155.
4- الاعراف: الآية 130.
5- يونس: الآية 107.
6- النمل: الآية 62.
7- يونس: الآية 98.

وقال عز اسمه: [فلولا انه كان من المسبحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون](1).

وقال جل ثناؤه: [فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر](2).

و و و.....

وروى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنَّ اللّه يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر»(3) ، «ولو أنَّ الناس حين تنزل بهم النقم ونزل عنهم النعم رجعوا الى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد اليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد»(4).

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ والتقوى فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولافي السماء»(5)

وملخص الكلام: إنَّ من سبر الآيات الكريمة والأحاديث من طرق الخاصة1.

ص: 314


1- الصافات: الآية 143-144.
2- الأنبياء: الآية 84.
3- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 199 خ 143؛ بحار الأنوار: ج 88 ص 312.
4- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 257 خ 178؛ بحار الأنوار: ج 29 ص 597.
5- تهذيب الأحكام: ج 6 ص 181.

والعامة لايبقى له شك في أن اللّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت ولم يعجزه ولايعجزه شيء في الأرض ولافي السماء يختار لعبيده ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته الكاملة من الزيادة في الرزق أو النقص منه، وكذا يزيد في عمر بعضهم، وينقص عن عمر البعض الآخير، ويديم الصحة أو يزيلها، ويبدلها بالمرض ويقدم أمراً ويؤخر آخر، ويكتب من كان مكتوبا من الأشقياء في السعداء وبالعكس، ويوفّق بعض الناس للخير ويحرم بعضهم منه خذلاناً باعمالهم، ويختار لهم في جميع شئونهم ما يريد على حسب حكمته. لم يترك امر تدبيره فيهم ولم يفرغ منه وهو العليم الخبير القدير المدبر الحكيم.

هذا هو البداء بمعناه الصحيح واعتقاد الشيعة فيه الذي جاءت به مآة من النصوص في الكتاب والسنة ومآله وحقيقته العقيدة بالقدرة المطلقة الأزلية للذات الإلوهية المقدسة كما إنَّ نفي البداء عن اللّه تعالى بمعناه الباطل وهو ظهور الشيء له بعد خفائه عنه ايضاً يرجع الى العقيدة بصفة كمالية أخرى وهي علمه الأزلى بالكليات والجزئيات وتقدس ذاته المقدسة عن الجهل مطلقاً.

ولايخفى عليك إنَّ أمر النبوات، والعقيدة بها، والبشارة والإنذار والوعد والوعيد والامر والنهي والترغيب والتهديد، والحثّ على الدعاء والتوبة والتوكل والتفويض، وشكر النعمة وأمثالها إنما يتم بهذه العقيدة والإيمان بأن اللّه لم يفرغ من الامر وكل يوم هو في شأن، ولاينافى ذلك علمه الأزلي بكل ما يقع في المستقبل وما يقدمه وما يؤخره، وما يزيد وما ينقص، وهذا مذهب جمع من الصحابة، ولم اطلع على احد منهم ومن التابعين كان مذهبه نفى ذلك ولاأظن بأحد من العلماء من أهل القبلة إلّابعض من يأتى الإشارة اليه غير ذاك.

ص: 315

وزيادة على ذلك نقول: إن علمه تعالى لاينقض حكمته ولايقيد قدرته ومشيته، وقدرته لا تنفى علمه لاحدّ لكل واحد منهما ولايتصور زيادة كل منهما على الآخر وكل منهما على سعته التي لانهاية لها فهو العليم القادر المريد العزيز، الحوادث كلها تجرى بأمره وتدبيره، يزيد في الخلق ما يشاء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير القائم بشئون خلقه ولم يفرغ من ذلك، يبتلى الانسان فيكرمه وينعّمه و يقدّر عليه رزقه، والحوادث كلها وكل واحد منها ليس واجب الوقوع حتى لايكون لله فيه أمر ونهى ولايقدر على تغييره والزيادة فيه أو النقصان بل له الأمر والتدبير قبل كل شيء ومع كل شيء وبعده (ما رأيت شيئاً الا ورأيت اللّه قبله وبعده ومعه)(1) يفصل فيه ما يشاء، وصفاته وأسمائه الفعلية كالمنان، والرزاق، والكافي، والشافى، والمعطى، والمجيب، والمصور، والمدبر، والبديع، والبدىء، والحافظ، والرقيب، والواهب، والمنعم، والمحسن، والمغيث، والمميت، والمحيى كلها يدل على ذلك، وان معانيها لم ينقطع، ولا ينقطع، وإنّه لم يزل، ولايزال من شأنه أنْ يرزق، ويشفى، ويكفى، ويعطى ويمنع ويجيب، ويخلق ويصور، ويبدىء، وينعم، ويغيث، وينجى، ويهلك، ويرسل الرياح والمنان بالعطيات و و...

ومن الواضح إنَّه اذا كان قد فرغ من الامر، ولم يكن له الزيادة والنقصان في شئون عباده لا يتصور مفهوم فعلىّ حقيقى لهذا الاسماء، ولايتعقل اتصافه بهذه الصفات إلا بالتمحل والتكلفات وسيأتي زيادة توضيح في المبحث الثالث ان شاء اللّه تعالى.1.

ص: 316


1- انظر: مرآة العقول: ج 10 ص 391.

اعتقاد الشيعة بالبداء بمعناه الصحيح

المبحث الثاني: قد ظهر لك مما ذكرنا أنّ الخاصة، والعامة تشتركان في العقيدة بما اوجب توهم القول بالبداء بمعناه الفاسد المردود عندهما ولكن التعصّب والعناد حمل النصاب واعداء أهل البيت يرمى الشيعة بهذا القول وهم بفضل تمسكهم بالكتاب والعترة (الثقلين) بريئون عن هذه العقيدة الفاسدة، وأبعد من هذا الضلال المبين من السماء عن الأرض نعم حكى عن غير الشيعة مثل النظام وبعض المعتزلة: القول بأن اللّه تعالى قد فرغ من الأمر بخلقه الموجودات دفعة واحدة على ما هى عليه الآن معادن ونباتاً وحيواناً وانساناً ولم يتقدم خلق آدم على خلق اولاده والتقدم إنما يقع في أمورها لافي حدوثها ووجودها واخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة ومثل هذه العقيدة ما ذهب اليه بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية وبأن اللّه تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الاول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه، حكى عن بعضهم:

أن اللّه تعالى أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهرية لا ترتب فيها باعتبار

ص: 317

الصدور بل انّما ترتبها في الزمان فقط كما إنّه لاتترتب الأجسام المجتمعة زماناً وإنما ترتبها في المكان فقط(1) مثل هذا القول، قول المجبّرة في «المقتول لو لم يقتل» فقالت: إنّه كان يموت قطعاً ومن يستنكر القول بالبداء ولايؤمن بما دلت عليه ما تلونا عليك من الآيات والروايات نسئل عن رأيه في قدرته تعالى: للّه جل شأنه أنْ يفعل ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ويشفى ويعطى من يشاء ويستجيب دعاء من يشاء ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء؟ فان قال: نعم فهذا ما يقوله الشيعة وهو ما يسمونهم بالبداء، وان قال: لا فقد أنكر قدرة اللّه تعالى وأنكر الكتاب والسنة ووافق اليهود في قولهم: يد اللّه مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا فمن ذهب الى انكار البداء يتّبع اليهود وغيرهم في هذه المقالة الكافرة ونفى قدرة اللّه تعالى المطلقة ونفى سائر صفاته الكمالية واسمائه الحسنى تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

فان قلت: فلماذا سمى تلك العقيدة الصحيحة بالبداء الذي هو بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء.

قلت: أوّلاً نمنع هذا الظهور وثانياً نقول ان ظهوره بدوى يزول بالقرائن العقلية والمقالية وليس بأقوى من ظهور الآيات والروايات في ذلك لولا تلك القرائن فكما لادلالة لهذه الآيات على علمه بشيء بعد الجهل به بدلالة آيات أخرى والقرينة العقلية، لادلالة لهذا اللفظ أيضاً على ذلك اصلاً بدلالة الآيات والروايات وما إستقر عليه عقيدة القائلين بالبداء سيما أئمة أهل بيت عليهم السلام.2.

ص: 318


1- مرآة العقول: ج 2، ص 131 و 132.

ولايخفى إنَّ باب المجاز في جميع اللغات سيّما اللغة العربية باب واسع وفي الكتاب والسنة ما لايحصى والمتبع في الدلالات الكلامية و غيرها هو الذوق السليم والرأى المستقيم وإنّما دخل بعض الآراء الفاسدة مثل القول بالتجسيم وإنْ له تعالى يد و جنب ورجل وغيرها من الأعضاء - لمّا جاء في الكتاب والسنة مجازاً وتعبيراً عن احاطة قدرته وعلمه وغيرهما من صفاته الكمالية - لاعوجاج فهم البعض والحرمان عن صفاء الذهن ونورانية الضمير فتمسكوا في عقايدهم الفاسدة الى الألفاظ المجازية الموهمة عند صاحب الذهن السقيم لآرائهم فنعوذ بالله من الحرمان والخذلال ونسأله التوفيق والإيمان.

ص: 319

دفع الإشكال عن البداء

المبحث الثالث: إنّه وإن ظهر بما لايزيد عليه أنّ العقيدة بالبداء بمعناه الصحيح الذي بسطنا الكلام فيه مأخوذة من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة وعليها قام نظام التشريع ومصلحة النبوات، وإستكمال النفوس وتربيتها وتزكيتها وقيام الامور بالقسط ولذا جاء في الأحاديث تعظيماً لهذه العقيدة:

ما عبد اللّه بشيء مثل البداء(1) إلا أنه لقائل أن يقول:

نعم لاريب في بطلان القول بالبداء بمعناه الفاسد الذي أشرتم اليه لإستحالة الجهل على اللّه تعالى شأنه عن ذلك وعن كل نقص، وإستحالة عروض التغير والتبديل عليه ولاريب ايضاً في صراحة الآيات والروايات فيما ذكرتم للبداء من معناه الصحيح الا أنّ الأخذ بالآيات والروايات، وما دلت عليه إنما يصح لو لم

ص: 320


1- التوحيد: ص 231 و 233 ب 54 ح 1 و 2، البحار: ج 4 ب 3 ح 19 و 20.

يصادم ذلك اشكال عقلى والا يلزم تأويل الظاهر والصريح على ما لايدفعه ذلك الإشكال.

بيان الاشكال: كيف يوفق بين هذا الأصل الاصيل الذي يقتضى وجوب وقوع جميع الحوادث على وفق علمه تعالى، وعدم امكان احداث تغيير وتبديل وتقديم وتأخير فيه لتنزهه تعالى شأنه عن صيرورته محلاً للحوادث وبين ما تقتضيه ظواهر هذه الآيات، واسمائه الحسنى، والاحاديث على كثرتها من أنه يفعل ما يشاء، ويستجيب الدعاء ويدفع البلاء، ويزيد في الآجال، وينقص منها وإنّه يُخبر بعباده اذا غيروا ما بأنفسهم ويمحو ما يشاء ويثبت على وفق حكمته، واقتضاء أفعال عباده من الخير والشر فهو كل يوم في شأن وكل ذلك لا يجمع مع تعلق علمه بالحوادث من الازل ولاريب أن القائل بالبداء بالمعنى الذي ذكرتم له لا يرضى لنفسه أن يكون لازم اعتقاده انكار علم اللّه تعالى الازلى بالحوادث واثبات تجدد علمه بها تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً اذا فكيف يوفق بينهما؟

أقول: هذه الشبهة، وشبهة المجبرة ترتضعان من ثدى واحد ولو تمت لبطل أكثر مسائل النبوات.

والجواب: أوّلاً: إنَّ علمه تعالى قد تعلق بوقوع أفعاله باختياره وارادته ومشيته، وأفعال العباد أيضاً باختيارهم وارادتهم فلو كان تعلق العلم بها موجباً لخروج الفعل عن إختيار الفاعل ومشيّته لزم الخلف وتخلف العلم عن المعلوم.

وثانياً: العلم بالشيء لايمكن أن يكون علةً لوجوب وجود المعلوم لأنّه مع غضّ النظر عن تعلق العلم به إنْ كان وجب وجوده بواسطة وجود علته ولذا صار وجوده متعلقاً للعلم به لامعنى لتأثير العلم في وجوب وجوده وإنْ لم يجب

ص: 321

وجوده بحيث كان تعلق العلم به علة وجوده أو من أجزاء علته يلزم الدور المحال لتوقف العلم به على وجوده في ظرفه، وتوقف وجوده على وجوبه فان الشيء ما لم يجب لم يوجد وتوقف وجوبه على تحقق علته التي هي عين العلم به.

وعلى هذا لايلزم من علم اللّه تعالى بأفعاله وأفعال عباده الإيجاب في الأفعال الصادرة منه تعالى ولا الجبر في أفعال المكلفين، ولاتخلف المعلوم عن العلم به.

ص: 322

جريان البداء وقانون العلية

المبحث الرابع: ربما يسأل فيقال: كيف يجوز أن يمنع في هذا العالم المادّى الحاكم عليه الأسباب الماديّة مثل صلة الرحم والصدقة والدعاء وغيرها عن تأثير الاسباب المادّية في مسبباتها، وكيف تؤثر هذه الامور في حصول مسببات مادّية لها أسباب مادية إختصت بها، وكيف يتغير بها السنن السائدة على الكون، والقواعد المحكمة الحاكمة عليها التي قام عليها باذن اللّه تعالى وتقديره نظام هذا العالم فمن يزرع الحنطة مثلا يحصد الحنطة ولايحصد منها الشعير والأرز، ومن سعى وجدّ واجتهد يحصل أكثر ممن قعد وتهاون وكسل، والنار مقتض للإحراق لايمنعه من ذلك الا عدم وجود شرطه أو وجود مانعه المادى،

والحاصل: أنَّ تأثير المقتضيات المادية في مقتضياتها التي تكون ايضاً مادّية لامحالة ليس موقوفاً على أزيد مما نرى وهو وجود المقتضى والشرط وعدم المانع، وبعد حصول ذلك الذي نسميه بالعلة التامة لايتخلف المعلول المادى عن علته المادّية.

ص: 323

أقول: كان هذا القائل توهم أن القائل بالبداء بمعناه الصحيح إنّما يقول بتأثير الأسباب الغيبية وعالم الغيب في عالم الشهادة فقط فيمنع من وقوع بعض الحوادث والامور حتى بعد تحقق سببه المادّى أو تؤثر ما له سبب مادى بدون تحقق سببه المادي فلا يقع البداء في عالم الأسباب والمسببات العادية التي يدرك الإنسان استنادها الى أسبابها بالحسّ وغفل من أن ناموس البداء جار في الامور التكوينية سواء كان ذلك أي حصول البداء بواسطة أمر مثل الدعاء وصلة الرحم، والذنوب والأعمال الصالحة أو بواسطة أمر من الامور المادّية فالامر الذي يقع فيه البداء ما ليس وقوعه من الامور المحتومة بل موقوف في كثير من الموارد على أفعال العباد وكسبهم سواء كان هذا الفعل يعد سبباً عادياً في الامر البدائي وجوداً أو عدماً كسعى العبد أو تكاسله عن السعى والعمل فالذي يقتل نفسه أو غيره لم يحكم علمه بذلك وليس عمله هذا من الامور المحتومة، والمقتول أيضاً لم يكن موته محتوماً عليه في هذا الزمان بل كان حياته موقوفة على عدم حدوث ما يقطع إستمرار حياته وهو قتله وعلى هذا المبنى يجب على الإنسان التحفظ ودفع العدوّ نعم قد يكون ذلك من الامور المحتومة بحيث لو لم يقتل في هذا الوقت لكان يموت فيه بحتف الأنف وهذا أيضاً وإنْ كان بلحاظ أن موته بحتف الانف موقوف على عدم موته بالقتل يكون من الامور البدائية الا أنه بملاحظة أن زهاق روحه في هذا الزمان كان محتوماً لايقع فيه البداء وإنْ كان أيضاً من الامور البدائية بلحاظ جواز وقوع البداء فيه عقلاً لولا كونه في تقدير اللّه تعالى من الامور المحتومة التي لايقع فيه البداء.

نعم لم يبحث عن مثل هذه الأمور في مبحث البداء وإختصوا البحث فيه

ص: 324

بالامور التي يقع تحت سيطرة عالم الغيب، وما لايعدّ من الأسباب المادّية كالدعاء والصدقة وغيرها مع أن ملاك البحث والنفي والاثبات بالنسبة إليها واحد.

وبعبارة أخرى نقول: أن الاسباب سواء كانت ظاهرة مرئية محسوسة أو كانت غيبية مخفية تحقق بها مسبّباتها باذن اللّه تعالى وتقديره وتمنع عن وقوعها موانعها سواء كانت ظاهرة أو غيبية وحيث أن الكل مستند اليه وهو جاعل الأسباب وفاعلها وخالق موانعها ويقدرها ولو باقداره العبد عليها وإنْ كان ما يجرى في العالم يجرى بارادة اللّه تعالى التكوينية فهو الماحى والمانع اذا منع - المانع الظاهرى أو الغيبى - السبب، كذلك عن تأثيره وهو المثبت اذا أثر السبب في مسببه وتحقق سواء كانا هذا أومن ذاك فالمرض الكذائى يمنع المريض من أن تمتد حياته الى أجله المسمى فيمحو اللّه تعالى ذلك بالصدقة وصلة الرحم ويثبت حياته ويؤخر في أجله والشخص الصحيح تقتضى صحته بقائه الى اجله المسمى ويمنع من ذلك بعض اعماله السيئة كل ذلك باذن اللّه تعالى وتقديره في نظامه الأتم الأحسن الذي قرره في خلقه.

ويمكن أن يقرر هذا بوجه آخر وهو أن يقال: أن الاسباب الظاهرية العادية التي تتحقق في عالمنا المحسوس والشهادة تقتضى تحقق مسبباتها فكما أنه يمحى أثرها بالموانع الظاهرية يمحى أثرها ببعض الموانع الغيبية فمثل صلة الرحم تدفع ميتة السوء التي تحقق سببها الظاهرى وكذلك توجب بعض الامور الزيادة في العمر والرزق إما لأن اللّه جعل في هذه الامور هذه الخواص أو لأن اللّه تعالى وعد عباده بأنه يفعل ذلك عند إتيان المكلف بها وعلى كلا الوجهين قد

ص: 325

دلت الآيات والروايات قال ا لله تعالى: [ولئن شكرتم لازيدنكم](1) ، وقال جل إسمه: [ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض](2) ، وقال: [أفرأيتم ما تمنون أ أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون](3) وفي الدعاء «اللهم إغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء»(4) والحاصل أن كل الامور الغير المحتومة واقع تحت سنة المحو والإثبات.

وثانياً نقول: أن الظاهر من هذا الايراد الاستبعاد أو انكار سلطان عالم الغيب وتأثير الاسباب والموانع الغيبية على عالم الشهادة.

وهذا التوهم: إمّا ينشأ من قصر النظر الى عالم الشهادة، والتأثر من تسويلات الحسيّين والماديين الغافلين أو المنكرين لعالم الغيب وتأثيره في عالم الشهادة.

وإمّا ينشأ من قضاء العادة على وقوع أمر بعد أمر آخر بمشية ألله وتقديره فيتوهم أن هذا مقتضى تمامية ألامر الأول في العليّة للأمر الثاني فلا يجوز أن يتخلف عنه كما لايجوز تخلف المعلول عن علته التامّة فكانه لم يعرف المتوهم الفرق بين المقتضى والعلة التامة، وبين العلة وأجزائها، وبين ما يقارن وجوده وجود شيء آخر، ولم يتفطن الى جواز عدم احاطة البشر بجميع العلل ومعلولاتها، وشرائطها وموانعها وكون عالم الظاهر تحت سيطرة عالم الغيب، وتأثير الأسباب الغيبية باذن اللّه تعالى في عالم الشهادة فيزعم العلة ما ليس بها،0.

ص: 326


1- إبراهيم: الآية 7.
2- الأعراف: الآية 96.
3- الواقعة: الآية 58-59.
4- الكافي: ج 2 ص 590.

ومعلولها ما ليس هو مع أنّه لايرى شيئاً غير وجود شيء عند وجود شيء آخر أو أشياء أخرى ولم ير عليّة هذا لذاك ولم يفهم لماذا صار هذا الامر المادّى علة لهذا ولماذا صارت علية هذا لذاك ذاتية له ولم تصر ذاتية لشيء آخر، أليس هذا يعنى القول بالعلل المادية وأنها من ذاتيات العلل الأخبار عن الغيب وما أحسن قولهم في تعريف المعجزة أنها خرق عادة يأتى بها النبي عند التحدّى وطلب القوم منه الآية والمعجزة كما جاء في القرآن الكريم حكاية عن فرعون في محاجتة مع النبي موسى على نبينا وآله وعليه السلام قال: [ان كنت جئت بآية فات بها ان كنت من الصادقين فالقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين](1).

لايقال: أن ما تقول ينتهى الى نفى قاعدة العلية، ولازمه تأثير كل شيء في كل شيء أو عدم تأثير شيء في شيء.

فإنّه يقال: أن القاعدة تامة لاخدشة فيها، والعلة التامة كلّما وجدت لاتنفك عن معلولها، ولايجوز وجود المعلول بدون العلة كما لايجوز وجود الحادث بدون المحدث القديم ووجود المخلوق بدون الخالق لكن لاتعرف بنفس هذه القاعدة مواردها ولاتثبت بها مصاديقها. فربما يتحقق المقتضى والشرط وعدم المانع فيزعم الغافل من الشرط و عدم المانع أن المقتضى تمام العلة كما ربما يغفل من عدم المانع فيستند المعلول الى المقتضى والشرط أو بالعكس يستنده الى المقتضى وعدم المانع.

وعلى هذا يجوز أن يمنع ارادة اللّه القاهرة على جميع ما سواه النار من7.

ص: 327


1- الأعراف: الآية 106-107.

الإحراق وغير ذلك مما وقع في التكوينيات على خلاف العادة وجريان الأسباب والمسببات العادية.

فمن قصر نظرها الى ما يعرف من الأسباب الظاهرة ولم يلتفت الى غيرها مما يجهلها من الأسباب الظاهرة والباطنة وحكم اللّه تعالى وسننه في تربية عباده، وإستصلاح أمورهم لا يرى تخلف المسببات عن الاسباب الظاهرة تشمله هذه الآية الكريمة: [يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون](1).

ولو طرح حجاب الغفلة والإلتفات الى ظاهر الحياة الدنيا يفهم ان سنن اللّه تعالى لا تنحصر فيما يعرفه من قصر نظره الى عالم الظاهر فالدعاء والصدقة وصلة الرحم، وإعانة الضيف وشكر النعمة وغيرها، وكذا الظلم وقطع الرحم وغيرهما من الاعمال السيئة تؤثر في وقوع كثير من الحوادث باذن اللّه تعالى وسنته ويغير اللّه تعالى لها مظاهر حياتنا المادية من الرخاء والخصب، ونزول الأمطار، وظهور البركات كما يغير بها حالات النفوس وأحوال القلوب فتشملها التوفيق أو تحرم منه وتبتلى بالخذلان. ولانعنى بالبداء إلا ذلك.

فيزيد اللّه تعالى بصلة الرحم في عمر من لايتجاوز عمره بحسب الأسباب الظاهرة - لو لا هذه الصلة - من ثلاثين مثلاً الى أربعين، أو ينقص منه بواسطة قطع الرحم مثلاً الى عشرين، وهكذا يدفع بصلة الرحم أو الصدقة أو الدعاء عن البلاء وميتة السوء. وكذا يؤثر عمله في شقاوته وسعادته فيكتسب بالأعمال الصالحة، والتوبة السعادة فيمحو اللّه إسمه من الأشقياء ويثبته في زمرة السعداء كما هو في7.

ص: 328


1- الروم: الآية 7.

أم الكتاب. ولايزيد في العمر ولا ينقص منه الا اللّه، ولايدفع البلاء، ولايكتب الشقي سعيداً الا اللّه، وملائكته العاملين الموكلين على هذه الامور بأمره اذاً فليس لنا إلا القول بذلك، وإنّه لم يغلق باب رحمة اللّه على عباده، وأنّه هو الحاكم البارىء المصور المعزّ الخالق لما يشاء والفاعل لما يشاء لااله الا هو العزيز الحكيم.

ص: 329

في محل البداء

المبحث الخامس: لايخفى عليك أن محل البداء بمعناه المعقول المستفاد من الكتاب والسنة ليس جميع الامور حيث أن الحوادث كما دلّ عليه العقل والنقل ليست كلها موقوفة غير محتومة بل بعضها محتوم، وبعضها مما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات موقوف على أمر من الامور كالدعاء والصدقة وبعبارة أخرى كلّما يحدث في العالم وما يعرضه من الحالات والعوارض اما يكون بامر اللّه تعالى محتوم الوقوع ليس وجوده أو عدمه أو طروّ حالة عليه مثل عروض زيادة أو نقص موقوفاً على امر من الامور وشأن من الشئون أو لايكون كذلك بل لوجوده أو فنائه وطروّ حالة عليه، صورتان، طبيعية وهى ما يقتضيها طبع الكائن، وغير طبيعية وهى ما يمنع طبع الكائن عن التأثير مطلقاً أو يؤخر أو يقدمه فمثلاً يمكن أن يقال إن لبعض أفراد الإنسان بحسب القضاء الإلهي أو بحسب طبعه وإستعداد مزاجه اقتضاء أن يعيش إلى تسعين سنة فلا يعيش أزيد من ذلك إلا أن له أجل آخر بل مدة أُخرى قبل ذلك فيموت به في ستين مثلاً لامر

ص: 330

من المرض وغيره فان وصل الرحم أو تصدق بصدقة يؤخر موته به وكذلك قطع الرحم يعجل فناءه قبل الستين استمرار بقائه الى تسعين بالنسبة الى كل سنة وكل يوم يمكن أن يكون في علمه تعالى معرضاً لخطرات وهجوم ما يقطع حبل عمره ويدفع كل ذلك بمثل الدعاء والصدقة وكل ما يدفع البلاء من ترك الذنوب وغيره كما يمكن أن يعجل ذلك ايضاً بالذنوب الجالبة للبليات.

ويمكن أن يكون الشخص بسبب حالة أو حالات كثيرة مورداً لامور محتومة و بحسب حالات كثيرة أخرى مورداً لامور موقوفة لايعلم تفاصيل ذلك إلا اللّه تعالى وليس علينا الا الإيمان والتسليم والإعتقاد بالبداء اجمالاً لانعرف المحتوم من الموقوف الاّ باخبار اللّه تعالى وانبيائه وأوليائه وفي موارد غير قليلة ربما يعرف الموقوف من المحتوم بالمنامات الصادقة وما يظهر لنا في الوقايع بالأمارات والقرائن.

هذا وكل ذلك كما حققناه وذكرناه مراراً لاينافى علمه تعالى بما تصير اليه الامور، وما يحصل شرطه وما لايحصل، وهو ما محتوم ليس مشروطاً بشيء لكيفيات وجود الأشياء، وخلقها، وشرايطه، و جميع ما هو مرتبط بها معلومة لله تعالى من الأزل كما لاينافى علمه بكل هذه الامور وقوع البداء فيها.

ويمكن أن يقال واللّه أعلم به: أن البداء يقع في قدر اللّه تعالى دون قضائه فما قدر اللّه من تأثير الأشياء وخواصها وآثارها وكونها أسباباً لمسببات خاصة ليس محتوم الوقوع بل يمحو أثر بعضها ببعض الامور المادية التي يستند في الإنسان محوه به لانسهو بذلك التأثير والتأثر والغير المادية كالدعاء والتوكل وصلة الرحم فالبداء في هذه الامور معناه أمران أحدهما: أن ما قدر من الآثار

ص: 331

والتأثيرات للأشياء لايجب أن يحقق مطلقاً بل يمكن أن يمنعه تقدير اللّه الآخر، وما قدر من الأثر شيء آخر من الامور المادية أو غيرها كصلة ألرحم والدعاء ولا ينافى علمه أزلا بما ينتهى اليه ذلك التقديرات المقدرة.

وثانيهما: أن اللّه تعالى يمنع من هذه المقدرات فيجعل مثلاً النار التي من شأنها الإحراق بتقدير اللّه على عبده برداً وسلاماً ويمنع تأثير السيف والحديد على مولانا الرضا عليه السلام ويدفع البلا عن عبده بالدعاء وهذا بخلاف ما تعلق به قضائه تعالى فإنه يقع لامحالة وكل ذلك من شؤون قدرته وحكمته واللّه هو العالم بحقايق الامور.

ص: 332

لا يقع البداء فيما أخبر به اللّه أو حججه

المبحث السادس: لامجال للريب في أنه لايقع البداء المعقول الذي جاءت به الآيات والروايات فيما أخبر اللّه تعالى ورسله به عباده لأنّه موجب لتكذيبه تعالى أو تكذيب رسله بل هو مختص بما هو علمه مخزون مكنون عند اللّه تعالى وعند أوليائه المأمونين على أسراره المودعة فيهم والخير والناس عنه.

ويدل على ذلك طائفة من الروايات مثل رواية الفضيل بن يسار: قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: العلم علمان فعلم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لايكذب نفسه ولاملائكته، ولارسله وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء(1) وعلى هذا ليس البداء في مثل تنصيص الأنبياء بعضهم على بعض وفي

ص: 333


1- الكافي: ج 2 ص 139 و 140 باب البداء، ح 7.

تنصيصهم على خلفائهم، وأوصيائهم كتنصيص الأنبياء الماضين على نبوة سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتنصيصه على الائمة الإثنى عشر عليهم السلام، وأخباره عن الملاحم والمغيبات كشهادة أمير المؤمنين عليه السلام وشهادة مولانا أبي محمد الحسن السبط الأكبر عليه السلام بالسم وشهادة أبي عبد اللّه سيد الشهداء عليه السلام بالسيف بالطف، وشهادة عمار وأنّه تقتله الفئة الباغية، وغيرها من اخباره الغيبية.

كما أنه ليس البداء فيما وعد اللّه تعالى به نبيه صلى الله عليه و آله في القرآن المجيد وأخبره به من الحوادث المستقبلة كظهور الإسلام على جميع الأديان وخروج دابة الأرض، وخلافة المؤمنين في الأرض، وعجز البشر عن الإتيان بمثل سورة من القرآن الى الأبد والى آخر الدهر وغيرها دون غير ذلك مما لم يخير اللّه تعالى له ولاأنبيائه وخلفائه بالتنصيص.

ولولا ذلك لبطل تنصيصات الرسل على من يأتى بعدهم من الأنبياء، ولماتم الإستدلال بتنصيص الأنبياء على بنوة نبينا صلى الله عليه و آله وعليهم أجمعين مع ان اللّه تعالى احتج بذلك في كتابه الكريم.

قال اللّه تعالى: [الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم](1).

وقال سبحانه وتعالى: [الذين يتبعون الرسول النبي الامى الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل](2).7.

ص: 334


1- البقرة: الآية 146؛ الأنعام: الآية 20.
2- الاعراف: الآية 157.

وقال عز من قائل: [ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل](1).

وقال تعالى شأنه: [واذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل اني رسول اللّه اليكم مصدقاً لما بين يدى من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد](2).

ألا ترى أنّه لايسمع من أهل الكتاب إدعاء وقوع البداء في مثل هذه النصوص كما لايسمع إدعاء الإمامة من غير الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام(3)

والحاصل إن وقوع البداء في هذه التنصيصات، والتعريفات و ما به يعرف المحق من المبطل، والآيات والعلامات والملاحم لايوافق حكمة اللّه تعالى،ة.

ص: 335


1- الفتح: الآية 29.
2- الصف: الآية 6.
3- بل يمكن أن يقال أن التنصيص على امامة الائمة وولايتهم لايجوز أن يقع فيه البداء لانه اخبار عن الولاية التي هو من الامور الانشائية والمجعولات الشرعية كما قال اللّه تعالى (واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال: اني جاعلك للناس اماماً) بل يمكن أن يقال ذلك في الرسالة أيضاً استناداً بقوله تعالى: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته فلا يتطرق في مثل ذلك البداء لانه بعد الانشاد يقع على ما يقع ورفعه بعد وجوده في وعاء الامور الاعتبارية قبل مجيء زمان القيام به لايجوز، ويكون من رفع الحكم قبل مجيء وقت اتيانه نعم اذا لم يكن المولى في انشائه جاداً وكان انشائه صورياً يجوز رفعه لكن هو خارج عما نحن فيه، واما بعد قيامه به فلا يجوز رفعه وقطع استمراره لان اللّه تعالى لايتشرف احداً بنصبه للامامة والولاية ألتي هي عهده الذي لا يناله الظالمين الا اذا كان جامعاً بشرائط توليها من العصمة عن الذنوب والخطاء في ماضى عمره و مستقبله لا ينتزع منه لباساً وتشريفاً شرفه به فكيف يجوز بعد أن ابتلى ابراهيم بما ابتلاه وجعله للناس اماماً انتزاع هذه الكرامة التي كرمه بها منه هذا مضافاً الى أن النصوص قد دلت على استمرار الولاية والامامة العامة لمن نصبه اللّه لها صراحة.

ومفسد لنظام النبوات، ويبطل الإتكال على التنصيصات وأخبار الانبياء والأوصياء، ولذا لم يحتمل أحد في قصة صلح الحديبية جواز وقوع البداء فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله من فتح مكة المكرمة، ولم يرد النبي صلى الله عليه و آله إعتراض المعترض المنافق بعدم لزوم وقوعه في هذا العام لجواز وقوع البداء فيه بل اجابه بانه صلى الله عليه و آله لم يقيده بهذا العام قال اللّه تعالى: [لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام ان شاء اللّه آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين](1).7.

ص: 336


1- الفتح: الآية 27.

دفع الوهم

المبحث السابع: ربما يتوهم استفادة وقوع البداء في بعض ما نص اللّه والنبي أو الولى به من بعض الآيات والروايات مثل قوله تعالى:

[وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، واتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة] (1) .

وقوله تعالى: [فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعنا هم الى حين](2).

ومن الروايات مثل ما ورد في وقوع البداء في إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وفي أبي جعفر محمد بن الامام علي النقي عليه السلام.

ومثله ما ورد في أخبار روح اللّه عيسى على نبينا وآله و عليه السلام بموت امرأة تهدى الى زوجها في ليلتها فلمّا اصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها.

ص: 337


1- الاعراف: الآية 142.
2- يونس: الآية 98.

وفي أن اللّه تعالى أوحى الى نبي من أنبيائه بأن يخبر فلان الملك إني متوفيه الى كذا وكذا، وفي شابّ كان عند داود اذ أتاه ملك الموت فسلّم عليه واحدّ ملك الموت النظر الى الشاب.

وما ورد في نبي من أنبياء بني اسرائيل أن اللّه وعده أن ينصره الى خمسة عشر ليلة ونبىّ وعده اللّه النصرة إلى خمسة عشره سنة،

وفي أخبار النبي صلى الله عليه و آله بقتل يهودي اسود في قفاه، وما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء.

والجواب عن هذا التوهم:

أوّلاً: أنّه يمكن أن يقال أنّ ما قلنا بعدم وقوع البداء فيه بدلالة العقل والنقل عليه هو أخبار النبي أو الولى عمّا من شانهما أن يخبرا عنه كالتنصيص على الأوصياء والخلفاء والأخبار عن المغيبات إظهاراً للمعجزة وفي مقام التحدى والإحتجاج واعلاماً لعلائم الحق والباطل واعلاماً لبعض ما يقع من جلائل الحوادث والفتن كفتنة الرجال والشجرة المعونة وغيرها من الاخبارات التي تؤكد وقوعها معنى النبوات وتقوى الوغى الإيمانى والإهتداء الى الحق والصواب.

وأمّا ما ذكرتم من الآيات والإخبار فما فيها من الإخبار اخبار عن امور جزئية لاترتبط بالعقائد والشرعيات من الاصول والفروع، والاخبارُ عنها كان بعد اثبات نبوة النبي أو ولاية الولى المخبر عنه بالمعجزة أو بالنص أو كليهما مع ما يدل في نفس الواقعة بعد ظهور كونها بدائية من أن ما اخبر عنه انما لم يقع لكونه من

ص: 338

الامور الموقوفة فكان موت هذا مثلاً موقوفاً على ترك الصدقة أوصلة الرحم أو بقائه وتأخير أجله موقوفاً على الصدقة وصلة الرحم فلما وصل الرحم أخرّ في أجله، ومع وجود هذه الدلالة في الواقعة ليست دلالة الأخبار عن الأمر الموقوف الذي لم يقع على جلالة قدر شأن النبي أو الولي بأقل من وقوعه على طبق أخباره بل يكون هذا افيد وآكد في استصلاح الناس وموعظتهم ودعوتهم إلى البر والخير.

ولو تأمّلنا في الموارد الّتي ورد عدمُ وقوع ما أخبر عنه النبي أو الولى نجد في جميعها شاهداً على ذلك سواء إعتبر هذا الشاهد بمنزلة القرينة على أن المخبر عمل بالتورية في خبره أو أنه كان مأموراً بالاخبار عنه، وإنْ لاقبح في ذلك بعد وجود فائدة ومصلحة فيه، وظهور حقيقة الامر على الناس ويأتي لذلك مزيد بيان انشاء اللّه تعالى.

وثانياً: نَقُولُ: إنَّ الآياتِ التي فسّرت بالبداء بعضها لايدل على أزيد من كون بعض الامور بدائياً وموقوفاً على أمر وجودى أو عدمى بل لايدل أزيد من كونه غير حتمى الوقوع وأنه بمشيّة اللّه تعالى كقوله تعالى محو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب.

وقوله جل وعز: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](1).

وبعضها وان ادعى دلالته على اخبار اللّه تعالى أو نبيّه بأمر وقع خلافه الا انّه لم يثبت دلالته على ذلك مثل قوله تعالى: [وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها1.

ص: 339


1- فاطر: الآية 11.

بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة] (1) . فان صحة دعوى دلالته على عدم زيادة زمان الميعاد على ثلثين موقوفة على حجية مفهوم العدد الذي ثبت في الأصول عدم حجيته بل عدم دلالته ومثله لايدل على أزيد من الوعد بالثلثين، ولايدل على تقييده بعدم تشرف موسى بالزيادة على ذلك العدد، ففي الحقيقة ما هو الموقوف الإتمام بالأربعين فانه موقوف على ثلثين دون العكس فلا يجيء منه تكذيب النبي، وإن شئت فقل: انّه يدل على عدم وقوع الميعاد على الاقل لا الأكثر.

وبعض الآيات كقوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: [يا بني اني أرى في المنام إني اذبحك](2) فلا دلالة لقوله تعالى: [اني اذبحك] على أزيد من الشروع بالذبح بالإشتغال بمقدماته، والا قال: إني أرى في المنام اني ذبحتك، وكان الواجب على ابراهيم الاشتغال بمقدمات الذبح والشروع فيه ثم ذبح إبنه لأن الظاهر من الحكم بالمقدمة الحكم بذى المقدمة ولكن هذا بدلالة العقل بعد ما لم يرد من الآمر بيان في ذلك وليس بدلالة اللفظ كما يستفاد من (انى ذبحتك) وبعد ما جاء البيان يعلم أن المأمور به هو الشروع والاشتغال بمقدمات الذبح طبقاً لما رآه في المنام ولذا قال اللّه تعالى (قد صدقت الرؤيا) ومثل هذا ليس من البداء بشيء ولامن تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وبعض الآيات مثل قوله تعالى: [فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم]2.

ص: 340


1- الأعراف: الآية 142.
2- الصافّات: الآية 102.

[يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين] (1) لادلالة فيها الا على أن الايمان يمنع من العذاب، وهذا مدلول آيات كثيرة وروايات متواترة وقد ورد في التفسير إنَّ يونس على نبينا وآله و عليه السلام أخبرهم بالعذاب إنْ لم يتوبوا، ولم يؤمنوا، وهذا لايجعله معرضاً لتكذيب المكذبين نعم ورد في تفسيرها في بعض الروايات أنه أخبرهم بالعذاب، ولم يقيده بعدم الإيمان والاستمرار على الكفر والعصيان، وظاهر هذه الأخبار وإنْ كان يجعل النبي معرضاً للتكذيب الا أنه يمكن أن يقال: إنَّ عدم تقييده نزول العذاب بعدم الإيمان في اللفظ كان اتكالاً على القرنية المعلومة، وهى عدم نزول العذاب بعد الإيمان لأنه ظن بهم عدم الايمان وخرج من بينهم لظنه ذلك لا لأن العذاب كان محتوماً عليهم غير موقوف بعدم الإيمان ولذا أمرهم عالم بالايمان والتوبة هذا ويمكن أن يقال أن الأخبار بنزول العذاب كان اخباراً بمقدماته، وإشرافه عليهم كما في قوله تعالى: [ولما ورد ماء مدين](2) وكما قيل في تفسير قوله تعالى: [ان منكم الا واردها](3).

هذا مختصر الكلام في الآيات التي قيل بأخبارها عن وقوع أمر وقع فيه البداء من غير تقييد بأنه موقوف يمكن أن يقع فيه البداء.

وأما الأحاديث فهى مع الغض عن ضعفها من حيث السند أو المتن أو كليهما وقوة الأحاديث الدالة على أن اللّه لايكذب رسله بحيث لو وقعت المعارضة بينها1.

ص: 341


1- يونس: 98.
2- القصص: الآية 23.
3- مريم: الآية 71.

وبين هذه الأحاديث يجب الإعتماد عليها وترك هذه الأحاديث وردّ علمها اليهم عليهم السلام على طوائف.

منها ما ورد في وقوع البداء في إسماعيل(1) أبن سيدنا الامام أبي عبد اللّه جعفر الصادق عليه السلام وفي أبي جعفر محمد بن مولانا الامام أبي الحسن على الهادي عليه السلام الا إنَّه لا دلالة في ما ورد فيهما على الاخبار بوقوع امر فيهم كالامامة وغيرها قبل موتهما حتى يلزم من موتهما تكذيب هذا الخبر بل كان الأمر بالعكس اذ لم يرد في امامتهما نص وخبر وورد التنصيص على الائمة الاثنى عشر المعروفين في أحاديث متواترة روتها الثقاة قبل ولادتهما.

قال السيد الأجل شارح الصحيفة: فائدة: روى عن الصادق أنه قال: «ما بدا للّه أمر كما بداله في اسماعيل» فتوهم بعضهم أن معناه انّه جعله أولاً قائماً بعده مقامه فلما توفى نصب الكاظم عليه السلام بدله وهذا وهم باطل وخطأ محض كيف وقد ثبت وصحّ من طرق الامامية، ورواياتهم إنّ النبي صلى الله عليه و آله قد انبأ بأئمة امته،).

ص: 342


1- قد نبشت الحكومة الجائرة المتسمية بالسعوديّة في زماننا باسم توسعة الشارع قره فوجدجسده طريّاً كأنه مات في الحال فنقل الى البقيع ودفن والقصة مشهورة معروفة: واسماعيل هذا توفى سنة ثلاث وثلاثين ومأه قبل وفاة أبيه الصادق عليه السلام مبشرين سنة توفى بالعريض قرب المدينة، وحمل على اعناق الرجال حتى دفن بالبقيع وكان أبو عبد اللّه عليه السلام يحبّه حباً شديداً ويكرمه اكراماً عظيماً وروى انه لما مات جزع عليه ابوعبداللّه عليه السلام جزعاً شديداً ووجد به وجداً عظيماً وتقدم سريره ولا رداء وأمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة وكان يكشف عن وجهه وينظر اليه يريد بذلك تحقيق الرد فإنّه عند الظانين خلافته له من بعده وازالة الشبهة عنهم في حياته (راجع رياض السالكين شرح الصحيفة).

وأوصيائه وعترته، وأنه سماهم بأعيانهم عليهم السلام وأن جبرئيل عليه السلام نزل بصحيفة من السماء فيها اسماؤهم، وكفاهم كما شحنت بالروايات في ذلك كتب الحديث سيّما كتاب الحجة من الكافي، وأنّما معنى الحديث المذكور أن صح وثبت ما قاله الصدوق قدس سره في كتاب التوحيد أنه يقول: ما ظهر لله أمر كما ظهر له في اسماعيل اذا إخترمه قبلى ليعلم انه ليس بامام بعدى. انتهى

ولايخفى عليك أن الروايات على عدد الأئمة الاثنى عشر من طرق العامة أيضاً متواترة وقد وردت فيها أسمائهم بأعيانهم، وأما الرواية فقد حكى عن كتاب زيد النرسى عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قال: ما بدا للّه بداء أعظم من بداء بدا له في أسماعيل ابني(1) فيمكن حملها على أنه ما بدأ وظهر لإثبات امر اللّه تعالى وإنْ عهد الإمامة لم يكن معهوداً للاسماعيل كما بدا للّه فيه وعلى هذا استعمل البداء في ظهور الأمر بعد خفائه، أى: ظهور أن أمر الامامة ليس للإسماعيل للناس بعد ما كان مخفياً عنهم لاثبات امر اللّه تعالى

وهنا احتمال آخر وهو أنّ المراد من اسماعيل هو اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام وكلمة ابنى، أما هو تصحيف (أبي) كما يدل عليه ما روى الصدوق عن أبي الحسين الأسدى وهو أنه روى أن الصادق عليه السلام قال: ما بد اللّه بداء كما بداله في اسماعيل أبي اذ امر أباه بذبحه ثم فداه بذبح عظيم أو زيدت على الحديث سهواً من بعض الناقلين ويدل على ذلك إنَّ أعظمية البدا تناسب قصة اسماعيل المشهورة بين الناس المعروفة بالعظمة والتي هى من أعظم الشواهد على تسليم9.

ص: 343


1- بحار الأنوار: ج 4 ص 122 ب 3 ح 69.

المؤمن الموحد لربه تعالى قال اللّه تعالى: [قال يا بُنيّ انّي ارى في المنام اني اذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى انشاء اللّه من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه ان يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجرى المحسنين. ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم](1) وعلى كل ذلك المراد بوقوع البداء فيهما ليس وقوعه في إمامتهما لما دلت من الروايات المصرحة بإمامة الائمة الاثنى عشر عليهم السلام فليردّ علم هذه الأحاديث لو صحت وسلمت ممّا يرد عليها من المناقشات السندية الدلالية اليهم عليهم السلام أو يحمل على المحامل الصحيحة مثل إنَّ بقاء اسماعيل وهكذا محمد الى بعد مضى والدهما كان موقوفاً على ان لايصيرذلك سبباً لتوهم إمامتها أو موقوفاً على أن لايظن إمامتها في حياة أبيها وهذا حمل صحيح بل إستظهار مستقيم من مثل قوله ما بد اللّه بداء كما بدا في اسماعيل ابني سيما بقرينة الروايات المتواترة الناصة على امامة الائمة عليهم السلام المروية بالطرق الصحيحة، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهذا وقد سمعت أن الصدوق خرّيت صناعه الحديث وإمام أهله وحامليه فسرّ هذا الحديث بانه عليه السلام يقول: «ما ظهر للّه امر كما ظهر في اسماعيل إبني إذا اخترمه قبلى ليعلم أنه ليس بإمام بعدي»(2)

هذا وقد سمعت ما إحتملنا ايضاً في مفاد الخبر واللّه أعلم.

وقال: حبر الطائفة الشيخ المفيد رضوان اللّه تعالى عليه في (تصحيح0.

ص: 344


1- الصافات: الآية 102-107.
2- التوحيد: ص 336 باب 54 ح 10.

الاعتقاد): قول أبي عبد اللّه عليه السلام: ما بدا للّه في شيء كما بداله في اسماعيل فانما أراد به ما ظهر به من اللّه تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به فلطف له في دفعه عنه وقد جاء في الخبر بذلك عن الصادق عليه السلام فروى عنه عليه السلام انه قال: «ان القتل قد كتب على اسماعيل مرتين فسألت اللّه في دفعه عنه فدفعه»(1)

وظاهر كلامه أن الصادق عليه السلام سئل عن قوله: (بد اللّه...) فأجاب عنه، وفسر كلامه بأن القتل قد كتب...) وعلى هذا فالمعوّل في مقام بيان آراء من الحديث على تفسير الإمام عليه السلام.

ثم لايخفى عليك إنَّ من الأحاديث الواردة في وقوع البداء في أبي جعفر محمد بن الامام علي بن محمد بن على الرضا عليهم السلام بل أظهرها ما روى فيه أن مولانا أبا الحسن على الهادي عليه السلام لما توفى إبنه أبو جعفر قال: لإبنه الامام أبي محمد عليه السلام: يا بنىّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك امراً(2) أقول: لو لم نقل بأنه ومثله من الأحاديث من متشابهاتها فلا ظهور له على أن محمد بن علي عليه السلام كان منصوصاً عليه بالإمامة فبدا للّه فيه قبل موته فإماته أو بدا للّه فيه بعد موته فأقام مقامه أخاه أبا محمد عليه السلام كما أنه لادلالة له على أن مولانا أبا محمد لم يكن منصوصاً عليه قبل موت أخيه أبي جعفر فلما توفى اخوه جعله اللّه تعالى خليفة لأبيه ونصبه إماماً للناس بعده فهذا الاحتمال لا يستظهر من الخبر 6

ص: 345


1- تصحيح اعتقادات الامامية: ص 66.
2- الكافي، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي محمد عليه السلام، ح 4 و 5 و 6

مضافاً الى أنه يرّده الاحاديث الصحيحة الصريحة على ان أبا محمد كان منصوصاً عليه بالامامة من اللّه تعالى ومن النبي صلى الله عليه و آله ومن أجداده الطاهرين قبل ولادته وولادة أخيه محمد إن قلت: نعم لادلالة لهذا الخبر على أن محمداً كان منصوصاً عليه بالامامة الا أنه لاشك في دلالة على وقوع بداء فيه اذا فما هو ومالمراد من الامر في قوله فقد احدث فيك امراً.

قلت: يمكن أن يكون المراد من أحداث الامر إظهار إمامة مولانا أبي محمد عليه السلام لمن يظنّ اخاه أبا جعفر خليفة لأبيه وليس معنى ذلك أن اللّه تعالى توفاه لإظهار هذا الأمر بل المراد ان بطلان هذا الظن كان امراً يترتب على موته فاسند إحداثه الى اللّه تعالى لإسناد سببه وهو موته اليه.

هذا ولايخفى عليك أن ما صدر من بعض الأعيان والعباقرة، وأكابر العلماء في تفسير هذا الخبر فقال: أي: جعلك اللّه اماماً بموت أخيك الأكبر قبلك فبدا للّه فيك(1) فكلام لايصدر من مثله ولاأدري كيف نعالج ذلك مع أنّه ثبت في كتابه فهل دس هذا في كلامه أو سقط هنا من كلامه ما يوضح مراده وكيف كان فهو أجلّ من أن يفسّر الخبر بمثل هذا مع مخالفته لإتفاق الإمامية وللأحاديث المتواترة.

أخبار أُخرى: ومن الأحاديث التي قيل بدلالتها على وقوع البداء فيما أخبر به الأنبياء عليهم السلام ما فيه الاخبار بموت شخص لم يتفق موته في الوقت المعين مثل الحديث المروى عن أمالى الصدوق بسنده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه7.

ص: 346


1- الكافي: ج 3 ص 388 وكذلك الوافي ج 2 ص 387.

الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: أن عيسى روح اللّه مر بقوم مجلبين فقال: ما لهؤلاء قيل: يا روح اللّه أن فلانة بنت فلان تهدى الى فلان بن فلان في ليلتها هذه قال: يجلبون اليوم ويبكون الغد فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللّه؟ قال: لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه فقال القائلون بمقالته: صدق اللّه وصدق رسوله، وقال أهل النفاق؟ ما أقرب غداً فلما أصبحوا جاؤا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء فقالوا: يا روح اللّه إن التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت فقال عيسى على نبينا وآله و عليه السلام: [يفعل اللّه ما يشاء](1) فإذهبوا بنا اليها فذهبوا يتسابقون حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى عليه السلام: استأذن لي على صاحبتك قال: فدخل عليها فأخبرها أن روح اللّه وكلمته بالباب مع عدة قال:

فَتَخَدَّرت فدخل عليها فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم اصنع شيئاً الاّ وقد كنت أصنعه فيما مضى أنه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فنُنيله ما يقوته الى مثلها، وانه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمرى وأهلي في مشاغيل فهتف فلم يجبه أحد ثمّ هتف فلم يجب حتى هتف مراراً فلما سمعتُ مقالته قمت متنكّرة حتى نلته كما كُنّا ننيله فقال لها: تنحّى عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاضّ على ذنبه فقال عليه السلام بما صنعت صرف عنك هذا(2) وما روى عن العيون بسنده عن النوفلي يقول: قال الرضا عليه السلام سليمان المروزي: ما انكرت من البداء يا سليمان واللّه عزّ وجلّ يقول: [أو لا يذكر الانسان1.

ص: 347


1- ابراهيم: الآية 27.
2- بحار الأنوار: ج 4 ص 94 باب 3 ح 1.

انا خلقناه من قبل و لم يك شيئاً] (1) ويقول عز وجلّ: [وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده](2) ويقول: [بديع السماوات والأرض](3) ويقول عز وجل: [يزيد في الخلق ما يشاء](4) ويقول: [وبدأ خلق الانسان من طين](5) ويقول عز وجل: [وآخرون مرجون لامر اللّه اما يعذبهم واما يتوب عليهم](6) ويقول عز وجل: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](7) قال سليمان: هل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟ قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: أن للّه عز وجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه الا هو، من ذلك يكون البداء، وعلماً علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه قال سليمان: أحبّ أن تنزعه لي من كتاب اللّه عز وجل قال: قول اللّه عز وجل لنبيّه: [فتولّ عنهم فما أنت بملوم](8) أراد إهلاكم ثم بدأ فقال: [فذكّر فان الذكرى تنفع المؤمنين](9) قال سليمان: زدنى جعلت فداك قال الرضا عليه السلام. لقد5.

ص: 348


1- مريم: الآية 67.
2- الروم: الآية 27.
3- البقرة: الآية 117؛ الانعام: الآية 101.
4- فاطر: الآية 1.
5- السجدة: الآية 7.
6- التوبة: الآية 106.
7- فاطر: الآية 11.
8- الذاريات: الآية 54.
9- الذاريات: الآية 55.

أخبرنى أبي عن آبائه أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: أن اللّه عز وجل أوحى الى نبي من أنبيائه أنْ أخبر فلان الملك إنّى متوفيه الى كذا وكذا فاتاه ذلك النبي فأخبره فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، وقال: يا رب أجلّنى حتى يشبّ طفلى، وأقضى أمرى فأوحى اللّه عز وجل الى ذلك النبي إنْ أنت فلان الملك فأعلمه إني قد أنسيت أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة فقال ذلك النبي: يا ربّ إنك لتعلم إني لم أكذب قط فاوحى اللّه عز وجل اليه انّما انت عبد مأمور فابلغه ذلك واللّه لا يسأل عما يفعل.

ثم التفت الى سليمان فقال له: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب قال:

اعوذ بالله من ذلك وما قالت اليهود؟ قال: [قالت اليهود يد اللّه مغلولة](1) يعنون ان اللّه قد فرغ من الامر فليس يحدث شيئاً فقال اللّه عز وجل: [غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا](2) ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه السلام عن البداء فقال:

وما ينكر الناس من البداء، وان يقف اللّه قوماً يرجئهم لامره.

قال سليمان: الا تخبرنى عن: [انا انزلناه في ليلة القدر](3) بما في أي شيء أُنزلت؟ قال: يا سليمان ليلة القدر يقدر اللّه عزوجل فيها ما يكون من السنة ألى السنة من حياة او موت أو خير أو شر أو رزق فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.

قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدنى فقال: يا سليمان أنّ من1.

ص: 349


1- المائدة: الآية 64.
2- المائدة: الآية 64.
3- القدر: الآية 1.

الامور أموراً موقوفة عند اللّه تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء و يؤخر ما يشاء يا سليمان إنَّ علياً عليه السلام كان يقول: العلم علمان فعلم علمه اللّه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولايكذب نفسه ولاملائكته ولارسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه احداً من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويمحو ويثبت ما يشاء قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لاأنكر بعد يومى هذا البداء، ولا أكذب به إنْ شاء اللّه(1) وما روى عن كتاب الامامة والتبصرة لعلى بن بابويه باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل نبى وعده اللّه أنّ ينصره الى خمسة عشر ليلة فأخبر بذلك قومه فقالوا: واللّه اذا كان ليفعلن وليفعلن فأخّره اللّه تعالى الى خمسة عشرة سنة، وكان فيهم من وعده اللّه النصرة الى خمس عشره سنة فأخبر بذلك النبي قومه فقالوا: ما شاء اللّه فعجله اللّه لهم في خمس عشرة ليلة(2).

وما روى عن كتاب قصص الأنبياء وبالإسناد الى الصدوق بسنده عن هشام بن سالم قال: سأل عبد الأعلى مولى بنى سام الصادق عليه السلام وأنا عنده حديث يرويه الناس، فقال: وما هو؟ قال: يروون أن اللّه عز وجل أوحى الى حزقيل النبي صلوات اللّه عليه إنْ أخبر فلان الملك إني متوفيك يوم كذا فأتى حزقيل الملك فأخبره بذلك قال: فدعا اللّه وهو على سريره حتى سقط ما بين الحائط والسرير فقال: يا رب اخّرني حتى يشب طفلى وأقضى أمرى فأوحى اللّه الى2.

ص: 350


1- البحار: ج 4 ص 95 و 96 ب 3 ح 2.
2- البحار: ج 4 ص 112 ب 3 ح 32.

ذلك النّبي إنْ أئت فلاناً وقل: إنّي انسأت في عمره خمسة عشرة سنة فقال النبي:

يا رب وعزتك إنك تعلم اني لم أكذب كذبة قط فأوحى اللّه اليه إنّما أنت عبد مأمور فأبلغه(1) وما روى عن الكافى بسنده عن سالم بن مكرم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: مرّ يهودى بالنبي صلى الله عليه و آله فقال: السام عليك فقال النبي صلى الله عليه و آله: عليك فقال أصحابه: إنمَا سلم عليك بالموت فقال: الموت عليك فقال النبي صلى الله عليه و آله: وكذلك رددت ثم قال النبي صلى الله عليه و آله: أن هذا اليهود يعضِّه أسود في قفاه فيقتله قال: فذهب اليهودى فإحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

ضعه فوضع الحطب فإذا اسود في جوف الحطب عاضّ على عود فقال: يا يهودى ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً الا حطبى هذا حملته فجئت به وكان معى كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: بها دفع اللّه عنه وقال: أن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان(2) والذي يقال في هذه الأحاديث أوّلاً أن المخبر عنه فيها ليس من الامور المحتومة التي ليست فيها البداء وانَّما كان من الامور الموقوفة كما يدل عليه نفس ما في هذه الاخبار من ظهور الحقيقة وإنكشاف الواقع على نحو لايكذب به النبي، ولايبقى لذى مقال مقالاً بل يقوى اعتماد الناس به.

وثانياً ما في هذه الاحاديث من الأخبار ببعض الوقايع ليس من الامور7.

ص: 351


1- البحار: ج 4 ص 112 و 113 باب 3 ح 33.
2- البحار: ج 4 ص 121 و 122 باب 3 ح 67.

التبليغية التي هى من وظائف الأنبياء والائمة عليهم السلام وما يدور مدارها وجود مفهوم النبوات والأنباء من اللّه تعالى والسفارة بين الخالق والخلق، وإتمام الحجة على العباد وغير ذلك مما به يقوم مصالح النبوات وتقتضيه قاعدة اللطف وغيرها من القواعد العقلية التي يثبت بها لزوم بعث الرسل وانزال الكتب وهداية الناس وتبليغهم وإرشادهم الى كل ما يقر بهم الى الجنة ويبعدهم عن النار.

ويؤيد هذا ما في نفس هذه الاخبار مثل خبر العيون فإنه لو لم يحمل ما علّمه اللّه تعالى ملائكته ورسله على ما علّمهم من الامور التبليغية وما هو من شأن الرسل الاخبار به يقع التنافي بين قوله عليه السلام وعلماً علّمه ملائكته ورسله... وما روى فيه عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويرفع التنافي برفع اليد عن عموم ما علمه اللّه تعالى وتخصيصه بغير مثل قضية النبي المروية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وفي نفس هذا الحديث التي قرينة على عدم شمول عمومه لمثل ما في هذه الأحاديث فتدبر.

وثالثاً: الأخبار بما في هذه الأحاديث كان بعد ثبوت نبوتهم بالمعجزات، والبينات وبعد ذلك لايضرّ وقوع مثل ما في هذه الأحاديث بأمر نبوة ولايضعف به الإيمان بصدقهم سيما بعد ما في هذه القصص من الشاهد على أن الأخبار بها لم يكن جزافاً وكذباً هذا وقد تلخص من جميع ما ذكر أن ما نص اللّه تعالى وأنبياءه والائمة الطاهرين عليهم السلام عليه من الامور الاعتقادية والمطالب الدينية لايقع فيها البداء يجب أن يقع الاخبار بهذه الامور كما أخبر بها البتة والا لاختل نظام النبوات ويترتب عليه مفاسد كثيرة.

إنْ قلت فما تقول في النسخ فإنَّه واقع في التشريعيات مما نص عليه النبي

ص: 352

الذي نسخ بعض أحكام شرعه من التكليفات أو الوضعيات بل ربما وقع ذلك في شرع نبى واحد فكان الحكم في موضوع في برهة من عصر نبوته تحريمه ثم نسخ وجاء الوحي بوجوبه أو اباحته قلت: النسخ ليس من البداء الذي قررنا صحته في التكوينيات بل إظهار الحكم في موضوع يظن استمرار حكمه السابق وان شئت قلت هو ردّ حكم العقلاء أو بنائهم باستمرار حكم المولى ما لم يرد منه بيان انتهائه فاذا قال المولى اكرم العلماء فكما أن له عموم افرادى يشمل به الحكم جميع أفراد العلماء وليس إخراج بعض أفراد العلماء منه بالمخصص المنفصل أو المتصل نسخ الحكم. كذلك له عموم أزمانى شامل لجميع الازمنة وليس اخراج بعض الأزمنة منه بالدليل المتصل او المنفصل نسخ لهذا الحكم بل في كل منهما دليل على أن شمول الحكم الذي انشأ ضرباً للقاعدة والقانون للمورد المخصص لم يكن الجدّى.

هذا ويمكن أن يقال أن العموم بالنسبة الى أفراد العام يستفاد من اللفظ بخلافه بالنسبة الى الازمان فلا دلالة لللفظ باحدى دلالته الثلاث عليه بل مستند ذلك أما بناء العقلاء على الإستمرار أو حكمهم بالاستمرار وبقاء الحكم فالاول إنَّما يثبت الحكم به على جميع أفراد العام بالحجة اللفظية، والثاني بالحجة العقلية ليس في موردها دليل قطعى أو الظهور اللفظى الحجة على أن الحكم كان كذا حتى يكون انشاء حكم آخر نسخاً له فتدبر جيداً.

نعم اذا دلّ دليل بالخصوص على حكم في مورد خاص مثل وجوب صلاة الظهر ثم جاء دليل آخر على نسخ هذا الحكم قبل مجيىء وقت العمل به فللبحث فيه من جهة البداء مجال الا أنه لم يقع مثله في التشريعيات والموارد التي توهم

ص: 353

ذلك فيها مثل أمر ابراهيم الخليل عليه السلام بذبح أبيه لم يكن الأمر بها حقيقة بل كان الأمر بها على بعض المقدمات أو فهم بالقرينة عدم جدّ الآمر في أمره، وأن ارادته لم تكن جدية وإنَّما أمر بما أمر لمصالح أخرى وأما اخراج بعض افراد الظهر مثلاً من دليل وجوب صلاة الظهر تقييداً أو تخصيصاً في هذا المورد الذي يستفاد من اللفظ شمول الحكم للافراد والازمان على وزان واحد فليس من البداء

أخبار من تعيين وقت الفرج:

وأما الأخبار الواردة في تعيين وقت الفرج والرخاء مثل مضمرة أبي بصير قال: قلت له: الهذا الأمر أمر تريح اليه ابداننا ننتهى اليه قال: بلى ولكنكم اذعتم فزاد اللّه فيه(1) وحديث أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن علياً كان يقول: الى السبعين بلاء وكان يقول: بعد البلاء رخاء وقد مضت السبعون ولم نر رخاء فقال:

أبو جعفر عليه السلام يا ثابت أن اللّه تعالى كان وقت هذا الأمر في السبعين فلمّا قتل الحسين إشتد غضب اللّه على أهل الأرض فأخره الى أربعين ومأة سنة فحدثنا كم فإذعتم الحديث وكشفتم قناع السر فاخره اللّه ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب قال أبو حمزه: وقلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال: قد كان ذلك(2) وخبر عثمان النواء قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كان هذا الأمر فيّ9.

ص: 354


1- البحار: ج 4 ص 113 ب 3 ح 38.
2- البحار: ج 4 ص 114 ب 3 ح 39.

فأخره اللّه يفعل بعد في ذريتي ما يشاء(1)

وحديث فضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أوحى اللّه إلى ابراهيم انَّه سيولد لك فقال لسارة فقالت: أألد وأنا عجوز فأوحى اللّه إليه انّها ستلد ويعذب أولادها اربعمائة سنة بردها الكلام علىّ قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا الى اللّه أربعين صباحاً فأوحى اللّه الى موسى وهارون يخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم سبعين ومأة سنة قال: وقال أبو عبد اللّه عليه السلام هكذا أنتم لو فعلتم لفرج اللّه عنّا فامّا اذا لم تكونوا فإن الامر ينتهي الى منتهاه(2) وخبر عمرو بن الحمق قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه فقال لي: يا عمرو إنّى مفارقكم ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء قالها ثلاثاً فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأغمى عليه فبكت أم كلثوم فأفاق فقال: يا أم كلثوم لاتؤذينى فاتك لو قدترين ما أرى لم تبكى أن الملائكة في السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيون خلفهم وهذا محمد صلى الله عليه و آله آخذ بيدى يقول: إنطلق يا عليّ فما أمامك خير لك مما أنت فيه فقلت: بأبي أنت وامّى قلت: الى السبعين بلاء فهل بعد السبعين رخاء قال: نعم يا عمرو إنَّ بعد البلاء رخاءاً ويمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب(3).0.

ص: 355


1- البحار: ج 4 ص 114 ب 3 ح 40.
2- البحار: ج 4 ص 118 ب 3 ح 50.
3- البحار: ج 4 ص 119 و 120 باب 3 ح 60.

هذه الاخبار ما ربما يوهم ظاهرها البداء في حصول الفرج قبل قيام مولانا المهدي عليه السلام وبأبي هو وامّي مع أن الاخبار المتواترة من طرق العامة والخاصة قد دلت على أن الفرج التام لايتحقق الا بظهوره عليه السلام فهو الذي يملأ الاخرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

والجواب عن هذه الأخبار:

أوّلاً بضعف سند بعضها وجهالة رجالها كخبر عثمان النوا و بالإجمال أو ضعف متن بعضها.

وثانياً بما في بعضها من عدم التصريح والجزم بالوقت بل والتصريح بعدم الجزم وأن سنة البداء تؤثر في ذلك ولذا تلى عليه السلام كما ترى في خبر عمرو بن الحمق وأبي حمزة (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وهذا لاينافي الخبر الجزمي والتصريح بأن الرخاء والفرج انّما يتحقق بظهور الامام المنتظر والولي الثاني عشر عليه السلام فالله تعالى وأوليائه بتعليمه تعالى اياهم عالمون بوقوع البداء في جميع هذه الاوقات وان ظهور هذا الامر والعدل الكلى والرخاء التام لايتحقق الا بعد امتحان شديد وفتن كبيرة كثيرة لايبقى فيها على الايمان الا من إمتحن اللّه قلبه بالايمان بعد غيبة الامام الثاني عشر عليه السلام غيبة يطول أمدها يرتاب فيها الجاهلون الى ان من اللّه تعالى على عباده بظهوره عليه السلام فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظملاً وجوراً.

وربما يكون وجه الحكمة في أخبارهم عليهم السلام بظهور الامر في هذه الازمنة لو قلنا بدلالة هذه الاخبار به مع علمهم بعدم تحققه لوقوع البلاء فيه، هو بيان ان عدم ظهور الامر وتمكن الائمة من القيام بالامر راجع الى الناس ووجوده لطف

ص: 356

وتصرفه لطف آخر وعدمه منّا وأنْ يكون هذه الأخبار تسلية للمؤمنين المنتظرين لفرج أولياء اللّه وغلبة الحق ونصرة الدين وأهله فأخبروا الشيعة بجواز حصول الفرج والخلاص عن حكومة الجبابرة والطواغيت في بعض الأزمنة لحصول مقتضيه وان كانوا عالمين بما يمنع تحقق ذلك ولذا ارشدوهم الى ان ذلك قد لايتحقق لقوله تعالى: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعند ام الكتاب](1) والحاصل إنَّ هذه الأخبار انّما صدرت لاجل تأليف القلوب وتقريباً للفرج ومنعاً لاستيحاش الناس لو قيل لهم بانه لا يتحقق الا مثلاً بعد الألف أو مدة طويلة كذا وكذا وقد صرح في بعض الأحاديث بهذه الفائدة.

وثالثاً فرق واضح بين القول: بأن بعد كذا رخاء وبين القول: بأن الرخاء بعد كذا وما يستفاد من بعض هذه الأحاديث، بل صريح لفظه هو الأول وإنَّ بعد كذا يكون رخاء ومثل هذا ليس الأخبار عن تقدم أمر الفرج العام الشامل لجميع البشر بظهور الإمام المنتظر عليه السلام.

ورابعاً نقول: يجوز أن يكون الأمر الذي جاء في هذه الأحاديث قد وقت له أوقات بحسب الأسباب التي هي واقعة تحت اختيار المكلفين، وكان تأخره لعدم تحقق تلك الأسباب بسوء اختيارهم كما أشرنا اليه، أو نقول كما يستفاد من شيخ الطائفة قدس سره ايضاً: أن المصلحة إقتضت تحقق الأمر في وقت من الاوقات مشروطة بأن لايتحقق ما يقتضى المصلحة تأخيره الى زمان آخر لايقع فيه ما يقتضى أيضاً تأخيره والاّ فيؤخر اللّه تعالى الى ذلك الزمان.9.

ص: 357


1- الرعد: الآية 39.

فالمصلحة قد اقتضت وقوع هذا الأمر، اي: أمر إدارة امور الأمة وتدبير شئونها السياسيّه والاجتماعية وغيرهما من حين إرتحال الرسول الأعظم صلوات اللّه وسلامه عليه وآله الى الرفيق الاعلى تحت يد من نصبه اللّه تعالى ولياً على الامور، وجعله حجة على عباده، فلمّا وقع ما وقع لم يتحقق الامر كما إقتضته المصلحة الأولى، واقتضت مصلحة أخرى وهي حفظ كيان الاسلام ودفع الخطر عنه، وعدم قيام الولي لمطالبة بالأمر بالمحاربة والقوة فتأخر تحقق هذا الأمر لهذه المصلحة ومصالح أخرى من إمتحان العباد وغيره مما لانحيط به واللّه أعلم به.

وبعبارة أخرى: لاشك في أن اصلاح حال العباد وقيام الامور بالقسط منوط بكون ادارة الامور والولاية عليها لمن له الولاية عليها من قبل اللّه تعالى، وحيث لايعرف من له هذه الأهلية واللياقة الا اللّه تعالى يجب على حسب قاعدة اللطف وغيرها تعيين من يلى الامر بعد النبي ونصبه فلا يجوز إهمال هذا الامر الخطير مع دخله العظيم في تحقق أهداف النبوات، ورسالات السماء وتوقف كمال الدين وتمام النعمة عليه قال اللّه تعالى: [اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام ديناً](1) وقد نص النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللّه تعالى على ولاية الأئمة الاثنى عشر عليهم السلام حفظاً لهذه المصلحة، ولئلاّ يكون للناس على اللّه حجة وقد أقتضت تحقق هذا الأمر بعد النبي صلى الله عليه و آله أسبابه ومقتضياته وكانت الامور تجرى على مجراها الذي ينتهى الى ذلك لولا مخالفة الفئة المنافقة، وحزب3.

ص: 358


1- المائدة: الآية 3.

الشيطان الذين منعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله من كتابة وصيته فهتكوا حرمته وقالوا وأسمعوه ما لايقوله المسلم المؤمن بالله ورسوله وانه: [ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى](1).

وعلى هذا يصح أن يقال: إنَّ الأمر أي: كون الولاية بعد النبي لأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وإنْ كان من الامور الحتمية المتحققة له عليه السلام بنصب النبي صلى الله عليه و آله ايّاه لها بل كانت متحققة له قبل ذلك وكان نصب النبي صلى الله عليه و آله اعلاماً بهذا الأمر المتحقق الا إنَّ ميعاد تحققه الظاهري كان عند ارتحاله صلى الله عليه و آله الى الرفيق الأعلى ولكنه منع من ذلك ما صدر من المخالفين وطلاب الرياسة من الإجتماع في السقيفة ونقض البيعة، وبعد قيام من لم يكن له أهلية القيام بهذا الأمر الخطير ولم يعينه النبي صلى الله عليه و آله، ثم بعدما وقع الامر بيد من عيّنه اللّه تعالى فجاهد في اللّه حق جهاده الا أن بقية الفئة المنافقة ومحبى الدنيا والرياسة حالوا بينه وبين الأمور نكثوا بيعته وخرجوا على الإمام الحق فقام أميرالمؤمنين مولانا أبوالحسن عليه السلام بدفع مكايدهم عن الاسلام وأخماد فتنهم الى أن استشهد عليه السلام بضربة أشقى الأشقياء آل الأمر الى أن تغلب مثل معاوية على بلاد الاسلام وارتكب مظالم تقشعر منه الجلود(2) وجهد في إطفاء نور النبوة والتوحيد وإرجاع الناس إلى القهقري حتى مات وترك الأمر لابنه الفاسق الفاجر بعد ما أكره الناس على البيعة له تحت سيوف عمّاله فاقتضت الأسباب والأوضاع الإجتماعيّة رجوع الأمر إلى أهله لكن هذه الأسباب أيضاً لم تؤثر لأن الأمة الا القليل منها لم تجب دعوة).

ص: 359


1- النجم: الآية 3-4.
2- راجع كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) وكتاب (معاوية بن أبي سفيان في الميزان).

مولانا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام التي قام به اتماماً للحجة فتركت نصرته وباعت الدين بالدنيا فلما قتل الحسين عليه السلام أخر ذلك، أي: لم يتهيىء ما يقتضيه من الأسباب الى سنة مأة وأربعين وفي هذا الأوان أيضاً لما اذيع ذلك للظالمين وإنكشف السرّ شدّ اعداء اللّه واعداء آل محمد عليهم السلام على المؤمنين وشيعة الحق فردوهم عما يأملون وبعد ذلك اخر الرخاء والفرج ولم يعلموا الشيعة بأزمنة أخرى ربما حصل فيها بعض الأسباب المقتضية لهذا الأمر ويمنع المانع من تأثيرها وهكذا يستمر الأمر إلى زمان لا يعلمه إلا اللّه يوم الوقت المعلوم يوم ظهور مولانا المهدي عليه السلام ومما يؤثر حصول المقتضيات ويقويها ويجب رفع الموانع الدعاء لتعجيل الفرج.

وعلى هذا نقول: ما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء انّما ورد في مقام بيان هذه المراحل والأوضاع التي مرت على الأمة وبيان لبعض الأسباب الذي صار سبباً لتأخير ظهور هذا الأمر وتحقق ما وعد اللّه تعالى به أنبيائه ورسله وعباده قال اللّه تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا ا لمرسلين إنهم لهم المنصورون، وإنْ جندنا لهم الغالبون.

هذا وقد ظهر لك أن ما في بعض الأخبار من توقع الرخاء في سنة كذا أو تأخيره الى سنة كذا ليس معناه أن الأمر يتحقق بمشية اللّه تعالى لامحالة في سنة كذا حتى اذا أخر منها يلزم منه العجز أو الجهل عليه تعالى اللّه عنهما علواً كبيراً.

أو يقال: كيف يكون هذا مع دلالة الأخبار المتواترة على عدم تحقق ذلك لواحد من الائمة عليهم السلام الا بقدر ما تحقق لأمير المؤمنين والامام المجتبى عليهما السلام، والاّ ما يتحقق على النحو الكامل لمولانا المهدي بأبي هو وأمي.

ص: 360

فإن المراد من هذه الأخبار ان أمر ولايتهم من حيث الظهور وفعلية توليهم الأمور مشروطة بأمور مثل قبول الأمة وتسليمهم لهم وغير ذلك مما لايعلم الا بأخبار اللّه تعالى، وتخصيص بعض السنين والأوقات بالذكر انّما يكون لأصل أن زوال بعض الموانع يجعل الفرج والرخاء أرجى وأسهل حصولاً

فإن قلت: ما فائدة الأخبار بذلك مع العلم بعدم حصوله له لعدم تحقق شرطه أو وجود مانعه.

قلت: مضافاً الى ما مر في ضمن الجواب الثاني فائدته أوّلاً: اتمام الحجة وبيان أنّ اللّه تعالى لم يكتب على خلقه الذل والصغار وسيطرة الظالمين عليهم، وأنّه لايصيبهم ما أصابهم الا بما كسبت أيديهم.

وثانياً الترغيب الى العمل وتشويق الناس وتشجيعهم على حفظ مواضعهم قبال الكفرة والظلمة، وعلى حفظ الثبات، والإستقامة في إداء الواجبات.

وثالثاً تقوية روح الرجاء وحسن الظن بالمستقبل حتى لايتسلط عليهم القنوط عن رحمة اللّه تعالى، ولاييأسوا من روح اللّه، وهذه حكمة كبيرة يجب على من يسوس الناس بالسياسة الالهية رعايتها حتى لايخرجوا عن الطريق المستقيم، ولايتكاسلوا، ولايتقاعدوا عن العمل.

هذا، الهمنا اللّه تعالى حول هذه الأحاديث واللّه ولى التسديد والتوفيق

ومنه يظهر لك تفسير غيرها من الأحاديث إنشاء اللّه تعالى

ص: 361

دفع التنافي بين الأخبار

المبحث الثامن: أن قيل: جاء في بعض الأحاديث المروية في باب البداء انّ للّه علمين، علم علمه لملائكته ورسله فذلك لايجيء فيه البداء وعلم مخزون عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقه فذلك الذي يقع فيه البداء، وأنتم قد أجبتم عن الأخبار التي دلت على وقوع البداء فيما علمه اللّه تعالى بعض رسله بحمل العلم الأول على الأمور التبليغية وما من شأن النبي بيانه وإرشاد الناس إليه والإعلام به وأيضاً اختصاص مفاد ما دل على وقوع البداء فيما علمه اللّه تعالى رسله على موارد ظهر وجه الحكمة فيها على الخلق فصار مؤيداً للنبي وموجباً لمزيد الإيمان به.

إذاً فكيف يوفق بين هذه الأخبار والأخبار التي رواها الكليني رضوان اللّه تعالى عليه الدالة على أن النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم كانوا عالمين بما كان وما يكون وما هو كائن وكيف يوجه هذا التقسيم وحصر علمهم فيما لايجيء فيه البداء؟

ص: 362

أقول:

أوّلاً: يستفاد من قوله عليه السلام في هذه الأحاديث (فإنه يكون ولايكذب نفسه لا ملائكته ولارسله) أن المراد من العلم المخزون عنده هو ما لم يطلع عليه أحداً بهذه الخصوصية، أي: لما لم يطلع عليه أحداً وقوع البداء فيه لايستلزم تكذيب اللّه وتكذيب ملائكته ورسله دون ما علمه ملائكته ورسله ومن المعلوم، أن ما علمه أنبيائه انّما يستلزم تكذيبهم لو كانوا مأمورين بأخبار القوم به وأمّا لو لم يخبروا الناس به وعلمهم اللّه تعالى ليكون مخزناً عندهم لا يستلزم ذلك تكذيبهم، فإنّ الملائكة والأنبياء بل والمؤمنين الكاملين لايكذبون اللّه ولا رسله اذا وقع البدأ فيما أخبروا عنه، اذاً ليس نفس التعليم مستلزماً للتكذيب، بل أخبارهم الناس بما علمهم اللّه تعالى ووقوع البداء فيه يجعلهم معرضاً لتكذيب الجاحدين والمنافقين وضعفاء النفوس، والإيمان وعلى هذا لايستفاد من الحديث ما يخالف ما يدل على سعة علم الائمة عليهم السلام، بل يدل على أن ما علّمهم ولم يأذن لهم بالأخبار عنه لايقع فيه البداء كما يدل بالمنطوق على إنّ اللّه تعالى أو النبي أو الولي إذا أخبروا الناس عن أمر لايقع فيه البداء فالحديث يوضح محل البداء وليس في مقام تعيين مقدار ما يتعلق علم النبي والإمام به من المغيبات.

وثانياً: ما كان مخزوناً عند اللّه تعالى يشمل ما كان مخزوناً عند ملائكته ورسله والائمة عليهم السلام بإذنه، ولم يأذن لهم أن يخبروا به أحداً من خلقه، بل ما يقبل التقسيم هو ما عندهم دون ما هو عنده، لأن هذا التقسيم إن كان بملاحظة خصوصية في المعلوم وامتياز بعضه عن بعض فلا يوجد خصوصية في العلم وتعدد علم الباري جلّ شأنه فإن علمه يتعلق بكل ما يجوز أن يكون معلوماً

ص: 363

ومتعلقاً للعلم على وزان واحد فكما لايجوز الإشارة الى ذاته منحازاً عن صفاته، ولا يجوز الإشارة الى صفات ذاته، منحازاً عن ذاته ولايجوز الإشارة الى علمه بخصوصية تعلقه الى المعلوم المعين ممتازاً عن علمه بالمعلوم الآخر، فلا تبعض ولاتجزئة في علمه تعالى ولايشار الى علمه بالمعلوم الخاص، لأن كل ذلك ينتهى الى القول بالتجزئة والتركيب الذي ينافى القول الحق وعينية الذات والصفة وإتحادهما مصداقاً بالنسبة إلى البارىء تعالى فلا يمكن كما لايمكن تصور حقيقتها أيضاً.

إن قلت: فكيف تقول: إنَّه عالم بالجزئيات قلت هو تعالى شأنه عالم بالجزئيات والكليات لا يعزب عن علمه شيئاً، ولكن لا تعدد ولا تكرر لعلمه والكثرة المتصورة إنّما جائت من ناحية معلوماته كقدرته ولا تكثر في قدرته ولايتصور فيه الشدة والضعف والتكرار والتعدد، بل الشدة والضعف يخيل للجاهل الذي يرى المقدورات وكراتها وتعددها وكبيرها وصغيرها فيتوهم هذه في حقه تعالى.

والحاصل: ان التقسيم الحقيقي بالنسبة الى صفاته الذاتية باطل مستلزم للنقص واثبات ما هو تعالى منزه عنه.

والذي يؤيد ما قلناه: من أن لفظة (عنده) ليست صريحة في أن العلم مخزون فيه وعند نفسه وإنه يصح أن يكون مخزوناً عند ملائكته وعمال إرادته وانبيائه ورسله وأوليائه، ويقال: إنه مخزون عنده قوله تعالى: [قال علمها عند ربي في

ص: 364

كتاب] (1) أي: مخزون ومكتوب في كتاب وقوله تعالى: [وعنده ام الكتاب](2) فالمراد بما هو مخزون عنده ما هو مجعول ومخزون في وعاء مناسب من الأوعية كنفس الملك وقلب النبي والولي واللوح المسمى باللوح المحو والإثبات مما جعله بحكمته وقدرته مظاهر علمه فهذا ليس بعلمه الحقيقي الذاتي بل يطلق عليه العلم تنزيلاً، لكونه حاكياً عنه فالعلم المخزون محتاج الى الخازن والى المخزن وهو يتصور بالنسبة الى علمه تعالى إذا كان مخزوناً في قلب النبي أو الولي أو نفس الملك أو كتاب مناسب له، فالله هو الخازن والمخزون العلم والمخزن هو باطن النبي ومع ذلك يصح أن يقال إنه مخزون عنده كما انه مكتوب عنده في كتاب.

ويدل على أن العلم يطلق على ما في الكتاب وما يحكى عنه قوله تعالى: [قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا](3) فإن العلم الذي طلب منهم إخراجه ليس ما هو من الكيفيات النفسانية بالنسبة الينا، بل إنّما أريد عنه ما عندهم من الكتب والآثار.

فتلخص من جميع ما ذكرناه عدم دلالة هذه الأخبار على حصر علم النبي والأئمة عليهم السلام بالمغيبات فيما أخبروا عنه، هذا مضافاً الى عدم معارضتها مع الأخبار المتواترة الدالة على علمهم بها سواء في ذلك ما أخبروا عنها وما لم8.

ص: 365


1- طه: الآية 52.
2- الرعد: 39.
3- الأنعام: الآية 148.

يخبروا عنه.

إنْ قيل: كيف يوجه مع القول بالبداء أخبار الأنبياء والأولياء، بل وأخبار اللّه تعالى عن المغيبات وما يقع في مستقبل الزمان لجواز وقوع البدا، فيها.

أقول: أوّلاً: إنَّ بعض الأمور ليس من الأمور الموقوفة فلا يجيء فيه البداء.

وثانياً: جواز وقوع البداء في أمر غير وقوعه، أو لا وقوعه فيه وكون أمر موقوفاً على أمر لا يلازم وجود الموقوف عليه، فيجوز الأخبار بوقوع أمر بدائى موقوف لتعلق العلم بوقوعه وعدم وقوع البداء فيه كما يجوز الأخبار بعدم وقوعه في الظرف الذي إقتضت الأسباب الظاهرة وقوعه للعلم بوقوع البداء فيه، وكون وقوعه موقوفاً على أمر يعلم عدم تحققه، فكما يجوز الأخبار عن المغيبات التي لايتطرق فيه البداء يجوز الأخبار عن وقوع الأمور البدائية أو لا وقوعها.

إن قيل: ما قلتم يرفع الإشكال إذا لم يقع البداء فيما أخبروا عنه وأما اذا وقع فيه البداء وخالف الواقع الخبر كما روى ذلك في عدة من الروايات كيف يوجه ذلك فانه ينافى مصلحة النبوات، وقاعدة اللطف ومستلزم لنقض الغرض وتنفر الناس عن المخبر واستنكارهم عليه، وتقبيحهم إياه.

فإن كان النبي أو الولي غير عالمين بما أخبر عنه ولو بإحتمال وقوع البداء فيه فكيف يجوز لهما الأخبار عنه من غير أن يشترطاه بالبداء وكونه متوقفاً على عدم حدوث بعض ما يمنع منه، وإن قيل إن النبي والولي كانا عالمين بما أخبرا به يقال: من أين حصل لها العلم بذلك مع علمهما بإمكان وقوع البداء فيه ومضادّة هذا العلم مع العلم بما أخبرا عنه.

أقول: الجواب عن هذه الشبهة - بعد الغضّ عن ضعيف هذه الروايات من

ص: 366

حيث السند والمتن وعدم جواز الإلتزام والإعتقاد بمفادها - وإنْ كان يظهر مما ذكرناه من ذي قبل، أوّلاً: انّا لانسلّم منافات الأخبار بأمر اتفق عدم وقوعه لعدم حصول شرطه أو وجود مانعه لمصلحة النبوات، وقاعدة اللطف بعد ما ظهر وجه ذلك وسيما إذا كانت فيه مصلحة أخرى ايضاً من مصالح النبوات، مثل توجيه الناس الى المعارف الالهية وصفاته الجلاليّة والجماليّة وتقوية الوعي الاعتقادي وبصيرة الواعين في الإيمان بالله وصفاته الكمالية، وإنه لم يزل ولايزال قادر ورحمن، وكريم، غفار وهاب لايشغله شأن عن شأن، وأنه المفزع في كل نائبة مفرج الهموم وكاشف الغموم يعفو ويصفح ويفعل ما يريد حتى لايزعم من قلّت بصيرته إنه فرغ من الأمر وفوضه إلى ما يرى ويتولد من الأسباب والفواعل الظاهرة على سبيل التسلسل فيستند الأفاعيل إليها على سبيل الحقيقة على نحو لم يكن لله تعالى فيه تدبير ومشية فيقول بمقالة اليهود.

قال اللّه تعالى: [وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان](1) وقال عزّ شأنه: [أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون](2).

وقال سبحانه: [أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون](3).

وقال تعالى جده: [أفرأيتم الماء الذي تشربون أنتم أنزلتموه من المزن أم نحن4.

ص: 367


1- المائدة: الآية 64.
2- الواقعة: الآية 58-59.
3- الواقعة: الآية 63-64.

المنزلون] (1) .

وعلى هذا لايحكم بقبح الأخبار عن أمر لايقع بالبداء اذا ظهر وجه الحكمة فيه ونمنع كونه سبباً لتنفر الناس عن النبي أو الإمام الذي ثبت نبوته أو إمامته بالمعجزة والنص، بل ربّما يكون ظهور الأمر للناس وإن ما أخبر به كان لازم الوقوع لولا إنتفاء شرطه أو حدوث مانعه سبباً لقوة إيمانهم وكمال رغبة النفوس إليه، لأن أقل ما يستفاد من ذلك هو أنه مطلع على المغيبات التي ربما لاتتحقق بالبداء.

وثانياً نقول: إن الكذب ليس من العناوين المقبحة بالذات كالظلم الذي يحكم العقل بقبحه الذاتي؛ وبنفس عنوانه كيف اتفق، وفي أي زمان اتفق، وعلى أي وجه وفي أي مكان اتفق.

وأما الكذب فهو مثل الضرب المولم، وكثير من العناوين حسنه وقبحه يختلف بحسب إختلاف أفراده والوجوه، والاعتبارات فبعض افراده يقع تحت العناوين المحسنة بالحسن الذاتي كحفظ النفس المحترمة من الوقوع في التهلكة، ومنع الظالم من الظلم، ودفع الخطر عن جماعة المسلمين ومصالحهم العامة، ومثل الكذب وضع اليد على مال الغير، والتصرف فيه فإنه إذا كان بإذنه أو لحفظه واحساناً اليه يكون حسناً لامحالة.(2) ولو سلم قبح مجرد الكذب ولو لم يكن واقعاً تحت عنوان آخر من العناوينه.

ص: 368


1- الواقعة: الآية 68-69.
2- يستفاد ذلك من القرآن المجيد في ما حكاه من قصة موسى وعبد من عباد اللّه.

المقبحة بالذات فلا شك إنه ليس مثل الظلم الذي لايمكن أن يقع حسناً، بل إذا وقع تحت أي عنوان يكون حسنه غالباً على قبح مجرد الكذب بحيث يذم تاركه على تركه يحكم بحسنه، وعلى أي حال فلا يحكم بقبح الأخبار عن وقوع أمر بحسب اقتضاء أسبابه العامة الظاهرة وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، أو الشك في ذلك إذا ترتبت على هذا الأخبار مصلحة مهمة، وخصوصاً إذا دفعت حزازة الأخبار عن خلاف الواقع بظهور حقيقة الأمر، وإن الأخبار كان معتمداً على منشأ عقلائي، وهو العلم بوجود المقتضى والأسباب.

وثالثاً نقول: إن الموارد المذكورة في الروايات بعضها أخبار وإنذار عن وقوع ما ينذر به لإتمام الحجة على المنذر (بالفتح) وتحذيره عن وقوعه فيه، وترغيبه بالتحذير عنه بالتوبة والإنابة والصدقة وغيرها، وفي مثله يكون الخبر مشعراً بجواز وقوع البداء، وإن الواجب على المنذرين التوبة والرجوع إلى اللّه تعالى.

فتلخص إنه لايثبت بهذه الأخبار أمر غير إيضاح أمر البداء وتبيين موارده فالأخبار فيها إما كان اتكالاً على القرنية الحالية وهي معلومية جواز وقوع البداء في مواردها بالإيمان والتوبة والصدقة وغيرها، كما يستفاد ذلك من قصة قوم يونس على نبينا وآله عليه السلام أو كان الفرض آرائة الشاهد على ذلك ليطمئن به قلوب المؤمنين ويدفع به إستبعاد المرتابين واللّه ورسوله أعلم فارتفع الإشكال بحذافيره واللّه الموفق للصواب.

فإن قيل: فما تقول في ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: لولا آية في كتاب اللّه لاخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه

ص: 369

الآية: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب](1) وروى نحوه عن سيدى شباب أهل الجنة وعن الإمام زين العابدين والباقر وأبي عبد اللّه عليهم السلام(2) فإنه يدل على أنهم غير عالمين بالوقايع البدائية والأمور الموقوفة.

أقول: ليس المراد منه لولا هذه الآية لكانوا عالمين بما كان وبما يكون وبما هو كائن ولكن الآية ونظام البداء السائد باذن اللّه على أمور الخلق منعهم عن العلم بذلك، بل الظاهر إن المراد التنبيه على إنهم عليهم السلام إنّما إمتنعوا عن اظهار ما عندهم من العلوم وبيان ما يقع فيه البداء وما لم يقع، لأن المصالح المتضمنة في نظام البداء المحققة لمصالح النبوات وكمال النفوس في المعارف الإلهية لاتتحصل إلا بخفاء العلم بمواردها على الناس، فالأخبار بكل ذلك أو بجلها ينافي المصالح العظيمة الكامنة في نظام المحو والإثبات ويشعر بل يدل على ذلك كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته بعد النهروان «وأيم اللّه لولا إن تنكلوا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضي اللّه على لسان نبيكم»(3) إذا فلا دلالة لمثل هذا الحديث على أنه لولا هذه الآية وهذا النظام الكامل التام لكنا عالمين بما يكون إلى أن تقوم الساعة، فإن هذا مضافاً إلى أنه لايستفاد من هذه الأحاديث يرد بالأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على أنهم عالمون بما يكون إلى قيام الساعة(4).2.

ص: 370


1- الرعد: الآية 39.
2- البحار: ج 4 ص 97 ب 3 ح 4 و 5.
3- الغارات: ج 1 ص 7.
4- راجع الكافي ج 2.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «واللّه لو شئت إن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف ان تكفروا فيّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله الا وإني مفضيه الى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما انطق إلا صادقاً ولقد عهد إلى بذلك كله وبمهلك من يهلكو ومنجى من ينجو ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئاً يمر على رأسى إلا أفرغه في اذنىّ وأفضى به الىّ»(1).

وقال عليه السلام: في خطبة ذكر فيها طائفة من الملاحم: «سلونى قبل أن تفقدوني (إلى أن قال) والذي نفسي بيده لاتسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولاعن فئة تضل مأة إلاّ نبأتكم بناعقها وسائقها»(2).

قال السيد الأجل شارح الصحيفة إنجيل أهل البيت وزبور آل محمد صلوات اللّه عليهم في الروضة الثانية والأربعين:

تواترت الأخبار عن العترة الزاكية وأجمعت الصحابة من الفرقة الناجية إن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه والأوصياء عن أبنائه علموا جميع ما في القرآن علماً قطعيّاً بتأييد إلهي، وإلهام ربّاني وتعليم نبوي وقد طابق العقل في ذلك النقل، وذلك إن الإمام إذا لم يعلم جميع ما في القرآن لزم إهمال الخلق، وبطلان الشرع، وانقطاع الشريعة وكل ذلك باطل بحكم العقل والنقل.

ومن الأخبار ما ورد من طرق العامّة عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً عليه السلام2.

ص: 371


1- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 250 خ 175 [نشر هجرت].
2- الغارات: ج 1 ص 7 و 8، نهج البلاغة الخطبة 92.

يخطب وهو يقول: «سلونى فواللّه لا تسئلوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلونى عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آية إلا وأنا إعلم بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل»(1).

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود قال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف وما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن»(2).

وأيضاً أخرج من طريق أبي بكر بن عياش عن نصير بن سليمان الأحمسى عن أبيه عن علي عليه السلام قال: «واللّه ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً»(3).

وأما الروايات في ذلك من طرق الخاصّة فأكثر من أن تحصى منها ما رواه ثقة الإسلام بسند حسن عن جابر قال: «سمعت أباجعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس إنه جمع القرآن كلّه كما أنزل اللّه إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما نزّله اللّه إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده صلوات اللّه عليهم أجمعين»(4).

وعن سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام: «إن في القرآن علم، مضى وعلم ما يأتي8.

ص: 372


1- بحار الأنوار: ج 40 ص 179.
2- حلية الأولياء: ج 1 ص 65.
3- حلية الأولياء: ج 1 ص 67.
4- الكافي: ج 1 ص 228.

إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم»(1).

وعن أبي جعفر عليه السلام إنه قال: «ما يستطيع أحد أن يدعى إن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء»(2).

وعنه عليه السلام: «إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن»(3).

وعن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «واللّه اني لاعلم كتاب اللّه من أوّله الى آخره فكانّه في كفى فيه خبر السماء وخبر ما كان وخبر ما هو كائن قال اللّه عز وجل فيه تبيان كل شيء»(4).

قال بعض المحققين: قوله عليه السلام: (كأنه في كفىّ تنبيه على أن علمه عليه السلام بما في الكتاب علم شهودي بسيط واحد بالذات متعلق بالجميع كما أن رؤية ما في الكف رؤية واحدة متعلقة بجميع أجزائه، والتعدد إنّما هو بحسب الإعتبار وقوله عليه السلام: (فيه خبر السماء) يعنى أحوال الأفلاك وحركاتها وأحوال الملائكة ودرجاتها، وحركات الكواكب ومداراتها، ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الأمور الكائنة في العلويّات، والمنافع المتعلقة بالكليات، وقوله عليه السلام: (وخبر الأرض) يعني من جور مرها وانتهائها وما في جوفها9.

ص: 373


1- الكافي: ج 1 ص 61.
2- الكافي: ج 1 ص 228.
3- الكافي: ج 1 ص 229.
4- الكافي: ج 1 ص 229.

وإرجائها، وما في تحتها وأهوائها، وما فيها من المعدنيات، وما تحت الفلك من السايط والمركبات التي تتحير فى ادراك نبذ منها عقول البشر، ويتحير دون بلوع أو في مراتبها ظاهر الفكر، والنظر، وقوله: (وخبر ما كان وما هو كائن) أي: من أخبار السابقين، وأخبار اللاحقين كليّاتها وجزئياتها، وأحوال الجنة ومقاماتها، وتفاوت مراتبها ودرجاتها، وأخبار المثاب فيه بالإنقياد والطاعة والمأجور فيها بالعبادة والزهادة، وأهوال النار ودركاتها، وأهوال مراتب المعقوبة، ومصيباتها، وتفاوت مراتب البرزخ في النور والظلمة، وتفاوت أحوال الخلق فيه بالراحة والشدة كل ذلك بدليل قوله تعالى: (فيه تبيان كل شيء) أي: كشفه، وإيضاحه فلا سبيل إلى إنكاره واللّه أعلم انتهى كلام شارح الصحيفة.

هذا آخر، ما وفقنا بتحريره حول البداء والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على رسوله الأمين وأهل بيته الطاهرين، وقد تم تحرير ذلك في شهر ذو القعدة الحرام من شهور سنة 1405 الهجرية القمرية وقد تجنّبنا في هذه الرسالة عن الاستشهاد بمخترعات الفلاسفة اذناب اليونانيى واتباعهم من المنتحلين إلى المذاهب الاسلامية، أولئك الذي لم يهتدوا بهدى أهل بيت الوحى والنبوة عليهم السلام وسلكوا سبلاً متشعبة أبعدتهم عن التمسك بالثقلين.

وأنا أقل العباد لطف اللّه الصافي الگلپايگاني ابن العالم الفقيه المرحوم المولى محمد جواد الصافي غفر اللّه تعالى له ولوالديه وحشرهم مع ساداته الأنجبين عليهم الصلاة والسلام.

ص: 374

فتنة ردّ النصوص أو الاجتهاد في مقابل النص

اشارة

ص: 375

ص: 376

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه وسلام على عباده الذين إصطفى اللّه خير امّا يشركون وصلّى اللّه على سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فلا يخفى على الباحثين العارفين برسالة الإسلام إن من أهمّ ما تدعو به هذه الرسالة السماوية العظمى هو الإنقياد الخالص والتمسّك الصادق بالهدايات الإلهيّة، والتسليم الكامل لشرائع الدين وأحكامه والإلتزام بما يستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعيّة (كتاباً وسنّة) على نحو جرت عليه سيرة العقلاء وترك الإجتهاد بعرض النظر والرأي قبال نصوص الكتاب والسنّة.

وهذا: أي: الالتزام المطلق وقبول كلّ ما بيّنه الشارع سواء كان من المعارف الحقّة الإعتقادية أو التعاليم العبادية، والنظم الإجتماعية، والسياسية والمالية، وغيرها هو الإسلام الخالص والدين الحنيف الذي بعث به جميع الأنبياء فمن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

لا يستكمل، بل لا يتحقّق الإيمان الذي هو عبارة عن عقد القلب والقبول القلبي إلّابهذا التسليم الجامع الشامل.

وإن قلنا بأن الإيمان عمل كلّه ومبثوث على القوى والجوارح والأعضاء وإن

ص: 377

عقد القلب إيمان القلب وعمله القلبي كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث أبي عمرو الزبيري، لأن الإيمان القلبي ليس كإيمان سائر الأعضاء والقوى فإيمان اللسان يجتمع مع إيمان العين مثلاً ويتحقق بدونه أيضاً، وهكذا إيمان العين بالنسبة إلى إيمان اللسان والأذن والرجل واليد وغيرها، وهذا على خلاف إيمان القلب فإنه لا يمكن أن يتحقق إيمان أي قوة من القوى وأي عضو من الأعضاء بدونه فلا يكون العمل الصادر من اللسان إيمانياً، إلّاإذا كان منبعثاً من إيمان القلب بهذا العمل وإنّه المأمور به الشرعي وكان القلب مؤمناً مضافاً إليه بوظائف سائر الأعضاء الشرعية أيضاً فالعمل الصالح المأمور به من قبل الشرع، وكذا ترك ما نهى الشرع منه لا يكون عملاً إيمانيّاً إلّاإذا كان القلب مؤمناً بجميع الأوامر والنواهي الشرعيّة وما أنزل على النبي صلى الله عليه و آله وهذا بخلاف الإيمان القلبي، فإنه يتحقق بدون إيمان سائر الأعضاء الذي هو عبارة عن أعمالها فيما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه.

وعلى هذا وإن كان إيمان القلب مقولاً بالتشكيك ذو مراتب ودرجات بحسب القوة والضعف ليس قابلاً للتجزئة بالإيمان ببعض الشرعيّات والكفر ببعضها (الإيمان بالبعض والكفر بالبعض) كالإيمان بالصلاة والكفر بالزكاة، أو غيرها من العقايد والأحكام المعلومة إنها من الدين كالقصاص، والحدود وأحكام الأموال والأحوال الشخصيّة وإذا كان العبد غير مؤمن بواحدة منها لا يكون مؤمناً وإن كان مؤمناً بغيرها، بل تصور الإيمان بغيرها أيضاً مع عدم الإيمان بواحدة منها في غاية الإشكال، بل لا يمكن إلّابالتعسّف والتكلّف.

والسرّ في ذلك عدم تحقّق الإيمان باللّه تعالى وإنّه حكيم وعالم بجميع

ص: 378

المصالح والمفاسد، وأعلم من العبد في تدبير أموره وتنظيم شؤنه إلّابالإيمان بجميع ما أنزل اللّه تعالى من دون إستثناء شيء منه وعدم الإيمان حتى بشيء منه يكشف عن عدم الإيمان بالجميع وبعلمه وحكمته تعالى، بل يكشف ذلك عن إجتهاد العبد وإستبداده وإعتماده برأيه في تعيين مسير أموره.

ولذا يكفر من أنكر ضروريّاً من ضرورة الدين أو ما كان معلوماً عنده انه من الدين، ويكفر من ردّ على النبي صلى الله عليه و آله ولم يقبل منه ولو مرّة واحدة وفي مورد واحد.

ولا ريب أن ذلك التسليم كان ولا يزال من أقوى ما يحفظ به الدين عن التغيير والتبديل وإدخال ما ليس منه فيه فالدين في عين تقومه به بقائه أيضاً متقوم به.

ويضمن ذلك، أي: الالتزام الصحيح بالدين ومعرفة مفاهيم مصطلحاته التمسك بالعترة الطاهرة الذين نصّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله على أن التمسّك بهم وبالكتاب الكريم معاً أمان من الضلال والإختلاف فيرجع إليهم في معرفة جميع مصطلحات الدين، وتفسير القرآن الكريم والسنّة النبويّة إذا صارت مثار الإختلاف، وتنازع الآراء.

وهذا، أي: لزوم وجود من يكون مرجعاً للأُمّة في ما يحدث بينهم من الاختلاف مؤيّد بالحكم العقل القطعي أيضاً لأنّه إذا كان من أهداف الدين والوحي رفع الإختلاف بين الناس يجب أن يكون مرجعاً بينهم إذا وقع الاختلاف في نفس الدين ومفاهيم مصطلحاته، وإلّا تسقط فائدة الدين في رفع الاختلاف وينقض الغرض من بعث الرسل وإنزال الكتب ولا تبقى للدين قائمة ولا دعامة.

ص: 379

وقد إهتم الإسلام بهذين الأصلين الأصيلين إهتماماً بليغاً فإليك بعض ما جاء من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فيهما.

قال اللّه تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله واتقوا اللّه إن اللّه سميع عليم](1).

وقال سبحانه: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً](2).

وقال عزّ من قائل: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم](3).

وقال عزّ ثناؤه: [إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد](4).

وأما الأحاديث فيهما فكثيرة لا تحصى.

منها: ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ولا يزيغ عنه»(5).

منها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام: «لا تتخذوا من دون اللّه وليجة فلا تكونوا مؤمنين فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلّاما أثبته5.

ص: 380


1- الحجرات: الآية 1.
2- النساء: الآية 65.
3- النساء: الآية 59.
4- الرعد: الآية 7.
5- فتح الباري: ج 13 ص 245.

القرآن»(1).

منها: ما روي أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كل شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر»(2).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو ان العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(3).

ومنها: ما عن أبي جعفر عليه السلام قال بريد العجلي: سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركاً فقال: «من قال للنواة: انها حصاة وللحصاة: أنّها نواة ثمّ دان به»(4).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو ان قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه النبي صلّى اللّه عليه وآله الا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية: [فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً](5) ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: فعليكم بالتسليم»(6).8.

ص: 381


1- الكافي: ج 1 ص 59.
2- الكافي: ج 2 ص 387.
3- الكافي: ج 2 ص 388.
4- الكافي: ج 2 ص 397.
5- النساء: الآية 65.
6- الكافي: ج 2 ص 398.

وأمّا الأحاديث المأثورة الدالّة على وجوب الرجوع إلى العترة والتمسّك بهم وانهم أمان من الضلال و... فهي أيضاً كثيرة متواترة من طرق الفريقين قد أخرجنا طائفة منها في كتابنا أمان الأُمّة من الضلال والاختلاف فراجع إن شئت فمنها الأحاديث المتواترة المشهورة بين الخاص والعام بأحاديث الثقلين، ومنها أحاديث السفينة ومنها أحاديث الأمان وغيرها.

ص: 382

ردّ النصوص وتاريخه

أوّل من ردّ النصوص هو إبليس الذي خالف أمر اللّه تعالى بالسجود لآدم إستكباراً وردّ على اللّه تعالى بما جاء عنه في القرآن المجيد قال: [لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون](1) وفي سورة الإسراء: [قال أأسجد لمن خلقت طيناً](2) وفي سورة ص قال: [قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين](3).

والمستفاد من الآيات الثلاثة أمر واحد، وهو أنه إستكبر وأبى أن يسجد لآدم واستند في إستكباره بإعمال رأيه واجتهاده في ما يرجع إلى علّة الأمر وحكمته، وإنّه لم يصدر هذا الأمر من اللّه تعالى كما ينبغي فنفى امّا علمه تعالى أو عدله

ص: 383


1- الحجر: الآية 33.
2- الإسراء: الآية 61.
3- الأعراف: الآية 12؛ ص: الآية 76.

بصدور ما لا ينبغي صدوره منه تعالى اللّه عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.

وهذا شأن كلّ رادّ لنصوص الكتاب والسنّة وإن كان للأغراض الخاصة من حبّ الجاه والرياسة والزخارف الدنيويّة، أو استكباراً واستعلاء عصمنا اللّه تعالى من هذه المهلكات التي أهلكت طوائف كثيرة من الأُمم الماضية وهذه الأُمّة حتى من ذوي السوابق الحسنة.

وكان قارون أيضاً ممن سلك مسلك إبليس في معارضته لمن يوعظه بما وعظ اللّه الخلق به ويأمره بالإحسان وينهاه عن الفساد في الأرض حيث قال: [أنا أوتيته على علم عندي](1) يعني لا وجه فيما أمر في اللّه بالزكاة ولا حق للّه تعالى وللفقراء في مالي فإنّما أوتيته على علم عندي.

وقد سلك هذا السبيل من ردّ حكم متعة الحجّ وبقي مصرّاً على منع الناس منه إلى آخر أيّامه، وردّ على النبي صلى الله عليه و آله صلح الحديبية ورد أيضاً عليه صلى الله عليه و آله لما أراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً فمنع النبي صلى الله عليه و آله عن ذلك، وردّ عليه وقال ما لا نجسر على حكايته وقال ابن عباس: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب وهذا أشنع صور ردّ النصوص وأضرّها على الأُمّة وأفسدها لأمرهم.

وكذا أسقط من الأذان (حي على خير العمل) وجعل مكانه (الصلاة خير من النوم)(2) وتخلّف في سائر المتخلّفين عن جيش أُسامة وقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله).

ص: 384


1- القصص: الآية 78.
2- لا يخفى على كلّ من له ذوق وفطانة وبصيرة بالألفاظ والمعاني إنّ هذا الفصل لا يناسب سائرفصول الأذان ولا شيء تحته فمن لا يعرف ان الصلاة خير من النوم ومن سائر الأعمال المباحة وأين هذا المضمون من مضمون قول المؤذن حي على الصلاة وحي على الفلاح وحي على خير العمل وما الفرق بين قولك الصلاة خير من النون و (الماء أعذب أو أطيب من البول).

من تخلّف عنه وكذا حرّم متعة النساء وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره.

ومن الإجتهاد في مقابل النص وبالتعبير الصحيح ردّ النص صريحاً حبّاً للجاه والرياسة ردّ النصوص المتواترة على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فغيروا به مسير الإسلام في السياسة والحكم، وإعتذر بعضهم للذين ردّوا هذا النص بأن ذلك إنّما صدر منهم حفظاً لبعض المصالح ودفع الفتن والمفاسد، وقد قيل إنَّ الضرورات تبيح المحظورات فإمامة الإمام عليه السلام وولايته بعد النبي صلى الله عليه و آله وإن كانت منصوصاً عليها ولا شك فيها وكان هو الأولى والأحقّ بها من جميع الصحابة أحقية أوجبت تعيينها لهذا المنصب الإلهي الذي ليس أمره بيد غير اللّه تعالى كما لا شك في إنّه ليس لأحد من الصحابة، بل لجميعهم سوابق كسوابقه الجليلة ومناقب كمناقبه الكبيرة الكثيرة لا يدانيه أحد منهم في العلم والزهد والعبادة والشجاعة والجهاد في سبيل اللّه ولولا سيفه لما قام عمود الدين، ولولا علومه وخطبه في التوحيد ما إهتدت الأُمّة إلى المعارف التوحيدية فإحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على إنّه إمام الكلّ إلّاإنّه تقدّم عليه من تقدّم مخافة إنّ سوابقه الكريمة الكثيرة في نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومجاهدته بين يديه ومنازلاته مع رؤساء الكفر وشجعان المشركين وقتل صناديدهم تجدد ولايته.

الأمور في النفوس حقدهم وحسدهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ولأهل بيته خاصّة ولبني هاشم عامّة وتحملهم وبقية المقتولين بيده في غزوات رسول اللّه صلى الله عليه و آله على

ص: 385

ما يفسد أمر الإسلام ووحدة الأُمّة.

وهذا الاعتذار أو الإستدلال شبيه بإستدلال إبليس بل يرتضعان من لبن واحد ولو لم يكن أسوء من تركهم النصوص وتقديم من أخّره إليه وتأخير من قدّمه إليه يكون مثله سواء بسواء فلا معنى لهذه المقالة إلّاإن اللّه تعالى لمّا اختار عليّاً خليفة لرسوله صلى الله عليه و آله وأمره بتبليغ ذلك إلى الأُمّة ما كان عالماً بما يترتب عليه مما ذكره هذا المعتذر أو كان عالماً به ومع ذلك أمر به.

وجوابه واضح: وهو أن اللّه تعالى كان عالماً بثقل ذلك على المنافقين والذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم إلّاإنّه لولا مخالفة هذه الفئة التي يعتذروا لهم ولما أحدثوا في الإسلام بهذا الاعتذار لم يؤثر ثقل ذلك على بعض النفوس في وقوع الأمور تحت ولاية وليّه، بل كان ثقل ولاية غير من له الأمر على النفوس أكثر ولعلّ من ذلك حدث بعض الحروب، بل إرتدّ بعض الناس ولو قام الوصيّ عليه السلام مقام النبيّ صلى الله عليه و آله ما وقعت الفتن التي وقعت في أوّل حكومة الأوّل، والحاصل إنّ هذا عذر غير مقبول وإجتهاد في مقابل النص الصريح وربما يكون من التفسير بما لا يرضى صاحبه، والتاريخ يشهد بأنّه لم يحمل الذين استبدوا بالأمر وتركوا النصوص وأتمروا على أن يصرفوا هذا الأمر عمّن نصبه النبيّ صلى الله عليه و آله في حياة الرسول صلى الله عليه و آله وتركوا جثمان الرسول المقدس وإجتمعوا في السقيفة على ما فعلوا وارتكبوا إلا حب الجاه والرياسة قال اللّه تعالى: [قل أأنتم أعلم أم اللّه](1).

ثم إنَّ الأمر استمرّ بعد ذلك حتّى آل الأمر في سلطنة معاوية بسبب ترك0.

ص: 386


1- البقرة: الآية 140.

النصوص والقول بالرأي إلى مرتبة من الهبوط والسقوط التي يشتكي عنها أنس بن مالك بدمشق ويقول: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّاهذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيّعت، وقال أبو الدرداء: واللّه ما أعرف من أمة محمد صلّى اللّه عليه وآله شيئاً إلّا إنّهم يصلّون جميعاً.

وبقيت هذه السيرة السيّئة في أيدي أولي الرياسة والسياسة ومن يريد هدم الدين، وصرف الناس عن أحكامه وبرامجه إلى زماننا هذا الذي وصلت النوبة لإظهار هذا الإستكبار الإبليسي إلى أمثال القذافي الملعون الملحد المؤمن بالمبادئ السوسياليستية وبورقيبة طاغية تونس أراح اللّه المسلمين من شرورهم وفتنتهم وضلالهم وإضلالاتهم، من ناحية أخرى.

ص: 387

فتنة الفلسفة والفلاسفة

لمّا شاع من عصر المأمون فلسفة اليونانيين بين المسلمين صارت نصوص الإسلام سيّما في أصول الدين غرضاً لتأويلات المتفلسفين فصرفوا النصوص على آرائهم وعدّ من الثقافة الخروج من نصوص الشريعة وظواهرها وتأويلها على ما يوافق ما حرروها في الفلسفة حتى في الطبيعيات فبعدوا وأبعدوا الناس عن مفاهيم نصوص الدين، في التوحيد والصفات ومفهوم الحدوث والقدم والخالق والمخلوق وغيرها، فأولوها بما لا يوافق ظواهرها فبنوا دينهم على الظنون والزعوم وفسروه بما لا يرتضيه صاحبه وأهل تفسيره فقرروا المعارف العالية على الأسس التي قرّرها الذين لم يسلكوا مسلك الأنبياء، ولم يستضيئوا من نور هدايتهم السماوي فاستقلوا بعقولهم ومشوا في مذاهبهم وجاءوا بإصطلاحات التي لا توافق اصطلاحات القرآن الكريم ووقعوا في القول بالإيجاب والحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وفسروا ربط الحادث بالقديم كربط المعلول بالعلّة لا كربط المخلوق بالخالق مع الفرق الواضح بين

ص: 388

الاصطلاحين، فكم فرق بين الخالق والمخلوق والعلّة والمعلول؟ لا يدرك بالاصطلاح الثاني ما يدرك بالاصطلاح الأول، وما يدرك من الثاني لا يدرك من الأول، لا يتّحد الطريقان ولا ينتهيان إلى مقصد واحد والعلّة يعبّرون عنها بالعلّة الأولى والثانية و... وأما الخالق فلا يعبّر عنه بالخالق الأوّل والثاني وكذا المعلول الأوّل والثاني والثالث.. ولا يقال المخلوق الأول والثاني والثالث(1). فجميع المخلوقات وإن وقعت خلقة بعضهم في طول خلقة البعض الآخر مخلوقون لخالق واحد نسبة الجميع إليه سواء لا كالمعلول الثاني، والعلّة الثالثة الذي هو معلول للمعلول الأوّل والعلّة الثانية و. و..

وكتب الفلاسفة مع ما يوجد فيها ممّا يوافق وحي السماء لا يوافق جميع مباحثها مع الوحي وما هو ثابت بالكتاب والسنّة ففيها الغثّ والسمين والحقّ والباطل، وما يتّفق مع ما جاء به الأنبياء وما يخالفه وذلك لأنّهم سيّما القدماء منهم اقتنعوا واستغنوا بمنسوجاتهم عمّا جاء به رسل اللّه تعالى واستقلّوا بعقولهم عن هدايتهم فيما لا يهتدي العقل إليه لولا هداية الأنبياء، والذين جاؤا بعدهم سلكوا مسالكهم واتبعوا طريقهم غير انهم سعوا بعد ما أثبتوا عليه في المسائل تطبيق الكتاب والسنّة عليه فكأنّهم أرادوا أن ينزّهوا المشرّع عمّا وصل إليه عقولهم، ولذا لم يأمنوا عن الأخطاء والعثرة والزلّة إلّاالقليل منهم فنرى إن إثنان من أشهر حكماء المعاصرين بالغا في تخطئة اثنين من مشاهير الفلاسفة في مسألة المعاد..

ص: 389


1- نعم جاء في بعض الأحاديث أوّل ما خلق اللّه... ولكن المراد منه ليس ما يريد هؤلاء من المعلول الأوّل المسمّى بالعلّة الثانية والعقل الثاني والمعلول الثاني للعلّة الثانية و. و...

الجسماني حتى رماهما بما نعوذ باللّه منه(1).

هذا مع انهم تكلّفوا الكلام فيما لم يكلّفوا بالتكلّف فيه، بل نهوا عنه.

فهل هؤلاء يسلكون سبيل أرسطو وأفلاطون وسقراط والرواقيين والمشائيين، والفارابي وابن سينا وغيرهم؟ أم هم المهتدون بهدي محمد وأهل بيته صلّى اللّه عليهم، والسالكون سبيلهم، نحن لا نحكم على الجميع على إنهم من الطائفة الأولى أو الثانية ونرجو أن يكون جلّ فلاسفة المسلمين من الثانية وأما حسابهم فعلى اللّه تعالى.ء.

ص: 390


1- راجع رسالة الخاجوئي محمد إسماعيل المازندراني في تفسير قوله تعالى: وكان عرشه على الماء.

فتنة العرفاء والمتصوفة

ومن الذين بنوا أمرهم على تأويل النصوص وصرفها على ما يوافق أهوائهم وخيالاتهم وأعظمهم ضرراً وأقبحهم تأويلاً الطائفة المتسمّية بالعرفاء والمتصوفة، الذين لعبوا بأصول الدين وفروعه وطبّقوها على آرائهم الفاسدة وصحّحوا بها أعمالهم الخبيثة، لهم مقالات واهية وكلمات باطلة حرّموا الحلال وحلّلوا الحرام، وجاءوا مع إختلافهم في سيرهم وسلوكهم وسلاسلهم بما يخالف صريح النصوص، وتأويلات أوهن من بيوت العنكبوت وحسبك في ذلك أن تطالع بعض كتبهم وتاريخ رؤسائهم وأشعارهم حتى تعرف إنّهم من العرفان الحقيقي ومن الشرع أبعد من الأرض عن السماء، أعاذ اللّه المسلمين من شرورهم فلم يتقهقروا إلّالإشتغالهم بترّهات هؤلاء وإنصرافهم عن التمسّك بالثقلين.

وأكثر ضرراً من هاتين الطائفتين على أنفسهم وعلى غيرهم من خلط ما تسمّيه هؤلاء بالعرفان بفلسفة اليونان فزاد في الطنبور نغمة أخرى.

ص: 391

وإن شئت أن تعرف ما عليه المتصوفة ومن سلك مسالكهم فراجع تفسير ملا عبدالرزاق القاساني تجد فيه كثيراً من هذه التأويلات، فإنّه في مثل الآية الكريمة: [وانظر الى حمارك](1) تأول الحمار بالعزير النبي(2) والصفا والمروة بالقلب والنفس(3) ، وامّا الجدار فكان لغلامين يتيمين(4) بالعقل النظري والعقل العلمي، وفي خلقكم من نفس واحدة، تأول النفس بالنفس الناطقة، وفي: خلق منها زوجها تأول الزوج بالنفس الحيوانية، والتأويلات الفاسدة في كلماتهم كثيرة جداً، فراجع الفصوص وغيرها ولا يهمّنا ذكر أكثر من ذلك، والغرض الإشارة إلى فساد الطريقة.].

ص: 392


1- البقرة: الآية 259.
2- تفسير ملّا عبدالرزّاق: ج 1 ص 147.
3- نفس المصدر: ص 100.
4- في سورة الكهف الآيه 82: [وأما الجدار فكان لغلامين يتيمَين في المدينة].

فتنة المثقفين العصريين

ظهرت في عصرنا الموسوم بعصر الذرة والفضاء صورة جديدة من صور ردّ النصوص نسمّيها فتنة المتهوّرين والمثقفين أو أتباع النهضة الحديثة المفتونين بالتقدّم الصناعي، والمظاهر المادّية والمكاتب العلمانية المؤمنة بفصل الدنيا عن الدين، وتفسير الحوادث الخارقة للعادة المستندة في الكتاب والسنّة بإرادة اللّه تعالى بالتفسير والتعليل المادّي فينكرون تأثير عالم الغيب في عالم الشهادة.

وممّا يتفاقم الداء إنهم يظهرون الإسلام ويتظاهرون بالنصيحة له وللمسلمين وإنّه يحب أن يفسر الدين على أساس يقبله الفكر الغربي أو لا يستنكره الملحد الشرقي ويأوّل إصطلاحاته على نحو يوافق المذاهب المادّية، والقوانين الوضعيّة، وبعضهم يريد أن يوفّق بين الدين وأنظمته في الإدارة والحكم وغيرهما مع الأنظمة الديمقراطيّة كما يريد بعضهم التوفيق بين الدين وهو نظام إلهي مع الأنظمة الماركسيّة الملحدة.

فالثقافة عندهم الترديد في الحقايق المقبولة في الدين ودلّت عليها نصوص

ص: 393

الكتاب والسنّة ممّا لا يمكن أن يعلّل بالعلل المادّية فينكرون أو يأوّلون النصوص المصرّحة بمعجزات الأنبياء وينكرون وجود الشيطان الذي أمرنا اللّه بالإستعاذة منه ووجود الملائكة ونصرة النبي صلّى اللّه عليه بهم وأنهم أولي أجنحة، وكذا ينكرون خروج الدجّال ودابّة الأرض وظهور المهدي عليه السلام لا لضعف إسناد أحاديثها بل لمجرّد عدم تفسيرها بدون التأويل بالتفسير المادّي مضافاً إلى إنَّ كثيراً من هذه الأمور ثابت بالكتاب الكريم.

وأمّا في ناحية الأحكام الشرعيّة سواء السياسية منها، والماليّة والإجتماعية والفردية وحتى العبادية منها ففتنتهم وإنكارهم أكثر وأظهر فينكرون بعض أحكام المواريث مثل قوله تعالى: [للذكر مثل حظ الأنثيين](1) ويطلبون بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث ولا يقبلون جواز تعدّد الزوجات، وجواز الطلاق وكونه بيد الرجل وكذا عدم جواز قضاء المرأة وعدم جواز قيامها بتدبر أمور الدولة والحكومة، وكذا لا يصوبون إجراء أحكام القصاص والحدود والديات والتعزيرات والمالكية الفرديّة في هذا الزمان لأن هذه الأحكام بعد مضي أربعة عشر قرن من إنشائها لا تنطبق بزعمهم الفاسد على عصرنا هذا، الذي وصل فيه البشر في العلم والتكنيك إلى مرتبة السماء وملخّص الكلام انهم ينكرون إكمال الدين وإتمام النعمة واحتياج الناس إلى النظم السماويّة ويزخرفون ملتقطاتهم المأخوذة من أعداء الإسلام بتوجيهات ربّما يقبلها ضعاف النفوس والذين وقعوا تحت تأثير سلطان المادّة وسلبت المظاهر المادّية وقوة الصنعة والتكنيك1.

ص: 394


1- النساء: الآية 11.

استقلالهم وحرّيتهم في التفكّر وصرفتهم عن عالم الغيب والفكرة في كرامة الإنسان وقصرت هممهم على الأمور المادّية والحياة الدنيوية والمآرب الجسمانية، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون فلا يفسّرون الحياة وما يتحمّل لها الإنسان من المشاقّ والمتاعب والمصائب تفسيراً مقنعاً تطمئن به النفس إلّاإنّه لا مقصد، ولا هدف لكلّ ما في هذا العالم من كرتنا الأرضية والكرات السماويّة تتحرّك المتحرّكات وتتبدَّل الحالات عبثاً.

إذاً فما قيمة الإنسان؟ وما قيمة كدحه وسعيه وما قيمة اكتشافاته واختراعاته؟ وهل الحكم عليه بالفناء والنجاة من العناء أحسن؟ أم الحكم عليه بالبقاء وتحمّل هذه الشدائد العظيمة؟

والحاصل: إنَّ فتنة المفتونين بالمظاهر المادّية فتنة لا يجوز إهمالها فلو لم تقم لدفعها رجالات العلم والدين الذين وجب عليهم أن يظهروا علومهم عند ظهور البدع لا يبقى للدين إصطلاح إلّاغيرته.

فإلى اللّه نشكو بثّنا وحزننا ومنه نستمدّ ونطلب العون والتوفيق فقد أصبحنا في عصر محفوف بفتنة تحريف الدين وردّ النصوص وصرفها إلى الأهواء من جوانب كثيرة سيّما الجهّال المتسمّين بالمثقّفين والمتهوّرين المقبلين إلى مذهب الحسّيين والمعرضين عن المؤمنين.

فما أحوج عصرنا بين العصور إلى تبيين مفاهيم إصطلاحات الكتاب والسنّة وتثبيت معاني ما قام به دعوة هذا الدين الحنيف ورَدّ الناس والباحثين إلى النصوص وربّ أهل التأويل الغير الراسخين في العلم وتاركي التمسّك بالثقلين عن حريم المتشابهات فضلاً عن المحكمات.

ص: 395

وقد قام بحمد اللّه تعالى من أقدم العصور لدفع أهل الأهواء عن حريم الكتاب والسنّة جماعة من العلماء من أصحاب أهل البيت عليهم السلام وتلامذة مدرستهم فدافعوا عن النصوص واحتفظوا بمتون الكتاب والسنّة وأثبتوها وبيّنوا مفاهيمها فبقى الدين بفضل مساعيهم ومجاهدتهم على أمره الأوّل غضّاً سليماً عن التحريف والتبديل وجعلوه في متناول أيدي الجميع فشكر اللّه مساعيهم الجميلة وجزاهم عن الإسلام أحسن الجزاء.

كما قد قام في عصرنا عدّة من الأعلام فأبطلوا ثقافة المثقّفين وأظهروا بدعهم وفساد تحريفاتهم وتأويلاتهم، وأثبتوا خاتمية الرسالة المحمديّة صلّى اللّه عليه وآله وجامعيتها وانها وافية لجميع مطالب الإنسان في جميع الأعصار والأزمان وكافلة بأحكامها ونظام المجتمع الحالي البشري كما كانت كافلة للمجتمع البشري في عصر الرسالة وبعدها إلى زماننا هذا واللّه هو المستعان وعليه التكلان.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

23 - ربيع الثاني - 1406 ه

ص: 396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.