التاريخ و حركة التقدم البشري و نظرة الاسلام

اشارة

نوع: كتاب
پديدآور: شمس الدين، محمدمهدي1931-2001م.,Shams al-Din, Muhammad Mahd
عنوان و شرح مسئوليت: التاريخ و حركة التقدم البشري و نظرة الاسلام [منبع الكترونيكي] / تأليف محمد مهدي شمس الدين
ناشر: موسسه تحقيقات و نشر معارف اهل البيت (ع)
توصيف ظاهري: 1 متن الكترونيكي: بايگاني HTML؛ داده هاي الكترونيكي (176 بايگاني: 546.4KB)
يادداشت: كتابنامه به صورت زيرنويس
موضوع: تاريخ اسلام

صفحه 001

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤
التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الاسلام تأليف الشيخ محمد مهدي شمس الدين
(٤)

صفحه 002

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥
أي بني. إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتي عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهي إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلي آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره …
من وصية الإمام علي (ع) إلي ولده الإمام الحسن (ع)
(٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، يوم عرفة (1)، الوصية (1)

صفحه 003

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩
كلمة المؤسسة والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة علي أعدائهم أجمعين، إلي قيام يوم الدين..
وبعد..
فإنه إذا كان الهدف من دراسة التاريخ هو مجرد اجترار الأحداث، أو لتكون محض ترف فكري، ونشوة خاوية.. فإن قصاري جهد دراسة كهذه سيكون: هو أن يتمطي الفكر في قيوده وأغلاله - في بسمة حلم عارضة.. ثم لا يلبث أن يعود ليدفن نفسه تحت ركام من الأحلام في مطاوي الفراغ، والخنوع.. ثم النسيان..
وإنما تصبح دراسة التاريخ، وفلسفته، وآثاره، ذات قيمة، وفاعلية، وجدوي.. حينما يراد لها أن تتحول، لتكون عب ء مسؤولية، وبداية حركة، ونبضات حياة..
وبديهي.. أنه من أجل أن تكون كذلك.. لا بد من أن تصبح قادرة علي أن تعكس الواقع التاريخي، كما هو، ومن دون أي زيادة أو نقصان.. وكذلك من دون أي تزوير أو تحرير..
ومعني ذلك: هو أن علي هذه الدراسة لكي تكون علي مستوي من الدقة والأمانة.. أن تتحري أسلوب المحاكمة النزيهة والموضوعية للأحداث، والوقائع، أو فقل لما يدعي أنه منها..
وأن تعتمد الأصولية العلمية الصحيحة في بحوثها، وكذلك في مجال التحليل، والاستنتاج، والتقييم..
وإذا كنا نعلم: أن أوثق من يمكن الاعتماد عليهم في إعطاء صورة واقعية وواضحة عن أي حدث كان، وعن علله وأسبابه.. هم أولئك الذين عاصروه وعايشوه، وعاينوه عن قرب..
(٩)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، الصّلاة (1)، الهدف (1)

صفحه 004

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠
فإننا نجد: أنه حتي هؤلاء.. بل وحتي كثير من الذين شاركوا في صنع ذلك الحدث لا يستطيعون: أن يقدموا صورة واضحة المعالم عن ذلك الحديث المفترض، ولا عن علله وأسبابه، وآثاره ونتائجه.. بل قد نجدهم يعطون تفسيرات مختلفة.. بل وحتي متباينة أحيانا.. رغم افتراضنا مسبقا: أنهم جميعا صادقون في رغبتهم بإعطاء الحقيقة، كل الحقيقة في هذا المجال..
وما ذلك.. إلا لأن الناس يختلفون في مستويات إدراكهم ووعيهم، وفي نسبة اطلاعهم علي جزئيات وظروف ذلك الحدث. الأمر الذي يؤثر علي قدرتهم علي فهمه واستيعابه أحيانا، ثم علي ربطه بغيره، فضلا عن ادراك علله وأسبابه.. ثم آثاره ونتائجه علي النحو الأفضل والأتم..
كل ذلك.. فيما لو كان الحدث عاديا، لا يوجد من يهتم بالتلاعب فيه، أو بالتعتيم عليه.. فكيف إذن تكون الحال بالنسبة لتلك الأحداث، التي تشارك في صنعها أيد خفية، وتعمل علي تزييف التعتيم أو علي كثير من الحقائق.. ثم علي التحوير والتزوير فيها، وفي خصوصياتها وملامحها..
وإذا كانت الأحداث التي دونت ووصلت إلينا أكثرها أو كثير منها ولا سيما أكثرها حساسية، وأعظمها أهمية هي من هذا النوع بالذات.. فإننا ندرك: مدي حاجتنا إلي الناقل الخبير، والناقد البصير في هذا المجال.. كما أننا ندرك مدي أهمية وتأثير الوسائل التي لا بد لنا من الاستفادة منها في الوصول إلي الحقائق، التي أريد لسبب أو لآخر إحاطتها بستار من الكتمان، أو بقاؤها رهن الإبهام والغموض..
وبعد كل ما تقدم.. فإننا إذا كنا نعلم: أننا كلما قربنا من مصدر الوحي والرسالة، والإمامة والعصمة، فإننا نكون أبعد عن المغالاة والتجني، وعن الوقوع فريسة للخداع والتضليل.. لأن هذا هو المصدر الوحيد، الذي لا يعتريه خلل في الرؤية للواقع الموضوعي، ولا نقص في إدراكاته لحقيقة ما يجري، ولا مجال للحيلولة بينه وبين الواقع، واطلاعه عليه كما هو، ومن دون أي تحوير أو تزوير..
- إذا كنا نعلم ذلك - فإن النهل من هذا النمير العذب، والاستقاء من هذا المنبع الصافي، والاعتماد عليه في التعرف علي الأحداث والوقائع، وكل ما يرتبط بها أو يعود إليها، يصبح أكثر أهمية وخطرا، وأعظم بركة وأثرا..
حتي إذا تعذر علينا التعرف علي نفس الحدث عن هذا الطريق.. فلا أقل من امتلاك الرؤية، ثم اعتماد المعايير والأسس، وبعد ذلك الوسائل والأساليب الصحيحة
(١٠)

صفحه 005

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١
التي يري أهل بيت العصمة، والإمامة، ومعدن الوحي والرسالة، أنها تنفع في الوصول إلي ذلك الهدف المنشود، في مجال التقييم الصحيح والسليم للأحداث، ومحاكمتها، ثم قبولها أو رفضها، إذا اقتضي الأمر أيا من الرفض، أو القبول..
أو علي الأقل.. تقل معها احتمالات الخطأ والزيغ، والوقوع في متاهات التفسيرات، والتكهنات الخاطئة والناقصة، التي يتعرض لها الباحثون في التراث بصورة عامة..
ومؤسسة نهج البلاغة.. قد وجدت في هذا الكتاب: حركة التاريخ عند الإمام علي عليه السلام الذي هو من تأليف سماحة العلامة الجليل البحاثة الشيخ محمد مهدي شمس الدين خطوة واسعة وموفقة في هذا الإتجاه..
ولأجل ذلك.. فقد بادرت لتقديمه إلي القراء الكرام، علي أمل أن يجدوا فيه ما ينقع الغلة، ويبل الصدي..
ونسأل الله أن ينفع به.. ويجعله خالصا لوجهه الكريم.. وهو الموفق والمسدد، وهو المعين والهادي..
مؤسسة نهج البلاغة
(١١)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (2)، الكرم، الكرامة (2)، الوراثة، التراث، الإرث (1)، الهدف (1)، الوسعة (1)

صفحه 006

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣
مقدمة التاريخ هو حركة الشئ في محيطه خلال الزمان، وبعبارة أخري: التاريخ هو عملية التحول والتغير والانتقال (الصيرورة) من حالة إلي حالة، التي تعتري الشئ أو ينجزها الشئ من خلال علاقته بعناصر محيطة عبر الزمان.
وقد كان الشئ في النظرة السائدة قديما يعني الإنسان فقط، ويعني - بصورة محددة - الفعاليات الإنسانية: المجتمع والمؤسسات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية.
لقد كان التاريخ علم حركة الإنسان من خلال محيطه في الزمان، ولكن العصر الحديث شهد تطورا في مدلول هذا المصطلح فاتسع ليشمل كل شئ في الطبيعة والحضارة:
الأرض، والمعادن، والنباتات، والحيوان، والأفكار، والعلوم.. وغير ذلك إلي جانب الفعاليات الإنسانية، وغدا في وسع المؤرخ ذي النظرة الشاملة أن يدعي أن التاريخ كالفلسفة ذو موضوع شامل لكل ما يمكن أن يدخل في الوعي البشري.
ولعل بعض المؤرخين المسلمين العظام كانوا قد انتهوا في تفكيرهم إلي حافة هذه النظرة التي تعطي التاريخ مفهوما شاملا يتجاوز الفعاليات الانسانية، فنلاحظ أنهم أدخلوا في كتاباتهم التاريخية معلومات جغرافية أو فلسفية، والمسعودي في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر مثال بارز علي ذلك.
ولكن هذه النظرة الشمولية لا تعنينا هنا. إن عنايتنا موجهة نحو تاريخ الإنسان.
وربما أمكن رد كل فروع التاريخ الأخري - في النظرة الشمولية الحديثة - إلي تاريخ الإنسان، من حيث أنها تؤرخ لبعض نشاطاته (تاريخ العلوم، الفنون والآداب، الفلسفة) أو تؤرخ لبيئته (النبات، الحيوان، طبقات الأرض).
(١٣)
مفاتيح البحث: كتاب مروج الذهب للمسعودي (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 007

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤
وإذن، فالتاريخ هو حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان، وقد يعالج التاريخ حركة الإنسان في مجتمع معين أو في إطار ثقافة معينة، وقد يتسع ليعالج حركة الإنسان علي صعيد عالمي.
ولا شك في أن فكرة العالمية لدي المؤرخين المسلمين قد جاءتهم من القرآن الكريم حيث صور حركة الإنسانية من خلال عرضه لحركة النبوات في الأمم والشعوب، كما أنهم استفادوا في تعزيز نظرتهم العالمية من علم الأنساب الذي تحدر إليهم من التقليد الجاهلي القديم، ثم دخل - كغيره من المعارف العربية والإسلامية - عصر التدوين. وليس المهم هنا جانب الصدق التاريخي في علم الأنساب، وهو أمر مشكوك فيه، وإنما المهم ما تعطيه المعرفة النسبية من إدراك لترابط الشعوب والقبائل وعلاقاتها الداخلية، هذا الإدراك الذي يتجاوز بالمؤرخ حدود الجغرافيا والقبلية أو القومية ليفتح بصيرته علي مدي أرحب.
علي هذا المدي الرحب كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يتعامل مع التاريخ، لا كمؤرخ وإنما باعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة وحاكما، ولم يكن يستخدم التاريخ كمادة وعظية فقط وإنما كان يستهدف أيضا منه النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع.
ونحاول في هذا الكتاب أن نجلو نظرة الإمام علي (ع) إلي حركة التاريخ، ونكتشف أساليب تعامله مع التاريخ في حياته العامة الفكرية والسياسية.
والمصدر الأساس لهذه الدراسات هو كتاب نهج البلاغة، وربما استعنا بنصوص أخري لم يضمنها الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة للتعرف علي مزيد من التفاصيل بالنسبة إلي نظرة الإمام التاريخية أو لإكمال نصوص أوردها الشريف الرضي في نهج البلاغة مبتورة.
ونحن نري أن كتاب نهج البلاغة وثيقة عظيمة القيمة في الحضارة الإسلامية من الناحية الفكرية والسياسية. ولا ينقضي أسفنا علي أن الشريف الرضي رحمه الله قد جمع النصوص لغاية جمالية تحكمت في اختياره فجعلته يؤثر النصوص الممتازة من النواحي البلاغية الفنية ويهمل ما عداها وقد يجزئ - لهذا السبب - من النص بعضه الذي تتوفر فيه هذه الخاصة ويهمل سائره، وهذا ما دعاه إلي أن يعطي كتابه اسما
(١٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، كتاب نهج البلاغة (4)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (3)، القرآن الكريم (1)، الصدق (1)، السب (1)

صفحه 008

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥
يلخص الغاية من جمعه له والمنهاج الذي اتبعه في عملية الجمع فضاع علي الحضارة الإسلامية بذلك علم كثير وفكر عظيم.
ولعل الله تعالي يقيض من العلماء والباحثين من يتقصي في كتب السيرة والتاريخ والحديث والأدب جميع ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ويخضعه لدراسة نقدية صارمة تميز الأصيل فيه من المنحول الموضوع ويصنف ما يثبت للنقد منه مع ما ورد في نهج البلاغة للشريف الرضي رحمه الله تعالي تصنيفا علميا حسب موضوعات النصوص (في السياسة، والفكر، والوعظ، والحرب، والفقه، والإلهيات وسائر العقائد … وغير ذلك من الموضوعات) فذلك يجعل نهج البلاغة ومستدركه مصدرا ميسرا للدراسات العلمية عظيم القيمة جليل الفائدة.
وقد قام المرحوم الشيخ هادي كاشف الغطاء بتأليف كتاب (مستدرك نهج البلاغة) ورتبه علي نحو ما رتب الشريف الرضي كتاب نهج البلاغة (الخطب، والكتب، والحكم)، ولكن هذا العمل دون ما نطمح إليه لسببين: الأول - ما نقدر من أن هذا الكتاب لم يستوعب كل ما أهمله الشريف أو شذ عنه، ولذا فإن الحاجة إلي عمل أكثر شمولا لا تزال قائمة. الثاني - ما يبدو لنا من أن كاشف الغطاء أثبت في كتابه كل ما وجده منسوبا إلي الإمام ولم يخضع النصوص للنقد، وهذا ما جعله يثبت في كتابه نصوصا منسوبة إلي الإمام نقدر أنها موضوعة.
وهنا نجد من المناسب الإشارة إلي أن اللغط الذي أثير حول صحة نسبة ما جمعه السيد الشريف في نهج البلاغة إلي الإمام (ع) بوجه عام منذ ابن خلدون إلي زكي مبارك وأحمد أمين، من التشكيك في صحة النسبة أو الجزم بعدم صحة النسبة - هذا اللغط الذي أثاره التعصب في بعض الأحيان والجهل في أحيان كثيرة قد انتهي أو يجب أن ينتهي إلي التسليم بصحة النسبة التاريخية لما ورد في نهج البلاغة بوجه عام إلي الإمام عليه السلام، فإن الدراسات والأبحاث التوثيقية التي عقدت حول نهج البلاغة منذ شارح نهج البلاغة عز الدين ابن أبي الحديد (586 - 655 هجري) إلي أيامنا قدمت أجوبة مقنعة علي جميع التساؤلات التي أثيرت وأغلقت منافذ الشك في صحة نسبة ما اشتمل عليه نهج البلاغة إلي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بالقدر الذي يكفي لتصحيح النسبة التاريخية لأي نص من نصوص الفكر الإسلامي.
وهذه الأبحاث والدراسات علي قسمين:
(١٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، العلامة الشيخ كاشف الغطاء (2)، كتاب نهج البلاغة (8)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (2)، القناعة (1)، الجهل (1)، الحاجة، الإحتياج (1)

صفحه 009

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦
منها ما اتبع منهاج النقد الداخلي حيث أخضعت النصوص لدراسة تكوين الجمل فيها والعلاقات بين جملة وأخري، وأنواع المفردات والمجازات وما إلي ذلك من مكونات النص. وهذا ما صنعه ابن أبي الحديد في عدة مواضع من شرحه، وبعض من تأخر عنه من الشراح والباحثين. وهذا النوع من الأبحاث قليل ومقصور علي بعض نصوص النهج، ولذا فإن الحاجة ماسة إلي دراسة شاملة لجميع نصوص نهج البلاغة تتبع هذا المنهاج.
ومنها ما اتبع منهاج النقد الخارجي حيث بحث عن مصادر متقدمة في الزمن علي الشريف الرضي تضمنت نصوصا من نهج البلاغة.
وقد كانت نتائج هذه الدراسات وتلك في مصلحة صحة نسبة نهج البلاغة بوجه عام إلي الإمام عليه السلام.
ولعل آخر دراسة توثيقية هامة وشاملة اتبع فيها منهاج النقد الخارجي هي دراسة الأستاذ السيد عبد الزهراء الخطيب التي نشرها في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده - 4 مجلدات / دار الأعلمي للمطبوعات - بيروت).
ومن المؤكد أن هذه الدراسة لن تكون الأخيرة، فإن دراسات أخري ستضاف إلي ما تم إنجازه في هذا الحقل كلما تنامت حركة نشر كتب الفكر الإسلامي التي لا تزال مخطوطة وموزعة في مكتبات العالم.
* بقي علي أن أشير إلي أن هذه الدراسة عن حركة التاريخ عند الإمام علي (ع) حلقة في سلسلة من الدراسات في نهج البلاغة سبقها كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) وقد اشتمل علي أربع دراسات هي:
1 - المجتمع والطبقات الاجتماعية.
2 - الحكم والحاكم.
3 - المغيبات.
4 - الوعظ، وأضيفت إليها في الطبعة الثالثة دراسة خامسة بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأكثرية الصامتة.
* دراسات في نهج البلاغة: الطبعة الأولي - النجف العراق - 1956 - الطبعة الثانية - بيروت - دار الزهراء 1392 هجري = 1972 م الطبعة الثالثة. بيروت.
(١٦)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (1)، النهي عن المنكر (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، دولة العراق (1)، مدينة النجف الأشرف (1)، كتاب نهج البلاغة (7)، مدينة بيروت (3)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)، الحاجة، الإحتياج (1)

صفحه 010

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧
لقد انتفعت بكتاب (الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه) لمؤلفه: السيد جواد المصطفوي الخراساني. وهو عمل جليل القدر، عظيم الفائدة للباحثين. نأمل أن يطوره مؤلفه بحيث يكون أكثر شمولا للشروح في طبعاتها الجديدة المتداولة، وللنصوص الواردة في مستدركات نهج البلاغة.
والحمد لله رب العالمين.
محمد مهدي شمس الدين
(١٧)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 011

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩
التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الاسلام
(١٩)

صفحه 012

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢١
التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام التاريخ حركة الكائن في الزمان والمكان.
والكائن جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان.
وتاريخ كل من الجماد والنبات والحيوان يسير وفق قوانين ثابتة، وموضوعة خارج هذه العوالم.
إن الجماد لم يضع قوانين حركته، ومن ثم فإنه لم يضع قوانين تاريخه، وكذلك النبات والحيوان.
إن هذه العوالم الثلاثة خاضعة في جميع حالات وجودها لمبدأ الضرورة، ومن ثم فتاريخها من جميع وجوهه خاضع لمبدأ الضرورة، إنه حصيلة حركتها الضرورية في الزمان والمكان، ومن ثم ف (الخطأ) غير وارد في تاريخ هذه العوالم، إنها لا تصنع تاريخها ولذا فهي لا تقع في أخطاء العمل.
أما تاريخ الإنسان فشئ آخر.
إن الإنسان يتعامل مع الكون علي أساس مبدأ الإختيار لأنه كائن حر لا يخضع لمبدأ الضرورة إلا في نطاق العمليات البيولوجية في جسمه، ومن ثم فإنه يشارك في وضع قوانين حركته في الزمان والمكان، فإن الإنسان يكيف نفسه لتنسجم مع الطبيعة حين يعجز عن تكيف الطبيعة لتنسجم معه.
والإنسان يحب ويبغض، ويأمل وييأس، ويتألم ويحلم، والإنسان يخاف …
(٢١)
مفاتيح البحث: الخوف (1)، البغض (1)

صفحه 013

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٢
يخاف من المجهول، ويخاف من المستقبل … والإنسان، قبل كل شئ وبعد كل شئ، يفكر:
يحلل المواقف والمشكلات التي تواجهه، ويركبها، ويوازن بين احتمالاتها، ويرجح ويختار، ويتحرك وفقا لاختياره، فهو إذن يستجيب في حركته لعالمه الخارجي ولعالمه الداخلي من موقع الإختيار باعتباره كائنا حرا لا من موقع الضرورة.
ومن هنا فإن الخطأ في التحليل والتركيب والاختيار، والرجوع إلي الوراء في حركته، وما يؤدي إليه ذلك من خيبات الأمل في خططه ومشاريعه - أمور حدثت للإنسان دائما في حركته التاريخية.
ولذا فإن تاريخ الإنسان كما هو سجل مشرق ومشرف لانتصاراته وإنجازاته في الطبيعة والمجتمع هو كذلك سجل كئيب حافل بأخطائه، وانتكاسات حركته نحو المستقبل، وخيبات أمله.
* ومن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الإنسان من أخطاء: حسبانه في كثير من الحالات أنه كان دائما علي صواب، وأن تاريخه يمثل خطا صاعدا باستمرار، وأن حركته نحو المستقبل - لذلك - تقدمية دائما، خيرة دائما، صائبة دائما، لا يتخللها خطأ ولا انحراف.
ومثل ذلك في السوء حسبانه أن كل ماضيه خطأ وتخلف، ومن ثم فهذا الماضي لا يستحق منه الالتفات والمراجعة، وأنه اهتدي إلي النظرة الصائبة في حاضره، وأنه في حركته نحو المستقبل حليف الصواب والتوفيق باستمرار.
إن هذا الحسبان وذلك يحملان الإنسان علي ارتكاب مزيد من الأخطاء، والوقوع في كثير من المآسي وخيبات الأمل.
ذلك بأن الإنسان حين يخال حركة التاريخ دائما علي صواب فإنه يلغي جميع المؤثرات الإنسانية، ويسلم نفسه لحركة التاريخ الإنساني كما لو كان هذا التاريخ خاضعا لمنطق الضرورة كتاريخ الجماد والنبات والحيوان. ومن ثم فإنه يرتكب الأخطاء الكبري وهو يحسب أنه علي صواب، ويصحح أخطاءه بأخطاء أخري
(٢٢)
مفاتيح البحث: الخوف (1)

صفحه 014

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٣
تسبب للإنسانية مزيدا من التخلف علي كل صعيد، ومزيدا من المآسي الفردية والجماعية.
وكذلك الحال حين يحكم الإنسان علي ماضيه بأنه مجموعة أخطاء قاد أسلافه إليها الجهل وسوء الفهم وسوء التوجيه، ولذا فلا شئ من هذا الماضي يصلح للحاضر وللمستقبل. وأنه كان ضالا فاهتدي، وأنه امتلك الحقيقة التاريخية وكانت ضائعة منه بسبب هذا الذي غله وشل قواه.
إن الإنسان باتخاذه لهذا الموقف يحكم علي جميع تجارب الماضي بالفشل والبطلان، وهو حكم لا شك في أنه جائر عن قصد السبيل، لأن الحقيقة هي أن في تجارب هذا الماضي الكثير الكثير من الصواب الذي تكبدت الإنسانية أنواعا شتي من الآلام والتضحيات وتحملت كثيرا من المصاعب في سبيل الوصول إليه والاهتداء إلي معالمه.
كلا هذين الموقفين يؤدي بالإنسان إلي أن ينظر إلي نفسه وعقله في حاضره و مؤسساته السياسية وغيرها وسائر نظمه بثقة مطلقة لا مبرر لها. ولنقل إنه في هذه الحالة التي يرفض فيها جميع الماضي أو في تلك الحالة التي يخال فيها حركة التاريخ دائما علي صواب - ينظر إلي نفسه وموقفه بغرور أجوف ولعل هؤلاء وأولئك ممن عناهم الله تعالي بقوله:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا.
إن هذا الغرور الأجوف، وتلك الثقة المطلقة التي لا مبرر لها تؤديان بالإنسان إلي الوقوع في أخطاء كبري تعرض المجتمعات بل وجانبا كبيرا من الإنسانية لكوارث عظمي ومتنوعة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
1 - سورة الكهف (رقم 18 مكية) الآيات: 103 - 106. والآيات تومئ إلي النظرة التي تعتبر حركة التاريخ خاضعة للاعتبارات المادية وحدها، والنظرة التي تقيس التقدم البشري بالمقياس المادي وحده.
(٢٣)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، سورة الكهف (1)

صفحه 015

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٤
وهذا ما وقع فيه إنسان الحضارة الحديثة، والويل له مما صنعت يداه في المقبلات من الأيام.
* وقد ولدت هاتان النظرتان المتطرفتان إلي التاريخ وإلي المستقبل مفهوما للتقدم البشري غير متكامل ومن ثم دافع بالإنسان إلي ارتكاب المزيد من الأخطاء الكبري في شأن نفسه وفي شأن عالمه.
لقد اعتبر التقدم في الحضارة الحديثة بالمقياس المادي وحده. فيقاس التقدم في أي مجتمع وفي ظل أي نظام سياسي بحجم الإنتاج والاستهلاك بالنسبة إلي أشياء الحياة المادية: الطعام، والملابس والمساكن وأدوات الزينة، ووسائل النقل والطاقة والطرق، ووسائل اللهو ووسائل تيسير الحياة اليومية المنزلية وغيرها، والمصانع والأسلحة وما إلي ذلك من أشياء، يضاف إلي ذلك المؤسسات الحكومية والأهلية التي تنظم كل هذه العمليات..
ولا يقيم هذا المفهوم عن التقدم البشري وزنا لوضعية الإنسان الأخلاقية وللقيم التي ينبغي أن توجه سلوكه مع الطبيعة المادية، والعالم، والمجتمع والأسرة.
وهذا المفهوم هو الدليل الذي يوجه أفكار وخطط وعمليات المؤسسات الوطنية والدولية المعنية بقضايا التنمية، فالوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، والجامعات، ومراكز الأبحاث الدولية والوطنية تعتبر حركة التقدم والنمو بهذا المقياس.
وكانت عاقبة ذلك تقدما مذهلا في مجال الماديات … تقدما تجاوز أكثر الأحلام جموحا في بداية النهضة الصناعية الحديثة. ولكنه تقدم ترافق مع تأخر مأساوي في مجال المعنويات بدأت بعض البصائر المستقبلية في العالم الغربي و (الشرقي؟؟) تكتشفه وتعي خطورته، وتحذر من عواقبه الوخيمة.
وعلي ضوء هذا المفهوم للتقدم قسم الجنس البشري في الخمسينات من هذا القرن الميلادي إلي عوالم ثلاثة:
العالم الأول: (أمريكا الشمالية، وأوربا الغربية، واليابان) بلغ أعلي مستوي
(٢٤)
مفاتيح البحث: الطعام (1)

صفحه 016

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٥
عرفه الإنسان في التقدم المادي والتنظيم.
العالم الثاني - (الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية، والصين أخيرا) يلي العالم الأول في الرتبة من هذه الحيثية ويجهد للحاق به في شتي الميادين.
العالم الثالث - (آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية)، ويسمي هذا القسم من البشرية (العالم المتخلف أو العالم النامي).
وهكذا يحمل العالم الثالث وصمة التخلف وفقا لهذا المفهوم، وفقا لمقاييس التقدم المبنية علي هذا المفهوم - هذه المقاييس التي فرضها فكر الحضارة الحديثة وسطوتها، اندفعت شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في تيار هذه النظرة إلي معني التقدم البشري لتحقق لنفسها اللحاق بالعالم الأول الذي يحول بينها وبين ذلك مستغلا تفوقه الهائل وضعفها الكبير في نهب ثرواتها وبلبلة حياتها السياسية، ولكنها في سبيل التخلص من وصمة التخلف العالقة بها وفقا لهذا المفهوم تمضي قدما في ما تحسب أنه يضعها علي طريق التقدم مضحية في سبيل ذلك بالكثير من قيمها وأخلاقها متخلية عن أصالتها، طامحة إلي أن يكون إنسانها نسخة دقيقة من إنسان العالم الأول.
* ولكن هذا المفهوم عن التقدم البشري ناقص ومبتور لأنه يمثل جانبا واحدا من الوضعية الإنسانية، وقد كان من أكبر الأخطاء الفكرية التي وقع فيها إنسان الحضارة الحديثة نتيجة لخطأ نظرته إلي التاريخ وإلي المستقبل، فإن الوضعية الأخلاقية للإنسان ذات صلة وثيقة وأساسية بكونه متقدما أو متخلفا. وهذه حقيقة وجدت سبيلها أخيرا إلي الإدراك في داخل الحضارة الحديثة، وهذا، علي الرغم من أنه لا يزال في نطاق ضيق نسبيا، باعث علي الأمل.
لقد بدأت ترتفع، هنا وهناك، داخل الحضارة الحديثة، أصوات بعض ذوي العقول النيرة والبصائر النافذة من النخبة في العالم الغربي من علماء وشعراء ومفكرين محذرة من الانسياق وراء هذه النظرة الخاطئة، محذرة من عواقبها المهلكة، داعية إلي
(٢٥)
مفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

صفحه 017

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٦
اعتماد نظرة أخري تقيم التوازن في السعي نحو التقدم بين حاجات الإنسان الروحية ووضعيته الأخلاقية من جهة وبين حاجاته وطموحاته المادية من جهة أخري، منذرين بأن استمرار الحضارة في ماديتها الخالصة سيؤدي إلي خرابها ودمار الإنسانية أو جانب كبير منها.
إن نظرة هؤلاء المستقبليين من ذوي العقول النيرة في العالم الغربي (والشرقي؟) قريبة من نظرة الإسلام إلي مسألة التقدم والتخلف مع تأكيدنا علي وجود اختلافات جمة تعود إلي تفاصيل النظرة وإلي الوسائل والأساليب.
فالإسلام - ممثلا بالقرآن الكريم، والسنة الشريفة، والفقه - إذ يدفع بالإنسان نحو المستقبل الأفضل من حاضره وماضيه، يركز علي أن هذه الأفضلية تقوم علي مقياس مركب يعطي لكل واحد من المادة والمعني دورا حاسما وأساسا في إنجاز التقدم المتكامل المعافي، فلا بد أن تحقق حركة الإنسان في الزمان والمكان تقدما وتكاملا علي صعيد المادة وعلي صعيد الوضعية الأخلاقية والصفات الإنسانية لتكون حركته تقدمية.
قال الله تعالي:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين 1.
وقال تعالي:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن،، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا علي الله ما لا تعلمون 2.
(1) سورة القصص (رقم 28 مكية) الآية: 77.
(2) سورة الأعراف (رقم 7 مكية) الآيات: 31 - 33.
(٢٦)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، القرآن الكريم (1)، الرزق (1)، السجود (1)، سورة الأعراف (1)، سورة القصص (1)

صفحه 018

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٧
أما تحقيق التقدم المادي وحده مع إهمال العناية بالوضعية الأخلاقية والمعنوية للإنسانية أو مع التضحية بها فإنه كقصر العناية علي الوضعية الأخلاقية والروحية مع إهمال شؤون التقدم المادي - كلاهما لا يمثلان النظرة المتوازنة التي يجب أن تقوم عليها حركة الإنسان التاريخية وتبني علي هديها مؤسسات الحضارة. إن كل واحد من الاتجاهين يمثل انحرافا معينا لا يخدم الإنسانية ولا يبني الحضارة.
إننا - وفقا لهذه النظرة المتوازنة - كما نعتبر النقص في إنتاج السلع والخدمات المادية بدرجة تكفي أكبر عدد من الناس وتحقق لهم الرفاهية واللذة - كما نعتبر هذا النقص وما يتصل به تخلفا، كذلك نعتبر من أسوأ مظاهر التخلف: تزايد الجرائم في المجتمع بشتي أنواعها، وتصدع الأسرة، وجفاف العلاقات الإنسانية النظيفة، ونمو روح الحرب والعدوان داخل المجتمعات وبين الجماعات القومية والوطنية، وهو أن الحياة البشرية عندما تكون خارج الإطار القومي والعنصري للمعتدي … وغير ذلك من مظاهر فساد الوضعية الأخلاقية للإنسان فردا وجماعة ومجتمعا ودولة.
ووفقا لهذه النظرة المتوازنة يكون من الخطأ تقسيم عالم اليوم إلي عالم متقدم وعالم متخلف. إن عالم اليوم كله - وفقا لهذه النظرة - متخلف، فإنه إذا كان العالم الثالث متخلفا علي مستوي المادة وأساليب التنظيم والإدارة، فإن العالم الآخر متخلف من حيث الوضعية الأخلاقية والعلاقات الإنسانية والصفات الإنسانية في أفراده وجماعاته ومجتمعاته.
وسنري، خلال هذا البحث، أن منطلق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في فهمه للتاريخ وحركة الإنسان في الحاضر نحو المستقبل هو هذه النظرة المتوازنة التي اشتمل عليها الإسلام، وعبر عنها القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والفقه المستمد منهما المبني عليهما.
(٢٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، القرآن الكريم (1)، الحرب (1)، الجماعة (1)

صفحه 019

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٠
الامام في مواجهة التاريخ
(٣٠)

صفحه 020

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣١
الإمام في مواجهة التاريخ كان أمير المؤمنين علي عليه السلام، كما يخبرنا هو، وكما سنري خلال هذه الدراسة يوجه عناية فائقة إلي التاريخ، عناية جعلت من التاريخ عنصرا بارزا فيما وصل إلينا من كلامه في مختلف الموضوعات التي كانت تثير اهتمامه.
وعناية الإمام بالتاريخ ليست عناية القاص والباحث عن القصص. كما أنها ليست عناية السياسي الباحث عن الحيل السياسية وأساليب التمويه التي يعالج بها تذمر الشعب، وإنما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة، والقائد الحضاري والمفكر المستقبلي.
إن القاص يبحث ليجد في تاريخ الماضين وآثارهم مادة للتسلية والإثارة. والسياسي يبحث ليجد في التاريخ أساليب يستعين بها في عمله السياسي اليومي في مواجهة المآزق، أو يستعين بها في وضع الخطط الآنية المحدودة 1.
والمؤرخ يقدم لهذا وذاك المادة التاريخية التي يجدان فيها حاجتهما.
أما الرائد الحضاري، رجل الرسالة والعقيدة ورجل الدولة فهو يبحث ليجد في
(1) قال المسعودي في تقريره عن النشاط اليومي لمعاوية بن أبي سفيان … ويستمر إلي ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها. وسياستها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة … ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد. فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات … - مروج … (بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد) - مطبعة السعادة - الطبعة الثانية (1367 هجري - 1948 م) الجزء الثالث - ص 40.
(٣١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، عبد الحميد (1)

صفحه 021

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٢
التاريخ جذور المشكل الإنساني، ويتقصي جهود الإنسانية الدائبة في سبيل حل هذا المشكل بنحو يعزز قدرة الإنسان علي التكامل الروحي - المادي، كما يعزز قدرته علي تأمين قدر ما من السعادة مع الحفاظ علي الطهارة الإنسانية.
وقد كان الإمام علي يتعامل مع التاريخ بهذه الروح ومن خلال هذه النظرة، ومن ثم فلم يتوقف عند جزئيات الوقائع إلا بمقدار ما تكون شواهدا ورموزا، وإنما تناول المسألة التاريخية بنظرة كلية شاملة، ومن هنا فقلما نري الإمام في خطبه وكتبه يتحدث عن وقائع وحوادث جزئية، وإنما يغلب علي تناوله للمسألة التاريخية طابع الشمول والعمومية.
والإمام ليس مؤرخا، ولذا فليس من المتوقع أن نجد عنده نظرة المؤرخ وأسلوب في سرد الوقائع وتحليلها والحكم عليها، وإنما هو رجل دولة حاكم، ورجل عقيدة ورسالة فيها كل حياته، فهو يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكون شخصية الإنسان الحاضرة والمستقبلة، ولذا فهي تشغل حيزا هاما وعلي درجة كبيرة من الخطورة في عملية التربية والتحرك السياسي، وهذا ما يجعل رجل رسالة وحاكما كالإمام علي عليه السلام حريصا علي أن يدخل في وعي أمته التي يحمل مسؤولية قيادتها ومصيرها … إلي التاريخ سليمة تجعله قوة بانية لا مخربة ولا محرفة.
* ونحن نعرف عناية الإمام علي (ع) الفائقة بالتاريخ واهتمامه البالغ بشأنه من نص ورد في وصيته التي وجهها إلي ابنه الإمام الحسن عليه السلام كتبها إليه بحاضرين 1 عند انصرافه من صفين، قال فيه:
1 - قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 16 / 52 - أما قوله كتبها إليه بحاضرين فالذي كنا نقرؤه قديما، كتبها إليه بالحاضرين، علي صيغة التثنية، يعني حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثم _ _ _ بعد ذلك علي جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسروه، ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية، ومنهم من يقول: خناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها. وقد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة سيما في البلاد والأرضين فلم أجدها، لعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع.
قال الشيخ محمد عبده في شرحه: حاضرين: اسم بلدة بنواحي صفين.
(٣٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)، الوقوف (1)، الطهارة (1)

صفحه 022

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٣
أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتي عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهي إلي من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلي آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره.
وكان قبل ذلك قد وجه الإمام الحسن (ع) في هذه الوصية إلي تعرف التاريخ الماضي للعبرة والموعظة، قال:
أحي قلبك بالموعظة … واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا. فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم.
وهذا النص يحملنا علي الإعتقاد بأن الإمام عليه السلام تحدث كثيرا عن المسألة التاريخية في توجيهاته السياسية وتربيته الفكرية لمجتمعه، ولرجال إدارته، ولخواص أصحابه.
ولكن النصوص السياسية والفكرية التي اشتمل عليها نهج البلاغة مما يدخل فيه العنصر التاريخي قليلة جدا، وإن كانت النصوص الوعظية التي بنيت علي الملاحظة التاريخية كثيرة نسيبا.
ولا نستطيع أن نفسر نقص النصوص السياسية والفكرية - التاريخية إلا بضياع هذه النصوص لنسيان الرواة أو لإهمال الشريف الرضي لما وصل إليه منها، لأنه جعل منهجه في تأليف كتاب نهج البلاغة: اختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب 1. وقد أدي هذا المنهج بطبيعة الحال إلي إهمال الكثير من النصوص السياسية والفكرية لأنه لم يكن في الذروة من الفصاحة والبلاغة.
ومن المؤكد أن الكثير من كلام أمير المؤمنين في هذا الباب وغيره لم يصل إلي الشريف الرضي كما اعترف هو بذلك في قوله:
… ولا أدعي - مع ذلك - أني أحيط بأقطار جميع كلام عليه السلام حتي لا يشذ عني منه شاذ، ولا يند ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي،
(1) من مقدمة الشريف الرضي نهج البلاغة.
(٣٣)
مفاتيح البحث: الإمام الحسن بن علي المجتبي عليهما السلام (1)، كتاب نهج البلاغة (3)، يوم عرفة (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (3)، الإختيار، الخيار (1)، الوصية (1)

صفحه 023

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٤
والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي 1.
* وعلي أية حال فإن سؤالا هاما يواجهنا هنا، وهو:
من أين استقي الإمام معرفته التاريخية؟
إنه يقول عن نفسه: … نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم …
فما الوسيلة التي توصل بها إلي معرفة أعمالهم لينظر فيها هو كيف تسني له أن اطلع علي أخبارهم ليفكر فيها؟
نقدر أن الإمام عليه السلام قد اعتمد في معرفته التاريخية علي عدة مصادر:
1 - القرآن الكريم:
يأتي القرآن الكريم في مقدمة هذه المصادر التي استقي منها الإمام معرفته التاريخية. وقد اشتمل القرآن علي نصوص تاريخية كثيرة منبثة في تضاعيف السور تضمنت أخبار الأمم القديمة وارتفاع شأنها، وانحطاطها، واندثار كثير منها، وذلك من خلال عرض القرآن الكريم لحركة النبوات في تاريخ البشرية، وحكايته لكيفية استجابات الناس في كل أمة وجيل لرسالات الله تعالي التي بشر بها الأنبياء سلام الله عليه أجمعين..
وقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام أفضل الناس - بعد رسول الله (ص) - معرفة بالقرآن من حيث الظاهر والباطن، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والأهداف والمقاصد، والأبعاد الحاضرة والمستقبلة، وغير ذلك من شؤون القرآن. كانت معرفته بالقرآن شاملة مستوعبة لكل ما يتعلق بالقرآن من قريب أو بعيد. والتأثير القرآني شديد الوضوح في تفكير الإمام التاريخي من حيث المنهج ومن حيث المضمون، كما هو شديد الوضوح في كل جوانب تفكيره الأخري.
وقد حدث الإمام عن نفسه في هذا الشأن كاشفا عن أنه كان يلح في مسائله
1: من مقدمة الشريف الرضي لنهج البلاغة.
(٣٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، القرآن الكريم (8)، كتاب نهج البلاغة (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)

صفحه 024

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٥
لرسول الله (ص) في شأن القرآن من جميع وجوهه. قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت. أن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا 1.
وشهادات معاصريه له في هذا الشأن كثيرة جدا. منها ما روي عن عبد الله بن مسعود، قال: إن القرآن أنزل علي سبعة أحرف، ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عليه السلام عنده علم الظاهر والباطن. 2 2 - التعليم الخاص:
التعليم الخاص الذي آثر به رسول الله (ص) عليا مصدر آخر من مصادر معرفته التاريخية وغيرها.
وفقد استفاضت الروايات التي نقلها المحدثون، وكتاب السيرة، والمؤرخون من المسلمين علي اختلاف مذاهبهم وأهوائهم - استفاضت هذه الروايات - بل تواترت إجمالا - بأن رسول الله صلي الله عليه وآله قد خص أمير المؤمنين عليا بجانب من العلم لم ير غيره من أهل بيته وأصحابه أهلا له.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن عباس: والله لقد أعطي علي بن أبي طالب (ع) تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر. 3 وما روي عن رسول الله (ص): علي عيبة علمي. 4 وما رواه أنس بن مالك، قال: قيل يا رسول الله عمن نكتب العلم؟ قال: عن علي وسلمان. 5 وقال الإمام عليه السلام: علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم كل باب يفتح
(١) ابن سعد: الطبقات الكبري ج ٢ قسم ٢ ص ١٠١، والمتقي الهندي: كنز العمال ٦ / ٣٩٦ - وقال: أخرجه ابن سعد وابن عساكر، وقالوا (لسانا طلقا سؤولا) وأبو نعيم:
حلية الأولياء ١ / ٦٧.
(٢) أبو نعيم: حلية الأولياء: ١ / ٦٥.
(٣) أسد الغابة ٤ / ٢٢ والاستيعاب: ٢ / ٤٦٢.
(٤) كنز العمال ٦ / ١٥٣ وفتح القدير: ٤ / ٤٥٦.
(٥) تاريخ بغداد: ٤ / 158.
(٣٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (5)، عبد الله بن عباس (1)، أنس بن مالك (1)، القرآن الكريم (2)، كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم (2)، كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1)، كتاب أسد الغابة لإبن الأثير (1)، الحافظ أبو نعيم (2)، كتاب كنز العمال للمتقي الهندي (2)، كتاب الطبقات الكبري لإبن سعد (1)، إبن عساكر (1)، المتقي الهندي (1)

صفحه 025

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٦
ألف باب. 1 وقد صرح فيما وصل إلينا من نصوص كلامه في نهج البلاغة بذلك في عدة مناسبات، فقال:
1 - … بل اندمجت 2 علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب لأرشية في الطوي 3 البعيدة 4.
2 - ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم … 5 3 - … لو تعلمون ما أعلم مما طوي 6 عنكم غيبه إذا لخرجتم إلي الصعدات 7 تبكون علي أعمالكم 8.
4 - يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم. 9 وإذا كانت بعض هذه النصوص ظاهرة في العلم بالغيبات (علم المستقبل)، فإن غيرها مطلق يشمل الماضي، وإذا كان الإمام قد اطلع من رسول الله (ص) علي بعض المعلومات المتعلقة بالمستقبل فمن المرجح أنه قد اطلع منه علي علم الماضي.
3 - السنة النبوية:
اشتملت السنة النبوية علي الكثير المتنوع من المادة التاريخية.
منه ما ورد في تفسير وشرح القرآن الكريم، ومن ما اشتمل إجمالا أو تفصيلا علي حكاية أحداث تاريخية لم ترد في القرآن إشارة إليها.
(١) كنز العمال: ٦ / 392.
(2) اندمجت: انطويت، كناية عن معرفته بأمور خاصة جدا.
(3) الأرشية: جمع رشاء، الحبل. والطوي جمع طوية وهي البئر.
(4) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 5.
(5) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 16.
(6) طوي: حجب علمه عنكم.
(7) الصعدات: جمع صعيد. يريد: لذهبت عنكم الدعة والاستقرار في منازلكم وخرجتم منها قلقين علي مصيركم.
(8) نهج البلاغة - رقم الخطبة: 116.
(9) نهج البلاغة - رقم الخطبة: 128.
(٣٦)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (5)، القرآن الكريم (2)، كتاب كنز العمال للمتقي الهندي (1)

صفحه 026

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٧
وقد كان أمير المؤمنين علي (ع) أعلم أهل البيت (ع) والصحابة قاطبة بما قاله رسول الله (ص) أو فعله وأقره، فقد عاش علي (ع) في بيت رسول الله (ص) منذ طفولته، وبعث الرسول (ص) وعلي عنده، وكان أول من آمن به، ولم يفارقه منذ بعثته (ص) إلي حين وفاته إلا في تنفيذ المهمات التي كان يكلفه بها خارج المدينة وهي لم تستغرق الكثير من وقته، ومن هنا، من تفرغه الكامل لتلقي التوجيه النبوي، ووعيه الكامل لما كان يتلقاه كان الإمام أعلم الناس بسنة رسول الله وكتاب الله.
4 - القراءة:
فقدر أن الإمام عليا قد قرأ مدونات تاريخية باللغة العربية أو بغيرها من اللغات التي كانت متداولة في المنطقة التي شهدت نشاطه، وخاصة بعد أن انتقل من الحجاز إلي العراق واضطرته مشكلات الحكم والفتن إلي التنقل بين العراق وسوريا، وإن كنا لا نعلم ما إذا كانت هذه المدونات قد دفعت إليه صدفة أو أنه بحث عن كتب كهذه وقرأها أو قرئت له بلغاتها الأصلية مع ترجيحنا أنه عليه السلام كان يعرف اللغة الأدبية التي كانت سائدة في المنطقة العراقية السورية.
5 - الآثار القديمة:
وربما كانت الآثار العمرانية للأمم القديمة من جملة مصادر المعرفة التاريخية عند الإمام عليه السلام، ويعزز هذا الظن بدرجة كبيرة قوله في النص الآنف الذكر:
وسرت في آثارهم مما يحمل دلالة واضحة علي أن مراده الآثار العمرانية.
وقد خبر الإمام في حياته أربعة من أقطار الإسلام، هي: شبه الجزيرة العربية، واليمن، والعراق، وسوريا.
ونقدر أنه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة في هذه البلاد، وإذا كان هذا قد حدث - ونحن نرجح حدوثه - فمن المؤكد أن الإمام لم يزر هذه الآثار زيارة سائح ينشد التسلية إلي جانب الثقافة، أو زيارة عالم آثار يتوقف عند الجزئيات، وإنما زارها زيارة معتبر مفكر يكمل معرفته النظرية بمصائر الشعوب والجماعات بمشاهدة بقايا وأطلال مدنها ومؤسساتها التي حل بها الخراب بعد أن انحط بناتها وفقدوا
(٣٧)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، دولة العراق (4)، جزيرة العرب (1)، الوقوف (1)، الظنّ (1)، الزيارة (3)، النفاذ، التنفيذ (1)

صفحه 027

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٣٨
قدرتهم علي الاستمرار فاندثروا.
هذه هي، فيما نقدر، المصادر المعلومة والمظنونة والمحتملة التي استقي منها الإمام علي (ع) معرفته التاريخية.
(٣٨)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)

صفحه 028

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤١
التاريخ عند الإمام (ع) في المجال الوعظي، وفي المجال السياسي الفكري استخدم الإمام عنصر التاريخ في مجالين، أحدهما مجال السياسة والفكر، وثانيهما مجال الوعظ.
وهنا يواجهنا سؤال هام:
لماذا يدخل الإمام عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظية، أو في أحاديثه وخطبه وكتبه السياسية والفكرية، أو في غير ذلك من مجالات توجيهه كرجل رسالة وعقيدة وحاكم دولة؟ لماذا التاريخ؟
ونقول في الجواب علي هذه المسألة التي تثير الشك حول جدوي التاريخ باعتباره مادة أساسية في البنية الثقافية للإنسان والمجتمع أو باعتباره عاملا مساعدا في الأعمال الفكرية التي تتناسب مع مادة التاريخ … نقول في الجواب:
إن الحياة الإنسانية لدي جميع الناس في جميع الأزمان والأوطان واحدة في أصولها العميقة، ومكوناتها الأساسية، وحوافزها، فهي نهر متدفق من التجارب والآمال والإنجازات وخيبات الأمل، وهذا ما يجعل الأسئلة التي تثيرها مشكلات الحاضر حافزا نحو استرجاع الماضي باعتباره عملا مكملا وضروريا في البحث الصحيح الموضوعي عن أجوبة أكثر سدادا وحكمة تؤدي إلي حلول صائبة أو مقاربة للصواب للمشكلات التي تواجه الإنسان في حاضره، أجوبة معجونة بالتجارب الإنسانية
(٤١)

صفحه 029

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٢
السابقة.
وقد يثير هذا التحليل حفيظة فريق من أهل الفكر المشتغلين بالسياسة، أو فريق من أهل السياسة يدعون لأنفسهم صلة بالفكر يرون - أولئك وهؤلاء - أن النزعة التاريخية، أو العقلية التاريخية (السلفية) تعيق نمونا في الحاضر وتقدمنا في المستقبل، لأنها تشدنا دائما إلي الماضي، إلي قيمه وتصوراته. إن التاريخ عند هؤلاء مرض يشوه الحاضر ويقضي علي المستقبل.
ولكن هذا الرأي بعيد عن الصواب.
بطبيعة الحال نحن - في فهمنا لدور التاريخ كعامل مكون في البنية الثقافية للإنسان والمجتمع ومساعد في عمليات الفكر - لا ندعي أن من الحكمة أن يجعل الإنسان نفسه سجين التاريخ، لسنا في فهمنا لدور التاريخ مع غلاة النزعة التاريخية الذين يرون أن التاريخ هو الحقيقة كلها، لا مرحلة من مراحل نمو الحقيقة التجريبية فقط. فهذا الموقف الفكري يتسم بالغلو والشطط.
ولكن ليس من الحكمة أيضا أن يواجه الإنسان حاضره ويتجه نحو مستقبله وهو بلا جذور، إنه حين لا يستشعر تاريخه الخاص بأمته أو تاريخ الإنسانية يفقد القدرة علي الرؤية الصحيحة، ويفقد القدرة علي تقويم المواقف التي تواجهه في خاطره تقويما سليما سواء في ذلك ما يتعلق منها بالحاضر نفسه أو ما يتعلق منها بالمستقبل، إنه في هذه الحالة يتحرك في الفراغ.
لهذا وذاك نري أن الاستخدام المتزن للتاريخ، الاستخدام المتسم بالحكمة والاعتدال يجعلنا أقدر علي التحرك في حاضرنا وأكثر شعورا بخطورة قراراتنا فيما يتعلق بشؤون المستقبل، لأن التاريخ في هذه الحالة يعمق حسنا الأخلاقي حين اتخاذنا قرارات مستقبلية تمس نتائجها حياة أجيال، نصنع بهذه القرارات - المستقبلية بالنسبة إلينا - حاضرها هي الذي هو مستقبلنا المظنون الذي قد لا نشاركها فيه لأننا نكون حينئذ قد غادرنا الحياة، ومن ثم فلا نواجه نتائج قراراتنا الماضية.
بدون استرجاع الماضي وما يمنحنا ذلك من عمق في الرؤية، وغني في التجربة
(٤٢)
مفاتيح البحث: المرض (1)

صفحه 030

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٣
الإنسانية ووعي لاستمرار الحضارة الإنسانية فينا وفيمن يأتي بعدنا من الأجيال - بدون ذلك لن يكون في وسعنا تفادي أخطاء وقعت في الماضي كما لن يكون من حقنا التمتع بنتائج تجارب ناجحة أنجزت فيه، كما أننا في هذه الحالة قد نتخذ بالنسبة إلي المستقبل الذي لا نملكه وحدنا قرارات متهورة شديدة الخطورة بالنسبة إلينا وإلي وضعية ومصير الأجيال الآتية.
إن الغلو في استرجاع التاريخ، فكرا وعملا، قد يجعل من التاريخ مقبرة للحاضر والمستقبل، ويجعل الإنسان غريبا في العالم الذي يعاصره ويحيط به ويتدفق بالحياة نحو المستقبل من حوله.
كما إن الغلو في رفض التاريخ، والانقطاع عنه والانصراف عن تجاربه ومآثره قد يجعل الإنسان ريشة في مهب الريح عاجزا عن التماسك في الحاضر، ويفقده القدرة علي ممارسة دوره الأصيل في بناء الحضارة ويجعل منه مجرد ممثل لأدوار يضعها الآخرون يعكس هو بتمثيله إراداتهم وأفكارهم وموجاتهم.
إذن لابد للإنسان من أن يتعامل مع التاريخ باعتدال يجعله دليلا في حركته وتربة ينمو فيها الحاضر الأصيل والمستقبل الأكثر يمنا وأصالة.
واستجابة لهذه الضرورة تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مع التاريخ في مجال الوعظ وفي مجال السياسة والفكر.
وأكبر همنا في هذه الدراسة هو التعرف علي النظرة التاريخية للإمام في مجالي السياسة والفكر، مكتفين بالنسبة إلي المجال الوعظي ذي المحتوي التاريخي بتقديم نموذج واحد من النصوص الوعظية في كتاب نهج البلاغة، وتحليله مع تسليط الأضواء علي الجانب التاريخي فيه.
(٤٣)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الرفض (1)

صفحه 031

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٧
التاريخ في مجال الوعظ حللنا في فصل (الوعظ) من كتابنا دراسات في نهج البلاغة 1، مواعظ أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة علي ضوء الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية التي كانت تسيطر وتوجه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام عليه السلام.
وكشفنا النقاب هناك عن أن الإمام لم يكن في مواعظه داعيا إلي مذهب زهدي يقف موقفا سلبيا من الحياة الدنيا والعمل لها والاستمتاع بها، وإنما كان، في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام، يدعو إلي مواجهة الحياة بواقعية وصدق، محذرا من اللهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة التي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.
وكشفنا النقاب أيضا عن أن النظرة الشائعة إلي مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثرت بالتيار الزهدي السلبي الذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الانحطاط، وهو دخيل علي الفكر الإسلامي وعلي أخلاقيات الإسلام وتشريعه، ولذا فإن هذه النظرة خاطئة لا تمثل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ التي كان يوجهها إلي مجتمعه.
(١) محمد مهدي شمس الدين: دراسات في نهج البلاغة (الطبعة الثالثة) بيروت ص 247.
(٤٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، دولة العراق (1)، كتاب نهج البلاغة (4)، الصدق (1)، مدينة بيروت (1)

صفحه 032

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٨
والمواعظ التي استخدم الإمام فيها عنصر التاريخ كغيرها من مواعظه في أنه لا يدعو فيها إلي مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنما يعالج بها حالة خاصة في مجتمعه الذي بدا غافلا عن مصيره التعس، مهملا لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، متلهفا علي المتع والثراء اللذين لا يستحقهما الا مجتمع مستقر أحكم وضعه الأمني والسياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يكنه مجتمع العراق في عهد الإمام عليه السلام، بل كان مجتمعا قلقا يعاني من اضطراب أمنه الخارجي وتدهور أمنه الداخلي، كما يعاني من التمزق السياسي، وكان - نتيجة لذلك - يؤجج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.
ونقدم فيما يلي نموذجا من النصوص الوعظية التي يكون التاريخ عنصرا بارزا وأساسيا فيها.
قال عليه السلام:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها 1، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة 2 زائلة نافدة بائدة 3، أكالة غوالة 4، لا تعدو - إذا تناهت إلي أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها أن تكون كما قال الله تعالي سبحانه كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيما 5 تذروه الرياح وكان الله علي كل شئ مقتدرا 6، لم يكن امرؤ منها في حبرة الا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق في سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا 7، ولم تطله فيها ديمة 8 رخاء إلا هتنت 9 عليه مزنة بلاء. وحري إذا أصبحت له منتصرة
1. الحبرة: بالفتح - النعمة.
(2) حائلة: متغيرة.
(3) نافدة: فانية.
(4) غوالة: مهلكة.
(5) الهشيم: النبت اليابس.
(6) سورة الكهف (رقم 18 مكية) الآية: 45.
(7) البطن كناية عن إقبال الدنيا، والظهر كناية عن الإدبار.
(8) الطل: المطر الخفيف. والديمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.
(9) هتنت: انصبت.
(٤٨)
مفاتيح البحث: دولة العراق (1)، الشام (1)، سورة الكهف (1)

صفحه 033

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٩
أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولي أمر منها جانب فأوبي 1 لا ينال امرؤ من غضاريها رغبا 2 إلا أرهقته من نوائبها تعبا، ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح علي قوادم خوف 3. غرارة ما فيها، فانية، فان من عليها، لا خير في شئ من أزوادها إلا التقوي.
من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه 4، وزال عما قليل عنه.
كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيرا 5، وذي نخوة قد ردته ذليلا 6.
سلطانها دول 7 وعيشها ريق 8، وعذبها أجاج 9، وحلوها صبر 10، وغذاؤها سمام 11 وأسبابها رمام 12.
حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، وموفورها منكوب 13 وجارها محروب 14.
ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا وأبقي آثارا، وأبعد آمالا، وأعد عديدا. وأكثف جندا؟ تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع 15.
(1) أوبي: صار كثير الوباء.
(2) الغضارة: النعمة، والرغب: الرغبة، والمرغوب فيه.
(3) القوادم: جمع قادمة، ريش في مقدم جناح الطائر.
(4) يوبقه: يهلكه.
(5) أبهة: عظمة.
(6) النخوة: الافتخار.
(7) دول - بضم الدال - المنحول.
(8) الريق: الكدر.
(9) أجاج: شديد الملوحة.
(10) الصبر: عصارة الشجر المر.
(11) سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.
(12) الرمام: جمع رمة - بالضم، القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذو الرمة).
(13) موفورها..: من كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنكبات.
(14) محروب: المحروب من سلب ماله.
(15) ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.
(٤٩)
مفاتيح البحث: الصبر (2)، الخوف (1)، الطيران، الطير (1)، الهلاك (1)

صفحه 034

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥٠
فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية 1 أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت إليهم صحبة..؟ بل أرهقتهم بالقوادح 2 وأوهقتهم بالقوارع 3 وضعضعتهم بالنوائب 4، وعفرتهم للمناخر 5، ووطئتهم بالمناسم 6، وأعانت عليهم ريب المنون.
فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها 7 وآثرها وأخلد إليها 8 حين ظعنوا عنها لفراق الأبد … أفهذه تؤثرون؟ أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟
فبئست الدار لمن لميتهمها، ولم يكن علي وجل منها.
فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا (من أشد منا قوة..) 9 حملوا إلي قبورهم فلا يدعون ركبانا 10. وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا 11، وجعل لهم من الصفيح 12 أجنان 13 ومن التراب أكفان …
استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة … 14.
* ركز الإمام عليه السلام في هذه الخطبة الوعظية - كما هو شأنه في معظم مواعظه - علي عاملين ثابتين في طبيعة الحياة علي هذه الأرض:
(1) لم تدفع عنهم الدنيا بلاء الموت.
(2) أرهقتهم: أتعبتهم. والقوادح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.
(3) الوهق: حبل تصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنهم أسري مشاكلهم المادية والاجتماعية.
(4) ضعضعتهم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الاستقرار وطنب العيش.
(5) عفرتهم: العفر التراب، مرغت آنافهم بالتراب، كناية عن إذلالهم.
(6) المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.
(7) دان: خضع.
(8) أخلد: إطمأن.
(9) سورة فصلت (رقم 41 مكية) الآية: 15.
(10) لا يدعون ركبانا لأنهم مقهورون ولم يحملوا مختارين. ولا يدعون ضيفانا لأنهم يقيمون في قبورهم.
(11) الأجداث: القبور.
(12) الصفيح: الوجه من كل شئ له مساحة، والمراد هنا الأرض.
(13) أجنان: جمع جنن - بالفتح - القبر.
(14) نهج البلاغة - رقم الخطبة: 111.
(٥٠)
مفاتيح البحث: الظلم (1)، القبر (4)، كتاب نهج البلاغة (1)، سورة فصلت (1)، الموت (1)، المرض (1)

صفحه 035

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥١
1 - عامل التغير والتقلب في الحياة:
الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوي تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كل شئ ومن حول كل شئ في الكون المادي كله - الحياة بما هي كل هذا متقلبة متغيرة متحولة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر علي حال ولا تثبت علي وتيرة واحدة.
2 - عامل الزمن:
أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكل ذي بصيرة، فالزمن يفتت الحياة باستمرار، فما أن يبدأ وجود الحياة في شئ، بل ما أن يبدأ وجود شئ، حيا كان أو غير حي حتي يبدأ هذا الوجود بالذوبان والتفتت والضياع. إن الحياة تولد في الزمن. ولكن الزمن يغتالها باستمرار.
وهذان العاملان - التغير والزمن - لا يختصان بعالم الإنسان وحده، إنهما يعملان في كل شئ ويحولان دون ثبات كل شئ: الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان.
ويتميز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالم الأخري بأنه - لما أوتي من عقل وإدراك - يستطيع أن يعي الوجه المأساوي لعمل هذين العاملين، وأثرهما في حياته وفي الوجود من حوله.
ووعي الإنسان لهذين العاملين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادرا علي مواجهة الحياة ومباهجها الموقتة، ووعودها السخية، وآمالها اللامعة. بعقل صاف خال من الأوهام، ويعزز فيه النزعة الواقعية في أخذ الحياة والتعامل مع الدنيا - هذه النزعة التي من شأنها أن تجعل الآمال أقل بريقا وجذبا واستهواء، والانتصارات أقل مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقل إيلاما. ويعزز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت … فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالمه من جديد لأنه لم يفاجأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهئ النفس لتقبلهما ومن ثم فقد كان مهئ النفس لتجاوزهما، واستئناف
(٥١)
مفاتيح البحث: المرض (1)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 036

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥٢
العمل مرة أخري بأمل واقعي جديد.
بالإجمال: إن وعي الإنسان لهذين العاملين، وإدراكه لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادرا علي مواجهة الحياة بكل وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق … يواجهها بروح واقعية.
وحين يدخل الإمام عليه السلام في وعظه عنصر التاريخ فيتحدث عن الماضين وما حل بهم من كوارث وآلام وما انتهت إليه حياتهم علي عظمة توهجها من انطفاء فإنه يقدم لتحليله النظري الذي تناول واقع حياة معاصريه الذين يخاطبهم - يقدم نماذج تطبيقية من حياة أقوام آخرين.. إنه يقدم لمعاصريه تجربة الآخرين التي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.
فهذه المدن والمساكن، وهذه الضياع والمزارع، وهذه القلاع والحصون عمرها في عصور سابقة أناس تقلبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال التي سعدوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثم ماتوا وانقطعوا عن كل ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني.
ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات …
وكان هؤلاء أطول أعمارا، وأكثر قوة.. وأعد عديدا، وقد وجهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدوا لها واستعدوا، ولم يشغلهم عنها تفكير بالآخرة أو عمل لها، ولكن كل ذلك لم ينفعهم ولم يعد عليهم بطائل، لأن عامل التغير والتقلب من جهة وعامل الزمن من جهة أخري، عملا دائما - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - علي تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقي الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموها وازدهارها بذور تقلصها وذبولها وانطفائها في آخر المطاف.
* هذا نموذج من وعظ الإمام علي الذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يضئ الحاضر لأنه يضيف إليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك أكثر غني، ويجعل الإنسان أكثر قدرة علي مواجهته بروح واقعية وبعقل خال من الأوهام، فلا يهن ولا يستسلم تحت وطأة الكارثة، ولا يطغي ولا يطوح به الغرور وهو في ذري النجاح.
(٥٢)
مفاتيح البحث: مسألة الحسن والقبح (1)، الطواف، الطوف، الطائفة (1)، الغني (1)

صفحه 037

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥٥
التاريخ في مجال السياسة والفكر تمهيد استخدام الإمام التاريخ في مجال الفكر كما استخدمه في مجال السياسة.
كان رجل رسالة هي الإسلام، رسالة استوعبت الحياة كلها: تنظيما وتشريعا ومناهج.
وهي رسالة ذات طابع عالمي، ممتدة في الزمان إلي آخر الزمان، أراد الله تعالي لها أن تكون دينا للإنسان كل إنسان، تقوده نحو التكامل الذي يحقق له التوازن والتسامي.
وهي رسالة تقوم علي العلم والمعرفة، وترفض الجهل لأنه يتيح لأعدائها أن يتسللوا في ظلماته إلي قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم فيشوهون ويحرفون عقائدها وشرائعها ومناهجها، ويضللون بعد ذلك أتباعها المؤمنين بها وذلك حين يلبسون لهم الحق بالباطل والصواب بالخطأ.
ومن هنا كان من أكبر هموم رجل الرسالة الاستعداد الدائم في هذا المجال، لأجل أن يجعل المسلمين علي معرفة كاملة بالإسلام، وفي حالة وعي متجدد ونام لحقيقة الإسلام وجوهره ومناهجه وغاياته ليكون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، علي بينة من أمره، وليكون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويكون كل مسلم مستنير ديدبانا علي دينه الذي هو معني وجوده وشرف وجوده.
ومن هنا كان علي عليه السلام في حركة تعليمية دائمة لمجتمعه وخواص أصحابه
(٥٥)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، آخر الزمان (1)، اللبس (1)، الجهل (1)

صفحه 038

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥٦
الذين كانوا علماء ينشرون علمهم ووعيهم بين الناس بالحديث والخطابة وحلقات الدرس والتعليم.
وكان الإمام عليه السلام يختار ولاته وعماله علي البلدان من ذوي المعرفة ومن أهل البصائر 1. الذين يتمتعون بالمعرفة والوعي والصلابة في العقيدة ليكونوا - إلي جانب عملهم الإداري - معلمين ورجال رسالة، وكان يوجههم نحو هذه المهمة التعليمية والتوجيهية. من ذلك ما كتب به إلي قثم بن العباس عامله علي مكة:
أما بعد، فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله 2، واجلس لهم العصرين 3، فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم 4.
* وفي عمله الفكري علي صعيد التعليم والتوعية استعان الإمام عليه السلام بعنصر التاريخ ليعطي للفكر حرارة وحياة وحركة، وعمقا في الزمان وفي الإنسان، وليجعل، بهذا، من القضية الفكرية بضعة من الحياة المعاشة تحمل في ثناياها رائحة المعاناة الإنسانية.
*(1) أهل البصائر تعبير إسلامي يعود إلي صدر الإسلام، يعني به المؤمنون الواعون الذين يتخذون مواقفهم السياسية وغيرها نتيجة لقناعات مستوحاة من المبدأ الإسلامي، ولا تتصل بالاعتبارات النفعية.
ومن المؤكد أن هذا التعبير غدا في وقت مبكر جدا مصطلحا ثقافيا إسلاميا يعني:
الفئة المؤمنة الواعية للإسلام علي الوجه الصحيح، والملتزمة بالإسلام في حياتها بشكل دقيق، بحيث أنها تتخذ مواقف مبدئية من المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تواجهها في الحياة والمجتمع، فلا تصغي إلي الاعتبارات الشخصية والقبلية كما أنها لا تقف علي الحياد أمام هذه المشكلات، وإنما تعبر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية للنضال ضد الانحرافات.
راجع بحثا مفصلا عن هذا الموضوع في كتابنا أنصار الحسين: الرجال والدلالات - الطبعة الأولي - دار الفكر - سنة 1975 / فصل النخبة ص 165 - 170.
(2) أيام الله مصطلح ثقافي إسلامي، يغلب استعماله للدلالة علي الكوارث الكبري التي أصابت الشعوب والجماعات نتيجة لانحرافها في العقيدة والشريعة والأخلاق، وقد يستعمل للدلالة علي الانتصارات الكبري التي أحرزها المؤمنون فغيرت مجري التاريخ أو مجري تاريخ جماعة مؤمنة أو شعب مؤمن.
(3) العصران: هما الغداة والعشي.
(4) نهج البلاغة - باب الكتب / الكتاب رقم 67.
(٥٦)
مفاتيح البحث: مدينة مكة المكرمة (1)، قثم بن العباس (1)، الحج (1)، الجهل (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 039

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٥٧
وكان الإمام رجل سياسة.
كان سياسيا علي مستوي رجل الدولة ورجل العقيدة والرسالة طيلة حياته. ملأ العمل السياسي حياته في عهد النبي (ص) بتكليف منه، وفي عهود الخلفاء الذين تقدموه لحاجتهم إليه أو لحاجة الناس إليه. وكان - بالإضافة إلي ذلك - حاكما ورئيس دولة في السنين الأخيرة من حياته.
وكان الإمام بهذين الاعتبارين في حاجة دائمة إلي أن يعطي لأمته ولأعوانه التوجيهات السياسية اللازمة. وكان في بعض هذه التوجيهات يستعين بعنصر التاريخ ليضئ الفكرة السياسية التي يقدمها، وليعطي توجيهه السياسي صدقا واقعيا إضافة إلي الصدق النظري … صدقا واقعيا يوفر للتوجيه السياسي حرارة ووهجا. إنه بهذا العمل يؤنس التوجيه السياسي، ويجعله بحيث يخالط القلب كما يوجه العقل.
(٥٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الصدق (1)

صفحه 040

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦١
التاريخ في مجال الفكر تمهيد التفكر هو التأمل، والفكر - بالكسر - اسم منه، وهو يستعمل - حسب ما ذكره علماء اللغة - للدلالة علي معنيين:
أحدهما: القوة المودعة في الدماغ، الذي هو مركز، التفكير وإن كان علينا أن نعترف بأن لوضعية أعضاء أخري في الجسم من حيث الصحة والمرض دخلا في عملية التفكير. والفكر - بهذا المعني - اسم لآلة التفكير.
ثانيهما: أثر التفكر، وهو ترتيب أمور في الذهن تتولد منها معرفة جديدة، أو تؤدي إلي تعميق وتوسيع معرفة قديمة. والفكر - بهذا المعني - اسم لفعل التفكير أو لعملية التفكير.
هذا هو المعني اللغوي لكلمة تفكر وفكر مع شرح وتوضيح.
وثمة معني ثالث لهذه الكلمة غلب استعمال اللفظ فيه في العصور الأخيرة، ولعله دخل العربية من الاستعمالات الأوربية، وهو نفس الأفكار والمعلومات التي يجعلها الفكر - بالمعني الأول - موضوعا لعمله - الفكر بالمعني اللغوي الثاني -، فيقال: مثلا، الفكر الإسلامي، والفكر المسيحي، والفكر الماركسي، والفكر الديني، فالفكر المادي … يراد من ذلك الأفكار والمناهج والمعلومات التي يتشكل منها ويتقوم بها مذهب أو فلسفة أو دين.
(٦١)
مفاتيح البحث: الغلّ (1)

صفحه 041

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٢
والمقصود ببحثنا هنا هو هذا المعني لكلمة فكر.
* والفكر في الثقافة التي تقوم شخصية كل أمة علي قسمين: فكر حي، وفكر ميت، والأول هو ما يطلق عليه لفظ (فكر) في عصرنا الحاضر، والثاني هو ما يطلق عليه في عصرنا الحاضر مصطلح (تراث).
* والتراث في أصل اللغة: الميراث. وقد وردت كلمة (تراث) في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالي في خطاب المشركين:
… وتأكلون التراث أكلا لما … 1.
وقد استعملت كلمة ميراث في اللغة العربية في الماديات والمعنويات. أما استعمالها في الماديات فأمثلته كثيرة ظاهرة. وأما استعمالها في المعنويات فقد ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع، هي الآيات التالية:
1 -.. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا … 2.
2 - … ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله … 3.
3 - … وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب 4.
وقد استعملت هذه الكلمة في السنة في المعنويات أيضا كما فيما روي عن الإمام الصادق (ع) أنه رواه عن رسول الله (ص):
1. سورة الفجر (مكية) رقم 89 - الآية 19.
(2) سورة الأعراف (مكية) رقم 7 - الآية 169.
(3) سورة فاطر (مكية) - رقم 35 - الآية 32.
(4) سورة الشوري (مكية - رقم 42) الآية: 14.
(٦٢)
مفاتيح البحث: الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، القرآن الكريم (2)، الوراثة، التراث، الإرث (3)، سورة الأعراف (1)، سورة الشوري (1)، سورة الفجر (1)، سورة فاطر (1)

صفحه 042

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٣
… إن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر 1.
وقد وردت مادة (و. ر. ث) في نهج البلاغة في مواضع كثيرة بصيغة الفعل الماضي والفعل المضارع، وبصيغة الاسم (ميراث، تراث) وغيرهما، واستعملت في الماديات والمعنويات، فمن استعمالها في المعنويات قوله: لا ميراث كالأدب.. 2 و … العلم وراثة كريمة … 3. واستعملها في المعنويات في السلطة السياسية في قوله: إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلي الله عليه وآله تفويقا … 4 وقوله: فصبرت وفي العين قذي … أري تراثي نهبا … 5.
* وعلي ضوء هذه الاستعمالات يمكن أن يقال أن التراث أو الميراث - بمعناه العام، لا بمعناه الاصطلاحي الفقهي - هو كل ما يخلفه سابق في الحياة للاحق له في الزمان، مهما بعد الزمان بالمورث، سواء في ذلك الماديات والمعنويات.
وإذن، فما يقع عليه اسم التراث أو الميراث شئ لم يكن في حوزة الوراث وإنما انتقل إليه من غيره. وهو قد يكون في حاجة إليه وقد لا يكون في حاجة إليه. ومع كونه في حاجة إليه فقد يعي حاجته إليه ويستعمله وينتفع به، وقد يعي حاجته إليه ولكنه ينصرف عنه لسبب أو لآخر، وقد لا يعي حاجته إليه فيهمله ولا يعني به إلا باعتباره أثرا من الآثار التي تتصل بأحبته وأهله الماضين ربما تكون له قيمة عاطفية ولكن ليس له قيمة عملية في حياة الوارث.
وهذا يعني أن التراث أو الميراث ليس - بالضرورة - جزءا مقوما للحياة الحاضرة تفسد بدونه لأنه يشغل فيها حيزا مهما وأساسا، ويسد فيها حاجات ملحة لا غني عنها، وإنما
(١) محمد بن يعقوب الكليني: الكافي ج ١ ص ٣٤.
(2) نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 54 و 113.
(3) نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 5.
(4) نهج البلاغة - الخطبة رقم 77.
(5) نهج البلاغة - الخطبة رقم 3.
(٦٣)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (5)، بنو أمية (1)، الوراثة، التراث، الإرث (8)، محمد بن يعقوب (1)

صفحه 043

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٤
قد يكون الأمر فيه هكذا، وقد يكون - في نظر الوارث - شيئا يحسن أن يقتني ويستعمل ولكن فقده لا يغير شيئا من وضع الحياة الحاضرة ولا يدخل نقصا هاما فيها. وقد يكون في نظر الوارث ذا قيمة عاطفية محضة لا يؤثر فقده أبدا. وقد يكون في نظر الوارث عبأ علي الحياة ومعوقا لنموها ومانعا من ازدهارها، ولذا فهو يسعي إلي نبذه والتخلص منه والبراءة من آثاره.
هذا تحليل لمفهوم التراث أو الميراث في اللغة العربية - بمعناه العام لا بمعناه الاصطلاحي الفقهي الخاص.
وقد استعملت كلمة التراث في اللغة العربية في العصور الأخيرة علي ألسنة الباحثين والأدباء والمفكرين للدلالة علي آثار الفكر الإسلامي في السنة وعلومها، والفقه وأصول الفقه، والتاريخ، والأدب، والفلسفة: وما إلي ذلك من الآثار الفكرية التي خلفها المسلمون باللغة العربية.
ذاك هو الفكر، وهذا هو التراث.
* والفكر، في المفهوم الحضاري - إذن هو المعلومات والشرائع والمناهج والقيم التي تقوم شخصية الأمة الثقافية والحضارية، وتعطيها سمتها المميزة لها عن الأمم الأخري، ويرسم لها دورها في حركة التاريخ.
إن هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم تشكل عقل الأمة وروحها وضميرها. وهي تنظر إلي الكون والحياة والإنسان والأمم الأخري من خلال هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم، وتواجه مشاكلها ومسائل حياتها علي ضوء الحلول والمواقف التي يحميها هذا الفكر. وإنتاجها العقلي النظري كله يكون مطبوعا بطابع هذا الفكر، محتويا روحه، ومستهديا بالنور الذي يشعه …
مثلا: الماركسية هي فكر العالم الشيوعي. فهي تشكل عقل شعوبه وروحها وضميرها، وهي تميز هذه الشعوب عن العالم الرأسمالي بالسمات التي تطبع بها طريقة الحياة لدي هذه الشعوب. كما إن النتاج الثقافي النظري لهذه الشعوب مرسوم
(٦٤)
مفاتيح البحث: أصول الفقه (1)، الوراثة، التراث، الإرث (4)

صفحه 044

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٥
بالطابع الخاص للماركسية، بل لقد طمح المنظرون السوفيات إلي طبع النظريات العلمية التي تفسر بها المادة بالطابع الخاص للماركسية: هذا في العصر الحديث.
وقد كانت المسيحية في القرون الوسطي وما قبلها بالنسبة إلي أوربا علي هذه الشاكلة.. كما كانت الكونغو شيوعية بالنسبة إلي الصين.. والهندوسية بالنسبة إلي الهند، والزردشتية بالنسبة إلي إيران، والإسلام بالنسبة إلي العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام وإلي يومنا هذا..
ولكل فكر بؤرة يرتد إليها كل شئ باعتبارها مقياسا للصدي والأصالة والاستقامة، وينطلق منها كل شئ باعتبارها الذخر الأكبر للأصول الأساس في التكوين الثقافي للأمة.
مثلا: كتاب رأس المال للماركسية والشيوعية، والإنجيل والتوراة للمسيحية، والبهاجافاد - جيتا للهندوسية، والقرآن للإسلام. والآوستا للزردشية.. وهكذا يكون لكل فكر مركز أساس يتضمن الخطوط الكبري والمبادئ المركزية لذلك الفكر.
هذا هو الفكر في المفهوم الحضاري.
* أما التراث في المفهوم الحضاري فهو مجرد ثقافة ومعرفة نظرية لا تبلغ في أكثر الأحيان ومعظم الحالات أن تبلغ مستوي كونها فكرا بالمعني الذي شرحناه آنفا، ولنقل: التراث فكر ميت.
إن التراث لا يدخل في صلب ثقافة الأمة التي تغذي عقلها العملي وفعاليتها وحركيتها في مجري التاريخ، ولا يقوم وجودها، ولا ينير طريق حياتها، ولا يميزها عن غيرها من الأمم، وبالإجمال: كل ما هو دور إيجابي للفكر في الأمة منفي عن التراث. إن التراث شئ من بقايا الآباء والأجداد، كان صالحا لحياتهم فهو يمثل هذه الحياة الماضية وأساليبها وألوانها، ولكنه لا يصلح للحياة الحاضرة، أو لا يصلح أكثره للحياة الحاضرة، وإذا احتفظنا به ودرسناه وأقمنا له المؤسسات فليس لأجل أن نقيم عليه حياتنا ونقوم به شخصيتنا كأمة، وإنما ذلك لما تربطنا به من صلات عاطفية، أو لأنه
(٦٥)
مفاتيح البحث: دولة ايران (1)، القرآن الكريم (1)، الهند (1)، الوراثة، التراث، الإرث (4)، الصّلب (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 045

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٦
يمثل حلقة هامة في تاريخ نمونا، إن له قيمة عاطفية وقيمة أكاديمية (نظرية)، وليست له قيمة عملية، أو إن أكثره كذلك. ونحن ندرسه، ونحققه وننشره، ونحفظه لنعرف كيف كنا لا لنعرف كيف نكون؟ ولنري صورتنا القديمة لا لنرسم صورتنا الحاضرة أو لنري كيف تكون صورتنا المستقبلة. إن التراث، في أحسن الحالات، شئ من أشياء القلب والعاطفة، وليس من أشياء العقل والعمل.
هذا هو التراث في المفهوم الحضاري.
* وهنا أود أن أثير مسألة شديدة الخطورة وذات أهمية بالغة جدا بالنسبة إلينا نحن المسلمين في هذا العصر، وهي أن الكثرة الساحقة من المسلمين المتعلمين والمثقفين علي مناهج الغرب وأساليبه ينظرون إلي الإسلام - بما هو ثقافة ونظام وحضارة - ويتعاملون معه علي أنه تراث، أي فكر ميت، لا علي أنه فكر.
أما الكثرة الساحقة من المسلمين فهم بحمد الله ونعمته لا يزالون يتعاملون مع الإسلام علي أنه فكرهم (لا تراثهم) وهم يحرصون ما وسعهم الحرص علي أن يقيموا حياتهم علي هدي أحكامه وقيمه، وإن كان علينا أن نعترف أن الحياة الحديثة كثيرا ما تضطر الكثير منهم إلي تجاوز أحكام الإسلام، أو تغريهم بتجاوزها، لأنها حياة قائمة علي غير الإسلام، وتستمد مفاهيمها الفكرية، وقيمها الأخلاقية، ومقاييسها الجمالية، وأفكارها العملية من غير الإسلام. ولكن هذه الكثرة الساحقة من المسلمين لا تزال تعتبر الإسلام - كما قلنا - (فكرها) وإن تجاوزته اضطرارا أو تهاونا في الكثير أو القليل من شؤون حياتها. إنه عقيدتها، وشريعتها، وقيمها.
ونعود، بعد هذا الاستطراد، إلي شرح موقف المسلمين الذين يتعاملون مع الإسلام علي أنه تراث لا فكر.
هم يرون أن الإسلام - لا بما هو عقيدة - وإنما بما هو شريعة وقيم، فكر عصر مضي، وأنه بالنسبة إلي عصرنا هذا - حيث تشكل حياتنا الحضارة الحديثة، ومناهجها في التشريع، وقيمها - مجرد تراث، يمثل مرحلة سابقة في نمونا تجاوزها تطور التاريخ، فليس
(٦٦)
مفاتيح البحث: الوراثة، التراث، الإرث (2)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 046

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٧
لنا والحال هذه أن نعتبره (فكرنا) أنه (تراثنا) مبعث فخر لنا، موضوع حبنا وتقديرنا، ولكنه لا يصلح لأن يشكل حياتنا، ويكون موضوع عملنا الذي نبني عليه مناهجنا ونستمد منه قيمنا.
والمفكرون العرب المحدثون المعنيون بقضايا النهضة العربية كثيرا ما يستعملون في التعبير عن الإسلام أو عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإسلامي كلمة (تراث) 1 ذاهبين إلي أن هذا (التراث الإسلامي) ليس شأن عصرنا وليس شأن الإنسان العربي في هذا العصر، وإنما هو شأن السلف وقد ورثناه عنهم، ومن المؤكد أنه ليس من الصالح ولا من الراجح أن نأخذه كله لنتمثله في حياتنا مناهج وتشريعات وقيما لأنه معطل معوق لنمو هذه الحياة المعاصرة وازدهارها، ولكن هل ننبذه كله فلا نعني بشئ منه، ونحفظه كأثر من آثار تاريخنا، أو نخضعه لمقياس انتقائي نأخذ بموجبه من هذا (التراث) ما يتفق مع حياتنا الحاضرة والفكر المعاصر وننبذ من هذا (التراث) ما لا يتوافق مع هذا (الفكر المعاصر) أو يخالفه.
ولكن هؤلاء المفكرين علي خطأ فادح في هذه المسألة الهامة، بل المصيرية لا بالنسبة إلي العرب وحدهم، بل بالنسبة إلي المسلمين جميعا.
إن الإسلام لا يزال حتي الآن فكر المسلمين، والعرب منهم، وسيبقي فكر المسلمين جميعا. ولم يبلغ الإسلام في قلوب وعقول المسلمين درجة من الضمور والتقلص أو الاندثار والنسيان بحيث يكون تراثا يحتاج إلي إحياء كالذي حدث في أوروبا في عصر النهضة بالنسبة إلي التراث اليوناني - الروماني.
إن الإسلام لا يزال حيا مملوءا بالحياة في قلوب وعقول المسلمين، ولا يزال قادرا علي تحريك مئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم نحو أهدافه العظيمة
(1) نشير هنا إلي أن بعض دور النشر الكبري في بعض البلاد العربية، ومنها ما هو تابع لمؤسسات ثقافية رسمية، نشر كتبا في الفكر الإسلامي تحت عنوان (تراثنا) أو (سلسلة التراث) وغير ذلك من العناوين. هذا وعلينا أن ننبه هنا إلي أنه ليس كل من استعمل كلمة (تراث) في الدلالة علي الفكر الإسلامي يحمل علي الفكر الإسلامي هذه النظرة، فثمة مفكرون وباحثون مسلمون مخلصون استعملوا كلمة (تراث) في الدلالة علي الفكر الاسلامي دون أن يقصدوا بها موقفا فكريا من (الفكر الإسلامي) يضعه في (التراث) بالمعني الحضاري، وإنما قصدوا بالتعبير مجرد الدلالة اللغوية.
(٦٧)
مفاتيح البحث: الوراثة، التراث، الإرث (7)، النسيان (1)، البعث، الإنبعاث (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 047

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٨
النبيلة، وإذن فهو لا يزال فكر هذه المئات من الملايين من البشر، وإنما لا يحركها أو لا تتحرك وفقا لمناهجه بسبب وجود الموانع الخارجية القاهرة والمعوقات الشالة لحركة المسلمين من خلال إسلامهم، وهي قوي الحضارة المادية التي استعمرت بلاد المسلمين وأقصت الإسلام عن مركز القيادة وحلت محله في هذا المركز.
وإذن، فالإسلام ليس تراثا ميتا نختلف علي إحيائه وعدم إحيائه أو إحياء بعضه مما يتلاءم مع عصرنا كما يقولون … إنه فكر حي وما يدعوننا إليه هو إماتة هذا الفكر الحي لإحلال فكر آخر غريب محله هو فكر الحضارة المادية.
وقد أفلحت قوي الحضارة المادية لا في إماتة الإسلام فهو لا يزال حيا كما قلنا، ولكن في فرض نفسها علي حياة المسلمين الذين يحملون في قلوبهم وعقولهم إسلاما حيا قادرا علي التحريك ولكنه ممنوع عن التحريك وليس عاجزا عنه.
واستمرار مفكرينا المتأثرين بهذه الحضارة المادية في جهودهم لفرضها علي واقع حياة المسلمين وعزل الإسلام عن هذه الحياة لن يؤدي إلي (إماتة الإسلام) كما لن يؤدي إلي تحرير المسلم أو العربي، وإنما يؤدي إلي مزيد من التمزق الداخلي والأزمات الحضارية لإنسان ينقسم علي نفسه، موزع الذات بين ضرورات حياته اليومية وبين قناعاته العقلية والنفسية والأخلاقية والعاطفية. وهذا ما يؤدي - كما أدي بالفعل في العالم الإسلامي كله ومنه العالم العربي - إلي فقدان الفعالية والإيجابية في مواجهة تحديات الحياة، ويؤدي من ثم إلي مزيد من التخلف والعجز عن مجاراة حركة التقدم لدي الأمم الأخري وهكذا يسئ هؤلاء المفكرون من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فبدلا من إتاحة الفرصة أمام الإنسان العربي للتغلب علي مصاعبه وعوامل تخلصه يضيف هؤلاء المفكرون سببا آخر للتخلف يزيد الأمر سوءا لأنه يقدم تحت شعار التقدم، وهكذا يكون حال الإنسان العربي في هذه الحالة حالة القط الذي يلحس المبرد الذي يغري لسانه وينزف دمه وهو يحسب أنه يغذي نفسه بالمبرد الذي يغريه في حقيقة الحال.
*(٦٨)
مفاتيح البحث: الوراثة، التراث، الإرث (1)، الموت (2)

صفحه 048

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٦٩
رأينا أن نقدم للبحث عن التاريخ في مجال الفكر عند الإمام علي (ع) بهذا التمهيد لشعورنا العميق بخطورة هذه المسألة، وموقفنا من الفكر الإسلامي، وضرورة تصحيح النظرة السائدة إلي هذا الفكر الذي ملاك وجودنا كله.
(٦٩)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)

صفحه 049

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧١
1 - النبوات أ - بداية العصر التاريخي للإنسان:
يبدو لنا من كلمات أمير المؤمنين علي (ع) أن العهد التاريخي للإنسانية بدأ بظاهرة وجود النبوات في المجتمع البشري. هذه النبوات التي تقود مجتمعاتها نحو حياة أفضل، ووجود إنساني أكمل.
ما قبل التاريخ، إذن، بالنسبة إلي الإنسانية، هو ما قبل النبوات، حيث كانت الإنسانية تعيش في حالة البراءة الفطرية، وكانت النفس الإنسانية لا تزال عذراء ساذجة، بدائية، خالية من أي تعليم … ولذا فلم تكن لدي الإنسانية في فترة ما قبل التاريخ هذه تجارب ومعاناة يعود عرضها بالفائدة التعليمية والتربوية لمجتمع متحضر، تام التكوين، علي درجة عالية من التعقيد، يفترض فيه أنه يبني علي هدي خاتمة الرسالات، وخلاصة النبوات، وهو مجتمع الأمة الإسلامية.
ولذا لا نجد في جميع الكلام الصادر عن أمير المؤمنين حديثا عما قبل عهد النبوات، ومن هنا استنتاجنا أنه يعتبر إشراق النبوة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشرية بداية العصر التاريخي للبشرية.
وقد بين الله تعالي في القرآن الكريم تاريخ بداية عهد النبوات في المجتمع البشري فقال سبحانه وتعالي:
كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق
(٧١)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، القرآن الكريم (1)، العصر (بعد الظهر) (2)

صفحه 050

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٢
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم، فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم 1.
كان الناس أمة واحدة … كان إنسان ما قبل التاريخ، ما قبل النبوات يحيا في وحدة فطرية قائمة علي أساس وحدة المصالح ووحدة الدم من جهة، وعلي عامل سلبي من جهة أخري هو عدم وجود ما يهدد حالة السكون والخمود التي تميز هذه الحياة نظرا لبساطة الحاجات وتوفر ما يلبيها ويشبعها في الطبيعة دون حاجة إلي مغالبة وصراع.
ولكن حركة الحياة النامية المتصاعدة، وتزايد عدد أفراد النوع، وتفاوت القدرات العقلية والجسمية … كل ذلك وما يشبهه من عوامل الانقسام والتعقيد أدي إلي نشوء خلافات داخل الجماعة البشرية النامية، ومغالبة وصراع بين أفرادها وفئاتها … وربما كان من مظاهر ذلك أو أول مظهر من مظاهر ذلك خلفيات الجريمة الأولي بين ابني آدم حيث قتل أحدهما أخاه، وقد قص الله تعالي نبأهما في القرآن الكريم 2، وترددنا في أن هذه الجريمة هي من مظاهر ذلك أو أنها أول مظهر من مظاهر ذلك ناشئ من وجود احتمال أن آدم القرآني لا يمثل بداية الجنس البشري علي الأرض، وإنما يمثل بداية النسل البشري الموجود الآن، ويكون، علي هذا، قد وجد نسل سابق علي النسل الموجود الآن من بداية يمثلها آدم سابق علي آدم القرآني، والله تعالي أعلم وعلي هذا تكون آية سورة البقرة (213) موضوع البحث تؤرخ لفترة من عمر البشرية سابقة علي الفترة التي بدأت بآدم القرآني.
وعلي أي حال، ففي هذه المرحلة من نمو الإنسان لم تعد وحدة الدم كافية لتكوين وحدة المجتمع، ولم تعد ثمة مصالح واحدة أو متفقة، ولم تعد النفس الإنسانية عذراء، ساذجة، بدائية … ويستحيل علي النوع الإنساني في أن ينمو - كما أراد الله في أوضاع كهذه تقوده فيها غرائزه فقط، ولا مرجح له في خصوماته ومراعاته إلا غرائزه … في هذه
(1) سورة البقرة (مدنية - 2) الآية: 213.
(2) سورة المائدة (مدنية - 5) الآيات: 27 - 31.
(٧٢)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (1)، سورة البقرة (2)، القتل (1)، الجماعة (1)، سورة المائدة (1)

صفحه 051

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٣
المرحلة من نمو الإنسان قضت حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلي الإنسانية منهاج هدايتها الذي يخرجها من عهد الغريزة إلي عهد العقل ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوة إلي منطق النظام ومرجعية القانون.
وقد حقق الإنسان، بإشراق عهد النبوات، قفزة نوعية عظيمة وحاسمة في تطوره نحو الأعلي وتكامله، فقد خرج المجتمع البشري بالنبوات عن كونه تكوينا حيوانيا - بيولوجيا إلي كونه ظاهرة عقلية - روحية.. لقد عقلنت النبوات المجتمع الإنساني وروحنته.
وحققت النبوات للإنسان مشروع وحدة أرقي من وحدته الدموية البيولوجية التي كانت سائدة قبل عهد الخلافات والإنقسامات والصراع … وهي الوحدة القائمة علي أساس المعتقد، وبذلك تطورت العلاقات الإنسانية مرتفعة من علاقات المادة إلي علاقات المعاني … بعهد النبوات بدأ عهد الإنسان …
وتمضي الآية الكريمة، بعد التأريخ لهذه المرحلة، في بيان أن الاختلافات التي نشأت في النوع الإنساني، بعد إشراق عهد النبوات، غدت اختلافات في المعني اختلافات في الدين والمعتقد، إذ أن أسباب الصراع والبغي من بعض الناس علي بعض، واستغلال الأقوياء للضعفاء لم تلغ بالدين الذي جاءت به النبوات، بل استمرت وتنوعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة وإنما غدا القانون هو المرجع، وإذا كان من المستحيل علي الإنسانية أن تجد قاعدة لوحدتها وتعاونها عن طريق الغرائز، وعلاقات المادة، فإن من الممكن لها أن تجد قاعدة ثابتة لوحدتها وتعاونها وتكاملها عن طريق القانون الذي يتضمنه الدين وغير القانون من تربية الدين وإغنائه لروحية الإنسان وأخلاقيته، وذلك حين يستبدل الإنسان علاقات المادة بعلاقات المعني. وعدم بلوغ الإنسانية إلي هذا المرتقي ليس ناشئا، في عهد النبوات، من فقدان الوسائل، وإنما هو ناشئ من سوء الاختيار البشري، ومن سوء استخدام الحرية المعطاة.
لقد أفضنا في الحديث عن بعض جوانب الآية الكريمة لنضئ بها الفكرة التي عبر عنها الإمام عليه السلام في شأن النبوات وبداية العصر التاريخي للإنسان إذ قال:
(٧٣)
مفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (2)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 052

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٤
.. واصطفي سبحانه … أنبياء أخذ علي الوحي ميثاقهم، وعلي تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم 1 الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر 2 إليهم أنبياءه، … ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة 3 قائمة: رسل لا تقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، علي ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء 4.
وهكذا يعبر الإمام عن جوانب من أفق الآية الكريمة، فحين تعقدت الحياة البشرية نتيجة لنمو المجتمع وتشابك العلاقات فيه، وحين أدي ذلك إلي تصادم بين ما تقضي به الحياة الاجتماعية من تعاون وما تدفع إليه الغريزة والروح الفردية من استئثار. وحين ترافق هذا مع الإنحراف عن مقتضيات الفطرة المستقيمة العذراء - وإن تكن في ذلك الحين ساذجة - في إدراك الخالق سبحانه وتعالي … حين حدث في حياة الإنسانية كل هذا اقتضي لطف الله ورحمته إرسال الأنبياء ليضيئوا عقول الناس، ويرتفعوا بالمجتمع من علاقات المادة - البيولوجيا - إلي علاقات المعني والقانون.
* وقد تواترت حركة النبوات في تاريخ البشرية: تضئ عقولها، وتصوغ مفاهيمها، تغني حياتها، وتضعها رويدا رويدا علي طريق التكامل … تواترت هذه الحركة في خط تصاعدي نحو الأكمل والأفضل والأجمل، مستجيبة في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري لحاجات تلك المرحلة، باذرة فيها بذور نمو آخر في المستقبل يهيئ لمرحلة من التقدم والتكامل جديدة.. إلي أن بلغت حركة النبوات ذروتها في الرسالة الخاتمة الجامعة: رسالة الإسلام علي لسان خاتم النبيين محمد صلي الله عليه وآله وسلم.
(1) اجتالتهم: صرفتهم عن الله.
(2) واتر: تابع.. أرسل الأنبياء يتبع أحدهم الآخر.
(3) المحجة: الطريق المستقيمة الواضحة، يريد هنا الشريعة التي تتبع.
(4) نهج البلاغة - الخطبة الأولي.
(٧٤)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، يوم عرفة (1)، الكرم، الكرامة (1)، الحج (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 053

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٥
قال عليه السلام:
… إلي أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا علي النبيين ميثاقه، مشهورة سماته 1، كريما ميلاده 2.
وقال في خطبة أخري:
.. بل تعاهدهم - الناس - بالحجج علي ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحملي ودائع رسالاته قرنا فقرنا، حتي تمت بنبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم حجته، وبلغ المقطع 3 عذره ونذره.. 4.
ب - وظيفة النبوة ما وظيفة النبوة في المجتمع البشري؟
إنها فيما نفهم من كلمات أمير المؤمنين تتلخص في هدفين كبيرين:
الأول:
وهو أهمهما، إحياء الفطرة الإنسانية الصافية المستقيمة، هذه الفطرة التي يهتدي بها الإنسان إلي الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالي، ويدرك بها كونه مخلوقا لله، ومن ثم يدرك موقعه في الكون. ويترتب علي هذا الإيمان الواعي تصحيح المسار الإنساني في طريق التكامل بجعل حركة الإنسان التاريخية وثيقة الصلة بعقيدة التوحيد ومتفرعاتها.
الثاني:
وهو، من بعض الوجوه نتيجة للأول، تكوين الحوافز الروحية والنفسية
(١) السمة: العلامة، والمراد علامات النبي محمد التي بشر بها الأنبياء السابقون.
(٢) نهج البلاغة - الخطبة الأولي.
(٣) المقطع: النهاية التي ليس عليها مزيد. أي أن أعذار الله وأنذاره تلقيا نهايتهما برسالة محمد (ص).
(4) نهج البلاغة - خطبة الأشباح، رقم: 91.
(٧٥)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الموت (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 054

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٦
والاجتماعية لإنجاز عملية التقدم العقلي والمادي والاجتماعي في الحياة في صيغة تضمن التوازن بين النمو الروحي - الأخلاقي والنمو المادي. وهذه الصيغة التي توازن بين اتجاهي النمو والنشاط الإنساني هي الدين.
وهذه هي وظيفة النبوة كما تفهم من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
فالنبي يخرج الناس من الظلمات إلي النور في عقائدهم وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية، ويصحح نظرتهم إلي موقعهم في الكون، ومن ثم يوجد الإنسان الصالح الذي يسعي نحو التكامل فيحقق لنفسه التقدم المتوازن في الشكل والمضمون، في الروح والمادة.
وليس النبي مخترعا كبيرا ومخططا عظيما يبدع الآلات والمؤسسات، وليست النبوة مركزا للأبحاث والدراسات وما إلي ذلك.
إن الذي يخترع الآلات وينشئ المؤسسات ويبتكر الخطط هو عقل الإنسان بعد أن تتوفر له دواعي النمو والانطلاق. فإذا تآخت معها قيم الروح والأخلاق حقق الإنسان إنجازات مادية وتنظيمية تتفق مع مقتضيات الإيمان، وتوفر للإنسان حياة سعيدة طيبة، ورضوان الله والنجاة في الآخرة. وإذا لم تتآخ قيم الروح والأخلاق مع دواعي النمو والانطلاق في التعامل مع الكون المادي حقق الإنسان إنجازات مادية وتنظيمية توفر له القوة واللذة والرخاء دون أن توفر له السعادة وطيب بالحياة.
* وفهمنا لوظيفة النبوة - كما تعكسها نصوص نهج البلاغة - مستفاد من النصوص التي تحدث فيها الإمام عن حالة العالم عشية بعثة النبي محمد (ص)، ذلك لأن النصوص التي تؤرخ للنبوات السابقة لنبوة محمد (ص) نادرة من جهة، وتشبه، من جهة أخري، أن تكون في معظمها مجرد إشارات يغلب عليها طابع الإجمال.
ولكن هذا لا يؤثر شيئا علي سلامة فهمنا لوظيفة النبوة، فإنها وظيفة واحدة منذ بداية حركة النبوات في فجر التاريخ الإنساني إلي ختام النبوات بنبوة محمد (ص) ورسالة الإسلام. ولا توجد اختلافات جوهرية بين النبوات من حيث وظيفتها
(٧٦)
مفاتيح البحث: مبعث النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، كتاب نهج البلاغة (1)، القرآن الكريم (1)

صفحه 055

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٧
الأساسية، والاختلاف الأساسي الوحيد فيما بينها هو في درجة الشمول والاتساع من حيث مساحة شمول التشريع للنشاط البشري من جهة، ومن حيث عموم الرسالات بالنسبة إلي الشعوب من جهة أخري.
* قال عليه السلام:
… فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم وأوصاب 1 تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم.. 2.
إحتوي هذا النص الذي يؤرخ للنبوات السابقة علي القضايا التالية في معرض بيان الغاية من إرسال الأنبياء:
1 - ميثاق الفطرة:
وهذه القضية تعني مسألة الإيمان بالله تعالي، وما يتفرع عن هذا الإيمان من قضايا أساسية تنبع منه وتتصل بكافة شؤون الحياة.
وما عبر عنه الإمام هنا وفي مواضع أخري من خطب وتوجيهات هو تعبير عن حقيقة كبري من الحقائق القرآنية، ورد النبي عليها أو الإشارة إليها في عدة آيات منها قوله تعالي:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلي شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون 3.
(1) الأوصاب: المتاعب.
(2) نهج البلاغة: الخطبة الأولي.
(3) سورة الأعراف (مكية - 7) الآية: 172 - 173.
(٧٧)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، سورة الأعراف (1)

صفحه 056

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٨
وقد تكرر ذكر هذه القضية الإيمانية الكبري في جميع النصوص التي أرخ فيها الإمام للنبوات.
2 - إثارة دفائن العقول:
وهذه القضية تعني بعث القوي العقلية والنفسية في الإنسان لإنجاز عملية التقدم الصحيح والتغيير الإيجابي في المجتمع عن طريق الحركة التاريخية المستبطنة للوعي الإيماني المستقيم.
3 - جعل الطبيعة موضوعا للبحث والنظرة:
هذه القضية دل عليها قوله: … ويروهم آيات المقدرة …
وهذه القضية تخدم القضيتين الأوليين، فإن مراقبة الطبيعة لفهمها، والتعامل معها واكتشافها تعزز قضية الإيمان لأنها تقدم مزيدا من الأدلة التجريبية علي ما أدركته الفطرة السليمة من قضايا الألوهة. كذلك يعين التعامل مع الطبيعة بصورة مباشرة علي إنجاز عملية التقدم، بل شرط أساسي لإنجاز التقدم المادي، وإذ تتخذ قضية الإيمان في ذات الإنسان مع حركته التاريخية في الطبيعة والمجتمع فيكون تقدم علي هدي الإيمان وأخلاقيات الروح والعقل، ويكون إيمان يستجيب للحياة الدنيا ولا يقف منها موقف الرفض والعداء.
* في نص آخر أرخ الإمام للعالم حين بعثة النبي محمد (ص) فقال:
… إلي أن بعث الله سبحانه محمدا (ص) … وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه، أو مشير إلي غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة … 1.
وقال في نص ثان:
(1) نهج البلاغة - الخطبة الأولي.
(٧٨)
مفاتيح البحث: مبعث النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 057

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٧٩
بعثه والناس ضلال في حيرة، وحاطبون 1 في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستنزلتهم الكبرياء 2، واستخفتهم 3 الجاهلية الجهلاء. حياري في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ (ص) في النصيحة، ومضي علي الطريقة، ودعا إلي الحكمة والموعظة الحسنة 4.
وقال في نص ثالث:
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور … والناس في فتن انجذم 5 فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري 6 اليقن، واختلف النجر 7 وتشتت الأمر، وضاق المخرج وعمي المصدر، فالهدي خامل والعمي شامل، عصي الرحمان ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه 8 أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله 9، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه، في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها وقامت علي سنابكها 10 فهم فيها تائهون …
حائرون … جاهلون … مفتونون … 11.
أشار الإمام في هذه النصوص إلي وجوه الفساد التي كان يعاني منها العالم عشية بعثة رسول الله (ص)، وهي وجوه الفساد الكبري في كل عصر وفي كل أمة، فإصلاحها هو وظيفة النبوة في حركتها الصاعدة منذ بدأت في مستهل التاريخ البشري إلي أن ختمت بمحمد (ص).
(1) الحاطب هو الذي يجمع الحطب، يقال لمن يأخذ بالصواب والخطأ دون تمييز: حاطب ليل، شبه للفتنة بالليل الذي تلتبس فيه الأشياء لظلامه حيث أن الحق يلتبس فيها بالباطل.
(2) استزلتهم: أوقعتهم الكبرياء في الزلل والسقوط، يعني بذلك فساد حياتهم الاجتماعية.
(3) استخفتهم: جعلتهم طائشين مندفعين وراء شهواتهم الجسدية والنفسية دون كابح ورادع.
(4) نهج البلاغة، رقم الخطبة: 95.
(5) انجذم: انقطع.
(6) السارية: هي العمود، يدعم بها السقف، والجمع سوار.
(7) النجر: الأصل، ومثله: النجار.
(8) درست واندرست بمعني زالت وانطمست. والشرك - بضم الراء - جمع شراك، وعفت شركه بمعني انطمست.
(9) المناهل: جمع منهل، مورد النهر.
(10) الأخفاف جمع خف، وهو للبعير كالقدم للإنسان، والأظلاف جمع ظلف للبقر والشاء. والسنابك جمع سنبك: طرف الحافر.
(11) نهج البلاغة، رقم الخطبة: 2.
(٧٩)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الجهل (2)، الضلال (1)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الشهوة، الإشتهاء (1)

صفحه 058

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٠
الأول:
الضلال في العقيدة، فالناس ضلال في حيرة … وحاطبون في فتنة، وهم حائرون لأنه حيث لا يستقر الإنسان علي عقيدة أو يؤدي به الفساد العام إلي عقيدة باطلة، فإنه يشعر بالضياع ويشعر بانعدام الهدف … انعدام المعني من وجوده، يشعر بالعبث حين يواجه نفسه بسؤال: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما المعني لوجودي؟ …
وهكذا يمضي هذا الإنسان الضائع في التماس الجواب حيث لا جواب، لأنه.. بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلي غيره.
الثاني:
الفساد السياسي والاجتماعي، فالناس قد أوقعتهم كبرياؤهم التي لا مبرر لها في الزلل والسقوط الحضاري، فحملت أقوياءهم علي احتقار ضعفائهم وفقرائهم … وخاصتهم إلي الاستهانة بعامتهم، فهانت كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وغدا مقياس الكرامة خاضعا لعوامل غير إنسانية: للثروة، أو للقوة، أو للنسب، وما إليها. لقد غدا الناس - نتيجة لذلك مللا متفرقة متناحرة، لكل ملة مذهب وطريق، ولكل فئة هوي واتجاه، ولكل فريق منهج وغاية، والكل مفتون برأيه، مأخوذ بهواه، يعمل علي شاكلته.
والنبوة تعالج وجوه الفساد كلها في الإنسان والمجتمع، في الروح وفي المادة، والمؤسسات لتحقق الغاية العظيمة النبيلة، وهي تكوين الإنسان المتكامل.
وقد أعلن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين هدفهم هذا علي مدي التاريخ، كل واحد منهم في المحيط الذي بعث إليه في الزمان الذي كان فيه.. إلي أن ختمت النبوة بمحمد (ص) فكان هذا الهدف العظيم بحجم امتداد الرسالة الخاتمة في الزمان والمكان علي مستوي البشرية كلها وعلي مدي المستقبل كله … إلي نهاية الزمان: فبالغ (ص) في النصيحة، ومضي علي الطريقة، ودعا إلي الحكمة والموعظة الحسنة … فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة.
وقد أثمر جهد الأنبياء العظيم النبيل وجهادهم ومن اتبعهم وجري علي سنتهم -
(٨٠)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الأنبياء (ع) (1)، الهدف (3)، الضلال (1)

صفحه 059

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨١
أثمر تحقيق هذا الهدف العظيم الذي هو وضع الإنسانية علي طريق التكامل.
وربما كان هذا القول مثيرا للدهشة والتعجب، والتساؤل:
كيف حقق الأنبياء الكرام هدفهم هذا ولم يؤمن بهم إلا القليل، وأعرض عنهم أكثر الناس، بل حاربوهم ورفضوهم..؟
إن هدف النبوة قد تحقق في كل عصر، وعلي عهد كل نبي في صورتين:
إحداهما: فيمن آمن بالنبي وصدق به واتبع منهاجه، فالتزم في حياته العامة والخاصة بالعقيدة والشريعة اللتين اشتملت عليهما رسالته.
والصورة الأخري: تتمثل في الجو الثقافي والروحي العام الذي اشاعته الرسالة النبوية في المجتمع نتيجة لتبليغ النبي وأتباعه، وللصراع الفكري والاجتماعي الذي ولدته الرسالة في المجتمع، فإن هذا المناخ الثقافي يترك آثاره بلا شك علي المفاهيم والمؤسسات والقيم والقناعات التي تسود المجتمع، ويدفع بها نحو التغيير بصورة لا شعورية، فينتقل المجتمع إلي حالة أفضل في علاقاته وقيمه ومؤسساته وحوافز العمل فيه، وإن كان أكثر هذا المجتمع كافرا برسالة النبي.
ومن هنا كان الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين هم آباء الحضارة الإنسانية والمدنية الإنسانية. وما من خير بلغته وتمتعت به البشرية في عقولها وأذواقها وقيمها ومؤسساتها وحوافز العمل من أجل التقدم المادي عندها إلا وللأنبياء فيه فضل كبير، لأنهم - علي مدي التاريخ - أشاعوا، بما بثوه من الوحي الإلهي في الناس، وحدة جديدة في كل مجتمع تنبث كالنور … كالعافية فيه فتضئ، بدرجات متفاوتة، مناطق الظلمة، وتلمس - بدرجات متفاوتة - مناطق البؤس والمرض فيه. وكان تأثير هذه الروح النبوية متفاوتا بنسبة مقاومة قوي الشر حين تعي درجة تأثير الخير النبوي، وبقاء هذا الخير حرا في التأثير حين تغفل قوي الشرعية أو تري لنفسها مصلحة فيه.
وهكذا، فمن هذا المنظور نفهم أن كل نبي قد هدي الله به الناس من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. فهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين آباء الإنسانية الكرام، وآباء الحضارة العظام.
(٨١)
مفاتيح البحث: الأنبياء (ع) (1)، الكرم، الكرامة (1)، الهدف (2)، الصّلاة (1)، الصدق (1)

صفحه 060

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٢
وهذا نص آخر يضئ به الإمام جانبا آخر من جوانب وظيفة النبوة في نطاق الهدفين العظيمين، قال عليه السلام:
قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الأبصار. دفن الله به الضغائن 1 وأطفأ به الثوائر 2. ألف به إخوانا، وفرق به أقرانا. أعز به الذلة، وأذل به العزة 3.
في هذا النص كشف الإمام عن عمل النبوة في تغيير القيم السائدة في المجتمع، هذه القيم التي تحكم وتوجه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقيم أخري متسقة في طبيعتها مع طبيعة الرسالة النبوية لأنها مستمدة منها. وما يترتب علي ذلك من تغير في المفاهيم والقناعات، ومن تبدل في نوع العلاقات نتيجة لتبدل القيم الجاهلية بالقيم النبوية.
لقد ثنيت أزمة الأبصار نحو الرسول الأكرم (ص) كما كانت تثني نحو كل نبي في مجتمعه، لأنه قد أثار اهتمام الناس كلهم، وأوجد هزة راحت تنداح علي المجتمع كله وتنفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضئ التحليل الذي بينا فيه آنفا أن أثر النبوة الخيرة لا يقتصر علي المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإنما يتعداهم ليشمل ببركاته المجتمع كله.
لقد أدت القيم الجديدة التي جاء بها النبي إلي تغيير المفاهيم، ومن ثم إلي تغيير عميق وجذري في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والفئات، وإلي إحداث التبدلات الاجتماعية.
لقد دفنت به الضغائن، لأن أسباب تولدها قد زالت، ومن ثم فقد زالت أسباب تفجرها فزالت الثوائر.
لقد نعم المجتمع كله بدرجة عالية من الاستقرار والطمأنينة بعد أن انخفضت إلي أدني الدرجات مظاهر العنف والتوتر فيه نتيجة لتبدل المفاهيم والقيم التي كانت
(1) الضغائن: الأحقاد المكتومة.
(2) الثوائر: الأحقاد المتفجرة في أعمال عدائية عنفية ومعارك.
(3) نهج البلاغة، رقم الخطبة 96.
(٨٢)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، العزّة (1)، الجهل (1)، الدفن (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 061

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٣
سائدة فيه بمفاهيم وقيم أخري بثتها النبوة.
وقد أدت القيم الجديدة إلي إيجاد علاقات جديدة:
فألف الله بالنبي … بالقيم التي بشر بها وأذاعها في الناس، إخوانا في الإيمان، وفرقت هذه القيم الإيمانية بين أقران اختلفت بهم الطريق حين هتف صوت النبوة في المجتمع، فسلك بعضهم طريق الإيمان وبقي الآخر علي طريقه القديمة، وقيمه القديمة، طريق الجاهلية وقيم الجاهلية.
كما أدت هذه القيم الجديدة إلي تغيير في المراتب الاجتماعية، لأن القيم القديمة التي كانت تجعل أساس الترتيب في البنية الاجتماعية بين الأشخاص أو الفئات متمثلا في المال، أو السلالة والنسب، أو القوة الحربية … هذه القيم قد زالت وحلت محلها قيمة جديدة غدت هي الأساس الذي يقوم عليه الترتيب الاجتماعي، وهي التقوي 1، ومن ثم فقد أعز الله بالنبي … بالقيم التي جاء بها الذلة التي كانت تفرضها القيم الجاهلية القديمة علي الفقراء والمستضعفين، وأذل به العزة التي كانت تنشأ من قيم غير إيمانية.
من تاريخنا الإسلامي تحفل السيرة النبوية بمئات من الشواهد والنماذج.
فالأذلاء في الجاهلية كعمار بن ياسر وبلال الحبشي غدوا أعزاء في المجتمع الجديد، لأن القيم الجاهلية التي كانت تفرض عليهم أن يكونوا أذلاء في مرتبة اجتماعية متدنية قد زالت بالإسلام. وجاء الإسلام بقيم جديدة غيرت موقعهم في المجتمع فجعلتهم من النخبة، والأعزاء في الجاهلية غدوا أذلاء لأن القيم التي كانوا يتكئون عليها ويستمدون منها اعتبارهم الاجتماعي ويتبوؤن مركز النخبة فيه … هذه القيم قد زالت بالإسلام وحلت محلها قيمة جديدة هي التقوي، وحيث أنهم لم يتحلوا بهذه القيمة الجديدة فقد غدوا من الأذلاء.
* 1 - في شرح مفهوم التقوي الإسلامي وبيان مكوناته وأبعاده راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) فصل: المجتمع والطبقات الاجتماعية.
(٨٣)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (1)، عمار بن ياسر (1)، العزّة (1)، الجهل (5)، الترتيب (2)

صفحه 062

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٤
وثمة نصوص في نهج البلاغة تحدث فيها الإمام عن حالة العرب بالنسبة إلي تأثير النبوة في أوضاعهم الحياتية والمعنوية.
ففي النص التالي صور أمير المؤمنين حالة المجتمع العربي الجاهلي عشية بعثة النبي محمد (ص)، في جميع وجوه حياته التي كان عليها من النواحي الروحية والاجتماعية والأخلاقية. قال عليه السلام:
إن الله بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين، وأمينا علي التنزيل، وأنتم معشر العرب علي شر دين وفي شر دار منيخون 1 بين حجارة خشن وحيات صم 2 تشربون الكدر، وتأكلون الجشب 3، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة 54.
إنهم كانوا علي شر دين.
كانت الأصنام فيهم منصوبة يتوجهون إليها بالعبادة والضراعة، كانوا، إذن، وثنيين، وكانت وثنيتهم، التي استعاروها من هنا وهناك، بدائية متخلفة خالية من الجمال الفني والذوق إضافة إلي خلوها، بطبيعة الحال، من كل مضمون روحي سليم وكانوا في شر دار.
كانت دارهم البادية القاحلة المجدبة التي تفرض عليهم شروط حياة صعبة قاسية جعلت من حياتهم سلسلة من الأخطار والمتاعب وألوان الحرمان.
وكانوا - بسبب ما هم عليه من إفلاس روحي لأنهم علي شر دين، ومن تخلف في حياتهم المادية لأنهم في شر دار - … بسبب هذا وذاك - كانوا علي شر حال في حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم الإنسانية، فهم يقطعون أرحامهم، وهم يسفكون دماءهم.
(1) منيخون: مقيمون.
(2) خشن: من الخشونة. والحيات الصم أخبث أنواع الحيات. كني عن صعوبة مناخ البادية وقساوة العيش فيها.
(3) الكدر: الماء الذي يخالطه الطين وغيره، والجشب من الطعام: الغليظ الخشن كناية عن بؤس حياتهم وفقرها، وانعدام وسائل الراحة فيها.
(4) معصوبة: مشدودة، كناية عن استمرارهم علي المعصية.
5 - نهج البلاغة: رقم الخطبة 26.
(٨٤)
مفاتيح البحث: مبعث النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الطعام (1)

صفحه 063

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٥
وهم - بالإجمال - يكدحون باستمرار لتوفير حياة متخلفة، قاسية، فقيرة في الشكل والمضمون في ظل علاقات اجتماعية وإنسانية فاسدة.
* في نص آخر يؤرخ الإمام للتغيير الذي أدخلته النبوة علي حياة العرب، ويسجل ملامح عامة للحال التي انتقلوا منها وللحال التي صاروا إليها بعد الإسلام.
قال عليه السلام:
أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا (ص) وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة ولا وحيا، فقاتل بمن أطاع من عصاه، يسوقهم إلي منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم يحسر الحسير ويقف الكسير 1 فيقيم عليه حتي يلحقه غايته، إلا هالكا لا خير فيه، حتي أراهم منجاتهم 2 وبوأهم محلتهم 3، فاستدارت رحاهم 4 واستقامت قناتهم 5.
كان العرب أميين لا يقرأون ومن ثم فقد كان الجهل سائدا فيهم، وكانوا بعيدي عهد بالنبوات ورسالات السماء ومن ثم فقد كانت حياتهم الروحية فقيرة هزيلة مشوهة. وقد جهد رسول الله في إخراجهم من الظلمات … كل الظلمات: ظلمات الروح والعقل والحياة، إلي كل النور، من التخلف إلي التقدم، ومن الجهل إلي المعرفة، ومن العمي الروحي إلي نعمة الإيمان الكبري.
وبذلك بلغهم ساحل النجاة في الدنيا والآخرة.
وبذلك أعطاهم دورا عالميا - بما هم مسلمون - يحملون فيه الهدي والنور والكرامة إلي جميع الأمم بعد أن كانوا كمية مهملة لا قيمة لها ولا قدر ولا دور.
(1) الحسير هو الذي أصابه الإعياء والتعب. والكسير المكسور الذي لا يقوي علي السير، يريد أن النبي كان تحريضه علي الإسلام وإشفاقه علي المسلمين يلاحظ حال من حدثت عنده شبهة أو خالط قلبه ريب في الدين فلا يزال يرشده برفق وحب حتي يزيل من قلبه الريب ويجلو عن عقله الشبهة.
(2) منجاتهم: ما به نجاتهم وهو الإسلام.
(3) محلتهم: مركزهم في المجتمع العالمي، وكونهم ذوي رسالة عالمية هي الإسلام.
(4) استدارة الرحي كناية عن وفرة الأرزاق. واستقامة القناة كناية عن صلاح الحال واستقرار الحياة.
(5) نهج البلاغة: رقم الخطبة 104.
(٨٥)
مفاتيح البحث: القتل (1)، الجهل (2)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 064

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٦
وبذلك أعطاهم لين الحياة، وكرامة الحياة، واستقرار الحياة.
ولم تعد حياتهم قاسية صعبة، بل لقد استدارت رحاهم بالأرزاق.
ولم تعد حياتهم متوجسة متوحشة، بل لقد استقرت واطمأنت.
واستقامت قناتهم لم تعد مشرعة لأجل العدوان أو لأجل رد العدوان.
* سلام الله وتحياته علي جميع الأنبياء والمرسلين.
(٨٦)

صفحه 065

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٧
2 - وعي التاريخ من المؤكد أن الإنسان العربي الجاهلي - قبيل الاسلام - كان يعوزه الوعي التاريخي بالمعني الذي عرفته الشعوب المتحضرة ذات الثقافة المدونة، وذات المؤسسات السياسية والإدارية الراسخة العريقة. هذا فضلا عن أن يكون الوعي التاريخي بالمعني الذي عرفه إنسان العصور الحديثة قد وجد لدي الإنسان العربي الجاهلي قبيل الإسلام.
وهذا الحكم ينطبق بوجه خاص علي عرب الشمال، وإن لم يكن عرب الجنوب - كما سنري - أفضل حالا منهم بكثير.
فقد كان العربي الجاهلي - قبيل الاسلام - يعيش حياة البداوة بما يلزمها من تنقل وارتحال طلبا للكلأ وللماء، ومن ثم لم يكن لدي العربي مؤسسات ثابتة، ونظم سياسية وإدارية.
وكانت الأمية غالبة علي هذا المجتمع، ومن ثم فلم ينشئ ثقافة مدونة بأي نحو من الأنحاء إلا نقوشا نادرة لا تبلغ أن تكون ثقافة مدونة تسهم في تكوين الشخصية الثقافية للإنسان - لا نستثني من ذلك عرب الجنوب الذين كانوا قد فقدوا قبيل الإسلام - بانهيار نظام الري عندهم - الكثير من سماتهم كشعب متحضر له ماض عريق، وغدوا أقرب إلي البداوة والأمية.
وكانت الحياة من البساطة والسذاجة بحيث أن أحداثها البارزة كانت نادرة جدا، ومحدودة المدي جغرافيا وبشريا، وهذه الأحداث هي التي شكلت مادة ما يسمي أيام العرب التي سنعرض للحديث عنها بعد قليل.
كما لم يكن لدي العربي الجاهلي شعور بالزمن المستمر كمفهوم حضاري، كان
(٨٧)
مفاتيح البحث: يوم عرفة (1)

صفحه 066

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٨
الزمن عنده مجرد تعاقب للظواهر الفلكية والفصول. ومن المعلوم أنه لم يكن لدي العربي الجاهلي تقويم.
ونتيجة لكل هذه العوامل لم تتكون لدي العربي أية خبرات تاريخية ماضية ذات شأن، ناشئة من وقوع الأحداث نفسها من ناحية والشعور بها من ناحية أخري - لا أحداث مشتتة غير مترابطة - بل في نطاق نظام للتعاقب الزمني وللعلاقات الداخلية فيما بينها.
وبعبارة أخري: لم يكن لدي العربي الجاهلي شعور باستمرار الأحداث وديمومتها، وتفاعلها الداخلي، وعلاقاتها بحاضره، وإمكانات تأثيرها في المستقبل علي النحو الذي يصح أن يسمي وعيا تاريخيا. لقد كان وعي الماضي علي هذا النحو لدي العربي الجاهلي قبيل الإسلام معدوما.
نعم، لقد كان ثمة وميض من الشعور بالماضي لدي العربي الجاهلي.
كانت الذاكرة تحمل صورا غامضة، هلامية الشكل ومشوهة لهذا الماضي ناشئة من القصص التي كانت تسمي الأيام، ومن العناية بالأنساب. لقد كانت الأيام والأنساب كما البعد التاريخي للإنسان العربي.
إن هذا الوميض من الشعور بالماضي لا يرقي، بالتأكيد، إلي أن يكون وعيا تاريخيا بالمعني الذي نفهمه الآن.
فقصص الأيام نادرا ما تملئها الأحداث الكبري ذات الشأن السياسي والإنساني وهو ما يعطي التاريخ حقيقته ومعناه. وغالب أحداثها يتكون من معارك صغيرة بين مجموعات قبلية، ويعطيها الخيال الشعري والنصوص الشعرية المرافقة لها وهجا وحجما غير واقعيين.
كما أنها تفقد عنصر الترابط فيما بينها، ولا تأخذ في جميع الأحوال بنظر الاعتبار عنصر السببية، ولا تقوم بينها علاقات داخلية.
وهي خالية من عنصر الزمن، وخلوها من عنصر الزمن ليس ناشئا من إهمال، بل ناشئ من عدم إدراك العربي الجاهلي لعامل الزمن التاريخي كما أشرنا آنفا.
(٨٨)

صفحه 067

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٩
وكانت قصص الأيام في حلقات السمر التي تعقد أمام الأخبية والخيام للتسلية والمتعة، وللمفاخرة في بعض الحالات. ولم تكن تتداول كمادة علمية. والرأي الراجح أنها لم تدون علي الإطلاق.
والأنساب وإن كانت تدل علي شعور بالماضي من خلال وعي الانتماء إلي الآباء الذين تشتمل علي ذكرهم شجرة النسب القبلية، إلا أن علمنا بأن شجرات الأنساب كانت تقتصر علي مجرد ذكر الأسماء فقط دون أن تحتوي علي أية مادة تاريخية، علمنا بهذا الوضع لشجرات الأنساب التي كانت تتداول عن طريق الروايات الشفوية يجعل قيمتها كمصدر لتكوين الوعي التاريخي معدومة.
ومن المؤكد أن شجرات الأنساب في العصر الجاهلي لم تعرف أي شكل من أشكال التدوين ليتيح فرصة إضافة مادة تاريخية إليها. ولم تدون شجرات الأنساب في كتب إلا في عصر إسلامي متأخر نسبيا.
ويظهر لنا هذا الوميض من الشعور بالماضي لدي العربي الجاهلي في الشعور الذي يصور مواقف أخلاقية للشاعر في مجالات الحرب، والكرم، والوفاء، وما إلي ذلك، حيث تدفع الشاعر خشيته من (أحاديث الغد) التي تعكس مسلكية غير نبيلة إلي أن يجعل سلوكه منسجما مع قيم النبالة كما تقضي بها أخلاقيات المجتمع الجاهلي فيكون وفيا، وشجاعا حتي الموت، وكريما …
هذا الشعور يمكن أن يكون نواة للوعي التاريخي، ولكنه لا يرقي، بطبيعة الحال، إلي أن يكون وعيا تاريخيا بالمعني الذي حددناه آنفا. إنه وعي ناشئ عن قيم أخلاقية بدوية الطابع، وليس عن وجود تاريخ يستوعبه الشعور والوجدان، وهو مقصور علي حالات فردية لم تبلغ أن تكون وعيا عاما. وهو شعور بالخشية من تصرف شخصي أو موقف شخصي قد يدفع الآخرين إلي إدانته، وليس شعورا بإنجازات الآخرين وتفاعلا معها.
* كان هذا حال العربي الجاهلي
(٨٩)
مفاتيح البحث: الموت (1)، الحرب (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 068

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٠
ولكن الحال تغير بعد ظهور الإسلام تغيرا كاملا.
إن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد كشفا للعربي تدريجا عن عمقه في الزمان باعتباره مسلما. وغدا القرآن والسنة يغذيان علي مهل وعي المسلم بعمقه التاريخي من خلال القصص التي تؤرخ للأمم الماضية، وأنبيائها، ومواقفها منهم باعتبارهم أنبياء، وحالات ازدهارها، وانحطاطها، وفنائها.
ومن خلال هذا الوعي أدرك المسلم أنه بإسلامه، وجهاده اليومي - بالسيف والكلمة - في داخل الجماعة الإسلامية التي تبني نفسها بعين الله وعلي يد رسول الله، وفي مواجهة المشركين … أدرك بوضوح كامل أنه بعمله اليومي هذا يصنع تاريخا موصولا بما وعاه من تاريخ الأمم الماضية كما تعلمه من الكتاب والسنة. وهكذا وجد الوعي التاريخ لدي الإنسان المسلم.
* وللتاريخ وظيفة تتعدي شعورنا بالاستمرار والديمومة. وهذه الوظيفة تربوية أخلاقية.
لا يعني هذا أن التاريخ يتحول إلي مادة وعظية فقط، فإن البحث والنقد غرضان من أغراض التاريخ بلا شك، ولكن الوظيفة النهائية بعدهما هي، كما قلنا، تربوية أخلاقية.
وهذه الوظيفة تستمد معالمها وطبيعتها من طبيعة النهج الذي تسلكه الأمة في بناء نفسها، ومن طبيعة الدور الذي تعد نفسها للقيام به في محيطها الإقليمي أو علي المستوي العالمي، ولذا نري أن كل أمة ذات نهج فكري مميز لشخصيتها تجعل التاريخ مادة بانية لهذا النهج الذي ارتضته.
وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أن يحرف التاريخ ليكون أداة دعائية وسياسية. إن الأمانة للحقيقة يجب أن تكون دائما مرعية، وإنما يعني أن التاريخ ليس مادة ترف فكري وتسلية. إنه مادة شديدة الخطورة إذا تولي استعمالها في الشأن العام رجال لا يقيمون للأخلاق وزنا ولا تحركهم روح رسالية، وأجهزة كذلك … رجال وأجهزة يحركهم التعصب والغرور القومي والعنصري … في هذه الحالة قد يوجه التاريخ
(٩٠)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (2)، الجماعة (1)

صفحه 069

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩١
ليكون مبررا نظريا وعاملا نفسيا لدي الجماهير يخدم الطغيان والاتجاهات العدوانية لدي السياسيين ورجال الحرب ضد أمة أخري، وفي هذه الحالة يعرض التاريخ للتزوير والتحريف.
والتاريخ حافل بأمثلة عن تسخير التاريخ لغايات غير أخلاقية وغير رسالية في العصور القديمة وفي العصر الحديث.
وللتاريخ في الإسلام - انطلاقا من هذا الفهم - وظيفة تتصل بطبيعة الإنسان المسلم وطبيعة المجتمع الإسلامي.
إن الإنسان المسلم إنسان أخلاقي يعتنق رسالة عالمية، والمجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي وذو رسالة عالمية.
وإذن فالتاريخ ينبغي أن يخدم الرسالية والأخلاقية في علاقات المسلم الداخلية والخارجية، كما ينبغي أن يخدم الرسالة والروح الرسالية في العالم.
وكلما حدث في سلوك المسلم أو سلوك الجماعة الإسلامية انحراف عن الأخلاقية أو انحراف عن الروح الرسالية في ممارسة الحياة والتعامل مع الآخرين فإن التاريخ يستعمل، إلي جانب الوسائل التربوية الأخري والتنظيمية لتصحيح النظرة الخاطئة، وتقويم مسار الفرد والمجتمع.
والقرآن الكريم حافل بالشواهد علي هذه الحقيقة نذكر منها شاهدا مميزا لأنه يتضمن تعبيرا غدا مصطلحا إسلاميا في الشأن التاريخي، هو مصطلح أيام الله الذي يعني الأحداث الكبري في تاريخ كل أمة سواء أكانت نجاحات كبري وانتصارات باهرة أو نكبات عظمي وانهيارات مأساوية.
وقد ورد هذا التعبير (أيام الله) في القرآن الكريم مرة واحدة فقط، ذلك في سياق الآيات الكريمة التي تضمنت بيان تربية وتوجيه نبي الله موسي بن عمران سلام الله عليه لبني إسرائيل وهدايتهم إلي الإيمان الصحيح، ورفع مستوي إدراكهم من حالة الجهالة والبدائية والمادية إلي المستوي الإيماني - الحضاري. قال الله تعالي:
ولقد أرسلنا موسي بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلي النور، وذكرهم بأيام الله. إن
(٩١)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (2)، موسي بن عمران (1)، الكرم، الكرامة (1)، الحرب (1)، الجماعة (1)، الشهادة (1)، العصر (بعد الظهر) (1)

صفحه 070

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٢
في ذلك لآيات لكل صبار شكور 1.
وورد ذكر هذا المصطلح في نهج البلاغة في موضعين:
أحدهما في كلام للإمام عند تلاوته قوله تعالي (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله … ) 2 قال في وصفهم:
… وما برح لله.. عباد ناجاهم 3 في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا: بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة، يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه … 5.
وثانيهما في كتاب له إلي عامله علي مكة قثم بن العباس 6، قال فيه:
أما بعد، فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله 7.
* من هذا المنطلق، وعلي هذا الأساس كان الإمام عليه السلام يتعامل في توجيهه الفكري، وفي وعظه، وفي تعليمه وتوجيهه السياسي مع التاريخ، وكان يوجه المسلمين أبي أن يعوا التاريخ علي هذا الأساس، وأن يتعاملوا مع التاريخ من هذا المنطلق الذي يخدم الأخلاقية والرسالية.
ولعل الخطبة القاصعة 8 أفضل مثال علي طريقة تعامل الإمام علي مع التاريخ بهدف التربية وتقويم سلوك المجتمع أخلاقيا، وتوعيته بمسؤوليته الرسالية، وسندرس في
(1) سورة إبراهيم (مكية - 14) الآية: 5.
(2) سورة النورة (مدنية - 24) الآية: 36 و 37.
(3) ناجاهم: خاطبهم بالإلهام.
(4) استصبح: أضاء مصباحه.
(5) نهج البلاغة: رقم النص 222.
(6) قثم بن العباس بن عبد المطلب. كان من مساعدي الإمام علي (ع) في تجهيز رسول الله (ص) ودفنه، وهو آخر من خرج من القبر الشريف، ولاه أمير المؤمنين علي مكة، فلم يزل واليا عليها إلي أن استشهد الإمام، واستشهد قثم بسمرقند، كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية، وقبره في سمرقند مشهور. وقد زرناه أثناء مشاركتنا في المؤتمر الديني.
(7) نهج البلاغة: (باب الكتب) رقم النص 67.
(8) الخطبة القاصعة رقمها في نهج البلاغة: 192.
(٩٢)
مفاتيح البحث: مدينة مكة المكرمة (2)، كتاب نهج البلاغة (4)، قثم بن العباس (1)، الحج (1)، التجارة (1)، البيع (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (2)، الخليفة عثمان بن عفان (1)، العباس بن عبد المطلب (1)، سورة ابراهيم (1)، الشهادة (1)، القبر (1)

صفحه 071

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٣
فصل آت جوانب من هذه الخطبة.
ويمكن أن نكون فكرة مقاربة للحقيقة عن جهود الإمام الفكرية في حقل التوعية بالتاريخ إذا لاحظنا أن الكثير مما ورد في نهج البلاغة - وهو قليل من كثير من كلام الإمام وخطبه - إن لم يكن أكثر ما ورد في كلامه في النهج من المواد التالية (و. ع.
ظ / ح. ذ. ر / ز. ج. ر / ع. ب. ر) … كان الإمام قد خاطب به الناس في حالات شتي وأزمان شتي، موجها تفكيرهم نحو التاريخ بهدف التربية وتقويم السلوك الفردي والاجتماعي في شؤون الحياة عامة من روحية واجتماعية وسياسية. ولا يختص ما روي عنه في هذا الشأن بالوعظ وحده كما ربما يتوهم البعض.
ومن أمثلة ما أشرنا إليه آنفا قوله عليه السلام في مواضع من نهج البلاغة:
وعظتم بمن كان قبلكم … فاتعظوا عباد الله بالصبر النوافع …
واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا ان تكونوا أمثالهم … واتعظوا فيها بالذين قالوا (من أشد منا قوة) 1.
إلي أمثال هذه العبارات التي ورد كثير منها في خطبه وكتبه.
فقد كان الامام يقاتل بكل سلاح نزعه الشر والانحراف وتيار الفتنة التي بدأت تجتاح المجتمع الإسلامي. وكانت توعية المجتمع بالتاريخ أحد هذه الأسلحة.
(1) سورة فصلت (مكية - 41) الآية 15: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا: من أشد منا قوة …
(٩٣)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (2)، القتل (1)، سورة فصلت (1)

صفحه 072

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٥
3 - التاريخ يعيد نفسه هل يعيد التاريخ نفسه؟
من البديهي أن التاريخ لا يعود مرة أخري إلي ساحة الحاضر أو المستقبل، إذا أردنا من هذه القضية عودة تفاصيله وجزئيات أحداثه، فالأحداث ليست أشياء مجردة تقع في الفراغ دون أن تكون لها صلة بالبشر، وإنما الأحداث بما هي صنع البشر تحمل السمات الشخصية الخاصة لصانعيها: تحمل طابع مصالحهم الآنية، وأمزجتهم وعواطفهم، وأخلاقياتهم وطريقة فهمهم للحياة … وقد تنعدم هذه السمات الشخصية المميزة مع أصحابها، ولن تعود علي الإطلاق. وإذن، فالتاريخ بهذا المعني لا يعود ولا يتكرر.
إن ما حدث في الماضي قد حدث مرة واحدة، ولن يحدث مرة أخري، لن يتكرر، علي الإطلاق.
أما إذا أردنا من هذه القضية عودة نمط الحركة التاريخية ومظاهره العامة وآثارها النفسية والاجتماعية في المجتمع فإن التاريخ يعود بالتأكيد حين تتوفر في الحاضر … في نسيجه الاجتماعي وعلاقاته الإنسانية الأسباب الموضوعية التي أدت إلي نشوء نمط الحركة التاريخية في الماضي.
إن الإنسان هو الإنسان في كل زمان.
إنه يتحرك في الزمان والمكان مدفوعا - فردا وجماعة ومجتمعا - بمصالحه وعلاقاته وعواطفه، والعقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والروحية إذا تأصلت فيه وتعمقت في وجدانه وكيفت نظرته إلي الكون والحياة والإنسان فإنها تكون قادرة علي
(٩٥)
مفاتيح البحث: الجماعة (1)

صفحه 073

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٦
أن تدخل تغييرا عميقا علي عواطفه ومصالحه وعلاقاته في المجتمع والعالم، ومن ثم فإنها تكون قادرة علي تغيير تاريخه ونقله إلي مسار جديد، ما دامت لا تواجه عقبات تشل فاعليتها وتأثيرها.
أما إذا فشلت العقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والروحية في إدخال التغيير المناسب لها علي تكوين الإنسان النفسي وعلي تقديره لمصالحه، لأنها لم تتأصل في أعماقه ولم تغير نظرته إلي الكون والحياة والإنسان، فإن تاريخه في هذه الحالة سيتكرر.
إن هذا التاريخ الجديد لن يحمل نفس السمات والخصائص الماضية في الغالب، ولكنه يحمل نفس الروح، ويخلف في المجتمع نفس الآثار التي كانت في الماضي تحمل أسماء جديدة وتقدم نفسها بمبررات جديدة لا تعدو أن تكون مجرد قشرة خادعة يستطيع المؤرخ الباحث أن يكتشف ما وراءها فيتجاوزها إلي العمق ليجد الواقع القديم تحت الأشكال الجديدة 1.
* في أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي بعد أن بويع بالخلافة في المدينة نري أنه قد لاحظ عودة الأشكال القديمة للانقسامات القبلية والفئوية داخل المجتمع العربي الجاهلي إلي المجتمع الإسلامي في عهد عثمان وبعد مقتله بكل ما كانت تحتويه هذه الأشكال من روح قبلية وعنصرية، وأخلاقيات جاهلية رجعية.
وقد كانت عودة هذه الأشكال القديمة حاملة مضمونها الرجعي نتيجة لضمور المثل العليا والقيم المؤثرة في حركة التاريخ الإسلامي، ونتيجة لضعف مؤسسة الخلافة في عهد عثمان، هذا الضعف الذي مكن القوي القديمة والقيم القديمة - التي لم تكن قد ماتت بعد، وإنما كانت تعاني من حالة خمود وضمور - مكنها من أن تستعيد فاعليتها، وتعود إلي التأثير في حركة التاريخ تحت شعارات مناسبة تنسجم مع الإسلام في
(1) من الظواهر الهامة التي نقدر أنها تستحق من المفكرين والمؤرخين بحثا معمقا، ظاهرة الانقسامات الإقليمية في العالم العربي، فإننا نقدر أنها تعبير جديد عن القبلية، تحت أسماء جديدة وبمبررات تلائم المناخ الثقافي الحاضر والوعي السياسي السائد. ونقدر أن فشل فكرة الوحدة العربية لا يرجع فقط إلي عمل الإستعمار التخريبي وإنما نشأ من وجود استعداد للتشرذم أعان الإستعمار علي رسم سياساته وإنجاحها في هذا المجال ولولا ذلك لما وفق الإستعمار إلي بلوغ غايته.
(٩٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، القتل (1)، الجهل (1)

صفحه 074

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٧
الشكل الخارجي.
لقد عادت إلي الظهور والفاعلية تلك القيم والمثل الجاهلية القديمة التي كانت تقود حركة التاريخ في المجتمع العربي وترسم ملامح هذا المجتمع وتوجه خطاه قبل بعثة الرسول الأكرم وانتصار الإسلام.
وقد رأي أمير المؤمنين علي هذه القيم البائدة العائدة من خلال رصده للظواهر الجديدة التي تبدو في حركة الجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وحركة القيادات التي توجه هذه الجماعات سرا وعلانية.
وقد رأي مع ذلك الأفاعيل التي ستنجم عن هذه الحركة الرجعية للتاريخ في الإسلام، والمآسي الكبري التي ستنزل بالمسلم فردا وجماعة ومجتمعا ودولة ومؤسسات نتيجة لانبعاث هذه الروح الشريرة من جديد.
قال عليه السلام:
ذمتي بما أقول رهينة 1 وأنا به زعيم 2. إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات 3 حجزته التقوي عن تقحم الشبهات 4، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها 5 يوم بعث الله نبيه صلي الله عليه وسلم.
والذي بعثه بالحق لتبلبلن 6 بلبلة، ولتغربلن 7 غربلة، ولتساطن سوط القدر 8 حتي يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم … 9.
(١) رهينة: من الرهن. جعل ذمته رهنا علي ما يقول.
(٢) زعيم: كفيل بصدق ما يقول.
(٣) العبر: ما أصاب الناس من مثلات عقوبات إذا دعاها الإنسان علي سبيل الاعتبار، فيتعظ بتجربة الذين أصابتهم العقوبات من قبله.
(4) الشبهات: الأفعال والمواقف الغامضة التي لم يبت في الشرع الرخصة في فعلها.
يريد أن العبرة بالماضين تحجر الإنسان عن الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء.
(5) رجعت البلية كما كانت في الماضي الجاهلي.
(6) البلبلة: الإختلاط، كناية عن الأزمات الاجتماعية والثورات.
(7) الغربلة: من الغربال: يريد أن التجارب الآتية ستميز المواقف، وتكشف الأشخاص علي حقيقتهم.
(8) السوط: الخلط - سوط القدر: كما تمزج مواد الطبخ في القدر، وتختلط وتغلي سيكون المجتمع نتيجة للثورات والأزمات الاجتماعية.
(9) نهج البلاغة - رقم الخطبة 16.
(٩٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الكرم، الكرامة (1)، الجهل (1)، البعث، الإنبعاث (1)، الجماعة (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الرهان (1)

صفحه 075

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٨
يقول لهم: إن البلية (الفساد الاجتماعي، والانحطاط الأخلاقي والحضاري) التي كانت تسم الحياة العربية في الجاهلية نتيجة لسيادة قيم الجاهلية ونظرة الجاهلية إلي الكون والحياة والإنسان - هذه البلية قد عادت كما كانت عشية بعثة الرسول الأكرم (ص) لأن القيم التي ولدت هذه البلية في الماضي الجاهلي قد دبت فيها الحياة من جديد علي حساب القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام، هذه القيم التي تقلص نفوذها وتأثيرها، بسبب عوامل متنوعة، علي الإنسان المسلم، وأدي ذلك إلي حدوث ثغرات نفذت منها القيم القديمة فعادت من جديد.
ثم أنذر الإمام علي مجتمعه بأن هذه البلية التي عادت ستكون لها آثار مأساوية علي المجتمع الإسلامي.
ستنجم عن هذه البلية الأزمات الاجتماعية والثورات التي ستلقي بالمجتمع في غمار حروب أهلية مدمرة، ولا بد أن تكون هذه الأزمات والحروب الأهلية أضرس، وأعم شرا، وأشد فتكا مما كان يحدث في الجاهلية.
ستكون في المجتمع نتيجة لعودة هذه البلية بلبلة (اختلاط وتداخل) وشد وجذب ينتج عن الأزمات والثورات ويولدها.
وسيكون حال المجتمع - نتيجة لهذه البلية العائدة - حال القدر التي تغلي علي النار وتختلط فيها المواد، ولا يستقر علي حال، ولا ينعم بالطمأنينة، وإنما هو في قلق دائم، واضطراب مستمر.
سيؤدي ذلك إلي الغربلة، وتمييز مواقف الرجال والجماعات، لأن المحن والأزمات تفرز الفئات الاجتماعية، وتحدد سماتها.
ولكن كل ما سيحدث لن يتضمن شيئا من الخير، بل سيعود علي المجتمع بالشرور، وسيؤدي بالمجتمع إلي التمزق الذي يشل الفاعلية، ويعطل الطاقات الإيجابية، بل يهددها، ويعوق حركة التقدم.
ستكون جاهلية تتغشي بشعارات الإسلام، جاهلية بعثتها القيم الجاهلية التي عادت إلي الحياة، فكانت هي، بدل القيم الإسلامية الجديدة، الأسباب الموضوعية
(٩٨)
مفاتيح البحث: الجهل (7)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 076

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٩٩
لتحريك الإنسان المسلم في الزمان والمكان.
هكذا يصور الإمام عودة التاريخ.
* وفي خطبة أخري خطبها الإمام بذي قار 1 وهو في طريقه من المدينة إلي البصرة بعد أن خرج عليه الزبير بن العوام وطلحة بن خويلد وأم المؤمنين عائشة فاتحين بخروجهم أبواب الفتنة التي عصفت بالمسلمين، والحرب الأهلية التي مزقت وحدتهم … هذه الفتنة التي ولدتها القيم الجاهلية التي تنبأ الإمام بها في خطبته الأولي … في هذه الخطبة بين الإمام عليه السلام أن مسيره لمواجهة المظهر الأول للفتنة هو كمسيره مع رسول الله (ص) لمواجهة قوي الجاهلية، وأن الروح المحركة واحدة في الحالين رغم اختلاف المظهر الخارجي الذي قد يوحي للساذجين بخلاف ذلك، ولكنه لا يخدع الخبير.
قال عليه السلام:
… أما والله إن كنت لفي ساقتها 2 حتي تولت بحذافيرها 3 ما عجزت ولا جبنت. وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن 4 الباطل حتي يخرج الحق من جنبه. مالي ولقريش!! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم 5.
كان الإمام يتحدث عن شأن الجاهلية في مواجهة الإسلام، وعن كفاحه مع رسول الله (ص) ضد الجاهلية. ثم بين أن مسيره هذا إلي البصرة لمثل ما كان يكافحه من مظاهر عناد الجاهلية في حياة رسول الله (ص).
إن التاريخ قد عاد، ولكن تحت شعارات جديدة.
(1) ذو قار: موضع قريب من البصرة. اشتهر في التاريخ باعتباره الميدان الذي جرت فيه، أول ظهور الإسلام، في سنة 610 م معركة بين الفرس والعرب حيث هاجم ثلاثة آلاف عربي من قبيلة بكر بن وائل المنطقة الفراتية، وهزموا الفرس هزيمة حاسمة في ذي قار.
(2) الساقة: مؤخرة الجيش التي تسوقه. شبه الجاهلية بجيش مهزوم يطرده ويلاحقه.
(3) ولت بحذافيرها: ذهبت وطردت بأسرها (الجاهلية).
(4) النقب: الثقب.
(5) نهج البلاغة: رقم الخطبة 33.
(٩٩)
مفاتيح البحث: أمهات المؤمنين، ازواج النبي (ص) (1)، حياة النبي (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الزبير بن العوام (1)، مدينة البصرة (3)، الباطل، الإبطال (1)، الجهل (6)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 077

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٠
قال ابن أبي الحديد في شرح هذا النص:
وشبه عليه السلام أمر الجاهلية أما بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مقبلة للحرب، فقال:
إني طردتها، فولت بين يدي، ولم أزل في ساقتها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي، حتي تولت بأسرها، ولم يبق منها شئ، ما عجزت عنها، ولا جبنت منها.
ثم قال: وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن الباطل، كأنه قد جعل الباطل كشئ قد اشتمل علي الحق واحتوي عليه، وصار الحق في طيه، كالشئ الكامن المستتر فيه، فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلي أن يخرج الحق من جنبه 1.
وهكذا يصور الإمام عودة التاريخ حين تنشط الأسباب القديمة التي أنتجت الأحداث والمواقف القديمة، فتؤدي إلي تكرار المواقف والاتجاهات ولكن تحت شعارات جديدة تتناسب مع الثقافة السائدة في المجتمع.
وثمة نصوص أخري، غير ما ذكرنا، منثورة في نهج البلاغة، تتضمن الدلالة علي هذه الحقيقة.
(1) ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة - الطبعة الأولي: 1378 هجري = 1959 م / ج 2. ص 185 - 186.
(١٠٠)
مفاتيح البحث: إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، كتاب نهج البلاغة (1)، الباطل، الإبطال (3)، الجهل (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)

صفحه 078

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠١
4 - مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم مصارع القرون تعبير استعمله الإمام في إحدي خطبه فقال واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم 1. ويريد به الأمم الماضية أو الأجيال الماضية، فالقرن في اللغة جماعة الناس في عصر واحد 2. فالإمام في هذا التعبير يوجه الأفكار نحو التأمل في مصائر الأمم والشعوب، وكيف ولماذا تضعف وتتفسخ ويصيبها الانحطاط والتخلف؟.
ويتساءل الإمام في خطبة أخري - ربما تكون آخر خطبة، أو في أواخر كلامه في حشد عام 3 - عن مصير الدول والشعوب القديمة، فيقول مخاطبا أصحابه:
… وإن لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، وأطفأوا سنن المرسلين 4، وأحيوا
(1) نهج البلاغة: رقم الخطبة 161.
(2) وردت هذه الكلمة كثيرا في الكتاب الكريم في سور مكية ومدنية، والمراد بها، علي الظاهر، هذا المعني. وورد له في كلام بعض أهل اللغة تفسير زماني، فقيل: القرن مدة أغلب أعمار الناس، وهو سبعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: ثلاثون سنة. وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم، قل زمانه أو كثر - وهذا التفسير الأخير يلحظ معني حضاريا للكلمة.
(3) قال الشريف في نهج البلاغة: روي عن نوف البكالي، قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي (ع) بالكوفة، وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكأن جبينه ثفنة بعير، فقال عليه السلام … قال: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد رحمه الله في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم علي أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلي صفين، فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.
(4) ورد ذكر هؤلاء في الكتاب الكريم مرتين: في سورة الفرقان (مكية - 25) الآية 38 وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وفي سورة ق (مكية - 50) الآية 12 كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود. والرس في اللغة: البئر المطوية بالحجارة، والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود - أو لقوم بعد ثمود - أرسل الله إليهم رسولا فكذبوه فأهلكهم الله. وقيل أن الرس اسم نهر كان هؤلاء علي شاطئه.
(١٠١)
مفاتيح البحث: القتل (1)، الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، أبو أيوب الأنصاري (1)، مدينة الكوفة (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، ابن ملجم المرادي لعنه الله (1)، جعدة بن هبيرة (1)، سورة الفرقان (1)، نوف البكالي (1)، قيس بن سعد (1)، سورة ق (1)، الكذب، التكذيب (1)، الكرم، الكرامة (2)

صفحه 079

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٢
سنن الجبارين؟ أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن؟ 1.
* لقد كان الوضع الداخلي لمجتمع الإمام أثناء حكمه العاصف يقتضيه أن يستعين بالتاريخ ليواجه ما كان يتردي فيه هذا المجتمع - في العراق بوجه خاص - من انقسامات قبلية، ومواقف عنصرية، وتسلط لرؤساء المجموعات القبلية علي قبائلهم، وافتتان كثير من النابهين في المجتمع والقياديين في المجموعات القبلية بالسخاء الذي كانوا يتسامعون به عن معاوية بالنسبة إلي أنصاره السياسيين … وكان يري ببصيرته النافذة أن هذه الطريق تؤدي بالمجتمع إلي الكارثة: ستنهكه النزاعات الداخلية، وتخلخل بنيانه وتذهب بتماسكه، وتدفع بقياداته إلي خيانة مجتمعها والارتماء في أحضان الحكم الأموي الاستبدادي في سوريا، وتفقد العراق دوره القيادي في دولة الخلافة، فتجعله تابعا صغيرا للشام.
وكان الإمام علي يواجه هذا الخطر بشتي الأساليب، وعلي مختلف المستويات.
ومن الأساليب التي استعملها علي المستوي الشعبي أسلوب التنظير بالتاريخ لحال مجتمعه، عاملا علي أن يكون لدي الناس العاديين وعيا تاريخيا، ورؤية للحاضر واقعية تدرك ما فيه من خطورة وإحساسا بمخاطر الممارسات التي تسود المجتمع … كل ذلك لأجل أن يبعث في نفوسهم وعقولهم الحذر والتبصر حين تعرض عليهم خيارات سببت للأمم الماضية نكبات أضعفتها أو حطمتها.
ومن الأمور الهامة التي يجب التنبيه عليها أن الإمام في تصويره لانحطاط الأمم ومصارع القرون لا يرد ذلك إلي أسباب غيبية، وإنما يعرض أسبابا موضوعية لهذا الانحطاط كما سنري.
(1) نهج البلاغة: رقم الخطبة 182.
(١٠٢)
مفاتيح البحث: دولة العراق (2)، البعث، الإنبعاث (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 080

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٣
وأفضل الأمثلة التي يحتويها نهج البلاغة في موضوعنا هو الخطبة المسماة القاصعة 1 وهو يعرض فيها الآفات التي تعرض مجتمع العراق للخطر، ويذكر النظائر التاريخية لذلك عارضا أسباب الانحطاط.
* عالج الإمام في هذه الخطبة آفة شديدة الخطورة كانت تتعاظم وتستفحل في مجتمع العراق في ذلك الحين. تلك هي آفة الصراع الداخلي الذي كان يمزق وحدة المجتمع العراقي ويشل فاعليته وينعكس بآثاره السيئة وتفاعلاته المشؤومة علي سائر دولة الخلافة.
وقد كان هذا الصراع يبدو للمراقب بوجوه متنوعة:
1 - الصراع القبلي:
فقد نشطت الروح القبلية والقيم القبلية، وعادت إلي الظهور فارضة منطقها في رسم خريطة العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع، وكان ظهور الروح القبلية نتيجة لجملة من الأخطاء التي ارتكبت في عهد إدارة الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
وكانت أخطاء في السياسة، وفي الإدارة، وفي التنظيم الاقتصادي، وفي التوجيه الثقافي العام.
ويبدو أن هذه الروح القبلية قد سببت تخريبا واسع النطاق داخل المجتمع العراقي، ونرجح أن معاوية بن أبي سفيان كان يستغلها للإمعان في تصديع وحدة مجتمع العراق.
ويبدا أن هذه الروح القبلية التي كان يذكيها أصحاب المصالح الخاصة
(1) قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمة:
يجوز أن تسمي هذه الخطبة القاصعة من قولهم: قصعت الناقة بجرتها، وهو أن تردها إلي جوفها أو تخرجها من جوفها لتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلي آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة. ويجوز أن تسمي القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمي القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه، وسكنه.
شرح نهج البلاغة - ج 13 / ص 128.
(١٠٣)
مفاتيح البحث: الخليفة عثمان بن عفان (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، دولة العراق (5)، كتاب نهج البلاغة (1)، الوسعة (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)

صفحه 081

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٤
قد أفلحت إلي حد بعيد في تمزيق وحدة المجتمع، وإشاعة روح الشك والضغينة بين فئاته السياسية، وداخل كل فئة أيضا. يصور لنا ذلك نص في إحدي خطب الإمام يحذر ويؤنب فيه مجتمعه، قال:
قد اصطلحتم علي الغل فيما بينكم 1 ونبت المرعي علي دفنكم 2. وتصافيتم علي حب الآمال. وتعاديتم في كسب الأموال. لقد استهام بكم الخبث 3، وتاه بكم الغرور 4، والله المستعان علي نفسي وأنفسكم 5.
وقد روي ابن أبي الحديد في شرحه علي نهج البلاغة ما يصور التخريب والتمزيق اللذين كانت تحدثهما هذه الروح القبلية، قال:
وقيل أن أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخري، فينادي باسم قبيلته: يا للنخع! مثلا، أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة وإثارة الشر، فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر عليها، فينادون: يا لتميم! ويا لربيعة! ويقبلون إلي ذلك الصائح فيضربونه، فيمضي إلي قبيلته فيستصرخها، فتسل السيوف وتثور الفتن، ولا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض 6.
وما لا يري ابن أبي الحديد له أصلا نري له أصلا في دسائس معاوية أو عملائه الذين نقدر أنهم يشجعون أمثال هذه الممارسات القبلية، ويمدونها بمزيد من أسباب
(١) الغل: الحقد، اتفقتم علي تمكين الحقد في نفوسكم.
(٢) الدفن: جمع دفنة، ما يتجمد ويتلبد من الضابط وردت الماشية، ينبت عليه العشب ونبتت المرعي عليه: استر بظواهر النفاق الاجتماعي فيبدو ظاهره سليما أخضر وواقعه بشع منفر. شهروا أحقادهم التي يسترونها بالنفاق فيما بينهم بهذه القذارة التي يسترها العشب فتبدو جملة تخدع بظاهرها وهي في الواقع قذرة نجسة.
(٣) استهام بكم: تعلق بكم الشيطان فأغواكم.
(٤) الغرور: ما يسبب الإنخداع.
(٥) نهج البلاغة - رقم الخطبة - ١٣٣.
(٦) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ١٦٧ - 168.
(١٠٤)
مفاتيح البحث: إبن أبي الحديد المعتزلي (3)، مدينة الكوفة (2)، كتاب نهج البلاغة (2)، الكسب (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)، الدفن (1)

صفحه 082

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٥
الإثارة والهياج ليزيدوا مجتمع العراق إنهاكا وتمزقا. وكذلك نري لها أصلا في سياسات رؤساء القبائل الذين كان نهج علي السياسي يهدد سلطانهم ونفوذهم، فكانوا يشجعون العامة والبسطاء علي أمثال هذه الممارسات ليثبتوا سلطانهم علي قبائلهم.
2 - الصراع العنصري:
لقد كان مجتمع العراق، كغيره من بلاد الإسلام في ذلك الحين، يضم مجموعات كبري من المسلمين غير العرب الذين أدي التوسع في الفتوح خارج شبه الجزيرة العربية إلي احتلال بلادهم في إيران ومستعمرات الإمبراطورية البيزنطية (مصر وسوريا، وغيرهما)، ومن ثم أدي إلي دخول كثير منهم في الإسلام.
وقد كان هؤلاء - من الناحية النظرية - يتمتعون بحقوق مساوية لحقوق المسلمين العرب كما يتحملون واجبات مساوية. لقد ضمن لهم الإسلام مركزا حقوقيا مساويا تماما للمسلمين العرب، ولكنهم كانوا من الناحية الواقعية يعانون من التمييز العنصري بسبب انطلاق الروح القبلية والعصبية العربية.
وقد ألغي الإمام علي فور تسلمه السلطة جميع مظاهر التمييز العنصري والعصبية العنصرية التي كان يعاني منها، بشكل أو بآخر، المسلمون غير العرب.
وقد أثار ذلك ردود فعل سلبية عند زعماء القبائل، فاحتجوا علي التسوية في العطاء بينهم وبين الموالي (المسلمين غير العرب)، واندفعوا ينصحون الإمام عليا قائلين:
يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس 1.
وكان هؤلاء ينظرون في نصيحتهم هذه وينطلقون في نظريتهم السياسية هذه من التجربة التي كان يقوم بها معاوية بن أبي سفيان.
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة.
(١٠٥)
مفاتيح البحث: كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، دولة ايران (1)، دولة العراق (2)، جزيرة العرب (1)، كتاب الأشراف للشيخ المفيد (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)

صفحه 083

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٦
ولكن الإمام عليا كان ينطلق في ممارسته السياسية من قاعدة أخري، فأجابهم قائلا:
أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟!! والله لا أطور 1 به ما سمر سمير 2، وما أم نجم في السماء نجما 3.
* وتشتمل الخطبة القاصعة علي عدة شواهد تدل علي أن ما كان يثير في نفس الإمام قلقا عميقا ليس الصراع القبلي المستفحل وحده، بل الصراع العنصري أيضا.
هذا الصراع بوجهيه - القبلي والعنصري - كان، بالإضافة إلي أنه آفة في ذاته، يؤدي إلي توليد آفات أخري:
1 - يعمق ويرسخ الواقع الاجتماعي القبلي والتكوين الاجتماعي القبلي للمجتمع في الثقافة العامة، والبنية النفسية للفرد، وبذلك يحول دون تطور التركيب الاجتماعي من طور القبلية التي تقسم المجتمع إلي وحدات تقوم علي علاقة الدم إلي طور التوحد علي أساس العقيدة والشريعة والمؤسسات والمصالح المشتركة، وهو يؤدي بالتالي إلي أن يكون معوقا حضاريا أيضا يجمد المجتمع في حالة التخلف علي صعيد المؤسسات والإنجازات التنظيمية.
2 - يزيد ويعزز سلطة رؤساء القبائل علي قواعدهم القبلية، فيؤثر ذلك علي فاعلية أجهزة السلطة المركزية ويضعفها.
3 - يؤثر علي تلاحم المجتمع - وهو في حالة حرب مع القوي الخارجة علي الشرعية في الشام، ومع الخوارج.
(١) أطور به: من طار يطور، بمعني: حام حول الشئ، وقاربه، يعني: لا أقارب الجور فيمن وليت عليه.
(٢) ما سمر سمير: يعني مدي الدهر.
(٣) نهج البلاغة - رقم النص ١٢٦. ما أم نجم في السماء.. يعني مدي الدهر. في هذا الموضوع راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) الطبعة الثانية، فصل (المجتمعات والطبقات الاجتماعية) وكتابنا (ثورة الحسين)، الطبعة الخامسة - ص 101 - 172.
(١٠٦)
مفاتيح البحث: الشام (1)، الخوارج (1)، الحرب (1)، الشراكة، المشاركة (1)، الثورة الحسينية (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 084

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٧
4 - يعزز إمكانات تسلل معاوية بن أبي سفيان إلي داخل التكوينات السياسية في مجتمع العراق، وهي القبائل.
* وننتقل الآن إلي عرض الشواهد من الخطبة القاصعة 1.
بين الإمام أولا أن الكبرياء من صفات الله تعالي. ومن ثم فليس للناس أن يتكبر بعضهم علي بعض.
ثم عرض، ثانيا، لكبرياء إبليس، وتعصبه ضد آدم مفتخرا بأصله، وذكر بأن كبرياء إبليس كانت كارثة عليه إذ قضت علي منزلته العالية.
ثم قرن الإمام بين كبرياء إبليس وكبرياء البشر علي بعضهم، واعتبر المتكبرين أتباعا لإبليس في هذا الخلق الذميم:
صدقه به أبناء الحمية 2، وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية، حتي إذا انقادت له الجامحة منكم 3، واستحكمت الطماعية منه فيكم - فنجمت 4 الحال من السر الخفي إلي الأمر الجلي - استفحل سلطانه عليكم 5. فأصبحتم أعظم في دينكم حرجا، وأوروي في دنياكم قدحا 7 من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألبين.
وهكذا بين لهم الإمام أن الشر والفساد الناشئين عن العصبية، والصراع الناتج منها لا يقتصر تأثيرها علي الجانب الديني والإيماني فقط، وإنما يتعدي ذلك إلي التأثير
(1) نهج البلاغة - رقم الخطبة: 192.
(2) الحمية: الأنفة والغضب.
(3) الجامحة: من جموح الفرس - أراد أن الفئة التي لم تطع إبليس وجمحت عنه عادت فأطاعته واتبعت سبيله في الكبرياء. أو أن الفئة التي جمحت عن الشرع انقادت إلي إبليس.
(4) نجم: ظهر. أي أن العصبية بعدما كانت خفية في النفوس ظهرت في ممارسات علنية.
(5) استفحل: قوي واشتد وصار فحلا.
(6) الحرج: لغة في الحرج - بفتح الراء - وهو الإثم. يريد: إنكم بطاعتكم لإبليس أصبحتم أعظم إثما في دينكم. ورواية النسخة المتداولة من النهج (فأصبح)، ولا يستقيم المعني عليها، ورواية ابن أبي الحديد في شرحه (فأصبحتم) وقد اعتمدناها لأنها أوفق بالمعني.
(7) أوري: أشد قدحا وتوليدا للنار. كناية عن تخريب دنياهم بالفتن والقلاقل.
(١٠٧)
مفاتيح البحث: معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، دولة العراق (1)، الإخفاء (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الغضب (1)

صفحه 085

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٨
علي الوضع الحياتي الدنيوي، لهذه العصبية (أوري في دنياكم قدحا) من هؤلاء الذين تخافون منهم علي امتيازاتكم المادية فتتعصبون ضدهم.
ثم أثار الإمام في أذهانهم ذكري تاريخية يعرفونها من القرآن، هي قصة ابني آدم:
ولا تكونوا كالمتكبر علي ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه سوي ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلي يوم القيامة.
ثم يعود الإمام إلي تأنيب سامعيه علي ما هم عليه من روح قبلية، وتعصب عنصري ذميم، مبينا لهم أن هذه الآفة الخطيرة الوبيلة قد ابتليت بها الأمم الماضية وذاقت مرارتها:
ألا وقد أمعنتم في البغي 1، وأفسدتم في الأرض، مصارحة لله بالمناصبة 2، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة (يقصد بالمؤمنين أولئك الذين توجه ضدهم العصبية) فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية، فإنه ملاقح الشنآن 3 ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية 4. أمرا تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكبرا تضايقت الصدور به.
ثم يوجه الأنظار بصورة مباشرة إلي القيادات التي تغذي هذه الآفة، وتؤجج نارها وهم زعماء القبائل:
ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم، الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم … فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء 5 الجاهلية. فاتقوا الله
(1) أمعنتم في البغي: بالغتم فيه، من أمعن في الأرض، أي ذهب فيها بعيدا.
(2) مصارحة لله..: أي مكاشفة يعني الإعلان بالمعاصي، وعدم التستر في شأن العصبية والتكبر الجاهلي.
(3) ملاقح جمع ملقح، وهو المصدر من لقحت: والشنآن: البغض يريد أن الكبر والفخر الجاهلي مكان البغضاء والحقد ومثارهما.
(4) منافخ الشيطان: جمع منفخ، مصدر من نفخ: يعني أن الكبر والفخر هما المكان الذي ينفخ فيه الشيطان من نفس الإنسان فيدفعها إلي الشر والجريمة.
(5) اعتزاء الجاهلية: الاعتزاء هو الانتساب، أي أنهم يفتخرون بأنسابهم وآبائهم، كقولهم: يا لفلان، أو: يا لآل فلان.
(١٠٨)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، القرآن الكريم (1)، القتل (1)، الجهل (3)

صفحه 086

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٠٩
ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، ولا لفضله عندكم حسادا، ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم 1، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق وأحلاس العقوق … 2.
ثم يعود الإمام إلي التنظير بالتاريخ، مذكرا بالنهايات الفاجعة للأمم والشعوب التي فتكت بها آفة التعصب والتناحر، مقابلا ذلك بالنهج النبوي الإنساني البعيد عن الكبر:
فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم … فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه … ولقد دخل موسي بن عمران ومعه أخوه هارون - عليهما السلام - علي فرعون وعليهما مدارع الصوف 5، وبأيديهما العصي، فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه، ودوام عزه، فقال: (ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل).
ويستمر الإمام في التنظير التاريخي، داعيا مستمعيه إلي فحص المواقف التاريخية التي مرت علي الأمم السابقة، وتجنب الاختيارات والتجارب التي أدت إلي الانحطاط والانهيار، واختيار المسلكية التي ثبت بالتجربة صلاحها:
… واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.
فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم 6. ومدت العافية به عليهم،
(1) المراد من هذه الجملة وما بعدها أن هؤلاء الزعماء يفسدون بنزعاتهم الشريرة حياتكم وإيمانكم وطهارة نفوسكم.
(2) الأحلاس: جمع حلس. وهو كساء رقيق يكون علي ظهر البعير ملازما له، فقيل لكل ملازم أمر: هو حلس ذلك الأمر. فهؤلاء المغدون من رؤساء القبائل ملازمون للعقوق والتنكر لنعم الله ولأحكام الشرع وقواعد الأخلاق.
(3) المثلات والوقائع: يقصد بهما عقوبات الله التي استحقوها نتيجة لانحرافاتهم.
(4) المثوي: المنزل. مواضع حدودهم بعد الموت علي التراب، ومصارع جنوبهم: مواقعها بعد الموت علي التراب.
(5) مدارع الصوف: جمع مدرعة - بكسر الميم - وهي كالكساء.
(6) زاحت: بعدت. وله: لأجله، يعني: الزموا كل أمر خافتهم الأعداء بسببه.
(١٠٩)
مفاتيح البحث: موسي بن عمران (1)، الإختيار، الخيار (1)، الأحكام الشرعية (1)، الموت (2)

صفحه 087

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٠
وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها 1، والتواصي بها.
واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم 2، وأوهن منتهم 3 من تضاغن القلوب 4، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي … 5.
ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما كان في تنظيره السابق يذكر الأمم بشكل عام، دون أن يخص بالذكر أمة بعينها:
… وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم: كيف كانوا في حال التمحيص 6 والبلاء. ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء 7 وأضيق أهل الدنيا حالا. اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم المرار 8، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة …
حتي إذا رأي الله سبحانه جد الصبر منهم علي الأذي في محبته 9، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم في مضايق البلاء فرجا، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما … فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة 10، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة 11، والسيوف متناحرة، والبصائر نافذة 12، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين،
(1) التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعني الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضكم بعضا علي الاتحاد والتعاون.
(2) الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد كسرت فقرته. يعني اجتنبوا كل ما أضعف الأمم السابقة وسبب لها الانحطاط.
(3) المنة: القوة، ومعني الجملة كسابقتها.
(4) تضاغن القلوب وتشاحن الصدور بمعني واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
(5) تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضا ولا يتعاونون في حالات الخطر.
(6) التمحيص: التطهير والتصفية.
(7) أجهد العباد: أكثرهم تعبا.
(8) المرار: شجر مر في الأصل، كناية عما أصابهم من العذاب والهوان علي أيدي الفراعنة.
(9) رأي الله منهم جد الصبر، أي أشد الصبر.
(10) الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الاجتماعية وتعاونها.
(11) مترادفة: متعاونة.
(12) البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير مترددة للعلم بحقيقة الموقف أو الشئ.
(١١٠)
مفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)، الخوف (1)، الهلاك (1)، الصبر (3)، العذاب، العذب (2)

صفحه 088

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١١
وملوكا علي رقاب العالمين.
فانظروا إلي ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته. وسلبهم غضارة نعمته 1، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم.
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم السلام، فما أشد اعتدال الأحوال 2 وأقرب اشتباه الأمثال.
تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم. يختارونهم عن ريف الآفاق 3، وبحر العراق 4 وخضرة الدنيا، إلي منابت الشيح ومهافي الريح 5، ونكد المعاش 6 فتركوهم عالة مساكين، إخوان دبر ووبر 7، أذل الأمم دارا، وأجدبهم قرارا، لا يأوون إلي جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلي ظل ألفة يعتمدون علي عزها، فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل 8 وأطباق جهل 9، من بنات موؤودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة.
فانظروا إلي مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملته طاعتهم، وجمع علي دعوته ألفتهم كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها. والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين 10 وفي خضرة عيشها فكهين 11 قد تربعت الأمور بهم 12 في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلي كنف عز غالب 13
(1) الغضارة: النعمة اللينة الطيبة.
(2) ما أشد اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
(3) الريف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
(4) بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: 13 / 173 أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام وما فيه من المرعي والمنتجع.
(5) يقصد البادية الخالية من الزرع والمياه والعمران.
(6) نكد المعاش: قلته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
(7) عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن. يريد أنهم كانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
(8) الأزل: الضيق والشدة، يريد بلاء شديدا شغلهم عن كل شئ.
(9) أطباق، جمع طبق. أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
(10) غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
(11) فكهين: بمعني ناعمين.
(12) تربعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمكان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السياسية والمعيشية.
(13) آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والكنف: الجانب.
(١١١)
مفاتيح البحث: دولة العراق (3)، اللبس (1)، الجهل (2)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، نهر الفرات (1)، الشام (1)، الإقامة (1)

صفحه 089

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٢
وتعطفت الأمور عليهم في ذري ملك ثابت 1 فهم حكام علي العالمين، وملوك في أطراف الأرضين. يملكون الأمور علي من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة 2 …
وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه 3، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه وتهاونا ببطشه، ويأسا من بأسه فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي 4.
(١) تعطفت.. كناية عن السعادة والإقبال، يقال: تعطف الدهر علي فلان، أي أقبل حظه وسعادته، والذري الأعالي، جمع ذروة، كناية عن عزهم وقوتهم وامتناعهم.
(٢) لا تغمز.. لا تقرع.. مثل يضرب لمن لا يجترأ عليه لعزته وقوته.
(٣) الأمثال هي ما ورد في القرآن بما قصه الله تعالي من أحوال الأمم القديمة وكيف نزلت بها الكوارث نتيجة لممارساتها المنحرفة.
(4) التناهي مصدر تناهي القوم عن كذا، أي نهي بعضهم بعضا. يقول: لعن الله الماضين من قبلكم لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية. وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالي في شأن بني إسرائيل (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) سورة المائدة / 79.
(١١٢)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (1)، الجهل (1)، سورة المائدة (1)، القرآن الكريم (1)، الضرب (1)

صفحه 090

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٣
5 - المعروف والمنكر والأكثرية الصامتة من فرائض الإسلام الكبري فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة في عدة نصوص دالة علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علي جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي 1.
كما وردت نصوص أخري كثيرة في الكتاب والسنة، منها ما يشتمل علي بيان الشروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة علي المسلم. ومنها ما يضئ الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه الفريضة، كما يوضح المبدأ الفكري الإسلامي العام الذي ينبثق منه هذا التشريع، دل علي وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالي:
ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أولئك هم المفلحون 2.
فقد دلت هذه الآية علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة دلالة لام الأمر في ولتكن علي الوجوب.
(١) من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أصول الفقه تقسيمه إلي واجب عيني وواجب كفائي. ويعنون بالواجب العيني ما يتعلق بكل مكلف ولا يسقط عن أحد من المكلفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الكفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أي مكلف كان، فهو يجب علي جميع المكلفين ولكن يكتفي بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا تركه جميع المكلفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشريعة منها تجهيز الميت والصلاة عليه، ومنها الحرف والصناعات والمهن التي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة الناس ومنها الاجتهاد في الشريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) سورة آل عمران (مدنية - 3) الآية: 104.
(١١٣)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (3)، الامر بالمعروف (2)، الكرم، الكرامة (2)، النهي (2)، الوجوب (4)، أصول الفقه (1)، سورة آل عمران (1)، الوقوف (1)، الصّلاة (1)

صفحه 091

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٤
كما أن ظاهرها أن الواجب هنا كفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلق بأن تكون في المسلمين أمة تأمر وتنهي، لا بجميعهم علي نحو العينية الاستغراقية وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقية المكلفين كما هو الشأن في الواجب الكفائي.
ولم يحدد في القرآن والسنة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمة، فيراعي في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.
وقد جعل الله تعالي في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلي ذلك، من صفات المؤمنين الصالحين، فقال تعالي:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم 1.
فقد دلت الآية المباركة علي تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبر والتقوي، وأنهم جميعا من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.
وسياق الآية الكريمة دال علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من حيث أن بقية ما ورد في الآية كله من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصلاة، والزكاة، وطاعة الله ورسوله) 2، وإن لم تكن الدلالة السياقية من الدلالات التي لها حجية في استظهار الأحكام الشرعية.
وكما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات - كأفراد - في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخري مدح المسلمين كافة - كأمة ومجتمع - من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلك هي قوله تعالي:
(1) سورة التوبة (مدنية - 9) الآية: 71.
(2) ربما يكون المراد من طاعة الله ورسوله، بعد ذكر الأمر والنهي والصلاة والزكاة - الطاعة في الشأن السياسي، فلا يكون من ذكر العام بعد الخاص.
(١١٤)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الأحكام الشرعية (1)، القرآن الكريم (1)، الكرم، الكرامة (2)، الزكاة (1)، النهي (2)، الصّلاة (2)، الوجوب (1)، سورة البراءة (1)

صفحه 092

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٥
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله 1.
وقد مدح الله في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السابقين قبل بعثة النبي محمد (ص) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، مما يكشف عن أنها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغه، وأنها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التشريعية التي جاء بها أنبياء الله تعالي جيلا بعد جيل. قال تعالي:
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين 2.
* وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدي هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدائمة.
وقد تناولها في خطبه وكلامه - كما تعكس لنا ذلك النماذج التي اشتمل عليها نهج البلاغة - من زوايا كثيرة:
تناولها كقضية فكرية لا بد أن توعي لتغني الشخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمة والأفراد إلي العمل.
ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.
* لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شك، بين سائر الفرائض الشرعية، فجعلها إحدي شعب الجهاد الأربع:
.. والجهاد منها - من دعائم الإيمان - علي أربع شعب: علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهي عن المنكر أرغم أنوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضي ما عليه، ومن
(1) سورة آل عمران (مدنية - 3) الآية: 110.
(2) سورة آل عمران (مدنية - 3) الآية: 113 - 114.
(١١٥)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (3)، النهي عن المنكر (2)، مبعث النبي صلي الله عليه وآله (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، أهل الكتاب (2)، التصديق (1)، الكرم، الكرامة (1)، النهي (1)، سورة آل عمران (2)

صفحه 093

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٦
شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة 1.
وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر، تتقدم علي أعمال البر كلها، فقال:
… وما أعمال البر كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة 2 في بحر لجي … 3.
ومن السهل علينا أن نفهم الوجه في تقدم هذه الفريضة علي غيرها إذا لاحظنا أن أعمال البر تأتي في الرتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي - الشرعي والأخلاقي - وأن الجهاد لا يكون ناجعا إلا إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدني للالتزام المسلكي بهما.
* في بعض كلماته بين الإمام جانبا من الأسباب الموجبة لهذا التشريع، فقال:
فرض الله … والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء 4.
فعامة الناس الذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات لأنهم لا يعرفونها علي وجهها أو يجهلونها، يمكنهم الأمر بالمعروف من التعلم والتفقه، بالإضافة إلي أولئك الذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردهم الأمر بالمعروف إلي جادة الصواب والاستقامة، كما يرد إليها السفهاء الذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود الله.
* وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدني إلي الأعلي، فهي
(1) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 31.
(2) النفثة - كالنفخة لفظا ومعني بزيادة ما يمازج النفس من الريق عند النفخ.
(3) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 374.
(4) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 252.
(١١٦)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الامر بالمعروف (3)، النهي عن المنكر (2)، يوم القيامة (1)، سبيل الله (1)، كتاب نهج البلاغة (3)

صفحه 094

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٧
فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة، وللأوضاع المختلفة. فرب إنسان تنفع في ردعه الكلمة، ورب إنسان لا ينفع في شأنه إلا العنف.
ولكل حالة طريقة أمرها ونهيها التي يقدرها الآمر والناهي العارف، ويتصرف بقدرها فلا يتجاوزها إلي ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحط بها إلي ما دونها حيث لا يؤثر ذلك في ردع السفيه عن غيه وحمله علي الاستقامة والصلاح.
وثمة حالات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلي أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاكم العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدا لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا بها دون قيادة حاكم شرعي عادل.
وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتدرج صاعدة من الإنكار بالقلب إلي الإنكار باللسان إلي الإنكار باليد، وللإنكار باللسان درجات، وللإنكار باليد درجات …
وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك …
فإن الحالات الكبري التي لا بد فيها من تدخل الحاكم العادل والأمة كلها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بد فيها من الإنكار بالقلب واللسان وأقصي حالات الإنكار باليد - أعني القتال.
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السلام، متمثلا تارة في ناكثي البيعة الذين خرجوا علي الشرعية واعتدوا علي مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسني في عودتهم إلي الطاعة واضطروه إلي أن يخوض ضدهم معركة الجمل في البصرة. أو المتمردين علي الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الذي رفض جميع الصيغ السياسية التي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلي الشرعية. أو المارقين الخوارج علي الشرعية والذين رفضوا كل عروض السلام التي قدمت لهم، وأصروا علي الفتنة ومارسوا الإرهاب ضد الفلاحين والآمنين والأطفال والنساء …
(١١٧)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، مدينة البصرة (2)، الشام (1)، الخوارج (1)، النهي (2)، القتل (2)، الجواز (1)، الحاجة، الإحتياج (1)

صفحه 095

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٨
في هذه الحالات وأمثالها علي المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه، وأن يدينه علنا بلسانه، وأن ينخرط في أي حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضي الأمر ذلك.
قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف الناس الذين كان يقودهم من المنكر المبدئي الخطير الذي كان يهدد المجتمع الإسلامي كله في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه:
فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير. ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة.
ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء 1.
ونلاحظ أن الإمام سمي التارك، في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ميت الأحياء ونفهم صدي هذا الوصف إذا لاحظنا أن إنسانا لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أي استجابة، حتي أقل الاستجابات شأنا وأهونها تأثيرا، وأقلها مؤونة وهي الإنكار بالقلب الذي يقتضيه مقاطعة المنكر واعتزال أهله - أن إنسانا كهذا بمنزلة الجثة التي لا تستجيب لأي مثير، لأنها خالية من الحياة التي تشعر وتستجيب.
ويقول عبد الرحمان بن أبي ليلي الفقيه، وهو ممن قاتل مع الإمام في صفين، أن الإمام كان يقول لهم حين لقوا أهل الشام:
أيها المؤمنون. إنه من رأي عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعي إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه. ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلي فذلك الذي أصاب سبيل الهدي وقام علي الطريق، ونور في قلبه اليقين 2.
(1) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 374.
(2) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 373.
(١١٨)
مفاتيح البحث: النهي عن المنكر (1)، عبد الرحمان بن أبي ليلي (1)، الشام (1)، الظلم (1)، القتل (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 096

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١١٩
ونلاحظ هنا أن الإمام وضع للإنكار بالسيف - وهو أقصي مراتب الإنكار باليد - شرطا، هو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله لا العصبية العائلية أو العنصرية، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن الإمام عليه السلام صرح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة علي القيام بها من حيث أنها قد تؤدي إلي الجرح والقتل.
* ويقدر الإمام أن كثيرا من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير فلا يأمرون بالمعروف تاركه ولا ينهون عن المنكر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلك إلي الإضرار بهم: أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الاجتماعية للاهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للانقطاع … وما إلي ذلك من شؤون.
وقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر والنهي عن المنكر عدم ترتب ضرر معتد به علي الآمر والناهي.
ولكن كثيرا من الناس لا يريدون أن يمسهم أي أذي أو كدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلو لا يمكن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعه كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فهو إنسان يستبد به القلق لأي انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلي أن يتصدي للانحراف بالشكل المناسب، وهو الذي قال فيه الامام في النص السابق المستكمل لخصال الخير.
لقد نبه الإمام - في موضعين من نهج البلاغة علي أن التخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذي ناشئ عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسه الذي يشله فيحول بينه وبين الحركة المباركة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدي خطبه، وقد كانوا بحاجة إلي هذا التوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورط فيه كثير منهم من فتنة الجمل:
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه، وإنهما لا يقربان من
(١١٩)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)، النهي عن المنكر (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، مدينة البصرة (1)، النهي (1)، الوجوب (1)

صفحه 097

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٠
أجل، ولا ينقصان من رزق 1.
ونوجه النظر إلي قوله عليه السلام أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله عز وجل، فالله هو الآمر بكل معروف، والناهي عن كل منكر، وإذن، فإن المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل - حين يأمر وينهي - لله تعالي ويتبع سبيله الأقوم.
وقال الإمام في موقف آخر:
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق 2.
* قلنا إن إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدي هواجس المجتمع الدائمة، وإحدي الطاقات الفكرية الحية المحركة للمجتمع كان من شواغل الإمام الدائمة.
وكان يحمله علي ذلك عاملان:
أحدهما أنه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن أعظم واجباته شأنا أن يراقب أمته، ويعلمها ما جهلت، ويعمق وعيها مما علمت، ويجعل الشريعة حية في ضمير الأمة وفي حياتها.
وثانيهما هو قضيته الشخصية في معاناته لمشاكل مجتمعه الداخلية والخارجية في قضايا السياسة والفكر.
فقد كان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمكن علاجها والتغلب عليها إلا بأن يجعل كل فرد بالغ في المجتمع - والنخبة من المجتمع بوجه خاص - من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في كل موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.
لقد شكا الإمام كثيرا من النخبة في مجتمعه، وأدان هذه النخبة بأنها نخبة فاسدة
(1) نهج البلاغة - رقم الخطبة 156.
(2) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص 374.
(١٢٠)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)، النهي عن المنكر (1)، الحاجة، الإحتياج (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 098

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢١
في الغالب لأنها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنما تخلت عن هذه القضية سعيا وراء آمال شخصية وغير أخلاقية …
أكثر من هذا: لقد اتهم الإمام هذه النخبة مرارا بأنها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الذي لا مبرر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذ يئس الإمام من التأثير الفعال في هذه النخبة فقد توجه بشكواه رأسا إلي عامة الشعب محاولا أن يحركه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة، موجها وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذرا له من تطلعات نخبته.
نجد هذا التوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهرا في الخطبة القاصعة التي تضمنت ألوانا من التحذير، النابض بالغضب، من السقوط في حبائل النخبة.
وكانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فيما يبدو - والتراخي أو اللامبالاة التي تظهرها النخبة نحو هذه القضية - إحدي أشد القضايا إلحاحا علي ذهن الإمام وأكثرها خطورة في وعيه.
وكان أسلوب التنظير بالتاريخ إحدي الوسائل التي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفكري لهذه الفريضة.
لقد كانت شكواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع بوجه خاص.
ولا بد أن هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام مرارا كثيرة مثل الشكوي التالية التي قالها في أثناء كلام له عن صفة من يتصدي للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:
إلي الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا. ليس فيهم سلعة أبور 1 من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلي ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر 2.
(١) أبور - علي وزن أفعل - من البور، الفاسد، بار الشئ أي فسد، وبارت السلعة أي كسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا: أن العمل الحق بالقرآن كاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.
(2) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 17.
(١٢١)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)، الشكوي (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، القرآن الكريم (1)، الإنفاق (1)

صفحه 099

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٢
كان النهج الذي سار عليه الإمام في حكمه نهج الإسلام الذي يستجيب لحاجات عامة الناس في الكرامة، والرخاء، والحرية.
وكان هذا النهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الذين اعتادوا علي الاستماع بجملة من الامتيازات في العهد السابق علي خلافة أمير المؤمنين علي (ع).
وقد كان لهذه الطبقة ذات الامتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتي الأساليب دون تسلم الإمام للسلطة في الفرص التي مرت بعد وفاة رسول الله (ص)، وبعد وفاة أبي بكر، وبعد وفاة عمر، ولكنه بعد وفاة عثمان تسلم السلطة علي كراهية منه لها، وعلي كراهية من النخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأكثرية الساحقة من المسلمين في شتي حواضر الإسلام شل قدرة النخبة المالية وطبقة الأعيان علي التأثير في سير الأحداث، فتكيفت مع الوضع الجديد الذي وضع الإمام عليا - بعد انتظار طويل - علي رأس السلطة الفعلية في دولة الخلافة.
وقد كشفت الأحداث التي ولدت فيما بعد عن أن هذا التكيف كان مرحليا، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة ما - لتأمين مصالحها وامتيازاتها.
وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمكان التأثير علي الإمام وتبددت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييرا ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراكزها القديمة، ويبوئها مراكز جديدة ويمدها بالمزيد من القوة والسلطات علي القبائل والموالي من سكان المدن والأرياف … حين يئست هذه الطبقة من كل هذا وانقطع أملها.. طمع كثير من أفراد هذه الطبقة بتطلعاته إلي الشام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التعامل مع أمثالهم ما يتفق مع فهمهم ومصالحهم … وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسكرية في مواجهة النشاط العسكري المتزايد الذي قام به الخارجون عن الشرعية في الشام، هذا النشاط الذي اتخذ في النهاية طابع الغارات السريعة وحروب العصابات.
وكان تخاذلا لا يمكن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شك علي الإطلاق.
ولا يمكن تبريره بقلتهم، فقد كانت الأمة قادرة علي أن تزود حكومتها الشرعية
(١٢٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي (1)، الشام (2)، الكرم، الكرامة (1)، الوفاة (4)

صفحه 100

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٣
بجيوش جرارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح التي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.
ولا يمكن تبريره بنقص في التسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السلاح نشطة لتأمين احتياطي ضخم من السلاح لمجتمع كان لا يزال محاربا.
ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الاقتصادية، فقد كان المال العام وفيرا بعد أن أصلحت الإدارة المالية في خلافة الإمام.
لم يكن إذن ثمة سبب للتخاذل سوي الموقف السياسي غير المعلن الذي صممت النخبة من الأعيان وزعماء القبائل علي التمسك به والتصرف في القضايا العامة وفقا له، إلي النهاية، وذلك بهدف تفريغ حكومة الإمام علي من قوة السلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفر الوسائل الضرورية لها، وهذا ما يؤدي في النهاية إلي انتصار التمرد علي الشرعية.
كان هذا الموقف السياسي غير المعلن هو سبب التخاذل.
وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأن هذه النخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمة أن يكتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.
وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصا كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوما قاسيا مرا علي تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدفاع عن الشرعية، ولا شك أن الإمام في آخر عهده كان مضطرا للإكثار من هذا اللوم والتقريع، كقوله في إحدي خطبه:
ألا وإني قد دعوتكم إلي قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم 1 إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم 2،
(1) عقر دارهم: أصل دراهم، والعقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، كأنه أصل المال.
(2) تواكلتم: من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كل واحد علي الآخر.
(١٢٣)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (1)، القتل (1)، الحرب (1)

صفحه 101

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٤
حتي شنت 1 عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان …
فيا عجبا! عجبا والله يميت القلب، ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم، وتفرقكم عن حقكم! فقبحا لكم وترحا 2 حين صرتم غرضا يرمي:
يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصي الله وترضون.
فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر 3، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر 4 … كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر.
يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال 5 لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرت ندما وأعقبت سدما 6.
قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا 7 وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتي لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وهأنذا قد ذرفت 8 علي الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع 9.
* بهذه المرارة، وبهذا الغضب، وبهذه السخرية، وبهذا الاحتقار كان الإمام يواجه هذه النخبة التي تخاذلت عن القيام بواجبها، أو خانت قضية شعبها.
ويبدو أن هذه الطبقة - أو فريقا منها - كانت تحاول، سترا لمواقفها التي عمل
(1) شنت الغارات: فرقت، أي نشبت الحروب الصغيرة في أماكن متعددة (حرب العصابات).
(2) دعاء عليهم بالخزي والسوء: القبح، والترح.
(3) حمارة القيظ: شدة حره. ويسبخ عنا الحر: بمعني يخف، ويلطف الهواء.
(4) صبارة الشتاء: بتشديد الراء - شدة برد الشتاء. وهذه هي الأعذار التي كانوا يبررون بها تخاذلهم ويلوذون بها دون كشف موقفهم السياسي الذي بيناه.
(5) الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالستور، والثياب، والأسرة.
(6) السدم: الحزن والغيظ.
(7) النغب: جمع نغبة: وهي الجرعة، والتهمام: الهمم، أنفاسا: جرعة بعد جرعة.
(8) ذرفت: زدت علي الستين.
(9) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 27.
(١٢٤)
مفاتيح البحث: إماتة القلب (1)، كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي (2)، الغضب (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الحزن (1)

صفحه 102

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٥
الإمام علي فضحها، أن تتظاهر في بعض الحالات بالغيرة والحمية الدينية، فتتخذ مواقف لفظية آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر دون أن تترجم ذلك إلي أفعال وممارسة عملية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين ممن يسترون خياناتهم وأنانيتهم، وحرصهم علي المتاع الدنيوي بالمواقف الأخلاقية اللفظية.
ولكن الإمام عليا كان يعرف هؤلاء، ومن السهل معرفتهم في كل زمان، وكان يفضح هذه المواقف المنافية بقسوة، لأنها تضيف إلي جريمة الخيانة السياسية رذيلة النفاق والتمويه علي بسطاء الناس، فيقول مبصرا مجتمعه بفساد العلاقات الناشئ من فساد النخبة:
… وهل خلقتم إلا في حثالة 1 لا تلتقي إلا بذمهم الشفتان، استصغارا لقدرهم، وذهابا عن ذكرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ظهر الفساد فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر. أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته.
لعن الله الآمرين بالمعرف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به 2.
* وإذا كانت مصلحة الحكم المستبد الطبقي أو الفئوي تقضي بأن يصمت الشعب ولا يرتفع منه صوت اعتراض أو احتجاج، أو إدانة مهما أصابه من مظالم، ومهما حل بحقوقه من انتهاكات، فإن مصلحة الحكم الشعبي الملتزم بالمصالح الحقيقية للناس العاديين البسطاء هي علي العكس من ذلك … إن مصلحة هذا الحكم الذي يستمد فاعليته وقوته من مجموع الشعب هي في أن يتكلم الناس في الشأن السياسي مؤيدين أو منتقدين لحماية مصالحهم الحقيقية في مواجهة البني العليا في المجتمع التي تتبع سياسات مضادة لمصالح مجموع الشعب علي المدي القريب أو البعيد، والتي تعمل
(1) الحثالة: الردئ من كل شئ.
(2) نهج البلاغة - الخطبة رقم 129.
(١٢٥)
مفاتيح البحث: العزّة (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 103

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٦
باستمرار لتكوين حالات اجتماعية، ومشاغل واهتمامات فكرية تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهرية 1 وتقعد بها عن مساعدة الحكم الشعبي الذي يمثل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البني العليا في أن تؤلب بعض فئات الشعب - نتيجة للتضليل - ضد هذا الحكم.
وسكوت الشعب في حالة النشاط المعادي الذي تقوم به البني العليا، أو عدم مبالاته، بترك الساحة خالية أمام هذه القوي لتفسد علي الحكم الشعبي سياساته المستقبلية دون أن تخشي عقابا، لأن الحكم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلك القوي وهو أعزل، وهذا يمنعها من التغلب عليه أو من تجاوزه. وهذا ما كان يحدث في كثير من الحالات في عهد الإمام عليه السلام، وكان يثير غضبه علي النخبة لفسادها، ويحمله علي كشف عيوبها أمام أعين الناس.
لقد كان الإمام عليه السلام حريصا أشد الحرص علي أن يحرك الجماهير ويدفع بها دوما إلي أن تعبر عن رأيها، وتعلن عن مواقفها.
وتعكس لنا النصوص إدراك الإمام العميق للأهمية الكبري والحاسمة التي تبينها هذه المسألة في عمله السياسي، وذلك في مظهرين:
الأول:
كثرة المناسبات التي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنوع الأساليب التي شرحه بها. وهذا أمر ملفت للنظر بالنسبة إلي حكم شرعي ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية ويعتبره الفقهاء من الأحكام القطعية الضرورية، إن هذا الاهتمام المستمر علي مسألة الأمر والنهي يكشف عن أن الإمام كان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحكم الشرعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخ عن القيام
(1) في المؤتمر الذي عقده الخليفة عثمان بن عفان، عند تعاظم موجة الإحتجاج والتذمر - وجمع الولاة والعمال الكبار - لمعالجة الموقف المتفجر بالغضب والنقمة علي سياسة الدولة - كان اقتراح عبد الله بن عامر، حاكم ولاية البصرة أن تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة ليشغل الجنود بمشاكل حياتهم اليومية عن النشاط السياسي - ومن المؤسف أن هذا الاقتراح هو الذي تم العمل به فأدي إلي الفتنة الكبري.
(١٢٦)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الأحكام الشرعية (2)، القرآن الكريم (1)، النهي (2)، الغلّ (1)، الخليفة عثمان بن عفان (1)، عبد الله بن عامر (1)، مدينة البصرة (1)

صفحه 104

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٧
بهذه الفريضة الإسلامية علي وجهها، وهذه الغفلة وهذا التراخي حملاه علي أن يذكر المسلمين بفريضة الأمر والنهي ما استطاع.
الثاني:
عنف الأسلوب الذي عبر به الإمام عن أفكاره وعن معاناته حين كان يوجه خطاباته إلي المسلمين في هذا الموقف أو ذاك مقرعا لائما، أو مشجعا حاثا لهم علي أداء هذه الفريضة … وهو ما يكشف عن أن الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مكبوت نتيجة لما يراه في المجتمع من إهمال. وتراخ.
* وقد حث الإمام المسلمين علي الإلتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتهم العامة وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية بأساليب متنوعة، ونظر إليها من زوايا متعددة.
ومن جملة الأساليب التي اتبعها في تعليمه الفكري والسياسي بالنسبة إلي هذه الفريضة أسلوب التنظير التاريخي، فمن ذلك قوله في الخطبة القاصعة:
وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، وتهاونا ببطشه، ويأسا من بأسه، فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي 1.
نلاحظ أن الإمام عبر في هذا النص، كما في نصوص أخري - عن إنكاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاون وتراخ في امتثال فريضة الأمر والنهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرقيقة الهادئة إلي الإنذار الشديد، والتحذير من أهوال كبري مقبلة، واستعان علي تصوير ذلك بالتذكير بما حل في القرن الماضي من اللعن نتيجة لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.
(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 192.
(١٢٧)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (2)، النهي (3)، الغفلة (1)، الجهل (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 105

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٨
واللعن هنا ليس عقابا روحيا وأخرويا فقط، إنه هنا يأخذ معني سياسيا، إن اللعن هو البعد عن رحمة الله ورعايته، وهذا يعني أن الملعون يتعرض للنكبات السياسية والاجتماعية التي تؤدي به في النهاية إلي الانحطاط والانهيار.
والظاهر أن الإمام يعني بالقرن الماضي الإسرائيليين، فإن في كلامه هنا قبسا من الآية الكريمة:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون 1.
* في النص التالي اتبع الإمام أسلوب التنظير بالتاريخ أيضا في تعليمه الفكري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معيدا إلي أذهان مستمعيه قصة ثمود القرآنية، والنكبة المرعبة التي أبادتهم حين عصوا أمر الله تعالي إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح (ع).
وليس من همنا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني، وإنما نبغي الكشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفكري.
والإمام في التنظير الوارد في النص التالي يثير مسألة ذات أهمية بالغة في العمل السياسي، وهي أن حركة التاريخ تقودها دائما جماعة قليلة العدد من الناس تملك القدرة علي الحركة فتبادر إلي اتخاذ المواقف، في حين أن غيرها من الناس يكون في حالة سكون، فتكون بحركتها وقائع جديدة تحمل الناس علي قبولها، وتضع السلطة أمام أمر واقع.
وحين تكون هذه الجماعة المتحركة القليلة العدد ملتزمة بقضايا مجتمعها، عاملة في سبيل مصلحته، فإن واجب المجتمع أن يساندها ويقدم لها العون المعنوي والمادي في جهادها.
(1) سورة المائدة (مدنية - 5) الآية: 78 - 79.
(١٢٨)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الكرم، الكرامة (1)، الجماعة (1)، سورة المائدة (1)

صفحه 106

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٢٩
أما حين تعمل هذه الجماعة ضد مصالح المجتمع العليا والحقيقة - رغم ما توشي به عملها من ألوان خادعة - فإن علي المجتمع أن يتحرك ويقف في وجهها، ويلجم اندفاعها ذودا عن مصالحه.
أما سكوت المجتمع وسكونه وسلبيته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنه جريمة يرتكبها في حق نفسه، لأن الكارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحركة لا تميز بين المسببين لها وبين الساكتين عنهم. إنها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع كله، بل لعلها، في قضايا السياسة والفكر، تصيب الساكتين عنها أكثر مما تصيب المسببين لها، والذين تكمن مصلحتهم في الإنحراف والتزوير.
ومن هنا فإن ما اصطلح عليه في لغة السياسة في هذه الأيام باسم الأكثرية الصامتة، هذه الأكثرية التي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة، … هذه الأكثرية الصامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطئ علي الجريمة.
وذلك لأن الصمت في هذه الحالات ليس علامة علي البراءة والطيبة، وإنما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤولية.
وهذه السلبية التي هي في مستوي الجريمة لا تعفي من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السلطة وإنما تقوم به القوانين الاجتماعية التي تصنع الكارثة، يقوم به القدر الذي لا يميز بين الساكن والمتحرك وإنما يجرف الجميع، يقوم به الله تعالي الذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم: المتحركين بذنب المعصية، والساكتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتكبوا جرائمهم.
ولذا، فإن الأكثرية الصامتة، من هذا المنظور، لا تضم أبرياء، وإنما تضم متواطئين وجبناء، سببوا، بإيثارهم للسلامة الشخصية العاجلة، كوارث عامة مستقبلية، وجبنهم الذي يكشف عن أنانيتهم الرخيصة والذليلة يكشف عن أنهم ليسوا جيلا صالحا لأن يبني حياة مزدهرة.
إن الكوارث الاجتماعية، كالكوارث الطبيعية، تجرف في طريقها، حين تقع النبات النافع والنبات الضار، ولا تميز بينهما في الدمار.
(١٢٩)
مفاتيح البحث: الصمت (1)، الجماعة (3)

صفحه 107

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٠
قال عليه السلام:
… وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب علي الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شئ أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب يومئذ حملته، وتناساه حفظته فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو … فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدي وإن اجتمعا … 1.
وتصور الفقرة الأخيرة من هذا النص أبلغ تصوير واقع الانفصال بين الأمة وبين قيادتها الفكرية نتيجة لاغترابها الثقافي، وانفصالها - في مجال تكوين المفاهيم والتوجيه - عن أصولها الفكرية.
وهذا الاغتراب الثقافي - الحضاري الناشئ عن هجر الأصول - وليس عن التفاعل مع الآخرين - يؤدي إلي موقف في المنكر والمعروف خطير، فإن ثمة مقياسين للقيم والمثل الأخلاقية. أحدهما المقياس الموضوعي، والآخر المقياس الذاتي.
المقياس الموضوعي هو الذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعا للقيم الأخلاقية ففي مجتمع إسلامي، مثلا، يكون منبع القيم هو العقيدة والشريعة الإسلاميتان.
وكذلك الحال في مجتمع مسيحي مثلا أو بوذي.
وهذا المقياس يقضي بأن يكون المجتمع ملتزما بعقيدته وشريعته في مؤسساته ونظمه وعلاقاته بدرجة تجعله تعبيرا عن تلك العقيدة والشريعة.
والمقياس الذاتي هو الذي يجعل منبع القيم الأخلاقية شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الذي يخترع أخلاقياته وقيمه التي تكيف سلوكه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل المجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقيم خارج الذات للقيم والأخلاقيات.
(1) نهج البلاغة - الخطبة رقم 147.
(١٣٠)
مفاتيح البحث: كثرة الكذب (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 108

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣١
قال عليه السلام:
أيها الناس. إنما يجمع الناس الرضي والسخط، وانما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضي 1.
* وقد حذر الإمام بتجمعه في إحدي استبصاراته نحو المستقبل من وضعية فكرية وثقافية تودي إلي هجر الأصول الثقافية والفكرية التي تكون روح المجتمع الإسلامي وتسمه بطابعه الخاص المميز له عن سائر التجمعات الثقافية - الحضارية، وتعطيه دوره المميز والخاص في حركه التاريخ العالمي وبناء الحضارة … وتؤدي به - نتيجة لانبثاقه عن أصوله - إلي أن يكون نسخة من ثقافة أخري، ووحدة من وحدات حضارة أخري، وتغدو الأصول الثقافية التي ترجع كلها إلي الكتاب والسنة مجرد أشكال يتداولها الناس دون أن يكون لها دور في تكوين المفاهيم، وبناء الشخصية، ورسم طريق العمل.
إن المسلمين أنفسهم، يومئذ سينبذون الكتاب باعتباره مصدرا للمفاهيم الفكرية، ويتجهون نحو منابع غريبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم، يستمدون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوكي.
وننبه هنا إلي أن الاغتراب الثقافي الناشئ عن هجر الأصول - وهو ما حذر الإمام منه - غير الانفتاح الثقافي - الحضاري الذي يتولد من الطموح إلي التفاعل مع الآخرين واكتشاف صيغهم الحضارية والتعرف علي فتوحهم الفكرية مع الحفاظ علي الأصول، والأمانة للذات ومقوماتها … فهذا الانفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقد مارسه المسلمون وكانوا سادة فيه حين أنشأوا الحضارة الإسلامية العظيمة التي انفتحت علي كل الإنجازات الخيرة في الحضارات الأخري، فاكتشفوها وكيفوها وفقا لقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيات الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة والفقه.
(1) نهج البلاغة - رقم النص 201.
(١٣١)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 109

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٢
وحينئذ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرسمية وشريعته، وبين أخلاقيات وقيم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي، مثلا، أو مسيحي أو بوذي، لا بد أن نكتشف - في حالة شيوع المقياس الذاتي للقيم بين الأفراد - أن التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شكلي يرافق الإلحاد العملي.
والأثر الذي يترتب علي التزام المقياس الموضوعي للقيم في المجتمع أو المقياس الذاتي هام جدا.
أولا:
يؤدي اعتماد المقياس الموضوعي إلي نمو الفرد دون عقد وتمزقات داخلية، لأنه يوفر حالة التجانس والتكامل بين محتوي الضمير والعقل وبين التعبير السلوكي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.
أما اعتماد المقياس الذاتي فإنه يؤدي إلي خلاف ذلك، لأن اتباع المقياس الذاتي يحدث للفرد تمزقات داخلية وعقدا في نفسه، لأنه يجعله دائما في حالة تعارض وتجاذب بين الزام العقيدة والشريعة وبين رغبات الذات باعتبارها مصدرا للقيم، ويؤدي ذلك إلي انعكاسات ضارة لا تقتصر علي الأفراد، وإنما تتجاوزهم إلي المجتمع نفسه.
وثانيا:
إن المقياس الموضوعي بما يوفره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقياته من جهة ومعتقده وشريعته من جهة أخري يؤدي إلي تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع، ويكون لدي المجتمع نظرة إلي المشكلات، ويؤدي أيضا إلي تكوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التحديات التي تواجه المجتمع.
أما اعتماد المقياس الذاتي فإنه يؤدي إلي العكس من ذلك. إنه يؤدي إلي تخلخل البنية الاجتماعية، وتعدد الفئات ذات المنازع الفكرية والسياسية المختلفة، ويكون مناخا ملائما لتولد المشاكل الاجتماعية وتعاظمها، لأن المقياس الذاتي لدي الأفراد والجماعات شديد التنوع والاختلاف.
(١٣٢)
مفاتيح البحث: الوسعة (1)

صفحه 110

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٣
وهذا التشرذم يؤدي: أما إلي العجز عن اتخاذ مواقف موحدة علي الصعيد القومي أو الوطني نتيجة لتعدد الإرادات والميول، وأما إلي الاستسلام للدعاية السياسية التي يخطط لها وينفذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصة يخضع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها علي قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقية للأمة، وإنما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الذي يملك وسائل الدعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدي إلي كوارث كبري علي الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلي الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخري، حيث يعرض سلام العالم كله أو سلام قارة بكاملها لمطامح ومطامع حفنة صغيرة من الناس تكيف عقول شعوب بكاملها، دافعة بها إلي اتخاذ مواقف سياسية تناقض مصالحها الوطنية، ومصالح جميع الشعوب، وقضية فلسطين أكبر شاهد علي ما نقول.
لقد نبه الإمام عليه السلام إلي هذا الخطر، وحذر منه مجتمعه، فقال:
فيا عجبا، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق علي اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون 1 عن عيب. يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات. المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا. مفزعهم في المعضلات إلي أنفسهم وتعويلهم في المهمات علي آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يري بعري ثقات وأسباب محكمات 2.
* وأخيرا، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام علي (ع) أنه جعلها إحدي وصاياه البارزة الهامة لابنيه الإمامين الحسن والحسين.
وقد تكررت هذه الوصية مرتين. إحداهما لابنه الإمام الحسن في وصيته الجامعة
(1) ولا يعفون: أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلي دليل بين، أو شريعة واضحة. يثق كل منهم بخواطر نفسه، كأنه أخذ منها بالعروة الوثقي علي ما بها من جهل ونقص (2) نهج البلاغة - الخطبة رقم 88.
(١٣٣)
مفاتيح البحث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، الشهوة، الإشتهاء (1)، الشهادة (1)، الوصية (1)، العصر (بعد الظهر) (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الجهل (1)

صفحه 111

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٤
التي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين. والأخري في وصيته للإمامين الحسن والحسين في وصيته لهما وهو علي فراش الاستشهاد بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسيف.
قال عليه السلام في الوصية الأولي:
… وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين 1 من فعله بجهدك وجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم 2.
وقال عليه السلام في الوصية الثانية:
… أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي … وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم 3.
* سلام الله علي علي في الخالدين.
(1) باين: أي باعد وجانب.
(2) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 31.
(3) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 47.
(١٣٤)
مفاتيح البحث: الامر بالمعروف (2)، النهي عن المنكر (1)، ابن ملجم المرادي لعنه الله (1)، الضرب (1)، الوصية (2)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 112

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٧
التاريخ في مجال السياسة تمهيد السياسة لدي رجل العقيدة ورجل الدولة الحاكم القائد - وهو ما كأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أداة للتغلب علي سلبيات الماضي والحاضر من أجل التوصل إلي أوضاع حياتية أفضل في المستقبل لأكبر قدر من الناس.
والسياسة، في الوقت نفسه، أداة للمحافظة علي إيجابيات الماضي والحاضر أمام عواصف التغيير والتقلبات المفاجئة التي قد تحمل للمجتمع السياسي في ثناياها نذر كارثة.
السياسة، إذن، ليست فن التغيير فقط، إنها فن الثبات أيضا.
إن السياسي الأمين علي قضية مجتمعه، يعيش في أبعاد الزمان كلها - ماضيه وحاضره ومستقبله - ويتعامل مع حقائق الماضي، وواقع الحاضر، وآمال ومخاوف ومطامح المستقبل، يقود، بحذر لا يبلغ الجمود ومغامرة لا تبلغ التهور، مجتمعه نحو آفاق جديدة دون أن يبتر استمراريته وبعده في الماضي.
نقول هذا في مواجهة دعاة التغيير منا في عصرنا هذا، التغيير الذي يستهدف استئصال جذورنا لقذفنا في الفراغ تحت شعار: ريادة المستقبل، جاعلين منا ساحة لتجربة النظريات والأفكار التي توضع في مراكز الحضارة الحديثة في أوربا وأمريكا والاتحاد السوفياتي.
(١٣٧)
مفاتيح البحث: علي بن أبي طالب (1)

صفحه 113

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٨
نقول هذا داعين إلي إعادة النظرة في هذا النهج لمصلحة نهج آخر أقل غلوا، وأكثر واقعية، وأوثق صلة بتكويننا العقيدي والحضاري والثقافي، وأشد مواءمة لمصالحنا في الحاضر والمستقبل، وأوفق بدورنا الذي نطمح إلي استعادته لنساهم به في إنقاذ الإنسان الحديث بتقويم الحضارة الحديثة، وتصحيح مسارها نحو وضعية ملائمة لتكوين الإنسان.
* لقد كانت سياسة أمير المؤمنين علي (ع) - كما سنري وجوها منها في الفصول التالية..
محكومة بهاجس واحد كبير ونبيل: تكوين الإنسان المسلم المتكامل القوي السعيد، والمجتمع المسلم المتكامل القوي السعيد، الإنسان والمجتمع المؤهلين ليكونا قوة خيرة في العالم، يمثلان طموح الإنسانية الدائم المتوهج نحو مثل أعلي.
وقد كانت، لذلك سياسة لا تستمد مقوماتها من الحفاظ علي الذات وعلي مصالح الحاكم وأسرته، فلقد كانت أسرة أمير المؤمنين علي أكثر الناس حرمانا من خيرات حكمه، وكان هو عليه السلام أكثر حرمانا من أسرته.
وكانت سياسته تستضئ بنور الفكر، وتستهدي تعليم الله، وتنفلق من قيم الأخلاق والمناقب التي تشرف الإنسان، ولذا فقد كانت سياسة الإمام إنسانية بكل ما لهذه الكلمة من محتوي.
لم تكن أبدا سياسة الأفعال وردود الأفعال، وحسابات الأرباح والخسائر للحاكم وآله وبطانته … هذه السياسة التي تحمل روح الطيش والغريزة، وتوجه بعقلية مزيج من روح الغاية وروح التجارة.
وقد كان أمير المؤمنين علي في سياسته أمينا لعقيدته، أمينا لشريعته، فلا ينحرف عنهما أبدا، ولا يتجاوزهما - كما لا يقصر عنهما - في أمر من الأمور أو في حالة من الحالات.
أمينا لأخلاقياته القرآنية - النبوية، ولذا فقد جعل من العمل السياسي ممارسة رفيعة للمناقب، أمينا لمجتمعه، فيشركه في اتخاذ القرارات بعد أن يبصره بعواقب سوء الإختيار:
(١٣٨)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (3)

صفحه 114

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٣٩
… ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا 1 ونسبهم أهل الجهل فيه إلي حسن الحيلة. ما لهم! قاتلهم الله! قد يري الحول القلب 2 وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة 3 له في الدين 4.
وقال في موقف آخر:
والله ما معاوية بأدهي مني، ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهي الناس. ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة 5 والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا استغمز 6 بالشديدة 7.
* وبعد هذا التمهيد، كيف تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي.
(1) الكيس: الفطنة والذكاء.
(2) الحول القلب: هو البصير بتحويل الأمور وتقليبها.
(3) الحريجة: التحرج والتحرز من الآثام.
(4) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 41.
(5) حديث مروي عن النبي (ص).
(6) لا أستغمز علي البناء للمجهول - لا يستضعفني الرجل القوي. والغمز - بفتح الميم - الرجل الضعيف.
(7) نهج البلاغة - رقم النص: 200.
(١٣٩)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، يوم القيامة (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الجهل (1)

صفحه 115

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤١
1 - حركة التاريخ في مظهر التفاعل الاجتماعي الثوري البشر يتحركون دائما في الزمان والمكان: يبدعون، ويتواصلون بالتجارة والصداقة تارة، وبالعداوة والحرب تارة، وبالفكر دائما.
ويتعاملون مع الطبيعة دائما. يكيفونها ويتكيفون معها، ويحبونها ويهربون منها في بعض الأحيان.
وهم يواجهون الإخفاق وخيبات الأمل في حالات، ويسعدون بنشوة النصر في حالات أخري.
ويشلهم اليأس عن الحركة في بعض الحالات، ولكن سرعان ما يؤجح الأمل في التقدم والمستقبل الأفضل في قلوبهم جذوة الرغبة في التغيير فيعودون إلي الحركة من جديد.
وهكذا يصنع البشر تاريخهم باستمرار. ينسجونه خيطا فخيطا، ويبنونه ذرة فذرة من ملايين الآمال الصغيرة، والمخاوف الصغيرة، والأحقاد الصغيرة، والشهوات الصغيرة، التي تنكر لهم كلها وتتراكم فتتكون منها عجينة التاريخ.
ولكنها لن تكون تاريخا ما لم تأخذ قواما معينا وما لم تتشكل بهيئة معينة … ما لم تتضمن فكرة تغيير، وروح تغيير، وعزيمة تغيير، تجعل من آحاد الآمال والمخاوف والأحقاد والشهوات التي تبلغ الملايين شيئا واحدا كبيرا تنبض فيه روح واحدة تلف بوهجها كل المجتمع والجماعة، وتدفع بهم - لا في طريق الحركات الأحادية المبعثرة - في طريق حركة متدفقة هادرة، تحدوها رؤيا واحدة أو رؤي متقاربة تلتقي علي التغيير. حينئذ تنشط حركة التاريخ التي كانت هادئة أو أمينة، وتتعاظم، وتلد الأحداث الكبيرة، وتدخل المجتمع والجماعة في منعطف من التاريخ جديد.
(١٤١)
مفاتيح البحث: اليأس (1)

صفحه 116

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٢
قد يتم هذا التفاعل في حال السلم والاستقرار الاجتماعي فتكون الفترة الزمنية التي يستغرقها التغيير - بعد فترة الإعداد والاختمار - طويلة نسبيا، لأن التغيير التاريخي يتم في هذه الحالة وفقا لمعادلات السلم والاستقرار التي تجعل الإنسان أكثر أناة وتؤدة في حركته، وأكثر قدرة علي الإختيار.
وقد يتم هذا التفاعل في حال الغليان الاجتماعي والقلق العام. في هذا الحال تنشأ ظاهرتان:
الأولي - ظاهرة رفض وتمرد في الجماهير، يغذيها ويؤججها اليأس من العدالة الرسمية، وينعشها الأمل في مستقبل أفضل لهذه الجماهير يتوصل إليه دعاة التغيير.
الثانية - تقابل الأولي وتتولد منها، وهي إجراءات القمع التي تلجأ إليها السلطة الرسمية من أجل أن تضمن سيادة وثبات نظامها وقيمها.
إن هذا القمع يعزز روح اليأس والغضب، ويدفع إلي مزيد من التمرد والرفض، ويرص - بدرجة أعلي من الصلابة والتماسك - ملايين الآمال والمخاوف والأحقاد والشهوات، ويؤجج روح الغضب، ويدفع الجماهير، أكثر فأكثر، نحو العنف باتجاه التغيير.
في هذه الحالة تقصر نسبيا، الفترة الحاسمة التي يستغرقها التغيير - بعد فترة الإعداد والاختمار -.. إن الأحداث تتسارع، ويتعاظم حجمها، وتتسع مساحة الفئات الاجتماعية التي تشارك فيها، وتتصاعد إلي أن تبلغ الذروة التي ينهار عندها العهد التاريخي الذي كان سائدا، ويدخل المجتمع في منعطف من تاريخه جديد.
* إذن البشر لا يتوقفون عن صنع التأريخ، لكنهم قد يصنعون تاريخهم في حال السلم، وقد يصنعونه في حال الغليان والتوتر الاجتماعي، كما قد يصنعونه بالحرب.
وقد لاحظ الإمام علي عليه السلام حركة التاريخ في مظهرها الثاني لأن الظروف السائدة في مجتمعه كانت تدفع بهذا المجتمع نحو هذا المسار الدامي في مواجهة مستقبله المكفهر، الحافل بالأنواء.
*(١٤٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الغضب (2)، اليأس (2)، الرفض (1)

صفحه 117

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٣
لقد تسببت أخطاء الحكم في عهد الخليفة عثمان بن عفان في خيبة آمال فئات واسعة من المسلمين وغضبها. كما تسببت - إلي جانب ذلك - في انبعاث كثير من القيم والأخلاق والمطامح الجاهلية التي نشطت للعمل من خلال ممثليها ورموزها في قمة السلطة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. وقد أدي انبعاث هذه القيم الجاهلية إلي تعارض في المصالح بين ممثلي هذه القيم وبين أكثرية المسلمين الذين كانت تغتذي نفوسهم بالآمال التي تولدها قيم الإسلام في العدالة الخالصة والمساواة … هذا التعارض المأساوي الذي ما فتئت تغذيه أخطاء الحكم وسياسات الرموز الجاهلية العائدة، فتعمقه، وتزيده حدة، وتدفع به إلي مزيد من الاتساع والانتشار.
وقد تراكم كل ذلك علي مدي سنين، واتسع إلي أن شمل حواضر الدولة كلها. وأدي في النهاية إلي عاقبته الوخيمة وثمرته المرة: ثورة شارك فيها الأغنياء والفقراء، الساخطون بلا حقد والحاقدون من علية القوم. وأدت الثورة إلي مقتل الخليفة عثمان، وإلي دخول المسلمين في منعطف من تاريخهم جديد طلبوا من علي بن أبي طالب أن يقودهم فيه، ولكنه رفض طلبهم، لأنه أدرك - وهو الراعي للتاريخ وأفاعيله وآلية حركته - أن حجم الحاجات التي يفتقر إليها الناس والآمال التي تعمر قلوبهم أكبر بكثير من حجم الإمكانات التي توفرها مؤسسات الدولة، وأن حجم المعوقات التي يمثلها رموز العهد الماضي وقواه التي شلتها الثورة فاضطرت إلي الانكماش … حجم هذه المعوقات كبير وخطير، لأنها مستشرية في جميع مراكز السلطة، وقد قال لهم معلنا رفضه:
دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول 1. وإن الآفاق قد أغامت 2، والمحجة قد تنكرت 3. واعلموا أني إن أجبتكم
(1) لا تقوم له القلوب: لا تجرئ عليه. لا تثبت عليه العقول: لا تكاد تفهمه وتحققه، يومئ بذلك إلي المشكلات الاجتماعية والأزمات التي عصفت بالمجتمع كله.
(2) أغامت: حجبها الغيم، كناية عن صعوبة إيجاد الحلول المقبولة من الجميع.
(3) المحجة: الطريقة الواضحة - وتنكرت: التبس أمرها علي الناس.
(١٤٣)
مفاتيح البحث: الخليفة عثمان بن عفان (2)، علي بن أبي طالب (1)، الجهل (2)، القتل (1)، الوسعة (1)، الرفض (1)

صفحه 118

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٤
ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلي قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا، خير لكم مني أميرا 1.
وقد ذكر الإمام، فيما بعد، بموقفه هذا في مناسبات كثيرة، منها قوله في كلام له عند خروج طلحة والزبير عليه:
فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل علي أولادها 2، تقولون: البيعة البيعة!!
قبضت كفي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها 3.
ومنها قوله لطلحة والزبير أيضا:
والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة 4، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها … 5.
وقال في موقف آخر:
… وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم علي 6 تداك الإبل الهيم 7 علي حياضها يوم وردها، حتي انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير 8، وتحامل نحوها العليل، وحسرت 9 إليها الكعاب 10.
(1) نهج البلاغة - رقم النص: 92.
(2) العوذ المطافيل: الإبل والضباء ذات الأولاد، وهي جمع عائذة، ومطفل كناية عن اللهفة التي توجهوا بها إليه طالبين منه قبول بيعتهم، كما اللهفة التي تقبل بها أم الطفل علي ولدها.
(3) نهج البلاغة - رقم النص: 137.
(4) الإربة: الغرض والرغبة.
(5) نهج البلاغة - رقم النص: 205.
(6) التداك الازدحام - تصوير لحالهم في الإقبال علي البيعة.
(7) الهيم: العطاش: تصوير لرغبتهم العارمة في إنجاز البيعة.
(8) الهدج: مشي الضعيف. بيان لإقبال الجميع علي البيعة، حتي أولئك الذين لهم من سنهم العالية أو مرضهم عذر يعفيهم من مشقة التزاحم علي البيعة.
(9) الكعاب: جمع كاعبة: الفتاة ينهد ثدياها. وحسرت كشفت عن وجهها كناية عن إقبال الناس جميعا وفرحتهم بالبيعة.
(10) نهج البلاغة - رقم النص: 229.
(١٤٤)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (4)

صفحه 119

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٥
لماذا أبي علي بن أبي طالب أن يستجيب … ؟
لعله كان يأمل أن يمر المجتمع - بعد ما أصاب علاقاته من اهتزاز وتشويه في العهد الماضي - في مرحلة انتقال يقوده فيها رجال لا تتألب عليهم مراكز القوي الجديدة التي تمثل قيم الجاهلية …
ولكن تيار الرغبة كان عارما، كما تعكسه لنا النصوص الآنفة الذكر، ولم يكن من الممكن تحويل ولاء الجماهير وثقتها إلي بديل. لقد كان الرفض يعني الكارثة، لأن القوي الجاهلية كانت قادرة - إذا استمر الفراغ في السلطة - أن تعود من جديد بعد أن تكتل قواها المبعثرة، وحينئذ يحرم المجتمع الإسلامي حتي من تجربة تكون في المستقبل نموذجا وملهما …
ولا نعدم في نهج البلاغة نصوصا تضئ هذه المسألة، وتوحي بقوة أن الإمام كان يفكر علي هذا النحو، وذلك كقوله في كلام له عنونه الشريف الرضي ب … يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق:
… اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك 1.
وقوله في كتاب منه إلي أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها:
… ولكنني آسي 2 أن يلي 3 أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا 5 والصالحين حربا 6، والفاسقين حزبا … 7.
(1) نهج البلاغة - رقم النص: 131.
(2) آسي: أحزن - الماضي منه: أسيت بمعني حزنت.
(3) يلي: يكون واليا وحاكما علي الأمة.
(4) دولا: جمع دولة، يعني: لئلا يكون المال العام بأيدي السفهاء والفجار يتداولونه بينهم لمصالحهم مهملين مصالح الأمة فيه. والعبارة تومئ إلي قول الله عز وجل (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم - سورة الحشر - الآية 7).
(5) خولا: عبيد، يعني لئلا يستعبدوا الناس ويذلوهم.
(6) حربا - أعداء يحاربونهم.
(7) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 62.
(١٤٥)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (3)، علي بن أبي طالب (1)، مالك الأشتر (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)، الجهل (2)، سورة الحشر (1)

صفحه 120

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٦
وهكذا استجاب علي بن أبي طالب للرغبات الملحة المتلهفة، فقبل كارها - علي ما يبدو - أن يتولي السلطة ويقود الأمة. وقد تبلورت وتحددت باستجابته وتوليه للسلطة ثلاث قوي سياسية - فكرية، هي:
1 - النهج الإسلامي الصافي النبوي: تمثله السلطة الشرعية (الخلافة) وعلي رأسها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
والهدف الآني المباشر والملح لهذا النهج كان تصحيح الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي الذي يتطلع بلهفة إلي تغييرات تحقق آماله. كما كان هذا الهدف يستبطن هدفا آخر هو إعادة الاعتبار النظري والعملي للمفاهيم والقيم الإسلامية.
2 - النهج الجاهلي المموه بالإسلام: وقد كان هذا النهج يتمتع بسلطة واسعة وثابتة في المنطقة السورية. وكانت له جيوب في الحجاز، والعراق، ومصر، وغيرها من بلاد الإسلام.
وقد بدا منذ اللحظة الأولي أن قائد هذا النهج هو معاوية بن أبي سفيان، والهدف الآني والنهائي لهذا النهج هو تثبيت الأوضاع القديمة، وإجهاض النهج النبوي أو قمعه بإثارة المشاكل والفتن في وجهه.
إنه الثورة المضادة. إنه قطع الطريق علي حركة التغيير.
.. وقد عبر الإمام عن قادة هذا النهج بأنهم أرادوا رد الأمور علي أدبارها وذلك في كلام له عن أصحاب الجمل:
إن هؤلاء قد تمالأوا 1 علي سخطة 2 إمارتي، وسأصبر ما لم أخف علي جماعتكم، فإنهم إن تمموا علي فيالة 3 هذا الرأي انقطع نظام المسلمين، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن
(1) تمالأوا: تواطأوا واتفقوا وتعاونوا.
(2) السخطة: البغض والنعرة.
(3) فيالة الرأي: ضعفه وسخفه.
(١٤٦)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله (1)، دولة العراق (1)، علي بن أبي طالب (1)، الهدف (1)، الوسعة (1)

صفحه 121

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٧
أفاءها 1 الله عليه، فأرادوا رد الأمور علي أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله، تعالي، وسيرة رسول الله (ص)، والقيام بحقه، والنعش 2 لسنته 3.
3 - الموقف المتردد الحائر - إذا صح أن يسمي التردد موقفا -.
وتمثل هذا الموقف بعض القيادات الثانوية: (سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن عمر..
وآخرون).
هذا النهج لم يبلغ من الصفاء والوعي درجة تحمله علي أن ينضوي في النهج النبوي وكانت مصالح رجاله من جهة وأثارة من التقوي في أنفس بعضهم من جهة أخري، قد حملتا هؤلاء الرجال علي التزام جانب الحيطة والحذر من النهج الجاهلي فلم ينحازوا إليه في هذه المرحلة، وإن كان بعضهم قد والي النهج في النهاية.
هؤلاء قال عنهم الإمام (ع):
خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل 4.
ولما قال له الحارث بن حوط: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا علي ضلالة؟ قال له الإمام:
يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت 5، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.
فقال له الحارث بن حوط: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر …
فأجابه الإمام قائلا:
إن سعيدا وعبد الله بن عمر لم ينصروا الحق، ولم يخذلا الباطل 6.
(1) أفاءها الله.. أرجعها إليه، من فاء بمعني رجع.
(2) النعش، من نعش ينعش: بمعني رفع السنة إلي مقام العمل والتطبيق.
(3) نهج البلاغة - رقم النص: 169.
(4) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم: 18.
(5) حرت: من حار أي تحير.
(6) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم: 262.
(١٤٧)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، عمر بن سعد لعنه الله (1)، عبد الله بن عمر (3)، سعيد بن مالك (1)، الباطل، الإبطال (3)، الضلال (1)، كتاب نهج البلاغة (3)

صفحه 122

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٨
وكان بعض ممثلي هذا الموقف يتمتعون باحترام محدود في قواعدهم القبلية، وهذا الاحترام لم ينبع من ولاء فكري بل من ولاء قبلي، كما كانوا يتمتعون باحترام محدود من جماهير المسلمين نابع من صحبتهم للنبي (ص) ومن غموض موقفهم من الخيارات المطروحة علي الساحة السياسية.
* وقد أدرك الإمام منذ اللحظة الأولي صعوبة موقفه، فكشف للأمة عن أن حركة التاريخ قد عادت ذات نبض جاهلي، فقد عاد التاريخ السابق علي النبوة.. كما صارح الأمة بأن المواجهة مع القيم البائدة العائدة تقتضي الحكم بأن يكون قويا وصارما … كما صارحهم بأن الآمال في تغيير سريع وكامل نحو الأفضل ينبغي أن تتضامن قليلا ليتاح للسلطة الشرعية أن تواجه قوي الجاهلية بمرونة.
هذه الرؤية السياسية عبر عنها الإمام في خطبة خطبها في أول خلافته، في المدينة، أو هي - حسب رواية الجاحظ في كتابه البيان والتبيين عن أبي عبيدة معمر بن المثني - أول خطبة خطبها بالمدينة، قال فيها حسب رواية الجاحظ عن أبي عبيدة:
ألا لا يرعين مرع علي نفسه 1 شغل من الجنة والنار أمامه. ساع مجتهد ينجو، وطالب يرجو، ومقصر في النار …
اليمين والشمال مضلة، والوسطي الجادة 2 منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة. إن الله داوي هذه الأمة بدوائين: السوط والسيف، لا هوادة 3 عند الإمام فيهما. استتروا في بيوتكم 4 وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم. من أبدي صفحته للحق هلك 5 … انظروا: فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فآزروا … وقلما أدبر شئ فأقبل. ولئن رجعت
(1) لا يرعين.. أي لا يبقين، أرعيت عليه أي أبقيت: يقول: من سالم وهدأ فإنما سلم نفسه وأبقي عليها.
(2) الجادة: الطريق المستقيمة الواضحة.
(3) الهوادة: الرفق والصلح، وأصله اللين.
(4) استتروا في بيوتكم: لا يريد منع التجول كما يقولون في أيامنا، وإنما يريد النهي عن التجمعات ذات الطابع التحزبي القبائلي التي تدفع إليها العصبية القبلية كما إنه لا ينهاهم عن النقد السياسي لأنه قال (فإن أنكرتم فأنكروا).
(5) الصفحة: جانب الوجه، أو هي الوجه. يريد الإمام أن من تعرض للحق بمخالفته وتجاوزه يهلك، لأنه سيعاقب.
(١٤٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، الجهل (1)، الهلاك (2)، صلح (يوم) الحديبية (1)، المنع (1)

صفحه 123

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٤٩
إليكم أموركم إنكم لسعداء وإني لأخشي أن تكونوا في فترة، وما علينا إلا الاجتهاد … 1.
حذرهم، أولا، من إثارة القلاقل والاضطربات.
ثم أثار في عقولهم وقلوبهم عقيدة البعث واليوم الآخر.
ثم بين لهم أن الإنحراف عن منهج الكتاب والسنة إلي اليمين أو إلي الشمال يؤدي بصاحبه إلي الضلال والتيه، ولذا فإن نبض الجاهلية العائد ضلال.
ثم كشف لهم عن أن المرحلة تقتضي الحكم أن يكون صارما (السوط والسيف)، ولذا، فإن علي الناس ألا يخوضوا في أي شأن يزيد الوضع سوءا بإثارة العصبيات القبلية والنزعات العشائرية، داعيا إياهم إلي أن يكفوا ويتوبوا عما سلف منهم من إفساد.
ثم أعطاهم حق الرقابة، وطالبهم بحقه في تأييدهم ومؤازرتهم.
ثم أبدي تشاؤمه من المستقبل وشكه في عودة النهج النبوي إلي سابق قوته (قلما أدبر شئ فأقبل)، ولكنه، مع ذلك، لم يفقد الأمل في تحسن الأوضاع، (لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء).
ثم حذرهم من أن علي الآمال المشرقة في التغيير نحو الأحسن … نحو النهج النبوي الصافي، أن تضامن نفسها، وأن يعود أصحابها إلي شئ من الواقعية في تطلعاتهم: …
وإني لأخشي أن تكونوا في فترة.
قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الفترة:
الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها، كالفترة بين عيسي عليه السلام ومحمد صلي الله عليه وآله، لأنه لم يكن بينهما نبي، بخلاف المدة التي كانت بين موسي وعيسي عليهما السلام لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون. فيقول عليه السلام: إني لأخشي ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالي فيكم، فتكونوا
(١) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ١ / 275 - 276. ورواها الشريف الرضي في نهج البلاغة بتغيير بعض العبارات، انظر الخطبة رقم 176: ومن خطبة له عليه السلام في الشهادة والتقوي وقيل: إنه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته.
(١٤٩)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، النبي عيسي بن مريم عليهما السلام (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (2)، البعث، الإنبعاث (1)، الضلال (2)، الجهل (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)، القتل (1)

صفحه 124

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٠
كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلي نبي يشافههم بالشرائع والأحكام.
وكأنه عليه السلام كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه.
ثم قال: (وما علينا إلا الاجتهاد) يقول: أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين، فإن تم ما أريده فذاك، وإلا كنت قد أعذرت 1.
* إن الإمام عليه السلام قبل الحكم، إذن، بمزيج من التشاؤم والأمل، ولكن سرعان ما تسرب الذبول إلي شعلة الأمل، فإن القوي المترددة سرعان ما أخذت تنحاز رويدا رويدا نحو المعسكر المناهض للنهج النبوي، إن لم يكن في العلن ففي السر … هذا من جهة، ومن جهة أخري راحت الجماهير الغاضبة، المترعة قلوبها بآمال التغيير تضغط في سبيل التغيير دون أن تقدر ظروف المرحلة. وكان اتباع سياسة متوازنة ضرورة حيوية لئلا ينفجر المجتمع من الداخل بانحياز قوي موالية للنهج النبوي، ولكنها غير واعية وغير ناضجة، نحو معسكر الثورة المضادة.
* وهكذا، فبعد الصدمة التي شلت قوي الثورة المضادة، وبعد فترة الانتظار التي مرت بها الفئات الأخري من الأمة، تفجر الموقف من جديد، وعاد الغليان إلي المجتمع، وعادت حالة الإختلاط والاضطراب المحمومة.
وظهرت للإمام علي في هذه المرحلة التي بلغت فيها أزمة الحكم وأزمة الفكر الذروة - ظهرت له بوضوح تام موجع ومدم للقلب معالم تاريخ المستقبل للأمة الإسلامية حافلا بالأهوال والمآسي، وبكل ما فيه من ظلام ودماء، وتمزقات وانهيارات، تتخللها هنا وهناك، في بعض الأحيان، لمعات نور وحالات سلام عارضة، وآمال مضيئة ملهمة، وخيبات أمل قاسية.
لقد رأي، رأي بحدس يضيئه نور نبوي، وعقل مستوعب لحركة التاريخ وآليتها
(1) المصدر السابق: 1 / 281.
(١٥٠)

صفحه 125

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥١
التي تكاد أن تكون رياضية - رأي الفتنة آتية بكل ظلامها، وحيلها، وتلبيسها الحق بالباطل.
ورأي بعدها انتصار حركة الردة بقيمها الجاهلية، بلبسها للإسلام (لبس الفرو مقلوبا).
ورأي بعد ذلك معاناة الأمة: فسمع بقلبه الكبير أنين المظلومين الذين تسحقهم أنيابها الوحشية، ورأي بقلبه الكبير نزيف الدماء من ضحاياها، وأحس بأعمق أعماق كرامته الإنسانية ذل الإنسان المسلم في مجتمع الردة، وبكي بحرارة ومرارة لكل ما سيصيب الناس بعده.
ورأي بعد ذلك نار الثورة تحرق كل شئ، وتهدم كل شئ، تستلهم حق الناس ومرارتهم … ولكنها ثورة تقع في أخطاء الفتنة في أحيان، وفي مهاوي الردة في أحيان، وقلما تهتدي الطريق الوسطي …
ورأي أخيرا، في البعيد البعيد … بعد طول عذاب وعناء، نور الأمل الآتي في النهاية … نور الخلاص.
(١٥١)
مفاتيح البحث: الظلم (1)، الجهل (1)

صفحه 126

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٣
2 - الفتنة فتنة: تعبير قرآني يدل، حين يسند إلي الله تعالي ويصدر عنه، تارة علي الإختبار والامتحان الرباني بالنعمة، ومن هذا ما ورد في قوله تعالي:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم 1 أو يدل في موارد أخري علي الإختبار والامتحان الرباني بالمصاعب والشدائد، ومن هذا ما ورد في قوله تعالي:
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 2 وهذه الفتن ذات وظيفة تربوية تعزز صلابة المؤمنين، وترفع درجة وعيهم، وتميز عنهم الدخلاء والمنافقين.
هذا التعبير القرآني ذو المضمون التربوي الإيجابي، غدا عند الإمام علي مصطلحا سياسيا - تاريخيا ذا مدلولات متنوعة يتصل بالحركة التاريخية للمجتمعات في الحاضر وفي المستقبل.
وهو ذو مدلول سلبي بالنسبة إلي حركة التقدم النبوية.
إن الفتنة عند الإمام - باعتبارها ظاهرة سياسية - معوق لحركة التقدم، ونكسة في
(1) سورة الأنفال (مدنية - 8) الآية: 28 - ووردت آية أخري مماثلة في سورة التغابن _ مدنية - 64) الآية: 15.
(2) سورة العنكبوت (مكية - 29) الآية: 2 - 3.
(١٥٣)
مفاتيح البحث: سورة الأنفال (1)، سورة التغابن (1)، سورة العنكبوت (1)

صفحه 127

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٤
سير حركة النبوة، وهي، والحال هذه، ليست من صنع الله تعالي، وإنما هي من صنع البشر.
* قسم الإمام الفتنة إلي قسمين:
أحدهما: الفتنة بالمعني القرآني التربوي، واعتبر أن الفتنة بهذا المعني ذات دور إيجابي، بشرط أن تكون استجابة الإنسان لها بروح إيماني ملتزم، ووعي أخلاقي مسؤول، ولذا فلا معني للاستعاذة بالله من الفتنة بهذا المعني فإن ذلك سخف، لأنها تلازم طبيعة الحياة ووجود الإنسان، فلا توجد حياة مكتملة دون أن توجد معها فتنة بهذا المعني.
وثانيهما: الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسية، وهذه هي الفتنة التي يحذر منها ويستعاذ منها، وهي التي أعطاها الإمام في تعليمه الفكري مدلولاتها السياسية - التاريخية.
وسماها (مضلات الفتن).
وقد شرح الإمام ذلك بقوله:
لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل علي فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) ومعني ذلك أنه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، لأن بعضهم يحب الذكور وبكره الإناث، وبعضهم يحب تثمير المال ويكره انثلام الحال 1.
* وليس من أهداف هذه الدراسة البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحا تربويا، وإنما الهدف منها هو البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحا سياسيا - تاريخيا، فلنر فيما يأتي تقسيم الإمام لها باعتبارها ظاهرة سياسية، وتحليله لآلية حركتها: كيف تبدأ
(1) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 93.
(١٥٤)
مفاتيح البحث: الهدف (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 128

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٥
وتنمو وتنتشر، وتوجيهه في شأن الموقف الذي ينبغي اتخاذه حين تقع. ولنر دور علي في مواجهة الفتنة التي بدأت طلائعها في عهده، وأخيرا رؤيته لفتنة بني أمية بعده.
* يبدو من تحليل النصوص التي اشتمل عليها نهج البلاغة بشأن الفتنة والمقارنة بينها أن ثمة ثلاثة أنواع من الفتن:
1 - الفتنة الشاملة.
2 - الفتنة العارضة.
3 - الفتنة الغالبة.
وهذه التسميات وضعناها نحن، ولم ترد في كلمات الإمام علي، علي ضوء ما لاحظناه عن اتساع المساحة الفكرية التي تطبعها الفتنة بطابعها، وتؤثر بالتالي علي الوضعية السياسية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية داخل المجتمع.
أ - الفتنة الشاملة تكون الفتنة شاملة حين تكون نظاما فكريا يسود مجتمعا من المجتمعات ذات الحضارة أو البدوية - الرعوية، فالحضارة التي تقوم الحياة فيها علي قيم الضلال في الفكر والأخلاق والضياع، وتنبني مؤسساتها السياسية والاجتماعية علي الاعتبارات التي تنشأ من هذه القيم، وتحكم المجتمع السياسي فيها علاقات فاسدة … هذه الحضارة تكون فتنة شاملة تصل إلي كل إنسان، وتنشر ظلالها خارج حدودها. إنها الجاهلية قديمها وحديثها في ذلك سواء.
وكذا الحال فيما إذا كان نظام فكري كهذا يكون روح وعقل مجتمع بدوي - رعوي، لم يبلغ مرحلة الحضارة ذات الإنجازات في مجال التعامل مع الطبيعة والمؤسسات التنظيمية.
وقد صور الإمام عليه السلام هذه الفتنة الشاملة في حديثه عن حال العالم، والعرب بوجه خاص - قبل بعثة رسول الله (ص) قال:
(١٥٥)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، بنو أمية (1)، الجهل (1)، الضلال (1)، البعث، الإنبعاث (1)

صفحه 129

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٦
… وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور … والناس في فتن انجذم 1 فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين 2 واختلف النجر 3 وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدي خامل، والعمي شامل. عصي الرحمان، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان فانهارت دعائمه وتنكرت معالمه، ودرست سبله 4 وعفت شركه 5، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ووردوا مناهله 6، بهم سارت أعلامه وقام لواؤه، في فتن داستهم بأخفافها ووطئتهم بأظلافها 7 وقامت علي سنابكها 8، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران. نومهم سهود، وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم 9.
في هذا النص فصل الإمام علي نظرته إلي نموذج من نماذج الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسية لمجتمع ما.
والسمات التي تميز الفتنة الشاملة فيما يفيده هذا النص هي:
1 - مجتمع لا يحكمه نظام أخلاقي، وخال من الحياة الروحية السليمة. وهذا لا ينفي أن يتمتع المجتمع المذكور بنظام سياسي.
وهذه السمة يدل عليها قول الإمام انجذم فيها حبل الدين فالمجتمع منقطع الصلة بالوحي، ومن ثم فهو لا يتمتع بنظام روحي وأخلاقي.
2 - مجتمع تسيطر علي أفراده وفئاته روح الشك. ويتبع فيه - في مجال القيم - المقياس الذاتي، لأنه لا يتمتع بمقياس موضوعي نتيجة لخلوه من النظام الأخلاقي والحياة الروحية.
(1) انجذم: انقطع.
(2) السواري: جمع سارية، وهي الدعامة.
(3) النجر: الأصل.
(4) درست: انطمست.
(5) عفت شركه: عفت: انمحت، وشركه جمع شراك: الطريق.
(6) المناهل: جمع منهل، هو مورد النهر.
(7) الخف للبعير: والظلف للبقر والشاء: كالقدم للإنسان.
(8) السنابك جمع سنبك: طرف الحافر.
(9) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 2.
(١٥٦)
مفاتيح البحث: النوم (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 130

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٧
وهذه السمة الثانية يدل عليها قول الإمام في النص الآنف تزعزعت فيها سواري اليقين.
3 - مجتمع منقسم علي نفسه إلي شيع وأحزاب، تمزقه الصراعات والنزاعات وتجعله خاليا من روح التضامن والتكافل. ومن ثم فلا توجه حركته آمال متحدة وهدف أخلاقي كبير، وإنما توجهه الرغبات الفردية والفئوية بسبب عدم وجود نظام أخلاقي من جهة، وانتشار روح الشك واتباع المقياس الذاتي في القيم من جهة أخري.
وهذه السمة يدل عليها قول الإمام واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج وعمي المصدر …
هذه هي السمات التي تميز الفتنة الشاملة، وتطبع المجتمعات المفتونة بطابعها.
وما جاء من أوصاف للمجتمع في الفقرات التالية من النص الآنف هي نتائج لهذه السمات الثلاث الكبري: فقدان النظام الأخلاقي والحياة الروحية / شيوع روح الشك واتباع المقياس الذاتي في القيم / الانقسامات الطبقية والفئوية والعائلية، وعدم وجود هدف عظيم ونبيل يوجه حركة المجتمع التاريخية.
هذه هي الفتنة الشاملة.
وتسميتنا لهذه الفتنة ب (الشاملة) ناشئ من ملاحظة أنها مستوعبة لكل المجتمع بحيث لا يخلو منها أي مستوي من مستوياته وأي مظهر من مظاهر الحياة فيه، فهي روحه وعقله:
روحه الملهمة، وعقله الموجه.
ب - الفتنة العارضة الفتنة العارضة: عثرة تعترض سير المجتمع أثناء حركته التقدمية فتشيع الحيرة والالتباس في بعض المواقف، وتعرض بعض الأشخاص القياديين وبعض فئات المجتمع لاختبارات حرجة، وتحفز بعض القيم القديمة للتعبير عن نفسها، ولكن قوة اندفاع المجتمع في حركته التقدمية، وقوة المبادئ التي تحكم سيره في قلوب وعقول أفراده - تحول بين الفتنة وبين أن تنتشر وتتعمق وتضرب بجذورها في ثنايا المجتمع، فسرعان ما ينكشف وجه الحق فيها، وتذبل حركتها، ويخفت صوت الداعين إليها بين
(١٥٧)

صفحه 131

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٨
الناس، بل يغدون موضعا للنقد والتجريح، وتجف الروافد الرجعية التي تمدها بالحياة والحركة، ويتعافي المجتمع من نكسته، ويخرج من التجربة أكثر وعيا ويقظة.
وقد مرت علي المسلمين في عهد رسول الله (ص) بعض الفتن العارضة التي تجاوزوها، بتوجيه رسول الله (ص)، بنجاح، وخرجوا منها دون أن تؤثر علي حركة المجتمع الإسلامي المندفعة إلي الأمام.
ولعل أشد هذه الفتن العارضة التي واجهت المجتمع الإسلامي في عهد النبي (ص) خطورة كانت فتنة الإفك، في سنة ست للهجرة، في أعقاب غزو رسول الله (ص) والمسلمين لبني المصطلق من خزاعة.
وقبل الإفك ما حدث أثناء العودة من الغزوة المذكورة، حين أدي تزاحم علي الماء في بعض منازل الطريق بين أجير لعمر بن الخطاب من بني غفار اسمه (جهجاه)، وبين أحد حلفاء الخزرج واسمه (سنان بن وبر الجهني)، واقتتلا، فصرخ حليف الخزرج: يا معشر الأنصار وصرخ أجير عمر بن الخطاب يا معشر المهاجرين. ونشط المنافقون، وعلي رأسهم (عبد الله بن أبي سلول)، لاستغلال التوتر الذي ولده هذا النزاع البسيط بين المهاجرين والأنصار، وهدد ابن أبي سلول بأنهم إذا عادوا إلي المدينة (ليخرجن الأعز منها الأذل)، وكادت الفتنة أن تجرف كثيرين …
ولكن حكمة رسول الله (ص) قضت علي الفتنة في مهدها.
وأنزل الله في شأن هذه الفتنة الصغيرة العارضة سورة المنافقين (رقم 63 في المصحف) فضح فيها نوايا المنافقين وأساليبهم، وجعل منها درسا تربويا إيمانيا وسياسيا للمسلمين عمق وعيهم، وزاد يقظتهم، وعزز صلابتهم أمام أساليب النفاق.
أما فتنة الإفك فكانت أشد خطورة وأوسع انتشارا.
لقد كانت مرتعا خصبا للمنافقين يوهنون من خلالها مقام رسول الله (ص)، ويشوهون سمعته، ويلقون ظلالا من الريبة علي طهارة بيته، في مجتمع يقوم علي قيم صارمة فيما يتعلق بالطهارة الجنسية، بما يؤدي إليه الهمس الخفي في شأن كهذا في مجتمع كهذا من سخريات وظنون والإشاعات تضعف التأثير النفسي لتوجيهات رسول الله (ص).
(١٥٨)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (7)، المهاجرون والأنصار (1)، الخليفة عمر بن الخطاب (2)، النفاق (3)، الإخفاء (1)، الوسعة (1)، الطهارة (1)

صفحه 132

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٥٩
وما هو أشد خطورة في دس المنافقين واستغلالهم للإمكانات التي يتيحها الإفك، هو أن الفتنة أدت إلي تصدع تلاحم المسلمين أنفسهم، حيث استغل زعماء قبيلة الأوس تورط بعض أفراد قبيلة الخزرج في إشاعة الحديث عن الإفك، للتعبير عن أحقاد قبلية جاهلية تحت ستار الغيرة علي رسول الله (ص)، والتمسك بأهداب الدين.
فقال رئيس الأوس (أسيد بن حضير) مخاطبا رسول الله (ص) حين وجه عتابا رقيقا للذين روجوا الإشاعة الكاذبة، دون أن يسمي أحدا:
يا رسول الله: إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.
فقال سعد بن عبادة زعيم الخزرج رادا عليه:
كذبت لعمر الله، لا تضرب أعناقهم. أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا …
فقال أسيد بن حضير:
كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين …
وتساور الناس 1 حتي كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر 2.
وهكذا وجدت القيم الجاهلية القديمة متنفسا تعبر به عن نفسها من خلال هذه الفتنة متسترة بشعارات إسلامية.
ولكن حكمة رسول الله (ص)، ووعي المجتمع، ورسوخ المبادئ والقيم الإسلامية في نفوس النخبة حصرت الفتنة في نطاق ضيق، وحالت دون تأثير في إحداث تفاعلات سيئة بالنسبة إلي حركة التقدم النبوية. وجاء الوحي بعد ذلك فقضي علي الفتنة، حيث أنزل الله تعالي في هذا الشأن سورة النور (السورة رقم 24 في المصحف) وجعل منها درسا تربويا، ومناسبة لسن تشريعات تتعلق بالعلاقات بين الجنسين
(1) تساور الناس: قام بعضهم إلي بعض ليتقاتلوا.
(2) تراجع سيرة ابن هشام بتحقيق مصطفي السقا ورفيقيه (الطبعة الثانية) 1375 هجري = 1955 م / القسم الثاني - ص: 289 - 307.
(١٥٩)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (3)، يوم عرفة (1)، سعد بن عبادة (1)، سورة النور (1)، النفاق (2)، الجهل (1)

صفحه 133

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٠
داخل المجتمع الإسلامي، في نطاق الزوجية - من حيث العلاقات الزوجية وغيرها - وخارج الحياة الزوجية.
* هذان نموذجان للفتنة العارضة في المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله (ص) وقد واجه المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول (ص) فتنة عارضة ذات طابع سياسي محض هي فتنة السقيفة.
وقد بدأت هذه الفتنة حين تجاوز بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وصية رسول الله (ص) بإسناد الخلافة بعده إلي الإمام علي بن أبي طالب، لأنه كان الشخصية الإسلامية الوحيدة التي تجمعت فيها المواهب والمؤهلات التي جعلتها قادرة علي قيادة الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (ص).
وقد حسم النزاع علي منصب الخلافة بين المهاجرين والأنصار، في سقيفة بني ساعدة 1، بمعزل عن الإمام علي بن أبي طالب، لمصلحة قبيلة قريش، بمبايعة الخليفة الأول (أبي بكر) علي أثر مناورات سياسية استخدم فيها منطق قبلي، وكادت تؤدي إلي انشقاق خطير داخل المجتمع الإسلامي الوليد 2.
وقد كان العامل الأكبر والأبعد أثرا في التغلب علي فتنة السقيفة وآثارها الخطيرة هو موقف علي بن أبي طالب.
فقد كان الإمام علي بمؤهلاته المتفوقة بشكل مطلق علي نخبة الصحابة، وبمواهبه النادرة الفريدة، وبالنص عليه من رسول الله (ص) خليفة من بعده … كان لذلك كله رجل الشرعية الإسلامية الأصيل.
وكان هذا الوضع الحقوقي المؤاتي بالنسبة إليه يخوله حق المعارضة، ونقض القرار والإنجاز الذي اتخذ خارج الشرعية في اجتماع السقيفة، سعيا وراء حقه في تسلم السلطة.
(1) سقيفة بني ساعدة، مكان مسقوف بسعف النخل في المدينة (يثرب)، وكانت مجمع الأنصار بعد الإسلام، ودار ندوتهم لفصل القضايا وإجراء المناورات.
(2) يراجع للمؤلف: نظام الحكم والإدارة في الإسلام. كما يراجع للمؤلف أيضا: ثورة الحسين - ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية (الطبعة الخامسة) الفصل الأول.
(١٦٠)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (4)، المهاجرون والأنصار (2)، علي بن أبي طالب (3)، الخليفة أبو بكر بن أبي قحافة (1)، السقيفة (5)، الزوج، الزواج (3)، الغلّ (1)، الوصية (1)، الوفاة (2)، المدينة المنورة (1)

صفحه 134

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦١
ولكن هذا الوضع الحقوقي النظري بالنسبة إليه، كان يواجه وضعا اجتماعيا وسياسيا واقعيا.
فمن ناحية كان المجتمع الاسلامي الوليد لا يزال مجتمعا هشا من حيث التلاحم الداخلي الناشئ عن العقيدة الواحدة، لأن القيم الجاهلية كانت لا تزال سائدة في الحياة العامة للقبائل التي دخلت في الإسلام في عام الوفود قبل وفاة النبي (ص) بسنة وأشهر - أو أقل من سنة بالنسبة إلي إسلام بعض هذه القبائل - وكانت هذه القيم الجاهلية في أحسن الحالات مستكنة تحت قشرة رقيقة من الإسلام، وكان لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تذبل هذه القيم الجاهلية وتفقد حرارتها وفاعليتها.
وفي حالة كهذه كان أي عمل سياسي يتسم بطابع العنف سيؤدي في الراجح إلي تصدع خطير في بنية المجتمع الإسلامي وتماسكه، وقد يؤدي إلي ردة واسعة النطاق في أوساط حديثي العهد بالإسلام.
ومن ناحية أخري كان فريق من القبائل قد ارتد فعلا عن الإسلام، واتبع بعض أدعياء النبوة، وغدا يشكل تهديدا حقيقيا للإسلام حين انتشرت ظاهرة التنبؤ واتجه قادتها إلي تحالف يوحد قواهم، فسيطروا علي اليمن تقريبا في الجنوب، وعلي مساحات واسعة من الحجاز ونجد في الشمال.
وقد اتجه الإمام علي إلي المعارضة والاحتجاج أول الأمر. ورفض الاعتراف بالنتيجة التي أسفر عنها اجتماع السقيفة، واعتصم في منزله، وبدا بوضوح أن موقفه سيثير تفاعلات خطيرة في وجه اختيار السقيفة داخل المدينة وخارجها … ولكن الإمام عليا سرعان ما واجه الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع الإسلامي الوليد، والأخطار التي ربما تعرض لها الإسلام نفسه نتيجة لهذا الموقف.
ولو لم يكن علي بن أبي طالب رجل العقيدة الأول، ورجل الرسالة الأول، الأكثر وعيا والأعظم شعورا بالمسؤولية، لما ألقي بالا إلي الواقع السياسي والاجتماعي للإسلام، ولمضي في معارضته إلي نهايتها، مستغلا الواقع السياسي والاجتماعي في سبيل نجاح مسعاه للوصول إلي السلطة.
ولكنه كان بالفعل رجل العقيدة الأول، ورجل الرسالة الأول، وأعظم المسلمين
(١٦١)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، علي بن أبي طالب (1)، السقيفة (2)، الإختيار، الخيار (1)، الجهل (2)، الوسعة (1)، الوفاة (1)

صفحه 135

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٢
إطلاقا شعورا بالمسؤولية تجاه الإسلام، وأعظمهم حرصا علي ازدهاره وانتشاره وتعمقه في العقول والقلوب.
ومن المؤكد أن الحكم عنده لم يكن مطلبا شخصيا، بل وسيلة إلي بلوغ غاية تتجاوز الأشخاص والأجيال والمصالح الخاصة لتعم وتشمل ما بقي من عمر الدنيا، وما تضمره القرون المقبلة من أجيال في كل الأوطان وفي كل الأمم.
إن عليا، بعد رسول الله (ص) - كان أب الإسلام. وقد تصرف تصرف الأب الحريص، فتحمل بصبر جميل نبيل جراحه الشخصية وحرمانه في سبيل قضية حياته الكبري، قضية الإسلام.
ولا شك في أن جميع المسلمين كانوا يعرفون هذه الحقائق في شخصية وضمير الإمام علي، ويبدو أن منافسيه السياسيين قاموا بمغامرتهم الناجحة 1 معتمدين علي جملة معطيات من جملتها ثقتهم بأن الإمام سيقدم مصلحة الإسلام العليا علي مصالحه الخاصة.
لقد أشار الإمام في كتاب له بعث به إلي أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، إلي العامل السياسي الذي حال دون مضيه في المعارضة، فقال:
… فأمسكت يدي 2 حتي رأيت راجعة الناس 3 قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلي محق دين محمد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أري فيه ثلما 4 أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتي زاح 5 الباطل
(١) مما يوحي بشعور الجميع آنذاك بخطورة الإجراء الذي اتخذوه واشتماله علي درجة كبيرة من المغامرة قول الخليفة عمر بن الخطاب في خلافته في تحذير غير مباشر وجهه إلي طلحة والزبير وغيرهما لما نمي‌إليه عنهم من آراء تتصل بطريقة انتقال السلطة علي الأسلوب الذي تم في السقيفة (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله شرها).
(2) أمسكت يدي: توقفت عن المشاركة في الموقف الراهن.
(3) راجعة الناس: الراجعون عن الإسلام، المرتدون.
(4) ثلما: خرقا وانتهاكا.
(5) زاح: ذهب وزال.
(١٦٢)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، مالك الأشتر (1)، الباطل، الإبطال (1)، الخليفة عمر بن الخطاب (1)، السقيفة (1)

صفحه 136

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٣
وزهق 1، واطمأن الدين وتنهنه 2. 3 وقد خيب موقفه المبدئي الرسالي آمال كثيرين ممن كان إسلامهم موضع شك أو كانوا مسلمين مخلصين ولكنهم ينظرون إلي مسألة الحكم من زاوية المصالح القبلية والعائلية نتيجة لافتقارهم إلي النضج والوعي.
وقد حاول بعض هؤلاء أن يحملوه علي تغيير موقفه المبدئي الرسالي، ولكنه رفض محاولاتهم، مصرحا بأن الموقف موقف فتنة، داعيا، إلي النظر في الموقف وفقا لمقياس عقيدي إسلامي مبدئي، والابتعاد عن المنظور الجاهلي القبلي الذي بدت سماته في تلك المحاولات.
وقد صرح بذلك في مواقف كثيرة، منها قوله مخاطبا الناس حين دعاه أبو سفيان بن حرب والعباس بن عبد المطلب إلي أن يبايعا له بالخلافة:
أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة 4 وضعوا تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح.
هذا ماء آجن 5، ولقمة يغص بها آكلها. ومجتني الثمرة لغير إيناعها 6 كالزارع بغير أرضه 7.
* والسمات التي تميز الفتنة العارضة، فيما نستفيده من جملة ما ورد عن الإمام علي في هذا الشأن، ومن الدراسة التاريخية، … أربع:
1 - تتولد أزمة سياسية، قد تكون بسبب أحداث صغيرة، تكون غالبا غير مخطط لها بل عرضية، ولكن سرعان ما تدخلها بعض القوي الاجتماعية ذات الأهداف السرية
(1) زهق: مات، يعني هنا: زال الباطل تماما.
(2) تنهنه: انتعش.
(3) نهج البلاغة، باب الكتب، رقم النص: 62.
(4) عرج عن الطريق: تنحي عنها. يعني تنحوا عن الأسلوب الجاهلي في الصراع السياسي وهو المنافرة والمفاخرة.
(5) الآجن: الماء الذي تغير لونه وفسدت رائحته ولم يعد صالحا للشرب، يعني بذلك الأسلوب السياسي الجاهلي.
(6) الإيناع: النضج والصلاحية للأكل.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 5.
(١٦٣)
مفاتيح البحث: العباس بن عبد المطلب (1)، البيعة (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الباطل، الإبطال (1)، الموت (1)

صفحه 137

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٤
المخالفة لنظام المجتمع في نطاق خططها للاستفادة منها ومن تلك الأزمة السياسية، في سبيل الوصول إلي أهدافها.
وقد تتولد الأزمة السياسية بسبب أحداث ذات شأن كبير ومخطط لها - كما حدث في السقيفة - ولكن الجماعات التي تصنع الحدث لا تستثمره لأهداف مخالفة لنظام المجتمع العام والسائد، بل تكون عازمة علي الانسجام مع نظام المجتمع، ساعية إلي تعزيزه وفقا لفهمها الخاص، عاملة علي أن يكون ذلك من خلال سلطتها هي.
2 - في الحالتين الآنفتين تحرك الفتنة العارضة بعض القيم القديمة التي قضي عليها النظام الجديد، إما بسبب ضعف رقابة النظام لانشغال أجهزته بالمشكلات السياسية الآنية، أو بسبب التسامح مع بعض القوي السياسية غير الواعية لأجل كسب ولائها في الصراع السياسي الدائر. ولكن هذه القيم القديمة، في جميع الحالات، لا تعود سافرة صريحة، إنما تعود مموهة بشعارات جديدة.
3 - (في الغالب) تتولد الأحداث التي تكون مناخ الفتنة من مشكلات يثيرها أشخاص عاديون أو ذوو قيمة ثانوية في السلم الاجتماعي، كما أنها تقع علي أشخاص من هذا القبيل كما هو الحال في فتنة النزاع علي الماء بين الغفاري والجهني، ولكن علاقات الدم والصداقة والمصالح والمطامح سرعان ما (تسيس) الأحداث وتستغلها. وقد يحدث أن تتولد الأحداث من مشكلات يثيرها أشخاص ذوو شأن كبير في المجتمع أو تصيب هذه الأحداث أشخاصا من هذا النوع، كما هو الحال في حادثة الإفك وفي أحداث السقيفة.
4 - تواجه القيادة الحقيقية الشرعية هذه الفتنة بسياسة تتسم بالهدوء، وروح المسؤولية العالية، وتتجنب اتخاذ أية إجراءات أو مواقف انفعالية وانتقامية، لما يؤدي إليه ذلك من عواقب خطيرة تزيد الموقف تعقيدا والفتنة استحكاما، وتتيح للقوي الخفية المعادية للنظام (المنافقون، مثلا في المجتمع الإسلامي) أن تستغل الوضع الطارئ لتحقيق أهدافها (لاحظ السمة رقم (1).
وبدلا من مواجهة أحداث الفتنة العارضة بالعنف والانفعال، تحرص القيادة علي
(١٦٤)
مفاتيح البحث: السقيفة (2)، الكسب (1)، النفاق (1)

صفحه 138

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٥
مواجهتها بأسلوب يعطي الأولوية في الحل لمصلحة القضايا المبدئية والعامة، لا للجانب الشخصي والعائلي.
هذه هي، فيما نري، أبرز سمات الفتنة العارضة.
ج - الفتنة الغالبة هذا النوع الثالث من أنواع الفتنة، هو، كما يدل عليه الوصف الذي اخترناه له، دون الفتنة الشاملة، وفوق الفتنة العارضة.
وقد تنشأ الفتنة الغالبة من تدهور سياسي عقيدي - تشريعي كبير يحل بالمجتمع أثناء حركته الانبعاثية، أو بعد بلوغه الذروة.
كما قد تنشأ من فتنة عارضة تهمل القيادة جانب الحكمة في مواجهتها، أو تغفل عنه، فتتعاظم عثرة المجتمع، وتتغذي الحالة الانحرافية بالتناقضات المستكنة في أعماق التركيب الاجتماعي، كما أنها تتغذي بالقيم القديمة التي أجبرها النظام الجديد علي أن تنسحب من دائرة العمليات الاجتماعية إلي الظلام.
وتفشل النخبة في علاج العثرة بسب عجز هذه النخبة، أو بسبب تناحر أجنحتها وانحياز بعض الأجنحة إلي خط الإنحراف.
وعامل الزمن في مصلحة الإنحراف، فكلما مضي علي الإنحراف يوم دون أن يوضع له حد ودون أن يقوم، يزداد رسوخا وتمكنا، ويستوعب مساحة جديدة من المجتمع، ويكون لدي مزيد من الناس قناعات في صالحه بينما تزداد النخبة عجزا، وعزلة، وتفقد مزيدا من مواقعها.
وقبل مضي زمن طويل علي الإنحراف الذي أنشب مخالبه في كيان المجتمع، وفشلت النخبة في القضاء عليه - يشيع هذا الإنحراف، ويطبع كثيرا من أوجه الحياة، ويغدو عرفا أو قانونا أو سنة متبعة، تحميه وتصونه قناعات تتأصل في الثقافة، وتغدو جزءا من تكوين المجتمع الثقافي.
قلنا: إن هذا يحدث قبل مضي زمن طويل علي حدوث الإنحراف، لأن الإنحراف عادة يكون إلي جانب اليسر والسهولة والحياة الهينة وهذا ما يغري بالاتباع
(١٦٥)

صفحه 139

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٦
لأنه أوفق بهوي النفوس، وأبعد عن التبعة والتضحية.
ولكن الإنحراف (الفتنة) لا يبلغ درجة الشمول واستيعاب كل مؤسسات المجتمع، ولا يستطيع أن يغير بنيته الثقافية من جميع وجوهها، ولا يقدر علي أن يستوعب في مفاهيمه وقيمه الجديدة المبتدعة أو القديمة المحياة - كل الفئات الاجتماعية، ومن ثم فهو لا يستطيع أن يقضي نهائيا علي حركة المجتمع التقدمية. إنه يعوقها ولكنه لا يعطلها، يشوهها ولا يمسخها، إنه لا يبلغ درجة الفتنة الشاملة، وإنما يكون فتنة غالبة.
تبقي مع الإنحراف الغالب روح الطهارة والأصالة شائعة في المجتمع بوجه عام، تغذي حركته التقدمية في أكثر من وجه من وجوه حياته ونشاطاته، وإن كانت هذه الروح تتعرض دائما للنكسات بالنسبة إلي عامة المجتمع، ولكنها تبقي علي وهجها الكامل وفاعليتها الكاملة في جماعات قد تكون محدودة وصغيرة، منبثة في ثنايا المجتمع سلمت من الإنحراف فلم ينل منها شيئا، وبقيت ثابتة علي الصراط المستقيم.
هذه الجماعات الأصيلة الطاهرة هي طليعة الكفاح ضد الفتنة الغالبة في داخل المجتمع.. هي التي تحول بين الفتنة وبين أن تستوعب كل المجتمع وتغدو شاملة، وهي التي بكفاحها الدائب الصبور تحول بين الفتنة وبين التمكن والاستقرار، وتجعلها في حالة حرب مستمرة.
ومن هنا فإن المجتمع في حالة الفتنة الشاملة يتمتع باستقرار وثبات نتيجة لتناغم المؤسسات مع القيم مع القناعات الشعبية مع الثقافة العامة، فهذه كلها تتكامل وتتساند، وتتوفر نتيجة لذلك حالة من التوازن توفر بدورها استقرارا وثباتا.
أما في الفتنة الغالبة فإن الأمر علي خلاف ذلك، لأنه يوجد تنافر قليل أو كثير بين المؤسسات والقيم والقناعات والثقافة، وهذا يؤدي إلي أن يعاني المجتمع باستمرار من القلق والفوران والتمزق، نتيجة لوجود القوي المناهضة للفتنة، هذه القوي التي تضطر حركتها الأصيلة المناهضة نظام الفتنة إلي أن يتحرك ضدها.
* والفتنة الغالبة، في عالم الإسلام، هي الفتنة التي استفحلت في آخر عهد الخليفة عثمان بن عفان، وقاد الإمام علي بن أبي طالب حركة التصدي لها طيلة السني
(١٦٦)
مفاتيح البحث: الخليفة عثمان بن عفان (1)، كتاب الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي (1)، علي بن أبي طالب (1)، الحرب (1)، الطهارة (1)

صفحه 140

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٧
الأخيرة من حياته … واستمرت بعد استشهاده، وزادت ضراوة وعنفا حين فترت الهمم وتقاعست العزائم عن التصدي الفعال لها، فانتصرت وسادت - قبل عهد الثورات - حركة الردة.
ومن هنا فقد كثر كلام الإمام علي عن هذه الفتنة من جميع وجوهها: نعرض أسباب وبدايات حدوثها، وآلية حركتها، والموقف منها.
أ - كيف تبدأ الفتنة؟
كيف تبدأ الفتنة؟. قال عليه السلام:
إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولي عليها رجال رجالا علي غير دين الله. فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف علي المرتادين 1 ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين 2 ولكن يؤخذ من هذا ضغث 3 ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان علي أوليائه. وينجو (الدين سبقت لهم منا الحسني) 54.
هذا النص يكشف عن عاملين يكونان الفتنة الغالبة:
أحدهما:
تغليب المقياس الذاتي في القيم علي المقياس الموضوعي أهواء تتبع فبدلا من أن يكون المرجع في القيم النظام العقيدي والتشريعي للمجتمع، يتجاوز رواد الفتنة هذا النظام فيرجعون إلي النوازع الذاتية والعاطفية والمصلحية فتكون هي المقياس بالمعتمد وهو المرجع الأخير في القيم والسلوك، وعلي ضوء ما تمليه تتخذ المواقف من الأحداث والأشخاص.
(1) المرتاد: الطالب.
(2) اللبس: الملابسة والمخاطبة.
(3) الضغث من الحشيش القبضة منه. يعني يخلط شئ من الحق بشئ من الباطل فيشتبه أمرهما وتحصل الفتنة.
(4) سورة الأنبياء (مكية - 21) الآية 101.
(5) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 50
(١٦٧)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (1)، سورة الأنبياء (1)، الباطل، الإبطال (1)

صفحه 141

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٨
ثانيهما:
سقوط القانون وانتهاك حرمته علي الصعيد العملي: … وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله، وتغلب العامل الشخصي بالاحتيال علي الشرعية القانونية التي يحتفظ لها المفتونون بالاحترام النظري، ويتظاهرون بتطبيقها، بينما هي علي الصعيد العملي تنتهك كلما تمكن الأقوياء من انتهاكها.
هذان العاملان: سقوط المقياس الموضوعي في القيم علي صعيد الأخلاق والعلاقات الاجتماعية والسياسية، وسقوط الشرعية القانونية علي صعيد المؤسسات العامة والعلاقات والوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية … هذان العاملان هما جوهر الفتنة الغالبة.
ويحدث حينئذ أن تتكون القناعات الموالية للفتنة الغالبة لدي فئات اجتماعية جديدة: … ويتولي عليها رجال رجالا علي غير دين الله يتعزز بها موقع الإنحراف في المجتمع، ويعمق رسوخه في القلوب والعقول، ويتسع مداه فيشمل مساحات جديدة من الحياة.
ولكن الفتنة - كما ذكرنا آنفا - لا تبلغ درجة الشمول، بل يبقي للحق في المجتمع سلطان، ويبقي للشرعية في المجتمع أعوان، هم الذين سبقت لهم منا الحسني وهم الذين يقودون حركة الكفاح ضد الباطل والفتنة من أجل الحق الخالص الذي لا يلتبس بالباطل.
* ب - كيف تتحرك الفتنة وتنمو؟
ويصف الإمام في نص آخر كيف تبدأ الفتنة، ويصور آلية حركتها وانتشارها في المجتمع، وذلك في سياق وصفه للفتنة الغالبة التي كانت نذرها تطل علي المجتمع الإسلامي في عهده:
(١٦٨)
مفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (2)

صفحه 142

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٦٩
… ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة 1، وتثبتوا في قتام العشوة 2 واعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها ومدار رحاها.
تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلي فظاعة جلية. شبابها كشباب الغلام 3، وآثارها كآثار السلام 4 يتوارثها الظلمة بالعهود، أولهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم. يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون علي جيفة مريحة 5. وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء 6 ويتلاعنون عند اللقاء 7.
في هذا النص صور الإمام آلية حركة الفتنة، ونموها وانتشارها في المجتمع، فأبرز الملامح التالية:
1 - إن شيوع روح الترف في المجتمع، واستغراق النخبة في الترف يؤديان بالمجتمع إلي أن يفقد روحه النضالية الرسالية، ويحرص علي حياته الهينة الناعمة، وعلي توفير الوسائل الملائمة لبلوغ مستوي من الحياة أكثر نعومة ولينا.
كما أن النخبة في هذه الحالة تصاب بالترهل والعجز والجبن.
وشيوع هذه الروح، روح الترف، في مجتمع لا يزال في مرحلة تكوين نفسه، ومحاط بالقوي المضادة الخائفة، ويحتوي تركيبه الداخلي علي نقاط ضعف ناشئة من كونه يضم جماعات لم تتمثل بعد بدرجة مرضية وعميقة رسالته التي يعتنقها ويبشر بها … - شيوع هذه الروح في مجتمع كهذا - وهو ما كأنه المجتمع الإسلامي في ذلك الحين - يجعله مهيأ لنمو روح الفتنة فيه وانتشارها.
لقد حذر الإمام من هذا بقوله: (احذروا سكرات النعمة … ).
(1) البوائق: جمع بائقة، وهي الواهية، والمصيبة الكبيرة.
(2) القتام: الغبار، العشوة الظلام. يعني أن الموقف الآتي شديد الإلتباس لأنه مظلم في نفسه ويثور مع ذلك حوله الغبار. ويعني بذلك الفتنة الآتية.
(3) شباب الغلام: فتوته وعنفوانه، والفتنة تبدأ هكذا ذات عنفوان.
(4) السلام الحجارة الصم، وأثرها في الأبدان الجرح والكسر.
(5) مريحة: منتنة.
(6) يتزايلون: يتفارقون وينفصل بعضهم عن بعض.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 151.
(١٦٩)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 143

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٠
2 - تقع في الحياة العامة أحداث، أو يواجه المجتمع حالات معينة، تسبب هذه أو تلك التباسا في طريقة التعامل مع بعض المفاهيم الرسالية ومفاهيم المعتقد علي ضوء الواقع الذي حصل (مثلا: التغيرات التي نشأت نتيجة لتوسع حركة الفتح في إيران والمستعمرات البيزنطية … والاحتكاك بالحضارتين الإيرانية، والرومانية - الشرقية.. - أو الحيرة التي نشأت نتيجة لمقتل الخليفة عثمان بن عفان) … في هذه الحالات قد تتخذ النخبة أو القيادة السياسية للمجتمع قرارات مرتجلة، وتخضع لآلية الفعل ورد الفعل، بعيدا عن التروي (مثلا: كالذي حدث عند مطالبة الإمام علي بعد البيعة فورا بأن يقبض علي المتهمين بقتل عثمان ويعاقبهم، فقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوما ممن أجلب 1 علي عثمان؟ فقد أجابهم الإمام جواب رجل الدولة المسؤول الناظر إلي عواقب الأمور، البعيد عن الانفعال:
يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون علي حد شوكتهم 2 يملكوننا ولا نملكهم! وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم أعرابكم 3 وهم خلالكم 4 يسومونكم ما شاؤوا 5 وهل ترون موضعا لقدرة علي شئ تريدونه! إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة 6. إن الناس من هذا الأمر إذا حرك علي أمور: فرقة تري ما ترون، وفرقة تري ما لا ترون، وفرقة لا تري هذا ولا ذاك.
فاصبروا حتي يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها 7 وتؤخذ الحقوق مسمحة 8.
فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط منة 9، وتورث وهنا وذلة. وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي 10.
(1) أجلب عنه: أعان عليه.
(2) علي حد شوكتهم: الشوكة الشدة، أي لم يضعف هيجانهم.
(3) التفت … انضمت إليهم واختلطت بهم.
(4) وهم خلالكم … أي بينكم.
(5) يسومونكم.. يكلفونكم بما يريدون من الأفعال والمواقف.
(6) مادة: مددا وأنصارا.
(7) تقع القلوب مواقعها: تهدأ وتستقر بعد اضطرابها بسبب هيجان الفتنة.
(8) مسمحة: أي سهلة ميسرة وهذا حين تهدأ العواطف، ويثوب الناس إلي المنطق والقانون.
(9) المنة: القوة والقدرة، ينهاهم عن الأعمال المرتجلة المتسرعة التي تسبب انشقاقا وتمزقا في المجتمع يضعفه ويوهن قوته.
(10) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 168.
(١٧٠)
مفاتيح البحث: الخليفة عثمان بن عفان (1)، دولة ايران (1)، القتل (1)، الجهل (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 144

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧١
وهكذا نري الإمام يطلب إلي هؤلاء المتعجلين أن يلزموا جانب التروي، وأن يتركوا له اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وألا يخضعوا لمنطق الفعل ورد الفعل لأن هذا يؤدي إلي التباس في المفاهيم، وتخبط في المواقف، وأخطاء في القرارات تجعل المناخ العام أكثر ملاءمة لروح الفتنة. وقد أشار الإمام إلي ذلك بقوله:
وتثبتوا في قتام العشوة …
3 - حين يتهيأ المناخ الملائم نتيجة للعاملين الآنفي الذكر تبدأ الفتنة بظواهر انحرافية بسيطة وهينة، يقابلها المجتمع بوجه عام، ونخبته السياسية والفكرية بوجه خاص، بالتسامح واللامبالاة، وهذا ما يوفر لهذه الظواهر الانحرافية مناخ الأمان وفرص الاتساع والنمو. وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلي فظاعة جلية.
4 - وعلي خلاف وضع الفتنة حين تبدأ خفية حية، تلوذ وراء المبررات وتغطي نفسها بشعارات خادعة، فإنها حين تنمو وتتسع وتؤول إلي فظاعة جلية يكون لها عنفوان وتسلط وبطش، وتبدأ بطبع آثارها العميقة في بنية المجتمع، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام.
5 - بعد انتشار الفتنة، واتساع المساحات التي تستوعبها من فئات المجتمع، تكون قناعات تجعلها أشد رسوخا في الذهنية العامة، وتغدو ثقافة شائعة ترتكز إليها السلطة التي تقود حركة الفتنة، وتوجه المجتمع وفقا لقوانينها، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: يتوارثها الظلمة بالعهود، أولهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم …
6 - ولكن الوضع السياسي لقادة الفتنة - بعد انتشارها، وتأصلها في بنية المجتمع - لا يبقي موحدا ومتلاحما، وإنما تبرز التناقضات والسمات الشخصية لكل فئة، والمطامع والمخاوف الخاصة بكل جماعة. وحينئذ تنقسم قيادة الفتنة إلي فئات متخاصمة متناحرة، وتجر المجتمع وراءها إلي التخاصم والتناحر والحروب الأهلية، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: … وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء.
*(١٧١)

صفحه 145

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٢
وهذا نص يصرح فيه الإمام لأصحابه بما ينتظرهم من الفتنة وويلاتها من بعده، محملا إياهم مسؤولية نشوء الفتنة وانتشارها وما يترتب علي ذلك من شرور، لأنهم كانوا سلبيين أمام مظاهر تسرب روح الفتنة إلي مجتمعهم السياسي وبنيتهم الثقافية، وهذا ما وفر للفتنة أجواء النمو والانتشار، وكانوا متخاذلين، مهملين لواجبهم، لم يتحملوا مسؤوليتهم في نصرة قضيتهم، وحماية نظامهم الشرعي العادل:
أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم. لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافا، بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدني ووصلتم الأبعد … 1.
ج - ما موقف المسلم من الفتنة حين تبدأ؟
ما موقف المسلم من الفتنة حين يذر قرنها؟
في الفتنة - كما رأينا - يختلط الحق بالباطل، ويلتبس الصواب بالخطأ، فلا يتميز أحدهما من الآخر.
وفي هذه الحالة يكون الموقف الأسلم والأوفق بالشرع هو الابتعاد عن الفتنة والامتناع عن المشاركة مع هذا الطرف أو ذاك، إذ لا يأمن المشارك من أن يقع في الباطل وهو يري أنه ينصر الحق، أو يحارب الحق وهو يري أنه يحارب الباطل.
وهذا هو الموقف الذي نصح الإمام بالتزامه حين تقع الفتنة، ويلتبس فيها الحق بالباطل، فقد قال:
كن في الفتنة كابن اللبون. لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب 2.
(1) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 166. ويومئ في الجملة الأخيرة إلي أنهم اتصلوا بمعاوية وتخلوا عن الحاكم الشرعي.
(2) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم 1. وابن اللبون هو ابن الناقة إذا كمل له سنتان. وهو في هذه الحالة لا ينفع للركوب لأنه لا يقوي علي حمل الأثقال، وليس له ضرع ليحلب، كني الإمام بذلك عن أن الإنسان الواعي في الفتنة يقف علي الحياد فلا يكون ذا نفع لأي طرف من أطرافها.
(١٧٢)
مفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (3)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 146

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٣
ولكن هذا الموقف يكون صوابا حين لا يكون الإمام العادل موجودا، ولا يتاح للمسلم أن يتبين الحق من الباطل في الأحداث والمواقف التي تجري أمامه، أما حين يكون الإمام العادل موجودا، ويتخذ من الفتنة موقفا، فإن علي المسلم أن ينسجم في مواقفه مع مواقف الإمام العادل، وليس له أن يبقي علي السلبية متذرعا بأنه يخشي الوقوع في الباطل، وإنما يكون موقفه هذا، في هذه الحالة، جبنا وخذلانا للحق، بل إنه يكون، من بعض الوجوه، خيانة ومساهمة في الفتنة، لأنه بسلبيته غير المبررة قد يضلل آخرين يجدون في سلبيته تبريرا لمواقفهم.
وقد واجه الإمام أثناء فترة حكمه العاصفة مثل هذه المواقف الجبانة السلبية الخائنة من قبل بعض القيادات في مجتمعه تجاه الفتنة التي أثارتها قوي الثورة المضادة، فقال مرة يخاطب الناس:
أيها الناس، ألقوا هذه الأزمة 1 التي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم، ولا تصدعوا 2 علي سلطانكم، فتذموا غب فعالكم 3 ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة 4، وأميطوا عن سننها 5 وخلوا قصد السبيل لها 6، فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن، ويسلم فيها غير المسلم.
إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة، يستضئ به من ولجها … 7.
فالإمام هنا ينهي جمهوره عن المشاركة في الفتنة ولكنه لا يقرهم علي الموقف السلبي منها، وإنما يأمرهم بالتصدي لها.
إن المشاركة فيها تعني التآمر معها، والسلبية أمامها تعني عدم التصدي لها،
(1) الأزمة، جمع زمام، كني عن قضايا الفتنة بالنياق التي يمسك أصحابها بأزمتها، وهي تحمل علي ظهورها الأثقال. يقول لهم: اتركوا قفا الفتنة ولا تخوضوا فيها لتخلصوا من آثارها.
(2) لا تصدعوا: لا تتفرقوا عن الحاكم الشرعي.
(3) غب فعالكم: عواقبها.
(4) فور النار: تعاظمها وارتفاع لهبها.
(5) أماط: نحي وأزال. والسنن: الطريق. يعني تنحوا عن طريق الفتنة وابتعدوا.
(6) قصد السبيل: الطريق. أي اتركوا الفتنة تسير في طريقها ولا تشتركوا فيها.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 187.
(١٧٣)
مفاتيح البحث: الهلاك (1)، الباطل، الإبطال (2)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 147

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٤
وكلاهما خطأ. الموقف السليم هو مواجهتها مع الإمام الحاكم العادل، لأن الحق - بوجوده - بين ظاهر، فهو الهادي، وهو الدليل الذي لا يضلل، وهو السراج في الظلمة، ظلمة الفتنة، وكل ظلمة.
وقد حدث أن بعض المسلمين في بدايات خلافة أمير المؤمنين علي التبس عليهم الأمر في الفتنة التي أثارها خروج طلحة والزبير، وعصيان معاوية نتيجة لموقف أبي موسي الأشعري الذي قال للناس في الكوفة حين دعوا إلي قمع عصيان طلحة والزبير: إن الموقف موقف فتنة، وأن الموقف السليم منها هو الامتناع عن المشاركة فيها.
وقد أوضح الإمام إذ ذاك أن الموقف من الفتنة التي يلتبس فيها الحق بالباطل هو هذا، ولكن الأمر يختلف حين يتضح جانب الحق بوجود الإمام العادل أو بأية وسيلة أخري، فإن السلبية في هذه الحالة تكون خيانة.
ومن هنا فقد سمي الإمام خروج طلحة والزبير فتنة، ودعا الناس إلي مواجهتها وقمعها، لأن وجه الحق فيها بين، فقد كتب إلي أهل الكوفة عند مسيره إلي البصرة:
… واعلموا أن دار الهجرة 1 قد قلعت بأهلها وقلعوا بها 2، وجاشت جيش المرجل 3، وقامت الفتنة علي القطب 4، فأسرعوا إلي أميركم، وبادروا جهاد عدوكم 5.
د - موقف الإمام علي من فتنة عصره ما دور الإمام علي، وما موقفه من الفتنة التي عصفت بالمجتمع الإسلامي في عهده؟.
نظرة إلي التاريخ السياسي والفكري للإسلام تكشف بوضوح عن أن الإمام عليا كان المنقذ الأكبر للإسلام من التشوه والمسخ بالفتنة التي عصفت رياحها المجنونة
(1) دار الهجرة: هي المدينة المنورة.
(2) قلع المكان بأهله: نبذهم وطردهم. وقلع فلان بمكانه: نبذه وابتعد عنه.
(3) جاشت: اضطربت، والمرجل: القدر: يعني أن دار الهجرة قد اضطربت بأهلها بسبب الفتنة التي نشبت فيها وانطلقت منها.
(4) قامت الفتنة علي القطب: وجدت من يوجهها ويرعاها ويغذيها بالأفكار والقوي، فاشتدت وعظم خطرها.
(5) نهج البلاغة - باب الكتب - الكتاب رقم 1.
(١٧٤)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، مدينة الكوفة (2)، مدينة البصرة (1)، الباطل، الإبطال (1)، الظلم (2)، كتاب نهج البلاغة (1)، المدينة المنورة (1)

صفحه 148

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٥
بالمسلمين منذ النصف الثاني من خلافة عثمان.
ولولا توجيه علي الفكري، ومواقفه السياسية، ومواجهته العسكرية للفتنة في شتي مظاهرها الفكرية والسياسية والعسكرية لتشوه الإسلام، وانمسخ، وتقلص. ولكن الإمام عليا، بموقفه الواضح الصريح الرافض لأية مساومة، كان المنقذ الذي كشف الفتنة ودعاتها، ووضع المسلمين جميعا أمام الخيار الكبير: مع الفتنة أو ضدها؟.
ولا يهم بعد ذلك أن الفتنة حازت إلي جانبها جمهورا كبيرا من الناس، المهم أنها افتضحت، وبافتضاحها سلم الإسلام من التشوه ومن خطر التزوير، وكان علي الذين انحرفوا أن يجدوا لأنفسهم مبررات.
وقد كان توقع نشوء الفتنة، والخوف منها ومن أفاعيلها وعواقبها، هاجسا عاما عند المسلمين. يكشف عن ذلك السؤال عنها، وعن الموقف الصواب منها، وكثرة حديث الإمام عن أخطارها وملابساتها.
وقد كان الإمام علي بروحانيته العالية السامية، وإسلاميته الصلبة الصافية، وروحه الرسالية التي تفوق بها علي جميع معاصريه، وحكمته وشجاعته، وسيرة حياته الناصعة التي ابتدأت بالإسلام … كان هو الرجل الوحيد المرصود لمواجهة الفتنة، وإنقاذ الإسلام منها.
لقد أعلمه رسول الله (ص) بذلك، وأدرك هو دوره من خلال رصده لحركة المجتمع التاريخية.
وهذا نص عظيم الأهمية يكشف لنا عن الدور المرصود للإمام علي في مواجهة الفتنة، يتضمن الرؤية النبوية لمستقبل الحركة التاريخية من جهة، والرؤية النبوية لدور الإمام علي في هذه الحركة.
وقد أورد الشريف الرضي هذا النص، كما أورده ابن أبي الحديد في شرحه (9 / 105 - 107) برواية الشريف وبرواية أخري أكثر بسطا. ويبدو أن الرواية الأخري تقريرية حدث بها الإمام، ورواية الشريف خطابية، جاءت جوابا منه علي سؤال، فقد قام إليه رجل - وهو يخطب - فقال: يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن الفتنة، وهل
(١٧٥)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين (1)، الخوف (1)

صفحه 149

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٦
سألت رسول الله (ص) عنها؟ فقال عليه السلام:
إنه لما أنزل الله سبحانه قوله (ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) 1 علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (ص) بين أظهرنا. فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالي بها؟ فقال: (يا علي، إن أمتي سيفتنون من بعدي)، فقلت: يا رسول الله، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت 2 غني الشهادة، فشق ذلك علي، فقلت لي: (أبشر، فإن الشهادة من ورائك) فقال لي: (إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟) فقلت: يا رسول الله: ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشري والشكر.
وقال: (يا علي، إن القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم علي ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع) قلت: يا رسول الله: فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: (بمنزلة فتنة) 3.
وإذن، فقد كان الإمام مرصودا لمواجهة الفتنة وفضحها.
لقد كان منقذ الإسلام بعد رسول الله (ص) من التزييف والتحريف، فحقق بمواجهته للفتنة صيغة الإسلام الصافي، في المعتقد والفكر والتشريع والعمل، وغدت الفتنة أزمة في داخل الإسلام، ولم تفلح في أن تكون هي الإسلام.
وقد عبر الإمام في أكثر من مقام عن دوره العظيم الفريد في التاريخ، من حيث كونه القيادي الوحيد الذي استطاع أن يواجه الفتنة ويفضحها، فقال مما قال:
… فإني فقأت عين الفتنة 4، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها 5 واشتد كلبها 6.
(1) سورة العنكبوت (مكية - 29) الآية: ا و 2.
(2) جاز عنه الشئ: أبعده عنه.
(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 156.
(4) فقأت عين الفتنة: تغلبت عليها.
(5) الغيهب: الظلمة. يعني أني واجهتها في عنفوانها وقوتها.
(6) الكلب: داء معروف يصيب الكلاب. يعني أنه واجهها وهي في هذه الحالة عن الأذي والشر الشديدين. والخطبة في نهج البلاغة، رقم: 93.
(١٧٦)
مفاتيح البحث: الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (2)، الشكر (1)، الشهادة (3)، الصبر (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، سورة العنكبوت (1)

صفحه 150

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٧
لقد حدثت داخل الإسلام فتن كثيرة، ولكن أعظم هذه الفتن خطورة وأشدها تخريبا فتنة بني أمية التي عصفت رياحها السوداء الشريرة المجتمع الإسلامي منذ النصف الثاني من عهد عثمان، وتعاظمت خطورتها بعد مقتله. واستغرقت مواجهتها الفكرية والسياسية والعسكرية معظم جهود أمير المؤمنين علي في السنين الأخيرة من حياته.
وقد كان الإمام يغتنم كل فرصة سانحة ليحدث مجتمعه عن هذه الفتنة، ويبين له أخطارها الآنية والمستقبلية من أجل إيجاد المناعة النفسية منها، والوعي العقلي لأخطارها، والعزم العملي علي مواجهتها وقمعها، والتصميم علي رفضها حتي بعد انتصارها.
قال عليه السلام، إن الفتن إذا أقبلت شبهت 1، وإذا أدبرت نبهت، ينكرن مقبلات، ويعرفن مدبرات، يحمن حوم الرياح، يصبن بلدا، ويخطئن بلدا. ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة، عمت خطتها 2 وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها 3.
فهي فتنة عمت بليتها لأن روادها الحكام أنفسهم، ومن ثم فشرورها السياسية والفكرية تشمل المجتمع كله.
وهي فتنة خصت بليتها لأن أعنف ضرباتها ستوجه إلي الصفوة المؤمنة الواعية التي بقيت سليمة من داء الفتنة، ووضعت نفسها في مواقع كفاح الفتنة الغالبة.
والمسؤولية في هذه الفتنة ملقاة علي المبصرين فيها، الذين يعرفونها ويعرفون وجه الحق ويجبنون عن مواجهتها، أو يتواطؤون، ضد الحق، معها.
أما من عمي عنها، وجهل أبعادها وأخطارها فهو معذور بجهله.
(1) شبهت: اشتبه فيها الحق بالباطل، وإذا أدبرت وخلص الناس منها تميز حقها من باطلها.
(2) عمت خطتها: يعني أنها فتنة غالبة تصيب ببلائها أهل الحق.
(3) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 93.
(١٧٧)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، بنو أمية (2)، القتل (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الباطل، الإبطال (1)

صفحه 151

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٧٩
3 - انتصار حركة الردة لا نعني بالردة هنا الردة الدينية عن الإسلام، فقد سبق أن رأينا التوجيه النبوي لعلي حين سأل رسول الله (ص): فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال (ص) بمنزلة (فتنة).
وإنما نعني الردة السياسية والفكرية. فإن الفتنة حين انتصرت سياسيا بعد استشهاد أمير المؤمنين علي راحت تمكن لنفسها بفرض قيمها الفكرية والاجتماعية في الثقافة العامة، وتطبع العلاقات في داخل المجتمع بطابعها.
* لقد كان الإمام يري ببصيرته النافذة أن الفتنة ستنتصر، وكانت هذه الرؤية إحدي مسببات ألمه العميق.
وكان يري أن الفتنة لا تقاوم إلا بالكفاح، أما السكوت عنها ومهادنتها فيتيحان الفرصة أمامها لكي تنتصر.
وكان يؤرقه أن مجتمعه، لأسباب شتي، آثر أن يواجه الفتنة بالسكوت عنها، أو - بعبارة أخري - آثر ألا يواجه الفتنة الآتية.
وكان يقارن بين أصحابه وبين أصحاب رسول الله (ص)، فيريهم أن التوجيه الثقافي واحد، وأن القيادة واحدة، ولكنه يري أن درجة الإخلاص متفاوتة:
… والله ما أسمعكم الرسول شيئا إلا وها أنا ذا مسمعكموه، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس، ولا شقت لهم الأبصار، ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الزمان، إلا وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان.
ووالله ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه، ولا أصفيتم به
(١٧٩)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله (1)

صفحه 152

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٠
وحرموه 1، ولقد نزلت بكم البلية جائلا خطامها 2، رخوا بطانها 3 فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود إلي أجل معدود 4.
وقد تكرر منه المقارنة بين حال أصحابه وحال أصحاب رسول الله (ص) في عدة مواقف.
وكان يري في طريقة مواجهة أصحابه للفتنة الآتية نذر انتصار هذه الفتنة من بعده، وقد كشف عن رؤيته هذه لمجتمعه في عدة مواقف، منها قوله:
… أما والذي نفسي بيده، ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولي بالحق، ولكن لإسراعهم إلي باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا 5.
ويكشف هذا النص - كغيره من النصوص المماثلة له - عن أن انتصار الفتنة لم يكن في تقدير الإمام عليه السلام وتحليله ناشئا من قدر غيبي، وإنما نشأ من توفر الأسباب الموضوعية علي أرض الواقع السياسي والاجتماعي الذي كانت عوامله تتفاعل في المجتمع السياسي المواجه للفتنة.
لقد فقد هذا المجتمع فاعليته، وتخلي عن روح الكفاح في مواجهة الفتنة، وانفصل عمليا عن قيادته فسقط في السلبية، وآثر الحياة السهلة الخالية من تبعات الرسالة والجهاد.
ومن ذلك قوله عليه السلام:
(1) أصفيتم.. خصصتم به دون غيركم.
(2) الخطام ما جعل في أنف البعير ليقاد به، فإذا لم يكن ثمة قائد تاه البعير ولم يسلك طريق السلامة، كني بذلك عن الفتنة التي تعيث فسادا في المجتمع.
(3) البطان: حزام يجعل تحت بطن البعير ليحفظ استقرار ما عليه من راكب أو حمل فإذا استرخي أدي ذلك إلي خطر السقوط. كني بذلك عن أخطار الفتنة.
(4) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 89.
(5) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 97.
(١٨٠)
مفاتيح البحث: صحابة (أصحاب) رسول الله (ص) (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 153

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨١
… ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف 1، والقاصمة الزحوف 2، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضل رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، ونلتبس الآراء عند نجومها 3 من أشرف لها قصمته 4 ومن سعي فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة 5 قد اضطرب فيها معقود الحبل، وعمي وجه الأمر. تغيض فيها الحكمة 6، وتنطق فيها الظلمة، وتدق أهل البدو بمسحلها 7 وترضهم بكلكلها 8 … فلا تكونوا أنصاب الفتن 9 وأعلام البدع، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة 10.
في هذا النص بين الإمام بعض سمات انتصار الفتنة:
1 - استيلاء الفتنة علي مساحات جديدة في المجتمع: تضل رجال بعد سلامة وتتعمق الأفكار المنحرفة تزيغ قلوب بعد استقامة.
2 - تلف المجتمع حيرة شديدة نتيجة للانتصار غير المتوقع الذي فرض مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة.
3 - تحطم الفتنة - في أوج انتصارها - كل من يتصدي لها مواجهة.
وفي نص آخر بين الإمام وجوها أخري لانتصار الفتنة:
… فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية، وقلت
(1) الرجوف: شديد الرجفان والاضطراب، تدخل الاضطراب والقلق علي المجتمع.
(2) القاصمة: الكاسرة، والزحوف: المتحركة التي تسعي للانتشار في المجتمع.
(3) نجوم الآراء ظهورها يعني أن الفتنة تسبب البلبلة الفكرية في المجتمع، فتمكن للشعارات الدخيلة من التسرب والشيوع.
(4) أشرف لها: تعرض لها، قصمته: كسرته.
(5) يتكادمون.. ينهش بعضهم بعضا، والعانة هي الجماعة من الحمر الوحشية، يعني أن سلطان القانون، في حالة انتصار الفتنة، يسقط، ويسود سلطان الغريزة.
(6) تغيض.. تختفي، غاض الماء: غار تحت الأرض.
(7) دق: فتت وطحن. والمسحل: المبرد أو المطرقة، يعني أن شرورها الاجتماعية تصل إلي أهل البدو - مع بعدهم عن يد السلطة - فتحطم علاقاتهم، وتهدد أمنهم.
(8) الرض: التهشيم، والكلكل: الصدر، يعني أنها تطبق عليهم، فتشل حركتهم وتحطم مقاومتهم.
(9) أنصاب: علامات.
(10) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 51.
(١٨١)
مفاتيح البحث: الباطل، الإبطال (1)، الجهل (1)، الجماعة (2)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 154

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٢
الداعية، وصال الدهر صيال السبع العقور 1، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم 2 وتواخي الناس علي الفجور، وتهاجروا علي الدين، وتحابوا علي الكذب، وتباغضوا علي الصدق، فإذا كان ذلك كان الولد غيظا 3 والمطر قيظا 4 وتفيض اللئام فيضا وتغيض الكرام غيضا 5. وكان أهل ذلك الزمان ذئابا، وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكالا، وفقراؤه، أمواتا، وغار الصدق، وفاض الكذب، واستعملت المودة باللسان، وتشاجر الناس بالقلوب، وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجبا، ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا 6.
في هذا النص فصل الإمام ملامح الفتنة عندما تنتصر، وتغلب علي المجتمع، فتتسلط علي مؤسساته، وتعمق جذورها فيه، وتبسط مفاهيمها وقيمها عليه.
ويمكن تلخيص هذه الملامح في النقاط التالية:
1 - تأصل روح الطغيان في الحكم، ونزعة التجبر والاستبداد في الحاكمين، وانحسار الروح الرسالية في مؤسسات الحكم.
2 - فساد العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، وتدني المستوي الأخلاقي، وشيوع أخلاق المنفعة بين الناس. وما أروع قوله في تصوير جانب من هذه الظاهرة (واستعملت المودة باللسان، وتشاجر الناس بالقلوب).
3 - انحطاط مؤسسة الأسرة، وشيوع الإباحة الجنسية.
ويلخص ذلك كله قوله عليه السلام: (ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا) وهذا كقوله في نص آخر:
أيها الناس، سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه 7.
(1) صال.. هجم للفتك والاعتداء.
(2) الفنيق: الفحل من الإبل، والكظوم الصمت والسكون - يعني أن الباطل بعد أن كان ذليلا صامتا، غدا، في الفتنة، عالي الصوت هادرا.
(3) بسبب الفتنة تفسد أخلاق الأجيال الشابة فيكونون سببا لغيظ أهلهم.
(4) القيظ: شدة الحر. يعني أن الأمور والسياسات تقع في غير مواقعها فلا تفيد بل تضر.
(5) غاض الماء في الأرض: اختفي وغار فيها. يعني يندر في الفتنة حين تغلب وجود ذوي الأخلاق الكريمة في مراتبهم الاجتماعية لأنهم يخفون أنفسهم ويبتعدون عن الأضواء.
(6) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 108.
(7) نهج البلاغة - الخطبة رقم: 103.
(١٨٢)
مفاتيح البحث: الكذب، التكذيب (1)، الباطل، الإبطال (2)، الكرم، الكرامة (2)، الصدق (2)، كتاب نهج البلاغة (2)، الصمت (1)

صفحه 155

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٣
4 - المعاناة تنتصر الفتنة، فتأتي بحكم غير عادل، لا يري في الأمة إلا موضوعا لتسلطه ومصدرا للمال.
وهي غير أخلاقية، لأن قادتها يتبعون في سياسة الناس منطق الغريزة، لا منطق القانون والعدالة. ومن هنا وهناك فلا بد أن يكون لها ضحايا كثيرة.
ومن ضحاياها خصومها السياسيون الذين حاربوها في الماضي، وغلبوا علي أمرهم في النهاية.
ومن ضحاياها خلفاؤها الذين ساندوها في أيام ضعفها، واستغنت عنهم في أيام قوتها.
ومن ضحاياها الغافلون عن شرورها وأخطارها، الذين كانوا محايدين في المعركة الدائرة بينها وبين أهل الحق، ثم دهشوا عند انتصارها، فاحتجوا أو أظهروا معارضتهم لها. وأكبر ضحاياها الأمة كلها حين تحولها الفتنة المنتصرة إلي موضوع للتسلط، ومصدر لصنع الثروات، وتوفير أسباب الترف واللهو لنخبتها، وجهازها القمعي، وحلفائها.
وهكذا تبدأ معاناة الأمة من الفتنة، من ظلمها وتسلطها، من عدوانها الذي ينتشر كالوباء فيصيب كل فئة من المجتمع المغلوب علي أمره بشتي ألوانه: العدوان الأخلاقي، والعدوان السياسي، والعدوان الاقتصادي.
وقد صور الإمام علي وجوها من معاناة الأمة وعذاباتها بعد انتصار الفتنة في لوحات معبرة تكاد تنطق بالحركة الحية.
(١٨٣)

صفحه 156

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٤
من ذلك قوله عليه السلام:
… وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس (1) تعذم بفيها (2)، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها (3) وتمنع درها (4).
لا يزالون بكم حتي لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم، أو غير ضائر بهم.
ولا يزال بلاؤهم عنكم حتي لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه والصاحب من مستصحبه. ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، وقطعا جاهلية، ليس فيها منار هدي ولا علم يري (6).
وهكذا يعاني الناس من الفتنة بعد انتصارها ألوانا من الشر:
1 - حكم الطغيان الذي يقضي علي كل معارضة له بالرأي والمذهب، وهو لا يقضي عليه بهوادة ولين، وإنما بالعنف والقسوة.
2 - والإذلال الذي يمحق كرامة الإنسان ويشوه روحه، فيحوله إلي عبد لا يجرؤ علي رفع صوته والتعبير عن رأيه، وإنما يخضع بالطاعة العمياء الصماء التي لا خيار فيها ولا تنبثق من قناعة وإنما يفرضها الخوف من العذاب.
* ومن ذلك قوله عليه السلام:
والله لا يزالون حتي لا يدعوا لله محرما إلا استحلوه، ولا عقدا إلا حلوه، وحتي لا يبقي بيت مدر ولا وبر (7) إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم (8)، وحتي يقوم الباكيان، يبكيان: باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه، وحتي تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد
(1) الناب: الناقة المسنة، والضروس: الناقة السيئة الخلق.
(2) عذم الفرس: إذا أكل بجفاء، أو عض.
(3) تزبن: تضرب برجلها من يقترب منها.
(4) الدر: اللبن. يعني أنها غير ذات فائدة مع كونها مصدرا للتخريب والأضرار.
فالفتنة شر كلها، ولا خير فيها.
(5) شوهاء: قبيحة المنظر، ومخشية: مخوفة مرعبة.
(6) العلم: الدليل الهادي في متاهات الصحراء. نهج البلاغة، رقم: 93.
(7) يبت المدر: ما بني بالحجارة، وبيت الوبر: الخيمة. يعني أن شر الفتنة لا يقتصر علي سكان المدن وإنما يشمل الريف والبدو.
(8) نبا به سوء رعيهم: شرد الناس، وأقلق حياتهم من (نبا به المنزل): إذا لم توافقه.
(١٨٤)
مفاتيح البحث: بنو أمية (1)، الخوف (1)، العذاب، العذب (1)، الجهل (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الأكل (1)

صفحه 157

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٥
من سيده، إذا شهد أطاعه وإذا غاب اغتابه، وحتي يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم بالله ظنا، فإن أتاكم الله بعافية فاقبلوا، وإن ابتليتم فاصبروا، فإن العاقبة للمتقين (1).
في هذا النص يكشف الإمام عن وجوه أخري من المعاناة والعذاب:
1 - سقوط حرمة القانون عند الطغمة الحاكمة التي يفترض فيها، وهي تحكم باسم الدين، أن تحافظ عليه من حيث التطبيق.
2 - انتشار الظلم، وعدم اقتصاره علي الحواضر والمدن، بل يشمل جميع مستويات الأمة فيعاني منه سكان المدن وبدو الصحراء.
3 - الإذلال، وهدر كرامة الإنسان الذي يتحول، لطول ما يعاني من الإذلال، إلي ما يشبه أخلاق الرقيق.
إن هذا الواقع يجعل المعاناة شاملة في قضايا الدين وقضايا الدنيا، ويكون أشد الناس بلاء ومعاناة أكثرهم وعيا، وأصلبهم عودا في مواجهة إغراء الفتنة وإرهابها.
ولكن الإمام يوصي هذه الفئة المستنيرة التي لم تستهلكها الفتنة بالصبر، لأن الفتنة في هذه المرحلة لا تقاوم، وكل جهد يبذل في مقاومتها جهد ضائع مهدور يزيد الشرعية ضعفا ووحدة وعزلة دون أن يؤثر علي الفتنة، وهي في أوج انتصارها شيئا.
* ومن ذلك قوله عليه السلام:
راية ضلال قد قامت علي قطبها (2) وتفرقت بشعبها (3) تكيلكم بصاعها (4)، وتخبطكم بباعها (5)، قائدها خارج من الملة، قائم علي الضلة، فلا يبقي يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر (6) أو
(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 98.
(2) استحكم أمرها كالرحي حين تستقر علي قطبها.
(3) الشعب: الفروع. يعني أن الفتنة تغلغلت في جميع ثنايا المجتمع.
(4) تشمل الناس بشرها دون تمييز كما يكال الحب بالصاع.
(5) تضرب بذراعها جميع الأمة فلا يمتنع منها أحد، مأخوذ من (خبط الشجرة) ضربها بالعصا ليسقط ثمرها أو يتناثر ورقها.
(6) الثفل: نفاية الشئ، وما لا خير فيه منه، وثفالة القدر ما يبقي فيه من هذا القبيل.
(١٨٥)
مفاتيح البحث: الشهادة (1)، الظلم (1)، الضلال (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 158

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٦
نفاضة كنفاضة العكم (1) تعرككم عرك الأديم (2)، وتدوسكم دوس الحصيد (3) وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة (4) من بين هزيل الحب (5).
في هذا النص يتابع الإمام الكشف عن وجوه المعاناة:
سيادة حكم الطغيان بسبب أن الشريعة مهملة من حيث التطبيق لأن الراية راية ضلال، ولذا فإن هذا الحكم يتصرف بوحي الغريزة لا علي ضوء القانون، ونتيجة ذلك أن الحكم يدوس الأمة ويسحقها، ويذهب بكل صلابة وعنفوان فيها ليحولها إلي كيان مطواع لا إرادة له ولا اختيار، كالجلد الذي سحق وعرك حتي لان ففقد كل صلابة، وكالحصيد الذي ديس حتي تفتت.
ولكن الفتنة، مع ذلك، لا تفلح في القضاء علي كل شئ، فرغم الظلم المادي والمعنوي، والتشويه الثقافي تبقي نخبة النخبة محافظة علي ذاتها، إنها تكون قليلة العدد حقا، ولكنها أصيلة، صافية، منيعة علي الطغيان، والتشويه والإغراء والإرهاب.
* ومن ذلك قوله عليه السلام:
تغيض فيها الحكمة (6)، وتنطق فيها الظلمة، وتدق أهل البدو بمسحلها (7) وترضهم بكلكلها (8) يضيع في غبارها الوحدان (9)، ويهلك في طريقها الركبان، ترد بمر القضاء، وتحلب عبيط
(1) النفاضة ما يسقط من الثوب أو البساط بالنفض، والعكم: العدل الذي يجعل علي الدابة ويحمل فيه المتاع.
(2) العرك: الدلك الشديد، والأديم: الجلد.
(3) الحصيد: الغلات المحصودة.
(4) البطينة: السمينة.
(5) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 108.
(6) تغيض: تختفي، يعني أن الحكمة في الفتنة تختفي في الناس فلا يتعاملون بما تقضي به من عدالة وأخلاق.
(7) المسحل: المبرد أو المطرقة.
(8) الرض: التهشيم. والكلكل: الصدر.
(9) الوحدان: جمع واحد، يعني المنفردون.
(١٨٦)
مفاتيح البحث: الظلم (1)، الإختيار، الخيار (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 159

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٧
الدماء (1) وتثلم منار الدين (2) وتنقض عقد اليقين. يهرب منها الأكياس (3) ويدبرها الأرجاس (4) مرعاد مبراق كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام، بريها سقيم، وظاعنها مقيم … بين قتيل مطلول (5)، وخائف مستجير، يختلون بعقد الأيمان (6) … (7).
يبرز الإمام في هذا الفصل - كما في النص الثاني من هذا الفصل - شمول الظلم لأهل البدو، وهذا يعني - بملاحظة التركيب الاجتماعي، والوضع الثقافي للمجتمع الإسلامي في ذلك الحين - أقصي درجات الشمول للظلم والطغيان، فأهل البدو - بسبب طريقة حياتهم - بعيدون عن متناول السلطة وأجهزتها ومن ثم فهم يتمتعون بفرص أكثر من أهل المدن للنجاة من كثير من شرور الطغيان السياسي. ولكن هذه الفتنة المنتصرة يبلغ من قوتها وعنفها أن هؤلاء البدو - أهل الوبر - لا يسلمون منها، بل تسومهم سوء العذاب.
كما أبرز الإمام في هذا النص الوجوه الأخري للمعاناة: الإذلال، وسياسة القمع، وتجاوز الشريعة والقانون، وانحطاط العلاقات الإنسانية.
* وقال عليه السلام:
… فعند ذلك لا يبقي بيت مدر ولا وبر إلا وأدخله الظلمة ترحة (8)، وأولجوا فيه نقمة، فيومئذ لا يبقي لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر.
أصفيتم بالأمر غير أهله (9) وأوردتموه غير مورده، وسينتقم الله ممن ظلم، مأكلا بمأكل، ومشربا بمشرب، من مطاعم العلقم،
(1) عبيط الدماء: الطري منها.
(2) الثلم: الكسر، يعني أنها تنتهك الدين وتقلص نفوذه وولايته بترك العمل به وظلم أهله والداعين إليه.
(3) الكيس: الحاذق العاقل.
(4) الأرجاس: الأشرار.
(5) قتيل مطلول: مهدور الدم، لا دية ولا قصاص.
(6) الختل: الخداع، يعني يخدعون الناس بحلف الأيمان وإظهار شعار الإسلام.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 151.
(8) ترحمة: حزن وألم.
(9) أصفيت فلانا كذا: أعطيته إياه خالصا، يعني أعطيتم السلطة السياسية في الإسلام إلي غير أهلها.
(١٨٧)
مفاتيح البحث: الظلم (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الحزن (1)، الدية (1)

صفحه 160

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٨
ومشارب الصبر والمقر (1)، ولباس شعار الخوف ودثار السيف (2)، وإنما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام (3) (4).
في هذا النص بين الإمام أيضا طابع الشمول لهذه الفتنة. وذكر جمهور الناس في كل عصر بالسبب الموضوعي الذي ولدها، ومكن لها، وهو تجاوز الشرعية في الحاكم والنظام، والانسياق وراء المصالح الخاصة، والأنانيات الفردية والقبلية، وعدم تحمل مسؤوليات الصراع ضد الباطل وأهله.
* ومن ذلك قوله عليه السلام مخاطبا الخوارج، مخبرا لهم بما سيكون عليه حالهم في نظام الفتنة الآتي حيث لا يجدون الإنصاف والعدل، والتفهم لأوضاعهم وآمالهم التي يجدونها في نظام العدل الذي يقوده الإمام.
أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة (5) يتخذها الظالمون فيكم سنة (6).
* تنتصر الفتنة، وتسود مفاهيمها، وتفرض علي المجتمع قيمها، وتمضي علي ذلك السنون، والفتنة تزداد قوة ومناعة وتسلطا، ويمتد سلطانها لينفذ في كل زاوية وعلي كل صعيد في المجتمع، ويسود الإعتقاد بأن كل شئ قد انتهي، وبأن التاريخ قد استقر علي هذه الصيغة إلي النهاية، وتنشأ علي هذا الإعتقاد أجيال بعد أجيال.
ولكن هذا الإعتقاد خاطئ، فحركة التاريخ لا تتوقف عند صيغة بعينها، بل هي دائبة التقلب والتغير، وسيكون لانتصار الفتنة واستقرار سلطانها نهاية قد لا تنتهي بها الفتنة، ولكنها تواجه مقاومة جديدة.
(1) الصبر: عصارة شجر مر، والمقر: السم.
(2) الشعار من الملابس ما يكون علي الجلد، والدثار ما يكون علي الثياب.
(3) الزاملة الناقة أو الدابة التي يحمل عليها المتاع.
(4) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 158.
(5) الأثرة: الاستبداد بالخيرات دون الآخرين.
(6) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 58.
(١٨٨)
مفاتيح البحث: الخوارج (1)، الباطل، الإبطال (1)، الخوف (1)، الصبر (2)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 161

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٩
تنشأ هذه المقاومة من حق استعاد بعضا من حيويته فهو لا يطيق السكوت، فيعبر عن نفسه بالثورة، لا لينتصر، فقد يكون انتصار الحق بعيد المنال في هذه المرحلة من التاريخ، ولكن ليكسر من غلواء الفتنة، ويعطل جانبا من عملها التخريبي في عقيدة الأمة وشخصيتها، وذلك حين يسلب الفتنة الشعور بالاستقرار والأمان، فيحملها علي اتخاذ موقف الدفاع عن نفسها والتخلي عن بعض مناهجها التخريبية، ويحملها علي أن ترتد ولو قليلا إلي الصواب.
أو تنشأ هذه المقاومة من أزمات داخل الفتنة نفسها، تولد فتنا تزعج أهل السلطان القديم، وتأتي إلي سدة السلطان بقوم آخرين، ويكون بين أولئك وهؤلاء فرج لأهل الإيمان، ونهضة لأهل الحق في غفلة أهل السلطان.
قال عليه السلام:
حتي يظن الظان أن الدنيا معقولة علي بني أمية (1)، تمنحهم درها (2)، وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظان لذلك، بل هي مجة (3) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة، ثم يلفظونها جملة (4).
وقال عليه السلام في نص آخر يخاطب بني أمية:
فما احلولت لكم الدنيا في لذتها، ولا تمكنتم من رضاع أخلافها (5) إلا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (6)، قلقا وضينها (7)، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود (8)، وحلالها بعيدا غير موجود، وصادفتموها والله، ظلا ممدودا إلي أجل معدود.
(1) معقولة..: مقصورة عليهم، دائمة لهم، من عقل الناقة إذا حبسها بالعقال في مكان بعينه.
(2) الدر: اللبن، يعني خيرات الدنيا والذاتها.
(3) مجة: مصدر مرة، من مج الشراب من فيه، يعني أنها لا تدوم لهم كما يتوهم الناس وإنما يمجونها ويلفظونها رغما عنهم.
(4) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 87.
(5) الأخلاف جمع خلف: حملة ضرع الناقة.
(6) الخطام: ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، يعني أن تخاذل أهل الحق عن نصرة الحق مكن لأهل الباطل من الإنتصار.
(7) الوضين: حزام عريض يشد به الرحل علي الناقة، وهو كناية عن تخاذل أهل الحق الذي مكن لأهل الباطل من النصر.
(8) السدر: شجر النبق، والمخضود: المقطوع شوكه. يعني أنكم انتصرتم بأقوام يستحلون حرام الله، ولا يتورعون من شئ.
(١٨٩)
مفاتيح البحث: بنو أمية (2)، الرضاع (1)، الظنّ (1)، كتاب نهج البلاغة (1)، الباطل، الإبطال (2)

صفحه 162

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٠
فالأرض لكم شاغرة (1)، وأيديكم فيها مبسوطة وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة. ألا وإن لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا. وإن الثائر في دمائنا كالحاكم في حق نفسه، وهو الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب. فاقسم بالله يا بني أمية: عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم، وفي دار عدوكم … (2).
وقال عليه السلام:
.. فاقسم ثم أقسم لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة (3)، ثم لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا ما كر الجديدان (4) (5).
* وهكذا يري الإمام ببصيرته التي تضئ آفاق المستقبل الملفح في ظلمات الزمان إلا في حركة التاريخ الهادرة، والقوي السياسية التي يحبل بها المجتمع في الحاضر وسيلدها في الآتي من الأيام، لتحرم الفتنة من لذات انتصارها، وتتراجع إلي مواقع الدفاع عن نفسها، وتبدل القوي الحاكمة بقوي جديدة، عادلة أو ظالمة.
(1) شاغرة: خالية، يعني لم يقاومكم أحد.
(2) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 105.
(3) نخم: أخرج النخامة من صدره، وهي المواد المخاطية، كني بذلك عن سلطان بني أمية.
(4) الجديدان: الليل والنهار. يعني أنهم لا يعودون إلي السلطة أبدا.
(5) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 158.
(١٩٠)
مفاتيح البحث: بنو أمية (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 163

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩١
5 - الثورة الفتنة تنمو، ويتسع سلطانها، ويزيد شيئا فشيئا عدد الساخطين عليها: من أبنائها الذين نبذتهم بعد أن استغنت عنه، ومن الصفوة الذين قامت في أساسها ضدهم، ومن أولئك الذين لم يكن يعنيهم الأمر في شئ، ولكنهم اكتشفوا - بعد انتصار الفتنة التي لم يحاربوها أول الأمر - أنهم قد غدوا من ضحاياها … هؤلاء جميعا الذين تجملهم كلمة أمير المؤمنين في تصويره لمعاناة الناس من الفتنة بقوله:
… وحتي يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه (1).
ويري هؤلاء جميعا أن النظام، نظام الفتنة، ظالم. وكل فريق يري ظلم هذا النظام من منظوره الخاص:
بعضهم يري ظلم النظام من منظوره النفعي الخاص، أو الفئوي، أو القبلي، دون أن يبالي بانتهاك الثورة لحقوق أشخاص آخرين أو فئات أخري، ودون أن يبالي بتجاوز النظام للشريعة وتعطيل دور الأمة الرسالي في العالم، وتحويلها إلي فئات محتربة متخاصمة فقدت وحدتها الداخلية.
وبعضهم الآخر يري ظلم النظام من منظور رسالي وشرعي يتجاوز مصالحه الشخصية ومصالح فئته وقبيلته.
كل الفئات الساخطة علي النظام تري ظلم هذا النظام … هذا الظلم الذي هو
(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 98.
(١٩١)
مفاتيح البحث: الظلم (2)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 164

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٢
حصيلة التعارض بين القانون كما يراه كل فريق من منظوره الخاص وبين سياسة الدولة.
وتتأهب كل فئة - بوسائلها الخاصة - للعمل من أجل تصحيح الوضع القائم برفع التعارض بين الواقع السياسي للدولة وبين القانون، بإرغام الدولة علي أن تعود في سياستها إلي القانون، أو بتغيير الفئة الحاكمة نفسها.
والوسيلة إلي إنجاز عملية التصحيح هذه هي الثورة.
إذن، عملية الإحتجاج بالعنف علي واقع نظام الفتنة وممارساته قد تكون ثورة عادلة، وقد تكون أزمة في داخل الفتنة نفسها. نعني: فتنة جديدة تولد من فشل الفتنة الحاكمة في إرضاء قوي سياسية في المجتمع تحمل نفس المفاهيم التي تحملها الفتنة الحاكمة (1).
إن الإحتجاج بالعنف علي واقع نظام الفتنة له فائدة إيجابية كبري وهامة سواء أكان القائمون بالاحتجاج عادلين أو مفتونين.
هذه الفائدة هي إدخال الاضطرابات والقلق علي هذا النظام وحرمانه من فرص الاستقرار والشعور بالأمن التي تتيح له المضي في تزوير الشريعة وإفساد القيم. وتتيح لقوي الخير والحق الصامدة في الأمة أن تتنفس قليلا، وتمارس دورها في توعية الأمة بحرية نسبية لم تكن لتتاح لها لو أن نظام الفتنة نعم بالسلام والاستقرار.
* وقد كان موقف الإمام إيجابيا من حركات الإحتجاج علي نظام الفتنة الذي سيقوم من بعده، لأنه إذا لم يكن من المتاح - نظرا لما تقضي به حركة التاريخ - انتصار الشرعية الكاملة في المدي المنظور، فان من الخير ألا تتاح لنظام الفتنة فرصة للتمكن والاستقرار، ومن الخير أن يبقي نظام الفتنة في أجواء الخوف والحذر، وحالة الدفاع.
(1) نحن نعبر بمصطلح (ثورة) في التاريخ الإسلامي عن العمل السياسي الذي يتمتع بالشرعية، وما عدا ذلك لا نسميه ثورة، وإنما نسميه تمردا، أو خروجا، أو فتنة.
وإنما جعلنا عنوان هذا الفصل (الثورة) - مع أن البحث فيه يشمل الإحتجاج بالعنف بجميع ألوانه (الشرعية وغير الشرعية) لغرض بياني فقط. هو إيثار بساطة العنوان علي تعقيده.
(١٩٢)
مفاتيح البحث: الخوف (1)

صفحه 165

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٣
ومن هنا كان توجيهه بشأن الخوارج الذين تمظهرت فيهم الفتنة بمظهر الرفض المطلق للأنظمة القائمة، ومن ثم فهم مؤهلون لأن يشكلوا قوة مزعجة لنظام الفتنة المنتصر.
لقد نهي الإمام عن قتال الخوارج من بعده، مع إنه، هو، قاتلهم في خلافته، - لأنهم - حين قاتلهم وقتلهم في النهروان بعد أن رفضوا كل عروض السلام، وبعد أن رفضوا التخلي عن مواقفهم - كانوا يمثلون قوة هادمة لنظام عادل، أما في نظام الفتنة فإنهم يمثلون قوة شالة وشاغلة لهذا النظام الجائر المنحرف عن أن يمارس طغيانه المادي والسياسي، وينفذ خطط التحريف العقيدي والشرعي. قال عليه السلام:
لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه (1).
وقد كان عليه السلام يري الثورة آتية.
إنه لا يصف هذه الثورة بأنها عادلة مستقيمة، أو ظالمة مفتونة، وإنما يري أن نظام الفتنة المنتصر لا يتمتع طويلا بانتصاره واستقراره، بل ستسلب منه لذة النصر وحرية الحركة التي يتيحها النصر والاستقرار السياسي والاجتماعي، ثورات دامية تتوالي فتقضي في النهاية علي فتنة بني أمية، وتزيل ملكهم.
قال، وهو يحدث جمهوره عن الفتنة وانتصارها، والمعاناة من ويلاتها وشرورها:
… ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم (2)، بمن يسومهم خسفا (3)، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة (4)، لا يعطيهم إلا السيف، ولا يحلسهم إلا الخوف (5) فعند ذلك تود قريش - بالدنيا وما فيها - لو يرونني مقاما واحدا، ولو قدر جزر جزور، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه (6).
(1) نهج البلاغة، رقم النص - 61.
(2) الأديم الجلد، وتفريجه سلخه: يعني أن الله يسلخ سلطان بني أمية عن الأمة مع شدة رسوخه ولصوقه.
(3) الخسف: الذل. يعني أن الثورة الآتية تعاملهم بالإذلال.
(4) مصبرة مملوءة إلي أصبارها بمعني حافتها، يعني لا يرحمهم ولا يخفف عنهم.
(5) حلس البعير: كساء يوضع علي ظهره، يعني أن الثورة الآتية تلبس بني أمية الخوف.
(6) نهج البلاغة - رقم النص: 93.
(١٩٣)
مفاتيح البحث: بنو أمية (3)، الخوارج (3)، القتل (3)، الخوف (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الصبر (1)

صفحه 166

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٤
والإمام يري أن من الهموم الكبري لنظام الفتنة المنتصر تشتيت القوي السياسية والعقيدية المناهضة له، سواء أكانت هذه القوة أو تلك قد حافظت علي نقائها الإسلامي أو تلوثت بغبار الفتنة بشكل أو بآخر.
ولكنه يري أيضا أن محاولات نظام الفتنة لتشتيت القوي المضادة له لن تستمر في النجاح، فان حركة التاريخ تعمل علي تجميع هذه القوي من جديد وفقا لصيغ سياسية جديدة، ويكون ذلك إيذانا بنهاية الاستقرار لنظام الفتنة الأموي.
قال عليه السلام:
… وأيم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب، لجمعكم الله لشر يوم لهم (1).
وقال عليه السلام:
افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فمنهم آخذ بغضن أينما مال مال معه علي أن الله تعالي سيجمعهم لشر يوم لبني أمية، كما تجتمع قزع الخريف (2)، يؤلف الله بينهم، ثم يجمعهم ركاما كركام السحاب (3)، ثم يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستشارهم كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه أكمة (4)، ولم يرد سننه رص طود ولا حداب أرض (5)، يزعزعهم الله في بطون أوديته (6) ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، ويمكن لقوم في ديار قوم وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين كما تذوب الألية علي النار (7).
*(1) نهج البلاغة - رقم النص: 106.
(2) القزع: القطع المتفرقة من السحاب.
(3) ركام السحاب: السحاب المتراكم. والمستشار مكان تجمعهم وانطلاقهم ثائرين، وسيل الجنتين السيل الذي دمر الله به قوم سبأ وحضارتهم عندما طغوا وبطروا.
(4) القارة: ما اطمأن من الأرض. والأكمة: ما ارتفع من الأرض، يعني أن الكارثة ستكون شاملة عليهم لا يفلت منها أحد منهم ولا مؤسسة من مؤسسات دولتهم.
(5) السنن: الجري، والطود: الجبل العظيم، والحداب: المرتفعات. والمراد هنا هو المراد في رقم (3).
(6) يزعزعهم: يفرقهم في بطون الأودية حيث يختفون، كناية عن أماكن اختفائهم، ثم يجمعهم.
(7) نهج البلاغة - رقم النص: 166.
(١٩٤)
مفاتيح البحث: بنو أمية (1)، كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 167

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٥
ومن أروع رؤاه لحركة التاريخ في المستقبل رؤيته لحركة الخوارج التمردية، وكيف أنها ستنمو وتتشعب علي رغم ما يبدو في الحاضر من مظاهر اندثارها وانقطاع أصلها، وذلك أنه لما قتل الخوارج قيل له: يا أمير المؤمنين: هلك القوم بأجمعهم، فقال:
كلا والله. إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء (1) كلما نجم منهم قرن قطع (2) حتي يكون آخرهم لصوصا سلابين (3).
* وهكذا تأتي الثورة في أعقاب انتصار الفتنة فتحول بينه وبين الاستقرار، وتحول بين أدواته وبين أن تمكن لمفاهيمها في الأمة، وتتيح بذلك فرصا لقوي الخير الباقية أن تنعم بشئ من الأمان، وأن تقدر علي شئ من الحركة يتيح لها إبقاء النور الصافي متألقا في ظلمات الفتنة، في عقول وقلوب كثيرة، بانتظار الأمل الكبير، والنصر النهائي الكبير.
(1) قرارات النساء: أرحام النساء.
(2) نجم: ظهر. قرن: رئيس أو جماعة.
(3) نهج البلاغة - رقم النص: 60.
(١٩٥)
مفاتيح البحث: الخوارج (2)، القتل (1)، الهلاك (1)، كتاب نهج البلاغة (1)

صفحه 168

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٧
6 - الأمل الإنسان يعيش في الحاضر مشدودا بين وترين: الماضي والمستقبل، فهو لا يني يحمل الماضي في وعيه، وفي ذاكرته، وفي تركيب جسده، مثقلا بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآماله، مندفعا بها نحو المستقبل، يضئ عينيه نور الأمل الذي يغمر قلبه بالحياة الأفضل. ولكنه أمل معذب بالحيرة، والقلق، والمخاوف من خيبات الأمل.
وهذه الحقيقة بارزة في تكوين وحياة الإنسان الفرد بوضوح، وهي لا تقل وضوحا في حياة الأمم والشعوب والجماعات.
وقد وقف الإسلام في تعليمه التربوي الإيماني للأفراد في وجه الميل إلي الإغراق في الأمل، لأنه حين يشتد ويغلب علي مزاج الإنسان يجعله غير واقعي، ويحبسه في داخل ذاته، وينمي فيه الشعور ب الأنا علي نحو لا يعود الآخرون موضوعا لاهتمامه وعنايته أو يجعله قليل الاهتمام بهم، وهذا أمر مرفوض في دين يجعل الاهتمام الشخصي بالآخرين أحد المقومات الأساسية للشخصية الإنسانية السليمة، ولأن الاغراق في الأمل يحول بين الإنسان وبين كثير من فرص كثيرة للتكامل الروحي والأخلاقي.
والنصوص القرآنية في هذا الشأن كثيرة، كذلك النصوص النبوية الواردة في السنة. وقد حفلت مواعظ الإمام علي في نهج البلاغة بالتحذير من الاسترسال مع الآمال (1).
(١) راجع دراسة موسعة ومعمقة عن هذا الموضوع في فصل (الوعظ) من كتابنا، دراسات في نهج البلاغة - الطبعة الثالثة.
(١٩٧)
مفاتيح البحث: كتاب نهج البلاغة (2)

صفحه 169

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٨
وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أن تأميل الإنسان في مستقبله - باعتدال وواقعية - ممارسة غير أخلاقية في الإسلام، كيف وقد حذر الله تعالي في القرآن الكريم من اليأس ونهي عنه في آيات تذكر برحمة الله وروح الله، ومن ذلك تعليم يعقوب سلام الله عليه لبنيه حين أمرهم بالبحث عن يوسف وأخيه، وذلك كما ورد في قوله تعالي:
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله.
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (1).
فإن يعقوب طبق مبدأ مشروعية الأمل العام المطلق علي حالة فردية هي حالته وحالة بنيه.
وإذن، فالأمل، في نطاق الواقع، حقيقة كيانية في الإنسان، قد يكون فقدانها ظاهرة مرضية نفسية وليس علامة عافية.
هذا علي الصعيد الفردي.
وأما علي الصعيد الجماعي في الأمم والشعوب والجماعات فان الأمل عامل هام جدا وأساسي في تنشيط حركة التاريخ وتسريعها، وجعلها تتغلب بيسر علي ما يعترضها من صعوبات ومعوقات.
والأمل الموضوعي القائم علي اعتبارات عملية تنبع من الجهد الإنساني، واعتبارات عقيدية وروحية … هذا الأمل يشغل حيزا هاما وأساسيا في تربية الله تعالي للبشرية السائرة في حياتها علي خط الإيمان السليم.
وقد اشتمل القرآن الكريم علي آيات محكمات تتضمن وعد الله تعالي بالنصر والعزة لأهل الإيمان وقادتهم من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان.
قال الله تعالي:
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (2).
(1) سورة يوسف (مكية - 12) الآية: 87.
(2) سورة المؤمن (مكية - 40) الآية: 51.
(١٩٨)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (2)، سورة يوسف (1)

صفحه 170

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٩٩
وقال تعالي:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (1).
وقال تعالي:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (2).
وقد وجه الله تعالي في القرآن الكريم رسوله محمدا (ص) والمسلمين إلي أن الأمل بالنصر والحياة الأفضل يجب أن يبقي حيا نابضا دافعا إلي العمل حتي في أحلك ساعات الخذلان والهزيمة وانعدام الناصر … لقد كانت الآمال بالنصر تتحقق في النهاية علي أروع صورها حين يخالج اليأس قلوب أهل الإيمان، وحين يصل الرسل الكرام إلي حافة اليأس:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القري أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. ولدار الآخرة خير للذين اتقوا، أفلا تعقلون. حتي إذا استيئس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين. لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفتري، ولكن تصديق الذي بين يديه. وتفصيل كل شئ، وهدي ورحمة لقوم يؤمنون (3).
* إن الأمل الجماعي بمستقبل أكثر إشراقا وأقل عذابا، أو مستقبل مترع بالفرح خال من المنغصات … إن هذا الأمل يستند إلي وعد إلهي، فهو، إذن، ليس مغامرة في المستقبل، وإنما هو سير نحو المستقبل علي بصيرة.
وهو أمل يرفض الواقع التجريبي الحافل بالمعوقات نحو مستقبل مثالي مشروط بالعمل المخلص في سبيل الله، وفي سبيل الله بناء الحياة، وعمارة الأرض، وإصلاح
(1) سورة الأنبياء (مكية - 21) الآية: 105.
(2) سورة الأعراف (مكية - 7) الآية: 128.
(3) سورة يوسف (مكية - 12) الآيات: 109 - 111.
(١٩٩)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (1)، سبيل الله (2)، اليأس (2)، سورة الأنبياء (1)، سورة الأعراف (1)، سورة يوسف (1)

صفحه 171

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠٠
المجتمع. كما أن هذا المستقبل مشروط بالصبر علي الأذي في جنب الله، والصدق في تناول الحياة والتعامل معها ومع المجتمع والرضا بقضاء الله تعالي.
والسنة حافلة بالنصوص التي تغرس في قلب الإنسان روح الأمل، وتملأ وعيه ببشائر المستقبل الأفضل، استنادا إلي وعد الله تعالي.
* والتأمل العميق الواعي في نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة التي تفصح عن العلاقة بين الله والإنسان، وتكشف عن طبيعة هذه العلاقة … كذلك التأمل في الفقه المبني علي هذين الأصلين … إن هذا التأمل يكشف عن أن العلاقة بين الله والناس مبنية علي ثلاث حقائق ربانية يقوم عليها وجود المجتمع البشري، وديمومته، ونموه وتقدمه:
1 - الحقيقة الأولي هي الإنعام المطلق غير المشروط بشئ علي صعيد الشروط المادية للحياة بما يكفل لها الديمومة والنمو التصاعدي نحو الأفضل، فقد خلق الله الإنسان، وزوده بالمواهب العقلية والنفسية والروحية، التي تتيح له أن يتعامل مع الطبيعة المسخرة له، وتمكنه من اكتشاف خيراتها وكنوزها، ومعرفة قوانينها وتوجيه هذه الاكتشافات والمعارف لخدمة نفسه ونوعه.
2 - الحقيقة الثانية هي الرحمة التي كتبها الله علي نفسه (1) والتي وسعت كل شئ (2)، وإقالة العثرات - علي صعيد الأمم والجماعات والمجتمعات، والأفراد -، والتجاوز عن الخطايا والسيئات، ومنع الفرص المتجددة لتصحيح السلوك، وتقويم
(1) قال تعالي: قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله، كتب علي نفسه الرحمة سورة الأنعام (مكية - 6) الآية 12 وقال تعالي:
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم علي نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم سورة الأنعام (مكية - 6) الآية: 54.
(2) قال تعالي … ذو رحمة واسعة، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سورة الأنعام (مكية - 6) الآية: 147. وقال تعالي: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون سورة الأعراف (مكية - 7) الآية: 156. وقال تعالي ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم سورة المؤمن (مكية - 40) الآية: 7.
(٢٠٠)
مفاتيح البحث: الكرم، الكرامة (1)، الجنابة (1)، سورة الأنعام (2)، سورة الأعراف (1)، الوسعة (1)

صفحه 172

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠١
الإعوجاج، والتوبة والإنابة إلي الله تعالي والعمل بقوانينه وشرائعه.
وهذه الحقيقة نابعة من معادلة تقابل بين حقيقتين كونيتين:
أ - خيرية الله الشاملة المطلقة.
ب - الحقيقة الموضوعية الثابتة في الفكر الإسلامي، وهي أن الإنسان خلق ضعيفا (1).
وما يخالف هذه الحقيقة من الآلام والكوارث فهو علي قسمين:
الأول - ناشئ عن عمل الطبيعة وقوانينها، وهي قوانين تعمل، في غرضها الأقصي، لخير الجنس البشري بصورة شاملة وغير مقيدة بزمان أو رقعة جغرافية، وهذا ما يجعلها قوانين عادلة وإن أصابت بالآلام بعضا من البشر في زمان بعينه أو مكان بعينه.
وهذا بالنسبة إلي الكوارث الطبيعية التي تحصل بغير تدخل من الإنسان أو تقصير منه. أما ما يحدث في الطبيعة نتيجة لعمل الإنسان نفسه أو سلبيته، أو عدم التزام بالقوانين (في عصرنا الحاضر: تلويث البيئة، مثلا، أو روح الاستغلال والعدوان في المجتمعات الصناعية ضد العالم الثالث، مثلا) … هذا النوع من الكوارث يدخل في القسم الثاني التالي.
الثاني - ناشئ عن سوء اختيار الإنسان، واستعجاله الخير قبل توفر شروطه ونضجها، ومن عدوان بعضه علي بعض.
3 - الحقيقة الثالثة هي البشارة من الله تعالي بأن أمور الحياة والمجتمع تصير إلي أفضل وأحسن مما عليه في الحاضر. ولكن هذه البشارة لا تتحقق بطريقة إعجازية محضة.
إن تحقيق البشارة يتم وفاء بالوعد الإلهي، ومن ثم ففيها عنصر غيبي غير تجريبي، ولكن تحقيقها مشروط بالعمل البشري:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (2).
(1) قال الله تعالي: يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا، سورة النساء (مدنية - 4) الآية: 28.
(2) سورة الإسراء (مكية - 17) الآية: 9.
(٢٠١)
مفاتيح البحث: القرآن الكريم (1)، الإختيار، الخيار (1)، سورة الإسراء (1)، سورة النساء (1)

صفحه 173

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠٢
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلي الله لهم البشري، فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب (1).
… وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (2).
* من هذا المنطلق الثابت في الفكر الإسلامي، ومن البشائر المحددة في الكتاب الكريم والسنة النبوية بفرج شامل آت في النهاية يملأ عدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا … من هذا المنطلق، ومن هذه البشائر كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يري نور الأمل في المستقبل، وكان يبشر بأن فرجا آتيا لا ريب فيه:
إن حركة التاريخ تقضي به، وإن وعد الله يقضي به، والله لا يخلف الميعاد.
وقد كانت رؤية الإمام لحركة التاريخ في المستقبل لا تقتصر علي رؤية النكبات والكوارث - كما توحي بذلك كثرة النصوص الحاكية عن ذلك في نهج البلاغة - وإنما تشمل البشائر أيضا، وقد تقدم في الحديث عن (المعاناة) وعن (الثورة) بعض النصوص الدالة علي ذلك.
وكانت رؤية الإمام دقيقة، محددة، مضيئة، واضحة المعالم، في نطاق الخطوط الكبري والتيارات الأساسية لحركة التاريخ، وإن لم تشتمل علي التفاصيل، من ذلك هذا الشاهد علي رؤيته لحركة الثورة العادلة التي لا تنطفئ مهما تكالبت عليها الرياح الهوج، فقد قال له بعض أصحابه، لما أظفره الله بأصحاب الجمل: وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليري ما نصرك الله به علي أعدائك فقال له الإمام (ع):
أهوي أخيك معنا (3)؟ فقال: نعم. قال: فقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان (4) ويقوي بهم الإيمان (5).
(1) سورة الزمر (مكية - 39) الآية: 17 - 18.
(2) سورة الأحزاب (مدنية - 33) الآية: 47.
(3) الهوي: الميل والرغبة، يعني هنا الموقف السياسي.
(4) يرعف بهم.. يوجدون في المجتمع من غير أن يتوقع وجودهم لاختلافهم النوعي الأساسي عن الأخلاقية والذهنية السائدة في المجتمع، فيفاجأ المجتمع بوجودهم.
كما يفاجئ الرعاف صاحبه.
(5) نهج البلاغة - رقم النص: 12.
(٢٠٢)
مفاتيح البحث: الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، سورة الأحزاب (1)، سورة الزمر (1)

صفحه 174

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠٣
هذا الأمل الكبير الآتي الذي يبشر به الإمام عليه السلام يتمثل في قيام ثورة عالمية تصحح وضع عالم الإسلام، ومن ثم وضع العالم كله، يقودها رجل من أهل البيت هو الإمام المهدي. وقد وردت في نهج البلاغة نصوص قليلة نسبيا تحدد بعض ملامح هذا الأمل، فمن ذلك قوله عليه السلام:
… حتي يطلع الله لكم من يجمعكم، ويضم نشركم (1) (2) والعقيدة بالمهدي عقيدة إسلامية ثابتة أجمع عليها المسلمون بأسرهم، ودل عليها القرآن الكريم في جملة آيات، والسنة الشريفة في مئات الأحاديث المتواترة عن رسول الله (ص) وأئمة أهل البيت. قال ابن أبي الحديد في التعليق علي النص الآنف: ثم يطلع الله لهم من يجمعهم ويضمهم، يعني من أهل البيت عليه السلام. وهذا إشارة إلي المهدي الذي يظهر في آخر الوقت. وعند أصحابنا إنه غير موجود الآن وسيوجد، وعند الإمامية إنه موجود الآن (3).
وقال ابن أبي الحديد في التعليق علي نص آخر مماثل للنص الآنف: فإن قيل: ومن هذا الرجل الموعود الذي قال عليه السلام عنه (بأبي ابن خيرة الإماء)؟ قيل: أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر، وأنه ابن أمة اسمها نرجس، وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد (4) وليس بموجود الآن (5).
ومن النصوص التي اشتمل عليها نهج البلاغة في هذا الشأن قول الإمام:
ألا وفي غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها علي مساوئ أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها (6)، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل
(1) يضم نشركم: يجمع شتاتكم ويوحد مواقفكم في حركة تاريخية واحدة.
(2) نهج البلاغة - رقم النص: 100.
(3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة - 7 / 94.
(4) أم ولد: كناية عن الأمة المملوكة.
(5) المصدر السابق: 7 / 59.
(6) الفلذة: القطعة. والكبد في المعتقد الطبي القديم من أشرف أعضاء الإنسان وأكثرها أهمية في بقائه وصحته، فهي تخرج الأرض: أفضل كنوزها وثرواتها.
(٢٠٣)
مفاتيح البحث: أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (3)، كتاب نهج البلاغة (3)، القرآن الكريم (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)

صفحه 175

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠٤
السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة (1).
هذا الأمل المضئ في الظلمات ليس أملا قريبا إذا نظرنا إليه بمنظار آمال الأفراد - كل واحد بخصوصه -، فقد يمضي الموت بالأفراد دون أن تكتحل عيونهم بفجر هذا الأمل … إنه بالنسبة إليهم - كأفراد - بعيد … بعيد. كذلك هو أمل بعيد بالنسبة إلي كل مجتمع بمفرده وخصوصه، فقد تمضي القرون علي مجتمع دون أن يحقق في نظامه، ومؤسساته هذا الأمل العظيم … ولكن هذا الأمل علي مستوي النوع البشري كله أمل قريب، لأن الأحداث التي تغير مسار الجنس البشري كله لا تقاس بأعمار الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات ولا بالحركة التاريخية في هذا النطاق أو ذاك أو ذياك، وإنما تقاس بما تناسب مع حجم النوع الإنساني كله، ومع حركة التاريخ العالمي كلها … إن ألف سنة، مثلا، في عمر فرد زمن كبير طويل … كذلك الحال بالنسبة إلي عمر حركة تاريخية في مجتمع من المجتمعات، ولكن ألف سنة في عمر البشرية كلها زمن قصير بالنسبة إلي فترات التحول التاريخية الكبري التي أدخلت تغييرا أساسيا علي المسار التاريخي للجنس البشري كله، فنقلته من مستوي معين إلي مستوي أعلي منه مرتبة ونوعية. إن فترات التحول التاريخية الكبري - كما نعلم - تستغرق ألوف السنين، أو - بالأحري - عشرات الألوف من السنين … إنها حركة التاريخ الكبري (2).
وفي انتظار أن تنجز حركة التاريخ الكبري عملها في نقل الإنسانية إلي مستوي أعلي لم تفلح في بلوغه من قبل.. في انتظار ذلك تستمر حركة التاريخ في دوائرها الصغري في العمل علي تغيير حال البشر: أفرادا، وجماعات، ومجتمعات، ومجموعات إقليمية.
(١) نهج البلاغة - رقم النص: ١٣٨.
(٢) لعل ابن أبي الحديد قد طافت بذهنه هذه الفكرة حين قال معلقا علي أحد نصوص نهج البلاغة بهذا الشأن: ثم وعدهم بقرب الفرج، فقال: إن تكامل صنائع الله عندكم، ورؤية ما تأملونه أمر قد قرب وقته، وكأنكم بعد قد حضر وكان، وهذا (علي نمط المواعيد الإلهية بقيام الساعة، فإن الكتب المنزلة كلها صرحت بقربها، وإن كانت بعيدة عنا، لأن البعيد في معلوم الله قريب، وقد قال سبحانه (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) شرح نهج البلاغة ٧ / 95.
(٢٠٤)
مفاتيح البحث: الموت (1)، إبن أبي الحديد المعتزلي (1)، كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1)، كتاب نهج البلاغة (2)، الفرج (1)

صفحه 176

التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٢٠٥
إن حركة التاريخ في دوائرها الصغري تغير الإنسان نحو الأفضل علي الصعيد المادي كما يثبت ذلك الواقع التجريبي، ولكنها لا تغيره نحو الأفضل دائما علي الصعيد المعنوي والأخلاقي، بل قد تعود به إلي الوراء كما يثبت الواقع التجريبي أيضا، وبالنسبة إلي كثير من مظاهر حضارة عصرنا بشكل خاص.
والمسؤول عن التخلف المعنوي للبشر ليس القدر، إنه إرادة البشر أنفسهم، فإن العالم الأخلاقي لدي الفرد والمجتمع ليس عالما معطي وجاهزا يأخذه الناس كما يستعملون الوصفات الطبية أو المعادلات الرياضية، إنما يتم بناؤه بالمعاناة اليومية للناس مع شهواتهم ورغائبهم الشريرة، ومجاهدتهم لأنفسهم من أجل التغلب عليها. إن العالم الأخلاقي ليس سهل البناء كالعالم المادي التجريبي، لأنه تجاوز الإنسان لنفسه باستمرار نحو إنسانية أغني وأعلي، ومن هنا فإن العالم الأخلاقي يبني التعامل مع المستحيل، وكأنه ممكن، إنه في التكوين دائما، لأن الإنسان كلما بلغ ذروة جديدة في تكامله المعنوي لاحت لعينيه ذروة أسمي وأعلي.
وإذن، فالبشر، بانتظار أن يتحقق هذا الأمل العظيم، لا يجوز أن يجمدوا وإنما عليهم أن يتحركوا في أطر دوائر التاريخ الصغري نحو بلوغ ذري إنسانية جديدة أعلي مما بلغوه في كفاحهم الدائب نحو مزيد من الكمال والنور.
وإذن، فالمسلمون، باعتبار أن هذا الأمل العظيم سيتحقق بإذن الله في نطاقهم بما هم جماعة بشرية عقيدية ومن خلال الإسلام نفسه بما هو دينهم، … المسلمون ينتظرون هذا الأمل العظيم قبل غيرهم من الجماعات العقيدية في المجتمع البشري.
وقد ارتكز في أذهان الكثيرين ممن عالجوا موضوع المهدي والمهدوية أن هذا المعتقد … هذا الأمل العظيم الثابت بمقتضي وعد الله في الكتاب والسنة، والثابت بمقتضي حركة التاريخ الكبري … أن هذا المعتقد عامل سلبي في حركة التقدم والنمو يعوقها، ويبعث علي السكون، ويقعد بالناس عن الحركة والسعي نحو التكامل المادي والمعنوي في انتظار أمل آت ينقذ البشر بالمعجزة، ينقذ البشر بغير جهد البشر.
وربما تكون بعض المظاهر في تاريخ عالم الإسلام تعزز هذا الإتهام ولكن الحقيقة هي أن هذا اللون من الانتظار السلبي المريض دخل علي ذهنية الإنسان نتيجة لانتكاس حضاري تسلل إليه من بعض الثقافات الأجنبية عن الإنسان، فشل قدرته علي العمل، لأنه شل إرادته وفعاليته وحوله إلي حياة التأمل والقناعة والاستسلام.
أما الحقيقة فهي علي خلاف ذلك، إن الانتظار - نتيجة لهذا المعتقد - هو انتظار إيجابي فعال، هو تهيؤ واستعداد، هو كدح دائم ومستمر يجب أن يطبع حركة تاريخ الإنسان المسلم نحو توفير أفضل الشروط التي تهيئ لهذا الأمل العظيم أحسن ظروف النجاح والتحقق.
لقد رأينا أن حركة التاريخ في دوائرها الصغري لا تتوقف، ونوع هذه الحركة - تقدمية صاعدة أو رجعية هابطة (علي صعيد المعنويات والأخلاق) - يتوقف علي إرادة البشر أنفسهم، فهم الذين يبنون عالمهم الأخلاقي الأمثل وهو لا يبني إلا بالعمل الإيجابي الذي يحركه الطموح نحو إنسانية أفضل.
* سلام الله علي محمد وآله الطاهرين، وصحبه الذين اتبعوه بإحسان إلي يوم الدين.
وسلام الله علي أشهر المؤمنين الإمام علي أمير المؤمنين.
والحمد لله رب العالمين.
(٢٠٥)
مفاتيح البحث: يوم القيامة (1)، الوقوف (1)، المرض (1)، الشهوة، الإشتهاء (1)، الطهارة (1)، الجواز (1)

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.