بحوث فی الملل و النحل

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی جعفر، - 1308 عنوان و نام پديدآور : بحوث فی الملل و النحل : دراسه موضوعیه مقارنه للمذاهب الاسلامیه تالیف جعفر السبحانی مشخصات نشر : قم اداره الحوزه العلمیه بقم الجماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه بقم موسسه النشر الاسلامی 1414ق = - 1372. فروست : (موسسه النشر الاسلامی جامعه المدرسین بقم 720، 721، 722، 723، 725: مرکز مدیریت حوزه علمیه قم 1، 26) شابک : بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی يادداشت : ج 1 (چاپ دوم 1371)؛ بها: 1800 ریال يادداشت : جلد اول و چاپ دوم 1415ق = 1373؛ بها: 4000 ریال جلد پنجم (چاپ دوم 1415ق = 1373)؛ بها: 5500 ریال (موسسه النشر الاسلامی جامعه مدرسین بقم )724 يادداشت : جلد اول (چاپ چهارم 1416ق = 1374؛ بها: 6500 ریال يادداشت : ج 4(چاپ پنجم 1417ق = 1375)؛ 7600 ریال يادداشت : ج 7(چاپ اول 1416ق = 1374)؛ 10000 ریال يادداشت : ج 8(چاپ اول موسسه الامام الصادق 1418ق = 1376)؛ 10000 ریال يادداشت : ج 1412 5ق = 2500 :1371 ریال يادداشت : ج 6 (چاپ چهارم 1424ق = 1382): 34000 ریال یادداشت : کتابنامه مندرجات : ج 1. تاریخ عقائد اهل الحدیث و الحنابله و السلفیه

.-- ج 2. تاریخ الامام الاشعری و انصاره و عقائدهم .-- ج 3. و یتناول تاریخ و عقائد الماتریدیه و المرجئه .-- ج 4. حیاه ابن تیمیه و ابن عبدالوهاب و عقائدهما .-- ج 6. تاریخ الشیعه نشاتهم عقائدهم و شخصیاتهم .-- ج 7. یتناول شخصیه و حیاه الامام الثائر زیدبن علی و تاریخ الزیدیه و عقائدهه -- ج 8. الاسماعیلیه و فرق الفطیحه ...-- موضوع : اسلام -- فرقه ها شناسه افزوده : جامعه مدرسین حوزه علمیه قم دفتر انتشارات اسلامی شناسه افزوده : حوزه علمیه قم مرکز مدیریت رده بندی کنگره : BP236 /س 2ب 3 1372 رده بندی دیویی : 297/5 شماره کتابشناسی ملی : م 73-2155

الجزء الأول (الحنابلة)

مقدّمة الطبعة الأُولى

مقدّمة الطبعة الأُولى

دراسة العقائد للأخذ بالموقف الحقّ

إنّ الوقوف على آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها، ومعرفة أدلّتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق، فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب، والموقف الأحقّ بالأخذ والاتّباع، وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتّجاهات الفكرية المضادة وقد حثّ عليه إذ قال تعالى: (قُلْ هاتُوا بُرْهانكُمْ) (1) أو قال: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه) .(2)

وقد كان المسلمون هم السبّاقين إلى هذا المنهج وهذا الأسلوب من الدراسة والتحقيق، ولهذا نرى في المكتبات والدراسات الإسلامية كتباً في الفقه المقارن، والعقائد المقارنة، وغير ذلك من حقول المعرفة والثقافة.

ونظراً لأهمية هذا الأسلوب في عصرنا الحاضر طلبت مني«لجنة إدارة الحوزة العلمية» في قم المقدسة، إلقاء سلسلة محاضرات في آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الإسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وذلك في

إطار من التحليل، والمقارنة والدراسة والتقييم، فلبّيت هذا الطلب وتم بتوفيق اللّه تعالى إلقاء مجموعة من المحاضرات في هذا المجال، ليكون مقدّمة للمرحلة التخصّصية.

ثمّ حبذت لجنة الإدارة طبع ونشر هذه المحاضرات حتى يستفيد منه عامة

____________________________

1 . البقرة: 111.

2 . الزّمر: 18.

( 6 )

طلاّب الدراسات الإسلامية، فأخرجتها في عدة أجزاء، وهذا هو الجزء الأوّل الذي يقدّم للقرّاء.

فشكراً لهذه اللجنة على اهتمامها بهذه العلوم، ووفّقها اللّه للمزيد من تقديم الخدمات الثقافية المفيدة إنّه سميع مجيب الدعاء.

هذا، والرجاء من القرّاء الكرام تزويدنا بنقدهم البنّاء حتى تكتمل هذه المباحث بإذنه تعالى.

جعفر السبحاني

قم _ الحوزة العلمية

يوم ميلاد فاطمة الزهراء _ عليها السَّلام _

20 جمادى الأُولى/1408ه_

( 7 )

مقدّمة الطبعة الثانية

مقدّمة الطبعة الثانية

مؤرّخ العقائد ومسؤوليته الخطيرة

التاريخ من العلوم الإنسانية التي اهتم بها البشر منذ فجر الحضارة، وقد قام إنسان كلّ عصر وجيل بضبط الحوادث التي عاصرها وعايشها أو تقدّمت عليه، بمختلف الوسائل من أبسطها إلى أعقدها حيث كان يسجل الحوادث، يوماً بالنقش على الأحجار والجدران، ويوماً بالكتابة على الجلود والعظام وجريد النخل، ويوماً بالتحرير على القراطيس والأوراق حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحاضر من وسائل الإعلام والنشر.

وقد قدّم بعمله هذا إلى الأجيال المتأخّرة كنزاً ثميناً، ورصيداً فكرياً غالياً وغنياً وتجارب ملؤها العبر والدروس، والمواعظ والنصائح التي لا يوجد نظيرها في أيّ مختبر من مختبرات العالم سوى في هذا المختبر(التاريخ).

(لَقَدْ كانَ في قصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولي الأَلْباب) .(1)

وربما يتصوّر متصوّر أنّ تسجيل التاريخ وضبط الحوادث أمر سهل لا يستدعي سوى الشعور بالوقائع، ومعرفة اللغة والكتابة، ولكنّني أعتقد _ ككثير ممّن لهم إلمام بالمسائل التاريخية _ أنّ كتابة التاريخ الحقيقي الصحيح الذي يمكن أن يكون مساقط العبر والاعتبار، ومهابط الوعظ

والنصح، أمر مشكل جداً، لأنّ الهدف من تسجيل الحوادث، هو: إراءتها للأجيال المتأخّرة على ما هي عليه سواء أكانت الحوادث بعامّة خصوصياتها موافقة مع ميوله

____________________________

1 . يوسف: 111.

( 8 )

ونزعاته أم لا، وسواء أكانت لصالح المؤرّخ وقومه أم لا; ومن المعلوم أنّ القيام بذلك، يتوقّف على كون المؤرّخ رجلاً موضوعياً متبنّياً للحقيقة، ومحباً لها أكثر من حبه لنفسه ونفيسه و مصالحه، و لكن هذا النمط نادر بين المؤرّخين و لا يقوم به منهم إلاّ الأمثل فالأمثل ولا يأتي بمثله الزمان إلاّ في الفينة بعد الأُخرى; ولأجل ذلك قلّ المؤرّخون الموضوعيون المنصفون، فإنّ أكثرهم يركّزون على ما يروقهم وما يلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقونه،ويتركون ما سوى ذلك، وليس هذا شيئاً محتاجاً إلى البرهنة والاستدلال، بل يتّضح بالرجوع إلى ما أُلّف من التواريخ أيّام الدولتين: الأموية والعباسية، فكلّ يخدم الحكومة التي كانت تعاصره وتدر عليه الرزق، ومن ثمّ صارت التواريخ علبة المتناقضات، وما ذاك إلاّ لأنّ الكاتب لم يراع واجبه الأخلاقي والاجتماعي وقبل كلّ شيء مسؤوليته الدينية.

تاريخ العقائد وتسجيل الفرق

هذا فيما يرجع إلى مطلق التاريخ والوقائع التي يواجهها المؤرّخ في كلّ عصر ومصر سواء أكانت راجعة إلى الملوك والساسة، أو السوقة والشعوب، وأمّا تبيين عقائد الأُمم ومذاهبها التي كانت تدين أو تتمذهب بها على ما هي عليه، فذاك أمر صعب مستصعب، وأشكل من القيام بالرسالة المتقدّمة في مجال تسجيل الحوادث وضبط الوقائع، وما هذا إلاّ لأنّ المؤلّف في هاتيك المجالات _ إلاّ ما شذّ _ مشدود إلى نزعات دينية وعقائد قومية ترسّخت في ذهنه ونفسه وروحه،والفكرة الدينية صحيحة كانت أو باطلة من أحبّ الأشياء عند الإنسان وربما يضحّي في سبيلها بأثمن الأشياء وأغلاها.

هذا من جهة ومن

جهة أُخرى: إنّ القيام بهذه المهمة في مجال تاريخ العقائد يتوقّف على تحلّي المؤرّخ بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكّن بهما من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه، والقيام بهذا الواجب عند فقدان هذين العاملين مشكل جدّاً، ومن ثمّ يتحمّل مؤرّخ العقائد مسؤولية جسيمة أمام اللّه أوّلاً، وأمام وجدانه ثانياً، وأمام الأجيال القادمة والتاريخ ثالثاً.

( 9 )

ومن المؤسف أنّ أكثر من قام بتدوين عقائد الملل لم يتجرّد عن أهوائه وميوله ومصالحه الشخصية وغلبت نزعاته وعواطفه الدينية وتعصّباته الباطلة على تبنّي الواقع وإراءة الحقيقة، فترى أنّ أكثرهم يكتب عقيدة نحلته بشكل مرغوب منمّق ويحاول أن يصحّح ما لا يصحّ ولو بتحريف التاريخ وإنكار المسلّمات، وأمّا إذا أراد الكتابة عن عقائد الآخرين فلا يستطيع أن يكن عداءه لها، ولهذا يحاول أن يعرضها بصورة مشوّهة، فيأتي في غضون كلامه بنسب مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمّة نزولاً على حكم العاطفة الدينية الكاذبة، أو اعتماداً على الكتب التي لا يصحّ الاعتماد عليها، أو تساهلاً في ضبط العقائد والمذاهب، إلى غير ذلك من العوامل التي صارت سبباً لحيرة الأجيال المتأخّرة في مجال التعرّف على عقائد الأقوام والملل، وضلالها وإساءة الظن فيها.

وأخصّ من بين تلك العوامل، الاكتفاء في تبيين عقائد قوم بالرجوع إلى كتب خصومهم وأعدائهم، وهذا داء عمّ أكثر مؤرّخي العقائد والنحل، نظير من ألّف من الأشاعرة في ضبط عقائد المعتزلة، فهم يكتبون عن المعتزلة في ضوء ما وجدوه في كتاب إمام الحنابلة (أحمد بن حنبل) أو إمامهم(أبو الحسن الأشعري) فينسبون إليهم أُموراً لا تجد لها أثراً في كتبهم، بل تجد نقيضه فيها، ولأجل ذلك صارت المعتزلة مهضومة الحق.

وليست المعتزلة هي الفرقة الوحيدة التي تعرّضت لمثل هذا الهضم،

بل قد تحمّلت الشيعة الإمامية القسط الأوفر من الاضطهاد والهضم، وكأنّ أصحاب المقالات والفرق اتّفقت كلمتهم على الكتابة عنهم من دون مراجعة _ولو عابرة_ إلى مصادرهم ومؤلّفاتهم، وكأنّ عرض الشيعة حلال ينهبه كلّ من استولى عليه بقلمه وبيانه، والقوم يكتبون عن الشيعة كلّ شيء وليس عندهم من الشيعة شيء سوى كتب أعدائهم وخصمائهم ومن لا يحتج به في باب القضاء والحجاج.

وها نحن نقدّم نموذجاً في هذا الباب ونشير إلى كتابين أحدهما لبعض المتقدمين والآخر لبعض المعاصرين، فنرى كيف أنّهما تساهلا في عرض عقائد الشيعة ونزلا على حكم العاطفة، ورمياها بكلّ فرية، وكأنّ الصدور مملوءة بالحقد والعداء، وإليك البيان:

( 10 )

الشهرستاني وكتابه «الملل والنحل»

إنّ كتاب «الملل والنحل» للمتكلّم الأشعري «أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني»(المتوفّى سنة 548ه_) من الكتب المشهورة في هذا الباب وأكثرها تداولاً بين أترابه، ولعلّ كثيراً من أهل العلم لا يعرفون كتاباً في هذا الموضوع سواه.

ومع هذه الشهرة ترى في طيّات الكتاب نسباً مفتعلة وآراء مختلقة عندما يعرّف الشيعة، ممّا يندى له الجبين،ويخجل القلم من تحريره وتسطيره، وإليك بعض ما نسبه إليهم:

1. من خصائص الشيعة القول بالتناسخ والحلول والتشبيه.(1)

2. إنّ الإمام الهادي _ عليه السَّلام _ _ عاشر الأئمّة الاثني عشر _ توفّي بقم ومشهده هناك.(2)

3. إنّ هشام بن الحكم كان يقول: إنّ للّه جسماً ذا أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة.(3)

4. إنّ علياً إله واجب الطاعة(4)!!

إلى غير ذلك من النسب الكاذبة التي نسبها إلى متكلّم الشيعة ربيب بيت الإمام جعفر الصادق _ عليه السَّلام _ «هشام بن الحكم» وإلى نظرائه كهشام بن سالم وزرارة ابن أعين ومحمد بن النعمان ويونس بن عبدالرحمن.

هذا مع العلم بأنّ هؤلاء

_ أعاظم الشيعة _ كانوا يقتفون أثر أئمتهم ولم يكونوا يعتنقون مبدأ إلاّ بعد عرضه عليهم، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت

____________________________

1 . الملل و النحل:1/166.

2 . نفس المصدر.

3 . الملل والنحل:1/184، وهو في هذا الافتعال تبع عبد القاهر البغدادي في «الفَرْق بين الفِرَق» ص 65، والشيخ الأشعري في «مقالات الإسلاميين»:1/102 و... والأخير هو الأساس لأكثر من كتب في الملل والنحل.

4 . الملل والنحل:1/185.

( 11 )

وهم دعاة التنزيه كانوا يكافحون البدع اليهودية والمسيحية والمجوسية التي كانت تدور بين أندية أهل الحديث حتى قيل: «التوحيد والعدل علويان والتجسيم والجبر أمويان».

فمن راجع كتب الشيعة وأحاديث أئمّتهم يجد أنّهم حكموا بكفر القائلين بالتناسخ والحلول والتشبيه و أُلوهية غيره سبحانه، فكيف ينسب هذا الكاتب _ بصلف ووقاحة _ هذه الأُمور إلى تلاميذ قرناء الكتاب وأعداله؟!!

وأعجب من ذلك أنّه يختلق للشيعة فرقاً لم تسمع بها أذن الدهر وإنّما توجد في كتب أعدائهم، فمن هشامية إلى زرارية إلى يونسية إلى... من الفرق التي لا توجد لا في كتب القصّاصين المحترفين للكذب، ولا في علب العطّارين.

والشيعة وعلماؤهم _ و في مقدّمتهم السيد الشريف المرتضى _ يكذّبون هذه الفرق، وقد شطبوا على وجودها بقلم عريض وهم لا يعرفونها وإنّما اختلقتها الأوهام لإسقاط الشيعة من عيون الناس.

هذا بعض ما يوجد في هذا الكتاب وأعجب منه أنّه يعرف الإمام الهادي_ عليه السَّلام _ _ الإمام العاشر للشيعة _ بأنّه مدفون بقم مع أنّه دفن بسامراء يزوره القريب والبعيد، وقد دفن إلى جنبه ولده الزكي «الحسن بن علي»، والتواريخ والمعاجم طافحة بذكرهما وموضع قبرهما.(1)

هذا نموذج من زلاّت هذا المؤرّخ وهو من القدماء.

وهلمّ معي إلى نموذج آخر و هو من متأخّري القوم ومتنوّريهم، العائشين في عصر النور

والأمانة التاريخية والعلمية.

النشار وكتابه «نشأة الفكر الفلسفي»

الكتاب للدكتور «علي سامي النشار» يقع في ثلاثة أجزاء أو أزيد، وقد

____________________________

1 . راجع وفيات الأعيان لابن خلّكان:3/272_ 273 وغيره.

( 12 )

خص الجزء الثاني من كتابه ببيان عقائد الشيعة وهو يحاول في مقدّمته أن يكتب عن عقائد الفرق بصورة محايدة، وهو يقول في مقدمة الطبعة السادسة:

ولكنّي ما زلت أرى أنّ التفسير الموضوعي المحايد هو أهمّ تفسير في دراسة الفكر عامة والفكر الإسلامي خاصة.(1)

وربما يتصوّر الإنسان أنّ لما ذكره مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، ولكنّه عندما يسبر الكتاب ويلاحظ ما في غضونه من النسب إلى الشيعة يقف على أنّ ما ذكره في المقدّمة واجهة ستر بها كلّ ما في الكتاب من العداء المستكن وأنّه لا يريد إلاّ إبطال عقائد الشيعة ولو بالنسب الباطلة، والحقّ أنّ الدكتور النشار وضع منشاره على حياة الشيعة تاريخاً وعقيدة، ولا يرسم عن تلك الطائفة إلاّ أُموراً مشوّهة وعقائد باطلة، والكتاب يحتاج جداً إلى نظارة التنقيب، وإليك نموذجاً من نسبه المفتعلة:

1. يقول عند البحث عن الإيمان: ونلحظ أنّ في رأي «جهم» عنصراً شيعياً، فالإيمان عند الشيعة هو معرفة بالقلب فقط.(2)

2. إنّ الرجل يصر على إنكار كون علي _ عليه السَّلام _ رائد الفكر الفلسفي في الإسلام حتى جر عداؤه لعلي _ عليه السَّلام _ إلى إنكار النص الذي صدر عنه في منصرفه عن «صفين» حول القضاء والقدر وذهب إلى أنّ النص موضوع، قائلاً بأنّ الذين أرادوا أن يحاربوا أهل السنّة في الروايات التي رووها عن علي _ عليه السَّلام _ حول القدر، التجأوا إلى وضع هذا النص، وقد زعم أنّ جاعل هذا النص هو المعتزلة.(3)

أمّا كون علي _ عليه السَّلام _ رائد الفكر

العقلي فنترك البحث فيه إلى آونة أُخرى ويكفينا في ذلك تراثه الوحيد: «نهج البلاغة» وأمّا كون النص مجعولاً من جانب المعتزلة فهذا ناجم من جهله بمصادر نهج البلاغة فقد رواها علماء الشيعة

____________________________

1 . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:1/17.

2 . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:1/345 الطبعة السابعة، وستوافيك عقيدة الشيعة في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المرجئة، فلاحظ الجزء الثالث.

3 . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:1/412.

( 13 )

أنفسهم بلا توسيط أحد من المعتزلة، وسيوافيك بيانه في هذا الجزء عند البحث عن الرسائل الثلاث حول القدر.

والذي أوقعه في هذا الخبط والخلط لدى عرض تاريخ الشيعة وعقائدهم هو أنّه اعتمد في دراسته على كتب خصمائهم وأعدائهم من دون أن يعتمد على مصادر الشيعة المتوفرة، إلاّ قليلاً لا يكفي.

فاعتمد أوّلاً على كتاب «أبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي»(المتوفّى عام 377ه_) باسم «التنبيه والردّعلى أهل الأهواء والبدع» نشر عام 1399ه_، والكاتب حنبلي حشوي قد حشد في كتابه شيئاً كثيراً من الأكاذيب ونسب أُصولاً إلى الصحابة والتابعين بسند مزوّر كما سيوافيك بيانه في هذا الجزء.

أفيصحّ في ميزان النصفة الكتابة عن أُمّة كبيرة يعدّون ربع المسلمين بالنقل عن كاتب حشوي وكتاب حشو؟!

والعجب أنّ الدكتور عرفه بأنّه أوّل من كتب حول الشيعة من أهل السنّة مع أنّ الإمام الأشعري أسبق منه، فقد كتب عن الشيعة في «مقالات الإسلاميين» شيئاً كثيراً، وقد توفّي الإمام عام 324ه_ وعلى احتمال ضعيف 330ه_ فكيف يكون الملطي أوّل من كتب حول الشيعة من أهل السنة؟!!

واعتمد ثانياً على كتاب «الفرق بين الفرق» لأبي منصور عبد القاهر البغدادي(المتوفّى عام 429ه_) ومن راجع هذا الكتاب لمس منه _ مضافاً إلى البذاءة في اللسان _ تعصّباً في بيان

عقائد الفرق ونوقفك على نموذج من هذا، فقد قال في خلال بيان أصناف فرق السنّة والجماعة: ولم يكن بحمد اللّه ومنّه في الروافض و... إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام في التأويل والتفسير، وإنّما كان أئمّة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة.(1)

وقال في موضع آخر:

____________________________

1 . الفرق بين الفرق للبغدادي:ص 232 طبع دار المعرفة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

( 14 )

يا أيّه_ا ال_رافض__ة المبطل__ة * دعواكم من أصلها مبطلة(1)

هذا أدب الرجل وسيرته في الكتاب كلّه، ونحن نمر عليه مرور الكرام ونقول: الدعوى الأُولى دعوى بلا بيّنة وبرهان وإنكار وجود الأئمّة في مجالات هذه العلوم بين الشيعة كإنكار البديهيات، ولا نطيل الكلام في ردّه بذكر أسماء أئمتهم في مختلف المجالات والأُمور، وكفانا في ذلك كتاب «تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام» تأليف السيد حسن الصدر(المتوفّى عام 1354ه_).

غير أنّي أتعجب من هذه الفرية القارصة، وكيف نفى وجود شخصيات علمية عند الشيعة مع أنّه كان معاصراً للشيخ المفيد(المتوفّى عام 413ه_) الذي يقول في حقّه اليافعي: كان عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية.(2)

ويعرّفه ابن كثير في تاريخه بقوله: كان مجلسه يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف.(3)

كيف يقول ذلك وبيئة بغداد تجمع بينه و بين الشريف المرتضى(المتوفّى عام 436ه_) الذي يعرّفه ابن خلّكان في تاريخه ويقول: كان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر.(4)

وقال الثعالبي: قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى

في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل.(5)

واعتمد ثالثاً على كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل» تأليف «ابن حزم» الأندلسي الظاهري (المتوفّى 456ه_) وكفى في التعرّف على نفسية

____________________________

1 . نفس المصدر: 71.

2 . مرآة الجنان:3/28.

3 . تاريخ ابن كثير:12/15.

4 . وفيات الأعيان:3/313.

5 . تتميم يتيمة الدهر:1/53.

( 15 )

هذا الرجل وشذوذه أنّه صوب فعل قاتل الإمام أمير المؤمنين بحجّة أنّه كان مجتهداً متأوّلاً مثاباً في عمله هذا، وإليك نصّ عبارته:

«إنّ عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً(رضي اللّه عنه) إلاّ متأوّلاً مجتهداً مقدراً أنّه على صواب، وفي ذلك يقول«عمران بن حطان» شاعر الصفرية:

ي_ا ضرب__ة م_ن تقيّ م_ا أراد به__ا * إلاّليبلغ من ذي العرش رضواناً»(1)

والقارئ الكريم جد عليم بأنّه لا قيمة لهذا الاجتهاد الذي يؤدّي إلى قتل الإمام المفترض طاعته بالنصّ أوّلاً، وبإجماع الأُمّة ثانياً، ولنعم ما أجاب به معاصره القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد اللّه الشافعي فقال:

يا ضربة من شقي ما أراد بها * إلاّ ليه_دم للإسلام أركان_اً(2)

فإذا كان هذا حال المؤلّف ونفسيته ونزعاته، فكيف يكون حال من استند إلى مثله غير أنّ الجنس إلى الجنس يميل؟!!

منهجنا في دراسة المذاهب

فلأجل هذا الخبط والتخليط في أكثر كتب الملل والنحل خصوصاً في كتاب إمام الأشاعرة«مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين» ولا سيما في ما يرجع إلى المعتزلة والشيعة فإنّه الأساس لكلّ من كتب بعده، ك_«الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي و «الملل والنحل» للشهرستاني وغيرهما من المتأخّرين،فقد توخّينا أن لا نعزو إلى مذهب شيئاً إلاّ بعد الوقوف عليه في كتبهم المؤلّفة بأيدي أساطينهم وأقلام علمائهم، ولا نكتب عن طائفة إلاّ بعد توفير المصادر واستحضار المنابع والرجوع إليها بدقة وإمعان.

إنّ منهجنا في دراسة المذاهب وعقائد الفرق يبتني على دعامتين:

الأُولى: تبنّي

الواقع في عزو مقال إلى قوم، وذلك لما عرفت.

____________________________

1 . المحلى :1/485.

2 . مروج الذهب:2/43،ولنا مع ابن حزم بحث ضاف سيوافيك في الجزء الثالث عندالبحث عن الحركات الرجعية في القرون الأُولى.

( 16 )

الثانية: العناية بتحليل عقائد الأُمم ونقدها، فإنّ الغالب على كتاب «الملل والنحل» هو سرد العقائد من دون نقد أو تحليل، وكأنّهم زعموا أنّ واجب المؤرّخ لا يتعدّى بيان الحوادث في التاريخ، وعرض العقائد في مجال الملل والنحل، وكأنّ إحقاق الحقّ واجب المتكلّم فقط، ونحن ضربنا عن هذا صفحاً وتوخّينا بيان الحقّ على وجه يناسب كتاب «الملل والنحل»، وهذا هو المنهج الذي مشينا عليه في أجزاء الكتاب كلّها، وهو تحقيق الموضوع الذي طرح للبحث من جانب كلّ فرقة وملة.

ولأجل ذلك أصبح الكتاب: كتاباً كلامياً أوّلاً، وتاريخياً للعقائد والمذاهب ثانياً، وموسوعة لبيان حالات رجالهم وشخصياتهم وتاريخ نشوئهم ثالثاً.

وأرجو منه سبحانه أن يوفّقنا لما فيه رضاه وأن يصوننا من الزلّة في الرأي والقول والفعل والعمل.

وأمّا الفرق التي دار حولها البحث والنقد فهي على سبيل الفهرس:

1. «أهل الحديث والحنابلة» الذين يعبّر عنهم في عصرنا هذا ب_«السلفية» حتى صارت هذه الكلمة شعاراً لهم، وكأنّ «السلف» معصوم من الزلة متحرّر من الخطأ.

2. «الأشاعرة» آراؤهم وأفكارهم وترجمة مفكّريهم ومحقّقيهم ،وإنّما قدمنا هذه الفرقة على «المعتزلة» مع أنّ الشيخ الأشعري مؤسس هذا المذهب كان معتزلياً ثمّ تاب عن الاعتزال ورجع إلى مذهب الإمام «أحمد بن حنبل» وأسّس مذهباً معتدلاً بين المذهبين _ و إنّما قدمناه _ لأجل الصلة القويمة بين المذهبين: «أهل الحديث» و «الأشاعرة».

3. الحركات الرجعية في القرون الأُولى كالمرجئة والجهمية والكرامية والظاهرية، وسيوافيك أنّ آراءهم وأفكارهم في هذه القرون كانت رجعية بحتة تخالف منطق العقل الذي تعتمد عليه المعتزلة،

ومنطق الكتاب والسنّة الذي يعرج عليهما الحنابلة، وأمّا الذي تولى كبرها فسوف يظهر لك في ذلك الفصل.

( 17 )

4. «القدرية» أسلاف المعتزلة كمعبد بن عبد اللّه الجهني(المتوفّى عام 80ه_) وغيلان الدمشقي المقتول بدمشق بأمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 105، وقد اتّهم هؤلاء بنفي القدر الوارد في الكتاب والسنّة، وقد قلنا إنّ الاتّهام في غير محله، وهؤلاء كانوا دعاة الحرية والاختيار لا نفاة القدر الذي جاء في الآثار الصحيحة. نعم كانوا يرفضون القدر السالب للاختيار الحاكم على حرية الإنسان و اختياره، بل حتى على اللّه سبحانه، وكأنّ القدر إله ثان مسلّط على كلّ شيء حتّى إرادة اللّه وفي الوقت نفسه حنق على الإنسان، فهو يدخل من يشاء الجنة، ويدخل من يشاء الجحيم بلا ملاك ولا مبرر.

5. «الماتريدية» آراؤهم ورجالهم، وهؤلاء والأشاعرة صنوان أو رضيعان يرتضعان من ثدي واحد، ولكن «الماتريدية» أقرب إلى المعتزلة من الأشاعرة، وقد وافقوا في كثير من المسائل، المعتزلة.

6. «المعتزلة» منهجهم وآراؤهم ورجالهم.

7. «الخوارج» تاريخهم وعقائدهم.

8. «الوهابية» نشوؤها ومؤسسها ومعتقداتها.

9. «الشيعة الزيدية والإسماعيلية»، ونبحث عن الباطنية في هذا الفصل.

10. «الشيعة الإمامية» الاثنا عشرية.

تلك عشرة كاملة.

و أُقدّم كتابي هذا لكلّ طالب للحقّ والحقيقة، ولكلّ متعطش للتعرّف على الواقع بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات الجاهلية والتعصّبات الباطلة، ولا أشك في أنّ لفيفاً من الأُمّة سيقدّرون عملي هذا غير أنّ المتطرّفين من الطوائف الإسلامية يعدّونه تفريقاً للأُمّة وشقاً لعصاها، وكأنّهم يرون التقارب الظاهري والتصفيق في المجامع والمجالس هو روح الوحدة وسنادها، وهم في غفلة عن أنّ التعرف على المذاهب على ما هي عليه، من عوامل التقريب

( 18 )

وتوحيد الكلمة وعود الأخوة الإسلامية إلى المجتمع الديني، وعلى كلّ تقدير فلا أطلب رضا هؤلاء، ولا

أعتمد عليه ولا أخشى سخط الآخرين ولا أخافه، ورائدي هو رضوانه تعالى لا غير.

(قُلْ إِنّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَة أَنْ تَقُومُوا للّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) .(1)

جعفر السبحاني

قم المقدسة _ الحوزة العلمية

1410ه_

____________________________

1 . سبأ:46.

( 19 )

الملل والنحل في المؤلّفات الإسلامية

الملل والنحل في المؤلّفات الإسلامية

لقد قام ثلّة من علماء المسلمين بتدوين كتب مفصّلة أو مختصرة في هذا المضمار، فكشفوا عن مصادر الآراء ومواردها، وجمعوا واردها وشاردها، وما ألّفوه حول تبيين العقائد والنحل على أصناف نشير إليها:

أ. ما يتناول جميع الشرائع والمذاهب العالمية، إسلامية كانت أو غيرها، ومن هذا القسم:

1. «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لإمام المذهب الظاهري، أبي محمد علي بن حزم الظاهري (المتوفّى 456ه_).

2. «الملل والنحل» لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (479_ 548ه_).

ب. ما يتناول خصوص الفرق الإسلامية، ومن هذا القسم:

1. «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» تأليف شيخ الأشاعرة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(المتوفّى عام 324ه_).

2. «التنبيه والرد» لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (المتوفّى سنة 377ه_).

3. «الفرق بين الفرق» تأليف الشيخ عبد القاهر بن طاهر بن محمد

( 20 )

البغدادي الإسفرائيني التميمي(المتوفّى 429ه_).

4. «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة» لطاهر بن محمد الإسفرائيني(المتوفّى 471ه_) المطبوع بمصر عام 1374ه_.

5. «الفرق الإسلامية» ذيل كتاب «شرح المواقف» للكرماني(المتوفّى 786ه_) وقد طبع في بغداد عام 1973م.

ج. ما يتناول خصوص مذهب من المذاهب الإسلامية، ومن هذا القسم:

1. «فرق الشيعة»، تأليف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث للهجرة، وقد بيّن فيه فرق أهل الإمامة.

2. «فرق الشيعة»(1) للشيخ أبي القاسم سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمي (المتوفّى 299 أو 301ه_).

وقد طبعت هذه الكتب و وزعت في العالم، وهي متاحة

لكلّ من أراد معرفة هذه المذاهب والمقالات والآراء والأفكار، ولنقدّم قبل الورود في البحث أُموراً تفيد القرّاء الكرام وطلاب هذه المعرفة:

1. الملة والنحلة في اللغة

الملّة بمعنى الطريقة، والمراد هنا السنن المأخوذة والمقتبسة من الآخرين، ولأجل ذلك يضيفها القرآن إلى الرسل والأقوام إذ يقول مثلاً: (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً)(2)، و قوله: (إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوم لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (3) ولا تستعمل مضافة إلى اللّه ولا إلى آحاد أُمّة نبي بل إلى نفس النبي، ويقال ملّة إبراهيم وملّة محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولا يقال: ملّة اللّه.

وأمّا النحلة فهي على ما في «لسان العرب» بمعنى الدعوى، والنسبة بينها وبين الدين أنّها تستعمل في الباطل كثيراً، مثل كلمة «انتحال المبطلين».

____________________________

1 . كما عبر عنه النجاشي في ترجمته وربما يعبر عنه بالمقالات والفرق.

2 . البقرة:135.

3 . يوسف: 37.

( 21 )

والمقصود من الكلمتين في هذا العلم هو الطرق والمناهج العقائدية سواء أكانت حقّاً أم باطلاً.

2. الصلة بين علم العقائد وعلم الملل والنحل

وهناك اتّصال وثيق بين علم الكلام وعلم الملل والنحل، ووزان علم الملل والنحل بالنسبة إلى علم العقائد والكلام، وزان تاريخ العلم بالنسبة إلى العلم نفسه، نظير الفلسفة وتاريخها، فالفلسفة تطرح الموضوعات الفلسفية على بساط البحث، فتقيم برهاناً على ما تتبنّاه بينما يشرح تاريخ الفلسفة المناهج الفكرية التي نجمت في فترات مختلفة، من دون تركيز على رأي أو تبني عقيدة خاصة في كثير من الأحيان.

ومثله علم الكلام بالنسبة إلى الملل والنحل، فالأوّل يبحث عن المسائل العقائدية التي ترجع إلى المبدأ والمعاد وما يلحقهما من المباحث ويوجه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معين ونقد الآراء المضادة له، ولكن الثاني يطرح المناهج الكلامية المؤسسة طيلة قرون من

دون أن يتحيز إلى منهج دون منهج غالباً، وهمّه هو عرض هذه الأسّس الفكرية على روّاد الفكر والمعرفة.

وإن شئت قلت: إنّ علم الملل والنحل يتعرّض للموضوعات الكلامية المبحوث عنها في علم الكلام ويشرحها ويعرض الآراء المختلفة حولها من دون القضاء بينها، و أمّا علم الكلام فهو يتّخذ موضوعات خاصة للبحث ويبدي المؤلّف نظره الخاص فيها ويركز على رأيه بإقامة البرهان.

3. قيمة الكتب المؤلّفة في هذا المضمار

لا شكّ أنّ للكتب المؤلّفة في هذا المضمار، مكانة في الأوساط العلمية وأنّ المؤلّفين في الملل والنحل قد تحمّلوا جهوداً كثيرة في الإحاطة بالمناهج الفكرية الرائجة في الملأ العلمي خصوصاً الأوائل منهم، غير أنّه لا يمكن الاعتماد على هذه الكتب بصورة مطلقة، وذلك لأنّا نرى أنّهم يذكرون فرقاً للشيعة الإمامية لم يسمع الدهر بأسمائها كما لم يسمع ب آراء أصحابها قط.

( 22 )

فهذا إمام الأشاعرة يذكر للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة، وللشيعة الإماميّة أربعاً وعشرين فرقة، وينسب إليهم القول بالتجسيم، وغير ذلك من الآراء والعقائد السخيفة، ويقسّم الزيدية إلى ست فرق، وقد أخذ عنه من جاء بعده ممّن ألّف في هذا المجال.

فإذا كان حاله وحال من نسج على منواله _ كالبغدادي في «الفرق بين الفرق» والشهرستاني في «الملل النحل» في تلك المواضع التي نحن أعرف منهم بها _ بهذا المنوال، فكيف حالهم فيما ينقلونه عن سائر أصحاب الشرائع من اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة والبوذيين وغيرهم؟! ولأجل ذلك يجب أن تكون نسبة القول إلى أصحابها مقرونة بالاحتياط والتثبّت والرجوع إلى مؤلّفات نفس الفرق.

يقول المحقّق المعاصر الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه لكتاب «التبصير في الدين»: والعالم المحتاط لدينه لا ينسب إلى فرقة من الفرق ما لم يره في الكتب المردودة عليهم،

الثابتة عنهم أو في كتب الثقات من أهل العلم المتثبتين في عزو الأقاويل، ولا يلزمهم إلاّ ما هو لازم قولهم لزوماً بيّناً لم يصرح قائله بالتبرّي من ذلك اللازم .(1)

وقد تصفّحنا أكثر ما كتبه أحمد بن تيمية في «المسائل الكبرى» عن الشيعة وغيرهم وفي كتابه «منهاج السنّة» عن خصوص الشيعة، فوجدناهما مليئين بالأخطاء، لو لم نقل بالكذب والوضع.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه يقع الكلام في فصول:

____________________________

1 . التبصير في الدين: 7.

( 23 )

الفصل الأوّل افتراق الأُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة

الفصل الأوّل افتراق الأُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة

روى أصحاب الصحاح والمسانيد ومؤلّفو الملل والنحل عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «إنّ أُمّتي تفترق على ثلاث وسبعين فرقة» وقد اشتهر هذا الحديث بين المتكلّمين وغيرهم حتى الشعراء والأُدباء.

وتحقيق الحديث يتوقّف على البحث في جهات أربع:

1. هل الحديث نقل بسند صحيح قابل للاحتجاج به، أو لا؟

2. ما هو النصّ الصادر عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في هذا المجال، فإنّ نصوص الحديث في ذلك المجال مختلفة؟

3. ما هي الفرقة الناجية من هذه الفرق المختلفة، فإنّ النبي قد نصّ على نجاة فرقة واحدة، كما سيأتيك نصه؟

4. ما هي الفرق الاثنتان والسبعون التي أخبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بنشوئها من بعده؟ وهل بلغ عدد الفرق والطوائف الإسلامية إلى هذا الحدّ؟

فإليك البحث في هذه الجهات الأربع:

أ. سند الحديث

روي الحديث المذكور في الصحاح والمسانيد بأسانيد مختلفة، و قد قام

( 24 )

الحافظ «عبد اللّه بن يوسف بن محمد الزيلقي المصري»(المتوفّى 762ه_) بجمع أسانيده ومتونه في كتابه: «تخريج أحاديث الكشّاف» وقد اهتم فيه بهذا الحديث سنداً ومتناً، إهتماماً بالغاً، لم يسبقه إليه غيره....

غير أنّ القضاء

فيما جمعه من الأسانيد خارج عن مجال هذه الرسالة، ولأجل ذلك نبحث فيه على وجه الإجمال، فنقول:

إنّ هاهنا من لا يعتقد بصحّة الحديث منهم: ابن حزم، في كتابه: «الفصل في الأهواء والملل» قال: ذكروا حديثاً عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ «أنّ القدرية والمرجئة مجوس هذه الأُمة» وحديث آخر «تفترق هذه الأُمّة على بضع وسبعين فرقة كلّها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة» (ثم قال:) هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الأسناد، وما كان هكذا فليس حجّة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به.(1)

وهناك من يعتقد بصحّة الاستدلال لأجل تضافر أسناده، يقول محمد محيي الدين محقّق كتاب «الفرق بين الفرق»: اعلم أنّ العلماء يختلفون في صحّة هذا الحديث، فمنهم من يقول إنّه لا يصحّ من جهة الأسناد أصلاً، لأنّه ما من إسناد روي به إلاّ وفيه ضعف، وكلّ حديث هذا شأنه لا يجوز الاستدلال به; ومنهم من اكتفى بتعدّد طرقه، و تعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ....(2)

وقد قام الحاكم النيشابوري برواية الحديث عن سند صحيح يرتضيه الشيخان قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سلمة العنزي (ثنا) عثمان بن سعيد الدارمي (ثنا) عمرو بن عون ووهب بن بقية الواسطيان (ثنا) خالد بن عبد اللّه، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أُمّتي

____________________________

1 . الفصل في الأهواء والملل:1/248.

2 . الفرق بين الفرق: 7_ 8 التعليقة.

(

25 )

على ثلاث وسبعين فرقة» .وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.(1)

وقد استدرك عليه الذهبي بأنّ في سنده «محمّد بن عمرو» ولا يحتج به منفرداً ولكن مقروناً بغيره.(2)

فإذا كان هذا حال السند الذي بذل الحاكم جهده لتصحيحه، فكيف حال سائر الأسانيد؟! وقد رواه الحاكم بأسانيد مختلفة، وقال: قد روي هذا الحديث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و عمرو بن عوف المزني بإسنادين تفرّد بأحدهما عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، والآخر كثير بن عبد اللّه المزني، ولا تقوم بهما الحجّة.(3)

هذا حال ما نقله الحاكم في مستدركه.

وأمّا ما رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه، وابن ماجة في صحيحه فقد قال في حقّه الشيخ محمد زاهد الكوثري: أمّا ما ورد بمعناه في صحيح ابن ماجة، وسنن البيهقي، وغيرهما ففي بعض أسانيده«عبد الرحمن بن زياد بن أنعم» وفي بعضها «كثير بن عبد اللّه» وفي بعضها «عباد بن يوسف» و «راشد بن سعد» و في بعضها «الوليد بن مسلم» و في بعضها مجاهيل كما يظهر من كتب الحديث و من تخريج الحافظ الزيلقي لأحاديث الكشاف، وهو أوسع من تكلّم في طرق هذا الحديث فيما أعلم.(4)

هذا بعض ما قيل حول سند الحديث، والذي يجبر ضعف السند هو تضافر نقله واستفاضة روايته في كتب الفريقين: الشيعة والسنّة بأسانيد مختلفة، ربما تجلب الاعتماد، وتوجب ثقة الإنسان به.

____________________________

1 . المستدرك على الصحيحين:1/128، وقد رواه بسند آخر أيضاً يشتمل على محمد بن عمرو الذي لا يحتج بمفرداته، وبسند آخر أيضاً مشتمل على ضعف، وقد جعلهما الحاكم شاهدين لما صحّح من السند.

2 . التبصير في الدين: 9، المقدمة.

3 . المستدرك على الصحيحين:1/128، كتاب العلم.

4 . التبصير: 9، المقدمة .

( 26 )

وقد

رواه من الشيعة، الصدوق في خصاله في باب السبعين وما فوق.(1) والعلاّمة المجلسي في بحاره(2)، ولعلّ هذا المقدار من النقل يكفي في صحّة الاحتجاج بالحديث.

ب. اختلاف نصوص الحديث

هذه هي الجهة الثانية التي أشرنا إليها في مطلع البحث، فنقول:

إنّ مشكلة اختلاف نصوص الحديث لا تقل إعضالاً عن مشكلة سنده، فقد تطرّق إليه الاختلاف من جهات شتى، لا يمكن معه الاعتماد على واحد منها، وإليك الإشارة إلى الاختلافات المذكورة:

1. الاختلاف في عدد الفرق

روى الحاكم عدد فرق اليهود والنصارى مردّداً بين إحدى وسبعين واثنتين وسبعين، بينما رواه عبد القاهر البغدادي بأسانيده عن أبي هريرة على وجه الجزم والقطع، وأنّ اليهود افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة.

وفي الوقت نفسه روى بسند آخر افتراق بني إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّةوقال: «ليأتين على أُمّتي ما أتى على بني إسرائيل، تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة».

ونقل بعده بسند آخر افتراق بني إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة.(3)

ويمكن الجمع بين النقلين الأخيرين بأنّ المراد من بني إسرائيل هو الأعم من اليهود والنصارى فيصحّ عدّ الفرق اثنتين وسبعين.

____________________________

1 . الخصال:2/584، أبواب السبعين ومافوق، الحديث العاشر والحادي عشر.

2 . البحار:28/2_36.

3 . الفرق بين الفرق: 5.

( 27 )

نعم يحمل الأخير على خصوص اليهود من بني إسرائيل.

2. الاختلاف في عدد الهالكين والناجين

إنّ أكثر الروايات تصرّح بنجاة واحدة وهلاك الباقين. فعن البغدادي بسنده عن رسول اللّه أنّه قال: كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة.(1)

وروى الترمذي وابن ماجة مثل ذلك.(2)

بينما رواه شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر البشاري السياح المعروف (المتوفّى 380ه_) في كتابه«أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» بصورة تضاده إذ قال: إنّ حديث

«اثنتان وسبعون في الجنة وواحدة في النار» أصحّ إسناداً، وحديث «اثنتان وسبعون في النار وواحدة ناجية» أشهر.(3)

3. الاختلاف في تعيين الفرقة الناجية

فقد اختلف النقل في تعيين سمة الفرقة الناجية أخذاً بما يقول بأنّ جميعها في النار إلاّ واحدة.

روى الحاكم(4) و عبد القاهر البغدادي (5) وأبو داود(6) و ابن ماجة(7) بأنّ النبي قال: إلاّ واحدة وهي الجماعة، أو قال: الإسلام وجماعتهم.

وروى الترمذي(8) والشهرستاني(9) أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عرف الفرقة الناجية بقوله: ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

____________________________

1 . المصدر نفسه: 76.

2 . سنن الترمذي:5/26، كتاب الإيمان، الحديث 2641;سنن ابن ماجة:2/479، باب افتراق الأُمم.

3 . طبع الكتاب في ليدن، عام 1324 ه_ الموافق ل_1906م.

4 . المستدرك على الصحيحين:1/128.

5 . الفرق بين الفرق: 7.

6 . سنن أبي داود:4/198، كتاب السنّة.

7 . سنن ابن ماجة:2/479، باب افتراق الأُمم.

8 . سنن الترمذي:5/26، كتاب الإيمان، الحديث2641.

9 . الملل والنحل : 13.

( 28 )

وروى الحاكم أيضاً أنّ النبي حدّد أعظم الفرق هلاكاً بقوله: «ستفترق أُمّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة، قوم يقيسون الأُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام» وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.(1)

وروى صاحب روضات الجنات عن كتاب «الجمع بين التفاسير» أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عرف الفرقة الناجية بقوله:«هم أنا وشيعتي».(2)

هذه الوجوه تعكس مدى الاختلاف في تحديد ملامح الفرقة الناجية.

وأمّا تحقيق القول في ذلك فسيوافيك عند البحث عن الجهة الثالثة، وهي التالية:

ج. مَن هي الفرقة الناجية؟

هذه هي الجهة الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها حتى يستطيع الباحث من تعيين الفرقة الناجية، بها.

قال الشيخ محمد عبده: أمّا تعيين أي فرقة هي الناجية، أي التي تكون على ما كان

النبي عليه وأصحابه، فلم يتعيّن إلى الآن، فإنّ كلّ طائفة ممّن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه.(إلى أن قال: ) وممّا يسرني ما جاء في حديث آخر أنّ الهالك منهم واحدة.(3)

أقول: ما ورد من السمات في تحديد الفرقة الناجية لا يتجاوز أهمّها عن سمتين:

أولاها: «الجماعة» وهي تارة جاءت رمزاً للنجاة، وأُخرى للهلاك، فلا يمكن الاعتماد عليها، وإليك بيان ذلك:

____________________________

1 . المستدرك على الصحيحين:4/430.

2 . روضات الجنات: 508، الطبعة القديمة.

3 . تفسير المنار : 8/221_222.

( 29 )

روى ابن ماجة عن عوف بن مالك قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : افترقت اليهود... والذي نفس محمد بيده لتفترقن أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول اللّه من هم؟ قال: الجماعة.(1)

بينما نقل أنّه قال: «وإنّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»(2)، فإنّ الإتيان بضمير الجمع في الحديث الأوّل، وبضمير المفرد في الحديث الثاني يؤيد رجوع الضمير في الأوّل إلى: «اثنتان وسبعون»، ورجوع الضمير المفرد إلى «الواحدة» فتكون الجماعة تارة آية الهلاك وأُخرى آية النجاة.

أضف إلى ذلك أنّ قسماً كبيراً من النصوص لا يشتمل على هذه اللفظة، ولا يصحّ أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها، أو نسيها، وذلك لأنّ ذكر سمة الناجي أو الهالك من الأُمور الجوهرية في هذا الحديث، فلا يمكن أن يتجاهله أو ينساه.

ومن ذلك تعلم حال ما اشتمل على لفظ«الإسلام» مع الجماعة، فإنّه لا يزيد في مقام التعريف شيئاً على المجرد منه، لوضوح أنّ الإسلام حقّ إنّما المهم معرفة المسلم الواقعي عن غيره.

ثانيتها: «ما أنا عليه وأصحابي»، أو «ما

أنا عليه اليوم وأصحابي»، كون هذا آية النجاة لا يخلو عن خفاء.

أوّلاً: إنّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية، ولا يصحّ أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها لعدم الأهمية.

وثانياً: إنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلاّ بقدر اهتدائهم

____________________________

1 . سنن ابن ماجة:2/479، باب افتراق الأُمم.

2 . سنن أبي داود:4/198 ،كتاب السنّة; المستدرك على الصحيحين:1/128.

( 30 )

واقتدائهم برسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف (وأصحابي) على النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا يخلو من غرابة.

وثالثاً: إنّ المراد إمّا صحابته كلّهم، أو الأكثرية الساحقة.

فالأوّل: مفروض العدم لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها.

والثاني: ممّا لا يلتزم به أهل السنّة، فإنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة، الذين كانوا بين مؤلّب، أو مهاجم، أو ساكت.

على أنّ حمل أصحابي على الأكثرية خلاف الظاهر، ويظن أنّ هذه الزيادة من رواة الحديث لدعم موقف الصحابة، وجعلهم المحور الوحيد الذي يدور عليه فلك الهداية بعد النبي الأعظم، والمتوقع من رسول الهداية هو أن يحدد الفرقة الناجية بسمات واضحة تستفيد منها الأجيال الآتية، فإنّ كلّ الفرق يدّعون أنّهم على ما عليه النبي بل على ما عليه أصحابه أيضاً:

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى * وليلى لا تقر لهم بذاك_ا

وأخيراً نقلنا عن

الحاكم أنّه روى عن النبي قوله: «أعظمها فرقة قوم يقيسون الأُمور برأيهم» و يظن أنّ هذه الزيادة طرأت على الحديث من بعض الطوائف الإسلامية بين أهل السنّة، طعناً في أصحاب القياس، على حين أنّ القياس بمفهومه الأُصولي لم يكن أمراً معهوداً لأصحاب النبيّ حتى يكتفي النبي في تعيين الفرقة الهالكة بهذا الوصف غير المعروف في عصر صدور حديث الافتراق.

أحاديث حول مستقبل الصحابة

إنّ الأحاديث المتضافرة عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عن مستقبل الصحابة

( 31 )

تصدّنا عن الأخذ بمسالكهم ومشاربهم وتمنعنا عن تصحيح ما ورد في ذيل بعض الروايات الماضية، أعني قوله: «ما أنا عليه وأصحابي» وذلك لأنّ النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يخبر عن أحوالهم بعد رحلته، وأنّهم سيحدثون في الدين أُموراً منكرة، وبدعاً محرمة وأنّهم يرتدون عن الدين ولأجل ذلك يحلأون عن الحوض ويذادون عنه، و قد روى هذه الأحاديث الشيخان(البخاري ومسلم) وغيرهما. وجمعها ابن الأثير في «جامع الأُصول» في الفصل الرابع عند البحث عن الحوض والصراط والميزان.

وإليك بعض تلك الأحاديث:

1. أخرج الشيخان عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي; فيقال: إنّك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك».

2. أخرج الشيخان أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، أو قال من أُمّتي، فيحلأون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».

إلى غير ذلك من الروايات البالغ

عددها إلى عشرة أحاديث وفي ضوء هذه الروايات لا يمكن الحكم بعدالة كلّ صحابي لمجرّد الصحبة، للعلم بوجود الفسق والارتداد وإحداث البدع فيهم، وهذا العلم الإجمالي يصدّنا عن تعديل كلّ صحابي وتصديقه.

كما يصدنا عن القول بأنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة إذا اتفقت على شيء يكون دليلاً على صدقه وصحته، على أنّ هذا لا يدلّ على أنّ جميع الصحابة كانوا على هذا المنوال بل كان في الصحابة الثقات العدول، والأخيار المتقون.

وقد أشبعنا الكلام حول الصحابة من حيث العدالة.(1)

____________________________

1 . سيوافيك البحث عن عدالة الصحابة عند تحليل عقائد أهل الحديث في هذا الجزء.

الفرقة الناجية في ضوء النصوص الأُخر

لو أنّ شيخ الأزهر رجع إلى النصوص الأُخر للنبي الأكرم لتبيّن له الفرقة الناجية في كلام النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فإنّ لنبي الرحمة كلمات في مواضع أُخر يشد بعضها بعضاً، ويفسر بعضها البعض الآخر، وإليك ما أثر عنه في تلك المجالات ممّا تعد قرائن منفصلة موضحة للحديث الحاضر.

1. حديث الثقلين

قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي».(1)

روى إمام الحنابلة عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه، حبل ممدود ما بين السماء والأرض; وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».(2)

روى الحاكم في مستدركه عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «إنّي أوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزّ وجلّ، وعترتي; كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير

أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».(3)

والاختلاف الموجود بين نصوص الحديث غير مضر أبداً، لأنّ النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ نطق بهذا الحديث في مواضع مختلفة، إذ في بعض الطرق أنّه قال ذلك في حجّة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي ثالثة أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي رابعة أنّه

____________________________

1 . رواه الترمذي والنسائي في صحيحهما راجع كنز العمال:1/44 باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

2 . مسند أحمد بن حنبل: 5/182_ 189.

3 . مستدرك الحاكم:3/148، وقال هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

( 33 )

قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف، فقد كرر ذلك في تلك المواطن اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.(1)

والإمعان في هذا الحديث الذي بلغ من التواتر حدّاً لا يدانيه حديث، إلاّ حديث الغدير، يقود الإنسان إلى الحكم بضلال من لم يستمسك بهما معاً، فالمتمسّكون بهما هم الفرقة الناجية، والمتخلّفون عنهما، أو المتقدّمون عليهما هم الهالكة.

وقد نقل الطبراني قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في ذيل الحديث: «فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».(2)

2. حديث السفينة

وهذا الحديث كالحديث السابق يعين على رفع الإبهام عن حديث «الافتراق». روى الحاكم بسنده عن أبي ذر رضي اللّه عنه يقول، وهو آخذ بباب الكعبة: «من عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرني فأنا أبوذر، سمعت النبي يقول: ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم، مثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».(3)

والمراد بتشبيههم _ عليهم السَّلام _ بسفينة نوح هو أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله

عن أئمّتهم، نجا من عذاب النار، ومن تخلّف عنهم كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه، غير أنّ هذا غرق في الماء، وهذا في الحميم.

قال ابن حجر: و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان.(4)

____________________________

1 . راجع المراجعات، المراجعة 8 فقد نقله عن مواضع مختلفة.

2 . الصواعق المحرقة: 135 باب وصية النبي بهم.

3 . المستدرك على الصحيحين:3/151.

4 . لقد علّق السيد شرف الدين في مراجعاته على هذه العبارة تعليقاً لطيفاً وهو: قل لي لماذا لم يأخذ بهدى أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده _إلى أن قال:_ ولماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم وأهلكها في مفاوز الطغيان؟!

( 34 )

3. حديث أهل بيتي أمان لأُمّتي

روى الحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»(ثمّ قال): هذا حديث صحيح الإسناد،ولم يخرجاه.(1)

هذه الأحاديث تلقي الضوء على حديث الافتراق، وتحدد الفرقة الناجية وتعيّنها.

وهناك حديث آخر ورد في ذيل حديث الافتراق نقله أحد علماء أهل السنّة وهو الإمام الحافظ حسن بن محمد الصغاني (المتوفّى 650ه_) في كتابه «الشمس المنيرة» عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :«افترقت أُمّة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلاّ فرقة واحدة».

فلمّا سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء، وأقبلوا عليه، وقالوا: يا رسول اللّه كيف

لنا بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟

فقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي; إن اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».(2)

ولا أظن المنصف إذا رجع إلى ما ورد حول العترة من الأحاديث الحاثّة على الرجوع إليهم، يخفى عليه مراد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من الفرقة الناجية في حديث الافتراق، مضافاً إلى أنّ آية التطهير دالّة على عصمتهم، فالمتمسك بالمعصوم مصون وبالخاطئ غير مصون بل يقع عرضة للانحراف والهلاك، و للشافعي أبيات تعرب عن عرفانه الفرقة الناجية ذكرها الشريف الحضرمي في

____________________________

1 . المستدرك على الصحيحين:3/149.

2 . الشمس المنيرة، النسخة المخطوطة في مكتبة المشهد الرضوي بالرقم 1706.

( 35 )

«رشفة الصادي».(1)

د. الفرق التي أخبر النبي بنشوئها

هذه هي الجهة الرابعة التي يليق البحث عنها، فإنّ النبي قد أخبر عن أنّ الأُمّة الإسلامية ستبلغ في تفرّقها إلى هذا العدد الهائل، ولكن المشكلة عدم بلوغ رؤوس الفرق الإسلامية إلى هذا العدد، فإنّ كبار فرقها لا تتجاوز الأربع:

الأوّل: القدرية(المعتزلة وأسلافهم).

الثاني: الصفاتية(أهل الحديث والأشاعرة).

الثالث: الخوارج.

الرابع: الشيعة.

وهذه الفرق الأصلية، وإن تشعبت إلى شعب وفروع من مرجئة وكرامية بفرقها ،ولكن لا يبلغ المجموع إلى هذا الحد، وإن أصرّ الشهرستاني على تصحيح البلوغ إليه، فقال: ثمّ يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كلّ فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من أُمّتي هي الفرق الإسلامية المؤمنة برسالة النبي الأعظم، وكتاب اللّه سبحانه، وبلوغ تلك الأُمة بهذه الصفة إلى هذا الحد الهائل أوّل الكلام، لأنّ المراد هو الاختلاف في العقيدة التي يدور

عليها فلك الهلاك والنجاة.

وأمّا الاختلاف في الأُصول والمعارف التي ليست مداراً للهداية والضلالة، بل لا تعد من صميم العقائد الإسلامية، فهو خارج عن إطار الحديث، فاختلاف الأشاعرة والمعتزلة، في وجود الواسطة بين الوجود

____________________________

1 . رشفة الصادي: 25.

2 . الملل والنحل:1/15.

( 36 )

والعدم، وحقيقة الجسم والأكوان والألوان، والجزء الذي لا يتجزأ، والطفرة، الذي أوجد فرقاً كلامية، فلا يوجب دخول النار، وإن كان الحقّ واحداً، ولا يصحّ عدّ المعتقدين بها من الفرق المنصوص عليها في كلام النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

وبعبارة واضحة: إنّ الفرق المذمومة في الإسلام هي أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية، في مواضع تعد من صميم الدين كالتوحيد بأقسامه والعدل والقضاء والقدر، والتجسيم والتنزيه، والجبر والاختيار، والهداية والضلالة و رؤية اللّه سبحانه وإدراك البشر له تعالى، والإمامة والخلافة، ونظائرها.

وأمّا الاختلاف في سائر المسائل التي لا تمت إلى الدين بصلة ولا تمثل العقيدة الإسلامية فلا يكون المخالف والموافق فيها داخلاً في الحديث، والحال أنّ كثيراً من الفرق الإسلامية يرجع اختلافهم إلى أُمور عقلية أو كونية، ممّا لا يرتبط بالدين أو ما لا يسأل عنه الإنسان في حياته وبعدها ولا يجب الاعتقاد به.

محاولات لتصحيح العدد

إنّ هناك محاولات لتصحيح مفاد الحديث من حيث العدد المذكور فيه، نشير إليها فيما يلي:

1. هذا العدد الهائل كناية عن المبالغة في الكثرة، كما في قوله سبحانه وتعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُم) .(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذه المحاولة فاشلة، لأنّها إنّما تصحّ إذا ورد الحديث بصورة السبعين أو غيرها من العقود العددية، فإنّ هذا هو المتعارف في مقام الكناية ولكن الوارد في الحديث هو غير ذلك.

____________________________

1 . التوبة:80.

( 37 )

ترى أنّ النبي

يركز في حقّ المجوس على عدد السبعين، وفي حقّ اليهود على عدد الإحدى والسبعين وفي حقّ النصارى على اثنتين وسبعين، وفي حقّ الأُمّة الإسلامية على ثلاث وسبعين. وهذاالتدرّج يعرب بسهولة عن أنّ المراد هو بلوغ الفرق إلى هذا الحدّ، بشكل حقيقي لا بشكل مبالغي.

2. إنّ أُصول الفرق وإن كانت لا تصل إلى هذا العدد بل لا تبلغ نصفه ولا ربعه، وإنّ فروع الفرق يختلف العلماء في تفريعها، وإنّ الإنسان في حيرة حين يأخذ في العد، بأن يعتبر _ في عدّ الفرق _ أُصولها أو فروعها، وإذا استقر رأيه على اعتبار الفروع، فعلى أيّ حدّ من التفريع يأخذه مقياساً، إلاّ أنّ الحديث لا يختص بالعصور الماضية، فإنّ حديث الترمذي يتحدث عن افتراق أُمّة محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأُمّته مستمرة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فيجب أن يتحدث في كلّ عصر عن الفرق التي نجمت في هذه الأُمّة من أوّل أمرها إلى الوقت الذي يتحدث فيه المتحدث، ولا عليه إن كان العدد قد بلغ ما جاء في الحديث أو لم يبلغ، فمن الممكن بل المقطوع _ لو صحّ الحديث _ وقوع الأمر في واقع الناس على وفق ما أخبر به.(1)

وهناك محاولة ثالثة غير صحيحة جدّاً وهي الاهتمام بتكثير الفرق، فترى أنّ الإمام الأشعري يجعل للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة، وللشيعة الإمامية أربعاً وعشرين فرقة، كما أنّ الشهرستاني يعدّ للمعتزلة اثنتي عشرة فرقة، ويعدّ للخوارج الفرق التالية: المحكمة، الأزارقة، النجدات، البيهسية، العجاردة، الثعالبة، الأباضية، الصفرية.

وذلك لأنّ الجميع من أصناف الشيعة والمعتزلة والخوارج يلتقون تحت أُصول خاصة معلومة في محلها، مثلاً أصناف الخوارج يجتمعون تحت أُصول أشهرها تخطئة عثمان والإمام

أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ في مسألة التحكيم، وتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار. فلا يصحّ عدّ كلّ صنف فرقة، وإن اختلف كلّ مع شقيقه في أمر جزئي، ومثل ذلك أصناف الآخرين.

____________________________

1 . مقدّمة الفرق بين الفرق: 7.

( 38 )

ثمّ إنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي، ذهب إلى عدم صحّة الحديث للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية: 71، 72، 73 أمر مفتعل لا يمكن تصديقه فضلاً عن أن يصدر مثله عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

ثانياً: إنّه ليس في وسع النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أن يتنبأ مقدماً بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون.

ثالثاً: لا نجد لهذا الحديث ذكراً فيما ورد لنا من مؤلفات من القرن الثاني بل ولا الثالث الهجري ولو كان صحيحاً لورد في عهد متقدّم.

رابعاً: أعطت كلّ فرقة لختام الحديث، الرواية التي تناسبها، فأهل السنّة جعلوا الفرقة الناجية هي أهل السنّة، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة، وهكذا وقال:

وقد ظهر التعسّف البالغ لدى مؤرّخي الفرق في وضعهم فروقاً وأصنافاً داخل التيارات الرئيسية حتى يستطيعوا الوصول إلى 73 فرقة، وفاتهم أنّ افتراق المسلمين لم ينته عند عصرهم، وأنّه لا بدّ ستنشأ فرق جديدة باستمرار ممّا يجعل حصرهم هذا خطأ تماماً، إذ لا يحسب حساباً لما سينشأ بعد ذلك من فرق إسلامية جديدة.(1)

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الأسباب غير صحيح عدا ما ذكره من السبب الرابع وما ذيله به.

أمّا دليله الأوّل، فلأنّ ما جاء فيه هو نفس المدّعى ولم يبيّن وجهاً لافتعال الحديث.

وأمّا دليله الثاني، فلأنّ المتبادر منه أنّه ليس في وسع النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ التنبّؤ بالأحداث الآتية، ولكنّه باطل

بشهادة الصحاح والسنن على تنبوّئه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بإذن اللّه عن كثير من الحوادث الواقعة في أُمّته، وقد جمعنا

____________________________

1 . مذاهب الإسلاميين:1/34.

( 39 )

عدّة من تنبّوئه في موسوعتنا: مفاهيم القرآن.(1)

وربما يريد الكاتب من عبارته معنى آخر، وهو أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا يصح له أن يقدم على مثل هذا التنبّؤ، لأنّه إقدام غير مرغوب فيه، لما يحتوي على الإضرار بالأُمّة، ولكن هذا الرأي منقوض أيضاً بتنبّؤات أُخرى تضاهي المورد هذا، فهذا هو النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يتنبّأ بالمستقبل المظلم الذي يواجهه ذو الخويصرة من وجوه الخوارج الذي أتي النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ و هو يقسمالغنائم بعد منصرفهم من حنين فقال للنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : يا رسولاللّه اعدل، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ويلك من يعدل إن لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أعدل»، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ائذن لي فيه أن أضرب عنقه؟

قال: «دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يرمق السهم من الرميّة، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء».(2)

فأي فرق بين هذا التنبّؤ ونظائره الواردة في أحاديث النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، والتنبّؤ بافتراق أُمّته إلى الفرق المعدودة؟

وأمّا دليله الثالث، فعجيب جداً، فقد رواه أبو داود(202_ 275ه_) في سننه، والترمذي (209_ 279ه_ ) في صحيحه، وابن ماجة(218_ 276ه_) في سننه، وأحمد بن حنبل(241ه_) في مسنده، والجميع من أعيان أصحاب الحديث في القرن الثالث،

فكيف يقول هذا الكاتب: «بل ولا الثالث الهجري»؟! وإليك بعض ما أسندوه:

1. روى أبو داود في كتاب السنة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة».

ثمّ روى عن معاوية بن أبي سفيان أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قام فينا فقال: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة،

____________________________

1 . مفاهيم القرآن:3/503_ 508.

2 . التاج:5/286، كتاب الفتن.

( 40 )

وإنّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة».(1)

2. روى الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأُمّة مثله، عن أبي هريرة. و روى عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ليأتين على أُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أُمّه علانية، لكان في أُمّتي من يصنع ذلك، وإنّ بني إسرائيل تفرّّقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة» قالوا: ومن هي يا رسول اللّه؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».(2)

3. روى ابن ماجة في باب افتراق الأُمم عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة».

وروى عن عوف بن مالك قال: قال رسول اللّه: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنةو سبعون في النار; وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في

النار وواحدة في الجنة; والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» قيل: يا رسول اللّه: من هم؟ قال: «الجماعة».

وروى عن أنس بن مالك ما يقرب من ذلك.(3)

4. وروى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة ما نقلناه عنه آنفاً.(4)

كما روى أيضاً عن أنس بن مالك ما رويناه عنه سابقاً.(5)

وعلى كلّ تقدير فلا يهمنا البحث حول عدد الفرق وكثرتها و قلّتها، بل

____________________________

1 . سنن أبي داود:4/198، كتاب السنّة.

2 . سنن الترمذي:5/26، كتاب الإيمان، الحديث 2641.

3 . سنن ابن ماجة:2/479، باب افتراق الأُمم.

4 . مسند أحمد:2/332.

5 . مسند أحمد:3/120.

( 41 )

الذي نتوخّاه في هذه الصحائف هو البحث عن الفرق الموجودة في الأوساط الإسلامية و هي عبارة عن هذه الفرق: أهل السنّة(1) بأصنافهم: أهل الحديث والأشاعرة والمعتزلة والخوارج، والشيعة بفرقها الثلاث: الإمامية الاثني عشرية، الزيدية، الإسماعيلية.

وأمّا الفرق التي بادت واندثرت، وقد أكل الدهر عليها و شرب، فهي غير مطروحة لنا بل البحث عنها مفصلاً ضياع للوقت إلاّ على وجه الإشارة.

***

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلكُمْ أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعاً وَيُذيقَ بَعْضكُمْ بَأْسَ بَعْض انْظُر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون).(2)

____________________________

1 . أهل السنّة لا يعتبرون الخوارج منهم، بل لا يعتبرون المعتزلة منهم أيضاً، ولكن المراد من أهل السنّة هنا هو المعنى الأعم، أي غير الشيعة، أي من يقول بكون الخلافة بالبيعة والشورى، فكلّ من يقول بكون الإمامة مقاماً تنصيصيّاً يعد من الشيعة، ومن يقول بكونها مقاماً انتخابياً فهو معدود من أهل السنّة، فالملاك في التقسيم هو هذا لا المصطلح المعروف بين أهل الحديث والأشاعرة، فلو خضعنا لمصطلح الأوّلين، فهم ربما لا يعدّون

الأشاعرة أيضاً منهم، هذا ابن تيمية يكن العداوة للأشاعرة ولا يعدّهم منهم.

2 . الأنعام: 65.

( 42 )

( 43 )

الفصل الثاني بدايات الاختلاف في عصر الرسالة

الفصل الثاني بدايات الاختلاف في عصر الرسالة

لا شكّ في أنّ المسلمين قد اختلفوا بعد لحوق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى إلى فرق مختلفة، وسنبين جذور هذه الخلافات وحوافزها في الأبحاث الآتية.

إنّما الكلام في وضع المسلمين أيّام النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فهل كانوا محتفظين بوحدة كلمتهم ومستسلمين لأمر نبيّهم جميعاً كما أمر اللّه به سبحانه، أم كان هناك بعض الاختلاف بينهم في جملة من المسائل؟

لا شكّ أنّ المسلم الحقيقي هو من يستسلم لأوامر اللّه ورسوله ولا يخالفه قيد شعرة آخذاً بقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولهِِِ واتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليم)(1). وقد فسر المفسرون قوله سبحانه: (لا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّه وَرَسُوله) بقولهم: أي لا تتقدموا على اللّه ورسوله في كلّ ما يأمر وينهى، ويؤيده قوله سبحانه في نفس السورة:(وَاعْلَمُوا أَنَّ فيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَو يُطِيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْرِلَعَنِتّم) .(2)

وقال عزّ من قائل: (فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً) .(3)

____________________________

1 . الحجرات:1.

2 . الحجرات:7.

3 . النساء:65.

( 44 )

ومع ذلك كلّه فقد نجمت بين الصحابة والنبي الأعظم مشاجرات ومنازعات بين آونة وأُخرى قد ضبطها التاريخ وأصحاب السير. غير أنّ الشهرستاني يصر على أنّ أكثر الخلافات كان من جانب المنافقين و قال: «إنّ شبهات أُمّته في آخر زمانه، ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار والملحدين، وأكثرها من المنافقين، وإن خفي علينا ذلك في الأُمم السالفة لتمادي الزمان، فلم

يخف في هذه الأُمّة أنّ شبهاتها نشأت كلّها من شبهات منافقي زمن النبي، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى وسألوا عمّا منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل في ما لا يجوز الجدال فيه».

ثمّ ذكر الشهرستاني حديث ذي الخويصرة التميمي في تقسيم الغنائم إذ قال: اعدل يا محمد، فإنّك لم تعدل، حتى قال عليه الصلاة والسلام: «إن لم أعدل فمن يعدل».(1)

إنّ ما ذكره الشهرستاني صحيح لا غبار عليه غير أنّ الاعتراض والخلاف لم يكن منحصراً بالكفار و المنافقين بل كان هناك رجال من المهاجرين والأنصار، يعترضون على النبي في بعض الأُمور التي لا تروقهم، وكأنّ الشهرستاني نسي قصة الحديبية حيث آثر رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ الصلح يوم الحديبية على الحرب وأمر به، عملاً بما أوصى اللّه إليه، وكانت المصلحة في الواقع وفي نفس الأمر توجبه لكنّها خفيت على أصحابه فطفق بعضهم ينكره والآخر يعارضه علانية بكلّ ما لديه من قوة. هذا هو عمر بن الخطاب فإنّه بعد ما تقرر الصلح بين الفريقين على الشروط الخاصة وقد أدركته الحمية، فأتى أبا بكر و قد استشاط غضباً فقال: يا أبا بكر أليس برسول اللّه ؟ قال: بلى. قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا... الحديث.(2)

وكأنّ الشهرستاني غفل أيضاً عن الجدال الشديد بين النبي وبعض

____________________________

1 . الملل والنحل:1/21.

2 . السيرة النبوية لابن هشام:3/317.

( 45 )

أصحابه في متعة الحج. قال الإمام القرطبي: «لا خلاف بين العلماء أنّ التمتع المراد بقوله تعالى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدي) (1) هو

الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ، قلت: وهو فرض من نأى عن مكة بثمانية وأربعين ميلاً من كلّ جانب على الأصح، وإنّما أضيف الحجّ بهذه الكيفية إلى التمتع أو قيل عنه: التمتع بالحج، لما فيه من المتعة، أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخلّلة بين الإحرامين، وهذا ما كرهه عمر وبعض أتباعه فقال قائلهم: أننطلق و ذكورنا تقطر؟!

وفي «مجمع البيان» أنّ رجلاً قال: أنخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر؟ وأنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال له: «إنّك لن تؤمن بها أبداً».(2)

ولأجل هذه المكافحة التي نجمت في حياة النبي خطب عمر بن الخطاب في خلافته وقال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما .(3)

وهذه الأُمور تسهل لنا التصديق بما رواه البخاري في إسناد عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس قال: «لما اشتد بالنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وجعه قال: ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده». قال عمر: إنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ غلبه الوجع، وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط. قال: «قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع». فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وبين كتابه».(4)

كما تسهل لنا التصديق بخلافهم في حال حياته عندما أمرهم بقوله:«جهزوا جيش أُسامة لعن اللّه من تخلّف عنه»، فقال قوم: يجب علينا امتثال

____________________________

1 . البقرة:196.

2 . النص والاجتهاد: 120، وقد نقل مصادر كلامه.

3 . مفاتيح الغيب للرازي:3/201 في تفسير آية 24من سورة النساء; شرح التجريد للفاضل القوشجي: 484.

4 . صحيح البخاري:1/30.

(

46 )

أمره، وأُسامة قد برز من المدينة، وقال قوم: قد اشتد مرض النبي عليه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره.(1)

نعم كانت هناك هنابث ومشاجرات في أُمور لا تروق سليقة بعض النفوس وميولهم، غير أنّ هذه الخلافات لم تكن على حدّتنشق بها عصا الوحدة وتنفصم بها عرى الأُخوة، وأعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف الذي نجم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى، وهو الخلاف في الإمامة وقد لمست الأُمة ضرره وخسارته حتى أنّ الشهرستاني أعرب عن عظم هذه الخسارة بقوله: «ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كلّ زمان».(2)

وإليك بيان أساس هذا الاختلاف:

لما التحق النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالرفيق الأعلى صارت الأُمّة فرقتين باقيتين إلى الآن:

الأُولى: القائلون بأنّ منصب الإمامة منصب إلهي وأنّ الإمام يقوم بالوظائف التي كانت قد أُلقيت على عاتق النبي من تبيين الأحكام الشرعية وتفسير كتاباللّه وصيانة الدين عن النقص والزيادة والإجابة على الأسئلة الواردة والاعتراضات المتوجهة إلى الدين مضافاً إلى إدارة المجتمع البشري وسياسته التي يعبر عنها بالحكومة الإسلامية.

الثانية: القائلون بأنّ منصب الإمامة منصب عادي يجب أن يقوم بها واحد من آحاد الأُمّة لتبرير أمر المجتمع سياسة واجتماعاً واقتصاداً وغير ذلك، وأنّه لم يرد في أمر الخلافة نص على شخص ما وهؤلاء هم الموسومون بأهل السنّة.

***

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً ولا تَفَرَّقُوا). (3)

____________________________

1 . الملل والنحل:1/23 _ 24.

2 . الملل والنحل:1/23 _ 24.

3 . آل عمران: 103.

( 47 )

الفصل الثالث علل تكوّن الفرق الإسلامية

الفصل الثالث علل تكوّن الفرق الإسلامية

إنّ الوقوف على تاريخ الفرق الإسلامية، وكيفية تكوّنها والعلل الباعثة على نشأتها، من الأبحاث المهمة التي

تعين الباحث في تقييم المذاهب الإسلامية ومدى إخلاص أصحابها في نشرها وبثها بين الأُمّة، و هذه النقطة الحسّاسة من علم الملل والنحل، قد أهملت في كثير من كتب الفرق والنحل إلاّ شيئاً قليلاً لا يشبع نهمة الطالب، ونحن نأتي في هذه العجالة بإجمال ما وقفنا عليه في تاريخ تكوّنها والبواعث الموجدة لها، وأمّا الإسهاب في البحث فموكول إلى آونة أُخرى.

لبّى النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ دعوة ربّه وانتقل إلى جواره وترك لأُمّته ديناً قيماً عليه سمات من أبرزها «بساطة العقيدة ويسر التكليف» وأخذ المسلمون يفتحون البلاد بقوة المنطق أوّلاً وحدّالسلاح ثانياً، وأخذت قوى الكفر والشر تنسحب أمام دعاة الإسلام وجنوده البواسل، وتنصاع لهداه البلاد إثر البلاد.

ارتحل الرسول الصادع بالحق، وترك بين أُمّته كتاب اللّه العزيز الذي فيه تبيان كل شيء(1)، وسنّته الوضّاءة المقتبسة من الوحي(2) السليم من الخطأ،

____________________________

1 . (وَنَزَّلنا عَلَيْكَ الكِتاب تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل:89).

2 . (إِنْ هُوَ اِلاّ وَحْيٌ يُوحى) (النجم:4).

( 48 )

المصون من الوهن وعترته الطيبين الذين هم في لسان نبيّهم قرناء الكتاب.(1)

فالمسلمون الأوّلون في ضوء بساطة العقيدة وسهولة التشريع و في ظل هذه الحجج والأدلة القويمة، كانوا في غنى عن الخوض في أقوال المدارس العقلية والمناهج الكلامية التي كانت دارجة بين الأُمم المتحضّرة آنذاك، فهم بدل الغور فيها، كانوا يخوضون غمار المنايا و يرتادون ميادين الحروب في أقطار العالم وأرجاء الدنيا لنشر الدين والتوحيد ومكافحة شتى ألوان الشرك والثنوية ومحو العدوان والظلم عن المجتمع البشري.

نعم كان هذا وصفهم وحالهم إلاّ شذاذاً منهم من الانتهازيين، عبدة المقام وعشاق المال ممن لم تهمّهم إلاّأنفسهم وإلاّعلفهم وماؤهم، وقد قلنا إنّ بساطة التكليف كانت إحدى العوامل التي صرفت المسلمين عن التوجه

والتعرض للمناهج الفلسفية الدارجة في الحضارات القائمة آنذاك، فلأجل ذلك كانوا يكتفون مثلاً في معرفة اللّه سبحانه بقوله عزّمن قائل: (أَفِي اللّه شَكٌّ فاطرِ السَّمواتِ والأَرضِ) (2)، وقوله عزّجلّ:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخالِقُون).(3)

وفي نفي الشرك والثنوية كانوا يكتفون بقوله سبحانه: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا).(4)

وفي التعرّف على صفاته وأفعاله بقوله سبحانه: (هُوَ اللّهُ الَّذي لاإِلهَ إِلاّهُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيم) (5)، إلى آخر سورة الحشر.

وفي تنزيهه عن التشبيه والتجسيم بقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصير)(6)،

____________________________

1 . لقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض. والتثليث في كلامنا لا يعارض التثنية في كلام الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، لأنّ مرجع كلام العترة إلى سنّة الرسول التي أودعها في قلوبهم بإذن اللّه عزّ وجلّ.

2 . إبراهيم:10.

3 . الطور:35.

4 . الأنبياء:22.

5 . الحشر:22.

6 . الشورى:11.

( 49 )

وبقوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار). (1)

وفي سعة قدرته: (وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .(2)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول المبدأ والمعاد وما يرجع إليهما من الأبحاث الكلامية الغامضة، فلكلّ واحدة من هذه المسائل نصوص في الكتاب والسنّة وهي أغنتهم عن الرجوع إلى غيرهم.

نعم إنّ مفاهيم هذه الآيات على بساطتها تهدف إلى معان بعيدة الأغوار، عالية المضامين، فالكلّ يستفيد منها حسب مقدرته واستعداده فهي هادية لكلّ البشر ومفيدة لجميع الطبقات من ساذجها إلى متعلّمها، إلى معلمها....

وهذه الميزة يختصّ بها القرآن الكريم ويتميّز فيها عن غيره، فهو مع كونه هدى للناس عامة، خير دليل للمفكّرين

صغارهم وكبارهم.

هذا هو الكتاب، وأمّا السنّة فهي عبارة عمّا ينسب إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير، نازلة منزلة التفسير والتبيين لمعاني الكتاب الحكيم، مبينة لمجمله، شارحة لمعانيه كما يعرب عنه قوله سبحانه: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (3)، أي لا لتقرأ فقط، بل لتبيّن وتشرح ما نزل، بقولك وفعلك وتقريرك.

وأمّا العترة فيكفي في عصمتهم وحجية أقوالهم، حديث الثقلين الذي تواتر نقله، وقام بنقله أكابر المحدّثين في العصور الإسلامية كلّها.

وكان اللائق بالمسلمين والواجب عليهم مع الحجج الإلهية، التمسّك بالعروة الوثقى ورفض الاختلاف، ولكن يا للأسف تفرقوا إلى فرق وفرق لعلل نشير إليها.

إنّ لتكوّن المذاهب الإسلامية _ أُصولاً وفروعاً _ عللاً وأسباباً ومعدات وممهدات ولا يقوم بحقّ بيانها الباحث إلاّ بإفراد كتاب خاص في هذا الموضوع،

____________________________

1 . الأنعام:103.

2 . الأنعام:91.

3 . النحل:44.

( 50 )

ولكن نشير في هذه العجالة إلى العوامل الرئيسية في تكوّن الفرق ونشوئها في المجتمع الإسلامي وهي أُمور:

1. الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية.

2. سوء الفهم واعوجاجه في تحديد الحقائق الدينية.

3. المنع عن كتابة حديث رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ونقله والتحدّث به كما سيجيء.

4. فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث عن قصص الأوّلين والآخرين.

5. الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهنود.

6. الاجتهاد في مقابل النصّ.

وإليك البحث في كلّ واحد من هذه العوامل حسب ما يقتضيه المجال.

***

(وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ وَأَشدَّ تَثْبيتاً) (1).

***

____________________________

1 . النساء: 66 .

( 51 )

العامل الأوّل الاتجاهات الحزبيةُ والتعصّبات القبلية

العامل الأوّل الاتجاهات الحزبيةُ والتعصّبات القبلية

إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضية الإمامة، إذ ما سل سيف قطّ في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة

دينية مثل ما سلّ على الإمامة، وقد كان الشقاق بين المسلمين في تلك المسألة أوّل شقاق نجم بينهم وجعلهم فرقاً أو فرقتين. فمن جانب نرى علياً صلوات اللّه عليه ورجال البيت الهاشمي ركنوا إلى النص وقالوا: إنّ الإمامة شأنها شأنالنبوة لا تكون إلاّ بالنصّ. وإنّ هذا النصّ قد صدر عن النبي في مواطن شتى، آخرها واقعة الغدير المشهورة بين كافّة الناس حينما قام النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في محتشد عظيم وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه...».(1)

ومن جانب آخر نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة قبل تجهيز النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ومواراته، يبحثون عن قضية الإمامة أو الخلافة، فيرى سيدهم أنّ القيادة حقّ للأنصار رافعاً عقيرته بقوله: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب، إنّ محمّداً _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وقلع الأنداد

____________________________

1 . راجع في تواتره وكثرة رواته في جميع العصور الإسلامية من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، ودلالته على الولاية الكبرى للإمام أمير المؤمنين، كتاب الغدير: الجزء الأوّل، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن نقل مصادره.

( 52 )

والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة، فرزقكم اللّه الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدّوه منكم وأثقله على عدوه من غيركم،

حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً _ إلى أن قال _ : استبدوا بهذا الأمر دون الناس.

فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت، نولّيك هذا الأمر فإنّك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى.(1)

هذا منطق الأنصار ورئيس جبهتهم ترى أنّه يجر النار إلى قرصه وحزبه بحجّة أنّهم آمنوا بمحمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ونصروه وآووه، إلى غير ذلك من الحجج التي ذكرها سعد بن عبادة، رئيس الخزرج في جبهة الأنصار.

ومن جهة ثالثة نرى بعض المهاجرين الذين اطّلعوا على اجتماع الأنصار في السقيفة، يتركون تجهيز النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ومواراته ويسرعون إلى السقيفة ويحضرون في جمعهم ويناشدونهم ويعارضون منطقهم بقولهم: إنّ المهاجرين أوّل من عبد اللّه في الأرض وآمن باللّه وبرسوله، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم في ذلك إلاّظالم _ إلى أن قال _: من ذا ينازعهم في سلطان محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وإمارته وهم أولياؤه وعشيرته، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.(2)

وهذا منطق بعض المهاجرين لا يقصر في الصلابة أو الوهن عن منطق الأنصار، والكلّ يدّعي أنّ الحقّ له ولحزبه، من دون أن يتفكّروا في مصالح الإسلام والمسلمين، ومن دون أن يتفكّروا في اللياقة والكفاءة في القائد، ومن دون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنّة وإحراز المعايير التي يجب وجودها في القائد، فيشبه منطق هؤلاء منطق المرشحين من سرد الثناء على أنفسهم وحزبهم لرئاسة الجمهورية أو عضوية المجلس الوطني.

____________________________

1 . تاريخ الطبري:2/456، حوادث سنة 11ه_.

2 . تاريخ الطبري:2/457، حوادث سنة 11ه_.

( 53 )

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى * وليلى لا

تقر لهم بذاك_ا

نعم كان هذاالتشاجر قائماً بينهم على قدم وساق إلى أن تغلب جناح هذا الصنف من المهاجرين على جبهة الأنصار بإعانة بعض الأنصار وهو«بشير بن سعد» و هو ابن عم«سعد بن عبادة»، فبايع أبا بكر حتى يكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا أمرهم، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض _ و فيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء _: واللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فقاموا إليه وبايعوه.(1)

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين في تقييم احتجاج الأنصار والمهاجرين نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة، قال:

لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ أنباء السقيفة،بعد وفاة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، قال_ عليه السَّلام _ :«ما قالت الأنصار؟» قالوا: قالت: منّا أمير ومنكم أمير.

قال _ عليه السَّلام _ : «فهلا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم»!

قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟ .

فقال _ عليه السَّلام _ : «لو كانت الإمارة فيهم، لم تكن الوصية بهم».

ثمّ قال _ عليه السَّلام _ : «فماذا قالت قريش؟».

قالوا: احتجت بأنّها شجرة الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

فقال _ عليه السَّلام _ : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة».(2)

____________________________

1 . تاريخ الطبري:2/458، حوادث سنة 11ه_.

2 . نهج البلاغة: الخطبة64.

( 54 )

وفي كلمة قصيرة عن الإمام _ عليه السَّلام _ ، قال:

«واعجباه تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة».

قال الرضي، وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو:

فإن كنت بالشورى ملكتأُمورهم فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب(1)

وبتلك المعايير و المبررات تمت البيعة للخليفة، والكلّ أشبه بالمكافحات الحزبية أو القبلية التي لا تمت إلى الإسلام وأهله بصلة.

فعند ذلك أخذ هؤلاء المهاجرون بزمام الحكم واحداً بعد واحد إلى أن تربّع ثالث القوم عثمان بن عفان على منصة الحكم فحدثت في زمانه حوادث مؤلمة وبدع كثيرة أدّت إلى الفتك به والإجهاز عليه.

غير أنّ عليّاً صلوات اللّه عليه وبني هاشم وعدّة من المهاجرين والبدريين وعدّة من أكابر الأنصار تمسّكوا بالنصّ النبوي وبقوا على ما فارقهم رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عليه، كما أنّ رئيس الأنصار الخزرجيين وداعميه لم يبايعوا أبا بكر ولا عليّاً.

هذا تحليل تكوّن أوّل تفرّق حدث في الإسلام; فجعل الأُمّة فرقتين: فرقة تشايع الخلفاء، وفرقة تشايع عليّاً _ عليه السَّلام _ إلى اليوم الحاضر.

والذين شايعوا عليّاً _ عليه السَّلام _ وتابعوه لم يكن ذلك منهم إلاّتمسكاً بالدين مذعنين بأنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قد نصّ عليه من دون أن يكون هناك اندفاع حزبي أو علاقة شخصية أو قبلية، بل تسليماً لقوله سبحانه: (وَما كانَ لِمُؤمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرهِمْ).(2)

وأمّا غيرهم فقد عرفت المعايير التي استندوا إليها في تقديمهم على غيرهم، فالكلّ معايير قبلية أو شخصية.

____________________________

1 . نهج البلاغة، طبعة عبده، قسم الحكم، الرقم190. وفي المطبوع تحريف، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

2 . الأحزاب:36.

( 55 )

العامل الثاني سوء الفهم واللجاج في تحديد

العامل الثاني سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق

إذا

كانت الدعايات الحزبية أوّل عامل لتكوّن الفرق، فهناك عامل ثان لتفريق المسلمين وتبديدهم إلى فرق متباعدة، وهو سوء الفهم _عن تقصير_ في تحديد العقائد الدينية من بعضهم، وقلة العقل وخفّته في بعض آخر منهم، وقد كان هذا عاملاً قويّاً لتكوّن الخوارج التي كانت من أخطر الفرق على الإسلام والمسلمين، لولا أنّ الإمام عليّاً _ عليه السَّلام _ استأصلهم وبدد شملهم، ومع ذلك بقيت منهم حشاشات تنجم تارة وتخفق أُخرى في الأجيال والقرون، وإليك شرحه:

لقد ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة التي ارتكبها عماله في هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب علي _ عليه السَّلام _ مكانه لما عرفت الأُمّة من علمه وفضله وسابقته وجهاده المنقطع النظير، وقام علي _ عليه السَّلام _ بعزل الولاة والعمال الذين نصبهم عثمان على رقاب الناس، وقد انتهت أعمالهم الإضرارية من جانب، وإصرار الخليفة على إبقائهم من جانب آخر، إلى قتله.

قام علي _ عليه السَّلام _ بعزل الولاة آنذاك، ونصب العمال الأتقياء الزهّاد الكفاة مكانهم، وعند ذلك طمع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه في العراقين، وطلبا منه أن يولي أحدهما على الكوفة والآخر على البصرة، والمألوف من طريقة علي_ عليه السَّلام _ في تنصيب العمال اشتراط شروط، تخالف ما كان عليه

( 56 )

الرجلان وقد قال في حقّهما كلمة: «وإنّي أخاف شرهما على الأُمّة وهما معي، فكيف إذا فرقتهم في البلاد».(1)

فعند ذلك ثارا على الإمام علي _ عليه السَّلام _ وخرجا عليه واتّهماه _لتبرير موقفهما_ بقتل عثمان أو إيواء قتلته، وكانت نتيجة ذلك اشتعال نار الحرب بين الإمام والرجلين في نواحي البصرة«حرب الجمل» وقتل الرجلين بعد أن أُريقت دماء الأبرياء.

ثمّ إنّ معاوية قد عرف

موقف علي _ عليه السَّلام _ بالنسبة إلى عمال الخليفة «عثمان»، و مع هذا طلب من الإمام إبقاءه والياً على الشام، فرفض الإمام ذلك لما يعرف من نفسية معاوية وانحرافه، ونشبت من ذلك«حرب صفين» ولما ظهرت بوادر الفتح المبين لعلي وجيشه، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة علي _ عليه السَّلام _ . فمن قائل: نستمر في الحرب وهذه خدعة ومكر، ومن قائل: نجيبهم إلى ما دعونا إليه.

وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب، وقام بتبيين الخدعة، غير أنّ الظروف الحاكمة السائدة على جيش الإمام ألجأته إلى قبول وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحكمين وإعلان الهدنة، وكتب هناك كتاباً حول هذا.

ومن العجيب أنّ الذين كانوا يصرون على إيقاف الحرب ندموا على ما فعلوا فجاءوا إلى الإمام يصرّون على نقض العهد، والهجوم على جيش معاوية من جديد، غير أنّ الإمام وقف في وجههم بصمود لما يتضمن من نقض العهد (وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً) .(2)

وعند ذلك نجمت فرقة باسم الإسلام من جيش علي _ عليه السَّلام _ وطلع قرن الشيطان ،فعادت تلك الجماعة خارجة عن إطاعة إمامهم، رافضة لحكومته، ومبغضة إيّاه كما أبغضت عثمان وعماله، وهذه الفرقة هي فرقة الخوارج وما زالوا

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:11/16.

2 . الأحزاب:15.

( 57 )

مبدأ أحداث وعقائد في التاريخ. وكان الحافز القوي على تكوّن هذه الفرقة هو سوء الفهم واعوجاج السليقة، وقد عرّفهم الإمام بقوله _ عندما شهروا سيوفهم عليه في النهروان _ :«فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربّكم ولا سلطان مبين معكم، قد طوّحت بكم الدار

واحتبلكم المقدار، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين، حتى صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام، سفهاء الأحلام».(1)

وللإمام كلمة أُخرى يشير فيها إلى السبب الذي فارقوا به عن الحقّ قال صلواتاللّه عليه:«لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»(يعني معاوية وأصحابه).

قال الإمام عبده: والخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلّوا بسوء عقيدتهم فيه إلاّأنّ ضلّتهم لشبهة تمكّنت في نفوسهم، فاعتقدوا أنّ الخروج عن طاعة الإمام ممّا يوجبه الدين عليهم، فقد طلبوا حقّاً وأرادوا تقريره شرعاً، فأخطأوا الصواب فيه.(2)

وقد زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه: (إِنِ الحُكْمُ إِلاّللّه).(3)

وسيوافيك مفاد الآية ومقالة المحتجين بها_ عند البحث عن عقائد تلك الفرقة _ كي يظهر مدى اعوجاج فهم القوم.

ظهور المرجئة

قد كان لظهور الخوارج أثر بارز في حدوث الفتن وظهور الحوادث الأُخر في المجتمع الإسلامي، وقد نجمت المرجئة من تلك الناحية حيث إنّ الإرجاء

____________________________

1 . نهج البلاغة شرح محمد عبده:1/82، الخطبة35.

2 . نهج البلاغة شرح محمد عبده:1/103 الخطبة 58.

3 . يوسف:40.

( 58 )

بمعنى التأخير قال سبحانه: (أَرْجه وَأَخاهُ وَأَرسل فِي المدَائنِ حاشِرين) .(1)

ولهذه الفرقة (المرجئة) آراء خاصة نشير إليها في محلّها، غير أنّ اللبنة الأُولى لظهورها هي اختلافهم في أمر علي وعثمان، فهؤلاء (الخوارج) كانوا يحترمون الخليفتين أبا بكر وعمر ويبغضون علياً وعثمان، على خلاف أكثرية المسلمين، ولكن المرجئة الأُولى لما لم يوفقوا لحلّ هذه المشكلة التجأوا إلى القول بالإرجاء فقالوا: نحن نقدّم أمر أبي بكر وعمر، ونؤخّر أمر الآخرين إلى يوم القيامة، فصارت المرجئة فرقة نابتة من خلاف الخوارج في أمر الخليفتين، مع فوارق بينهم و بين المرجئة التي تأتي في محلّها، والعامل لتكوّنها كأصلها، هو

سوء الفهم واعوجاج التفكير.

هذا هو أصل الإرجاء، ولبنته الأُولى، ولكنّه قد نسي في الآونة الأخيرة; وأخذ الأصل الآخر مكانه، و هو كون العمل داخلاً في الإيمان أو لا؟ وبعبارة أُخرى: هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو لا؟

ذهبت الخوارج إلى دخول العمل في صميم الإيمان، فصار مرتكب الكبيرة كافراً.

واختارت المعتزلة كون مرتكب الكبيرة غير مؤمن ولكنّه ليس بكافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين.

وذهبت المرجئة الأُولى إلى خروج العمل من الإيمان، وأنّ إيمان مرتكب الكبيرة، كإيمان الملائكة والأنبياء بحجّة عدم دخالة العمل في الإيمان. فاشتهروا بالقول: «قدّموا الإيمان وأخّروا العمل» فصار هذا أصلاً وأساساً ثانوياً للمرجئة. فكلّما أطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلاّ هؤلاء.

إنّ الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظية أو المعرفة القلبية، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً، وانّ النار للكافرين(2) واقتحام الكبائر لا يضر أبداً،

____________________________

1 . الأعراف:111.

2 . شرح المقاصد للتفتازاني:2/229، ولاحظ أيضاً ص 238.

( 59 )

فكرة خاطئة تسير بالمجتمع وخصوصاً الشباب فيه إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم.

وعلى كلّ تقدير إنّ نظرية الإرجاء في كلا الموضعين نظرية باطلة نشأت من الاعوجاج في فهم المعارف والانحراف في تفسير الذكر الحكيم، والحديث المأثور عن النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

ولما كان مذهب الإرجاء لصالح السلطة الأموية أخذت تروّجه وتسانده حتى لم يلبث أن فشا في الإرجاء، ولم تبق كورة إلاّ وفيها مرجئي، كما سيوافيك ذلك عند البحث عن عقائد هذه الفرقة.

وليس ظهور الخوارج أو المرجئة وحدهما نتاج الإعوجاج الفكري، بل هناك مذاهب أُخرى نجمت من هذا المنشأ. عصمنا اللّه جميعاً من الزلل في القول والعمل.

***

(ادعُ إِلى سَبيلِ رَبّكَ بِالحكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَن) (1).

____________________________

1 . النحل: 125.

العامل الثالث المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل

العامل الثالث

المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه

إنّ هنا عاملاً ثالثاً لتكوّّن الفرق ونشوء الفوضى في العقائد والأُصول، وهو المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلى عهد المنصور العباسي.

توضيحه: الحديث عبارة عمّا ينسب إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من قول أو فعل أو تقرير نازل منزلة التفسير لمعاني الكتاب الحكيم، مبيّن لمجمله، شارح لمعانيه، كما يعرب عنه قوله سبحانه: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) .(1)

أي لا لتقرأ فقط، بل تبيّن وتشرح ما نزل، بقولك وفعلك وتقريرك.

إذا كانت السنّة هي في الدرجة الثانية من الدين بعد القرآن الكريم في الحجية والاعتبار، حتى إنّك لا تجد فيها شيئاً إلاّ وفي القرآن أُصوله وجذوره، ولا إسهاباً إلاّ وفيه مجمله وعناوينه.

وإذا كان الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا يصدر في قوله وكلامه إلاّ بإيحاء من اللّه سبحانه كما يصرح بذلك قوله سبحانه: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى* وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى).(2)

____________________________

1 . النحل:44.

2 . النجم:2 _ 4.

( 61 )

فهل يصحّ للرسول أن يمنع عن تدوينه وكتابته أو مدارسته ومذاكرته؟!

وإذا كان الرسول منع دراسة الحديث ونقله ونشره وتدوينه، فما معنى قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في خطبته في منى عام حجّة الوداع: «نضر اللّه امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(1) ؟!

وما معنى قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «نضّر اللّه امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما يسمع، فرب مبلّغ أوعى من سامع»(2)؟!

أو قوله _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ : «اللّهمّ ارحم خلفائي، اللّهم ارحم خلفائي، اللّهمّ ارحم خلفائي» قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي»(3)؟!

كيف تصحّ نسبة المنع إلى الرسول الأعظم، مع أنّ المستفيض منه خلافه؟! وإليك بعض ما ورد عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

أمر الرسول بكتابة حديثه

1. روى البخاري عن أبي هريرة أنّ خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأُخبر بذلك النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فركب راحلته فخطب، فقال: «إنّ اللّه حبس عن مكة القتل أو الفيل(شكّ أبو عبد اللّه) وسلّط عليهم رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والمؤمنين. ألا وإنّها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي_ إلى أن قال _ : فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول اللّه؟ فقال: «اكتبوا لأبي فلان _ إلى أن قال _ : كتب له هذه الخطبة».(4)

2. وروي أنّ رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقال: يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث

____________________________

1 . سنن الترمذي:5/34 ح2657، 2658.

2 . سنن الترمذي:5/34 ح2658.

3 . كنزالعمال:10/221، رقم الحديث29167; و بحارالأنوار:2/145 ح7.

4 . صحيح البخاري: 29_30، باب كتابة العلم، الحديث 2.

( 62 )

فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط.(1)

3. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت: يا رسول اللّه أكتب كلّ ما أسمع

منك؟ قال: «نعم». قلت: في الرضا والسخط؟ قال: «نعم فإنّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلاّحقاً».(2)

4. وعن عبد اللّه بن عمرو قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أُريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كلّ شيء سمعته من رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ورسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال:«اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ».(3)

5. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه، قال: قلت: يا رسول اللّه إنّا نسمع منك أحاديث لا نحفظها أفلا نكتبها؟ قال: «بلى فاكتبوها».(4)

أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم يحثّ المسلمين على كتابة ما يتداينون بينهم. قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْن إِلى أَجَل مُسمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُب وَلْيُمْلِلِ الَّذي عَلَيْهِ الحَقّ...) ثمّ يعود ويؤكد على المؤمنين أن لا يسأموا من الكتابة فقال سبحانه:(وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجلهِ...).(5)

____________________________

1 . سنن الترمذي:5/39، كتاب العلم، باب ما جاء في الرخصة فيه، ح2666.

2 . مسند أحمد:2/207.

3 . سنن الدارمي:1/125، باب من رخّص في كتابة العلم; سنن أبي داود:2/318، باب في كتابة العلم; مسندأحمد:3/162.

4 . مسند أحمد:2/215.

5 . البقرة:282.

( 63 )

فإذا كان المال الذي هو زينة الحياة الدنيا من الأهمية بهذه المنزلة، فكيف بأقوال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجّية وبرهاناً؟

وهناك

كلمة قيّمة للخطيب البغدادي نأتي بها برمتها: وقد أدّب اللّه سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين، فقال عزّ وجلّ: (وَلا تَسأمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجَلهِ ذلِكُمْ أَقْسطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادةِ وَأَدنى أَلاّ تَرْتابُوا) .(1)

فلمّا أمر اللّه تعالى بكتابة الدين حفظاً له، واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين، أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشكّ فيه. بل كتابة العلم في هذا الزمان، مع طول الاسناد، واختلاف أسباب الرواية، أحج من الحفظ، ألا ترى أنّ اللّه عزّوجلّ جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم، عوناً عند الجحود، وتذكرة عند النسيان، وجعل في عدمها عند المموّهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادّعوه فيها، فمن ذلك أنّ المشركين لما ادّعوا بهتاً اتخاذ اللّه سبحانه بنات من الملائكة، أمر اللّه نبينا _ صلاى الله عليه وآله وسلَّم _ َّن يقول لهم: (فأَتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .(2)

ولمّا قالت اليهود: (ما أنزلَ اللّهُ على بشر مِنْ شَيْء) (3)، وقد استفاض عنهم قبل ذلك للإيمان بالتوراة، قال اللّه تعالى لنبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قل لهم: (مَنْ أَنْزلَ الكتابَ الَّذي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهدىً لِلناسِ تَجْعَلُونهُ قَراطِيسَ تُبْدُونها وَتُخْفُونَ كَثيراً) (4)، فلم يأتوا على ذلك ببرهان، فأطلع اللّه على عجزهم عن ذلك بقوله:(قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوضِهِمْ يَلْعَبُون) .(5)

____________________________

1 . البقرة:282.

2 . الصافات:157.

3 . الأنعام:91.

4 . الأنعام:91.

5 . الأنعام:91.

( 64 )

وقال تعالى _ رادّاً على متّخذي الأصنام آلهة من دونه _ : (أَروني ماذا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرِكٌ فِي السَّماواتِ ائتُوني بِكتاب مِنْ قَبْلِ هذا أَو أَثارة مِنْ

عِلْم إِنْ كُنْتُمْ صادِقين) .(1) والأثارة والأثرة، راجعان في المعنى إلى شيء واحد،وهو ما أثر من كتب الأوّلين. وكذلك سبيل من ادّعى علماً أو حقاً من حقوق الأملاك، أن يقيم دون الإقرار برهاناً، إمّا شهادة ذوي عدل أو كتاباً غير مموّه، وإلاّفلا سبيل إلى تصديقه.

والكتاب شاهد عند التنازع... إلى آخر ما ذكره.(2)

نرى أنّه سبحانه قد شرح دساتير وحيه وآي قرآنه بالأمر بالقراءة مبيّناً أهمية القلم في التعليم والتعلّم حيث قال عزّمن قائل: (اقرأ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَق* خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق* اقْرَأْ وَرَبّكَ الأَكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم).(3)

بل و عظّم سبحانه القلم والكتابة تعظيماً، حتى جعلها بمرتبة استحقاق القسم بها فهو جلّ وعلا يقول: (ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُون) .(4)

أفهل يعقل معه أن ينهى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عن كتابة ما هو قرين القرآن وتاليه في الحجية، أعني: السنة الشريفة؟! كلاّ.

أُسطورة المنع عن كتابة الحديث

هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ما نسب إليه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من النهي عن كتابة الحديث، يخالف منطق الوحي والحديث والعقل، وما هو إلاّوليد الأوهام والسياسات التي أخذت تمنع نشر حديث الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وتدوينه لغايات سياسية لا تخفى على ذي

____________________________

1 . الأحقاف:4.

2 . تقييد العلم:70_71.

3 . العلق:1_4.

4 . القلم:1.

( 65 )

لب. فمثلاً روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه».(1)

وفي رواية: إنّهم استأذنوا النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم.(2)

وفي مسند أحمد أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ نهى أن نكتب شيئاً من حديثه(3). وأيضاً ورد في مسند أحمد عن أبي هريرة أنّه قال:«كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي، فخرج علينا فقال: «ما هذا تكتبون»؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: «أكتاب مع كتاب اللّه؟» فقلنا: ما نسمع. فقال: «اكتبوا كتاب اللّه، امحضوا كتاب اللّه، أكتاب غير كتاب اللّه، امحضوا أو خلصوه» . قال: فجعلنا ما كتبنا في صعيد واحد ثمّ أحرقناه بالنار».(4)

ثمّ إنّ القوم لم يكتفوا بما نسبوه إلى النبي في مجال كتابة الحديث، بل ذكروا هناك أحاديث موقوفة على الصحابة والتابعين تنتهي إلى الشخصيات البارزة: كأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وعبد اللّه بن مسعود، وأبي هريرة، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعبيدة، وإدريس بن أبي إدريس، ومغيرة بن إبراهيم، إلى غير ذلك.(5)

وروى عروة بن الزبير أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً و قد عزم اللّه له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه، وإنّي واللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء

____________________________

1 . سنن الدارمي:1/119; مسند أحمد:3/12.

2 . سنن الدارمي:1/119.

3 . مسند أحمد:5/182.

4 . مسند أحمد:3/12.

5 . جمع الخطيب في «تقييد العلم»: 29_ 28، الروايات المنسوبة إلى النبي والموقوفة على الصحابة والتابعين.

( 66 )

أبداً.(1)

وروى ابن جرير أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان كلّما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد، يوصيه في جملة ما يوصيه: جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن

محمّد وأنا شريككم.(2)

وكان عمر قد شيع قرظة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى «صرار» على ثلاثة أميال من المدينة، وأظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر، وقال لهم ذلك القول.

قال قرظة بن كعب الأنصاري: أردنا الكوفة، فشيّعنا عمر إلى «صرار» فتوضأ فغسل مرتين، وقال: تدرون لم شيعتكم؟ فقلنا: نعم، نحن أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فقال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول اللّه، وامضوا وأنا شريككم.(3)

وقد حفظ التاريخ أنّ الخليفة قال لأبي ذر، وعبد اللّه بن مسعود، وأبي الدرداء:ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد ؟!.(4)

وذكر الخطيب في «تقييد العلم» عن القاسم بن محمد: أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيّها الناس إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى اللّه، أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي. قال فظنوا أنّه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار ثمّ قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب .(5)

____________________________

1 . تقييد العلم: 49.

2 . تاريخ الطبري:3/273، طبعة الأعلمي بالأُفست.

3 . طبقات ابن سعد:6/7; المستدرك للحاكم:1/102.

4 . كنز العمال:10/293 ح29479.

5 . تقييد العلم: 52.

( 67 )

وقد صار عمل الخليفتين سنّة، فمشى عثمان مشيهما، ولكن بصورة محدودة وقال على المنبر: لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر .(1)

كما أنّ معاوية اتبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب وقال: يا ناس أقلّوا الرواية عن رسول اللّه وإن كنتم تتحدّثون فتحدّثوا

بما كان يتحدّث به في عهد عمر.(2)

حتى أنّ عبيد اللّه بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة، نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدّث بأحاديث رسول اللّه .(3)

وبذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية، وعدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.

هذه هي بعض الأقاويل التي رواها أصحاب الصحاح والسنن، وفي نفس الوقت نقلوا أحاديث تناقضها وتأمر بكتابة الحديث والسنّة كما ستوافيك.

العقل والمنع عن كتابة الحديث

كيف يسمح العقل والمنطق أن يحكم بصحّة الأحاديث الناهية عن الكتابة، مع أنّ الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أمر في أُخريات حياته أن يحضروا له قلماً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً! وما كان المكتوب (على فرض كتابته) إلاّ حديثاً من أحاديثه، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنّه قال:لمّا اشتدّ بالنبي وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، قال عمر: إنّ النبيّ _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط قال: «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول: الرزية كلّ الرزية ماحال بين رسول اللّه وبين كتابه.(4)

____________________________

1 . كنز العمال:10/295، ح 29490.

2 . كنز العمال:10/291، ح 29473.

3 . فرقة السلفية، ص 14، نقلاً عن مسند الإمام أحمد.

4 . صحيح البخاري :1/30 كتاب العلم، باب كتابة العلم.

( 68 )

أفهل يجتمع هذا الأمر مع النهي عن تدوينه؟!

ثمّ إنّنا نرى أنّ الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بعث كتب إلى الملوك والساسة والأُمراء والسلاطين وشيوخ القبائل ورؤسائها ناهز عددها ثلاثمائة كتاب في طريق الدعوة والتبليغ أو حول العهود والمواثيق وقد حفظ التاريخ متون هذه الرسائل التي جمع بعضها نخبة مع المحقّقين

في كتب خاصة.(1)

والتاريخ يصرح بأنّ الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كان يملي والكاتب يكتب، فلما ازدادت الحاجة وكثرت العلاقات الاجتماعية أصبحت الحاجة إلى كتّاب يمارسون عملهم، فأدّى ذلك إلى كثرة الكتّاب فجعل لكلّ عمل كاتباً، ولكلّ كاتب راتباً معيناً. وقد كان أكثرهم كتابة، علي بن أبي طالب صلوات وسلامه عليه، فقد كان يكتب الوحي وغيره من العهود والمصالحات ،وقد أنهى المؤرخون كتّابه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلى سبعة عشر كاتباً.

فهل يجوز أن يكتب الرسول الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ هذه المكاتبات والعهود والمصالحات إلى بطون القبائل ورؤساء العشائر وهو يعلم أنّهم يحتفظون بهذه المكاتبات بحجّة أنّها من أوثق الوثائق السياسية والدينية، ثمّ ينهى عن تسطير كلامه وحديثه؟! فما هذان إلاّنقيضان لا يجتمعان.

الغايات السياسة والأهداف الدينية

ومع ذلك كلّه فقد غلبت الغايات السياسية على الأهداف الدينية وقامت بكلّ قوة أمام حديث النبي ونشره وكتابته، حتّى إنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمسمائة حديث كتبه عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ (2).

و لمّا قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الآفاق: أنّ من كتب حديثاً فليمحه.(3)

ثمّ نهى عن التحدّث، فتركت عدّة من الصحابة الحديث

____________________________

1 . «كالوثائق السياسية» لمحمد حميد اللّه، و «مكاتيب الرسول» للعلاّمة الأحمدي.

2 . كنز العمال:10/237و 239.

3 . مسند أحمد:3/12و 14.

( 69 )

عن رسولاللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ (1) فلم يكتب الحديث ولم يدوّن إلاّ في عهد المنصور عام 143ه_ كما سيوافيك بيانه.

وقد بلغت جسارة قريش على ساحة النبي الأقدس أن منعوا عبد اللّه بن عمرو عن الاهتمام بحديث النبي وكتابته مدّعين بأنّه بشر يغضب(2).

أي واللّه إنّه بشر يرضى ويغضب، ولكن لا يرضى ولا يغضب إلاّ من حقّ ولا يصدر إلاّ عنه.

إنّ الرزية الكبرى هي أن يمنع التحدّث بحديث رسوله وكتابته وتدوينه ويحل محله التحدّث عن العهد القديم والجديد وعن الأحاديث الإسرائيلية والمسيحية والمجوسية(3) فتمتلئ الأذهان والصدور بالقصص الخرافية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا يصدقها العقل والمنطق كما سيمر عليك شرح تلك الفاجعة العظمى التي ألمت بالإسلام والمسلمين.

فلو صحّ ما نقل عن أبي هريرة من جمع ما كتبه الصحابة عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في مكان واحد وحرقه بالنار، لوجب على المسلمين كافة أن يجمعوا كلّ مصادر أحاديث الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم وحرقها في مكان واحد وذلك اقتداء بالسلف الصالح!!، وإذا صحّ فهل يبقى من الإسلام ما يرجع إليه في فهم القرآن الكريم وتمييز الحلال عن الحرام؟!

والذي أظنّه(وظن الألمعي صواب) أنّ الذي منع من تدوين الحديث ونشره ومدارسته وكتابته بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، هو الذي منع كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ،

____________________________

1 . مستدرك الحاكم:1/102و 104.

2 . المصدر نفسه.

3 . وقد أذن عمر بن الخطاب لتميم الداري النصراني الذي استسلم عام 9 من الهجرة أن يقص كما في كنز العمال:1/281، فالتحدّث بحديث رسول اللّه يكون ممنوعاً و «الداري» وأمثاله يكونون أحراراً في بث الأساطير والقصص المحرّفة؟!

( 70 )

فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وبعدها واحدة لم تتغير، وأمّا حقيقة تلك الغاية فتفصيلها موكول إلى آونة أُخرى ونأتي بمجملها:

كان رسول اللّه _

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ منذ أن صدع بالدعوة، وأجهر بها، ينص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتّى، فقد عرّفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم، بقوله: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».

وفي يوم الأحزاب بقوله: «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك، وقد ترك علياً خليفته على المدينة، عرّفه بقوله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

إلى أن عرّفه في حجّة الوداع في غديرخم بقوله:«من كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه».(1)

وغير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة، وقد سمعها كثير من الصحابة فوعوها.

فكتابة حديث رسول اللّه بمعناها الحقيقي، لا تنفك عن ضبط ما أثر عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في حقّ أوّل المؤمنين به، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة، وليس هذا شيئاً يلائم شؤون الخلافة التي تقلّدها المانع عن الكتابة.

وهناك وجه آخر للمنع عنها، هو أنّ عليّاً كان أحد المهتمين بكتابة حديث رسول اللّه وضبطه كما كان مولعاً بضبط الوحي وكتابته. وقد كتب من أحاديث رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ما أملى عليه فصار له أُذناً واعية، وهو _ عليه السَّلام _

____________________________

1 . سيوافيك مصادر هذه الأحاديث عند البحث عن عقيدة الشيعة، و من أراد الوقوف فليرجع إلى كتب المناقب للإمام علي_ عليه السَّلام _ .

( 71 )

بالنسبة إلى رسول اللّه كما قال هو نفسه: «إنّي كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكتُّ ابتدأني»(1) . وهو أوّل من ألّف أحاديث رسول اللّه وكتب، وهذه منقبة عالية لأمير المؤمنين دون غيره، إلاّ أقلّ القليل. فاهتم

مخالفوه بإخفاء هذه الفضيلة، باختلاق حديث منع الكتابة، فروى مسلم وغيره عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «لا تكتبوا عنّي سوى القرآن، ومن كتب فليمحه»(2) وكانت الغاية من تلك المقالة، الطمس على ما كتبه علي _ عليه السَّلام _ من الأحاديث.

على أنّهم لم يكتفوا بذلك، فرووا عن علي أنّه قال: «ليس عندنا كتاب سوى ما في قراب السيف».(3)

وروى البخاري عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاّ كتاب اللّه، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.(4)

مع أنّ الكتاب الذي كتبه علي بإملاء رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، كتاب كبير رآه أئمة الشيعة، وهو من مواريث النبوة وكان مشتملاً على أحاديث فقهية، وغيرها. وقد نقل عنه مشايخنا المحدّثون الأُول في جوامعهم، ولو صحّ وجود كتاب في قراب سيفه، فهو لا يمت إلى هذا الكتاب بصلة.

وقد قام زميلنا العلاّمة الحجّة الشيخ علي الأحمدي، بجمع ما روى الأئمّة عن هذا الكتاب من الأحاديث في موسوعته، وأخرجها من الكتب الأربعة، والجامع الأخير وسائل الشيعة.(5)

إنّ الخسارات التي مني الإسلام والمسلمون بها من جراء مثل هذا المنع،

____________________________

1 . تاريخ الخلفاء: 115.

2 . سنن الدارمي:1/119.

3 . مسند أحمد:1/119.

4 . صحيح البخاري:1/ 29، باب كتابة العلم، الحديث1.

5 . لاحظ مكاتيب الرسول:1/72_ 89.

( 72 )

كائناً ما كان سببه، كانت وما تزال عظيمة ووخيمة، وسنشير إلى بعضها في محلها إن شاء اللّه تعالى.

أعذار مفتعلة

إذا كان المنع من كتابة السنّة أمراً عجيباً، فتبرير هذا المنع بأنّه كان لصيانة اختلاط الحديث بالقرآن الكريم أعجب منه، وذلك لأنّ التبرير

هذا أشبه بالاعتذار الأقبح من الذنب، لأنّ القرآن الكريم في أُسلوبه وبلاغته يغاير أُسلوب الحديث وبلاغته، فلا يخاف عليه من الاختلاط بالقرآن مهما بلغ من الفصاحة، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم وهدم أُصوله من القواعد.

ومثله، الأعذار المنحوتة الأُخرى لتبرير هذا المنع، كخوف الانكباب على دراسة غير القرآن، الذي نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب على ما مرّ، غير أنّ مرور الزمان أثبت خلاف تلك الفكرة، لأنّ كتابة الحديث من عصر المنصور لم تؤثر في دراسة القرآن وحفظه وتعليمه وتعلّمه. وهناك أعذار منحوتة أُخرى لا تقصر في البطلان عن سابقيها ولم تخطر ببال المانع أو المانعين أبداً، وإنّما هي وليدة «حبّ الشيء الذي يعمي ويصم» بعد لأي من الدهر، والهدف منه هو إسدال العذر على العمل السيِّء، أعاذنا اللّه منه.

وقد نحت الخطيب البغدادي مثل هذه الأعذار، وقال: قد ثبت أنّ كراهة من كره الكتابة من الصدر الأوّل، إنّما هي لئلا يضاهى بكتاب اللّه تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه. ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنّه لا يعرف حقّها من باطلها، وصحيحها من فاسدها. مع أنّ القرآن كفى منها، وصار مهيمناً عليها، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته، لقلّة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره، لأنّ أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن. ويعتقدوا أنّ ما اشتملت عليه كلام الرحمن.(1)

____________________________

1 . تقييد العلم: 57.

( 73 )

وقد استمر المنع من تدوين الحديث إلى عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز(99_101ه_) فأحسّ بضرورة تدوين الحديث، فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة: انظر ما كان من

حديث رسول اللّه فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلاّ أحاديث النبي، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإنّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً.(1)

ومع هذا الإصرار المؤكّد من الخليفة، صارت رواسب الحظر السابق المؤكّد من قبل الخلفاء الماضين حائلة دون القيام بما أمر به الخليفة، فلم يكتب شيء من أحاديث النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بعد صدور الأمر منه، إلاّ صحائف غير منظمة ولا مرتبة، إلى أن دالت دولة الأمويّين وقامت دولة العباسيّين، وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم، فقام المحدّثون في سنة مائة وثلاثة وأربعين بتدوين الحديث، وفي ذلك قال الذهبي:

وفي سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنّف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام،وابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة وغيرهما في البصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنّف ابن إسحاق المغازي، وصنّف أبوحنيفة الفقه والرأي _إلى أن قال_: وقبل هذا العصر كان الأئمّة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة.(2)

ومعنى هذا، أنّ العالم الإسلامي اندفع فجأة بعد مضي 143 سنة من هجرة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ نحو هذا الأمر، فاشتغل العلماء بجمع الأحاديث والفقه وتدوينهما، وأُلّفت كتب كثيرة في هذا المجال، واستمرت تلك الحركة إلى حدود سنة 250، فجمعت أحاديث كثيرة، و دُوّنت العقائد على طبق الأحاديث المضبوطة، فإذا كان هذا هو تاريخ الحديث وتدوينه وانتشاره، يتبيّن للقارئ بسهولة أنّ حديثاً لم يكتب طوال قرن ونصفه كيف تكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد، وكانوا يكذبون عليه بما يقدرون، وينشرون

____________________________

1 . صحيح البخاري:1/27.

2 . تاريخ

الخلفاء للسيوطي:261.

( 74 )

كل غث وسمين باسم الدين وباسم الرسول، كما سيوافيك بيانه، وما قيمة العقائد التي دونت على أساس تلك الأحاديث؟!!

نحن لا ننكر أنّ العلماء والمحدّثين قاموا بوظيفتهم وواجبهم الديني تجاه السنّة النبوية، وكابدوا وتحملوا المشاق في استخراج الصحيح من السقيم، لكن العثور على الصحيح بعد هذه الحيلولة الطويلة، من أشقّ المشاكل وأصعب الأُمور.

وبسبب هذه الحيلولة كلّما بعد الناس عن عصر الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ازداد عدد الأحاديث، حتى أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه عن ستمائة ألف (000،600) حديث ولأجل ذلك نرى أنّ هرم الأحاديث يتصل بزمن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وقاعدة ذلك الهرم تنتهي إلى القرون المتأخّرة، فكلّما قربنا من زمن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ نجد الحديث قليلاً، والعكس بالعكس. وهذا يدّل على أنّ الأحاديث عالت حسب وضع الوضّاعين وكذب الكذّابين.

كلمتان قيّمتان

1. هناك كلمة للدكتور محمد حسين هيكل أماط الستر عن وجه الأحاديث المنسوبة إلى النبي الأكرم وقال:

وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف، ونقده نقداً دقيقاً على الطريقة العلمية، أن أقدمها، كتب بعد وفاة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية. كان اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب، فما بالك بالمتأخر ممّا كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب؟ وقد كانت المنازعات السياسية سبباً فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه و دوّنوا ما اعتقدوه صحيحاً منه، من جهد وعنت أدى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصاً لا يتطرق إليه ريب. ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده

البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع

( 75 )

الحديث وتمحيصه، وما رواه بعد ذلك من أنّه ألفى الأحاديث المتداولة تربي على ستمائة ألف حديث لم يصح منها أكثر من أربعة آلاف. وهذا معناه أنّه لم يصح لديه من كلّ مائة وخمسين حديثاً إلاّحديث واحد.

أمّا أبو داود فلم يصحّ لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث. وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء، انتهى بهم إلى نفي كثير منها، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث، وقد جهد فيه جامعوه الأوّلون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه.

والواقع أنّ المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأوّل من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها. فلم يكن الحديث قد دون إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثمّ لم يجمع إلاّ في عهد المأمون، بعد أن أصبح«الحديث الصحيح في الحديث الكذب، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» على قول الدارقطني.(1)

2. وهناك كلمة أُخرى للعلاّمة الأميني قال: «ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تأليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث.(2)

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث.(3)

وفي صحيح مسلم أربعة

____________________________

1 . «حياة محمد» تأليف محمد حسين هيكل :

49_ 50 من الطبعة الثالثة عشر.

2 . طبقات الحفاظ للذهبي:2/154; تاريخ بغداد:2/57; المنتظم لابن الجوزي:5/97.

3 . إرشاد الساري:1/28 و صفة الصفوة:4/143.

( 76 )

آلاف حديث أصول، دون المكررات صنّفها من ثلاثمائة ألف.(1)

وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث.(2) وكتب أحمد بن الفرات (المتوفّى 258ه_) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها.(3)

هذا كلام إجمالي عن الحديث، والتفصيل في تاريخ الحديث وتطوره يترك إلى الكتب المختصة بذلك، غير أنّ الذي نركز القول عليه هو الآثار السلبية التي خلفها هذا المنع في المجتمع الإسلامي يوم ذاك، حتى يقف القارئ على علل تكوّن المذاهب وتشعب الفرق، وإنّ من الآثار المهمة حرمان الأُمّة عن السنّة النبوية الصحيحة قرابة قرن ونصف، وعول الأحاديث حسب جعل الوضّاعين والكذّابين، وبالتالي تكوّن العقائد والمذاهب حسبها.

____________________________

1 . المنتظم :5/32; طبقات الحفّاظ:2/151_ 157.

2 . ترجمة أحمد المنقولة من طبقات ابن السبكي المطبوعة في آخر الجزء الأوّل من مسنده; طبقات الذهبي:2/17.

3 . خلاصة التهذيب:9، ولاحظ الغدير:5/292_ 293.

( 77 )

العامل الرابع فسح المجال للأحبار والرهبان

العامل الرابع فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث عن العهدين

لقد خسر الإسلام والمسلمون من جرّاء حظر تدوين الحديث ونشره، خسارة عظمى لا يمكن تحديدها بالأرقام والأعداد. كيف؟! وقد انتشرت الفوضى في العقائد، والأعمال، والأخلاق، والآداب، وصميم الدين، ولباب الأُصول، كنتيجة لهذا المنع، لأنّ الفراغ الذي خلفه هذا العمل، أوجد أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية، وسخافات مسيحية، وأساطير مجوسية، خاصة من ناحية كهنة اليهود، ورهبان النصارى، الذين افتعلوا أحاديث كثيرة ونسبوها إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما افتعلوا على لسان النبي الأكرم _ صلاى

الله عليه وآله وسلَّم _ َّلأساطير، وقد وقف على ذلك عدة من الأجلّة.

1. يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه، وهي كلّها مستمدة من التوراة.(1)

2. ويظهر من المقدسي وجود تلك العقائد في العرب الجاهليين، يقول في «البدء والتاريخ» عند الكلام عن شرائع أهل الجاهلية: كان فيهم من كلّ ملّة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش والمزدكية والمجوسية في تميم

____________________________

1 . الملل والنحل:1/117.

( 78 )

واليهودية والنصرانية في غسان والشرك وعبادة الأوثان في سائرهم.(1)

3. نعم كان لليهود المتظاهرين بالإسلام دور كبير في بثّ هذه العقائد، يقول الكوثري: إنّ عدّة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثمّ أخذوا بعدهم في بثّ ما عندهم من الأساطير.(2)

4. قال ابن خلدون، عندما تكلّم عن التفسير النقلي وأنّه كان يشتمل على الغث والسمين والمردود: والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، ... مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون.(3)

5. قال الإمام محمد عبده: قد وضع الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين، وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. وقال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديث وهذا بحسب ما وصل إليه

علمه واختباره في كشف كذبها، وإلاّفقد نقل المحدّثون أنّ زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه، قال وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أُحرّم فيها الحلال و أُحلّ الحرام.(4)

وابن أبي العوجاء هو ربيب حماد بن سلمة المحدّث الشهير الذي ينقل الذهبي عن ابن الثلجي قال: سمعت عباد بن صهيب

____________________________

1 . البدء والتاريخ:4/31.

2 . مقدّمة تبيين كذب المفتري:10.

3 . مقدّمة ابن خلدون:439.

4 . تفسير المنار:3/545، ونقله في الأضواء:115 ولعلّ في قوله«هذا المقدار» تصحيفاً.

( 79 )

يقول: إنّ حماداً كان لا يحفظ وكانوا يقولون إنّها دسّت في كتبه. وقد قيل: إنّ ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدسّ في كتبه.(1)

6. قال السيد المرتضى: لما قبض محمد بن سليمان، وهو والي الكوفة من قبل المنصور، عبد الكريم بن أبي العوجاء وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة قال: لئن قتلتموني فقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة.(2)

7. يقول ابن الجوزي: إنّ عبد الكريم كان ربيباً لحماد بن سلمة وقد دسّ في كتب حماد بن سلمة.(3)

نرى أنّ المحدّثين يروون باسنادهم عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، مرفوعاً: رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلّة خضراء.

وفي رواية أُخرى: إنّ محمّداً رأى ربّه في صورة شاب أمرد، دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة.(4)

8. وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري المصري في تقديمه على كتاب «الأسماء والصفات» للحافظ أبي بكر البيهقي: إنّ مرويات حماد بن سلمة في الصفات، تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التافهة تتناقلها الرواة طبقة عن طبقة، مع أنّه قد تزوج نحو مائة امرأة، من غير أن يولد له ولد منهن، وقد فعل هذا الزواج والنكاح فعله، بحيث أصبح في غير حديث

«ثابت البناني» لا يميز بين مروياته الأصليّة وبين ما دسّه في كتبه ربيبه ابن أبي العوجاء، وربيبه الآخر زيد المدعو ب_«ابن حماد»، فضلّ بمروياته الباطلة كثير من البسطاء . ويجد المطالع الكريم نماذج شتّى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة وفي كتب الرجال، وفعلت مرويات نعيم بن

____________________________

1 . ميزان الاعتدال:1/593، ومات حماد عام 167ه_.

2 . أمالي المرتضي:1/127_ 128.

3 . الموضوعات:37 طبع المدينة، ولاحظ تهذيب التهذيب:3/11_16.

4 . ميزان الاعتدال:1/593_ 594،وهذه الأساطير المزخرفة من مفتعلات الزنادقة نظراء: ابن أبي العوجاء دسّوها في كتب المحدّثين الإسلاميين، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون.

( 80 )

حماد مثل ذلك، بل تحمّسه البالغ أدّى به إلى التجسيم، كما وقع ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان، وتجد آثار الضرر الوبيل في مروياتهما في كتب الرواة الذين كانوا يتقلّدونها من غير معرفة منهم لما في هذه الكتب ككتاب «الاستقامة» لخشيش بن أصرم، والكتب التي تسمّى ب_«السنّة» لعبد اللّه (ابن أحمد بن حنبل) وللخلال، و «التوحيد» لابن خزيمة وغيرهم ممّا تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل، ولا سيما كتاب «النقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزيّ المجسّم فإنّه أوّل من اجترأ بالقول «إنّ اللّه لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلّت به بقدرته فكيف على عرش عظيم» هذا بعض ما لعب به أعداء الإسلام في أُصول الدين.(1) ولا يقصر عنها كتاب «العلو» للذهبي.

9. وقال الدكتور أحمد أمين: اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبد اللّه بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج،وهؤلاء كانت لهم معلومات رووا عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعاً من منابع التضخيم.(2)

10. قال أبو رية: لما قويت شوكة

الدعوة المحمدية، واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها، ويصدون عن سبيلها، إلاّ أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوة والنزاع. ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لم يجدوا بدّاً من أن يستعينوا بالمكر، ويتوسّلوا بالدهاء، لكي يصلوا إلى ما يبتغون، فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام، ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفى كيدهم، ويجوز على المسلمين مكرهم.(3)

أو ليس ذلك الاستغلال والسيطرة على عقول المسلمين، هو نتيجة

____________________________

1 . نظرة في كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري:ص 5، وقال بمقالة السجزي ابن تيمية في كتابه «غوث العباد» المطبوع بمصر مطبعة الحلبي عام 1351ه_.

2 . ضحى الإسلام:2/139.

3 . أضواء على السنّة المحمدية:137.

( 81 )

أُمور، منها: المنع من التحدّث عن الرسول، وفسح المجال لأبناء أهل الكتاب، حتى يتمكّنوا من نشر الكلم الباطل، ويمزقوا أُصول الإسلام وفروعه؟ والعجب أنّ التفاسير إلى يومنا هذا مكتظة بأقوالهم و أحاديثهم، ولها من القيمة عند قرّائها مكان.

11. قال العلاّمة الشيخ جواد البلاغي: الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، كما ملئت كتب التفاسير بأقوالهم المرسلة، ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه، لأنّ هؤلاء الرجال غير ثقات في أنفسهم، ومجتمعون على موائد أهل الكتاب من الأحبار والرهبان.

قيل للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو شيء نحوه قال: أخذه من أهل الكتاب ويكفي في ذلك أنّ مجاهداً الآخذ منهم فسر قوله تعالى: (عَسى أَنْ يَبْعَثَك رَبّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال: يجلسه معه على العرش.

وأمّا عطاء، فقد قال أحمد: ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن وعطاء، كانا يأخذان عن كلّ

أحد.

وقال النسائي: وأمّا مقاتل بن سليمان كان يكذب، وعن يحيى قال: حديثه ليس بشيء، وقال ابن حبان: كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.(1)

وأمّا الخرافات والأساطير في تفسير الكون وبدء الخليقة وأحوال الأُمم الماضية فحدث عنها ولا حرج، فقد ملأوا الصدور والطوامير وتأثّرت بهم طبقات من المسلمين، ممن كتبوا حول المواضيع السالفة.

يقول الدكتور علي سامي النشار: إنّ الحديث كان معتركاً متلاحماً وبحراً خضماً لا يعرف السالك فيه موطن الأمان ولذلك قام أهل الحديث بمجهود رائع في محض الأحاديث وتوضيح الصادق والكاذب منها عن طريق الرواية وفيها السند،وعن طريق الدراية وفيها النقد الباطني للنصوص،ولذلك أنشأوا

____________________________

1 . آلاء الرحمن:1/46، نقلاً عن الذهبي.

( 82 )

علم مصطلح الحديث.(1)

يلاحظ عليه: أنّ جهود أهل الحديث غير منكرة، ولكنّها لم تكن على وجه تقلع الموضوعات عن كتب الحديث وموسوعاتهم لأنّ القائمين بهذا الأمر كانوا متأثرين بها، ولأجل ذلك تجد أحاديث التشبيه والتجسيم والجبر والرؤية وعصيان الأنبياء مبثوثة في الصحاح والمسانيد، و سيمرّ عليك بعضها في هذا الجزء.

ولعل القارئ الكريم يحسب أنّ هذه الكلمات الصادرة من أساتذة الفن، ورجال التحقيق في الملل والنحل، صدرت من غير تحقيق وتدقيق، إلاّ أنّ المراجع للكتب الرجالية، يقف على صدق المقال، ويكتشف أنّه كان هناك رجال يتظاهرون بالإسلام _ و في الوقت نفسه _ يبثّون ما لديهم من الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات، تحت غطاء هذا التظاهر، وإليك نزراً من تاريخ بعض هؤلاء الرجال:

1. كعب الأحبار

هو كعب بن ماتع الحميري، قالوا: هو من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب، أسلم في زمن أبي بكر، وقدم من اليمن في خلافة عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، وأخذ هو من الكتاب والسنّة عن الصحابة، وتوفّي في

خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين، وله شيء في صحيح البخاري وغيره.

قال الذهبي: العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ، فجالس أصحاب محمد فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب.

إلى أن قال: حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل

____________________________

1 . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:1/286، الطبعة السابعة.

( 83 )

رواية الصحابي عن التابعي وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب.

وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً.

وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي.(1)

ترى الذهبي أيضاً في كتابه«تذكرة الحفاظ» يعرفه بأنّه من أوعية العلم.(2)

ومعنى ذلك أنّ الصحابة كانوا يعتقدون أنّه من محال العلم والفضل، ولهذا السبب أخذ عنه الصحابة وغيرهم. وعندئذ يسأل: إذا أخذ عنه الصحابة وغيرهم على أنّه من أوعية العلم، فما هو ذاك الذي أخذوه عنه؟ هل أخذوا عنه سوى الإسرائيليات المحرّفة والكاذبة؟ فإنّه لم يكن عنده _ على فرض كونه صادقاً _ سوى تلك الأساطير والقصص الموهومة. فهل تسعد أُمّة أخذت معالم دينها عن المحدّث اليهودي، المعتمد على الكتب المحرفة بنص القرآن الكريم؟! ولكن كما قلنا، هذا الفرض مبني على كونه صادقاً، أمّا إذا كان كاذباً فالخطب أفدح وأجل، ولا يقارن بشيء.

والمطالع الكريم في مروياته يقف على أنّه يركز على القول بأمرين: التجسيم والرؤية، وقد اتخذهما أهل الحديث والحنابلة من الآثار الصحيحة، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية وكفروا المخالف، وإليك كلا الأمرين:

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:3/489 ولاحظ تفسير ابن كثير :3/339 سورة النمل حيث قال: _ بعد ما أورد طائفة من الأخبار

في قصة ملكة سبأ مع سليمان _ : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب، سامحهما اللّه تعالى في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة، من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّاحرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا اللّه سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ.

2 . تذكرة الحفاظ :1/52.

( 84 )

الأوّل: تركيزه على التجسيم

إنّ الأحاديث المنقولة عن ذلك الحبر اليهودي، تعرب بوضوح عن أنّه نشر بين الأُمّة الإسلامية فكرة التجسيم، التي هي من عقائد اليهود. قال: إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه، فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي، وهذه جنتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديان الدين.(1)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر، تصريح بتجسيمه سبحانه أوّلاً: وقد شاعت هذه النظرية بين أبناء الحديث والحشوية منهم; وثانياً: التركيز على الصخرة التي هي مركز بيت المقدس; وثالثاً: أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف.

الثاني: تركيزه على رؤية اللّه

ومن كلامه أيضاً: إنّ اللّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(2)

وقد صار هذا النصّ وأمثاله مصدراً لتجويز فكرة رؤية اللّه سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وبالأخص في الآخرة، وقد صارت هذه العقيدة اليهودية المحضة، إحدى الأُصول التي بني عليها مذهب أهل الحديث والأشاعرة.

ومن أعظم الدواهي، أنّ الرجل خدع عقول المسلمين وخلفائهم، فاتّخذوه واعظاً ومعلماً ومفتياً يفتيهم. وهنالك شواهد على ذلك:

منها: التزلف إلى الخليفة

الثاني

قال ابن كثير: أسلم كعب في الدولة العمرية، وجعل يحدّث عمر عن

____________________________

1 . حلية الأولياء:6/20.

2 . الشرح الحديدي:3/237.

( 85 )

كتبه قديماً، فربما استمع له عمر، فترخّص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه غثّها وسمينها. وليس لهذه الأُمّة _ و اللّه أعلم _ حاجة إلى حرف و احد ممّا عنده.(1)

إنّ لهذا الرجل أساليب عجيبة في اللعب بعقول المسلمين وخلفائهم، وإليك نماذج منها:

أ. قال كعب، لعمر بن الخطاب: إنّا نجدك شهيداً وإنّا نجدك إماماً عادلاً، ونجدك لا تخاف في اللّه لومة لائم. قال:هذا لا أخاف في اللّه لومة لائم فأنى لي بالشهادة.(2)

ترى أنّه كيف يتزلّف إلى الخليفة، ويتنبّأ بشهادته وقتله في سبيل اللّه.

ب. نقل أبو نعيم أيضاً: أنّ كعباً مر بعمر، وهو يضرب رجلاً بالدرة. فقال كعب: على رسلك يا عمر، فوالذي نفسي بيده إنّه لمكتوب في التوراة، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء; فقال عمر: إلاّ من حاسب نفسه، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنّها لفي كتاب اللّه المنزل، ما بينهما حرف: إلاّ من حاسب نفسه.(3)

وهذه الجملة تعرب عن أنّ كعباً كان يتزلّف إلى عمر، حتى إنّه يقرأ عليه نصّ التوراة المحرف لتصديق كلامه.

ج. وروي أيضاً: أنّ عمر جلد رجلاً يوماً وعنده كعب، فقال الرجل حين وقع به السوط: سبحان اللّه، فقال عمر للجلاد: دعه فضحك كعب، فقال له: وما يضحكك، فقال: والذي نفسي بيده إنّ «سبحان اللّه» تخفيف من العذاب.(4)

____________________________

1 . تفسير ابن كثير:4/17 .

2 . حلية الأولياء:5/388_ 389.

3 . المصدر السابق.

4 . حلية الأولياء:5/389_ 390.

( 86 )

والكلمة هذه محاولة من الحبر اليهودي، لتوجيه عمل عمر، عندما أمر الجلاّد بترك المجلود.

وهذه الأُمور صارت سبباً لجلب عطف

الخليفة، ففسح له التحدّث في عاصمة الوحي، وأوساط المسلمين.

ومنها: تزلّفه إلى عثمان

ومن الخطب الفادح، أنّه صار بأفانين مكره، موضع ثقة لعثمان ومفتياً له في الأحكام، يصدر الخليفة عن فتياه، ويعمل بقوله، وإليك ما يلي:

أ. ذكر المسعودي أنّه حضر أبو ذر، مجلس عثمان ذات يوم، فقال عثمان: أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين، فدفع أبو ذر في صدر كعب، وقال له: كذبت يا ابن اليهودي، ثمّ تلا:(ليسَ البرَّ أَنْ تُولّوا وُجُوهكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِوالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ البِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخرِ وَالمَلائِكةِ وَالكِتابِ والنَّبِيّينَ وَآتى المالَ عَلى حُبّهِ ذَوي القُربى وَاليَتامى وَالمساكِينَ وَابنَ السَّبيلِ والسائلينَ وَفِي الرِقابِ وَأقامَ الصَّلاةَ وَآتىَ الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) .(1)

فقال عثمان: أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه في ما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك، فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا، فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي، غيّب وجهك عنّي فقد آذيتنا.(2)

ب. ونقل أيضاً: أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال، فَنُضِدَ البدر، حتى حالت بين عثمان و بين الرجل القائل، فقال عثمان: إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً، لأنّه كان يتصدّق، ويقري الضيف، وترك ما ترون; فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين، فشال أبوذر العصا فضرب بها رأس كعب، ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يابن اليهودي

____________________________

1 . البقرة:177.

2 . مروج الذهب:2/339 _ 340.

( 87 )

تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ اللّه أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة، وتقطع على اللّه بذلك، وأنا سمعت رسول اللّه _

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يقول: «ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً» فقال له عثمان: وار عنّي وجهك.(1)

ومنها: تزلّفه إلى معاوية

نرى أنّ كعباً يتنبّأ بمولد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وهجرته وملكه، فيقول: مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام.(2)

فماذا يريد كعب بقوله: وملكه بالشام؟ هل هو إلاّ تزلف إلى معاوية، وأنّه يريد أن يقول: إن ملك النبي لن يستقر إلاّ فيها؟ وقد كان معاوية يمهد وسائل الملك لنفسه بالشام.

وقال أيضاً: إنّ أوّل هذه الأُمّة نبوة ورحمة، ثمّ خلافة ورحمة، ثمّ سلطان ورحمة، ثمّ ملك وجبرية، فإذاكان ذلك، فإنّ بطن الأرض يومئذ خير من ظهرها.(3)

فترى أنّه يتنبّأ بالسلطنة ويعدّها رحمة، وهذا المضمون انتشر في الصحاح والمسانيد بكثرة، وقد روى الترمذي، قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ثمّ ملك بعد ذلك».(4)

و روى أبو داود قال: قال رسولاللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «خلافة النبوّة ثلاثون سنة ثم يؤتي اللّه الملك من يشاء».(5)

وسيوافيك أنّه أخذ منه أبو هريرة، ولأجل ذلك نرى تلك الفكرة _ فكرة الملك _ جاءت في روايات أبي هريرة، قال: الخلافة بالمدينة والملك بالشام.(6)

____________________________

1 . مروج الذهب:2/340.

2 . سنن الدارمي:1/5.

3 . حلية الأولياء:6/25.

4 . سنن الترمذي:4/503، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة، رقم 2226.

5 . سنن أبي داود: 4/211.

6 . كنز العمال:6/88.

( 88 )

وقد أخذ عن ذلك الحبر الماكر عدة من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة، ومعاوية وغيرهم.(1)

قال الذهبي: توفي في خلافة عثمان(2). وقال أبو نعيم في حلية الأولياء إنّه توفّي كعب قبل مقتل عثمان بسنة(3). وعلى ذلك توفّي عام 34.

وقال ابن الأثير

في حوادث سنة 34: ففي هذه السنة توفّي كعب الأحبار.(4)

نعم توفّي في ذاك العام، لكن بعد ما ملأ المجتمع الإسلامي بأساطير، وقصص، وعقائد إسرائيلية، حسبها السذّج من المحدّثين أنّها حقائق راهنة، فنقلوها ناسبين لها إلى كعب تارة، وإلى النبي الأعظم أُخرى، وعليها بنيت العقائد وانتظمت الأُصول، ومن تفحّص في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، يقف بوضوح على أنّ كثيراً من المحدّثين والمفسرين والمؤرّخين، اعتمدوا على أقواله ومروياته من دون أي غمز وطعن أو تردد وشك، وهذا من عجائب الأُمور وغرائبها.

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير من روايات ذلك الرجل وتسويلاته. فمن أراد الوقوف على أحواله وأقواله وما بثّ بين المسلمين من أساطير وقصص إسرائيلية، فليرجع إلى المصادر التالية.(5)

هذا وإنّ صاحب الثقافة المنحرفة يبثّ فكرته بين المجتمع في ظل دعامتين مؤثرتين:

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:3/490.

2 . تذكرة الحفاظ :1/52.

3 . حلية الأولياء:6/45.

4 . الكامل في التاريخ:3/77.

5 . الأعلام للزركلي:5/228; تذكرة الحفاظ:1/52; سير أعلام النبلاء:3/489_ 494; حلية الأولياء:5/364و 6/1_48; الإصابة:1/186; النجوم الزاهرة:1/9; الكامل:3/177; شرح ابن أبي الحديد في أجزائه المختلفة:3/54و4/77_ 147و 8/265و 10/22و 12/81و 191و 18/36.

( 89 )

الأُولى: يحاول الاتسام بالعلم، ويعرّف نفسه للمجتمع بأنّه عالم كبير، ومفكّر اجتماعي بلا منازع، حتى يتّخذ لنفسه من هذا الطريق مكاناً في القلوب تنعطف إليه النفوس وترتاح به.

الثانية: يحاول الاتّصال بأصحاب السلطة، حتى يتخذهم سناداً وعماداً في مقابل العواصف القارعة التي يثيرها صلحاء الأُمّة ومفكّروها الواقعيون.

فإذا تهيّأت لأصحاب الفكرة المنحرفة هاتان الدعامتان، سهل لهم النفوذ في عقول بسطاء الأُمّة، وتمكّنوا من نفث أفكارهم المسمومة في نفوسها، ولا تمر الأيام حتى تصبح أفكارهم حقيقة راهنة لا يمكن تجاوزها، ولا الدعوة على خلافها، بل تصير المخالفة لها ارتداداً عن الدين، وتشبّثاً بالباطل.

ومن

عجائب الأُمور أنّ الأحبار والرهبان عندما تظاهروا بالإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، هيمنوا على عقول المسلمين من خلال الأمرين المذكورين.

فمن جانب عرفوا بأنّهم من أوعية العلم، وأنّ عندهم علوم الأوّلين والآخرين بتفصيلاتها، وأنّهم حفظة التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية.

ومن جانب آخر استعانوا بالحكم السائد، بحيث صاروا موضع ثقة عنده، يسمع لكلامهم ويصدر عن رأيهم.

عند ذلك أخذت الإسرائيليات والمسيحيات، مكان السنّة النبوية وصار نقلتها مصادر الحكم والفتيا، فأصبحت آراؤهم وأقوالهم مدارك الفقه وسناد التاريخ، ومعياراً للحقّ والباطل في العقائد، فيا لها من رزية عظمت، ويا لها من مصيبة كبرت.

هذا هو كعب الأحبار فقد استعان في بث ثقافته (الثقافة اليهودية) بهاتين الدعامتين، فهلم معي ندرس حياة بعض زملائه، وسوف تقف على أنّ الخط الذي مشى عليه كعب، قد مشى عليه زملاؤه، وإليك البيان:

( 90 )

2.وهب بن منبه اليماني

وقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابي آخر قد بلغ الغاية في بثّ الإسرائيليات بين المسلمين حول تاريخ الأنبياء والأُمم السالفة، وهو وهب بن منبه. قال الذهبي: ولد في آخر خلافة عثمان، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات، توفّي سنة 114ه_ وقد ضعّفه الفلاس.(1)

وقال في تذكرة الحفاظ: عالم أهل اليمن، ولد سنة أربع وثلاثين وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، فإنّه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام.(2)

وترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ترجمة مفصلة استغرقت قرابة ستين صفحة، وبسط الكلام في نقل أقواله وكلماته القصار.(3)

وقد خدع عقول الصحابة بأفانين المكر، حيث صار يعرّف نفسه بأنّه أعلم ممّن قبله ومن عاصره بقوله لبعض حضّار مجلسه: يقولون عبد اللّه بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيت من جمع علمهما؟ يعني نفسه.(4)

وقد

تسنّم الرجل، منبر التحدّث عن الأنبياء والأُمم السالفة يوم كان نقل الحديث عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ممنوعاً وأخذ بمجامع القلوب فأخذ عنه من أخذ، وكانت نتيجة ذلك التحدّث، انتشار الإسرائيليات حول حياة الأنبياء في العواصم الإسلامية، وقد دوّن ما ألقاه في مجلد واحد، أسماه في كشف الظنون«قصص الأبرار وقصص الأخيار».(5)

____________________________

1 . ميزان الاعتدال:4/352 _ 353.

2 . تذكرة الحفاظ:1/100_ 101.

3 . حلية الأولياء:1/23_ 81.

4 . تذكرة الحفاظ:1/101.

5 . كشف الظنون:2/223، مادة قصص.

( 91 )

وهب بن منبه والتركيز على القدر

وليته اكتفى بهذا المقدار ولم يلعب بعقيدة المسلمين ولم ينشر نظرية الجبر التي لو ثبتت لما بقيت للشرائع دعامة، ويظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان، حتّى المشيئة الظلية التي لولاها لبطل التكليف ولغت الشريعة.

روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: سمعنا وهب بن منبه قال: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلّها: من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر، فتركت قولي.(1)

والمراد من القدر في قوله: «كنت أقول بالقدر» ليس القول بتقدير اللّه سبحانه وقضائه، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه، وهذا النقل يعطي أنّ القول بنفي القدر والمشيئة للإنسان، قد تسرب إلى الأوساط الإسلامية، عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية. أفيصح بعد هذا أن نعدّ القول بنفي المشيئة عقيدة جاء بها القرآن والسنة النبوية، ونكفّر من قال بالمشيئة للإنسان ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

3. تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير

الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ ترجع أُصولها إلى رجال الكنائس والبيع، وقد

تعرّفت على اثنين منهم وهما كعب الأحبار ووهب بن منبه، وثالثهم هو تميم الداري وله دور كبير في بثّها حيث إنّه أوّل من تولى نشر هذه الأساطير، وقد حدّث عنه علماء الرجال والتراجم وأطبقوا على أنّه كان نصرانياً قدم المدينة فأسلم في سنة 9 هجرية، وله من الأوّليات أمران:

____________________________

1 . ميزان الاعتدال:4/353.

( 92 )

1.كان أوّل من أسرج في المسجد.

2. أوّل من قصّ بين المسلمين، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له.(1) وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان.(2)

هذا ما اتّفقت عليه الكتب الرجالية، ويستنتج منها ما يلي:

إنّ الرجل كان قصّاصاً في المدينة يوم لم يكن هناك من يعارضه ويكافئه، وبما أنّ الرجل كان قد قضى شطراً من عمره بين الأحبار والرهبان، فمن الطبيعي أن يقوم بقص كلّ ما تعلّمه من أساتذته من الإسرائيليات والأساطير المسيحية وبثّها بين المسلمين وهم يأخذونها منه زاعماً أنّها حقائق راهنة.

ومن المؤسف أنّ السياسة الحاكمة سمحت لهذا الكتابي الذي أسلم في أُخريات حياة الرسول بأن يتحدّث عن الأُمم السالفة والأنبياء السابقين. وفي الوقت نفسه منعت عن التحدّث عن رسول اللّه ونشر كلامه وتدوينه، بحجة واهية قد تعرّفت عليها.

أو ليس النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» على ما رواه أبو هريرة حيث إنّه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا باللّه وما أُنزل إليكم».(3)

وإذا كان النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أمرنا بعدم تصديق هؤلاء القصّاصين من أهل الكتاب، فما فائدة نقل هذه

القصص وبثها بين المسلمين وإتلاف عمر الشباب والكهول بالاستماع إليها؟!

____________________________

1 . كنز العمال:1/281 الرقم 29448.

2 . الإصابة:1/189; الاستيعاب في هامش الإصابة; أُسد الغابة:1/215 وغيرها من المصادر.

3 . صحيح البخاري:9/ 111، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

( 93 )

ولكن ابن عباس يقول أشد مما نقله أبو هريرة: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؟ وكتابكم الذي أُنزل على رسول اللّه أحدث الكتب تقرأونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً؟!

ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! لا واللّه ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل إليكم.(1)

إنّ ابن عباس الذي هو وليد البيت النبوي أعرف بسنّة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من أبي هريرة، فهو ينهى عن السؤال والاستماع إلى كلماتهم بالمرة.

وبذلك يعلم أنّ ما أسند إلى النبي في المسانيد من القول : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».(2) إمّا موضوع، أو مؤوّل محمول على ما علم من صدق الكلام.

طعن الشيطان لكلّ بني آدم إلاّ عيسى

إذا كان كعب الأحبار و زميله وهب بن منبه والمتقدّم عليهما تميم الداري، هم القصّاصون في المجتمع الإسلامي والمتحدّثون عن التوراة والإنجيل، وكانت الصحابة ممنوعة عن التحدث عن النبي فمن الطبيعي أن ينتشر في العواصم الإسلامية الأساطير الخرافية حتى ما يمس بكرامة الأنبياء وكرامة النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ . وهذا البخاري ينقل في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال النبي : كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه باصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب.(3)

____________________________

1 . أضواء على السنّة المحمدية: 154_ 155، نقلاً

عن البخاري من حديث الزهري.

2 . مسند أحمد:3/46.

3 . صحيح البخاري:4/125، باب صفة إبليس وجنوده; و 4/164، كتاب بدء الخلق.

( 94 )

وقد نقله أحمد في مسنده باختلاف يسير. ومعنى هذا الحديث الذي ينقله عن ذلك الصحابي عن الرسول: أنّ الشيطان يطعن كلّ ابن آدم إلاّ واحداً منه وهو عيسى بن مريم، وأمّا الأنبياء كموسى ونوح وإبراهيم وحتى خاتمهم، لم يسلموا من طعن الشيطان. أو ليس ذلك الحديث يخالف كتاباللّه حيث يقول:(إِنّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِين) (1)؟!

فإذن، كيف يمكن أن يقول النبي ذلك و قدأُوحي إليه أنّه ليس للشيطان سلطان على عباد اللّه المخلصين(2) وخيرهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدّمهم نبي العظمة؟! ومن المحتمل جداً أنّ هذا الخبر وصل إلى أبي هريرة من رواة عصره، نظراء كعب الأحبار أو زميله تميم الداري وأضرابهما وقد نسبوه إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ . إنّ هذا الحديث ونظائره أوجد مشاكل في الدين وأعطى حججاً بأيدي المخالفين حتى يهاجموا الرسول الأكرم والأنبياء، ويزعموا بأنّهم سقطوا في الخطيئة واقترفوا الآثام، إلاّعيسى بن مريم فإنّه أرفع من طبقة البشر وإنّه وحده قد استحقّ العصمة والصون من الآثام.

فهؤلاء المحدّثون لو فرض أنّهم صادقون في نيّاتهم، لكنّهم كالصديق الجاهل أضروا بالإسلام بنقل هذه القصص والأساطير وأيّدوا العدو بها وأتعبوا المسلمين من بعدهم.

تميم الداري وقصة الجساسة

إنّ لتميم الداري حديثاً معروفاً باسم حديث الجساسة، نقله مسلم في الجزء الثامن من صحيحه تجد فيه من الغرائب ما تندهش منها العقول.

روي عن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس _وكانت من المهاجرات الأُول _ : سمعت نداء المنادي (منادي رسول اللّه) ينادي:

____________________________

1 . الحجر:42.

2 . النحل:99; والحجر:42.

( 95 )

الصلاة

جامعة، فخرجت إلى المسجد فصلّيت مع رسول اللّه، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول اللّه صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ليلزم كلّ إنسان مصلاّه.

ثمّ قال: أتدرون لم جمعتكم؟

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: إنّي واللّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأنّ تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدّثني حديثاً وافق الذي كنت أُحدثكم عن مسيح الدجال، حدّثني أنّه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثمّ أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟

فقالت: أنا الجسّاسة.

قالوا: وما الجسّاسة؟ قالت: أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق.

قال: لما سمّت لنا رجلاً فزعنا منها أن تكون شيطانة. قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟

قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟

قالوا: نحن أُناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً ثمّ أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجسّاسة. قلنا:وما الجسّاسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة.

فقال: أخبروني عن نخل بيسان. قلنا:عن أي شأنها

تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟

قلنا له: نعم. قال: أمّا إنّه يوشك أن لا يثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية.

قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟

قالوا:هي كثيرة الماء. قال: أما إنّ ماءها يوشك أن يذهب.

قال: أخبروني عن عين زغر. قالوا: عن أي شأنهاتستخبر؟

قال: هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين؟

قلنا له: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها.

قال: أخبروني عن نبي الأُميّين ما فعل؟

قالوا: قد

( 96 )

خرج من مكة ونزل يثرب.

قال: أقاتله العرب؟

قلنا: نعم.

قال: كيف صنع بهم؟فأخبرناه أنّه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه.

قال لهم: قد كان ذلك؟

قلنا: نعم. أما إنّ ذاك خير لهم أن يطيعوه وإنّي مخبركم عنّي إنّي أنا المسيح وإنّي أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلاّ هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها وإنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.

قالت: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعني: المدينة، ألا هل كنت حدّثتكم ذلك؟

فقال الناس: نعم، فإنّه أعجبني حديث تميم إنّه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنّه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظت هذا من رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(1)

وقد علّق المحقّق المصري أبو رية على هذا الحديث وقال: لعل علماء

الجغرافية يبحثون عن هذه الجزيرة ويعرفون أين مكانها من الأرض، ثمّ يخبروننا حتى نرى ما فيها من الغرائب التي حدثنا بها سيدنا تميم الداري ؟!!(2)

وأعجب منه أن يحدث نبي العظمة الذي يقول سبحانه في حقّه :(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظيماً).(3) عن تميمم الداري ويستشهد بكلام نصراني دخل في الإسلام حديثاً، ونعم ما قال شاعر المعرة:

فيا موت زر إنّ الحياة ذميمة.

____________________________

1 . صحيح مسلم:8/203_205، باب في الدجّال.

2 . أضواء على السنة النبويّة:171.

3 . النساء:113.

( 97 )

4. ابن جريج الرومي ورواية الموضوعات

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي، ولاؤه لآل خالد بن أسيد الأموي، ولد سنة 80 وتوفّي عام 150، قال أحمد بن حنبل: كان من أوعية العلم وهو وابن أبي عروبة أوّل من صنف الكتب، وقال عبد الرزاق: كان ابن جريج ثبتاً لكنّه يدس.(1)

ونقل الذهبي أيضاً عن عبد اللّه بن حنبل قال: «إنّ بعض هذه الأحاديث الذي يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها».(2)

نعم، روى الكليني بسنده عن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبد اللّه_ عليه السَّلام _ عن المتعة فقال: «الق عبد الملك ابن جريج، فسله عنها، فإنّ عنده منها علماً، فلقيته، فأملى علي شيئاً كثيراً في استحلالها، وكان فيما روى لي فيها ابن جريج أنّه ليس فيها وقت ولا عدد، وإنّما هي بمنزلة الإماء، يتزوج منهن كم شاء، وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء، بغير ولي ولا شهود، فإذا انقضى الأجل، بانت منه بغير طلاق، ويعطيها الشيء اليسير، وعدتها حيضتان، وإن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون يوماً. قال: فأتيت بالكتاب أبا عبد اللّه _ عليه السَّلام _ ، فقال: «صدق». وأقر

به.(3)

ولعلّ إرجاع الإمام _ عليه السَّلام _ سائله إليه، لأجل اعترافه بالحق في تلك المسألة، وليس هذا دليلاً على وثاقته مطلقاً.

حصيلة البحث

إنّ هذه العصابة التي أتينا بأسمائهم وذكرنا عنهم شيئاً، كانوا هم الأُسس في تسرب القصص الخرافية لليهود و المسيحيين إلى متون كتب المسلمين وصارت

____________________________

1 . تذكرة الحفاظ:1/169_ 171.

2 . ميزان الاعتدال:2/659.

3 . الوسائل:14، كتاب النكاح، الباب 4 من أبواب المتعة، الحديث8.

( 98 )

نواة لكثير من القصّاصين والوضّاعين الذين نسجوا على منوالهم ونقلوا كلّ ما سمعوه من غث وسمين باسم الدين، ولأجل ذلك نجد كثيراً من كتب التفسير والتاريخ والحديث حتى ما يسمّى بالصحاح والمسانيد، مملوءة بالإسرائيليات والمسيحيات بل والمجوسيات.

يقول «جولد تسيهر» في هذا المضمار في كتابه «العقيدة والشريعة»: هناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد وأقوال للربانيّين، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية، وأقوال من حكم الفرس والهنود، كلّ ذلك أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث _ إلى أن قال _ : ومن هذا الطريق تسرب كنز كبير من القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى الرواة المعدودة من الحديث ونظرنا إلى الأدب الديني اليهودي، فإنّنا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي من هذه المصادر اليهودية.(1)

نحن لا نصدق هذا المستشرق الحاقد على الإسلام في كلّ ما يقول ويقضي، إلاّ أنّنا نوافقه في أنّ ما يؤثر عن أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتميم الداري، وعبد الملك بن جريج وغيرهم، من الإسرائيليات، ليس من صلب الإسلام وحديثه. والعجب أنّ هذه الجماعة لم تتمكن من إخفاء نواياها السيئة، فترى أنّ اليهودي منهم ينقل فضائل موسى ويرفعه فوق جميع الأنبياء، كما أنّ النصراني منهم أخذ يرفع مقام المسيح

_ عليه السَّلام _ على جميعهم ويصفه بالعصمة وحده دون غيرهم.

نعم ليس كلّ ما ورد في الشريعة الإسلامية ووافق التعاليم اليهودية والنصرانية، مأخوذاً من كتبهم لأنّ الشرائع السماوية واحدة في جوهرها متحدة في أُصولها، وبينها مشتركات كثيرة والاختلاف إنّما هو في الشرعة والمنهاج لا في الجوهر واللباب، قال سبحانه: (لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرعَةً وَمِنْهاجاً) .(2)

____________________________

1 . العقيدة والشريعة في الإسلام تأليف المستشرق «جولد تسيهر» ترجمة الأساتذة الثلاثة.

2 . المائدة:48.

( 99 )

فالاختلاف إنّما هو في الطرق الموصلة إلى ماء الحياة، أعني: الأُصول والتعاليم السماوية النازلة من مصدر الوحي. فلو كان هناك اختلاف فإنّما هو في القشور والأثواب، لا في الجوهر واللباب. وقد فصلنا الكلام في ذلك في «مفاهيم القرآن».(1)

خاتمة المطاف

وأخيراً نقول: إنّ المتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان الذين كان لهم دور كبير في بثّ الإسرائيليات وتكوين المذاهب، ليسوا منحصرين في من ذكرناهم، بل هناك جماعة منهم لعبوا دوراً في هذا المضمار يجد المتتبع أسماءهم ويقف على أقوالهم في كتب الرجال والتراجم والروايات والأحاديث، كعبد اللّه بن سلام الذي أسلم في حياة النبي، وطاووس بن كيسان الخولاني، الحمداني بالولاء من التابعين، ولد عام 33 وتوفّي عام 106، وغيرهم ممّن تركنا البحث عنهم اختصاراً.

ولإتمام البحث نأتي بنص بعض المحقّقين في ذاك المجال وهي كلمة للدكتور «رمزي نعناعة» حول الإسرائيليات، قال: تسرب كثير من الإسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين أنفسهم أمثال: عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقد روي أنّه أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك، فكان يحدّث الناس ببعض ما فيها اعتماداً على حديث مروي.(2)

وعن هؤلاء المفسرين الذين لا يتورّعون عن تفسير القرآن بمثل هذه الخيالات والأوهام يقول النظام: لا تسترسلوا إلى كثير من

المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كلّ مسألة، فإنّ كثيراً منهم يقول بغير رواية من أساس، وليكن عندكم عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر

____________________________

1 . مفاهيم القرآن:3/119_ 124.

2 . وهو قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : حدّثوا عني...،وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج . مسند أحمد:3/46.

( 100 )

الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم.(1)

وقال أيضاً حول قصة آدم وحواء: ونقرأ تفسير الطبري وتفسير مقاتل بن سليمان في هذه القصة فيتجلّى لنا بوضوح انّهما أخذا ما جاء في التوراة وشروحها من تفصيل لهذه القصة، ووضعوه تفسيراً لآيات القرآن الكريم وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي تارة أُخرى.(2) ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل كقصة ولادة عيسى بن مريم ومعجزاته، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحاً لهذه الآيات.(3)

وقال أيضاً: ولم يقتصر تأثير الإسرائيليات على كتب التفسير، بل تعدّاها إلى العلوم الإسلامية الأُخرى، فقد عني بعض المسلمين بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل أبو إسحاق والطبري في تاريخيهما وكما فعل ابن قتيبة في كتاب المعارف... كذلك كان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الكلامية، فابن الأثير يروي عند الكلام على «أحمد بن أبي دؤاد» أنّه كان داعية إلى القول بخلق القرآن، وأخذ ذلك عن بشر المريسي وأخذ بشر من الجهم بن صفوان، وأخذ الجهم من الجعد بن أدهم، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت ابن أُخت لبيد الأعصم وختنه، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي وكان لبيد يقول:خلق التوراة، وأوّل من صنف في ذلك طالوت وكان

زنديقاً فأفشى الزندقة.(4)

وسيوافيك أنّ القول بقدم القرآن وكونه غير مخلوق، أيضاً تسرّبت من اليهود حينما قالوا بقدم التوراة، أو من النصرانية حينما قالوا بقدم «الكلمة» التي هي المسيح. فللأحبار والرهبان دور راسخ في خلق هذه

____________________________

1 . الحيوان للجاحظ:1/343_ 346.

2 . تفسير مقاتل:1/18; وتفسير الطبري:1/186 ومابعده.

3 . تفسير الطبري:3/190 و ص 112.

4 . الكامل لابن الأثير:5/294 حوادث سنة 240; ولاحظ الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة: 110_111.

( 101 )

العقائد وطرح قدم القرآن خاصة على بساط البحث مع أنّه لم يرد في ذلك نصّ عن النبي والصحابة.

قال«زهدي حسن» _ عند البحث عن تأثير الديانات _ في تكون العقائد: فمن أهل تلك الأديان من تركوا أديانهم ودخلوا في الإسلام. لكنّهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عقائدهم القديمة ولم يتسن لهم أن يتجرّدوا من سلطانها، لأنّ للمعتقدات الدينية على نفوس الناس قوة نافذة وهيمنة عظيمة فلا تزول بسهولة ولا تنسى بسرعة، ولهذا فإنّهم نقلوا إلى الإسلام _ عن غير تعمد أو سوء قصد _ بعض تلك المعتقدات ونشروها بين أهله.

ومنهم _ و هذا يصحّ عن الفرس كما سنرى _ من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به أو تحمس له وإنّما لغايات في نفوسهم فعل بعضهم ذلك طمعاً في مال يجنيه أو جاه يناله، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته ودأبوا على محاربته والكيد له، فكانوا خطراً عليه كبيراً، وشراً مستطيراً، لأنّهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار والآراء ما لا تقره العقيدة الإسلامية حباً في تشويه تلك العقيدة ورغبة في إفسادها.

وكثيرون من غير المسلمين تمسكوا بأديانهم الأصلية،

لأنّ الإسلام منحهم حرية العبادة، ولم يتدخل في شؤونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية، ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أُمية، ولما لم تكن للعرب الخبرة الكافية في أُمور الإدارة، فإنّهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شؤون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين. وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين، ويحتكون دوماً بهم...والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي،والآراء سريعة الانتقال شديدة العدوى.

وقال أيضاً: إنّ الأمويين قربوهم (المسيحيين) إليهم، واستعانوا بهم، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان

( 102 )

«سرجون بن منصور» الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره(1) وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته فكان يزيد يستشيره في الملمّات ويسأله الرأي.(2) ثمّ ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي(3) الذي خدم الأمويين زمناً ثمّ اعتزل العمل سنة (112ه_/ 730م) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف الكتب اللاهوتية، وليس من يجهل الأخطل الشاعر المسيحي الذي قدمه الأمويون وأغدقوا عليه العطايا وجعلوه شاعر بلاطهم. وكيف كان يزيد بن معاوية يعتمد عليه في الرد على أعداء بني أُمية وهجوهم.(4)

إنّ احتكاك المسلمين بأُولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثراً، ولا سيما برجل ممتاز كيحيى الدمشقي الذي كان آخر علماء اللاهوت الكبار في الكنيسة الشرقية وأعظم علماء الكلام في الشرق المسيحي.(5)

***

وقال أحمد أمين عندالبحث عن مصادر القصص في العصر الأوّل: ولا بدّ أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم(6)، تجد ذكرهما كثيراً في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير، هما: وهب بن منبه، وكعب الأحبار.

فأمّا وهب

بن منبه فيمني من أصل فارسي، وكان من أهل الكتاب الذين

____________________________

1 . تاريخ الطبري:6/183; وابن الأثير:4/7.

2 . الطبري:6/194_ 199 وابن الأثير:4/17.

3 . هو القديس يحيى الدمشقي (81_ 137ه_=700 _ 754م) واسمه العربي منصور. كان يحيى الدمشقي عالماً كبير القدر من علماء الدين وقديساً محترماً في الكنيستين: الشرقية والغربية .

4 . الأغاني:14/117.

5 . لاحظ كتاب «المعتزلة» : 23_ 24تأليف زهدي حسن جار اللّه.

6 . كذا في المصدر.

( 103 )

أسلموا، وله أخبار كثيرة وقصص تتعلّق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء، وكان يقول: قرأت من كتب اللّه اثنين وسبعين كتاباً وقد توفي حوالي سنة (110ه_) بصنعاء.

وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن كذلك، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، أسلم في خلافة أبي بكر وعمر _ على خلاف في ذلك _ و انتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثمّ إلى الشام، وقد أخذ عنه اثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس _ و هذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات _ وأبو هريرة ولم يؤثر عنه أنّه ألّف كما أثر عن وهب بن منبه، ولكن كلّ تعاليمه _ على ما وصل إلينا _ كانت شفوية، وما نقل عنه يدلّ على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها.

جاء في «الطبقات الكبرى» حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد اللّه بن القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ.(1)

وقد لاحظ بعض الباحثين أنّ بعض الثقات كابن قتيبة والنووي ما رويا عنه أبداً. وابن جرير الطبري يروي عنه قليلاً، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيراً من قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الريان وأشباه ذلك. ويروي «ابن جرير» أنّه جاء

إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له:اعهد، فإنّك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب اللّه عزّوجلّ في التوراة. قال عمر:إنّك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللّهمّ لا، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنّه قد فني أجلك.

وهذه القصة إن صحت، دلّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثمّ وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.

وعلى الجملة: فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح.(2)

***

____________________________

1 . طبقات ابن سعد:7/79.

2 . فجر الإسلام: طبع دار الكتاب العربي:160_ 161.

( 104 )

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) .(1)

____________________________

1 . آل عمران:69.

( 105 )

العامل الخامس الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري

العامل الخامس الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري

مضى النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلى جوار ربّه وقام المسلمون بعده بفتح البلاد ومكافحة الأُمم المخالفة للإسلام والسيطرة على أقطارها، وكانت تلك الأُمم ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب، وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلم ما في تلك الحضارات من آداب وفنون فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً، ونقل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.

يقول بعض المؤرّخين في هذا الصدد: ولم تلبث كتب أرسطو، وأنبذقليس، وهرقليوس،وسقراط، وأبيقور،وجميع أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة، أن ترجمت إلى اللغة العربية وكان هناك ما جعل أمر تلك الترجمة سهلاً، فقد كانت معارف اليونان والرومان منتشرة في بلاد الفرس وسوريا منذ أن وجد العرب في بلاد فارس وسوريا، فلمّا استولى المسلمون على ما فيها من خزائن العلوم اليونانية قاموا بنقل ما

هو باللغة السريانية إلى اللغة العربية.

وأعان على أمر الترجمة أنّه نقل عدّة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية، فصار ذلك سبباً لانتقال كثيرمن آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي

( 106 )

وانتشارها بينهم ولا شكّ أنّ بين تلك المعارف ما كان يضاد مبادئ الإسلام وأُسسه وكان بين المسلمين من لم يتدرع في مقابلها ومنهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها.

فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات، نظراء: ابن أبي العوجاء، وحماد بن عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن أياس، وعبد اللّه بن المقفع، فهؤلاء وأمثالهم بين غير متدرع وغير متورع، اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الروم والفرس إلى أن عاد بعض المتفكّرين غير مسلمين للإسلام إلاّ بالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوة و المعاد وكانوا ينشرون آراءهم علناً ويهاجمون بها عقائد المؤمنين.

نحن نرى في التراث اليوناني بفضل التراجم التي وصلت إلينا أبحاثاً حول علمه سبحانه وإرادته وقدرته وأفعاله حتى مسألة الجبر والاختيار، وقد كان لتلك الآراء تأثير عميق على عقول المسلمين وهم بين متدرّع بالحضارة الإسلامية يكافح الشبه ويميز الصحيح من الفاسد، وبين ضعيف في التعقّل والتفكّر ليس له من الشأن إلاّ الأخذ، فصارت تلك الآراء من مبادئ تكوّن الفرق واختلاق النحل.

دور أهل البيت في عصر الترجمة

وفي هذا الجو المشحون بالآراء والعقائد الصحيحة وغير الصحيحة، قام أهل البيت بتربية جموع غفيرة من ذوي الاستعداد على المبادئ الأصيلة والمفاهيم الإسلامية وتعريفهم بالأُصول الدينية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل،وصاروا يناظرون كلّ فرقة ونحلة بما فيهم الملاحدة والثنوية بأمتن البراهين وأسلمها.

وقد حفظ التاريخ أسماء طائفة منهم، كهشام بن الحكم، وأبي جعفر مؤمن الطاق، وجابر بن يزيد، وأبان بن تغلب البكري، ويونس بن

( 107 )

عبد الرحمن، وفضال بن

الحسن بن فضال، ومحمد بن خليل السكاك، وأبي مالك الضحاك، وآل نوبخت جميعاً، إلى غير ذلك ممن برع في علم الكلام، وناظر الفرق، بين من تتلمذ على الأئمة، أو من تتلمذ على خريجي مذهبهم، وتواصلت حلقات مناظراتهم حتى القرون المتأخرة وألفت كتب في العقائد والكلام والملل والنحل، يقف القارئ على تاريخهم في كتب الرجال والتراجم وقد حفظ الكثير من نصوص هذه المناظرات والاحتجاجات لحدّ الآن.

كما قامت المعتزلة بمقاومة هذه التيارات الإلحادية والثنوية، وبإزالة الشبه بفضل الأُصول القرآنية والعقلية، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً وإن لم يكونوا ناجحين في كلّ ما هو الحقّ من الأُصول والفروع الإسلامية.

وبما أنّ أهل الحديث لا يحسنون طريقة المعتزلة في الاحتجاج والبرهنة، لذا كانوا يعادونهم، كما أنّ الملاحدة والثنوية كانوا يعادونهم أيضاً، لما يجدون فيهم من قوّة التفكير والقدرة على الاحتجاج والمناظرة. وعلى ذلك فقد وقعت المعتزلة بين عدوين:أحدهما من الداخل، وهم أهل الحديث، والآخر من الخارج، وهم الملاحدة والثنوية.

نعم كان بين المسلمين من يأبى الخوض في المسائل العقلية ويكتفي بما وصل إليه من الصحابة، ويقتصر على ما حصل عليه من الدين بالضرورة وهم الحشوية من أهل الحديث وأكثر الحنابلة ولما التحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بالحنابلة لم يجد محيصاً في الدفاع عن عقائدهم عن الخوض في المسائل الكلامية، فألّف رسالة أسماها «في استحسان الخوض في الكلام».

( 108 )

العامل السادس الاجتهاد في مقابل النص

العامل السادس الاجتهاد في مقابل النص

إذا كانت العوامل الخمسة الماضية من عوامل تكون المذاهب الكلامية فالاجتهاد في مقابل النص ممّا يتكون به المذاهب الكلامية والفقهية.

روى الفريقان أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كان مسجى على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال: «يا أيّها الناس يوشك

أن أقبض سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا أنّي مخلف فيكم كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي».(1)

فجعل العترة أعدال كتاب اللّه وقرناءه كما أنّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ جعلهم أمان الأُمّة من الاختلاف وسفينتها من الهلاك، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ستمر عليك عند البحث عن الشيعة.

ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة و أوّلوا نصوصه لا يلوون على شيء وقد قضوا أمرهم بينهم دون أن يؤذنوا به أحداً من بني هاشم وأهل بيت النبوة وكأنّه عناهم الشاعر في المثل السائر حيث قال:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم * ولا يست_أذن_ون وه__م شه_ود

نرى أنّ الأُمّة بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ رجعوا إلى كلّ صحابي وتابعي وإلى

____________________________

1 . لاحظ ص 36 من كتابنا هذا.

( 109 )

من أدرك صحبة النبي شهراً أو أقلّ ومع ذلك أعرضوا عن أهل بيته وعترته وهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، وما هذا إلاّ اجتهاد في مقابل النصّ.

وأمّا المذاهب الفقهية التي أُسّست في ظل هذا العامل فحدث عنها ولا حرج، ويكفي في ذلك المراجعة إلى الكتب الفقهية في المسائل التالية:

1. إسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم من الزكاة مع النص عليه في محكم الذكر.

2. إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بوفاة رسول اللّه مع النصّ عليه في محكمات الفرقان وصحاح السنن.

3. الحكم بعدم توريث الأنبياء مع ما في الذكرالحكيم من النصوص الصريحة في توريثهم.

4. النهي عن متعة الحجّ مع النصّ الوارد عليها في الآية (196) من سورة البقرة.

5. النهي عن متعة النساء مع النصّ عليه في محكم الذكر وصحاح الروايات.

6.إسقاط «حي على خير العمل» من الأذان

والإقامة مع كونه جزءاً من كلّ منهما.

إلى غير ذلك من الموارد التي جمعها العلاّمة الأكبر السيد شرف الدين العاملي (المتوفّى1377ه_) في كتابه«النص والاجتهاد» وهو من الكتب الممتعة في ذلك الموضوع وفي آخر الكتاب فصل جمع فيه نصوص الإمامة المتوالية من مبدأ أمر الرسول إلى انتهاء عمره الشريف.

***

(ثُمَّ أَورَثنا الكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسهِِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّه ذلِكَ هُوَ الفَضْلُ الْكَبير) (1).

____________________________

1 . فاطر: 32 .

( 110 )

( 111 )

الفصل الرابع في معنى القدرية والمعتزلة

الفصل الرابع في معنى القدرية والمعتزلة والرافضةوالحشوية

إنّ كتب الملل والنحل مشحونة باصطلاحات يستخدمونها في التعبير عن الفرق ويعبرون عن أكثرهم بإدخال ياء النسبة إلى أصحاب الرأي، غير أنّ هناك اصطلاحات اختلفوا في معناها أو وقع لهم الاشتباه في تفسيرها، فلنذكر هاهنا القسم الأخير:

1. القدرية

قد تداول استعمال لفظ القدرية في علمي الملل والكلام، فأصحاب الحديث كإمام الحنابلة ومتكلّمي الأشاعرة يطلقونها ويريدون منها «نفاة القدر ومنكريه» بينما تستعملها المعتزلة في مثبتي القدر والمقرين به، وكلّ من الطائفتين ينزجر من الوصمة بها ويفر منها فرار المزكوم من المسك; وذلك لما رواه أبو داود في سننه، والترمذي في صحيحه، من روايات في ذم القدرية والقدح فيهم. وإليك بيانها:

1. عبد اللّه بن عمر: إنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: القدرية مجوس هذه الأُمّة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.

2. عبد اللّه بن عباس: إنّ النبي قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم.(1)

____________________________

1 . أي لا تحاكموهم وتناظروهم ولا تجادلوهم. وفي المصدر عمر بن الخطاب مكان «عبد اللّه بن عباس».

( 112 )

3. عبد اللّه بن عباس قال: قال رسول اللّه: صنفان من أُمّتي ليس

لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية.(1)

ولأجل هذه الروايات يتهم كلّ من الطائفتين، الأُخرى بالقدرية لينزّه نفسه من ذلك العار والشنار.

ولا يخفى أنّ متون الأحاديث تعرب عن كونها موضوعة على النبي الأكرم، خصوصاً الحديث الأخير فقد جاء فيه: المرجئة والقدرية معاً، إذ إنّ هذين المصطلحين برزا بين المسلمين في النصف الثاني من القرن الأوّل عندما اتّهم معبد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي بالقدر والإرجاء، و ذاع هذان الاصطلاحان بين المسلمين إلى الآن ومن البعيد وجودهما في زمن الرسول الأعظم وشيوعهما في ذلك العصر،وعند ذلك كيف يتكلّم الرسول بكلمات بعيدة عن أذهان أصحابه، وغريبة على مخاطبيه، كلّ ذلك يثير الشكّ أو سوء الظن بوضع هذه الأحاديث ودسّها بين المسلمين، حتى يتسنّى لكلّ من الطائفتين، تعيير الأُخرى بها والنيل من كرامتها،وما ذكرناه من التشكيك وإن كان لا يخرج عن دائرة الاستحسان، غير أنّ وقوع الضعاف في أسنادها يؤيد ذلك التشكيك ويقوّيه.

أمّا الحديث الأوّل، فقد رواه أبو داود في سننه بالسند التالي:

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني بمنى عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي.(2)

ويكفي في ضعف الحديث، أنّ أبا حازم سلمة بن دينار، لم يدرك عبد اللّه بن عمر، وقد روى عنه في مواضع بوسائط، لا يثبت منها شيء.(3)

وأمّا الحديث الثاني، فقد رواه أيضاً بالسند التالي:

____________________________

1 . جامع الأُصول:10/526. راجع سنن أبي داود:4/222، باب في القدر، الحديث 6491 و 6492; سنن الترمذي:ج4، كتاب القدر باب 13، الحديث 2149.

2 . سنن أبي داود:4/222، الباب في القدر، الحديث 4691.

3 . جامع الأُصول :10/526 قسم التعليق; واللآلي المصنوعة :1/258.

( 113 )

حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري أبو عبد الرحمن، قال حدثني سعيد

بن أبي أيوب، قال حدثني عطاء بن دينار، عن حكيم بن شريك الهذلي، عن يحيى بن ميمون الحضرمي، عن ربيعة الجرشي، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب.(1)

ويكفي في ضعف الحديث أنّ في أسناده، حكيم بن شريك الهذلي البصري الذي هو مجهول.(2)

وأمّا الحديث الثالث، فقد رواه الترمذي في سننه بالسند التالي:

حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، عن القاسم بن حبيب، وعلي بن نزار، عن نزار عن عكرمة.(3)

ويكفي في ضعف الحديث أنّ قاسم بن حبيب ضعيف، ونزار وابنه علي، من المجاهيل.

أفيصح الاحتجاج بأحاديث هذه أسنادها؟

هذه حال الأحاديث الواردة في الصحاح. غير أنّ هناك أحاديث وردت في غيرها تختلف مع ما ورد فيها سنداً، وإن كانت تتحد لفظاً. وقد جمعها السيوطي في كتابه «اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة».(4)

مثلاً: روى ابن عدي، بسند عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعاً: إنّ لكلّ أُمّة مجوساً، وإنّ مجوس هذه الأُمّة القدرية، فلا تعودوهم إذامرضوا، ولا تصلّوا عليهم إذا ماتوا.

وفي سنده جعفر بن الحارث، قال عنه السيوطي: ليس بشيء.

ورواه خيثمة بسند عن أبي هريرة، وفي سنده غسان، قال عنه السيوطي: مجهول.

____________________________

1 . سنن أبي داود:4/228، باب في القدر، الحديث 4710.

2 . جامع الأُصول:1/526، قسم التعليق.

3 . سنن الترمذي :4/454، باب ما جاء في القدرية، رقم الحديث 2149.

4 . لاحظ ج1، ص 254 _ 256.

( 114 )

ورواه الدارقطني، بسند عن أبي هريرة، وفيه مجاهيل، حتى قال النسائي: هذا الحديث باطل كذب.(1)

ونكتفي بهذا المقدار في البحث عن سند الروايات.

هذا حال رجال الأحاديث المذكورة، ومن المعلوم أنّه لا يمكن الاحتجاج بأحاديث هذا شأنها، وعلى فرض صحتها فالصحيح تفسير القدرية بمعنى مثبتي القدر والحاكمين به، لا نفاته. فإنّ تلك الكلمة كأشباهها من

العدلية وغيرها تطلق ويراد منها مثبتو مبادئها، أعني: العدل، لا نفاتها. وإطلاق تلك الكلمة وإرادة النفي منها من غرائب الاستعمالات.

نعم أخرج أبو داود في سننه(2)، عن حذيفة بناليمان قال: «قال رسول اللّه: لكلّ أُمّة مجوس، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون لا قدر».

وهذا الحديث على فرض صحته يمكن أن يكون قرينة على تفسير القدرية في هذا المورد، ويكشف عن أنّ ذلك الاستعمال البعيد عن الأذهان، كان مقروناً بالقرينة. ولكن الاحتجاج بالحديث غير تام، إذ في سنده عمر مولى غفرة، عن رجل من الأنصار، عن حذيفة، فالراوي والمروي عنه مجهولان.(3)

فقه الحديث

وبعد ذلك كلّه، ففقه الحديث يقتضي أن نقول: إنّ المراد من القدرية هم مثبتو القدر، لا نفاته، بقرينة تشبيههم بالمجوس، فإنّ المجوس معروفة بالثنوية، وإنّ خالق الخير غير خالق الشر، ومبدع النور غير مبدع الظلمة، وإنّ هناك إلهين خالقين في عالم واحد، يستقل كلّ في مجاله الخاص، حسب ما يناسب ذاته.

والقائل بالقدر يحكّم القدر على أفعاله سبحانه وأفعال عباده، فكأنّ

____________________________

1 . اللآلي المصنوعة: 1/258.

2 . سنن أبي داود: 4/222 ح 4692.

3 . الجرح والتعديل:6/143.

( 115 )

التقدير إله حاكم على أفعال اللّه وأفعالهم، فإذا قدر شيئاً وقضى لا يمكن له نقض قضائه وقدره، بل يجب عليهما أن يصيرا حسب ما قدر، فالفواعل على هذا المعنى _ سواء أكانت شاعرة عالمة بذاتها وأفعالها أو غير شاعرة وعالمة _ مسيّرة لا مخيّرة، لأجل حكومة القدر وسيادته على اللّه وأفعاله وعلى حرية عبده، فأي إله أعلى وأسمى من القدر بهذا المعنى. فصحّ تشبيه القدرية _ بهذا المعنى _ بالمجوس القائلين بالثنوية وتعدد الإله.

وأمّا نفاة القدر الذين يقولون لا قدر ولا قضاء بل للّه الحكم في أوّله وآخره، وأنّ عباده مخيّرون

في أعمالهم وأفعالهم، فهم أشبه بالموحدين من القائلين بالمعنى السابق الذكر.

نعم يمكن تقريب كون النفاة بحكم المجوس ببيان آخر وهو: أنّ تلك الفرقة يعتقدون بالتفويض، وأنّ الإنسان مفوض إليه في فعله، مستقل في عمله وكلّ ما يقوم به. فعند ذلك يكون الإنسان فاعلاً غير محتاج في فعله إلى خالقه وبارئه،ويصير نداً له سبحانه وتعالى فكما هو مستقل في خلقه فذاك أيضاً مستقل في عمله.

وهذا الاعتقاد يشبه قول الثنوية، من الاعتقاد بخالقين مستقلين: خالق النور وخالق الظلمة. وفي مورد البحث يعتقد نفاة القدر بخالقين: اللّه سبحانه بالنسبة إلى ما سواه غير أفعال الإنسان، والإنسان في مجال أفعاله وأعماله، فلكلّ مجال خاص، وهذا الاعتقاد يخالف التوحيد في الخالقية والفاعلية، وأنّه ليس هناك إلاّ خالق واحد، كما أنّه ليس هناك فاعل مستقل. فكلّ ما في الوجود من الآثار مع استناده إلى مبادئها ومؤثراتها، مستند إلى اللّه سبحانه، وسيوافيك توضيحه عند البحث في القضاء والقدر.

ولا يخفى ما في هذا الوجه من الوهن، لأنّ الحديث يركز على كونهم بمنزلة المجوس، لأجل كونهم نافين للقدر، لا لأجل كونهم قائلين بالتفويض،وأنّ الإنسان بعد الوجود،مفوض إليه فعله وعمله،ولا صلة لفعله إلى اللّه سبحانه بوجه من الوجوه. وقولهم بالتفويض وإن كان يصحح ذلك، لكنّه

( 116 )

ليس مذكوراً في الحديث فالحقّ تفسير الحديث بالقائلين بالقدر والمثبتين له على الوجه الذي عرفته، لا بنفاته.

هذا، والقاضي عبد الجبار نقل حديثاً يوضح لنا مفاد هذا الحديث حيث قال: «لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً، قيل له: ومن القدرية يا رسول اللّه؟ قال: «قوم يزعمون أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها. والمرجئة قوم يزعمون أنّ الإيمان بلا عمل».(1)

ونقل أيضاً قول الرسول:«لعن اللّه القدرية على لسان سبعين نبياً،

قيل: من القدرية يا رسول اللّه؟قال: «الذين يعصون اللّه تعالى ويقولون كان ذلك بقضاء اللّه وقدره... وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس».(2)

وقد رواه بعض المفسرين أيضاً، كالزمخشري في كشافه(3)، والرازي في مفاتيحه.(4)

هذا وإنّ تنبّؤ النبي الأكرم عن طائفة باسمهم دون أن يذكر وصفهم بعيد جداً.

وهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي أنّه لا شكّ أنّ للّه سبحانه قضاء وقدراً، وانّه لا يمكن للمؤمن العارف بالكتاب والسنّة إنكار ذلك،وقد قال سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاّ في كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير) (5) وقال سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم).(6)

____________________________

1 . المغني:8/326(المخلوق).

2 . شرح الأُصول الخمسة: 775، الطبعة الأُولى.

3 . الكشاف:1/103.

4 . المفاتيح:13/184.

5 . الحديد:22.

6 . الدخان:3 و 4.

( 117 )

وهذه الآيات والأحاديث المتضافرة التي نقلها أصحاب الحديث لا تترك منتدحاً لمسلم أن ينكر القضاء والقدر، نعم الكلام في تفسيرهما وتحديد معناهما على نحو لا يضاد ولا يخالف حاكمية اللّه واختياره أوّلاً، ولا يزاحم حرية الإنسان وإرادته ثانياً، إذ كما أنّ القدر والقضاء من الأُمور اليقينية، فكذا حاكميته سبحانه واختياره، وحرية العبد وإرادته من الأُمور اليقينية أيضاً وسوف يوافيك أنّ معنى القضاء والقدر الثابتين في الشرع، ليس كما تصوّره أصحاب الحديث والأشاعرة: من تحكيم القدر على اختياره سبحانه، وإرادة عباده. بل تقديره وقضاؤه لا يعني إبطال حرية الإنسان واختياره، ولأجل كون المقام من مزال الأقدام، نهى الإمام أمير المؤمنين البسطاء عن الخوض في القضاء والقدر، فقال في جواب من سأله عن القدر:«طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر اللّه فلا تتكلّفوه».(1)

ولكن كلامه _ عليه السَّلام _

متوجه إلى البسطاء من الأُمّة الذين لا يتحملون المعارف العليا، لا إلى أهل المعرفة والنظر. ولأجل ذلك وردت جمل شافية في القضاء والقدر عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ وسيوافيك شطر منها عند عرض مذهب أهل الحديث في هذا الموقف.

2. الاعتزال والمعتزلة

المعتزلة طائفة من العدلية نشأت في أوائل القرن الثاني الهجري، ويرجع أصلها إلى «واصل بن عطاء» تلميذ الحسن البصري، ولهم منهج كلامي خاص وأُصول معينة اتفقوا عليها، وسوف نرجع إلى دراسة مذهبهم بعد الفراغ من دراسة مذهب أهل الحديث أوّلاً، والأشاعرة ثانياً، غير أنّ الذي نركز عليه هنا هو الوقوف على وجه تسميتهم بالمعتزلة تارة، ووصف مدرستهم بالاعتزال أُخرى، وهناك آراء ستة نشير إلى بعضها:

أ. دخل رجل على الحسن البصري (المتوفّى عام 110ه_) فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده:قسم الحكم، الرقم 287.

( 118 )

كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج; وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل ليس _ على مذهبهم _ ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كمالا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء (تلميذه): أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.

ثمّ قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه معتزلة.(1)

وقد كان لمسألة مرتكب الكبائر دوي عظيم في تلك العصور، وهو

أمر أحدثه الخوارج في البيئات الإسلامية تعييراً لعلي _ عليه السَّلام _ حيث إنّه بزعمهم ارتكب الكبيرة لمّا حكّم الرجال في أمر الدين، وليس للرجال شأن في هذا المجال، فعادوا يكفّرونه حسب معاييرهم الباطلة. ولأجل ذلك انتشر السؤال عن حكم مرتكب الكبيرة، هل هو كافر أو مؤمن فاسق؟ فالتجأ واصل بن عطاء إلى القول بالمنزلة بين المنزلتين.

وظاهر الرواية، أنّ واصل بن عطاء أجاب عن السؤال ارتجالاً وبلا تروّ، غير أنّا نرى أنّ المعتزلة اتّخذوه أصلاً من الأُصول الخمسة التي لا يختلف فيها أحد منهم، فيبدو أنّه انتهى إلى تلك النظرية عن تحقيق وتفكير وتبعه أصحابه طوال قرون من دون أن يكون هناك حافز سياسي أو داع غير إراءة الحقّ وإصابة الواقع.

ومع ذلك كلّه نرى عبد الرحمن بدوي يعتبر تلك الفكرة منهم فكرة سياسية اتّخذوها ذريعة على ألاّ ينصروا أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنّة والخوارج) حيث قال: وإنّما اختار المعتزلة الأوّلون هذا الاسم، أو على الأقل

____________________________

1 . الفرق بين الفرق : 118; الملل والنحل للشهرستاني:1/48.

( 119 )

تقبّلوه، بمعنى المحايدين أو الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر في المسألة السياسيّة الدينية الخطيرة: مسألة الفاسق ما هو حكمه؟ هل هو كافر مخلّد في النار كما يقول الخوارج، أو هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها كما يقول أهل السنّة، أو هو في منزلة بين المنزلتين وهو ما يقول به المعتزلة.(1)

ب. وهناك رأي ثان في وجه تسميتهم بها، يظهر ممّا ذكره أبو الحسين محمد ابن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي(المتوفّى عام 377ه_) حيث يقول: وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن علي _ عليه السَّلام _ معاوية وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع

الناس، وقد كانوا من أصحاب علي،ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسمّوا بذلك معتزلة.(2)

وهذا الرأي قريب من جهة أنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل، عن الإمام علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ لأنّهم يقرّون بأنّ مذهبهم يصل إلى واصل بن عطاء، وأنّ واصلاً يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ المعروف بابن الحنفية بواسطة ابنه أبي هاشم وأنّ محمداً أخذ عن أبيه، وأنّ علياً أخذ عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(3)

وعلى ذلك فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن _ عليه السَّلام _ مع معاوية.

والذي يبعد ذلك أنّ من الأُصول الاعتقادية للمعتزلة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى هذا الأصل خرجت أوائلهم على الوليد الفاسق بن يزيد ابن عبد الملك ونصروا يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك الذي كان على خط

____________________________

1 . مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي:1/37.

2 . التنبيه والرد: 36.

3 . رسائل الجاحظ تحقيق عمر أبي النصر: 228، وغيره ممّا كتب في تاريخ المعتزلة كطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار، والمنية والأمل لأحمد بن يحيى بن المرتضى.

( 120 )

الاعتزال، وقد فصّل الكلام فيه المسعودي في تاريخه(1)، وعلى ذلك فلا يصح أن يقال إنّهم لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة.

والحقّ أن يقال: إنّ هناك طائفتين سمّيتا بالمعتزلة، لا صلة بينهما سوى الاشتراك في الاسم، ظهرت إحداهما بعد تصالح الإمام الحسن بن علي _ عليهما السَّلام _ مع معاوية، وهؤلاء طائفة سياسية بحتة. وطلعت الأُخرى في زمن الحسن البصري بعد اعتزال واصل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، وهؤلاء طائفة كلامية عقائدية.

هذا وإنّ المعروف في وجه

التسمية هو الوجه الأوّل دون الثاني ودون سائر الوجوه البالغة ستة أوجه.

وسيوافيك بيان تلك الأوجه الستة عند بيان عقائد المعتزلة في الجزء الثالث من هذه الموسوعة.

3. الرفض والرافضة ووجه التسمية

الرفض: بمعنى الترك. قال ابن منظور في اللسان: «الرفض تركك الشيء تقول: رفضني فرفضته، رفضت الشيء أرفضه رفضاً. تركته وفرقته، والرفض، الشيء المتفرق والجمع: أرفاض».

هذا هو المعنى اللغوي وأمّا حسب الاصطلاح في الأعصار المتأخرة فهو يطلق على مطلق محبي أهل البيت تارة، أو على شيعتهم جميعاً أُخرى، أو على طائفة خاصة منهم ثالثة.

وعلى كلّ تقدير فهذاالاصطلاح اصطلاح سياسي أُطلق على هذه الطائفة وهو موضوع لا كلام فيه، إنّما الكلام في وجه التسمية ومبدأ نشوئها، فإنّنا نرى ابن منظور يقول في وجه التسمية«الروافض: جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكلّ طائفة منهم رافضة، والنسبة إليهم رافضي، والروافض قوم من الشيعة سمّوا بذلك لأنّهم تركوا زيد بن علي، قال الأصمعي: كانوا

____________________________

1 . مروج الذهب:3/212_ 226.

( 121 )

قد بايعوا زيد بن علي ثمّ قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك فأبى وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه، فسمّوا رافضة،وقالوا الروافض ولم يقولوا: الرفاض لأنّهم عنوا الجماعات.(1)

غير أنّ ابن منظور، وإن أصاب الحقّ في صدر كلامه وجعل للّفظ معنى وسيعاً يطلق على المسلم والكافر، والمسلم شيعيّه و سنيّه لكن استشهد على وجه تسمية قسم من شيعة علي _ عليه السَّلام _ بها بقول الأصمعي، وهو منحرف عن علي وشيعته، فكيف يمكن الاعتماد على قوله، خصوصاً إذا تضمن تنقيصاً وازدراء بهم، وليس ذلك بدعاًمن ابن منظور وأضرابه، بل هو مطرد في كلّ مورد يستشهدون بشيء فيه وقيعة للشيعة، فترى هناك أثراً من مطعون إلى منحرف إلى ناصبي إلى خارجي

و«في كلّواد أثر من ثعلبة» وعلى أي تقدير هذه الفكرة هي المعروفة بين أرباب الملل في تسمية شيعة الإمام بالرافضة، ونداء محبيه بالرفضة.

يقول البغدادي في «الفَرْق بينالفِرَق» عند البحث عن الزيدية: وكان زيد بن علي قد بايعه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم على والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك، فلمّا استمر القتال بينه و بين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنّا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر، بعد أن ظلما جدك علي بن أبي طالب. فقال زيد بن علي: لا أقول فيهم إلاّ خيراً، وما سمعت من أبي فيهم إلاّ خيراً. وإنّما خرجت على بني أُمية الذين قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم وقعة الحرة، ثمّ رموا بيت اللّه بالمنجنيق والنار. ففارقوه عند ذلك، حتى قال لهم رفضتموني، ومن يومئذ سمّوا رافضة.(2)

قال البزدوي أحد المؤلفين في الفرق عند البحث عن مذهب الروافض: «وإنّما سموا روافض، لأنّهم وقعوا في أبي بكر وعمر فزجرهم زيد فرفضوه

____________________________

1 . لسان العرب:7/157، مادة رفض.

2 . الفرق بين الفرق: 35.

( 122 )

وتركوه فسموا روافض».(1)

هذا ما لدى القوم من أوّلهم وآخرهم، فقد أخذوا بقول الأصمعي الناصبي في التسمية ومن لفّ لفّه وحذا حذوه.

نظرنا في الموضوع

لا أظن الأصمعي وهو خبير في اللغة يجهل بحقيقة الحال ولكن عداءه قد جرّه إلى هذا التفسير، فإنّ الحقّ أنّ الرافضة كلمة سياسية كانت تستعمل قبل أن يولد زيد بن علي ومن بايعه من أهل الكوفة، فالكلمة تطلق على كلّ جماعة لم تقبل الحكومة القائمة، سواء أكانت حقاً أو باطلاً. هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان _ الذين

لم يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ وسلطته _ بالرافضة ويكتب في كتابه إلى «عمرو بن العاص» وهو في البيع في فلسطين أمّا بعد: فإنّه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا(2) مروان ابن الحكم في رافضة أهل البصرة وقدم علينا جرير بن عبد اللّه في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني، أقبل أُذاكرك أمراً.(3)

ترى أنّ معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة وهؤلاء كانوا أعداء علي ومخالفيه، وما هذا إلاّ لأنّ هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك.

وعلى ذلك فتلك لفظة سياسية تطلق على القاعدين عن نصرة الحكومة والالتفاف حولها، وبما أنّه كان من واجب هذه الجماعة البيعة للحكومة والمعاملة معاملة الحكومة الحقة، ولكنّهم لم يقوموا بواجبهم فتركوه فتفرقوا عنها، فسمّوا رافضة.

فقد خرجنا بهذه النتيجة: إنّ كلمة الرفض والرافضة ليستا من

____________________________

1 . أُصول الدين: 248.

2 . سقط إلينا: نزل إلينا.

3 . وقعة صفين : 29.

( 123 )

خصائص الشيعة، بل هي لغة عامة تستعمل في كلّ جماعة غير خاضعة للحكومة القائمة، وبما أنّ الشيعة منذ تكونها لم تخضع للحكومات القائمة بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فكانت رافضة حسب الاصطلاح الذي عرفت، ولم يكن ذلك الاصطلاح موهوباً من زيد بن علي لشيعة جدّه. كيف وقد ورد ذلك المصطلح على لسان أخيه محمد الباقر _ عليه السَّلام _ الذي توفّي قبل زيد بن علي وثورته بست سنوات؟!

روى أبو الجارود عن أبي جعفر _ عليه السَّلام _ : إنّ رجلاً يقول إنّ فلاناً سمّانا باسم، قال: وما ذاك الاسم؟ قال: سمّانا الرافضة. فقال أبو جعفر _ مشيراً بيده

إلى صدره _: وأنا من الرافضة وهو مني، قالها ثلاثاً.(1)

وروى أبو بصير فقال: «قلت لأبي جعفر _ عليه السَّلام _ : جعلت فداك اسم سمينا به، استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال: «وما هو؟» قال: الرافضة، فقال أبو جعفر_ عليه السَّلام _ : «إنّ سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون، فأتوا موسى _ عليه السَّلام _ فلم يكن في قوم موسى أحد أشدّ اجتهاداً وأشد حباً لهارون منهم، فسمّاهم قوم موسى الرافضة».(2)

وهذه التعابير عن أبي جعفر باقر العلوم_ عليه السَّلام _ أصدق شاهد على أنّ مصطلح الرفض ليس وليد فكرة زيد، وأجلّه عن هذه النسبة والفكرة، بل كان مصطلحاً سائداً في أقوام، فكلّ من لم يخضع للحاكم القائم، والحكومة السائدة وصار يعيش بلا إمام ولا حاكم سمّي رافضياً والجماعة رافضة أو رفضة.

وبهذا الملاك أطلق لفظ الرافضي على من لم يعتقد بشرعية حكومة الخلفاء حتى شاع وذاع قبل مقتل زيد كما عرفت وبعده.

فعن معاذ بن سعيد الحميري قال: «شهد السيد إسماعيل بن محمد الحميري رحمه اللّه ، عند «سوار» القاضي بشهادة فقال له: ألست

____________________________

1 . بحار الأنوار:65/97 الحديث2 نقلاً عن المحاسن للبرقي، المتوفّى عام 274ه_.

2 . بحارالأنوار:65/97 الحديث3.

( 124 )

إسماعيل بن محمد الذي يعرف بالسيد؟ فقال: نعم. فقال له: كيف أقدمت على الشهادة عندي، وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيد: قد أعاذني اللّه من عداوة أولياء اللّه، وإنّما هو شيء لزمني. ثمّ نهض فقال له: قم يا رافضي فواللّه ما شهدت بحقّ، فخرج السيد رحمه اللّه وهو يقول:

أب_وك ابن سارق عن_ز النبي * وأنت ابن بنت أبي جح_در

ونحن على زعمك الرافضو * ن لأهل الضلالة والمنك_ر(1)

وروي أنّه كان عبد الملك بن مروان لمّا سمع

من الفرزدق قصيدته المعروفة في مدح الإمام علي بن الحسين قال له: أو رافضي أيضاً أنت؟ فقال الفرزدق: إن كان حبّ آل محمّد رفضاً فأنا هذاك، فقال عبد الملك: قل فيّ مثل ما قلته فيه وعليّ أن أضعف عطاءك....(2)

4. الحشوية

لقد كثر الكلام حول تفسير الحشوية و ما هو المراد منها ؟ ونحن نأتي هنا بمجمل القول من أوثق المصادر..

قال الجرجاني: وسمّيت الحشوية حشوية، لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتشبيه، وتوصيفه تعالى بالنفس واليد والسمع والبصر، وقالوا: إنّ كلّ حديث يأتي به الثقة من العلماء فهو حجّة أيّاً كانت الواسطة.(3)

وقد ذكر الصفدي: أنّ الغالب في الحنفية معتزلة. والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية (لعلّه يعني جبرية) والغالب في الحنابلة حشوية.(4)

ونقل الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه على كتاب «تبيين كذب

____________________________

1 . الغدير:2/256 طبع بيروت.

2 . أمالي السيد المرتضى:1/68 في التعليق.

3 . التعريفات: 341; الحور العين: 204; معرفة المذاهب: 15.

4 . الغيث المنسجم للصفدي:2/47، وراجع ضحى الإسلام لأحمد أمين:3/71.

( 125 )

المفتري» وجهاً آخر، وقال: وكان الحسن البصري من جلة التابعين، ومن استمر سنين ينشر العلم في البصرة، ويلازم مجلسه نبلاء أهل العلم، وقد حضر مجلسه يوماً أُناس من رعاع الرواة، و لمّا تكلموا بالسقط عنده قال ردّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة _أي جانبها_ فسمّوا الحشوية، ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة.(1)

***

قال الصادق _ عليه السَّلام _ :

«العامل على غير بصيرة كالسائر على سراب بقيعة، لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً».(2)

____________________________

1 . تبيين كذب المفتري:11.

2 . الوسائل:الباب 18 من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.

الفصل الخامس نظرة في كتب أهل الحديث

الفصل الخامس نظرة

في كتب أهل الحديث

(الحنابلة والحشوية)

لا نقاش في أنّ الحديث النبوي حجّة إلهية كالقرآن الكريم ولا يعدل المسلم المؤمن عنهما إلى غيرهما، فالكتاب معجزة خالدة واللفظ والمعنى منه سبحانه، وأمّا السنّة فلفظها للنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والمفاد والمضمون منه سبحانه.

فلا فرق بين قوله تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم) (1) وقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «الصلح جائز بين المسلمين».(2)

كما لا فرق بين قوله سبحانه:(فَتَيمَّمُوا صَعيداً طَيّباً) (3) وقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين».(4)

فالمسلم المؤمن باللّه وكتابه ورسالة نبيه لا يفرّق بين كتابه تعالى وكلامه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، كما لا يفرق بين قوله وفعله، بين إشارته وتقريره، فكلّ حجّة إلهية يجب العمل على وفقه ولا يكون المسلم مسلماً إلاّ إذا استسلم في هذه المجالات كلّها. قال سبحانه:(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا

____________________________

1 . الحجرات:10.

2 . التاج الجامع للأُصول:2/202، رواه الترمذي وأبو داود والبخاري.

3 . المائدة:6.

4 . سنن الترمذي:1/212 باب ما جاء في التيمم للجنب.

( 128 )

تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّه وَرَسُولهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ) .(1)

إنّ للحديث النبوي من جلالة الشأن وعلو القدر مالا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج في إثباته إلى برهان. إذ هي الدعامة الثانية _ بعد الذكر الحكيم _ للدين والأخلاق، والحكم والآداب، ممّا يتمتع به المسلمون في دينهم ودنياهم.

وهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، تقتضي مزيد العناية بها ودراستها بأحسن الأساليب العلمية والمنطقية، حتى يتميّز الصحيح من الزائف ولا ينسب إليه كلّ ما يحمل اسم الحديث والسنّة، أو كلّ ما يوجد في بطون الكتب وضمائر الأسفار، معقولاً كان أو غير معقول، مخالفاً كان

للقرآن أو لا.

إنّ قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «من كذب علي متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار» إخطار أكيد للواعين بأنّ أعداء الدين لبالمرصاد وسوف ينسبون إليه كلّ مغسول من البلاغة، وعار عن الفصاحة وينقلون منه كلّ معنى ثقيل على الفطرة، أو مضاد للعقل السليم، الذي به عرفناه سبحانه وعرفنا براهين رسالة رسوله.

وقد دق رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بكلامه هذا جرس الإنذار للأُمّة لا سيما للوعاة منهم وحفاظ أحاديثه حتى لا يظنوا أنّ كلّ ما يصل إليهم باسم الحديث هو الحديث النبوي على حقيقته، بألفاظه ومعانيه، وليس قبول كلّ حديث _ ولو كان فيه ما فيه _ آية التسليم للّه وللرسول، وآية عدم التقدّم عليهما في ميادين الأُصول والفروع.

ويتضح ذلك أشد الوضوح إذا وقفت على ما تلوناه عليك من أنّ الحديث النبوي رزيء بالموضوعات التي تولّى كبرها أعداء الدين والإسلام أوّلاً، وتجرة الحديث ثانياً، يضعون الأحاديث تزلّفاً إلى الحكام وتقرّباً منهم.

هذا هو أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول اللّه مع أنّه لم يصاحب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلاّ سنتين أو أقلّ منهما جاء بروايات فيها

____________________________

1 . الحجرات:1.

( 129 )

طامات وغرائب بقيت على مر الدهر، وقد أتعب شراح الصحاح والمسانيد أنفسهم الزكية لحلها وتوجيهها. غير أنّ المتحري للحقيقة ومن يرى أنّ الحقّ أولى من الصحابة والصحابي يرى في أحاديثه آثار الوضع والدس والاختلاق بما لا مجال في المقام لذكرها.(1)

وقد أتينا في بعض الفصول السابقة بإلمامة توقفك على مأساة نقل الحديث والتحدّث به وكتابته ونشره بين الأُمّة،وعرفت أنّ ترك الكتابة بل ترك التحدث كان فضيلة، وخلافه بدعة. ولكن الظروف والأحوال ألجأت المسلمين إلى الكتابة

والتدوين ونشره في أواخر النصف الأوّل من القرن الثاني.

ولأجل ذلك صار العثور على الحديث الصحيح الذي حدث به رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أمراً صعباً لما مر من دس الدسّاسين ووضع الوضّاعين تزلّفاً إلى أصحاب السلطة والعروش، وغير ذلك من دواعي الجعل.

غير أنّ الأحاديث والمأثورات المروية في كتب الحديث، أخذت لنفسها بعد التدوين مقاماً عالياً، وأضيفت إليها آراء الصحابة وأقوال التابعين فصار الجميع هو الأصل الأصيل في تنظيم العقائد وتشريع الأحكام سواء أكان موافقاً للقرآن أم مخالفاً، وسواء أكان موافقاً للعقل السليم أم مخالفاً له، وقد بلغ التحجّر بهم إلى حدّ أن قالوا:

1. إنّ السنّة لا تنسخ بالقرآن، ولكن السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها.(2)

2. إنّ القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن.(3)

3. إنّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب قول وضعه الزنادقة.(4)

____________________________

1 . لاحظ في الوقوف على قيمة أحاديث أبي هريرة كتاب «أبوهريرة شيخ المضيرة» للعلاّمة المصري الشيخ محمود أبو رية.

2 . مقالات الإسلاميين:2/251.

3 . جامع بيان العلم:2/234.

4 . عون المعبود في شرح سنن أبي داود:4/429.

( 130 )

فبلغ بهم التقليد إلى حدّ صاروا يأخذون بظواهر كلّ ما رواه الرواة من الأخبار والآثار الموقوفة والمرفوعة، والموضوعة والمصنوعة وإن كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن أو من الإسرائيليات مثل ما روي عن كعب ووهب و... أو معارضة بالقطعيات التي تعد من نصوص الشرع ومدركات الحس ويقينيات العقل ويكفّرون من أنكرها ويفسّقون من خالفها....(1)

فإذا كان هذا مصير الحديث مع كونه مصدراً للعقائد والأُصول فلا محالة تنجم عنه مناهج ومذاهب لا تفترق عن معتقدات اليهودية والنصرانية والمجوسية بكثير. فظهرت بينهم مذاهب التجسيم والتشبيه والرؤية والجبر وقدم كلام

اللّه وغيره ممّا سبقهم إليه أهل الكتاب في عهودهم القديمة والحديثة. وما هذا إلاّ لأجل أنّ الأحاديث المروية صارت حجّة في مفادها ودليلاً في مضامينها على إطلاقها من دون نظر في إسنادها، أو دقة في معانيها، ومن دون عرضها على الكتاب والعقل.

فإذا كان الحديث بهذا المعنى مصدراً للأُصول والعقائد، فلا محالة تكون العقيدة الإسلامية أسيرة ما حدث عنه أصحاب الحديث في القرون الثلاثة الأُولى، فيوجد فيها ما أوعزنا إليه من مسألة التجسيم وأخواتها.

إنّ التجسيم والتشبيه والجبر وخلق الأعمال، التي ابتلي بها المسلمون في القرون الأُولى، وبقيت آثارها إلى العصور الأخيرة، كلّها من نتائج غفلة عدّة من المحدّثين وتقصيرهم في هذا المجال. فرووا مناكير الروايات، واغتروا بها، وبالتالي تورطوا في جهالات متراكمة، وظلمات متكاثفة، نأتي بأسماء عدّة من هؤلاء وآثارهم الباقية، وإلاّفالمحدّثون المشبهون أكثر من هؤلاء بكثير، إلاّأنّ الدهر أكل على آثارهم وشرب:

1. عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني، صاحب المسند، ولد قبل المائتين بيسير، وتوفي عام 280ه_، له كتاب

____________________________

1 . من كلام السيد رشيد رضا تلميذ الإمام عبده، لاحظ الأضواء:ص 23.

( 131 )

«النقض»، يقول فيه: «اتّفق المسلمون على أنّ اللّه تعالى فوق عرشه و سماواته».

و لمّا كان الذهبي، شديد الميل إلى الحنابلة، كثير الازدراء بأهل التنزيه، أخذته العصبية فحاول إصلاح عبارته، فقال: أوضح شيء في هذا الباب قول اللّه عزّ وجلّ:(الرَّحمن عَلى العَرْش اسْتَوى)(1) فليُمَرْ كما جاء، كما هو معلوم من مذهب السلف، وينهى الشخص عن المراقبة والجدال وتأويلات المعتزلة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ كتاب اللّه ليس كتاب لغز، بل هو كتاب هداية، فما معنى إثبات شيء للّه تعالى وإمراره عليه، من دون التعرف على مفهومه ومعناه، وما أحسن قول تلميذه تاج الدين

عبد الوهاب السبكي (728_ 778ه_) في طبقات الشافعية الكبرى في حقّه: «إنّ الذهبي غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه، وميلاً قوياً إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم لواحد من أهل الإثبات، يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في حقّه، ويتغافل عن غلطاته، ويتأوّل له ما أمكن; وأمّا إذا ترجم أحداً من الطرف الآخر، كإمام الحرمين، والغزالي ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويكثر في قول من طعن فيه، ويعيد ذلك، ويبديه، ويعتقده ديناً، وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة، فلا يستوعبها، فإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها، وكذلك فعله في أهل عصرنا، إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته: «واللّه يصلحه»، وسببه المخالفة في العقائد.(3)

2. خشيش بن أصرم، مصنف كتاب «الاستقامة» يعرّفه الذهبي بأنّه يرد فيه على أهل البدع(4)، ويريد منه أهل التنزيه الذين لا يثبتون للّه سبحانه

____________________________

1 . طه:5.

2 . سير أعلام النبلاء:13/325.

3 . طبقات الشافعية الكبرى:2/13.

4 . تذكرة الحفاظ:2/551.

( 132 )

خصائص الموجود الإمكاني، وينزّهونه عن الجسم والجسمانيات. توفّي في شهر رمضان سنة 253ه_.(1)

3. أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي. نقل الذهبي في «ميزان الاعتدال» عن السلمي قال: سألت الدارقطني عن الأزهري، فقال هو أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث، سجستاني، منكر الحديث، لكن بلغني أنّ ابن خزيمة حسن الرأي فيه وكفى بهذا فخراً. (2)توفّي سنة 312ه_.(3)

يلاحظ عليه: أنّه كفى بهذا ضعفاً، لأنّ ابن خزيمة هذا رئيس المجسمة والمشبهة، ومنه يعلم حال السجستاني، والجنس إلى الجنس يميل

4. محمد بن إسحاق بن خزيمة. ولد عام 311ه_. وقد ألّف «التوحيد وإثبات صفات الرب»،

وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الأخيرة. وقد اهتمت به الحنابلة، وخصوصاً الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق وسيع. وسيوافيك بعض أحاديثه.

5. عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، (ولد عام 213، وتوفّي عام 290، يروي أحاديث أبيه (الإمام أحمد بن حنبل). وكتابه «السنّة» المطبوع لأوّل مرة بالمطبعة السلفية ومكتبتهاعام 1349ه_، مشحون بروايات التجسيم والتشبيه، يروي فيه ضحك الرب، وتكلّمه، وأصبعه، ويده، ورجله، وذراعيه، وصدره، وغير ذلك ممّا سيمر عليك بعضه.

وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالإسرائيليات والمسيحيات جرّت الويل على الأُمّة وخدع بها المغفلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنون أنّهم يحسنون صنعاً.

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:2/250_ 251.

2 . ميزان الاعتدال:1/132.

3 . سير أعلام النبلاء:14/396.

( 133 )

ولأجل أن يقف القارئ على بعض ما في هذه الكتب من الأحاديث المزورة التي تخالف الذكر الحكيم وتناقض العقل والفطرة، نأتي بنماذج مما ورد في الكتابين التاليين:

1.« السنّة» لأحمد بن حنبل الذي رواه عنه ابنه عبداللّه.

2. التوحيد لابن خزيمة.

وهؤلاء وإن كانوا يتلون قوله سبحانه:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء) ولكنّهم يروون أحاديث تثبت للربّ سبحانه آلاف الأمثال و الأشباه.

نعم، يقول ابن خزيمة: إنّا نثبت للّه ما أثبته اللّه لنفسه ونقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد المخلوقين، وعز ربّنا عن أن نشبهه بالمخلوقين.(1)

لكن هذه ا لعبارة اتخذها واجهة لتبرير نقل الروايات الصريحة في التجسيم والجهة، ولا تتحمل تلك الروايات هذا التأويل الذي لهج به ابن خزيمة وأبناء جلدته.

و هذا كتاب السنة لإمام الحنابلة وقد رواه عنه ابنه تجد فيه أحاديث تعرب عن أنّ للّه سبحانه ضحكاً وأصبعاً ويداً وذراعين ووجهاً، التي يتبادر منها البدع اليهودية والمسيحية.

و ما نذكره هنا إنّما هو نماذج ممّا ورد في الكتابين المذكورين، والسابر

فيهما يجد أضعاف أمثاله، وأكثر هذه الأحاديث قد أخرجت في الصحاح والسنن.

إنّ كتاب «التوحيد» لابن خزيمة قد وقع مورد القبول عند أهل الحديث والحنابلة، كيف، وقد جمع الأحاديث من هنا وهناك وحشاها في كتابه من غير فحص ولا تنقيب، وهذه كانت المنية الكبرى للحنابلة في تلك العصور. ولأجل ذلك صار الكتاب يقرأ على العلماء والفضلاء حتى يتخذوه ميزاناً لتمييز الحقّ عن الباطل، ولا يتخلف أحد عن الاعتراف بما جاء فيه.

____________________________

1 . التوحيد لابن خزيمة: 11.

( 134 )

قال ابن كثير في حوادث سنة 460ه_: وفي يوم النصف من جمادى الآخرة قرأ«الاعتقاد القادري» الذي فيه مذهب أهل السنّة و الإنكار على أهل البدع. وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدّث كتاب «التوحيد»لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين، وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام،واعترفوا بالموافقة.(1)

هذا، وبمرور الزمن وعلى أثر تفتح العقول أفلت شمس كتاب التوحيد وشطب المفكّرون من الأشاعرة على ما فيه.

يقول الرازي في هذا الصدد عند تفسير قوله سبحانه (ليس كمثله شيء) : «واعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه ب_«التوحيد» وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها. وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل.(2)

هذا، ولو أنّ الرازي وقف على ما في تعاليم الأشاعرة من الجبر الملتوي في مقابل الجبر الصريح كما سيبين، والتجسيم والتشبيه الخفيين، لما اتخذ المذهب الأشعري _ الذي هو أحد وجهي العملةوالوجه الآخر هو عقيدة أهل الحديث _ لنفسه شعاراً، ولما حماهم بحماس.

يقول الدكتور أحمد أمين: وفي رأيي لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي

وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر،وقعد بهم التواكل.(3)

والصحيح أن يقال: لو سادتهم الحرية في البحث والاستماع واتّباع الأحسن لكان موقفهم غير هذا.

____________________________

1 . البداية والنهاية:12/96.

2 . تفسير الإمام الرازي:27/150.

3 . ضحى الإسلام:3/70.

( 135 )

في أنّ اللّه يضحك

1. روى ابن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى ابن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمّه أبي رزين قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : ضحك ربّنا من قنوط عباده وقرب غيره قال: قلت: يا رسول اللّه أو يضحك الرب؟ قال: نعم. قلت: لن نعدم من ربّ يضحك خيراً.(1)

رواه ابن خزيمة لكن بدل قوله نعم، قال: إي والذي نفسي بيده إنّه ليضحك.(2)

2. روى عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن أبي معمر، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : ضحك ربّنا من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثمّ يصيران إلى الجنة.(3)

ورواه ابن خزيمة بأسانيد مختلفة.(4)

3. وجاء في خبر طويل رواه عن إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني أبو أحمد قال: أملاه علينا إملاء في دار كعب: قال حدّثني محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحمن خالد بن أبي يزيد، حدّثني زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد اللّه، عن مسروق بن الأجدع، حدثنا عبد اللّه بن مسعود، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: ... فيقول اللّه له _ أي لمن أدخله الجنة ثمّ لم يزل يطلب منزلة أرفع من أُخرى _ : لن ترضى أن أعطيك مثل الدنيا مذ يوم خلقتها إلى

يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقول: أتستهزئ بي وأنت ربّ العالمين؟!

____________________________

1 . السنّة لعبد اللّه بن حنبل:54.

2 . التوحيد وإثبات صفات الرب:235.

3 . السنّة:166.

4 . التوحيد:234.

( 136 )

قال: فضحك الرب من قوله. قال: فرأيت ابن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدّث هذا الحديث مراراً كلّما بلغت هذا المكان من هذا الحديث ضحكت. فقال ابن مسعود: إنّي سمعت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يحدث بهذا الحديث مراراً، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو آخر أضراسه. الحديث.(1)

ورواه ابن خزيمة عن ابن مسعود(2) وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

4. وروى ابن خزيمة بأسانيد متعددة عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «يتجلّى لنا ربّنا عزّ وجلّ يوم القيامة ضاحكاً».(3)

قال ابن خزيمة في«باب ذكر إثبات ضحك ربّنا عزّ وجلّ»: بلا صفة تصف ضحكه _ جلّ ثناؤه _ لا ولا يشبه ضحكه بضحك المخلوقين وضحكهم كذلك. بل نؤمن بأنّه يضحك كما أعلم النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ونسكت عن صفة ضحكه جلّ وعلا، إذ اللّه عزّوجلّ استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ مصدقون بذلك بقلوبنا، منصتون عمّا لم يبيّن لنا، ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه.(4)

وقد عرفت ما في تأويله من الوهن وأنّ هذه الأحاديث لو صحت لوجب حملها على ظواهرها من الضحك الملازم لبدو الأسنان والفم، والقول بأنّه يضحك ولا نعلم حقيقته، تأويل سخيف، بل الأمر دائر بين القبول تماماً أو الردّ كذلك.

____________________________

1 . السنّة:206_ 208.

2 . التوحيد:231.

3 . التوحيد:236.

4 . التوحيد:230_

231.

( 137 )

في أنّ للّه يداً

1. قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: قرأت على أبي إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدّثني أبي، عن عكرمة قال: إنّ اللّه لم يمس بيده شيئاً إلاّثلاثاً:خلق آدم بيده،وغرس الجنة بيده، وكتب التوراة بيده.(1)

2. وقال: قرأت على أبي، حدّثنا إسحاق بن سليمان، حدّثنا أبو الجنيد _ شيخ كان عندنا _ عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: أنّهم يقولون إنّ الألواح من ياقوتة لا أدري قال حمراء أو لا ؟وأنا أقول: سعيد بن جبير يقول: إنّها كانت من زمردة وكتابتها الذهب، وكتبها الرحمن بيده، ويسمع أهل السماوات صرير القلم.(2)

3. وقال: حدّثني أبي، حدّثنا يزيد بن هارون، أنا الجرير، عن أبي عطاف قال: كتب اللّه التوراة لموسى بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في الألواح من در، يسمع صريف القلم، ليس بينه و بينه إلاّ الحجاب.(3)

4. وقد أفرد ابن خزيمة لإثبات اليد للّه صفحات كثيرة وممّا رواه عن أبي هريرة، عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: لمّا خلق اللّه الخلق كتب كتاباً وجعله تحت العرش: إنّ رحمتي تغلب غضبي.(4)

5. ومنها عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال:«إنّ اللّه يفتح أبواب السماء في ثلث الليل فيبسط يديه فيقول: ألا عبد يسألني فأعطه».(5)

6. ومنها: عن أبي هريرة، عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ما تصدّق أحد بصدقة من طيب _ و لا يقبل اللّه إلاّالطيب _ إلاّ أخذها اللّه

____________________________

1 . السنّة:209.

2 . السنّة:76.

3 . السنّة:76.

4 . التوحيد:58.

5 . التوحيد:58، وروى ابن خزيمة أحاديث كثيرة جداً في نزول اللّه إلى السماء الدنيا كل ليلة: 125_ 136 ووصفها

بأنّها أخبار ثابتة السند صحيحة القوام.

( 138 )

بيمينه، وإن كانت مثل تمرة، فتربو له من كف الرحمن».الحديث.(1)

في أنّ للّه عينين

استدلّ ابن خزيمة بما ورد من أنّ اللّه بصير، على أنّ له عينين، قال: نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما من صغير وكبير... إلى أن قال: كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه. وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنّهم إنّما يرون ما قرب من أبصارهم ممّا لا حجب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم... واستطرد في ذكر نواقص عيون بني آدم ثمّ قال: فما الذي يشبه _ يا ذوي الحجا _ عين اللّه الموصوفة بما ذكرنا، عيون بني آدم التي وصفناها بعد.(2)

في أنّ للّه أصبعاً

1. روى عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد اللّه، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : إنّ اللّه يمسك السماوات على أصبع. قال أبي: وجعل يحيى يشير بأصابعه، وأراني كيف جعل يحيى يشير بأصابعه يضع أصبعاً أصبعاً حتى أتى على آخرها.(3)

2. أمّا حديث سفيان المشار إليه فهو ما رواه بإسناده عن عبد اللّه: أنّ يهودياً أتى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقال: يا محمّد إنّ اللّه يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والثرى على أصبع والجبال على أصبع والخلائق على أصبع ثمّ يقول: أنّا الملك. فضحك رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حتى بدت نواجذه. ثمّ قال: «وما قدروا اللّه حقّ قدره».

____________________________

1 . التوحيد: 61.

2 .

التوحيد: 50_ 51.

3 . السنّة: 63.

( 139 )

ثمّ أضاف عبد اللّه بن أحمد: قال أبي، قال يحيى، قال فضيل بن عياض، فضحك رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ تعجباً وتصديقاً له.

وروي هذا الخبر وما في معناه بأسانيد مختلفة عن ابن مسعود تارة، وعن ابن عباس أُخرى.(1)

3. وقال حدّثني أحمد بن إبراهيم سمعت وكيعاً يقول: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف كذا، ولا لم كذا، يعني مثل حديث ابن مسعود«إنّ اللّه يحمل السماوات على أصبع والجبال على أصبع وحديث أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» ونحوها من الأحاديث.(2)

وأورد أخباراً مفادها أنّ اللّه تعالى حيث تجلّى للجبل فجعله دكاً إنّما تجلّى بأصبعه، ضربه على رأس الجبل فاندك.

4. منها: حدّثني محمد بن أبي بكر المقدمي، حدّثنا هريم، حدّثنا محمد بن سواء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «فلمّا تجلّى ربّه للجبل» قال هكذا،وأشار بطرف الخنصر يحكيه.(3)

5. ومنها ما ذكره ابن خزيمة قال: حدّثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال حدّثنا حماد بن سلمة، قال: حدّثنا ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «لمّا تجلّى ربّه للجبل» رفع خنصره وقبض على مفصل منها، فانساخ الجبل، فقال له حميد:أتحدّث بهذا؟! فقال: حدّثنا أنس عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وتقول: لا تحدّث به؟(4)

____________________________

1 . السنّة: 62_ 64.

2 . السنّة: 64.

3 . السنّة: 65.

4 . التوحيد: 113.

( 140 )

في أنّ للّه كلاماً وصوتاً

1. قال عبد اللّه بن أحمد، حدّثني أبو معمر،

حدّثنا جرير، عن الأعمش، قال: وحدّثنا ابن نمير وأبو معاوية كلّهم عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد اللّه قال: إذا تكلم اللّه بالوحي، سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة الحديدة على الصفا .(1)

وأخرج ابن خزيمة أخباراً كثيرة في ذلك.(2)

في أنّ للّه ذراعين وصدراً

1. قال عبد اللّه بن أحمد، حدّثني سريج بن يونس، حدّثنا سليمان بن حيان أبوخالد الأحمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرو قال: ليس شيء أكثر من الملائكة، إنّ اللّه خلق الملائكة من نور، فذكره وأشار سريج بيده إلى صدره، قال: وأشار خالد إلى صدره فيقول: كن ألف ألف ألفين فيكونون.(3)

2. وقال:حدّثني أبي، حدّثنا أبو أُسامة حماد بن أُسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرو قال: خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر.(4)

3. وقال:حدّثنيه أبو خيثمة زهر بن حرب، حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، حدّثنا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: إن غلظ جلد الكافر اثنان وسبعون ذراعاً بذراع الجبار وضرسه مثل ذلك.(5)

____________________________

1 . السنّة: 71.

2 . التوحيد: 145_ 147.

3 . السنّة: 190.

4 . السنّة: 190.

5 . السنّة: 190.

( 141 )

في أنّ للّه نفساً

1. قال عبد اللّه بن أحمد، حدّثني أبو معمر، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن بزي، عن أبيه، عن أُبي بن كعب قال: لا تسبوا الريح فإنّها من نفس الرحمن.(1)

في أنّ للّه رجلاً

1. قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني عبيد اللّه بن عمر القواريري، حدّثني حرمى بن عمارة، حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك

قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول قط قط».(2)

وبهذا فسروا آية (رَبّنا عَجِّل لَنا قِطَّنا قَبلَ يومِ الحِسَابِ) .(3)

وأخرج ابن خزيمة نحوه، عن أبي هريرة.(4)

2. وروى ابن خزيمة، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «وأمّا النار فلا تمتلئ حتى يضع اللّه رجله فيها فتقول قط قط، فهنالك تمتلئ». الحديث.

وهو حديث اختصام الجنة والنار، وأشار إلى أنّه مستفيض(5) والأخبار في وضع اللّه رجله في النار كثيرة جدّاً.

3. روى عبد اللّه بن أحمد في حديث طويل تقدّمت الإشارة إليه في مسألة الضحك، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «فيتمثل الرب

____________________________

1 . السنّة: 190.

2 . السنّة: 184.

3 . ص:16.

4 . التوحيد:92.

5 . التوحيد:93_ 95.

( 142 )

فيأتيهم، فيقول لهم ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إنّ لنا إلهاً(ما رأيناه) فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه، فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه، قال: فعند ذاك يكشف اللّه عن ساقه. قال: فيخر كلّ من كان نظره، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يدعون إلى السجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون».(1)

وأمّا موضع الرجلين فقد استفاضت الأخبار في أنّه على الكرسي.

4. فمن ذلك ما رواه عبد اللّه بن أحمد، بإسناده عن عمر قال: إذا جلس على الكرسي سمع له أطيط(2) كأطيط الرحل الجديد.(3)

5. وبإسناده إلى ابن عباس قال: الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر أحد قدره.(4)

6. وقال: كتب إلى عباس بن عبد العظيم، حدّثنا أبو أحمد الزبيري، حدّثنا إسرائيل، عن

ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن خليفة قال: جاءت امرأة إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقالت: ادع اللّه أن يدخلني الجنة، قال: فعظم الرب وقال وسع كرسيه السماوات والأرض. إنّه ليقعد عليه فما يفضل منه إلاّقيد أربع أصابع، وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل إذ ركب.(5)

ورواه ابن خزيمة بزيادة«من ثقله» في آخره.(6) وقال المعلّق في ذلك الحديث: «مسألة أطيط العرش به سبحانه كأطيط الرحل وردت في عدة أحاديث، فمن العلماء من ينكر ذلك ويقول: إنّ الأطيط صفة للعرش لا مدخل له في الصفات، كالحافظ الذهبي والحق الذي يجب اتّباعه في ذلك أن نؤمن بما

____________________________

1 . السنّة: 206.

2 . أي ليصوت باللّه كصوت الرحل _ و هو كور الناقة _ بالراكب الثقيل.

3 . السنّة: 79.

4 . السنّة: 79.

5 . السنّة: 80.

6 . التوحيد: 106.

( 143 )

ورد به النص من غير تشبيه ولا تكييف، وأن نعتقد أنّ ربّنا ليس محمولاً على العرش ولا محتاجاً إليه بل العرش وما تحته كلّه محمول بقدرته.(1)

وذكر في الكتابين أنّ العرش حملته أربعة ملائكة أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد.(2)

وعلّق عليه في الحاشية بأنّ هذا لم يرد في حديث صحيح، ولعلّ الراوي أخذه من كعب الأحبار أو غيره من مسلمة أهل الكتاب.(3)

و مع ذلك ورد في الكتابين وأخرجه ابن حنبل في مسنده(4) بالإسناد إلى عكرمة مولى ابن عباس: أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنشد قول أُمية بن أبي الصلت الثقفي:

رجل وث_ور تح_ت رج_ل يمين_ه * والنسر للأُخرى وليث مرصد(5)

ورواه في كتاب السنّة(6) بزيادة: فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :

صدق صدق.

في أنّ للّه وجهاً

1. روى عبد اللّه بن أحمد: حدّثني أبي، حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا ابن عجلان، حدّثني سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :

____________________________

1 . التوحيد: 106، لاحظ التناقض في كلامه، ولاحظ أنّ الأخبار تارة فصلت بين العرش والكرسي فجعلته جالساً على العرش واضعاً قدميه على الكرسي، وأُخرى جعلت جلوسه على الكرسي.

2 . السنّة: 161; التوحيد: 92.

3 . التوحيد: 92.

4 . مسند أحمد:1/256.

5 . التوحيد: 90 مع أبيات أُخر. قالوا: إنّ أُميّة تنصّر في الجاهلية هو وورقة بن نوفل وكان ينشد الأشعار في تمجيد اللّه، ونسبوا إلى الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال في حقّه: آمن شعره وكفر قلبه.

6 . السنّة: 187.

( 144 )

إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل قبح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته.(1)

2. وقال حدّثني أبو معمر، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «لا تقبحوا الوجه، فإنّ اللّه خلق آدم على صورة الرحمن».(2)

3. نقل ابن خزيمة أخباراً كثيرة في ذلك(3)، ثمّ قال: هذا باب طويل لو استخرج في هذا الكتاب أخبار النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ التي فيها ذكر وجه ربّنا عزّوجلّ لطال الكتاب، وقد خرجنا كلّ صنف من هذه الأخبار في مواضعها في كتب مصنّفة(4) ثمّ استطرد في كلام طويل محاولاً من جهة إثبات ما تقدّم للّه تعالى ومن جهة أُخرى نفي التشبيه.(5)

في أنّ اللّه يُرى

لقد تضافرت الأخبار في الكتابين على أنّ اللّه يُرى يوم

القيامة كالبدر المنير. وأنّه تعالى لا يُرى في الدنيا، غير أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ رآه عندما عرج به إلى السماء(6)، ونحن نكتفي بهذين الخبرين.

1. روى ابن خزيمة، عن معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد اللّه بن عباس: أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: يا

____________________________

1 . السنّة : 169 ورواه أيضاً بسند آخر في ص 64.

2 . السنّة: 64.

3 . التوحيد: 10_ 18.

4 . التوحيد: 18.

5 . التوحيد: 21_ 24.

6 . راجع التوحيد: 167_ 230.

( 145 )

رب لا أدري. قال: فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما بين المشرق والمغرب». الحديث(1). وقد رواه بأسانيد وطرق مختلفة.

2. وقال: حدّثنا محمد بن عيسى، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، قال; حدّثني محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحرث بن عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد اللّه بن أبي سلمة، أنّ عبد اللّه بن عمر بن الخطاب بعث إلى عبد اللّه بن عباس يسأله: هل رأى محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ربّه؟ فأرسل إليه عبد اللّه بن عباس أن نعم. فرد عليه عبد اللّه بن عمر رسوله أن كيف رآه؟ قال: فأرسل أنّه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة: ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، وملك في صورة أسد.(2)

ونختم المقال بما ذكره ابن خزيمة قال: إنّا لا

نصف معبودنا إلاّبما وصف به نفسه، إمّا في كتاب اللّه أو على لسان نبيه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بنقل العدل موصولاً إليه، لا نحتج بالمراسيل ولا بالأخبار الواهية ولا نحتج أيضاً في صفات معبودنا بالآراء والمقاييس.(3)

في الجبر والقدر

روى عبد اللّه بن أحمد، عن أبيه أحمد بن حنبل، في كتاب «السنّة» الروايات التالية:

1. روى عبد اللّه بن أحمد قال: حدّثني أبي، حدّثنا زيد بن يحيى الدمشقي، حدّثنا خالد بن صبيح المري، حدّثنا إسماعيل بن عبيد اللّه أنّه سمع أُم الدرداء تحدّث عن أبي الدرداء، أنّه قال: سمعت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يقول: «فرغ اللّه إلى كلّ عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره،

____________________________

1 . التوحيد: 217.

2 . التوحيد: 198.

3 . التوحيد: 59.

( 146 )

وشقي أم سعيد».(1)

2. حدّثني أبي، حدّثنا هشيم، حدّثنا علي بن زيد، سمعت أبا عبيدة بن عبد اللّه يحدّث قال: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً على حالها لا تغير، فإذا مضت الأربعون صار علقة ومضغة كذلك، ثمّ عظاماً كذلك، فإذا أراد اللّه أن يسوي خلقه بعث إليها ملكاً فيقول الملك الذي يليه: أي رب أذكر أم أُنثى؟، أشقي أم سعيد؟ قصير أم طويل؟ أناقص أم زائد، قوته وأجله؟، أصحيح أم سقيم؟، قال: فيكتب ذلك كلّه. فقال رجل من القوم: فيم العمل إذاً وقد فرغ من هذا كلّه؟ فقال: اعملوا فكلّ سيؤخذ لما خلق له».(2)

3. حدّثني أبي، حدّثنا بهز بن أسد، حدّثنا بشر بن المفضل، حدّثنا داود، عن أبي نضرة، عن أسير بن جابر، قال: طلبت علياً في منزله فلم أجده، فنظرت

فإذا هو في ناحية المسجد. قال: فقلت له: كأنّه خوفه قال: فقال: إيه ليس أحد إلاّ ومعه ملك يدفع عنه ما لم ينزل القدر فإذا نزل القدر لم يغن شيئاً.(3)

4. حدّثني أبي، حدّثنا معاذ بن معاذ، حدّثنا ابن عون، قال: حدّث رجل محمّداً عن رجلين اختصما في القدر فقال أحدهما لصاحبه: أرأيت الزنى بقدر هو؟ قال الآخر: نعم، قال محمد: آي وافق رجل حياً.(4)

5. حدّثني أبي، قال عبد اللّه بن الحارث المخزومي، حدّثنا شبل بن عباد _ مولى لعبد اللّه بن عامر _ ، عن ابن نجيح، عن مجاهد قول اللّه: (إِنّي

____________________________

1 . السنّة: 125.

2 . السنّة: 126.

3 . السنّة: 132.

4 . السنّة: 134_ 135.

( 147 )

أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون) (1) قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.(2)

6.حدّثني أبي، حدّثنا عصام بن خالد الحضرمي، حدّثنا العطاف بن خلد، عن شيخ من أهل البصرة، حدّثني طلحة بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، حدّثني أبي، عن جدّي أنّه قال لرسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : يا رسول اللّه: العمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟ قال: بل على أمر قد فرغ منه. قال: قلت: يا رسول اللّه ففيم العمل؟ قال: «إنّ كلاً ميسر لما خلق له».(3)

7. حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ ويُثبِت)(4) قال: إلاّ الشقاء والسعادة والحياة والموت.(5)

8. حدّثني أبي، حدّثنا إسحاق بن عيسى، أخبرني مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس اليماني، قال: «أدركت ناساً من أصحاب النبي _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ يقولون كلّ شيء بقدر، قال: وسمعت عبد اللّه بن عمر يقول: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس».(6)

9. حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن سعيد بن حيّان، عن يحيى بن يعمر، قال: «قلت لابن عمر: إنّ ناساً عندنا يقولون: الخير والشر بقدر، وناس عندنا يقولون: الخير بقدر والشر ليس بقدر. فقال ابن عمر: إذا رجعت إليهم فقل لهم: إنّ ابن عمر يقول إنّه منكم بريء وأنتم منه براء.(7)

____________________________

1 . البقرة:30.

2 . السنّة:134_ 135.

3 . السنّة:134_ 135.

4 . الرعد:39.

5 . السنّة:134_ 135.

6 . السنّة: 139.

7 . السنّة: 141.

( 148 )

10. حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان، عن عمرو ابن محمد، قال: كنت عند سالم بن عبد اللّه فجاءه رجل فقال: الزنى بقدر؟ فقال: نعم. قال: كتبه علي؟! قال: نعم، قال: كتبه علي؟ قال: نعم .ويعذبني عليه؟ قال: فأخذ له الحصا.(1)

11. حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان كان من الخطايا التي قدر اللّه عليك، وقدر أن تبتلى بها.(2)

12. حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا العلاء بن عبد الكريم سمعت مجاهداً يقول:(لَهُمْ أَعمال مِنْ دُون ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) قال: أعمال لابدّ لهم من أن يعملوها.(3)

13. حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، وابن بشر قالا: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد،عن أبي صالح:(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِن اللّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئة فَمِنْ نَفْسِك) (4) وأنا قدرتها عليك.(5)

14. حدّثني أبي، حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا حماد، حدّثنا حميد، قال قدم الحسن مكة، فقال لي

فقهاء مكة: الحسن بن مسلم وعبد اللّه بن عبيد لو كلمت الحسن فأخلأنا يوماً، فكلّمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوماً فجاءوا فاجتمعوا وتكلّم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئاً إلاّ في مسألة. فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان اللّه، سبحان اللّه، وهل من خالق غير اللّه! ثمّ قال: إنّ اللّه خلق الشيطان وخلق الشر وخلق الخير، فقال

____________________________

1 . السنّة:143.

2 . السنّة: 143_ 144.

3 . السنّة: 143_ 144.

4 . النساء:79.

5 . السنّة: 144.

( 149 )

رجل منهم: قاتلهم اللّه يكذبون على الشيخ.(1)

15. حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيل _ يعني ابن علية _ ، حدّثنا خالد الحذّاء قال: قلت للحسن: أرأيت آدم، أللجنة خلق أم للأرض؟ قال: للأرض. قال: قلت: أرأيت لو اعتصم؟ قال: لم يكن بدّمن أن يأتي على الخطيئة.(2)

التدرّع باللا كيفية

إنّ دلالة الأحاديث المتقدّمة على التشبيه والتجسيم ممّا لا كلام فيه غير أنّ جماعة منهم _ لأجل الفرار عنهما _ يتدرعون بلفظة «بلا كيف ولا تشبيه» أو غيرهما من العبارات المشابهة. فيقولون تارة: إنّ للّه يداً ورجلاً ووجهاً وقدماً بلا كيف ولا تشبيه، وأُخرى: إنّ للّه يداً لا كالأيدي، ووجهاً لا كالوجوه، وقدماً لا كالأقدام، وثالثة: إنّ له يداً تناسب ذاته وهكذا سائر الأعضاء.

يقول الإمام الخطابي:وليست اليد عندنا الجارحة وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاء ولا نكيّفها وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة.(3)

ويقول ابن عبد البر: أهل السنّة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة ولم يكيفوا شيئاً فيها.(4)

إلى غير

ذلك من الكلمات التي اتخذتها الأشاعرة وقبلهم بعض الحنابلة درعاً يتقون به عار التشبيه والتمثيل. وسيوافيك عند البحث عن عقائد الأشاعرة أنّ هذه الألفاظ لا تفيد شيئاً، وإليك إجمال ذلك:

____________________________

1 . السنّة: 144.

2 . السنّة: 145.

3 . فتح الباري:13/417.

4 . فتح الباري:13/407.

( 150 )

أوّلاً: إذا كان المصدر للاعتقاد بأنّ للّه سبحانه أعضاء هي هذه الأحاديث _ أو بعض الآيات على ما زعموا _ فليس فيها شيء يدل على هذه الكلمة: «بلا كيف»، بل هي إضافة منهم بلا دليل. فليس لأهل الحديث الذين يفرون من التأويل، وحتى يسمّون الحمل على المجاز والكناية تأويلاً ، إلاّ الأخذ بحرفية هذه الأحاديث بتمامها، لا التصرف فيها.

وثانياً: إنّ اليد وأضرابها، موضوعة حسب اللغة للأعضاء المحسوسة التي يعرفها كلّ من عرف اللغة، فإجراء هذه الصفات عليه سبحانه يمكن بإحدى صورتين:

1. أن يجري عليه بما هو المتبادر عند أهل اللغة بلا تصرف فيه. وهذا ما عليه المشبّهة والمجسّمة.

2. أن يجري عليه بما أنّها كناية عن معان كالبخل في قول اليهود (يَدُ اللّهِ مَغْلُولة) (1)والإحسان والجود في قوله سبحانه: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان) (2) وهذا ما عليه أهل التنزيه، وليس ذلك تأويلاً للقرآن أبداً ولا اتّباعاً لخلاف الظاهر، إذ لهذه الألفاظ عند الإفراد ظهور تصوّري ويراد منها الأعضاء، وعند التركيب مع سائرها والوقوع في طي الجمل ظهور آخر، فربما يتّحد الظهوران، مثل قولك لولدك:اغسل يدك قبل الغذاء. وربما يختلفان كما في الجملتين المتقدّمتين، وليس هنا وجه ثالث حتى يتدرّع به أهل الحديث والحنابلة، دعاة التنزيه لفظاً لا معنى. وما يتفوّه به هؤلاء من أنّ للّه يداً لا كالأيدي، فإن رجع إلى أحد هذين المعنيين فنعم الوفاق إمّا مع أهل التشبيه أو مع أهل التنزيه،

وإلاّفيكون أشبه بلقلقة اللسان.

وباختصار: إنّ القائل بأنّ له يداً لا يخلو في إجراءاللفظ عليه سبحانه أن يريد أحد وجهين: إمّا أن يريد المعنى الحقيقي وهو العضو المحسوس فيكون مجسّماً ومشبّهاً، أو يريد المعنى المجازي وهو البخل أو الجود فيكون مؤوّلاً، وهو

____________________________

1 . المائدة:64.

2 . المائدة:64.

( 151 )

يتحرز عن كلتا الطائفتين، فليس هنا وجه ثالث يلتجئ إليه أهل الحديث والحنابلة والأشاعرة.

فظهر أنّ قولهم بأنّ للّه يداً كالأيدي، لا مفاد صحيح له.

وبعبارة ثالثة: إنّ لفظة اليد إمّا مشترك معنوي يطلق على جميع مصاديقه وأفراده من الواجب والممكن بوضع ومعنى واحد. أو مشترك لفظي يجري على كلّ من الواجب والممكن بمعنى ووضع خاص.

فعلى الأوّل يجب أن يكون بين يد الإنسان ويد الواجب وجه مشترك وهو عين القول بالتشبيه.

وعلى الثاني يجب أن يكون المعنى الذي يجري على الإنسان مبائناً لما يجري على اللّه سبحانه فهل هو البخل والجود؟ فهذا هو التأويل بزعمكم، أو غيرهما فبيّنوه لنا ما هو؟

الصحاح والمسانيد ومسألة التشبيه والتجسيم

ربما يتصوّر القارئ أنّ أمثال كتاب «السنّة» لابن حنبل وكتاب «التوحيد» لابن خزيمة، تشتمل على أحاديث التشبيه والتجسيم، وأمّا الصحاح فهي خالية عن هذه الأساطير. ولكنّه إذا سبرها سرعان ما يرجع عن هذه الفكرة ويرى أنّ الصحاح كلّها وعلى رأسها الصحيحان قد زخرت بها، حتّى مع غض النظر عن رؤية اللّه بهذه العيون المادية على ما رووا عن رسول اللّه من أنّه قال: «إنّكم ترون ربّكم عياناً كما ترون هذا القمر» فالصحاح أيضاً تزخر بأحاديث التشبيه والتجسيم والجبر وما أشبه ذلك التي ورثها الرواة المسلمون من اليهود المجسمة والمجبرة... وإليك نماذج من ذلك:

1. إنّ للّه مكاناً

قد احتل تحيّزاللّه سبحانه بمكان معين في الصحاح مكانة عظيمة فتارة ترى أنّ

مكانه حيال المصلّي وأمام وجهه، وأُخرى بأنّه فوق العرش وهو يئط

( 152 )

تحته أطيط الرحل بالراكب، وثالثة بين السحب الكثيفة، وإليك بعض ما روي في ذلك المجال:

1. روى عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه بيده ثمّ أقبل على الناس فقال: «إذا كان أحدكم يصلي لا يبصق قبل وجهه فإنّ اللّه قبل وجهه إذا صلّى».(1)

2. روى جبير بن محمد عن جدّه قال: أتى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أعرابي فقال: يا رسول اللّه جهدت الأنفس، وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق اللّه لنا، فإنّا نستشفع بك على اللّه ونستشفع باللّه عليك.

قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فمازال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثمّ قال: ويحك إنّه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما اللّه: إنّ عرشه على سماواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنّه ليئط به أطيط الرحل بالراكب.

قال ابن بشار: إنّ اللّه فوق عرشه وعرشه فوق سماواته.(2)

3. روى أبو رزين قال: قلت: يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: «كان في عماء، ما تحته هواء و ما فوقه هواء و ماء ثمّ خلق عرشه على الماء».(3)

قال ابن منظور: العماء(ممدودة): السحاب المرتفع وقيل الكثيف. قال أبو زيد هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال وقال ابن سيده: العماء: الغيم الكثيف الممطر.

____________________________

1 . صحيح البخاري:1، كتا ب الصلاة باب «حك البزاق باليد في المسجد» ولاحظ أيضاً كتاب الصلاة باب «هل يلتفت لأمر

ينزل» و صحيح مسلم:2، باب «النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة».

2 . سنن أبي داود:4/232، رقم الحديث4726، باب في الجهمية.

3 . سنن ابن ماجة:1/78، باب فيما أنكرت الجهمية.

( 153 )

وعلى هذه الأحاديث نسجت عقيدة أهل الحديث والسلفية، وقال ابن تيمية محيي طريقتهم في القرن الثامن بعد اندراسها:

إنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه.(1)

إنّ هذه الروايات ونظائرها التي اكتفينا بالقليل منها أوجدت حجاباً غليظاً أمام الحقائق، فلم يقدر أحد حتى المتحرّرون من أهل السنّة كالشيخ محمّد عبده وأتباع منهجه وتلامذة مدرسته على رفض تلك النصوص المخالفة للعقل الذي به عرف سبحانه وصدق نبيّه وإعجاز كتابه. حتى التجأ الإمام أحمد _ لأجل هذه الأحاديث _ إلى تأويل الآيات الدالّة على كونه سبحانه محيطاً بالعالم كلّه، أعني قوله سبحانه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (2) وقال: إنّ المراد هو إحاطة علمه سبحانه لا معيته وجوداً.(3)

نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا

لم يقتنع أصحاب الحديث بما وصفوا به سبحانه من نسبة التحيز والمكان إليه حتى أثبتوا له الهبوط إلى السماء الدنيا. روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟».(4)

بل لم يقتنعوا بهذا وأثبتوا له الضحك. وهذا البخاري روى في حديث: فلمّا أصبح غدا إلى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقال: ضحك اللّه الليلة أو عجب من فعالكما.(5)

____________________________

1 . مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية، والعقيدة الواسطية ص 401.

2 . الحديد:4.

3 . السنّة: 36 .

4 . صحيح البخاري:2/53 با ب«الدعاء والصلاة من آخر الليل».

5 . صحيح البخاري:5/34 باب (وَيؤثرون على أنفسهم

ولو كان بهم خصاصة) من كتاب مناقب الأنصار.

( 154 )

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «يضحك اللّه لرجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة». قالوا: كيف يا رسول اللّه؟ قال: «يقتل هذا فيلج الجنة ثمّ يتوب اللّه على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثمّ يجاهد في سبيل اللّه فيستشهد».(1)

له سبحانه أعضاء، كأعضاء الإنسان

وذهب أصحاب الصحاح في المجال إلى أكثر من ذلك ولم يقفوا عند ما ذكرناه من الصفات حتى أخذوا يصوّرونه كإنسان له أعضاء كالوجه واليد والأصابع والحقو، والساق والقدم، والقلم يخجل من نشر هذه الأساطير التي أدرجت _ مع الأسف _ باسم الحديث عن النبي الخاتم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في الكتب وزخرت بها الصحاح، ونسجت على منوالها العقائد والأُصول، وعدّ من خالفها مرتداً كافراً يضرب عنقه وتقسم أمواله على الورثة.

ولأجل إيقاف القارئ على صدق ما ادّعيناه في حقّ أصحاب الصحاح نأتي من كلّ مورد بنموذج أو نموذجين:

1. الوجه

عن أبي هريرة، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «خلق اللّه آدم على صورته طوله ستون ذراعاً...».(2)

عن أبي هريرة عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإنّ اللّه خلق آدم على صورته».(3)

وقد أخذه أبو هريرة عن الأحبار و على رأسهم كعب الأحبار أُستاذه في

____________________________

1 . صحيح مسلم:6/40، باب «بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة» من كتاب الإمارة.

2 . صحيح البخاري:8/50 كتاب الاستئذان باب «بدو السلام».

3 . صحيح مسلم:8/32 باب «النهي عن ضرب الوجه» من كتاب البر والصلة والآداب.

( 155 )

الأساطير والقصص. فهذه هي التوراة قد جاء فيها في

الإصحاح الخامس من سفر التكوين: لما خلق اللّه آدم، خلقه على صورة اللّه.

وكان على أبي هريرة أن يبيّن عرض وجه آدم بعد أن بين أنّ طوله كان ستين ذراعاً، واللّه يعلم طول وجهه وعرضه وهو القائل (لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم) .(1)

2. له سبحانه يدان

روى أبوهريرة عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال:«إنّ يمين اللّه ملأى لاتغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنّه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء وبيده الأُخرى الفيض أو القبض، يرفع ويخفض».(2)

3. له سبحانه أصابع

روي عن عبد اللّه قال:جاء حبر من الأحبار إلى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقال: يا محمد إنّ اللّه يجعل السماوات على أصبع والأرضين على اصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك. فضحك النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثمّ قرأ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : (وَمَا قَدَروا اللّهَ حقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَميعاً قَبضتُهُ يَومَ القِيامَةِ وَالسَّمواتُ مَطوياتٌ بيمينهِ سُبحانهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُون).(3)

4. له سبحانه حقو(4)!

عن أبي هريرة، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «خلق اللّه الخلق

____________________________

1 . التين:4.

2 . صحيح البخاري:9/124، باب «وكان عرشه على الماء» من كتاب التوحيد.

3 . صحيح البخاري:6/126 تفسير سورة الزمر. والآية 67 من سورة الزُّمر.

4 . الحقو: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.

( 156 )

فلمّا فرغ قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال له: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: ألا ترضين أنّ أصل من وصلك، وأقطع من

قطعك، قالت: بلى يا رب قال: فذاك».(1)

5. اللّه سبحانه وساقه!

روي عن أبي سعيد قال: سمعت النبي يقول:«يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً».(2)

6. اللّه سبحانه وقدمه!

روي عن أنس، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول: قط قط».(3)

هذه نماذج ممّا ورد في الصحاح من أحاديث التشبيه والتجسيم اكتفينا من كلّ مورد بحديث واحد. وقد تركت هذه الأحاديث آثاراً سلبية في معتقدات المسلمين فمن مشبه يقول: اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عمّا وراء ذلك(4)، إلى متمسك بظواهرها لكن بلا تكييف، إلى مؤول يحملها على معان بعيدة عن ظاهرها ليتخلص عن مغبة التجسيم.

ولو أنّهم رجعوا إلى الذكر الحكيم وعرضوا هذه الأحاديث عليه لميّزوا الصحيح عن الزائف، والمقبول عن المردود.

(وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ) .(5)

____________________________

1 . صحيح البخاري:6/134.

2 . صحيح البخاري:6/159 تفسير سوره ن والقلم.

3 . صحيح البخاري:6/138 تفسير سورة ق.

4 . الملل والنحل للشهرستاني:ص 105 فصل المشبهة.

5 . النساء:66.

( 157 )

الجبر في ثوب الإيمان بالقدر

ذلك بعض ما ورد في الصحاح حول التجسيم والتشبيه وإنّا نجل النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وصحابته الأخيار عن أن ينبسوا بشيء منها ببنت شفة، وإنّما هي أساطير وأوهام أخذها الضعاف من الرواة عن الأحبار والرهبان من دون اكتراث ولا مبالاة.

وأمّا أحاديث الجبر ونفي الاختيار وأنّ الإنسان في الحياة كالريشة في مهب الرياح فحدّث عنها ولا حرج. فالصحاح تزخر بها في باب الإيمان بالقدر، وسيوافيك بعضها عند البحث عنه، ولو صحت هذه الأحاديث لما بقي لبعث

الأنبياء وتكليف العباد بالواجبات والمحرّمات وغيرها معنى معقول.

ونذكر هنا ما لا نذكره هناك:

1. روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول اللّه إلاّ أن تخبرنا. فقال للذي بيده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، وقال للذي في شماله: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. قال أصحابه: ففيم العمل يا رسول اللّه إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنّة، وإن عمل أي عمل، وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل، ثمّ قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بيده فنبذهما ثمّ قال: فرغ ربكم من عمل العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير.(1)

____________________________

1 . جامع الأُصول:10/513، رقم الحديث 7555.

( 158 )

ولا يخفى أنّ السؤال الوارد في الحديث موجه جدّاً، والجواب عنه غير مقنع، فما معنى قوله :«سددوا وقاربوا»؟ لأنّه إذا كان الأمر قد فرغ منه فما معنى التسديد والتقارب؟! وما معنى الحث على التوبة والإنابة؟! ولماذا جعل فريقاً في الجنّةوفريقاً في السعير مع كونه رحماناً على الكل، لا قسيّاً ولا متعنّتاً؟!

2. روى البخاري ومسلم والترمذي عن علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ : قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول اللّه _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ ، فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثمّ قال: ما منكم من أحد إلاّوقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول اللّه أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة . وأمّا من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل أهل الشقاء، ثمّ قرأ(فَأَمّا مَنْ أَعْطى واتَّقى* وَصَدَّقَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْيُسْرى) (1). أخرجه البخاري ومسلم.(2)

وفي رواية الترمذي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقعد وقعدنا ومعه مخصرة فجعل ينكت بها ثمّ قال: ما منكم من أحد أو من نفس منفوسة، إلاّ وقد كتب اللّه مكانها من الجنة والنار، وإلاّ وقد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل: يا رسول اللّه أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منّا من أهل السعادة ليكونن إلى أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى أهل الشقاوة. فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : بل اعملوا فكلّ ميسر، فأمّا أهل السعادة، فييّسّرون لعمل أهل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثمّ قرأ(فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى* وَصَدَّقَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْيُسرى* وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى* وَكَذَّبَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْعُسرى) (3) . (4)

____________________________

1 . الليل:5_7.

2 . جامع الأُصول:10/513، رقم الحديث7555.

3 . الليل:5_10.

4 . جامع الأُصول:10/515_ 516، رقم الحديث7557 وذيله.

( 159 )

3. وفي أُخرى للترمذي: قال: بينما نحن مع رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وهو ينكت في الأرض إذ رفع رأسه إلى السماء ثمّ قال: ما منكم من أحد

إلاّ قد علم _ و في رواية إلاّقد كتب _ مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: أفلا نتّكل يا رسول اللّه؟ قال: لا، اعملوا، فكلّ ميسر لما خلق له. وأخرج أبو داود الرواية الأُولى من روايتي الترمذي.(1)

و هذه الروايات لا تصف العبد فقط بأنّه مكتوف اليد بل تصف اللّه أيضاً مكتوف اليد ومغلولها فلا يخضع القدر لقدرته، فلا يقدر على تغييره وتبديله. وهذا بنفسه نفس عقيدة اليهود التي نقلها القرآن عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيديهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشاء) .(2)

كلام أحمد حول القدر

السابر في كتب أهل الحديث يرى أنّهم يهتمون بأمر التقدير أكثر من اهتمامهم بسائر المسائل العقائدية، وكأنّ الاعتقاد بالتقدير عندهم أهمّ من الاعتقاد بالمبدأ والمعاد.

ولأجل ذلك لا ترى تشاجراً ولا بحثاً مبسوطاً حول إمكان المعاد، ورفع شبهاته وتبيين خصوصياته. ولكن التقدير قد احتل مكانة مرموقة في مجال العقيدة.

وهذا القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى قد أخرج في كتابه ما أملاه أحمد ابن محمد بن حنبل أو كتبه باسم «عقيدة أهل السنّة» وممّا جاء فيه(3): قال: والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه،وأوّله وآخره، من اللّه، قضاء قضاه، وقدر قدّره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة اللّه عزّوجلّ، ولا يجاوز قضاءه، بل

____________________________

1 . المصدر السابق.

2 . المائدة:64.

3 . طبقات الحنابلة:1/25_ 27.

( 160 )

هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقفون فيما قدر عليهم لأفعاله، وهو عدل منه عزّربّنا وجل، والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللّه حجّة، بل للّه الحجّة البالغة

على خلقه، (لا يُسْألُ عَمّا يَفْعلُ وهُمْ يُسألُونَ)(1) وعلم اللّه عزّ وجلّ ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم من إبليس ومن غيره ممّن عصاه _ من لدن أن عصى تبارك و تعالى إلى أن تقوم الساعة _ المعصية، وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها. وكلّ يعمل لما خلق له، وصائر لما قضى عليه وعلم منه، لا يعدو واحد منهم قدر اللّه ومشيئته. واللّه الفاعل لما يريد، الفعّال لما يشاء.

ومن زعم أنّ اللّه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة وأنّ العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أنّ مشيئة العباد أغلظ من مشيئة اللّه تبارك و تعالى، فأي افتراء أكثر على اللّه عزّوجلّ من هذا؟

ومن زعم أنّ الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنى وجاءت بولد، هل شاء اللّه عزّوجلّ أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أنّ مع اللّه خالقاً وهذا هو الشرك صراحاً.

ومن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام، ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية. بل أكل رزقه وقضى اللّه أن يأكله من الوجه الذي أكله.

ومن زعم أنّ قتل النفس ليس بقدر من اللّه عزّوجلّ، وأنّ ذلك (ليس) بمشيئته في خلقه، فقد زعم أنّ المقتول مات بغير أجله. وأي كفر أوضح من هذا. بل ذلك بقضاء اللّه عزّ وجلّ وذلك بمشيئته في خلقه، وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم. وهو العدل الحقّ الذي يفعل ما يريد، ومن أقرّ بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقماءة.(2)

____________________________

1 . الأنبياء: 23.

2 .

طبقات الحنابلة للقاضي محمد بن أبي يعلى:1/25_26.

( 161 )

وسيوافيك تمام الرسالة في الفصل القادم.

وممّا يوجب الأسف أنّ الوهابية أخذت تروّج عقائد التجسيم والتشبيه، وإليك قصيدة في ذلك الباب نشرت في عاصمة التوحيد مكة المكرمة:

للّه وجه لا يحد بصورة * ولربّنا عينان ناظرتان

وله يدان كما يقول إلهنا * ويمينه جلّت عن الأيمان

كلتا يديه يمين وصفها * فهما على الثقلان منفقتان(1)

كرسيه وسع السماوات العلى * والأرض وهو يعمه القدمان

واللّه يضحك لا كضحك عبيده * والكيف ممتنع على الرحمن

واللّه ينزل كلّ آخر ليلة * لسمائه الدنيا بلا كتمان

فيقول: هل من سائل فأجيبه * فأنا القريب أجيب من ناداني

من قصيدة عبد اللّه بن محمد الأندلسي المالكي نشرت في «أربح البضاعة في معتقد أهل السنّة والجماعة» ص 32 جمع علي بن سليمان آل يوسف، منشور مكة المكرمة سنّة 1393ه_. كما في التمهيد، الجزء الثالث ص 90 لشيخنا الحجة محمّد هادي معرفة _ دام ظلّه _.

____________________________

1 . هكذا ورد.

( 162 )

( 163 )

الفصل السادس عصارات مدونة من عقائد أهل

الفصل السادس عصارات مدونة من عقائد أهل الحديث

إنّ هذه الروايات التي سبقت تمثل عقائد أهل الحديث في العصور الأُولى الإسلامية حيث نسجت العقائد عليها وحيكت على نولها، وقد بلغت بشاعة الأمر إلى حدّ أوجبت سقوط عقيدة أهل الحديث عن مقامها في نفوس الناس بعد ما انتشرت في أرجاء البلاد، ولولا ثورة الإمام الأشعري على عقيدة أهل الحديث لكانت البشاعة أكثر.

ونحن نأتي في هذا المجال ببعض الرسائل المدونة لبيان عقيدة أهل الحديث والحنابلة:

1. عقيدة الحنابلة على لسان إمامهم

إنّ إمام الحنابلة كتب رسالة صغيرة حول عقيدة أهل الحديث والسنّة وهي أخف وطأة ممّا ورد في كتب الحديث، وإليك نصّ تلك الرسالة.

قال: هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل

السنّة، المتمسّكين بعروتها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلى يومنا هذا. وأدركت من أدركت _ من علماء الحجاز والشام وغيرها _ عليها.

فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها،

( 164 )

فهو مخالف مبتدع، وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنّة، وسبيل الحقّ.

فكان قولهم: إنّ الإيمان قول وعمل ونية، و تمسّك بالسنّة. والإيمان يزيد وينقص. ويستثنى في الإيمان، من غير أن يكون لشك. إنّما هو سنّة ماضية عن العلماء.

فإذا سئل الرجل: مؤمن أنت؟ فإنّه يقول: أنا مؤمن إن شاء اللّه. ومؤمن أرجو، أو يقول: آمنت باللّه وملائكته وكتبه ورسله.

ومن زعم أنّ الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئي.

ومن زعم أنّ الإيمان هو القول، والأعمال فشرائع: فهو مرجئي.

ومن زعم أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد قال بقول المرجئة.

ومن أنكر الاستثناء في الإيمان، فهو مرجئي.

ومن زعم أنّ إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو جهمي.

والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه،وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوّله وآخره.

واللّه عزّوجلّ قضى قضاءه على عباده، لا يجاوزون قضاءه، بل هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عزّ وجلّ.

والزنى والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك باللّه عزّ وجلّ،والذنوب والمعاصي، كلّها بقضاء وقدر من اللّه عزّ وجلّ، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللّه حجّة، بل للّه عزّوجلّ الحجّة البالغة على خلقه (لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون) .

وعلم اللّه عزّ وجلّ ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم من إبليس ومن غيره ممّن عصاه _ من لدن أن عصاه إبليس إلى أن تقوم الساعة

_ المعصية، وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها، فكلّ يعمل بما خلق

( 165 )

له، وصائر إلى ما قضى اللّه عليه منه، لم يعد أحد منهم قدر اللّه عزّوجلّ ومشيئته، واللّه الفعّال لما يريد.

ومن زعم أنّ اللّه عزّ وجلّ شاء لعباده الذين عصوا، الخير والطاعة وأنّ العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، يعملون على مشيئتهم، فقد زعم أنّ مشيئة العباد أغلب من مشيئة اللّه عزّ وجلّ. فأيّ افتراء على اللّه أكبر من هذا؟!

ومن زعم أنّ الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة حملت من الزنى، وجاءت بولد، هل شاء اللّه عزّوجلّ أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى هذا في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أنّ مع اللّه تعالى خالقاً وهذا هو الشرك صريحاً.

ومن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام، ليس بقضاء فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره. وهذا يضارع قول المجوسية. بل كلّ رزقه اللّه، وقضى اللّه عزّوجلّ أن يأكله من الوجه الذي أكله.

ومن زعم أنّ قتل النفس ليس بقدر من اللّه عزّوجلّ، فقد زعم أنّ المقتول مات بغير أجله، وأيّ كفر أوضح من هذا؟ بل كان ذلك بقضاءاللّه عزّ وجلّ وقدره وكلّ ذلك بمشيئته في خلقه، وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم. وهو العدل الحقّ الذي يفعل ما يريد.

ومن أقرّ بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة.

ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنّه في النار لذنب عمله ولا بكبيرة أتاها، إلاّ أن يكون في ذلك حديث، فنروي الحديث كما جاء على ما روي. نصدق به. ونعلم أنّه كما جاء. ولا تنقض الشهادة.

والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من

الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة.

والجهاد ماض، قائم مع الإمام، برّاً أو فاجراً. ولا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل.

( 166 )

والجمعة والحجّ والعيدان مع الأئمّة، وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقياء.

ودفع الصدقات والأعشار والخراج والفيء، والغنائم إلى الأمراء، عدلوا فيها أو جاروا. والانقياد لمن ولاّه اللّه عزّوجلّ أمركم لا تنزع يداً من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك، يجعل اللّه لك فرجاً ومخرجاً، ولا تخرج على السلطان، بل تسمع وتطيع فإن أمرك السلطان بأمر، هو للّه عزّ وجلّ معصية، فليس لك أن تطيعه وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقّه، ولا تعن على فتنة بيد ولا لسان، بل كفّ يدك ولسانك، وهواك. واللّه عزّوجلّ المعين.

والكفّ عن أهل القبلة. ولا نكفر أحداً منهم بذنب، ولانخرجهم عن الإسلام بعمل، إلاّ أن يكون في ذلك حديث فيروى كما جاء، وكما روي، ونصدقه ونقبله ونعلم أنّه كما روي نحو ترك الصلاة وشرب الخمر، وما أشبه ذلك أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج عن الإسلام فاتبع الأثر في ذلك ولا تجاوزه.

ولا أحب الصلاة خلف أهل البدع، ولا الصلاة على من مات منهم.

والأعور الدجّال خارج لا شكّ في ذلك ولا ارتياب. وهو أكذب الكذّابين.

وعذاب القبر حقّ. يسأل العبد عن دينه، وعن ربّه، ويرى مقعده من النار والجنة.

ومنكر ونكير حق وهما فتاناالقبور، نسأل اللّه عزّوجلّ الثبات.

وحوض النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حقّ، ترده أُمّته، وله آنية يشربون بها منه.

الصراط حق يوضع على شفير جهنم ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك، نسأل اللّه عزّوجلّ السلامة في الجواز.

والميزان حقّ، توزن به الحسنات والسيّئات، كما شاء أن توزن.

والصور حقّ، ينفخ

فيه إسرافيل _ عليه السَّلام _ فيموت الخلق، ثمّ ينفخ

( 167 )

فيه أُخرى فيقومون لربّ العالمين عزّ وجلّ للحساب والقصاص والثواب والعقاب.

والجنة والنار واللوح المحفوظ حقّ، تستنسخ منه أعمال العباد ممّا سبقت فيه من المقادير والقضاء.

والقلم حقّ، كتب اللّه به مقادير كلّ شيء وأحصاه في الذكر تبارك وتعالى.

والشفاعة حقّ يوم القيامة، يشفع قوم في قوم فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوها بشفاعة الشافعين، ويخرج قوم من النار برحمة اللّه عزّوجلّ بعدما لبثوا فيهاما شاء اللّه عزّوجلّ، وقوم يخلدون فيها أبداً، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر باللّه عزّ وجلّ.

ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنّة والنار.

وقد خلقت النار وما فيها، وخلقت الجنة وما فيها،خلقهما اللّه عزّوجلّ، ثمّ خلق الخلق لهما، لا يفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً.

فإن احتج مبتدع بقوله تعالى: (كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وجهَه) (1) ونحو هذا من متشابه القرآن.

قيل له: كلّ شيء ممّا كتب اللّه عزّوجلّ عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقهما اللّه عزّوجلّ للبقاء لا للفناءولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا.

والحور العين، لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة أبداً لأنّ اللّه عزّ وجلّ خلقهنّ للبقاء، لا للفناء، ولم يكتب عليهن الفناء ولا الموت، فمن قال خلاف ذلك فهو مبتدع.

وخلق اللّه سبع سماوات، بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها

____________________________

1 . القصص:88.

( 168 )

أسفل من بعض.

وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام. والماء فوق السماء السابعة، وعرش الرحمن تبارك وتعالى فوق الماء. واللّه عزّوجلّ على العرش. وهو يعلم ما في السماوات السبع والأرضين السبع و[ما] بينهما وما تحت الثرى، وما في قعر البحار ومنبت كلّ شعرة، وكل شجرة، وكل

زرعة، وكل نبت، ومسقط كلّ ورقة، وعدد ذلك وعدد الحصا والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كلّ شيء لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو على العرش، فوق السماء السابعة وعنده حجب من نار ونور وظلمة وماء، وهو أعلم بها.

فإن احتج مبتدع أو مخالف بقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد) (1) ، أو بقوله عزّ وجلّ:(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (2) ، أو بقوله تعالى: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إِلاّهُوَ رابِعُهُمْ) (3)ونحو هذا من متشابه القرآن.

قيل: إنّما يعني بذلك العلم. لأنّ اللّه تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا، يعلم ذلك كلّه، وهو تعالى بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان، واللّه تعالى على العرش. وللعرش حملة يحملونه. واللّه عزّوجلّ على عرشه.

واللّه تعالى سميع لا يشكّ، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان(4) لا يسهو، قريب لا يغفل، يتكلّم ويسمع وينظر، ويبصر ويضحك،ويفرح ويحب، ويكره ويبغض،ويرضى ويغضب ويسخط، ويرحم ويعفو ويعطي ويمنع، وينزل تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا كيف يشاء (ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ

____________________________

1 . ق:16.

2 . الحديد:4.

3 . المجادلة:7.

4 . لم ترد هذه الكلمة في الكتاب ولا السنّة. ولعلّ الأولى أن يقال: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوم) .

( 169 )

السَّميعُ الْبَصِير) (1) وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الربّ عزّوجلّ، يقلبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد.

وخلق اللّه عزّوجلّ آدم _ عليه السَّلام _ بيده والسماوات والأرض يوم القيامة في كفّه. ويخرج قوماً من النار بيده، وينظر أهل الجنة إلى وجهه. ويرونه فيكرمهم ويتجلى لهم فيعطيهم. ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين، ويتولّى حسابهم بنفسه،

لا يولى ذلك غيره عزّ وجلّ.

والقرآن كلام اللّه، ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر.

ومن زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّوجلّ ووقف، ولم يقل: مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام اللّه فهو جهمي. ومن لم يكّفر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.

وكلّم اللّه موسى تكليماً، من اللّه سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده، ولم يزل اللّه متكلماً عالماً، تبارك اللّه أحسن الخالقين.

والرؤيا من اللّه عزّ وجلّ حقّ، إذا رأى صاحبها شيئاً في منامه يقصّها على عالم،وقد كانت الرؤيا من الأنبياء وحياً.

ومن السنّة: ذكر محاسن أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كلّهم أجمعين والكفّ عن الذي شجر بينهم. فمن سب أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، أو واحداً منهم، فهو مبتدع رافضي، حبهم سنّة، الدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ ب آثارهم فضيلة.

وخير هذه الأُمّة _ بعد نبيّها _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ _ أبو بكر، وخيرهم _ بعد أبي بكر _ عمر، وخيرهم _ بعد عمر _ عثمان، وخيرهم _ بعد عثمان _

____________________________

1 . الشورى:11.

( 170 )

علي، رضوان اللّه عليهم، خلفاء راشدون مهديون. ثمّ أصحاب محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بعد هؤلاء الأربعة، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه، فإن تاب قبل منه. وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة. وجلده في المجلس حتى يتوب ويراجع.(1)

ثمّ إنّ الشيخ أبا جعفر المعروف

بالطحاوي المصري (المتوفّى عام 321ه_) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة وخمسة أُصول، زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد اللّه محمّد بن الحسن الشيباني والرسالة صغيرة كتب عليها تعاليق وشروح كثيرة.

ولما ثار الإمام الأشعري على المعتزلة وانخرط في سلك أهل الحديث، جاء في الباب الثاني من كتاب «الإبانة» بعقيدة أهل السنّةوالجماعة في واحد وخمسين أصلاً، وإليك هذه الرسالة.

2. رسالة«الأشعري» في عقيدة أهل الحديث

قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ، وبسنّة نبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ،و ما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل _ نضر اللّه وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته _ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان اللّه به الحقّ، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ

____________________________

1 . السنّة : 44_50.

( 171 )

الزائغين وشك الشاكّين، فرحمة اللّه عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم، وعلى جميع أئمّة المسلمين.

وجملة قولنا:

1. أنا نقرّ باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند اللّه، وما رواه الثقات عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا نرد من ذلك شيئاً.

2. وأنّ اللّه عزّوجلّ إله واحد لاإله إلاّ هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.

3. وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ.

4. وأنّ الجنّة والنار حقّ.

5. وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور.

6. وأنّ اللّه

استوى على عرشه كما قال:(الرَّحمنُ عَلى العرشِ اسْتَوى).(1)

7.وأنّ له وجهاً بلا كيف كما قال: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرام) .(2)

8. وأنّ له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقْتُ بيدي) (3)، وكما قال:(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطتان) .(4)

9. وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال: (تَجْري بِأَعْيُننا) .(5)

10. وأنّ من زعم أنّ أسماء اللّه غيره كان ضالاً.

____________________________

1 . طه:5.

2 . الرحمن:27.

3 . ص:75.

4 . المائدة:64.

5 . القمر:14.

( 172 )

11. وأنّ للّه علماً كما قال:(أَنْزَلَهُ بعِلْمِهِ) (1)، وكما قال:(وَماتَحْمِل مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إِلاّبِعِلْمِهِ).(2)

12. ونثبت للّه السمع والبصر ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.

13. وثبت أنّ للّه قوّة كما قال:(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشدُّ مِنْهُمْ قُوّة) .(3)

14. ونقول: إنّ كلام اللّه غير مخلوق، وإنّه لم يخلق شيئاً إلاّ وقد قال له: كن فيكون،كما قال: (إِنّماقَوْلُنا لِشَيء إذا أََرْدناهُ أَنْ نَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .(4)

15. وإنّه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلاّما شاء اللّه، وإنّ الأشياء تكون بمشيئة اللّه عزّوجلّ.

وإنّ أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله اللّه.

16. ولا نستغني عن اللّه، ولا نقدر على الخروج من علم اللّه عزّوجلّ.

17. وإنّه لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ أعمال العبد مخلوقة للّه مقدورة، كما قال: (وَاللّهُ خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُون) .(5)

وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال: (هَلْ مِنْ خالِق غَيرُ اللّهِ) (6)، وكما قال:(لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُون) (7) وكما

____________________________

1 . النساء:166.

2 . فاطر:11.

3 . فصلت:15.

4 . النحل:40.

5 . الصافات:96.

6 . فاطر:3.

7 . النحل:20.

( 173 )

قال: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق) (1)، وكما قال: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غيَرْ ِشَيء أم هُمُ الخالِقُونَ)(2) وهذا في كتاب اللّه كثير.

18.

وإنّ اللّه وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين. ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك و تعالى:(مَنْ يَهْد اللّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون) .(3)

وإنّ اللّه يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنّه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنّه خذلهم وطبع على قلوبهم.

19. وإنّ الخير والشر بقضاء اللّه وقدره. وإنّا نؤمن بقضاء اللّه وقدره، خيره وشرّه، حلوه ومرّه، ونعلم أنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وأنّ العباد لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ما شاء اللّه كما قال عزّوجلّ:(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّما شاءَ اللّه) (4) وإنّا نلجأ في أُمورنا إلى اللّه، ونثبت الحاجة والفقر في كلّ وقت إليه.

20. ونقول: إنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوق، وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.

21. وندين بأنّ اللّه تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

ونقول: إنّ الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال

____________________________

1 . النحل:17.

2 . الطور:35.

3 . الأعراف:178.

4 . الأعراف:188.

( 174 )

اللّه عزّ وجلّ:(كَلاّإِنّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمئِذ لَمَحْجُوبُون) (1) وإنّ موسى _ عليه السَّلام _ سأل اللّه عزّوجلّ الرؤية في الدنيا، وإنّ اللّه تعالى تجلّى للجبل، فجعله دكّاً، فاعلم بذلك موسى أنّه لا يراه في الدنيا.

22. وندين بأن لا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنى والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنّهم

كافرون.

ونقول: إنّ من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنى والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً.

23. ونقول: إنّ الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كلّ إسلام إيماناً.

24. وندين بأنّ اللّه تعالى يقلّب القلوب «وأنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن»(2)، وأنّه سبحانه«يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع»(3) كما جاءت الرواية عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من غير تكييف.

25. وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة

____________________________

1 . المطففين:15.

2 . رواه مسلم رقم (2654) في القدر: باب تصريف اللّه تعالى القلوب كيف شاء. وأحمد2/168و 173 من حديث عبد اللّه عمرو. وابن ماجه برقم (3834) في الدعاء: باب دعاء رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والترمذي رقم (2141) في القدر: باب ما جاء أنّ القلوب بين أصبعي الرحمن من حديث أنس بن مالك وأحمد:6/302 و 315 والترمذي رقم (3517) في الدعوات باب رقم 89 من حديث أُمّ سلمة وأحمد:6/251 من حديث عائشة 302، 315.

3 . أخرجه البخاري:13/335، 336و 369 و 397 في التوحيد:باب قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) وباب قوله تعالى: (إنّ اللّه يمسك السموات والأرض) وباب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء. و8/423 وفي التفسير: باب قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) و مسلم رقم (2786)(21) في المنافقين: باب صفة القيامةوالجنة والنار والترمذي رقم (3236) و (3238) في التفسير: باب و من سورة الزمر كلّهم من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه.

( 175 )

ولا ناراً إلاّ من شهد له رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار

معذبين.

ونقول: إنّ اللّه عزّوجلّ يخرج قوماً من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمّد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(1)

26. ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأنّ الميزان حقّ، والصراط حقّ، والبعث بعد الموت حقّ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.

27. وأنّ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ التي رواها الثقاة عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

28. وندين بحب السلف، الذين اختارهم اللّه عزّوجلّ لصحبة نبيّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، ونثني عليهم بما أثنى اللّه به عليهم، ونتولاهم أجمعين.

29. ونقول: إنّ الإمام الفاضل بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أبو بكر الصديق رضوان اللّه عليه، وإنّ اللّه أعزّ به الدين وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون للإمامة، كما قدمه رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ للصلاة، وسمّوه بأجمعهم خليفة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ . ثمّ عمر بن الخطاب ، ثمّ عثمان بن عفان ، وإنّ الذين قتلوه، قتلوه ظلماً وعدواناً، ثمّ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه،

____________________________

1 . خروجهم من النار بعد أن امتحشوا وحديث الشفاعة، رواه البخاري:13/395_ 397 في التوحيد: باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. و 13/332 باب قوله تعالى (لما خلقت بيدي) . و13/398 باب قوله تعالى: (وكلّم اللّه موسى تكليماً) و 8/122 في تفسير سورة البقرة: باب

(علّم آدم الأسماء كلّها) ومسلم رقم (193) من حديث أنس بن مالك والبخاري6/264 و 265 ومسلم (194) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة والبخاري:11/367 و371 من حديث جابر.

( 176 )

فهؤلاء الأئمّة بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وخلافتهم خلافة النبوة.

ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بها، ونتولّى سائر أصحاب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ و نكف عمّا شجر بينهم، وندين اللّه بأنّ الأئمّة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.

30. ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأنّ الربّ عزّ وجلّ يقول: «هل من سائل، هل من مستغفر»(1) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل.

31. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربّنا تبارك وتعالى وسنّة نبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين اللّه بدعة لم يأذن اللّه بها، ولا نقول على اللّه مالا نعلم.

32. ونقول: إنّ اللّه عزّوجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: (وَجاءَ ربّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (2)، وإنّ اللّه عزّ وجلّ يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد) (3) وكما قال: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى* فَكانَ قابَ قَوسين أَوْ أَدنى) .(4)

33. ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات

____________________________

1 . رواه مسلم(758) (170) (172) في صلاة المسافرين:باب الترغيب والدعاء والذكر في آخر الليل. وللحديث صيغ أُخرى رواها البخاري في التهجد: باب الدعاء والصلاة من آخر الليل وفي الدعوات: باب الدعاء نصف الليل

وفي التوحيد: باب قوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام اللّه) ومسلم (758) (168) (169) وأبو داود رقم (4733) في السنّة. والترمذي رقم (3493) في الدعوات وأحمد2/258و 267 و 282و 419 و 487و 504و 521 من حديث أبي هريرة.

2 . الفجر:22.

3 . ق:16.

4 . النجم: 8_9.

( 177 )

خلف كلّ برّ وفاجر، كما روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان يصلّي خلف الحجّاج.

34. وأنّ المسح على الخفين سنّة في الحضر والسفر خلافاً لقول من أنكر ذلك.

35. ونرى الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة.

36. ونقرّ بخروج الدجّال، كما جاءت به الرواية عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(1)

37. ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهما المدفونين في قبورهم.

38. ونصدّق بحديث المعراج.(2)

39. ونصحّح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقرّ أنّ لذلك تفسيراً.

40. ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم ونؤمن بأنّ اللّه ينفعهم بذلك.

____________________________

1 . صحيح البخاري:13/87 في الفتن: باب ذكر الدجال وفي الأنبياء:باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و13/89_ 91، وفي فضائل المدينة: باب لا يدخل الدجال المدينة. ومسلم (2933) في الفتن: باب ذكر الدجال وصفته ومن معه ولغاية(2947)، و الترمذي(2235) لغاية(2246) في الفتن، وأبو داود(4315) في الملاحم ولغاية(4328) وأحمد في «المسند»:1/4، 7; 2/33، 37، 67، 104، 108، 124، 131، 237، 349، 429، 457، 530; 3/42; 5/32، 38، 43، 47. وابن ماجة من (4071) ولغاية (4988) في الفتن باب فتنة الدجال.

2 . رواه البخاري:13/399_ 406 في التوحيد: باب ما جاء في قوله عزّ وجلّ:(وكلّم اللّه موسى تكليماً) وفي الأنبياء: باب صفة النبي _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ ، ومسلم رقم (162) في الإيمان: باب الإسراء برسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ إلى السماوات، والنسائي:1/221 في الصلاة: باب فرض الصلاة، والترمذي رقم (3130) في التفسير: باب و من سورة بني إسرائيل.

( 178 )

41. ونصدّق بأنّ في الدنيا سحراً وسحرة، وأنّ السحر كائن موجود في الدنيا.

42. وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برّهم وفاجرهم وتوارثهم.

43. ونقرّ أنّ الجنة والنّار مخلوقتان.

44. وأنّ من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل.

45. وأنّ الأرزاق من قبل اللّه عزّوجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً.

46. وأنّ الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال اللّه عزّوجلّ:(الّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَس) (1)، وكما قال: (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس* الَّذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاس* مِنَ الجِنَّةِ وَالنّاس) .(2)

47. ونقول: إنّ الصالحين يجوز أن يخصّهم اللّه عزّوجلّ ب آيات يظهرها عليهم.

48. وقولنا في أطفال المشركين: إنّ اللّه يؤجّج لهم في الآخرة ناراً، ثمّ يقول لهم اقتحموها، كما جاءت بذلك الروايات.(3)

____________________________

1 . البقرة:275.

2 . الناس:4_6.

3 . اختلف العلماء قديماً وحديثاً في أولاد المشركين على أقوال، منها القول الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه أنّهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، و من أبى عذّب. رواه البزاز من حديث أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي اللّه عنهما، ورواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل رضي اللّه عنه.

قال الحافظ في «الفتح»:3/195 وقد صحّت مسألة الامتحان في حقّ المجنون و من مات في الفترة من طرق صحيحة. ومن الأقوال أنّهم في الجنة. قال النووي: وهو المذهب الصحيح الذي صار

إليه المحقّقون لقوله تعالى: (وَماكُنّا معذّبين حتّى نبعث رَسولاً). وانظر «الفتح»:3/195_ 196.

( 179 )

49. وندين اللّه عزّوجلّ بأنّه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون.

50. وبطاعة الأئمّة ونصيحة المسلمين.

51. ونرى مفارقة كلّ داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه ممّا لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً، إن شاء اللّه تعالى.

***

وما طرح من الأُصول في كتاب «الإبانة» هو الذي جاء به في كتاب «مقالات الإسلاميين» عند البحث عن قول أصحاب الحديث وأهل السنّة ولو كان بينهما اختلاف فإنّما هو في العرض لا في الأصل والجوهر. ويقول بعد عرضها «فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه وبكلّ ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب».(1)

لقد شهد التاريخ الإسلامي صراعاً عنيفاً بين الحنابلة والأشاعرة، وستوافيك صورة من ذلك في آخر هذا الجزء.

ولكن الحقّ أنّه لو كانت عقيدة الأشاعرة هي ما جاء في مقدمة رسالة «الإبانة» أو ما جاء في كتا ب«مقالات الإسلاميين» لما كان بين الفريقين أي اختلاف أبداً، وهذا ممّا يقضى منه العجب.

ولأجل ذلك _ ربما _ تخيّل بعضهم(2) أنّ الرسالة المطبوعة موضوعة على لسان الأشعري.

3. أُصول عقيدة أهل الحديث عند الملطي

ثمّ تتابع بعده تبيين عقيدة أهل السنّة، فكتب أبو الحسين محمد بن أحمد

____________________________

1 . مقالات الإسلاميين: 320_ 325.

2 . كالشيخ محمد زاهد الكوثري في بعض تعاليقه على الكتب.

( 180 )

ابن عبد الرحمن الملطي الشافعي (المتوفّى عام 377ه_) كتابه المعروف «التنبيه والرد» وذكر عقيدة أهل السنّة تحت أُصول نذكرها:

والذي ثبت عن محمد بن عكاشة أنّ أُصول السنّة ممّا اجتمع عليه الفقهاء والعلماء منهم: علي بن عاصم،

وسفيان بن عيينة، وسفيان بن يوسف الفريابي، وشعيب، ومحمّد بن عمر الواقدي، وشابة بن ثوار، والفضل بن دكين الكوفي، وعبد العزيز بن أبان الكوفي، وعبد اللّه بن داود، ويعلى بن قبيصة، وسعيد بن عثمان، وأزهر، وأبو عبد الرحمن المقري، وزهير بن نعيم، والنضر بن شميل، وأحمد ابن خالد الدمشقي، والوليد بن مسلم القرشي، والرواد بن الجراح العسقلاني، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو معاوية الضرير كلّهم يقولون: رأينا أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كانوا يقولون:

1. الرضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه والصبر على حكم اللّه.

2. الأخذ بما أمر اللّه، والنهي عمّا نهى اللّه عنه.

3. الإخلاص بالعمل للّه.

4. الإيمان بالقدر، خيره وشره من اللّه.

5. ترك المراء والجدال والخصومات في الدين.

6. المسح على الخفين.

7. الجهاد مع أهل القبلة.

8. الصلاة على من مات من أهل القبلة سنّة.

9. الإيمان يزيد وينقص قول وعمل.

10. القرآن كلام اللّه.

11. الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم، من عدل أو جور،

( 181 )

ولا يخرج على الأُمراء بالسيف وإن جاروا.

12. لا ينزل أحد من أهل التوحيد جنّة ولا ناراً.

13. لا يكفر أحد من أهل التوحيد بذنب، وإن عملوا الكبائر.

14. الكف عن أصحاب محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

15. أفضل الناس بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ علي.(1)

وهذا النصّ يجمع السنّة التي يدين بها أهل الحديث وقد اقتدى بهم الأشعري في أكثرها، وقد تقدم الأُصول التي نسبها الأشعري إلى أهل السنّة. وهذه الأُصول التي جاء بها محمّد بن عكاشة ملفقة من أُصول اتّفق على صحتها

أهل القبلة وأُصول مختلف فيها، وأُصول مزورة ومختلقة ومكذوبة على الإسلام أساساً.

غير أنّنا نبحث عن بعض الأُصول التي زعمها أهل الحديث أُصولاً صحيحة وهي عندنا مفتعلة على الإسلام ومختلقة، ونختار منها المواضيع التالية:

1. إطاعة السلطان الجائر والصبر تحت لوائه.

2. عدالة الصحابة جميعاً.

3. الإيمان بالقدر خيره وشره.

4. الإيمان بخلافة الخلفاء.

____________________________

1 . التنبيه والرد لأبي الحسين الملطي: ص 14_ 15 وممّا يجب التعليق عليه: أنّ محمد بن عكاشة مرمي بالكذب ووضع الحديث، فقد قال الرازي في كتاب «الجرح والتعديل»: محمد بن عكاشة الكرماني، روى عبد الرزاق: حدّثنا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: قد رأيته وكتبت عنه وكان كذاباً، قدم علينا مع محمد بن رافع النيسابوري وكان رفيقه، فأوّل ما أملى حديث كذب على اللّه عزّوجلّ وعلى رسوله. (لاحظ الجرح والتعديل للحافظ أبي حاتم الرازي:8/52 ط الهند).

( 182 )

وممّا يعجب القارئ في مثل هذه الكلمة قوله: «إنّ هؤلاء كلهم يقولون: رأينا أصحاب رسول اللّه كانوا يقولون»، مع أنّه ليس بين هؤلاء العلماء تابعي واحد حتى تصح منهم رؤية أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وهذا من أغرب الغرائب!!

الموضوعات الهامّة في عقائد أهل الحديث

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة

إطاعة الحاكم العادل من صميم الدين، قال سبحانه: (أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ) .(1)

وليس المراد منه إطاعة مطلق ولاة الأمر، بل المراد خصوص العدول منهم بقرينة النهي عن إطاعة المسرفين والغافلين عن ذكر اللّه سبحانه والمكذبين والآثمين وغيرهم.

قال سبحانه: (ولا تُطِع مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطاً) .(2)

وقال سبحانه: (يا أيّها النّبيُّ اتّقِ اللّهَ ولا تُطِعِ الكافرينَ والمُنافِقِين) .(3)

وقال سبحانه: (فَلا تُطِعِ المُكَذِّبين) .(4)

وقال تعالى: (ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاّف مَهِين)

.(5)

____________________________

1 . النساء:59.

2 . الكهف:28.

3 . الأحزاب:1.

4 . القلم:8.

5 . القلم:10.

( 185 )

وقال سبحانه:(فَاصبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تُطِع مِنْهُمْ آثماً أَوْ كَفُوراً) .(1)

وقال تعالى: (وَلاتُطِيعُوا أَمْرَ المُسرِفين) .(2)

إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن طاعة الطغاة العصاة. فبقرينة هذه الآيات الناهية يصحّ أن يقال: إنّ المراد من الأمر بإطاعة أُولي الأمر، هو إطاعة العدول منهم.

وقد تضافرت الروايات على وجوب إطاعة السلطان العادل المعربة عن عدم وجوب إطاعة السلطان الجائر أوحرمتها.

قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :«السلطان العادل المتواضع، ظل اللّه ورمحه في الأرض ويرفع له عمل سبعين صدّيقاً».(3)

وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ما من أحد أفضل منزلة من إمام، إن قال صدق، وإن حكم عدل، وإن استرحم رحم».(4)

وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «أحبّ الناس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم مجلساً، إمام عادل; وأبغض الناس إلى اللّه وأبعدهم منه، إمام جائر».(5)

وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «السلطان ظلّ اللّه في الأرض، يأوي إليه الضعيف وبه ينصر المظلوم، ومن أكرم سلطان اللّه في الدنيا أكرمه اللّه يوم القيامة».(6)

وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ثلاثة من كنّ فيه من الأئمّة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون رعيته، وأقام كتاب اللّه تعالى في القريب والبعيد»(7)... إلى غير ذلك من الروايات

____________________________

1 . الإنسان:24.

2 . الشعراء:151.

3 . كنز العمال:6/6، الحديث 14589.

4 . المصدر السابق:الحديث 14593، 14604، 14572.

5 . المصدر السابق:الحديث 14593، 14604، 14572.

6 . المصدر السابق:الحديث 14593، 14604، 14572.

7 . المصدر السابق:5، الحديث 14315.

( 186 )

التي يقف عليها المتتبع في الجوامع الحديثية.

هذا من طريق أهل السنّة

وأمّا من طريق الشيعة فحدّث عنه ولا حرج.

روى عمر بن حنظلة عن الصادق _ عليه السَّلام _ في لزوم طاعة الحاكم العادل:«من روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخف بحكم اللّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا، الرادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه».(1)

ونكتفي _ هنا _ بقول الإمام الحسين بن علي _ عليهما السَّلام _ في كتابه إلى أهل الكوفة حيث قال _ عليه السَّلام _ : «فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات اللّه».(2)

إذاً فوجوب إطاعة السلطان العادل ممّا لا شكّ فيه، ولا يحتاج إلى إسهاب الكلام فيه، ولكن الحنابلة ذهبوا إلى غير ذلك، وإليك البيان.

إطاعة السلطان الجائر

فلقد اتّفقت كلمة الحنابلة ومن لفّ لفّهم على وجوب إطاعة السلطان الجائر وإليك نصوصهم:

قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله: السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر، وإقامة الحدود إلى الأئمّة وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز، من دفعها إليهم أجزأت عنهم، براً كان أو

____________________________

1 . الوسائل: الجزء18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

2 . بحار الأنوار:15/116; تاريخالطبري:4/262، أحداث سنة 60.

( 187 )

فاجراً، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كلّ من ولي، جائزة إقامته، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة.

ومن خرج على إمام من أئمّة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه، أكان بالرضا أو بالغلبة فقد شق

الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول اللّه، فإن مات الخارج عليه، مات ميتة جاهلية.(1)

هذا الرأي المنقول عن إمام الحنابلة لا يمكن إنكار صحّة نسبته إليه، ولأجل ذلك قال الأُستاذ أبو زهرة: ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائر الفقهاء، وهو جواز إمامة من تغلّب ورضيه الناس وأقام الحكم الصالح بينهم، بل إنّه يرى أكثر من ذلك، إنّ من تغلّب وإن كان فاجراً تجب إطاعته حتّى لا تكون الفتن.(2)

والعبارة التي نقلناها عن إمام الحنابلة تكاد تعرب عن وجوب إطاعة الجائر ولو أمر بمعصية الخالق وهو أمر عجيب منه جدّاً مع أنّ أكثر الأشاعرة الذين يحرّمون الخروج عليه، لا يوجبون طاعته في هذا الحال كما يوافيك نصوصهم، ولغرابة رأي ابن حنبل هذا، ذيّله أبو زهرة بقوله: ولكنّه ينظر في هذه القضية إلى مصلحة المسلمين وأنّه لا بدّ من نظام مستقرّ ثابت، وأنّ الخروج على هذا النظام يحل قوة الأُمّةويفك عراها، ولأنّه رأى من أخبار الخوارج وفتنتهم ما جعله يقرر أنّ النظام الثابت أولى وأنّ الخروج عليه يرتكب فيه من المظالم أضعاف ما يرتكبه الحاكم الظالم.

ثمّ إنّه ينظر في القضية نظرة اتباع فإنّ التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه قد رأوا مظالم كثيرة، ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين، وكانوا ينصحون الخلفاء والولاة إن وجدوا آذاناً تسمع، وقلوباً تفقه، وفي كلّ حال لا يخرجون ولا يؤيدون خارجه.(3)

____________________________

1 . تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة:2/322.

2 . المصدر السابق:ص 321; ولاحظ كتاب السنّة لابن حنبل : 46.

3 . تاريخ المذاهب الإسلامية:2/322.

( 188 )

وهذا التوجيه من الأُستاذ غريب جدّاً.

أمّا أوّلاً: فلأنّ الخروج على النظام الظالم إذا كان موجباً لحلّ قوّة الأُمّة وفك عراها، يكون

الصبر تشويقاً لتماديه في الظلم وإكثار الضغط على الأُمّة وبالنتيجة: تحويل الدين وتحريفه عمّا هو عليه من الحقّ... فأي فائدة تكمن في حفظ قوّة أُمة، انحرفت عن صراطها وتبدّلت سننها وتغيّرت أُصولها، فإنّ الظالم لا يرى لظلمه حدّاً ولتعدّيه ضوابط، فلو رأى أنّ الإسلام بواقعه يضاد آراءه الشخصية وميوله الخبيثة، عمد إلى تغييره وتحويره فليس يقتصر ظلم الظالم على التعدّي على النفوس والأموال، بل الراكب على أعناق الناس يغير كلّ شيء كيفما يريد، وحيثما يرى أنّه لصالح شخصه، والتاريخ شاهدنا الأصدق على ذلك.

وأمّا ثانياً: فإنّ الأُستاذ أبا زهرة نسب إلى التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه بأنّهم رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين... ولكنّه غفل عن قضية الحرة الدامية حيث كان الخارجون فيها على الحكومة الغاشمة هم الصحابة والتابعين....

وهذا المسعودي صاحب «مروج الذهب» ينقل إلينا لمحة عمّا جرى هناك ويقول:

ولمّا انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرة وعليهم «مسرف» خرج إلى حربه أهلها، عليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي وعبد اللّه بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر

( 189 )

الناس، فقد قتل من آل أبي طالب اثنان: عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب; ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب: الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب والعباس ابن عتبة ابن أبي لهب بن عبد المطلب، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة

آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف.(1)

هل نسي أبو زهرة(أو لعلّه تناسى) قضية دير الجماجم حيث قام ابن الأشعث التابعي في وجه الحجّاج السفّاك بالموضع المعروف بدير الجماجم فكان بينهم نيف وثمانون وقعة تفانى فيها خلق وذلك في سنّة اثنتين وثمانين.(2)

وعلى كلّ تقدير فقد اقتفى أثر أحمد بن حنبل جماعة من متكلّمي الأشاعرة وغيرهم وادّعوا بأنّ هذه عقيدة إسلامية كان الصحابة والتابعون يدينون بها وأنّه يجب الصبر على الطغاة الظلمة إذا تصدروا منصة الحكم، نعم غاية ما يقولونه هو: إنّه لا تجب إطاعتهم إذا أمروا بالحرام والفساد جاعلين قولهم هذا منعطفهم الوحيد عن قول ابن حنبل وبقية أهل الحديث، وإليك نبذة من أقوال القوم:

1. قال الإمام الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي(المتوفّى 321ه_) في رسالته المسمّاة ب_«بيان السنّةوالجماعة» المشهور ب_«العقيدة الطحاوية»: ونرى الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر من أهل القبلة ولا نرى السيف على أحد من أُمّة محمّد إلاّ على من وجب عليه السيف(أي سفك الدم بالنصّ القاطع كالقاتل والزاني المحصن والمرتد) ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولا ولاة أمرنا وإن جاروا، ولا ندعو على أحد منهم ولاننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعات اللّه عزّوجلّ فريضة علينا مالم يأمروا بمعصية.(3)

2. قال الإمام الأشعري من جملة ما عليه أهل الحديث و السنّة: ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كلّ إمام برّ وفاجر... إلى أن قال: ويرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتن.(4)

____________________________

1 . مروج الذهب:3/69_ 70.

2 . نفس المصدر السابق:3/132.

3 . شرح العقيدة الطحاوية : 110و 111.

4 . مقالات الإسلاميين: 323.

( 190 )

3. وقال الإمام أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي: الإمام إذاجار

أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضي... ثمّ قال: وجه قول عامة أهل السنّة والجماعة إجماع الأُمّة، فإنّهم رأوا الفسّاق أئمّة، فإنّ أكثر الصحابة كانوا يرون بني أُمية وهم بنو مروان أئمّة حتى كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلفهم ويرون قضاياهم نافذة، وكذا الصحابة والتابعون، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم فسّاق، ولأنّ القول بانعزال الأئمّة بالفسق، إيقاع الفساد في العالم، وإثبات المنازعات وقتل الأنفس، فإنّه إذا انعزل يجب على الناس تقليد غيره، وفيه فساد كثير ثمّ قال: إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ولا يجوز الخروج عليه، وهذا مروي عن أبي حنيفة، لأنّ الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم.(1)

4. وقال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (المتوفّى عام 403ه_) في التمهيد: إن قال قائل: ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟ قيل له: يوجب ذلك أُمور: منها: كفر بعد إيمان، ومنها: تركه الصلاة والدعاء إلى ذلك، ومنها: عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمةوتضييع الحقوق وتعطيل الحدود،وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع بهذه الأُمور ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه، إذ احتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وأنّه قال_ عليه السَّلام _ : واسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع، ولو لعبد حبشي، وصلوا وراء كلّ بر وفاجر. وروي أنّه قال: وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة.(2)

5. وقال الشيخ نجم الدين أبوحفص عمر بن محمد النسفي(المتوفّى

عام 537ه_) في العقائد النسفية:ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور... ويجوز

____________________________

1 . أُصول الدين: 190_ 192 .

2 . التمهيد : 186.

( 191 )

الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر.

وعلّله الشارح التفتازاني بقوله: لأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم.(1)

ما استدلّوا به من روايات لإطاعة الجائر

وقد أيّدت تلك العقائد بروايات ربما يتصور القارئ انّ لها نصيباً من الحقّ أو حظاً من الصدق لكن الحقّ أنّ أكثرها مفتعلة على لسان رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قد أفرغها في قالب الحديث جمع من وعاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفّظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم، وإليك بعض تلك الروايات التي رواها مسلم في صحيحه:

1. روى مسلم، عن حذيفة بن اليمان، قلت: يا رسول اللّه... إلى أن قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنّتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع.

2. وروي عن أبي هريرة، عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية... إلى أن قال: ومن خرج على أُمّتي يضرب برها وفاجرها،ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه.

3. روي عن ابن عباس أنّه قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنّه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته

جاهلية.

4. روي عنه أيضاً، عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: من

____________________________

1 . شرح العقائد النسفية : 185و 186.

( 192 )

رأى من أميره شيئاً فليصبر، فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّمات ميتة جاهلية.

5. روي عن عبد اللّه بن عمر، أنّه جاء إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: أخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يقوله: من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.

وقد فسر ابن عمر قول رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتى في مسألة الحرة.

6. روي عن أُمّ سلمة، أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء و من أنكر سلم ولكن من رضي وتابع». قالوا يا رسول اللّه: ألا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلّوا».

7. روي عن عوف بن مالك في حديث: قيل يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعته.(1)

وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في «جامع الأُصول».(2)

8. روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون،ويفعلون بما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون مالا يؤمرون،

فمن أنكر عليهم برئ ومن أمسك يده سلم ولكن من رضي وتابع.(3)

____________________________

1 . صحيح مسلم: 6/20_ 24، باب الأمر بلزوم الجماعة، وباب حكم من فارق أمر المسلمين.

2 . لاحظ جامع الأُصول:4، الكتاب الرابع في الخلافة والأمارة، الفصل الخامس ص 451 الخ.

3 . السنن الكبرى: 8/158.

( 193 )

9.وروى ابن عبد ربه، عن عبد اللّه بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.(1)

10. وهذه الأحاديث تهدف إلى قول أحمد بن حنبل فقد عرفت ما في إحدى رسائله وهذا نصّه: السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة.(2)

عرض أحاديث إطاعة الجائر على القرآن

وقبل كلّ شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب اللّه سبحانه فإنّه المحك الأوّل لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم.

قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفّار:(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنا اللّهَ وَأَطَعنا الرَّسُولا* و قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ العَذابِ وَالعَنْهُمْ لَعْناً كَبيراً).(3)

فهذا القسم من الآيات يندّد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم التي توجب ضلالة المطيع له عن السبيل السوي، وثمة آيات تندّد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر، وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك، وهذه الآيات هي الواردة حول قوم بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسّمهم إلى أصناف ثلاثة:

الأوّل: الجماعة المعتدية العادية التي رفضت حكم اللّه سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر

يوم السبت قال سبحانه: (إِذْ يعدون في السّبت إِذ

____________________________

1 . العقد الفريد:1/8.

2 . تاريخ المذاهب الإسلامية:2/322.

3 . الأحزاب:66_ 68.

( 194 )

تَأْتيهِمْ حيتانُهُمْ يَوْم سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُون لا تَأْتيهِمْ...).(1)

الثاني: الجماعة الساكتة التي أهمّتهم أنفسهم لا يرتكبون ماحرم اللّه وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة التي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي، بقولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) .(2)

الثالث: الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر معتبرين ذلك وظيفة دينية عريقةونصيحة لازمة للإخوان وقد حكى اللّه سبحانه عن لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال: (مَعْذِرةً إِلى ربِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) .(3)

نرى أنّ اللّه سبحانه أباد الطائفتين الأوّليين وأنجى الثالثة. قال سبحانه: (فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذاب بَئيس بِما كانُوا يَفْسُقُون) .(4)

فالآية الأخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط وهلاك العادين والساكتين عن عدوانهم، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً لماذا عمّ العذاب كلتا الطائفتين؟ أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف، بأنّ في القيام والخروج وحتى في النصيحة بالقول، تضعيفاً لقوة الأُمّة وفكّاً لعراها؟

فلو دلّت الآية الأُولى على حرمة طاعة الظالم في الحرام، ودلّت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين، فهناك آية ثالثة تدلّ على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه: (وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّار).(5)

____________________________

1 . الأعراف:163.

2 . الأعراف:164.

3 . الأعراف:164.

4 . الأعراف:165.

5 . هود:113.

( 195 )

أو ليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات وإقامة الصلاة بأمره، وإدارة كلّ شأن

خوّل منه إليه، يعد ركوناً إلى الظالم؟! فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في ما يسمّى بالدول الإسلامية الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي، ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجمعات بطول العمر ودوام السلامة ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط التي يرسمها ويصوّرها لهم أُولئك الحكام، الذين يعدهم هؤلاء المرتزقة محاور ومراكز،ويعدّون أنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها، اللّهمّ إلاّ أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكّن ممّا يجب عليهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على مراتبها المختلفة، ولكنّه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان، وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم؟!

أحاديث معارضة لأحاديث طاعة الجائر

إنّ هناك روايات تنفي صحّة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً وعند المعارضة يؤخذ من السنّة الشريفة ما يوافق كتاب اللّه الحكيم. وإليك نزراً من تلك الروايات:

قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «اسمعوا: سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منّي ولست منه، وليس بوارد علي الحوض».(1)

هذا بعض ما لدى السنّة من الروايات، و أمّا ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها:

1. عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان، جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلّطه اللّه عليه في نار جهنم وبئس المصير».

____________________________

1 . جامع الأُصول:4/75 نقلاً عن الترمذي والنسائي.

( 196 )

2. وعنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً، أو مد

لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم».

3. وعنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «من خفّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار».

4. وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّتباعد من اللّه».

5. وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق _ عليهما السَّلام _ أنّه قال: «من أحبّ بقاء الظالمين، فقد أحبّ أن يعصى اللّه».

6. و عنه _ عليه السَّلام _ أنّه قال: «من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين حشرهاللّه يومالقيامة حيراناً».

7. وعنه _ عليه السَّلام _ أنّه قال: «من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج عن الإسلام».

8. وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد _ عليهما السَّلام _ أنّه قال: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها، لا، ولا مدة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ اللّه من الحساب».(1)

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأهل بيته المعصومين _ عليهم السَّلام _ الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكلّ الوسائل الممكنة، فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ ما مرّ من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه، والرضا بجوره، جميعها

____________________________

1 . راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة:12، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 6، 10، 11، 12، 14، 15و الباب 44 الحديث 5و 6.

( 197 )

ممّا لفّقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة، فنسبوه إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وهو

_ روحي فداه _ منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسنّة الصحيحة.

ولو لم يكن في المقام إلاّ قول علي _ عليه السَّلام _ في خطبته: «... وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم... » (1) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

***

وفي ختام الكلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما قاله الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي _ عليهما السَّلام _ لأهل الكوفة حيث خطب أصحابه وأصحاب الحرّ(قائد جيش عبيد اللّه بن زياد آنذاك) فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: «أيّها الناس إنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر».(2)

وهذه النصوص الرائعة المؤيّدة بالكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أُمّية وبني العباس، تشهد بأنّ ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ما هو إلاّ بعض مفتعلات أصحاب العروش وقد وضعها وعّاظهم ومرتزقتهم، وإلاّفالطيّبون من الصحابة والتابعين بريئون من هذه النسبة.

____________________________

1 . نهج البلاغة: الخطبة 3.

2 . تاريخ الطبري: 4/304، حوادث سنة 61.

( 198 )

صراع بين العقيدة والوجدان

نرى أنّ بعض الشباب المسلم في البلاد الإسلامية، قد انخرطوا في الأحزاب

السياسية، ورفضوا الدين من أساسه، ولعلّ بعض السبب هو أنّهم وجدوا في أنفسهم صراعاً بين العقيدة والوجدان. فمن جانب، توحي إليهم فطرتهم وعقيدتهم الإنسانية السليمة، أنّه تجب مكافحة الظالمين، والخروج عليهم، ونصرة المظلومين وانتزاع حقوقهم من أيدي الظالمين; ومن جانب آخر يسمعون من علماء الدين أو المتزيين بلباسهم، أنّه لا يجوز الخروج على السلطان، بل تجب طاعته وإن أمر بالظلم والعدوان. فحينئذ يقع الشاب في حيرة من أمره بين اتّباع الفطرة والعقل السليم، واتّباع كلام هؤلاء العلماء الذين ينطقون باسم الدين خصوصاً إذا كان المتكلّم رجلاً يكيل له المجتمع الاحترام والإكبار، ويعرفه التاريخ بالخطيب الزاهد، كالحسن البصري فإنّه عندما سئل عن مقاتلة الحجاج _ ذلك السيف المشهر على الأُمّة والإسلام _ فأجاب: أرى أن لا تقاتلوه، فإنّه إن يكن عقوبة من اللّه، فما أنتم برادّيها، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين.فخرج السائلون من عنده وهم يقولون مستنكرين ما سمعوا منه: أنطيع هذا العلج. ثمّ خرجوا مع ابن الأشعث إلى قتال الحجاج.(1)

فإذا سمع الشاب الثوري هذه الكلمة من عميد الدين وخطيبه _ كما يقال _ عاد يصف جميع رجال الدين بما وصف به الحسن البصري، وبالتالي يخرج من الدين ويتركه، ويصف الدين سناداً للظالم وملجأ له.

وفي الختام نوجه نظر الأعلام من السنّة إلى خطورة الموقف في هذه الأيّام، وأنّ أعداءالإسلام لبالمرصاد يصطادون الشباب بسهام الدعاية الكاذبة، ويعرّفون الإسلام بأنّه سند الظالمين وركن الجائرين بحجة أنّه ينهى عن الخروج على السلطان الجائر.

____________________________

1 . الطبقات الكبرى لابن سعد:7/164.

( 199 )

والمسلم غير العارف بالدين وما أُلصق به، لا يميّز بين الحقيقة الناصعة وبين ما أُلبس عليها من ثوب رديء قاتم.

وليس هذا أوّل ولا آخر مورد

يجد الشاب الثوري صراعاً في نفسه بين العقلية الإنسانية والدعاية الكاذبة عن الإسلام، فيختار وحي الفطرة ويصبح ثائراً على القوى الطاغية، ويظن أنّه ترك الإسلام بظن أنّ المتروك هو الدين الحقيقي الذي أنزله اللّه تعالى على النبي محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، و هذه الجريمة متوجهة بالدرجة الأُولى إلى هذا النمط من العلماء.

فواجب علماء الدين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية الصحيحة في تشخيص ما هو من صميم الدين عمّا أُلصق به، ولا يقتنعوا بما كتب باسم الدين عن السلف الصالح، وليس كلّ ما نسب إلى السلف الصالح، أو قالوا به من صميم الدين، كما أنّه ليس كلّ سلف صالحاً، بل هم بين صالح وطالح، وسعيد وشقي، وعالم وجاهل، وليس كلّ سلف أفضل وأتقى وأعلم من كلّ خلف، فليذكروا المثل السائر: «كم ترك الأوّل للآخر»، فليدرسوا الأُصول المسلّمة من رأس، نعم لا أنكر أنّ هناك أُناساً واقفين على الحقيقة ولكنّهم يكتمونها، لأنّ مصالحهم الشخصية لا تقتضي إظهارها، وقد نزل فيهم قوله سبحانه: (إِنَّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون) (1)، كما أنّ بينهم شخصيات لامعة جاهروا بالحقيقة وأصحروا بها واشتروا رضا الرب بأثمان غالية وتضحيات ثمينة.

فهذا إمام الحرمين يقول: إن الإمام إذاجار وظهر ظلمه وغشمه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه، فلأهل الحل والعقد، التواطؤ على ردعه، ولو بشهر السلاح ونصب الحروب.(2)

في الختام نعطف نظر القارئ الكريم إلى قوله سبحانه عندما يأمر

____________________________

1 . البقرة:159.

2 . شرح المقاصد:2/272.

( 200 )

المؤمنات بالبيعة مع النبي ويقول:(ولا يَعْصينَك فِي مَعْرُوف) (1) فيقيد إطاعة النبي وحرمة مخالفته بما إذا أمر بالمعروف، ومن المعلوم

أنّ النبي الأكرم معصوم لا يأمر بالمنكر أبداً وإنّما هو لتعليم غيره، فهل يجوز لمسلم أن يقول بوجوب طاعة السلطان الجائر إذا أمر بالجور والمنكر؟!

***

(وَقالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا* رَبّنا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ الْعَذابِ والعَنْهُمْ لَعْناً كَبيراً) .(2)

____________________________

1 . الممتحنة:12.

2 . الأحزاب: 67 _ 68.

( 201 )

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء، ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول التي يتديّن بها أهل الحديث، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتى اتخذها الإمام الأشعري أحد الأُصول التي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً(1)، ونحن نعرض هذه العقيدة على الكتاب أوّلاً، وعلى السنّة النبوية الصحيحة ثانياً، وعلى التاريخ ثالثاً حتى يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره إن شاء اللّه تعالى، ولكن قبل أن ندخل في صلب المسألة نقدّم تعريف الصحابي فنقول:

من هو الصحابي؟

إنّ هناك تعاريف مختلفة للصحابي نأتي ببعضها على وجه الإجمال:

1. قال سعيد بن المسيب: «الصحابي، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسولاللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين».

2. قال الواقدي: رأينا أهل العلم يقولون: كلّ من رأى رسول اللّه وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه، ولو

____________________________

1 . مقالات الإسلاميين:1/323 يقول: «ويعرفون حقّ السلف الذين اختارهم اللّه سبحانه بصحبة نبيّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عمّا شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم»; لاحظ أيضاً كتاب «السنّة»: 49.

( 202 )

ساعة من نهار ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.

3. قال أحمد بن حنبل: أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

4. قال البخاري: من صحب

رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو أصحابه.

5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة، قليلاً كان أو كثيراً، ثمّ قال: ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته و لا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى، أو سمع منه حديثاً فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول و معمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً».

6. وقال صاحب الغوالي: لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع، الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول، قلت: وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء، وجاء إليه«هوازن» مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان، وكذلك حجة الوداع، وكلّهم له صحبة.(1)

ولا يخفى أنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن

____________________________

1 . أُسد الغابة:1/11_12، طبع مصر.

( 203 )

جماعة تكون لهم خلطةومعاشرة معه مدّة مديدة، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّالرؤية عن بعيد أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة أو الإقامة معه زمناً

قليلاً.

وأظن أنّ في هذا التبسيط والتوسع غاية سياسية، لما سيوافيك أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذاالتبسيط، صرف هذه النصوص إلى الأعراب وأهل البوادي، الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلاّلقاء قصير وسيأتي أنّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً إلى حدّ كان النبي يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم وأسمائهم، فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي والصحاري من الأعراب، فتربّص حتى تأتيك النصوص.

وعلى كلّ تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة وتحقيق الحقّ بين هذه التعاريف غير أنّا نركز الكلام على أنّ أهل السنّة يقولون بعدالة هذا الجم الغفير المدعوين باسم الصحابة، وإليك كلماتهم:

عدالة جميعالصحابة

قال ابن عبد البر: نثبت عدالة جميعهم.(1)

وقال ابن الأثير: إنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال الحرام إلى غير ذلك من أُمور الدين، إنّما تثبت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها. وأوّلهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول اللّه، فإذاجهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّجهلاً وأعظم إنكاراً، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم، هم وغيرهم من الرواة حتى يصحّ العمل بما رواه الثقاة منهم وتقوم به الحجّة، فإنّ المجهول لا تصحّ روايته ولا ينبغي العمل بما رواه. والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّفي الجرح والتعديل، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح، لأنّ اللّه عزّوجلّ ورسوله زكياهم وعدلاهم، وذلك مشهور

____________________________

1 . الاستيعاب في أسماء الأصحاب:1/2 في هامش «الإصابة».

( 204 )

لا نحتاج لذكره.(1)

وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من الإصابة: اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتة

معلومة بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً إلى أن قال: روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسو لاللّه فاعلم أنّه زنديق، وذلك أنّ الرسول حقّ، والقرآن حقّ، وما جاء به حقّ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.(2)

هذه كلمات القوم وكم لها من نظائر نتركها طلباً للاختصار.

تقييم نظرية عدالة جميعالصحابة

تقييم هذه النظرية يتم بتبيين أُمور:

1. إنّ البحث عن عدالة الصحابي أو جرحه ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ولا لإبطال شهود المسلمين، لما سيوافيك من أنّ الكتاب شهد على فضل عدّة منهم، وزيغ آخرين وهكذا السنّة، إنّما الغاية في هذا البحث هي الغاية في البحث عن عدالة التابعين ومن تلاهم من رواة القرون المختلفة، فالغاية في الجميع هي التعرّف على الصالحين والطالحين، حتى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء والتجنب عن أخذه عن غيرهم، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمل العبء الثقيل، لما كان عليه لوم فلو قال أبو زرعة _ مكان قوله الآنف _ هذا القول: «إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه، أو خيره أو شره، حتى يأخذ دينه عن

____________________________

1 . أُسد الغابة:2/3.

2 . الإصابة:1/17.

( 205 )

الخيرة الصادقين، ويحترز عن الآخرين، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحرين للحقيقة»، لكان أحسن وأولى بل هو الحسن والمتعيّن.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً، يريد التثبت في أُمور الدين، والتحقيق في مطالب الشريعة، بالزندقة وأنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة، وما شهود

المسلمين إلاّالآلاف المؤلّفة من أصحابه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فلا يضر بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين. ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!.

2. إنّ هذه النظرية تكوّنت ونشأت من العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة وقد قيل: من عشق شيئاً، عشق لوازمه وآثاره.

إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنتهما عن اللّه شيئاً، قال سبحانه: (ضَرَبَ اللّهُ مَثلاً لِلّذينَ كَفَرُوا امرأَةَ نُوح وَامرأَةَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيئاً وَقيلَ ادخُلا النّار مَعَ الدّاخلين) .(1)

إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه: (يا نِساءَ النَّبيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيِّنة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيراً) .(2)

3. إنّ أساتذة العلوم التربوية كشفوا عن قانون مجرب، وهو أنّ الإنسان الواقع في إطار التربية، إنّما يتأثر بعواملها إذا لم تكتمل شخصيته الروحية والفكرية، لأنّ النفوذ في النفوس المكتملة الشخصية، والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها، يكون صعباً جدّاً (ولا أقول أمراً محالاً) بخلاف ما إذا كان الواقع في إطارها صبياً يافعاً أو شاباً في عنفوان شبابه، إذ عندئذ يكون قلبه

____________________________

1 . التحريم:10.

2 . الأحزاب:30.

( 206 )

وروحه كالأرض الخالية تنبت ما ألقي فيها، وعلى هذا الأساس لا يصحّ لنا أن نقول: إنّ الصحبة والمجالسة وسماع بعض الآيات والأحاديث، أوجدت ثورة عارمة في صحابة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

_ وأزالت شخصياتهم المكونة طيلة سنين في العصر الجاهلي، وكونت منهم شخصيات عالية تعد مثلاً للفضل والفضيلة.

مع أنّهم كانوا متفاوتين في السن ومقدار الصحبة، مختلفين في الاستعداد والتأثر، وحسبك أنّ بعضهم أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم، وبعضهم أسلم وهو في أوّليات شبابه، كما أسلم بعضهم في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم، إلى أن أسلم بعضهم وهو شيخ طاعن في السن يناهز الثمانين والتسعين.

فكما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام، كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة فبعضهم صحب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة وربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعة، فهل يصحّ أن نقول: إنّ صحبة ما، قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات رديةوكونت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح؟!

إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب، فكأنّ الصحبة قلبت كلّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة، وهذا ممّا يردّه المنطق والبرهان، وذلك لأنّ الرسول الأعظم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز(فَلَو شاء لَهَداكم أَجْمَعين) (1) بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحقّ وصبهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية والإمكانيات الموجودة كتلاوة القرآن الكريم، والنصيحة بكلماته النافذة، وسلوكه القويم وبعث رسله ودعاة دينه إلى الأقطار ونحو

____________________________

1 . الأنعام:149.

( 207 )

ذلك، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها، فلا يصحّ

لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي: أنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوّة الإيمان و رسوخ العقيدة إلى درجات عالية، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

هذا هو مقتضى التحليل حسب الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل، ولا يصحّ القضاء البات إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتى نقف على نظره فيهم كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم، وملاحظة سلوكهم وحياتهم في زمنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وبعده.

الصحابة في الذكر الحكيم

نرى أنّ الذكر الحكيم يصنف صحابة النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ويمدحهم في ضمن أصناف نأتي ببعضها:

1. السابقون الأوّلون

يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بأنّ اللّه رضي عنهم وهم رضوا عنه، قال عزّمن قائل:(وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنْصارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسان رَضَيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتَها الأَنْهارُ خالِدينَ فِيها أَبداً ذلِكَ الفَوزُ العَظيم)(1).

____________________________

1 . التوبة:100.

( 208 )

2. المبايعون تحت الشجرة

يصف سبحانه جماعة من الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة بنزول السكينة عليهم، ويقول في محكم كتابه: (لَقَدَ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْيُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكينَة عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتحاً قَريباً) .(1)

3. المهاجرون

وهؤلاء هم الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله: (لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَموالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ) .(2)

4. أصحاب الفتح

هؤلاء هم الذين وصفهم اللّه سبحانه

وتعالى في آخر سورة الفتح بقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطأَهُ فَ آزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاع لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظيماً) .(3)

الأصناف الأُخر للصحابة

فالناظر المخلص المتجرّد عن كلّ رأي مسبق، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء الصحابة غير أنّ القضاء البات في عامة الصحابة يستوجب النظر إلى كلّ الآيات

____________________________

1 . الفتح:18.

2 . الحشر:8.

3 . الفتح:29.

( 209 )

القرآنية الواردة في حقّهم فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها، تمنعنا من أن نضرب الكلّ بسهم واحد، ونصف الكلّ بالرضا وبالرضوان. وهذا الصنف من الآيات يدلّ بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات والملكات والسلوك والعمل، وإليك لفيفاً منهم:

1. المنافقون المعروفون

المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقّهم سورة المنافقين، قال سبحانه: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافقينَ لَكاذِبُونَ...).(1)

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قوية من المنافقين بين الصحابة آنذاك وكان لهم شأن فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقّهم.

2. المنافقون المختفون

تدلّ بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة ومن نفس أهل المدينة، جماعة مردوا على النفاق وكان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم، ومن تلك الآيات قوله سبحانه: (وَمِمَّنْ حَولَكُمْ مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاق(2) لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) .(3)

لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين وأعرب عن

نواياهم وندد بهم في السور التالية: البقرة، آل عمران، المائدة، التوبة، العنكبوت، الأحزاب، محمّد، الفتح، الحديد، المجادلة، الحشر، والمنافقين.

____________________________

1 . المنافقون:1.

2 . مردوا على النفاق: تمرّنوا عليه وتمارسوا عليه.

3 . التوبة: 101.

( 210 )

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب، وغير معروف بذلك، ولكن مقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم، وهناك ثلة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتابات، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم، فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم (1)، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي، وعلى ذلك لا يصحّ لنا الحكم بعدالة كلّ من صحب النبي مع غض النظر عن تلك العصابة المجرمة، المتظاهرة بالنفاق أو المختفية في أصحاب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

3. مرضى القلوب

وهذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين بل كانوا يلونهم في الروحيات والملكات مع ضعف في الإيمان والثقة باللّه ورسوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال سبحانه في حقّهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّغُرُوراً) .(2)

فأنّى لنا أن نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خلف الوعد إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالتقوى والعدالة؟

4. السمّاعون

تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهب الريح تتمايل تارة إلى هؤلاء وأُخرى إلى أُولئك بسبب ضعف إيمانهم، وقد حذّر الباري عزّوجلّ المسلمين منهم حيث قال عزّمن قائل،

واصفاً إيّاهم ب_«السمّاعون» لأهل

____________________________

1 . النفاق والمنافقون: تأليف الأُستاذ إبراهيم علي سالم المصري.

2 . الأحزاب:12.

( 211 )

الفتنة: (إِنَّمَا يَستأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَارتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَردَّدُونَ* ولو أرَادُوا الخُرُوجَ لأَعدُّوا لَهُ عُدَّّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبّطهُمْ وَقيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّخَبَالاً ولأَوضَعوْا خِلاَلَكُمْ يَبغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَليمٌ بِالظّالِمِينَ) (1) وذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول.

5. خالطو العمل الصالح بغيره

وهؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح والفلاح تارة، والفساد والعيث مرّة أُخرى، فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيِّء قال سبحانه: (وَآخَرونَ اعْتَرفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) .(2)

6. المشرفون على الارتداد

إنّ بعض الآيات تدلّ على أنّ مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر، وكانت الحرب بينهم و بين قريش طاحنة فأحسّوا بضعفهم وقد أشرفوا على الارتداد، عرّفهم الحقّ سبحانه بقوله: (وَطاِئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتهُمْ أَنْفُسهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِليَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شيء قُلْ إنِ الأَمْرَ كُلَّهُ للّهِ يخفونَ في أَنفُسِهِمْ ما لا يبدُونَ لكَ يَقُولُونَ لَو كانَ لَنا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ما قُتِلْنَا هَاهُنا).(3)

7. الفاسق

إنّ القرآن الكريم يحث المؤمنين وفي مقدّمتهم الصحابة الحضور، على التحرز من خبر الفاسق حتّى يتبيّن، فمن هذا الفاسق الذي أمر القرآن بالتحرّز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحقّ.

____________________________

1 . التوبة: 45_ 47.

2 . التوبة:102.

3 . آل عمران:154.

( 212 )

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) .(1)

فإنّ من المجمع عليه

بين أهل العلم أنّه نزل في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذكره المفسرون في تفسير الآية فلا نحتاج إلى ذكر المصادر.

كما نزل في حقّه قوله تعالى: (أَفَمَنْ كانَ مَؤمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوونَ) (2)، نقل الطبري في تفسيره بإسناده أنّه كان بين الوليد وعلي كلام، فقال الوليد: أنا أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأرد منك للكتيبة. فقال علي: «اسكت فإنّك فاسق» فأنزل اللّه فيهما: (أَفَمَنْ كانَ مَؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُون).(3)

وقد نظم الحديث حسان بن ثابت(شاعر عصر الرسالة) وقال:

أنزل اللّه والكتاب عزيز * في علي و في الوليد قرآناً

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً * وعلي مبوّأ إيماناً

ليس من كان مؤمناً عرف * اللّه كمن كان فاسقاً خواناً

سوف يدعى الوليد بعد قليل * وعلي إلى الحساب عياناً

فعلي يجزى بذاك جناناً * ووليد يجزى بذاك هواناً(4)

أفهل يمكن لباحث حر، التصديق بما ذكره ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر، وفي مقدمتهم أبو زرعة الرازي الذي هاجم المتفحّصين المحقّقين في أحوال الصحابة واتّهمهم بالزندقة.

____________________________

1 . الحجرات:6.

2 . السجدة:18.

3 . تفسير الطبري:21/62، و تفسير ابن كثير:3/452.

4 . «تذكرة الخواص» سبط ابن الجوزي: 115; «كفاية» الكنجي: 55; «مطالب السؤول» لابن طلحة : 20; «شرح النهج» ، الطبعة القديمة: 2/103; «جمهرة الخطب» لأحمد زكي:2/23. لاحظ «الغدير»: 2/42.

( 213 )

8. المسلمون غير المؤمنين

إنّ القرآن يعد جماعة من الأعراب الذين رأوا النبي وشاهدوه وتكلّموا معه، مسلمين غير مؤمنين وأنّهم بعد لم يدخل الإيمان في قلوبهم قال سبحانه: (قالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوآ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلتكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).(1)

أفهل يصحّ عدّ عصابة

غير مؤمنين من العدول الأتقياء؟!

9. المؤلّفة قلوبهم

اتّفق الفقهاء على أنّ المؤّلفة قلوبهم ممّن تصرّف عليهم الصدقات قال سبحانه: (إِنَّما الصَدقات لِلْفُقَراءِ وَالمَساكينَ وَالعامِلينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغارِمينَ وَفي سَبيلِ اللّهِ وَابنِ السَّبيل فَريضةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكيم) .(2)

والمراد من ( المؤلّفةِ قُلُوُبُهمْ): الذين كانوا في صدر الإسلام ممّن يظهرون الإسلام ، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ، وهناك أقوال أُخر فيهم متقاربة والكلّ يهدف إلى الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلاّ بالعطاء.(3)

10. المولّون أمام الكفّار

إنّ التولي عن الجهاد والفرار منه، من الكبائر الموبقة التي ندد بها سبحانه بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُولَّوهُمُ الأَدبَارَ* وَمَنْ يُولّهِمْ يَومئذ دُبُرَهُ إِلاّمُتَحَرِّفاً لّقِتَال أَوْ مُتَحْيّزاً إِلى فِئة فَقَدْ بَ آءَ بِغَضب مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .(4)

____________________________

1 . الحجرات:14.

2 . التوبة:60.

3 . تفسير القرطبي:8/187. لاحظ: المغني لابن قدامة:2/556.

4 . الأنفال:15_ 16.

( 214 )

إنّ التحذير من التولي والفرار من الزحف، والحث على الصمود أمام العدو، لم يصدر من مصدر الوحي إلاّ بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي في غزوة «أُحد» و «حنين».

أمّا الأوّل: فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد: قال: ثمّ أنّبهم على الفرار عن نبيهم وهم يدعون، لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال: (إِذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أحَد والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ) .(1)

وأمّا الثاني: فقد قال ابن هشام فيه أيضاً فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من جفاة أهل مكة، الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون

البحر، وصرخ جبلة ابن حنبل: ألا بطل السحر اليوم...(2)

أفبعد هذا يصحّ أن يعد جميع الصحابة بحجة أنّهم رأوا نور النبوة، عدولاً أتقياء؟!

قال القرطبي في تفسيره: قد فر الناس يوم «أحد» وعفا اللّه عنهم، و قال اللّه فيهم يوم حنين:(ثمّ ولّيتم مُدبرين) ثمّ ذكر فرار عدّة من أصحاب النبي من بعض السرايا.(3)

هذا الإمام الواقدي يرسم لنا تولّي الصحابة منهزمين ويقول: فقالت أُمّ الحارث: فمر بي عمر بن الخطاب فقلت له: يا عمر ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه. وجعلت أمّ الحارث تقول: يا رسول اللّه من جاوز بعيري فأقتله.(4)

____________________________

1 . آل عمران:153.

2 . سيره ابن هشام:3/114، و 4/444، ولاحظ التفاسير.

3 . تفسير القرطبي:7/383.

4 . مغازي الواقدي:3/904. إنّ تعليل الفرار من الزحف بقضاء اللّه يشبه تعليل عبّادَالأوثان شركهم به كما في قوله سبحانه حاكياً عن المشركين: (لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا) (الأنعام:148) وتلزم من ذلك تبرئة العصاة والكفّار، لأنّ أعمالهم كلّها بقضاء منه.

( 215 )

هذه هي الأصناف العشرة من صحابة النبي ممّن لا يمكن توصيفهم بالعدالة والتقوى، أتينا بها في هذه العجالة مضافاً إلى الأصناف المضادة لها، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة وسورة النساء وغيرها من الآيات القرآنية فترى فيها أنّ الإيمان بعدالة الصحابة مطلقاً خطأ في القول،وزلة في الرأي، يضاد نصوص الذكر الحكيم ولم تكن الصحابة إلاّ كسائر الناس فيهم صالح تقي، بلغ القمة في التقى والنزاهة، وفيهم طالح شقي، سقط إلى هوة الشقاءوالدناءة.

ولكن الذي يميّز الصحابة عن غيرهم أنّهم رأوا نور النبوة وتشرّفوا بصحبة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وشاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأُمّ أعينهم، ولأجل ذلك تحمّلوا مسؤولية كبيرة أمام اللّه

وأمام الأجيال المعاصرة لهم واللاحقة بهم، فإنّهم ليسوا كسائر الناس، فزيغهم وميلهم عن الحقّ أشدّ لا يعادل زيغ أكثر الناس وانحرافهم، وقد قال سبحانه في حقّ أزواج النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : (يا نِساءَ النَّبيَّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّساء...) (1) فلو انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور، ولمسوا الحقيقة، وشتان الفرق بينهم و بين غيرهم.

الصحابة في السنة النبوية

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابها أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة، إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر، ستراً لمثالبهم، وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتى يطلع القارئ على قضاء السنّة حول صحابة النبي الأكرم.

____________________________

1 . الأحزاب:32.

( 216 )

روى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: قال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : إنّي فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني و بينهم ... قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عياش وأناأحدّثهم بهذا الحديث فقال: هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت: نعم قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول: إنّهم منّي فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي». أخرجه البخاري ومسلم.(1)

وظاهر الحديث أنّ المراد بقرينة «بدّل بعدي» أصحابه الذي عاصروه وصحبوه وكانوا معه مدّة ثمّ مضوا.

روى البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه

وآله وسلَّم _ قال: «يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي _ أو قال من أُمّتي _ فيحلؤون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».(2)

ثمّ قال: وللبخاري: أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني و بينهم فقال: هلم! فقلت: أين؟ فقال: إلى النار واللّه، فقلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى; ثمّ إذا زمرة أُخرى، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني و بينهم فقال لهم: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلاّمثل همل النعم».(3)

وظاهر الحديث«حتى إذا عرفتهم» وقوله«ارتدّوا على أدبارهم

____________________________

1 . جامع الأُصول لابن الأثير:11/120، كتاب الحوض في ورود الناس عليه، رقم الحديث 7972. و«الفرط»: المتقدّم قومه إلى الماء، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال رجل فرط وقوم فرط.

2 . جامع الأُصول 11/120، رقم الحديث 7973.

3 . جامع الأُصول:11/121، و «همل النعم» كناية عن أنّ الناجي عدد قليل، وقد اكتفينا من الكثير بالقليل، ومن أراد الوقوف على ما لم نذكره فليرجع إلى «جامع الأُصول».

( 217 )

القهقرى» أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه، هم الذين يرتدّون بعده.

الصحابة والتاريخ المتواتر

كيف يمكن عدّالصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا نرى أنّ بعضهم ظهر عليه الفسق في حياة النبي وبعده، كوليد بن عقبة. أمّا الأوّل فقد عرفت نزول الآية في حقّه; وأمّا الثاني فروى أصحاب السير والتاريخ أنّ الوليد بن عقبة أيّام ولايته بالكوفة شرب الخمر وقام ليصلي بالناس صلاة الفجر فصلّى أربع ركعات، وكان

يقول في ركوعه وسجوده: اشربي واسقني، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلم، و قال: هل أزيدكم... إلى آخر ما ذكروه.(1)

وبعضهم ظهرت عليه سمة الارتداد عندما بدت علائم الهزيمة عند المسلمين فقال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر(2)، و قال الآخر: ألا بطل السحر.(3)

وهذا رسول اللّه يخاطب ذي الخويصرة عندما قال للنبي في تقسيم غنائم «حنين»: اعدل، بقوله:«ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟! ثمّ قال: فإنّه يكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة».(4)

وهذا أبو سفيان يضرب برجله قبر حمزة _ عليه السَّلام _ ويقول: ذق عقق إنّ الملك الذي كنّا نتنازع عليه أصبح اليوم بيد صبياننا.(5)

____________________________

1 . الكامل لابن الأثير:2/52; أُسد الغابة:5/91 وغيرهما. وقد أقام الإمام أمير المؤمنين علي _ عليه السَّلام _ عليه الحد في خلافة عثمان بإصرار من الناس وإلحاح منهم لئلاّ تتعطل الحدود.

2 . سيرة ابن هشام:4/443 والقائل أبو سفيان.

3 . سيرة ابن هشام:4/444 والقائل كلدة بن الحنبل فقال له صفوان: اسكت فض اللّه فاك.

4 . سيرة ابن هشام:4/496.

5 . قاموس الرجال:10/89 نقلاً عن الشرح الحديدي.

( 218 )

وهذا أبو سفيان عندما بويع عثمان، دخل إليه بنو أبيه حتى امتلأت بهم الدار ثمّ أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا. قال: يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة.(1)

أفهل بعد هذه الكلمات الكاشفة عن الردة الخبيثة يصحّ لمسلم أن يعد هؤلاء وأمثالهم من صنف العدول وطبقة الصالحين ويعد جرحهم إبطالاً للكتاب والسنّة و تضعيفاً لشهود المسلمين؟!

آراء الصحابة بعضهم حول البعض

إنّ النظرة العابرة لتاريخ الصحابة تقتضي بأنّ

بعضهم كان يتهم الآخر بالنفاق والكذب، كما أنّ بعضهم كان يقاتل بعضاً، ويقود جيشاً لمحاربته، فقتل بين ذلك جماعة كثيرة، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم، والقاتل والمقتول وعدّهم عدولاً ومثلاً للفضل والفضيلة؟! وإليك نزراً يسيراً من تاريخهم ممّا حفظته يد النقل غفلة عن المبادئ العامة لأصحاب الحديث:

1. روى البخاري مشاجرة سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة _ سيد الخزرج _ في قضية الإفك قال: قام رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فاستعذر يومئذ من عبد اللّه بن أبي وهو على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، واللّه ما علمت على أهلي إلاّخيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي».

فقام سعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول اللّه أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا أمرك.

فقام رجل من الخزرج: وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير

____________________________

1 . الشرح الحديدي:9/53 نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

( 219 )

وهو ابن عمّ سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

فثار الحيّان: الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه يخفضهم حتى سكتوا وسكت.(1)

اقرأ فاقض، فإنّ هؤلاء يتّهم بعضهم بعضاً بالكذب والنفاق، ونحن نعتبرهم عدولاً صلحاء، والإنسان على نفسه بصيرة.

2. إنّ الحروب الدائرة

بين الصحابة أنفسهم والثورة التي أقامها أصحاب النبي ومن اتّبعهم على عثمان بن عفان حتى جرّت إلى قتله، أفضل دليل على أنّه لا يصحّ تعريف الصحابة وتوصيفهم بالعدالة والتقوى، إذ كيف يصحّ أن يكون القاتل والمقتول كلاهما على الحقّ والعدالة؟!

وهذا هو طلحة وهذا الزبير قد جهّزا جيشاً جراراً لحرب الإمام علي _ عليه السَّلام _ وأعانتهما أمّ المؤمنين فقتلت جماعة كثيرة بين ذلك، فهل يمكن تعديل كلّ هذه الجماعة حتّى الباغين على الإمام المفترض الطاعة بالنصّ أوّلاً، وببيعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانياً؟!

وهذا معاوية بن أبي سفيان يعدّ من الصحابة وقد صنع بالإسلام والمسلمين ما قد صنع ممّا هو مشهور في التاريخ، و من ذلك أنّه حارب الإمام عليّاً عليه الصلاة والسلام في حرب صفين، وكان علي مع كلّ من بقي من البدريين وهم قريب من مائة شخص، فهل من حارب هؤلاء الصحابة جميعاً بما فيهم سيد الصحابة علي _ عليه السَّلام _ يعدّ من أهل الفضل والصلاح والعدالة؟! فاقض ما أنت قاض.

لقد نقل صاحب المنار: أنّه قال أحد علماء الألمان في «الآستانة» لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية ابن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا «برلين». قيل له: لماذا؟! قال:

____________________________

1 . صحيح البخاري:5/118_ 119 في تفسير سورة النور.

( 220 )

لأنّه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب (الملك لمن غلب)ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عرباً مسلمين.(1)

هذا خال المؤمنين و من يترحّم عليه خطباء الجمعة والجماعة، فكيف حال غيره؟! أضف إليه ما له من الموبقات والمهلكات ممّا لا يمكن لأحد إنكاره.

والاعتذار منه

في تبرير أعماله القاسية باجتهاده في ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية وإزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلّفة، ليس إلاّ ضلالة وخداعاً للعقل، فإنّه اجتهاد على خلاف ما يريده اللّه وضدّ رسوله، وإلاّ يصحّ أن يعد جميع المناوئين للإسلام مجتهدين في صدر الإسلام ومؤخّره.

هذا مجمل القول في هذا الأصل الذي اتّخذه أصحاب الحديث أصلاً من أُصول الإسلام ثمّ أدخله الأشعري في الأُصول التي يتبنّاها أكثر أهل السنّة والجماعة.

التعذير التافه أو أسطورة الاجتهاد

وما أتفه قول من يريد تبرير عمل هؤلاء بالاجتهاد، وأنّهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم، أفهل يصحّ تبرير عمل القتل والفتك والخروج على الإمام المفترض طاعته، بالاجتهاد؟! ولو صحّ هذا الاجتهاد (ولن يصحّ أبداً) لصحّ عن كلّ من خالف الحقّ وحالف الباطل من اليهود و النصارى وغيرهم من الطغام اللئام.

أي قيمة للاجتهاد في قبال النص وصريح السنّة النبوية وإجماع الأُمّة؟! أي قيمة للاجتهاد الذي أباح دماء المسلمين ودمّر كيانهم وشقّ عصاهم وفك عرى وحدتهم، أي، وأي، وأي؟!

إنّ القائلين بعدالة الصحابة يتمسّكون بما يروون عن النبي أنّه قال: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».(2) غير أنّ متن الحديث يكذب صدوره عن

____________________________

1 . تفسير المنار:11/269 في تفسير سورة يونس.

2 . جامع الأُصول:9/ 410 رقم الحديث 6359 ، كتاب الفضائل.

( 221 )

النبي إذ ليس كلّ نجم هادياً للإنسان في البر والبحر، بل هناك نجوم خاصة موجبة للاهتداء، ولأجل ذلك قال سبحانه: (وَعَلامات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون).(1)

ولم يقل : وبالنجوم هم يهتدون، ولو كان كلّ نجم هادياً للضال لكان الأنسب الإتيان بصيغة الجمع. ولو افترضنا صحّة الاهتداء بكلّ نجم في السماء، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً في سماء الحياة، هادياً للأُمّة؟!

هذا قدامة بن مظعون

صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين هجرتين، روي أنّه شرب الخمر وأقام عليه عمر الحد.(2) كما أنّ المشهور أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر.(3)

وقد ارتد طليحة بن خويلد عن الإسلام وادّعى النبوة، ومثله مسيلمة والعنسي الكذّابان وأمرهما أشهر من أن يذكر.

إنّ بعض الصحابة خضب وجه الأرض بالدماء، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطأة حتى إنّه قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس!! وكم وكم بين الصحابة لدة هؤلاء من رجال العيث والفساد قد حفل التاريخ بضبط مساوئهم، أفبعد هذه البينات يصح لأي ابن أُنثى أن يتقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً ويتّخذها مذهباً و يرمي المخالف له، بما هو بريء منه؟!

الموقف الصحيح من الصحابة

والنظرية القويمة المستقيمة هي نظرية الشيعة المنعكسة في الدعاء المروي عن الإمام الطاهر علي بن الحسين _ عليهما السَّلام _ ترى أن يدعو اللّه سبحانه في حقّ أصحاب محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا لكلّهم، بل للّذين أحسنوا

____________________________

1 . النحل:16.

2 . أُسد الغابة:4/199 وسائر كتب التراجم.

3 . أُسد الغابة:3/312.

( 222 )

الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، والذين عاضدوه وأسرعوا إلى وفادته وإليك تلك الكلمة المباركة من الصحيفة السجادية:

«اللّهمّ وأصحاب محمّد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، و من كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات، إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس

لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم، اللّهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا...».(1)

خاتمة المطاف

إنّ لأبي المعالي الجويني كلاماً حول الصحابة دعا فيه إلى أنّ الواجب، الكف والإمساك عن الصحابة وعمّا شجر بينهم، نقله الشارح الحديدي في شرحه على نهج البلاغة كما نقل نقد بعض الزيدية له الذي سمعه من أستاذه النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة و ما نقله عن أُستاذه رسالة مبسوطة في الموضوع فيها نكات بديعة لا يسعنا إيرادها في المقام، ولذلك نقتبس بعضها وقد نقل فيها قضايا تعرب عن جريان السيرة على النقد والرد والمشاجرة، وإليك بعضها:

1. هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقالت للناس: هذا قميص رسول اللّه لم يبل، وعثمان قد أبلى

____________________________

1 . الصحيفة السجادية: الدعاء الرابع مع شرحه، في ظلال الصحيفة السجادية ص 55_ 59.

( 223 )

سنته، ثمّ تقول: اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً.

2. هذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة، ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال: هذا محال وباطل بحجّة أنّ هذا صحابي من صحابة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا يجوز عليه الزنا، كما أنّ عمر لم ينكر على الشهود ولم يقل لهم: ويحكم هلا

تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وأوجب الستر عليهم، وهلاّ تركتموه لرسول اللّه في قوله:«دعوا لي أصحابي» بل ما رأينا عمر إلاّ قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة، وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة ذهب ربعك، يا مغيرة ذهب نصفك، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك، حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة.

و هلاّ قال المغيرة لعمر: كيف تسمع فيَّ قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة ورسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قد قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم! ما رأيناه قال ذلك، بل استسلم لحكم اللّه تعالى.

3. وهاهنا، من هو أمثل من المغيرة وأفضل، كقدامة بن مظعون، لمّا شرب الخمر في أيّام عمر، فأقام عليه الحدّ، وهو رجل من علية الصحابة، ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة; فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحدّ بحجّة أنّه بدري، ولا قال قد نهى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عن ذكر مساوئ الصحابة، وقد ضرب عمر أيضاً ابنه حداً فمات، و كان ممّن عاصر رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ و لم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه.

4. كيف يصحّ أن يقول رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؟! لأنّ هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً، وقد صحّ الخبر الصحيح أنّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _

( 224 )

قال له: «تقتلك الفئة

الباغية». وقال اللّه سبحانه:(فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه)(1) فدلّ على أنّها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي فهي مفارقة لأمر اللّه، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتدياً. وكان يجب أن يكون بسر بن أبي أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين، مهتدياً، لأنّ بسراً من الصحابة أيضاً وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللّذان كانا يلعنان علياً وولديه أ دبار الصلاة، مهتديين، وقد كان في الصحابة من يزني، ومن يشرب الخمر، كأبي محجن الثقفي، ومن ارتد عن الإسلام، كطليحة بن خويلد، فيجب أن يكون كلّ من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتدياً.

5. إنّ هذا الحديث «أصحابي كالنجوم» من موضوعات متعصبة الأموية، فإنّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف، وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله: «خير القرون القرن الذي أنا فيه» وممّا يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة، هو شرّ قرون الدنيا، وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة، الخمور وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد، و أُريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك، وإمرة الحجاج، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية، شراً كلّها،لا خير فيها ولا في رؤسائها وأُمرائها، والناس برؤسائهم وأُمرائهم. والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟

6. فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ

عَنِ الْمُؤْمِنين)(2)، وقوله: (محمّدٌ رسولُ اللّهِ والّذِينَ مَعهُ...) (3) وقول

____________________________

1 . الحجرات:9.

2 . الفتح:18.

3 . الفتح:29.

( 225 )

النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «إنّ اللّه اطّلع على أهل بدر» إن كان الخبر صحيحاً، فكلّه مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم، بأنّه لا عقاب فيه فليفعل ما شاء.

7. من الذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للذي شرفوا برؤيته: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرين) .(1)

وبعد قوله: (قُلْ إِنّي أَخافُ إِنْ عَصَيتُ رَبّي عَذاب يَوم عَظيم) .(2)

وبعد قوله:(فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاس بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بما نَسُوا يَومَ الحِساب).(3) إلاّ من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.

8. والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون في معاصي الأنبياء ويثبتون أنّهم عصوا اللّه تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه، ويقولون: قدري، معتزلي،وربما قالوا: ملحد مخالف لنصّ الكتاب، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إنّ يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إنّ داود قتل أوريا لينكح امرأته، وتارة يقولون: إنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كان كافراً ضالاً قبل النبوة وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر، فأمّا قدحهم في آدم _ عليه السَّلام _ وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من ينكر ذلك، فهو رأيهم وديدنهم، فإذا تكلّم واحد في عمرو بن العاص ومعاوية، وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية

وفعل القبيح احمرّت وجوههم، وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم، وقالوا: مبتدع رافضي، يسب الصحابة ويشتم السلف، فإن قالوا: إنّما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب.

قيل لهم: فاتّبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنّه تعالى قال: (لا تَجِد

____________________________

1 . الزمر:65.

2 . الأنعام:15.

3 . ص: 26.

( 226 )

قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللّهَ وَرَسُولَه).(1)

و قال:(فَإِنْ بَغَتْ إِحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتّى تفيَ إلى أَمْرِ اللّه). (2)

وقال: (أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (3).(4)

قتل الخليفة

قد تصافق أهل السير والتاريخ أنّ عثمان بن عفان قد حوصر ثمّ هوجم وقتل في عاصمة الإسلام، قد قتله الصحابةوالتابعون لهم بإحسان، حتّى منعوا عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه، وهذا إمام المؤرّخين يتلو علينا كيفية الإجهاز عليه والهجوم على داره بعد محاصرته قرابة أربعين يوماً:

يقول الطبري: دخل محمّد بن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته... ثمّ دخل الناس، فمنهم من يجأه بنعل سيفه، وآخر يلكزه، وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في ترقوته، ودخل آخرون فلمّا رأوه مغشياً عليه جرّوا برجله، وجاء التجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها، واتكأ بالسيف عليه في صدره، وقتل عثمان رضى اللّه عنه قبل غروب الشمس.

وفي نصّ آخر يقول: طعن محمد بن أبي بكر جنبيه بمشقص في يده، وضرب كنانة بن بشر مقدم رأسه بعمود، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه، و وثب عمرو بن الحمق فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات إلى آخر ما ذكره.(5)

وقد وقعت الواقعة بمرأى ومسمع من معظم الصحابة وليس لأحد أن يتفوّه أنّهم لم يكونوا عالمين بها، فإنّها ما كانت مباغتة ولا غيلة حتى يكونوا في غفلة

____________________________

1

. المجادلة:22.

2 . الحجرات:9.

3 . النساء:59.

4 . الشرح الحديدي:20/12_33، والرسالة مبسوطة مفصّلة أخذنا المهم منها.

5 . تاريخ الطبري:3/423.

( 227 )

عنها، وقد استمر الحوار أكثر من شهرين والحصر حوالي أربعين يوماً، كلّ ذلك يعرب عن أنّهم كانوا راضين بهاتيك الأحدوثة، لو لم نقل إنّهم كانوا بين مباشر لها، إلى خاذل للمودى به، إلى مؤلّب عليه، إلى راض بما فعلوا، إلى محبذ لتلك الأحوال كما هو واضح لمن قرأ تاريخ الدار وقتل الخليفة، متجرداً عن أهواء وميول أموية.

فعندئذ يدور الأمر بين أمرين، بأيّهما أخذنا يبطل الأصل المزعوم من عدالة الصحابة أجمع.

فإن كان الخليفة قائماً على جادة الحقّ غير مائل عن الطريقة المثلى، فالمجهزون على قتله والناصرون لهم فسّاق إن لم نقل إنّهم مراق عن الدين لخروجهم على الإمام المفترضة طاعته.

وإن كان مائلاً عن الحقّ، منحرفاً عن الطريقة، مستحقاً للقتل فما معنى القول بعدالة الصحابة كلّهم من إمامهم إلى مأمومهم.

وأمّا تبرير عمل المجهزين عليه، المهاجمين على داره بأنّهم كانوا عدولاً خاطئين في اجتهادهم، فهو خداع وضلال لا يصار إليه، ولا يركن إليه أي ذي مسكة من العقل إذ أي قيمة لاجتهادهم تجاه نصوص الكتاب؟ قال عزّ من قائل:(مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَساد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعاً).(1)

كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ تمثل نظريته في حقّ الصحابة رواها نصر بن مزاحم المنقري(المتوفّى عام 212ه_) في حديث عمر بن سعد:

دخل عبد اللّه بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة مع

____________________________

1 . المائدة:32.

( 228 )

أُناس معهم وكانوا قد تخلّفوا عن علي. فدخلوا عليه فسألوه أن يعطيهم عطاءهم _ و قد كانوا تخلّفوا عن

علي حين خرج إلى صفين والجمل _ فقال لهم علي: «ما خلّفكم عنّي؟» قالوا: قتل عثمان ولا ندري أحل دمه أم لا؟ وقد كان أحدث أحداثاً ثمّ استتبتموه فتاب، ثمّ دخلتم في قتله حين قتل، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم؟ مع أناّ عارفون بفضلك يا أميرالمؤمنين وسابقتك وهجرتك».

فقال علي: «ألستم تعلمون أنّ اللّه عزّ وجلّ قد أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر» فقال: (وَإِنْ طائِفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّه)(1)؟

قال سعد: يا علي أعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن، أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار؟ فقال لهم علي:« ألستم تعلمون أنّ عثمان كان إماماً بايعتموه على السمع والطاعة فعلام خذلتموه إن كان محسناً، وكيف لم تقاتلوه إذ كان مسيئاً. فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم، إذ لم تنصروا إمامكم; وإن كان مسيئاً فقد ظلمتم، إذ لم تعينوا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدونا بما أمركم اللّه به، فإنّه قال: (فَقاتِلُوا الّتي تَبْغي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه) » فردّهم ولم يعطهم شيئاً.

وكان علي _ عليه السَّلام _ إذا صلّيالغداة والمغرب وفرغ من الصلاة يقول: «اللّهمّ العن معاوية وعمراً وأبا موسى وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد»، فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين.(2)

وفي كلامه هذا دليل قاطع على أنّ هؤلاء الجائين إلى علي لأخذ عطائهم، خونة ظلمة لا يمكن الحكم بعدالتهم، لأنّهم إمّا ظلموا إمامهم العادل، إذ لم ينصروه وإمّا تركوا الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، ولم يعينوا الإمام القائم بالعدل.

____________________________

1 . الحجرات:9.

2 . وقعة صفين: 551_ 552.

( 229 )

أضف إلى ذلك أنّ الملاعنة من الطرفين أقوى شاهد على فساد إحدى الطائفتين وليس الحقّ خافياً على مبتغيه، كما أنّ الصبح لا يخفى على ذي عينين.

وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده أخذته العصبية في الدعوة إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة فقال: ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالخير موسوماً، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل و التفسيق صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم، والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور، ومر الدهور فلعنة اللّه على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّوأبقى.

فإن قيل: فمن علماء المذاهب من لم يجوز اللعن على يزيد

مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد؟

قلنا: تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم، فرأى المعتنون بأمر الدين، إلجام العوام بالكلية طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد، بحيث لا تزل الأقدام على السواء ولا تضل الأفهام بالأهواء وإلاّفمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق وكيف لا يقع عليهما الاتفاق، وهذا هو السرّ فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال وسدّطريق لا يؤمن

( 230 )

أن يجر إلى الغواية في الم آل مع علمهم بحقيقة الحال، وجلية المقال، وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واشرأبت الأهوال، وحيث لا متسع ولا مجال والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.(1)

إنّ بعض المنصفين من المصريين المعاصرين قد اعترف بالحقّوأراد الجمع بين رأيي السنةوالشيعة في حقّ الصحابة فقال: إنّ منهج أهل السنة في تعديل الصحابة أو ترك الكلام في حقّهم، منهج أخلاقي; وإنّ طريقة الشيعة في نقد الصحابة وتقسيمهم إلى عادل وجائر منهج علمي، فكلّ من المنهجين مكمّل للآخر. وهذا هو ما أعربنا عنه في صدر البحث وقلنا: «عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان» أي بين الأخلاق والموضوعية، وإليك نصّ كلامه:

«يرى أهل السنة: أنّ الصحابة كلّهم عدول، وأنّهم جميعاً مشتركون في العدالة وإن اختلفوا في درجتها.

وأنّ من كفّر صحابياً فهو كافر، و من فسّقه فهو فاسق.

وإن طعن في صحابي فكأنّما طعن على رسول اللّه.

وأنّ من طعن على حضرة الرسول _ عليه السَّلام _ فهو زنديق بل كافر.

ويرى جهابذة أهل السنّة أيضاً أنّه لا يجوز الخوض فيما جرى بين علي _ رضي اللّه عنه _ و معاوية من أحداث التاريخ.

وأنّ من الصحابة من اجتهد وأصاب وهو «علي» و

من نحا نحوه.

وأنّ منهم من اجتهد وأخطأ مثل معاوية وعائشة رضي اللّه عنها و من نحا نحوهما.

وأنّه ينبغي _ في نظر أهل السنّة _ الوقوف والإمساك عند هذا الحكم دون التعرض لذكر المثالب.

ونهوا عن سب معاوية باعتباره صحابياً، و شدّدوا النكير على من سب عائشة باعتبارها أُمّ المؤمنين الثانية بعد خديجة وباعتبارها حبّ رسول اللّه.

____________________________

1 . شرح المقاصد:2/306_ 307.

( 231 )

وما زاد على ذلك فينبغي ترك الخوض فيه وإرجاء أمره إلى اللّه سبحانه. وفي ذلك يقول أبو الحسن البصري وسعيد بن المسيب:

تلك أُمور طهّر اللّه منها أيدينا وسيوفنا، فلنطهّر منها ألسنتنا.

هذه آراء أهل السنّة في عدالة الصحابة وفيما ينبغي أن نقف منهم.

أمّا الشيعة فيرون أنّ الصحابة كغيرهم تماماً لا فرق بينهم و بين من جاء بعدهم من المسلمين إلى يوم القيامة.

وذلك من حيث خضوعهم لميزان واحد هو ميزان العدالة، الذي توزن به أفعال الصحابة كما توزن أفعال من جاء من بعدهم من الأجيال.

وإنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لهذه المنقبة وكان لديه الاستعداد للقيام برسالة صاحب الشريعة _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

وإنّ منهم المعصومين كالأئمّة الذين نعموا بصحبة الرسول _ عليه السَّلام _ كعلي وابنيه _ عليهم السَّلام _ .

ومنهم العدول وهم: الذين أحسنوا الصحبة لعلي بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.

ومنهم المجتهد المصيب، ومنهم المجتهد المخطئ.

ومنهم الفاسق، ومنهم الزنديق _ و هو أقبح من الفاسق وأشدّ نكالاً _.

ويدخل في دائرة الزنديق المنافقون والذين يعبدون اللّه على حرف.

كما أنّ منهم الكفّار وهم الذين لم يتوبوا من نفاقهم والذين ارتدّوا بعد الإسلام.

ومعنى هذا أنّ الشيعة _ و هم شطر عظيم من أهل القبلة _ يضعون جميع المسلمين في ميزان

واحد ولا يفرّقون بين صحابي وتابعي ومتأخر.

كما لا يفرقون بين مغرق في الإسلام وحديث عهد به إلاّ باعتبار درجة

( 232 )

الأخذ بما جاء به حضرة الرسول صلوات اللّه عليه والأئمّة الاثنا عشر من بعده.

وإنّ الصحبة في ذاتها ليست حصانة يتحصّن بها من درجة الاعتقاد.

وعلى هذا الأساس المتين أباحوا لأنفسهم _ اجتهاداً _ نقد الصحابة والبحث في درجة عدالتهم.

كما أباحوا لأنفسهم الطعن في نفر من الصحابة أخلّوا بشروط الصحبة وحادوا عن محبّة آل محمّد _ عليهم السَّلام _ .

كيف لا، و قد قال الرسول الأعظم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي آل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».

وعلى أساس من هذا الحديث و نحوه يرون أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الحديث باضطهادهم لآل محمد، ولعنهم لبعض أفراد هذه العترة. ومن ثمّ، فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة، وكيف يوسمون بسمة العدالة؟!

ذلك هو خلاصة رأي الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة وتلك هي الأسباب العلمية الواقعية التي بنوا عليها حججهم.

والمتأمّل يرى أنّ الفرق بين هذين الموقفين كالفرق بين المنهج الأخلاقي والمنهج العلمي، وأنّ كلا المنهجين مكمل لصاحبه.(1)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير من تاريخ الصحابة وأحوالهم وهي مشحونة بالصواب والخطأ والهدى والضلال. ضعه أمام عقلك وفكرك فاقض ما أنت قاض ولا تتبع الهوى.

(وَإِنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ

____________________________

1 . الأُستاذ حفني داود المصري: نظرات في الكتب الخالدة: 111.

( 233 )

اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين).(1)

(وَلِكُلّ درجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبّكَ بِغافِل عَمّا يَعْمَلُون) .(2)

***

(وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوقَ بعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ إِنَّ رَبّكَ سَريعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم)(3).

____________________________

1 . المائدة:42.

2 . الأنعام:132.

3 . الأنعام: 165.

الإيمان بالقدر خيره و شرّه

الإيمان بالقدر خيره و شرّه

هذا هو الأصل الثالث الذي اتّفقت عليه كلمات أهل الحديث.

القدر كما ذكره بعض أئمّة اللغة. حدّ كلّ شيء ومقداره. والقضاء بمعنى الحكم البات، قال سبحانه: (إِنّا كَّلّ شَيء خَلَقْناهُ بِقَدَر) (1) وقال تعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّإِيّاهُ) .(2)

وعلى هذا فالقدر في الأشياء، هو تحديد وجود الشيء والقضاء هو إبرامه، ويؤيد ذلك ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ : القدر هو الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين.(3)

القول بالقضاء والقدر على نحو الإجمال من العقائد الإسلامية التي لا يصحّ لمسلم إنكارها،ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في تفسيرهما وأنّه هل القضاء والقدر بمعنى التقدير والحتم على أفعال الإنسان وخلقها بلا إرادة واختيار منه، وأنّه في مسرح الحياة مكتوف اليدين فيما كتب وقدر عليه حتى فيما يتعلّق بالتكاليف (الحلال والحرام) أو أنّه بمعنى علمه السابق، على وجود الأشياء وتقديره وتحديده والحكم بوجودها على وجه لا ينافي اختيار العبد وحريته من

____________________________

1 . القمر:49.

2 . الإسراء:23.

3 . الكافي:1/158.

( 235 )

الأساس.

وإن شئت قلت: ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي مع إعطاء القدرة على الفعل والترك وتعريف الخير والشر، وبيان عاقبة الأوّل ومغبة الأخير، فهذا العلم السابق لا يستلزم جبراً، وعلمه سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين وما يأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف، كما لا سببية له في اختيار المكلّفين ولا يقبح معه عقلاً، العقاب على المعصية ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.

أمّا سبق علمه سبحانه على خصوصيات الفعل وتحقّقه وعدمه، فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة

فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّه يَسير). (1)

وقوله سبحانه: (وَكُلّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر* وَكلُّ صَغيروَكَبِير مُسْتَطَر).(2)

وقال عزّ من قائل: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذنِ اللّه) .(3)

و أمّا كون القدر والقضاء لا ينافي التكليف، فيكفي قوله سبحانه:(إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) (4) وقوله سبحانه: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين).(5)

وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَشْكرْ فَإِنّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَميد).(6)

فاللّه سبحانه خلق الإنسان مزيجاً من العقل والنفس مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة.

وتدلّ على ذلك الآيات التالية:

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيرات). (7)

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). (8)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ

____________________________

1 . الحديد:22.

2 . القمر:52_ 53.

3 . الحشر:5.

4 . الإنسان:3.

5 . البلد:10.

6 . لقمان:12.

7 . فاطر:32.

8 . يونس:108.

( 236 )

وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون) .(1)

(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْها). (2)

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) .(3)

إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حرية الإنسان في اختياره خصوصاً فيما يرجع إلى الطاعة والمعصية.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة:

إنّه سبحانه «يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على اللّه يسير»(4) و في ضوء ذلك نعتقد بأنّه سبحانه يعلم أعمارنا وأرزاقنا وما يجري في حياتنا من الأحداث، وما نقوم به من الأفعال كما يعلم مواعيد وفاتنا والكلّ موجود في (كتاب مُبِين) .(5)

لكن علمه السابق بما يجري في صحيفة الكون لا يجعل الإنسان مكتوف اليد أمام الملابسات التي حوله ولا يصيره كالريشة في مهب الريح، بل هو

في الكون محكوم من جهة ومختار من جهة أُخرى، محكوم بالسنن العامة السائدة على الكون والحياة ولا يمكن الخروج عنها، مختار في ما تتعلق به إرادته وفي موقفه من الملابسات التي حوله.

فالنوازل والمصائب والحروب الطاحنة تنتابه، شاء أم لم يشأ والموت يدمّر حياته وكيانه والسموم القتالة تهلكه والجراثيم الضارية تنحرف بها صحته، ولكنّه غير مسؤول أمام هذه الأُمور الخارجة عن اختياره، ولكنّه أمام نعمه سبحانه والإمكانيات التي حوله أمام خيارين: فله أن يستفيد منها بما يمد حياته في الدنيا ويسعده في الآخرة كما أنّ له خلاف ذلك. فلو قلنا: الإنسان مخيَّر لا مسيّّر، فإنّما

____________________________

1 . الجاثية:15.

2 . الأنعام:104.

3 . الإسراء:7.

4 . اقتباس من قوله سبحانه: (ألم تعلم أنّ اللّه يعلم ما في السماء...) (الحج:70).

5 . إشارة إلى قوله سبحانه: (وَيَعْلَمُ ما في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبّة في ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْب وَلا يابِس اِلاّ في كِتاب مُبين) (الأنعام:59).

( 237 )

نريد هذا الجانب الثاني، ولو قيل إنّه مسيّر لا مخيّر، فلابدّ أن يراد منه الجانب الأوّل. ثمّ إنّ في الذكر الحكيم آيات ودلالات وتصريحات على كون الإنسان مخيراً، وهي على حدّ لا يمكن جمعها في مقام واحد.

يقول اللّه لِكلِّ بشر على ظهر الأرض:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبل أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا مَردَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَومَئِذ يَصَّدّعُون* مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُون) (1) ، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟

وعندما يصف ربّنا جزاء الكذبة والمكّذبين ويبيّن عقبى عملهم ويقول: (فَلَنُذيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَسوأ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءاللّه النّار لَهُمْ فِيها دارُ الخُلْد جَزاءً بِما كانُوا بِ

آياتِنا يَجْحَدُون) (2) هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ وهل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين تومئ من قرب أو بعد إلى أنّ القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم. والقرآن حريص كلّ الحرص على إعلان هذه الحقيقة وهي أنّك واجد ما قدمت لن تؤخذ أبداً بشيء لم تصنعه، لم تغلب على إرادتك يوماً فيحسب عليك ما لم تشأ. إنّ المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبداً بل إنّ التكليف يسقط عنه.

وتدبر قوله تعالى: (أَلْقيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّار عَنِيد* مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّه ِإِلهاً آخَرَ فَألقِيَاهُ فِي العَذابِ الشَّدِيد* قالَ قَرينُهُ رَبّنا ما أَطغيتُهُ ولكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيد) (3) ربّنا سبحانه و تعالى ينفي الظلم عن نفسه ويقول إنّه ما عذب إلاّ من فرط وأساء.(4)

____________________________

1 . الروم:43_ 44.

2 . فصلت:27_ 28.

3 . ق: 24_ 27.

4 . السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث: 148_ 149، ولكلامه ذيل فراجعه.

( 238 )

وعلى ذلك فهنا أمران مسلّمان لا يصح لأحد إنكار واحد منهما:

1. إنّ للّه سبحانه علماً سابقاً على كلّ شيء، ومنه أعمال العباد ويعبر عنه بالقدر والتقدير.

2. الإنسان مخيّر في ما تتعلّق به إرادته ومحكوم فيما هو خارج عن إطار إرادته. وللمسلم الواعي الجمع بينهما على وجه صحيح، وسوف يوافيك بيان هذا الجمع عند البحث عن عقيدة الأشاعرة في كون الإنسان مسيّراً لا مخيراً.(1)

وعلى ذلك فالاعتقاد بالتقدير والقضاء أمر لا يمكن لمسلم إنكاره كما أنّ حرية الإنسان في مجال التكليف مثله أيضاً، فإذاً ما هو الذي وقع مثاراً للنقاش؟

في النصف الثاني من القرن الأوّل

بل قبله بقليل أيضاً، انتشر القول بالقدر حتى فرق المسلمين إلى قولين: إلى قدري وجبري، ولكن قد عرفت أنّ القدرية مع أنّها في اللغة بمعنى مثبتة القدر يرادمنه في المصطلح النافون للقدر.

لابدّمن أن نقف ملياً للتأمل في تشخيص النزاع بين الطرفين.

فنقول: إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجاً بينهم وإن لم يعم الجميع، يقول سبحانه:(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تخرصُون).(2)

____________________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة، وسيوافيك إجماله في آخر هذا البحث عند القول بأنّ «القدر لا يلازم الجبر».

2 . الأنعام:148.

( 239 )

ولعلّ قوله سبحانه: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون) (1) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار،واللّه سبحانه يرد على تلك المزعمة بهذا القول.

فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت: مرّ بي عمر بن الخطاب(منهزماً) فقلت: ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه.(2)

والعجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتّى بعد رحلة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي

بكر فقال: أرأيت الزنى بقدر؟ قال:نعم، قال: فإنّ اللّه قدّره علي ثمّ يعذّبني؟! قال: نعم يابن اللخناء، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.(3)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر، فسأل الخليفة عن كون الزنى مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلمّا أجاب الخليفة بنعم، استغرب من ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه، ولذلك قال: فإنّ اللّه قدره علي ثمّ يعذبني؟ فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه وقال: نعم يابن اللخناء.

____________________________

1 . الأعراف:28.

2 . مغازي الواقدي:3/904.

3 . تاريخ الخلفاء : 95.

( 240 )

استغلال الأمويين للقدر

لقد اتّخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها.(1)

ولأجل ذلك لمّا سألت أُمّ المؤمنين عائشة، معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها: إن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم.(2)

وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد بقوله: إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم.(3)

وقد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

قال الدكتور أحمد محمود صبحى في كتابه «نظرية الإمامة»: إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب، ولكن ب آيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، ولقد كان يعلن في الناس أنّ

الخلافة بينه و بين علي _ عليه السَّلام _ قد احتكما فيها إلى اللّه فقضى اللّه له على علي، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة في أمرهم، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين، أنّ كلّ ما يأمر به الخليفة _ حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلافه _ فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد.(4)

____________________________

1 . الأوائل:2/125.

2 . الإمامة والسياسة :1/167.

3 . الإمامة والسياسة :1/171 .

4 . نظرية الإمامة: 334.

( 241 )

وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويين من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأُمرائهم فهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الشهيد الحسين_ عليه السَّلام _ لمّا اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله: اخترت همذان والري على قتل ابن عمك فقال عمر: كانت أُمور قضيت من السماء، وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّما أبى.(1)

ويظهر أيضاً ممّا رواه الخطيب عن أبي قتادة عندما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة فقالت عائشة: ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق سمعت النبي يقول: تفترق أُمّتي على فرقتين، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم، مخفون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف سوقهم، يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يقتلهم أحبهم إلي، وأحبهم إلى اللّه. قال: فقلت: يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟!

قالت: يا قتادة وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً، وللقدر أسباب».(2)

وقد كان حماس الأمويين في هذه المسألة إلى حدّ قد كبح ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة، فهذا الحسن البصري الذي كان من مشاهير الخطباء ووجوه التابعين، وكان يسكت أمام

أعمالهم الإجرامية ولكن كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت تعتمد عليه السلطة آنذاك. فلمّا خوّفه بعض أصدقائه من السلطان، وعد أن لا يعود.

روى ابن سعد في طبقاته عن أيّوب قال: نازلت الحسن في القدر غير مرّة حتّى خوفته من السلطان ، فقال: لا أعود بعد اليوم.(3)

كيف وقد جلد محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة في مخالفته في القدر.

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: «إنّ محمّد بن إسحاق اتّهم بالقدر، وقال الزبير عن الدراوردي: وجلد ابن إسحاق يعني في القدر.(4)

____________________________

1 . طبقات ابن سعد: 5/148.

2 . تاريخ بغداد:1/160.

3 . طبقات ابن سعد: 7/167.

4 . تهذيب التهذيب:9/38_ 46.

( 242 )

أحاديث مختلقة لا تفارق الجبر

وفي ظل هذا الإصرار على القضاء والقدر بهذا المعنى نسجت أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة. وإليك أمثلة منها:

1. روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب، عن عبد اللّه قال: حدّثنا رسول اللّه وهو الصادق أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها; وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها.(1)

2. وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة

وأربعين ليلة فيقول: يا ربّ أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثمّ تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص.(2)

3. قال:جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله.(3)

فبناء على الحديث الأوّل لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما

____________________________

1 . صحيح مسلم:8/44 كتاب القدر.

2 . صحيح مسلم:8/45 كتاب القدر.

3 . جامع الأُصول:1/516; صحيح مسلم:8/48.

( 243 )

لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنّة أو النار، فكلّما أراد من شيء يكون الكتاب السابق حائلاً بينه و بين إرادته.

والحديث الثاني يدلّ على أنّ الإنسان لا يقدر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والأدعية والصدقات، وأنّ الكتاب الذي سبق، حاكم على الإنسان فلا يزاد ولا ينقص وهو يخالف النصوص الثابتة في القرآن والسنّة من تغيير المصير والزيادة والنقص على المكتوب، بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا الشكل الذي يجعل الإنسان مكتوف اليدين في بحر الحياة ممّا ترغب عنه الفطرة السليمة.

إنّ هذه الأحاديث قد نسجت وفق المعتقدات السائدة للسلطة آنذاك حتى تبرر أنّ الوضع الاجتماعي آنذاك لا يمكن تغييره أبداً فإنّه شيء قد فرغ منه. فالفقير يجب أن يبقى هكذا، والغني كذلك يبقى غنياً، وهكذا المظلوم والظالم.

ترى أنّهم قد رووا عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: يا رسول اللّه أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع _ أو مبتدأ _ أو فيما

قد فرغ منه؟ فقال: «بل فيما قد فرغ منه، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر; أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء».

وفي رواية قال: لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقيٌّ وَسَعيدٌ) (1) سألت رسول اللّه، فقلت: يا نبي اللّه فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: «بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر! ولكن كلّ ميسر لما خلق له».(2)

وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تم القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكل ميسر لما خلق له، لا لما لم يخلق له، فأهل السعادة ميسرون

____________________________

1 . هود:105.

2 . جامع الأُصول:10/516_ 517، وفيه أخرجه الترمذي.

( 244 )

للأعمال الصالحة فقط، وأهل الشقاء ميّسرون للأعمال الطالحة فقط.

وهذه المرويات في الصحاح والمسانيد _ و قد تقدّم بعضها _(1) لا تفترق عن الجبر وهي تناقض الأُصول المسلّمة العقلية والنقلية وحاشا رسول اللّه وخيرة أصحابه أن ينبسوا بها ببنت شفة وإنّما حيكت على منوال عقيدة السلطة، وعند ذلك لا تعجب ممّا يقوله أحمد بن حنبل في رسائله:

القدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومرّه ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيّئه وأوّله وآخره من اللّه. قضاء قضاه، وقدر قدّره، لا يعدو أحد منهم مشيئة اللّه ولا يجاوز قضاءه، بل كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لأفعالهم وهو عدل منه عزّ ربّنا وجلّ. والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر.(2)

وقد سرى الجهل إلى أكثر المستشرقين فاستنتجوا من هذه النصوص أنّ الإسلام مبني على القول بالجبر وفي ذلك يقول «ايرفنج» _ من أعلام الكتاب

في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر_ : القاعدة السادسة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية، وقد أقام محمد جلّ اعتماده على هذه القاعدة لنجاج شؤونه الحربية، وهذا المذهب الذي يقرر أنّ الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب، ويعتبره بعض المسلمين منافياً لعدل اللّه، فقد تكونت عدّة فرق جاهدت وهم لا يعتبرون من أهل السنّة.(3)

هذا غيض من فيض ممّا يمكن أن يذكر حول القول بالقدر وسيوافيك توضيحه والمضاعفات الناجمة عنه عند البحث عن عقيدة الأشاعرة.

إنّ هنا كلمة للشيخ «محمد الغزالي» المعاصر حول القدر والجبر يعرب

____________________________

1 . لاحظ ص 156_ 161 من هذا الجزء.

2 . طبقات الحنابلة:1/15 بتصرّف يسير، وقد تقدّم نصّ الرسالة.

3 . حياة محمد : 549.

( 245 )

عن أنّ المحقّقين من أهل السنّة بدأوا يدرسون الإسلام من جديد أو يدرسون الأُصول الموروثة من أبناء الحنابلة وأهل الحديث من رأس وقد رد على القول بالقدر المستلزم للجبر رداً عنيفاً يعرب عن حريته في الرأي وشجاعته الأدبية في تحليل عقائد الإسلام نقتبس منه ما يلي:

فمن الناس من يزعم أنّ الحياة رواية تمثيلية خادعة، وأنّ التكليف أُكذوبة وأنّ الناس مسوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً وأنّ المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة والغريب أنّ جمهوراً كبيراً من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية بل إنّ عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر، ولكنّهم حياءً من اللّه يسترون الجبر باختيار خافت موهوم، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.

إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف كشّاف يصف

ما كان ويكشف ما يكون والكتاب الدالّ عليه يسجل للواقع وحسب!لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.

إنّ هذه الأوهام (التقدير سالب للاختيار) تكذيب للقرآن والسنّة ،فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك، وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً، هذا كلّه تضليل وإفك لقوله تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (1) ، (وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر) .(2)

والواقع أنّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة بل هي تكذيب للّه والمرسلين قاطبة ومن ثمّ فإنّنا

____________________________

1 . الأنعام:104.

2 . الكهف:29.

( 246 )

نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره: إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار....(1)

ونظير ذلك ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنّه سئل عن قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أنفُسِهِمْ ألستُ بربِّكُمْ قاَلُوا بَلَى شَهِدْنا أن تقُولُوا يومَ القِيامَِةِ إنّا كُنّا عِنْ هذا غافِلين) (2) قال عمر ابن الخطاب: سمعت رسول اللّه يسأل عنها فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «إنّ اللّه خلق آدم ثمّ مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثمّ مسح على ظهره فاستخرج منه ذريّة فقال: هؤلاء خلقت للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول اللّه

ففيم العمل؟ قال: فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : إنّ اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللّه النار».(3)

فإنّ هذا التفسير المنسوب لعمر يسير في اتجاه مضاد للتفسير البديهي المفهوم من الآيات البينات.

على أنّه ليس هنا أثر من الجبر الإلهي في الآية التي ورد الحديث في تفسيرها ولا يفيد أنّ اللّه خلق ناساً للنار يساقون إليها راغمين، وخلق ناساً للجنّة يساقون إليها محظوظين! وإنّ التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام.

كلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين اللّه ودنيا الناس،

____________________________

1 . قد مرّ نصّ الحديث في ص 264.

2 . الأعراف:172.

3 . صحيح الترمذي:5/266، رقم الحديث 3075.

( 247 )

وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله، وكأنّهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم!

إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربّنا، ولا اقتداء دقيقاً بسنة نبيّنا إنّه تخليط قد جنينا منه المر!

وكلّ أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهي السند أو معلول المتن، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط والسفينة تحكمها الأمواج ولا تحكم الأمواج، ويعني هذا أن نلزم موقفاً محدداً بإزاء

الأوضاع المتغيرة التي تمر بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب.

أمّا الأوضاع التي تكتنفنا فليست من صنعنا ومنها يكون الاختيار الذي يبت في مصيرنا، إنّ تصوير القدر على النحو الذي جاءت به بعض المرويات غير صحيح، وينبغي أن لا ندع كتاب ربّنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه.

القرآن قاطع في أنّ أعمال الكافرين هي التي أردتهم (يا أَيُّهَا الَّذينَ كَفَروا لا تَعْتَذِرُوا الْيَومَ إِنّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُون) (1) وقاطع في أنّ أعمال الصالحين هي التي تنجيهم (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون) .(2)

فلا احتجاج بقدر ولا مكان لجبر وعلى من يسيئون الفهم أو النقل أن لا يعكّروا صفو الإسلام.

جاءت في القدر أحاديث كثيرة نرى أنّها بحاجة إلى دراسة جادة حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديماً وحديثاً.(3)

____________________________

1 . التحريم:7.

2 . الأعراف:43.

3 . السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث: 144 _ 157 بتلخيص.

( 248 )

تكوين القدرية كرد فعل

و لمّا كان القدر والقضاء بالمعنى الذي تروّجه السلطة الأموية مخالفاً للفطرة والعقل قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركّزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته فيما يرجع إلى سعادته وشقائه، وفيما عينت للثواب والعقاب، ولكن السلطة اتهمتهم بنفي القضاء والقدر ومخالفة الكتاب والسنة ثمّوضعت السيوف على رقاب بعضهم، هذا هو معبد الجهني اتّهموه بالقدر (نفي القدر) ذهب إلى الحسن البصري فقال له: إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر اللّه، فقال: كذب أعداء اللّه.(1)

ومعبد هذا قد اتّهم بالقدرية وأنّه أخذ هذه العقيدة عن رجل نصراني، ولكنّه اتهام في غالب الظن قد أُلصق به وهو منه براء وهذا الذهبي يعرّفه بقوله: إنّه صدوق في نفسه،

وإنّه خرج مع ابن الأشعث على الحجاج حتى قتل صبراً، ووثّقه ابن معين ونقل عن جعفر بن سليمان أنّه حدثه مالك بن دينار قال لقيت معبداً الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهوجريح وكان قاتل الحجاج في المواطن كلّها.(2)

ولا أظن أنّ الرجل الذي ضحى بنفسه في طريق الجهاد ومكافحة الظالمين ينكر ما هو من أوضح الأُصول وأمتنها، ولو أنكر فإنّما أنكر المعنى الذي استغله النظام آنذاك ويشهد بذلك محاورته الحسن البصري الآنفة.

ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتهم به أُستاذه، فهذا الشهرستاني يقول: كان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد. وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته، فأفتى بقتله، فصلب على باب كيسان بدمشق.(3)

____________________________

1 . الخطط المقريزية:2/356.

2 . ميزان الاعتدال:4/141.

3 . الملل النحل للشهرستاني:1/47.

( 249 )

وقد صارت مكافحة هذا الاتجاه الظاهر عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومحاربته سبباً لظهور المفوّضة الذين كانوا يعتقدون بتفويض الأُمور إلى العباد وأنّه ليس للّه سبحانه أي صنع في أفعالهم، فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله، مستغنياً عن اللّه سبحانه فصار كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره بأي صورة أُخرى من الصور. فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط في الخلق وسيوافيك تفصيل القول في محله.

الاحتجاج بالقدر

إنّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية من شأنه أن يجعل الإنسان مسلوب الاختيار، مسيراً في حياته غير مختار في أفعاله فعند ذلك يصحّ للعبد أن يحتجّ على المولى في عصيانه ومخالفته.

ومن العجيب انّه جاء في الصحيحين حديث عن أبي هريرة عن النبي _ صلَّى

الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال: «احتجّ آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبوالبشر الذي خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟» فقال له آدم: أنت موسى الذي كلّمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً«وعصى آدم ربّه فغوى» قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة قال فحج آدم موسى».(1)

وقد اضطرب القائلون بالقدر ومالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذا الحديث وأمثاله إذ لو صحّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية لكان باب العذر للعبد مفتوحاً على مصراعيه.

والعجب من ابن تيمية حيث فسر الحديث في رسالة أسماها

____________________________

1 . جامع الأُصول:10/523 _ 525; صحيح البخاري:4/158 و 6/96و 8/126و 9/148.

( 250 )

ب_«الاحتجاج بالقدر» بأنّ موسى لم يلم آدم إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل لا لأجل أنّ تارك الأمر الإلهي مذنب عاص، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يقل: لماذا خالفت الأمر؟ ولماذا عصيت؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم، بالتسليم للقدر وشهود الربوبية كما قال اللّه تبارك و تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَة إِلاّبِإِذْنِ اللّه) .(1)

ووجه العجب: أنّ ابن تيمية قصر النظر على كلام موسى حيث اعترض على آدم بأنّه لماذا أخرج نفسه وذريته من الجنة، ولم يلتفت إلى جواب آدم، فإنّه صريح في الاحتجاج بالقدر في مورد العصيان وأنّ معصيته كانت أمراً مقدراً قبل أن يخلق فلم يكن بد منها حيث قال لموسى: أنت موسى الذي كلمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً«وعصى آدم ربّه فغوى» قبل أن أخلق، قال: بأربعين سنة قال: فحج آدم موسى.(2)

وعلى ذلك فموسى وإن لم يلم آدم

إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لكن لما كانت المصيبة نتيجة المعصية، احتج آدم على موسى بأنّ المعصية لما كانت أمراً مقدراً وهو بالنسبة إليها مسيراً، وكانت المصيبة نتيجة لها، فهو معذور في المصيبة الّتي عمّته وذريته. فالكلّ من السبب والمسبب كانا خارجين عن قدرته واختياره فلا لوم على المصيبة لعدم صحّة اللوم على المعصية المقدّرة قبل خلقته بأربعين سنة.

ثمّ إنّ كثيراً من القائلين بالقدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث لمّا رأوا في صميم عقلهم وأغوار فكرهم أنّه لا يجتمع معالتكليف، صاروا إلى الإجابة بأصل مبهم جداً، وهو أنّه «لا يحتج بالقدر» .

و عندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي:

لو كان القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث أمراً صحيحاً يجب

____________________________

1 . التغابن:11.

2 . الاحتجاج بالقدر: 18.

( 251 )

الإذعان به و بنتائجه ولوازمه وهو كون الإنسان مجبوراً مسيراً فلا محالة يصحّ الاحتجاج به أيضاً في مقام الاعتذار.

وبالجملة: لا مناص عن اختيار أحد الأمرين: إمّا الإذعان بالقدر ونتائجه ولوازمه ومنها الاحتجاج على المولى سبحانه في مقام المخالفة، وإمّا رفض ذلك الاعتقاد والقول بكون الإنسان مخيراً مختاراً. فالجمع بين الإذعان بالقدر وعدم الاحتجاج به أشبه بالأخذ بالشجرة وإضاعة الثمرة.

ثمّ إنّ ابن تيمية قد التجأ في حلّ العقدة إلى جواب آخر: وهو أنّ القدر لا يحتج به، قال: «وليس القدر حجّة لابن آدم ولا عذراً بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين فإنّ القدر إن كان حجّة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن لأحد أن يفعله، وهو ممتنع طبعاً، محرم شرعاً، ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطرة الخلق وعقولهم، لم تذهب

إليه أُمّة من الأُمم، ولا هو مذهب أحدمن العقلاء».(1)

وكان على ابن تيمية أن يتنبّه عندئذ فيجعل عدم احتجاج العقلاء بالقدر دليلاً على بطلان القدر بالمعنى الذي اختاره وتديّن به، وإلاّفلو صحّ القدر لا يصحّ أن يقال «لا يحتج به».

وبالجملة: إمّا أن يؤمن بالقدر ويحتج به، وإمّا أن لا يؤمن به ولا يحتج به.

وهناك أمر آخر، وهو: أنّ القائل بالقدر يصرح بوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره،وبما أنّ القدر فعل اللّه سبحانه، فتكون النتيجة كون الخير والشر من أفعاله سبحانه وتقديراته حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته. مع أنّ صريح الصحاح من الأحاديث خلافه وأنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «والشر ليس إليك».(2)

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل:1/88_91.

2 . سنن النسائي:2/130، كتاب الصلاة، أبواب الافتتاح، باب «نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة».

( 252 )

وعلى ذلك فيجب تفسير الشر بشكل يناسب مقام الرب كالجدب و المرض والفقر والخوف. وإطلاق الشر عليها نوع مجاز وتأويل.

محاولة للجمع بين القدر وصحّة التكليف

إنّ بعض المتحذلقين في العصر الحاضر لمّا رأى أنّ القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الروايات لا يجتمع مع الاختيار والحرية ويناقض صحّة التكليف، صار بصدد الجمع بينهما فقال: «إنّ للقدر أربع مراتب:

المرتبة الأُولى: العلم: علمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدّد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم.

المرتبة الثانية: الكتاب: فنؤمن بأنّ اللّه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال سبحانه: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالأَرضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتاب انَّ ذلكَ على اللّهِ يَسِير) .(1)

المرتبة الثالثة: المشيئة: فنؤمن بأنّ اللّه تعالى قد شاء كلّ ما في السماوات والأرض لا يكون شيء إلاّبمشيئته، ما شاء

اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن.

المرتبة الرابعة: الخلق: فنؤمن بأنّ (اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء و هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل* لَهُ مقالِيدُ السّماواتِ والأرض) (2) ».

وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من اللّه نفسه ولما يكون من العباد. فكلّ ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك، فهي معلومة للّه تعالى مكتوبة عنده واللّه قد شاءها وخلقها. ثمّ يقول:

ولكنّنا مع ذلك نؤمن بأنّ اللّه تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة، بهما يكون الفعل، والدليل على أنّ فعل العبد باختياره وقدرته أُمور. ثمّ استدل ب آيات تثبت للعبد إتياناً بمشيئته وإعداداً بإرادته مثل قوله سبحانه: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُم) (3) وقوله: (وَلَو

____________________________

1 . الحج:70.

2 . الزمر:62_ 63.

3 . البقرة:223.

( 253 )

أَرادُوا الخُرُوجَ لأَعدّوا لَهُ عُدَّة)(1).(2)

انظر إلى التناقض الذي ارتكبه الكاتب المعاصر وهو بصدد بيان العقيدة الإسلامية، إذ لو كان فعل العبد معلوماً للّه ومكتوباً في اللوح المحفوظ وقد شاء اللّه فعله وخلقه، فكيف يكون للعبد اختيار وقدرة بهما يوجد الفعل؟ وهل الفعل بعد علمه تعالى وكتابته، ومشيئته وخلقه يكون محتاجاً إلى شيء آخر حتّى يكون لاختيار العبد وقدرته دور في ذلك المجال؟«هل قرية وراء عبادان»؟؟!

فكما أنّه لا يكون للعباد دور في خلق السماوات والأرض بعد ما تعلّق به علمه سبحانه وكتبه في لوحه، وشاء وجوده، وخلقه، فهكذا أفعال عباده بعد ما وقعت في إطار هذه المجالات الأربعة.

وبالجملة فعندما تحقّق الخلق من اللّه لا تكون هناك أية حالة انتظارية في تكوّن الفعل ووجوده. فلا معنى لأن يكون للعبد بعد خلقه سبحانه دور أو تأثير. وأمّا مسألة «الكسب» الذي أضافه إمام الأشاعرة إلى «الخلق» فعده سبحانه خالقاً والعبد كاسباً، فسيوافيك أنّه ليس للكسب مع معقول

بعد تمامية الخلقة، فتربص حتى حين.

صراع بين الوجدان وظواهر الأحاديث

لا شكّ أنّ كلّ إنسان يجد من صميم ذاته أنّ له قدرة واختياراً ولا يحتاج في إثباته إلى الاستدلال بالآيات والروايات كما ارتكبه الكاتب وهذا شيء لا يمكن لأحد إنكاره، ولذلك صحّ التكليف وحسن بعث الأنبياء وعليه يدور فلك الحياة في المجتمع الإنساني.

والقدر بالمعنى الذي تصرح به الأحاديث لا يجتمع مع اختيار العبد وقدرته، فلو صحّ القدر بالمعنى المعروف بين أهل الحديث لم يكن مناص في

____________________________

1 . التوبة:46.

2 . «عقيدة أهل السنّة والجماعة» بقلم محمد صالح العثيمين من منشورات الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة: ص 27_ 29.

( 254 )

الصراع عن ارتكاب أحد أمرين: إمّا إنكار القدر و القضاء وهو لا يصحّ أن يصدر من مسلم مؤمن بكتاب اللّه، وإمّا إنكار القدرة والاختيار وهو يخالف الوجدان والفطرة السليمة، وأمّا الجمع بينهما فهو أمر غير ممكن.

والحقّ أنّ الاعتقاد بالقدر بالمعنى الوارد في الروايات السابقة لا ينفك عن الجبر قيد شعرة، وللعبد الاحتجاج على المولى بأنّ الفعل _ بعد تنزّله من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة ومنهما إلى درجة المشيئة فدرجة الخلق والإيجاد _ يكون عندئذ مخلوقاً للّه سبحانه و فعلاً له، وكلّ فاعل مسؤول عن فعل نفسه لا فعل غيره.(وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى) (1). ولا تكون حينئذ للفعل أية صلة بالعبد إلاّ كونه ظرفاً للصدور ومحلاً لإيجاده سبحانه.

ولكن الإمامية مع اعترافهم بالمراتب الأربع للقدر لا يرونه ملازماً للجبر، بل يرون للعبد بعدها اختياراً وحرية. ولأجل ذلك يجب تركيز الكلام في تفسير كون الفعل مورداً لمشيئته وكونه مخلوقاً له سبحانه، وإليك بيان هذين الأمرين:

القول بالقدر لا يلازم الجبر

إنّ منشأ توهم الجبر وكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً ً أحد أمرين:

1.

كون فعله متعلّقاً لمشيئته سبحانه وما شاء اللّه يقع حتماً.

2. كونه خالقاً لكلّ شيء حتّى أفعال عباده وإلاّ بطل التوحيد في الخالقية.

وبالبيان التالي يظهر بطلان التوهم المذكور، وأنّ واحداً من الأصلين لا يقتضي الجبر، إذا فسر على الوجه الصحيح، لا على الوجه الذي يتبنّاه أهل الحديث وحتى الأشاعرة. فنقول:

____________________________

1 . الأنعام:164.

( 255 )

الأمر الأوّل: تعلّق مشيئته بالأفعال

أمّا كون أفعال العباد متعلّقة لمشيئته سبحانه، فهناك من ينكر ذلك ويقول: إنّ التقدير يختص بما يجري في الكون من حوادث كونية ممّا يتعلّق به تدبيره سبحانه، وأمّا أفعال العباد فليست متعلّقة بالتقدير والمشيئة، بل هي خارجة عن إطارهما، والحافز إلى ذاك التخصيص هو التحفّظ على الاختيار ونفي الجبر، فهذا القول يعترف بالقدر ولكن لا في أفعال العباد بل في غيرها.

يلاحظ عليه: أنَّّ الظاهر من الآيات أنّ فعل العباد تتعلّق به مشيئة اللّه، وأنّه لولا مشيئته سبحانه لما تمكن من الفعل.

يقول الراغب: لولا أنّ الأُمور كلّها موقوفة على مشيئة اللّه وأنّ أفعالنا معلّقة بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا نحو (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرينَ) ، (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ صابِراً) ، (يَأِتْيكُمْ بِهِ الّلهُ إن شاء) ، (ادخُلُوا مِصْرَ إن شاءَ اللّهُ) ، (قُلْ لا أملِكُ لِنَفْسِي َنْفْعاً ولا ضَرّاً إلاّ ما شاءَ اللّهُ)، (وَما يكونُ لَنا أنْ نعودَ فِيها إلاّأن يشاءَ اللّهُ ربُّنا) ، (ولا تَقُولَنَّ لِشَيء إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غداً * إلاّ أن يشاءَ اللّهُ) .(1)

وهناك آيات أُخر لم يذكرها«الراغب»:

1. قوله سبحانه: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أو ترَكْتُمُوها قائِمَةً عَلَى أُصُولِها فبإذنِ اللّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقين) .(2)

فالإذن هنا بمعنى المشيئة وما ذكر من القطع والإبقاء من باب المثال.

2. قوله

سبحانه: (إن هُوَ إلاّ ذِكْرٌ لِلعالَمِين* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيم* وما تَشاؤُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ربُّ العَالَمِينَ) .(3)

3. قوله سبحانه: (إنَّ هَذِهِ تَذْكِرةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخذَ إلى ربّهِ سَبِيلاً*

____________________________

1 . المفردات:271.و الآيات كالتالي: الصافات: 102، الكهف:69، هود:33، يوسف:99، الأعراف: 188 و 89، والكهف: 23 _ 24.

2 . الحشر:5.

3 . التكوير:27_ 29.

( 256 )

وما تَشاءُونَ إلاّ أن يَشاءَ اللّهُ إنّ اللّهَ كانَ علِيماً حكِيماً) .(1)

4. قال سبحانه: (كَلاّ بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرةَ* كَلاّ إنّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ* و ما يَذْكُرُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ هُوَ أهْلُ التَّقْوى و أهْلُ المَغْفِرَةِ).(2)

وجه الدلالة في الآيات الثلاث واحدة ومفعول الفعل(وما تشاءون) في الآية الأُولى هو الاستقامة. معناه وما تشاءون الاستقامة على الحقّ إلاّ أن يشاء اللّه ذلك، كما أنّ المفعول في الآية الثانية عبارة عن اتّخاذ الطريق والمعنى وما تشاءون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة اللّه تعالى إلاّأن يشاء اللّه تعالى ، كما أنّ المفعول للفعل، (وما يذكرون) في الآية الثالثة هو القرآن ،أي وما يذكرون القرآن ولا يتذكّرون به إلاّ أن يشاء اللّه.

إذا عرفت ذلك ففي الآيات الثلاث الأخيرة احتمالان:

الأوّل: المراد أنّكم «لا تشاءون الاستقامة أو اتّخاذ الطريق أو التذكّر بالقرآن إلاّ أن يشاء اللّه أن يجبركم عليه ويلجئكم إليه، ولكنّه لا يفعل، لأنّه يريد منكم أن تؤمنوا اختياراً لتستحقوا الثواب، ولا يريد أن يحملكم عليه» واختاره أبو مسلم كما نقله عنه «الطبرسي» وحاصله: وما تشاءون واحداً من هذه الأُمور إلاّأن يشاء اللّه إجباركم وإلجاءكم إليه، فحينئذ تشاءون ولا ينفعكم ذلك، والتكليف زائل، ولم يشأ اللّه هذه المشيئة، بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب.(3)

وعلى هذا فالآيات خارجة عمّا نحن فيه، أعني: كون أفعال البشر على

وجه الإطلاق _ اختيارية كانت أو جبرية _ متعلّقة لمشيئته سبحانه.

الثاني: إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ فعل من أفعال البشر ومنها الاستقامة واتخاذ الطريق والتذكّر لا تتحقّق إلاّ بعد تعلق مشيئته سبحانه بصدورها غير أنّ

____________________________

1 . الإنسان: 29_ 30.

2 . المدثر:53_ 56.

3 . مجمع البيان:5/39 و 413 و 446.

( 257 )

لتعلّق مشيئته شرائط ومعدّات منها كون العبد متجرّداً عن العناد واللجاج متهيئاً لقبول الصلاح والفلاح موقعاً نفسه في مهب الهداية الإلهية، فعند ذلك تتعلّق مشيئته بهداية العبد، وبما أنّ الكفّار المخاطبين في الآية لم يكونوا واجدين لهذا الشرط لم تتعلّق مشيئته باستقامتهم واتّخاذ الطريق والاتّعاظ بالقرآن.

وليس هذا بكلام غريب وإنّه هو المحكّم في الآيات الراجعة إلى الهداية فإنّ له سبحانه هدايتين:هداية عامة تفيض إلى عامة البشر: مؤمنهم وكافرهم وإليه يشير قوله سبحانه: (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) (1) وهناك هداية خاصة تفيض منه سبحانه إلى من جعل نفسه في مهب الرحمة واستفاد من الهداية الأُولى، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (وَيَهْدي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (2)، والظاهر من مجموع الآيات حول المشيئة هو الاحتمال الثاني دون الأوّل واختاره العلاّمة الطباطبائي فقال في تفسير سورة الإنسان.

الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيئة العبد متوقّفة في وجودها على مشيئته تعالى فلمشيئته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيئة العبد وليست متعلّقة بفعل العبد مستقلاً وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً ولا أنّ العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه، شاء اللّه أو لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد.(3)

هذا كلّه في الصغرى أي كون أفعال العباد متعلقة لمشيئته سبحانه. إنّما الكلام في الكبرى وهو أنّ تعلّق المشيئة بفعل

العبد لا يستلزم الجبر، وهذه هي النقطة الحسّاسة في حلّ عقدة الجبر مع القول بكون أفعالنا متعلّقة لمشيئته.

بيان ذلك أنّ هناك فرضين:

1. تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد إيجاداً واضطراراً.

2. تعلّقت مشيئته سبحانه بصدوره منه عن إرادة واختيار.

____________________________

1 . الإنسان:3.

2 . الشورى:13.

3 . الميزان:20/ 142.

( 258 )

فالقول بالجبر إنّما هو نتيجة الفرض الأوّل دون الثاني.

إنّ مشيئته سبحانه تعلّقت بصدور كلّ فعل عن فاعله مع الخصوصية الموجودة فيه، كالصدور عن لا شعور في النار بالنسبة إلى الحرارة والصدور عن اختيار في الإنسان بالنسة إلى التكلم والمشي. وعلى ذلك يجب أن تصدر الحرارة من النار عن اضطرار، ويصدر التكلّم أو المشي عن الإنسان باختيار وإرادة.

فلو صدر الأوّل عن النار بغير هذا الوضع، أو الثاني من الإنسان بغير هذه الكيفية لزم التخلّف عن مشيئته سبحانه وهو محال، إذ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

ومجرّد كون الفعل متعلّقاً لمشيئته وأنّ ما شاء يقع، لا يستلزم القول بالجبر، ولا يصير الإنسان بموجبه مسيّراً إذا كان الفعل صادراً عن الفاعل بالخصوصية المكتنفة به. فالنار فاعل طبيعي تعلقت مشيئته سبحانه بصدور أثرها (أي الحرارة) عنها بلا شعور.

والإنسان فاعل مدرك شاعر مريد، تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور فعله عنه مع الشعور والإرادة. فلو صدر الفعل في كلا الموردين لا مع هذه الخصوصيات لزم التخلّف. فتنزيه ساحته عن وصمة التخلّف يتوقّف على القول بأنّ كلّ معلول يصدر عن العلّة. لكن بالخصوصية التي خلقت معها. فقد شاء اللّه سبحانه أن تكون النار فاعلاً موجباً، ويصدر عنها الفعل بالإيجاب، كما شاء أن يكون الإنسان فاعلاً مختاراً ويصدر الفعل عنه لكن بقيد الاختيار والحرية.

ولقائل أن يقول: إنّ تعلّق المشيئة المهيمنة من اللّه سبحانه على صدور

الفعل من العبد عن اختيار موجب لكون صدور الفعل أمراً قطعياً وعدم المناص إلاّعن إيجاده ومع هذا كيف يكون الفعل اختيارياً فإنّ معناه أنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل وهذا لا يجتمع مع كون صدور الفعل قطعياً.

والجواب: إنّ قطعية أحد الطرفين لا تنافي كون الفعل اختيارياً، وذلك بوجهين:

( 259 )

1. بالنقض بفعل الباري سبحانه، فإنّ الحسن قطعي الصدور، والقبيح قطعي العدم، ومع ذلك فالفعل اختياري له واللّه سبحانه يعامل عباده بالعدل والقسط قطعاً ولا مناص عنه ولا يعاملهم ظلماً وجوراً قطعاً وبتاتاً، ومع ذلك ففعله سبحانه المتّسم بالعدل، اختياري لا اضطراري.

2. إنّ تعلّق مشيئته سبحانه بأفعال العباد، يرجع لباً إلى تعلّقها بحريتهم في الفعل والعمل، وعدم وجود موجب للجوئهم إلى أحد الطرفين حتماً فشاء اللّه سبحانه كونهم أحراراً غير مجبورين، مختارين غير مضطرين حتى يهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة. هذا كلّه حول المشيئة.

الأمر الثاني: خلق الأفعال

وأمّا كون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه فهذا أصل يجب الاعتراف به بحكم التوحيد في الخالقية، وبحكم أنّ(اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وََكِيلٌ) .(1)

إلاّ أنّه يجب تفسير التوحيد في الخالقية، وليس معناه انحصار الفاعلية والخالقية، أعمّ من المستقل وغير المستقل باللّه سبحانه، بأن يكون هناك فاعل واحد يقوم مقام جميع العلل والفواعل المدركة وغير المدركة، كما هو الظاهر من عبارات القوم في تفسير التوحيد في الخالقية،إذ معنى ذلك رفض مسألة العلية والمعلولية بين الأشياء.

وهذا ما لا يوافق عليه العقل ولا الذكر الحكيم، بل معناه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه، ولا فاعل مستقل سواه سبحانه، وأنّ كلّ ما في الكون من كواكب وجبال، وبحار وعناصر، ومعادن وسحب،

ورعود وبروق، وصواعق ونباتات، وأشجار وإنسان وحيوان وملك وجن، وعلى الجملة كلّ ما يطلق عليه عنوان الفاعل والسبب كلّها علل وأسباب غير مستقلة

____________________________

1 . الزمر:62.

( 260 )

التأثير، وأنّ كلّ ما ينسب إلى تلك الفواعل من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال. وإنّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه، فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة للّه، فإليه تنتهي العلية، وإليه تؤول السببية، وهو معطيها للأشياء، كما أنّ له تجريدها عنها إن شاء، فهو مسبب الأسباب وهو معطّلها.

وهذا هو نتيجة الجمع بين الآيات الناصة على حصر الخالقية باللّه سبحانه، والآيات المثبتة لها لغيره، كما في قوله سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح _ على نبيّنا وآله و_ عليه السَّلام _ _ :(أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكونُ طيراً بِإِذْنِ اللّه) (1)، وقوله سبحانه:(فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقينَ).(2)

فهذا الصنف من الآيات الذي يسند الخلق إلى غيره سبحانه إذا قورن بالآيات الأُخرى المصرحة بانحصار الخالقية باللّه سبحانه، مثل قوله تعالى:(قُل اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار) (3) يستنتج أنّ الخالقية المستقلة غير المستندة إلى شيء سوى ذات الخالق منحصرة باللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه الخالقية والفاعلية غير المستقلة المفاضة من الواهب سبحانه إلى الأسباب، تعم عباده وجميع الفواعل المدركة وغير المدركة.

وعلى ذلك فكلّ فعل صادر عن فاعل طبيعي أو مدرك كما يعد فعله سبحانه كذلك يعدّ فعلاً للعبد، لكن بنسبتين.

فاللّه سبحانه فاعل لها بالتسبيب، وغيره فاعل لها بالمباشرة. فليست ذاته سبحانه مبدأً للحرارة بلا واسطة النار، أو للأكل والمشي بلا واسطة

____________________________

1 . آل عمران:49.

2 . المؤمنون:14.

3 . الرعد:16.

( 261 )

الإنسان، بل الفاعل الذي تصدر عنه هذه الأُمور هو النار والإنسان، ولكن فاعلية

كلّ واحد بقدرته وإفاضة الوجود.

وبذلك يتبيّن أنّ أفعال العباد في حال كونها مخلوقة للّه، مخلوقة للإنسان أيضاً، فالكلّ خالق لا في عرض واحد، بل فاعلية الثاني في طول فاعلية الأوّل. والبيتان التاليان يلخّصان هذه النظرية:

وكي_ف فعلن__ا إلين__ا فوّض_ا * وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لن_ا * فالفعل فعل اللّه وه_و فعلن_ا

وبذلك يتبين أنّ الاعتراف بالمرتبة الثالثة والرابعة من القدر لا يلازم الجبر، بشرط تفسيرهما على النحو الذي تقدّم.(1)

***

ثمّ إنّ هناك رسائل ثلاثاً تعدّ من بدايات علم الكلام في القرن الأوّل تعرب عن آراء متضاربة في استلزام القول بالعلم الإلهي السابق، القول بالجبر وعدمه. فالأمويون على الأوّل وفي مقدّمتهم عمر بن عبد العزيز.

وغيرهم على الثاني كالحسن البصري وأصحابه، نذكر نصّ الرسالتين إحداهما لعمر بن عبد العزيز والأُخرى للحسن وهما يغنيان عن الرسالة الثالثة للحسن بن محمد بن الحنفية، كما سنذكره.

عرف الأمويون منذ عصر معاوية إلى آخر دولتهم أنّ سلطتهم على الناس لا تبقى إلاّ مع إذاعة فكرة الجبر بين الأُمّة. وقد أشرنا إلى نماذج من أقوال معاوية فيما سبق، ونضيف في المقام ما نقله القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي علي الجبائي أنّه قال: إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية، وإنّه أظهر أنّ ما يأتيه بقضاء اللّه ومن خلقه، ليجعله عذراً فيما يأتيه ويوهم أنّه مصيب فيه وأنّ اللّه جعله إماماً وولاّه الأمر وفشا ذلك في ملوك بني أُميّة.

وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان رحمه اللّه ، ثمّ نشأ بعدهم

____________________________

1 . ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «مفاهيم القرآن» :1/299_ 334.

( 262 )

يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف مالا يطاق، وأخذ هذا القول عن ضرير(1) وكان بواسط زنديقاً نبوياً(2)

وقال جهم: إنّه لا فعل للعبد. وتبعه ضرار في المعنى، وإن أضاف الفعل إلى العبد وجعله كسباً له وفعلاً وإن كان خلقاً للّه عنده.(3)

الرسائل الثلاث

إنّ الأُمّة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الأوّل ومجموع القرنين التاليين كانت تعيش في مأزق حرج بالنسبة إلى العقائد الإسلامية عامة، والجبر والاختيار خاصة، إذ لم تكن العقيدة الإسلامية مدوّنة ولا مضبوطة، وتكفينا في البرهنة على ذلك الرسائل الثلاث التي تعد من أقدم الوثائق التاريخية في مسائل علم الكلام:

الرسالة الأُولى: الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى حوالي 100ه_) حفيد الإمام علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ ، ويستظهر أنّها كتبت بإيحاء من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (المتوفّى86ه_) وأنّ تاريخ تأليفها يرجع إلى سنة 73هجري.(4)

الرسالة الثانية: ما كتبه الحسن البصري (المتوفّى110ه_) إلى الخليفة نفسه. والرسالتان تقعان على جانبي النقيض، فالأولى تمثّل فكرة الجبر لكن بصورة ملائمة، والأُخرى تبيّن عقيدة الاختيار والحرية.

الرسالة الثالثة: رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز رداً على قدري مجهول

____________________________

1 . كلمة ضرير وصف لا علم.

2 . كذا في المصدر ويحتمل أن تكون الكلمة تحريف: «ثنوياً».

3 . المغني للقاضي عبد الجبار:8/4.

4 . ترجمه ابن سعد في الطبقات الكبرى و قال: يكنّى أبا محمد، و كان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم و كان يقدم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة، توفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز، ولم يكن له عقب.(الطبقات الكبرى:5/328).

( 263 )

الهوية افترض أنّه ينكر العلم الأزلي، ليستريح من عواقب الجبر، فردّ عليه مثبتاً لعلمه القديم، وخرج بالجبر الشديد الذي ربما لا يقع موقع القبول حتى لدى بعض الطوائف الجبرية كالأشاعرة.

ولأجل إيقاف القارئ على الحالة الحرجة التي كان

المسلمون يعانون منها، ننشر نص رسالة عمر بن عبد العزيز فإنّها تغني عن الرسالة المنسوبة إلى حفيد الإمام، إذ هما تتحدان م آلاً ونهاية، ونردفها بنشر رسالة الحسن البصري التي تقع منها على جانب النقيض.

غير أنّا نقدم في المقام الخطبة المروية عن الإمام علي _ عليه السَّلام _ حول القضاء والقدر، ثمّ نردفها بكتاب لابنه الحسن _ عليه السَّلام _ إلى الحسن البصري عند ما سأله عن القدر. وإليك الخطبة:

1. خطبة الإمام أمير المؤمنين_ عليه السَّلام _

1. خطبة الإمام أمير المؤمنين_ عليه السَّلام _

روى الكليني عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد مرفوعاً قال: كان أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه(1)، ثمّ قال له:يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللّه وقدر؟

فقال أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ : «أجل يا شيخ ما علوتم تلعة(2) ولا هبطتم بطن واد إلاّبقضاء من اللّه وقدر.

فقال له الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي(3) يا أمير المؤمنين؟

فقال له: «مه يا شيخ! فواللّه لقد عظّم اللّه الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين».

فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟

فقال له: «وتظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر من اللّه، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، ولا

____________________________

1 . جثا يجثوا جثواً وجثياً بضمهما: جلس على ركبتيه وأقام على أطراف أصابعه.

2 . والتلعة ما ارتفع من الأرض.

3 . أي منه

أطلب أجر مشقتي.

( 265 )

محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها.

إنّ اللّه تبارك وتعالى كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملك مفوضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».

فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام ال_ذي نرج_و بطاعت_ه * ي_وم النج_اة م_ن الرحم_ن غف_راناً

أوض_حت من أمرنا ماكان ملتبساً * جزاك ربّك بالإحس_ان إحس_اناً (1)

وقال الرضي: ومن كلام له _ عليه السَّلام _ للسائل الشامي لما سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من اللّه وقدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره:

ويحك! لعلك ظننت قضاء لازماً، وقدراً حاتماً! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. وإنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً،ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً: (ذلِكَ ظَنُّالّذِينَ كفَروا فَوَيلٌ لِلّذينَ كَفَرُوا مِنَ النّار)(2) .(3)

روى هذا النصّ من الإمام مشايخ الحديث في القرن الثالث والرابع منهم:

1. ثقة الإسلام الكليني ( حوالي 250 _ 329ه_) في جامعه «الكافي» ج1، ص 155 بسند مرفوع.

2. الصدوق (306_ 381ه_) في توحيده ص 273، و في عيون أخبار الرضا ، ج1، ص 138 بأسانيد ثلاثة.

____________________________

1 . الكافي:1/155_ 156، كتاب التوحيد باب الجبر والقدر.

2 . ص : 27.

3 . نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم 78.

( 266 )

3. أبو محمد الحسن بن علي الحسيني

بن شعبة الحرّاني الذي يروي عن أبي علي محمد بن الهمام الإسكافي الذي (توفّي عام 336ه_) فالرجل من أعلام أواسط القرن الرابع.

4. الشيخ المفيد(336_ 413ه_) في كتابه «العيون والمحاسن» ص 40.

5. محمد الرضي جامع نهج البلاغة (359 _ 406ه_).

6. محمد بن علي الكراجكي (المتوفّى 449ه_) في كتابه «كنز الفوائد» ص 169.

وهؤلاء أساتذة الحديث عند الشيعة لا يمتون للاعتزال ولا للمعتزلة بصلة، بل يصارعونهم في كثير من المسائل والمبادئ، ولبعضهم ردود على المعتزلة في بعض المجالات، كما ستوافيك أسماؤها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة، وبعد هذا لا يصحّ تقوّل بعض المتحذلقين كالدكتور علي سامي النشار حيث رأى أنّ هذا النصّ موضوع على لسان علي _ عليه السَّلام _ ببراعة نادرة يرى فيه محاكاة ممتازة بأسلوب علي _ عليه السَّلام _ بحجة أنّه ورد فيه جميع المصطلحات المعتزلية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكاتب لم يتحمّل جهد التتبّع حتى يقف على مصادر الحديث في كتب الشيعة في القرن الثالث والرابع فألقى الكلام على عواهنه فحكم بوضع النصّ، وقد عرفت وجوده في كتب الشيعة الذين كانوا هم والمعتزلة متصارعين وأمّا ما تمسّك به من وجود مصطلحات المعتزلة في الكلام فهو ناشئ عن عدم إلمام الرجل بتاريخ تكوّن المعتزلة فإنّهم أخذوا أكثر مبادئهم من خطب الإمام علي _ عليه السَّلام _ في التوحيد والعدل، مضافاً إلى أنّ «عطاء بن واصل» مؤسس المنهج تتلمذ على يد «أبي هاشم» ولد «محمد بن الحنفية»، وهو أخذ عقائده عن أبيه وهو عن علي _ عليه السَّلام _ ، و هذا شيء قطعي في التاريخ، ولا ينكره إلاّ المتعصّب وهو

____________________________

1 . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:1/412.

( 267 )

ممّا تعترف به أئمّة

الاعتزال، كما سيوافيك نصوصهم في الجزء الثالث إن شاءاللّه.

إنّ مسألة القضاء والقدر و كون الإنسان مخيّراً أو مسيّراً ليست من المسائل التي طرحتها المعتزلة بل من المسائل القديمة التي كانت مطروحة عند جميع الأُمم، و قد عرفت عقيدة المشركين المعاصرين للنبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كما عرفت بعض الأحاديث المروية عن الخلفاء حول القدر والجبر، فلو كان وجود تلك المصطلحات شاهداً على وضع النص، فليكن ذلك شاهداً على كون أحاديث القدر بأجمعها موضوعة لاشتمالها على مصطلحات لم تكن موجودة في عصر الرسول الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

والعجب العجاب أنّ الدكتور ينكر النص ولكنّه يصحح روايات أبي هريرة ويقول: وقد أكثر حقاً من روايات الحديث لكثرة ملازمة الرسول.(1)

ولا أظن أنَّ من درس تاريخ حياة أبي هريرة يوافق الدكتور في هذا الرأي، فإنّه أسلم بعد خيبر وما أدرك من حياة الرسول إلاّسنتين وبضعة أشهر، ومع ذلك فهوأكثر الصحابة حديثاً!!

فيفوق عدد أحاديثه أحاديث عائشة وعلي _ عليه السَّلام _ مع أنّ عليّاً _ عليه السَّلام _ عاش في كنف النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من لدن ولادته إلى أن لبّى الرسول دعوة ربّه، فمرويات الإمام في الصحاح والمسانيد حوالي خمسمائة حديثاً و مرويات أبي هريرة تناهز خمسة آلاف حديث!!

____________________________

1 . المصدر السابق:1/285.

( 268 )

2. كتاب الحسن السبط _ عليه السَّلام _

2. كتاب الحسن السبط _ عليه السَّلام _

إلى الحسن البصري

كتب الحسن بن أبي الحسن البصري(1) إلى أبي محمد الحسن بن علي _ عليهما السَّلام _ : أما بعد فإنّكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة والأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح _ عليه السَّلام _ التي نزلها المؤمنون ونجا فيها

المسلمون، كتبت إليك يابن رسول اللّه عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك _ عليهم السَّلام _ . فإنّ من علماللّه علمكم وأنتم شهداء على الناس واللّه الشاهد عليكم، ذرّية بعضها من بعض، واللّه سميع عليم.

فأجابه الحسن _ عليه السَّلام _ : «بسم اللّه الرحمن الرّحيم وصل إلي كتابك، ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك، أمّا بعد: فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، [و]أنّ اللّه يعلمه فقد كفر، ومن أحال المعاصي على اللّه فقد فجر، إنّ اللّه لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً، ونهاهم تحذيراً، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً، وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل

____________________________

1 . هو الحسن بن يسار، مولى زيد بن ثابت، أخو سعيد وعمارة، المعروف بالحسن البصري، مات سنة 110 ه_ وله تسع وثمانون سنة.

( 269 )

فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا أُلزموها كرهاً، بل منّ عليهم بأن بصّرهم وعرّفهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه وللّه الحجّة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين، والسلام على من اتّبع الهدى».(1)

____________________________

1 . تحف العقول: 231; ورواه المجلسي في البحار:10/136 نقلاً عن كتاب العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف الشيخ الفقيه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهّر الحلّي; وأيضاً رواه الكراجكي في كنز الفوائد: 170 الطبعة الأُولى، بأدنى اختلاف في اللفظ.

( 270 )

3. رسالة عمر بن عبد العزيز

3. رسالة عمر

بن عبد العزيز

في الرد على القدرية(1)

حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق السراج، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا محمد بن بكر البرساني، ثنا سليم بن نفيع القرشي، عن خلف أبي الفضل القرشي، عن كتاب عمر بن عبد العزيز:

1. إلى النفر الذين كتبوا إليّ بما لم يكن لهم بحق في ردّ كتاب اللّه، وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حدّ له إلاّ اللّه وليس لشيء مخرج منه، وطعنهم في دين اللّه و سنّة رسوله القائمة في أُمّته.

2. أمّا بعد، فإنّكم كتبتم إليّ بما كنتم تستترون فيه قبل اليوم في ردّعلم اللّه والخروج منه إلى ما كان رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ يتخوّفه على أُمّته من التكذيب بالقدر.

3. وقد علمتم أنَّ أهل السنّة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنّة نجاة، وسينقص العلم نقصاً سريعاً، وقول عمر بن الخطاب وهو يعظ الناس: «إنّه لا عذر لأحد عند اللّه بعد البيّنة بضلالة ركبها حسبها هدى،ولا في هدى تركه

____________________________

1 . نقلها أبو نعيم الإصبهاني في كتابه «حلية الأولياء» :5/346_ 353 في ترجمة عمر بن عبد العزيز. ونحن ننقلها عمّا نشره «المعهد الألماني للأبحاث الشرقية» تحت عنوان «بدايات علم الكلام» عام النشر1977م.

( 271 )

حسبه ضلالة. قد تبيّنت الأُمور وثبتت الحجة وانقطع العذر» فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى.

4. وإنّكم ذكرتم أنّه بلغكم أنّي أقول: إنّ اللّه قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، فأنكرتم ذلك عليّ وقلتم: إنّه ليس يكون ذلك من اللّه في علم حتى يكون ذلك من الخلق عملاً.

5. فكيف ذاك كما قلتم؟!

واللّه يقول:(إِنّا كاشِفُوا العَذابِ قَليلاً إِنَّكُمْ عائِدُون) (1) يعني العائدين في الكفر وقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُون) .(2)

6. فزعمتم بجهلكم في قول اللّه: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر) (3) أنّ المشيئة في أي ذلك أحببتم، إليكم من ضلالة أو هدى.

7. واللّه يقول: (وَما تَشاءُونَ إِلاّأَنْ يَشاء اللّهُ ربُّ العالمينَ) (4)، فبمشيئة اللّه لهم شاءوا، لو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئاً، قولاً ولا عملاً، لأنّ اللّه لم يملّك العباد ما بيده و لم يفوّض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعاً، فما اهتدى منهم إلاّمن هداه اللّه; ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعاً، فما ضلّ منهم إلاّمن كان في علم اللّه ضالاً.

8. وزعمتم بجهلكم أنّ علم اللّه ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي يصدّهم عمّا تركوا من طاعته، ولكنّه بزعمكم كما علم أنّهم سيعملون بمعصيته، كذلك علم أنّهم سيستطيعون تركها.

9. فجعلتم علم اللّه لغواً، تقولون: لو شاء العبد لعمل بطاعة اللّه وإن كان في علم اللّه أنّه غير عامل بها، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم

____________________________

1 . الدخان:15.

2 . الأنعام:28.

3 . الكهف:29.

4 . التكوير:29.

( 272 )

اللّه أنّه غير تارك لها، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علماً، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علماً ليس في علم اللّه، وقطعتم به علم اللّه عنكم، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضاً، وكان يقول: «إنّ اللّه لم يجعل فضله ورحمته هملاً بغير قسم ولا احتظار، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه» فأنتم تقرّون بالعلم في أمر وتنقضونه في آخر، واللّه يقول:

(...يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيديهِمْ وَما خَلفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِشَيء مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ...) .(1) فالخلق صائرون إلى علم اللّه ونازلون عليه وليس بينه شيء هو كائن حجاب يحجبه عنه ولا يحول دونه، إنّه عليم حكيم.

10. وقلتم: لو شاء لم يعذب بعمل.

11. بغير ما أخبر اللّه في كتابه عن قوم(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُون) (2) وأنّه سيمتعهم قليلاً(ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ) (3)، فأخبر أنّهم عاملون قبل أن يعملوا وأخبر أنّه معذّبهم قبل أن يخلقوا.

12. وتقولون أنتم إنّهم لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عذابهم إلى ما لم يعلم من رحمته لهم.

13.ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب اللّه بالرد. ولقد سمّى اللّه رجالاً من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه، فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييراً، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً، فقال: (وَاذْكُر عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيدِي وَالأَبصار* إِنّا أَخلَصْناهُمْ بِخالِصة ذِكرى الدّار) (4) فاللّه أعزّ في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه في شيء من ذلك، فهو المسمّي لهم بوحيه الذي (لا يَأْتيهِ

____________________________

1 . البقرة:255.

2 . المؤمنون:63.

3 . هود:48.

4 . ص: 45 _ 46.

( 273 )

الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِه)(1) أو أن يشرك في خلقه أحداً، أو أن يدخل في رحمته من قد أخرجه منها، أو أن يخرج منها من قد أدخله فيها. ولقد أعظم باللّه الجهل من زعم أنّ العلم كان بعد الخلق، بل لم يزل اللّه وحده بكلّ شيء عليماً وعلى كلّ شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم ولم يزد بعد أعمالهم، ولا تغير بالجوائح التي قطع بها

دابر ظلمهم، ولم يملك إبليس هدى نفسه ولا ضلالة غيره.وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم اللّه في خلقه وإهمال عبادته، وكتاب اللّه قائم بنقض بدعتكم وإفراط قذفكم. ولقد علمتم أنّ اللّه بعث رسوله والناس يومئذ أهل الشرك، فمن أراد اللّه له الهدى لم تحل ضلالته الّتي كان فيها دون إرادة اللّه له، ومن لم يرد اللّه له الهدى تركه في الكفر ضالاً فكانت ضلالته أولى به من هداه.

14. فزعمتم أنّ اللّه أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية، فعملتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته، وإنّ اللّه خلو من أن يكون يختص أحداً برحمته أو يحجز أحداً عن معصيته.

15. وزعمتم أنّ الشيء الذي يقدر إنّما هو عندكم اليسر والرخاء والنعمة وأخرجتم منه الأعمال.

16. وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى أو أنّكم الذين هديتم أنفسكم من دون اللّه، وأنّكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من اللّه ولا إذن منه.

17. فمن زعم ذلك فقد غلا في القول، لأنّه لو كان شيء لم يسبق في علم اللّه وقدره لكان للّه في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون اللّه واللّه يقول: (حَبَِّّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم) (2) وهم له قبل ذلك كارهون (وَ كَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ)(3) وهم له قبل ذلك محبون وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين. ثمّ أخبرنا بما سبق لمحمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _

____________________________

1 . فصلت:42.

2 . الحجرات:7.

3 . الحجرات:7.

( 274 )

من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال: (أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رَُُحماءُ بَيْنَهُمْ) (1) وقال: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (2)، فكرماً غفرها اللّه له قبل أن يعملها ثمّ أخبرنا

بما هم عاملون قبل أن يعملوا وقال: (تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً) (3). فضلاً سبق لهم من اللّه قبل أن يخلقوا ورضواناً عنهم قبل أن يؤمنوا.

18. وتقولون أنتم إنّهم قد كانوا ملكوا ردّ ماأخبر اللّه عنهم أنّهم عاملون وإنّ إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله، فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولاً ولا يكون لوحي اللّه فيما اختار تصديقاً.

19. بل (فللّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ) (4) و (هي) في قوله: ه(لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (5)، فسبق لهم العفو من اللّه فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم.

20. وقلتم: لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا.

21. فمن زعم ذلك فقد غلا و كذب، و لقد ذكر بشراً كثيراً هم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال:(وَآخرِينَ مِنْهُمْ لمّا يَلْحَقُوا بِهِم) (6)، (والّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخوانِنَا الّذِين سَبَقُونا بالإِيمان)(7)، فسبقت لهم الرحمة من اللّه قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممّن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا.

____________________________

1 . الفتح:29.

2 . الفتح:2.

3 . الفتح:29.

4 . الأنعام:149.

5 . الأنفال:68.

6 . الجمعة:3.

7 . الحشر:10.

( 275 )

22. ولقد علم العالمون باللّه أنّ اللّه لا يشاء أمراً فيحول مشيئته غيره دون بلاغ ما شاء، ولقد شاء لقوم الهدى فلم يضلّهم أحد وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا. فقال لموسى وأخيه: (اذْهَبا إِلى فِرْعَونَ إِنّهُ طَغى* فَقُولا لَهُ قَولاً لَيّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى)(1)، وموسى في سابق علمه أنّه يكون لفرعون عدواً وحزناً فقال: (ونُرِيَ فِرعونَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنهُم ما كانُوا يَحْذَرُونَ) .(2)

23. فتقولون أنتم: لو شاء فرعون كان لموسى ولياً

وناصراً، واللّه يقول:( ِلَيكونَ لَهُمْ عَدُواً وحَزَناً) (3). وقلتم: لو شاء فرعون لامتنع من الغرق واللّه يقول:(إِنّهُمْ جُنْدٌ مُغرَقُونَ) (4). فثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأوّلين، كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: (إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة) (5) فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلي بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنّه سيكون (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (6) وصار إلى ذلك بما ابتلي به من السجود لآدم فأبى، فتلقى آدم بالتوبة فرحم و تلقى إبليس باللعنة فغوى، ثمّ أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مسخوطاً عليه.

24. وقلتم أنتم: إنّ إبليس وأولياءه من الجنّ قد كانوا ملكوا ردّ علم اللّه والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال: (فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ* لأَمْْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ ممّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (7)حتّى لا ينفذ له علم إلاّ بعد مشيئتهم.

____________________________

1 . طه:43_ 44.

2 . القصص: 6.

3 . القصص:8.

4 . الدخان:24.

5 . البقرة:30.

6 . الإسراء:18.

7 . ص:84 _ 85.

( 276 )

25. فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في ردّ علم اللّه؟ فإنّ اللّه جلّوعلا لم يشهدكم خلق أنفسكم، وكيف يحيط جهلكم بعلمه؟ وعلم اللّه ليس بمقصر عن شيء هو كائن، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على ردّه. ولو كنتم تنتقلون في كلّ ساعة من شيء إلى شيء هو كائن، لكانت مواقعكم عنده. ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض(من الفساد) وسفك الدماء فيها، وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم اللّه الفساد وسفك الدماء، وما قالوه تخرصاً إلاّ بتعليم العليم الحكيم لهم فظن ذلك منهم، وأنطقهم به.

26. فأنكرتم أنّ

اللّه أزاغ قوماً قبل أن يزيغوا وأضلّ قوماً قبل أن يضلّوا.

27. وهذا ممّا لا يشك فيه المؤمنون باللّه: إنّ اللّه قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم وبرهم من فاجرهم. وكيف يستطيع عبد هو عند اللّه مؤمن أن يكون كافراً أو هو عند اللّه كافر أن يكون مؤمناً؟ واللّه يقول: (أو َ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحْيَيناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِج مِنْها) (1). فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلاّ بإذن اللّه.

28. ثمّ آخرون «اتّخذوا» من بعد الهدى(عِجْلاً جَسَداً) (2) فضلّوا به، فعفا عنهم لعلّهم يشكرون،فصاروا (مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ) (3) وصاروا إلى ما سبق لهم. ثمّ ضلّت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا، فصاروا في علمه إلى (صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هُمْ خامِدُونَ )(4)، فنفذوا إلى ما سبق لهم، لأنّ صالحاً رسولهم وأنّ الناقة (فِتْنَةً لَهُمْ) (5) وأنّه مميتهم كفّاراً، فعقروها.

____________________________

1 . لأنعام:122.

2 . الأعراف:148.

3 . الأعراف:159.

4 . يس:29.

5 . القمر:27.

( 277 )

29. وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة فابتلي فعصى فلم يرحم، وابتلي آدم فعصى فرحم. وهمّ آدم بالخطيئة فنسي، وهمّ يوسف بالخطيئة فعصم، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون، أو تغني فيما لم يكن حتى يكون، فنعرف لكم بذلك حجّة؟ بل اللّه أعزّممّا تصفون وأقدر.

30. وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى، وإنّما علمه بزعمكم حافظ وإنّ المشيئة في الأعمال إليكم، إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة. ثمّ جعلتم بجهلكم حديث رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله

وسلَّم _ الذي جاء به أهل السنّة _ و هو مصدق للكتاب المنزل _ أنّه من ذنب مُضاه ذنباًخبيثاً، في قول النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حين سأله عمر: «أرأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه أم شيء تأتنفه؟ فقال _ عليه السَّلام _ : «بل شيء قد فرغ منه». فطعنتم بالتكذيب له ، و تعليم من اللّه في علمه إذ قلتم: إن كنّا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر. والجبر عندكم الحيف.

31. فسمّيتم نفاذ علم اللّه في الخلق حيفاً.

32. وقد جاء الخبر أنّ اللّه خلق آدم فنثر ذريّته في يده فكتب أهل الجنّة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون. وقال سهل بن حنيف يوم صفين : أيّها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لرددناه. واللّه ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلاّأسهلت بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا.

33. ثمّ أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حقّ على تأويل باطل تدعون الناس إلى ردّ علم اللّه فقلتم: الحسنة من اللّه والسيّئة من أنفسنا; وقال أئمّتكم وهم أهل السنّة:الحسنة من اللّه في قدر سبق، والسيّئة من أنفسنا في علم قد سبق.

34. فقلتم: لا يكون ذلك حتّى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيّئة من أنفسنا.

( 278 )

35. وهذا رد الكتاب منكم ونقض الدين، وقد قال ابن عباس رضي اللّه عنه حين نجم القول في القدر: هذا أوّل شرك هذه الأُمّة، واللّه، ما ينتهى بهم سوء رأيهم حتّى يخرجوا اللّه من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً.

36.

أنتم تزعمون بجهلكم أنّ من كان في علم اللّه ضالاً فاهتدى، فهو بما ملك ذلك حتّى كان في هداه ما لم يكن اللّه علمه فيه، وأنّ من شرح صدره للإسلام فهو ممّا فوض إليه قبل أن يشرحه اللّه له، وأنّه إن كان مؤمناً فكفر فهو ممّا شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة اللّه في إيمانه.

37. بل أشهد أنّه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها، وأنّ من عمل سيئة فبغير حجّة كانت له فيها وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء وأنّ اللّه لو أراد أن يهدي الناس جميعاً لنفذ أمره فيمن ضلّ حتّى يكون مهتدياً.

38. فقلتم: بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنة إليكم وتفويض السيئة، ألقى عنكم سابق علمه في أعمالكم وجعل مشيئته تبعاً لمشيئتكم.

39. ويحكم، فواللّه، ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوّة حتى نتق(الجَبَلَ فَوْقَهُم كَأنّهُ ظُلَّة) (1). فهل رأيتموه أمضى مشيئة لمن كان قبلكم في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف في الإسلام كرهاً بموقع علمه بذلك فيه؟ أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلَّهم العذاب ف آمنوا و قبل منهم، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم. وقال:(فَلَمّا رأوا بَأْسنا قالُوا آمَنّا باللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرنا بما كُنّا بِهِ مُشْرِكين* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لما رأَوا بَأْسَنا سُنّةَ اللّهِ الّتي قَدْ خَلَتْ في عِبادهِ) (2) أي علم اللّه الذي قد خلا في خلقه(وَخَسِرَ هُنالِكَ

____________________________

1 . الأعراف:171.

2 . غافر:84_85.

( 279 )

الكافِرُون)(1)وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان والخير والشر بيد اللّه يهدي من

يشاء ويذر من يشاء (في طُغيانهم يَعْمَهُون) (2). كذلك قال إبراهيم _ عليه السَّلام _ : (رَبِّ ... واجْنُبْني وَبَنِيَّ أَنْ نعبُدَ الأَصنامَ) (3)، قال: (رَبّنا وَاجْعَلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمةً لَك)(4)، أي إنّ الإيمان والإسلام بيدك وإنّ عبادة من عبد الأصنام بيدك، فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكاً بأيديكم دون مشيئة اللّه عزّوجلّ.

40. وقلتم في القتل إنّه بغير أجل.

41. وقد سمّاه اللّه لكم في كتابه فقال ليحيى: (وَسَلامٌ عَليهِ يَومَ وُُلدَ ويَومَ يَمُوتُ وَيَوَم يُبْعَثُ حَيّاً) (5) فلم يمت يحيى إلاّ بالقتل، وهو موت كما مات من قتل شهيداً أو قتل خطأ كما مات بمرض أو بفجأة، كلّ ذلك موت بأجل استوفاه ورزق استكمله وأثر بلغه ومضجع برز إليه، (وَ ما كانَ لِنَفْس أنْ تَمُوتَ إلاّ بِإذنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً) (6) ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلاّ بلغته ولا موضع قدم إلاّ وطئته ولا مثقال حبة من رزق إلاّ استكملته ولا مضجع حيث كان إلاّبرزت إليه، يصدق ذلك قول اللّه عزّوجلّ(قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلبُون و تُحْشَرُون إِلى جَهَنّم) (7)، فأخبر اللّه بعذابهم بالقتل في الدنيا وفي الآخرة بالنار وهم أحياء بمكة.

42. وتقولون أنتم: إنّهم قد كانوا ملكوا رد علم اللّه في العذابين الذين أخبر اللّه ورسوله أنّهما نازلان بهم.

____________________________

1 . غافر:85.

2 . الأعراف:186.

3 . إبراهيم:35.

4 . البقرة:128.

5 . مريم:15.

6 . آل عمران:145.

7 . آل عمران:12.

( 280 )

43. فقال: (ثانيَ عِطْفهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدُّنيا خِزْيٌ) (1) يعني القتل يوم بدر (ونُذِيقُهُ يَومَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ) (2) فانظروا إلى ما أرادكم فيه رأيكم كتاباً سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم.

44. ثمّ قول رسول اللّه _ صلَّى الله عليه

وآله وسلَّم _ : «بني الإسلام على ثلاثة أعمال: الجهاد ماض منذ يوم بعث اللّه رسوله إلى يوم تقوم فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجّال لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل، والثانية: أهل التوحيد لا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل، والثالثة: المقادير كلّها خيرها وشرها من قدر اللّه». فنقضتم من الإسلام جهاده، وجرّدتم شهادتكم على أُمّتكم بالكفر وبرئتم منهم ببدعتكم، وكذبتم بالمقادير كلّها والآجال والأعمال والأرزاق، فما بقيت في أيديكم خصلة بني الإسلام عليها إلاّنقضتموها وخرجتم منها.

***

هذه رسالة عمر بن عبد العزيز إلى بعض القدريين مجهولي الهوية، وقد نسب إليهم إنكار علمه الأزلي في أفعال العباد، ومصائرهم، ونحن نتبرّأ ممّن ينكر علمه الوسيع المحيط بكلّ شيء، ونؤمن بما قاله سبحانه:

(وَلا رَطْب وَلا يابس إِلاّ في كِتاب مُبِين). (3)

وقوله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كتاب من قَبلِ أَنْ نَبرَأَها إِنَّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسير) .(4)

ولكن نتبرّأ من كلّ من جعل علمه السابق ذريعة إلى نسبة الجبر إلى اللّه سبحانه، ونؤمن بأنّ علمه السابق المحيط لا يكون مصدراً لكون العباد مجبورين في مصائرهم وأنّهم يعملون ويفعلون، ويختارون بمشيئتهم التي منحها اللّه لهم في حياتهم، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حيّ عن بيّنة.

____________________________

1 . الحج:9.

2 . الحج:9.

3 . الأنعام:59.

4 . الحديد:22.

( 281 )

فمنكر علمه السابق المحيط بكلّ شيء ضالّ مضلّ، ومن استنتج منه الجبر مثله في الضلالة والغواية، عصمنا اللّه جميعاً من الزلّة، والعثرة في العلم والعمل.

ولأجل أن يقف القارئ الكريم على أنّه كان في تلك العصور الحرجة رجال من أهل السنّة يذهبون إلى غير ما ذهب إليه أصحاب السلطة الأمويون

ننشر رسالة الحسن البصري في ذلك المجال، وهي رسالة قيمة.(1)

____________________________

1 . الهدف هو نشر هذه الرسالة لما فيها من فائدة، ولا صلة له بتقييم الحسن البصري في كلّ ما يقول أو ما يروى عنه أو ينسب إليه، فإنّ لبيان ذلك مجالاً آخر.

( 282 )

4. رسالة الحسن البصري في الدفاع

4. رسالة الحسن البصري في الدفاع

عن نظرية الاختيار

قال القاضي عبد الجبار:المشهور أنّ عبد الملك بن مروان كاتبه بأنّه قد بلغنا عنك من وصف القدر ما لم يبلغنا عن أحد من الصحابة، فاكتب بقولك إلينا في هذا الكتاب، فكتب إليه:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سلام عليك

أمّا بعد: فإنّ الأمير أصبح في قليل من كثير مضوا، والقليل من أهل الخير مغفول عنهم، و قديماً قد أدركنا السلف الذين قاموا بأمر اللّه، واستنّوا بسنّة رسوله، فلم يبطلوا حقاً، ولا ألحقوا بالرب تعالى إلاّ ما ألحق بنفسه،ولا يحتجون إلاّ بما احتج اللّه تعالى به على خلقه بقوله الحقّ:(وَماخَلَقْتُ الجنَّ والإِنسَ إِلاّ ِليعبُدُونِ) (1). ولم يخلقهم لأمر ثمّ حال بينهم و بينه، لأنّه تعالى ليس بظلام للعبيد ولم يكن في السلف من ينكر ذلك ولا يجادل فيه، لأنّهم كانوا على أمر واحد متسق.(2) وإنّما أحدثنا الكلام فيه، حيث أحدث الناس النكرة له، فلمّا أحدث المحدثون في دينهم ما أحدثوه، أحدث المتمسّكون بكتابه ما يبطلون به المحدثات، ويحذرون به من المهلكات.

____________________________

1 . الذاريات:56.

2 . في مخطوطة أيا صوفيا:متفقين.

( 283 )

وذكر: إنّ الذي أوقعهم فيه تشتت الأهواء، وترك كتاب اللّه تعالى، ألم تر إلى قوله: (قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقيِن) (1). فافهم أيّها الأمير ما أقوله، فإنّ ما نهى اللّه عنه فليس منه، لأنّه لا يرضى ما يسخط، وهو من العباد، فإنّه تعالى يقول: (ولا يَرضى لِعبادِهِ الكُفرَ

وَإِنْ تشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) .(2)

فلو كان الكفر من قضائه وقدره، لرضي به ممّن عمله، وقال تعالى: (وَقَضى ربُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيّاهُ) (3)؟! وقال: (وَالّذي قدَّرَ فَهَدى) (4) ولم يقل والذي قدّر فأضل، لقد أحكم اللّه آياته وسنّة نبيّه _ عليه السَّلام _ فقال: (قُلْ إِنْ ضَلَلتُ فَإِنّما أَضِلُّ عَلى نَفسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبِّّي )(5). وقال: (الّذي أَعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى) (6). ولم يقل ثمّ أضل، وقال: (إِنّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (7)، ولم يقل إنّ علينا للضلال ولا يجوز أن ينهى العباد عن شيء في العلانية، ويقدره عليهم في السر، ربّنا أكرم من ذلك وأرحم ولو كان الأمر كما يقول الجاهلون ما كان تعالى يقول: (اعْمَلُوا ما شِئْتُم)(8). ولقال: اعملوا ما قدرت عليكم، وقال: (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقدَّمَ أو يَتَأخَّرَ) (9). لأنّه جعل فيهم من القوّة ذلك لينظر كيف يعملون، ولو كان الأمر كما قاله المخطئون، لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخّروا،ولا كان لمتقدم حمد فيما عمل، ولا على متأخّر لوم، ولقال: جزاء بما عمل بهم، ولم يقل جزاء بما عملوا وبما كسبوا، وقال تعالى: (وَنَفْس وَما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها

____________________________

1 . النمل: 64.

2 . الزمر:7.

3 . الإسراء:23.

4 . الأعلى: 3.

5 . سبأ:50.

6 . طه:50.

7 . الليل:12.

8 . فصلت: 40 .

9 . المدثر:37.

( 284 )

وَتَقواها) .(1) أي بيّن لها ما تأتي و ما تذر ثمّ قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها).(2) فلو كان هو الذي دسّاها ما كان ليخيب نفسه، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وقوله تعالى: (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لنَا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعفاً فِي النّار).(3)

فلو كان اللّه هو الذي قدّم لهم الشر، ما قال

ذلك، وقال تعالى: (رَبّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا)(4). فالكبراء أضلّوهم دون اللّه تعالى، بل قال تعالى: (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً )(5) (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنّما يَشْكُرُلِنَفْسِهِ) (6). وقال: (وَأَضلَّ فِرعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى).(7) وقال تعالى: (وما أضَلَّنا إلاّ المُجْرِمُون) (8). (وأضَلَّهُمُ السّامِرِي) (9). (إنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)(10). (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشّيطانُ أعْمَالَهُم).(11) و قال: (وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحبُّوا العَمى عََلى الهُدى)(12)فكان بدو الهدى من اللّه واستحبابهم العمى بأهوائهم وظلم آدم نفسه، ولم يظلمه ربّه فقال:(رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(13). وقال موسى :(هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ إنّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِين)(14) . فغواه أهل الجهل وقالوا: (فَإِنَّ

____________________________

1 . الشمس:7 و 8.

2 . الشمس:9و 10.

3 . ص:61.

4 . الأحزاب:67.

5 . الإنسان:3.

6 . لنمل:40.

7 . طه:79.

8 . الشعراء:99.

9 . طه:85.

10 . الإسراء:53.

11 . النحل:63.

12 . فصلت:17.

13 . الأعراف:23.

14 . القصص:15.

( 285 )

اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(1) ولِمَ لم ينظروا إلى ما قبل الآية وما بعدها، ليبيّن لهم أنّه تعالى لا يضلّ إلاّ بتقدّم الكفر والفسق، كقوله تعالى: (ويُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ )(2). وقوله: (فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ) (3). (وما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقِين) (4).

وبين الحسن في كلامه الوعيد، فقال: إنّه تعالى قال: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفأنتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النّارِ)(5). وقال :(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الّذِيَن فَسَقُوا) .(6) وقال تعالى: (أُدْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّة) (7). فكيف يدعوهم إلى ذلك وقد حال بينهم وبينه؟ وقال: (وَما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)(8). فكيف يجوز ذلك و قد منع خلقه من طاعته؟ قال: والقوم ينازعون في المشيئة وإنّما شاء اللّه الخير بمشيئته قال: (يُريدُ اللّهُ بِكُُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ) (9). وقال

في ولد الزنى إنّه من خلق اللّه، وإنّما الزاني وضع نطفته في غير حقّها، فتعدّى أمر اللّه، واللّه يخلق من ذلك ما يشاء وكذلك صاحب البذر إذا وضعه في غير حقّه.(10)

وقال في الرسالة: إنّ اللّه تعالى أعدل وأرحم من أن يعمي عبداً، ثمّ يقول له: أبصر وإلاّ عذبتك، وإذا خلق اللّه الشقي شقياً، ولم يجعل له سبيلاً إلى السعادة فكيف يعذبه؟! وقد قال اللّه تعالى لآدم وحواء: (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)(11). فغلبهما الشيطان على هواه ثمّ قال: (يا بَنِي

____________________________

1 . فاطر:8.

2 . إبراهيم:27.

3 . الصف:5.

4 . البقرة: 26 .

5 . الزمر:19.

6 . يونس:33.

7 . البقرة:208.

8 . النساء:64.

9 . البقرة:185.

10 . كذا في النسخة والظاهر: حقله.

11 . الأعراف:19.

( 286 )

آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجِنَّةِ) .(1) وليس للشيطان عليهم سلطان إلاّ ليعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك. وبعث اللّه الرسول نوراً ورحمة فقال: (اسْتَجِيُبوا للّهِ وللرّسُولِ) (2) وقال: (اسْتَجِيبُوا لرَبِّكُم) (3) وقال: (أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ) (4) و(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه)(5) وقال: (وَما كُنّا مُعذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (6) فكيف يفعل ذلك ثمّ يعميهم عن القبول. وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ) (7) وينهى عمّا أمر به الشيطان قال في الشيطان : (يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصحابِ السَّعِيرِ) (8) فمن أجاب الشيطان كان من حزبه، فلو كان كما قال الجاهلون لكان إبليس أصوب من الأنبياء _ عليهم السَّلام _ إذ دعاؤه إلى إرادة اللّه تعالى وقضائه، ودعت الأنبياء إلى خلاف ذلك، وإلى ما علموا أنّ اللّه قد حال بينهم و بينه.

وقال القوم فيمن أسخط اللّه: إنّ اللّه جبلهم على إسخاطه، وكيف يسخط أن عملوا بقضائه

عليهم وإرادته، واللّه يقول: (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَدَاكَ) (9) وهؤلاء الجهّال يقولون: إنّ اللّه قدّمه وما أضلّهم سواه: (لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ)(10) فلو كان الأمر كما زعموا، لكان الدعاء والأمر لا تأثير له، لأنّ الأمر مفروغ منه، لكن التأويل على غير ما قالوه وقد قال تعالى: (ذلِكَ يَوٌم مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ

____________________________

1 . الأعراف:27.

2 . الأنفال:24.

3 . الشورى:47.

4 . الأحقاف:31.

5 . الأنعام:153.

6 . الإسراء:15.

7 . النحل:90.

8 . فاطر:6.

9 . الحج:10.

10 . الأنعام:137.

( 287 )

يَومٌ مَشْهُود) (1)، والسعيد ذلك اليوم هو المتمسّك بأمر اللّه والشقي هو المضيع.

وقال في الرسالة: واعلم أيّها الأمير، أنّ المخالفين لكتاب اللّه تعالى وعدله يحيلون في أمر دينهم بزعمهم على القضاء والقدر ثمّ لا يرضون في أمر دنياهم إلاّ بالاجتهاد والتعب والطلب والأخذ بالحزم فيه. وذلك لثقل الحقّ عليهم، ولا يعولون في أمر دنياهم وفي سائر تصرفهم على القضاء والقدر، فلو قيل لأحدهم: لا تستوثق في أُمورك، ولا تقفل حانوتك احترازاً لمالك و اتّكل على القضاء والقدر، لم يقبل ذلك، ثمّ يعوّلون عليه في الذي قال:

وما يحتجون به أنّ اللّه تعالى قبض قبضة فقال: «هذا في الجنّة و لا أُبالي. وقبض أُخرى و قال: هذا في النار ولا أُبالي». فإنّهم يرون ربّهم يصنع ذلك، كالمقارع بينهم المجازف، فتعالى اللّه عمّا يصفونه.

فإن كان الحديث حقّاً، فقد علم اللّه تعالى أهل الجنّة وأهل النار، قبل القبضتين وقبل أن خلقهم، فإنّما قبض اللّه أهل الجنة الذين في علمه أنّهم يصيرون إليها، و إنّما مرادهم أن يقرروا في نفوس الذين يقبلون ما رووه، أن تكون أعمال الناس هباءً منثوراً، من حيث قد فرغ من الأمر، وكيف يصح ذلك مع قوله: (تَكادُ

السَّماواتُ يَتَفَطَّرْن َمِنْهُ و تَنْشَقّ الأرضُ وتَخِرُّالجِبَالُ هَدّاً* أن دَعَوْا للرّحمنِ وَََلداً)(2) وهو الذي حملهم عليه.

وما معنى قوله: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُون) (3) وقد منعهم؟ وكيف يقول: (ما كانَ لأَهلِ المَدينةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعرابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ) (4) بل كان يجب أن يقول: ما كان لأهل المدينة أن يعملوا بما قضيت عليهم(5)، ولما قال: (فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّة يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي

____________________________

1 . هود:103.

2 . مريم:90_91.

3 . الانشقاق:20.

4 . التوبة:120.

5 . كذا في النسخة والظاهر: إلاّ بما قضيت عليهم.

( 288 )

الأرْضِ) (1). وهو الذي حال بينهم و بين الطاعة.

وإذا كان الأمر مفروغاً منه، فكيف يقول: (لَيْسَ عَلَيالأعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ) (2) وكيف ابتلى العباد فعاقبهم على فعلهم؟ وكيف يقول:(إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيَل إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) (3) وكيف يقول: (قَدَّرَ فَهَدَى) (4) ولم يقل قدّر فأضل، وكيف يصحّ أنّه خلقهم للرّحمة والعبادة بقوله: (فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَالنّاسَ عَلَيْها)(5) وقوله : (فَطَركُمْ أَوّّلَ مَرَّة) (6) وقوله: (إِلاّمَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (7) فإذا خلقهم لذلك، فكيف يصحّ أن لا يجعل لهم سبيلاً، ويقرهم على السعادة والشقاء على ما يذكرون.

وكيف يبتلي إبليس بالسجود لآدم، فإذا عصى يقول له(فَاهْبِطْ مِنها) (8) ويجعله شيطاناً رجيماً؟ وكيف يقول:(فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) (9) وكيف يحذر آدم عداوته. إن كان الأمر مفروغاً منه على ما تقولون؟

وقال في الرسالة: واعلم أيّها الأمير ما أقول: إنّ اللّه تعالى لم يخف عليه بقضائه شيء، ولم يزدد علماً بالتجربة، بل هو عالم بما هو كائن وما لم يكن، ولذلك قال: (ولَوْ بَسَطَالّلهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا)(10)، (ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً)(11) فعلم

سبحانه أنّه خلق خلقاً من ملائكة وجن وإنس، وأنّه يبتليهم قبل أن يخلقهم، وعلم ما يفعلون كما قدّر أقواتهم، وقدّر ثواب أهل

____________________________

1 . هود:116.

2 . النور:61.

3 . الإنسان:3.

4 . الأعلى:3.

5 . الروم:30.

6 . الإسراء:51.

7 . هود:119.

8 . الأعراف:13.

9 . الأعراف:13.

10 . الشورى:27.

11 . الزخرف:33.

( 289 )

الجنّة وعقاب أهل النار قبل ذلك، ولو شاء إدخال العصاة النار لفعل، لكنّه سهل سبيلهم لتكون الحجة البالغة له على خلقه، والعلم ليس بدافع إلى معاصيه، لأنّ العلم غير العمل، (فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقِين) .(1)

وقال: في قولهم في الضلال والهدى، وقوله: (وَلو شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (2)، (وَلَو شاَء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى) (3)، لأنّ المراد بذلك إظهار قدرته على ما يريده كما قال: (إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نَسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السّمَاءِ) (4)، (ولو نشاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَاَنَتِهِمْ)(5)، (ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أعْيُنِهِمْ)(6)، (ولَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة نَذِيراً)(7)، و قال: (فلَعَلَكَّ َبَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) (8)، حتّى بلغ من قوله أن قال:(فَإِنِ اسْتََطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفقَاً فِي الأَرضِ أَو سُلَّماً فِي السَّماِء)(9) ، فإنّما يدلّ بذلك رسوله على قدرته، فكذلك غير الذي شاء منهم،ولذلك قال في حجتهم يوم القيامة ردّاً عليهم لقولهم: (لَوْ أَنَّ اللّهَ هَدانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ)(10) ورد ذلك بقوله: (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ).(11)

وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم: (لو شاءَ الرّحمَنُ ما عَبَدْنَاهُمْ ما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ).(12)

وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم: (سَيَقُولُ الّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنَا ولاَ آباؤُنا ولا حَرَّّْمنا مِنْ

____________________________

1 . المؤمنون:14.

2 . يونس:99.

3 . الأنعام:35.

4 . سبأ:9.

5 . يس:67.

6

. يس: 66 .

7 . الفرقان:51.

8 . الكهف:6.

9 . الأنعام:35.

10 . الزمر:57.

11 . الزمر:59.

12 . الزخرف:20.

( 290 )

شَيْء) (1) مكذباً لهم:(كَذلِكَ كَذَّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا) (2)، فنعوذ باللّه ممن ألحق باللّه الكذب. وجعلوا القضاء والقدر معذرة، وكيف يصحّ ذلك مع قوله: (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالمين) (3)؟! وكيف يصحّ أن يقول: (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيّئَة فَمِنْ نَفْسَكَ)(4)؟! أي العقوبة التي أصابتك هي من قبل نفسك بعملك. ولو شاء تعالى أن يأخذهم بالعقوبة من دون معصية لقدر على ذلك، لكنّه رؤوف رحيم. ولذلك أرسل موسى إلى فرعون و قد قال: (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي)(5) فقال: (فَقُولا لَهُ قَولاً لََيِّنَاً)(6) وقال: (اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى) (7) (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزكّى) (8) وقال:(وَلَقَدْ أَخذنا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الثَّمراتِ لَعلَّهُمْ يَذَّكَّرون) (9) فيتوبون، فلمّا لجّوا في كفرهم بعد ذلك الأمر والترغيب إلى طاعته، أخذهم بما فعلوا.

قال: ثمّ انظر أيّها الأمير، كيف صنيعه لمن أطاع فقال: (إلاّقَوْمَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا ومَتَّعْناهُمْ إلى حِين)(10) ، (ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتُّّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ)(11) ، (ولو أنّهُمْ أقامُوا التوراةَ والإنجيَل)(12) ، و قال موسى: (ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)(13) ، وقال: (فَلَمّا عَتَوْا عَنمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا

____________________________

1 . الأنعام:148.

2 . الأنعام:148.

3 . الزخرف:76.

4 . النساء: 79.

5 . القصص: 38 .

6 . طه:44.

7 . طه:24.

8 . النازعات:18.

9 . الأعراف:130.

10 . يونس:98.

11 . الأعراف:96.

12 . المائدة: 66.

13 . المائدة:21.

( 291 )

لَهُمْ كُونُوا قِرَدةً خاسِئِينَ)(1) ، فهذا صنيعه بأهل طاعته، وما قدّمناه صنيعه بأهل معاصيه عاجلاً، فإذا هم اتّبعوا

أهواءهم، عاقبهم بما يستحقون.

وقال في الرسالة: ولا يصحّ الجبر إلاّ بمعونة اللّه، ولذلك قال لمحمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : (وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتّ تَرَُْْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئاً قَليلاً) (2) ، وقال يوسف _ عليه السَّلام _ : (وإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ) (3) فقد بيّن وأمر ونهى، وجعل للعبد السبيل على عبادته، وأعانه بكلّ وجه ولو كان عمل العبد يقع قسراً لم يصحّ ذلك.

هذا نصّ الرسالة نقلناها برمتها عن «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» للقاضي عبد الجبار ص 216_ 223.

قال المعلّق على كتاب القاضي: رسالة الحسن إلى عبد الملك بن مروان مطبوعة في مجلة«دار الإسلام» طبعها رويتر عدد 21 سنة 1933 م _ وأضاف _ منها نسخة من مكتبة أيا صوفيا استنبول برقم 3998.

وهذه الرسالة تعترف بعلمه السابق ولكن تنكر كونه موجباً للجبر بمحكم آياته.

ومن لطيف كلامه في الرسالة قوله: «والعلم ليس بدافع إلى معاصيه، لأنّ العلم غير العمل».

كلام مؤلّف كتاب المعتزلة

إنّ عامة المسلمين في صدر الإسلام كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره من اللّه تعالى وأنّ الإنسان في هذه الدنيا مسيّر لا مخيّر وأنّ القلم قد جفّ على علم اللّه، وقد قال أحد رجاز ذلك الزمان معبراً عن تلك العقيدة:

____________________________

1 . الأعراف:166.

2 . الإسراء:74.

3 . يوسف:33.

( 292 )

ي__ا أيّه__ا المضم_ر همّاً لاته__م * إنّك إن تقدر لك الح_مى تح_م

ولو عل_وت شاهقاً م_ن العل_م * كيف توقيك وقد جف القلم(1)

يلاحظ عليه: أنّ نسبة كون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً إلى عامّة المسلمين خطأ جداً، وإنّما هي عقيدة تسربت إلى المسلمين من بلاط الأمويين، وهم أخذوه من الأحبار والرهبان، وإلاّ فالطبقة المثلى من المسلمين كانوا يعتقدون بالاختيار في مقابل التسيير.

و هذه خطب علي _

عليه السَّلام _ وأبناء بيته الرفيع جاهرة بالاختيار ونفي كون التقدير سالباً للحرية، وهذا هو الحسن البصري يسأل «الحسن بن علي» عن مكانة القدر في التشريع الإسلامي، وهو _ عليه السَّلام _ يجيب بما عرفته.(2)

كيف وإنّ التكليف والوعد والوعيد يقوم على أساس الحرية ولا يجتمع مع الجبر كما أنّ إرسال الرسل لا يتم إلاّ بالقول بأنّ الإنسان مخيّر في اتّباع الرسول ومخالفته مضافاً إلى أنّ تعذيب الإنسان المسيّر ظلم قبيح منفيّ عنه سبحانه عقلاً ونقلاً. وهذه الوجوه كافية في إثبات أنّ الرأي العام للمسلمين _ لولا الضغط من البلاط الأموي _ هو الاختيار. وما تقدم من رسالة عادل بني أُمية! لأصدق شاهد على أنّ مذهب الجبر أذيع من قبل الحكام الأمويين.

____________________________

1 . كتاب المعتزلة: 91 نقلاً عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 25.

2 . لاحظ ص:292.

هل الإيمان بخلافة الخلفاء من صميم الدين؟

هل الإيمان بخلافة الخلفاء من صميم الدين؟

إذا كان الخلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأُمّة حسب نظر الشهرستاني إذ قال: «ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان».

فيجب على دعاة الوحدة الذين يبذلون سعيهم لتوحيد الصفوف معالجة هذه المسألة من وجهة علمية وفي جو هادئ. فإن حل هذه المسألة ونظائرها يوجب تقارب الخطى، بل يوحّد الصفوف. فإنّ الوحدة بشكلها السلبي الذي يدعو إلى تناسي الماضي، والتغافل عنه من أساسه، وإسدال الستار على كلّ ما فيه من مفارقات، على ما يتبنّاه بعض دعاتها، لا تؤثر ولا تحقّق أُمنيّتهم، وإنّما تحقّق تلك الأمنية لو أثبتت بصورة علمية أنّ جملة كبيرة من صور الخلاف لا تستند على أساس، وإنّما هي وليدة دعايات خلقتها بعض الظروف وغذّاها قسم من السلطات في عهود خاصة، ولأجل

ذلك نطرح هذه المسألة على طاولة البحث حتى تتقارب الأفكار المتباعدة فإنّ الصراع العلمي والجدال بالحقّ، مهما كان بصورة علمية، يكون من أفضل عوامل التقريب ورفع التباعد، فنقول:

من راجع الكتب الكلامية لأصحاب الحديث، وبعدهم الأشاعرة وجد أنّهم يعدّون الإيمان بخلافة الخلفاء الأربع وحتى تفاضلهم حسب زمن إمامتهم من صميم الإيمان، ولابدّ أن نأتي ببعض النصوص للقدامى منهم:

( 294 )

1. قال إمام الحنابلة (المتوفّى عام 241ه_) في كتاب السنّة: خير هذه الأُمّة بعد نبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر، عمر; وخيرهم بعد عمر، عثمان; وخيرهم بعد عثمان، علي، رضوان اللّه عليهم خلفاء راشدون مهديّون.(1)

2. وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب_«بيان السنة والجماعة»: ونثبت الخلافة بعد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب ثمّ لعثمان بن عفان ثمّ لعلي بن أبي طالب_ عليه السَّلام _ .(2)

3. وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(المتوفّى عام 324ه_) عند بيان عقيدة أهل الحديث وأهل السنّة: ويقرّون بأنّهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلّهم بعد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(3)

وقال أيضاً بعد ما استعرض خلافة الأئمّة الأربعة قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :«الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة، ثمّ ملك بعد ذلك».(4)

4. وقال عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة: وقالوا بإمامة أبي بكر الصديق بعد النبي خلاف من أثبتها لعلي وحده من

____________________________

1 . كتاب «السنّة» المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد الفقي، وهذا الكتاب ألّفه لبيان مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة

ووصف من خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها، أو عاب قائلها بأنّه مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحقّ.

2 . «شرح العقيدة الطحاوية» للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي: 471_ 478.و قد توفّي الطحاوي عام 321ه_.

3 . مقالات الإسلاميين: 323.

4 . «الإبانة عن أُصول الديانة» الباب السادس عشر: ص 190 وما ذكره من الحديث رواه أحمد في مسنده: 5/220 ولاحظ العقائد النسفية: 177، ولمع الأدلة للإمام الأشعري: 114.

( 295 )

الرافضة، وخلاف قول الراوندية الذين أثبتوا إمامة العباس وحده.(1)

أقول: هذه هي عقيدة هؤلاء الأعلام وغيرهم ممّن كتب في موضوع الإمامة عن أهل السنّة، ولرفع الستار عن وجه الحقيقة، نبحث في نواح خاصة لها صلة وثيقة بالموضوع وهذه النواحي عبارة عن:

1. هل الإمامة والخلافة من أُصول الدين أو من فروعه؟

2. هل هناك نصّ في القرآن أو السنّة في مسألة الإمامة أو لا؟

3. مبدأ ظهور هذه العقيدة؟

4. هل هناك نصّ على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم؟

فإذا تبيّن الحال في هذه المواضع يتبيّن الحال في المسألة التي بيّناها آنفاً.

أ. هل الإمامة من الأُصول أو من الفروع؟

الشيعة الإمامية على بكرة أبيهم اتّفقوا على كون الإمامة أصلاً من أُصول الدين، و قد برهنوا على ذلك في كتبهم،ولأجل ذلك يعد الاعتقاد بإمامة الأئمّة من لوازم الإيمان الصحيح عندهم، وأمّا أهل السنّة فقد صرّحوا في كتبهم الكلامية أنّها ليست من الأُصول، وإليك بعض نصوصهم:

1. قال الغزالي (المتوفّى عام 505ه_): اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات بل من الفقهيات، ثمّ إنّها مثار للتعصّبات، والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها، وإن أصاب فكيف إذا أخطأ؟! ولكن إذ

جرى الرسم باختتام المعتقدات بها، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد، فإنّ فطام القلوب عن المنهج المخالف للمألوف، شديد النفار. ولكنّا نوجز القول فيه.(2)

____________________________

1 . الفرق بين الفرق: 350.

2 . الاقتصاد في الاعتقاد: 234،وفي العبارة صعوبة والظاهر زيادة كلمة «المخالف» وصحيحها «المنهج المألوف».

( 296 )

2. قال الآمدي (551 _ 631ه_): واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ولا من الأُمور اللابديات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها، والجهل بها بل لعمري، إنّ المعرض عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها، فإنّها قلّما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء، والرجم بالغيب في حقّ الأئمّة والسلف بالإزراء، وهذا مع كون الخائض فيها سالكاً سبيل التحقيق، فكيف إذا كان خارجاً عن سواء الطريق. لكن لما جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلّمين والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنّفات الأُصوليّين لم نر من الصواب خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب.(1)

3. قال السيّد الشريف (المتوفّى 816ه_) في شرح المواقف: المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها وليست من أُصول الديانات والعقائد خلافاً للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين إذ نصب الإمامة عندنا واجب على الأُمّة سمعاً، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا، إذ قد جرت العادة من المتكلّمين بذكرها في أواخر كتبهم.(2)

4. قال الرازي: اتّفقت الأُمّة، إلاّ شذاذاً منهم، على وجوب الإمامة والقائلون بوجوبها، منهم من أوجبها عقلاً، ومنهم من أوجبها سمعاً، أمّا الموجبون عقلاً، فمنهم من أوجبها على اللّه تعالى، ومنهم من أوجبها على الخلق.(3)

وعلى كلّ تقدير فقد اعتبر أهل السنّة هذا الوجوب حكماً شرعياً فرعياً كسائر الأحكام الفرعية الواردة في الكتاب والسنّة والكتب الفقهية، وإذا تبيّن هذا المطلب فلنبحث عن الموضوع الثاني.

ب. هل

هناك نصّ على الإمامة أم لا؟

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ المذاهب الحقّ في باب الإمامة هو القول

____________________________

1 . غاية المرام في علم الكلام: 363 .

2 . شرح المواقف:8/344.

3 . المحصل للرازي: 406، ط ايران.

( 297 )

بالتنصيص وأنّ النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ نصّ في أيام حياته على الخليفة من بعده، وذلك في موارد ضبطها التاريخ أشهرها قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في يوم الغدير، أي الثامن عشر من ذي الحجة الحرام في عام حجّة الوداع في منصرفه من مكة عند بلوغه غدير خم رافعاً يد علي _ عليه السَّلام _ في محتشد كبير، وهو يقول: «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ قال الناس: نعم، فقال: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه». وقد قامت ثلّة كبيرة من علماء الفريقين بضبط طرق هذا الحديث وأسناده، فأّلفوا في ذلك مختصرات ومفصّلات، أجمعها وأعمّها كتاب الغدير لآية اللّه الحجّة الأميني _ رضوان اللّه عليه _.

هذا ما عند الشيعة، وأمّا عند السنّة، فالرأي السائد هو عدم التنصيص على أحد والزعم بأنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ مات ولم يستخلف.

فهذا هو إمام الحرمين يقول: وما نص النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ على إمامة أحد بعده وتوليته، إذ لو نص على ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وسائر ولاته، وكما اشتهر كلّ أمر خطير.(1)

وقال الأشعري: وممّا يبطل قول من قال بالنصّ على أبي بكر:

أنّ أبا بكر قال لعمر:«ابسط يدك أُبايعك» يوم السقيفة، فلو كان رسولاللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ نصّ

على إمامته لم يجز أن يقول أبسط يدك أُبايعك».(2)

وقد عقد ابن كثير الحنبلي في كتابه «البداية والنهاية» باباً مستقلاً في أنّ رسول اللّه لم يستخلف وتبعه السيوطي في «تاريخ الخلفاء».(3)

والمسألة_ أي عدم وجود النصّ على المتقمّصين بالخلافة بعد النبي _ من

____________________________

1 . لمع الأدلة: 114.

2 . اللمع: 136.

3 . لاحظ البداية:5/250; تاريخ الخلفاء: 7، ط مصر.

( 298 )

الوضوح بمكان بحيث لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها، كيف و هذه قصة السقيفة لم نر أحداً فيها من الذين رشّحوا أنفسهم للخلافة، كسعد بن عبادة من الأنصار، وأبي بكر من المهاجرين، استدلّ على صحّة خلافته بنصّ النبي عليه.

فهذا هو سعد بن عبادة يقول بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنّ محمّداً لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل... إلى أن قال: حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، فرزقكم اللّه الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه... إلى أن قال: وتوفّاه اللّه وهو عنكم راض وبكم قرير عين، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس.

هذا منطق مرشّح الأنصار لا ترى فيه تلميحاً إلى وجود النصّ عليه وليس يقصر عنه منطق أبي بكر في هذا الموقف حين قال: فهم _ أي المهاجرين _ أوّل من عبد اللّه في الأرض، و آمن باللّه وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم في ذلك إلاّ ظالم... إلى أن قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّمدل بباطل أو متجانف لإثم،

أو متورط في هلكة.(1)

فهذان المنطقان من سعد بن عبادة وأبي بكر يعربان عن عدم وجود النصّ على واحد منهما، وأمّاالخليفتان الآخران فحدث عنهما ولا حرج، فقد رقى عمر بن الخطاب منصّة الخلافة بأمر من أبي بكر عندما دعا عثمان بن عفان في حال مرضه فقال له: اكتب: بسم اللّه الرّحمن الرحيم... هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أمّا بعد، ثمّ أُغمي عليه، فكتب عثمان: قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم يكن خيراً منه، ثمّ أفاق وقال: اقرأ عليَّ، فقرأ عليه

____________________________

1 . تاريخ الطبري:2/456، حوادث السنّة 11.

( 299 )

فكبّر أبو بكر... إلى أن قال لعثمان: جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله، وأمّره أبو بكر من هذا الموضع.(1)

وأمّا عثمان فقد انتخب عن طريق الشورى التي عيّن أعضاءها عمر بن الخطاب عندما طعنه أبو لؤلؤة _ غلام المغيرة بن شعبة _ و كان أعضاء الشورى ستة أشخاص وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبد اللّه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.(2)

وقد ذكر التاريخ كيفية استلام عثمان للخلافة، فهذا هو التاريخ المسلّم به، يعرب بوضوح عن عدم وجود نصّ على واحد من الخلفاء الثلاث جميعاً، وإلاّ لم يحتج إلى تعيين أوّل الخلفاء لثانيهم وإلى تعيين الشورى وانتخاب الخليفة عن طريقها.

وقد قام المحدّثون القدامى منهم والمتأخّرون، بجمع ما ورد من الأحاديث حول الخلافة والإمارة، منهم الإمام أبو السعادات الجزري في كتابه «جامع الأُصول من أحاديث الرسول» فقد جمعها في الجزء الرابع من هذا الكتاب، ومنهم العلاّمة علاء الدين علي المتقي الهندي(المتوفّى 975ه_) فقد جمعها في كتابه «كنز العمال» الجزء الخامس، ولا يوجد فيه نصّ صريح على

واحد من الخلفاء الثلاث.

نعم في المقام روايات تشير إلى أنّ الخلافة من حقّ قريش، و هي أحاديث مشهورة موجودة في الكتاب الآنف ذكره.

إذا وقفت على هذين الأمرين، تقف على أنّ ما ادّعيناه من عدم كون الاعتقاد بخلافة الخلفاء من صميم الدين نتيجة ذينك الأمرين، وذلك لأنّه إذا كان أصل الإمامة والخلافة من الفروع لا من الأُصول، من جانب، وثبت حسب نصوص القوم أنّ النبي لم ينص على خلافة واحد منهم من جانب آخر، غاية ما في الباب أنّ الأُمّة في صدر الإسلام قاموا بواجبهم الشرعي أو العقلي حيث كان

____________________________

1 . الإمامة والسياسة: 18 وص 25، ط مصر; الشرح الحديدي:1/165.

2 . تاريخ الطبري:3/293.

( 300 )

نصب الإمام واجباً بأحد الوجهين، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال: إنّ خلافة هؤلاء كانت أمراً صحيحاً غير مخالف للأُصول والقواعد، ولكن يجب أن يعلم أنّه ليس كلّ قضية صحيحة جزءاً من الدين; وعلى فرض كونها من الدين، فليس كلّ ما هو من الدين يجب أن يعد من العقائد; وعلى فرض كونها من العقائد، فليس كلّ ما هو يعد من العقائد مائزاً بين الإيمان والكفر أو بين السنّة والبدعة. وهذه مراحل ثلاث يجب أن يركز عليها النظر فنقول:

إنّ غاية جهد الباحث حسب أُصول أهل السنّة هي إثبات كون خلافتهم أمراً صحيحاً، لأنّ نصب الإمام واجب على الأُمّة عقلاً أو شرعاً، فلأجل ذلك قاموا بواجبهم فنصبوا هذا وذاك للإمامة، ونتيجة ذلك أنّ عملهم كان أمراً مشروعاً ولكن ليس كلّ أمر مشروع يعد جزءاً من الدين.

فلو قام القاضي بفصل الخصومة بين المترافعين في ضوء الكتاب والسنّة فحكم بأنّ هذا المال لزيد دون عمرو وكان قضاؤه صحيحاً لا يعد خصوص هذا القضاء (لا أصل القضاء

بالصورة الكلية) من الدين، إذ ليس كلّ أمر صحيح جزءاً من الدين، ولا يصحّ أن يقال إنّه يجب أن نعتقد أنّ هذا المال لزيد دون عمرو، ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا إنّه من الدين، ولكن ليس كلّ ما هو من الدين يعد من العقائد فكون الماء طاهراً ومطهّراً حكم شرعي، ولكن ليس من العقائد، فأيّ فرق بينه و بين خلافة الخلفاء مع اشتراك الجميع في كونه حكماً فرعياً لا أصلاً من الأُصول.

ولو تنزّلنا مرّة ثانية وقلنا إنّه من العقائد، ولكن ليس كلّ ما يجب الاعتقاد به مائزاً بين الإيمان والكفر، أو بين السنّة والبدعة، إذ للمسائل العقائدية درجات ومراتب، فالشهادة بتوحيده سبحانه ونبوة نبيّه وإحياء الناس يوم الدين، تعد مائزاً بين الكفر والإيمان، وليس كذلك الاعتقاد بعذاب القبر، أو سؤال منكر ونكير، أو كون مرتكب الكبيرة مؤمناً.

و على هذا الأساس يجب على إخواننا أهل السنّة تجديد النظر في هذا الأصل الذي ذهبوا إليه، وهو جعلهم الاعتقاد بخلافة الخلفاء المشار إليهم، آية السنّة، ومخالفته آية البدعة.

( 301 )

ولو توفّي الرجل عن أولاد صغار بلا وصي ولا تعيين قيّم لصغاره فعلى الحاكم الإسلامي تعيين القيّم عليهم لئلاّ تضيع أموالهم، وعندئذ يسأل فهل الاعتقاد بالأصل الكلي من صميم الدين؟ وأنّه يجب على المسلم أن يعتقد بأنّ من مات عن أولاد صغار يجب على الحاكم نصب من يلي أُمورهم؟ وعلى فرض كونه بصورته الكلية من صميمه، فهل الاعتقاد بأنّ زيداً ولي الصغار عند نصب الحاكم له، من صميم الدين، أو أنّ المطلوب في الفروع هو العمل عند الابتلاء. وأمّا الاعتقاد التفصيلي بالكبريات والصغريات فغير لازم؟

ج. مبدأ ظهور هذه العقيدة

لم يكن في عصور الخلفاء الثلاث أي أثر من هذه العقيدة

ولم يكن يخطر ببال أحد من المهاجرين والأنصار أنّه يجب الاعتقاد بخلافة هذا أو ذاك أو ذلك، وأنّ من لم يكن معتقداً بخلافتهم يخرج عن صفوف المؤمنين ويلتحق بالمبدعين. وإنّما أوجدت تلك الفكرة يد السياسة بهدف الإزراء بعلي _ عليه السَّلام _ ، وتصحيح خروج معاوية عليه لأخذ ثأر الخليفة، ولعلّ عمرو بن العاص هو أوّل من بذر تلك الفكرة.

ويدلّ على ذلك ما ذكره المسعودي في كتابه: قال: اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل، فجرى بينهما مناظرات و قد أحضر «عمرو» غلامه لكتابة ما يتفقان عليه، فقال عمرو بن العاص _ بعد الشهادة بتوحيده سبحانه نبوة نبيّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ عمل بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حتّى قبضه اللّه إليه، وقد أدّى الحقّ الذي عليه.

قال أبو موسى: اكتب ثمّ قال في عمر مثل ذلك، فقال أبو موسى: اكتب، ثمّ قال عمرو: واكتب: وأنّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ورضاً منهم، وأنّه كان مؤمناً.

فقال أبو موسى الأشعري: ليس هذا ممّا قعدنا له.

قال عمرو: واللّه لابدّمن أن يكون مؤمناً أو كافراً.

فقال أبو موسى: كان مؤمناً.

( 302 )

قال عمرو: فمره يكتب .

قال أبو موسى: اكتب.

قال عمرو: فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟

قال أبو موسى: بل قتل مظلوماً.

قال عمرو: أو ليس قد جعل اللّه لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟

قال أبو موسى: نعم.

قال عمرو: فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟

قال أبو موسى:

لا.

قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه؟

قال أبو موسى: بلى.

قال عمرو للكاتب: اكتب، وأمره أبو موسى فكتب.

قال عمرو: فإنّا نقيم البيّنة على أنّ عليّاً قتل عثمان....(1)

وهذا النصّ من حجّة التاريخ وغيره يعرب عن أنّ الاعتقاد بخلافة الخلفاء إنّما برز للوجود في جو مشحون بالعداء والبغضاء والمنافسة والمغالبة، حتى جعل ذلك الداهية الماكر، الاعتقاد بخلافة الشيخين وسيلة لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث من الخلفاء، ولم يكن الانتزاع مقصوداً بالذات، بل كان أخذه ذريعة لانتزاع الاعترافات الأُخرى من أنّه قتل مظلوماً وأنّه ليس له ولي يطلب بدمه أولى من معاوية وأنّ عليّاً هو القاتل... إلى آخره.

ثمّ إنّ الأجواء السياسية المخالفة لأمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ أخذت تروّج تلك العقيدة من أجل الإطاحة به _ عليه السَّلام _ وإثبات صحّة قيام معاوية وصحّة أعماله وقيامه ونصبه فصار ذلك المستمسك السياسي بمرور الزمان، عقيدة دينية، سقته الأوضاع السياسية الأموية والعباسية، إلى أن ذكرت في الكتب والمؤلفات وعدّت من صميم الدين.

وقد استفحلت أهمية الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث منهم في عهد معاوية عندما كتب إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً و يبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من فيها من شيعة علي _ عليه السَّلام _ ، فاستعمل معاوية عليهم زياد بن سمية وضم إليها البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم

____________________________

1 . مروج الذهب:2/396_ 397.

( 303 )

عارف، لأنّه كان منهم أيّام علي _ عليه السَّلام _ فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم وقطع

الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله و مناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إلي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم و الموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّكتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب إلى عماله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّوتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، و أُلقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.(1)

كلّ ذلك يثبت أنّ الإيمان بخلافتهم ولا سيما الثالث منهم، كان وليد

____________________________

1 . الشرح الحديدي:11/44_ 45 نقله

عن كتاب الأحداث لأبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني.

( 304 )

سياسات غاشمة انطلقت من البيت الأموي وأشياعه ضد البيت العلوي وأتباعه. وبذلك يسهل تصديق ما ذكره الكاتب الكبير محمود أبو رية في كتابه القيم «أضواء على السنة المحمدية»: إنّ الأهواء الشخصية والأغراض المذهبية كان لها أثر بعيد في وضع الحديث على رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لكي يؤيد كلّ فريق رأيه، ويحقّق م آربه بحقّ وبغير حقّ وبصدق وبغير صدق.(1)

وفي الختام للقارئ الكريم أن يسأل : مَن جعل الاعتقاد بخلافة الخلفاء الأربع من صميم الدين دون سواهم؟! وأن يسأل عن وجه التفاضل والتمييز بينهم و بين سائر الخلفاء الذين تسلّموا دفة الخلافة عن طريق الوراثة، أو تنصيص سابق منهم على اللاحق، أو ببيعة عدّة من الشاميين وغيرهم.

وهذا عمر بن عبد العزيز قد تسلّم دفّة الحكم بأحد هذه الطرق مع أنّهم لا يجعلون الإيمان بخلافته من صميم الإيمان، مع أنّه من قريش وقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ :« لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي منهم اثنان».

وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة».(2)

اللّهمّ إلاّأن يعتذروا عن هذا التخصيص بأنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قال: «الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة، ثمّ ملك بعد ذلك».(3)

لكن في سنده سعيد بن جمهان، قال أبو حاتم الرازي: شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به.(4)

ثمّ إنّ هنا نكتتين نبّه عليهما العلاّمة الروحاني في كتابه «بحوث مع أهل السنّة والسلفية»: (ص 24_ 25) نأتي بهما معاً:

____________________________

1 . أضواء على السنّة المحمدية.

2 . جامع الأُصول:4/437_ 438.

3

. المصدر السابق.

4 . الجرح والتعديل:4/10.

( 305 )

1. الحقّ الذي يراه المتتبع في التاريخ هو أنّ عقيدة خلافة الخلفاء الثلاث وقداستهم البالغة، قد أُقحمت في عقائد أهل السنّة إقحاماً، وإنّما كان ذلك رد فعل ومحاكاة لعقيدة الشيعة في علي _ عليه السَّلام _ وأولاده الطاهرين، ولذا صيغت هذه العقيدة أوّلاً عند أهل السنّة في قالب الرد والمعارضة لعقيدة الشيعة فقط، ثمّ ألحقوا عليّاً _ عليه السَّلام _ بهم في عصر متأخر.

وبتفصيل أكثر نقول: إن جعل خلافة الشيخين من العقائد، لم يكن في القرن الأوّل. وغاية ما كان يقال فيهما هو أنّ خلافتهما كانت صحيحة.

هذا فضلاً عن عقيدتهم في خلافة عثمان وعلي، بل إنّ عثمان لم يكن بذلك المرضي عند الناس.

ثمّ إنّ المرجئة كانت تشك في عدالة عثمان وعلي، بل في إيمانهما.(1) ونحلة الإرجاء كانت شائعة في عامة الناس آنذاك قبل غلبة أهل الحديث، بل لقد كان لهم القدح المعلّى حتى بعد وجود أهل الحديث والسنّة في كثير من البلاد. حتى قال الأمير نشوان الحميري: وليس كورة من كور الإسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل.(2)

2. تقرر الأمر في نحلة أهل الحديث على قبول خلافة علي _ عليه السَّلام _ بعد ما كانوا في الغالب من العثمانية ينكرون خلافة علي، و يظهر أنّ قبول خلافة علي _ عليه السَّلام _ كان على يد الإمام أحمد بن حنبل، فقد ذكر ابن أبي يعلى بالإسناد عن وديزة الحمصي قال: دخلت على أبي عبد اللّه أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي _ رضي اللّه عنه _ فقلت له: يا أبا عبد اللّه إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير، فقال: بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها، فقلت:

أصلحك اللّه إنّما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله، فقال لي: وما يمنعني من ذلك، قال: قلت: حديث ابن

____________________________

1 . طبقات النساء:6/154.

2 . الحور العين: 203.

( 306 )

عمر(1)، فقال لي: عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى، وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قد سمّى نفسه أمير المؤمنين; فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير، فانصرفت عنه.(2)

وهذا يعرب عن أنّ مسألة التربيع كانت مسألة ثقيلة على هذا المحدّث، وقد كان غير الكوفيّين على هذا المذاق.

وممّا يؤيد عدم كون خلافة الخلفاء من صميم الدين: أنّ أحمد بن حنبل في رسالته المؤلّفة حول مذاهب أهل السنّة لم يذكرها في عداد العقائد الإسلامية، بل بعدما أكمل بيان العقائد قال: ومن السنّة ذكر محاسن أصحاب رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والكف عمّا شجر بينهم، فمن سبّ أصحاب رسول اللّه أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنّة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ ب آثارهم فضيلة، وخير هذه الأُمّة _ بعد نبيها _ أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر عمر، وخيرهم بعد عمر عثمان، وخيرهم بعد عثمان علي، رضوان اللّه عليهم خلفاء راشدون مهديون.(3)

وأمّا البحث عن الدليل الدالّ على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم، فسيوافيك الكلام فيه في الجزء السادس.

***

(ثُمَّ أَورَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبير) (4).

***

____________________________

1 . الحديث المنسوب إلى ابن عمر هو «كنّا نعد ورسول اللّه حيّ وأصحابه متوافرون: أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت».

2 . طبقات الحنابلة:1/393.

3 . كتاب السنّة: 49.

4 . فاطر:

32.

( 307 )

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف

فيها أُمور:

الأوّل: المذهب الحنبلي في مجال العقائد والفقه

إنّ للمذهب السنّي على الإطلاق دعامتين:

1. المذهب الفقهي

لم يكن لأهل السنّة والجماعة في القرون الأُولى إلى القرن السابع مذهب فقهي خاص يقتفون أثره، بل كانت لهم مذاهب فقهية مختلفة متشتّتة غير أنّ يد السياسة حصرت المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة وهي: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وألغت سائر المذاهب ولم تعترف بها.

قال المقريزي: استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة، بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم.(1)

____________________________

1 . الخطط المقريزية:2/333و 334 و 344.

( 308 )

وهذه الكلمة الأخيرة، أعني قوله: وتحريم ما عداها تكشف عن رزية فادحة ألمت بالإسلام حيث إنّ المسلمين قد عاشوا قرابة سبعة قرون، ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّخالقهم ولم يسمع أحد في القرنين الأوّلين اسم هذه المذاهب. ثمّ في ما بعدهما كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في غاية من السعة والحرية، وكان العامي يقلّد من اعتمد من المجتهدين، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالكتاب والسنّة ولم يعلم وجه لهذا الحصر وأنّه ليس لأحد من المقلّدين أو الفقيه المجتهد أن يخرج عن حدّتقليد الأئمّة الأربعة، فبأي دليل شرعي صار اتّباع المذاهب الأربعة واجباً مخيراً والرجوع إلى غيرها حراماً باتاً مع أنّا نعلم أنّ هذه المذاهب نشرت في ما نشرت

من المناطق بالقهر والغلبة من الحكومات الإسلامية، فالحكومة التي كان يروقها الفقه الحنفي كانت تباشر نشره وتكبت غيره وتسد الطريق أمامه، والحكومة التي كان يروقها غير الحنفي تعمل مثل عمل الحكومة الأُولى، وقد أشعلت السياسات الخادعة نيران العداء بين أتباع المذاهب الأربعة طول القرون(1)، وعاد وعاظ السلاطين ينحتون لكلّ إمام من الأئمّة الأربعة فضائل ومناقب صدرت عن النبي قبل ميلادهم وإمامتهم.(2)

هذا حال الدعامة الأُولى ولا نطيل البحث فيها، والذي يجب أن يستنتج ممّا ذكرناه هو أنّ من يحلم بخلود الدين وبقاء قوانينه ويرغب في غضاضة الدين وطراوته وصيانته عن الاندراس وغناء المسلمين عن موائد الأجانب، يجب عليه

____________________________

1 . لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلاّمة الطهراني: 140 والحوادث الجامعة لابن الفوطي: ص216 في حوادث سنة 645 واقرأ فيها ملحمة النزاع بين اتّباع الأئمّة الأربعة، ولا تنس ما أنشده علي بن الجرجاني عن بعضهم:

مثل الشافعي ف_ي العلم_اء * مثل البدر ف_ي نجوم السماء

قل لمن قاسه بنعم_ان جهلاً * أيق_اس الضي_اء بالظلم_اء

تاريخ بغداد:2/69.

2 . لاحظ تاريخ بغداد:1/41 «مناقب أبي حنيفة» و ج2/69«مناقب الشافعي»و قد نقل أحاديث في مناقبهما ولم يكن من الإمامين أثر إلاّ في عالم الذر.

( 309 )

السعي في فتح باب الاجتهاد، سواء أُوافق رأي الأئمّة الأربعة أم خالفها.(1)

2. المذهب العقائدي

ونعني به الأُصول التي يعتنقها أهل السنّة في هذا الجيل والأجيال المتقدّمة إلى زمن الإمام أحمد حول المبدأ والمعاد وأسمائه سبحانه وصفاته وما يرجع إلى الإنسان في عاجله وآجله.

ولا شكّ أنّ هذه الأُصول قد دونت و رتبت في الكتب الكلامية للحنابلة بصورة بسيطة، وفي كتب الأشاعرة بصورة علمية مبرهنة، وقد قدّمنا إليك عصارات مدوّنة من عقائدهم.

والذي نركز عليه هو أنّ هذه الأُصول على اختلاف في عددها وإن

صارت عقيدة لأهل السنّة في هذه الأجيال ولكنّها أُصول اجتمعوا عليها منذ تصدّر أحمد ابن حنبل منصة الإمامة في العقائد والمعارف واستخرجها من السنّة ودوّنها في رسائله، وذكر أنّها عقائد أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسكين بعروتها، المعروفين بها،المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي إلى يومنا هذا من علماء الحجاز و الشام وغيرهم.

ولكن الحقيقة غير ذلك بل كان المسلمون، أعني: بهم أصحاب الحديث، السنّة قبل تصدّر أحمد لمنصة الإمامة في مجال العقائد على فرق وشيع ولم تكن هذه الأُصول برمتها مقبولة عندهم، وإنّما الإمام أحمد وحدهم على تلك الأُصول وقضى على سائر المذاهب الدارجة بين أهل الحديث أنفسهم، فنسبة هذه الأُصول إلى إمام الحنابلة أقرب إلى الحقيقة من نسبتها إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. والغافل عن تاريخ حياة الإمام وتأثيره في نفوس المسلمين وما كسب بعد الإفراج من العطف والحنان يتخيل أنّ هذه الأُصول مذهب أهل السنّة مع أنّه لم يكن لهذه الأُصول بهذا النحو، أثر قبله، بل كان المحدّثون

____________________________

1 . لاحظ مفاهيم القرآن:3/290_ 305 تجد فيها بغيتك.

( 310 )

مختلفين في كثير من هذه الأُصول. فصار الإجماع والاتّفاق من جانب الإمام سبباً لتناسي ما كانوا عليه من العقائد.

إنّ الإمام أحمد لمّا ظهر منه الصمود والثبات في طريق العقيدة (عدم خلق القرآن وقدمه) وتحمّل المحنة(1) إلى أن أُفرج عنه في أيّام المتوكّل و قرّبه الخليفة إلى بلاطه، صار ذلك سبباً لشهرته وإمامته في مجال العقائد، وقد جعلت المحنة من ذلك الرجل الصمود، بطلاً سامياً تهوي إليه الأفئدة، وتخضع له الأعناق، أضف إليه أنّه جنّد بلاط الخليفة جهوده لترويج أفكاره و آرائه، فعند ذلك صار أحمد إمام السنّة وناصرها، فصارت السنة ما قاله أحمد، والبدعة

ما هجره أحمد، وكأنّهم نسوا أو تناسوا ما كان عليه أسلافهم من الفرق المختلفة.

وعلى ضوء هذا فليس المذهب الحنبلي العقائدي، مذهباً لعامة أهل الحديث و أهل السنّة وإنّما هو مذهب الإمام أحمد، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع أيّام المتوكل وبعده لصالحه، ولولا أنّ المحنة استبطلت الرجل وخلقت منه رجلاً مثالياً شجاعاً في طريق العقيدة، لكان المذهب السنّي في الناحية العقائدية غير مجمع على هذه الأُصول التي يتخيل أنّها أُصول اتّفق عليها أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان إلى زمن إمامة أحمد.

وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا _ أي اختلاف آراء أهل الحديث وتشتت مذاهبهم في مجال العقائد _ فاستمع لما يقوله السيوطي ويذكره في هذا المجال ونحن نأتي بملخّص ما ذكره ذلك المحدّث الخبير وهو يكشف عن وجود المسالك المختلفة والأهواء المتضادة عند أهل الحديث، وأنّهم لم يكونوا قط على وتيرة واحدة حسبما وحدهم إمام الحنابلة فهم كانوا بين:

مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنّه لا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، ونقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه، نظراء:

____________________________

1 . سيوافيك تفصيل ذلك في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة.

( 311 )

1. إبراهيم بن طهمان، 2. أيّوب بن عائذ الطائي، 3. ذر بن عبد اللّه المرهبي، 4. شبابة بن سوار، 5. عبد الحميد بن عبد الرحمن، 6. أبو يحيى الحماني، 7. عبد المجيد بن عبد العزيز، 8. ابن أبي راود، 9. عثمان بن غياث البصري، 10. عمر بن ذر، 11. عمر بن مرة، 12. محمد بن حازم، 13. أبو معاوية الضرير، 14. ورقاء بن عمر اليشكري، 15.

يحيى بن صالح الوحاظي، 16. يونس بن بكير.

إلى ناصبي لعلي وأهل بيته الطاهرين _ عليهم السَّلام _ ، نظراء:

1. إسحاق بن سويد العدوي، 2. بهز بن أسد، 3. حريز بن عثمان، 4. حصين بن نمير الواسطي، 5. خالد بن سلمة الفأفاء، 6. عبد اللّه بن سالم الأشعري، 7. قيس بن أبي حازم.

إلى متشيع يحب علياً وأولاده ويرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب ويرى الفضيلة لعلي في الإمامة والخلافة، نظراء:

1. إسماعيل بن أبان، 2. إسماعيل بن زكريا الخلقاني، 3. جرير بن عبد الحميد، 4. أبان بن تغلب الكوفي، 5. خالد بن محمد القطواني، 6. سعيد بن فيروز، 7. أبو البختري، 8. سعيد بن أشوع، 9. سعيد بن عفير، 10. عباد بن العوام، 11. عباد بن يعقوب، 12. عبد اللّه بن عيسى، 13. ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، 14. عبد الرزاق بن همام، 15. عبد الملك بن أعين، 16. عبيد اللّه بن موسى العبسي، 17. عدي بن ثابت الأنصاري، 18. علي بن الجعد، 19. علي بن هاشم بن البريد، 20. الفضل بن دكين، 21. فضيل بن مرزوق الكوفي، 22. فطر بن خليفة، 23. محمد بن جحادة الكوفي، 24. محمد بن فضيل بن غزوان، 25. مالك بن إسماعيل أبو غسان، 26. يحيى بن الخراز.

إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم ولا يسند فعلهم إلى اللّه سبحانه، نظراء:

1. ثور بن زيد المدني، 2. ثور بن يزيد الحمصي، 3. حسان بن عطية

( 312 )

المحاربي، 4. الحسن بن ذكوان، 5. داود بن الحصين، 6. زكريا بن إسحاق، 7. سالم بن عجلان، 8. سلام بن مسكين، 9. سيف بن سلمان المكي، 10. شبل بن عباد، 11. شريك بن أبي

نمر، 12. صالح بن كيسان، 13. عبد اللّه بن عمرو ، 14. أبو معمر عبد اللّه بن أبي لبيد، 15. عبد اللّه بن أبي نجيح، 16. عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، 17. عبد الرحمن بن إسحاق المدني، 18. عبد الوارث بن سعيد الثوري، 19. عطاء بن أبي ميمونة، 20. العلاء بن الحارث، 21. عمرو بن زائدة، 22. عمران بن مسلم القصير، 23. عمير بن هاني، 24. عوف الأعرابي، 25. كهمس بن المنهال، 26. محمد بن سواء البصري، 27. هارون بن موسى الأعور النحوي، 28. هشام الدستوائي، 29. وهب بن منبه، 30. يحيى بن حمزة الحضرمي.

إلى جهمي ينفي كلّ صفة للّه سبحانه ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه، نظير: بشر بن السرى.

إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم ويتبرأ منه و من عثمان و من طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم، نظراء:

1. عكرمة مولى ابن عباس، 2. الوليد بن كثير.

إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم وإنّه مخلوق أو غير مخلوق، نظير: علي بن هشام.

إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمّة الجور ولا يباشره بنفسه، نظير:عمران ابن حطّان.(1)

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء الذين قضى عليهم الدهر وعلى آرائهم ومذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمة الإمامة في العقائد. فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول التي استخرجها أحمد وجعل الكلّ كتلة واحدة، بعد ما كانوا على سبل شتى.

____________________________

1 . تدريب الراوي للسيوطي:1/328.

( 313 )

هذه ملحمة أهل الحديث وقصة مذهبهم الفقهي والعقائدي، والأسف أنّ المفكّرين من أهل السنّة يتخيّلون أنّ هذه الأُصول التي يدينون بها باسم عقيدة السلف الإسلامية قبل التحاق الأشعري به و باسم عقيدة الإمام الأشعري

بعد التحاقه هي نفس الأُصول التي كان عليها المسلمون الأُول إلى زمن الإمام أحمد وزمن الملتحق بهم الشيخ الأشعري.

وهذا التاريخ الواضح يفرض على المفكّرين المتعطّشين لمعرفة الحقّ دراسة هذه الأُصول من رأس حتى لا يعبأوا بما جاء في هذه الكتب ممّا عليه ماركة «عقيدة السلف» أو «عقيدة الصحابة والتابعين» أو تابعي التابعين.

والذي يوضح ذلك هو أنّ كلّ واحد من هذه الأُصول ردّ لمذهب نجم في القرون الأُولى، فلأجل التبرّي منه صار خلافه شعاراً لمذهب أهل السنّة.

إمامة أحمد في الفقه

لا شكّ أنّ الفقه المنسوب إلى أحمد هو أحد المذاهب الفقهية المعروفة وتقتفيه جماعة كثيرة في الحجاز ونجد والشامات، ولكن هذا الفقه المدوّن لا يمت إلى الفقه إلاّ بصلة ضعيفة، وذلك لأنّ الإمام لم يكن إمام الفقه والاجتهاد بل كان إمام الحديث، فكان يعد أكبر محدث في عصره، وأعظم حافظ للسنّة، وأمّا الاجتهاد بالمعنى المصطلح الذي كان يتمتع به سائر الأئمّة الأربعة، فلم يكن متوفراً فيه إلاّ ببعض مراتبه الضئيلة التي لا يصحّ عدّه معها أحد الأئمّة الفقهاء، فإنّ للاجتهاد مؤهّلات وشرائط محررة في محلها، أعظمها وجود ملكة قدسية يقتدر معها الإنسان على استخراج الفروع عن الأُصول، وأمّا الإفتاء بالحكم في ضوء النصّ الصريح الوارد فيه فليس إلاّ مرتبة ضعيفة من الاجتهاد، والاجتهاد المطلق يستدعي ذهناً وقّاداً، مشققاً للفروع، ومستخرجاً إيّاها من الأُصول، إلى غير ذلك ممّا يقوم به أئمّة الفقه، والمعروف من الإمام أحمد غير ذلك، فإنّ اجتهاده كان أشبه باجتهاد الأخباريين والمحدّثين الذين يفتون بنصّ الحديث ويتوقفون في غير مورده.

وأمّا المذهب الفقهي الحنبلي الدارج بين الحنابلة فقد جمع أُصوله تلميذ

( 314 )

الإمام«الخلاّل» من هنا وهناك، ومن الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس حتى جعله مذهباً

للإمام أحمد، وجاء من جاء بعده فاستثمرها واستغلها حتّى صار مذهباً من المذاهب.

كلام للذهبي

قال: وقد دوّن عنه كبار تلامذته مسائل وافرة في عدّة مجلدات. ثمّ ذكر أسامي عدّة من تلاميذه الذين جمعوا مسائل الإمام وفتاواه، وقال: جمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والسند والفروع حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة ورحل إلى النواحي في تحصيله وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام، ثمّ كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب أصحابه،وبعضه عن رجل، عن آخر، عن آخر، عن الإمام، ثمّ أخذ في ترتيب ذلك وتهذيبه و تبويبه، وعمل كتاب العلم وكتاب العلل وكتاب السنة، كلّ واحد من الثلاثة في ثلاثة مجلدات.(1)

فلو صحّ ما ذكره الذهبي فهو يعرب عن أنّ الإمام أحمد لم يكن رجلاً متربعاً على منصة دراسة الفقه وأُصوله وقائماً بتربية الفقيه، وأقصى ما كان يتمتع به هو الإجابة عن الأسئلة التي كانت ترد عليه من العراق وخارجه في ضوء النصوص الموجودة عنده، فتفرقت الأجوبة طبق الأسئلة في البلاد وجمعها «الخلال»في كتاب خاص.

هذا ما ذكره الذهبي ولكنّ الظاهر عن غير واحد ممّن ترجم الإمام أنّه كان يتحفّظ عن الفتيا ويتزهّد عنه، ولعلّه يرى مقام الإفتاء أرفع وأعلى من نفسه.

روى الخطيب في تاريخه بالإسناد قال: كنت عند أحمد بن حنبل فسأله رجل عن الحلال والحرام، فقال له أحمد: سل عافاك اللّه غيرنا. قال الرجل: إنّما نريد جوابك يا أبا عبد اللّه. قال: سل عافاك اللّه غيرنا، سل الفقهاء، سل أبا

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:11/330.

( 315 )

ثور.(1)

وهذا يعرب عن أنّ ديدن الإمام في حياته هو التحفّظ والتجنّب عن الإفتاء إلاّ إذا قامت

الضرورة أو كان هناك نصوص واضحة في الموضوع. وهذا لا يجتمع مع ما نسب إليه الذهبي من أنّ «الخلال» كتب عنه الكتب التي ذكرها.

وهناك تحقيق بارع للشيخ أبي زهرة في كتابه حول حياة ابن حنبل نذكر خلاصة ما جاء فيه:

إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يعد أصلاً يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلاّ الحديث، وقد ذكر العلماء أنّ له بعض كتابات في موضوعات فقهية، منها: المناسك الكبير، والمناسك الصغير، ورسالة صغيرة في الصلاة كتبها إلى إمام صلّى هو وراءه فأساء في صلاته، وهذه الكتابات هي أبواب قد توافر فيها الأثر، وليس فيها رأي أو قياس أو استنباط فقهي بل اتّباع لعمل، وفهم لنصوص. ورسالته في الصلاة والمناسك الكبير والصغير هي كتب حديث، وكتبه التي كتبها كلّها في الحديث في الجملة، وهي المسند والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمقدّم والمؤخّر في كتاب اللّه وفضائل الصحابة والمناسك الكبير والصغير والزهد، وله رسائل يبيّن مذهبه في القرآن والرد على الجهمية والردّ على الزنادقة.

وإذا كان أحمد لم يدوّن في الفقه كتاباً ولم تنشر آراؤه ولم يملها على تلامذته كما كان يفعل أبو حنيفة، فإنّ الاعتماد في نقل فقهه إنّما هو على عمل تلاميذه فقط، وهنا نجد أنّ الغبار يثار حول ذلك النقل من نواح متعددة.

إنّ المروي عن ذلك الإمام الأثري _ الذي كان يتحفّظ في الفتيا فيقيد نفسه بالأثر ، ويتوقف حيث لا أثر ولا نصّ شاملاً عاماً، ولا يلجأ إلى الرأي إلاّ حين الضرورة القصوى التي تلجئه إلى الإفتاء _ كثير جدّاً، والأقوال المروية عنه متضاربة، وذلك لا يتّفق مع ما عرف عنه من عدم الفتوى إلاّ فيما يقع من المسائل ولا يفرض الفروض ولا يشقّق الفروع

ولا يطرد العلل، ولقد كان يكثر من قول:لا أدري، فهذه الكثرة لا تتفق مع المعروف منه من الإقلال في الفتيا والمعروف عنه من قول :لا أدري، ومع المشهور عنه من أنّه لا يفتي بالرأي إلاّ للضرورة القصوى.

____________________________

1 . تاريخ بغداد:2/66.

( 316 )

إنّ الفقه المنقول من أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب على العقل أن يقبل نسبة كلّ هذه الأقوال إليه. وافتتح أي كتاب من كتب الحنابلة واعمد إلى باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدّة مسائل اختلفت فيها الرواية بين لا ونعم _ أي بين النفي المجرّد والإثبات المجرّد _.

هذه نواح قد أثارت غباراً حول الفقه الحنبلي وإذا أضيف إليها أنّ كثيراً من القدامى لم يعدّوا «أحمد» من الفقهاء، فابن جرير الطبري لم يعدّه منهم، و «ابن قتيبة» الذي كان قريباً من عصره جدّاً لم يذكره في عصابة الفقهاء بل عدّه في جماعة المحدثين، ولو كانت تلك المجموعة الفقهية من أحمد ما ساغ لأُولئك أن يحذفوا أحمد عن سجل الفقهاء.(1)

الثاني : شكوى تاريخية للأشاعرة ضد الحنابلة

لم يزل النزاع قائماً على قدم وساق بين الحشوية والحنابلة من أهل الحديث من جهة و متكلّمي الأشاعرة من جهة أُخرى _ مع أنّ إمام الأشاعرة كان قد أعلن اقتفاء أثر إمام الحنابلة _ و نار الجدال مستعرة بين الفريقين،عبر العصور المختلفة، وذلك أنّ الطائفة الأُولى كانت متمسكة بروايات التشبيه والتجسيم، ومثبتة للّه سبحانه ما لا تصحّ نسبته إليه،وكانت الطائفة الثانية تتبرأ من هذه الأُمور، ولقد بلغ السيل الزبى في عصر أبي نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم القشيري رئيس الأشاعرة في وقته، فقام فطاحل الأشاعرة في عصره، تعضيداً ومساندة لشيخهم برفع الشكوى إلى الوزير نظام

الملك ممّا تبثه الحنابلة من سموم التشبيه و التجسيم، و تمت الرسالة بتوقيع كثير من علمائهم التي تبيّن جوهر العقيدة الحنبلية في ذلك العصر.

أمّا الوالد فهو أبو القاسم القشيري النيشابوري، وهو من أعاظم الأشاعرة في عصره (ولد عام 376ه_) من العرب الذين وردوا خراسان وسكنوا النواحي،

____________________________

1 . ابن حنبل، حياته وعصره :168_ 171.

( 317 )

كان يعرف الأُصول على مذهب الأشعري والفقه على مذهب الشافعي(توفيّ عام 465ه_).(1)

وأمّا الولد فهو أبو نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم القشيري، ويعرّفه ابن عساكر بأنّه إمام الأئمّة وحبر الأُمّة تخرّج على إمام الحرمين حتى حصل طريقته في المذهب، وتوفّي عديم النظير فريد الوقت سنة 514ه_.(2)

يقول ابن عساكر:

وهذه الرسالة بخط بعض أصحاب الإمام أبي نصر عبد الرحيم ابن الأُستاذ القشيري فيها خطوط الأئمّة بتصحيح مقاله وموافقته في اعتقاده على الوجه الذي هو مذكور في هذا الكتاب، فأوقفنا عليه شيخنا أبو محمد القاسم وأسمعناه، وأمرنا بكتابته، فاكتتبناه على ما هو عليه، وأثبتناه في هذه الترجمة اللائقة به، وقد رفع الإمام أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه هذا المحضر إلى نظام الملك منتصرين للشيخ أبي نصر بن القشيري، فعاد جواب نظام الملك إلى فخر الدولة وإلى الإمام أبي إسحاق بإنكار ما وقع، والتشديد على خصوم ابن القشيري، و ذلك سنة 469ه_، و إليكالمحضر:

شكوى الأشاعرة من المتوسمين بالحنبلية

بسم اللّه الرحمن الرحيم يشهد من ثبت اسمه ونسبه وصحّ نهجه ومذهبه واختبر دينه وأمانته من الأئمّة الفقهاء والأماثل العلماء وأهل القرآن والمعدلين الأعيان وكتبوا خطوطهم المعروفة بعباراتهم المألوفة، مسارعين إلى أداءالأمانة، وتوخّوا في ذلك ما تحظره الديانة مخافة قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلم مِمَّن كَتَم شَهادةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه) إنّ جماعة من الحشوية والأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد

من البدع الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحّد، ولا تجوّز به قادح في أصل الشريعة، ولا معطل; ونسبوا كلّ من ينزّه الباري تعالى وجلّ عن النقائص والآفات وينفي عنه الحدوث والتشبيهات،

____________________________

1 . التبيين: 271_ 276.

2 . المصدر السابق: 308_ 310.

( 318 )

ويقدّسه عن الحلول والزوال، ويعظمه عن التغيّر من حال إلى حال، وعن حلوله في الحوادث وحدوث الحوادث فيه، إلى الكفر والطغيان ومنافاة أهل الحق والإيمان، وتناهوا في قذف الأئمّة الماضين، وثلب أهل الحقّ وعصابة الدين، ولعنهم في الجوامع والمشاهد والمحافل والمساجد والأسواق والطرقات والخلوة، والجماعات.

ثمّ غرّهم الطمع والإهمال، ومدّهم في طغيانهم الغي والضلال إلى الطعن فيمن يعتضد به أئمّة الهدى وهو للشريعة العروة الوثقى، وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية، وترقّوا من ذلك إلى القدح في الشافعي رحمة اللّه عليه وأصحابه، واتفق عود الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر ابن الأُستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري رحمة اللّه عليه من مكة حرسها اللّه، فدعا الناس إلى التوحيد وقدس الباري عن الحوادث والتحديد، فاستجاب له أهل التحقيق من الصدور الأفاضل السادة الأماثل، وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها وأبوا إلاّ التصريح بأنّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنّه ينزل بذاته ويتردّد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط وعليه تاج يلمع وفي رجليه نعلان من ذهب، وحفظ ذلك عنهم وعلّلوه ودوّنوه في كتبهم، وإلى العوام ألقوه، وأنّ هذه الأخبار لا تأويل لها، وأنّها تجري على ظواهرها، وتعتقد كما ورد لفظها، وأنّه تعالى يتكلّم بصوت كالرّعد و كصهيلالخيل، و ينقمون على أهلالحق لقولهم إنّاللّه تعالى موصوف بصفات الجلال، منعوت بالعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة والإرادة والكلام، وهذه الصفات قديمة،

وإنّه يتعالى عن قبول الحوادث، ولا يجوز تشبيه ذاته بذات المخلوقين ولا تشبيه كلامه بكلام المخلوقين.

ومن المشهور المعلوم: أنّ الأئمّة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفروع كانوا يصرّحون بهذا الاعتقاد ويدرسونه ظاهراً مكشوفاً لأصحابهم ومن هاجر من البلاد إليهم ولم يتجاسر أحد على إنكاره ولا تجوز متجوّز بالرد عليهم دون القدح والطعن فيهم، وانّ هذه عقيدة أصحاب الشافعي _رحمة اللّه عليه_ يدينون اللّه تعالى بها ويلقونه باعتقادها، و يبرأون إليه من سواها من غير شكّ ولا

( 319 )

انحراف عنها، وما لهذه العصابة مستند، ولا للحق مغيث يعتمد إلاّ اللّه تعالى، ورأفة المجلس السامي الأجلي العالمي العادلي القوامي النظامي الرضوي أمتعه اللّه بحياة يأمن خطوبها باسمة فلا يعرف قطوبها، فإن لم ينصر ما أظهره ويشيد ما أسّسه وعمره بأمر جزم وعزم حتم يزجر أهل الغواية عن غيهم ويردع ذوي العناد عن بغيهم ويأمر بالمبالغة في تأديبهم، رجع الدين بعد تبسّمه قطوباً، وعاد الإسلام كما بدأ غريباً، وعيونهم ممتدة إلى الجواب بنيل المأمول والمراد، وقلوبهم متشوّفة إلى النصرة والإمداد، فإن هو لم ينعم النظر في الحادث الذي طرقهم ويصرف معظم هممه العالية إلى الكارث الذي أزعجهم وأقلقهم ويكشف عن الشريعة هذه الغمة ويحسم نزغات الشيطان بين هذه الأُمّة، كان عن هذه الظلامة يوم القيامة مسؤولاً.

إذ قد أديت إليه النصائح والأمانات من أهل المعارف والديانات، وبرئوا من عهدة ما سمعوه بما أدّوه إلى سمعه العالي وبلغوه، والحجّة للّه تعالى متوجهة نحوه بما مكّنه في شرق الأرض وغربها وبسط قدرته في عجمها وعربها، وجعل إليه القبض والإبرام واصطفاه من جميع الأنام، فما ترد نواهيه وأوامره ولا تعصى مراسمه زواجره، واللّه تعالى بكرمه يوفقه ويسدّده ويؤيد مقاصده ويرشده ويقف فكرته

وخواطره على نصرة ملته وتقوية دينه وشريعته بمنّه ورأفته وفضله ورحمته.

صورة الخطوط

1. الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أكثر اللّه في أئمّة الدين مثله من عقد المجالس وذكر اللّه عزّوجلّ بما يليق به من توحيده وصفاته ونفي التشبيه عنه، وقمع المبتدعة من المجسمة والقدرية وغيرهم، ولم أسمع منه غير مذهب أهل الحقّ من أهل السنّة والجماعة، وبه أدين اللّه عزّوجلّ وإيّاه اعتقد، وهو الذي أدركت أئمّة أصحابنا عليه، واهتدى به خلق كثير من المجسمة وصاروا كلّهم على مذهب أهل الحقّ، ولم يبق من المبتدعة إلاّ نفر يسير، فحملهم الحسد والغيظ على سبّه وسبّ الشافعي وأئمّة أصحابه ونصّار مذهبه، وهذا أمر لا يجوز الصبر عليه

( 320 )

ويتعيّن على المولى أعز اللّه نصره التنكيل بهذا النفر اليسير الذين تولّوا كبر هذا الأمر وطعنوا في الشافعي وأصحابه، لأنّ اللّه عزّوجلّ أقدره، وهو الذي برأ في هذا البلد بإعزاز المذهب بما بنى فيه من المدرسة التي مات كلّ مبتدع من المجسمة والقدرية غيظاً منها وبما يرتفع فيها من الأصوات بالدعاء لأيامه، استجاب اللّه فيه صالح الأدعية، ومتى أهمل نصرهم لم يكن له عذر عند اللّه عزّجلّ. وكتب إبراهيم بن علي الفيروز آبادي.

2. الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري جمّل اللّه الإسلام به وكثّر في أئمّة الدين مثله من عقد المجالس وذكر اللّه عزّوجلّ بما وصف به نفسه من التنزيه ونفي التشبيه عنه وقمع المبتدعة من المجسمة والقدرية وغيرهم، ولم نسمع منه غير مذهب أهل الحقّ من أهل السنّة والجماعة وبه ندين

اللّه عزّوجلّ، وهو الذي كان عليه أئمّة أصحابنا واهتدى به خلق كثير من المجسّمة واليهود والنصارى فصاروا أكثرهم على مذهب أهل الحقّ ولم يبق من المبتدعة إلاّ نفر يسير، فحملهم الحسد والغيظ على سبّه وسب الشافعي رضي اللّه عنه و نصّار مذهبه حتى ظهر ذلك بمدينة السلام، وهذا أمر لا يحل الصبر عليه ويتعيّن على من بيده قوام الدين والنظر في أُمور المسلمين أن ينظر في هذا ويزيل هذا المنكر، فإنّ من يقدر على إزالته ويتوقف فيه يأثم، ولا نعلم اليوم من جعل اللّه سبحانه أمر عباده إليه إلاّ المولى أعزّ اللّه أنصاره، فيتعيّن عليه الإنكار على هذه الطائفة والتنكيل بهم، لأنّ اللّه سبحانه أقدره على ذلك، وهو المسؤول عنه غداً إن توقف فيه وصار قصد المبتدعة أكثره معاداة الفقهاء الذين هم سكان المدرسة الميمونة فإنّهم يموتون غيظاً منهم لما هم عليه من مذاكرة علم الشافعي وإحياء مذهبه. وكتب الحسين ابن محمد الطبري.

3. الأمر على ما شرح في صدر هذا المحضر. وكتب عبيد اللّه بن سلامة الكرخي.

4. الأمر على ما ذكر في هذا المحضر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبدالكريم القشيري أدام اللّه حراسته من عقد المجالس

( 321 )

للوعظ والتذكير في المدرسة النظامية المعمورة والرباط، وأطنب في توحيد االلّه عزّوجلّ والثناء عليه بما يستوجبه من صفات الكمال وتنزيهه عن النقائص و نفي التشبيه عنه واستوفى في الاعتقاد ما هو معتقد أهل السنّة بأوضح الحجج وأقوى البراهين، فوقع في النفوس كلامه، ومال إليه الخلق الكثير من العامة، ورجع جماعة كثيرة من اعتقاد التجسيم والتشبيه واعترفت بأنّها الآن بان لها الحقّ، فحسده المبتدعة المجسمة وغيرهم فحملهم ذلك على بسط اللسان فيه غيظاً

منه و سبّ الشافعي رحمة اللّه عليه وأئمّة أصحابه ومن ينصرهم، وتظاهروا من ذلك بما لا يمكن الصبر معه، ويتعيّن على من جعل اللّه إليه أمر الرعية أن يتقدّم في ذلك بما يحسم مادة الفساد، لأنّ سبب ذلك فرط غيظهم من اجتماع شمل العصابة الشافعية في الاشتغال بالعلم بعمارة المدرسة الميمونة ،وتوفّرهم على الدعاء لأيّام من به عزّهم ولا عذر للتفريط في ذلك. وكتب محمد بن أحمد الشاشي.

5. الأمر على ما ذكر فيه. وكتب سعد اللّه بن محمد الخاطب.

6. الأمر على المشروح في هذا الصدر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أكثر اللّه في أئمّة أهل العلم مثله من عقد المجالس ونشر العلم ووصف اللّه تعالى بما وصف به نفسه من توحيده وصفاته ونفي التشبيه عنه وقمع أهل البدع من المجسمة والقدرية وغيرهم، ولم أسمع منه عدولاً عن مذاهب أهل الحقّ والسنّة والدين القويم والمنهج المستقيم الذي به يدان اللّه تعالى و يعبد ويعتقد، فاهتدى بهديه خلق من المخالفين وصار إلى قوله ومعتقده جمع كثير إلاّ من شقي به من الحاسدين، فأخلدوا إلى ذمّه وسبه وسب أئمّة الشافعيين، وقدحوا في الشافعي وأصحابه، وصرّحوا بالطعن فيهم في الأسواق وعلى رؤوس الأشهاد، وهذه غمّة و ردّة لا يرجى لكشفها بعد اللّه تعالى إلاّ المجلس السامي الأجلي النظامي القوامي العادلي الرضوي، أمتع اللّه الدنيا والدين ببقائه وحرس على الإسلام والمسلمين ظليل ظله ونعمائه، ويفعل اللّه ذلك بقدرته وطوله ومشيئته. وكتب الحسين بن أحمد البغدادي.

7. حضرت المدرسة النظامية المنصورة المعمورة أدام اللّه سلطان إعزازها والرباط المقدس للصوفية أجاب اللّه صالح أدعيتهم في المسلمين مجالس هذا

( 322 )

الشيخ الأجل الإمام ناصر الدين محيي

الإسلام أبي نصر عبد الرحيم بن الأُستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري أحسن اللّه عن الشريعة جزاءه، فلم أسمع منه قط إلاّ ما يجب على كلّ مكلّف علمه وتصحيح العقيدة به من علم الأُصول وتنزيه الحقّ سبحانه وتعالى ونفي التشبيه عنه، وإقماع الأباطيل والأضاليل وإظهار الحقّ والصدق، حتى أسلم على يديه ببركة التوحيد والتنزيه من أنواع أهل الذمّة عشرات، ورجع إلى الحقّ وعلم الصدق من المبتدعة مئات، وتبعه خلق غير محصور بحيث لم يستطع أحد ممّن تقدّم أو علماء العصر أن يشقّوا غباره في مثل ذلك فخامرهم الحسد وعداوة الجهل وحملهم على الطعن فيه عدواناً وبهتاناً، ثمّ تمادى بهم الجهل إلى اللعن الظاهر للإمام الشافعي _قدس اللّه روحه_ وسائر أصحابه عجماً وعرباً.

وقائلوا ذلك شرذمة من ناشية أغبياء المجسمة، وطائفة من أرذال الحشوية، استغنوا من الإسلام بالاسم، ومن العلم بالرسم، وتبعهم سوقة لا نسب لهم ولا حسب، وتظاهرت هذه اللعنة منهم في الأسواق، ولم يستحسن أحد من أصحابه _كثرهم اللّه_ دفع السفاهة بالسفاهة والسيئة بالسيّئة، ويجب على الناظر في أُمور المسلمين من الذي قد انتشر في المشارق والمغارب علمه وعدله وأمره ونهيه، الذي لطاعته نبأت صدور الأولياء والأعداء رغبة ورهبة، نصرته، ومدّ ضبعيه والشد على يديه وتقديم كلمته العليا وتدحيض كلمة أعدائه السفلى، فالصبر في الصدمة الأُولى وهذه الصدمة التي كانت قلوب أصحاب الشافعي كثّرهم اللّه وغرة وغلة شغله بها منذ سنين، فانقشع ذلك وانكشف في هذه الأيام المؤيدة المنصورة المؤبدة النظامية القوامية العالمية العادلية نصرها اللّه وأعلاها، وقد وقف تمامه على الأمر الماضي المنصور منه فإنّ في شعبة من شعب عنايته ونصرته وكلمته للدين الذي مد أطراره كفاية وبلاغاً وعلى الغارس تعهد غراسه فضلاً

وتعصباً في كلّ وقت. وكتب عزيزي بن عبد الملك في التاريخ حامداً للّه ومصلياً على محمّد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وصحبه وسلم وشرف وكرم.(1)

____________________________

1 . تبيين كذب المفتري: 310_ 318.

( 323 )

وأصحاب الخطوط في هذا المحضر هم كبار أئمّة المذهب الشافعي ببغداد في ذلك العهد، فقد ترجمهم محقّق كتاب «تبيين كذب المفترى» في تعليقته على الكتاب، ثمّ أضاف:

ولما طفح كيل فتن الحشوية الذين لا يكادون يفقهون حديثاً ، اضطر أكابر العلماء المعروفون بكمال الهدوء والتؤدة والأناة إلى قمع فتنتهم بالسعي لدى ولي الأمر سعياً حثيثاً، ورفع الإمام أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه هذا المحضر إلى نظام الملك منتصرين للشيخ أبي نصر ابن القشيري، فعاد جواب نظام الملك إلى فخر الدولة و إلى الإمام أبي إسحاق بإنكار ما وقع، والتشديد على خصوم ابن القشيري وذلك سنة تسع وستين وأربعمائة، فسكن الحال ثمّ أخذ الشريف أبو جعفر بن أبي موسى _ و هو شيخ الحنابلة إذ ذاك _ و جماعته يتكلّمون في الشيخ أبي إسحاق ويبلغونه الأذى بألسنتهم، فأمر الخليفة بجمعهم والصلح بينهم بعد ما ثارت بينهم فتنة هائلة ذهب فيها نحو من عشرين قتيلاً، فلمّا وقع الصلح وسكن الأمر أخذ الحنابلة يشيعون أنّ الشيخ أبا إسحاق تبرأ من مذهب الأشعري، فغضب الشيخ لذلك غضباً لم يصل أحد إلى تسكينه حتى كتب إلى نظام الملك يشكو أهل الفتن، فعاد الجواب في سنة سبعين وأربعمائة إلى الشيخ باستجلاب خاطره وتعظيمه، والأمر بتأديب الذين أثاروا الفتنة وبأن يسجن الشريف أبو جعفر، فهدأ الحال وسكن جأش الشيخ وانقمعت الحشوية، وتنفّس أهل السنّة الصعداء وإلى اللّه عاقبة الأُمور.

الثالث: تطور الدعوة السلفية ومراحلها

قد تعرّفت في البحوث السابقة على أنّه

كان لمنع تدوين الحديث في العصور الأُولى الإسلامية تأثير خاص في تسرب عقائد اليهود والنصارى إلى أوساط المسلمين ولا سيما أهل الحديث منهم. ففي ظل ذلك المنع، ظهرت الفرق الباطلة من المجسّمة والمشبّهة ودعاة القول بالجهة للّه سبحانه وجلوسه على العرش ناظراً إلى ما دونه ممّا يتحاشى عنه أهل التنزيه.

ولم يكن ظهور تلك العقائد أمراً غير مترقب، بل كان نتيجة حتمية للعوامل السائدة على تلك البيئة، إذ في الظروف التي يصلب فيها العقل

( 324 )

ويعدم، ويعاب فيها التفكير في العقائد والمعارف، ويكتفى عن التدبر في الذكر الحكيم، بالبحث عن القراءات السبع أو العشر، ويعرف الاستدلال والإمعان في الكتاب العزيز بأنّه تأويل باطل، بل كفر و زندقة، ويفسح المجال للمتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان ليقوموا بنشر قصص الأوّلين وأساطير الآخرين _ ففي تلك الظروف _ لا تظهر على مسرح العقائد، إلاّ عقائد الطوائف المنحرفة، ولا غرو حينئذ في أن يصوّر إله العالم بصورة موجود مادي ذي جهات وأبعاض وأيد وأرجل، له تكلم وضحك وما يضاهي هذه النظريات.

وقد جاء بعض الخلف محاولاً تصحيح هذه المأثورات، بإضافة «بلا كيف» عقيب هذه الصفات، ولكن المحاولة فاشلة جدّاً، فإنّ مرجعها إلى أنّه سبحانه جسم بلا كيف، ولا يختلف التعبيران إلاّ في الصراحة والكناية.

ومن العقائد الغريبة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني، كون كلامه سبحانه قديماً غير مخلوق، وقد تلقّاه أهل الحديث أمراً مسلماً، وكان اللائق بمنهجهم هو السكوت، لاعترافهم بعدم ورود نصّ من رسول اللّه فيها، ولكنّهم اعتنقوا هذه العقيدة اعتناقاً وثيقاً لم ير مثله في سائر المسائل، حتّى استعدوا في طريقه لتقديم التضحيات الثمينة، من شتى أنواع الضرب والحبس والتقيد، وذلك عندما عزم المأمون على ردعهم عن القول بقدم

القرآن، فاستتاب أهل الحديث منه، فاستجاب بعضهم دون بعض وممّن أظهر الصمود والثبات على تلك العقيدة إمام الحنابلة أحمد بن حنبل. وقد ضرب في عصر الخليفة المعتصم فلم يرتدع، فصار ذلك سبباً لاشتهار الرجل بينهم، وبلوغه قمة الإمامة في العقائد والسنّة، واكتسابه مكانة مرموقة بين الناس. فصارت السنّة ما أمضاه الإمام والبدعة ما هجره، فراجت رسائله وكتبه التي ألّفت باسم عقيدة أهل السنّة، وكانت الرئاسة في باب العقائد منحصرة به إلى أن ظهر الإمام الأشعري تائباً عن الاعتزال، معلناً التحاقه في العقائد بالإمام أحمد، و عدّ نفسه مدافعاً عن عقائد أهل السنّة تارة بالنصوص والأحاديث، وأُخرى بالاستدلال والبرهنة: فألّف في بداية الالتحاق كتاب «الإبانة» وهو تصوير خاص لرسائل إمام مذهبه، كما ألّف في الفترة الأُخرى كتاب «اللمع» وهو

( 325 )

تصوير لما يملكه من الفكر الذي ورثه عن المعتزلة حينما كان منتهجاً مناهجهم.

وبما أنّ الإمام الأشعري قد قضى شطراً كبيراً من عمره بين أهل الفكر والتعقّل، فلذا أخذ بالتعديل والتهذيب في عقائد المذهب الأُم _ أهل الحديث _ وما قام به من العملية العقلية وإن أغضبت ثلة من الحنابلة وأهل الحديث، حتى إنّ كبير الحنابلة (البربهاري) في ذلك الوقت لم يقبل دفاع الشيخ الأشعري عن عقائد أهل السنّة بالبرهنة والاستدلال، ولكن النفوس المستعدة المتنورة تأثّرت بمنهج الإمام الأشعري، وزاد الإقبال عليه وتوفر الثناء على فكرته.

وعلى ضوء منهجه ألّف الإمام البيهقي (1) صاحب السنن الكبرى كتاب «الأسماء والصفات» وعالج فيه كثيراً من روايات التشبيه والتجسيم، كما قام ابن فورك(2) بتأليف كتاب «مشكل الحديث وبيانه»، كلّ ذلك على الخط الذي رسمه الأشعري في تنزيهه سبحانه.

____________________________

1 . هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي(المتوفّي

عام 458ه_) وطبع كتاب «الأسماء والصفات» في مصر بتصحيح الشيخ محمد زاهد الكوثري. ومن المأسوف عليه أنّ يد الخيانة أسقطت مقدمة الأُستاذ الشيخ سلامة العزامي الشافعي عند إعادة الطبع بالأفست، وما هذا إلاّ لأنّ المقدمة كانت على ضد السلفيةوالوهابية.

2 . هو أبو بكر محمد بن حسن بن فورك(المتوفّى عام 406ه_) له ترجمة في تبيين ابن عساكر:232_ 233.

يقول المقريزي في خططه (ج2،ص 358) في بيان حقيقة المذهب الأشعري: إنّه سلك طريقاً بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال (نفي الصفات الخبرية كاليد والوجه)، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه، منهم: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي، و أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفرائيني، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، والشيخ أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني،والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي وغيرهم ممن يطول ذكره ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلّوا له في مصنّفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، إلى آخر ما ذكره.

( 326 )

إبعاد أحمد عن الإمامة في العقائد

قد كان لانتشار مذهب الأشعري تأثير خاص في إبعاد الإمام أحمد عن ساحة العقائد، وأُفول إمامته في الأُصول، وانزوائه في كثير من البلدان وإقامة الأشعري مقامه. فصار الفرع الذي اشتق من الأصل المذهب الرسمي لأهل السنّة. وبلغت إمامة الفرع إلى الحدّ الذي كلّما أطلق مذهب أهل السنّة لا يتبادر منه إلاّ ذلك المذهب

أو ما يشابهه كالماتريدية.

يقول المقريزي بعد الإشارة إلى أُصول عقيدة الإمام الأشعري: هذه جملة من أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه.(1)

نعم، بلغ الإمام الأشعري قمة الإمامة في العقائد من دون أن يمس إمامة أحمد في الفروع ومرجعيته في الفتيا، كيف وهو أحد المذاهب الأربعة الرسمية بين أهل السنّة إلى الآن في العواصم الإسلامية، لكن لا في نطاق واسع بل في درجة محدودة تتلو إمامة أبي حنيفة والشافعي ومالك.

تجديد الدعوة السلفية في القرن الثامن

لقد اهتم بعض الحنابلة _ أعني: أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي (المتوفّى عام 728ه_) _ بإحياء مذهب السلفية على المفهوم الذي كان رائجاً في عصر الإمام أحمد وقبله وبعده إلى ظهور الأشعري، فأصرّ على إبقاء أحاديث التشبيه والجهة بحالها من دون توجيه وتصرف، وهاجم التأويلات التي ذكرها بعض الأشاعرة في كتبهم حول تلك الأحاديث. ولكنّه لم يكتف بمجرّد الإحياء، بل أدخل في عقائد السلف أُموراً لا ترى منها أثراً في كتبهم، فعد السفر لزيارة الرسول الأعظم بدعة وشركاً، كما عدّ التبرّك ب آثارهم والتوسّل بهم شيئاً يضاد التوحيد في العبادة. وقد ضم إلى ذينك الأمرين شيئاً ثالثاً وهو إنكار كثير من الفضائل الواردة في آل البيت، المروية في الصحاح و المسانيد حتى في مسند

____________________________

1 . الخطط المقريزية:2/390.

( 327 )

إمامه أحمد. وبذلك جدد الفكرة السلفية الخاصة المتبلورة في الفكرة العثمانية التي تعتمد على التنقيص من شأن علي وإشاعة بغضه وعناده.

وبذلك نقض قواعد ما أرساه إمامه أحمد من مسألة التربيع وجعل علي_ عليه السَّلام _ رابع الخلفاء الراشدين، وأنّ عليّاً كان أولى وأحقّ من خصومه.

ومن حسن الحظ إنّه لم يتأثر بدعوته إلاّ القليل من تلامذته كابن

القيم (المتوفّى عام 751ه_) كيف وقد عصفت الرياح المدمرة على هذه البراعم التي أظهرها، حيث قابل منهجه المحقّقون بالطعن والردّ الشديدين، فأفرد بعضهم في الوقيعة به ت آليف حافلة، وجاء البعض الآخر يزيف آراءه و معتقداته في طي كتبه، وقام ثالث يترجمه ويعرفه للملأ ببدعه وضلالاته.

وكفى في ذلك ما كتبه بعض معاصريه كالذهبي، فإنّه كتب رسالة مبسوطة إليه ينصحه ويعرفه بأنّه ممّن يرى القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينيه، وأنّه لم تسلم أحاديث الصحيحين من جانبه ثمّ خاطبه بقوله: أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟.(1)

وهناك كلام للمقريزي يقول بعد الإشارة إلى اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام: إنّه نسي غيره من المذاهب وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه. إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ابن حنبل _ رضي اللّه عنه _ فإنّهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني، وتصدّى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكيرة عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان فريق يقتدي به

____________________________

1 . تكملة السيف الصقيل: 190، ونقل قسماً من هذه الرسالة العزامي في الفرقان الذي طبع في مقدّمة الأسماء والصفات للبيهقي ونقله العلاّمة الأميني في غديره:5/87 _ 89.

( 328 )

ويعول على أقواله ويعمل برأيه ويرى أنّه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملّة الإسلامية، وفريق يبدعه ويضلّله ويزري عليه بإثباته الصفات وينتقد عليه مسائل منها

ما له فيه سلف ومنها ما زعموا أنّه خرق فيه الإجماع ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة وحسابه وحسابهم على اللّه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام وقليل بمصر.(1)

الدعوة السلفية في القرن الثاني عشر

لم يتعظ الرجل من قوة ناصحه المشفق حتى أدركته المنية في سجن دمشق، ولكن كانت بذرة الضلال مدفونة في الكتب وزوايا المكتبات إلى أن ألقى الشر بجرانه، وجاء الدهر بمحمّد بن عبد الوهاب النجدي في القرن الثاني عشر(1115_ 1206ه_) فحذا حذو ابن تيمية، وأخذ وتيرته واتبع طريقته، فأحيا ما دثره الدهر، ودعا إلى السلفية من جديد، غير أنّه اتّخذ ما أضافه ابن تيمية إلى عقائد السلف ممّا لا يرتبط بمسألة التوحيد والشرك، كالسفر إلى زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والتبرك ب آثاره، والتوسل به، وبناء القبة على قبره، قاعدة أساسية لدعوته، ولم يهتم في ت آليفه بمسألة التشبيه وإثبات الجهة والفوق.

نعم، لمّا استفحلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد وقام أُمراء المنطقة (آل سعود) بترويج منهجه واستغلوه للسيطرة على الجزيرة العربية، اهتمت الوهابية بنشر ما ألّفه السلف حول البدع السابقة الموروثة من اليهود والنصارى ،فصار إثبات الصفات الخبرية كاليد والوجه والاستواء بمفهومها اللغوي مذهباً رسمياً لدعاة الوهابية، لا يجترئ عالم على مخالفته في أوساطهم.(2)

____________________________

1 . الخطط المقريزية:2/358_ 359.

2 . وقد ألّف رضا بن نعسان معطي في مكة المكرمة كتاباً حول الصفات الخبرية سماه «علاقة الإثبات والتفويض بصفات ربّ العالمين» وقدم عليه عبد العزيز بن باز رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وأصر فيه على أنّ عقيدة السلف في هذه الصفات

إبقاؤها على مفاهيمها اللغوية بلا تغيير وتصرف. وغير خفي على النبيه أنّه لا ينتج إلاّ التجسيم وإن كان الكاتب والمقرظ لا يعترفان به، ولكنّه لا ينفك عن تلك النتيجة.

( 329 )

وبذلك وردت الدعوة السلفية في مراحلها التاريخية المرحلة الثالثة بعد الاندراس و لمّا تمّت معاملة الدول الكبرى على الخلافة العثمانية المسيطرة على أكثر ربوع الإسلام _ يوم ذاك _ و أُقصيت من ساحة البلاد العربية، حلّت سيطرة آل سعود المتبنين للعقيدة الوهابية من لدن ميلادها، محلها في أرض الحجاز عموماً، والحرمين الشريفين خصوصاً. ومن جراء ذلك أخذت الدعوة الوهابية تنتشر في الأراضي المقدسة بالطابع السلفي، فصارت السلفية والوهابية وجهين لعملة واحدة، وقد استعانت السلطة السعودية بكلّ ما تملك من قوّة وقدرة إرهابية، ودراهم ودنانير ترغيبية، لنشر المنهج الوهابي، ولكلّ من ذينك الأمرين أهله ومحله. فاستعملت الأوّل في الأُميّين والرعاع من الناس، واشترت بالثاني أصحاب القلم وأرباب الجرائد والمجلات وسائر وسائل الإعلام. فصارت السلفية في هذه الأماكن رمز الإسلام الأصيل، وآية الدين الصحيح، المجرّد عن البدع اللصيقة به بعد لحوق النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالرفيق الأعلى.

وقد استعانت هذه السلطة في تسريع الحركة الوهابية في هذا الزمان بما ظهر في المناطق الشرقية من الجزيرة من الذهب الأسود، فاستولت على زبرج الدنيا وزينتها وتمادت في غيّها وساقت كثيراً من الناس إلى معاسيف السبل ومعاميها، حتّى تأثر بتلك الحركة بعض الشبان وغيرهم خارج الجزيرة العربية.

إنّ الدعايات الخادعة، أثرت في تفكير كثير من الناس إلى حدّ تخيل لهم أنّ تجديد مجد الإسلام وبلوغ المسلمين إلى ذروة السنام لا يتم إلاّ بإحياء ما كان عليه السلف في الأُصول والفروع، ويريدون منه عهود الخلافة الراشدة والأمويين والعباسيين، فكأنّ

حياتهم في تلك العصور كانت باقات زهور تفتحت في تلك القرون، فعم ريحها وريحانها أجواء الأقطار الإسلامية،

( 330 )

فلأجل ذلك يتطلّعون إلى تلك العهود تطلع الصائم إلى الهلال، والظامئ إلى الماء.

لكن الدعايات الخاطئة عاقتهم عن التعرف على ما في تلك العصور من النقاش والخلاف بين المسلمين وسفك الدماء وقتل الأولياء وحكومة الإرهاب والإرعاب، إلى غير ذلك من المصائب والطامات الكبرى.

ولو درسوا تاريخ السلف _ منذ فارق النبي الأعظم المسلمين وتسنم الأمويون منصة الخلافة إلى أن انتكث فتلهم، وأجهز عليهم عملهم، وورثهم العباسيون ولم يكونوا في العمل والسيرة بأحسن حال منهم _ لوقفوا على أنّ حياة السلف لم تكن حياة مثالية راقية، بل كانت تسودها المجازر الطاحنة الدامية، والجنايات الفظيعة التي ارتكبتها الطغمة الأموية والعباسية في حقّ الأبرياء الأولياء والعلويين من العترة الطاهرة. فلو صحّ ما في التواريخ المتواترة، لدلّ قبل كلّ شيء على أنّ السلف لم يكن بأفضل من الخلف، وأنّ الخلف لم يكن بأسوأ من السلف، ففي كلتا الفئتين رجال صالحون مثاليون كما فيهما رجال دجّالون وأُناس طالحون.

المفكّرون الإسلاميون المعاصرون والسلفية

ومن المؤسف أنّ السلفية اتخذت لنفسها في الآونة الأخيرة طابعاً حاداً وسلوكاً في غاية الجمود و التحجّر، وفي منتهى التقشف والتزمت حتى ذهب من ينحو هذا المنحى إلى تحريم كلّ ما يتصل بالحضارة ومعطياتها المباحة شرعاً، فإذا بهم يحرمون حتى التصوير الفوتوغرافي ويهاجمون الراديو و التلفزيون(1) عتواً وجهلاً.

وقد كان هذا الموقف الجامد المتحجّر، وهذا التزمت والجفاف الذي ما أنزل اللّه به من سلطان، والذي أسند _ و للأسف _ إلى الإسلام، وما رافقه من قوة على الآخرين ورميهم بالبدعة، والخروج على الدين بحجة عدم

____________________________

1 . راجع مجلة الفرقان العدد الخامس من السنّة الأُولى وتصدرها

جماعة من السلفيّين المتشدّدين.

( 331 )

الانقياد لمواقف السلف، وآرائهم، وراء ابتعاد جماعات كبيرة من الشباب من أبناء المسلمين عن الإسلام السهل الحنيف، وإساءة الظن به وبمؤسساته. وهذا هو ما حدا ببعض الغيارى والمتحررين من المفكّرين الإسلاميين إلى التصدّي لهذا الاتجاه الدخيل على الإسلام البعيد عن روحه النقية السمحة.

وممن انبرى لإبطال هذا المذهب وإزالة الغبار عن وجه الحقيقة الأُستاذ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه «السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي».

حيث عمد أوّلاً إلى تفنيد زعم السلفيين المعاصرين بأنّ على المسلم أن يجمد على ما ورد عن السلف وعلى منهجهم وكأنّه مذهب إسلامي مقدس لا يجوز أن تناله يد الجرح والتعديل، ولا أن يخضع للنقاش والنقد، بل لا يجوز أن يتخطى في مقام العمل والسلوك.

حيث قال: إنّ اتّباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئية التي اتخذوها، لأنّهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك.(1)

ثمّ قال: إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ألا وهو (السلفية) فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معينة من المسلمين تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده، مفهوماً معيناً، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك، جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولها، بل تختلف عنهم حتّى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقيّة كما هو الواقع اليوم فعلاً.

بل إنّنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذا الأُمّة، ولا الخلف الملتزم بنهجه.(2)

____________________________

1 .

السلفية مرحلة زمنية: 12.

2 . المصدر نفسه: 13.

( 332 )

ويقول: إنّ السلف أنفسهم لم يكونوا ينظرون إلى ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال أو تصرفات، هذه النظرة القدسية الجامدة التي تقتضيهم أن يسمِّروها بمسامير البقاء والخلود، بل ساروا وراء ذلك مع ما تقتضيه علل الأحكام وسنة التطور في الحياة، وعوامل التقدم العلمي، ومنطق التجاوز المستمر من الصالح إلى الأصلح كما سايروا الأعراف المتطورة من عصر إلى آخر، أو المتبدلة ما بين بلدة وأُخرى ما دام ذلك كلّه منتشراً وراء أسوار النصوص الحاكمة والمهيمنة.(1)

ثمّ أشار إلى نماذج من مواقف السلف التي تطورت مع تطور الأحوال والأوضاع في شتى مجالات العلم والسلوك.

ثمّ قال: إنّ السلف أنفسهم لم يجمدوا عند حرفية أقوال صدرت منهم، كما لم يتشبّثوا بصور أعمال أو عادات ثبتوا عندها ثمّ لم يتحولوا عنها، بل الذي رأيناه في هذه النماذج اليسيرة هو نقيض ذلك تماماً، فكيف نقلّدهم في شيء لم يفعلوه، بل ساروا في طريق معاكس له...؟(2)

ثمّ ينتهي إلى القول: إنّ كلّ ما ذكرنا هنا تلخيص إجمالي للبرهان على أنّ السلفية لا تعني على كلّ حال إلاّ مرحلة زمنية مرت... فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها، يتمسّك به من شاء، ليصبح بذلك منتسباً إليها منضوياً تحت لوائها، فتلك إذن إحدى البدع المستحدثة بعد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(3)

ثمّ لإبطال حجّية مواقف السلف على من بعدهم ما لم يستند إلى برهان يشير إلى نماذج من خلافاتهم واختلافاتهم في المواقف والآراء(4) ثمّ يقول: فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجّة لذاتها، لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها، لأنّها هي برهان نفسها، إذن لوجب أن

تكون تلك

____________________________

1 . نفس المصدر:14_ 15.

2 . نفس المصدر: 18.

3 . نفس المصدر:23.

4 . نفس المصدر:23.

( 333 )

النظرات المتباعدة بل المتناقضة كلّها حقّاً وصواباً، ولوجب المصير دون أي تردد إلى رأي المصوبة.

وعن إمكانية طروء الخطأ على مواقف السلف يقول: إنّ اقتداءنا بالسلف لا يجوز أن يكون بواقعهم الذي عاشوه من حيث إنّهم أشخاص من البشر يجوز عليهم كلّ أنواع الخطأ والسهو والنسيان، فإنّهم من هذا الجانب بشر مثلنا لا يمتازون عن سائر المسلمين بشيء.(1)

من هنا يرى أنّ على الأُمّة إذا أرادت أن تصل إلى الحقيقة الإسلامية في مجال العقيدة والسلوك أن تتبع منهجاً في هذا المجال لا أن تكتفي بمجرّد اتباع السلف بشكل مطلق، فيقول في هذا الصدد:

إنّ الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً لابدّ أن يجتاز المراحل الثلاث التالية:

أ. التأكّد من صحّة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً، بحيث ينتهي إلى يقين بأنّها موصولة النسب إليه، وليست متقوّلة عليه.

ب. الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعينه تلك النصوص بحيث يطمئن إلى ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها.

ج. عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها، على موازين المنطق والعقل (ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً) لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها.(2)

وعندما شرح البند الأوّل والعلّة الموجبة له يشير إلى ما تعرض له الحديث النبوي على يد الوضّاعين والزنادقة، ويشير إلى أقسام الحديث من متواتر وصحيح وضعيف، ممّا يجعلنا نتحفظ تجاه النصوص، ولا نقدم على الأخذ بها

____________________________

1 . السلفية مرحلة زمنية:55_56.

2 . نفس المصدر:63.

( 334 )

لمجرّد رواية السلف لها أو روايتها عن السلف، بل نأخذ بها بعد التمحيص والتحقيق

حسب الميزان المذكور.

فيقول: فمن التزم بمقتضى هذا الميزان فهو متبع كتاب اللّه متقيد بسنة رسول اللّه، سواء أكان يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم، ومن لم يلتزم بمقتضاه فهو متنكب عن كتاب اللّه، تائه عن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإن كان من الرعيل الأوّل، ولم يكن يفارق مجلس رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .(1)

وبعد أن يسهب في شرح تفاصيل هذا المنهج يقول: ولم نعلم أنّ في أهل هذه القرون الغابرة كلّها من قد استبدل بهذا المنهج الذي كان ولا يزال فيصل ما بين أهل الهداية والضلال، التمذهب بمذهب يسمّى السلفية بحيث يكون الانتماء إليه هو عنوان الدخول في ساحة أهل الهداية والرشاد. وعدم الانتماء إليه هو عنوان الجنوح إلى الزيغ والضلالة والابتداع.

ولقد أصغينا طويلاً ونقبنا كثيراً فلم نسمع بهذا المذهب في أيّ عصر من عصور الإسلام الغابرة، ولم يأت من يحدثنا بأنّ المسلمين في عصر ما قد انقسموا إلى فئة تسمّي نفسها السلفية وتحدد شخصيتها المذهبية هذه ب آراء محددة تنادي بها، وأخلاقية معينة تصطبغ بها، وإلى فئة أُخرى تسمى من وجهة نظر الأُولى بدعية أو ضلالية أو خلفية أو نحو ذلك، كلّ الذي سمعناه وعرفناه أنّ ميزان استقامة المسلمين على الحقّ أو جنوحهم عنه إنّما مردّه إلى اتّباع المنهج المذكور.

وهكذا، فقد مرّ التاريخ الإسلامي بقرونه الأربعة عشر دون أن نسمع عن أي من علماء وأئمّة هذه القرون أنّ برهان استقامة المسلمين على الرشد يتمثل في انتسابهم إلى مذهب يسمّى بالسلفية فإن هم لم ينتموا إليه ويصطبغوا بمميزاته وضوابطه، فأُولئك هم البدعيون الضالّون.

____________________________

1 . السلفية مرحلة زمنية: 79.

( 335 )

إذن فمتى ظهرت هذه المذهبية التي نراها بأُمّ أعيننا اليوم

والتي تستثير الخصومات والجدل في كثير من أصقاع العالم الإسلامي، بل تستثير التنافس والهرج في كثير من بقاع أوروبا حيث يقبل كثير من الأوروبيين على فهم الإسلام ويبدون رغبة في الانتساب إليه؟(1)

وبعد أن يشير إلى مبدأ ظهور هذه الكلمة (السلفية) وسبب ذلك، و كيف أنّها استخدمت في ذلك الوقت للدعوة إلى السير على خطا المسلمين الأُول في الالتزام بأصل الإسلام في مواجهة الموجة المادية الغربية التي اجتاحت البلاد الإسلامية في أوائل القرن العشرين، ولكنّها تحولت فيما بعد إلى لقب، لقب به الوهابيون مذهبهم، وهم يرون أنّهم دون غيرهم من المسلمين على حقّ، وأنّهم دون غيرهم الأُمناء على عقيدة السلف، والمعبرون عن منهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه، وأمّا الآخرون فكفرة ضالّون.

يقول بعد كلّ هذا تحت عنوان: «التمذهب بالسلفية بدعة لم يكن من قبل»:

إذا عرف المسلم نفسه بأنّه ينتمي إلى ذلك المذهب الذي يسمّى اليوم بالسلفية، فلا ريب أنّه مبتدع...

فالسلفي اليوم، كلّ من تمسّك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ودافع عنها وسفّه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع، سواء منها ما يتعلق بالأُمور الاعتقادية، أو الأحكام الفقهية والسلوكية.(2)

ثمّ أشار الأُستاذ البوطي إلى الآثار الضارة اللاحقة بالأُمّة الإسلامية من جرّاء هذه البدعة، وما يلازمها من عصبية مقيتة ومواقف متصلّبة وعنيفة. وما أوجدت من مشاكل في الأوساط الإسلامية... وأشار _ فيما أشار _ إلى تهجّم السلفيين على جماعة من المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه لا لشيء إلاّ لأنّ السلفيين لا يرتضون بعض أعمالهم المباحة شرعاً.

____________________________

1 . السلفية مرحلة زمنية: 230_ 231.

2 . نفس المصدر: 236_ 237.

( 336 )

حيث قال: وفي إحدى الأصقاع النائية (1) حيث تدافع أُمّة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة، تصوّب

إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتّهام بالشرك والابتداع، لأنّهم قبوريون توسّليون(2) ثمّ تتبعها الفتاوى المؤكّدة بحرمة إغاثتهم بأيّ دعم معنوي أو عون مادي، ويقف أحد علماء تلك الأُمّة المنكوبة المجاهدة ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات: يا عجباً لإخوة يرموننا بالشرك مع أنّنا نقف بين يدي اللّه كلّ يوم خمس مرات نقول:(إِيّاك نعبدُ وإِيّاكَ نَسْتَعين) (3)... لكن النداء يضيع، ويتبدّد في الجهات دون أيّ متدبر أو مجيب!!(4)

ثمّ يقول: إنّ استنكار هذه الرعونات الشنيعة لا يكون إلاّ بمعالجتها، ولا تكون معالجتها إلاّ بسد الباب الذي اقتحمت منه، وإنّما الباب الذي اقتحمت منه هو الإقدام على اقتطاع جماعة من جسم الجماعة الإسلامية الواحدة، واختراع اسم مبتدع لها ثمّ تغذية روحها العصبية وأنانيّتها الجماعية بمقوّمات معينة وأساليب وأخلاقيات متميزة تدافع بها عن كيانها الذاتي، بل تتّخذ من هذا الاسم سلاحاً لمقاومة الآخرين وطعنهم دون هوادة إذا اقتضى الأمر.(5)

ثمّ يشير الأُستاذ إلى استفادة أصحاب الفكر اليساري من هذه البدعة لصالح المادية الماركسية الجدلية حيث اعتبروا هذه البدعة دليلاً على صحّة نظريتهم التاريخية في مجال التناقض والصيرورة، في غفلة من أصحاب هذه البدعة.

____________________________

1 . والمراد هو إيران المسلمة وذلك عند دفاع أهلها عن وطنهم ومقدّساتهم في الحرب المفروضة عليهم من جانب الاستكبار العالمي وعملائه.

2 . نعم هذا هو ما كان يفعله السعوديون الذين يتسترون تحت غطاء السلفية فكانوا يساعدون النظام الإلحادي البعثي العراقي بالمال والسلاح والدعاية مجاهرين بذلك. وحبذا لو أنّ الأُستاذ الشهم كشف عن اسم هذه الفرقة المتجنّية على الإسلام والمسلمين،التي لم تكتف بتكفير المسلمين في إيران بل كفرت كلّ المسلمين وضلّلتهم.

3 . الفاتحة:5.

4 . السلفية مرحلة زمنية: 245.

5 . المصدر نفسه: 246.

( 337 )

السلفية وتدمير الآثار الإسلامية

لقد

قامت «الوهابية» المفروضة على الشعب المسلم في الجزيرة العربية باسم «السلفية» بتدمير الآثار الإسلامية وقد ركزت جهودها في هذه الأيّام على محو آثار الإسلام ومعالمه وطمس كلّ أثر ديني حتى المساجد، مع أنّ مؤسس«الوهابية»، أعني: «محمد بن عبد الوهاب» ، كان يركز جهوده على هدم القبور فقط لا على هدم كلّ أثر ديني للرسول الأعظم وصحابته المنتجبين، لكنّ حلفاءه بدأوا في هذه الأيام بالقضاء على الآثار الدينية باسم تطوير البلدين: مكة والمدينة فترى كيف طمست حتى في هذه السنوات الأخيرة(1396_ 1408ه_ق) عشرات من الآثار الإسلامية ومحيت معالمها تحت غطاء توسعة المسجد النبوي، أو تطوير المدينة وإعمارها، وكأنّ التطوير يتوقف على التدمير ولا يجتمع مع حفظ تلك الآثار في مكانها، ولا نشكّ نحن وكلّ متحرق على الحقّ والحقيقة أنّها مؤامرة شيطانية على الإسلام وأهله.

والعجب أنّ «السعوديين» يقومون بهذا العمل باسم الاقتداء بالسلف مع أنّ السلف في القرون السابقة فرضوا على أنفسهم رعايتها، فإنّ الحكام _ الذين تعاقبوا على مسند الحكم في الحجاز عدا يزيد _ فرضوا على أنفسهم حفظها ورعايتها غير أنّها في هذه الأيام، كأنّها أصبحت ملكاً صرفاً لآل سعود، وكأنّها ليست آثاراً إسلامية ولا تخص مليار مسلم فضلاً عن الأجيال اللاحقة، ولو نظر المسلم في تاريخ الآثار الإسلامية قبل استيلاء «السعوديين» عليها لوجد جميع الآثار تتمتع بأفضل عناية ورعاية من جانب السلف. فما معنى هذه السلفية التي تتبعض في مفهومها فيؤخذ منها شيء ويترك منها شيء؟! يقولون : «نؤمن ببعض ونكفر ببعض».

وفي الوقت الذي تحرص فيه الدول المتحضّرة على إحياء أمجادها وتراثها، وتتعهد بإنشاء كليات ومعاهد ومؤسسات ومتاحف لحفظ الآثار وصيانتها _ في هذا الوقت نفسه _ تعمد السعودية إلى القضاء على أنفس الآثار

الإسلامية وأعزها على كلّ مسلم.

والعجب العجاب أنّ هؤلاء يدّمرون بيوت بني هاشم وبيت الإمام

( 338 )

الصادق _ عليه السَّلام _ ، وقبر والد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ومشهد ذي النفس الزكية، وبيت أبي أيّوب الأنصاري مضيف النبي، ولكنّهم يعتنون ب آثار اليهود في المدينة المنوّرة، فترى فيها حصن «كعب بن الأشرف» رأس اليهود الذي اغتاله بعض الصحابة بأمر النبي الأعظم محفوظاً، وقد وضعت أمامه لوحة تحمل مرسوماً ملكياً بحفظه تحت عنوان حفظ الآثار.

وليس هذا التخطيط منحصراً بحفظ تراث ذلك اليهودي بل حصون خيبر بجميع شقوقها وفروعها سجلت في ديوان الآثار التي يجب حفظها عن الاندراس، لأنّها شارة خاصة لأسلاف الحافظين لها«فاعتبروا يا أُولي الأَبصار».

فأين المسلمون الغيارى، أعني: الذين افتقدوا يوماً شعرة من رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وكانوا يحتفظون بها في مسجد من مساجد الهند فانتابتهم رجّة عظيمة، وثارت ثائرتهم حتى اضطرت الدولة العلمانية الهندية إلى بذل الجهود للعثور على تلك الشعرة، حتّى عثر عليها وأعيدت إلى مكانها.

فأين أُولئك الغيارى حتّى يروا بأُم أعينهم أنّ الآثار النبوية تدمّر، الواحد تلو الآخر وفي كلّ شهر ويوم على أيدي السلطات السعودية.

ولن تنتهي الجريمة إلى هذا الحدّ، بل ربما تتعدى إلى ما لا سمح اللّه به لهم.

ومن الملفت للنظر أنّ المفكّرين من علماء الإسلام عندما قام الوهابيون بهدم قبور أئمّة أهل البيت في البقيع(1) أعلنوا للعالم الإسلامي بأنّ الجريمة لن تتوقف عند هذا الحد، بل إنّ هدم البقيع مقدمة لهدم ومحو جميع آثار الرسالة، وفي ذلك يقول المرجع الديني الراحل (2) السيد صدر الدين العاملي:

____________________________

1 . عام 1344ه_ .

2 . لبى دعوة ربّه عام 1373ه_.

( 339 )

لعم_ري إنّ ف_اجع_ة البقي_ع

* يشي_ب لهوله_ا ف_ود الرضي_ع

وسوف تكون فاتح_ة الرزاي__ا * إذا لم نصح من هذا الهج_وع

أم__ا م__ن مسل_م للّه يرع_ى * حقوق نبيّه اله_ادي الشفي_ع

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُونَ) .

الرابع: نصيحة لأعلام الحنابلة وقادتهم

اتّفق المسلمون تبعاً للذكر الحكيم على أنّ الرسالة المحمّدية رسالة عالمية أوّلاً، وخاتمية ثانياً، قال سبحانه: (قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَميعاً)(1)، وقد حملت الأُمّة الإسلامية رسالة إبلاغ الإسلام على عواتقها بعد التحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى فنشروها في مشارق الأرض ومغاربها حسبما توفر لديهم من الإمكانيات، وقد وصلت النوبة في هذا العصر إلى قادة المسلمين وأئمّتهم، فيجب عليهم بث الإسلام وتعاليمه بين الناس _شرقيّهم وغربيّهم_ في حدود الإمكانيات والوسائل الموجودة في سبيل بسط الدعوة ونشرها حتّى ينقذوا العالم من مخالب المادية ومن الحروب التي تهدد كيان الإنسانية.

وممّا لا شكّ فيه أنّ للتأثير في النفوس وجذب القلوب، عللاً وأسباباً مختلفة، أهمها كون الداعي مجهزاً بقوة المنطق والاستدلال القاطع الذي تخضع له العقول السليمة، فعند حسن الدعوة وأسلوبها،وقوّة المادة ورصانتها، ترى القلوب تهوي إليها من كلّ صوب وجانب،والناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً، وأمّا إذا كانت الدعوة غير منسجمة مع الفطرة السليمة، فنفور الناس هو النتيجة الحتمية وتكون من قبيل«مايفسده أكثر ممّا يصلحه».

وفي ظل هذا العامل سيطرت الدعوة المحمدية _ آن ظهورها _ على قلوب العالم واكتسحت العراقيل الموجودة أمامها، وما ذاك إلاّ لكون الدعوة حائزة للشرائط موافقة للطباع، وإلى هذا الانسجام يشير قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّين حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ

____________________________

1 . الأعراف:158.

( 340 )

الدِّينُ القَيِّمْ وَلكَّنْ أَكْثََرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون) .(1)

فالدعوة إلى التوحيد ورفض الأصنام، وبسط العدل والقسط بين الناس،

والدعوة إلى الاعتدال في ما يرجع إلى أُمور الدنيا والآخرة، وتأمين سبل الحياة، والحفاظ على الروابط العائلية و... كلّها أُصول إسلامية مطابقة للفطرة الإنسانية.

فإذا كان هذا هو الأساس لنشر الإسلام في العالم وجذب النفوس إليه، فيجب على قادة المسلمين على الإطلاق والحنابلة وأهل الحديث بالخصوص، تجريد الدعوة عن الأُمور التي تعارض الفطرة ومن التي تناطح العقل السليم، ثمّ عرض الإسلام بشكل يتجاوب مع العقول السليمة كما كانت عليه الدعوة المحمدية آن ظهورها وبعدها، وهذه الغاية المتوخاة لا تتحقّق _ بلا مجاملة _ إلاّبدراسة الأُصول والعقائد التي نسجت على طبق الأحاديث الموجودة في الصحاح والمسانيد من رأس والعودة إليها من جديد حتى تصفو الدعوة من الأُمور التي يشمئز منها شعور الإنسان الحر صاحب الفطرة السليمة التي بني عليها دين اللّه في عامة الشرائع السماوية.

هلمّ معي نلاحظ نماذج من الأُصول التي قامت عليها الدعوة الحنبلية المتسمّية في هذه العصور بالدعوة السلفية، ثمّ نعرضها على محك الصحة ومقياسها «الفطرة الإنسانية»، فهل هي تتجاوب معها؟ ونحن لا نطيل الكلام بعرض عامة الأُصول بل نأخذ _ كما قلنا _ نماذج ونجعلها على مرأى ومسمع من القارئ.

أفهل يمكن دعوة شعوب العالم إلى الإسلام مع القول بأنّ اللّه سبحانه كإنسان له من الأعضاء ما للإنسان عدا اللحية والفرج، وأنّ له عينين ناظرتين وذراعين وصدراً ونفساً ورجلاً وحقواً ونزولاً وصعوداً إلى غير ذلك ممّا ملأ كتب الحنابلة وقليلاً من كتب الأشاعرة؟ وأقصى ما عندهم أنّ له سبحانه هذه

____________________________

1 . الروم:30.

( 341 )

الأعضاء ولكن بلا كيفية، و قد عرفت حال التدرّع به وأنّه ممّا لا يسمن ولا يغني من جوع.

أفيصحّ لنا دعوة أساتذة العلوم الإنسانية والطبيعية من المخترعين والمكتشفين في عالمنا الراهن إلى الإله

الذي استقرّ على عرشه فوق السماوات ينظر منه إلى العالم كلّه الذي هو تحت قدميه، والعرش يئط تحته أطيط الرحل تحت الراكب؟!

باللّه عليك إذا كانت رسالتنا في العالم نشر ما جاء في قول هذا الشاعر الحنبلي:

للّه وج__ه لا يح_د بص__ورة * ول_ربن_ا عين_ان ناظرت__ان

وله يدان كم_ا يق_ول إلهن_ا * ويمينه جلّت عن الأيمان!

فهل يتصور لنا النجاح في ميدان الدعوة؟! أو يكون التراجع والفشل نتيجة حتمية للدعوة، وإنّنا سوف نقابل بالقول بأنّ المادية والإلحاد أولى وأرجح من الاعتقاد بهذا الإله الذي جلس على سرير كجلوس الملوك ينظر إلى ملكه بعيونه ويفعل بيده ويكتب ببنانه.

أو ليس القول بالجبر وسلب الاختيار هي النتيجة الطبيعية للروايات الواردة في الصحاح والمسانيد حول القضاء والقدر، و قد مضى حديث مسلم: «فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار...».(1)؟!

أو ليس هذا تطويحاً بالوحي كلّه وتزييفاً للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة وتكذيباً للّه والمرسلين قاطبة. قال سبحانه: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (2). و قال سبحانه: (وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَفَلْيُؤْمِنْوَمَنْ شاءَفَلْيَكْفُر) .(3)

____________________________

1 . راجع ص 264 من هذا الجزء.

2 . الأنعام:104.

3 . الكهف:29.

( 342 )

وهناك أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى وتعرف الإنسان بأنّه مسلوب المشيئة، وأنّه مقهور بكتاب سابق، وأنّ سعيه باطل، لأنّه لا يغير شيئاً ممّا خط عليه في الأزل مع أنّه سبحانه يقول: (وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسان إِلاّما سعى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرى* ثُمَّ يُجزاهُ الجَزاءَ الأَوفى) .(1)

فهذه أحاديث واهية خلّفت تعاليم باطلة في أوساط المسلمين يجب تجريد

الدعوة الإسلامية منها، فهي تعاكس منطق الفطرة أوّلاً، والعقل السليم ثانياً، ومنطق العقلاء ثالثاً، ومنطق الشرائع عامة رابعاً، فليس لهذه الروايات أن تطيح على المحفوظ من كتاب اللّه وسنّة رسوله، أو تنافح ما اجتمع عليه عقول العالمين، ولو صحت هذه الروايات، لكانت الحياة عملاً مسرحياً، والدعوة الإلهية دعوة خادعة، والناس محكومون بما جف عليه القلم وليس لهم التخطّي عنه قدر أنملة.

هذه بعض الأُصول(2) التي تناقض الفطرة، وهي أكثر ممّا حررناه هنا، فليكن منها شعار الحنابلة وبعدهم الأشاعرة بأنّه:

يجوز التكليف بما لا يستطاع ولا يطاق.(3)

يجوز تعذيب أطفال المشركين يوم القيامة.(4)

يعذب الميت ببكاء أهله عليه.(5)

ليس للعقل الحكم بحسن شيء أو قبحه، و عليه : يصحّ له سبحانه إدخال المؤمن الجحيم، والعاصي الجنّة.

إنّ الإطاحة بحاكمية العقل في مجال التحسين والتقبيح إماتة للمنطق وإحياء للخرافات، وفي الوقت نفسه ردّ لصميم الدعوة المحمدية المبنية على التدبّر

____________________________

1 . النجم:39_ 41.

2 . قد تعرفت على مصادر هذه الأُصول في الفصل الخامس من هذا الجزء: ص 138 _ 175.

3 . اللمع: 116.

4 . اللمع: 116.

5 . صحيح البخاري: كتاب الجنائز، الباب 5.

( 343 )

والتعقّل والاحتكام إلى العقل في مجال الطاعة والمعصية، يقول سبحانه: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِين* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون) .(1)

و أُقسم بالّله صادقاً أنَّ الدعوة الإسلامية لا تكون ناجحة في أقطار الغرب والشرق إذا كانت هذه الأُصول هي اللحمة والسدى لها.

إنّ ملحمة الكنائس ومغادرة المثقفين من المسيحيّين عن دينهم هي العبرة لقادة الحنابلة ومن يقتفي أثرهم، ولم يكن للهوّة السحيقة بين أصحاب الكنائس والمثقفين سبب، سوى وجود الخرافات في تعاليم الكنائس، فلم تزل تدعو إلى التثليث أوّلاً، وإلى التجسيم ثانياً، وصلب المسيح لأجل إنقاذ البشرية ثالثاً، وبيع أوراق المغفرة رابعاً، ونوع خاص

من الجبر وسلب الاختيار خامساً، هذا وذاك صار سبباً لانسحاب الشباب والعلماء عن ساحة الكنائس والبيع واختصاص الأماكن المقدّسة بالسذج من الناس الذين لا يعرفون من العلم والحياة سوى شيء طفيف.

هذه نصيحتي لقادة الحنابلة، وفي الأخير نضيف إليها كلمة وهي أنّ الحنابلة وأهل الحديث عمدوا إلى احتكار اسم «أهل السنّة» لأنفسهم ولا يصفون سائر الطوائف الإسلامية به، حتّى إنّ ابن تيمية محيي الدعوة السلفية في القرن الثامن لا يبيح تسمية الأشاعرة باسم أهل السنّة فضلاً عن المعتزلة والشيعة وغيرهم، ولكن في هذا الاحتكار بل في هذه التسمية نكتة لافتة:

إنّ توصيف طائفة من المسلمين باسم أهل السنّة من العناوين الطارئة الحديثة التي ظهرت في آخر القرن الأوّل أو في أوّليات القرن الثاني، فإنّك لا ترى أثراً من هذا الاسم ولا التوصيف به في زبر الأوّلين إلاّ في رسالة عمر بن عبد العزيز في القدر التي مرت بنصها في ما سبق(2)، وقد عرفت أنّ كتابة الحديث وتدوينه والتحدّث به وإفشاءه كان من الأُمور المنكرة، وهذا هو عمر بن الخطاب قال لأبي ذر و عبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء: ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد؟(3)

وكان يقول أيضاً: جرّّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن

____________________________

1 . القلم:35و 36.

2 . قد مرّت الرسالة في ص 292 من هذا الجزء.

3 . كنز العمّال: 10/293، الحديث 29479.

( 344 )

رسول اللّه وامضوا وأنا شريككم.(1)

وقد خلّف هذا المنع في نفوس المسلمين أثراً خاصاً فعاد التحدّث وكتابة الحديث وتدوينه أمراً منكراً لديهم وتركه أمراً مرغوباً فيه، حتّى إنّه بعد ما أصدر الخليفة عمر بن عبد العزيز الأمر الأكيد بضرورة تدوين الحديث، كانت رواسب الحظر تحول دون القيام بما أمر به الخليفة فلم يكتب شيء من

أحاديث النبي إلاّ صحائف غير منظمة ولا مرتبة إلى أن جاء عصر أبي جعفر المنصور فقام المحدثون بتدوينه سنة مائة وثلاثة وأربعين.

فإذا كان التحدّث بسنّة الرسول أمراً منكراً في القرن الأوّل وأوّليات القرن الثاني، فكيف يحتمل أن يعرف أُناس ينكرون نقل الحديث وإفشاءه باسم «أهل السنّة» وعلى ذلك فلا نحتمل وجود هذه التسمية في تلك العصور، و إنّما حدثت تسمية أهل الحديث وتوصيفهم بأهل السنّة بعدما شاع التحدّث به وقام ثلة جليلة من المسلمين بجبر ما انكسر.

فعلى ضوء ذلك، لا يصحّ احتكار هذا اللقب وتسمية طائفة خاصة به، بل كلّ من يحترم حديث رسول اللّه وسنّته ويعمل بها فهو من أهل السنّة فالمسلمون سنّيهم وشيعيّهم، أشعريّهم ومعتزليّهم، من غير استثناء طائفة واحدة كلّهم أهل السنّة، أي مقتفون سنّة رسول اللّه وأثره من قوله وفعله وتقريره.

والشيعة أولى بهذا الوصف من غيرهم، فإنّهم لم يزالوا يحترمون سنّة رسول اللّه منذ حياته إلى يومنا هذا، فقد قام الإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ بتدوين أحاديثه كما قامت ثلّة جليلة من خيار صحابة الإمام بتدوين الحديث إلى أن وصلت حلقات التأليف من عصر الإمام إلى عصر الأئمّة الاثني عشر وبعدهم إلى أعصارنا هذه، فدوّنوا سنّة رسول اللّه المروية عن طرق أهل البيت و أئمّتهم وما صحّ لديهم من طرق غيرهم. أفهل يصحّ بعد هذا احتكار الحنابلة لهذا اللقب وعدم السماح بإطلاقه على غيرهم والتقوّل ب_: نحن السنّيون؟!

____________________________

1 . طبقات ابن سعد:6/7; والمستدرك:1/102.

( 345 )

موقف تاريخي لشيخ الأزهر من عقائد الحنابلة

إذا كبر على أعلام الحنابلة ما قدّمت إليهم من النصيحة الخالصة، فعليهم _ على الأقل _ الأخذ بما قاله الشيخ «سليم البشري» شيخ الجامع الأزهر الأسبق، فقد رفع

إليه الشيخ «أحمد» شيخ معهد بلصفورة سؤالاً ما هذا حاصله:

ما قولكم دام فضلكم في رجل من أهل العلم هنا تظاهر باعتقاد جهة فوقية للّه سبحانه وتعالى، ويدّعي أنّ ذلك مذهب السلف وتبعه على ذلك البعض القليل من الناس، وجمهور أهل العلم ينكرون عليه، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد _ كما عرض علي هو بنفسه ذلك _ عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه، وليكن معلوماً أنّه يعتقد الفوقية الذاتية له جلّ ذكره، يعني أنّ ذاته فوق العرش بمعنى ما قابل التحت مع التنزيه، ويخطِّئ أبا البركات الدرديري، في قوله في خريدته:

من__زّه ع_ن الحل__ول والجه__ة * والاتصال والانفصال و السفة

يخطّئه في موضعين من البيت:

قوله: «والجهة» وقوله: «والانفصال»، و يخطِّئ الشيخ «اللقاني» في قوله:

ويستحيل ضد ذي الصفات * في حقّه كالك_ون في الجه_ات

وبالجملة فهو مخطِّئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره _ إلى أن قال _ : إنّ قول فضيلتكم لا سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل.

فوافاه الجواب بالنحو التالي:

إلى حضرت الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة:

قد أرسلتم بتاريخ 22محرم سنة 1325 ه_ مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية

( 346 )

لمن اتّبع الحقّ وأنصف، جزاكم اللّه عن المسلمين خيراً:

اعلم أيّدك اللّه بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه، أنّ مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنّيون: أنّ اللّه تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث، مخالف لها في جميع سمات الحدوث، ومن ذلك تنزّهه عن الجهة والمكان، كما دلّت على ذلك البراهين القطعية، فإنّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة

أو المكان وهما من العالم، وهو ما سوى اللّه تعالى، و قد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى اللّه تعالى بإجماع من أثبت الجهة و من نفاها، ولأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء، فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما باطل، ولأنّه لو تحيز لكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً، ولو كان جوهراً فإمّا أن ينقسم وإمّا أن لا ينقسم، وكلاهما باطل، فإنّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. والمنقسم جسم وهو مركّب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي، فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة، وقد ثبت بالبرهان أنّه تعالى واجب الوجود لذاته، غني عن كلّ ما سواه، مفتقر إليه كلّ ما عداه، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير....

هذا وقد خذل اللّه أقواماً أغواهم الشيطان وأزلّهم، اتّبعوا أهواءهم وتمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، واتّفقوا على أنّها جهة فوق، إلاّ أنّهم افترقوا، فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش، وبه قال الكرامية واليهود، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم; ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه، وأنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام، وهؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم، وإطلاقهم على اللّه ما لم يأذن به الشارع، ولا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به.

وممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن، في ضمن أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه، وشنّع عليه

معاصروه، بل

( 347 )

البعض منهم كفروه، ولقي من الذل والهوان ما لقي، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته ممّا نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها، وأبان غلط الناس في فهم مراده، واستشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه، وأنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع، وذلك هو المظنون بالرجل لجلال قدره ورسوخ قدمه.

وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية، لا تصلح أدلّة عقلية ولا نقلية، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى: (الرّحمنُ عَلى الْعَرشِ اسْتَوى)(1) وقوله: (إِليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّب) (2) وقوله: (تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إليهِ)(3)وقوله:(أأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أن يَخْسَِفَ بِكُمُ الأرض)(4) وقوله: (وَهُوَ القاهِرُ فوقَ عِبادِهِ)(5) وكحديث إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة، وفي رواية: في كلّ ليلة جمعة، فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وكقوله للجارية الخرساء: أين اللّه؟ فأشارت إلى السماء، حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء، بل قال إنّها مؤمنة.

ومثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان والجهة، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية، إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف، وإمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف، كقولهم: «إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء» كما في قول القائل:

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مه_راق

وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به، لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده وقوله: «من في السماء» أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل

بالعذاب، وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله:(فوق عباده) أي بالقدرة والغلبة، فإنّ كلّ من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة، كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان، أي إنّه أقدر منه وأغلب. ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته

____________________________

1 . طه:5.

2 . فاطر: 10.

3 . المعارج : 4.

4 . الملك: 16.

5 . الأنعام: 18.

( 348 )

وعدم المعاملة بما يستدعيه علو رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل، وخصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة والخضوع وحضور القلب. وسؤاله للجارية «بأين» استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون، فلمّا أشارت إلى السماء، فهم أنّها أرادت خالق السماء فاستبان أنّها ليس وثنية، وحكم بإيمانها.

وقد بسط العلماء في مطوّلاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك، عملاً بالقطعي وحملاً للظنّي عليه، فجزاهم اللّه عن الدين وأهله خير الجزاء.

ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمّتهم ويتمشدق بترّهات المبتدعين وضلالتهم. أما سمع قول اللّه تعالى (و[من] يَتَّبِع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّه ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيراً)(1) فليتب إلى اللّه تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه، فإنّ الرجوع إلى الصواب عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب(مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِل فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرشِداً) .(2)

نسأل اللّه تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلّى اللّه تعالى وسلم على سيّدنا محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه «سليم البشري» خادم العلم والسادة

المالكية بالأزهر عفا عنه آمين آمين.(3)

هذه هي قصة أهل الحديث والدعوة السلفية بأدوارها المختلفة.

____________________________

1 . النساء: 115.

2 . الكهف: 17.

3 . الفرقان للعلاّمة القضاعي المصري: 72_ 76، و قد طبع مع كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي، وتوفي المجيب عام 1335ه_ وهو الذي قد جرت بينه و بين السيد شرف الدين مكاتبات طبعت باسم «المراجعات».

( 349 )

(قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصيرة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين). (1)

بل_غ الكلام إلى هنا في الي_وم الثالث

م_ن شعبان المعظّم ميلاد الإمام

الطاهر سيد الشهداء _ عليه السَّلام _

من شهور عام 1408ه_ .ق

قم المشرّفة

____________________________

1 . يوسف: 108.

الجزء الثاني (اسماعيلية)

التعارف و التآخي في ظل البحث الموضوعي

التعارف و التآخي في ظل البحث الموضوعي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على نبيّه، والخيرة من أهل بيته، وصحبه الطيّبين.

أمّا بعد، فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا«بحوث في الملل والنحل» نقدّمه إلى القرّاء الكرام، راجين منهم غض الطرف عمّا فيه من خلل أو زلل، وإيقاف المؤلّف على ملاحظاتهم القيّمة.

ويختص هذا الجزء ببيان حياة الإمام الأشعري، وحياة أنصار مذهبه، واستعراض الأُصول المهمة في منهجه، وقد اعتمدنا في بيانها على المصادر المعتبرة الموثوق بها عند الأشاعرة.

وطبيعة البحث كانت تقتضي تقديم التحقيق عن المعتزلة، وتبيين أُصولها، وترجمة شخصياتها اللامعة، على الأشاعرة; ذلك أنّ منهج الاعتزال أقدم منهج فكري ظهر على الصعيد الإسلامي حين لم يكن عن الإمام الأشعري ومنهجه وأنصاره أثر ولا خبر.

ولكن لمّا كان مذهب الأشعري مشتقاً من مذهب أهل الحديث وفرعاً منه، وقد خصصنا الجزء الأوّل لبيان عقائد أهل الحديث والسلفيّين، صار ذلك سبباً لتقديم ما حقّه التأخير، وسنقوم ببيان أُصول المعتزلة وترجمة رجالها البارزين بعد تبيين عقائد «الماتريدية»(التي هي والمذهب الأشعري صنوان

( 6

)

نابتان من أصل واحد). في الجزء الثالث; كلّ ذلك بفضله وكرمه.

وأمّا المناهج الرجعية التي نبتت في العصور الأُولى، كالجهمية والكرامية والظاهرية، والتي أكل عليها الدهر وشرب،وذهبت أدراج الرياح، فترى الإيعاز إليها في ذاك الجزء أيضاً بإذنه سبحانه.

إنّ البحث عن الملل والنحل _ إذا كان قائماً على أساس علمي رصين _ يكون وسيلة للتآخي والتآلف، فإنّ الباحث يقف على أنّ كثيراًمن الأُصول في المذاهب مشتركة وموحدة، وإنّما فرّقت بينها عوامل أُخرى لا تمتّ إلى المذهب بصلة، وبذلك يصبح البحث عن «الملل والنحل» وسيلة للتآخي والتآلف.

نعم لو اعتمد الباحث على مالا يصحّ الاعتمادعليه فربما شوّه سمعة المذهب، وصوّره على غير ما هو عليه، فيكون أداة للتباغض والتنافر.

ونحن نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لدراسة المذاهب، كلّ على ما هو عليه من دون بخس لحق، كما نرجو أن يوفقنا في سعينا لإصابة الحقيقة، وبيان الواقع، إنّه قريب مجيب الدعاء.

جعفر السبحاني

قم المشرّفة _ الحوزة العلمية

20جمادى الآخرة، 1408ه_

( 7 )

حياة الإمام الأشعري

حياة الإمام الأشعري

ومنهجه في العقائد

افترق المسلمون(أهل البحث والجدل منهم) في النصف الأوّل من القرن الثاني إلى فرقتين:

فرقة أهل الحديث: وهم الذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها، أو دقة في أسنادها، وكانوا يشكّلون الأكثرية الساحقة بين المسلمين، وكثرت فيهم المشبّهة والمجسّمة، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً، كاليد والرجل والوجه، إلى غير ذلك من البدع التي ظهرت بين المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان المتسترين بالإسلام.

وفرقة الاعتزال: وهم الذين كانوا يتمسكون بالعقل أكثر من النقل،ويؤوّلون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليتهم، وبقي التشاجر قائماً على قدم وساق بين الفرقتين طوال قرون.

فتارة يتغلّب أهل الحديث على أهل الاعتزال ويزوونهم، وأُخرى ينغلّب جناح التفكر والاعتزال على أهل الظواهر والحديث،

وكانت غلبة كلّ فرقة على الأُخرى في كثير من الأحيان تنشأ من ميول الحكومات آنذاك لأحد الجناحين المتصارعين، فنرى عصر الأمويين وأوائل عصر العباسيين، عصر ازدهار منهج أهل الحديث والمتمسكين بظواهر النصوص; كما نرى الأمر على العكس في زمن المأمون وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل، فكان الازدهار لمنهج الاعتزال حتى صار مذهباً رسمياً للحكومات السائدة، واعتقل بعض

( 8 )

مشايخ أهل الحديث مثل أحمد بن حنبل، حتّى جُلِدَ ثلاثين سوطاً لأجل اعتقاده بقدم القرآن الذي يُعدّ من مبادئ أهل الحديث.

وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تسلّم المتوكل مقاليد الحكم; فأمر بنشر منهج أهل الحديث بقوة وحماس، وتبعه غيره من العباسيين في دعم مقالتهم، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعري (260_324ه_) الذي كان معتزلياً ثمّ صار _ بحسب الظاهر _ من زمرة أهل الحديث، فكانت السلطة تسايرهم وتوافقهم. وسيوافيك القول في علل رجوعه عن مذهب الاعتزال إلى تيار أهل الحديث وفي مقدمتهم مذهب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل.

وقد كوّن الأشعري برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلامياً، له أثره الخاص إلى يومنا هذا بين أهل السنّة، فمذهبه الكلامي هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار. ولأجل ذلك يجب علينا أن نتعرّف عليه وعلى آرائه، فنقول:

نسب الإمام الأشعري

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.

يقول ابن عساكر في ترجمته: إنّ أباه إسماعيل بن إسحاق كان سنّياً جماعياً حديثياً، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي، وهو إمام في الفقه والحديث،وقد روى عنه الشيخ أبو

الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة، وقد يكنّى أبوه ب_«أبي بشر» و ربما يقال إنّها كنية جدّه.(1)

وهذا يعرب عن أنّ البيت الذي تربّى فيه أبو الحسن كان بيت الحديث والرواية، مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة، ومن شأن الأبناء أن يرثوا

____________________________

1 . «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري» تأليف ابن عساكر الدمشقي (المتوفّ_ى عام 571ه_) وهو كتاب أفرد للبحث في حياته وسائر ما يتعلّق به، ونعبر عنه بالتبيين اختصاراً.

( 9 )

ما للآباء من الأفكار; وعلى ذلك فعود الشيخ إلى منهج أهل الحديث، والإبانة عن الاعتزال كان رجوعاً موافقاً للأصل لا مخالفاً له; فهو رجع إلى الفكرة التي ورثها في خزانة ذهنه من بيته.

جدّه الأعلى: أبو موسى الأشعري

اشتهر أبو الحسن بالأشعري، نسبة إلى جدّه الأعلى المشتهر بهذا العنوان أيضاً، وقد ورث جدّه أيضاً هذا اللقب عن أجداده الأعلين، وترجم في كتب الرجال.

قال ابن سعد في طبقاته: قد أسلم بمكة قديماً ثمّ رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين:جعفر أصحابه من أرض الحبشة، فوافوا رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بخيبر، فقالوا: قدم أبو موسى مع أهل السفينتين; وكان الأمر على ما ذكرنا أنّه وافق قدومه قدومهم.(1)

وقال ابن الأثير: كان عامل رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ على زبيد و عدن،واستعمله عمر على البصرة، وشهد وفاة أبي عبيدة الجراح بالشام، وكان أبو موسى على البصرة لمّا قتل عمر، فأقرّه عثمان عليها ثمّ عزله، واستعمل بعده ابن عامر، فسار من البصرة إلى الكوفة، فلم يزل بها

حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وطلبوا من عثمان، أن يستعمله عليهم، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان، فعزله عليّ _ عليه السَّلام _ عنها.(2)

لم يكن عزل عليّ إيّاه عنها اعتباطاً، بل لأجل أنّه كان يخذِّل الناس عن الإمام عند اشتباكه _ عليه السَّلام _ مع الناكثين في أطراف البصرة، فقد ذكر

____________________________

1 . طبقات ابن سعد:4/105.

2 . أُسد الغابة:3/246.

( 10 )

الطبري أنّ الإمام عليّاً كتب إلى أبي موسى:

«إنّي وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إلي، فأشخص الناس، فإنّي لم أولِّك الذي أنت به إلاّ لتكون من أعواني على الحقّ».

فدعا أبو موسى، السائب بن مالك الأشعري، فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تتبع ما كتب به إليك، قال: لكنّي لا أرى ذلك، فكتب هاشم إلى عليّ _ عليه السَّلام _ أنّه قد قدمت على رجل غال مشاق ظاهر الغل والشن آن.

وبعث بالكتاب مع المحل بن خليفة الطائي، وعند ذاك بعث عليّ _ عليه السَّلام _ الحسن بن عليّوعمار بن ياسر وهما يستنفران له الناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً على الكوفة، وكتب معه إلى أبي موسى:

«أمّا بعد: فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله عزّوجلّ لك منه نصيباً، سيمنعك من ردّ أمري; وقد بعثت الحسن بن عليّوعمار بن ياسر يستنفران الناس، وبعثت قرظة بن كعب والياً على المصر، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً».(1)

هذا هو حال الجد الأعلى في أوائل خلافة الإمام عليّ _ عليه السَّلام _ ، حيث خذَّل الناس عن نصرة علي _ عليه السَّلام _ عندما قرب الاشتباك بينه و بين الناكثين، وأمّا أمره في أواسط خلافته فحدّث عنه ولا حرج. فقد عُيّن

من جانب علي _ عليه السَّلام _ وشيعته بالعراق ممثلاً قاضياً وحاكماً، كما عيّن عمرو بن العاص من جانب معاوية حاكماً، ليقضيا في أمر الفرقتين بما وجدا في كتاب الله، وإن لم يجدا في كتاب الله فليرجعا إلى السنّة.(2)

فكانت نتيجة ذلك _ و يا للأسف _ أنّه خلع عليّاً عن الخلافة، وأثبت عمرو بن العاص معاوية في الخلافة، وكأنّه وجد دليلاً في الكتاب والسنّة على عدم صلاحية الإمام للخلافة، وذاك وجد دليلاً حاسماً على صلاحية معاوية

____________________________

1 . تاريخ الطبري:3/512.

2 . وقعة صفين:505.

( 11 )

لها!!. وماعشت أراك الدهر عجباً!!. فقد عزل الإمام الذي اتّفق المهاجرون والأنصار على إمامته اتفاقاً لم يُرَ مثله لا قبله ولا بعده. ونصب الآخر معاوية ابن آكلة الأكباد إماماً للناس وحافظاً لدينهم ودنياهم، وماأحسن قول شاعر المعرة:

في_ا م_وت زر، إنّ الحي_اة ذميم_ة و يا نفس جودي إنّ دهرك هازل

هذه سيرة الرجل على وجه الإجمال، ولم ير بعد مسألة التحكيم للرجل نشاط،وقد مات بمكة عام 42ه_، و قيل 44 ه_ وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل غير ذلك.(1)

أبو موسى ونزول الآية في قومه

إنّ أصحاب الحديث رووا عن رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في تفسير قوله سبحانه:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ أَعِزَّة عَلى الكافِرينَ يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَليمٌ) (2) رووا نزولها في حقّ أبي موسى و قومه.

روى السيوطي عن ابن جرير الطبري في الدر المنثور: لما أنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) قال

عمر: أنا وقومي هم يا رسول الله؟ قال: بل هذا وقومه، يعني أبا موسى الأشعري.(3)

ولكن حياة الرجل، وخصوصاً ما ارتكبه في أُخريات عمره بعزل الإمام الطاهر _ الذي بايع له المهاجرون والأنصار _ عن الخلافة، لا ينطبق مع متن الرواية، أعني قوله: «هذا وقومه» ، و لذلك نرى أنّ السيوطي ينقل الحديث

____________________________

1 . أُسد الغابة:3/246.

2 . المائدة:54.

3 . الدر المنثور:2/292;وطبقات ابن سعد:4/107.

( 12 )

بصورة ثانية ويقول: قوم هذا(1) من دون أن يعد أبا موسى من تلك الزمرة ، و مع ذلك فتصديق نزولها حتى في قوم«أبي موسى» لا يخلو من غموض.

أمّا أوّلاً: فلأنّ الروايات تضافرت على نزولها في حقّ عليّ _ عليه السَّلام _ وأصحابه، حيث حاربوا الناكثين والقاسطين والمارقين. ورواه من أعلام السنّة: الثعلبي في تفسيره، ونقلهاعنه ابن بطريق في عمدته(2)، و الإمام الرازي في مفاتيح الغيب(3)، والعلاّمة النيسابوري في تفسيره(4)، وأبوحيان الأندلسي في البحر المحيط.(5)

وأمّا ثانيا: فلأنّ النقل تضافر أيضاً على أنّ المراد هم الفرس، لأنّ النبيّ _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لما سئل عن هذه الآية، فضرب بيده على عاتق سلمان وقال:« هذا وذووه»، ثمّ قال: «لو كان الدين معلّقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس».(6)

وأمّا ثالثاً: فلأنّه روي في نزول الآية وجه آخر، وهو الجهاد مع أهل الردّة، بعد موت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ (7)، ولم يكن الجهاد معهم مختصاً بقوم أبي موسى، بل اشترك اليمنيون وغيرهم من أصحاب الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في ذلك أيضاً.

كلّ ذلك يعطي أنّ الآية تحمل مفهوماً كلياً ينطبق على الشخصيات البارزة في العصور المختلفة، الذين بذلوا أنفسهم ونفيسهم في سبيل الله.

فعلي أمير المؤمنين _ بمواقفه

الحاسمة _ من أوضح مصاديق الآية، خصوصاً إذا لاحظنا الصفة المذكورة في الآية، فإنّها تنطبق على علي

____________________________

1 . المصدر نفسه.

2 . العمدة:288، الطبعة الحديثة.

3 . مفاتيح الغيب:3/427،ط مصر_ 1308ه_.

4 . تفسير النيسابوري بهامش الطبري:6/165.

5 . البحر المحيط:3/511.

6 . تفسير الرازي:3/427، و تفسير النيسابوري بهامش الطبري:6/165.

7 . المصدر نفسه.

( 13 )

_ عليه السَّلام _ حيث قال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في حقّه يوم خيبر عندما دفع الراية إليه: «لأدفعنّ الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» وقد جاء في الآية قوله سبحانه: (يحبّهم ويحبّونه) .

نعم، الظاهر من الجهاد في الآية هو الجهاد بالنفس والنفيس، وبالسيف والسنان، ومن العجيب أنّ ابن عساكر يريد تطبيق الآية على نفس أبي الحسن الأشعري حفيد أبي موسى ويقول: إنّ الله عزّوجلّ أخرج من نسل أبي موسى إماماً قام بنصرة دين الله، و جاهد بلسانه وبيانه من صد عن سبيل الله. الخ.(1)

هذا كلّه حول حياة الجد، وإليك الكلام عن حياة الحفيد.

____________________________

1 . التبيين:104.

( 14 )

( 15 )

حياة الإمام أبي الحسن الأشعري

حياة الإمام أبي الحسن الأشعري

ميلاده ووفاته

اختلف المترجمون له في عام ميلاده ووفاته، فقيل: وُلِد سنة سبعين ومائتين، وقيل: ستين ومائتين بالبصرة; وتوفّي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة،وقيل: سنة ثلاثين(1)، والظاهر من ابن عساكر في تبيينه عدم الخلاف في مولده، وأنّ مولده هو عام ستين بعد المائتين قال: ولد ابن أبي بشر سنة ستين ومائتين، ومات سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفاً، ولكن أراه في تاريخ وفاته _ رحمه الله _ مجازفاً، ولعلّه أراد سنة نيف وعشرين، فإنّ ذلك في وفاته على قول الأكثرين.(2)

ولكن اتّفقت كلمتهم على أنّه تخرج في كلام المعتزلة

على أبي علي الجبائي، وهو محمد بن عبد الوهاب بن سلام من معتزلة البصرة، ويعرف بأنّه الذي ذلل الكلام وسهله، ويسر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريين في زمانه لا يدافع في ذلك، وقد ولد عام 235، وتوفي سنة 303(3) وقام مقامه ابنه أبو هاشم في التدريس والتقرير.

____________________________

1 . وفيات الأعيان:3/284 نقلاً عن ابن الهمداني في ذيل تاريخ الطبري.

2 . التبيين: 146.

3 . فهرست ابن النديم: 256.

( 16 )

مناظرات الأشعري مع الجبّائي قبل رجوعه عنه

إنّ الأشعري هو خريج منهج المعتزلة وتلميذ شيخها أبي علي الجبّائي، ومع ذلك ينقل ابن عساكر عن أحمد بن الحسين المتكلم أنّه قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إنّ الشيخ أبا لحسن _ رحمه الله _ لما تبحّر في كلام الاعتزال وبلغ غايته، كان يورد الأسئلة على أُستاذه في الدرس ولا يجد جواباً شافياً، فيتحيّر في ذلك(1)، وقد حفظ التاريخ بعض مناظراته مع أُستاذه أبي علي الجبائي، فنكتفي ببعضها:

المناظرة الأُولى

_ الأشعري : أتوجب على الله رعاية الصلاح أو الأصلح في عباده؟

_ أبو علي : نعم.

_ الأشعري: ماتقول في ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً، والثالث كان صغيراً فماتوا; كيف حالهم؟

_ الجبائي: أمّا الزاهد ففي الدرجات، وأمّا الكافر ففي الدركات، وأمّا الصغير ففي أهل السلامة.

_ الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟

_ الجبائي:لا، لأنّه يقال له: إنّ أخاك إنّما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات.

_ الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس منّي، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.

_ الجبائي: يقول الباري جلّوعلا: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت،وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.

____________________________

1 .

التبيين: 38.

( 17 )

_ الأشعري: لو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟

_ الجبائي: إنّك مجنون.

_ الأشعري: لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة!!

ثمّ إنّ ابن خلّكان لمّا كان أشعرياً في الكلام، استغل هذه المناظرة لمذهبه وقال: هذه المناظرة دالة على أنّ الله تعالى خصّ من شاء برحمته، وخصّ آخر بعذابه، وأنّ أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض.(1)

أقول: إنّ تنزيه أفعاله سبحانه عن اللغو والعبث ممّا دلّ عليه العقل والنقل. ولو اعتزل الأشعري عن إدراك ما يحكم به العقل السليم فليس له مناص عن سماع كلام ربّ العزّة، قال سبحانه:(الّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ وَبَدَأ خَلْقَالإِنْسانِ مِنْ طين) (2). وقال عزّ من قائل:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلْقْناكُمْ عَبثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)(3)، إلى غير ذلك من الآيات النافية للعبث واللغو عن ساحته.

ومعنى القاعدة: أنّ أفعاله _ على الإطلاق _ غير منفكة عن الأغراض والمصالح التي ترجع إلى نفس العباد دون خالقهم. ثمّ إنّ قسماً كبيراً من الحكم والمصالح المرعيّة ظاهر غير خفي، يقف عليه الإنسان بالتأمّل والتروّي، وقسماً منها خفيّ غير بارز لا يكاد يقف عليه الإنسان لقلة علمه وضالّة دركه، قال سبحانه: (وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَليلاً)(4)، وقال عزّ من

____________________________

1 . وفيات الأعيان:4/267_ 268رقم الترجمة 607، ونقله السبكي في طبقات الشافعية:2/250_ 251 مع اختلاف يسير، كما نقله في الروضات:5/209 عن صلاح الدين الصفدي في كتابه: الوافي بالوفيات.

2 . السجدة:7.

3 . المؤمنون:115.

4 . الإسراء:85.

( 18 )

قائل:(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَة هُمْ غافِلُونَ) (1)، ومع ذلك نعلم أنّه تعالى لا يفعل إلاّ الخير، ولا يعجز عن الإيجاد على الوجه الأصلح، ومن الخطأ أن يطلب الإنسان

تحليل ما في الكون من دقائق الأُمور وجلائلها، بعقله الصغير ودركه البسيط، ويحكم بأنّه كانت المصلحة في إبقاء هذا وإفناء ذاك، وكأنّ هذا هو المزلقة الكبرى للمعتزلة، حيث أرادوا إخضاع كلّ ما في الكون من الحوادث والأفعال لعقولهم.

المناظرة الثانية

دخل رجل على الجبائي فقال: هل تجوز تسمية الله عاقلاً؟

فقال الجبائي: لا، لأنّ العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حقّه سبحانه محال، فامتنع الإطلاق.

فقال له الشيخ أبو الحسن: على قياسك لا تجوز تسميته حكيماً، لأنّ هذاالاسم مشتق من «حكمة اللجام» وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت:

فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء

وقول الآخر:

أبَني حنيفة حكِّموا سفهاءكم إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أي نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاءكم; فإذا كان اللفظ مشتقاًمن المنع ، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق «حكيم» عليه سبحانه.

فقال الجبائي: فلم منعت هذاوأجزت ذاك؟

فقال الأشعري: إنّ طريقي في مأخذ أسماء الله، الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت «حكيماً» لأنّ الشرع أطلقه ومنعت «عاقلاً» لأنّ الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته.(2)

ويلاحظ على هذه الرواية:

____________________________

1 . الروم:7.

2 . طبقات الشافعية:2/251_ 252 بتلخيص منّا.

( 19 )

أوّلاً: أنّ الروايات السابقة دلت على أنّ صلة الأشعري بالجبائي قد انقطعت بعد انسلاكه في مسلك المحدّثين، والظاهر من هذه الرواية خلافها،وأنّ الأشعري كان يناظر أُستاذه حتى بعد الإنابة عن الاعتزال، بشهادة قول الأُستاذ: فلم منعت هذا وأجزت ذاك....

وثانياً: أنّه من البعيد أن لا يقف الجبائي على عقيدة أهل الحديث، بل عقيدة المسلمين جميعاً في أسمائه سبحانه، وأنّها توقيفية، وأنّه لا تصح تسميته إلاّبما سمّى به سبحانه نفسه. وذلك لصيانة ساحة الرب عمّا لا يليق بها، إذ لو لم تكن التسمية

توقيفية، ربما يعرف سبحانه بأسماء وصفات غير لائقة بساحته، فإنّ السواد الأعظم من الناس غير واقفين على الحد الذي يجب تنزيهه سبحانه عنه.

وثالثاً: لقائل أن ينصر الأُستاذ (الجبائي) ويقول: إنّ «الحكم»مشترك بين معنيين، أحدهما المنع،والآخر معنى يلازم العلم والفقه والقضاء والإتقان; قال سبحانه: (وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبياً)(1) وإرجاع المعنى الثاني إلى الأول تكلّف. وإطلاق الحكيم على الله بالملاك الثاني دون الأوّل.(2)

المغالاة في الفضائل

الغلو هو: تجاوز الحدّ والخروج عن الوسط، مائلاً إلى جانب الإفراط، قال سبحانه:(يا أَهْلَ الكِتاب لا تغلو في دينِكُم) (3) كما أنّ البخس بالحقوق وإنكار الفضائل الثابتة بالدلائل الصحيحة، تفريط وتقصير; فكلا العملين مذمومان، ودين الله كما قال الإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ هو ما بين المقصر والغالي:«فعليكم بالنمرقة فيها يلحق المقصر ويرجع إليها الغالي».(4)

____________________________

1 . مريم:12.

2 . لسان العرب:12/140،ط بيروت، مادة حكم.

3 . النساء:171.

4 . ربيع الأبرار للزمخشري; وفي نهج البلاغة قسم الحكم،الرقم 109، ما يماثله:«نحن النمرقة الوسطى(بضم النون وسكون الميم وضم الراء) بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي».

( 20 )

علي_ك بأوس_اط الأُم__ور فإنّها نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً

وقد نقل المترجمون في حقّ الأشعري أُموراً تعد من المغالاة في الفضائل واتّخذوها تاريخاً صحيحاً من دون أي غمز وإنكار في السند، ونأتي بنموذجين من ذلك:

1. روى ابن عساكر عن أبي الحسين السروي، الفاضل في الكلام يقول: كان الشيخ أبو الحسن، يعني الأشعري، قريباً من عشرين سنة يصلي صلاة الصبح بوضوء العتمة، وكان لا يحكي عن اجتهاده شيئاً إلى أحد!!(1)

ونحن لا نعلّق على هذا الفضيلة المزعومة بشيء غير أنّها تعد من خوارق العادات، إذ قلّما يتفق لإنسان أن لا يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة عشرين سنة، حتى يصلي فيها صلاة

الصبح بوضوء العتمة، أضف إلى ذلك أن سهر الليالي في هذه المدة الطويلة لا يوافق عليه العقل،ولا يندب إليه الشرع، وما كان النبي ولا الخلفاء على هذا السلوك، وقد قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَالنَّهار مُبْصِراً) (2) ولازم القيام في الليل على النحو الذي جاء في تلك الرواية، هو كون النهار سكناً والليل مبصراً. ولأجل عدم انطباق ظاهر الرواية على مقتضى العرف والشرع، عمد بعض المترجمين إلى تحريف الرواية وقال: ويحكي أبو الحسين السروي(3) عن عبادته في الليل واشتغاله ما يدل على حرصه وقوته في العبادة.(4)

2. روى ابن عساكر عن أبي عبد الله بن دانيال يقول: سمعت بندار بن الحسين، وكان خادم أبي الحسن علي بن إسماعيل بالبصرة، قال: كان أبو الحسن يأكل من غلة ضيعة، وقفها جده بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري

____________________________

1 . التبيين:141; تاريخ بغداد:11/347.

2 . يونس:67.

3 . في المصدر: «الشروي» وهو لحن.

4 . مقدمة الإبانة: 16، بقلم أبي الحسن الندوي.

( 21 )

على عقبه، قال: وكانت نفقته في كلّ سنة سبعة عشر درهماً.(1)

وهذا من غرائب الأُمور، إذ مع أنّه لا يكفي لنفقة إنسان طول السنة مهما بلغت قيمة العملة الفضية، كما هو معلوم لمن تتبع قيمة الدرهم والدينار في العصور الإسلامية، إنّ الشيخ قام بتأليف كتب يناهز عددها المائة، وبعضها يقع في مجلدات ضخمة، وقد ذكر المقريزي أنّ تفسيره يقع في سبعين مجلداً.(2)

وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها ويراعها، والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة، وأخذ بالمحاسبة الدقيقة، وخرج بهذه النتيجة: أنّ الأشعري كان ينفق في السنة 17 درهماً، والدرهم (95/2) غراماً من الفضة فكان مقدار ما ينفقه في العام هو

ما يساوي (15/50) غراماً من الفضة، ثمّ قال: فما كان أرخص الحياة في تلك الأيام.(3)

ولأجل ما في هذا النقل من الغرابة، نقله ابن خلّكان بصورة أُخرى، وهي أنّ نفقته كلّ يوم كانت (17) درهماً.(4)

ولكن الحقّ ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، من أن مُغَلَّه كان في كلّ سنة (17) ألف درهم(5). فسقط الألف من نسخ القوم، وبذلك تجلّى الأشعري بصورة أنّه كان زاهداً متجافياً عن الدنيا.

رجوعه عن الاعتزال

اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة،

____________________________

1 . التبيين: 142.

2 . الخطط المقريزية:2/359.

3 . مذاهب الإسلاميين:503_ 504.

4 . وفيات الأعيان:3/382.

5 . البداية والنهاية:11/187حوادث عام 224ه_.

( 22 )

وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في (فهرسته) حيث يقول: أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن، في المسجد الجامع بالبصرة، في يوم الجمعة رقي كرسياً، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وإنّ الله لا يرى بالأبصار، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير .(1)

وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثيرمن علماء التراجم، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته، ولأجل ذلك يجب التوقف هنا إجمالاً، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال.

سبب رجوعه عن الاعتزال

إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علة وسبباً،

ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.

إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم، أو قلم العاطفة، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أبا الحسن أن ينصر سنّته، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في «تبيينه» في ذلك المجال، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه:

1. نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته،

____________________________

1 . فهرست ابن النديم:271; ووفيات الأعيان:3/285.

( 23 )

كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً، فيتحير في ذلك، فحكي أنّه قال:

وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم، ونمت فرأيت رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر، فقال رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : عليك بسنّتي، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.

2. نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال: بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان، رأيت المصطفى _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فقال: يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك، حتى

كان العشر الأوسط فرأيت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في المنام فقال لي: ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت: يا رسول الله، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام، واتّبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي: أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن; إلى آخر ما ذكره من الرؤيا.(1)

وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.

أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام و تزايده إلى أن أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء

____________________________

1 . التبيين:38_ 41.

( 24 )

من الشك والتردد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.

وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.

3. إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال: معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق; فاستهديت الله تبارك و تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا; وانخلع من ثوب كان عليه، و رمى به. ودفع الكتب إلى

الناس، فمنها كتاب «اللمع» وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه ب_«كشف الأسرار وهتك الأسرار» وغيرهما، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث و الفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها، واعتقدوا تقدّمه، واتّخذوه إماماً حتى نسب إليه مذهبهم.(1)

ولا يصحّ هذا النقل من وجوه:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل، وهو في غاية البعد.

وأمّا ثانياً: فلأن الناظر في كتابيه: _ الإبانة واللمع _ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه. وسيوافيك الكلام في ذلك عند عرض مذهب الأشعري من خلال كتبه.

وأمّا ثالثاً: فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج

____________________________

1 . التبيين: 39_ 40.

( 25 )

موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة، وبما أنّه من مواليد عام (260ه_)، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة (315ه_).

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام (303ه_)، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل؟!

الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال

إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه، فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم، وناظر وغَلب أو غُلب، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية.

نعم، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل و بقاؤه على مسائل أُخر، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.

ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.

فنقول: أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزل من جانب السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه، وإليك بيانه:

1. الضغط العباسي على المعتزلة

إنّ الخلفاء العباسيين _ من عصر المأمون إلى المعتصم، إلى الواثق بالله _ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232ه_ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله،

( 26 )

فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد، فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295ه_ إلى 320ه_ و في تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة _ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر _ الأمر على منهج التعقّل، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً، وفي تلك الفترة، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث، الذين كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.

لا أقول: إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال، بل

أقول: قد أوجدت تلك الفكرة، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث، والثورة على المعتزلة، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.

2. فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث

وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال عن الاعتزال كلياً.

توضيحه: إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصاري، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزييهها عمّا لا يناسب ساحة الرب، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.

( 27 )

وفي هذا المورد يقول بعض المحقّقين: إنّ الخرافات السائدة بين أهل الحديث أوجبت سقوط عقائدهم عن مقامها في نفوس الناس، بعد ما كانت قد طبقت العالم الإسلامي، وانتشرت في أرجاء البلاد، ولما قام الإمام الأشعري بالإصلاح، بإحلال التنزيه، مكان التجسيم، حلت محلها عقيدة الأشعرية بعد هدوء الجو، وبسرعة تتناسب معتغيير العقائد في العادة.

والعقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدلة، وقد تصرفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُم، وهي الحنبلية.(1)

وقد توفّق الرجل في عملية الإصلاح في بعض المجالات، غير أنّه أبقى مسائل أُخرى على حالها، فممّا توفق فيه مثلاً هو: القول بكون القرآن قديماً، أو الاعتقاد بالجبر والقدر،

بحيث يكون الإنسان مسبّراً لا مخيّراً، أو إثبات الصفات الخبرية لمعانيها الحقيقية على الله تعالى، كاليد والرجل والعين وسائر الأعضاء التي كانت الحنابلة وأهل الحديث يثبتونها بوضوح، وكان سبباً لسقوط هذه العقائد في نفوس العقلاء والمفكّرين، فجاء الإمام الأشعري بإصلاح وتغيير في هذه الأفكار المشوهة، فجعل القديم من القرآن، هو الكلام النفسي القائم بالله تبارك و تعالى، لا القرآن الملفوظ والمكتوب والمسموع، كما أنّه فسّر مسألة الجبر والقدر بأنّ الله سبحانه هو الخالق للأفعال خيرها وشرها، ولكن العبد كاسب لها، فللعبد دور في أفعاله باسم الكسب كما يأتي، ومع ذلك فقد أبقى رؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الأبصار الظاهرة على حالها، ولم يفسرها بشيء.

يقول الشيخ الكوثري في تقديمه على كتاب التبيين، عن عصر المتوكل: ففي ذلك الزمان ارتفع شأن الحشوية والنواصب، وقمع أهل النظر والمعتزلة، والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء، ويتقولون في الله مالا يجوّزه الشرع ولا العقل، من إثبات الحركة له، والنقلة، والحد، والجهة، والقعود والاقعاء والاستلقاء والاستقرار، إلى نحوها ممّا تلقّوه بالقبول

____________________________

1 . بحوث مع أهل السنة: 157.

( 28 )

من دجاجلة الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب، ومما ورثوه من أُمم قد خلت ويؤلّفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة بالآخرين، متذرعين بالسنّة ومعزين إلى السلف، يستغلون ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجّة فيها، وكانت المعتزلة تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء، و يسعون في استعادة سلطانهم على الأُمّة، وأصناف الملاحدة والقرامطة الذين توغلوا في الفساد، واحتلوا البلاد، ففي مثل هذه الظروف قام الإمام أبو الحسن الأشعري لنصرة السنّة وقمع البدعة، فسعى أوّلاً للإصلاح بين الفريقين من الأُمّة بإرجاعهما عن تطرّفهما إلى العدل، قائلاً للأوّلين: أنتم

على الحقّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن، اللفظ والتلاوة والرسم، وللآخرين: أنتم مصيبون إذا كان مقصودكم بالقديم، الصفة القائمة بذات الباري غير البائنة منه، وأسماه بالكلام النفسي.

وقام بمثل هذا الجمع في مسألة الرؤية فقال للأوّلين: نفي المحاذاة والصورة صواب، غير أنّه يجب عليكم الاعتراف بالتجلّي من غير كيف. وقال لأصحاب الحديث: إيّاكم من إثبات الصورة والمحاذاة، وكلّ ما يفيد الحدوث، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف.(1)

أقول: إنّ هذا الإصلاح لو صحّ فإنّما هو بفضل ما تمرن عليه بين أصحاب التفكير والتعقّل، وعرف منهم التنزيه والتشبيه. ولولاه لما كان له هذا التوفيق البارز، وسيوافيك أنّه وإن نجح في هذا الأمر، لكنّه نجاح نسبي لا نجاح على الإطلاق. فإنّ المذهب الأشعري عند التحليل يتفق مع أحد المنهجين، وإن كان يتظاهر بأنّه على مذهب المحدثين، ولكنّه تارة يوافقهم، وأُخرى يخالفهم ويوافق المعتزلة في اللب والمعنى، وإن كان يخالفهم في القشر واللفظ كما سيظهر.

____________________________

1 . مقدّمة التبيين: 14_ 15.

( 29 )

كلام لأبي زهرة

إنّه تصدى للرد على المعتزلة ومهاجمتهم، فلابدّ أن يلحن بمثل حجتهم، وأن يتّبع طريقتهم في الاستدلال، ليفلح عليهم، ويقطع سباتهم، ويفحمهم بما بين أيديهم، ويرد حججهم عليهم.

إنّه تصدى للرد على الفلاسفة، والقرامطة،والباطنية، والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلاّ أقيسة البرهان، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلاّ دليل العقل، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.

ولقد نال الأشعري منزلة عظيمة، وصار له أنصار كثيرون، ولقي من الحكام تأييداً ونصراً، فتعقّب خصومه من المعتزلة والكفّار، وأهل الأهواء في كلّ مكان، وبث أنصاره في الأقاليم والجهات، يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها، ولقّبه أكثر

العلماء بإمام أهل السنّة أو الجماعة.

ولكن مع ذلك بقي له من علماء الدين مخالفون منابذون، فابن حزم يعدّه من الجبرية، لرأيه في أفعال الإنسان(1)، ويعده من المرجئة لرأيه في مرتكب الكبيرة(2)، وقد تعقّبه في غير هاتين المسألتين، ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه في لجة التاريخ الإسلامي، واشتد ساعد أنصاره جيلاً بعد جيل، وقويت كلمتهم وقد حذوا حذوه، وسلكوا مسلكه،وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدي من محاربة المعتزلة والملحدين، ومنازلة لهم في كلّ ميدان من ميادين القول، و كلّ باب من أبواب الإيمان، ومذاهب اليقين.

ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً أبو بكر الباقلاني(3)، فقد كان عالماً كبيراً، هذّب بحوث الأشعري، وتكلّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد، فتكلم في الجوهر والعرض، وأنّ العرض لايقوم بالعرض، وأنّ

____________________________

1 . الفصل في الملل والنحل:3/22.

2 . الفصل في الملل والنحل:4/204.

3 . مات الباقلاني سنة 403ه_.

( 30 )

العرض لا يبقى زمانين، إلى آخر ما هنالك ،ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه من نتائج، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك النتائج; فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة، فإنّ المقدمات العقلية لم تذكر في كتاب أو سنّة، وميادين العقل متسعة، وأبوابه مفتحة، وطرائقه مسلوكة، وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل إليها الأشعري، وليس من شر في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج، وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية.(1)

وما أُطري به الشيخ الأشعري، على طرف النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه «الإبانة»، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.

والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم

الحشوية خدمة جليلة، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه على الزوال والفناء; فالناظر في كتاب «الإبانة» يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد الحشوية بالنصوص والروايات، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.

والله سبحانه هو الواقف على سرائره، وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية، وما يذكرون له من المبررات والأعذار لا محصل وراءها.

وأمّا كتابه «اللمع» وهو وإن كان لم ينسجه على غرار كتاب الإبانة، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال، ولكنّه استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية، ونسف الاتجاه العقلي; غفر الله له ولنا.

مع ذلك، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد من التعديل، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر المروزي، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه على العرش.

____________________________

1 . ابن تيمية عصره وحياته: 192_ 193.

( 31 )

روى القاضي ابن أبي يعلى بسنده: أنّه ما كان يجلس مجلساً إلاّ ويذكر فيه أنّ الله عزّوجلّ _ يُقعِد محمّداً _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ معه على العرش، وليس هذا بغريب عن مثل البربهاري، إنّما الغريب أن يتبعه من ينسب إلى العلم مثل ابن قيم وأُستاذه ابن تيمية محيي البدع في القرن الثامن.

قال الأوّل: المراد من المقام المحمود إقعاد الرسول على العرش.(1)

وقال الثاني فيما ردّ به على «أساس التقديس» للرازي عند الكلام في الاستواء: ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة، فاستقلت بقدرته، فكيف على عرش عظيم (2)؟

وقد حكى ابن أبي يعلى في طبقاته بطريق الأهوازي حيث قال: قرأت على علي القومسي عن الحسن الأهوازي قال:

سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول:

لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت وقالوا، وأكثر الكلام، فلمّا سكت قال البربهاري: وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. قال: فخرج من عنده وصنف كتاب «الإبانة» فلم يقبله منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها.(3)

والحقّ أنّ كتاب «الإبانة» لا يفترق عمّا كتبه أبناء الحنابلة في عقائدهم قدر شعرة، ففيه الجبر والتجسيم والتشبيه، إلى غير ذلك ممّا يعتقده المتطرّفون من أهل الحديث، ولأجل ذلك شكّ بعض المحقّقين كالشيخ محمّد زاهد الكوثري في صحّة نسبة ما طبع من الإبانة إلى الشيخ الأشعري صيانة لمقامه عن بعض الأُمور الشنيعة الواردة فيه ممّا لا يفترق عن التجسيم والجهة.

____________________________

1 . بدائع الفوائد:4/39.

2 . لاحظ تعليقة تبيين كذب المفتري:393.

3 . تبيين كذب المفتري، قسم التعليقة: 391.

( 32 )

ملامح المذهب الأشعري

إنّ الاطّلاع التفصيلي على ملامح وسمات مذهب الإمام الأشعري يتطلب سبر أغوار كتبه على الوجه التفصيلي، وعرض آرائه وأنظاره، غير أنّا هنا نركز على أمرين رئيسيّين يميّزان ذلك المذهب عمّا تقدمه من مذهب المحدّثين، وإليك بيانهما:

1. عدم عزل «العقل» في مجال العقائد

كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم _ بزعمهم _ و لا يكادون يعتمدون على السنة، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة _ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين _ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء، لا غفران ذنوب الفاسقين.

وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، وينكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول،

فكيف في الفروع، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.

وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.

كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام(1). و بذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب

____________________________

1 . طبعت الرسالة لأوّل مرّة مع اللمع في بيروت عام 1953م، ومستقلة في حيدر آباد الدكن في الهند عام 1344 ه_، وسيوافيك نصها.

( 33 )

الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.

ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه _ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني _ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له، حتى في الكتاب والسنّة.ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.

ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات والحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب «مقالات الإسلاميين» يبحث عن الجسم والجواهر، والجوهر الفرد، والطفرة والحركة و السكون، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة فى الأُمور العامة، وفي قسم الطبيعيات.

ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين

ولا يعترف بهما.

وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدلية بكثير، واقترب من منهج أهل الحديث، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه.

والخسارة التي توجهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً، كما سيوافيك بيانه عند عرض آرائه.

2. العقيدة الوسطى بين العقيدتين

ربما يتخيل القارئ من إنابة الأشعري إلى مذهب أهل الحديث أنّه لجأ إلى عقيدة المحدّثين (وفيهم أهل التنزيه والتقديس، وفيهم أهل التشبيه والتجسيم)وقبل ذلك المنهج بلا تغيير ولا تصرف، ويقوى ذلك التخيّل إذا اطّلع على ما ذكره في مقدمة كتاب «الإبانة»، حيث إنّه يصرح فيها بأنّه على

( 34 )

مذهب أئمّة الحديث، وفي مقدمتهم إمام الحنابلة، ويقول: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل _ نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته _ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ، ودفع به الضلال، وأفصح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين،وشكّ الشاكّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم، وجليل معظم، وكبير مفخم، وعلى جميع أئمّة المسلمين.(1)

ويقرب من ذلك ما ذكره في مقالات الإسلاميين، حيث إنّه بعد ما سرد عقائد أهل الحديث قال: وبكلّ ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب.(2)

إلاّ أنّ السابر في كتبه يقف على أنّ هذه التصاريح ليست على إطلاقها، وإنّما اتّخذها واجهة لإيجاد المنهج الوسط بين المنهجين.

فإذا كان بعض أهل الحديث يصرون على إثبات

الصفات الخبرية لله تعالى، كالوجه واليد والرجل والاستواء على العرش، حتى اشتهروا بالصفاتية، كما اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات ومؤوّليها. فجاء إمام الأشاعرة بمنهج وسط، وزعم أنّه قد أقنع به كلا الطرفين، فاعترف بهذه الصفات كما ورد في الكتاب والسنّة بلا تأويل وتصرف، ولما كان إثباتها على الله سبحانه بظواهرها يلازم التشبيه والتجسيم _ وهما يخالفان العقل، ولا يرضى بهما أهل التنزيه من العدلية _ أضاف كلمة خاصة أخرجته عن مغبّة التشبيه ومزلقة التجسيم، وهي أنّ لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.

وهذا هو المميز الثاني لمنهج الأشعري، فقد تصرف في الجمع بين المنهجين في كلّ مورد بوجه خاص، وسيجيء الكل عند عرض آرائه ونظراته.

وقد تفطّن إلى ما ذكرناه بعض من جاء بعده، منهم:

____________________________

1 . الإبانة: 17.

2 . مقالات الإسلاميين: 315.

( 35 )

ابن عساكر في ترجمته عن الأشعري فقال: إنّه نظر في كتب المعتزلة، والجهمية والرافضة، فسلك طريقة بينها. قال جهم بن صفوان: العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء، وقالت المعتزلة: هو قادر على الإحداث والكسب معاً. فسلك طريقة بينهما، فقال: العبد لا يقدر على الإحداث، ويقدر على الكسب. فنفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب، وكذلك قالت الحشوية المشبهة: إنّ الله سبحانه يُرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات،وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال، فسلك طريقة بينهما فقال: يرى من غير حلول، ولا حدود، ولا تكييف، فكما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيّف، كذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيّف.

وكذلك قالت النجارية : إنّ الباري سبحانه بكلّ مكان من غير حلول ولا جهة وقالت الحشوية والمجسّمة: إنّه سبحانه حال في العرش وإنّ العرش مكان له،

وهو جالس عليه. فسلك طريقة بينهما فقال: كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه، وقالت المعتزلة: يده يد قدرة ونعمة، وجهه وجه وجود; وقالت الحشوية: يده يد جارحة، ووجهه وجه صورة. فسلك طريقة بينهما فقال: يده يد صفة، ووجهه وجه صفة، كالسمع والبصر.

وكذلك قالت المعتزلة: النزول: نزول بعض آياته و ملائكته، والاستواء بمعنى الاستيلاء. وقالت المشبهة والحشوية: النزول: نزول ذاته بحركة، وانتقال من مكان، إلى مكان، والاستواء: جلوس على العرش وحلول فيه. فسلك طريقة بينهما فقال: النزول صفة من صفاته، والاستواء صفة من صفاته وفعل من أفعاله في العرش يسمّى الاستواء.(1)

إلى غير ذلك من الموارد التي تصرّف فيها في المذاهب والمناهج وكوّن منها مذهباً.

____________________________

1 . التبيين: 149_ 150.

( 36 )

وقال «زهدي حسن جار الله» المصري:

«لقد كان المستقبل، بعد الحركة الرجعية، يلوح سيّئاً قاتماً، وكان يبدو أنّ العناصر الرجعية، ستدوس كلّ ماعداها، وأنّ كلّ حركة ترمي إلى التقدم العلمي، والتحرر الفكري، ستخمد أنفاسها... لولا أن قام «أبو الحسن الأشعري»(المتوفّى330ه_)، فأنقذ ما أمكن إنقاذه من الموقف... كان الأشعري معتزلياً صميماً،ولكنّه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح، حقيقة الوضع. رأى الهوة بين أهل السنّة و بين أهل الاعتزال في اتّساع وازدياد، ووجد الحركة الرجعية تقوى وتشتد، فعلم أنّ الاعتزال صائر لا محالة إلى زوال.

فأزعجته هذه الحقيقة المروعة وأقضّت مضجعه،ولذلك تقدم إلى العمل... فتنكّر للمعتزلة، وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنّة(1) غير أنّه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ، بل اتخذ طريقاً وسطاً بينها و بين مذهب المعتزلة(2)، وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس، ما عدا الحنابلة، ولاقى استحساناً، ولا عجب فإنّ الجمود على التقليد،

ما كان ليروق للكثيرين بسبب تقدم الأُمّة في الحضارة واقتباسها العلوم العقلية، واطّلاعها على فلسفة الأقدمين، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرّفوا في عقائدهم، وأساءوا التصرف مع غيرهم. فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلّف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال، وهذا هو ما بدأه الأشعري، وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه، وساروا على طريقه، وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم، وخيرة رجاله، كالقاضي أبي بكر الباقلاني(3)(المتوفّى403ه_)، وابن فورك(المت(4)وفّى 406ه_)، وأبي إسحاق الإسفرائيني (المتوفّى 418ه_)(5) ، و عبد القاهر البغدادي(المتوفّى 429ه_)(6) والقاضي أبي الطيب

____________________________

1 . الإبانة، 8; والوفيات:1/464.

2 . مقدّمة ابن خلدون: 406; الخطط:4/184.

3 . الوفيات:1/686.

4 . طبقات الشافعية:3/52_ 54.

5 . طبقات الشافعية:3/111_114.

6 . طبقات الشافعية:3/238.

( 37 )

الطبري(المتوفّى 450ه_)(1)، وأبي بكر البيهقي(المتوفّى 458ه_)(2)، وأبي القاسم القشيري(المتوفّى 465ه_)(3)، وأبي إسحاق الشيرازي(المتوفّى 476ه_) رئيس المدرسة النظامية ببغداد(4)، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (المتوفّى 478ه_).(5)

والإمام الغزالي (لمتوفّى 505ه_)(6) ،الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام، وابن تومرت(لمتوفّى 524ه_) المغربي، تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب(7)، والشهرستاني (لمتوفّى 548ه_)(8)، وغيرهم كثير، شرحوا عقائد الأشعري ونظموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلّة والبراهين العقليّة، فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره.

وممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ هذه الحركة التي قام بها الأشعري كانت ضرورية،ويظهر لنا بجلاء أنّ الناس كانوا يشعرون بوجوب وضع حدّ لذلك النزاع المستحكم بين أهل السنّة وبين المعتزلة باتّباع طريق وسط بين قوليهما، أنّ اثنين من كبار علماء المسلمين المعاصرين للأشعري قاما _ على بعدهما عنه _ بنفس المحاولة التي قام الأشعري بها في البصرة، وهما أبوجعفر الطحاوي(لمتوفّى 331ه_)(9)، الحنفي في مصر، وأبو منصور الماتريدي(المتوفّى

333ه_) الحنفي في سمرقند.

يلاحظ عليه: بالرغم ممّا ذكره هذا الكاتب المصري، فإنّ الأشعري لم يتخذ موقفاً محايداً، بل استعمل سلاح العقل ضد المعتزلة، فهو بدل أن

____________________________

1 . طبقات الشافعية:3/176.

2 . طبقات الشافعية:3/4.

3 . الوفيات:1/425.

4 . طبقات الشافعية:3/89_99.

5 . طبقات الشافعية:3/250.

6 . الوفيات: 1/661; طبقات الشافعية:4/103.

7 . طبقات الشافعية:4/71_74.

8 . الوفيات:1/688; طبقات الشافعية:4/79.

9 . بل توفّ_ي عام 321ه_.

( 38 )

يستعمله في نصرة الدين، استعمله في هدم الاعتزال، ولأجل ذلك خدم الرجعية خدمة عظيمة وأنقذها من الهلاك و الدمار; ترى أنّه دعا إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة الذي لا ينفك عن القول بالتجسيم والتشبيه، وإن أضاف إليه بأنّ الرؤية بلا إثبات جهة وكيف; وإلى القول بالخلق والقدر الذي يجعل الإنسان كالريشة في مهب الرياح، وإن أضاف إليه بأنّ العبد كاسب والله خالق _ ولم يُفهم معنى الكسب إلى يومنا هذا، بل صار شيئاً معقّداً فسره كلّ حسب ذوقه _ و إلى إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن اللّذين يبتنى عليهما لزوم تصديق الأنبياء عند التحدي بالمعاجز، إلى غير ذلك من الأُصول التي كانت عليها عقيدة أهل الحديث.

والله سبحانه هو العالم بالضمائر والمقاصد، وإنّ الشيخ الأشعري لماذا استخدم سلاح المنطق ضدّ دعاة الحرية والاختيار، وهل كان هذا مجاراة للرأي العام وطمعاً في كسب عواطف الحنابلة، أو كان هناك غاية أُخرى لا نعرفها، ولكن الله من وراء القصد.

وقد وقف الكاتب على سوء قضائه، فاستدركه في موضع آخر من كلامه،وقال:

استمرت الحركة الرجعية في الدولة الإسلامية بعد ظهور الأشعرية قوية، وقد قلت: إنّ الأشعرية نفسها بالنسبة إلى الاعتزال، السابق لها، كانت حركة رجعية، وكانت رجعية أيضاً بمعنى آخر، وذلك أنّها استخدمت سلاح العقل والمنطق الذي أخذته عن المعتزلة، لا في نصرة الدين

فحسب، بل في مقاومة الاعتزال وهدمه، وقد يكون الأشاعرة فعلوا ذلك مجاراة للرأي العام، وطمعاً في كسب عطفه وتأييده، ومهما يكن فجدير بنا أن نلاحظ أنّ الأشاعرة خضعوا للقوى الرجعية إلى حدّ كبير، فإنّهم وصلوا في تقدمهم الفكري إلى درجة لم يقدروا أن يتجاوزوها كما تجاوزها المعتزلة، ولذلك فقد استولى عليهم الجمود، وصاروا إلى ركود، ومن أدلة سيطرة الرجعية على الموقف ما يذكره «مسكويه»: أنّ عضد الدولة البويهي أفرد في داره موضعاً خاصاً للحكماء والفلاسفة يجتمعون فيه للمفاوضة، آمنين من السفهاء ورعاع العامة.(1)

ولهذا فإنّ الحركات الفكرية التي ظهرت بعد نكبة المعتزلة، كإخوان الصفا، لم تجسر أن تعلن عن نفسها خشية طغيان العامة عليها، فاضطرت إلى أن تعمل في الخفاء، فكان من أسوأ النتائج التي ترتّبت على ذلك، شيوع عادة تأليف الفرق والجمعيات السرية كالقرامطة والحشّاشين الذين كان لهم أثر كبير في إضعاف الإسلام وتأخيره، أمّا الذين وجدوا في أنفسهم الجرأة ليتابعوا دروسهم وأبحاثهم على رؤوس الأشهاد، وهم جماعة الفلاسفة كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، فقد كانوا مكروهين، وظلوا طوال الوقت يحيون في جوّ ناء منفصل عن الجو

____________________________

1 . تجارب الأُمم:6/408.

( 39 )

الذي تعيش فيه سائر الأُمّة.(1)

3. انتشار المذهب الأشعري في البلاد

ثمّ إنّ الظاهر ممن ترجموه هو أنّ المذهب الأشعري انتشر من فوره، يقول الكوثري: وفّقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وقمع المعاندين وكسر تطرّفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها، فطبق ذكره الآفاق، و ملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنّة، والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب.

وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب، ومضى لسبيله،وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه، لكن الإمام ناصر السنة

أبا بكر بن الباقلاني قام في وجههم، وقمعهم بحججه، ودان للسنّة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقية.(2)

وقد جعله ابن عساكر أحد من يقيّضه الله سبحانه في رأس كلّ مائة سنة، يعلّم الناس دينهم، فيعدّ في المائة الأُولى عمر بن عبد العزيز، وفي المائة

____________________________

1 . المعتزلة:264.

2 . مقدّمة التبيين:15.

( 40 )

الثانية الشافعي، وفي المائة الثالثة أبا الحسن الأشعري، وعلى رأس المائة الرابعة ابن الباقلاني.(1)

أقول: مضافاً إلى أنّ أصل الحديث غير ثابت، وأنّ جعل هؤلاء من مجدّدي المذهب _ خصوصاً عمر بن عبد العزيز، مع كونه معاصراً للإمام الباقر _ عليه السَّلام _ الذي لا يشكّ في إمامته في العلوم من له إلمام بالتاريخ _ من الغرائب، إنّ ما ذكره ابن عساكر هنا يضادُّ ما ذكره في موضع آخر من أنّ عامة المسلمين وجمهورهم كانوا لا يأتمون بمذهبه في عصر ابن عساكر، حيث قال:

إن قيل: إنّ الجم الغفير في سائر الأزمان، وأكثر العامة في جميع البلدان، لا يقتدون بالأشعري ولا يقلّدونه ولا يرون مذهبه ولا يعتقدونه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم.

قيل: لا عبرة بكثرة العوام ولا الالتفات إلى الجهّال، وإنّما الاعتبار بأرباب العلم،والاقتداء بأصحاب البصيرة والفهم، وأُولئك في أصحابه أكثر ممن سواهم، ولهم الفضل والتقدّم على من عداهم، على أنّ الله عزّوجلّ قال: (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَليل) .(2)

على أنّ ابن النديم لا يذكر من أصحابه إلاّ شخصين: الدمياني و حمويه من أهل سيراف قال: وكان الأشعري يستعين بهما على المهاترة والمشاغبة، وقد كان فيهما علم بمذهبه، ولا كتاب لهما يعرف.(3)

ولأجل عدم انتشار مذهبه في عصره بل بعد مدّة من وفاته، نجد الحنابلة لا يترجمونه في طبقاتهم، ولا يعدونه منهم، وتمقته الحشوية منهم

فوق مقت المعتزلة، مع أنّه صرح في بعض كلماته بأنّه على مذهب أحمد.(4)

نعم، لا شكّ في انتشار مذهبه بعد القرن السادس إلى أن صار مذهباً

____________________________

1 . التبيين: 52.

2 . التبيين: 331.

3 . فهرست ابن النديم: 271.

4 . مقدّمة التبيين بقلم الكوثري: 16.

( 41 )

رسمياً للسنّة في جميع الأقطار، وقلّ من يتخلّف عنه، وهو مستمر إلى العصر الحاضر.

يقول تقي الدين أبو العباس المقريزي (المتوفى عام 845ه_) بعد سرد عقائده إجمالاً: فهذه جملة في أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أُريق دمه.(1)

ولأجل هذه الشهرة نرى أصحاب المذاهب يتجاذبونه إلى مذاهبهم. فالشافعية تقول: إنّه كان شافعياً، والمالكية تقول: إنّه كان مالكياً. وبما أنّه نشأ في العراق فالظاهر أنّه نشأ على مذهب أبي حنيفة،وإنّما هو رجع عن الاعتزال الذي هو مذهب كلامي، ولم يرجع عن مذهب فقهي. ولكن الظاهر من مقدمة كتابه _ الإبانة _ أنّه كان على مذهب إمام الحنابلة. وقال الكوثري: إنّ الغاية من هذه المظاهرة هو النفوذ في الحشوية ليتدرج بهم إلى معتقد أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير فلم يعلم مذهبه الفقهي على وجه التحقيق.

هذا والخدمة التي قام بها الأشعري في مقابلة المجسّمة والمشبّهة وأصحاب البدع واليهودية والمسيحيّة خدمة نسبية لا تنكر، غير أنّ الذي يؤسف المسلم الغيور هو: أن نرى متزمتة الوهابية وبعض رجال الإصلاح في هذا العصر داعين إلى مذهب الحشوية باسم السلفية مقلّدين في كلّ ما يذكره شيخهم ابن تيمية الذي يقول عند الكلام في الاستواء: ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم(2)

وتلميذه المعروف بابن القيم الذي يفسر المقام المحمود في قوله تعالى: (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (3)

بإقعاد الرسول على العرش.(4)

____________________________

1 . الخطط المقريزية:2/360، ط مصر.

2 . لاحظ تعليقة التبيين: 393.

3 . الإسراء:79.

4 . بدائع الفوائد:4/39.

( 42 )

4. مؤلّفاته

وقد فهرس الشيخ نفسه كتبه في كتاب سمّاه «العمدة» كما فهرس غيره. فقد أخرج ابن عساكر أسماء كتبه التي صنّفها إلى سنّة (320ه_)، وبلغت أسماء كتبه إلى ثمانية وتسعين كتاباً، غير أنّ أكثر هذه الكتب عصفت بها عواصف الدهر فأهلكتها، فلم يصل إلينا منها إلاّ القليل. ولعلّ في مكتبات العالم المعمورة بالمخطوطات الشرقية، بعضاً منها. وإليك دراسة الكتب الموجودة المطبوعة:

1. «الإبانة عن أُصول الديانة»: طبع كراراً، والطبعة الأخيرة طبعة مكتبة دار البيان بدمشق عام 1401ه_، وعبر عنه ابن النديم في فهرسته ب_«التبيين عن أُصول الدين».(1)

يقول ابن عساكر: إنّ الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره في كتاب «الإبانة» وهجروه، ويضيف أيضاً: إنّ الشيخ إسماعيل الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلاّ وبِيَده كتاب الإبانة.(2)

وقد نقل ابن عساكر الفصلين الأوّلين من الكتاب في «التبيين». وما جاء في مقدّمتها فقد أورده في «مقالات الإسلاميين» عند البحث عن عقائد أهل الحديث باختلاف يسير، وما جاء به الأشعري في ذينك الكتابين يوافق ما ذكره إمام الحنابلة في عقائد أهل الحديث في كتابه «السنّة» غير أنّ تعبيرات الأشعري إلى التنزيه أقرب من كتاب «السنّة»، وكلمات «الإمام» إلى التجسيم أميل.

مثلاً: يقول إمام الحنابلة: والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، يقظان لا يسهو، قريب لا يغفل،يتكلّم ويسمع وينظر ويبصر، ويضحك ويفرح، ويحب ويكره ويبغض،ويرضى ويغضب، ويسخط ويرحم،ويعطي ويمنع، وينزل تبارك و تعالى كلّ ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء(لَيْسَ كمثله شيء و هو السميع البصير) و قلوب العباد بين أصبعين

____________________________

1 . هرست ابن النديم: 271.

2

. التبيين: 589.

( 43 )

من أصابع الرب عزّوجلّ، يقلّبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق الله عزّ وجلّ آدم بيده، السماوات والأرض يوم القيامة في كفه، ويخرج قوماً من النار بيده، وينظر أهل الجنّة إلى وجهه، ويرونه فيكرمهم، ويتجلّى لهم فيعطيهم، ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين، ويتولّى حسابهم بنفسه لا يولي ذلك غيره عزّ وجلّ.

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق، فهو جهمي كافر; ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف، فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل; ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.(1)

2. «مقالات الإسلاميين»، والكتاب يتناول البحث عن الفرق الإسلامية، وطبع في جزءين في مجلد واحد عام 1369ه_ بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

3.«اللمع في الرد على أهل الزيغ و البدع» طبع غير مرة، وهذا خاصة أنضج كتبه، تجد مستواه فوق كتاب «الإبانة»،وهو خير مصور لعرض آرائه ونظرياته الكلامية، ولأجل ذلك نعرض آراءه ونظرياته على ضوء هذا الكتاب.

المقارنة بين الكتابين: «الإبانة» و «اللمع»

إنّ الناظر في أحوال الشيخ أبي الحسن الأشعري يظن بادئ ذي بدء، أنّه ألّف كلاًّ من الكتابين لنصرة السنّة، والدفاع عن عقيدة أهل الحديث التي كانت تتمثل يوم ذاك _ يوم أعلن انفصاله عن المعتزلة وانخراطه في سلك أهل السنّة والحديث _ في الآراء والعقائد الموروثة عن إمام الحنابلة، ولكنّه إذا قام بعمل المقايسة والمقارنة بين الكتابين سرعان ما يعدل عن تلك العقيدة، ويخرج

____________________________

1 . كتاب السنة لإمام الحنابلة: 49.

( 44 )

من البحث بنتيجة تتباعد عنها بكثير، ويقضي بأنّ «الإبانة» أُلِّفت لنصرة عقيدة أهل الحديث وكسر صولة المعتزلة

دون «اللمع» ، لأنّه في الثاني أعمق تفكيراً، وأشد عناية بالأدلّة العقلية، ولا يظهر منه أية عناية بابن حنبل ومنهجه العقائدي، بل يظهر له جلياً أنّ الشيخ في الكتاب الأخير بصدد طرح أُصول يعتقد بها هو، سواء أكانت موافقة لعقائد الحنابلة أم لا، وسواء أكان لهم فيها نفي أم لا، وسواء أوصلت إليها فكرتهم أم لا.

وهذه النتيجة تنعكس على ذهنية القارئ عن طريق طرح الأُصول الموجودة في الكتابين وإليك بيانها إجمالاً:

1. إنّ الشيخ في «الإبانة»: بعد ما طرح في الباب الأوّل عقيدة أهل الزيغ _ و هم حسب عقيدته عبارة عن المعتزلة والقدرية والجهمية والمرجئة والحرورية والرافضة _ طرح في الباب الثاني قول أهل الحقّ والسنّة بادئاً كلامه بقوله:

قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ، وبسنّة نبيّنا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث،ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل _ نضّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته _ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون. لأنّه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأفصح به المنهاج، فقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكّ الشاكّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم، وجليل معظّم، وكبير مفخّم، وعلى جميع أئمّة المسلمين.

ترى أنّه يجعل عقيدة إمام الحنابلة عدلاً لما روي عن الصحابة والتابعين، ويعرفه كإمام متمسّك بالحق ومعتصم به، على وجه يبلغ به مقام العصمة في القول والرأي، ولكنّه في «اللمع» لا يتحدث عنه أبداً، ولا يذكر عنه شيئاً، بل يتفرد بطرح المسائل على ما يتبّناه هو، وإقامة الدلائل العقلية عليها.

2. إنّ الأشعري

لا يتحدّث في كتاب «الإبانة» عن تنزيه الحقّ جلّ

( 45 )

وعلا عن الجسم والجسمانية بحماس وأسلوب صريح، بل يحاول إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليدين له سبحانه، كما يحاول إثبات استوائه على عرشه تعالى و يقول: «وإنّ الله استوى على عرشه» كما قال: (الرَّحْمنُ على الْعَرْشِ اسْتَوى)(1)، وإنّ له وجهاً بلا كيف كما قال: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّك ذُو الجَلالِ والإِكْرامِ)(2)، و إنّ له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدي) (3)، و كما قال: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)(4) وإنّ له عيناً بلا كيف كما قال: (تَجري بِأَعْيُننا) .(5).(6)

ترى أنّه اكتفى في التنزيه بلفظ مجمل و هو قوله: «بلا كيف» مع أنّ اللفظ المجمل لا يفيد الناظر شيئاً ولا يصونه من أن يقع في ورطة التشبيه والتجسيم. ولكنّه في «اللمع» لم يتعرض للوجه واليدين والاستواء على العرش، بل أهمل ذلك إهمالاً تاماً، وزاد على ذلك التصريح القاطع بتنزيه الله عن الجسمية، وعلوِّه أن يكون مشابهاً للحوادث.

3. ترى بوادر التجسيم في «الإبانة» بوضوح، ونأتي بنماذج من ذلك:

أ. ما ذكره تأييداً لقوله: إنّ الله عزّوجلّ مستو على عرشه، أنّه روى نافع بن جبير عن أبيه: ينزل الله عزّوجلّ كلّ ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، حتى يطلع الفجر.(7)

ب. إنّه يصر على البينونة التامة بين الخالق والمخلوق، ويقول: إنّه ليس في خلقه، ولا خلقُهُ فيه، وإنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استقرار.(8)

____________________________

1 . طه:5.

2 . الرحمن:27.

3 . ص: 75.

4 . المائدة:64.

5 . القمر:14.

6 . الإبانة: 18 الأُصول برقم 6، 7، 8، 9.

7 . الإبانة: 88; أخرجه أحمد في المسند:4/81 من حديث جبير.

8 . الإبانة: 922.

( 46 )

ومع ذلك لم يتفطن لظاهر قوله

سبحانه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (1) وقوله: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إِلاّهُوَ رابِعُهُمْ) (2) والآيتان تنافيان البينونة الكاملة التي يدّعيها الأشعري.

ج. ويستدلّ على أنّ الله في السماء بما روي عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه سأل جارية فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ للرجل الذي كان بصدد عتقها: أعتقها فإنّها مؤمنة.(3)

د. ويقول: إنّه سبحانه يضع السماوات على اصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ من غير تكييف(4) ويكتفي في نفي التجسيم بكلمة مجملة، أعني قوله: «من غير تكييف».

4. إنّ الشيخ في «الإبانة» يصرّح بأنّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ أعمال العبيد مخلوقة لله مقدورة، كما قال :(وَاللّهُ خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (5)، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون.(6)

ومن المعلوم أنّ القول بأنّ فعل العبد مخلوق لله لا ينفك عن الجبر وسلب الاختيار عن الفاعل، لأنّ الفعل إذا كان مخلوقاً له سبحانه، وكان هو الموجد والمحقّق، فما معنى كون العبد مسؤولاً عن فعله _ خيره و شره _؟

ولمّا كان أهل الحديث معتقدين بهذا (مع كونه نفس الجبر) أبقاه بحاله، ولم يشر في كتاب «الإبانة» إلى شيء يعالج تلك المسألة العويصة.

____________________________

1 . الحديد:4.

2 . المجادلة:7.

3 . الإبانة: 93 والحديث أخرجه مسلم باب تحريم الكلام في الصلاة:2/71، ط مصر.

4 . الإبانة: 22 أخرجه البخاري:9/123 في تفسير قوله: (لماخلقت بيدي) .

5 . الصافات:96.

6 . الإبانة: 20 الأصل 17.

( 47 )

وهذا بخلاف ما في «اللمع» فإنّه أضاف فيه إلى خالقيّة الرب، كاسبيّة العبد وقال: «إن

الله هو الخالق، و العبد هو الكاسب» و بذلك عالج مشكلة الجبر وخرج من مغبته، وصحّح مسؤولية العبد لأجل الكسب.

هذه مميزات كتاب «الإبانة» و خصوصياته، و ماجاء فيه من الأُصول، وجميعها يؤيد أنّه قد أُلّف لغاية نصرة مذهب أحمد بن حنبل، والذي كان يمثل نظرية أهل الحديث والمحدّثين جميعاً.

وأمّا «اللمع» فقد طرح فيه مسائل، أهملها في «الإبانة» نشير إلى بعضها:

1. مسألة التعديل والتجويز

إنّ لتلك المسألة دوراً عظيماً في تمييز المنهج الأشعري عن المعتزلي، ولبّ المسألة يرجع إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين وإنكارهما، فالمعتزلة على الأوّل والأشعري وأشياعه على الثاني، و _ لأجل ذلك _ أنكروا توصيفه سبحانه بالعدل بالمفهوم المحدد عند العقل، بل قالوا إنّ كلّ ما يفعله فهو عدل سواء أكان عند العقل عدلاً أم جوراً،وقد ركّز على ذلك الأشعري في «اللمع» حتى قال: يصحّ لله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة. وهو عادل إن فعله. وكذلك كلّ ما يفعله حتى تعذيب المؤمنين وإدخال الكافرين الجنان، وإنّما نقول لا يفعل ذلك، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره.(1)

ولكنّه لم يُعلَم إلى الآن أنّ الشيخ من أين علم أنّه لا يجوز عليه تعالى الكذب؟ فإن علم ذلك من إخباره سبحانه بأنّه لا يكذب، فننقل الكلام إلى إخباره هذا، فمن أين نعلم أنّه سبحانه لا يكذب في إخباره هذا(إنّه لا يكذب) فإنّه كما يحتمل الكذب في سائر إخباره، يحتمل حتى في نفس هذا الإخبار; وإن علم من حكم العقل بأنّ الكذب قبيح، والقبيح لا يجوز

____________________________

1 . اللمع: 116.

( 48 )

عليه، فهو عين الاعتراف بالتقبيح العقلي، ولو في مورد واحد.

ولأجل ذلك قلنا في الأبحاث الكلامية إنّ إثبات الحسن والتقبيح الشرعيّين يتوقف على

قبول حكم العقل بقبح الكذب على الشارع، حتى يثبت بقبوله سائر إخباره بالحسن والقبح. وقبوله في مورد، يوجب انهدام القاعدة وبطلانها، أعني كون التحسين والتقبيح شرعيين لا عقليين.

2. مسألة الاستطاعة والقدرة

لقد فصَّل الإمام الأشعري الكلام في الاستطاعة والقدرة وركَّز على أنّها غير متقدمة على الفعل بل معه دائماً _ و مع ذلك _ اعترف بأنّ قدرة الله قديمة متقدمة على فعله، ولم يعلم وجه التفريق بينهما.

هذا مع أنّ كون إحدى القدرتين واجبة والأُخرى ممكنة،لا يكون فارقاً في وجوب تقدّم إحداهما على الفعل،وتقارن الأُخرى معه. و مع أنّ رأيه هذا يخالف الفطرة الإنسانية، فإنّ كلّ إنسان يرى بالوجدان قدرته على القيام حال القعود،وعلى المشي حال القيام.

3. ما هو حدّ الإيمان؟

بحث عن حدّ الإيمان فقال: الإيمان بمعنى التصديق، وإنّ مرتكب الكبيرة من أهل القبلة مؤمن بإيمانه، فاسق بفسقه وكبيرته، لا كافر كما عليه الخوارج، ولا هو برزخ بين الإيمان والكفر، كما عليه المعتزلة.

4. الآيات الواردة حول الوعد والوعيد

طرح الآيات الواردة حول الوعد والوعيد، وعالج التعارض المتوهَّم بينهما، حيث إنّ ظاهر بعض آيات الوعيد،هو تعذيب كلّ فاجر وإن كان موحداً مسلماً، مثل قوله: (وَإِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحيم) (1)، وظاهر بعض الآيات أنّ المسلم الجائي بالحسنة في الجنة، مثل قوله: (مَنَْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ

____________________________

1 . الانفطار:14.

( 49 )

خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ)(1)، فعالج ذلك التعارض الابتدائي بوجه خاص.

والسير في الكتابين والمقارنة بين فصولهما والأُصول المطروحة فيهما،وكيفية البرهنة عليها، يعرب للباحث أنّ هناك هوة سحيقة بين مذهب الأشعري في «الإبانة»، و مذهبه في «اللمع»، وأنّ تلامذة مدرسته استثمروا ماجاء به الشيخ في «اللمع»، دون ما في «الإبانة»، وجعلوه هو الأصل،وأشادوا بنيانه،وأكبّوا على دراسته، ولأجل ذلك أصرُّوا على التنزيه،

وركّزوا على الكسب، وأسّسوا منهجاً كلامياً، بين مذهب الحشوية من أهل الحديث والمعتزلة من المتكلّمين.

ما هو الداعي إلى التصويرين المختلفين؟

إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه: إذا كان ما يعتقده الأشعري من الأُصول هو ما جاء به في «الإبانة»، فما هو الداعي للتصويرين المختلفين في مذهب الحقّ؟

والإجابة عن هذا السؤال مشكلة جداً، وعلى ضوء ما ذكرناه حول الدوافع التي دعت الشيخ الأشعري إلى الانخراط في سلك أهل الحديث، يمكن أن يقال: إنّ الهدف الأسمى للشيخ كان هو تعديل عقائد الحشوية، من أهل الحديث الذين كانوا يتعبّدون بكلّ حديث من دون معالجة أسناده، أو مضمونه، وتقييمه في سوق الاعتبار، وكان تحقّق ذلك الهدف رهن الانخراط في سلكهم، والرجوع عن أعدائهم ومخالفيهم، ولذلك أعلن الشيخ التوبة عن الاعتزال ونصرة مذهب إمام الحديث ومقدامه.

ولكن لمّا لم يكن ذلك كافياً في الأخذ بمجامع قلوبهم، وصرف نفوسهم وأهوائهم إلى نفسه، عمل كتاب «الإبانة» حتى يرضي قلوبهم ويملأ عيونهم مع إقحام بعض الكلمات التي تناسب التنزيه وتخالف التجسيم فيها.

ولمّا تربّع على سدَّة الحكم وآمنت أصناف من الحشوية به، أخذ بالتعديل

____________________________

1 . النمل:89.

( 50 )

والإصلاح، وبيّن ما يعتقد به من المذهب الحقّ، الذي هو منهج وسط ين العقيدة الحنبلية والمعتزلة; فألّف كتاب «اللمع»، وبذلك يمكن أن يقال إنّ «الإبانة» أسبق تأليفاًمن «اللمع».

إنّ ما بين الباحثين عن منهج الإمام الأشعري من يوافقنا في النتيجة، وقد وصل إليها من طريق غير ما سلكناه، وإليك نصّه: «إنّ الصورة العقلية التي يصوّرها في «الإبانة» قد صوّرت أوّلاً، والصورة العقلية التي يصوّرها في «اللمع» قد صوّرت أخيراً، وإنّها كانت تجديداً لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه، ويعتقد صحته،ويدافع عنه، ويرضاه لأتباعه، وأسباب هذا الترجيح _

كون اللمع أُلِّف بعد الإبانة _ كثيرة، فمنها ما هو نفسي، ومنها ما هو علمي.

وممّا يعود إلى الأسباب النفسية أنّنا نرى الأشعري في كتاب «الإبانة» أشرق أسلوباً، وأكثر تحمّساً، وأعظم تحاملاً على المعتزلة، وأكثر بعداً عن آرائهم، وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبّان تركه أو بُعَيْدَ التنازل عنه، أمّا من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع باباً مشتركاً في الكتابين ليرى أنّ كتاب «اللمع» في ذلك الباب أحاط بمسائل،وأجاد في عرض أدلّتها، وأفاض في بيان اعتراضات خصومه، وأحسن في الرد عليها،وذاك ممّا يدلّ على أنّ كتاب «اللمع» لم يكتب إلاّ في الوقت الذي نضج فيه المذهب في نفس صاحبه، وأنّه لم يصوّره في هذا الكتاب إلاّ بعد أن أصبح واضحاً عنده.(1)

والفرق بين التحليلين واضح، فعلى ما ذكرناه نحن لم يكن للإمام الأشعري بعد الرجوع عن الاعتزال إلاّ مذهب واحد وفكرة خاصة، وقد عرضها بعد ما اصطنع الصورة الأُولى ليكسب بها رضى الحنابلة أو يتجنب شرهم.

وعلى ما ذكره ذلك الباحث تكون الصورتان لمرحلتين مختلفتين في تطوّره

____________________________

1 . مقدّمة اللمع للدكتور «حمودة غرابة»: 7 نقله عن الباحث الغربي «فنسنك» وغيره.

( 51 )

الفكري بعد تحوله عن مذهب المعتزلة، فالصورة الأُولى صورة غير ناضجة، وربما أعان عليها حنقه على الاعتزال وخصومته معهم، والصورة الثانية صورة ناضجة أبدتها فاكرته بعد ملاءمة الظروف ورجوع الهدوء إلى ذهنه وفكره.

ثمّ إنّ بين الباحثين الغربيين من يرجّح العكس، وأنّ الصورة العقلية عنده بعد الرجوع عن الاعتزال، يعطيها كتاب «اللمع»، لكنّه لما رحل من البصرة إلى بغداد في أُخريات حياته ووقع تحت نفوذ الحنابلة ألّف كتاب «الإبانة»، وأثبت الوجه واليدين لله سبحانه. والله أعلم.

5. رسالة في استحسان الخوض في

علم الكلام

قد أثبت في ذلك الكتاب استحسان الخوض في المسائل الكلامية واستدلّ بالآيات، وبذلك قضى على فكرة أهل الحديث الذين يحرّمون الخوض في المباحث العقلية، ويستندون في عقائدهم بظواهر الكتاب والسنّة، وقد طبع للمرة الثالثة في حيدر آباد الدكن _ الهند _ ، عام 1400ه_ _ 1979م، وطبع أيضاً في ذيل كتاب «اللمع» الآنف ذكره، وهو بكتابه هذا خالف السنّة المتبعة بين أهل الحديث، كما أثارهم على نفسه، وبما أنّ تلك الرسالة _ على اختصارها _ لا تخلو من نكات وتعرب عن مبلغ وروده بالكتاب وكيفية استنباطه منه، نأتي بنصّ الرسالة هنا تماماً. قال بعد التسمية والحمد والتسليم:

أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد، وطعنوا على من فتش عن أُصول الدين ونسبوه إلى الضلال، وزعموا أنّ الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عزّوجلّ بدعة وضلالة، وقالوا: لو كان هدى ورشاداً لتكلّم فيه النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وخلفاؤه وأصحابه! قالوا: ولأنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يمت حتى تكلم في كلّ ما يحتاج إليه من أُمور الدين، و بيّنه بياناً شافياً، ولم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه حاجة من أُمور دينهم، وما يقربهم إلى الله عزّوجلّ ويباعدهم عن سخطه; فلمّا لم يرووا عنه

( 52 )

الكلام في شيء ممّا ذكرناه، علمنا أنّ الكلام فيه بدعة، والبحث عنه ضلالة، لأنّه لو كان خيراً لما فات النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولتكلَّموا فيه، قالوا: ولأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين: إمّا أن يكونوا علموه فسكتوا عنه، أو

لم يعلموه بل جهلوه; فإن كانوا علموه ولم يتكلّموا فيه وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه، كما وسعهم السكوت عنه، ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه، ولأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله، لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه، فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة، والخوض فيه ضلالة; فهذه جملة ما احتجّوا به في ترك النظر في الأُصول.

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: الجواب عنه من ثلاثة أوجه:

أحدها قلب السؤال عليهم بأن يقال: النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يقل أيضاً إنّه من بحث عن ذلك وتكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضُلاّلاً إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وضلّلتم من لم يضلّله النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

الجواب الثاني أن يقال لهم: إنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يجهل شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض، والحركة والسكون، والجزء والطفرة، وإن لم يتكلم في كلّ واحد من ذلك معيناً، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة، أُصولها موجودة في القرآن والسنة جملة غير منفصلة.

فأمّا الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن، و هما يدلاّن على التوحيد، وكذلك الاجتماع والافتراق، قال الله تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات عليه وسلامه في قصة أُفول الكوكب الشمس والقمر(1) وتحريكها من مكان إلى مكان، ما دلّ على أنّ ربّه عزّوجلّ لا يجوز

____________________________

1 . الأنعام:75_ 79.

( 53 )

عليه شيء من ذلك، وأنّ

من جاز عليه الأُفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.

وأمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ أيضاً من الكتاب، قال الله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا) (1)، وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنّه واحد لا شريك له، وكلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية، وقوله عزّوجلّ: (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعَضُهُمْ عَلى بَعْض) (2) إلى قوله عزّوجلّ: (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ) .(3)

وكلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد الله إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنّما هو مأخوذ من القرآن، فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب و من قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا: (أَ إِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعيدٌ)(4) وقولهم:(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)(5)، وقولهم: (مَنْ يُحيي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ) (6) وقوله تعالى: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (7)، وفي نحو هذاالكلام منهم إنّما ورد بالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول، وعلم نبيه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، ولقّنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين: منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل وأنكرت الثاني، وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتج على المقِر منها بالخلق

____________________________

1 . الأنبياء:22.

2 . المؤمنون:91.

3 . الرعد:16.

4 . ق:3.

5 . المؤمنون:36.

6 . يس:78.

7 . المؤمنون:35.

( 54 )

الأوّل بقوله: (قُلْ يُحييها الّذى أَنشَأَها أَوّلَ مَرّة)(1) ، وبقوله: (وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ

يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليهِ) (2) وبقوله: (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(3)، فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً، فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم، وأمّا الباري جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه فليس خلقُ شيء بأهون عليه من الآخر، وقد قيل: إنّ الهاء في «عليه» إنّما هي كناية للخلق بقدرته، إنّ البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه، لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون بالولادة والتريبة وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان، وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة، وإعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء، فهي أهون عليه من ابتدائه، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرّة بالخلق.

وأمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل والثاني، وقالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا: وجدنا الحياة رطبة حارة، والموت بارداً يابساً، وهو من طبع التراب، فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقاً سوياً، والضدان لا يجتمعان، فأنكروا البعث من هذه الجهة.

ولعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ واحد، ولا في جهة واحدة، ولا في الموجود في المحل، ولكنّه يصحّ وجودهما في محلين على سبيل المجاورة، فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال: (الّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (4)، فردّهم الله عزّ وجلّ في ذلك إلى ما يعرفونه و يشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على برده ورطوبته، فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة، لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة، فجعلها خلقاً سوياً وقال: (كَما

____________________________

1 . يس:79.

2 . الروم:27.

3 . الأعراف:29.

4 . يس:80.

( 55 )

بَدَأْنا

أَوّل خَلْق نُعيدُهُ) .(1)

وأمّا ما يتكلّم به المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً(2) و ردّهم على الدهرية أنّه لا حركة إلاّ وقبلها حركة، ولا يوم إلاّ وقبلها يوم، والكلام على من قال: ما من جزء إلاّ وله نصف لا إلى غاية، فقد وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حين قال: «لا عدوى ولا طيرة» فقال أعرابي: فما بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب؟ فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : « فمن أعدى الأوّل؟» فسكت الأعرابي لمّا أفحمه بالحجة المعقولة.

وكذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة إلاّوقبلها حركة: لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة، لأنّ ما لا نهاية له لا حدث له، وكذلك لما قال الرجل: يا نبي الله! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود وعرض بنفيه، فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : هل لك من إبل؟ فقال: نعم! قال: فما ألوانها، قال: حمر، فقال رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «هل فيها من أورق؟ »قال: نعم! إنّ فيها أورق، قال: «فأنّى ذلك؟» قال: لعلّ عرقاً نزعه، فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «ولعل ولدك نزعه عرق». فهذا ما علم الله نبيه من ردّ الشيء إلى شكله ونظيره، وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير.

وبذلك نحتج على من قال: إنّ الله تعالى و تقدّس يشبه المخلوقات،وهو جسم، بأن نقول له: لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته، أو يشبهه من بعض جهاته; فإن كان يشبهه من

كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته، وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه، لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها له، ويستحيل أن يكون المحدث قديماً والقديم محدثاً، وقد

____________________________

1 . الأنبياء:104.

2 . بياض في الأصل.

( 56 )

قال تعالى وتقّدس: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) (1) و قال تعالى و تقدّس:(ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .(2)

وأمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية وأنّ الجزء لا ينقسم فقوله عزّوجلّ اسمه :(وَكُلُّ شَيء أَحْصَيْناهُ في إِمام مُبينٌ) (3) و محال إحصاء ما لا نهاية له، ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم(4)، لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين، وقد أخبر أنّ العدد وقع عليهما.

وأمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره وتنتفي عنه كراهيته، فقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (5)، فلم يستطيعوا أن يقولوا بحجة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد، فلا يكون مع كراهيته له، فنبّههم أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.

وأمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ،وذلك تعليم الله عزّوجلّ إيّاه حين لقي الحبر السمين، فقال له: نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك، فقال: «ما أنزل الله على بشر من شيء»، فقال الله تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً)(6). فناقضه عن قرب، لأنّ التوراة شيء، وموسى بشر، وقد كان الحبر مقرّاً بأنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى.

وكذلك ناقض الذين زعموا أنّ الله تعالى

عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار، فقال تعالى: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ)(7) فناقضهم بذلك وحاجهم.

____________________________

1 . الشورى:11.

2 . الإخلاص:4.

3 . يس:12.

4 . بياض في الأصل.

5 . الواقعة:58_ 59.

6 . الأنعام:91.

7 . آل عمران:183.

( 57 )

وأمّا أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى (إِنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون _ إلى قوله _ لا يَسْمَعُونَ)(1) فإنّها لمّا نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعرى _ و كان جدلاً خصماً _ فقال: خصمت محمداً وربّ الكعبة، فجاء إلى رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، فقال: يا محمد! ألست تزعم أنّ عيسى وعزيراً والملائكة عبدوا؟ فسكت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لا سكوت عي ولا منقطع، تعجباً من جهله، لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها، لأنّه قال:(َما تَعبدون)ولم يقل وكلّ ما تعبدون من دون الله، وإنّما أراد ابن الزبعري مغالطة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ليوهم قومه أنّه قد حاجّه، فأنزل الله عزّوجلّ: (إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسنى)يعنى من المعبودين (أُولئِكَ عَنْهَا مُبعدُونَ)(2) ، فقرأ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ذلك، فضجّوا عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم وغلطهم، فقالوا: (ءَآلهتنا خيرٌ أمْ هُو) يعنون عيسى، فأنزل الله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذاً قومك منه يصدّون) إلى قوله (خصمون)(3)، وكلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل، وحجة لنا في الكلام فيما نذكره من تفصيل، وإن لم تكن مسألة معينة في الكتاب والسنّة،

لأنّ ما حدث تعيينها من المسائل العقليات في أيّام النبيّ _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.

والجواب الثالث: إنّ هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولم يجهل منها شيئاً مفصلاً، غير أنّها لم تحدث في أيام معينة فيتكلم فيها، أو لا يتكلّم فيها، وإن كانت أُصولها موجودة في القرآن والسنّة، وما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلّموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجّوا، كمسائل العول والجدات من مسائل الفرائض، وغير ذلك من الأحكام، وكالحرام والبائن والبتة وحبلك

____________________________

1 . الأنبياء:98_ 100.

2 . الأنبياء:101.

3 . الزخرف:57_ 58.

( 58 )

على غاربك. وكالمسائل في الحدود والطلاق ممّا يكثر ذكرها، ممّا قد حدثت في أيامهم، ولم يجئ في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها، و ما بقي الخلاف إلى الآن.

وهذه المسائل _ و إن لم يكن في كلّ واحدة منها نصّ عن رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ فإنّهم ردّوها وقاسوها على ما فيه نصّ من كتاب الله تعالى والسنّة واجتهادهم، فهذه أحكام حوادث الفروع، ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تستدرك أحكامها إلاّ من جهة السمع والرسل، فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك، لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات

أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه، ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات، فلو حدث في أيّام النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه الألفاظ لتكلّم فيه وبيّنه، كما بيّن سائر ما حدث في أيامه من تعيين المسائل، وتكلّم فيها.

ثمّ يقال: النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يصح عنه حديث في أنّ القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق، فلم قلتم: إنّه غير مخلوق؟

فإن قالوا: قد قاله بعض الصحابة وبعض التابعين.

قيل لهم: يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

فإن قال قائل: فأنا أتوقّف في ذلك فلا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق.

قيل له: فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع ضال، لأنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يقل: إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئاً، ولا قال: ضلّلوا وكفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.

وخبرونا، لو قال قائل: إن علم الله مخلوق، أكنتم تتوقّفون فيه أم لا؟

( 59 )

فإن قالوا: لا.

قيل لهم: لم يقل النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولا أصحابه في ذلك شيئاً; وكذلك لو قال قائل: هذا ربّكم شبعان أو ريان، أو مكتس أو عريان، أو مقرور أو صفراوي أو مرطوب، أو جسم أو عرض، أو يشم الريح أو لا يشمّها، أو هل له أنف وقلب وكبد وطحال، وهل يحج في كلّ سنة، وهل يركب الخيل أو لا يركبها، وهل يغتمّ أم لا؟ونحو ذلك من المسائل، لكان ينبغي أن تسكت عنه،

لأنّ رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يتكلّم في شيء من ذلك ولا أصحابه، أو كنت لا تسكت، فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاًمن ذلك لا يجوز على الله عزّوجلّ، وتقدس كذا وكذا بحجّة كذا وكذا.

فإن قال قائل: أسكت عنه ولا أُجيبه بشيء، أو أهجره، أو أقوم عنه، أو لا أسلم عليه، أو لا أعوده إذا مرض، أو لا أشهد جنازته إذا مات.

قيل له: فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً، لأنّ رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يقل: من سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه، ولا قال: لا تسلّموا عليه، ولا: قوموا عنه، ولا قال شيئاً من ذلك، فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك، ولم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن، و لِمَ كفرتموه، ولم يرد عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حديث صحيح في نفي خلقه، وتكفير من قال بخلقه.

فإن قالوا: إنّ أحمد بن حنبل رضي الله عنه، قال بنفي خلقه، وتكفير من قال بخلقه.

قيل لهم: ولِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلّم فيه؟

فإن قالوا: لأنّ العباس العنبري ووكيعاً وعبد الرحمن بن مهدي وفلاناً وفلاناً قالوا إنّه غير مخلوق، ومن قال بأنّه مخلوق فهو كافر.

قيل لهم: ولِمَ لم يسكت أُولئك عمّا سكت عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ؟

فإن قالوا: لأنّ عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة وجعفر بن محمد رضي الله عنهم و فلاناً وفلاناً قالوا: ليس بخالق ولا مخلوق.

( 60 )

قيل لهم: ولِمَ لم يسكت أولئك عن هذه المقالة، ولم يقلها رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ؟

فإن أحالوا ذلك على

الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة. فإنّه يقال لهم: فلم لم يسكتوا عن ذلك، ولم يتكلّم فيه النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ . ولا قال: كفروا قائله.

وإن قالوا: لابدّللعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها.

قيل لهم: هذا الذي أردناه منكم، فلم منعتم الكلام، فأنتم إن شئتم تكلّمتم، حتى إذا انقطعتم قلتم: نهينا عن الكلام; وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجة ولا بيان، وهذه شهوة وتحكّم.

ثمّ يقال لهم: فالنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لم يتكلّم في النذور والوصايا، ولا في العتق، ولا في حساب المناسخات، ولا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة، فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلاّلاً إذ فعلوا ما لم يفعله النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وقالوا ما لم يقله نصاً بعينه، وصّنفوا ما لم يصنّفه النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وقالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن ولم يقله النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ . وفيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.

أنجز والحمد لله، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وجه تسمية علم الكلام، بالكلام

قال في المواقف: إنّما سمّي كلاماً إمّا لأنّه بازاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أوّلاً بالكلام في كذا، أو لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، أو لأنّه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم.(1)

قد ذكر التفتازاني في «شرح العقائد النسفية» في وجه تسمية علم العقائد بعلم الكلام وجوهاً ستة، وكلّها مرجوحة، وإليك نصّه:

____________________________

1 . المواقف: 8_9.

( 61 )

1. إنّ عنوان مباحث ذلك العلم كان قولهم: الكلام في كذا.

2.

لأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة.

3. لأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تُتعلّم بالكلام.

4. لأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين.

5. لأنّه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً، فيشتد افتقاره إلى الكلام.

6. لأنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه.(1)

إنّ واحداً من هذه الوجوه لا يقبله الذوق، لأنّ جميعها أو أكثرها مشترك بين علم العقائد وغيره من العلوم، فلماذا اختص ذاك العلم به ولم يطلق على سائر العلوم؟

والظاهر أنّ تسميته به لأحد وجهين تاليين:

1. إنّ أوّل خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عزّوجلّ، وأنّه أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فتكلم الناس فيه، فسمّي هذا النوع من العلم كلاماً واختص به.(2)

يلاحظ عليه: أنّ حدوث القرآن و قدمه لم يكن أوّل خلاف وقع في الدين، بل سبقته عدة خلافات.

منها: كون صيغة الخلافة هي التنصيص أو اختيار الأُمّة، وبعبارة أُخرى: هل الخليفة بعد رسولالله أبو بكر أو عليّ؟

ومنها: أنّ مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن فاسق، أو لا مؤمن ولا كافر بل منزلة بين المنزلتين، أو كافر؟ فقد أثار أمر التحكيم في (صفّين) هذه المسألة.

طرحت هذه المسألة في الأوساط الإسلامية قبل أن يطرح قدم القرآن أو حدوثه.

____________________________

1 . شرح العقائد النسفية: 15، طبع بغداد سنة 1326ه_.

2 . الوفيات:1/677.

( 62 )

ومنها: أنّ الإيمان إذعان وقول وعمل، أو إذعان فقط، أو إذعان بشرط الإظهار، إلى غير ذلك من الوجوه.

ومنها: مسألة الجبر والاختيار، وسيادة القدر على حرية الإنسان بل على قدرة الرب فلا يغير ولا يبدل المقدر، أو غير ذلك.

فهذه المسائل متقدمة على البحث عن قدم القرآن وحدوثه.

وإنّما طرحت هذه المسألة في أوائل الخلافة العباسية بين الأوساط.

نعم، ينسب القول بالحدوث إلى آخر

الخلفاء من المروانيّين، وأنّه أخذ حدوث القرآن عن الجعد بن درهم، ولم يوجد القول بالقدم والحدوث في أواخر المروانيّين دوياً بين الناس.

2. إنّ تسمية علم العقائد بالكلام لأجل أنّ ذاك العلم بالصورة العقلية كان مهنة للمعتزلة وحرفة لهم، وبما أنّ هؤلاء كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا يدافعون عن عقيدتهم بأفصح العبارات وأبلغها وأوكدها، فلذلك اشتهروا بأصحاب الكلام، وسمِّي من لصق بذلك وتمهّر فيه متكلماً، والله العالم.

استدلاله على وجود الصانع سبحانه

استدلاله على وجود الصانع سبحانه

قال: الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام، كان نطفة، ثمّ علقة، ثم مضغة، ثم لحماً، ودماً، وعظماً، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، لأنّا نراه _ في حال كمال قوته وتمام عقله _ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً، ولا أن يخلق لنفسه جارحة، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.

ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل، إلى الفتل، إلى الثوب، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان، فلو دلّ ذلك على وجوده، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع

النطفة ونقلها من حال إلى حال، وقد قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ)(1). وقال سبحانه: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(2) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع

____________________________

1 . الواقعة:58_ 59.

2 . الذاريات:21.

( 66 )

صنعهم ومدبر دبرهم.(1)

يلاحظ على هذا الدليل:

أوّلاً: أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة، أو حاجة الحادث إلى السبب.

وبعبارة أُخرى: معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل، والاستدلال به ما أمكن.

ثانياً: أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة، فهو في حال العجز أولى.

وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه، في جمل في غاية الفصاحة فقال:«أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشغف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقة محاقاً، وجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً، ثمّ منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً».(2)

ثالثاً: أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة، من أجل إقناع عامة البشر، مؤمناً كان أم كافراً، ولا يكتفي بالتعبّد، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً، وللتعبّد مكاناً آخر، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.

ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء

بأمر غير تام، فاستدلّ على أنّ

____________________________

1 . اللمع: 18.

2 . نهج البلاغة:1/140، الخطبة80، ط مصر.

( 67 )

هناك ناقلاً ومدبراً غير الإنسان بقوله: «إن الإنسان لوجهد أن يزيل عن نفسه الكبر لم يمكنه ذلك» وجعل هذا دليلاً على أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر، ولكن الملازمة غير ثابتة، إذ لمشكّك أن يقول: إنّه قادر على نقل نفسه من الشباب إلى الهرم، ولكنّه غير قادر على العكس، ولا ملازمة بين القدرة على القضية الأُولى والقدرة على القضية الثانية، فالإنسان الضعيف قادر على قذف الجسم الثقيل من السطح إلى الأرض، وليس بقادر على رفعه منها إليه، وقس على ذلك الأمثلة الأُخرى.

( 68 )

البارئ لا يشبه المخلوقات

البارئ لا يشبه المخلوقات

استدلّ على تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات بأنّه لو أشبهها لكان حكمه في الحدوث حكمها،ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها في جميع الجهات أو في بعضها; فلو أشبهها في جميع الجهات، كان محدثاً مثلها من جميع الجهات، وإن أشبهها في بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديماً و قد قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء) .(1)

وقال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفواً أَحَد) (2).(3)

ويلاحظ على هذا الدليل: أنّ صلب البرهان عبارة عن كون المشابهة من جميع الجهات أو بعضها يلازم كونه محدثاً، وهذه الملازمة في مجال المشابهة في جميع الجهات أمر صحيح لا غبار عليه.

ولكن المشابهة في بعض الجهات مع التحفّظ على قدمه سبحانه لا تستلزم حدوثه.

فلو قالت المشبهة: بأنّ الله قديم ولكن له يد وجارحة مثل يد الإنسان وجوارحه، فالمشابهة من بعض الجهات مع حفظ القدم لا ينتج كونه محدثاً.

____________________________

1 . الشورى:11.

2 . الأخلاص:4.

3 . اللمع: 20.

( 69 )

والحاصل أنّ

المشابهة من بعض الجهات _ مع القول بكونه قديماً _ لا يستلزم الحدوث.

نعم لو اعتمد الشيخ على أنّ المشابهة للمخلوق في أيّة جهة من الجهات، لا تنفك عن الحاجة، والحاجة آية الإمكان صحّ الاستدلال، لأنّ الممكن لا يكون واجب الوجود، وما ليس بواجب فهو حادث ذاتاً أو زماناً، و الكلّ محتاج إلى علة واجبة.

وفي مورد المثال: لو كان لذاته مكان كسائر الأجسام لكان لها حيز، فتكون محتاجة إلى الحيز، الحاجة لا تجتمع مع وجوب الوجود وتتناسب مع الإمكان، والموصوف به إمّا حادث ذاتي أو حادث زماني، فالأشياء الممكنة المجردة، لها الحدوث الذاتي، والأشياء الممكنة الواقعة في إطار الزمان، لها الحدوث الزماني.

وباختصار: إنّ الاكتفاء بكون المشابهة مستلزمة للحدوث، لا يوجب كون البرهان منتجاً، وإنّما ينتج البرهان إذا كانت المشابهة منجرة إلى الحاجة المضادة لوجوب الوجود حتى ينتهي الأمر إلى إمكانه وحدوثه.

( 70 )

استدلاله على وحدانية الصانع

استدلاله على وحدانية الصانع

استدلّ الشيخ الأشعري على وحدانية الصانع ببرهان التمانع، وقال: إنّ الصانعَيْن المفترضين لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتّسق على أحكام، ولابدّ أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما، لأنّ أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً، وأراد الآخر أن يميته، لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً، أو لا يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً، لأنّه يستحيل أن يكون الجسم حياً وميتاً في حال واحدة.

وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً.

وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما، والعاجز لا يكون إلهاً وقديماً، فدلّ ما قلناه على أنّ صانع الأشياء واحد، وقد قال الله تعالى: (لَوْكانَ فِيهِما آلِهةٌ إِلاّالله لَفَسدَتا) (1).(2)

يلاحظ على ما أفاده:

أوّلا:

أنّ ما ذكره هو برهان التمانع الوارد في الكتب الكلامية، ولكنّه لم يستقص جميع شقوقه، إذ لقائل أن يقول: إنّ الإلهين بما أنّهما عالمان _ بما لا

____________________________

1 . الأنبياء:22.

2 . اللمع: 20_ 21.

( 71 )

نهاية لعلمهما _ واقفان على المصالح والمفاسد، وما يصحّ فعله ممّا لا يصحّ، فيتّفقان على ما فيه المصلحة والحكمة.

ومن المعلوم أنّه ليس إلاّ أمراً واحداً، فحينئذ تتحد إرادتهما على إيجاد ما اتّفقا عليه، فإنّ الاختلاف في الإرادة إمّا ناشئ من حبّ الذات، فيقدّم ما فيه المنفعة الشخصية على غيره، أو ناشئ من الجهل بالمصالح والمفاسد، وكلا العاملين منفيان عن ساحة الإلهين المفروضين.

ولأجل استيعاب جميع الشقوق تجب الإجابة عن هذا الشق أيضاً.

وموجز الإجابة (والتفصيل يطلب من الأسفار الكلامية) أنّ تعدد الصانع في الخارج يدلّ على وجود تباين واختلاف بينهما في أمر من الأُمور، فهما إمّا متباينان في جميع الذات، (كما هو الحال في الأجناس العالية، فإنّ الجوهر يباين العرض بتمام الذات) أو في بعضها كتباين نوع من نوع آخر(مثل الإنسان بالنسبة إلى الفرس) أو في الشخصيات والتعينات.

وعلى كلّ تقدير يجب أن يكون هناك نوع من التباين والاختلاف ولو من جهة واحدة، وفي مرحلة من مراحل الوجود; وإلاّ فلو تساويا من جميع الجهات، لارتفع التعدد وصار المفروضان إلهاً واحداً وهو خلف.

وعلى فرض وجود اختلاف بين الإلهين، يجب أن يختلف شعورهما وإدراكهما ولو في مورد أو موردين، إذ لا معنى لأن يتحد تشخيصهما وإدراكهما وعلمهما مع الاختلاف في الذات أو التعيّنات.

وعندئذ، لا يمكن أن نقول إنّهما يتفقان في جميع الموارد على شيء واحد وهو مقتضى الحكمة والمصلحة، لأنّ المفروض أنّ كلّواحد يرى فعله موافقاً للحكمة والمصلحة، ولا دليل على انحصار المصلحة والحكمة في جهة

واحدة، بل من الممكن أن يكون كلا الفعلين مقرونين بالصلاح ولكلّ منهما فلاح.

هذا هو التقرير الصحيح للبرهان.

وثانياً: أنّ قوله سبحانه: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله) ليس ناظراً إلى

( 72 )

وحدة الصانع والخالق، بل الآية تركّز على وحدة التدبير في العالم، وأنّ مدبّر العالم إله واحد لا غير. والبرهان القرآني على وحدة التدبير جاء ضمن آيتين تتكفّل كلّ واحدة منهما ببيان بعض شقوق البرهان. وإليك الآيتان مع توضيح البرهان:

1. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ الله رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ).(1)

2. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ) (2) توضيح البرهان بجميع شقوقه

إنّ تصوير تعدّد المدبّر للعالم يفترض على صور:

1. أن يتفرد كلّ واحد من الآلهة المفترضة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّواحد ما يريده في الكون دون منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير لأنّ المدبّر متعدد ومختلف في الذات، ونتيجة تعدّد التدبير طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وإليه يشير قوله سبحانه:(لَو كانَ فِيهِما آلهة إِلاّ الله لَفَسدتا...) .

2. أن يدبر كلّ واحد قسماً من الكون الذي خلقه، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به; وهذا الفرض يستلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، والحال أنّا نرى في الكون نوعاً واحداً من النظام شاملاً لكلّ جوانب الكون من الذرة إلى المجرة، وإلى هذا القسم من البرهان يشير قوله سبحانه في الآية الأُخرى(إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ) .

3. أن يتفوّق أحد الآلهة المفترضة على البقية فيوحّد جهودهم وأعمالهم،

____________________________

1 . الأنبياء:22.

2 . الأنبياء:91.

( 73 )

ويصبغها بصبغة الانسجام

والاتحاد، وعندئذيكون ذلك الإله المتفوّق، هو الإله الحقيقي دون البقية، وإلى هذا الشق يشير قوله سبحانه: (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض) .

وباختصار، أنّ ما ذكره الأشعري من البرهان على وحدانية الصانع، غير مستوعب لجميع الشقوق، وإنّ الآية التي استشهد بها ليست راجعة إلى وحدانية الصانع، بل راجعة إلى وحدانية المدبّر.

والفرق بين التوحيد في الخالقية والتوحيد في المدبّرية غير خفي على العارف بالمسائل الكلامية.

( 74 )

إعادة الخلق المعدوم جائز

إعادة الخلق المعدوم جائز

استدلّ الشيخ الأشعري على جواز إعادة الخلق المعدوم بالبيان التالي:

إنّ الله سبحانه خلقه أوّلاً، لا على مثال سبقه، فإذا خلقه أوّلاً لم يعيه أن يخلقه خلقاً آخر.

ثمّ استشهد بالآيات الواردة حول إمكان المعاد، التي منها قوله سبحانه:(وَضَرَبَ لَنا مَثلاً وَنَسيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيي العِظام وَهَي رَميمٌ* قُلْ يُحييها الّذي أَنْشَأها أوّل مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليمٌ) .(1)

يلاحظ على ما ذكره: أنّ هنا مسألتين يجب فصل كلّ منهما عن الأُخرى:

الأُولى: إعادة الخلق الأوّل بعد فنائه بتلاشيه وتفرّق أجزائه، وهذا ما أخبرت عنه الشرائع السماوية، واستدلّ القرآن على إمكانه بطرق متعددة نشير إليها عن قريب، ومثل هذا ليس إعادة للخلق الأوّل بعد انعدامه من جميع الجهات، بل هو إحياء للمواد المبعثرة من الإنسان بإعادة الروح إليها. والحاكم بأنّ الإنسان المعاد هو الإنسان المبتدأ، هو وحدة الروح المجردة المتعلّقة في كلّ زمن ببدن خاص، والروح لا تفنى بفناء المادة، ولا تنفك أجزاؤها.

____________________________

1 . يس:78_ 79.

( 75 )

وقد استدلّ القرآن على إمكان هذا النوع من الإعادة بطرق مختلفة نأتي بأُصولها:

1. الاستدلال بعموم القدرة، مثل قوله سبحانه:(أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِر عَلى أَنْ يُحْييَ الْمَوتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ) .(1)

2. قياس الإعادة

على الابتداء، كما في قوله سبحانه: (كَما بَدَأنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ) .(2)

3. الاستدلال على إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض بالمطر والنبات، كما في قوله سبحانه: (وَيُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) .(3)

4. الاستدلال بالوقوع على الإمكان، فإنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل (البقرة:67_73) وحديث عزير(البقرة:259).

5. الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنة وزيدت عليها تسع، فإنّ النوم أخو الموت، ولا سيّما الطويل منه. والقيام من هذا النوم يشبه تجدّد الحياة وتطوّرها.

6. قياس قدرة الإعادة على قدرة إخراج النار من الشجر الأخضر، كما في قوله سبحانه:(قُلْ يُحْيِيها الَّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليم* الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِالأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون) .(4)

هذه هي البراهين المشرقة التي اعتمد عليها القرآن فيما يتبنّاه من إمكان المعاد ووقوعه، وهذه المسألة لا تمتّ إلى المسألة التالية بصلة.

الثانية: إعادة المعدوم من جميع الجهات، بعينه لا بمثله، وهذا هو الذي

____________________________

1 . الأحقاف:33.

2 . الأنبياء:104.

3 . الروم:19.

4 . يس:79_ 80.

( 76 )

ادّعى الشيخ الرئيس ابن سينا الضرورة على امتناعه، وأقام البراهين عليه، ونذكر منها ما يناسب وضع كتابنا.

إنّ إعادة الشيء المعدوم من جميع الجهات نوع إيجاد له، والمفروض أنّ هذا الإيجاد يغاير الإبداع الذي تعلّق بإيجاده قبل أن يكون معدوماً. ومع تعدّد الإيجاد وتعدّد أعمال القدرة كيف يكون المعاد نفس المبتدأ من جميع الجهات. نعم، يكون المعاد مثل المبتدأ لا عينه، ولأجل الإيضاح نأتي بمثال:

إذا قام الإنسان بخلق صورة الفرس بالشمعة اللينة، ثمّ محا الصورة التي أوجدها وأعادها ثانياً، فلا يصحّ لأحد أن يقول: إنّ الصورة الثانية عين الأُولى، لأنّ الأُولى تعلّقت بها قدرة وأوجدت بإيجاد خاص، والثانية تعلّقت

بها قدرة أُخرى في زمان آخر، وأُوجدت بإيجاد ثان، والقدرتان مختلفتان، والإيجادان متعدّدان، فكيف يكون الموجدان واحداً بل لا مناص على القول باختلافهما. فإذا لم يصحّ إعادة المعدوم في المثال المذكور (الذي كانت المادة فيه محفوظة والصورة فقط منعدمة) فكيف يصحّ فيما كانت الصورة والمادة معدومتين غر باقيتين؟

هذا هو الفرق البارز بين المسألتين، ولم يشر الشيخ الأشعري إلى الفرق بينهما.

( 77 )

الله سبحانه ليس بجسم

الله سبحانه ليس بجسم

لقد أكّد الشيخ الأشعري على تنزيه الله سبحانه عن الجسم والجسمانيات في كتاب «اللمع» بشكل واضح، وبذلك امتاز منهجه عن منهج كثير من أهل الحديث الذين لا يتورّعون عن إسناد أُمور إليه سبحانه تلازم تجسيمه وكونه ذا جهة. وقد أوضحنا حال هذه الطائفة عند البحث عن عقائد أهل الحديث والحنابلة في الجزء الأوّل.

وأمّا البرهان الذي اعتمد عليه الشيخ فيرسمه في العبارة التالية:

فإن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً؟

قيل له: أنكرنا ذلك لأنّه لا يخلو أن يكون القائل بذلك أراد أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً، أو يكون أراد تسميته جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً عميقاً، فإن أراد الأوّل فهذا لا يجوز، لأنّ المجتمع لا يكون شيئاً واحداً، لأنّ أقلّ قليل الاجتماع لا يكون إلاّمن شيئين، لأنّ الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً. وقد بيّنا آنفاً أنّ الله عزّوجلّ شيء واحد، فبطل أن يكون مجتمعاً. وإن أردتم الثاني فالأسماء ليست إلينا، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى باسم لم يسمِّ به نفسه، ولا سمّاه به رسوله، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ توحيده سبحانه على مراتب نذكر منها ماله صلة بالمقام:

____________________________

1 . اللمع: 24.

( 78 )

1.توحيده سبحانه بمعنى أنّه واحد لا نظير له

ولا مثيل. وهذا ما يعنى من قوله سبحانه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد) (1)، وقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)(2)، وهذا القسم من التوحيد يهدف إلى أنّ واجب الوجوب بالذات واحد لا يتثنى ولا يتكرر، ليس له نظير ولا مثيل.

2. توحيده سبحانه بمعنى بساطة ذاته وتنزهه عن أنواع التركيب والكثرة في مقام الذات. ولعل «الأحدية» التي يخبر عنها القرآن في الآيات الكريمة، عبارة عن هذا النوع من التوحيد، وهو بساطة الذات والتنزّه عن التركيب والكثرة. قال سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ) .(3)

وفي ضوء هذين التوحيدين نخرج بالنتيجتين التاليتين:

أ. الله سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل.

ب. الله سبحانه أحد، بسيط، لا جزء لذاته ولا تركيب.

وهناك قسم ثالث من التوحيد، وهو التوحيد في الخالقية، وأنّه ليس في صفحة الوجود خالق إلاّ هو، وخالقية الفواعل الأُخر بالاعتماد عليه والاستمداد من خالقيته سبحانه.

إذا عرفت ذلك، تعرف الخلط في كلام الشيخ الأشعري بوضوح، لأنّ ما تقدّم منه في البحث السابق هو وحدة صانع العالم، ولكن ما هو مقدمة برهانه هنا بساطة ذاته وعدم تركبه من شيء، ولم يسبق ذلك في البحث السابق حتى يعتمد عليه في إثبات ما يتبنّاه من :«أنّه سبحانه ليس جسماً، لأنّ الجسمانية تستلزم كون الشيء عريضاً طويلاً مجتمعاً عميقاً. وهو يلازم الكثرة، والكثرة لا تجتمع مع الوحدة».

وعلى ذلك فلا يتم برهان الشيخ إلاّإذا برهن على بساطة الذات ووحدتها

____________________________

1 . الاخلاص:4.

2 . الشورى:11.

3 . الاخلاص:1.

( 79 )

وعدم تكثّرها عقلاً ولا خارجاً، وإلاّ لا يكون برهانه موضوعياً معتمداً على شيء أثبته من قبل.

نعم، في وسع الشيخ أن يبرهن على البساطة بأنّ الكثرة الخارجية أو الذهنية تستلزم احتياج الواجب إلى أجزائه، والمحتاج لا يكون واجباً، بل ممكناً.

( 80

)

صفاته الذاتية

صفاته الذاتية

اتّفق الإلهيون على أنّه سبحانه: عالم، قادر، حي، سميع، بصير، وهذه هي الصفات الذاتية حسب مصطلح المتكلّمين، والصفات الثبوتية الكمالية حسب مصطلح متكلّمي الإمامية. وهي في مقابل صفات الفعل، أعني: ما ينتزع لا من مقام الذات بل من مقام الفعل ككونه رازقاً، محيياً، مميتاً وغيرها. وإليك نصوص استدلاله في تلك المجالات:

أ. الله سبحانه عالم

استدلّ الأشعري على كونه سبحانه عالماً: بأنّ الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة إلاّ من عالم. وذلك أنّه لا يجوز أن يحوك الديباج بالتصاوير ويصنع دقائق الصنعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه.(1)

ما ذكره من البرهان قد ذكره قبله غيره ببيان رائق وتعبير بديع، فإنّ إتقان الفعل واستحكامه آية علم الفاعل بشؤون الفعل و ما يقوّمه وما يفنيه.

ب. الله سبحانه حيّ قادر

استدلّ على هذا بأنّه لا تجوز الصنائع إلاّمن حيّ قادر، لأنّه لو جاز

____________________________

1 . اللمع: 24.

( 81 )

حدوثها ممّن ليس بقادر حي، لم ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى، فلماّ استحال ذلك، دلّت الصنائع على أنّ الله حي.(1)

كان الأليق التفكيك بين الحياة والقدرة، وتقديم البحث في القدرة على البحث في الحياة، لأنّه إذا ثبت كونه قادراً _ و قد أثبت فعله كونه عالماً _ ثبت كونه حياً بلا حاجة إلى الاستدلال الجديد، لأنّ الحيّ عبارة عن العالم القادر، أو الدرّاك الفعال. فمن كان عالماً قادراً فهو حيّ قطعاً.

ج. الله سبحانه سميع بصير

قال الأشعري: إنّ الحي إذا لم يكن موصوفاً بآفة تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت، فهو سميع بصير، والله تعالى منزّه عن الآفة من الصمم والعمى، إذ كانت الآفة تدّل على حدوث من جارت عليه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الأبصار تتعلّق بالأضواء والألوان.

والسمع يتعلّق بالأصوات والكلمات، فلو كان إبصاره سبحانه للمبصرات، وسماعه للمسموعات بالإدراك الحسي المادي، نظير الإنسان والحيوان، لاحتاج في تحقّقهما إلى الآلة. وعند ذاك يأتي ما ورد في كلام الشيخ من مسألة الصحّة والتنزّه عن الآفة، نظير الصمم والعمى، وأنّ الآفة آية الحدوث.

وأمّا لو كان توصيفه بهذين الوصفين بالمعنى اللائق بساحته، فحقيقة كونه سميعاً بصيراً ترجع إلى حضور المسموعات والمبصرات لديه، وعدم غيابهماعنه سبحانه ولا يختص الحضور بهما، بل الموجودات على الإطلاق بهوياتها الخارجية حاضرة لديه، لأنّها قائمة به سبحانه، قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، فهي حاضرة لديه، غير غائبة عنه، من غير فرق بين المبصر والمسموع وغيرهما،وتخصيصهما بالذكر لكون الحس المتعلّق بهما في الإنسان

____________________________

1 . اللمع: 25.

2 . اللمع: 25.

( 82 )

أشرف من غيره، فاقتصر عليهما، وإلاّ فالله سبحانه أجل من أن يسمع ويرى بالآلة، ويباشر بذاته الأضواء والأصوات.

وباختصار: إنّ واقع الإبصار والسماع ليس إلاّ حضور المبصرات والمسموعات لدى البصير والسميع.

وأمّا الآلة وأعمالها والتأثر من الخارج فمقدّمات إعدادية.

فلو تحقّق في مورده الحضور، بلا حاجة إلى تلك المقدمات لكان أحقّ بكونه سميعاً وبصيراً.

ونضيف في الختام أنّه لم يعلم كنه قوله: «الآفة تدلّ على حدوث من جارت عليه» فإنّ كون المدرك (بالكسر) مادياً آية الحدوث لكونه ممكناً، والممكن حاجته إلى الواجب أزلية، وأمّا الصحّة والآفة، فالكلّ بالنسبة إلى القدم والحدوث سواسية فلا الصحة آية القدم، ولا الآفة آية الحدوث.

بل كون الشيء (الإدراك) مادياً آية الحدوث للتلازم بين المادية والحدوث.

( 83 )

صفاته قديمة لا حادثة

صفاته قديمة لا حادثة

إنّ الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضدّالعلم، أي الجهل. ولو كان موصوفاً به لاستحال أن يعلم، لأنّ ضدّ العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل، وإذا استحال أن يبطل

لم يجز أن يصنع المصانع الحكيمة، فلما صنعها دلّت على أنّه عالم، وصحّ أنّه لم يزل عالماً.(1)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ الحدوث والقدم من أوصاف الأُمور الوجودية، وضد العلم ليس إلاّ أمراً عدمياً ومثله لا يوصف لا بالحدوث ولا بالقدم، فلا يصحّ قوله: «لأنّ ضد العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل».

وثانياً: أنّ كلّ موجود إمكاني مسبوق بعدم قديم، فلو كان قدم العدم مانعاً عن الانقلاب إلى الوجود، تلزم استحالة أن يبطل كلّ عدم وينقلب إلى الوجود.

وكان له الاستدلال بشكل آخر: إنّ اتصافه بالعلم بعد ما كان جاهلاً، أو بالقدرة بعد ما كان عاجزاً، يستلزم كون ذاته محلاً للحوادث، وهو يلازم التغيير والانفعال في ذاته، وهو آية الحدوث،والواجب منزّه عن ذلك كلّه.

كما كان له الاستدلال بشكل ثان وهو: لو كان الذات الإلهية فاقدة

____________________________

1 . اللمع: 25_ 26.

( 84 )

لهذه الصفات منذ الأزل، لاستلزم ذلك كون صفاته «ممكنة» و «حادثة» وحيث إنّ كلّ ممكن مرتبط بعلّة،ومحتاج إلى محدث، لزم أن نقف على محدثها، فهل وردت من قبل نفسها، أو من قبل الله سبحانه، أو من جانب علة أُخرى؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل: فلا يحتاج إلى مزيد بيان، إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه.

وأمّا الثاني: فكسابقه، فإنّ فاقد الكمال «العلم والقدرة» لا يعطيه.

أضف إليه _ أنّه يلزم الخلف أي قدم الصفات. لأنّ المفروض أنّ العلة هي الذات وهي قديمة فيلزم قدم معلولها. وأمّا الثالث فكسابقيه أيضاً إذ ليس هنا عامل خارجي يكون مؤثراً في عروض صفاته على ذاته سبحانه _ مضافاً إلى أنّه يستلزم افتقار الواجب إليه.

إلى غير ذلك من البراهين المشرقة التي جاءت في الكتب الكلامية والفلسفية; وكأنّ الشيخ أبا الحسن _ إبّان الانفصال عن المعتزلة وخلع

الاعتزال عن نفسه كخلع القميص _ شقّ عليه الأخذ من علومهم وأفكارهم، وأراد الاعتماد على ما توحيه إليه نفسه، فجاء بالبرهان الذي ترى وزنه وقيمته.

( 85 )

صفاته زائدة على ذاته

صفاته زائدة على ذاته

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته، أوجد هوة سحيقة بين كلامي المعتزلة والأشاعرة، فمشايخ الاعتزال _ لأجل حفظ التوحيد ، و رفض تعدّد القديم، والتنزّه عن التشبيه _ ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات، وليست هنا أيّة واقعية للصفات سوى ذاته.

وقد استعرض القاضي عبد الجبار المعتزلي آراء مشايخه في شرح الأُصول الخمسة (1)و قال:

قال شيخنا أبو علي: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات الأربع: (القدرة، العلم، الحياة، الوجود) لذاته.

وقال شيخنا أبو هاشم: يستحقّ هذه الصفات لما هو عليه في ذاته.

ومفاد كلام الشيخين: أنّ الله سبحانه عالم، قادر حي، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.

وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات، لحفظ التوحيد ورفض تعدّد القدماء، وهم يعنون بقولهم:(لذاته) أنّ ذاته سبحانه _ ببساطتها ووحدتها_ نائبة عن الصفات، وتعبير أبي هاشم في إفادة ما يرومانه أدق من عبارة أبي علي، وقد اشتهر هذا القول عند المتأخرين من المتكلّمين بالقول بالنيابة،

____________________________

1 . شرح الأُصول الخمسة: 182.

( 86 )

ونسبه أبو الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» إلى كثير من المعتزلة والخوارج، وكثير من المرجئة وبعض الزيدية وقال: هؤلاء يقولون: إنّ الله عالم، قادر، حي، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.(1)

وعندئذ تكون الذات نائبة عن الصفات والآثار المترقبة من الصفات، مترتبة على الذات، وإن لم تكن الصفات موجودة فيها مثلاً: خاصية العلم اتقان الفعل،وهي تترتب على نفس ذاته، بلا وجود وصف العلم فيه، و قد اشتهر عندهم «خذ بالغايات واترك المبادئ» و إنّما ذهبوا إلى هذا القول لأجل أمرين تاليين:

من

جانب اتفقت الشرائع السماوية على أنّه سبحانه عالم حي قادر، و يدلّ على ذلك إتقان أفعاله. و من جانب آخر: واقعية الوصف لا تنفك عن القيام بالغير، فلو لم تكن قائمة به لم تصدق عليه الصفة. فعند ذلك يدور الأمر بين أحد الأُمور الأربعة:

1. نفي العلم مثلاً عن ساحته سبحانه على الإطلاق. وهذا تكذّبه آثار فعله سبحانه، مضافاً إلى اتّفاق الشرائع السماوية على عدّه من صفاته الذاتية.

2. القول بأنّ علمه زائد، ومثله سائر صفاته، وهذا يستلزم تعدّد القدماء.

3. كون صفاته عين ذاته وهي متحدة معها، وهذا لا يجتمع مع واقعية الوصف، لأنّ واقعيته هو القيام بالغير،ولولاه لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يتبيّن القول التالي:

4. نيابة الذات مناب الصفات وإن لم تكن الذات موصوفة بنفس الصفات.

وهذا القول هو المشهور بين المعتزلة، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته:

____________________________

1 . مقالات الإسلاميين:1/224.

( 87 )

والأشع_ري_ة بازدي_اد قائل_ة * وق__ال ب_الني_اب_ة المعت_زل_ة

وممّن اختار هذا القول من المعتزلة وذبَّ عنه بصراحة، هو عبّاد بن سليمان المعتزلي(1)قال:

هو عالم، قادر، حي، ولا أثبت له علماً ولا قدرة، ولا حياة، ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم،وقادر لا بقدرة وحي لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائرما يسمّى به من الأسماء التي يسمّى بها.(2)

رأي أبي الهذيل العلاّف المعتزلي(3)

يعترف أبو الهذيل _ على خلاف ما يروى عن أبي علي وأبي هاشم الجبائيين _ بأنّ لله سبحانه علماً وقدرة وحياة حقيقة، ولكنّها نفس ذاته; وإليك نصّ عبارته: هو عالم بعلم هوهو، هو قادر بقدرة هي هو، هوحي بحياة هي هو _ إلى أن قال _ : إذا قلت: إن الله عالم أثبتَّ له علماً هو الله، ونفيت عن الله جهلاً، ودللت

على معلوم، كان أو يكون، وإذا قلت: قادر، نفيت عن الله عجزاً،وأثبتّ له قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور. وإذا قلت: الله حي، أثبتّ له حياة وهي الله، ونفيت عن الله موتاً.(4)

والفرق بين الرأيين جوهري جداً، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم، قادر حي، بنفسه، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة. وعلى حد تعبير أبي هاشم أنّ الله يستحقها لما هو عليه في ذاته.

____________________________

1 . من أئمة الاعتزال في القرن الثالث، ودارت بينه و بين أبي كلاب (المتوفّى بعد عام 340ه_) مناظرات، لاحظ الانتصار لأبي الحسين الخياط: 61.

2 . مقالات الإسلاميين:1/225.

3 . محمد بن هذيل المعروف بالعلاّف، كان شيخ البصريين في الاعتزال، ولد عام 130ه_ وتوفّ_ي في سامراء235ه_. لاحظ وفيات الأعيان:4/265 برقم 606.

4 . شرح الأُصول الخمسة: 183; مقالات الإسلاميين: 25.

( 88 )

فهؤلاء يستحقون أن يسموا بنفاة الصفات ونيابة الذات عنها، وهذا بخلاف رأي أبي الهذيل فهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وعالماً بعلم وقادراً بقدرة، ولكنّها تتحد مع الذات في مقام الوجود والعينية.

ولأجل التفاوت البارز بين الرأيين أراد القاضي عبد الجبار المعتزلي إرجاع مقالة العلاف إلى ما يفهم من عبارة أبي علي و ابنه أبي هاشم وقال: قال أبو هذيل: إنّه تعالى عالم بعلم هوهو، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي، إلاّ أنّه لم تتلخص له العبارة، ألا ترى أنّ من يقول: إنّ الله عالم بعلم، لا يقول إنّ ذلك العلم هو ذاته تعالى.

ولكن الحقّ في باب الصفات هو ما ذهب إليه أبو الهذيل، وعليه مشايخنا الإمامية، أخذاً بالبراهين المشرقة في هذا المجال، واقتداءً بما ورد عن أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين، وسيوافيك عند استعراض عقائد المعتزلة

أنّ أُصولهم مأخوذة من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ ، وهو إمام علم التوحيد، تُعرف آراؤه العالية من خطبه وكلماته في نهج البلاغة، ونأتي منها بما يمس المقام:

1. «وكمال توحيده الإخلاص له...» الخطبة الأُولى، ص 8، ط مصر، أي تخليصه من كلّ جزء وتركيب.

2. وقال _ عليه السَّلام _ : «لا تناله التجزئة والتبعيض» الخطبة 81، ط مصر، ج1، ص 146.

3. وقال _ عليه السَّلام _ : «ولا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه» الخطبة 181ط مصر ج2 ص 144.

4. وقال _ عليه السَّلام _ : «ولا يوصف بشيء من الأجزاء،ولا بالجوارح والأعضاء،ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والإبعاض» الخطبة 181. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا مناص معها عن القول باتحاد الصفات مع الذات.

يرى الغزالي والشهرستاني أنّ المعتزلة تبعوا الفلسفة اليونانية في وحدة

( 89 )

صفاته مع ذاته فقالوا: إنّ الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته،لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة تبعوا في ذلك إمام علم الكلام ومؤسسه عليّ بن أبي طالب عليمها السَّلام ، فهو رائد الموحدين وسيدهم، فقد استدلّ في خطبته على وحدة صفاته مع الذات بشكل رائع.(2)

وهن نظرية النيابة

إنّ الشيخين(أبا علي وأبا هاشم الجبائيين) لو تأمّلا في واقعية الصفات الكمالية وأنّها من شؤون الوجود لما أكّدا ولا أصرّا على أنّ واقعية الصفة مطلقاً هي القيام بالغير، لأنّه لا يمكن أن تكون الصفة عين الذات، وذلك لأنّ كلّ الكمالات

من شؤون الوجود و ترجع حقائقها إليه، والوجود أمر مقول بالتشكيك، فله العرض العريض، فكما أنّ من الوجود ممكناً وواجباً وجوهراً وعرضاً، فهكذا إنّ مرتبة من العلم كيف نفساني قائم بالغير، ومرتبة أُخرى منه واجب قائم بنفسه، ومثله القدرة والحياة، والتفصيل يطلب من محلّه.

تحليل نظرية الزيادة

قد تعرّفت على نظرية الشيخين من أئمّة الاعتزال، كما تعرّفت على نظرية أبي الهذيل، وقد حان الآن وقت دراسة نظرية شيخ الأشاعرة،وهو يخالف كلتا النظريتين _ النيابة والوحدة _ و يقول بوجود صفات كمالية زائدة على ذاته مفهوماً و مصداقاً، فلا تعدو صفاته صفات المخلوق إلاّ في القدم والحدوث. ولأجل ذلك يهاجم النظريتين في «الإبانة» و «اللمع» فيقول في رد النظرية ا لأُولى (النيابة):

إنّ الزنادقة قالوا: إنّ الله ليس بعالم، ولا قادر، ولا حي، ولا

____________________________

1 . الملل والنحل للشهرستاني:1/51.

2 . لاحظ نهج البلاغة: الخطبة الأُولى، وقد عرفت بعض كلامه في المقام.

( 90 )

سميع، ولا بصير. وقول من قال من المعتزلة: إنّ لا علم لله ولا قدرة له، معناه: إنّه ليس بعالم ولا قادر. والتفاوت في الصراحة والكناية، فنفي المبادئ حقيقة، يلازم نفي صفاته الثبوتية التي أجمع المسلمون على توصيفه سبحانه بها.

وأمّا الثانية، فردّ عليها بقوله: كيف يمكن أن يقال: إنّ علم الله هو الله. وإلاّ يلزم أن يصحّ أن نقول: يا علم الله اغفر لي وارحمني.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ القول بزيادة الصفات ليس من مبتكرات الأشعري، بل تبع هو في ذلك«الكلابية» والتفاوت بينهما بالكناية والتصريح، قال القاضي عبد الجبار:

عند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية، وأراد بالأزلي: القديم، إلاّ أنّه لما رأى المسلمين متفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى، لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك. ثمّ

نبغ الأشعري، وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة.(2)

ثانياً: ما ناقش به النظرية الأُولى غير كاف فيما ادّعاه _ أعني: رجوع قولهم إلى نفي كونه سبحانه عالماً _ لأنّ نفي المبادئ _ أعني: العلم والقدرة _ إنّما يستلزم نفي كونه عالماً وقادراً إذا لم تقم الذات مقام الصفات في الأثر والغاية. فلقائل أن يقول: إنّ ما يطلب من العلم والقدرة من إتقان الفعل والقدرة عليه، فالذات بنفسها كافية في تأمين الغاية المطلوبة منها. فإنّ ذاته سبحانه من الكمال على حد، تقوم بنفسها لتأمين كلّ ما يطلب من الصفات، فلا حاجة إليها.

وأضعف منه ما ناقش به النظرية الثانية من أنّ القول بتوحيد صفاته مع ذاته يستلزم جواز أن نقول:يا علم الله اغفر لي، وذلك لأنّ القائل بالوحدة

____________________________

1 . الإبانة: 108.

2 . الأُصول الخمسة: 183.

( 91 )

إنّما يقول بها وجوداً لا مفهوماً، إذ لا شكّ أنّ المفهوم من «الله» غير المفهوم من «العلم» و «القدرة» ومشتقاتهما.

وعلى ذلك فبما أنّ العلم غيره سبحانه مفهوماً، ولكن عينه مصداقاً، لا يصحّ التعبير عن مقام العينية ب_«يا علم الله» بل يجب أن يقول: يا الله، فالتعبير بصورة الإضافة «إضافة العلم إلى الله» دليل على أنّ الداعي يسير في عالم المفاهيم، لا في عالم العين والخارج، وإلاّ كان عليه أن يقول: يا الله.

استدلاله على المغايرة

وممّا يدلّ على أنّ الله عالم بعلم، أنّه سبحانه لا يخلو عن أحد صورتين:1. أن يكون عالماً بنفسه، 2. أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

1. فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً، ويستحيل أن يكون العلم عالماً أو العالم علماً، ومن المعلوم أنّ الله عالم; ومن قال: إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن

يقول: إنّه عالم; فإذا بطل هذا الشقّ تعين الشقّ الثاني، وهو أنّه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.(1)

لبّ البرهان هو: أنّ واقعية الصفة هي البينونة فيجب أن يكون هناك ذات وعرض، ينتزع من اتّصاف الأُولى بالثاني عنوان العالم والقادر، فالعالم: من له العلم، والقادر من له القدرة، لا من ذاته نفسهما، فيجب أن يفترض ذات غير الوصف.

يلاحظ عليه: أنّ القائل بالوحدة لا يقول بالوحدة المفهومية، أي أنّ ما يفهم من لفظ «الجلالة» فهو نفس ما يفهم من لفظ «العالم» فإنّ ذلك باطل بالبداهة، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته، وأنّوجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج مغايراً لمصداق العلم، وأنّ ساحة الحقّ منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات، بل لوجود البحث البسيط نعوت وأوصاف، كلّها موجودة

____________________________

1 . اللمع: 30.

( 92 )

بوجود واحد، فتلكالصفات الإلهية متكثّرة بالمعنى والمفهوم، واحدة بالهوية والوجود.

ولا يعني أصحاب نظرية الوحدة تعطيل الذات عن الصفات وخلوّها عن واقعيتها، كما عليه القائل بالنيابة، بل يعنون أنّ وجوداً اوحداً بوحدته وبساطته، من دون تكثّر فيه، هو نفس العلم والقدرة وسائر الكمالات، وربّ وجود يكون من الكمال على حدّ يكون نفس الكشف والعلم، ونفس القدرة والاستطاعة، وهو في الكمال آكد من الوجود الذي يكون العلم والقدرة زائدين عليه.

أضف إلى ذلك: أنّ الشيخ الأشعري لم يتأمّل في مقالة القائل بالوحدة، ولأجله رمى القائل بها بأنّه لا يصحّ له إجراء الصفات على الله، وليس له أن يقول: إنّه عالم. فإنّ الفرق بين القول بالعينية والزيادة، كالفرق بين قولنا: زيد عدل وزيد عادل، فالأُولى من القضيتين آكد في إثبات المبدأ من الآخر، والقول بالعينية آكد

من القول بالزيادة، فلو استحقّ الإنسان الواقف على ذاته وماوراءها بعلم زائد، أن يوصف بكونه عالماً، كان الموجود الواقف على الذات والأشياء بعلم هو نفسه وذاته، أولى بالاستحقاق بالتوصيف.

وقد اغترّ الشيخ بظاهر لفظ «عالم» و«قادر» حيث إنّ المتبادر منه هو كون الذات شيئاً والوصف شيئاً آخر. فحكم بإجرائه عليه سبحانه بهذا النمط بلا تغيير ولا تحوير. ومعنى هذا هو أنّ المعارف العليا تقتنص من ظواهر الألفاظ وإن كانت الأدلّة العقلية الواضحة تخالفها وتردّها، فإنّ الألفاظ العامة عاجزة عن تفسير ما هناك من المعارف والمعاني.

مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينية الصفات مع الذات نوع مخالفة لظاهر صيغة الفاعل _ أعني: العالم والقادر_ الظاهرة في الزيادة، كان في القول بالزيادة مضاعفات كبيرة لا يقبلها العقل السليم، ونشير إلى بعضها:

1. تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. وربما يتمحّل في رفعه بأنّ

( 93 )

المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غير ذاته، ولكنّه كلام صوري ينتهي عند الدقة إلى ارتفاع النقيضين.

والعجب أنّ الأشعري في موضع من كتابه «اللمع» ينفي غيرية الصفات للذات حتى لا يلزمه القول بتعدّد القدماء. لكنّه يفسر الغيرية بالصفات المفارقة، ويقول: إنّ معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه، فلمّا دلّت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه وقدرته، استحال أن يكونا غيرين.

وغير خفي على القارئ النبيه أنّ الزيادة المستلزمة لتعدّد القدماء كما تتحقّق في مفارقة الصفات كذلك تتحقّق في ملازمتها، فالقول بعدم الوحدة يستلزم تعدّد القدماء، وإن كانت الصفات لازمة.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات قديمة مثله ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع، ولم يكن أحد متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية،وعنهم أخذ الأشعري. قال القاضي عبد

الجبار:

وعند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية، وأراد بالأزلي: القديم; إلاّ أنّه لماّ رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين.(1)

2. إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته، يستلزم غناه في العلم بما وراء ذاته، عن غيره، فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى الغير. وهذا بخلاف القول بالزيادة، إذ عليه: يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته. وكون هذه الصفات أزلية لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته، مع أنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء.

وأمّا الاستدلال على الزيادة بظواهر بعض الآيات، كقوله سبحانه:

____________________________

1 . الأُصول الخمسة:183. وقد تقدّم ملخّصاً فلاحظ.

( 94 )

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1)، وقوله سبحانه: (وَماتَحْمِلُ منْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ)(2)فضعيف جدّاً، إذ لا دلالة لهما على الزيادة ولا على العينية، وإنّما تدلّ على أنّ له سبحانه علماً.

وأمّا الكيفية فتطلب من مجال آخر.

وفي الختام نقول: إنّ «الصفاتية» في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالأوصاف الزائدة. كما أنّ المعطّلة هم نفاتها، حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت الحقّ، وليس في القول بالوحدة (لا القول بالنيابة) أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

وعلى أيّ تقدير، فقد صارت زيادة الصفات مذهباً لأهل السنّة قاطبة، وصدر في بغداد كتاب سمي «الاعتقاد القادري»و ذلك في 17 محرم سنة 409ه_ و قرئ في الدواوين وكتب الفقهاء فيه: «إنّ هذا اعتقاد المسلمين،ومن خالفهم فقد فسق وكفر» جاء في الكتاب: «وهو القادر بقدرة، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع

بسمع،والمبصر ببصر، متكلم بكلام، لا يوصف إلاّ بما وصفه به نبيّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ وكلّ صفة وصف بها نفسه، أووصفه بها رسول فهي صفة حقيقية لا مجازية، وإنّ كلام الله غير مخلوق، تكلّم به تكليماً فهو غير مخلوق بكلّ حال متلوّاً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً، ومن قال: إنّه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر، حلال الدم بعد الاستتابة منه».(3)

وربما تطلق«الصفاتية» على من يصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية (مع التشبيه أو مع التنزيه) في مقابل التفويض أو التأويل، وهذا هو الذي نبحث عنه في البحث التالي.

____________________________

1 . النساء:166.

2 . فاطر:11.

3 . المنتظم: 195_ 196; البداية والنهاية :12/6_7; هامش تاريخ ابن الأثير:7/299_ 302 .

رأيه في الصفات الخبرية

رأيه في الصفات الخبرية

قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتية وصفات خبرية.

فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، وكلّ ما يطلق عليه الصفات الكمالية «صفات ذاتية»، و ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث، كالعلو والوجه واليدين والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين «صفات خبرية» وقد اختلفت كلمات المتكلّمين في توصيفه سبحانه بالأخير على أقوال هي:

أ. الإثبات مع التشبيه والتكليف

وهو إجراؤها على الله سبحانه بنفس المعاني المرتكزة في أذهان الناس من دون أي تصرّف فيها، وهو قول المشبهة، فقد زعموا أنّ لله سبحانه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان.

قال الشهرستاني: أمّا مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض.

وحكى الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا، وأنّهم يزورونه ويزورهم.

وحكى عن داود الجواربي أنّه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. و قال: إنّ معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح

(

96 )

وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأُذنين، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء، وكذلك سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء، وحكى عنه أنّه قال:هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأنّ له فروة سوداء، وله شعر قطط!!

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء، والوجه واليدين والجنب، والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك، فأجروها على ظاهرها، أعني: ما يفهم عند إطلاق هذه الألفاظ على الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام: «خلق آدم على صورة الرحمن» وقوله:«حتى يضع الجبار قدمه في النار» وقوله:«قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» وقوله:«خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً» وقوله: «وضع يده أوكفّه على كتفي»،وقوله:«حتى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاةوالسلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإنّ التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: اشتكت عيناه(الله) فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وإنّ العرش لتئط من تحته كأطيط الرحل الحديد، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع، وروى المشبّهة عن النبي عليه الصلاة والسلام «لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله».(1)

هذه عقيدة المشبّهة والمجسّمة في الصفات الخبرية، وإليك دراسة سائر المذاهب.

ب: الإثبات بلا تشبيه ولا تكليف

إنّ الشيخ الأشعري يجريها على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكن مع التنزيه عن التشبيه والتجنّب عن التكييف، قال في الإبانة:

____________________________

1 . الملل والنحل:1/105_ 106.

( 97 )

وانّ الله استوى على عرشه» كما قال: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتوى). (1)

وأنّ

له وجهاً بلا كيف كما قال:(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ).(2)

وأنّ له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَي) (3)، وكما قال: (بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). (4)

وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال:(تَجري بِأَعْيُنِنا) (5).(6)

وقال في الباب السابع من هذا الكتاب: إن قال: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إنّ الله عزّوجلّ يستوي على عرشه كما قال: يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرّحمن على العَرْشِ اسْتَوى) .

ثمّ قال بعد عرض عدّة من الآيات: كلّ ذلك يدلّ على أنّه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استواء.(7)

وقال في الباب الثامن: قال الله تبارك و تعالى: (كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)(8) و قال عزّوجلّ: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ) (9)، فأخبر أنّ له وجهاً لا يفنى ولا يلحقه الهلاك، وقال عزّوجلّ:(تَجري بِأَعْيُنِنا) . وقال:(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) ، فأخبر عزّ وجلّ أنّ له وجهاً وعيناً ولا يكيف ولا يحد.(10)

وعلى ذلك فالأشعري من أهل الإثبات كالمشبّهة والمجسّمة، لا من أهل التفويض ولا من أهل التأويل، وسيوافيك بيانهما. والفرق بين المشبّهة وما

____________________________

1 . طه:5.

2 . الرحمن:27.

3 . ص :75.

4 . المائدة:64.

5 . القمر:14.

6 . الإبانة: 18.

7 . الإبانة: 92.

8 . القصص: 88.

9 . الرحمن: 27.

10 . الإبانة: 95.

( 98 )

ذهب إليه الأشعري، هو أنّ الطائفة الأُولى تجريها على الله سبحانه بحرفيّتها من دون أي تصرف فيها، ولكن الأشعري ومن لفّ لفّه يثبتونهاعلى الله بنفس معانيها لكن متقيدة باللاّ كيفية واللاّ تشبيه، حتى يخرجوا من التجسيم والتشبيه وينسلكوا في أهل التنزيه. وليس هذا المعنى مختصاً به، بل هناك من يوافقه من المتقدمين والمتأخرين، يطلق عليهم أهل الإثبات أو المثبتة، في

مقابل المفوِّضة والمؤوِّلة والنفاة بتاتاً، وإليك نقل ما أُثر عن غيره في هذا المجال ممّا يوافقه:

قال أبو حنيفة: وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته، لأنّ فيه إبطال الصفة، وهذا قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.

وقال الشافعي:لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر، وأمّا قبل قيام الحجّة، فإنّه يعذر بالجهل; ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال ب_(ليس كمثله شيء) .

وقال ابن كثير: وأمّا قوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، وإنّما نسلك مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل،والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله، فإنّ الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء.(1)

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد

يجب على كلّ مؤمن الإيمان بما وصف الله به نفسه، وليس أحد أعرف به منه (أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله) كما أنّه ليس لأحد أن يصرف كلامه سبحانه، عمّا

____________________________

1 . راجع فيما نقلناه عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير«علاقة الإثبات والتفويض»: 46_ 49.

( 99 )

هو المتبادر من ظاهره، إذ التأويل بلا اعتماد على نصّ قطعي يفقد النصوص هيبتها، وإنّ المؤوّلة الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب والسنّة _ بحجّة أنّ ظواهرهما لا توافق العقل _ مردودون في منطق الشرع، إذ لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة ما ظاهره خلاف العقل، وإنّما يتصورّونه

ظاهراً ثمّ يحملونه على خلافه، ليس مفاد الآية والمتبادر منها عند التدبّر.

هذا كلّه ممّا لا خلاف بين جمهور المسلمين فيه، ولكن الذي يجب إلفات النظر إليه، هو أنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة تتّسم بالدقة والرصانة والسلامة من التعقيد و الألغاز، وهي تبدو جليَّة مطابقة للفطرة والعقل السليم للجماهير على كافة المستويات، وتتصف بالصفاء والنقاء. فهذه سمة العقيدة الإسلامية، وعلى ذلك فإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثورين من اليهودية والنصرانية، أو بصورة التعقيد والألغاز، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي، فلا محيص لمن يعرض العقائد الإسلامية عن رعاية أمرين:

1. التحرّز عن سمة التشبيه والتجسيم.

2. الاجتناب عن الجمود على اللفظ وجعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء، أو معاني معقّدة لا يفهم منها شيء، بحجّة أنّ البحث عن الكيف ممنوع.

إنّ إثبات الصفات له سبحانه لو انتهى إلى التكييف والتشبيه فهو كفر و زندقة، لقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) ولا ينفع الفرار عنه بكلمة مبهمة، أعني «الإمرار بلا كيف» كما هو المشاهد في كلمات أغلب المثبتين للصفات، إذ هو أشبه بالإنكار بعد الإقرار، ولا إنكار بعده.

فالإصرار على الإثبات تبعاً للنصوص، والتهجّم على النفاة، والذهاب في هذا السبيل إلى حدّ التجسيم، غواية وضلالة; والاعتماد في ذلك على كلمات السلف اعتمادعلى قول من ليس بمعصوم ولا حجّة، والعقائد تعرض على القرآن والسنّة الصحيحة والعقل السليم الذي به عرف الله وثبت وجوده، لا على قول السلف الذين لم يخلوا من طالح، فحشد عبارات بعض السلف في مجال العقائد لا ينفع شيئاً.

( 100 )

كما أنّ إثبات صفاته سبحانه، على نحو ينتهي إلى اللغز والتعقيد ويتّسم بعدم المفهومية، مردود بنص القرآن الكريم حيث ندب إلى التدبّر فيما أنزل

إلى نبيّه، قال عزّ من قائل:(أَفَلا يَتَدَّبرون القُرآن) (1). وقال سبحانه: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ) .(2)

ولكن مع الأسف إنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه بين الأشاعرة وغيرهم لا يخرج عن أحد هذين الإطارين، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف، ويسترسلون في هذا المضمار، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض إذا احترزوا عن البحث والتفصيل، والكلّ مردود، مرفوض.

وهانحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال،حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل «نفاة الصفات» أفضى بالقوم إمّا إلى حدّ التشبيه، أو إلى حدّ التعقيد. فمن كلمات الطائفة الأُولى:

1. قيل لعبد الله بن مبارك: كيف يعرف ربنا؟ قال: بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه.(3)

2. وقال الأوزاعي: إنّ الله على عرشه،ونؤمن بماوردت به السنّة من صفاته.(4)

3. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه«الرد على الجهمية»: استوى على عرشه، فبان من خلقه، لا تخفى عليه منهم خافية، علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ.(5)

4. وقال المقدسي في كتابه«أقاويل الثقات في الصفات»: ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية

____________________________

1 . النساء: 82.

2 . ص : 29.

3 . راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : 48، 41، 68.

4 . راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : 48، 41، 68.

5 . راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : 48، 41، 68.

( 101 )

واليدين ونحو ذلك، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر، باطنها غير ما يظهر من مدلولها، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد

والأعرابي الجافي، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها، لا نصاً ولا ظاهراً، ولما قال للجارية: أين الله؟ فقالت: في السماء، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه، بل أقرّها و قال: أعتقها فإنّها مؤمنة.(1)

5. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية الأعراف(ثمّ استوى على العرش) :

وقد كان السلف الأوّل _ رضي الله عنهم _ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.

وتصحيح ذلك بالجهل بالكيفية لا يفيد شيئاً، فإنّ تلك اللفظة المجملة شيء تلتجئ إليه كلّ من المشبّهة والمجسمة، ويقولون إنّ لله سبحانه جسماً لا كسائر الأجسام، ولحماً لا كاللحوم، ودماً لا كالدماء، وكذلك سائر الصفات; وإنّمااستحيوا عن إثبات الفرج واللحية، وإذ قال قائلهم: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك.(3)

ليت شعري إذا كانت تلك اللفظة المبهمة مفيدة في مجال التوحيد والتنزيه والتجنب عن التشبيه فليقولوا: إنّ الله جسم لا كالأجسام، عرض لا كسائر

____________________________

1 . علاقة الإثبات والتفويض: 115.

2 . علاقة الإثبات والتفويض: 115.

3 . الملل والنحل:1/15.

( 102 )

الأعراض، آكل وشارب لا كالإنسان والحيوان، فلماذا يستحيون عن حشد هذه الأوصاف مع انّها تفيدهم في التنزيه، «البلكفة» وتكرار بلا كيف ولا تشبيه بعد كلّ صفة خبرية.

وبعد هذا

لا تتعجب ممّا ذكره الزمخشري في كشّافه عن هؤلاء القوم حيث يقول: ثمّ تعجب من المتسمّين بالإسلام، المتسمّين بأهل السنّة والجماعة، كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة(أي قولهم بلا كيف) فإنّه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم:

ق__د شبّه_وه بخلق_ه وتخ_وّف_وا شنع الورى فتستّروا بالبلكفة(1)

ثمّ إنّنا نرى أنّ هؤلاء مع تحرّزهم عن تأويل الآيات يؤوّلون الآيات التي لا تناسب التجسيم بل تضاده، فما هو الهدف من هذا التأويل مع كونه على خلاف منهجهم، وإليك الآيات التي يصر القوم على تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها، وما ذلك إلاّ بأنّ الأخذ بظاهرها لا يجتمع مع جلوسه سبحانه على العرش، وكونه في تلك الجهة، و كونه جسماً متحيزاً في مكان خاص.

1. قوله سبحانه:(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(2)

2. قوله سبحانه: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كانُوا).(3)

3. قوله سبحانه:(وَهُوَ الَّذي في السّماء إِلهٌ وَفي الأَرْضِ إِلهٌ) .(4)

فلو لم يكن هدف القوم من الجمود على الظواهر هو التجسيم والجهة فما هو الداعي إلى تأويل هذه الآيات بأنّ المراد منها هو إحاطة علمه سبحانه بالناس، لا إحاطة ذاته ووجوده، أليس ذلك يدلّ على أنّ القوم يبطنون

____________________________

1 . الكشاف:1/576.

2 . الحديد:4.

3 . المجادلة:7.

4 . الزخرف:84.

( 103 )

العقيدة بجلوسه سبحانه في السماء على عرشه حقيقة، ولما شاهدوا أنّ ذلك لا يجتمع مع إحاطة وجوده لجميع العوالم الإمكانية، خرجوا عن منهجهم بتأويل هذه الآيات بحمل الإحاطة على الإحاطة العلمية لا الوجودية، والعجب أنّهم من يقول بوجوده سبحانه في كلّ مكان بالقول بالطول والنفوذ في الأجسام، وهم لا يفرّقون

بين الإحاطة الجسمية المادية ولا الإحاطة القيّومية، والآية ناظرة إلى الثانية لا الأُولى.

هذا حال الطائفة الأُولى، وأمّاالطائفة الأُخرى التي أفضى بهم القول بالإثبات إلى مهزلة الغموض والتعقيد، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها، فإليك نزراً من كلماتهم:

1. قال سفيان بن عيينة: كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثيل.(1)

2. قال ابن خزيمة: إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين.(2)

3. قال الخطيب: إنّما وجب إثباتها، لأنّ التوقيف وَرَدَ بها، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) .(3)

4. قال ابن قدامة المقدسي: وعلى هذا درج السلف والخلف _ رضي الله عنهم _ متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله.(4)

5. يقول ابن تيمية _ مثير هذه النظرية بعد متروكيتها _ «إنّ لله يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون

____________________________

1 . علاقة الإثبات والتفويض:44.

2 . نفس المصدر: 58.

3 . علاقة الإثبات والتفويض: 59.

4 . نفس المصدر: 59.

( 104 )

الملائكة وإبليس، وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى.(1)

6. يقول الخطابي: وليس اليد عندنا الجارحة، وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقهاعلى ما جاء ولا نكيّفها.(2)

7. يقول الإلكائي: إنّ وكيعاً قال: إذا سُئلتم عن ضحك ربّنا فقولوا سمعنا بها.(3)

هذه العبارة ونظائرها تصبغ صفات الله بصبغة التعقيد والإبهام، ولا تهدي الإنسان إلى معرفة. فإنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة، وحينئذ فإن أُريد

منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل، وهم يفرون منه فرار المزكوم من المسك. وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لناحتى تتّسم العقيدة بالوضوح والسهولة، ونبتعد عن التعقيد والإبهام. وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خداعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار: إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل، والكلّ ممنوع عندهم، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟

إنّ ما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة، أشبه بالمهزلة، إذ لو كان إمرارها

____________________________

1 . مجموعة الفتاوى:6/362.

2 . فتح الباري:13/417.

3 . علاقة الإثبات والتفويض: 97.

( 105 )

على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامهابنفس كيفيتها،ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية. فاستعمالها في المعاني، حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا... فقولهم:«المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي»أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه «البلكفة» أثر ولا عين، وإنّما هو شيء اخترعته الفاكرة، للتذرّع به في مقام الردّ على الخصم والنقص عليهم، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها، هو التجسيم

والتشبيه.

وقد ذكرنا ما يفيد في المقام عند تحليل عقائد الحنابلة حول الصفات، فراجع.

ج: التفويض

إنّ هناك نظرية ثالثة حول الصفات الخبرية اختارها جمع من الأشاعرة وهي نظرية التفويض، وحاصلها الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات التي وصف الله سبحانه نفسه بها إجمالاً، وتفويض ما يراد منها إليه:

1. يقول الغزالي: وأقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف هو ما يترجمه قوله _ لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله _ ثمّ إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله بأنّه حي قادر، عالم متكلم مريد، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق، إلاّ من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل كقدم القرآن وحدوثه، ونفي الاستواء والنزول وغيره.(1)

2. قال الشهرستاني: اعلَم أنّ جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله

____________________________

1 . علاقة الإثبات: 162 نقلاً عن الرسالة الواعظية.

( 106 )

تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام... وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولا يؤوّلون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية، ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتون، سمّي السلف صفاتية، والمعتزلة معطّلة (لتعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الصفات) _ إلى أن حكى عن بعض السلف _ : عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك، إلاّ أنّا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله سبحانه:(الرّحمن على العرشِ استوى)، ومثل قوله: (لما خَلَقْتُ بيدي)، ومثل قوله: (وَجاءَ رَبُّك)، إلى غير ذلك، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا

شريك له وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه.(1)

3. قال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس»: واعلم أنّ عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا، لأنّهم لا يخالطون الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم.(2)

4. ويظهر ذلك من الرازي في أساس التقديس قال: إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى،ولا يجوز الخوض في تفسيرها.(3)

وهنا كلمات للقائلين بالتفويض يشبه بعضها بعضاً.

إنّ التفويض هو شعار من لا يتعرض للأبحاث الخطيرة، ولا يقتحم المعارك المدلهمة، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان»(4)، وعند ذاك يرى

____________________________

1 . الملل والنحل:1/92_ 93.

2 . تلبيس إبليس: 113، ط دار العلم.

3 . أساس التقديم:223 كما في علاقة الإثبات : 102.

4 . صحيح البخاري:1/7، كتاب الإيمان.

( 107 )

أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي _ عند الإفراط _ إلى التشبيه والتجسيم المبغوض، أو إلى التعقيد واللغز الذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.

هذه حقيقة التفويض، غير أنّ ابن تيمية شنّ على هذه الطائفة بما ليس في شأنهم وقال: إنّ هؤلاء المبتدعة هم الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف; من حيث ظنّوا أنّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها، واعتقدوا أنّهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: (وَمِنهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ)(1).(2)

وكأنّه تأثّر بما ذكره محيي الدين ابن العربي حيث رد على أهل التفويض وقال:

«قالوا نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى، حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع به، ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر. وهذا القول بهذا القسم متحكم أيضاً، فإنّه ردّ على الله بأنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب. وقسم آخر قالوا: نؤمن بهذا اللفظ على حدّ علم الله فيه وعلم رسوله، فهؤلاء قد قالوا: إنّ الله خاطبنا عبثاً لأنّه خاطبنا بما لا نفهم، والله يقول: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (3).(4)

غير أنّا نلفت نظر القارىء إلى أنّ ما عاب به ابن تيمية أهل التفويض مشترك بينهم و بين أهل الإثبات، فقد عرفت أنّ إثبات الصفات الخبرية مع حفظ التنزيه تجعل الصفات ألفاظاً بلا معان واضحة، لما سبق من أنّ الكيفية المادية هي المقوّمة لليد والوجه والرجل، فإثبات مفاهيمها مع سلب كيفياتها أشبه شيء بإثبات شيء في عين سلبه، فعندئذ تنقلب الآيات البينات الدالّة على

____________________________

1 . البقرة:78.

2 . علاقة الإثبات والتفويض: 60.

3 . إبراهيم:4.

4 . الفتوحات المكية:4/928.

( 108 )

أشرف المعاني وأجلّها، لدى القوم، إلى آيات غير مفهومة ولا معقولة.

والعجب أنّ أحد المصرّين على الإثبات بصورة النمط الأشعري يحسبه عقيدة سلفية، ويقول في كتابه: إنّ صفات الله يجب أن تكون لدى المسلم بديهيات ذهنية تتغلغل في قلبه، فيتحرر من أي ضغط خارجي، لما لها من انعكاسات تربوية هامة على النفس البشرية _ إلى أن قال _ : إنّ الجهل بالله أمر خطير، وضرره على المسلمين كبير، لأنّ ذلك يؤدي إلى أن يكون عرضة للزلاّت، وأن يكون قلبه مورداً للشبهات ومستقراً للأوهام.(1)

إنّ السمة التي يثبتها الكاتب لصفات

الله، هل هي موجودة في قولهم: إنّ لله يداً لا كالأيدي، أو وجهاً لا كالوجوه، أو أنّ هذا لا يزيد في صفاته تعالى إلاّ غموضاً وتعقيداً، وتصبح العقيدة الإسلامية عند الواصف كالعقائد المتخذة من الكنائس التي يدّعي أصحابها أنّ الإيمان بها واجب، وإن لم يعلم كنهها، كما هو قولهم في التثليث ونظائره.

قال حنبل بن إسحاق: سألت أحمد بن حنبل: ألم ترو عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا؟ قال أحمد: نؤمن بها و نصدق ولا نرد شيئاً عنها إذا كانت الأسانيد صحاحاً _ إلى أن قال _ : قلت: أنزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد.(2)

إنّ سؤال ابن إسحاق أوضح دليل على أنّ الإثبات على النمط الذي يتبنّاه أهل الحديث لا يجعل العقيدة الإسلامية واضحة مفهومة، بل يجعلها مجهولة معقّدة. ولكن يجب الإيمان بها مهما كانت غير مفهومة ولا معقولة، و لا تَنْسَ ما رمى به ابن تيمية أهل التفويض بأنّهم اعتقدوا أنّهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم _ إلخ. ولا تنس أيضاً ما شن به ابن العربي على تلك الطائفة بقوله: إنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب، إنّهم قالوا: إنّ الله خاطبنا عبثاً بما لا نفهم.

____________________________

1 . علاقة الإثبات والتفويض: 15.

2 . شرح أُصول السنّة للألكائي كما في علاقة الإثبات والتفويض: 98.

( 109 )

إنّ المنهجين يرتضعان من ثدي واحد، لا فرق بينهما في المعنى واللب، وإنّما يختلفان في التعبير، فأهل التفويض يعترفون بجهلهم بمعاني هذه الصفات، وللتوقي عن التورط في مغبة التشبيه أو التقوّل بغير العلم، يفوضون معانيها إلى

الله.

وأمّا أهل الإثبات، فلو أنّهم صدقوا في قولهم بلا تشبيه ولا تكييف، فهم يعترفون بذلك م آلاً، وإن كانوا يجحدون بها ابتداءً.

وإذا أردت أن تقف على أنّ نظرية الإثبات على النمط الثاني تجعل المعاني السامية والمعارف العليا الواردة في الذكر الحكيم في عداد الألغاز والمبهمات و...، فانظر إلى ما يذكره عبدالقادر الجيلاني في «الغنية».

يقول الجيلاني: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنّه استواء الذات على العرش، لا على معنى القعود والمماسّة، كما قالت المجسّمة والكرامية، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشاعرة، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة; لأنّ الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة، ولا نقل من السلف الصالح من أصحاب الحديث، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق، وقد روي عن أُمّ سلمة زوج النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في قوله سبحانه: (الرّحمن على العَرْشِ استوى) (1) قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب والجحود كفر.(2)

فعندئذ نسأل الجيلاني: إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا ذلك مراداً، فما هو المراد من تلك الآية، والتي تكررت في الذكر الحكيم سبع مرات؟ وهل فهم الشيخ منها أمراً معقولاً أو أوكل الجميع إلى الله سبحانه؟

وكم للقوم من هذه الكلمات المفروغة في قوالب، وم آلها إلى الجهل بمفاهيم الآيات ومضامين الذكر الحكيم، وكأنّه سبحانه لم يخاطبهم بقوله:

____________________________

1 . طه:5.

2 . الغنية: 56.

( 110 )

(أَفَلا يَتَدَبّرونَ القُرآنَ) .(1)

التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير

إنّ أهل الإثبات بعامّة فروعه يرمون المعتزلة بالتعطيل، ويصفونهم ب_«المعطّلة» لتعطيلهم ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الأوصاف وجلائل النعوت، غير أنّه يجب إلفات نظرهم إلى أنّ أهل التفويض من أهل الإثبات من المعطلة

أيضاً، لكن بملاك آخر، وهو تعطيل العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول، كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر، وليس كتابه هداية وتعليم وإرشاد، قال تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلْيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء) .(2)

فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء، فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه، وكيف يكون المطلوب نفس الاعتقاد من دون فهم معناه.

إنّ المنع عن التفكّر والتدبّر فيما نزل من الذكر الحكيم، وما يحكم به العقل السليم محجوج بنص القرآن لا يقبل من أي إنسان، والاستدلال عليه بقول الشاعر أخذ بنغمة الشاعر، وترك لنص الباري:

نه_اي_ة إق_دام العق__ول مح__ال وأكث_ر سع_ي الع_المين ض_لال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال_وا(3)

والعجب أنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة، بحجة أنّ مبادئها ومقدّماتها ليست في متناول الباحثين، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة، ولا تعمل فيها حواس الإنسان، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه، ويعد ترك البحث فضيلة، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.

____________________________

1 . النساء:82.

2 . النحل:89.

3 . منسوب إلى الرازي كما في شرح العقائد الطحاوية: 227.

( 111 )

يقول: «وقد كان الأنبياء _ عليهم السَّلام _ أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية هذا العالم ومصيره، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته، وآتوهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، لا تعمل فيها حواسّهم ولا يؤدي إليها نظرهم،وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً،وأبدوا البحث آنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق

مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً.(1)

إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية التي تحصر أدوات المعرفة بالحس، ولا يقيم وزناً للعقل الذي هو إحدى أدواتها،وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة، وكشف قوانينها وأنظمتها، دعا إلى التعّقل والتفكّر في كلّ ما ورد في القرآن الكريم حيث قال:(أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها) .(2)

وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعا إلى التدبّر فيها نظير:

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء) (3)، (وَلله المَثَلُ الأَعْلى) (4)، (لَهُ الأَسماءُ الحُسْنى)(5)، (المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكبّرُ)(6)، (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) (7)، (هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ

____________________________

1 . ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 97.

2 . محمد:24.

3 . الشورى:11.

4 . النحل: 60.

5 . طه:8.

6 . الحشر:23.

7 . البقرة:115.

( 112 )

وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَليمٌ) (1)، (وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم) (2)، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ) (3)، (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ) .(4)

إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم، ولا يصل إليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل، ولا تكفي في التعرف عليها العلوم الحسية وإن بلغ القمة.

د. التأويل

إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها على الإطلاق في مورد الصفات الخبرية وغيرها بلا دليل وحجّة شرعية ليس بأقل خطراً من الجمود، لو لم يكن أكثر، إذ ينتهي ذلك القسم من التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة.(5)

غير أنّا نخص البحث بتأويل الصفات الخبرية حيث يفسر اليد بالنعمة والقدرة، والاستواء على العرش بالاستيلاء وإظهار

القدرة.

فنقول: إن كان التأويل لأجل أنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصريح ولذا يجب ترك النقل لأجل صريح العقل، فلا شكّ أنّه مردود، إذ الكتاب العزيز والسنة الصحيحة منزهان عمّا يخالف صريح العقل. ولا أظن أنّ مسلماً واعياً يتفوّه بذلك. وما ربما ينسب إلى بعض المؤولة من أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أُصول الكفر(6)، أو أنّ التمسّك في أُصول العقائد بظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة هو أصل الضلالة، فقالوا بالتشبيه

____________________________

1 . الحديد:3.

2 . الحجر:21.

3 . الحديد:4.

4 . الرعد: 39 .

5 . قد أشبعنا الكلام في أقسام التأويل في مقدّمة الجزء الخامس من موسوعتنا القرآنية _ مفاهيم القرآن _: ص 12_16.

6 . الصاوي على تفسير الجلالين:3/10، كما في علاقة الإثبات والتفويض: 67.

( 113 )

والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى: (الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى)(1)، فهو من هفوات القلم و زلاّت الفكر، بل الأخذ بظواهر الكتاب نفس الهداية والإعراض عنه واللجوء إلى غيره سبب الضلالة.

غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكبرى الكلية (لزوم الأخذ بالكتاب والسنّة الصحيحة) لا نقاش لمسلم فيها; فيجب على الكلّ اتّباع الذكر الحكيم من دون أي تحوير وتحريف، ومن دون أي تصرف وتأويل.

إنّما الكلام في الصغرى _ أي تشخيص الظاهر عن غيره، وتعيين مرمى الآية _ مثلاً: هل اليد في قوله سبحانه: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (2) ظاهرة في الجارحة المخصوصة، أو كناية عن الجود والبذل (بسط اليد) أو البخل والتقتير(غلّ اليد). وهذا هو الذي يجب بذل الجهد في سبيل معرفته، بدل السب والشتم، أو التفسيق والتكفير.

ولو أنّ قادة الطوائف الإسلامية وأصحاب الفكر منهم، نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة وركّزوا البحث على

تشخيص الظاهر عن غيره، حسب المقاييس الصحيحة; لارتفع جدال الناس ونقاشهم حول الصفات، الذي دام طوال مئات السنين.

إنّ رؤساء الطوائف الإسلامية في هذه الأعصار، لو ابتعدوا عن العصبية والحزبيةوالآراء التي ورثوها من أناس غيرمعصومين، وأحسّوا بضرورة توحيد الكلمة _ إثر كلمة التوحيد _ و رصّ الصفوف وتكاتف الجهود، لارتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

وبما أنّ المعتزلة هم المعنيون بالمؤولة تارة، وبالمعطلة أُخرى، نبحث عن هذا الموضوع(تعيين ما هو الظاهر المتبادر عند الذكي والأعرابي الحافي من الصفات الخبرية، الواردة في الذكر الحكيم) في الفصل الذي نخصّصه لبيان

____________________________

1 . شرح أُمّ البراهين: 82 كما في المصدر السابق.

2 . الإسراء:29.

( 114 )

عقائد هذه الطائفة، عسى أن نتوفق لذلك بإذنه سبحانه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ) .(1)

____________________________

1 . النساء:66.

( 115 )

أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه

أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه

قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني _ إلى أن قال _ : كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها،وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة.(1)

وقد ذكر في «الإبانة» في الباب الثاني: أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة، كما قال: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (2) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله)(3).(4)

وقال في «مقالات الإسلاميين» في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً.(5)

____________________________

1 . وفيات الأعيان:3/285;

فهرست ابن النديم: 257.

2 . الصافات: 96.

3 . فاطر:3.

4 . الإبانة: 20.

5 . مقالات الإسلاميين: 1/321.

( 116 )

وقد استدلّ الشيخ بالأدلّة العقلية والنقلية فاكتفى من الأوّل بوجهين:

الدليل الأوّل

ما ذكره في «اللمع » وحاصله:

1.الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب; والكفر متصف بالقبح، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.

2. إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.

3. كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.

4. لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب، وهو ليس كذلك، فينتج: إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه.(1)

وباختصار:إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية; والكفر قبيح باطل; ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً و متعباً، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه، هذا من جانب.

ومن جانب آخر: إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير

____________________________

1 . عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل، وما ذكرناه في المتن

ملخص مراده. راجع اللمع: 71_ 72.

( 117 )

الحقيقة التي يتصورها المؤمن والكافر، يستكشف أنّ الفاعل الحقيقي للإيمان والكفر، هو الله سبحانه. إذ لو كان الفاعل هو شخص المؤمن والكافر، وجب أن يتحقّق الإيمان والكفر على النحو الذي يريدانه، لا على الحقيقة التي هما عليها من الأوصاف والخصوصيات.

يلاحظ عليه:أوّلاً: أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام، والكفر على خلافه، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات; والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.

ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد، فالأمر على العكس. فالإيمان نور و ضياء للروح،والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية، ولا نطيل الكلام بذكرها،ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ) .(1)

ثانياً: لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء، فما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع.

ثالثاً: أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية، فالأُولى: كالبياض والسواد، والحرارة والبرودة، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك، والثانية: كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء، لا تحتاج إليه، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه، كما أنّه يوجد

____________________________

1 . الروم: 30.

( 118 )

ذات

الصغير لا وصفه، وإنّما الذهن يقوم بعمل الانتزاع عند المقايسة.

فالجسم الذي هو بقدر ذراع، أكبر من الجسم الذي على نصفه، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين: إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه، وهكذا في الجسم الصغير، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.

وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.

وإن شئت قلت: إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً، وهو ذاته لا شيئين: أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله: «إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن، مع أنّه في الواقع باطل قبيح، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع».

والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين، بالكل عنده شرعيّان.

الدليل الثاني

إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار، قائم في خلق حركة الاكتساب، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها، حدوثها، فكذلك القصة في حركة الاكتساب، وإن كان الذي يدلّ على خلقها، حاجتها إلى مكان وزمان، فكذلك قصة حركة الاكتساب، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله

تعالى، يجب به القضاء على

( 119 )

أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى، وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار.(1)

وحاصله: إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.

وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته، فيحكم باستنادها إلى الله، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان، وتأكيد انتسابها إلى الله.

نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.

إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله، و(الإيجي) في مواقفه، والتفتازاني في شرح مقاصده، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي... حرّروا المسألة بصورة واضحة، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.

أوّلاً: بحثوا عن المسألة تحت عنوان «أنّ الله قادر على كلّ المقدورات»

____________________________

1 . اللمع: 74_ 75.

( 120 )

أو «عموم قدرته لكلّ شيء» و أرادوا من «عموم القدرة»(1) أنّ كلّ موجود، واقع بقدرته

ابتداء، وإن توقف تأثيره في البعض على شرط، كتوقف إيجاده للعرض على إيجاده لمحله، لامتناع قيامه بنفسه.(2)

وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة، لا القدرة الشأنية، وإن لم يستعملها; فلو قيل: إنّ قدرته سبحانه عامة، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.

ثانياً: اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث، و بين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.

يقول الرازي: إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع، وهما بخلاف المقدورية، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض، افتقر إلى المخصص.(3)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح،ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب،ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات، فكلّ وجود،مسبب لما فوقه، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة، إلى السافلة، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة، فلكلّ حادث سبب،ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه; وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة

____________________________

1 . وقد يراد من «عموم قدرته تعالى»، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال: بعدم قدرته عليه، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل.

2 . هامش شرح المواقف

لعبد الحكيم السيالكوتي.

3 . المحصل: 298; شرح المواقف:8/60; شرح المقاصد:2/137.

( 121 )

متوسطة، بإذنه سبحانه وإرادته ومشيئته، و هذا هو المراد من التوحيد في الخالقية; فالخالق المستقل في خلقه، واحد. وخالقية غيره بإذنه وإقداره. وهذا المقدار من الاستناد يكفي في رفع حاجة الممكن من دون حاجة إلى أن يكون هناك استناد مباشر.

وباختصار: إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ: إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد«والفعل فعل الله وهو فعل العبد».

الحجج الأُخرى للأشاعرة

احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها:

الأوّل: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال،ه وهذا معنى قوله سبحانه: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) (1)، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله، بشهادة أنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع، كالإحراق الصادر من النار من غير علم، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد،

____________________________

1 . الملك:14.

2 . الأربعون للرازي: 231 _ 232، وشرح التجريد للقوشجي: 447 .

( 122 )

والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به يستلزم

العلم. ثمّ إنّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل، يوجده بالعلم التفصيلي، ولو كان قاصداً بالإجمال يوجده كذلك. فالفاعل للأكل والتكلّم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل، فيستلزم علم الفاعل به كذلك _ و في الوقت نفسه _ لا يقصد مضغ كلّ حبة، أو التكلّم بكلّ حرف وكلمة إلاّ إجمالاً، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.

كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم به تفصيلاً، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل، تابعين لأصل القصد وكيفيته.

الثاني: لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال، أو لا يقع واحد منهما، وهو أيضاً محال، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون، أو يقع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له، والعبد ليس كذلك، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى و قدرة العبد.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه، لا في المقام; أعني: إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة.(2)

والأولى أن يقال: إنّ قدرة

الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة، وليست صالحة للتأثير، لأنّ من

____________________________

1 . الأربعون للرازي: 232.

2 . كشف المراد: 16; شرح التجريد للقوشجي: 447.

( 123 )

شرائط القدرة الفعلية، أن لا تكون ممنوعة من ناحية بالغة كاملة، فتعلّق قدرته وإرادته بتحريك الجسم تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد، فإحدى القدرتين مطلقة، والأُخرى مشروطة.

الثالث: إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات، وعلى جميع مقدورات العباد _ و على هذا _ ففعل العبد: إمّا أن يقع بمجموع القدرتين _ أعني: قدرة الله وقدرة العبد _ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى،وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين، ولا يلزم منه محال، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه، ومفاضة منه، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.

وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات، ومنها أفعال العباد، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين:

1. إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام، فإنّه قال: لا يقدر على القبيح.

2. إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال، محققة بقدرة الله تعالى، وموجودة بحوله وقوته، لأنّ كلّ ما سواه ممكن، ولا غنى للممكن عن الواجب، لا في الذات ولا في الفعل، لكن تحقّق

الشيء بقدرته يتصور على وجهين:

أ: أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة، كما هو الحال في

____________________________

1 . الأربعون للرازي: 232.

( 124 )

الصادر الأوّل من العقول والنفوس والأنوار الملكوتية.

ب: أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد، قائمة بقدرته، وموجدة بحوله وقوته، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له، و أقدر عبده بهاعلى الفعل، فيكون الفعل فعل الله من جهة، وفعل العبد من جهة أُخرى.

وباختصار: إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير،والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل، والكلّ مخلوق له،ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فالأشعري، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني : فعل العبد في سلطانه.

والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين،ولا بمنعى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ)(1) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يطلب من محله، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق _ عليه السَّلام _ : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً».(2)

ثمّ إنّ

للأشاعرة في مسألة «خلق الأفعال» حججاً وأدلّة، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي و شرّاح التجريد، فراجع.

____________________________

1 . المدثر: 31.

2 . الكافي:1/183، باب معرفة الإمام، الحديث7.

( 125 )

نظرية الكسب ومشكلة الجبر

ولما كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مستلزماً للجبر، حاول الأشعري أن يعالجه بإضافة «الكسب» إلى «الخلق» قائلاً بأنّ الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب،وملاك الطاعة والعصيان، والثواب والعقاب هو «الكسب» دون الخلق، فكلّ فعل صادر عن كلّ إنسان مريد، يشتمل على جهتين«جهة الخلق» و «جهة الكسب» فالخلق والإيجاد منه سبحانه، والكسب والاكتساب من الإنسان.

والظاهر أنّ بعض المتكلّمين سبق الأشعري في القول بالكسب.

قال القاضي عبد الجبار: إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلق بنا. وقال: إنّما نحن كالظروف لها حتى أنّ ماخلق فينا، كان، وإن لم يخلق لم يكن.

وقال ضرار بن عمرو(1): إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب، فقد شارك جهماً في المذهب،وزاد عليه الإحالة.(2)

أقول: إنّ نظرية الكسب التي انتشرت عن جانب الإمام الأشعري مأخوذة عن ذلك المتكلّم المجبر، ونقلها العلاّمة الحلي في «كشف المراد» عن

____________________________

1 . ضرار: من رجال منتصف القرن الثالث وهو ضرار بن عمرو العيني قال القاضي في طبقاته: ص 13: كان يختلف إلى واصل، ثمّ صار مجبراً وعنه نشأ هذا المذهب.

2 . شرح الأُصول الخمسة: 363، وقد نقل الشيخ مقالة ضرار في كتابه مقالات الإسلاميين: 313 وقال: والذي فارق (ضرار بن عمرو) المعتزلة قوله: إنّ أعمال العباد مخلوقة وإن فعلاً واحداً لفاعلين، أحدهما خلقه وهو الله، والآخر اكتسبه وهو العبد، وإنّ الله عزّوجلّ فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهم فاعلون لها في الحقيقة....

(

126 )

النجار و حفص الفرد أيضاً.(1) وأخذ عنهم الأشعري على الرغم من ادّعائه أنّه يخالف المجبره ولا يوافقهم. غير أنّ الذي يجب التركيز عليه أمران:

الأوّل: ما هو الداعي لإضافة الكسب إلى أفعال العباد؟

الثاني: ما هو المقصود من كون الإنسان كاسباً والله سبحانه خالقاً؟

أمّا الأوّل: فلأنّ الأشعري من أهل التنزيه، وهو يناضل أهل التشبيه والتجسيم كما يخالف المجبرة. ولمّا كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه لا غير، مستلزماً لوقوع الشيخ الأشعري و من لفّ لفّه في مشكلة عويصة_ إذ لقائل أن يقول: إذا كان الخالق هو الله سبحانه فلابدّ أن يكون هو المسؤول لا غير، وحينئذ يبطل الأمر والنهي والوعد والوعيد، وكلّ ما جاءت به الشرائع السماوية _ لجأ الأشعري وأضرابه لأجل الخروج عن ذلك المضيق إلى نظرية «ضرار» معتقدين بأنّهم يقدرون بها على حل العقدة، وقالوا: إنّ الله سبحانه هو الخالق، والإنسان هو الكاسب، فلو كان هناك مسؤولية متوجّهة إلى الإنسان فهي لأجل كسبه وقيامه بهذا العمل.

هذا هو الحافز والداعي لتبنّي نظرية الكسب لا غير.

وأمّا الثاني: _ أعني: ما هي حقيقة تلك النظرية _ فقد اختلفت كلمات الأشاعرة في توضيح تلك النظرية اختلافاً عجيباً، فنحن ننقل ما ذكروه باختصار:

1. نظرية الكسب والشيخ الأشعري

قبل أن نقوم بنقل ما ذكره تلاميذه نأتي بنص عبارة الشيخ في «اللمع»، يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية: لماّ كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً، لأنّ حقيقة الكسب هي أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة.(2)

____________________________

1 . كشف المراد: 189 الفصل الثالث من الإلهيات، ط لبنان.

2 . اللمع: 76.

( 127 )

وحاصله أنّ صدور الفعل من الإنسان في ظل قوة محدثة هو الكسب.

يلاحظ

عليه: أنّ ظاهر العبارة هو صدور الفعل بسبب قوة محدثة من الله في العبد، وعليه يكون الفعل مقدوراً للعبد ومخلوقاً له،ومعه: كيف يمكن أن يكون في عرضه مقدوراً لله ومخلوقاً له؟!

وبعبارة ثانية: إمّا أن يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير في تحقّق الفعل أو لا؟فعلى الأوّل يكون الفعل مخلوقاً للعبد، لا لله سبحانه، وهو ينافي الأصل المسلّم عند الأشعري ومن قبله من الحنابلة، من أنّ الخلق بتمام معنى الكلمة راجع إليه سبحانه،ولا تصحّ نسبته إلى غيره، وعلى الثاني:يكون الفعل مقدوراً مخلوقاً لله سبحانه،من دون أن يكون لقدرة العبد دور في الفعل والإيجاد. وعندئذ يعود الإشكال وهو: إذا كان الفعل مخلوقاً لله كيف يكون المسؤول هو العبد؟!

وباختصار: إنّ العبارة المذكورة عبارة مجملة، وهي على فرض القول بتأثير قوة العبد في عرض قدرة الله سبحانه أو طولها، يستلزم إمّا اجتماع القدرتين على مقدور واحد _ إذا كانت القدرتان في عرض واحد _ أو كون الفعل مقدوراً للقدرة الثانية، أعني: قدرة العبد _ إذا كانت القدرتان طوليتين _ و على فرض عدم تأثير قدرة العبد، و كون الفعل متحقّقاً بقدرته سبحانه عند حدوث القدرة في العبد، يعود الإشكال بعينه، ولا تكون للكسب واقعية أبداً.

والظاهر من المحقّق التفتازاني ترجيح الشق الأوّل في تفسير كلام الأشعري، حيث قال في شرح العقائد النسفية: فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلاّكونه موجداً لأفعاله بالقصد الإرادة،وقد سبق أنّ الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها، ومعلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين، قلنا:لا كلام في قوّة هذا الكلام ومتانته، إلاّ أنّه لما ثبت بالبرهان أنّ الخالق هو الله تعالى (هذا من جانب)و (من جانب آخر) ثبت بالضرورة أنّ لقدرة العبد

وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال، كحركة اليد، دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى

( 128 )

القول بأنّ الله تعالى خالق،والعبد كاسب.(1)

ولا يخفى أنّ القول بتأثير قدرة العبد لا يجتمع مع ما ثبت بالبرهان عندهم من أنّ الخالق هو الله تعالى، فعلى مذهبه يقع التعارض بين ما ثبت بالبرهان ومااختاره من الأصل.

ثمّ الظاهر من الفاضل القوشجي هو اختيار الشق الثالث. أي عدم تأثير قدرة العبد في الفعل حيث قال: والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته و إرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً لهو.(2)

وعلى ما ذكره ذلك الفاضل لا يكون هنا للعبد دور إلاّ كون الفعل صادراً من الله وموجداً بإيجاده، غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع صفة من صفات العبد، وهما صيرورته ذا قدرة غير مؤثرة بل معطلة،عن إيجاد الله تعالى الفعل في الخارج.

أنشدك بوجدانك الحر،هل يصحّ تعذيب العبد، بحديث المقارنة، ألا بعد ذلك من أظهر ألوان الظلم، المنزة سبحانه عنه؟!

قال القاضي عبد الجبار: : إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية، وإنّه أظهر أنّما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه، و يوهم أنّه مصيب فيه، وأنّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر،ومشى ذلك في ملوك بني أُمية.

وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان _ رحمه الله _ ، ثمّ نشأ بعدهم يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف ما لايطاق.(3)

وقال الدكتور«مدكور» في تصديره للجزء الثامن لكتاب المغني للقاضي عبد الجبار : إنّ هناك صلة وثيقة بين الحياة السياسية ونشأة الفرق والآراء الكلامية، ولكن الوشاية والدس هما الّلذان قضيا على غيلان _ فيما يظهر _ أكثر

____________________________

1 . شرح العقائد النسفية:

115.

2 . شرح التجريد للفاضل القوشجي: 445.

3 . المغني:8/4.

( 129 )

من قوله بالاختيار، بدليل أنّ عمر بن عبد العزيز سبق له أن جادله ولم يوقع عليه عقاباً، ولعلّ من هذا أيضاً ما قيل عن معبد الجهني، وجهم بن صفوان، وأغلب الظن أنّهما قتلا لأسباب سياسية لا صلة لها باللدين.(1)

قال الراغب في محاضراته: خطب معاوية يوماً فقال:إنّ الله تعالى يقول:(وَمامِنْ شَيء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم) فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال: إنّا لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينامن خزائنه، فأغلقت بابك دونه يا معاوية.(2)

2. نظرية الباقلاني في تفسير الكسب

«تأثير قدرة الإنسان في ترتّب العناوين على أفعاله».

قد قام القاضي الباقلاني (3) من أئمّة الأشاعرة بتفسير نظرية صاحب المنهج بشكل آخر، وقال ما هذا حاصله: الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال: إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا: أوجد،وبين قولنا: صلّى و صام وقعد و قام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد، جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة، وأثرها هو الحالة الخاصة، وهو جهات من جهة الفعل، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب، فإنّ الوجود من حيث هو

____________________________

1 . المغني:8/ه_، المقدّمة.

2 . الكشكول لبهاء الدين العاملي: 429، ط عام 1321ه_ _ الحجرية.

3 . القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّى عام 403

ه_ ) من مشاهير أئمّة الأشاعرة في بغداد، وله تأليفات، وقد طبع منها: 1. التمهيد، 2. الإنصاف في أسباب الخلاف، 3. إعجاز القرآن.

( 130 )

وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب، خصوصاً على أصل المعتزلة، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال: فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة، ومن قال هي حالة مجهولة، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها،وعرّفنا أيّ شيء هي، ومثّلناها كيف هي.(1)

وحاصل كلامه الذي قمنا بتلخيصه: هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد، حادثة بها، وإن كان وجود الفعل حادثاً سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه: أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين: إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية، وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية، فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب والعقاب.

وباختصار: إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود،فحينئذيكون مخلوقاً لله سبحانه، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل; أو لا تكون له تلك الواقعية، بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتى يثابه أو يعاقب.

3. نظرية الغزالي في تفسير الكسب

«صدور الفعل من الله عند حدوث القدرة في العبد».

____________________________

1 . الملل والنحل:1/97_ 98.

( 131 )

إنّ الغزالي من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل

القرن السادس، وقد اختار في تفسير الكسب نظرية صاحب المنهج، وقام بتوضيحه بكلام مبسوط نذكره باختصار، قال: ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة، والحركة الاختيارية، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد والحيوانات والملائكة والجن والشياطين، و زعمت أنّ جميع ما يصدر منها، من خلق العباد واختراعهم، لا بقدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاد، فلزمتها شناعتان عظيمتان:

إحداهما: إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله، ولا مخترع سواه.

والثانية: نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها، ثمّ قال: وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد المتعلقتين على شيء واحد غير محال، كما نبينّه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين، وحاصل ما أفاد هو: إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتها وقوع الفعل في الخارج، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى،وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد.(1)

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً، دون الثاني، فاستعير لها

____________________________

1 . وأوضح التفتازاني تلكما الجهتين في مقاصده وقال: لما بطل الجبر المحض بالضرورة، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل، وجب الاقتصاد في الاعتقاد. وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من

التعلّق يعبر عنه عندنا بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع... شرح المقاصد: 127.

( 132 )

النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى.(1)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله: كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور، فإنّ تعلّق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد و حصول المقدور بها .

وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع، نظير تعلّق الإرادة بالمراد، والعلم بالمعلوم، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم، فإذاً لابدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب جديدوحاصله يتلخّص في كلمتين:

1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

2. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود، والإيقاع والوقوع، بل هناك جهة أُخرى نعبر عنها بالكسب _ فالعبد مصدر لهذه الجهة، وبذلك يسمّى كاسباً _ .

ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد، ومعه لا يتحمّل مسؤولية، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلّم الإنسان إلى نزول المطر إلى الصحراء، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث رد على المجبرة بوجدان الفرق بين

____________________________

1 . وإليك نصّ عبارة الغزالي: لما كانت القدرة (قدرة العبد) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى: سُمّي خالقاً ومخترعاً، ولما لم يكن

المقدور بقدرة العبد وإن كان معه، فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً. الاقتصاد في الاعتقاد: 92.

2 . الاقتصاد:92_ 93.

( 133 )

الحركتين، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّفي ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.

وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف، فلا يصحّ أن يكون مؤثراً في المعلوم وموجداً له، ولكن واقعية القدرة والسلطة واقعية الإفاضة والإيجاد، فلا يتصور خلعها عن التأثير مع فرضها قدرة كاملة وبصورة علة تامة.

والمنشأ لهذه الاشتباهات والتناقضات هو العجز عن تفسير الأصل المسلّم من أنّه لا خالق إلاّ الله تعالى، حيث إنّ الأشاعرة فسّروه بحصر الخلق والإيجاد والتأثير في ذاته سبحانه، ونفي أيّ تأثير ظلي أو إيجاد حرفي لغيره. فصوّروه سبحانه وتعالى، الفاعل المباشر لكلّ ماجلّ ودقّ في عالم المجرّدات والماديات، فصارت ذاته قائمة مقام العلل الطبيعية والأسباب المادية، فعند ذلك وقعوا في ورطة الجبر ومشكلة إضطرار العبد.

ولكن الحقّ في تفسير الأصل المذكور هو غير ذلك، وحاصله: إنّ قصر الخالقية المستقلة بالله سبحانه، لا ينافي قيام غيره بأمر الخلق والإيجاد بإذنه سبحانه وإقداره، وقد شهدت الدلائل العقلية بصحّة هذا التفسير، كما نطقت الآيات في الذكر الحكيم بتأثير جملة من العلل الطبيعية في معاليلها، لكن بإذن منه سبحانه وإقدار له، فليس للتوحيد في الخالقية معنى غير ذلك، وسيوافيك تفسيره.

4. نظرية التفتازاني في تفسير الكسب

«توجه قدرة العبد على الفعل عند صدوره من الله».

إنّ المحقّق التفتازاني جنح في تفسيره إلى ما نقلناه عن الغزالي، ولخّص كلامه على ما عرفت في التعليقة.

ولكنّه في «العقائد النسفية» قام بتفسير الكسب بوجه واضح. وهو أنّ

( 134 )

صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل

عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد، ومقدور العبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار.(1)

ومراده من الصرف هو توجه القدرة إلى الفعل وإن لم تكن مؤثرة في المقدور، فمجرّد التوجيه من غير دخل في وجود الفعل، كسب.

ويرد عليه ما أوردناه على الغزالي من أنّ القدرة غير المؤثرة لا تورث المسؤولية ولا تصحح العقاب والثواب، إلاّ أن يكون الجزاء على نفس العزم والإرادة، لا على الفعل وهو كما ترى.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حدّ أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيره حيث قال: «وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة...».

5. نظرية تخصيص ما دلّ على حصر الخلق بالله

إنّ هناك نظرية خامسة في حلّ مشكلة الجبر نقلها شارح العقيدة الطحاوية عن صاحب كتاب «المسايرة»(2) وحاصلها: إنّ ما دلّ على حصر الخلق بالله يخصص بما سوى العزم، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه، وهو خالقه، إلاّ العزم على الطاعة والعصيان، فالخالق له هو العبد.

وقال في ذلك المجال ما هذا نصّه: فإن قيل: لا شكّ أنّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة

____________________________

1 . شرح العقائد النسفية: 117.

2 . تأليف الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى م 861ه_) ولكتابه هذا شروح.

( 135 )

والرعدة الضرورية، والقدرة ليست خاصيتها إلاّ التأثير، فوجب تخصيص عمومات النصوص بما سوى أفعالالعباد الاختيارية، فيكونون مستقلين بإيجاد

أفعالهم بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى إيّاها كما هو رأي المعتزلة والفلاسفة. وإلاّ كان جبراً محضاً فيبطل الأمر والنهي.

قلنا: إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث إلى القدرة القديمة بالإيجاد، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصص أمر عقلي، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي. ثمّ أوضح ذلك بقوله: لو عرف الله تعالى العبد العاقل أفعال الخير والشر، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه. وترك الشر وأوعده عليه، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكل إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحة التكليف وجب التخصيص، وهو لا يتوقف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد، بل يكفي لنفيه أن يقال: جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار، بخلق الله تعالى، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محل قدرته، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمماً بلا تردد، فإذا أوجد العبد ذلك العزم خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه، وإلى العبد من حيث هو زنى و نحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر

الواحد. أعني: العزم المصمّم، وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى و متأثرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة.(1)

____________________________

1 . شروح العقيدة الطحاوية: 122 _126 نقلاً عن «المسايرة» لاحظ شرحها 98.

( 136 )

يلاحظ عليه: أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص،وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه، متدلّ به، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية و الأفعال القلبية، أعني: العزم والجزم، فالكل ممكن، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده وتحقّقه، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.

نعم، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرّقون بين الخالق على وجه الاستقلال والخالق على الوجه التبعي لما صعب عليهم المقام.

6. نظرية ابن الخطيب في تفسير الكسب

«قدرة الله مانعة عن قدرة العبد».

وإليك نصّ عبارته: إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد، لأنّه إيجاد من عدم، والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.(1)

فالقدرة الحادثة تتعلّق ولا تؤثر، وهي _ أي القدرة الحادثة _ تصلح للتأثير لولا المانع، وهو وجود القدرة القديمة، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير.(2)

____________________________

1 . العبارة لا تخلو من حزازة، والصحيح أن يقال: لعموم تعلّق القدرة القديمة به، أي بالفعل.

2 . القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب: 187 نقلاً عن «الفلسفة والأخلاق» للسان الدين بن الخطيب قال: يرى لسان الدين بن الخطيب أنّ الكسب فعل يخلقه

الله تعالى في العبد كما يخلق القدرة والإرادة والعلم، فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه، وإلى العبد كسباً لأنّه محلّه الذي قام به، ثمّ نقل العبارة التي نقلناها في المتن.

ولا يخفى أنّه لو كان الكسب أيضاً فعلاً مخلوقاً لله سبحانه، تكون المحاولة المذكورة فاشلة، إذ عندئذ يكون الخلق والكسب كلاهما من جانبه سبحانه، فلاحظ.

( 137 )

وحاصل هذه النظرية أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لولا المانع، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة. ولولا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل، فلا معنى لإلقاء المسؤولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسؤولاً عن الفعل المحقّق فيه، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ثانياً: أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لولا سبق المانع وهو القدرة القديمة، ومع ذلك ليس بتام.

وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو صحّ فرض كونه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني، فعند ذاك يصحّ جميع ما يتصوّر من أنّ القدرة في الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق، وأنّها عاطلة وباطلة خلقت عبثاً وسدى، ولكنّه لم يثبت،بل الثابت خلافه، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلّف من أسباب ومسببات، وكلّ مسبب يستمد _ بإذنه سبحانه _ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.

وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين، بل تصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى،

مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه، حتى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم :(وَللّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرضِ وَكانَ اللّهُ عَليماً حَكيماً) (1)، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ

____________________________

1 . الفتح:4.

( 138 )

هُوَ) .(1)

ثالثاً: أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد، فلأجل ذلك يتصور تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد،وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما، ولا يلبزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين، لا محذور التزاحم والتمانع، ولا محذور اجتماع القدرتين التامّتين على مقدور واحد، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه، واختيار نابع عن ذاته، وحرية هي نفس واقعيته وشخصيته، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته، وما يحف به من الخصوصيات قائمة بذاته سبحانه، متدلّية بها، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة منها، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه، كما قال سبحانه:(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى)(2)، (وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله).(3)

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها

إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم، وما نشر عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ حولها،وعليه «فالفعل فعل الله وهو فعلنا».(4)

____________________________

1 . المدثر:31.

2 . الأنفال:17.

3 . الإنسان:30.

4 . شرح المنظومة للسبزواري: ص 175 اقتباس من قوله فيها:

لكن كما الوجود منسوب لنا والفعل فعل الله وهو فعلن_ا

( 139 )

حصيلة البحث

هذه هي النظريات المطروحة حول قدرة العبد على الكسب، وقدعرفت أنّ في الجميع إبهاماً وإجمالاً، ولا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تحل بها عقدة الجبر. وقد بلغت نظرية الكسب من الإبهام إلى حدّ عدّت من إحدى المبهمات الثلاثة التي لم يقف أحد على حقيقتها. وفي ذلك يقول الشاعر:

ممّ_ا يق_ال ولا حقيق_ة عن__ده * معق_ولة ت_دن_و إل_ى الأفه_ام

الكسب عند الأشعري والحال * عند البهشمي وطفرة النظام(1)

فعد الشاعر نظرية الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية «الحال» عند المعتزلة و«الطفرة» عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه:

قال: إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طرفين:

أحدهما: بأن يتبيّن فساده بالدلالة.

والثاني: بأن يتبيّن أنّه غير معقول في نفسه، وإذا تبيّن أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوفرة، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى، فلمّ في واحد من هذه الطوائف، على اختلاف مذاهبهم، وتنائي ديارهم، وتباعد أوطانهم، وطول مجادلتهم في هذه المسألة، من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهّمه، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده

والإخبار عنه ألبتة.

وممّا يدلّ على أنّ الكسب غير معقول، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب _ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه _ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات، وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه. فلمّا لم شيء من اللغات ما يفيده هذه الفائدة،

____________________________

1 . القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب: 185.

( 140 )

دلّ على أنّه غير معقول.(1)

قال الشيخ المفيد:

ثلاثة أشياء لا تعقل،وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام:

1. اتحاد النصرانية.

2. كسب النجارية.

3. أحوال البهشمية.

وقال الشيخ: ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى _ في واحد منها _ معقول، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد، ليعلم أنّ خلاف ما حكما به هو الصواب وهيهات.(2)

7. مالبرانس الفرنسي ونظرية الكسب (1631_ 1715م)

ثمّ إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي«مالبرانس» يتحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف و من المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب،وحاصل ما قال:

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله،ولكن يظهر على نحو ما يظهر، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتى لكأنّها يخيل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتفاقية، أو نظرية الظروف

____________________________

1 . شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 364_ 366.

2 . حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة «تراثنا» العدد3، من السنة الرابعة، ص118.

( 141 )

والمناسبات، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث،وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة(بالكسر) له إذا أراد العبد وتجرد له، ويسمّى

هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله، وكسباً من العبد، عندما يقع في متناول قدرته واستطاعته، من غير تعلّقه عليه».(1)

وقد نقل ذكاء الملك نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلية والمعلولية بين الأشياء، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر، فذلك إدراك سطحي، والمحدث هو الله سبحانه، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك،ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن، فالمحرك هو الله سبحانه و إرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه.(2)

ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب، واختلافها بالشدة والضعف، فعندئذ لا معنى لأن يختص التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقة.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي أوّلاً، وصريح الذكر الحكيم ثانياً، والفطرة السليمة الإنسانية ثالثاً، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محله.

8. نظرية إمام الحرمين

«الاعتراف بتأثير قدرة العبد في طول قدرة الله».

إنّ الأشاعرة، وإن أصرّوا على نظريتهم في أفعال العباد طوال قرون، ولم يتجاوزوا ما رسمه لهم شيخهم في هذه المسألة إلاّ شيئاً يسيراً، كما عرفته عند

____________________________

1 . القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب: 182.

2 . سير الحكمة في أُوروبا:2/24_ 25.

( 142 )

البحث عن نظرية الباقلاني، غير أنّه وجد فيهم من أدرك خطورة الموقف، وجفاف النظرية، ومضاعفاتها السيئة، وتخبّط القوم تخبّطاً واضحاً في المسألة، فنقض كلّ ما أبرموه وأجهر بالحقيقة، ونخص بالذكر هنا شخصيات جليلة يعدّون من مشاهير العلم ورجال الفكر:

أ. إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وهو من أعلام القرن الخامس. فقد صرح _ كما

يظهر من العبارة التالية _ بتأثير قدرة العباد في أفعالهم، وأنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه و إقداره، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات،وكلّ مسبب يستمد من سببه المقدم عليه، وفي الوقت نفسه، ذاك السبب يستمد من آخر، إلى أن يصل إلى الله سبحانه، وإليك نصّ عبارته:

إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل، فهو كنفي التأثير، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار، يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب، كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب، وهو الخالق للأسباب، ومسبباتها _ المستغني على الإطلاق _ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر.(1)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا:وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيين، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبب _ على أصله _ بالفعل والقدرة (قدرة الإنسا من الحوادث فذلك حكمة، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً، وليس ذلك مذهب الإسلاميين،

____________________________

1 . الملل والنحل:1/98_ 99.

( 143 )

كيف، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم.(1)

هذا هو ما علّق به الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه، وهو غير صحيح.

فإنّ المراد من العلية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدل، بل المراد هو تفاعل الأجسام الطبائع، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه، كانقلاب الماء إلى البخار، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحس والعلم.

وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزهر والشجر، فليست مستندة إلى نفس الطبائع، بل الطبائع معدّات وممهّدات لنزول هذه الصور من علل عليا، كشف عنها الذكر الحكيم عندما صرح بأنّ لعالم الكون مدبّرات يدبّرونه بإذنه سبحانه، قال: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً).(2)

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود» لا «ما منه الوجود»، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة، لا بالمعنى الثاني، أعني: إفاضة الوجود والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه، فإنّ الخلق فيض يبتدئ منه سبحانه، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.

وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين، لما اعترض على كلام إمام الحرمين _ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين _ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك، وقد عرفت قضاء القرآن العقل في ذاك المجال.

____________________________

1 . المصدر نفسه.

2 . النازعات:5.

( 144 )

9. نظرية الشعراني

ب: إنّ الشيخ الشعراني _ و هو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر _ أحد من وقف على أنّ العقيدة بالكسب لا تفارق الجبر قدر شعرة، فلأجل ذلك يقول:

«اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدق مسائل الأُصول وأغمضها، ولا يزيل أشكالها إلاّ الكشف الصوفي، أمّا أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول: ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون: إنّ لها تأثيراً ما، وهو اختيار الباقلاني، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال، لم يجد جواباً. وقال: إنّا نلتزم بالكشف لأنّه ثابت بالدليل، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثّل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر:

إذا لم يك_ن إلاّالأسنّ_ة* مركب_اً فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال:ملخّص الأمر: أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد، فقد عاند، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل، فقد أشرك; فلابدّ أنّه مضطر على الاختيار.(1)

هذا، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب. ولكن الاجالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول. أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

10. نظرية مفتي الديار المصرية

«الإنسان يقدر فعله ويصدرها بقدرته المتكسبة».

ج. الشيخ محمد عبده(1266_ 1323ه_) قد خالف الرأي العام عند الأشاعرة، وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله، ولم يبال في ذلك بأحد من معاصريه، ولا بأحد من رجال الأزهر الذين كانوا يرددون في ألسنتهم قول القائل:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة * ف_ذاك كفر عند أه_ل الملة

أقول: إنّ الشيخ الأزهري«عبده» كان يعيش في عصر رفعت فيه المادية الغربية عقيرتها ضد الإلهيين عامة والإسلاميين خاصة،

وشنّت حملة شعواء على عقائدهم. وكانت أرض مصر أوّل نقطة من الأراضي الإسلامية عانت من بث سموم المادية القادمة من الغرب مع احتلال

____________________________

1 . اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر: للشعراني: 139_ 141.

( 145 )

الفرنسيين لها بقيادة نابليون.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري، وكان إنكار العلية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب، وكان التفوّه بخلافه آية الإلحاد والكفر، وقد شن الماديون على هذه العقيدة أُمور ملأوا بها صحفهم وكتبهم، منها:

1. أنّ الإلهيين لا يعترفون بناموس العلية والمعلولية، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها، مع أنّ العلم _ بأساليبه التجريبية المختلفة _ يثبت ذلك بوضوح.

2. أنّ الإلهيين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى، وهم يقيمونه مقام جميع العلل، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه، وأحياناً إلى العوالم العلوية التي يعبر عنها بالملك والجن والروح.

3. أنّ الإلهيين _ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه _ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث، فلأجل ذلك لا يؤثر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيّره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة، التي لا تقف عند حد.

وقد وقف الشيخ على خطورة الموقف، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري بنفسه

( 146 )

اللوم والذم، بل الأمر الأشد من ذلك، في سبيل إظهاره الحقيقة، حتى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

نعم، قد أثر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع عاملان كبيران، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، وهما:

1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام

أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ .

2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسد آبادي (1254_ 1316ه_).

فعلى ضوء هذين العاملين، خالف الرأي العام في كثير من الموارد، ومنها أفعال العباد، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303ه_ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إلى بيروت_ :

«يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه،ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه، ويعدّ إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد ذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس... وعلى ذلك قامت الشرائع،وبه استقامت التكاليف،ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، وهو عقله الذي شرّفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

أمّا البحث في ما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته، و بين ما تشهد به البداهة من عمل المختار في ما وقع عليه الاختيار، فهو من طلب سر القدر الذي نهينا عن الخوض فيه، و الاشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه. وقد خاض فيه الغالون من كلّ ملة، خصوصاًمن المسيحيين والمسلمين، ثمّ لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفاً حيث ابتدأوا، وغاية ما فعلوه أن فرّقوا وشتّتوا، فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله

( 147 )

واستقلاله المطلق، وهو غرور ظاهر(1)، ومنهم من قال بالجبر وصرح به. ومنهم من قال به و تبرّأ من اسمه.(2) وهو هدم للشريعة، ومحو للتكاليف،وإبطال لحكم العقل البديهي، وهو عماد الإيمان.

ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك

بالله _ و هو الظلم العظيم _ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به في مالا يقدر العبد عليه...

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين،هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية:

الأوّل: أنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

والثاني: أنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات، وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده، وأن لا شيء سوى الله يمكنه أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع هّمته إلى استمداد العون منه وحده، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم،وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني _ رحمه الله _ ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه.(3)

ثمّ إنّ الركب بعد لم يقف، وإنّ هناك لفيفاً من المفكّرين أدركوا مرارة القول بالجبر، وأنّ القول بالكسب لا يسمن ولا يغني من جوع، فرجعوا إلى القول بالأمر بين الأمرين،وإن لم يصرحوا باسمه، ونأتي في المقام بنصّ عالمين كبيرين من شيوخ الأزهر وعلمائه:

____________________________

1 . يريد المعتزلة.

2 . يريد الأشاعرة.

3 . رسالة التوحيد: 59_ 62 بتلخيص.

( 148 )

11. الزرقاني وأفعال العباد

د. وممّن اعترف بالحق، الشيخ عبد العظيم الزرقاني قال:

ولنقف برهة بجانب هذا المثال، مثال خلق الأفعال، ليتضح الحال، ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه، ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا

مع خلافهم، إخواناً مسلمين، تظلّهم راية القرآن، ويضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء، وأنّ مرجع كلّ شيء إليه وحده، وأنّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه، مثل قوله عزّوجلّ:

(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء* هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ* وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ* وَإِليهِ يَرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ* مَنْ يشأ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشأ يَجْعَلْهُ عَلى صِراط مُسْتَقيم *وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ *ولَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً واحِدة* وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلُّهُمْ جَميعاً* وَلَوْ أَنّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيء قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله* إِنّا جَعَلنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِمْ وَقْراً *وَجَعَلنا مِنْ بَيْنِ أَيدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ* سَواءٌ عَلَيهِمْ أَ أَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ* فَمَنْ يرِد الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء* لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ* وَما رَمَيْتَ إِذ رَمَيْتَ وَلكِنّ الله رَمى)

وكذلك يقول النبي:

«إن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» .

ويقول: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».

و يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» إلى غير ذلك.

( 149 )

هذه النصوص وأمثالها، إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد الأُمور كلّها إلى الله معتقداً أنّه الواحد الأحد، لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه، وهي أفعال

التكليف من عباده، وكأنّ نسبة الأفعال إلى العباد هي الأُخرى محض فضل من الله، على حدّ ما قال ابن عطاء الله: من فضله وكرمه عليك، أن خلق العمل ونسبه إليك.

ويظاهر هذه الأدلّة النقلية أدلّة أُخرى عقلية، ناطقة بوحدانية الله في كلّ شيء وبأنّ العبد لا يعقل أن يكون خالقاً لما اختاره من أفعاله، لأنّه لو كان خالقاً لها لكان عالماً بتفاصيلها، ولكنّه يشعر من نفسه بأنّه تصدر عنه أشياء كثيرة جداً من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها، كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها. وإذاً فليس العبد هو الخالق لها(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ؟

بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة، تنسب أعمال العباد إليهم، وتعلن رضوان الله وحبه للمحسنين فيها، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم من ذلك قوله سبحانه:

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها* أَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيئاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُُمْ وَلا يَرضَى لِعِبادِهِ الكُفْرِ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرضَهُ لَكُمْ* وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لي عَمَلي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَريئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَريءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ* قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُون*قُلْ يا قَومِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّي عامِلٌ فَسَوفَ تَعَلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّار إِنّه لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ *وَمَاكانَ رَبُّكَ لِيُهِلكَ القُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِم الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَّبِئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *وَتِلْكَ الجَنّة الّتي أُورِثْتُمُوها بِماكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .

وكذلك نقرأ في السنة النبوية: «اعملوا فكلُّ مُيَسَّر لما خلق

له. بادروا

( 150 )

بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، يا عباس بن عبد المطلب، اعمل لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً، إلى غير ذلك.

وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم، معتقداً أنّهم لا يستحقّون ثوابها إن أحسنوا، وعقابها إن أساءوا. ويظاهر هذه الأدلّة النقليّة أدلّة عقليّة أيضاً شاهدة بعدالة الله وحكمته، لأنّ العبد لو لم يكن موجداً لما اختار من أعماله، لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة. وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.

غيري جنى وأنا المعذّب فيكم * فك_أنّني سب__اب__ة المتن__دم

أهل السنة بهرتهم النصوص الأُولى والأدلّة العقلية التي بجانبها، فرجّحوها وقالوا:

إنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية، إنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم: كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا و ما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا: إنّ العباد _ و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم _ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق، وحملوا الثانية على الكسب، جمعاً بين الأدلّة. ثمّ إذا قيل لهم: ما هذا الكسب؟ اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده، أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمّم؟ولكلّ وجهة نظر، يطول شرحها وتوجيهها.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان العقل، فرجّحوها وقالوا:

إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم: أليس الله خالق كلّ شيء ومنها

أعمال العبد؟

قالوا: بلى إنّه خالق كلّ شيء حتى أعمال عباده

( 151 )

الاختيارية، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلّق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده، ولكن على سبيل المجاز، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

وإذا قيل لهم: إنّ مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله، وهم عباده المكلّفون،وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية.

قالوا: لا نسلّم هذا ولا نقول به، فإنّ الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره، إنّما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنّة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم، فإنّها لا تشبه أفعال الله بحال.

هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلاً سائغاً فيما تؤوِّله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجّحتها،ونجد أيضاً أنّ كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأُخرى أن تلزمها إيّاه في مقام الحجاج والجدال، بل توجه رأيها توجيهاً ينأى بها عن الوقوع في المحظور. ثمّ نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيراً بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقادالسديد بوحدانية الله وحكمة الله، ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.

فكيف يرضى منصف إذاً بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو

شرك أو هوى؟ وماذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أنّ الرحمن الرّحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.

( 152 )

وقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله. ويؤمنون بقدره وأمره. ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في أمثال أمره، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه، لأنّهم لم يكلّفوه، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إياه، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه «وما أُوتيتم من العلم إلاّقليلاً».

لم يمتحنّ_ا بم_ا تعي_ا العقول ب_ه * حرص_اً علينا فلم نرتب ولم نهم(1)

12. الشيخ شلتوت وأفعال العباد

ه_. إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي، لا تأخذه في الله لومة لائم، فإذا شاهد الحقّ أجهر به،ولا يطلب رضى أحد، ولا يخاف غضب آخر، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل، قال:

وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة، وعرفت عندهم بمسألة الهدى والضلال، أو بمسألة الجبر والاختيار، أو بمسألة خلق الأفعال،وكان لهم فيها آراء فرقوا بها كلمة المسلمين،

وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة، والتكفير والتفسيق، وما كان الله _ و آيات بيّنات واضحات _ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده، وداروا حوله، ودفعوا الناس إليه.

____________________________

1 . مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني:1/506_ 511، والشعر من قصيدة البوصيري في مدح النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

( 153 )

وهذا فريق منهم يرى: أنّ العبد لا اختيار له في فعل ما، وهو مجبور ظاهراً وباطناً، فالهداية تلحقه بخلق الله، والضلال يلحقه بخلق الله، دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله، لا ابتداءً ولا جزاءً. وهذا رأي يناقض صريح ما جاء في القرآن من نسبة الأعمال إلى العباد، ومن التصريح بأنّ الجزاء ثواباً أو عقاباً إنّما يكون بالأعمال الصادرة من العباد، وهي أكثر من أن تحصى، وهو بعد ذلك يصادم الشعور والوجدان الذي يجده كلّ إنسان من نفسه حينما يفكّر وحينما يتجه ويعزم، وحينما يفعل، وهو مع كلّ هذا، ينقض قاعدة التكليف، وهي اختبار المكلّف،وقاعدة العدالة، وهي السّيئة بالسّيئة، والحسنة بالحسنة.

وهذا فريق آخر يرى: أنّ الله يخلق الضلال في العبد ابتداءً واستمراراً، وليس للعبد قدرة على فعل ما،أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم، انتحلوا للتخلص منها شيئاً سمّوه كسباً، وصحّحوا به في نظرهم قاعدة التكليف، وقاعدة العدالة، ونسبة الأفعال،وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة، أي إنّ الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها، كما يقولون، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد،وكلّف بالفعل، وسئل عنه،وجوزي عليه.

ولا ريب أنّ تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة «كسب» على أنّه بهذا المعنى الذي يريدون،لا يصحح قاعدة التكليف،ولا قاعدة العدالة والمسؤولية، لأنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه، ويجازى عليه، والفعل كما يقارن القدرة، يقارن السمع والبصر والعلم، فأيّ مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟

وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له، وقد قال بعض العلماء: إنّ كسب الأشعري وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، ثلاثتها من محاولات الكلام.

وهذا فريق ثالث يرى: أنّ العبد يفعل بإرادته وقدرته الّلتين منحهما الله ابتداءً واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه، ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء

( 154 )

فينسبه إلى العبد، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد، جزاءً على ضلاله، فهناك في رأيهم زيغ من العبد باختياره، ثمّ إزاغة من الله عقوبةً له على ذلك الزيغ، هناك انصراف من العبد عن الحقّ، ثمّ صرف من الله للعبد جزاء هذا الانصراف.

والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية، والله يترك عبده وما يختار لنفسه، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه; وإن اختار الشر، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه، والعبد وقدرته واختياره كلّ ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شراً بطبعه لا خير فيه،ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا

شر فيه، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء، قضت بما رسم، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

ومن هنا يتبيّن أنّ العبد ليس مجبوراً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إيّاه، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل، وتمنع تصوّره.

( 155 )

القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام

وبهذا يكون المؤمنون عمليّين،لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق،والحكمة الشاملة العامة، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب، وربط الأسباب بالمسبّبات على سنّة دائمة مطّردة، هي أصل الخلق كلّه، وهي أساس الشرائع كلّها، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب، فقضى: حكم وأمر،وقدر: رتب ونظم، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعه _ شأن المحيط علمه بكلّ شيء _ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه، وإنّما هو

العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء، ولا فيما كان و ما يكون.(1)

ثمّ إنّ القول بالقدر السالب للاختيار من الإنسان والسائد على قدرته ومشيئته سبحانه ممّا جعل ذريعة للطعن على الشريعة، وقد جاء الطعن لبعض المعتزلة في ما أنشأه و قال:

أيا علماءَ الدين ذِمِّيُّ دينكم * تحيّر، دلّوه بأوضح حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم * ولم يرض منّي فما وجه حيلتي؟

دعاني و سد الباب عني فهل إلى * دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي

قضى بضلالي ثمّ قال أرض بالقضا * فها أنا راض بالذي فيه شقوتي!

فإن كنت بالمقضيّ يا قوم راضياً * فربي لا يرضى لشؤم بليتي

وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي؟ * وقد جرت دلّوني على كشف حيرتي

إذا

شاء ربّي الكفر مني مشيئة * فها أنا راض باتّباع المشيئة

وهل لي اختيار أن أخالف حكمه * فبالله فاشفعوا بالبراهين حجّتي(2)

وقد مال يميناً و شمالاً كلّ من فسر القضاء والقدر بسلب الاختيار حتى يجيبوا عن شبهة هذا المتظاهر بالذمية،وقد أجاب عنه علاء الدين الباجي بنظمه و قال:

فكن راضياً نفس القضاء ولا تكن * بمقض_ي كف__ر راضي_اً ذا خطيئ_ة

وحاصل هذا الجواب، أنّ الواجب الرضا بالتقدير لا بالمقدر، وكلّ تقدير يرضى به لكونه من قبيل الحقّ، ثمّ المقدور وينقسم إلى ما يجب الرضى به كالإيمان، وإلى ما يحرم الرضى به كالكفر، إلى غير ذلك.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ أي معنى للتفريق بين القدر و المقدر؟! فإنّ التقدير لو كان سالباً للاختيار فالرضى بالتقدير رضى بالمقدر أيضاً.

____________________________

1 . تفسير القرآن الكريم، للأُستاذ الشيخ شلتوت: 240_ 242.

2 . طبقات الشافعية:10/352 ، والقائل أنشأ الشعر من جانب الذمّي لئلاّ يؤخذ به، ويقتل بسيف القضاء.

( 156 )

وقد كان الشيخ محمد عبده يعاني من القشريّين المتعبّدين بظواهر الكلم والجمل، الذين عطّلوا عقولهم وفتحوا عيونهم على ظواهر الكتاب والسنّة فهؤلاء كانوا ألدّ الأعداء لرجال الإصلاح والنهضة العلمية في مصر،وفيهم يقول الشيخ محمد عبده في أُخريات عمره:

ولست أُبالي أن يقال محمّد * أبل أم التظت عليه الم آتم

ولكنّ ديناً قد أردت صلاحه * أحاذر أن يقضي عليه العمائم

فيا رب إن قدرت رجعي سريعةً * إلى عالم الأرواح وانفض خاتم

فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً * رشيداً يضيء النهج والليل قاتم

خاتمة المطاف

إنّ شيخ الشيعة الحسن بن المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي (648_ 726ه_) ردّ على القول بأنّ العبد لا تأثير له في أفعاله، بأنّه يستلزم أشياء شنيعة، ولما وقف ابن

تيمية على كتابه، ورأى إتقان الاستدلال، رد عليه بأنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر، لا يقولون بما ذكره، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح،وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها،بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون: إنّ الله فعل عندها لا بها، ويقولون: إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد، بل كسب له، وإنّما هو فعل الله، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة.(1)

____________________________

1 . منهاج السنّة:1/266.

( 157 )

أقول: إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة، وهو الإمام أحمد، وبعده الإمام الأشعري، والمفروض أنّهم لا يقولون بعدم تأثير قدرة العبد في فعله، ومعه: كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض بلا مصدر صحيح، وسيوافيك نبذ من جزافاته في الجزء الرابع من هذه الموسوعة، عند البحث عن عقائد الوهابية.

نظرية الكسب بين مراحل التفسير والتطور والإنكار

لقد وقفت على نصوص أعلام الأشاعرة حول نظرية الكسب، وحتى نصّ الأشعري فيها. والتدبر فيما نقلناه يعرب عن أنّ هذه النظرية _ لأجل إحاطة الإبهام بها ووجود الغموض فيها

_ مضت عليها مراحل ثلاث:

1. مرحلة التبيين والتفسير.

2. مرحلة التطور والتكامل.

3. مرحلة الإنكار والإبطال.

وهذه المراحل وإن لم تتكون حسب الترتيب الزمني،ولكنّها تكونت طيلة قرون تنوف على عشرة.

أمّا المرحلة الأُولى فقد تكونت بفكرة الغزالي أوّلاً، والتفتازاني ثانياً. فقام الأوّل بتفسيرها ب_«صدور الفعل من الله عند إيجاد القدرة في العبد»، كما أنّ الثاني فسرها ب_«توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله».

فهذان التفسيران لم يزيدا في بناء النظرية شيئاً إلاّ إلقاء الضوء عليها، وتصويرها بشكل قابل للتصوّر.

أمّا المرحلة الثانية _ أعني: مرحلة التطوّر_ فقد حصلت باعتراف القاضي الباقلاني بتأثير قدرة العبد في ترتب العناوين على الفعل، من الطاعة والعصيان

( 158 )

وغيرهما، بعد ما لم يكن الأشعري ومن قبله أو بعده معترفين بأي تأثير لها في فعله.

ولم يكن التطوير خاصاً به، بل يشاركه فيه بنحو آخر ابن الهمام صاحب المسايرة، حيث قام بتخصيص القاعدة بخروج العزم عنها،وأنّه مخلوق لقدرة العبد وليس مخلوقاً لله سبحانه.

ولا يقصر عنه في التطوير، نظرية ابن الخطيب، حيث اعترف بشأنية قدرة العبد وقابليته للتأثير لولا قدرة الله سبحانه العليا، فلأجل ذلك صارت مغلوبة لقدرته.

أمّا المرحلة الثالثة _ أعني: مرحلة الإنكار والإبطال _ فقد عرفتها من الفحل المقدام إمام الحرمين في القرن الخامس، والمصلح المصري الشيخ محمد عبده، والزرقاني،والشيخ شلتوت، ولعلّ هنا من جهر بالحقّ وأصحر به ولم نقف عليه.

القرآن وخلق الأفعال

استدلّ الشيخ الأشعري على ما يتبنّاه من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بالأدلّة العقلية تارة، والنقلية أُخرى.

أمّا الأُولى فقد مضت مع ما علّقنا عليها من الملاحظات،وأمّا الثانية فقد استدلّ عليها في كتاب «الإبانة» بآيتين:

الأُولى: قوله سبحانه: (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَالله خَلَقَكُمْ وَماتَعْمَلُونَ).(1)

الثانية: قوله سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ

وَ الأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ) .(2)

____________________________

1 . الصافات:95_ 96.

2 . فاطر:3.

( 159 )

يلاحظ على الاستدلال بالآية الأُولى بأُمور:

أوّلا: أنّ الاستدلال مبني على كون «ما» في قوله سبحانه (وما تعملون)مصدرية،وأنّ معنى الآية: والله خلقكم وعملكم،وليست بموصولة حتى يكون معنى الآية والله خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام، كقوله سبحانه: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ).(1)

ولكن الظاهر من الآية هو الثاني لا الأوّل، بقرينة قوله: (أَتعبُدون ماتَنحِتُون)وهي فيها موصولة بلا إشكال،فتكون قرينة على المراد في الآية الثانية، إذ ليس «ماتعملون»إلاّ ترجمة لقوله «ما تنحتون» ولا يصار إلى التفكيك إلاّ بدليل قاطع.

وإنّما ذهب من ذهب إلى أنّ «ما» مصدرية، وأنّ المراد «عملكم» لأجل رأي مسبق ومحاولة يطلب الدليل عليها، ولولاها لما قال به.

فعلى المختار يكون معنى الآية: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها، وبذلك يكون الربط بين الآيتين محفوظاً، بخلافه على القول الآخر.

إذ عليه تفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى،ويكون مفاد الآيتين: أتعبدون الأصنام التي تنحتون،والله خلقكم وأعمالكم وأفعالكم، وإن لم يكن للعمل صلة بعبادة ما ينحتوته.

ثانياً: إنّ الخليل _ عليه السَّلام _ عندما أدلى بمفاد الآيتين كان في مقام الاحتجاج على عبدة الأصنام، ولا يصحّ الاحتجاج إلاّ باتّخاذ«ما» موصولة كناية عن الأصنام المنحوتة، فكأنّه قال: «إنّ العابد والمعبود مخلوقان لله، فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟» على أنّ العابد هو الذي عمل صورته وشكله، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها. ولكن لو كان مفاد الآية: «والله خلقكم وخلق عملكم» لم يصحّ الاحتجاج به على العبدة ولم ينطبق على المقام.

____________________________

1 . الأنبياء:56.

( 160 )

ثالثاً: لو كانت مصدرية لتمّت الحجة صالح الخليل ولانقلبت عليه. إذا عندئذ ينفتح لهم باب العذر، بحجّة

أنّه لو كان هو الخالق لأعمالنا فلا جهة للتوبيخ والتنديد.

كلّ هذه الوجوه توضح أنّ المراد: أنّ الله خلق الإنسان وخلق الأصنام التي يعملها الإنسان، أي يصوّرها ويشكلها. وعندئذ لا صلة له بما يدّعيه الأشعري.

أمّا الآية الثانية فلا شكّ أنّها صريحة في حصر الخالقية بالله سبحانه وكم لها من نظير في القرآن. قال سبحانه:(قُلِ الله خالِقُ كُلُّ شَيء وَهُوَ الواحِدُ القَهّار)(1)وقال عزّ من قائل:(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل) (2) وقال تعالى:(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) (3) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قصر الخالقية على الله.(4)

غير أنّ الذي يهم القارئ الكريم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات، فإنّ لهذا القسم من الآيات احتمالين لا يتعيّن أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخرى،ودونك الاحتمالين:

الأوّل: حصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه،وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه، وأمّا غيره فليس بمؤثر ولا خالق، لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية، وعلى ذلك فما ترى من الآثار للظواهر الطبيعية فكلّها مفاضة منه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها، فالنار بمعنى أنّه جرت سنّة الله سبحانه على أن يوجد الحرارة عند وجود النار مباشرة، من دون أن يكون هناك رابطة سببية ومسببية بينها و بين أثرها، وكذلك الشمس مضيئة والقمر منير، بمعنى أنّه جرت عادة الله سبحانه على إيجاد الضوء والنور مباشرة، عقيب وجود الشمس

____________________________

1 . الرعد:16.

2 . الزمر:62.

3 . غافر:62.

4 . لاحظ: الأنعام101_ 102; الحشر:24; الأعراف: 54.

( 161 )

والقمر، من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية، ويكون صلتهما بالشمس والقمر كصلتهما بغيرهما. وعلى

ذلك فليس في صفحة الكون إلاّ علّة واحدة ومؤثر فارد يؤثر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق الأسباب والمسببات. فهو سبحانه بنفسه، قائم مقام جميع العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

هذا ما يتبنّاه الأشعري وأتباعه ناسبين إيّاه إلى أهل السنّة والجماعة عامّة، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يقيمون للعلل الطبيعية والأبحاث العلمية وزناً. فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه. ومثله سائر الظواهر الطبيعية من نمو الأشجار، وتفتح الأزهار، وغناء الطيور، وجريان السيول، وحركة الرياح، وهطول الأمطار، وغير ذلك. فالكلّ مخلوق له سبحانه بلا واسطةوبلا تسبيب من الأسباب.

ولكن هذا المعنى محجوج بنفس القرآن الكريم، مضافاً إلى أنّ الأدلة العقلية والعلمية لا توافقه أبداً، ونكتفي بالقليل من الكثير من الآيات الكافية لإبطال هذه النظرية.

إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية، وتسند الآثار إلى موضوعاتها _ و في الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه _ حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحقّقة من تلقاء نفسها.

قال سبحانه:(وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُمْ).(1)

وقال عزّ من قائل: (أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَسُوقُ الماءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بهِِ زَرعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) .(2)

فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع، إذ إنّ الباء في «به» في الموردين بمعنى السببية،وأوضح منهما قوله سبحانه: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ

____________________________

1 . البقرة:22.

2 . السجدة:27.

( 162 )

وَغَيْرُ صِنْوان يُسقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها على بَعْض في الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ)(1). فإنّ جملة (يسقى بماء واحد)

كاشفة عن دور الماء وتأثيره في إنبات النباتات ونمو الأشجار، ومع ذلك يتفضّل بعض الثمار على بعض.

ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على أنّه كيف يبيّن المقدّمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء، من قبل أن يعرفها العلم الحديث، ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها، يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:

1. (اللّهُ الّذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).(2)

فقوله سبحانه: (فتثير سحاباً) صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر، والإمعان في مجموع جمل الآية يهدينا إلى نظرية القرآن في تأثير العلل الطبيعية بإذن الله تعالى. فقد جاء في هذه الآية الأُمور التالية ناسباً بعض الأُمور إلى الظواهر الطبيعية، وبعضها الآخر إلى الله سبحانه:

1. تأثير الرياح في نزول المطر.

2.تأثير الرياح في تحريك السحب.

3. الله سبحانه يبسط السحاب في السماء.

4. تجمع السحب بعد هذه الأُمور على شكلّ قطع متراكمة مقدمة لنزول المطر من خلالها.

فالناظر في هذه الآية، والآية الثانية يذعن بأنّ نزول المطر من السماء إلى

____________________________

1 . الرعد:4.

2 . الروم:48.

( 163 )

الأرض رهن بأسباب وعلل ومؤثرات بإذن الله سبحانه، فلهذه العلل دور في حدوث الظاهرة(المطر) كما أنّه له سبحانه و تعالى دوراً وراء هذه الأسباب وهي جنوده والأسباب التي خلقها وأعطى لها السببية، مظاهر قدرته ومجالي إرادته.

2.(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزجي سَحاباً ثُمَّ يُؤلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَترى الوَدْقَ يَخرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأَبْصارِ).(1)

فالآية الأُولى تسند حركة

السحاب إلى الرياح وتقول: (فتثير سحاباً)وهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول: (أنّ الله يزجي سحاباً) وما هذا إلاّ لأنّ الرياح جند من جنوده، وسبب من أسبابه التي تعلقّت مشيئته على إنزال الفيض عن طريقها،وفعلها فعله، والكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

وليست الآيات الدالة على توسيط الأسباب والعلل في تكون الأشياء وتحقّقها منحصرة بما ذكرناه. بل هناك آيات كثيرة نأتي بالنزر اليسير من الكثير المتوفر.

3. (وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج) .(2)

فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها، ثمّ تصرح بأنّ الأرض تنبت من كلّ زوج بهيج.

وبعبارة أُخرى: الآية تصرح بوجود الرابطة الطبيعية بين نزول الماء على الأرض واهتزازها وربوتهاوانتفاخها،ولولا تلك الرابطة لما صحّ جعل الاهتزاز والربوة جزاءً لنزول الماء. وحمل قوله تعالى «وأنبتت» على المجاز، وجعل الأرض ظرفاً للإنبات فقط قائلاً بأنّ الله هو المنبت بلا توسيط الأسباب، تأويل بلا وجه ولا يساعده ظاهر اللفظ، بل هو ظاهر في أنّ الإنبات فعل للأرض

____________________________

1 . النور:43.

2 . الحج:5.

( 164 )

بضميمة عوامل وأسباب شتى، والكل يعمل لا استقلالاً بل بإذنه ومشيئته سبحانه.

4. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيل اللّهِ كَمَثَلِ حَبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مائة حَبّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَليمٌ) .(1)

فالآية تسند إلى الحب، إنبات سبع سنابل،و حمله على المجاز _ بتصور أنّ الحبّ ظرف، ومحل لفعله سبحانه _ تأويل لأجل رأي مسبق من غير دليل.

فالله سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحبة، ولكنّه _ في الوقت نفسه _ يسند نفس ذلك الفعل إلى ذاته و يقول:

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا بهِِ حَدائِقَ

ذاتَ بَهْجَة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَومٌ يَعْدِلُونَ).(2)

ويقول سبحانه:(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كَريم) .(3)

ولا تعارض ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات، إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنّه منشىء الكون وموجده ومسبب الأسباب ومكوّنها،كما هو فعل السبب لصلة بينه و بين آثاره. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه.

5. (خَلَقَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَها وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ) (4). أي جعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال لئلا تضطرب بكم. فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب إلى نفسه، حيث قال: (وَأَلقى) وإلى سببه حيث قال:(رواسي أن تميد) والكل يهدف إلى أمر واحد، وهو الذي ورد في الآية التالية ويقول: (هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ

____________________________

1 . البقرة:261.

2 . النمل:60.

3 . لقمان:10.

4 . لقمان:10.

( 165 )

دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلال مُبين)(1)، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات جميعه مخلوق لله، والأسباب جنوده، والآثار آثار للسبب والمسبب(بالكسر)، كلّ على جهة خاصة.

فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بقانون السببية بين الأشياء وآثارها، وإنهاء كلّ الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصحّ عندئذ حصرُ الخالقية والعلّية المطلقة، الأعم من الأصلي والتبعي في الله سبحانه، وتصوير غيره من الأسباب أُموراً عاطلة غير مفيدة لشيء يتوقّع منها.

إلى هنا تبيّن عدم صحّة ما عليه الأشاعرة وأهل الحديث من حصر الخالقية في الله بالمعنى الذي يتبنّونه.

نعم هناك معنى آخر لحصر الخالقية في الله سبحانه و نفيه عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه، وهذا هو الذي

يثبته العقل، ويصرح به القرآن، وتؤيّده الأبحاث العلمية في جميع الحضارات،وهذا هو الذي نبيّنه في المعنى الثاني لحصر الخالقية.

الثاني(2): إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بتقديرة وقضائه، وتسبيبه ومشيئته،ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه يعملون بأمره، وإليك توضيح ذلك:

لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود، كالسماء وكواكبها ونجومها، والأرض وجبالها، وبحرها وبرها، وعناصرها ومعادنها، والسحب والرعد والبرق والصواعق،والماء والنجم والشجر، والحيوان والإنسان، إلى غير ذلك من الأشياء الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر

____________________________

1 . لقمان:11.

2 . تقدّم المعنى الأوّل في ص 160.

( 166 )

إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة، وبلا مباشرة الإنسان، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه،وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل ويشرب، وينمو ويفهم.

ومن جانب ثالث: إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام،وينهاه نهي تحريم،فيجزيه بالطاعة،ويعاقبه بالمعصية، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان، فما هي الغاية من الأمر والنهي، وما معنى الجزاء والعقوبة;!

فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه: (قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار)(1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء، يستنتج منه

أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه، فعّال بأفعاله، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه، وتقدير منه، وهو القائل سبحانه: (الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى)(2) وقال تعالى :(وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (3)وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.

فعلى هذا،فالأشياء في جواهرها وذواتها، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات، تنتهي إليه أيضاً، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض، ويتلاءم بعضها مع بعض، ويؤثر بعضها في بعض، والله سبحانه وراء

____________________________

1 . الرعد:16.

2 . طه:50.

3 . الأعلى:3.

( 167 )

هذا النظام ومعه وبعده، لا خالق ولا مدبر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو، كما لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

اختلاف الأشياء في قبول الوجود

يقول صدر المتألّهين:«إنّ الأشياء في قبول الوجود من المبدأ متفاوتة، فبعضها لا يقبل الوجود إلاّ بعد وجود الآخر، كالعرض الذي لا يمكن وجوده إلاّ بعد وجود الجوهر، فقدرته على غاية الكمال، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام، بعضها صادرة عنه بلا سبب، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلاّ بعد سبق أُمور هي أسباب وجوده،وهو مسبب الأسباب من غير سبب، وليس ذلك لنقصان في القدرة، بل لنقصان في القابلية،وعدم قبوله الوجود إلاّ في طريق الأسباب، وإذا أردت التمثيل وتبيين نسبة أفعالنا إلى الله سبحانه فعليك بالكتاب النفسي،والتأمّل في الأفعال الصادرة عن قواها، فقد خلقها الله تعالى مثالاً ذاتاً وصفة وفعلاً، لذاته وصفاته وأفعاله، واتل قوله تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(1) وقول رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»

فإنّ فعل كلّ حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة، هو فعل النفس أيضاً، إذ الإبصار مثلاً فعل الباصرة. لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها، وكذلك السماع مثل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة، أو انفعال السمع بها، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني، وفي الوقت نفسه هما فعل النفس بلا شكّ لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة، وذلك لا بمعنى أنّ النفس تستخدم القوى كما يستخدم كاتب أو نقاش، فإنّ مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بناءً، ومستخدم الكاتب لا يلزم كونه كاتباً، مع أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد نفوسنا، هي بعينها المدركة والبصيرة والسميعةوهكذا الا(2)مر في سائر القوى».

____________________________

1 . الذاريات:21.

2 . الأسفار:6/377_ 378.

( 168 )

وإلى ذلك يشير في الحديث القدسي: «يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك،وبقوتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي،جعلتك سميعاً بصيراً قوياً».(1)

____________________________

1 . البحار:5/57.

( 169 )

الاستطاعة مع الفعل لا قبله

الاستطاعة مع الفعل لا قبله

الاستطاعة غير الإنسان أوّلاً، ويستحيل تقدّمها على الفعل ثانياً، فله هاهنا دعويان يصرح بهما في العبارة التالية:

إن قال قائل: لم قلتم إنّ الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره؟

قيل له: لأنّه يكون تارة مستطيعاً، وتارة عاجزاً، كما يكون تارة عالماً، وتارة غير عالم،وتارة متحركاً وتارة غير متحرك، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره، كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره، لأنّه لو كان مستطيعاً بنفسه، أو بمعنى يستحيل مفارقته له، لم يوجد إلاّوهو مستطيع،فلما وجد مرة مستطيعاً، ومرة غير مستطيع، صحّ وثبت أنّ استطاعته غيره.

فإن قال قائل: فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره، فلم زعمتم أنّه يستحيل تقدّمه للفعل؟

قيل له: زعمنا ذلك من قبل أنّ الفعل لا

يخلو أن يكون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها، فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها، فقد صحّ أنّها مع الفعل للفعل، وإن كان حادثاً بعدها_ و قد دلّت الدلالة على أنّها لا تبقى _ وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة، ولو جاز ذلك فجاز أن يحدث العجز بعدها، فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة،ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة، فجاز أن يفعل مئة سنة، من حال حدوث

( 170 )

القدرة، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلّها، بقدرة عدمت من مائة سنة، وهذا فاسد، وأيضاً لو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة، ووقع الفعل بقدرة معدومة، لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة، وقد قلب الله النار برداً والقطع بحدّ سيف معدوم، وقد قلب الله السيف قصباً، والقطع(1) بجارحة معدومة وذلك معدوم، فإذا استحال ذلك وجب أنّ الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها.

فإن قالوا: ولم زعمتم أنّ القدرة لا تبقى؟

قيل لهم: لأنّها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقى لنفسها أو لبقاء تقوم به، فإن كانت تبقى لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وأن لا توجد إلاّ باقية، وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها، وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة، فقد قامت الصفة بالصفة، وذلك فاسد. ولو جاز أن تقوم الصفة بالصفة لجاز أن تقوم بالقدرة قدرة، وبالحياة حياة، وبالعلم علم، وذلك فاسد.(2)

أقول: إنّ الشيخ الأشعري قد تبنّى في العبارة المذكورة أُموراً ثلاثة : الأوّل والثاني منها ضروريان، والثالث أمر نظري، لم يأت عليه بدليل مقنع، بل أجمل الكلام فيه إلى حد التعقيد.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون الاستطاعة مثل العلم غير الإنسان نفسه أمر

بديهي لا يحتاج إلى البرهنة، لأنّ كلّ إنسان يحس من بداية حياته أنّه تتجدد له القدرة والاستطاعة كسائر الكمالات النفسانية، وأنّه ليس من أوّل يوم قادراً مستطيعاً على التكلم والمشي، والكتابة والقراءة، فلا يحتاج مثل هذاالأمر إلى التطويل.

وأمّا الثاني: فإنّ الإنسان لا يقدر على الفعل بقدرة واستطاعة معدومة، وهذا أيضاً أمر بديهي مرجعه إلى أنّ الممكن «ذاتاً كان أو فعلاً» لا يتحقق إلاّبعلة موجدة له، من غير فرق بين القول بأنّ حاجة الممكن إلى العلّة أمر بديهي

____________________________

1 . قال المعلّق على الكتاب: ولعلّ الأولى أن يقول: البطش.

2 . اللمع:93_ 94.

( 171 )

فطري، كما هو الحقّ، أو هو أمر تجريبي، كما عليه بعض المناهج الفلسفية.

وإنّما المهم في كلامه هو الأمر الثالث، وهو لزوم مقارنة الاستطاعة مع الفعل واستحالة تقدّمها عليه،وإليك توضيح برهانه.

إنّ القدرة المتقدّمة على الفعل لا تخلو عن حالات ثلاث:

1. أن تكون القدرة المتقدمة عليه منعدمة عند حدوث الفعل، فيلزم عندئذ حدوث الفعل بلا قدرة، وهو محال.

2. أن تكون القدرة المتقدمة باقية، وكان البقاء نفسها، فيلزم عندئذ محذوران:

أ. بما أنّ البقاء نفس القدرة وذاتها، يلزم امتناع تطرق العدم إليها وهو خلف، وإليه يشير بقوله: «وأن لا توجد إلاّ باقية».

ب. بما أنّ البقاء نفسها وذاتها، وقد افترضنا أيضاً حدوثها يلزم أن تتصف بالبقاء في الوقت الذي تتصف بالحدوث، وهو نظير اجتماع الضدين.

3. أن لا يكون البقاء نفسها، بل تبقى ببقاء يعرض لها،وبما أنّ البقاء صفة يلزم قيام الصفة بالصفة، ولو جاز لجاز أن تقوم القدرة بالقدرة والعلم بالعلم.

أقول: إنّ القائل بالتقدّم يقول بالشقّ الثالث، بتوضيح أنّ البقاء ليس نفس القدرة ولا ذاتها(1). بل هو أمر منتزع من استمرار وجود الشيء في الآنين والآنات وليس البقاء أمراً

مغايراً لوجود القدرة بحيث يكون في القدرة _ إذا بقيت بعد الحدوث _ أمران:

أحدهما: أصل القدرة، والآخر بقاؤها، وإنّما الموجود في الخارج شيء واحد وهو القدرة، وينتزع منه باعتبارين أمران: الحدوث والبقاء.

وإن شئت قلت: أصل القدرة ومفهومها الحدوث والبقاء وإن كانت

____________________________

1 . المراد من الذاتي هنا ذاتي باب الإيساغوجي، أي أن يكون البقاء جنساً أو فصلاً للقدرة، لوضوح أنّ ما يفهم من القدرةوالاستطاعة غير ما يفهم من البقاء والدوام.

( 172 )

مفاهيم مختلفة لكن ليس في الخارج بإزائها أُمور ثلاثة، بل الموجود في الخارج شيء واحد وهو الاستطاعة، لكن باعتبار أنّها تعطي للإنسان مقدرة تسمى قدرة واستطاعة، وباعتبار سبق العدم عليها ينتزع منها الحدوث، وباعتبار استمرار وجودها ينتزع منها البقاء، فلا يلزم _ لو قلنا ببقاء القدرة بعد حدوثها _ أن يكون للقدرة عرض ووصف باسم البقاء يغايرها في العين والتحقّق.

وبعبارة ثالثة: إنّ الأعراض على قسمين: قسم يعتبر في صحّة حمله على الموضوع، اتصافه بصفة خارجية مصححة لحمل العرض على الموضوع، كحمل الأبيض على الجسم، حيث يعتبر فيها اتصاف الجسم بشيء كالبياض، وهذا ما يسمى ب_«المحمول بالضميمة».

وقسم لا يعتبر في صحّة حمله على الشيء وجود حيثية خارجية في جانب الموضوع، لكن الموضوع يكون على نحو يصحّ معه انتزاع ذلك لمفهوم العرضي منه، كانتزاع الإمكان من الإنسان، فلا يعتبر في حمله عليه تحقّق وصف وجودي، بل يكفي واقعية وجوده لحمله عليه. وهذا ما يسمّى ب_« الخارج المحمول» وانتزاع البقاء من القدرة الحادثة من هذا القبيل فلها طوران من الوجود:

أ. وجود حادث غير مستمر ومنقطع.

ب. وجودحادث مستمر.

فينتزع من الأوّل ، الزوال والانقضاء، ومن الثاني البقاء والاستمرار، فليس لهما وراء نحو وجود القدرة والاستطاعة، مطابق خارجي.

والنتيجة هي: أنّ بقاء

القدرة في الآن الثاني ليس متوقفاً على انضمام وصف إليه باسم البقاء عارض للقدرة حتى يلزم منه بقاء الوصف بالوصف والعرض بالعرض.

وما ذكره من أنّ دليل امتناع قيام الوصف يستلزم جواز قيام القدرة بالقدرة موهون جداً، فإنّ عدم الصحّة في تلك الموارد إنّما هو لأجل أنّ قيام القدرة بالقدرة يستلزم اجتماع المثلين، وهو محال، سواء أقلنا بجواز قيام العرض بالعرض أم لا، فإنّ القدرتين وصفان متماثلان ، والمتماثلان لا يجتمعان.

( 173 )

إلى هنا تمّ ما يرومه الشيخ الأشعري في كتاب«اللمع».

فهلمّ معنا ندرس ما ذكره تلاميذ مدرسته تأييداً لمؤسسها، لقد ذهب المحقّق التفتازاني في شرح المقاصد، ونظام الدين القوشجي في شرح التجريد، إلى ما ذهب إليه مؤسس المنهج،واستدلاّ على لزوم مقارنة القدرة مع الفعل بوجوه نشير إليها:

1.إنّ القدرة عرض، والعرض لا يبقى في زمانين، فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل،فيلزم وجود المقدور بدون القدرة، والمعلول بدون العلة، وهو محال(1).(2)

ولا يخفى أنّ هذا البرهان إن صحّ فهو غير ما ذكره الشيخ الأشعري في «اللمع»، والعجب أنّ الدكتور عبد الرحمن بدوي قد فسر عبارة «اللمع» بما جاء في «شرح المقاصد»(3) ، وهو غير صحيح.

أقول: الظاهر أنّ المستدل لم يصل إلى كنه القول بعدم بقاء الأعراض، فزعم أنّ المقصود من تجدّد الأمثال في الأعراض وتصرمها وعدم بقائها في آنين، هو أنّ العرض في الآن الثاني، غيره في الآن الأوّل ماهية ووجوداً وتشخيصاً، بحيث يرد على الثلج والقطن بياضات مفصولة وألوان متجزئة، حسب تصرّم الآنات وتقضّيها، ولكنّه فاسد، فإنّ المراد أنّ البياض الموجود في الآن الأوّل، ليس أمراً ثابتاً وجامداً لا يتطرق إليه التغيّر والتبّدل، بل هو مع حفظ وحدته وتشخصه واقع في إطار التغيّر والتبدّل، ومثل ذلك يعني

أنّ الشيء الواحد مع حفظ وحدته الشخصية، له وجود سيال في عمود الزمان، فالعرض باق في عين تغيّره، ومحفوظ في عين تبدّله، فلا يضرّالتغيّر بوحدته ولا الحركة بتشخّصه.

____________________________

1 . شرح المقاصد:1/240، وقد عبر بنفس تلك العبارة الفاضل القوشجي. لاحظ شرح التجريد المطبوع قديماً: 362.

2 . المسألة مبنية على كون القدرة عرضاً، وامتناع بقاء الأعراض، وكلاهما أمران نظريان يحتاجان إلى البرهنة، وقد افترضهما المستدل أمرين ثابتين. لاحظ نقد المحصل للمحقّق الطوسي: 165.

3 . مذاهب الإسلاميين: 563.

( 174 )

وبعبارة أُخرى: إنّ هناك منهجين: منهج الكون والفساد، ومنهج الحركة والتكامل.

فالأوّل يهدف إلى انقطاع صلة الموجود في الآن الثاني عن الموجود في الآن الأوّل، ويتخيّل أنّ تبدّل النار إلى الرماد والماء إلى البخار، من هذا القبيل، فيبطل كون ويحصل كون آخر، أو يفسد وجود ويصلح وجود ثان.

والثاني يهدف إلى حفظ الصلة والرابطة بين الموجودين في جميع الآنات من غير فرق بين تبدّل الأكوان وتجدّد الأعراض،ويعني من تجدد الأمثال في الأعراض _ بل سريان الحركة في جميع عوالم الموجود المادي _ أنّ الأشياء بجوهرها وأعراضها مع حفظ وحدتها وتشخّصها تنحو نحو التغيّر والتبدّل مرّة، وإلى الكمال مرّة ثانية،وليس الموجود في الآن الثاني منقطع الرابطة والصلة عن الموجود في الآن الأوّل.

وإن شئت قلت: إنّ للسواد باشتداده، والبياض عند اكتماله فرداً شخصياً زمانياً مستمراً متصلاً بين المبدأ والمنتهى، محتفظاً بوحدته الشخصية، ومثله سائر الحركات في الأعراض،وعلى ذلك فمع القول بتبادل الأعراض وتجدّد أمثالها، يظهر أنّ للمتجدّدات والمتصرّمات المتلاحقة، نحو وحدة ونحو بقاء، فلا يعدّ اللاحق مغايراً للسابق، بل صورة بقاء له، وكيفية وجود لما حدث أوّلاً.

وعلى ذلك فالقدرة وإن كانت كيفية نفسانية قائمة بالنفس، لكن تغيّرها وتبدّلها وحركتها وتكاملها، لا يوجب أن

يكون الموجود منها في الآن الثاني مغايراً من جميع الجهات للموجود في الآن الأوّل. بل التغيّر والتبدّل والحركة والتكامل تتحقّق مع حفظ الوحدة الشخصية بين ما دثر وما بقي.

وإن شئت فلاحظ وجود الحركة في المقولات العرضية، فإنّ في حركة التفاحة في كيفها وكمّها لوناً سيّالاً بعرضها العريض، وكمّاًسيّالاً كذلك، فمجموع ما يتوارد عليها من الألوان والكمّيات شيء واحد سيّال متفاوت الدرجات، باق في عين التغيّر ومحفوظ في عين التبدّل.

2. إنّ الفعل حال عدمه ممتنع لاستحالة اجتماع الوجود والعدم، ولا

( 175 )

شيء من الممتنع بمقدور.(1)

والجواب عنه واضح; فإن أُريد من كون الفعل ممتنعاً حال العدم امتناعاً بالذات فهو باطل، إذ الممكنات في حال العدم ممكنات بالذات، كما أنّ الممتنعات بالذات كذلك. ولا يلزم من كون الشيء معدوماً كونه ممتنعاً بالذات، وإلاّ يلزم أن لا يصحّ الإيجاد والتكوين; وإن أُريد أنّه ممتنع بالغير فنمنع عدم كونه مقدوراً بل الممتنعات بالغير مقدورات أيضاً، بحجّة أنّه كلما تعلقت بها إرادة الفاعل ومشيئته تتحقّق في الخارج.

وقد استدلّ أصحاب منهج الشيخ الأشعري ببرهان ثالث وهو من الوهن بمكان لا يصحّ أن يذكر أو يسطر.(2)

حصيلة البحث ضمن أُمور

1. البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها معه، لا يرجع إلى محصل، وهو بحث قليل الفائدة أو عديمها، ويشبه أن يكون البحث لفظياً، فهو يريد من القدرة أحد الأمرين:

الأوّل: صحّة الفعل والترك، وإن شئت قلت: كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل، فلا شكّ أنّ القدرة بهذا المعنى مقدمة على الفعل فطرةً ووجداناً، فإنّ القاعد قادر على القيام حال القعود بهذا المعنى، والساكت قادر على التكلم في زمن سكوته لكن بالمعنى المزبور.

الثاني: ما يكون الفعل معه

ضروري الوجود (أي اجتماع جميع ما يتوقّف وجود الفعل عليه) فالقدرة بهذا المعنى (لو صحّ إطلاق القدرة عليه، ولن يصحّ) مقارنة مع الفعل غير منفكة عنه، وهذا مفاد القاعدة التالية: «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وعلى ذلك(3) فلو أُريد المعنى الأوّل فهذا

____________________________

1 . المقاصد:1/259، شرح التجريد للقوشجي:362.

2 . لاحظ المواقف:6/88 قول الماتن: القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل، وإلاّفلنفرض وجوده فيه _ الخ.

3 . وقد صرّح الأشعري بأنّ مراده من القدرة المعنى الثاني في «اللمع» عند الاستدلال ببعض الآيات القرآنية على مذهبه حيث قال: وهذا بيان أنّ ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل وأنّها إذا كانت كان لامحالة، فهذا صريح في أنّ القدرة إذا تحقّقت تحقّق الفعل لا محالة. اللمع: 155.

( 176 )

متقدّم، ولو أُريد المعنى الثاني فهو مقارن زماناً متقدّم رتبة. وسيوافيك ما يفيدك عن الإمام الرازي، في هذا المجال.

2. إنّ الشيخ الأشعري مع تركيزه على مقارنة القدرة مع الفعل يعترف بتقدّمها في واجب الوجود على الفعل،وإلاّ فلو قلنا هناك بالمقارنة يلزم إمّاحدوث قدرته سبحانه مقارناً لحدوث الأفعال، أو قدم فعله سبحانه، وكلاهما باطلان. وعندئذ يسأل صاحب المنهج: كيف فرّق بين القدرتين مع أنّ الملاك واحد؟ وكيف اعترف بالتقدّم في الخالق ونفى إمكانه في المخلوق، مع أنّ ما أقام من البرهان، أو أقامه أشياعه من البراهين على الامتناع، جار في الواجب سبحانه حرفاً بحرف.

ثمّ إنّ أتباع الشيخ تصدّوا للدفاع عن هذا النقد الصارم بوجوه موهونة جدّاً وقالوا:

أ. نمنع الملازمة وإنّما تتم هذه الملازمة لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين، فلا يلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله، كون الأولى كذلك أيضاً.

ب. إنّ قدرة الله تعالى

قديمة، ولها تعلّقات حادثة، مقارنة للأفعال الصادرة،والكلام في تعلّق القدرة، والأزلي إنّما هو نفس القدرة، وكونها سابقة قديمة لا ينافي كون تعلّقها مقارناً حادثاً، فلا يلزم من كون تعلّق القدرة القديمة مع الفعل، قدم الحادث أو حدوث القديم.(1)

ولا يخفى أنّ كلاً من هذين الجوابين غير مجد.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون قدرة الواجب قديمةوغير حادثة لا يكون فارقاً في المسألة، فإنّ البراهين التي أُقيمت من جانب الأشاعرة على امتناع تقدّم

____________________________

1 . المقاصد:2/241، وشرح التجريد للقوشجي: 362.

( 177 )

القدرة على الفعل، مشتركة بين كلتا القدرتين.

وإن شئت فلاحظ البرهان الثاني الذي نقلناه عن المقاصد وشرح التجريد. وقالوا: «إنّ الفعل حال عدمه ممتنع، لاستحالة اجتماع الوجود والعدم، ولا شيء من الممتنع بمقدور» فلو كان الشيء في حال العدم ممتنعاً فهو موصوف بالامتناع، تجاه القدرة الواجبة أو القدرة الممكنة معاً، من غير فرق بينهما.

نعم، ما نقلناه عن «لمع» الأشعري من البرهان على الامتناع ربما لا يجري فيه سبحانه، لأنّ صلب البرهان هنا كون القدرة عرضاً قائماً بالنفس وقدرته سبحانه ليست عرضاً ولا جوهراً، اللّهمّ إلاّ أن تكون القدرة الواجبة عنده عرضاً قائماً بذاته، كما هو غير بعيد من قوله بالصفات القديمة الزائدة على الذات.

أمّا الثاني: فمحصله أنّ نفس القدرة القديمة، والحادث أعمالها،ولكن لو صحّ ذلك لصحّ في الإنسان وغيره، بأن يقال أصل القدرة متقدمة والأعمال متأخّرة.

3. إنّ من الأُصول المسلّمة عند الأشعري; حصر الخالقية على الإطلاق في الله سبحانه وأنّه لا خالق ولا مؤثر لا بالذات ولا بالطبع إلاّ هو، والأسباب والعلل كلّها علامات وإشارات إلى تعلّق إرادته سبحانه، بإيجاد الشيء بعدها، وعلى هذا الأصل أنكر مسألة العلية والمعلولية، والسببية والمسببية في عوالم الوجود، وحصرها في ذاته تعالى، و قد تواتر

عن الأشاعرة قولهم: «جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك» و على هذا الأصل قام سبحانه مكان جميع العلل المجردة والمادية.

وقال شاعرهم نافياً لأصل العلية بأي معنى فسرت في غيره سبحانه:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة * فذاك كف_ر عند أه_ل الملّة

أقول: لو صحّ هذا الأصل (ولن يصحّ أبداً لمخالفته لصريح الآيات، وصرورة العقل والفطرة) لكان البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنته معها، فضولاً في الكلام وإضاعة للوقت، فإنّه يسلم أنّ القدرة فيه سبحانه

( 178 )

متقدمة على الفعل، وأمّا في غيره فليس هناك تأثير وسببية، ولا اقتدار، بل الفواعل كلّها تكون كآلات النجار والحدّاد، بل أنزل من ذلك، لأنّها مؤثرات غير اختيارية عندنا، وليس العباد عندهم حتى بمنزلتها.

ولما كان القول بهذا الأصل ساقطاً عند العقل والعقلاء، ومضاداً للفطرة السليمة، حاول الأشعري تصحيحه بإضافة نظرية الكسب على خالقية الرب، قائلاً بأنّ الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب، وأنّ الأفعال واقعة بقدرة الله وكسب العبد، بمعنى أنّ الله أجرى عادته بأنّ العبد إذاعقد العزم على الطاعة مثلاً، يخلق سبحانه فعل الطاعة، وربما يمثلون لتفهيمه بمن يحمل شيئاً ثقيلاً على كاهله ويذهب به ويجعل شخص آخر يده تحت ذلك الحمل من غير أن يكون شيء من وزره وثقله على يده.

ولا يخفى أنّ إضافة الكسب لا تحلّ المشكل، إذ على هذا الأصل أيضاً يكون الخالق والقادر هو الله سبحانه، وليس لعبد شأن في الفعل، وإنّما شأن العبد ينحصر في عقد العزم على الطاعة أو المعصية، فعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية، وعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية، وعندئذ يبحث هل القدرة على العزم مقترنة به

أو متقدمة عليه؟ ومثل هذا لا يليق بهذا البحث المبسوط، ولا يشكّ أحد في تقدّم القدرة على العزم على نفسه.

ونعم ما قال علاّمة الشيعة في «نهج الحق»: إنّ القدرة حسب مذهب الأشاعرة غير مؤثرة ألبتة، لأنّ المؤثر في الموجودات هو الله تعالى، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول لأنّه خلاف مذهبهم.(1)

والعجب من الفضل بن روزبهان الأشعري، حيث إنّه مع تصريحه بأنّ قدرة العبد غير مؤثرة في الفعل، أجاب عن الإشكال بأنّه لا يلزم من عدم كون القدرة مؤثرة فيه، الاستغناء عنها في جميع الوجوه كاتصاف الفعل باختيار، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولاً.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت القدرة غير مؤثرة في فعل الإنسان يكون

____________________________

1 . دلائل الصدق:1/324.

( 179 )

البحث عن تقدّم القدرة أو تقارنها لغواً، وإن كانت لقدرة العبد عند خلق الأفعال من جانبه سبحانه فوائد وثمرات أُخرى فهي لا تمت إلى المقام بصلة.

4. الحقّ أن يقال: إنّ المسألة بديهية للغاية، وما أُثير حولها من الشبهات _ خصوصاً ما ذكره في «اللمع» _ أشبه بالشبهات السوفسطائية، إذ كلّ إنسان يحس من فطرته أنّه قادر على القيام قبل أن يقوم، فالخلط حصل بين القدرة بمعنى الاستعداد لصدور الفعل، والقدرة بمعنى ما لا ينفكّ عنه الفعل ويقترن به، وكفى في ثبوت المسألة، الفطرة الإنسانية أوّلاً، وتقدّم قدرته سبحانه على فعله ثانياً.

وبذلك يظهر أنّ ما أقامه المعتزلة من البراهين على تقدّمها على الفعل تنبيهات على المسألة،ولنعم ما قال المحقّق اللاهيجي: إنّ الدعوى ضرورية، وهذه الوجوه تنبيهات عليها، كيف والقطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان.(1)

5. ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الحافز أو الحوافز التي دعت الشيخ

الأشعري إلى اختيار ذلك المذهب، فإنّ القول بتقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها له، لا يمس كرامة الدين والشريعة ولا النصوص الواردة فيها، فما هو الداعي إلى اختيار القول بالتقارن، بل التركيز عليه؟

ويحتمل أن يكون الداعي هو قوله: «إنّ أفعال العبد مخلوقة لله سبحانه لا للعباد، لا أصالة ولا تبعاً». والمناسب لتلك العقيدة حينئذ رفض القدرة المتقدمة للعبد على الفعل، والاكتفاء بالمقارن لأجل تحقّق عنوان الطاعة والعصيان بالعزم عليهما.

وإلى ما ذكرنا أشار القاضي عبد الجبار فقال: ولعلّهم بنوا ذلك للّهعلى أنّ أحدنا لا يجوز أن يكون محدثاً لتصرّفه، وأنّهم لما أثبتوا أنّ الله تعالى محدث على الحقيقة، قالوا: إنّ قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له.(2)

____________________________

1 . الشوارق: 441.

2 . شرح الأُصول الخمسة: 396.

( 180 )

وكأنّ الشيخ يتصوّر أنّ القدرة المتقدّمة للفعل تزاحم قدرة الله عليه، فلأجل ذلك وجد في نفسه حافزاً نفسياً إلى البرهنة على بطلان التقدّم وإثبات التقارن.

وما ذكرنا من الوجه يلائم عقيدة الشيخ في خلق الأعمال، ولكن القول ببطلان التقدّم و لزوم التقارن لا يختص بالشيخ، بل اختاره عدّة من المعتزلة، والمتقدّمين على الشيخ عصراً، يقول شارح المواقف: قد وافق الشيخ _ في أنّ القدرة حادثة مع الفعل _ كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وابن عيسى الورّاق وغيرهم.(1)

القدرة صالحة للضدين

ثمّ إنّ هناك مسألة تتفرّع على المسألة الأُولى، وهي أنّ القدرة صالحة للضدين، وهذا ما يعطيه مفهوم القدرة،فالقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل،وإذا شاء أن يترك ترك، فلو فرضنا صلاحية القدرة لأحد الضدين فقط، لم يكن الآخر مقدوراً، فلا يصدق على الفاعل كونه قادراً ولا على عمله أعمال القدرة، وقد خالف في ذلك الأشاعرة فالقدرة الواحدة عندهم لا

تتعلّق بالضدّين، بل لا يتعلّق إلاّ بمقدور واحد، سواء أكان المقدور الآخر ضداً أم لا.

و بما ذكرنا من التحقيق في المسألة الأُولى، وأنّ النزاع هناك في أمر واضح يتضح حال هذه المسألة، فإنّه لو أُريد من القدرة قابلية الفاعل واستعداده لأن يفعل فلا شكّ أنّها تتعلّق بالضدّين، كما تتعلّق بالمتماثلين والمتخالفين، وإن أُريد القوة الموجبة للفعل بحيث تجعل الفعل واجب التحقّق، والفاعل واجب الفاعلية فلا شكّ أنّها لا تتعلّق إلاّ بمقدور واحد.

وإن شئت قلت: القدرة بمعنى العلّة الناقصة لصدور الفعل متقدمة على الفعل صالحة للتعلّق بالضدين، وأمّا إذا كانت بمعنى العلّة التامّة غير المنفكة

____________________________

1 . شرح المواقف:6/92.

( 181 )

عن الفعل فهي متقارنة مع الفعل، غير متعلّقة إلاّ بمقدور واحد. والأشاعرة لما اختارت تبعاً لمؤسس المنهج كون القدرة مع الفعل، نفت صلاحية تعلّقها بمقدورين، فضلاً عن الضدّين، وبما أنّك عرفت أنّ النزاع في المسألة السابقة أشبه باللفظي، يكون النزاع هنا أيضاً مثله.

قال الإمام الرازي: قد تطلق القدرة على القوة العضلية، التي هي مبدأ الآثار المختلفة في الحيوان، بحيث لو انضم إليها إرادة كلّ واحد من الضدّين حصل دون الآخر،ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين على السواء. وقد تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير، ولا شكّ في امتناع تعلّقها بالضدّين،وإلاّ اجتمعا في الوجود، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور، غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر، لاختلاف الظروف بحسب كلّ مقدور. فلعلّ الأشعري أراد بالقدرة، المعنى الثاني، فحكم بأنّها لا تتعلّق بالضدّين، ولا هي قبل الفعل، والمعتزلة أرادت بها المعنى الأوّل، فذهبوا إلى أنّها تتعلّق بالضدّين وأنّها قبل الفعل.(1)

ثمّ إنّ أبا الحسن الأشعري لماّ اختار لزوم مقارنة القدرة مع الفعل وامتناع تقدّمها عليه، وقع في تكليف الكفّار بالإيمان في

زمان كفرهم في حيرة، كما قام بتأويل كثير من الآيات الصريحة في تقدّم القدرة على الفعل، وإليك نماذج منها:

1. إنّ الكفّار مكلّفون بالإيمان كما هو صريح الكتاب، فلو كانت القدرة موجودة مع الفعل لكان تكليفهم بالإيمان في حال الكفر تكليفاً بالمحال، وهذا من النقوض الواضحة التي سعى الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه في حلّها ولم يأتوا بشيء مقنع.

2. قال سبحانه: (أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَو عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَرَ وَعَلى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكين) .(2)

اتّفق مشاهير المفسرين على أنّ الضمير في «يطيقونه» يرجع إلى الصيام،

____________________________

1 . شرح المواقف:6/154.

2 . البقرة:184.

( 182 )

والمراد أنّ الذين يقدرون على الصيام لكن بعسر وشدة يجوز لهم الإفطار، والفدية لكلّ يوم بطعام مسكين. فالآية نصّ في تقدّم الاستطاعة على العمل. قال في المنار: إنّ الذين لا يستطيعون الصوم إلاّ بمشقة شديدة، عليهم فدية طعام مسكين في كلّ يوم يفطرون فيه.(1)

والشيخ الأشعري تكلّف بإرجاع الضمير إلى الإطعام، والمعنى: وعلى الذين يطيقون الإطعام ويعجزون عن الصيام، عليهم الفدية.

يلاحظ عليه: أنّ مرجع الضمير غير مذكور على تفسيره أوّلاً، والعجز عن الصيام الذي هو المهم لم يذكر في الآية لا تصريحاً ولا تلويحاً، الإطعام واجب مطلقاً للعاجز وغيره ثانياً.

3. قال سبحانه: (وَللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبيلاً) (2) فالآية صريحة في أنّ المستطيع بالفعل يجب عليه الحجّ في المستقبل.

وقد تكلّف الشيخ في تفسير الاستطاعة بالمال، ويعني الزاد والراحلة وقال: ولم يرد استطاعة البدن التي في كونها كون مقدورها.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تفسير الاستطاعة بخصوص ما ذكره لا دليل عليه، مع أنّ استطاعة البدن ركن مثل المال، وثانياً: أنّه لو انضم إليه البدن لما كان في كونه، كون

مقدوره، أعني: نفس عمل الحجّ، لأنّ للزمان وشهور الحجّ دخلاً في تحقّق المقدور.

4. قوله تعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) .(3)

ترى أنّ المنافقين يحلفون بعدم الاستطاعة على الخروج إلى الجهاد والله يكذبهم ويقول: إنّهم مستطيعون ولا يريدون الخروج، قال سبحانه: (وَلَوْ

____________________________

1 . المنار:2/156.

2 . آل عمران:98.

3 . التوبة:42.

( 183 )

أَرادُوا الخُروجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة) .(1)

وقد فسر الشيخ الإستطاعة بالمال، وقال: إنّهم كانوا يجدون المال، وكانت المحاورة بينهم و بين النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ في الجدة، وإذا كان كذلك فنحن لا ننكر تقدّم المال للفعل، وإنّما أنكرنا تقدّم استطاعة السلوك للفعل.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هؤلاء الواجدين للمال لم يكونوا خارجين عن حالتين: الصحّة والسلامة، المرض والضعف.

فعلى الأوّل كانت الاستطاعة بعامة أجزائها موجودة قبل الفعل، أعني: الخروج إلى الجهاد، وعلى الثاني لم يكونوا مخاطبين بالخروج إلى الجهاد لقوله سبحانه: (وَلاَ عَلى المَريضِ حَرَجٌ) .(3)

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي هي ظاهرة في تقدّم الاستطاعة على الفعل، وقد أتعب الشيخ نفسه في تأويل هذه الآيات بما لا يرضى به من له إلمام بتفسير الآيات وتوضيحها.

والعجب أنّ الشيخ يتهجّم على المعتزلة تبعاً لأهل الحديث، لتأويلهم الآيات والروايات الظاهرة في أنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً، مع أنّه يتكلّف التأويل في هذا الباب عند تفسير كثير من الآيات الظاهرة في خلاف ما تبنّاه.

وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا فلاحظ تأويله قوله سبحانه، في قصة سليمان حكاية عن عفريت من الجن:(قالَ يا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُوني مُسْلِمينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ) .(4)

فانظر صراحة الآية

في أنّ العفريت يصف نفسه بالقوة والاستطاعة قبل أن يفعل.

____________________________

1 . التوبة:46.

2 . اللمع:106.

3 . النور:61.

4 . النمل:38_ 39.

( 184 )

وبعد ذلك فانظر إلى تكلّف الشيخ في تفسير الآية حيث يقول:عنى العفريت بقوله :>>َ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ) إن استطعت ذلك وتكلفته وأردته، أو عنى منه: إن شاء الله، أو عنى منه: إن قوّاني الله تعالى عليه.

والعجب أنّه يتنبّأ ويقول: «ولو لم يعلم سليمان أنّ العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذّبه و رّد عليه قوله» أو ليس هذا تخرصاً على الغير؟!

ونحن لا نعلّق على التأويل الذي أتى به الشيخ، ولا على التنبّؤ الذي نسبه إلى سليمان شيئاً، بل نرجع القضاء في ذلك إلى وجدان القارئ الحر، ونقول: هكذا يتلاعب الإنسان بالآيات القرآنية بسبب أفكاره المسبقة.(1)

____________________________

1 . راجع في ما نقلناه عن الشيخ الأشعري حول الآيات، اللمع : 99_ 109.

( 185 )

التكليف بما لا يطاق

إنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق، أمّا إذاكان الآمر إنساناً فلأنّه بعد وقوفه على أنّ المأمور غير مستطيع لإيجاد الفعل، وغير قادر عليه، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفسه وضمير روحه، ولا يبلغ تصوّر الفعل والتصديق بفائدته إلى مرحلة العزم والجزم بطلبه من المأمور، وبعثه من صميم القلب نحو الشيء المطلوب، إذ كيف يمكن أن يطلب شيئاً بطلب جدي ممّن يعلم أنّه عاجز، وهل يمكن لإنسان أن يطلب الثمرة من الشجرة اليابسة، أو المطر من الأحجار والأتربة الجامدة، ولأجل ذلك يقول المحقّقون: إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً، وإنّ الإرادة الجدية لا تنقدح في ضمير الأمر هذا كلّه إذا كان الآمر إنساناً، وأمّا إذا كان الآمر هو الله سبحانه، فالأمر فيه واضح

من جهتين:

1. إنّ التكليف بمالا يطاق أمر قبيح عقلاً، فيستحيل عليه سبحانه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد مالا قدرة له عليه ولا طاقة له به، ويطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلّف الزمن، الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدين، ولا إدخال الجمل في خرم الإبرة، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة.

2. الآيات الصريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلاّ بمقدار قدرته وطاقته، قال سبحانه: (لا يُكَلّفُ الله نَفساً إِلاّ وُسْعَها). (1)

وقال تعالى: (وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبيدِ). (2)

وقال عزّ من قائل:(ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحداً) .(3)

والظلم هو الإضرار بغير المستحق، وأيّ إضرار أعظم من هذا، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ومع هذه البراهين المشرقة سلك الأشعري غير هذا الصراط السوي، وجوز التكليف بمالا يطاق، واستدلّ عليه بالآيات التالية:

1. (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (4) وقد أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكلّفوه، فدلّ ذلك على جواز تكليف مالا يطاق، وأنّ من لم يقبل الحقّ ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً.

2.(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَها عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسماءِ هؤلاءِإِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ).(5) قال: الآية تدل على جواز تكليف ما لا يطاق،فقد أُمروا بإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.

3. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَونَ إِلى السُّجُود فَلا يَسْتَطيعُونَ* خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَونَ إِلى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (6) قال: فإذا جاز تكليفه إيّاهم في الآخرة مالا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.

____________________________

1 . البقرة:286.

2 . فصلت:46.

3 . الكهف:49.

4 . هود:20.

5 . البقرة:31.

6 . القلم:42_ 43.

( 186

)

4.(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَو حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ الْمَيلِ فَتَذرُوها كالمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً).(1) قال: وقد أمر اللّه تعالى بالعدل، ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يعدل.(2)

يلاحظ عليه:

أمّا الآية الأُولى: فيظهر ضعف الاستدلال بها بتفسير مجموع جملها:

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ ): إنّهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية وإن خرجوا عن زي العبودية وافتروا على الله الكذب، ولكن ماغلبت قدرتهم قدرة الله.

( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ) : إنّهم وإن اتّخذوا أصنامهم أولياء ولكنّها ليست أولياء حقيقة، وليس لهم من دون الله تعالى.

( يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ): يجازون بما أتوا به من الغي والظلم والأعمال السيّئة».

( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) هذه الجملة في مقام التعليل يريد أنّهم لم يكفروا ولم يعصوا أمر الله، لأجل غلبة إرادتهم على إرادة الله، ولا لأنّ لهم أولياء من دون الله، بل لأنّهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من إنذار وتبشير، أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله سبحانه، وما كانوا يبصرون آياته، حتى يؤمنوا بها، ولكن كلّ ذلك لا لأجل أنّهم كانوا غير مستطيعين أن يسمعوا ويبصروا من بداية الأمر، بل لأنّهم أنفسهم سلبوا هذه النعم بالذنوب فصارت وسيلة لكونهم ذوي قلوب لا يفقهون بها، وذوي أعين لا يبصرون بها، وذوي آذان لا يسمعون بها، فصاروا كالأنعام بل أضلّ منها.(3)

____________________________

1 . النساء:129.

2 . لاحظ اللمع: 99، 113، 114.

3 . اقتباس من قوله سبحانه:(لهم قلوب لا يفقهون بها...) الأعراف:179.

( 187 )

إنّ الآيات الكريمة صريحة في أنّ عمل الإنسان وتماديه في الغي ينتهي إلى صيرورة الإنسان أعمى وأصم وأبكم،

قال سبحانه: (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ الله قُلُوبَهُمْ).(1)

وقال سبحانه: (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسِقينَ) .(2)

وعلى ذلك فالآية التي استدلّ بها الشيخ، نظير قوله سبحانه: (خَتَمَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِم وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (3) و قوله سبحانه: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّل مَرَّة) .(4)

ولكن كل ذلك في نهاية حياتهم بعد تماديهم في الغي.وأمّا في ابتداء حياتهم فقد أعطى للجميع قدرة الإبصار والاستماع والتفكّر والتعقّل. قال سبحانه: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5) ولكن الإنسان ربما يبلغ به الغي إلى درجة ينادي فيها ويقول: (لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أَصْحابِ السَّ عيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصحابِ السَّعيرِ).(6)

وباختصار، الآية تحكي عن عدم استطاعتهم السمع، ولكن السبب في حصول هذه الحالة لهم، هو أنفسهم باختيارهم، وهذا لا ينافي وجود الاستطاعة قبل التمادي في الغي، وما يتوقّف عليه التكليف هو القدرة الموجودة قبل سلبها عن أنفسهم.

ومن القواعد المسلّمة في علم الكلام قولهم: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار».

____________________________

1 . الصف:5.

2 . البقرة:26.

3 . البقرة:7.

4 . الأنعام:110.

5 . النحل:78.

6 . الملك:10_ 11.

( 188 )

إلى هنا تعرفت على مفاد الآية، ووقفت على أنّها لا تمت إلى ما يدّعيه الشيخ بصلة، وهلم معي ندرس الآيات الباقية:

وأمّا الآية الثانية، أعني قوله سبحانه: (أَنْبِئُوني بِأَسماءِ هؤلاءِ) فليس الأمر فيها للتكليف والبعث نحو المأمور به، بل للتعجيز، مثل قوله سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ) .(1)

إنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء، هي

بعث المكلف نحو الفعل جداً، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ويشترط فيه القدرة الاستطاعة، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه: (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئينَ) (2) والإهانة، مثل قوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريمُ)(3)، أو التمنّي، مثل قول امرئ القيس في معلّقته:

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي * بصبح وما الإصباح منك بأمثل

إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلّم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر، وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وأمّا الآية الثالثة فليست الدعوة إلى السجود فيها عن جد وإرادة حقيقية، بل الغاية من الدعوة إيجاده الحسرة في المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا. والآية تريد أن تبين أنّهم في أوقات السلامة رفضوا الإطاعة والامتثال، وعند العجز _ بعد ما كشف الغطاء عن أعينهم ورأوا العذاب _ همّوا بالسجود، ولكن أنّى لهم ذلك، وإليك تفسير جمل الآية.

____________________________

1 . البقرة:23.

2 . البقرة:65.

3 . الدخان:49.

( 189 )

(يوم يكشف عن ساق) الجملة كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه، وإن لم يكن هناك كشف ولا ساق،وذلك لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقيه،ويخوض غمار الحوادث. وهذا كما يقال للأقطع الشحيح: يده مغلولة،وإن لم يكن هناك يد ولا غل.

(ويدعون إلى السجود) : لا طلباً ولا تكليفاً جدّياً، كما زعمه الشيخ أبو الحسن، بل لازدياد الحسرة على تركهم السجود في الدنيا مع سلامتهم.

(فلا يستطيعون) : لسلب السلامة منهم(1) أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم، واليوم تبلى السرائر.(2)

(خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة) : تكون أبصارهم خاشعة ويغشاهم في ذلك اليوم ذلّة.

(وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) : إنّهم لماّ دعوا إلى

السجود في الدنيا فامتنعوا عنه مع صحتهم وصحّة أبدانهم، يدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون،وذلك لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء.

ومجموع جمل الآية تعرب بوضوح عن أنّ الدعوة فيها لا تكون عن تكليف جدي، بل لغايات أُخرى لا يشترط فيها القدرة.

وأمّا الآية الرابعة، فلا شكّ أنّ الله سبحانه أمر بالعدالة من يتزوج أكثر من واحدة قال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةٌ) (3) وفي الوقت نفسه أخبر في آية أُخرى عن عدم استطاعة المتزوّجين أكثر من واحدة على أن يعدلوا. ولكن نهى عن التعلّق التام بالمحبوبة منهن،والإعراض عن الأُخرى رأساً، حتى تصير كالمعلّقة لا متزوّجة ولا مطلّقة، قال سبحانه: (وَلَنْ

____________________________

1 . الكشاف:3/261.

2 . الميزان:20/46، والمعنى الأوّل الذي قال به صاحب الكشاف أظهر لما في الآية التالية من قوله:(وهم سالمون) .

3 . النساء:3.

( 190 )

تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقةِ وَأَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

وبالتأمّل في جمل الآية، يظهر أنّ العدالة التي أمر بها،غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها. فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة،وهو العدالة في الملبس و المأكل والمسكن،وغيرها من الحقوق الزوجية التي يقوم بها الزوج بجوارحه،ولا صلة لها بباطنه.

وأمّا غير المستطاع منها فهو المساواة في إقبال النفس والبشاشة والأنس، لأنّ الباعث عليها الوجدان النفسي والميل القلبي، وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره.

والآية بصدد التنبيه على أنّ العدل الكامل بين النساء غير مستطاع،ولا يتعلّق به التكليف،ومهما حرص الإنسان على أن يجعل المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن لا يستطيعه،وهذا هو العدل الحقيقي

التام.(2)

وباختصار: إنّ المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرّف أصلاً، وهو ليس محلاً للتكليف، والمثبت المشروع الذي أمر به هو العدل التقريبي الذي هو في وسع كلّ متزوج بأكثر من واحدة.(3)

____________________________

1 . النساء:129.

2 . المنار:5/448.

3 . الميزان:5/106.

( 191 )

رؤية الله بالأبصار

رؤية الله بالأبصار

إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتم الأشعري بإثباته اهتماماً بالغاً في كتابيه: «الإبانة» و «اللمع» وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع، وفي الثاني من ناحية العقل.

قال في «الإبانة»: و ندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله.(1)

وقال في «اللمع»: إن قال قائل: لم قلتم إنّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟

قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه، لا يلزم في القول بجوازالرؤية.(2)

ولإيقاف القارئ على حقيقة الحال نبحث عن الأُمور التالية:

1.سرد الأقوال وتعيين محلّ النزاع.

2. دليل القائلين بجواز الرؤية من العقل.

3. دليل القائلين بالجواز من القرآن.

4. دليل القائلين بالجواز من السنّة.

____________________________

1 . الإبانة: 21.

2 . اللمع: 61 بلتخيص.

( 192 )

5. استدلال المنكرين بالعقل.

6. استدلال المنكرين بالسمع.

الأمر الأوّل: في نقل الآراء حول الرؤية

المشهور بين أهل الحديث، وصرح به إمامهم أحمد بن حنبل، هو القول بجواز الرؤية في الآخرة، قال: والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي: أنّ أهل الجنّة يرون ربّهم، لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله.(1)

وقال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة: يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، لا يراه الكافرون لأنّهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون) وإنّ موسى

سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً، فأعلمه بذلك أنّه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.(2)

ولكن الظاهر من الآمدي أنّ القائلين بالجواز لا يخصونه بالآخرة بل يقولون بجوازها في الدنيا أيضاً، وإنّما اختلفوا في أنّه هل ورد دليل سمعي على جوازها في الدنيا أو لاً، بعد ما اتّفقوا على وروده في الآخرة، قال: «اجتمعت الأئمة من أصحابنا على رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً، واختلفوا في جوازها سمعاً، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون».(3)

وعلى كلّ تقدير فقد نقل الأشعري في مقالات الإسلاميين أقوالاً كثيرة حول الرؤية لا يستحقّ أكثرها أن يذكر، ونشير إلى بعضها إجمالاً:

إنّ جماعة يقولون: يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.

____________________________

1 . الرد على الزنادقة: 29.

2 . مقالات الإسلاميين: 322.

3 . شرح المواقف: 8/115.

( 193 )

وأجاز عليه بعضهم في الأجسام، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعلّ آلهتهم فيه.

وأجاز كثير ممّن جوّز رؤيته في الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته إيّاه، وقالوا إنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك، حكي ذلك عن بعض أصحاب «مظهر» و «كهمس».

وقال «ضرار» و «حفص الفرد»: إنّ الله لا يُرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة، غير حواسنا فندركه بها.(1)

يقول ابن حزم: إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة في العين، بل بقوة أُخرى موهوبة من الله.(2)

هذه هي بعض الأقوال المطروحة في المسألة من جانب بعض أهل الحديث، وليس ذلك بعجيب من أهل التجسيم، وإنّما العجب ممّن يتجنب التجسيم ويعد نفسه من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه، ويقول _ مع ذلك _ بالرؤية، كالأشاعرة عامة.

ولأجل ذلك ذهبت

المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة، وقالوا بأنّ القول لا يفارق التجسيم والتشبيه، كما ستقف عليه عند سرد براهينهم إن شاء الله.

أهل الكتاب ومسألة الرؤية

وقد يدين بالرؤية أهل الكتاب قبل أهل الحديث والأشاعرة، ووردت رؤيته في العهد القديم،وإليك مقتطفات منها:

1. «رأيت السيد جالساً على كرسي عال. فقلت: ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود»(أشعيا ج6 ص 1_6). والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

____________________________

1 . مقالات الإسلامين: 261_ 265و 314.

2 . الفصل:3/2.

( 194 )

2.«كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار»(دانيال 7:9).

3. «أما أنا فبالبر أنظر وجهك»(مزامير داود:17:15).

4. «فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله»(القضاة13:23).

5. «فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين»(الملوك الأوّل 11:9).

6.«وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه»(الملوك الأوّل 22:19).

7. «كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله _ إلى أن قال: _ هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم»(حزقيال1:1و28).

والقائلون بالرؤية من المسلمين، وإن استندوا إلى الكتاب والسنّة ودليل العقل، لكن غالب الظن أنّ القول بالرؤية، تسرب إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان، وربما صاروا مصدراً لبعض الأحاديث في المقام، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها، واستدعاء الأدلّة عليها من النقل والعقل.

ما هو محلّ النزاع؟

إنّ محلّ النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه، أي بدون استلزام

ما يمتنع عليه سبحانه، من المكان والجهة.

وأمّا الرؤية القلبية، ومشاهدة الواجب من غير الطرق الحسية فخارج

( 195 )

عن مصب البحث، إذ لم يقل أحد بامتناعها.

والقائلون بالرؤية مع التنزيه على فرقتين: فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية، وفرقة أُخرى على العكس.

فمن الأُولى: سيف الدين الآمدي، أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع(551_631ه_)، يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلاّ على سبيل التقريب.(1)

ومن الثانية: الرازي في عديد من كتبه كمعالم الدين ص 67 والأربعين ص 198،والمحصل ص 138، فقال: إنّ العمدة في جوازالرؤية ووقوعها هو السمع،وعليه الشهرستاني في «نهاية الأقدام» ص 369.

هذه هي الأقوال الدارجة حول الرؤية، وقد عرفت ما هو محلّ النزاع.

الأمر الثاني: الأدلّة العقلية على جواز الرؤية

قد عرفت أنّ طرف النزاع في المقام هو الأشاعرة، وفي مقدّمهم الشيخ الأشعري، وهم من أهل التنزيه، فلأجل ذلك يطرحون المسألة بشكل يناسب مذهبهم.

يقول التفتازاني: ذهب أهل السنة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.(2)

وهذه القيود التي ذكرها التفتازاني، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار، ولكن

____________________________

1 . غاية المرام في علم الكلام: 174.

2 . شرح المقاصد:2/111.

( 196 )

مجرّدة عن المقابلة والجهة والمكان، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان. فتحقّق الرؤية _ سواء قلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء _ في

غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل; ولأجل ذلك يحاول التفتازاني أن يصحّح هذا النوع من الرؤية ويقول:

إنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم، كان نوعاً من المعرفة، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين، كان نوعاً آخر فوق الأوّل، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية، ولا تتعلّق في الدنيا إلاّبما هو في جهة ومكان، فمثل هذه الحالة الإدراكية، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة، وأن تتعلّق بذات الله تعالى منزهاً عن الجهة والمكان، أو لا؟.(1)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ الرؤية الأُولى أيضاً قبل الغمض، تصدق عليها الرؤية، وليس الاختلاف بين الرؤيتين إلاّ في الوضوح والخفاء والقصر والطول، ولكنّه إنّما خصّ النزاع بالرؤية الثانية لأجل ما ورد في الروايات، من أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كفلق البدر.

ثانياً: أنّ الرؤية قائمة بأُمور ثمانية: 1. سلامة الحاسة 2. المقابلة أو حكمها كما في رؤية الصور المنطبعة في المرآة 3. عدم القرب المفرط 4. عدم البعد كذلك5. عدم الحجاب بين الرائي والمرئي6. عدم الشفافية، فإنّ ما لا لون له كالهواء لا يرى 7. قصد الرؤية 8. وقوع الضوء على المرئي وانعكاسه منه إلى العين.

فلو قلنا بأنّ هذه الشرائط ليست إلزامية بل هي تابعة لظروف خاصة، ولكن قسماً منها يعد مقوماً للرؤية بالأبصار، وهو كون المرئي في حيز خاص،

____________________________

1 . شرح المقاصد:2/111.

( 197 )

وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.

ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات، التجأوا إلى أمر آخر، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا

الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا، وهذا مثل أن يقال: إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا، أو إنّ نتيجة «2*2» تصير في الآخرة خمسة، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه: (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).(1)

ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين: أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال، والآخر إلى الجانب الإيجابي، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.

ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين: الأدلّة العقلية، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية:

الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية

إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه، أو تشبيهه أو تجنيسه، أو قلبه عن حقيقته، أو تجويره أو تظليمه، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط، ونحن نقتطف منه جملتين:

1. «ليس في جواز الرؤية إثبات حدث، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه

____________________________

1 . البقرة:25.

( 198 )

محدث، ولو كان مرئياً لذلك للزم أن يرى كلّ محدث، وذلك باطل».

2. «ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه».(1)

يلاحظ على الفقرة الأُولى: أنّ الملازمة ممنوعة، إذ لقائل أن يقول: إنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية حتى يلزم رؤية كلّ محدث،

بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط، وبما أنّ بعضها غير متوفّر في المجردات المحدثات، لا تقع عليه الرؤية.

ويلاحظ على الفقرة الثانية: أنّه اكتفى بمجرّد ذكر الدعوى، ولم يعززها بالدليل، مع أنّ مشكلة البحث هي التشبيه الذي أشار إليه، فإنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة ولو بالمعنى الوسيع، ولولاها لا تتحقّق،والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان، وهذا يستلزم كونه سبحانه ذا جهة ومكان، وهو نفس التشبيه والتجسيم. وكيف يقول إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه؟! «ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!

وهناك إشكال آخر التفت إليه الشيخ، فعرضه وأجاب عنه، ونحن نعرض الإشكال والجواب بنصّهما،قال:

فإن عارضونا بأنّ اللمس والذوق والشم، ليس فيه إثبات الحدث، ولا حدوث معنى في الباري تعالى، قيل لهم: قد قال بعض أصحابنا إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان و اللهوات بالجسم الذي له الطعم، وإنّ الشمّ هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له، وإنّ المتماسين إنّما يتماسان بحدوث مماسين فيهما، وإنّ في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري.

يلاحظ عليه: أنّ التفريق بين الأبصار وسائر الإدراكات الحسية تفريق بلا جهة، وما ذكره من أنّ المتماسّين إنّما يتماسّان بحدوث مماسّين فيهما... مجمل جداً، وذلك لأنّه إن أراد أنّ اللمس يوجب حدوث نفس المماسين وذاتهما فهو ممنوع، لأنّ ذاتهما كانتا موجودتين قبل تحقّق اللمس، وإن أراد حدوث

____________________________

1 . اللمع: 61_ 62.

( 199 )

وصف مادي ورابطة جسمانية، وهي التي عبر عنها بقوله:«إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات» فتلك الحالة أيضاً حادثة عند الإبصار، غاية الأمر أنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات، والإبصار ضرب من ضروب المقابلات، وبإعمال كلّ واحد من الحواس تتحقّق إضافة بين

الحاسة والمحسوس، وفي ظلها يتحقّق الإبصار واللمس والشمّ والذوق.

وأضف إلى ذلك ما نقله عن بعض أصحابه في نقد السؤال الماضي وحاصله:

إنّ لمسنا أو ذوقنا أو شمنا إياه سبحانه، يتصور على صورتين:

1. أن يحدث الله تعالى للذائق أو الشام أو اللامس إدراكاً من غير أن يحدث في الباري تعالى معنى.

2. تلك الصورة لكن يحدث فيه سبحانه معنى، فالثاني غير جائز، والأوّل جائز، ولكن الأمر في التسمية إلى الله، إن أمرنا أن نسمّيه لمساً وذوقاً وشماً سمّيناه، وإن منعنا امتنعنا.(1)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ معنى ذلك أن يكون سبحانه مشموماً ملموساً، مذوقاً، إذا لم يحدث فيه معنى بشمنا، وذوقنا، ولمسنا، وهذا في نهاية الضعف لا تجترئ عليه المجسّمة، فكيف بالمنزّهة؟!

وثانياً: أنّ إيجاده سبحانه في جوارحنا إدراكاً، حتى يتحقّق في ظله لمسه وذوقه، وشمّه، بلا حدوث معنى فيه، أشبه بترسيم الأسد على عضد البطل، من غير رأس ولا ذنب، لأنّ واقعية أعمال هذه الحواس لا تنفك عن تحقّق إضافة ورابطة بينها و بين المحسوس من غير فرق بين الإبصار وغيره، وهذه الإضافة إضافة مقولية قائمة بالطرفين. وقد التزم المجيب بامتناع هذا القسم، وإنّما سوغ قسماً آخر، غير معقول ولا متصوّر.

____________________________

1 . اللمع: 62.

( 200 )

وباختصار: إنّ الدليل السلبي الذي اعتمد عليه الشيخ الأشعري غير كاف، لأنّ الرؤية تستلزم التشبيه، أي ما يستحيل عليه سبحانه من كونه طرف الإضافة المقولية الحاصلة بينه و بين الحواس.

الدليل العقلي الثاني لجواز الرؤية

إنّ الوجود هو المصحح للرؤية، وهو مشترك بين الواجب وغيره وقد نسبه في المواقف إلى الشيخ الأشعري والقاضي وأكثر أئمّة الأشاعرة.(1)

وحاصله: أنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض، ولابدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة وهي إمّا الوجود أو الحدوث، والحدوث لا يصلح للعلية، لأنّه

أمر عدمي، فتعيّن الوجود، والوجود مشترك بين الواجب والممكن، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن.

وقد اعترض على ذلك البرهان في الكتب الكلامية، حتى من جانب نفس الأشاعرة(2)، بكثير ولكنّا نعتمد في نقض هذا البرهان على ما يبطله من أساسه، فنقول:

إنّ الحصر في كلامه غير حاصر، فمن أين علم أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود؟ إذ من المحتمل أن يكون الوجود شرطاً لازماً، لا شرطاً كافياً، ويكون الملاك هو الوجود الممكن، وليس المراد من الممكن في قولنا «الوجود الممكن» الإمكان الذاتي، الذي يقع وصفاً للماهية، حتى يقال بأنّ الماهية ووصفها «الإمكان» من الأُمور العدمية والاعتبارية لا تصلح أن تكون جزء العلّة، بل المراد هو الإمكان الذي يقع وصفاً للوجود، ومعناه كون الوجود متعلقاً بالغير قائماً به، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، وليس الإمكان بهذا المعنى شيئاً غير حقيقة الوجود الإمكاني، كما أنّ الوجوب ليس وراء نفس حقيقة

____________________________

1 . شرح المواقف:8/115.

2 . تلخيص المحصل: 317، غاية المرام:160، شرح التجريد للقوشجي: 431 وغيره.

( 201 )

الوجود في الواجب شيئاً طارئاً عليه، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصحّ للمستدلّ أن يجعل مصحّح الرؤية نفس الوجود، ثمّ يدّعي اشتراكه بين الواجب وغيره.

بل هناك احتمال ثالث، هو أن يكون الملاك ومصحّح الرؤية هو الوجود الإمكاني المادي، الذي يقع في إطار شرائط خاصة لتحقّقها، وهي عبارة عن المقابلة وكونه طرف الإضافة المقولية بين البصر والمبصر، بضميمة وجود الضوء بينهما، فادّعاء كون الملاك أمراً وسيعاً (الوجود)، يحتاج إلى دليل.

ولو أردنا أن نقف على ما هو الملاك _ من زاوية العلوم الطبيعية _ فإنّ الإبصار حسب هذه العلوم رهن ظروف خاصة، ولا تعدو عن كون المبصر موجوداً ممكناً مادياً، يقع في أُفق الحس حيث

يوجد هناك ضوء، وادّعاء إمكان الإبصار في غير هذه الظروف يحتاج إلى دليل، وليس الاحتمال كافياً في مقام البرهان.

والعجب أنّه يدّعي أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود، وعليه أن يعترف بصحّة رؤية الأفكار والعقائد، والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة، إلى غير ذلك من الموجودات التي لا يشكّ أحد في امتناع رؤيتها.

ولكن الشيخ حسب نقل شارح المواقف أجاب عن هذا النقض بقوله: إنّنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بعدم الرؤية، فإنّه أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا، ولكن لا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.(1)

ولا يخفى أنّ كلامه يتضمن المصادرة على المطلوب، إذ من أين وقف على إمكان رؤيتها حتى يصحّ تعليل عدم وقوعها بقوله: «أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا مع إمكانها» فإنّ الكلام في نفس الإمكان، والخصم يدّعي الامتناع وهو يدّعي خلافه.

أضف إلى ذلك أنّ اللجوء إلى عادة الله في كلمات الشيخ الأشعري

____________________________

1 . شرح المواقف:8/123.

( 202 )

وأتباعه، يرجع لبه إلى إنكار السببية والمسببية بين عوالم الوجود ودرجات العالم، وأنّ كلّ حادثة طارئة تستند إليه سبحانه مباشرة، وأنّه هو المحرق والمبرد، وما يتبادر إلى الأذهان والحواس من كون النار محرقة ليس إلاّ جريان عادة الله على إيجاد الحرارة بعد وجود النار، ولا صلة بين النار والحرارة.

وهذا الأصل الذي يعتمد عليه الأشاعرة في كثير من المواضع يضاد الكتاب العزيز والبرهان القويم. كيف و قد صرّح سبحانه في الذكر الحكيم بتأثير العلل الطبيعية في معلولاتها بإذن منه سبحانه، ونكتفي من الآيات الكثيرة بآية واحدة: (الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَبِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (1). أنظر إلى قوله

سبحانه(فَأخرج به)أي بسبب الماء، فللماء سببية وتأثير في خروج الثمرات.(2)

الأمر الثالث: دليل القائلين بالجواز من القرآن

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة نذكر المهم منها:

الأُية الأُولى

قوله سبحانه: (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَةٌ *إِلى رَبِّها ناظِرَة* وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) .(3)

تمسّكت الأشاعرة لجواز رؤية الله بهذا الدليل السمعي، قائلين بأنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار، يستعمل بغير صلة، ويقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل باللام، وإذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب_«إلى» و النظر في الآية استعمل بلفظ «إلى»، فيحمل

____________________________

1 . البقرة:22.

2 . تقدّم الكلام فيه.لاحظ: ص 161.

3 . القيامة:20_ 25.

( 203 )

على الرؤية.(1)

قال الشيخ أبو الحسن: والدليل على أنّ الله تعالى يُرى بالأبصار قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَومَئِد ناضِرَة* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (2) ولا يجوز أن يكون معنى قوله (إِلى ربّها ناظرة)معتبرة، كقوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(3). لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار، ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال: «ولا ينظر إليهم» أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم، لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه(4). ولا يجوز أن يعني منتظرة، لأنّ النظر إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين، لأنّ القائل إذا قال: أنظر بقلبك في هذا الأمر، كان معناه نظر القلب، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلاّ نظر الوجه.

والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الذي يكون بالعين التي في الوجه، فصحّ أنّ معنى قوله تعالى :(إِلى رَبِّها ناظرةٌ) رائية. إذا لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر الأُخرى.(5)

قال أيضاً حول دلالة الآية على الرؤية:

إنّ النظر في هذه الآية لا يمكن أن

يكون نظر الانتظار، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير، وذلك لا يكون يوم القيامة، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر القلب، لأنّ الله تعالى ذكر النظر مع الوجه، فاتضح أنّه نظر العينين، وإذا بطلت هذه المعاني

____________________________

1 . شرح التجريد للقوشجي: 334.

2 . القيامة: 22_ 23.

3 . الغاشية: 17.

4 . هذا سهو من قلمه، لأنّ الآية تتضمن نفي نظره سبحانه إليهم بالرحمة والعطف، لا نظرهم إليه بالعطف والحنان حتى يصح قوله: «لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه» فلاحظ.

5 . اللمع: 64.

( 204 )

للنظر لم يبق إلاّ حالة واحدة وهي نظر الرؤية.

يلاحظ عليه: من أين وقف الشيخ الأشعري على أنّ الآيات تحكي عن أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النار؟

والظاهر بقرينة قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أنّ الآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم في مستقرهم ومأواهم، فلا مانع من أن يكون انتظار من دون أن يكون هناك تكدير وتنقيص.

قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تصرُّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية، والثانية تصر على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية، ويقولون: إنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يجيء بمعنى الانتظار أيضاً، يقول الشاعر:

وجوه ناظرات ي_وم ب_در * إلى الرحمن يأتي بالفلاح(1)

أي منتظرة إتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

إلى غير ذلك من الآيات والروايات والأشعار العربية، الواردة فيها تلك اللفظة بمعنى الانتظار، حتى فيما إذا كانت مقرونة ب_«إلى».

غير أنّ الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة، حتى ولو قلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية، فإنّ الآية على كلا

المعنيين تهدف إلى أمر آخر، لا صلة له بمسألة الرؤية، ويعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض، وإليك بيانه:

إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ. (وجوه يومئذ ناضرة) _ يقابلها قوله: (وجوه يومئذ باسرة) .

ب. (إلى ربّها ناظرة) _ يقابلها قوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) .

وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى، فيكون قرينة على المراد منها،

____________________________

1 . وفي رواية: تنتظر الخلاصا.

( 205 )

فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها، ويقصم ظهرها، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضدّه، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته،ومتوقعة لفضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.

وبعبارة أُخرى: يجب أن يكون المقابلان _ بحكم التقابل _ متحدي المعنى والمفهوم، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأو،ّل أعني: (إلى ربّها ناظرة)، هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه، أعني: (تظن أن يفعل بها فاقرة) هو حرمان هؤلاء عن الرؤية، أخذاً بحكم التقابل. وبما أنّ تلك الجملة _ أعني: القرين الثاني _ لا تحتمل ذلك المعنى، أعني: الحرمان من الرؤية، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.

بيان آخر

إنّ المراد من «ناظرة» سواء أفسرت بمعنى الانتظار أم النظر المرادف مع الرؤية، هو توقّع المطيعين المتقين الرحمة الإلهية، في مقابل توقع العصاة عذابه الفاقر، فإذا كان هو المراد من الآية حسب التقابل، فلو قلنا

بأنّ لفظة «ناظرة» بمعنى الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية _ ولو كانت بمعنى النظر المرادف مع الرؤية _ فهي كناية عن انتظار الرحمة، مثلاً يقال: فلان ينظر إلى يد فلان، يراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص، فما أعطاه ملكه، وما منعه حرم منه، وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية، إذ يقول إنسان في حقّ آخر«فلان ينظر إلى الله ثمّ إليك» فالنظر، وإن كان هنا بمعنى الرؤية بلا شك، لكنّه كناية عن انتظار فضله سبحانه وكرمه، كانتظاره بعد الله فضل سيده، ويفسره في «أقرب الموارد» بقوله«يتوقع فضل الله ثمّ كرمك» و الآية نظير قول القائل:

إنّي إليك لم_ا وع_دت لناظ_ر * نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

( 206 )

فمحور البحث والمراد، في أمثال المورد، هو توقّع الرحمة وحصولها، أو عدم توقّعها وشمولها، فالطغاة يظنون شمول عذاب يفقرهم ويكسر ظهورهم، والصالحون يظنّون عكسه وضدّه. وأمّا رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عن مدار البحث في هذه المواقع، والأشعري وكلّ من استدلّ بهذه الآية على الرؤية خلط المعنى المكنّى به بالمعنى المكنّى عنه. فقد كنّى بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه.

ولذلك نظائر في الكتاب العزيز، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليم) (1). والمراد من قوله: «لا ينظر إليهم» هو المعنى المكنّى عنه، وهو طردهم عن ساحته، وعدم شمول رحمته لهم، وعدم تعطّفه عليهم،وتدلّ على ذلك الآية المتقدّمة عليها، حيث قال عزّ من قائل: (بَلى مَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ وَاتّقى فَإنَّ الله يُحِبُّ

المُتَّقينَ) .(2)

فلو قمنا بالمقابلة يكون سياق الآيات بالشكل التالي:

(مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتّقى) يكون جزاؤه قوله:(يحبّه الله فإنّ الله يحبّ المتقين).

و(إِنَّ الَّذينَ يَشترون بِعَهْدِ الله وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً) يكون جزاؤهم قوله: (لا يُكَلّمُهُمُ اللّهوَلا يَنْظُر إِليهِمْ يَومَ القِيامةِ) .

فالإبهام الموجود في الجزاء الثاني يرتفع بالمعنى المتبادر من الجزاء الأوّل، فبما أنّ المراد منه هو عموم رحمته وشمول فضله يكون المراد من الجزاء الثاني هو قبض رحمته وعدم شموله لهم.

وإن شئت قلت: إنّ المراد من «لا ينظر إليهم» ليس هو عدم رؤية الله وعدم مشاهدته إيّاهم، لأنّ رؤيتهم أو عدم رؤيته ليس أمراً مطلوباً لهم حتى

____________________________

1 . آل عمران: 77.

2 . آل عمران: 76.

( 207 )

يُهَدَّدوا بعدم النظر إليهم وإنّما النافع بحالهم هو وصول رحمته إليهم، والمضر بحالهم عدم شمول لطفه لهم، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم.

هذا هو مفتاح حل المشكل المتوهم في الآية، فتفسير الآية برؤية الله أخذاً بالمعنى المكنّى به غفلة عن محور البحث فيها.

ويدلّ على أنّ المراد من النظر _ حتى ولو كان بمعنى الرؤية _ ليس هو الرؤية البصرية، بل المقصود انتظار الرحمة، تقديم المفعول، أعني: «إلى ربّها» على الفعل والفاعل أعني: «ناظرة»، فإنّ تقديمه يدلّ على معنى الاختصاص، والاختصاص صحيح لو قلنا بأنّ المراد هو انتظار رؤيته، لأنّ الإنسان في هذا الظرف الهائل لا يتوقع إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه فقط، ولا يتوقع شيئاً سواها حتى يتخلص من أهوال القيامة، وأمّا رؤية الله سبحانه فليست بهذه المنزلة في تلك الأحوال، فليس الناس بحالة لا يطلبون فيها إلاّ النظر إليه وعدم النظر إلى غيره. وإن عمّهم العذاب بعد الرؤية ليصحّ وجه الحصر. لأنّ ما ينجيهم من الأهوال هو رحمته،لا رؤية وجهه.

يقول صاحب الكشاف:

إنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد. فاختصاصه سبحانه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه، محال أو غير واقع، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص. والذي يصحّ معه أن يكون من قبيل قول الناس«أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء ومن هذا القبيل قوله:

وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دون_ك زدتني نعماً(1)

إنّ هنا كلمة أُخرى للزمخشري في كشافه، يقول:

«وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم».تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك»: «أتوقع فضل الله ثمّ فضلك».(2)

____________________________

1 . الكشاف:4/662.

2 . الكشاف:3/294، في تفسير قوله سبحانه:(إلى ربّها ناظرة) .

( 208 )

فلو أنّ القوم تجرّدوا عن انتحال مسلك مسبق، ونظروا إلى القرآن بعين التفهّم والاستفادة، لما شكّ أحد في أنّ المراد من النظر إلى الله سبحانه في ذلك المشهد الرهيب هو رجاء رحمته وفضله وكرمه.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أتعب به الشيخ نفسه لا يفيد شيئاً. فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ النظر هنا بقرينة «وجوه» بمعنى الرؤية، ولكنّه لم يستدلّ على أنّ الرؤية هل هي المقصود بالذات، أو هي كناية عن معنى آخر وهو انتظار رحمته، واليقين بفضله وكرمه؟ مع أنّ هنا فرقاً واضحاً بين قولنا:«عيون يومئذ ناظرة» و (وجوه يومئذ ناظرة) فلو كان الأوّل ظاهراً في الرؤية فليس الثاني كذلك. فهو في الانتظار أوضح وأبين. وليس الفاعل في قوله سبحانه :(إِلى ربّها ناظرة) هو العيون، بل الوجوه المذكورة في الآية المتقدمة، أعني قوله: (وجوه يومئذ ناظرة) فالنظر منسوب إلى الوجوه لا إلى العيون، فافهم.

وباختصار، إنّا

لا نقول بأنّ النظر هنا نظر القلب، حتى يستدلّ الشيخ على عدم صحّته بأنّ النظر إذا قرن بالوجوه لم يكن معناه نظر القلب، الذي هو انتظاره، وإنّما نقول بأنّ المراد منه هو النظر بالعين، ولكن هذا المعنى المطابقي كناية عن معنى التزامي. والمقصود في الكنايات هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل. فإذا قلت «فلان كثير الرماد» فصدقه يتوقّف على كثرة ضيوفه ووفرة من ينزل في بيته، لا على وجود رماد في بيته.

وعلى ذلك فالذي يجب التركيز عليه هو الوقوف على ما هو مقصود المتكلّم من قوله: (إِلى ربّهاناظرة) فهل هو يريد أنّ جزاء المطيعين ذوي الوجوه الناظرة هو النظر إلى ذات الله ورؤيته؟ أو أنّه كناية عن جزاء آخر، هو انتظار رحمته وفضله وكرمه، في مقابل الطغاة ذوي الوجوه الباسرة الظانين بنزول العذاب الفاقر.

وهذه هي النكتة المهمة في فهم الآية وقد غفل عنها الأشعري وروّاد منهجه.

الآية الثانية

قوله سبحانه: (وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ

( 209 )

إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبُّهُ لِلْجَبَل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوّلُ المُؤْمِنينَ) (1).(2)

احتجت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين:

الوجه الأوّل:أنّ موسى سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها، لأنّه إمّا يعلم امتناع الرؤية أو يجهله، فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال،وإن جهله فهو لا يجوز في حقّ موسى، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحقّ أن يكون نبيّاً.

يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع، وتصور أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي،وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم، ولكن

الحقيقة غير ذلك، وإليك بيانه:إنّ الكليم لماأخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأله سبحانه أن يكلّمه، فلمّا كلّمه الله، وسمعوا كلامه، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظملهم وعتوهم واستكبارهم.

وإلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية:

1.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) .(3)

2.(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم) .(4)

3. (وَاخْتارَ مُوسى قَومَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ

____________________________

1 . الأعراف:143.

2 . وقد استدلّت به الأشاعرة ولم يستدلّ به الشيخ أبو الحسن في لمعه وإنّما ذكرناه تتميماً للبحث.

3 . البقرة:55.

4 . النساء:153.

( 210 )

رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيرُ الغافِرين).(1)

إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحُمْ الكليم حول الرؤية، ولم ينبس فيها ببنت شفة، ولم يطلب شيئاً، بل طلب منه سبحانه أن يحييهم، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا إنّك لما لم تكن صادقاً في قولك:إنّ الله يناجيك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه. وهذا هو مقاله. يقول سبحانه عنه(قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتك) .

فلو كان هناك سؤال من موسى فإنّما كان بعد هذه المرحلة، وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة

بدعاء موسى.

وعند ذلك يطرح السؤال الآتي:

هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم _ بعد ما رأى بأُمّ عينه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار، إثر سؤالهم الرؤية _ أنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرر أو بلا ضرورة؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلاّ بعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه، حتى تحصل رؤيته لله مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية؟

لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى من يملك شيئاً من العقل والفكر، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم. كيف وقد رأى جزاء من سأل الرؤية، فالثاني هو المتعين، وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم،وكفى في القرينة قوله (أَتُهلكنا بما فعل السُّفهاء)حيث يعد السؤال من فعل السفهاء، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم و مبرر أو بلا ضرورة وإلجاء،وبما أنّ الله سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم إلى

____________________________

1 . الأعراف:155.

( 211 )

السؤال إلاّ بإصرار قومه حتى يكبت هؤلاء ويسكتهم، لم يوجّه إلى الكليم أي مؤاخذة، بل خاطبه بقوله( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) .

وهناك كلام للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا _ عليه السَّلام _ يعرب عن صحّة ما ذكرناه، وأنّ سؤال الكليم لم يكن من جانب نفسه، بل من جانب قومه. قال الإمام _ عليه السَّلام _ «إنّ كليم الله موسى بن عمران _ عليه السَّلام _ علم أنّ الله، تعالى عن أن يرى بالأبصار، ولكنّه لما كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجياً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه

كما سمعت.

وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف، ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل،وصعد موسى _ عليه السَّلام _ إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه، ويسمعهم كلامه، فكلّمه الله، تعالى ذكره، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام. لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا: لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتَوا، بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنّك ذهبت به فقتلتهم، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إيّاك، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا: إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى _ عليه السَّلام _ : «يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.

فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى _ عليه السَّلام _ : يا ربّ قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا

( 212 )

موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى _ عليه السَّلام _ : ربّ أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه (وهو يهوي) فسوف تراني، فلما تجلّى ربّه للجبل (بآية من آياته) جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال:

سبحانك تبت إليك(يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وأنا أوّل المؤمنين (منهم بأنّك لا تُرى)، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(1)

ثمّ إنّ للعّلامة الزمخشري كلاماً حول تفسير الآية هو فصل الخطاب، يقرب كلامه ممّا نقلناه عن الإمام الطاهر أبي الحسن الرضا _ عليه السَّلام _ ، فإلى القارىء نصه: «فإن قلت: كيف طلب موسى _ عليه السَّلام _ ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته و مايجوز عليه ومالا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة،وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة.

قلت: ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكِّت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً، وتبرأ من فعلهم،وليلقمهم الحجر; وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم،وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا: لابدّ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة. فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك،وهو قوله: «لن تراني» ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (ربِّ أرني أَنظر إليك).

فإن قلت: فهلاّ قال: أرهم ينظروا إليك؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى _ عليه السَّلام _ وهم يسمعون، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه،إرادة مبنية على قياس فاسد، فلذلك قال موسى:(أَرني أَنظر إليك) ولأنّه إذا زجر عمّا طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله، وقيل له: لن يكون ذلك، كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أُمّته فكان ما يخاطب به أو ما

____________________________

1 . توحيد الصدوق:121_ 122.

( 213 )

يخاطب، راجعاً إليهم، وقوله: (أَنظر إليك) وما فيه من معنى المقابلة التي هي

محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم،وحكاية لقولهم، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلاً بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلّمين.

فإن قلت: ما معنى «لن»؟

قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» و ذلك أنّ «لا» تنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى أنّ فعله ينافي حالي، كقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلو اجْتَمعوا له) ، فقوله: (لا تُدركه الأَبصار) نفي للرؤية فيما يستقبل و (لن تراني) تأكيد و بيان، لأنّ النفي مناف لصفاته.(1)

ذلك كلام الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا _ عليه السَّلام _ ، أحد قرناء الكتاب وأعداله حسب تنصيص النبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم.(2) وهذا تحليل علاّمة المعتزلة، ولو تأمل الإنسان المحايد فيما ذكر، لعرف دلالة الآية على امتناع الرؤية.

وبذلك يعلم أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى: (وَلَمّا جاءَمُوسى لِميقاتِنا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِليك) نفس الميقات الوارد في الآية الأُخرى، أعني قوله: (وَاخْتارَمُوسى قومهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمّا أَخَذتهُمُ الرّجْفَة)ولم يكن لموسى مع قومه أي ميقات غير هذا. غير أنّ الرجوع في سورة الأعراف إلى مسألة الميقات ثانياً بعد ذكره في بدء القصة، لأجل العناية بهذه القطعة من القصة، والقرآن ليس كتاب قصة، وإنّما هو كتاب هداية يكرر من القصة ما يهمّه.

وبعبارة أُخرى: إنّ موضوع طلب الرؤية ذكر في ثنايا القصة مرّة

____________________________

1 . الكشاف:1/573_ 574 ط مصر. كذا في المطبوع، والصحيح: أنّ الرؤية منافية، كما في جوامع الجامع.

2 . في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، قال _ صلَّى الله عليه وآله

وسلَّم _ : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي».

( 214 )

(الأعراف:143) لأجل حفظ تسلسل فصول القصة، وذكر في نهايتها ثانياً (الأعراف:155) لأجل إبراز العناية، وأنّه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل.

لقاء أو لقاءان؟

قد استظهرنا أنّه لم يكن لموسى حول مسألة الرؤية إلاّ ميقات واحد، ولم يكن هنا إلاّ طلب واحد لأجل إصرار قومه. وربما يحتمل تعدد اللقاءين، وأنّ الأوّل منهما كان عند اصطفائه سبحانه لكلامه، وتشريفه بإعطاء التوراة، وإرساله إلى قومه; وكان الثاني بعد رجوعه من الميقات ومشاهدة اتخاذ قومه العجل إلهاً، فعند ذاك اختار من قومه سبعين رجلاً وذهب بهم إلى الميقات، فأصروا على أنّهم لا يؤمنون به إلاّ بعد رؤية الله جهرة. فالآية الأُولى (وَلَمّاجاء مُوسى لميقاتنا)ناظرة إلى اللقاء الأوّل والآية الثانية (واختار موسى قومه) إلى اللقاء الثاني. وكان في كلّ، طلب وسؤال خاص.

هذا هو المفترض، ولكنّه بعيد جداً، وعلى فرض ثبوته لا يدلّ على المطلوب المدّعى ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّه لو كان للكليم لقاءان، وقد سأل في الأُولى منهما الرؤية لنفسه وحده وأُجيب بالنفي، ولمّا شاهد اندكاك الجبل عند تجلي الرب صعق ووقع على الأرض، كان عليه تذكير قومه بما وقع وتخويفهم من الطلب، مع أنّه لم يذكر منه شيء في الآية الثانية. ولو نبّههم بذلك _ و مع ذلك ألّحوا على الرؤية _ لأشار إليه الذكر الحكيم إيعازاً إلى لجاجهم وعنادهم.

وكلّ ذلك يعرب عن وحدة اللقاء، وأنّ مجيئه لميقات ربّه لإخذ الألواح كان مع من اختارهم من قومه، ولم يكن إلاّ طلب واحد في حضرة القوم.

تفسير الآية بوجه آخر

وعلى فرض التعدّد فالرؤية التي طلبها موسى لنفسه وقال: (أَرني أَنْظُر إِليك) غير الرؤية التي طلبها قومه، فالمراد من الثانية هو الرؤية

البصرية

( 215 )

المستحيلة، وقد أعقب السؤال نزول الصاعقة وإهلاك القوم، ولكن المراد من الأوّل هوحصول العلم الضروري، وإنّما سمي بالرؤية للمبالغة في الظهور. وله نظائر في القرآن كقوله سبحانه: (وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْض ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين) (1)وقوله عزّ من قائل:(كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ *لَتَرَوُنَّ الجَحيم) .(2)

فالكليم أجلّ من أن يجهل امتناع الرؤية الحسية بالأبصار، خصوصاً في الدنيا التي يسلّم الخصم امتناعه فيها. فهذا قرينة على أنّ مقصوده منها هو العلم الضروري من دون استعمال آلة حسية أو فكرية. فالله سبحانه لما اصطفاه برسالته وتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع، رجا أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية، وهو كمال العلم الضروري، فأُجيب بالنفي، وأنّ الإنسان ما دام شاغلاً بتدبير بدنه، لا ينال ذاك العلم.

هذا، والأصح هو الجواب الأوّل، وأنّه لم يكن هنا إلاّ طلب واحد بإصرار من قومه.

إكمال

بقي الكلام في ارتباط قوله سبحانه: (وَلكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) بما قبله (لن تراني) وقد قيل في وجه ارتباطه وجهان، والثاني هو المتعيّن، وإليك بيانه:

الأوّل ما ذكره صاحب الكشاف، وحاصله، أنّ اندكاك الجبل كان ردّ فعل لطلب الرؤية حتى يقف موسى على استعظام ما أقدم عليه من السؤال، وإن كان بإلحاح قومه وإصرارهم، وكأنّه عزّ وجلّ حقّق عند طلب الرؤية ما ذكره في مورد آخر، أعني: نسبة الولد إليه، أعني قوله: (وتخرّ الجبال هداً* أن دعوا للرّحمن ولداً).(3)

____________________________

1 . الأنعام:75.

2 . التكاثر:5_6.

3 . الكشاف:1/575.

( 216 )

يلاحظ عليه: أنّ سياق الآية، سياق الهداية والبرهنة على أنّه لا يُرى، وعلى ما ذكره يكون الكلام وارداً موضع العتاب الخفيف على موسى، لأجل طلب الرؤية من جانب قومه، ليقف على استعظام عمله وعظم أثره،

وهو اندكاك الجبل وانخراره وصيرورته تراباً، وهذا لا ينطبق على ظاهر الآية وإن استحسنه الزمخشري وقال:

«وهذا كلام وارد في أُسلوب عجيب ونمط بديع، فقد تخلص من النظر إليه إلى النظر إلى الجبل بكلمة الاستدراك».

الثاني: أنّ الاستدراك بمنزلة التعليل لقوله:«لن تراني» والمقصود بيان ضعف الإنسان وعدم طاقته لرؤيته سبحانه، وقد بين ذلك بتجلّيه على الجبل فصار دكاً،وهوأقوى من الإنسان وأرسخ منه، فإذا كان هذا حال الجبل فكيف حال الإنسان الذي يشاركه في كونه موجوداً مادياً خاضعاً للسنن الكونية، وقد (خلق الإنسان ضعيفاً)؟!

وبذلك يحفظ على سياق الآية وارتباط أجزائها بعضها ببعض.

وأمّا ما هو المقصود من تجلّيه سبحانه، فالتجلّي هو الانكشاف والظهور بعد الخفاء، قال سبحانه: (وَاللّيلِ إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى) (1) فالليل يغشى النهار ويستره، ثمّ يتجلّى النهار ويظهر بالتدريج. والمقصود من تجلّيه سبحانه هو تجلّيه بآثاره وأفعاله. وبما أنّ نتيجة التجلّي كانت اندكاك الجبل وصيرورته تراباً، كان التجلّي بنزول الصاعقة على الجبل التي تقلع الأشجار، وتهدم البيوت وتذيب الحديد، وتحدث الحرائق، وتقتل من تصيبه من الناس، وليست هي إلاّ شرارة كهربائية تنتج من اتحاد كهربائية سحابة في الجو مع الكهربائية الأرضية، فتكون نتيجة الاتحاد هي الصاعقة وبروز الشرارة، وما يرى من نورها هو البرق، وما يسمع هو الرعد، وهو صوت الشرارة الكهربائية التي تخرق طبقات الهواء.

فإذا كان الإنسان عاجزاً وفاقداً للطاقة في مقابل تجلّيه بفعله وأثره، فأولى

____________________________

1 . الليل:1_2.

( 217 )

أن يكون عاجزاً في مقابل تجلّيه بذاته ونفسه.

وبذلك تتبيّن دلالة الآية على عدم إمكان رؤيته، فضلاً عن دلالته على إمكانها.

قد عرفت أنّ الأشاعرة استدلّت بهذه الآية بوجهين، وقد ظهر مدى صحّة الوجه الأوّل، وإليك بيان الوجه الثاني:

الوجه الثاني

قالوا: إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل،

وهو أمر ممكن في نفسه، والمعلّق على الممكن ممكن، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه. والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله سبحانه (فإن استقر مكانه) هو إمكان الاستقرار. ولا شكّ أنّه أمر ممكن، ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد تجلّيه، وهو بعد لم يستقر عليه، بدليل قوله سبحانه:(جعله دكاً) وهذا نظير قولك: «أنا أعطيك هذا الكتاب إن صليت» والمراد قيام المخاطب بها بالفعل لا إمكان قيامه.

وبذلك يظهر أنّ ما حكاه صاحب الانتصاف عن أحمد بن حنبل لا يفيد القائلين بالرؤية، فقد نقل عنه أنّ من حيل القدرية في إحالة الرؤية ما يقولون إنّه سبحانه علّق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكّه. والمعلّق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة، فإنّ المعلّق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار، وذلك ممكن جائز، وحينئذ نقول: استقرار الجبل ممكن وقد علّق عليه وقوع الرؤية، والمعلّق على الممكن ممكن.(1)

وغير خفي على النبيه أنّ المعلّق عليه ليس ما حكي عن المعتزلة، وهو استقرار الجبل حال دكّه، ولا ما ذهب إليه أحمد من إمكان الاستقرار، بل

____________________________

1 . الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد الاسكندري المالكي بهامش الكشاف:1/575.

( 218 )

المعلّق عليه وجود الاستقرار وبقاؤه بعد تجلّي الرب سبحانه، ولم يكن هذا واقعاً.

وباختصار، إنّ إمكان الرؤية، علّق على وجود الاستقرار وتحقّقه بعد التجلّي، وهو حسب الفرض لم يقع. وينتج أنّ الرؤية ليست أمراً ممكناً.

الآية الثالثة

قوله سبحانه: (إِذا تُتْلى عَليهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوّلينَ* كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ

لَمَحْجُوبونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجَحيم) .(1)

قال الرازي: «احتج أصحابنا بقوله سبحانه: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون)على أنّ المؤمنين يرون سبحانه و تعالى. قال:ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة، ثمّ قال: وفيه تقرير آخر، وهو أنّه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض التهديد والوعيد للكفّار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفّار لا يجوز حصوله في حقّ المؤمن».(2)

والاستدلال مبني على أنّ المراد هو كون الكفّار محجوبين عن رؤيته سبحانه مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم بسبب الذنوب التي اقترفوها، وبأي دليل حملها الرازي على الحرمان من الرؤية؟

على أنّ المعرفة التامة به تعالى، التي هي فوق الرؤية الحسية بالأبصار الظاهرة، تكون حاصلة لكلّ الناس يوم القيامة، إذ عندئذ ترتفع الحجب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه، قال سبحانه: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ) .(3)

وقال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ

____________________________

1 . المطففين: 13_ 16.

2 . مفاتيح الغيب:8/354، ط مصر.

3 . النور:25.

( 219 )

فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديد) .(1)

الآية الرابعة

قوله سبحانه:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .(2)

قالوا:إنّ المراد من «الحسنى» هو الجنة و من «زيادة» هو رؤية الله. قال الرازي: إنّ الحسنى لفظ مفرد دخل عليه حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار السلام المذكور في الآية المتقدمة: (وَالله يَدعُو إِلى دار السَّلام)وَإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من «زيادة» أمراً مغايراً لكلّ ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلاّ لزم التكرار، وكلّ من قال بذلك قال: إنّما هي رؤية الله.(3)

يلاحظ عليه: أنّه لا دليل على حمل اللام على العهد، بل المراد الجنس، والمراد أنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى

مع زيادة على ما يستحقونه. قال سبحانه: (ليوفّيهم أُجورهُمْ ويزيدهم من فَضله) ويؤيده ذيل الآية التي تليها(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَة بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عاصِم كَأْنَّما أُغشيِتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).(4)

وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقضي بأنّ المراد: إنّ للذين أحسنوا في الدنيا، المثوبة الحسنى مع زيادة عمّا يستحقونه،والّذين كسبوا السّيئات لا يجزون إلاّ بمثلها، وليس في الآية إشعار برؤية الله، فضلاً عن الدلالة.

وبذلك يتبين مفاد آية أُخرى، أعني قوله سبحانه: (ادْْخُلُوها بِسَلام ذلِكَ

____________________________

1 . ق:22.

2 . يونس:26.

3 . مفاتيح الغيب:8/354.

4 . يونس:27.

( 220 )

يَومُ الخُلُودِ* لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزيد) (1) فالآيتان تشيران إلى ما يفيده قوله: (فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَدِّبُهُمْ عَذاباً أَليماً) .(2)

ولقد جرى الحقّ على قلم الرازي إذ قال: ويحتمل أن يكون المعنى: عندنا ما نزيده على ما يرجون وعلى ما يشتهون.

الآية الخامسة

قوله سبحانه:(وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّ عَلى الخاشِعينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليهِ راجِعُونَ) .(3)

قالوا: «إنّ الملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل».(4)!

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لقاء الربّ لو كان مستلزماً لرؤيته، فهو عام للمؤمن والكافر، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ* فَسَوفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً) .(5) مع أنّ الأشاعرة يخصّون الرؤية بالمؤمن.

وثانياً: أنّ المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق. قال الله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ) .(6)

وقال سبحانه: (لِمَنِ المُلْكِ اليَومَ للّهِ الواحِدِ القَهّارِ) .(7)

وقال سبحانه:(لَقَدْ

كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ

____________________________

1 . ق: 34_ 35.

2 . النساء:173.

3 . البقرة:45، 46.

4 . مفاتيح الغيب:2/346، ط مصر.

5 . الإنشقاق:6_8.

6 . النور:25.

7 . غافر:16.

( 221 )

غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديدُ) .(1) والمراد من كشف الحجب هو وصول الإنسان في الإذعان والإيمان إلى حد لا يبقى معه أيّ شك وتردد.

إنّ الإنسان في المشهد الأخروي يبلغ مبلغاً من الكمال، يدرك حضوره عند خالقه وبارئه، وذلك نفس حقيقةوجود الممكن وواقعيته، إذ لا حقيقة للوجود الإمكاني إلاّ قوامه بعلّته،و تعلّقه بموجده، تعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، والإنسان في ذلك المشهد يجد نفسه حاضرة عند بارئها حضوراً حقيقياً كما يجد ذاته حاضرة لدى ذاته، والعلم الحضوري لا يختصّ بالعلم بالذات، بل يعم العلم بالموجد الذي هو قائم به.

وباختصار: فرقٌ بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه ببارئه، وبين أن يجد تلك الواقعة التعلقية بوجودها الخارجي. فذلك الحضور والشهود، شهود بين القلب، وحضور بتمام الوجود، لا يصل الأوحدي في الدنيا، كما يصل إليه الإنسان في المشهد الأُخروي.

وإلى ذلك يشير ما روي عن أمير المؤمنين علي _ عليه السَّلام _ حين جاءه حبر وقال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال: ويلك، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.(2)

ونظيره ما روي عن أبي جعفر _ عليه السَّلام _ حيث سئل عن أيّ شيء يعبد؟ قال: «الله تعالى». فقيل له: رأيته؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو». فخرج

السائل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.(3)

____________________________

1 . ق: 22.

2 . الكافي:1، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، الحديث 6.

3 . المصدر السابق، الحديث5.

( 222 )

ويحتمل أن يكون المراد من لقاء الله هو يوم البعث، ويؤيده قوله سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الله) (1) فكنّى بلقاء الله عن يوم البعث، لأنّ الكافرين ما كانوا يكذبون إلاّ بيوم البعث، قال سبحانه: (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا).(2)

وقال تعالى: (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرونَكُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا).(3)

وقال عزّاسمه: (وَقيلَ الْيَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا) .(4)

وإنّما كنّي عن لقاء يوم البعث بلقاء الله، لأنّه سبحانه يتجلّى للإنسان بقدرته وسلطانه، ووعده ووعيده، ولطفه وكرمه، وعزّه وجلاله، وجنوده وملائكته، إلى غير ذلك من شؤونه. فيصح أن يقال: إنّ هذا اليوم يوم لقاء الرب، فإنّ لقاء الآثار والآيات الدالة على عظمة صاحبها، نوع لقاء له.

ويرشدك إلى ما ذكرنا قوله سبحانه: (إِنَّ الّذِينَ لا يَرجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها...) (5) فجعل عدم رجاء لقاء الرب في مقابل الرضى بالحياة الدنيا، يدل على أنّ المراد من لقاء الرب هو الحياة الأُخروية، الملازمة لشهود آياته وآثاره العظيمة.

وما أوردناه من الآيات هي من أهمّ ما استدل به الأشاعرة، وبقيت هناك آيات ربما تمسكوا بها ولكنّها لا تمت إلى مقصودهم بصلة. ولأجل ذلك تركنا التعرض لها.

الاستدلال على الرؤية بالسنَّة

استدلّ القائلون بالرؤية بالأدلّة السمعية، منها الكتاب، وقد عرفت المهم منها، ومنها السنّة، ونكتفي بالمهم منها أيضاً:

____________________________

1 . لأنعام:31.

2 . السجدة:14.

3 . الزمر:71.

4 . الجاثية:24.

5 . يونس:7.

( 223 )

روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال: قال أُناس: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هل

تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنّكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا، فإذا أتانا ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم... إلى أن يقول: و يبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول: يا ربّ قد قشبني ريحها،وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله فيقول: لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثمّ يقول بعد ذلك: يا رب قرّبني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول: لعلّك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثمّ يقول: ربّي أدخلني الجنة، ثمّ يقول: أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يابن آدم ما أغدرك، فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك (الله)، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها... الحديث.(1)

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير.(2)

____________________________

1 . البخاري:8/117باب

الصراط جسر جهنم.

2 . صحيح مسلم:1/113، باب معرفة طريق الرؤية.

( 224 )

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه:حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينَه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه...الحديث.(1)

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص. ورواه أحمد في مسنده.(2)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته، وتعددت نَقَلَتُه لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:

1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل،وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم لا، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم الإتيان به، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشكّ عن وجه الشيء، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يورث العلم والإذعان، و هو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

____________________________

1 . صحيح مسلم:1/115، باب معرفة طريق الرؤية.

2 . مسند أحمد

بن حنبل:2/368.

( 225 )

2. إنّ الحديث مخالف للقرآن الكريم، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين _ رحمه الله _ .

3. ماذا يريد الراوي في قوله: «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم»؟ فكأنّ لله سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها، وينكرون البعض الآخر، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟

4. ماذا يريد الراوي من قوله: «فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه.

5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين _ رحمه الله _ حيث قال: إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم: أنا ربّكم، فينكرونه متعوذين بالله منه، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم: أنا ربّكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً: نعم، أنت ربّنا وإنّما عرفوه بالساق، إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالة عليه، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم، دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر، ماثلَيْن فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب، وإذ به، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب، إلى

آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى، ولا على رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.(1)

____________________________

1 . كلمة حول الرؤية: 65، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة، وقد مشينا على ضوئها _ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة _ .

( 226 )

إنّ أحمد بن حنبل احتج في مجلس المعتصم بحديث جرير، فقال المعتصم للقاضي أحمد بن أبي داود: «ما تقول في هذا؟» فقال القاضي: إنّه يحتجّ بحديث جرير، وإنّما رواه عنه قيس بن حازم، وهو أعرابي بوّال على عقبيه.(1)

استدلال المنكرين بالعقل

استدلّ المنكرون بوجوه عقلية:

الأوّل: إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان، ومسافة خاصة بينه و بين رأيه، أن يكون مقابلاً لعين الرائي، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمنّي المحال.

الثاني: إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركباً، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.

الثالث: إنّ كلّ مرئي بجارحة العين يشار إليه بحدقتها، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيره.

الرابع: إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقّق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين، والله سبحانه منزّه عن كلّ ذلك.

وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهادي أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليمها السَّلام فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث _ عليه السَّلام _ أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس. فكتب : «لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي

هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية».(2)

____________________________

1 . مناقب أحمد:1/391.

2 . الكافي:1/97، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، الحديث4.

( 227 )

ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه.

الاستدلال بالكتاب

استُدِلَّ على امتناع رؤيته سبحانه بآيات:

الآية الأُولى: قوله سبحانه:(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ).(1)

الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي، إلاّبإضافته إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين، والإدراك بالسمع يراد منه السماع، ولأجل ذلك لو قال قائل: أدركته ببصري وما رأيته، أو قال: رأيته وما أدركته ببصري يعدّ متناقضاً، والآية بصدد بيان علوّه، وأنّه تعالى تفرّد بهذا الوصف، وهو أنّه يرى ولا يُرى، كما تفرَّد سبحانه بأنّه يطعم ويجير، ولا يطعم ولا يجار عليه، قال سبحانه: (قُل أَغَيْرَ اللّهِ أَ تَّخِذُ وَلِيّاً فاطِرِالسَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (2) وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(3)

وإن شئت قلت: إنّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف:

1. ما يرى و يُرى(بالضم) كالإنسان.

2. مالا يرى ولا يُرى كالأعراض النسبية، أي: الكيف والكم.

3. ما يُرى ولا يرى كالجمادات.

____________________________

1 . الأنعام:102، 103.

2 . الأنعام:14.

3 . المؤمنون: 88.

( 228 )

4. ما يرى ولا يُخرى، وهذا القسم تفرّد به سبحانه، وأنّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وبعبارة أُخرى: إنّه سبحانه لمّا قال:(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل) ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه

وكيلاً لكلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الأَبصار)ولمّا يتبادر من ذلك الوصف، إلى بعض الأذهان أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الحس، وبطل الاتصال الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه و بين مخلوقاته، دفعه بقوله: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار) ثمّ علّل بقوله: (وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير)، واللّطيف وهو الرقيق النافذ في الشيء و الخبير من له الخبرة الكاملة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء، كان شاهداً على كلّ شيء، لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنه، من غير أن يشغله شيء عن شيء، أو يحتجب عنه شيء بشيء.(1)

ومن عجيب التأويل: قول الأشعري: إنّ قوله سبحانه:(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار): تأويله الصحيح: إمّا أنّ الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة.

وإمّا أنّ أبصار الكافرين لا تدركه.(2)

ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له، وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات، وقد ارتكبه هو في الذب عن مذهبه.

وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا _ عليه السَّلام _ في تفسير الآية، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال: قال ذو الرئاستين: قلت لأبي الحسن الرضا _ عليه السَّلام _ : جعلت

____________________________

1 . الميزان:7/308بتلخيص.

2 . الإبانة: 17.

( 229 )

فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية، فقال بعضهم: لا يُرى. فقال: يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه، فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأَبصار وهو اللَّطيف الخبير).(1)

وهناك حديث آخر عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : قال أبو قرة للإمام الرضا _

عليه السَّلام _ : إنّا رُوينا أنّ الله عزّ وجلَّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى _ عليه السَّلام _ الكلام، ولمحمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ الرؤية؟ فقال أبو الحسن _ عليه السَّلام _ : فمن المبلّغ عن الله عزّوجلّ إلى الثقلين: الجن والإنس: (لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار) ، و(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)أليس محمداً _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ؟ قال: بلى. قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول:(لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار)،(وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون يأتي عن الله بشيء، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.(2)

كلام الرازي حول الآية

وإنّ تعجب فعجب قول الرازي: «إنّ أصحابنا(الأشاعرة) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته، والمؤمنون يرونه في الآخرة» فإنّ الآية لو لم تدل على مقالة المنكِر، لا تدل على مقالة المثبت، ولما كان موقف الرازي في المقام موقف المفسر الذي اتخذ لنفسه عقيدة وفكرة، حاول أن يثبت دلالة الآية على ما يرتئيه بوجوه عليلة، وإليك تلك الوجوه:

____________________________

1 . تفسير العياشي:1/373 الحديث 79.

2 . التوحيد للصدوق: 110_ 111، الحديث 9، وقد استدلّ الإمامعليه السَّلام بعدة آيات على امتناع رؤيته، وسيوافيك بيان دلالتها.

( 230 )

(الأوّل): أنّ الآية في مقام المدح، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله: (لا تدركه الأبصار) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم، لا تصحّ

رؤية شيء منها، ولا مُدح شيء منها في كونها لا تدركها الأبصار، فثبت أنّ قوله : (لا تدركه الأبصار) يفيد المدح، ولا يصحّ إلاّ إذا صحت الرؤية.

يلاحظ عليه: أوّلاً: لو كان المدح دليلاً على إمكان الرؤية فليكن المدح في الآية التالية دليلاً على إمكان ما ذكر فيها، قال سبحانه: (وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً).(1) فلو دل سلب شيء عن شيء على إمكان ثبوته له، لدلت الآية على جواز اتخاذه الولد والشريك، ممّا يعد مستحيلاً في نفسه عليه تعالى.

وثانياً: أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل وهو (لا تدركه الأبصار) بل بمجموع الجزءين المذكورين في الآية، واللّه_ سبحانه جلّت عظمته _ يدرك، ولكن لعلوّ شأنه، ومقامه لا يُدرك.

(الثاني): أنّ لفظ الأبصار، صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الأبصار، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر في المقام هو الثاني لا الأوّل، وأيّ عبارة أصرح من الآية في الدلالة على أنّه لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته، وأنّه تعالى يدركهم، وهذا هو المفهوم من نظائره.

قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتدين) (2)، و قال سبحانه: (فَإِنَّ

____________________________

1 . الإسراء:111.

2 . البقرة:190.

( 231 )

اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ) (1)، (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْظالِمينَ) .(2)

قال الإمام عليّ _ عليه السَّلام _ : «الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفِطَن».(3)

فهل يحتمل الرازي أنّ المراد من هذه الجمل سلب العموم وأنّ بعض القائلين والعادّين والمجتهدين يبلغ مدحته، ويحصي

نعماءه، ويؤدّي حقّه؟

(الثالث): أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة، يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه الآية (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار) ، لتخصيص نفي إدراك الله، بالبصر، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أنّ الحال في غيره بخلافه، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً، ولما ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك، ثبت أنّ الله تعالى يخلق حاسة سادسة فينا تحصل رؤية الله بها.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ محور البحث رؤية الله بالعيون والأبصار لا بحاسة سادسة، فماذ كره خروج من محل البحث والأشاعرة تبعاً لإمامهم، يقولون برؤية الله سبحانه في الآخرة بهذه العيون كفلق القمر، وتفسير الرؤية بخلق حاسة سادسة، رجم بالغيب.

ثانياً: كيف رضي الإمام بأنّ مفهوم قوله: (لا تدركه الأبصار) أنّه يدرك بغير الأبصار، فحاول التفتيش عن الحاسة التي يدرك بها يوم القيامة، فهداه التدبر إلى القول بأنّه يدرك بحاسة سادسة، فهل يقول به في نظائره؟ إذا قال قائل: «ما رأيت بعيني» و«ما سمعت بأذني»، فهل معناهما أنّه رآه بغير عينه أو سمعه بغير أذنه؟

____________________________

1 . آل عمران:32.

2 . آل عمران:57.

3 . نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

( 232 )

هذا ولو سمح لي أدب البحث والنقد، لقلت بأنّ ما ذكره الرازي أشبه بالمهزلة، وليست محاولته هذه إلاّ أنّه بصدد إصلاح ما اتخذه من موقف مسبق في هذا المجال. وإلاّ فالرازي ينبغي أن يترفع عن مثل هذا الكلام.

ولأجل ذلك ضربنا عن الوجه الرابع صفحاً، لكونه في الوهن مثل الثالث(1)، بل أوهن منه.

الآية الثانية: قوله سبحانه: (يَومَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً) .(2)

إنّ الرؤية سواء

أوقعت على الكل أم على الجزء، نوع إحاطة به سبحانه عنها. والآية في كيفية البيان نظير الآية السابقة، وتختلفان في تقدّم الإيجاب وتأخّر السلب هنا، عكس الآية السابقة.

فقوله: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) نظير قوله: (وهو يدرك الأبصار).

وقوله: (ولا يحيطون به علماً) نظير قوله: (لاتدركه الأبصار) .

والضمير في (ولا يحيطون به) يرجع إلى الله. واحتمل الرازي لأجل الفرار من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه رجوع الضمير إلى (ما بين أيديهم و ما خلفهم) أي لا يحيط العباد بما فيهما. وهو تأويل لأجل تثبيت موقف مسبق، لأنّ عدم علم العباد بما فيهما، أمر واضح لا حاجة لذكره هنا بلا موجب، وإنّما المناسب هو ذكر إحاطته سبحانه بعباده، وعدم إحاطتهم به، فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الآخرة، وهو (مابين أيديهم) ، و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا وهو (وما خلفهم) ، فهم محاطون بعلمه، ولا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا، وقد عرفت أنّ الرؤية نوع إحاطة.

____________________________

1 . راجع للوقوف على هذه الوجوه تفسير الرازي:4/118_ 119.

2 . طه:109_ 110.

( 233 )

الآية الثالثة: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا اِلى بِارئِكُمْ فَاْقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذْتُكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).(1)

إذا كان جزاء اتخاذ العجل معبوداً هو قتل الأنفس، كان جزاء الطالبين رؤية الله تعالى جهرة هو الأخذ بالصاعقة. وهذا يدلّ على أنّ الجرمين من باب واحد. فكما أنّ عبدة العجل جسّدوا الإله في العجل فطلبة الرؤية والمصرّون عليها، صوّروه جسماً أو عرضاً قابلاً للرؤية، فكلتا الطائفتين ظلموا ربّهم

ونزّلوا الإله المتعالي عن الكيف والتشبيه والتجسيم والتجسيد _ حسب زعمهم _ إلى حضيض الأجسام والماديات والصور والأعراض، فاستحقوا جزاءً واحداً، وهو أخذهم من أديم الأرض بقتل أنفسهم، أو حرقهم بالصاعقة.

وإن شئت قلت: إنّ التماس الرؤية لو كان التماس أمر ممكن، لم يكن في سؤالهم بأس أبداً، فإمّا أن تجاب دعوتهم أو ترد، ولا يصحّ إحراقهم بالصاعقة كما في سؤالهم الآخر.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحِد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذي هُوَ اَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) .(2)

الآية الرابعة: إنّه سبحانه ما ذكر سؤال الرؤية إلاّ استعظمه، وما نوّه به إلاّ استفظعه،ولو كانت الرؤية أمراً جائزاً وشيئاً ممكناً، لما كان لهذا الاستعظام وجه، وكان سؤالهم لها مثل سؤال الأُمم أنبياءهم بأنّهم لا يؤمنون إلاّ أن يحيي الموتى، أو غير ذلك، من دون الاستعظام والاستفظاع.

وإليك هذه الآيات:

1. (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأْلُوا

____________________________

1 . البقرة:54_ 55.

2 . البقرة:61.

( 234 )

مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهُمُ البَّيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبيناً) .(1)

فسمّى سبحانه نفس السؤال ظلماً وعدواناً، ويكفي في الاستعظام قوله (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) وقوله (ثمّ اتخذوا العجل) فكان السؤال واتخاذ العجل من باب واحد.

2. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبّنا لَقَدِ اسْتَكْبَروا في أَنْفُسِهمْ وَعَتَوا عُتُوّاً كَبيراً).(2)

3.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(3).(4)

فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من

أعظم الجزاء، لم يكن التماسها عتواً، لأنّ من سأل تعالى نعمة في الدنيا لم يكن عاتياً، وجرى مجرى ما يقال: لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.

وباختصار: إنّ هذا الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمراً ممكناً ونعمة من نعمه سبحانه يكرم عباده بها في الآخرة.

الرازي والاستدلال بهذه الآيات

قد اتخذ الرازي في تفسير الآيات موقف المجادل الذي لا يهمه سوى الدفاع عن فكرته، أو موقف الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش وإن كان يعلم أنّه لا يجديه. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاستمع لما نتلوه عليك منه وهو بصدد ردّالاستدلال بهذه الآيات من عدّ السؤال أمراً منكراً:

____________________________

1 . النساء:153.

2 . الفرقان:21.

3 . البقرة:55.

4 . وقد مرّت الآية في الحجة الثالثة، ولكن كيفية الاستدلال في المقام تختلف عن ما تقدّم.

( 235 )

1. إنّ رؤية الله لا تحصل إلاّ في الآخرة، فكان طلبها في الدنيا أمراً منكراً.

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه يصف طلب الرؤية في الآيات السابقة بالظلم تارة والاستكبار ثانية، والعتو الكبير ثالثة، وإيجابه العذاب ونزول الصاعقة رابعة.

فهل هذا أنسب مع طلب الأمر المحال، أو أنسب مع طلب الأمر الممكن غير الواقع لمصلحة؟

فهل الظلم(التعدّي عن الحدود) والاستكبار والعتو، يناسب تطّلعهم إلى أمر عظيم رفيع، وهؤلاء أقصر منه وتناسيهم أين التواب ورب الأرباب، أو أنّه يناسب سؤالهم شيئاً ليس خارجاً عن مستواهم، غير أنّ المصلحة أوجبت حرمانهم، لا شكّ أنّ الأُمور الأربعة التي تحكي عن تكون جرم كثير وعصيان فظيع، إنّما هي تناسب الأمر الأوّل لا الثاني.

والذي يكشف عن ذلك أنّه سبحانه عدّ طلب الرؤية من موسى أكبر من سؤال أهل الكتاب من النبي الأكرم تنزيل كتاب عليهم من السماء وقال: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ

كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً) (1). وليس وجه كون الثاني أكبر من الأوّل سوى كونه أمراً محالاً دون الآخر، وإن كان غير واقع.

2. إنّ حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله، فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف، والرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف.

يلاحظ عليه: أنّه من أين وقف الرازي على أنّ رؤية الله سبحانه في الدنيا لحظة أو لحظات توجب إزالة التكليف؟ فهل ورد ذلك في الكتاب أو السنّة، أو أنّه من نتاج ذهنه وفكرته؟

ثمّ إنّ مزيل التكليف هو حصول غايات التكليف وأهدافه. وليست

____________________________

1 . النساء:153.

( 236 )

الغاية من التكليف إلاّ التكامل الروحي، والانسلاخ من المادة والماديات، والانسلاك في عداد الروحانيين وليس هذا ممّا يحصل بوقوع البصر على ذاته لحظة أو لحظات، إلاّ أن تحولهم الرؤية إلى إنسان مثالي قد أتم كمالاته، وهل هذا يحصل بصرف الرؤية؟ لا أدري، ولا المنجم يدري، ولا الرازي يدري.

وأقصى ما يعطيه النظر بالأبصار، هو الإذعان وحصول العلم الضروري بوجوده سبحانه عن طريق الحس، وأين هذا من إنسان مثالي صار بالعبادة والطاعة مثلاً لأسمائه، ومجالي لصفاته، وترفع عن حضيض المادية، متوجهاً إلى عالم التجرد.

3. إنّه لما تمت الدلائل على صدق المدّعى، كان طلب الدلائل الأُخرى تعنتاً، والتعنت يستوجب التعنيف.

يلاحظ عليه: أنّ بني إسرائيل أُمّة معروفة بالجدل والعناد، وكانت حياتهم مملوءة بالتعنت. فلماذا لم تأخذهم الصاعقة إلاّ في هذا المورد؟

وهذا يكشف عن كون التعنت في المورد ذا خصوصية، وليست هي إلاّ لأجل إصرارهم على الرؤية عن طريق التكبر والعتو، على تحقّق أمر محال.

4. لا يمنع أن يعلم الله أنّ في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا ضرباً

من المصلحة المهمة، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا.(1)

يلاحظ عليه: إذا كانت الرؤية أمراً ممكناً وجزاءً للمؤمنين في الآخرة، وقد اقتضت المصلحة منعها عن الخلق في الدنيا، فما معنى هذا التفزيع والاستنكار والاستفظاع؟ فهل طلب شيء خال عن المصلحة، يوجب نزول الصاعقة والإحراق بالنار؟

لم تكن هذه المحاولات الفاشلة صادرة عن الرازي لتبنّي الحقّ والبخوع

____________________________

1 . راجع تفسير الرازي:1/369، ط مصر في ثمانية أجزاء.

( 237 )

للحقيقة، وإنّما هو نوع تعنت في مقابل أدلّة المحقّين في باب الرؤية. ونعم الحكم الله.

الآية الخامسة: قوله سبحانه: (وَلَما جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَةُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني اَنْظُر إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتتُ إِلَيْكَ وَأَنَا اَوّلُ الْمُؤْمِنين).(1)

وقد تعرفت على كيفية الاستدلال بالآية عند سرد أدلّة المثبتين ونقدها، فلا حاجة للتكرار. ولكن نشير إلى بعض الأهواء الساقطة للرازي في الاستدلال بها:

1. لو كانت الرؤية ممتنعة فلماذا طلبها موسى؟

وقد تعرفت على الإجابة عنه فلا نعيد.

2. لو كانت رؤيته مستحيلة لقال لا أرى (بصيغة المجهول). ألا ترى أنّه لو كان في يد رجل حجر. فقال له إنسان: ناولني هذا لآكله، فإنّه يقول له: هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكل، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة، لقال له«لا تأكله» أي هذا ممّا يؤكل ولكن لا تأكله. فلما قال تعالى«لن تراني» ولم يقل لا أُرى علمنا أنّ هذا يدل على أنّه تعالى في ذاته جائز الرؤية.

يلاحظ عليه: أنّ الإجابة ب_«لن تراني» مكان «لا أُرى» لأجل حفظ المطابقة بين السؤال والجواب، فلمّا كان السؤال ب_«أرني» وافاه الجواب ب_«لن تراني» وحين سمع القوم

إنكاره سبحانه عليه مع نبوّته، علموا أنّهم أولى به. وأنّ رؤيته تعالى شيء غير ممكن، ولو جازت لنبيه.

فأي قصور في دلالة الآية على الامتناع حتى يبدل الجواب ب_«لا أُرى».

____________________________

1 . الأعراف:143.

( 238 )

3.إنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر ممكن جائز، والمعلّق على الجائز، جائز فينتج أنّ الرؤية في نفسها جائزة.

وقد تعرفت على الإجابة عنه.

4. إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل لله، وهو لما رآه سبحانه اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمر كذلك، ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية. أقصى ما في الباب أن يقال: الجبل جماد، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً، إلاّ أنّا نقول: لا يمتنع أن يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من رؤية الجبل إياه سبحانه، مع الحياة والعقل والفهم، شيء نسجته فكرته، وليس في نفس الآية أي دليل عليه، والحافز إلى هذه الحياكة، هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها، فإنّ ظاهر الآية أنّ الجبل لم يتحمل تجلّيه سبحانه فدُك وذاب، وبطلت هويته، لا أنّه رآه وشاهده، وقد عرفت أنّ التجلّي كما يكون بالذات، يكون بالفعل أيضاً، ولو كان الجبل لائقاً بهذه الفضيلة الرابية، فنبيّه أولى بها، وفي قدرته سبحانه أن يريه ذاته، مع حفظه عمّا ترتّب على الجبل من الاندكاك، فالنتيجة أنّ العالم بأسره لا يتحمل تجلّيه سبحانه، بفعل أو بوصف من أوصافه، أو باسم من أسمائه.

استدلال المنكرين بالسنّة

لقدعرفت هدي القرآن وقضاءه في الرؤية. وهناك روايات متضافرة عن طريق أهل البيت والعترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أعدال الكتاب وقرناءه، فقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «إنّي

تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله عزّوجلّ حبل ممدود

____________________________

1 . تفسير الرازي:4/292_ 295، ط مصر في ثمانية أجزاء، وقد جعل كلّ واحد من هذه الأُمور حجّة على جواز الرؤية، وقد نقلناه ملخصاً.

( 239 )

من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».(1)

ومن يرجع إلى خطب الإمام _ عليه السَّلام _ في التوحيد، وما أثر من أئمّة العترة الطاهرة، يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية، وأنّه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف أبصار العيون. وإليك النزر اليسير في ذلك الباب:

1. قال الإمام في خطبة الأشباح: «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد، فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه».(2)

2. وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال _ عليه السَّلام _ : «أفأعبد مالا أرى؟!» فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد عنها غير مباين».(3)

3. وقال _ عليه السَّلام _ : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر».(4)

إلى غير ذلك من خطبه _ عليه السَّلام _ الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة الأبصار والقلوب به.(5)

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في

____________________________

1 . مسند أحمد:3/26، وقريب منه ما رواه غيره.

2 . نهج البلاغة:(الخطبة: 87) ط مصر للإمام عبده. «أناسي»: جمع إنسان البصر: هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.

3 . نهج البلاغة: الخطبة:174.

4 . نهج البلاغة: الخطبة:180.

5 . لاحظ

الخطب: 48و 81و....

( 240 )

كتاب «الكافي»، باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثماني روايات.(1)

كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، فيها نور القلوب وشفاء الصدور.(2) ومن أراد الوقوف فليرجع إلى تلك الجوامع الحديثية.

____________________________

1 . الكافي:1/95، باب إبطال الرؤية.

2 . التوحيد: 107_ 122، الباب8.

( 241 )

كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي

كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً، ويبدو أنّ البحث في كلامه سبحانه أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام، وإن لم يكن ذلك أمراً قطعياً بل ثبت خلافه، وقد شغلت تلك المسألة بال العلماء والمفكّرين الإسلاميين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببه مشاجرات، بل مصادمات دامية ذكرها التاريخ وسجل تفاصيلها، وخاصة في قضية ما يسمّى ب_«محنة خلق القرآن» وكان الخلفاء هم الذين يروّجون البحث عن هذه المسألة ونظائرها حتّى ينصرف المفكّرون عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إنّ الفتوحات الإسلامية أوجبت الاختلاط بين المسلمين وغيرهم، وصار ذلك مبدء لاحتكاك الثقافتين _ الإسلامية والأجنبية _ و في هذا الجو المشحون بتضارب الأفكار، طرحت مسألة تكلُّمِه سبحانه في الأوساط الإسلامية، وأوجدت ضجة كبيرة في المجامع العلمية، خصوصاً في عصر المأمون و من بعده، وأُريقت في هذا السبيل دماء الأبرياء، ولما لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تضاربت الأقوال فيها إلى حدّ صارت بعض الأقوال والنظريات موهونة جدّاً كما سيوافيك.

ثمّ إنّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضعين:

الأوّل: ما هو حقيقة كلامه سبحانه؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم

( 242 )

والقدرة والحياة، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق إلى غير ذلك من الصفات الفعلية؟

الثاني: هل هو قديم أوحادث،

أو هل هو غير مخلوق أو مخلوق؟ والاختلاف في هذا المقام من نتائج الاختلاف في الموضع الأوّل. ونحن نطرح رأي الأشاعرة في كلا المقامين.

ما هو حقيقة كلامه؟

إنّ في حقيقة كلامه آراء مختلفة نذكرها إجمالاً أوّلاً، ونركز على البحث عن رأي الأشاعرة ثانياً.

1. نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة في تعريف كلامه تعالى:

إنّ كلامه سبحانه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى، بل يخلقها سبحانه في غيره، كاللوح المحفوظ، أو جبرائيل، أو النبي، فمعنى كونه متكلّماً كونه موجداً للكلام، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل.(1)

2. نظرية الحكماء

إنّ كلامه سبحانه لا ينحصر فيما ذكره، بل مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه، يتكلّم به، بإيجاده وإنشائه، فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته.(2)

فعلى تينك النظريتين، يكون تكلّمه سبحانه من أوصاف فعله، لا من صفات ذاته، خلافاً للنظريتين الآتيتين.

3. نظرية الحنابلة

كلامه حرف وصوت يقومان بذاته، وأنّه قديم، وقد بالغوا فيه حتى قال

بعضهم جهلاً: إنّ الجلد والغلاف قديمان.(3)

____________________________

1 . شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، المتوفّ_ى عام 415ه_.

2 . شرح المنظومة: 179، وللحكماء نظرية أُخرى في كلامه سبحانه تطلب من محلها.

1 . المواقف: 293.

( 243 )

4. نظرية الأشاعرة

إنّ مسلك الأشاعرة هو مسلك الحنابلة، لكن بصورة معدّلة نزيهة عمّا لا يقبله العقل السليم. فذهب أبو الحسن الأشعري إلى كونه من صفات الذات، لا بالمعنى السخيف الذي تتبنّاه الحنابلة، بل بمعنى آخر، وهو القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم.

وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري، لم نجدها في «الإبانة» و«اللمع» وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية، وهي أنّ كلامه سبحانه غير مخلوق، ولم يبحث عن حقيقة كلامه، ومع ذلك فقد نقلها عنه الشهرستاني وقال: وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ الكلام

معنى قائم بالنفس الإنسانية، وبذات المتكلّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده، وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ و إن كان على طريق الحقيقة فإطلا ق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك.(1)

وقال الآمدي: ذهب أهل الحقّ من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني، أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات وهو _ مع ذلك _ ينقسم بانقسام المتعلقات، مغاير للعلم والإرادة وغير ذلك من الصفات.(2)

وقال العضدي: _ بعد نقل نظرية المعتزلة _ و هذا لا ننكره،لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك،وهو المعنى القائم بالنفس، ونزعم أنّه غير العبارات، إذ قد

____________________________

1 . نهاية الإقدام:320.

2 . غاية المرام: 88.

( 244 )

تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام، بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ عليه بالعبارة _ إلى أن قال _ : وإنّه غير العلم، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل هو يعلم خلافه أو يشكّ فيه، وغير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا، فإذا هو صفة ثالثة غير العلم والإرادة، قائمة بالنفس، ثمّ نزعم أنّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى _ إلى أن قال _: الأدلّة الدالّة على حدوث الألفاظ إنّما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة، وأمّا بالنسبة إلينا فيكون نصّاً للدّليل في غير محلّ النزاع. وأمّا ما دلّ على حدوث القرآن مطلقاً، فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ، لا يكون لهم فيه حجّة علينا،ولا يجدي عليهم إلاّ أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة.(1)

فقد أحسن العضدي وأنصف. وستوافيك البرهنة على أنّ ما

يسمونه كلاماً نفسياً أمر صحيح، لكنّه ليس خارجاً عن إطار العلم والإرادة، وليس وصفاً ثالثاً وراءهما.

ثمّ إنّ الشهرستاني قد قام بتبيين المقصود من الكلام النفساني في كلام مبسوط. وبما أنّ الكلام النفسي قد أحاط به الإجمال والإبهام، فنأتي بنصّ كلامه، وإن كان لايخلو عن تعقيد في الإنشاء، حتّى يتبيّن المقصود منه قال:

العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه، تارةً إخباراً عن أُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتداها إلى منتهاها على وفق ثبوتها، وتارةً حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة، وتارةً نطقاً عقلياً إمّا بجزم القول أنّ الحقّ والصدق كذا، وإمّا بترديد الفكر أنّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب، إلى غير ذلك من الأفكار حتّى أنّ كلّ صانع يحدث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت

____________________________

1 . المواقف:294.

( 245 )

إليه صنعته، ثمّ تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة، وباهَتَ العقل، وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان، وسبيله سبيل السوفسطائية، كيف وإنكاره ذلك ممّا لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه، ثمّ لم يعبّر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار، فوجد أنّ المعنى معلوم بالضرورة وإنّما الشكّ في أنّه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير، والتمييز بينه و بين العلم هين، إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به، وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب، ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء، وهي أقسام معلومة وقضايا معقولةوراء التبيين،والتمييز بينه و بين الإرادة أسهل

وأهون، فإنّ الإرادة قصد إلى تخصيص الفعل ببعض الجائزات(الممكنات) ولا قصد في هذه القضايا ولا تخصيص، وأمّا التقدير والتفكير والتدبير فكلّ ذلك عبارات عن حديث النفس، وهو الذي يعنى به من النطق النفساني، ومن العجب أنّ الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كلّ معنى ولا يجد نفسه قط خالياًعن حديث النفس حتى في النوم فإنّه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدّث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتّى يتكلّم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق.(1)

نرى أنّ ما ذكره الآمدي الذي نقلناه آنفاً في تفسير الكلام النفسي وارد في كلمات المتأخرين عنه، كالفاضل القوشجي والفضل بن روزبهان، وإليك نصوصهما:

1. قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد: إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه معاني يعبر عنها، نسمّيها بالكلام الحسي، والمعنى الذي يجده ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه، هو الذي نسمّيه الكلام.(2)

____________________________

1 . نهاية الإقدام: 321_ 322.

2 . شرح التجريد للقوشجي: 420.

( 246 )

2. وقال الفضل في نهج الحق: إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ، ويقولون هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم بذاته، ولابدّ من إثبات هذا الكلام، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلّف من الحروف والأصوات فنقول:

ليرجع الشخص إلى نفسه أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنّه يزور ويرتب معاني فيعزم على التكلّم بها، كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنّه يرتب في نفسه معاني وأشياء

ويقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتة. فهذا هو الكلام النفسي. ثمّ نقول _ على طريقة الدليل _ إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها مدلولات قائمة بالنفس، فنقول لهذه المدلولات: هي الكلام النفسي.(1)

حصيلة البحث

دلّت النصوص المذكورة عن أقطاب الأشاعرة على أنّ في مورد كل كلام صادر من أيّ متكلم _ خالقاً كان أو مخلوقاً _ وراء العلم في الجمل الخبرية، ووراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية، معاني قائمة بنفس المتكلّم، وهو الكلام النفسي، يتبع حدوثه وقدمه، حدوث المتكلّم وقدمه.

وما ذكروا في توضيحه حقّ لا ينكره أحد، إنّما الكلام في إثبات مغايرته للعلم في الجمل الخبرية، وللإرادة في الجمل الإنشائية، وهو غير ثابت، بل الثابت خلافه، وإنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلّم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة، فيرجع

____________________________

1 . نهج الحق المطبوع ضمن دلائل الصدق: 1/146، ط النجف.

( 247 )

الكلام النفسي في الجمل الخبرية إلى التصورات والتصديقات، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي، كما أنّه عندما يرتب المتكلّم المعاني الإنشائية، فلا يرتب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدمة لهما، كتصور الشيء والتصدّيق بالفائدة، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة، فأيّ شيء هنا غيرهما حتّى نسميه بالكلام النفسي، وعند ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الإخبار، ووراءه مع الإرادة في الإنشاء، مع أنَّ الأشاعرة يصرون على إثبات وصف ذاتي باسم التكلّم وراء العلم والإرادة، ولأجل ذلك يقولون: كونه متكلّماً بالذات، غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

والأولى أن نستعرض ما استدلّوا به على أنّ الكلام النفسي وراء العلم، فإليك بيانه:

الأوّل: أنّ الكلام النفسي غير العلم، لأنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه

بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، فالإخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف: والكلام النفسي في الإخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات، وهو غير العلم، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه، أو يشكّ فيه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من رجوع كلّ ما في الذهن في ظرف الإخبار إلى العلم، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور والتصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية ثمّ يخبر، فما في ذهنه من هذه التصوّرات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم، وهو التصوّر.

نعم، ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم وهو التصديق. ومنشأ الاشتباه هو تفسير العلم بالتصديق فقط، فزعموا أنّه غير موجود عند الإخبار في ذهن المخبر الشاك أو العالم بالخلاف، والغفلة عن أنّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم وهو التصوّر.

الثاني: ما استدلوا به في مجال الإنشاء قائلين بأنّه يوجد في ظرف الإنشاء شيء غير الإرادة والكراهة، وهو الكلام النفسي، لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا، فالمقصود هو الاختبار دون الإتيان.(2)

أوّلاً: إنّ الأوامر الاختبارية على قسمين:

قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدّمة ولا تتعلّق بنفس الفعل، كما في أمره سبحانه الخليل بذبح إسماعيل. ولأجل ذلك لما أتى الخليل بالمقدّمات نودي (أن قد صدّقت الرؤيا).

____________________________

1 . شرح المواقف:2/94.

2 . شرح المواقف:2/94.

( 248 )

وقسم تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة وذيلها، غاية الأمر، أنّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل، لا على ذات الفعل، كما إذا أمر الأمير أحد وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنّه مطيع غير

متمرد. وفي هذه الحالة _ كالحالة السابقة _ لا يخلو المقام عن إرادة، غاية الأمر، أنّ القسم الأوّل تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة فقط، وهنا بالمقدّمة مع ذيلها. فما صحّ قولهم إنّه لا توجد الإرادة في الأوامر الاختبارية.

وثانياً: الظاهر أنّ المستدل تصور أنّ إرادة الآمر تتعلّق بفعل الغير، أي المأمور، فلأجل ذلك حكم بأنّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الامتحانية، ويستنتج أنّ فيها شيئاً غير الإرادة، ربما يسمّى بالطلب (في مقابل الإرادة) عندهم أو بالكلام النفسي، ولكن الحقّ غير ذلك، فإنّ إرادة الآمر لا تتعلّق بفعل الغير مطلقاً، لأنّ فعله خارج عن إطار اختيار الأمر، وما هو كذلك لا يقع متعلّقاً للإرادة، فلأجل ذلك ما اشتهر من «تعلّق إرادة الآمر والناهي بفعل المأمور به» كلام صوري، إذ هي لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري، وليس فعل الغير من أفعال الأمر الاختيارية، فلا محيص من القول بأنّ إرادة الآمر متعلّقة بفعل نفسه وهو الأمر والنهي. وإن شئت قلت: إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه، والكلّ واقع في إطار اختيار الآمر ويعدّان من أفعاله الاختيارية.

نعم، الغاية من البعث والزجر هي انبعاث المأمور إلى ما بعث إليه، أو انتهاؤه عمّا زجر عنه، لعلم المكلّف المأمور بأنّ في التخلّف مضاعفات دنيوية أو أُخروية.

وعلى ذلك يكون تعلّق إرادة الآمر في الأوامر الجدية والاختيارية على

( 249 )

وزان واحد، وهو تعلّق إرادته ببعث المأمور وزجره، لا فعل المأمور ولا انزجاره، فإنّه غاية للآمر لا مراد له، فالقائل خلط بين متعلّق الإرادة، وما هو غاية الأمر والنهي.

وباختصار: إنّ فعل الغير لمّا كان خارجاً عن اختيار الآمر لا تتعلّق به الإرادة.

وربما يبدو في الذهن أن يعترض على ما ذكرنا بأنّ الآمر إذا كان

إنساناً لا تتعلّق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره، وأمّا الواجب سبحانه فهو آمر قاهر، وإرادته نافذة في كلّ شيء: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمواتِوَالأَرْض إِلاّ آتي الرَّحْمن عَبْداً).(1)

ولكن الإجابة عن هذا الاعتراض واضحة، فإنّ المقصود من الإرادة هنا هو الإرادة التشريعية، وأمّا الإرادة التكوينية القاهرة على العباد المخرجة لهم عن وصف الاختيار، الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة، فهي خارجة عن مورد البحث، قال سبحانه: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً) (2) فهذه الآية تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض، ولكن من جانب آخر تعلّقت مشيئته بإيمان كلّ مكلّف واع، قال سبحانه: (وَاللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ)(3) فقوله«الحق» عام، كما أنّ هدايته السبيل عامة مثله لكلّ الناس. وقال سبحانه: (يُريدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ)(4)، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على عموم هدايته التشريعية.

الثالث: إنّ العصاة والكفّار مكلّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنصّ القرآن الكريم، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه

____________________________

1 . مريم:93.

2 . يونس:99.

3 . الأحزاب:4.

4 . النساء:26.

( 250 )

وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده، ولابدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة، وبالطلب أُخرى. فيستنتج من ذلك أنّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

وقد أجابت عنه المعتزلة بأنّ إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما أنّها تعلّقت بالفعل الاختياري الصادر من العبد عن حرية واختيار، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

والأولى في الجواب أن يقول: إنّ المستدل خلط بين الإرادة

التكوينية المتعلّقة بالإيجاد مباشرة أو تسبيباً، فإنّ إرادته في ذلك المجال لا تنفك عن المراد، قال سبحانه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1)، و بين الإرادة التشريعية المتجلّية بصورة التقنين في القرآن والحديث فإنّها تتعلّق بنفس إنشائه وبعثه، وجعله الداعي للانبعاث والانزجار، والمراد فيها (الإنشاء والبعث) غير متخلّف عن الإرادة، وأمّا فعل الغير، أي انبعاث العبد وانتهاؤه فهو من غايات الإرادة التقنينية لا من متعلّقاتها، فتخلّفهما عن الإرادة التقنينية لا يكون نقضاً للقاعدة، أي امتناع تخلف مراده سبحانه عن إرادته، لما عرفت من أنّ فعل الغير ليس متعلّقاً لإرادته في ذلك المجال.

الرابع: ما ذكره «الفضل بن روزبهان» من أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلّماً هو خلقه الكلام فلا يقال لخالق الكلام متكلّم، كما لا يقال لخالق الذوق إنّه ذائق.(2)

يلاحظ عليه: أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسماً واحداً وهو القسم الحلولي، بل له أقسام، فإنّ القيام منه ما هو صدوري كالقتل والضرب في القاتل والضارب، ومنه حلولي كالعلم والقدرة في العالم والقادر، والتكلّم

____________________________

1 . يس:82.

2 . دلائل الصدق:1/147، طبعة النجف الأشرف.

( 251 )

كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل، بل من المبادئ الصدورية، فلأجل أنّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه أنّه متكلّم وِزانَ إطلاق الرزّاق عليه سبحانه. بل ربما يصحّ الإطلاق وإن لم يكن المبدأ قائماً بالفاعل أبداً لا صدورياً ولا حلولياً، بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ، كالتمّار واللبان لبائع التمر واللبن، وأمّا عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنّ صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليس قياسياً حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشام بسبب إيجاده الذوق والشم، وربما احترز الإلهيون

عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه.

الخامس: أنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه: (وأََسِرُّوا قَولَكُمْ اَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).(1)

يلاحظ عليه: أنّ إطلاق«القول» على الموجود في الضمير من باب العناية المشاكلة، فإنّ «القول» من التقول باللسان، فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له، إلاّ الصورة العلمية، إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث

إنّ الأشاعرة زعموا أنّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصورات والتصديقات في الأُولى، ووراء الإرادة والكراهة في الثانية، شيئاً يسمّونه بالكلام النفسي، وربما خصّوا لفظ «الطلب» بالكلام النفسي في القسم الإنشائي; وبذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً، ككونه عالماً وقادراً، وأنّ الكلّ من الصفات الذاتية.

ولكن البحث والتحليل _ كما مرّ عليك _ أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية، ولا وراء الإرادة

____________________________

1 . الملك:13.

( 252 )

والكراهة في الجمل الإنشائية، شيء نسمّيه كلاماً نفسياً، كما عرفت أنّ الطلب أيضاً هو نفس الإرادة.

وبذلك نقف على أنّ ما يقوله المحقّق الطوسي من أنّ «النفسانية غير معقولة»(1) أمر متين لا غبار عليه.

إلى هنا تمّ بيان النظريات الثلاث للمعتزلة والحكماء والأشاعرة.

وبه تمّ الكلام في المقام الأوّل. وحان أوان البحث في المقام الثاني وهوحدوث كلامه أو قدمه.

____________________________

1 . كشف المراد: 178، ط صيدا.

( 253 )

كلام الله غير مخلوق أو قديم

كلام الله غير مخلوق أو قديم

لقد شاع في أواخر القرن الثاني، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم إمام الحنابلة، وتحمل في طريق عقيدته هذه ألوان التعذيب، وقد اعتنقوا هذه الفكرة مع الاعتراف بأنّه لم يرد فيها نصّ من رسول الله _ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم _ ، ولا جاء من الصحابة فيها كلام.

وقد تسربت تلك العقيدة مثل القول بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية، حيث قال اليهود بقدم التوراة(1) والنصرانية بقدم الكلمة (المسيح).

يقول أبو زهرة: كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق، وقد عمل على إثارة هذه المسألة، النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي، الذ ي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيّهم، مثل زعمه عشق النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ لزينب بنت جحش، فقد جاء في القرآن أنّ عيسى بن مريم كلمته ألقاها إلى مريم، فكان يبث بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة، فيسألهم أكلمته قديمة أم لا؟ فإن قالوا: لا...فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق(2)،

____________________________

1 . اليهودية: ص 222 تأليف أحمد شلبي كما في بحوث مع السلفيين: 153.

2 . يراد أنّه مختلق و مزور.

( 254 )

وإن قالوا: قديمة... ادّعى أنّ عيسى قديم.(1)

وعلى ذلك وجد من قال إنّ القرآن مخلوق، ليرد كيد هؤلاء، فقال ذلك الجعد بن درهم، وقاله الجهم بن صفوان، وقالته المعتزلة واعتنق ذلك الرأي المأمون.

وقد أعلن في سنة 212، أنّ المذهب الحقّ هو أنّ القرآن مخلوق، وأخذ يدعو لذلك في مجلس مناظراته، وأدلى في ذلك بما يراه حججاً قاطعة في هذا الموضوع، وقد ترك المناقشة حرة، والناس أحراراً فيما يقولون.

ولكن في سنة 218 وهي السنة التي توفي فيها، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة، ومن الغريب أنّه ابتدأ بهذا وهو خارج بغداد، وقد خرج مجاهداً فكتب هذه الكتب وهو بمدينة الرقة، وأخذ

يرسل الكتب لحمل الناس على اعتناق عقيدة أنّ القرآن مخلوق، إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم، وقد جاء في بعض كتبه:وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من أُمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر بأنّه مخلوق محدث.(2)

وقد سارع نائبه ببغداد إلى تنفيذ ما أمر به، لكنّه تجاوز الحدّ السلبي إلى الحدّ الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن،

____________________________

1 . «ولا شكّ أنّ ذلك تلبيس، لأنّ معنى كلمة الله، أنّ الله خلقه بكلمة منه، كما نصّ على ذلك في آيات أُخرى، لا أنّه هو ذات كلمة الله». هذا ما أفاده أبو زهرة في تعليقته على كتابه. والحقّ أنّ المسيح كلمة الله نفسها، وليس المسيح وحده كذلك، بل الموجودات الإمكانية كلّها كلامه تعالى. قال سبحانه: (وَلو أنّ ما فِي الأَرض مِنْ شَجَرة أَقلام وَالبَحر يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلمات الله) (لقمان:27).

2 . تاريخ الطبري: 7/196، والرسالة مبسوطة.

( 255 )

وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم:«أحمد بن حنبل»، و«محمد بن نوح»، و«القواريري»، و«سجادة» فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما: ابن نوح وأحمد بن حنبل، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون، ومات الأوّل في الطريق، وبقي أحمد، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة

المأمون في مسألة خلق القرآن.(1)

ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.

وقال محقّق كتاب«الأُصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار: الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وكان شعار النظريتين المتنازعتين«هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد، وذهب ضحية الخلاف كثيرون، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية، مع أنّهم روّادها الأوائل.

أقول: و(2)ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام، وكم في تاريخ خلفاء

____________________________

1 . تاريخ المذاهب الإسلامية: 294_ 296 بتلخيص.

2 . الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 527.

( 256 )

الإسلام من ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية!!

هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم.

وعلى أي تقدير فقد قال المحقّق المزبور: إنّ أوّل من تفوّه بقدم القرآن هو عبد الله بن كلاب، لأنّ السلف كانوا يتحرجون من وصف القرآن بأنّه قديم و قالوا فقط غير مخلوق، لكن المعتزلة زادوا بأنّ كلام الله مخلوق محدث، وميز الأشعري متابعاً لابن كلاب بين الكلام

النفسي الأزلي القديم، والكلام المتعلّق بالأمر والنهي والخبر وهو حادث.(1)

وأمّا ابن تيمية ففرّق بين كونه غير مخلوق وكونه قديماً وقال: وكما لم يقل أحد من السلف إنّه (أي كلام الله) مخلوق، لم يقل أحد منهم إنّه قديم، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم... وأوّل من عرف أنّه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب.(2)

والظاهر الواضح أنّ القول بأنّ السلف القائلين بعدم خلق القرآن، لا يقولون بقدم القرآن، والتفريق بين عدم الخلق والقدم لا يعدو عن أن يكون كذباً وغير صحيح.

فأوّلاً: إنّ ابن الجوزي يصرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا إنّ القرآن كلام الله قديم.(3)

وثانياً: إنّ معنى كون شيء غير مخلوق هو أنّه قديم، إذ لو فرض كونه غير قديم مع كونه غير مخلوق ، فلابدّ و أن يكون قد حدث ووجد من العدم بنفسه، وهو واضح البطلان، قال سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ

____________________________

1 . الأُصول الخمسة: 528.

2 . مجموعة الرسائل:3/20.

3 . المنتظم في ترجمة الأشعري: 6/332.

( 257 )

شَيْء ) (1).(2)

ولأجل إيضاح الحال نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري في ذلك المجال.

قال أحمد بن حنبل: والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.

وكلّم الله موسى تكليماً، من الله، سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده، ولم يزل الله متكلماً عالماً، تبارك الله

أحسن الخالقين.(3)

وقال أبو الحسن الأشعري: ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.(4)

وقد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له: هاهنا قوم يقولون: القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال: هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا: ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد: هؤلاء قوم سوء، فقيل له: ما تقول؟ قال: الذي اعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال: سبحان الله، ومن شكّ في هذا؟(5)

هذا ما لدى المحدثين والحنابلة والأشاعرة. وأمّا المعتزلة: فيقول القاضي عبد الجبار: أما مذهبنا في ذلك: أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو

____________________________

1 . الطور:35.

2 . بحوث مع أهل السنّة والسلفية: 158.

3 . كتاب السنة: 49.

4 . الإبانة: 21، ولاحظ مقالات الإسلاميين: 321.

5 . الإبانة: 69، وقد ذكر في: ص 76 أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.

( 258 )

مخلوق حدث، أنزله الله على نبيّه ليكون علماً ودالاً على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام، لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر، وإذاً هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه، وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن.(1)

وقبل الخوض في تحليل المسألة نقدّم أُموراً:

1. إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كلّ منهما عقيدة الآخر فإمام الحنابلة يقول: إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. وقالت المعتزلة: إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم، شرك بالله سبحانه، فيجب تحليلها على ضوء العقل والكتاب والسنة

بعيداً عن كلّ هياج ولغط. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة قد طرحت في أجواء خاصة، عزّ فيها التفاهم وساد عليها التناكر، وإلاّ فلا معنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله، وكتابه وسنته، التنازع في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنّه ملاك الكفر وأنّ التوحيد في خلافه، وتزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.

ولو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي، التصريح بأحد القولين، ورفع الستار عن وجه الحقيقة، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نصّ في المسألة، وإنّما طرحت في أوائل القرن الثاني. نعم، استدلت الأشاعرة ببعض الآيات، غير أنّ دلالتها خفية، لا يقف عليها _ على فرض الدلالة _ إلاّ الأوحدي. وما يعد ملاك التوحيد والشرك يجب أن يرد فيه نصّ لا يقبل التأويل، ويقف عليه كلّ حاضر وباد...

2. قد عرفت أنّ بعض السلف كانوا يتحرّجون من وصف القرآن بأنّه قديم، وقالوا فقط إنّه غير مخلوق. ثمّ إنّ القائلين بهذا القول تدرّجوا فيه ووصفوا كلام الله بأنه قديم، ومن المعلوم أنّ توصيف شيء بأنّه غير مخلوق أو قديم ممّا لا يتجرّأ عليه العارف، لأنّ هذين الوصفين من خصائص ذاته

____________________________

1 . شرح الأُصول الخمسة: 258.

( 259 )

سبحانه، فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق، أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحّة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام، فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة ممّا يجب الاعتقاد به على كلّ مسلم، مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل ويدرك كون شيء غير الله سبحانه، وفي الوقت نفسه غير مخلوق.

إنّ سهولة العقيدة ويسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية وبهما تفارق سائر المذاهب السائدة على

العالم، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى _ و هو غير ذاته _ غير مخلوق أو قديم، شيء يعسر فهمه على الخاصة، فكيف على العامة.

3. إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء، الأمر الذي تنكره البداهة والعقل ونفس القرآن. وقد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال: «والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها».(1)

ولمّا رأى ابن تيمية الذي يظن نفسه مروّجاً لعقيدة أهل الحديث، أنّها عقيدة تافهة، صرح بحدوث القرآن المقروء وحدوث قوله تعالى: (يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) و (يا أَيُّهَا المُدَّثِّر) وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها)... إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل.(2)

والعجب أنّه استدلّ بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء، وقال : إنّ ترتيب حروف الكلمات الجمل يستلزم الحدوث آنَ تحقُّقِ كلمة «بسم الله»، يتوقف على حدوث الباء وانعدامها، ثمّ حدوث السين كذلك إلى آخر

____________________________

1 . رسالة التوحيد، الطبعة الأُولى وقد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة لاحظ: ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية.

2 . مجموعة الرسائل الكبرى: 3/97.

( 260 )

الكلمة، فالحدوث والانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها، وذلك حتى يمكن أن توجد كلمة، فإذاً كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟!

4. لمّا كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث وسمتهم،ومن جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم، جاءت الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول بعدم خلق القرآن وقدمه، والتجأوا إلى أنّ المراد من

كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي، وقد عرفت مدى صحّة القول بالكلام النفسي. وليس هذا أوّل مورد تقوم الأشاعرة فيه بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشكل يقبله العقل، وعلى كلّ تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.

5. كيف يكون القول بخلق القرآن وحدوثه ملاكاً للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد. قال سبحانه: (اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحَدَث إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون)(1). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون)(2). وقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِك) .(3)

والمراد من «محدث» هو الجديد، وهو وصف للذكر، ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنّه أتاهم بعد التوراة. وكذلك بعض سور القرآن وآياته «ذكرجديد» أتاهم بعد بعض. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف ل_«ذكر» فالذكر _ بذاته وشؤونه _ محدث، فلا معنى لإرجاع الوصف إلى النزول، بعد كونه محدثاً بالذات.

____________________________

1 . الأنبياء:1_2.

2 . الحجر:9.

3 . الزخرف:44.

( 261 )

وكيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنّه سبحانه يقول في حقّه: (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنَّ بِالَّذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكيلاً)(1). فهل يصحّ توصيف القديم بالإذهاب والإعدام؟

6. العجب أنّ محط النزاع لم يحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه، فهاهنا احتمالات نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل والقرآن:

أ. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم وقرأها الرسول فتلقتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على

الصحف المطهرة.

ب. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والأدب أو غيرها.

ج. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجمله.

د. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

ه_. الكلام النفسي القائم بذاته.

و. كون القرآن ليس مخلوقاً للبشر «وما هو قول البشر».

وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تطَّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله، وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم:

أمّا الأوّل: فلا أظن إنساناً يملك شيئاً من الدرك والعقل يعتقد بكونه غير مخلوق أو كونه قديماً، كيف وهو شيء من الأشياء، وموجود من الموجودات، ممكن غير واجب. فإذا كان غير مخلوق وجب أن يكون واجباً

____________________________

1 . الإسراء:86.

( 262 )

بالذات، وهو نفس الشرك بالله سبحانه. حتى لو فرض أنّه سبحانه تكلم بهذه الألفاظ والجمل، فلا يخرج تكلمه عن كونه فعله، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟

وأمّا الثاني: فهو قريب من الأوّل في البداهة، فإنّ القرآن يشتمل _ و كذا سائر الصحف _ على الحوادث المحقّقة في زمن النبي من محاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أوالمسرّة، فها يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه: (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَول الَّتي تُجادِلُكَ في زَوجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُركُما إِنَّ اللّهَ سَميعٌ بَصيرٌ)(1)، قديمة؟

وقد أخبر الله تبارك و تعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث، وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير، فهذه الحقائق واردة في القرآن الكريم، حادثة بلا شك لا قديمة.

وأمّا الثالث: فلا شكّ أنّ ذاته

وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لاإله إلاّ هو، قديم بلا إشكال، وليس بمخلوق بالبداهة، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن، بل كلّما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق. فحقائقه المشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة، وفي الوقت نفسه ما يشير به من الكلام والجمل، حادث.

وأمّا الرابع: أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها _ فلا شكّ أنّه قديم بنفس ذاته، ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين _ إلاّمن شذّ من الكرامية _ بحدوث علمه.

وأمّا الخامس: أعني كونه سبحانه متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف ولا أصوات، مغاير للعلم والإرادة _ فقد عرفت أنّ ما أسماه الشيخ

____________________________

1 . المجادلة:1.

( 263 )

الأشعري بكلام نفسي لا يخرج عن إطار العلم والإرادة، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

وأمّا السّادس: أعني كون الهدف من نفي كونه غير مخلوق القرآن غير مخلوق للبشر، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه، فهذا أمر لا ينكره مسلم، فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه، والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله قال سبحانه: (قُلْ لَئِنِ اجَتَمَعتِ الإِنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً).(1)

وقد نقل سبحانه عن بعض المشركين الألداء أنّ القرآن قول البشر وقال: (فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر* اِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَر) _ ثمّ أوعده بقوله: _ (سَأُصليه سَقَر* وَما أَدْراكَ ما سَقَر* لا تُبْقي ولا تَذرَ) .(2)

وهذا التحليل يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مشوّشة اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم يكن محط البحث محرراً على وجه الوضوح حتى يعرف المثبت عن المنفي، ويمخّض الحقّ من الباطل، ومع هذا التشويش في

تحرير محل النزاع، نرى أهل الحديث والأشاعرة يستدلّون بآيات وغيرها على قدم كلامه، وكونه غير مخلوق، وإليك هذه الأدلة واحداً بعد واحد:

أدلّة الأشاعرة على كون القرآن غير مخلوق

استدلّ الأشعري على قدم القرآن بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه: (إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(3) قال الأشعري: وممّا يدلّ من كتاب الله على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عزّوجلّ: (إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أَرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون). فلوكان القرآن مخلوقاً لوجب أن يكن مقولاً له: «كن فيكون». ولو كان الله عزّوجلّ

____________________________

1 . الإسراء:88.

2 . المدثّر:24_ 28.

3 . النحل:40.

( 264 )

قائلاً للقول«كن» لكان القول قولاً، وهذا يوجب أحد أمرين:

إمّا أن يؤول الأمر إلى أنّ قول الله غير مخلوق.

أو يكون كلّ قول واقعاً بقول لا إلى غاية،وذلك محال،وإذااستحال ذلك، صحّ وثبت أنّ لله عزّ وجلّ قولاً غير مخلوق.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الاستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية ونظائرها أمراً لفظياً مؤلّفاً من الحروف والأصوات، وأنّه سبحانه كالسلطان الآمر، فكما أنّه يتوسل عند أمر وزرائه وأعوانه باللفظ فهكذا سبحانه يتوسل عند خلق السماوات والأرض باللفظ والقول، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة «كن».

ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال باطل جدّاً، إذ لا معنى لخطاب المعدوم. وما يقال في تصحيحه بأنّ المعدوم معلوم لله تعالى _ فهو يعلم الشيء قبل وجوده، وأنّه سيوجد في وقت كذا _ غير مفيد، لأنّ العلم بالشيء لا يصحح الخطاب الجدي، وإنّما المراد من الأمر في الآية كما فهمه جمهور المسلمين، هو الأمر التكويني المعبر به عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء، والمقصود من الآية: إنّ تعلّق إرادته سبحانه بشيء يستعقب وجوده، ولا يأبى عنه الشيء، وأنّ ما قضاه من الأُمور وأراد كونه،

فإنّه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. وبذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب والسنّة، والأمر التكويني، فالأوّل يخاطب به الإنسان العاقل القابل للتكليف ولا يخاطب به غيره فضلاً عن المعدوم، وهذا بخلاف الأمر التكويني فإنّه رمز إلى تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد المعدوم.

وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ يفسر الأمر التكويني بقوله: «يقول لمن أراد كونه، كن، فيكون لا بصوت يقرع، ولا بنداء

____________________________

1 . الإبانة: 52_ 53.

( 265 )

يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً».(1)

وثانياً: نحن نختار الشق الثاني، ولا يلزم التسلسل، ونلتزم بأنّ هنا قولاً سابقاً على القرآن هو غير مخلوق، أوجد به سبحانه مجموع القرآن وأحدثه، حتّى كلمه «كن» الواردة في تلك الآية ونظائرها، فتكون النتيجة حدوث القرآن وجميع الكتب السماوية وجميع كلمه وكلامه إلاّ قولاً واحداً سابقاً على الجميع، فينقطع التسلسل بالالتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد، فتدبر.

وثالثاً: كيف يمكن أن تكون كلمة «كن» الواردة في الآية وأمثالها قديمة، مع أنّها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل: ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) و لأجل ذلك التجأ المتأخرون من الأشاعرة إلى أنّ لفظ «كن» حادث، والقديم هو المعنى الأزلي النفساني.(2)

***

الثاني: قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَيَطْلُبُهُ حَثيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَوَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمينَ) .(3)

قال الأشعري: «فالخلق» جميع

ما خلق داخل فيه، ولما قال«الأمر» ذكر أمراً غير جميع الخلق. فدلّ ما وصفناه على أنّ الله غير مخلوق. وأمّا أمر الله فهو كلامه.

وباختصار: انّه سبحانه أبان الأمر من الخلق، وأمر الله كلامه، وهذا

____________________________

1 . نهج البلاغة: الخطبة 186.

2 . دلائل الصدق حاكياً عن ابن روزبهان الأشعري: 1/153.

3 . الأعراف:54.

( 266 )

يوجب أن يكون كلام الله غير مخلوق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ «الأمر» في الآية بمعنى كلام الله، وهو غير ثابت، بل القرينة تدلّ على أنّ المراد منه غير ذلك، كيف وقد قال سبحانه في نفس الآية: (والنُّجُوم مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْق وَالأَمْر) والمراد من اللفظين واحد، والأوّل قرينة على الثاني. وهدف الآية هو أنّ الخلق بمعنى الإيجاد وتدبير الموجد كلاهما من الله سبحانه، وليس شأنه سبحانه خلق العالم والأشياء ثمّ الانصراف عنها وتفويض تدبيره إلى غيره، حتّى يكون الخلق منه، والتدبير على وجه الاستقلال من غيره، بل الكلّ من جانبه سبحانه.

وباختصار: المراد من الخلق هو إيجاد ذوات الأشياء، والمراد من الأمر، النظام السائد عليها: فكأنّ الخلق يتعلّق بذواتها، والأمر بالأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها. وتدلّ على ذلك بعض الآيات التي يذكر فيها «تدبير الأمر» بعد الخلق.

يقول سبحانه: (إِنَّ رَبّكُمُ الله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفيع إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه).(2)

وقال تعالى: (اللّهُ الَّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونها ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري لأَجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) .(3)

فليس المراد من الأمر ما يقابل النهي، بل المراد الشؤون الراجعة إلى التكوين، فيكون المقصود إنّ الإيجاد أوّلاً، والتصرف والتدبير ثانياً، منه سبحانه،

فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق والإيجاد، ولا في الإرادة والتدبير.

____________________________

1 . الإبانة:51_ 52.

2 . يونس:3.

3 . الرعد:2.

( 267 )

وفي الختام نضيف أنّه سبحانه يصف الروح بكونه من مقولة الأمر ويقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (1) فهل الأشعري يسمح لمسلم أن يعتقد بكون الروح (بأيّ وجه فسر) المسؤول عنه في الآية غير مخلوق؟!

***

الثالث: قوله سبحانه:(إِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَرِ) (2) قال الأشعري: فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فقد جعله قولاً للبشر، وهذا ما أنكره الله على المشركين.(3)

يلاحظ عليه: أنّ من يقول بأنّ القرآن مخلوق لا يريد إلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه. فالله سبحانه خلقه وأوحى به إلى النبي، ونزّله عليه نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة، وجعله فوق قدرة البشر، فلن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

نعم، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أن يكون ما يقرأه الإنسان مخلوقاً له، لبداهة أنّ الحروف والأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم، وهذا كمعلّقة امرئ القيس وغيرها، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر، لكن المقروء مثال له، ومخلوق للقارئ.

والعجب أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده لم ينقّحوا موضع النزاع، فزعموا أنّه إذا قيل «القرآن مخلوق» فإنّما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن ويقرأ هتاف الباري سبحانه فيه:(نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقِّ)(4)أن يتفوّه بأنّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في

____________________________

1 . الإسراء:85.

2 . المدثر:25.

3 . الإبانة:56.

4 . آل عمران:3.

( 268 )

حقّه، غير أنّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم، فيكون مثال ما نزّله سبحانه مخلوقاً للإنسان. وكون المثال مخلوقاً ليس دليلاً على أنّ الممثَّل مخلوق لهم.

والناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن، ولكنّهم قادرون على إيجاد مثاله، فلاحظ وتدبّر.

وبذلك تقف على أنّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب «الإبانة» غير تام من جهة الدلالة، ولا نطيل المقام بإيراده ونقده، وفيما ذكرنا كفاية.

بقيت هنا نكتة ننبه عليها وهي: أنّ المعروف من إمام الحنابلة أنّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السلف الصالح، لأنّه ما كان يرى علماً إلاّ علم السلف. فما يخوضون فيه يخوض فيه، وما لا يخوضون فيه من أُمور الدين يراه ابتداعاً يجب الإعراض عنه. وهذه مسألة لم يتكلم فيها السلف فلا يتكلّم فيها. والمبتدعون هم الذين يتكلمون، وعلى هذا ، كان عليه أن يسير وراءهم،وكان من واجبه حسب أُصوله، التوقّف وعدم النبس في هذا الموضوع ببنت شفة. نعم، نقل عنه ما يوافق التوقف _ رغم ما نقلناه عنه من خلافه _ وأنّه قال: من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن زعم أنّه غير مخلوق فهو مبتدع.

ويرى المحقّقون أنّ إمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن _ بأنّه مخلوق أو غير مخلوق _ بدعة، ولكنّه بعد ما زالت المحنة وطلب منه الخليفة العباسي المتوكل، المؤيد له، الإدلاء برأيه، اختار كون القرآن ليس بمخلوق. ومع ذلك لم يؤثر عنه أنّه قال إنّه قديم.(1)

موقف أهل البيت _ عليهم السَّلام _

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن، يشهد بأنّ التشدد فيه لم يكن بهدف إحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك. بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت

____________________________

1 . تاريخ المذاهب الإسلامية: 300.

( 269 )

_ عليهم السَّلام _ منعوا أصحابهم عن الخوض في تلك المسألة، فقد

سأل الريان بن الصلت، الإمام الرضا _ عليه السَّلام _ وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: «كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضّلوا».

وروى علي بن سالم، عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد فقلت له: يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال: «هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله، وتنزيله، وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل حكيم حميد».

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال: «قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر _ عليهم السَّلام _ : يابن رسول الله، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم إنّه مخلوق، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟ فقال _ عليه السَّلام _ : «أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكنّي أقول إنّه كلام الله».

فإنّا نرى أنّ الإمام _ عليه السَّلام _ يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لمّا رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم _ عليهم السَّلام _ عندما أحسّوا بسلامة الموقف، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله، وغيره مخلوق، والقرآن ليس نفسه سبحانه، وإلاّ يلزم اتحاد المنزل(بالكسر) والمنزل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا _ عليهم السَّلام _ إلى بعض شيعته ببغداد: «بسم الله الرّحمن الرّحيم، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس

له، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله عزّوجلّ، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين، جعلنا الله وإيّاك من الّذين

( 270 )

يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون».(1)

في الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون، فقد كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة، وبلغت المحنة أشدّها على المحدثين،وبقي أحمد بن حنبل ثمانية عشر شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. ولماجاء المتوكل العباسي نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم، فعند ذلك أحس المحدّثون بالفرج، وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً، وقرآنياً، لمعرفة الحقيقة وتبيينها، أو أنّه كان وراءه شيء آخر. والله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

____________________________

1 . توحيد الصدوق، باب القرآن ما هو، الأحاديث: 2و 3و 4و 5.

( 271 )

عموم إرادته لكلّ شيء

عموم إرادته لكلّ شيء

إنّ من آرائه هو عموم إرادة الله سبحانه لكلّ شيء، ويعد ذلك من المسائل الرئيسية في مذهبه، وحاصله: أنّ كلّ ما في الكون من جواهر وأعراض حتى الإنسان وفعله، مراد لله سبحانه، تعلّقت إرادته بوجوده، وليس شيء في صفحة الوجود خارجاً عن سلطان إرادته، ولا يقع شيء من صغير وكبير إلاّ بإرادة منه سبحانه. ويقابل ذلك مذهب المعتزلة حيث جعلوا أفعال العباد خارجة عن حريم إرادته، فإيمان العبد وكفره وعصيانه وإطاعته لم تتعلّق بها إرادته سبحانه، وإنّما خلقه وفوض إليه إرادته. وإنّما

اختلف المذهبان في عموم الإرادة وعدمه، لأجل التحفّظ على عدله سبحانه والتخلّص عن الجبر وعدمهما، فالأشعري ومن حذا حذوه لا يتحاشون عن الاعتقاد بالأصل أو الأُصول التي تساند الجبر وتستلزمه، بناءً على ما أسّسه من كون الحسن ما حسّنه الشرع، والقبح ما قبّحه الشارع، وليس للعقل دور في تشخيص الحسن والقبح. وهذا بخلاف المعتزلة فإنّ للتحسين والتقبيح دوراً عظيماً في تكييف مذهبهم، وعلى هذا الأساس ذهب الأشعري إلى عموم إرادته سبحانه لكلّ شيء من وجوده وفعله، من غير فرق بين الإنسان وفعله، سواء أوافق العدل أم خالفه، استلزم الجبر أم لا.

وزعمت المعتزلة أنّ القول بعموم الإرادة يستلزم الجبر في أفعال البشر، وهو ينافي عدله سبحانه. ولا معنى لأن يريد سبحانه كفر العبد وهو يأمر بالإيمان به، ويعذبه على ما أراده منه، وسيوافيك الكلام في استلزام عموم

( 272 )

إرادته الجبر وعدمه. وعلى كلّ تقدير فقد استدل الأشعري على مقالته بوجوه عقلية ونقلية، نشير إلى أُمهاتها:

الأدلّة العقلية على عموم إرادته

1. إنّ الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة لكلّ ما يجوز أن يراد على حقيقته.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لم يبيّن وجه الملازمة بين كون الإرادة من صفات الذات وعموميتها لجميع المحدثات، فكون الإرادة من صفات الذات لا يستلزم تعلّقها بكلّ ما يجوز أن يراد.

اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى وجه آخر، وهو كون الإرادة من صفاته الذاتية، والذات علّة تامّة بلا واسطة لكلّ شيء، فيستنتج عموم إرادته لكلّ شيء من عموم علّيّة ذاته لكلّ شيء كما سيذكره.

2. دلّت الدلالة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء حادث، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده.(2)

3. قد دلّت الدلالة على أنّ كلّ المحدثات مخلوقات لله

تعالى، فلمّا استحال أن يفعل الباري تعالى مالا يريده، استحال أن يقع من غيره ما لا يريده، إذ كان ذلك أجمع أفعالاً لله تعالى.(3)

ويلاحظ على الوجهين: أنّهما مبنيان على أصل غير مسلَّم عند المعتزلة وهو أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، وأنّه سبحانه علّة تامة لها،وفاعل مباشري لكلّ شيء، وقائم مقام جميع العلل والأسباب.

4. إنّه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى مالا يريده، لأنّه لو كان في سلطان الله تعالى مالا يريده لوجب أحد أمرين: إمّا إثبات سهو وغفلة، أو

____________________________

1 . اللمع: 47.

2 . نفس المصدر.

3 . نفس المصدر.

( 273 )

إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده، فلمّا لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه مالا يريده.(1)

5. لو كان في العالم مالا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه، ولو كان ما يكره كونه، لكان يأبى كونه. وهذا يوجب أنّ المعاصي كانت، شاء الله أم أبى. وهذه صفة الضعيف المقهور. وتعالى ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً.(2)

يلاحظ على الوجهين: أنّ عدم تعلّق إرادته ليس بمعنى تعلّق إرادته بعدمه، فلا يكون صدور الفعل عن الغير دليلاً على سهوه أو عجزه كما زعم، كما لا يكون دليلاً على كونه مقهوراً، إذ عدم كراهية وجود المعاصي لا يلازم كراهية عدمه، حتى يستدلّ بوقوعها على المقهورية.

وفي الختام، إنّ القول بعموم إرادته سبحانه لكلّ ما لا يجوز أن يراد عند الأشاعرة، يتفرع على أصل آخر، وهو أنّه سبحانه خالق لكلّ شيء مباشرة، وأنّه لا سبب ولا علّة في دار الوجود إلاّ هو، وليس لغيره أي سببية وتأثير استقلالاً وتبعاً. فلازم ذلك القول إنكار النظام السببي والمسببي، والاعتراف بعلة واحدة قائمة مقام جميع العلل

الطبيعية والمجردة، وهذا القول لا ينفك عن عموم إرادته لكلّ شيء، فكان الأصل هو مسألة خلق الأعمال عندهم، ويترتب عليها القول بعموم إرادته. ويشهد لذلك بعض ما مرّ من أدلّة الشيخ الأشعري كالدليل الثاني.

قال الرازي في المحصل:«إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات خلافاً للمعتزلة.[وسبق] لنا أن بيّنا أنّه تعالى خالقها، وقد تقدّم أنّ خالق الشيء مريد لوجوده».(3)

وقال القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف: إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات، غير مريد لما لا يكون لنا، أمّا أنّه مريد للكائنات فلأنّه خالق

____________________________

1 . اللمع: 49.

2 . اللمع: 57_ 58.

3 . تلخيص المحصل: 334.

( 274 )

الأشياء كلّها لما مرّ من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة.(1)

ثمّ إنّ الأشاعرة زعمت أنّ في ذلك القول تعظيماً لقدرة الله تعالى وتقديساً لها عن شوائب النقصان والقصور في التأثير، ولكن غفلوا عن أنّ تفسير إرادته عن طريق خلق الأعمال مباشرة وبلا واسطة، وإنكار سلسلة العلل والمعاليل في دار الوجود، يستلزم نسبة كلّ عيب وشين إلى الله سبحانه، فكفر الكافر مراد لله سبحانه لأنّه خالقه، وإن كان المسؤول هو الكافر المجبور المكتوف الأيدي.

نعم، تفسير عموم إرادته بهذا الوجه في جانب الإفراط، كما أنّ قول المعتزلة بإخراج أفعال العباد عن حريم إرادته في جانب التفريط، حيث زعموا أنّه سبحانه أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال، ففوض إليهم الأمر، فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على طبق مشيئتهم وقدرتهم متمسكين بالقول المعروف: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» ناسين القول الآخر: سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» وقد ندّد أئمّة الإمامية بكلا الرأيين فقد سأل محمد بن عجلان الصادق _ عليه السَّلام _ فقال له: فوض الله الأمر

إلى العباد؟ فقال:« الله أكرم من أن يفوّض إليهم». قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال: «الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه».(2)

وقال الإمام موسى الكاظم _ عليه السَّلام _ في ذم المفوضة:

«مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزّوجلّ بعدله، فأخرجوه من قدرته وسلطانه».(3)

وعلى ضوء ذلك فيجب تفسير عموم إرادته على وجه يليق بساحته، مع

التحفّظ على الأُصول المسلّمة العقلية فنقول:

____________________________

1 . شرح المواقف: 8/174.

2 . التوحيد للصدوق: 361، الحديث6.

3 . بحار الأنوار:5/54، الحديث93، ط طهران.

( 275 )

التفسير الصحيح لعموم إرادته

لا شكّ أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي عرّفناك به عند البحث عن «خلق الأعمال» هو كون ما في الوجود مخلوقاً لله سبحانه، لكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب، بل بمعنى انتهاء كلّ الأسباب والمسببات إليه سبحانه، كانتهاء المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، وقيام الممكن بالذات، بالواجب بالذات.

هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّ إرادته سبحانه من صفات ذاته، وإن لم نحقّق كنهها، لأنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد، غير أنّ الإرادة في الإنسان طارئة حادثة، وفيه سبحانه ليست كذلك.

فإذا كانت إرادته نفس ذاته، والذات هي العلّة العليا للكون فلا يكون هناك شيء خارج عن حريم إرادته، فكما تعلّقت قدرته بكلّ شيء، تعلّقت إرادته به، ولا يكون في صفحة الوجود شيء خارج عن سلطان إرادته.

ولكن وزان عمومية إرادته لكلّ شيء، وزان عمومية قدرته لكلّ شيء، فكما أنّ عمومية الثانية لا تسلتزم الجبر، فهكذا عمومية الإرادة، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل كلّ شيء عن فاعله على وجه الإلجاء والاضطرار، بل تعلّقها به على قسمين: قسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله على نحو الاضطرار، ولكن لا عن شعور،

كالحرارة بالنسبة إلى النار; أو عن شعور، ولكن لا عن إرادة واختيار، كحركة المرتعش. وقسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله عن اختيار.

فمعنى تعلّق إرادته بفعل الإنسان هو تعلّق إرادته بكونه فاعلاً مختاراً يفعل ما يشاء في ظل مشيئته سبحانه، فقد شاء أن يكون مختاراً، وفي وسعه سبحانه سلب اختياره وإلجاؤه إلى أحد الطرفين من الفعل والترك.

وباختصار: إنّه كما تعلقت إرادته بصدور فعل كلّ فاعل عنه، كذلك تعلّقت إرادته بصدور فعله عن المبادئ الموجودة فيها.

( 276 )

فالفواعل الطبيعية غير المختارة تعلّقت إرادته بصدور آثارها عنها بلا علم أو بلا اختيار، وأمّّا غيرها فقد تعلّقت بصدور أفعاله (الإنسان) عن المبادئ الموجودة فيه، ومن المبادىء كونه مختاراً في تعيين الفعل وترجيحه على الترك.

وعموم الإرادة بهذا المعنى لا يستلزم الجبر بعد التأمل والإمعان. وأمّا النقل فيشهد على عمومية إرادته بعض الآيات، وإليك قسماً منها:

1. قال سبحانه: (وَما تَشاءُونَ إِلاّ أنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمينَ) .(1)

وهو صريح في أن تعلّق مشيئة الإنسان بعد تعلّق مشيئة الله، لا قبله ولا معه.

2. (وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله) .(2)

وهذا أصل عام في عالم الوجود وإنّما ذكر الإيمان من باب المثال.

3. (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقينَ).(3)

فقطع الأشجار أو إبقاؤها على أُصولها من أفعال الإنسان كان مشمولاً لإذنه سبحانه ومتعلّقاً به.

هذا إجمال ما أوضحناه في الأبحاث الكلامية، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مظانّها.

____________________________

1 . التكوير:29.

2 . يونس:100.

3 . الحشر:5.

( 277 )

التحسين والتقبيح العقليان

التحسين والتقبيح العقليان

قد عنون الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم «التعديل والتجوير» وهذه المسألة، تعد الحجر الأساس لكلام الأشعري وعقيدة أهل الحديث والحنابلة. فالشيخ تبعاً لأبناء الحنابلة صوّر العقل أقلّ من أن يدرك

ما هو الحسن وما هو القبيح، وما هو الأصلح وما هو غيره، قائلاً بأنّ تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية، وتقيدها بقيد وشرط، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل، كما عليه الاجتناب عمّا هو القبيح عنده. فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية قالوا: لا حسن إلاّما حسّنه الشارع، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسناً.

أقول: الإنسان المتحرر عن كلّ عقيدة مسبقة _ وعن كلّ عامل روحي يمنعه عن الاعتناق بحكم العقل في ذلك المجال _ يصعب عليه الإذعان بصحّة عقوبة الطفل المعصوم، وتصويره حسناً وعدلاً. ولا تجد إنساناً على أديم الأرض ينكر قبح الإساءة إلى المحسن. فعند ذلك يتوارد السؤال عن العلة التي دفعت الأشعري إلى هذه العقيدة، ولم يكن ذلك إلاّ لمواجهة المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع، وإخضاعهم الدين له، حتى صاروا يؤوّلون بعض ما لا ينطبق من الشرع على أُصولهم العقلية. فصار ذلك الإفراط دافعاً للشيخ إلى التفريط والتورط في مغبة إعدام العقل ورفضه عن ساحة الإدراك على الإطلاق.

( 278 )

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من تفكير الأشعري في هذا الباب ننقل بعض عباراته من كتابه «اللمع»:

يقول: فإن قال قائل: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟

قيل له: لله تعالى ذلك، وهو عادل إن فعله _ إلى أن قال _: ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان. وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين،وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره.(1)

دليل الأشعري على نفي التحسين والتقبيح العقليين

1. هو المالك القاهر

استدلّ الأشعري على مقالته، بقوله: والدليل

على أنّ كلّ ما فعله، فله فعله، أنّه المالك، القاهر، الذي ليس بمملوك، ولا فوقه مبيح، ولا آمر ولا زاجر، ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم، وحد له الحدود.

فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا، لأنّا تجاوزنا ما حُدَّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلمّا لم يكن البارئ[مملوكاً ]ولا تحت أمر، لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه، قيل له: أجل، ولوحسّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا: فجوّزوا عليه أن يكذب، كما جوّزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم: ليس كلّ ما جاز أن يأمر به، جاز أن يوصف به.(2)

يلاحظ عليه: أمّا أوّلاً: فإنّنا نسأل الشيخ الأشعري إنّه سبحانه إذا آلم طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب، ورأى ذلك بأمّ عينه في الآخرة، هل يرى ذلك عين العدل، ونفس الحسن، أو أنّه يجد ذلك الفعل، من وجدانه، أمراً منكراً؟ ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله، مع

____________________________

1 . اللمع: 116_ 117.

2 . نفس المصدر.

( 279 )

كونه مؤمناً، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه، ويراه نفس العدل، غير متجاوز عنه، بحجّة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء، أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟

وأمّا ثانياً: فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت، يقدر على كلّ أمر ممكن كما عرفت من غير فرق بين الحسن والقبيح، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله

سبحانه، نوع تدخل في شؤون ربّ العالمين، ولكن الحقّ غير ذلك.

توضيحه: إنّ العقل بفضل التجربة، أو بفضل البراهين العقلية يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة، كما يكشف عن القوانين الرياضية، فلو قال العقل: إنّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين،فهل يحتمل أنّ العقل فرض حكمه على الطبيعة، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه، وإنّ أيّ فعل يصدر منه تعالى وأيّ منه لا يصدر، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه بل هو _ بالنظر إلى الله وصفاته التي منها الحكمة والغنى _ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة، لا يصدر منه القبيح، ولا الإخلال بما هو حسن.

وبعبارة أُخرى: إنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكلّ الكمال، والغني عن كلّ شيء، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح، لتحقق الصارف عنه وعدم الداعي إليه، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح، ولا تهدف به إلى تحديد فعله

( 280 )

من جانب العقل، بل الله، بحكم أنّه حكيم، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.

وباختصار: إنّ فعله سبحانه _ مع كون قدرته عامة _ ليس فوضوياً،

ومتحرّراً عن كلّ سلب وإيجاب، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل، وإنّما هو واقعية وحقيقة يكشف عنها العقل، كما يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرر من كلّ قيد وحدّ، بحجّة حفظ شأن الله سبحانه وسعة قدرته، أشبه بالمغالطة، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعله عن كلّ قيد وشرط.

وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليّين،ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري.

2. لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف

قالوا: «لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه و بين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين، لكن التالي باطل بالوجدان».

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله: «ويجوز التفاوت في العلم لتفاوت التصور».(1)

توضيحه: أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. وقد قرر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب، فالأوّليات أبدَهُ من المشاهدات بمراتب، والثانية أبده من التجريبيات، والثالثة أبده من الحدسيات، والرابعة أبده من المتواترات، والخامسة أبده من الفطريات.

____________________________

1 . كشف المراد: 186_ 187، ط صيدا.

( 281 )

والضابط في ذلك أنّ مالا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره، وذلك مثل الأوّليات،وهكذا.

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

وباختصار: إنّ العلوم اليقينية، مع كثرتها، ليست على نمط واحد، بل لها مراتب ودرجات، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته.

3. لو كان الحسن والقبح عقليّين لما تغيّرا

إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لمّا اختلفا، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن. والتالي باطل، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح. وذلك

فيما إذا تضمّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك، والصدق إهلاكه.

وباختصار: لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما توقفت عليه عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله:«وارتكاب أقلّ القبيحين مع إمكان التخلّص».(1)

توضيحه: أنّ الكذب في الصورة الأُولى على قبحه، وكذاالصدق على حسنه، إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح منه، فيحكم العقل بارتكاب أقل القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض(أي التورية).

وباختصار: إنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق، فيكون تركه أقبح من الكذب، فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة، على الصدق.

____________________________

1 . كشف المراد: 187.

( 282 )

أضف إلى ذلك: أنّ الاستدلال مبني على كون قبح الكذب وحسن الصدق، كقبح الظلم وحسن العدل، ذاتيين لا يتغيران، لا على القول بأنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام. منها ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض لحسن الإحسان وقبح الإساءة، ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر، وهكذا في جانب القبح. وحسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل. ومنها ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب، جزاءً أو إيذاءً.

ثمّ إنّ لنفاة الحسن والقبح العقليين دلائل واهية لا تليق أن تطرح على بساط البحث، فلنضرب صفحاً عنها.

إلى هنا تم استعراض أدلّة المنكرين للحسن والقبح العقليين، فيناسب _ تكميلاً للبحث _ استعراض أدلّة المثبتين وهو يتوقف على تبيين ما هو الملاك عند العقل للحكم بأنّ الفعل الكذائي حسن أو قبيح، ولنقدم البحث في ذلك، ثمّ نتبعه بذكر براهين المثبتين.

ما هو الملاك لدرك العقل في هذا المجال؟

إنّ الملاك لقضاء العقل

هو أنّه يجد بعض الأفعال موافقاً للجانب الأعلى من الإنسان والوجه المثالي في الوجود البشري، كما يجد بعضها الآخر غير موافق معه، وإن شئت قلت: إنّه يدرك أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي المختار، وبعضها الآخر نقص له، فيحكم بحسن الأوّل ولزوم الاتصاف به، وقبح الثاني ولزوم تركه.

توضيح ذلك: أنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظري وعقل عملي، فقد قال المعلم الثاني: «إنّ النظرية هي التي بها يجوز الإنسان علم ما ليس من شأنه يعمله إنسان والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته».

قال الحكيم السبزواري في توضيحه: إنّ العقل النظري والعقل

( 283 )

العملي من شأنهما التعقّل، لكن النظري، شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل، مثل:«الله موجود واحد»، و«أنّ صفاته عين ذاته» ونحو ذلك، والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل: «التوكّل حسن» و«الرضى والتسليم والصبر محمودة». وهذا العقل هو المستعمل في علم الأخلاق، فليس العقلان كقوتين متباينتين أوكضميمتين، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة.(1)

ثمّ، كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة، فهكذا في الحكمة العملية، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضرورية، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاتها، فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.

مثلاً: إنّ كلّ القضايا النظرية يجب أن تنتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا، ولذا تسمى ب_ «أُمّ القضايا»; مثلاً: لا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي

زاويتين، قائمتين، إلاّ إذاحصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية، أي عدم مساواتها لهما، وإلاّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضاياالتي قد عرفت، وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّلية وواضحة عند ذلك العقل، بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا، مثل قولنا:«العدل حسن» و «الظلم

____________________________

1 . تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة: 310.

( 284 )

قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن وبالإساءة قبيح». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العملية، والعقل يدركها من ملاحظة القضية بنفسها،وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً، وتدبير المنزل ثانياً، وسياسة المدن ثالثاً، التي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانية، المشترك بين جميع أفراد الإنسان، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضية التحسين والتقبيح في قسم من الأفعال، قضية كلية لا تختص بزمان دون زمان، ولا جيل دون جيل. بل لا تختص _ في كونها كمالاً أو نقصاً _ بالإنسان، بل تعم الموجود الحي المدرك المختار، لأنّ العقل يدركها بصورة قضية عامة شاملة لكلّ من يمكن أن يتصف بهذه الأفعال، كالعدل والظلم فهو يدرك

أنّ الأوّل حسن عن الجميع ومن الجميع، والثاني قبيح كذلك، وليس للإنسان خصوصية في ذلك القضاء.

وبذلك يصبح المدعي للتحسين والتقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه، كما أنّ المدعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي، ولم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية وبديهية، أو نظرية وضرورية، كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

فالمسائل المطروحة في الأخلاق، التي يجب الاتصاف بها والتنزّه عنها، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبر عنهاب تدبير المنزل، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن، ليست في الوضوح على نمط واحد، بل لها درجات ومراتب.

فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العملية إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية

( 285 )

واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية، حتى يحصل الجزم بها، ويرتفع الإبهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين في غنى عن التوسع في طرح أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح، ولا نذكر إلاّ النزر اليسير، وإليك بعض أدلّتهم:

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليَّين

الأوّل: ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله: «ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً»(1) مفاده: إنّه لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان شرعاً يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

توضيحه: انّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب، فلا إشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً، وما نهى عنه يكون قبيحاً، لحكم العقل

بأنّ الكذب قبيح، والشارع لا يرتكب القبيح، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.

وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك،فلو أمر بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه، حتى نعتقد بمضمونه، لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب، لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار، فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.

وإن شئت قلت: لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، كالصدق والكذب، فلا يستقل بقبح صدور الكذب من الله سبحانه. فإذا أخبرنا عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

ثمّ إنّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله:

____________________________

1 . كشف المراد: 186.

( 286 )

إنّا لا نجعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكر، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح، والقبح عبارة عن كونه متعلّق النهي والذم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ البحث تارة يقع في التسمية والمصطلح، فيصحّ أن يقال: إنّ ما وقع متعلّق الأمر والمدح حسن، وما وقع متعلّق النهي والذم قبيح. والعلم بذلك لا يتوقّف إلاّ على سماعهما من الشرع. وأُخرى يقع في الوقوف على الحسن أو القبح الواقعيين عند الشرع، فهذا ممّا لا يمكن استكشافه من مجرّد سماع تعلّق الأمر والنهي بشيء، إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره ونهيه.

ولو قال إنّه ليس بعابث، لا يثبت به نفي احتمال العابثية عن فعله وكلامه، لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه،

فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه وقبحه على شيء، وأن يكون العقل مستقلاً في دركه، وهو حسن الصدق وقبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك، على أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله، فيثبت عندئذ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً، وما تعلّق به النهي قبيح شرعاً. وهذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن ولا قبح بتاتاً.

الثاني: ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله: «ولجاز التعاكس في الحسن والقبح».(2)

توضيحه: أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح يجوز له أن يحسّن ما قبّحه العقل أو يقبّح ما حسّنه.

وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح

____________________________

1 . شرح التجريد للفاضل القوشجي: 442.

2 . كشف المراد: 186.

( 287 )

المسيء. قال أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء»(1). والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله، ولا يطرحه بما أنّه كلام جديد غفل عنه عامله.

الثالث: لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع،ولكن يحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء الماديون والملحدون في الشرق والغرب يرفضون الشرائع والدين من أساسه، ومع ذلك يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.

ولأجل ذلك يغرون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة، بدعاياتهم الخبيثة، من قبيل دعم الصلح والسلام العالمي، وحفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى والسجناء ونبذ التمييز العنصري، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط، يطرحون ذلك ليصلوا من خلال هذه الدعايات الفارغة

إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.

والحاصل: انّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء أورد حسنها من الشرع أم لم يرد، كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكلّ، سواء أورد قبحها من الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع، ولا علم شيئاً من الأحكام، بل نشأ في البوادي خالي الذهن من العقائد كلّها، بين أن يصدق و يعطى ديناراً، أو يكذب ويعطى ديناراً، ولا ضرر عليه فيهما فإنّه يرجح الصدق على الكذب، ولولا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرق بينهما،ولما اختار الصدق دائماً.

وهذا يعرب عن أنّ العقل له القدرة على الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم، وقبح مخالفته، وأنّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء، ونحو ذلك.

الرابع: لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع، لما قبح من الله تعالى

____________________________

1 . نهج البلاغة قسم الرسائل برقم: 53.

( 288 )

شيء ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين، وتجويز ذلك سدّ لباب معرفة الأنبياء، فإنّ أي نبي أتى بالمعجزات عقيب الإدّعاء، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

وباختصار: لو جاز منه سبحانه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب _ الذي يسمّيه العقل قبيحاً أو إخلالاً بالواجب _ لارتفع الوثوق بنبوة مدّعيها وإن أظهر الإعجاز، لتسويغ إظهار الإعجاز على يد الكاذب على الله سبحانه، ولارتفع الوثوق بوعده ووعيده، لإمكان تطرّق الكذب عليه، وذلك يفضي إلى الشكّ في صدق الأنبياء،والاستدلال بالإعجاز على صدق مدّعي النبوة.

وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز مايترتب على إنكار القاعدة وبذلك سدّوا

باب معرفة النبوة.

والعجب أنّ الفضل بن روزبهان حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله: عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلاً، بل لعدم جريان عادة الله، الجاري مجرى المحال العادي بذلك، فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء، لأنّ العلم العادي حكم باستحالة هذا الإظهار.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من أين وقف على تلك العادة، وأنّ الله لا يجري الإعجاز على يد الكاذب؟

وثانياً: أنّه لو كان التصديق متوقفاً على إحراز تلك العادة، لزم أن يكون المكذّبون لنبوة نوح أو من قبله و من بعده، معذورين في إنكارهم لنبوة الأنبياء، إذ لم يثبت عندهم تلك العادة، لأنّ العلم بتلك العادة يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

وباختصار: انّ تحصيل جريان عادة الله على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب يجب أن يستند إلى مصدر، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة، وإن كان هو السمع فالمفروض أنّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الادّعاء.

____________________________

1 . دلائل الصدق: 1/369.

( 289 )

وبعبارة أُخرى: لا سمع قبل ثبوت نبوة النبي.

وحصيلة البحث: إنّ منكر الحسن والقبح، منكر لما هو من البديهيات، ولا يصحّ الكلام معه، لأنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية، وهؤلاء ينازعون في نفس المقدّمات الضرورية، وليت شعري، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله سبحانه العبد عن الفعل ويخلق فيه اضطراراً ويعاقبه عليه، فقل: لو لم يدركه العقل فأي شيء يدركه؟

قيل: اجتمع النظّام والنجار للمناظرة، فقال النجار: لم تدفع أن يكلّف الله عبادَهُ ما لا يطيقون؟ فسكت النظام، فقيل له: لم سكت؟ قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا

يطاق، فإذا التزمه ولم يستح، فبم ألزمه؟

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز

إنّ التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّّه يسلم وجود التحسين والتقبيح العقليين خارج إطار الوحي، ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح:

1. قال سبحانه: (انَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .(1)

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ) .(2)

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) .(3)

4. (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء) .(4)

____________________________

1 . النحل:90.

2 . الأعراف:33.

3 . الأعراف:157.

4 . الأعراف:28.

( 290 )

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف، قبل تعلّق الأمر أو النهي بها، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاًمن صميم ذاته، كما يعرف سائر الموضوعات من الماء والتراب، وليس عرفان الإنسان لها موقوفاً على تعلّق حكم الشرع، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته.

يقول سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسدينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار) .(1)

6. يقول سبحانه: (أََفَنَجْعَلُ المُسْلِيمنَ كَالْمُجْرِمينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .(2)

7. يقول سبحانه: (هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلاّ الإِحسانُ) .(3)

فالتدبّر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية، من دون حاجة إلى حجّة ظاهرية.

دور التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين تحتل مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية إذ بها ينحل كثير من المشاكل في الكلام وغيره، وإليك بيان بعضها:

____________________________

1 . ص: 28.

2 . القلم:35، 36.

3 . الرحمن: 60.

( 291 )

1. وجوب

المعرفة

اتّفق المتكلّمون _ ما عدا الأشاعرة _ على لزوم معرفة الله سبحانه لزوماً عقلياً، بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم، وهو حسن. وفي تركها الوقوع في الضرر المحتمل. هذا إذا قلنا باستقلال العقل في ذلك المجال، ولولاه لما ثبت وجوب المعرفة لا عقلاً _ لأنّه حسب الفرض معزول عن الحكم _ ولا شرعاً، لأنّه لم يثبت الشرع بعد.

2. لزوم النظر في برهان النبوة

لا شكّ أنّ الأنبياء الحقيقيين بعثوا بمعاجز وبيّنات، فإذا ادّعى أحدهم السفارة من الله إلى الناس، فهل يجب على الناس النظر في دعواه وبرهانه؟ فعلى استقلال العقل في مجال التحسين والتقبيح يجب النظر والإصغاء دفعاً للضرر المحتمل. وأمّا على القول بعدمه فلا يجب ذلك لا عقلاً ولا شرعاً، كما عرفت في سابقه. ونتيجة ذلك إنّ التارك للنظر معذور، لأنّه لم يطّلع على حقيقة الأمر.

3. العلم بصدق دعوى النبوة

إذا اقترنت دعوة المتنبي بالمعاجز والبيّنات الواضحة، فلو قلنا باستقلال العقل في مجال الحسن والقبح، حكمنا بصدقه، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب، لما فيه من إضلال الناس. وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام، فلا دليل على كونه نبيّاً صادقاً، والشرع بعد لم يثبت حتى يحكم بصدقه.

4. قبح العقاب بلا بيان

اتّفق الأُصوليون على قبح العقاب بلا بيان، وعليه بنوا أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإجمالي. وهذا يتم بالقول بالتحسين والتقبيح العقليين. نعم هذا إنّما يفيد إذا لم تثبت البراءة من الشرع، بواسطة الكتاب والسنّة، والمفروض أنّ البحث فيها بعد ثبوت الشرع.

( 292 )

5. الخاتمية

إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح، بالمعنى الذي عرفت من الملاءمة للفطرة العلوية أو المنافرة لها، أساس الخاتمية،وبقاء أحكام الإسلام وخلودها

إلى يوم القيامة. فإنّ الحكم بالحسن والقبح _ على ما عرفت _ ليس إلاّكون الشيء موافقاً للفطرة العلوية أو منافراً لها. وبما أنّ الفطرة مشتركة بين جميع الأفراد، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة.ولأجل ذلك لا يتطرق التبدل والتغيّر إلى أحكامه وإن تبدّلت الحضارات وتطورت المدنيات، فإنّ تبدلها لا يمس فطرة الإنسان ولا يغير جبلّته.

6. لزوم بعث الأنبياء

إنّ مسألة لزوم إرسال الرسل تبتني على تلك المسألة، فالعقل يدرك بأنّ الإنسان لم يخلق سدى، بل خلق لغاية، ولا يصل إليها إلاّ بالهداية التشريعية الإلهية. فيستقل بلزوم بعث الدعاة من الله لهداية البشر دفعاً للّغو.

7. ثبات الأخلاق أو تطورها

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها، ممّا طرحت مؤخراً عند الغربيين، ودارت حولها مناقشات وأبديت فيها الآراء. فمن قائل بثبات أُصولها، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب الأنظمة والحضارات. ولكن المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليين، الناشئين من قضاء الجبلة الإنسانية العالية، فعند ذلك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود، في ضوء ثبات الفطرة، وأمّا ما يتغير بتغير الحضارات، فإنّما هو العادات والتقاليد العرفية.

خذ على ذلك مثلاً«إكرام المحسن» فإنّه أمر يستحسنه العقل ويضفي عليه سمة الخلود، وليس هذا الحكم متغيراً أبداً، وإنّما المتغير وسائل الإكرام وكيفياته، فإذاً الأُصول ثابتة، والعادات والتقاليد متغيّرة، وليست الأخيرة إلاّ ثوباً للأُصول.

( 293 )

8. عادل لا يجور

إنّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليين _ على ما عرفت _ هو أنّ العقل _ بما هوهو _ يدرك أنّ هذا الشيء _ بما هوهو _ حسن أو قبيح، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء _ بما هوهو _ من دون دخالة ظرف من الظروف أو

قيد من القيود، ومن دون دخالة درك مدرك خاص، بل الشيء يتمتع بأحد الوصفين بما هوهو.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعية عامة، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن ويمدح فاعله عند الجميع، والظلم قبيح ويذم فاعله عند الجميع، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه، المدرك للفعل ووصفه _ أعني: استحقاق الفاعل للمدح أو الذم من غير خصوصية للفاعل _ كيف يقوم بفعل يحكم هو نفسه بأنّ فاعله مستحق للذم، أو يقوم بفعل يحكم هو بأنّه يجب التنزّه عنه؟

وعلى ذلك فهو سبحانه عادل، لأنّ الظلم قبيح والعدل حسن، ولا يصدر القبيح من الحكيم. فالاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي له.

وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال مطلق لكلّ أحد، وارتكاب الظلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك _ حسب إدراك العقل _ عنده سبحانه. ومعه: كيف يمكن أن يرتكب الواجب تعالى خلاف الكمال ويقوم بما يجرّ النقص إليه؟

دفع إشكال

ربما يقال إنّ كون الشيء حسناً عند الإنسان أو قبيحاً عنده، لا يدل على كونه كذلك عند الله سبحانه. فكيف يمكن استكشاف أنّه لا يترك الواجب ولا يرتكب القبيح؟

( 294 )

والإجابة عنه واضحة، لأنّ مغزى القاعدة السالفة هو أنّ الإنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم من كلّ مدرك شاعر، ولكلّ عاقل حكيم، من غير فرق بين الظروف و الفواعل. وهذا نظير درك الزوجية للأربعة، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع، لا عند خصوص الممكن. فليس المقام من باب إسراء حكم الإنسان الممكن إلى الواجب تعالى. بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين، من غير فرق بين خالقهم ومخلوقهم.

ولا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

وعلى هذا يثبت تنزّهه سبحانه عن كلّ قبيح، واتّصافه بكلّ كمال في مقام الفعل، فيثبت كونه تعالى حكيماً عادلاً لا يرتكب اللغو وما يجب التنزّه عنه، كما لا يرتكب الجور والعدوان.

مكانة العدل في العقائد الإسلامية

إنّ هذا البحث الضافي حول التحسين والتقبيح العقليين، وما يترتب عليهما من الآثار، التي عرفت بعضها، يوقفنا على مكانة العدل في العقائد الإسلامية، إذ الاعتقاد بالعدل من شعب الاعتقاد بالتحسين والتقبيح العقليين، وقد عرفت أنّه لولا القول به لارتفع الوثوق بوعده ووعيده، وامتنع حصول الوثوق بمعاجز مدعي النبوة،وعزل العقل في درك التحسين والتقبيح في الأفعال يستلزم انخرام كثير من العقائد الإسلامية، ولأجل هذه الأهمية والمنزلة تضافرت الآيات والروايات مركزة على قيامه سبحانه بالقسط.

العدل في الذكر الحكيم

قال سبحانه:(شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ).(1)

وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.

قال سبحانه: (لَقَدْأَرْسَلْنا رُسُلنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاس بِالقِسْطِ) .(2)

كما صرح بأنّ القسط هو الحجر الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: (وَنَضَعُ الْمَوازينَ القِسْط لِيَوم القِيامَة فَلا تُظْلَمُ نَفسٌ شَيْئاً) (3). إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول العدل والقسط.

وهذه الآيات إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته، بأنّ العدل كمال لكلّ موجود

____________________________

1 . آل عمران:18.

2 . الحديد:25.

3 . الأنبياء:47.

( 295 )

حي، مدرك مختار، وأنّه يجب أن يوصف الله به في أفعاله في الدنيا والآخرة، وأنّه يجب أن يقوم سفراؤه به.

العدل في التشريع الإسلامي

وهذه المكانة التي يحتلها العدل هي التي جعلته سبحانه يعرف أحكامه ويصف تشريعاته بالعدل. وأنّه لا يشرع

إلاّما كان مطابقاً له.

يقول سبحانه: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون) .(1)

فالجزء الأوّل من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام، كما أنّ الجزء الثاني ناظر إلى عدالته يوم الجزاء في مكافأته، وعلى كلّ تقدير فإنّ شعار الذكر الحكيم هو: (وَما ظَلَمهُمُ الله وَلكِن كانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُون).(2)

____________________________

1 . المؤمنون:62.

2 . النحل:33.

( 296 )

وهذا يكشف عن عدالته في التشريع والجزاء، كما يكشف عن تعلّق إرادته بإقامة العدل ورعاية القسط.(1)

ويتفرع على هذا الأصل مسألة نفي الجبر عن أفعال البشر، وبما أنّ تحقيق هذه المسألة يحتاج إلى إسهاب في أدلّة الطرفين نرجئ البحث عنها إلى وقت تبيين عقائد المعتزلة.

____________________________

1 . إنّ توصيفه سبحانه بالعدل ربما يثير أسئلة حول عدله، وقد أخذتها الملاحدة ذريعة للتشكيك:

1. إذا كان عادلاً فما معنى المصائب والبلايا التي تحل بالإنسان في حياته؟

2. ما هذا الاختلاف في المواهب والقابليات لدى الأفراد؟

3. ما هي الحكمة في خلق العاهات الجسمية أو العقلية؟

4. ما هي الحكمة في الفقر والشقاء والجوع التي تعاني منها مجموعات كبيرة من البشر؟

إلى غير ذلك ممّا يشابه هذه الأسئلة. وقد أجبنا عنها في كتاب «الله خالق الكون» فلاحظ : ص 97_99 و ص 269، 281.

( 297 )

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف

نذكر فيها أمرين هامّين:

الأوّل: الإيعاز إلى المنافسة المستمرة بين الحنابلة والأشاعرة.

الثاني: ترجمة عدة من شخصيات الأشاعرة البارزة، الذين نضج بهم المذهب وكملت بهم أركانه، وإليك البيان:

المنافسة والمنافرة بين الحنابلة والأشاعرة

إنّ المنافرة بين الطائفتين كانت قائمة على قدم وساق منذ ظهور مذهب الإمام الأشعري بين أهل السنّة واستقطب مجموعة كبيرة من العلماء، واشتهر مذهباً خاصاً بين أهل السنّة، ولكن الحنابلة منذ أن تاب الأشعري عن الاعتزال وادّعى

أنّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لم يقبلوا منه [ذلك].

وقد عرفت كلمة البربهاري عندما ذكر له الشيخ، ما نقلناه عنه سابقاً.(1)

وقد تجلّت تلك المنافسة عبر الزمان بصور مختلفة من مرحلة ضعيفة إلى مرحلة قوية أدت إلى الضرب و الشتم وحبس مشايخ الأشاعرة ونفيهم من أوطانهم، ولأجل إيقاف القارئ على هذه المنافرة نأتي ببعض ما يدلّ على ذلك:

____________________________

1 . لاحظ ص 30 من هذا الكتاب.

( 298 )

1.ترجمة الشيخ في كتب الذهبي

إنّ الشيخ الذهبي لم يقم بترجمة الشيخ على وجه يتلقّاه الأشاعرة بالقبول، بل اشتمل كلامه على لذع ولدغ، وفي هذا يقول السبكي:

وأنت إذا نظرت في ترجمة هذا الشيخ الذي هو شيخ السنّة وإمام الطائفة في تاريخ شيخنا الذهبي، ورأيت كيف مزّقها وحار كيف يضع من قدره، ولم يمكنه البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحق، ولا الصبر عن السكون لما جبلت عليه طويته من بغضه، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه، ثمّ قال في آخر الترجمة: «من أراد أن يتبحّر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب «تبيين كذب المفتري» لأبي القاسم ابن عساكر. توفنا على السنّة، وأدخلنا الجنة، واجعل أنفسنا مطمئنة، نحب فيها أولياءك، ونبغض فيها أعداءك، ونستغفر للعصاة من عبادك، ونعمل بمحكم كتابك، ونؤمن بمتشابهه ونصفك بما وصفت به نفسك».

فعند ذلك تقضي العجب من هذا الذهبي، وتعلم إلى ماذا يشير المسكين؟!فويحه، ثم ويحه!إنّ الذهبي أُستاذي، وبه تخرّجت في علم الحديث، إلاّ أنّ الحقّ أحقّ أن يتبع ويجب عليَّ تبيين الحقّ فأقول:

أمّا حوالتك على «تبيين كذب المفتري» وتقصيرك في مدح الشيخ، فكيف يسعك ذلك مع كونك لم تترجم مجسماً يشبّه الله بخلقه إلاّ واستوفيت ترجمته؟! حتى إنّ كتابك مشتمل على ذكر جماعة

من أصاغر المتأخرين من الحنابلة، الذين لا يؤبه إليهم،وقد ترجمت كلّ واحد منهم بأوراق عديدة، فهل عجزت أن تؤتي ترجمة هذا الشيخ حقّها وتترجمه كما ترجمت من هو دونه بألف ألف طبقة. فأي غرض وهوى نفس أبلغ من هذا؟! وأقسم بالله يميناً برّة ما بك إلاّ أنّك لا تحب شياع اسمه بالخير، ولا تقدر في بلاد المسلمين على أن تفصح فيه بما عندك من أمره، وما تضمره من الغموض منه، فإنّك لو أظهرت ذلك لتناولتك سيوف الله.

وأمّا دعاؤك بما دعوت به، فهل هذا مكانه يا مسكين؟!

وأمّا إشارتك بقولك: «نبغض أعداءك» إلى أنّ الشيخ من أعداء الله

( 299 )

وأنّك تتبغضه فسوف تقف معه بين يدي الله يوم يأتي وبين يديه طوائف العلماء من المذاهب الأربعة، والصالحين من الصوفية والجهابذة الحفّاظ من المحدّثين، وتأتي أنت تتكسع في ظُلم(1) التجسيم الذي تدّعي أنّك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه، وتزعم أنّك تعرف هذا الفن وأنت لا تفهم فيه نقيراً ولا قطميراً، وليت شعري من الذي يصف الله بما وصف به نفسه؟! من شبهه بخلقه؟! أمن قال:(لَيْسَ كمثله شيء و هو السَّميع البَصير) ؟

والأولى بي على الخصوص إمساك عنان الكلام في هذا المقام، فقد أبلغت، ثمّ احفظ لشيخنا حقّه وأمسك.(2)

2. استفتاء يتعلّق بحال الشيخ

وقد كتب استفتاء يتعلّق بحال الشيخ في زمان شيخ الأشاعرة أبي القاسم القشيري بخراسان عند وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة عام ست و ثلاثين وأربعمائة، وإليك جواب القشيري وغيره عنه:

بسم الله الرّحمن الرّحيم. اتّفق أصحاب الحديث إنّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلّم في أُصول الديانات على طريقة أهل السنّة، رد على المخالفين من

أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة، سيفاً مسلولاً، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنّة.

بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج(3) في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر وكتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري.

وكتب تحته الخبازي: كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه.

____________________________

1 . جمع الظلمة.

2 . طبقات الشافعية:3/347_ 354.

3 . الدرج: الذي يكتب فيه.

( 300 )

والشيخ أبو محمد الجويني: الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف، وكتب نظير تلك الجملة المشايخ: أبو الفتح الشاشي، وعلي بن أحمد الجويني،وناصر العمري، وأحمد بن محمد الأيوبي، وأخوه علي،وأبو علي الصابوني، و أبو عثمان الصابوني، وابنه أبو نصر بن أبو عثمان، والشريف البكري، ومحمد بن الحسن الملقاباذي.(1)

يظهر من كتاب «تبيين كذب المفتري وطبقات الشافعية» أنّ بعض هؤلاء كتبوا تحت الورقة بعبارات فارسية، مثلاً كتب عبد الجبار الإسفرايني بالفارسية: «إن أبو الحسن الأشعري آن امام است كه خداوند عزوجل اين آيت در شأن وى فرستاد: (فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه...) (المائدة:54)(2) و مصطفى _ عليه السَّلام _ در آن روايت، به جد وى اشارت كرد فقال: هم قوم هذا».(3)

3. الفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور

يظهر من كلام تاج الدين السبكي أنّ هذا الاستفتاء كان مقروناً بالفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور قاعدة بلاد خراسان آنذاك، وقد آلت الفتنة إلى خروج إمام الحرمين، والحافظ البيهقي،وأبي القاسم القشيري من نيسابور، وكانت تلعب في ذلك يد الحنابلة تحت الستار، وإليك شرحه:

قال السبكي: كان طغرل بك السلجوقي _ وهو أوّل ملوك السلاجقة _

رجلاً حنفياً سنّياً، وكان له وزير يسمّى ب_ : أبي نصر منصور بن محمد الكندري المعروف بعميد الملك، والسبكي يتّهمه بأنّه كان معتزلياً، رافضياً، ومشبهاً لله سبحانه بخلقه ممّا هو شائع بين الكراميةوالمجسمة(4). فحسّن عميد الملك

____________________________

1 . ولعلّه تعريب ملك آباد.

2 . وقد عرفت حقّ المقال في ادّعاء نزول هذه الآية في حقّ أبي موسى الأشعري جدّ الشيخ الأعلى، فراجع.

3 . طبقات الشافعية:3/374_ 375.

4 . نحن نشك في وجود هذه الصفات الثلاث في رجل مثقف مثل عميد الملك، كيف يمكن أن يكون معتزلي المبدأ، ورافضي العقيدة، وفي الوقت نفسه قائلاً بالتشبيه والتجسيم، وهل هذا إلاّ كالاعتقاد بالنقيضين؟!

( 301 )

على السلطان لعن المبتدعة على المنابر، فصدر الأمر بذلك، واتخذ عميد الدين ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية، وصار يقصدهم بالإهانة والأذى والمنع عن الوعظ والتدريس، وعزلهم عن خطابة الجامع،واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنّهم يقلدون مذهب أبي حنيفة، فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموماً،وبالأشعرية خصوصاً، وهذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق، وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق، وعظم خطبها وبلاؤها، وقام في سب أهل السّنة(الأشاعرة) خطيبها وسفهاؤها، إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في زمن بعض بني أُمية،حيث استولت النواصب على المناصب، واستعلى أُولئك السفهاء في المجامع والمراتب.

وكان في بلدة نيسابور رجلاً جواداً ذا أموال جزيلة وصدقات دارّة وهبات هائلة يسمى أبا سهل الموفق، فشمّر عن ساعد الجد، و تردد إلى العسكر في دفع ذلك، وما أفاد شيء من التدبير، إذ كان الخصم الحاكم، والسلطان محجباً إلاّ بواسطة ذلك الوزير،

ثمّ جاء الأمر من قبل السلطان طغرل بك بالقبض على الرئيس الفراتي، والأُستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق،ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائباً إلى بعض النواحي ولما قرئ الكتاب بنفيهم، أُغري بهم الغاغة والأوباش، فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري،والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما،وحبسا بالقهندر.

وأمّا إمام الحرمين، فإنّه كان أحس بالأمر واختفى، وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز، ومن ثمّ جاور و سُمّي إمام الحرمين،وبقي القشيري والفراتي مسجونين أكثر من شهر، فتهيأ أبو سهل بن الموفق من ناحية باخرز وجمع من أعوانهم رجالاً عارفين بالحرب،وأتى باب البلد وطلب إخراج الفراتي

( 302 )

والقشيري فما أُجيب، بل هدد بالقبض عليه بمقتضى ما تقدّم من مرسوم السلطان، فلم يلتفت وعزم على دخول البلد ليلاً وإخراجهما مجاهرة، وكان متولّي البلد قد تهيأ للحرب،وبعد مفاوضات واشتباكات عنيفة توفق أبو سهل إلى إخراجهما من السجن، فلمّا تم له الانتصار، تشاور هو وأصحابه فيما بينهم وعلموا أنّ مخالفة السلطان لها تبعة، وأنّ الخصوم لا ينامون، فاتّفقوا على مهاجرة البلد إلى ناحية استواء.(1)ثمّ يذهبون إلى الملك. وبقي بعض الأصحاب بالنواحي مفرقين، وذهب أبو نصر إلى المعسكر وكان على مدينة الري، وخرج خصمه من الجانب الآخر فتوافيا بالري، وانتهى إلى السلطان ما جرى، وسعى بأصحاب الشافعي وبأبي سهل خصوصاً، فقبض على أبي سهل وأُخذت أمواله وبيعت ضياعه، ثمّ فرج عنه وخرج وحج.

وقد غادر كثير من علماء أهل السنة نيسابور ونواحيها، ومرو وما والاها، فمنهم أُخرجوا ومنهم من جاء إلى العراق، ومنهم من جاء الحجاز.

فممّن حجّ: الحافظ أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وخلائق. يقال: جمعت تلك السنّة أربعمائة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية

هجروا بلادهم بسبب هذه الواقعة، وتشتت فكرهم يوم رجوع الحاج، فمن عازم على المجاورة، ومن محيّر في أمره لا يدري أين يذهب؟

4. كتاب البيهقي إلى يد الملك

كتب البيهقي _ و هو محدث زمانه و شيخ السنّة في وقته _ كتاباً إلى عميد الملك يصفه ويطريه فيه، ويذكر في تلك الرسالة فضائل الشيخ أبي الحسن ومناقبه، واندفع في آخر الرسالة إلى السؤال عن عميد الملك في إطفاء النائرة وترك السب وتأديب من يفعله. يقول السبكي: وقد ساق الحافظ (ابن عساكر) الكتاب بمجموعه،فإن أردت الوقوف عليه كلّه فعليك بكتاب

____________________________

1 . كورة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة.

( 303 )

التبيين.(1)

5. رسالة القشيري إلى البلاد

وكتب الأُستاذ أبو القاسم القشيري رسالة مفتوحة إلى العلماء الأعلام بجميع بلاد الإسلام عام ست وأربعين وأربعمائة، يشكو فيها عمّا حلّ بأبي الحسن الأشعري والأشاعرة من المحنة. ابتدأ رسالته بقوله:

الحمد لله المجمل في بلائه، المجزل في عطائه، العدل في قضائه، والمكرم لأوليائه، المنتقم من أعدائه _ إلى أن قال _: هذه قصة سميناها «شكاية أهل السنّة بحكاية ما نالهم من المحنة» تخبر عن بثّة مكروب ونفثة مغلوب... إلى أن قال:

وممّا ظهر ببلاد نيسابور من قضايا التقدير في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة ما دعا أهل الدين إلى شق صدور صبرهم، وكشف قناع ضيرهم، بل ظلت الملة الحنيفية تشكو غليلها، وتبدي عويلها،وتنصب عزالي رحمة الله على من يستمع شكوها، وتصغي ملائكة السماء حتى تندب شجوها. ذلك ممّا أحدث من لعن إمام الدين، وسراج ذوي اليقين، محيي السنّة، وقامع البدعة، وناصر الحقّ،وناصح الخلق، الزكي الرضي، أبي الحسن الأشعري، قدس الله روحه وسقى بالرحمة ضريحه، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج، وسلك في قمع

المعتزلة، وسائر أنواع المبتدعة أبين منهج. واستنفد عمره في النضح عن الحق، فأورث المسلمين وفاته كتبه الشاهدة بالصدق.(2)

ومن لطيف ما جاء في تلك الرسالة قوله: وما نقموا من الأشعري إلاّ أنّه قال بإثبات القدر لله، خيره وشره، ونفعه وضره، وإثبات صفات الجلال لله، من قدرته، وعلمه، وإرادته، وحياته، وبقائه، وسمعه، وبصره،

____________________________

1 . طبقات الشافعية:3/389_ 399. ولكن الكتاب غير موجود فيما طبع من تبيين كذب المفتري، وقد تفحصناه وما وجدناه فيه.

2 . طبقات الشافعية:3/1_4،والرسالة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.

( 304 )

وكلامه، ووجهه، ويده، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنّه تعالى موجود تجوز رؤيته، وأنّ إرادته نافذة في مراداته، وما لا يخفى من مسائل الأُصول التي تخالف (طريقه) طريق المعتزلة والمجسمة فيها، وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة، وقول الأشعري قول زائد، فإذا بطل قول الأشعري، فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة؟ وإذا بطل القولان فهل هذا إلاّ تصريح بأنّ الحقّ مع غير أهل القبلة؟ وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج قول الأُمّة عن قوليهما، فهل هذا إلاّ لعن جميع أهل القبلة؟

معاشر المسلمين الغياث الغياث! سعوا في إبطال الدين، ورأوا هدم قواعد المسلمين، وهيهات هيهات!(يُريدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (1) وقد وعد الله للحق نصره وظهوره وللباطل محقه وثبوره، ألا إنّ كتب الأشعري في الآفاق مبثوثة، ومذاهبه عند أهل السنّة من الفريقين معروفة مشهورة، فمن وصفه بالبدعة علم أنّه غير محق في دعواه، وجميع أهل السنّة خصمه فيما افتراه.

وقال في مختتم الرسالة: ولما ظهر ابتداء هذه الفتنة بنيسابور، وانتشر في الآفاق خبره، وعظم على قلوب كافة المسلمين، من أهل السنة والجماعة أثره، ولم يبعد

أن يخامر قلوب بعض أهل السلامة [والوداعة ]توهم في بعض هذه المسائل أنّ لعلّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري _ رحمه الله _ ، قال ببعض المقالات، في بعض كتبه ، ولقد قيل من يسمع يخل، أثبتنا هذه الفصول في شرح هذه الحالة، وأوضحنا صورة الأمر، بذكر هذه الجملة، ليضرب كل[من ]أهل السنّة، إذا وقف عليها، بسهمه، في الانتصار لدين الله عزّ وجلّ، من دعاء يخلصه، واهتمام يصدقه، وكل عن قلوبنا بالاستماع إلى [شرح] هذه القصّة يحمله، بل ثواب من الله سبحانه على التوجع بذلك يستوجبه،والله غالب على أمره، وله الحمد على ما يمضيه من أحكامه، ويبرمه ويقضيه في أفعاله، فيما يؤخره و يقدمه، وصلواته على سيدنا محمد المصطفى و على آله و سلم تسليماً.

____________________________

1 . التوبة:32.

( 305 )

تمت الشكاية.(1)

6. استمرار الفتنة إلى زمان وزرارة نظام الملك

يظهر من السبكي أنّ فتيل الفتنة كان هو الوزير الكندري المعروف عميد الملك، ويظهر فيما ذكر من استفتاءات أُخر بقاء الفتنة حتى بعد وفاة طغرل بك وقيام ولده ارسلان مقامه و قتل عميد الملك وتصدّى نظام الملك للوزارة.(2)

إنّ وجود استفتاءات أُخر حول أبي الحسن الأشعري يدلّ على دوام المنافرة بين الأشاعرة وغيرهم من الحنابلة والمعتزلة، وإليك استفتاءين آخرين، يتعلّق ثانيهما بعصر أبي نصر القشيري ولد أبي القاسم القشيري، وقد توفّي الوالد عام 465ه_ كما توفّي الولد عام 514ه_.

استفتاء آخر ببغداد

ما قول السادة الأئمة الأجلّة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم؟ ما الذي يجب عليهم؟!

فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي:

قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأُمور _ أعز الله أنصاره _ الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله،

وكتب محمد بن علي الدامغاني.

وبعده كتب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي _ رحمه الله _ : الأشعرية أعيان أهل السنّة،ونصّار الشريعة. انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنّة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كلّ أحد. وكتب إبراهيم بن علي الفيروز آبادي.

وقد كتب مثله محمد بن أحمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق.

____________________________

1 . طبقات الشافعية:3/399_ 423.

2 . طبقات الشافعية:3/393.

( 306 )

استفتاء ثالث في واقعة أبي نصر القشيري ببغداد

وهذا الاستفتاء أوعز إليه السبكي في طبقات الشافعية، في ترجمة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقال: «سنحكي إن شاء الله هذاالاستفتاء والأجوبة عند انتهائنا إلى ترجمة الأُستاذ أبي نصر ابن الأُستاذ أبي القاسم في الطبقة الخامسة»، ولكنّه لم يف بوعده.

وحكى في المقام خط الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب الاستفتاء أنّه كتب: وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنّة، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه، و مذهبه مذهب أهل الحقّ،وكتب نظير تلك الجملة عدّة من أعلام العصر من حنابلة وأحناف لا حاجة لذكر أسمائهم، ويظهر من السبكي أنّ هذا الاستفتاء بقي زماناً بين يدي العلماء كلّما جاءت أُمّة منهم كتبت بالموافقة.(1)

7. شكوى تاريخية للأشاعرة ضدّ الحنابلة

لقد بلغت المنافرة بين الأشاعرة والحنابلة إلى القمة في عصر الشيخ أبي نصر عبد الرحيم ابن الشيخ أبي القاسم القشيري، وبلغ السيل الزبي فقام أعاظم الأشاعرة لمساندة شيخهم أبي نصر برفع الشكوى إلى الوزير نظام الملك،وتمت الشكوائية بتوقيع كثير من علمائهم، وكان ذلك سنة 469ه_. وقد نقلنا تلك الشكوائية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة فراجع.(2)

الأشاعرة وعقيدة أبي جعفر الطحاوي

إنّ الرسالة المعروفة بعقيدة الطحاوي يتبنّاها أهل السنّة

حتى الحنابلة في هذه الأيام، وهي من الكتب الدراسية في جامعة المدينة المنورة يومنا هذا، والمؤلف ينسب كلّ ما جاء فيه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، وقد ادّعى تاج الدين السبكي أنّ الأشاعرة لا يخالفون عمّا ذكر في

____________________________

1 . طبقات الشافعية:3/375_ 376.

2 . لاحظ بحوث في الملل والنحل:1.

( 307 )

هذه الرسالة إلاّ في ثلاث عشرة مسألة، والاختلاف في بعضها معنوي، وبعضها الآخر لفظي، ثمّ قال: ولي قصيدة نونية جمعتُ فيها هذه المسائل، وضممت إليها مسائل اختلفت الأشاعرة فيها مع ما جاء في كتاب العقيدة للطحاوي، وإليك مستهلها:

ال_ورد خطك، صيغ م_ن إنس_ان * أم في الخ_دود شقائ_ق النعمان؟!

والسيف لحظك سُلَّ من أجفان_ه * فس_طا كمث__ل مهن__د وسن_ان!

إلى أن قال:

ك_ذب اب_ن فاعل_ة يق_ول لجه_له * الله جس___م لي_س كالجسم___ان

ل_و كان جسماً ك_ان كالأجسام ي_ا * مجنونُ فاصْغ وعد ع_ن البهت__ان

واتْبَع صراط المصطفى في كل م_ا * ي_أتي وخ_لّ وس_اوس الشيطان(1)

والقصيدة طويلة والغرض إيراد نماذج منها.

وأمّا الفرق بين الأشاعرة والماتريدية فهو يتوقف على تبيين عقيدة الشيخ الماتريدي مؤسس المنهج، وسيوافيك [الحديث عن] حياته ومنهجه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة بإذن الله سبحانه.

(إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).(2)

____________________________

1 . طبقات الشافعية:3/379.

2 . الحجرات:10.

( 308 )

( 309 )

حياة أبطال الأشاعرة وعباقرتهم

حياة أبطال الأشاعرة وعباقرتهم

إنّ ما أتى به الشيخ الأشعري من المنهج الكلامي وأفرغه في قالب التأليف والتصنيف، أو طرحه على بساط البحث عن طريق التدريس والتعليم، لم يكن منهجاً فكرياً متكاملاً في جميع موضوعاته، فإنّ بعض أفكاره لم يكن مقترناً بالبراهين والأدلّة الناضجة، كما أنّه لم يكن مستوعباً لجميع الأبواب، ولكن ساعده الحظ بأن اقتفى أثره على مدى الأعصار عدة من

المفكرين الذين نسبوا أنفسهم إليه، فأضفوا على هذا المنهج ثوباًجديداً حتى جعلوه متكاملاً، ناضجاً قابلاً للبقاء، وبعيداً عن النقاش، وأساس عملهم يرجع إلى شيئين:

الأوّل: تحليل الفكرة الأشعرية ببراهين جديدة أوحتها إليهم أنفسهم.

الثاني: الذب عن الإشكالات التي أوردها خصماء الأشعري على منهجه.

ولأجل إكمال البحث عن ذلك المنهج نأتي بترجمة بعض أئمّة الأشاعرة في العصور المختلفة، الذين كان لهم ذلك الدور في إكمال المنهج وتجديده، وهم المشايخ، التالية أسماؤهم:

1. أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403ه_. ق).

2. أبو منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429ه_. ق).

3. إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (419_ 478ه_. ق.

( 310 )

4.حجة الإسلام الإمام الغزالي (450_505ه_.ق).

5. أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479_ 548ه_.ق).

6. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي (544 _ 606ه_.ق).

7. أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم المعروف بسيف الدين الآمدي (551 _ 631ه_.ق).

8. عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين الإيجي مؤلف «المواقف» ( 708_ 756ه_.ق).

9. مسعود بن عمر بن عبد الله المعروف بسعد الدين التفتازاني (712 _ 791ه_.ق).

10. السيد علي بن محمد بن علي الحسيني المعروف بالسيد الشريف شارح «المواقف» (المتوفى عام 816ه_.ق).

11. علاء الدين علي بن محمد السمرقندي المعروف بالقوشجي شارح «التجريد» (المتوفى بالآستانة عام 879ه_.ق).

هؤلاء أبرز أئمّة الأشاعرة الذين بهم نضج وتكامل المذهب، وتمخّضت الفكرة الأشعرية، ولولا هؤلاء لأفل نجمها بعد طلوعها بسرعة، وهلّم معي أيّها القارئ لدراسة أحوالهم، وعرض بعض أفكارهم، والتعرف على تراثهم من الرسائل والكتب.

نعم عقد ابن عساكر في كتابه: «تبيين كذب المفتري» باباً أسماه«باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه إذاكان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدي به»و قد

قسّم المقتفين أثره على خمس طبقات يقرب عدد من جاء فيها من ثمانين شخصاً. غير أنّ من يعبأ به في تكييف المنهج أقل منهم بكثير.

( 311 )

القاضي أبو بكر الباقلاني(المتوفّى403ه_)

القاضي أبو بكر الباقلاني(المتوفّى403ه_)

هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني، وليد البصرة وساكن بغداد، يعرّفه الخطيب البغدادي بقوله:محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني المتكلّم على مذهب الأشعري، من أهل البصرة، سكن بغداد، وسمع بها الحديث وكان ثقة. فأمّا الكلام فكان أعرف الناس به،وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصحّهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم.(1)

وقال ابن خلكان: كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ومؤيداً اعتقاده وناصراً طريقته، وسكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره، وكان في علمه أوحد زمانه، وانتهت إليه الرئاسة في مذهبه، وكان موصوفاً بجودة الاستنباط وسرعة الجواب. وسمع الحديث وكان كثير التطويل في المناظرة، مشهوراً بذلك عند الجماعة، وتوفّي آخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد _ رحمه الله _ تعالى، و صلّى عليه ابنه الحسن، ودفن في داره بدرب المجوس، ثمّ نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.

والباقلاني نسبه إلى الباقلاء وبيعه!!(2)

ويظهر من فهرس تآليفه أنّه كان غزير الإنتاج وكثير التأليف، فقد ذكر له 52 كتاباً، غير أنّه لم يصل إلينا من هذه إلاّ ما طبع، وهي ثلاثة:

1. «إعجاز القرآن» طبع في القاهرة كراراً، وقد حقّقه أخيراً السيد أحمد صقر، طبع بمطابع دار المعارف بمصر عام 1972م.

____________________________

1 . تاريخ بغداد:5/379_ 383.

2 . وفيات الأعيان:4/269برقم 608.

( 312 )

2.«التمهيد في الرد على الملاحدة» وهو

كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلامية في مختلف الأبواب.

3. «الإنصاف في أسباب الخلاف» وقد نشره محمد زاهد الكوثري في القاهرة عن مخطوطة دار الكتب المصرية عام 1369ه_.

عثرة لا تقال

ذكر الخطيب في ترجمة الباقلاني كلاماً وقال: «وحدث أنّ ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها(يريد الشيخ المفيد) حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له، إذ أقبل القاضي، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه و قال لهم: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه _ و كان بعيداً من القوم _ فلمّا جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم: قال الله تعالى: (إِنّا أَرْسَلْنا الشَّياطينَ عَلى الكافِرينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً)(1) أي إن كنتُ شيطاناً فأنتم كفّار، وقد أرسلت عليكم.(2)

أقول: وأظن _ و ظن الألمعي صواب _ أنّه لو وقف الخطيب على مكانة ابن المعلم وشيخ الأُمّة الشيخ المفيد، لتوقف في نقل هذه الأُسطورة، وهذا اليافعي يعرّفه في تاريخه ويقول:«كان عالم الشيعة وإمام الرافضة، صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد، وبابن المعلم، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة بالدولة البويهية».

وقال ابن أبي طي: «كان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس».(3)

وقال ابن كثير في حوادث سنة 413: «شيخ الإمامية الروافض، والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم. كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذاك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من

____________________________

1 . مريم:83.

2 . تاريخ بغداد:5/379، ونقله ابن عساكر في تبيينه: 217.

3 . مرآة الجنان:3/28.

( 313 )

العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي و المرتضى».(1)

وعلى ذلك فالرجل الذي يصف اليافعي في تاريخه بأنّه يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة، أو يصفه ابن كثير بأنّه يحضر مجلسه

كثير من العلماء من سائر الطوائف، أجلّ من أن يتوسل في إفحام خصمه وإخضاعه للحق، بالإهانة والتكلّم بما هو خارج عن أدب المناظرة.

نعم، نقل بعض المترجمين للشيخ المفيد أنّه جرت مناظرة بينه و بين أبي بكر الباقلاني، فلمّا ظهر تفوّق المفيد على مناظره، قال له أبو بكر: أيّها الشيخ إنّ لك من كلّ قدر معرفة، فأجابه الشيخ ممازحاً: نعم ما تمثلت به أيّها القاضي من أدوات (مهنة) أبيك.(2)

إنّ الخطيب لم يخف حقده على شيخ الأُمّة في غير هذا المقام أيضاً، فقد قال في ترجمته: «و كان أحد أئمّة الضلال، هلك به خلق من الناس، إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة».(3)

أهكذا أدب العلم وأدب الدين؟!!

إنّ هذه شنشنة أعرفها من كلّ من يضمر الحقد على أمثال الشيخ. لاحظ الكامل لابن الأثير الجزء السابع ص 313 ترَ أنّ ما ذكره الخطيب أخف وطأً ممّا ذكره المعلق على «الكامل» من السباب المقذع الخارج عن أدب الدين والتقى.

فكلّ من أراد أن يقف على أدب الشيخ المفيد في المناظرة واحتجاجه على الخصم، فليلاحظ مناظراته في الكلام والتفسير التي جمعها تلميذه الشريف المرتضى في كتاب «الفصول المختارة» اختارها من كتابين لشيخه المفيد،

____________________________

1 . البداية والنهاية: 12/15.

2 . روضات الجنات:6/159مستمداً من تلقبه بالباقلاني، المنسوب إلى بائع الباقلاء.

3 . تاريخ بغداد: 3/231برقم 1299.

( 314 )

أحدهما: «المجالس المحفوظة في فنون الكلام» والثاني «العيون والمحاسن». ولأجل إعطاء نموذج من مناظرات الشيخ المفيد وقوة عارضته، نأتي بإحداها التي وقعت مع علي بن عيسى الرماني (المتوفّى عام 385ه_). فقد دخل الشيخ عليه والمجلس غاص بأهله، فقعد حيث انتهى به المجلس، فلمّا خف الناس قرب من الرماني، فدخل

عليه داخل و قال: إنّ بالباب إنساناً يؤثر الحضور، وهو من أهل البصرة، فأذن له فدخل فأكرمه، و طال الحديث بينهما. فقال الرجل لعلي بن عيسى: ما تقول في يوم الغدير والغار؟ فقال: أمّا خبر الغار فدراية، وأمّا خبر الغدير فرواية، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية، وانصرف البصري ولم يحر جواباً. فقال الشيخ للرماني: أيّها الشيخ مسألة؟ فقال:هات مسألتك؟ فقال:ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل؟ فقال: كافر، ثمّ استدرك فقال: فاسق، وعندئذ قال المفيد:ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ ؟ قال: إمام.

فقال: ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير؟ فقال: تابا. فقال المفيد: أمّا خبر الجمل فدراية،وأمّا خبر التوبة، فرواية. فقال الرماني:هل كنت حاضراً وقد سألني البصري؟ فقال: نعم، رواية برواية ودراية بدراية.(1)

فمن كان هذه مقدرته العلمية وقوة إفحامه للخصم، فلا يتوسل بما يتوسل به العاجز عن المناظرة، فما ذكره الخطيب أشبه بالمهزلة منه بالجد. كما أنّ ما نقله ابن عساكر من المنامات بعد موت القاضي أبي بكر أُمور لا يلتجىء إليها إلاّ من يفتقد الحقيقة في عالم الحس فيتطّلبها بالمنامات.

أبو منصور عبد القاهر البغدادي(المتوفّى429ه_)

أبو منصور عبد القاهر البغدادي(المتوفّى429ه_)

أبومنصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، أحد العلماء البارزين في معرفة الملل والنحل، وكتابه «الفرق بين الفرق» من الكتب المعروفة في هذا المجال، ويعد سنداً وثيقاً لمعرفة المذاهب الإسلامية بعد كتاب

____________________________

1 . مجموعة ورام: 611.

( 315 )

«مقالات الإسلاميين» للشيخ أبي الحسن الأشعري وكأنّه حذا حذوه في النقل والتقرير، ويمتاز بحسن الضبط واستيعاب البحث،وإتقان التبويب، ودقة العرض.

يعرّفه ابن خلكان بقوله: كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب، فإنّه كان متقناً له، وكان له فيه تآليف نافعة منها كتاب «التكملة». وكان

عارفاً بالفرائض والنحو، وله أشعار. ونقل عن الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في «سياق تاريخ نيسابور» أنّه ورد مع أبيه نيسابور و كان ذا مال وثروة، تفقّه على أهل العلم والحديث، ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون، ودرس في سبعة عشر فناً، وكان قد تفقّه على أبي إسحاق الإسفرائيني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين، واختلف إليه الأئمّة فقرأوا عليه... وتوفّي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة «اسفرائن» و دفن إلى جانب شيخه أبي إسحاق.(1)

وترجمه الزركلي في الأعلام و قال: عالم متقن من أئمّة الأُصول، ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان فاستقر بنيسابور، وفارقها على أثر فتنة التركمان، ومات في اسفرائين. ثمّ ذكر تصانيفه المطبوعة والمخطوطة.(2)

وترجمه«عبد الرحمن بدوي» فذكر له تسعة عشر كتاباً، غير أنّ الواصل إلينا ما هو المطبوع وهو اثنان:

1. «الفرق بين الفرق» نشر لأوّل مرّة في دار المعارف عام 1910م، مليئاً بالأخطاء، ثمّ نشر بتحقيق وإشراف الشيخ محمد زاهد الكوثري، وأخيراً بتحقيق محمد محيي الدين.

2. «أُصول الدين» و قد طبع لأوّل مرّة في استانبول عام 1346و طبع بالأُفست أخيراً في بيروت عام 1401ه_. والكتاب يشتمل على خمسة عشر أصلاً من أُصول الدين، وشرح كلّ أصل بخمس عشرة مسألة، وعليه يكون

____________________________

1 . وفيات الأعيان:3/203برقم:392; تبيين كذب المفتري: 254.

2 . الأعلام للزركلي:4/173.

( 316 )

الكتاب مشتملاً على مائتين وخمس وعشرين مسألة.

وإليك فهرس الأُصول الخمسة عشر التي جعلها أساساً للدين.

ذكر الأُصول الخمسة عشر

الأصل الأوّل: في بيان الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم.

الأصل الثاني:في حدوث العالم على أقسامه من أعراضه وأجسامه.

الأصل الثالث: في معرفة صانع العالم ونعوته في ذاته.

الأصل الرابع: في معرفة صفاته القائمة بذاته.

الأصل الخامس: في معرفة

أسمائه وأوصافه.

الأصل السادس: في معرفة عدله وحكمه.

الأصل السابع: في معرفة رسله وأنبيائه.

الأصل الثامن: في معرفة معجزات أنبيائه وكرامات أوليائه.

الأصل التاسع: في معرفة أركان شريعة الإسلام.

الأصل العاشر: في معرفة أحكام التكليف في الأمر والنهي والخبر.

الأصل الحادي عشر: في معرفة أحكام العباد في المعاد.

الأصل الثاني عشر: في بيان أُصول الإيمان.

الأصل الثالث عشر: في بيان أحكام الإمامة وشروط الزعامة.

الأصل الرابع عشر: في معرفة أحكام العلماء والأئمّة.

الأصل الخامس عشر: في بيان أحكام الكفر وأهل الأهواء الفجرة.

وقد ذكر ما هو الوجه لأخذ الرقم (15)، أساساً للتقسيم فقال:

وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد، وأجمعت الأُمّة على بعضها واختلفوا في بعضها، فمنها على اختلاف سن البلوغ

( 317 )

لأنّها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسني العرب دون سني الروم والعجم. ومنها مدة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوماً بلياليها. ومنها أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين، فإنّه عند أكثر الأئمّة خمسة عشر يوماً، وهذا كلّه على أصل الشافعي وموافقيه. فأمّا على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة. ومقدار مدة الإقامة التي توجب عنده إتمام الصلاة خمسة عشر يوماً، وعند الشافعي أربعة أيام.(1)

إلى غير ذلك من الأحكام الفقهية التي أكثرها محل خلاف بين فقهاء السنّة، فضلاً عن الشيعة، كأقل الطهر الفاصل بين الحيضتين، فإنّه عند أكثر الأئمّة، خمسة عشر يوماً; أو أنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة إلى غير ذلك...، و على فرض صحة الأحكام الفرعية التي ذكرها لا صلة بين صحتها وكون أُصول الدين الأساسية خمسة عشر أصلاً، وكلّ أصل مشتملاً على خمس عشرة مسألة، فإنّ ذلك كلّه أُمور ذوقية استحسنها طبعه، وإلاّففي وسع القارئ أن يجعل الأُصول أكثر

أو أقل، والمسائل كذلك.

ثمّ إنّ هذه الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة _ حسب زعمه _ جاءت في كتابه «الفرق بين الفرق» مع اختلاف يسير في التعبير والكلمات.(2)

الفرق بين الكتابين في العرض

إنّ السابر في كتاب «الفرق بين الفرق» يجد أنّ في قلمه حدة خاصة في عرض المذاهب، فلا يعرض المذاهب الإسلامية _ عدا مذهب أهل السنّة _ بصورة موضوعية هادئة، بل يعرضها بعنف وهجوم، وهذا بخلاف سيرته في كتاب «أُصول الدين».

ويكفي في هذا ما يقوله: ولم يكن بحمد الله ومنّه في الخوارج ولا في الروافض، ولا في الجهمية، ولا في القدرية، ولا في المجسمة ولا في سائر أهل الأهواء الضالّة إمام في الفقه، ولا إمام في رواية الحديث، ولا إمام في

____________________________

1 . أُصول الدين: 1_2.

2 . لاحظ الفصل الثالث من فصول الباب الخامس: ص 323_ 324.

( 318 )

اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ، ولا إمام في الوعظ والتذكير، ولا إمام في التأويل والتفسير، وإنّما كان أئمّة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة، وأهل الأهواء الضالة إذا ردّوا الروايات الواردة عن الصحابة في أحكامهم وسيرهم، لم يصحّ اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية أهل الرواية عنهم.(1)

أقول: ما ذكره في حقّ الروافض _ إن أراد منه الشيعة ما عدا الغلاة _ فقد ظلم العلم وجفا أهله، ولو قاله عن جد فقد قاله عن قصور باعه، (وإن كان مؤلفاً في الملل والنحل) في التعرف على جهودهم المتواصلة وآثارهم القيمة في العلوم الإسلامية، فقد شاركوا الطوائف الإسلامية في تدوين المعقول والمنقول، وجمع شذرات الحديث، وتأليف شوارد السير، ونظم جواهر الأدب، ونضد قواعد الفقه، وترصيف مباحث الكلام، وتنسيق طبقات الرجال، وضم

حلقات التفسير، وترتيب دروس الأخلاق، كما فيهم الفلاسفة والعلماء والساسة والحكام والكتاب والمؤلّفون، تشهد بذلك آثارهم وحياتهم.

وعلى أيّ تقدير، فمن لطيف شعره ما نقله ابن عساكر عنه:

يا من عدا، ث_مّ اعت_دى ث_م اقت_رف * ث_مّ انته_ى ثمّ ارع_وى ث_م اعت__رف

أبش__ر بق___ول الله ف__ي آي__ات____ه * «إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف»(2)

_________________________

1 . الفرق بين الفرق: 232.

2 . تبين كذب المفتري: 254.

إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله

إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله

الجويني(419_ 478ه_)

هو عبدالملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب الجويني.

أثنى عليه كلّ من ذكره، يقول ابن خلّكان: أعلم المتأخّرين من

( 319 )

أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروساً يقع كلّ واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها، وقد أقام بمكة أربع سنين، وبالمدينة يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب،ولقب بإمام الحرمين.(1)

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 456الحوافز التي ألجأت أبا المعالي إلى مغادرة موطنه والخروج إلى الحجاز، وما هي إلاّ محنة الأشاعرة في عصر الوزير العميد الكندري وزير طغرل بك السلجوقي قال: كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي بلغ من تعصبه أنّه خاطب السلطان، في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن ذلك، فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمّة خراسان، منهم الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته، يدرّس ويفتي، فلهذا لقب إمام الحرمين، فلما جاءت الدولة النظامية(نظام الملك) أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم.(2)

أساتذته

تخرّج على والده

الشيخ عبد الله بن يوسف وكان عالماً فقيهاً شافعياً غزير الإنتاج توفي سنة 438 وله من الآثار «الفروق» و «السلسلة» و«التبصرة» و «التذكرة» و غيرها، توفي والابن في سن التاسعة عشرة، فأتم دراسته بالاختلاف إلى مدرسة البيهقي، فتخرج على الشيخ أبي القاسم الإسفرائيني وغيره من الأساتذة الذين أخذ عنهم علمه.(3)

آثاره

ترك من الآثار العلمية ما يربو على عشرين كتاباً بين مطبوع منتشر،

____________________________

1 . وفيات الأعيان: 3/167_ 168برقم 378.

2 . الكامل في التاريخ:10/31_ 33. وقد مرّ بيان الحادثة في الأمر الأوّل من الخاتمة.

3 . تاريخ المذاهب الإسلامية:1/281_ 282.

( 320 )

ومخطوط موجود في خزائن الكتب في مصر وباريس وبرلين، وإليك أسماء المطبوعة منها:

1. «الإرشاد في أُصول الدين» و قد طبع في باريس وبرلين والقاهرة.

2. «الرسالة النظامية في الأحكام الإسلامية» وقد طبعت في القاهرة باسم «العقيدة النظامية» سنة 1367 وقد ترجمت إلى الألمانية عام 1958م.

3. «الشامل في أُصول الدين» و قد طبع الكتاب الأوّل (العلل) من الجزء الأوّل منه في القاهرة 1961م.

4. «غياث الأُمم في الإمامة» ويعدّه الباحثون أحسن منهجاً من كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، نشرته دار الدعوة بالاسكندرية.

5. «مغيث الخلق في اختيار الأحق» و للشيخ محمد زاهد الكوثري رسالة أسماها «إحقاق الحقّ بإبطال الباطل» في «مغيث الخلق» نشرت في القاهرة 1941م.

6. «الورقات في أُصول الفقه والأدلّة».(1)

ويظهر ممّا نشر في كتبه الكلامية أنّه يستمد في آرائه عن المشايخ الثلاثة:

1. أبو الحسن الأشعري المتوفّى عام 324 ويعبر عنه ب_«شيخنا».

2. أبو بكر الباقلاني المتوفّى سنة 403ويعبّر عنه ب_« القاضي».

3. أبو إسحاق الاسفرائيني المتوفّى عام 413 ويعبر عنه ب_الأُستاذ».

آراؤه ونظرياته

يبدو أنّ أبا المعالي كان حراً في إبداء النظر ورفض الأفكار وقبولها، وإليك بعض آرائه:

1. أنكر مسألة خلق الأفعال، وأنّ الإنسان مسلوب الاختيار،

وقد

____________________________

1 . الأعلام للزركلي:4/160; سير أعلام النبلاء: 18/475_ 476.

( 321 )

عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه و بين «أبي القاسم بن برهان» في مسألة أفعال العباد؟

قال القاسم: هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك، فتلا (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) (1) ومدّ بها صوته وكرر «هم لها عاملون» و قوله: (لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (2) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال: والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت.(3)

ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.

ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع، وأُصول المذهب، وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً.(4)

2. ما نقل عنه في كتاب البرهان قال: «إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات»وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.

3. قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.

____________________________

1 . المؤمنون:63.

2 . التوبة: 42.

3 . سير أعلام النبلاء:18/469و «أكلّه» : أعياه.

4 . نفس المصدر:18/471.

( 322 )

قال في «الرسالة النظامية»:

(نشرها محمد زاهد الكوثري عام 1367ه_) اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة، وامتنع على أهل الحقّ فحواها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في القرآن، وما يصحّ من السنن، وذهب أئمّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراءالظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً، أنّ اتّباع سلف الأُمّة حجّة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعاً بأنّه الوجه المتبع، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزّه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (1) و(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(2) و (تَجْري بِأَعْيُنِنا) (3) وما صحّ من أخبار الرسول، كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه.(4)

قصص الخرافة

إنّ من يصفه ابن عساكر (5) وغيره بأنّه إمام الأئمّة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، وعجماً وعرباً، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده الخ، إلى غير ذلك من كلمات

____________________________

1 . ص:75.

2 . الرحمن:27.

3 . القمر:14.

4 . سير أعلام النبلاء:18/473_ 474.

5 . التبيين: 278.

( 323 )

التبجيل وعظائم التكريم لا يصدر عنه ما يذكره الذهبي في ترجمته:

1. قرأت بخط أبي جعفر أيضاً:سمعت أبا

المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كلّ ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق «عليكم بدين العجائز» فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص، لاإله إلاّ الله، فالويل لابن الجويني.(1)

2. قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب _ و كان يختلف إلى درس الأُستاذ أبي المعالي في الكلام _ فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت يبلغ بي ما بلغ، ما اشتغلت به.(2)

ولو صحّ ذلك، لما كان ينفعه مجرّد الندم، بل لكان عليه _ وراء إبراز الندامة _ أن يأمر بإحراق مسفوراته، إلاّما كان منها مطابقاً للسنّة، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر، ولعلّ هذه النقول كلّها من موضوعات بعض الحنابلة الذين يروق لهم ترويج مذهبهم بعزوالشخصيات البارزة إلى الانسلاك في سلكهم يوم هلاكهم وموتهم، يوم لا ينفعهم الندم والانسلاك.

وكما لا يصحّ ذلك، لا يصحّ ما نقل أيضاً:

1. قال محمد بن طاهر: حضر المحدث أبو جعفر الهمداني مجلس وعظ أبي المعالي، فقال: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، فقال أبو جعفر: أخبرنا يا أُستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها، ما قال عارف قط يا الله إلاّ وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:18/471.

2 . نفس المصدر:18/474.

( 324 )

ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا، أو قال: فهل

عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال: يا حبيبي ما ثم إلاّالحَيْرة، ولطم على رأسه ونزل، وبقي وقت عجيب. وقال فيمابعد: حيرني الهمداني.(1)

2. قال أبو جعفر الحافظ; سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله: (الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى) (2) فقال: كان الله ولا عرش. وجعل يتخبّط، فقلت: هل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما معنى هذه الإشارة؟ قلت: ما قال عارف قط يا رباه إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة _ يقصد الفوق _ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة، ومزق ما كان عليه، وصارت قيامة في المسجد، ونزل يقول يا حبيبي الحيرة والحيرة والدهشة الدهشة.(3)

يعز على الأشاعرة أن يجهل إمام الحرمين _ الذي يصفه ابن عساكر بأنّه «لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده»(4) _ بجواب هذا السؤال، حتى يتخذه السائل سنداً لحلوله سبحانه في العرش وكينونته فيه.

وقد سئل الإمام الصادق _ عليه السَّلام _ عنه و قيل له: ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد اللّهعليه السَّلام : «ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش، لأنّه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ حين قال: ارفعوا أيديكم إلى الله عزّوجلّ».(5)

____________________________

1 . نفس المصدر:18/474_ 475.

2 . طه:5.

3 . سير أعلام النبلاء:18/476_ 477.

4 . التبيين: 278.

5 . التوحيد للصدوق: 248.

( 325 )

وفي الختام إنّ أبا المعالي أجاب دعوة ربّه في الخامس والعشرين من

ربيع الآخر سنة 478 ودفن في داره، ثمّ نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب والده، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولاً، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكان الطلبة يطوفون بالبلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع.(1)

وممّا قيل في وفاته:

قل_وب الع_المين ع_لى المق__الي * وأي__ام ال__ورى شب_ه اللي__الي

أيثمر غصن أهل الفضل ي_وماً * وق__د م_ات الإمام أب_و المعالي(2)

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:18/476.

2 . تبيين كذب المفتري: 285.

حجة الإسلام الإمام الغزالي(450_505ه_)

حجة الإسلام الإمام الغزالي(450_505ه_)

الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، تلمذ لإمام الحرمين ثمّ ولاّه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد، وخرج له أصحاب وصنف التصانيف مع التصوف والذكاء المفرط، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة بالطابران، قصبة بلاد طوس، وله خمس وخمسون سنة.

وقع للغزالي أُمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة، ومجاراة الخصوم، ومناظرة الفحول، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلاً عظيماً، وطار اسمه في الآفاق وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين

( 326 )

وأربعمائة فقدمها في تجمر [تجمهر] كبير وتلقّاه الناس، ونفذت كلمته وعظمت حشمته، حتى غلبت على حشمة الأُمراء والوزراء،وضرب به المثل، وشدت إليه الرحال.

وأقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنّف فيها كتباً، ثمّ صار إلى القدس والاسكندرية، ثمّ عاد إلى وطنه بطوس مقبلاً على التصنيف والعبادة وملازمة التلاوة ونشر العلم وعدم مخالطة الناس، ثمّ إنّ الوزير فخر الدين نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور، وألحّ كلّ الإلحاح فأجاب إلى

ذلك وأقام عليه مدة، ثمّ تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه، وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين.

تصانيفه

يذكر ابن قاضي شهبة تصانيفه، وإليك بعضها:

1.الوسيط، وهو كالمختصر للنهاية، والوسيط ملخص منه.

2. الوجيز والخلاصة.

3. كتاب الفتاوى مشتمل على مائة وتسعين مسألة.

4. كتاب الإحياء وهو من أشهر تآليفه.

5. المستصفى في أُصول الفقه.

6. بداية الهداية في التصوف.

7. إلجام العوام عن علم الكلام.

8. الرد على الباطنية.

9. مقاصد الفلاسفة.

10. تهافت الفلاسفة.

11. جواهر القرآن.

12. شرح الأسماء الحسنى.

13. مشكاة الأنوار.

14. المنقذ من الضلال.

( 327 )

15. الخلاصة.

16. قواعد العقائد.

إلى غير ذلك من التآليف.(1)

نماذج من آرائه

والغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة في الفلسفة والكلام والتصوف وغير ذلك، غير أنّه يقتفي أثر إمامه الأشعري ويلتقي معه في كثير من الآراء والمباني، وإليك قسماً من آرائه في كتاب «قواعد العقائد»:

1. إنكار الحسن والقبح العقليين

يقول في توصيف أفعاله سبحانه:

عادل في أقضيته، لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله تعالى، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً، فكلّ ما سواه، من إنس وجن... اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً.(2)

ويقول أيضاً: إنّ لله عزّوجلّ إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق... لأنّه متصرف في ملكه، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو محال على الله تعالى، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً.(3)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، والتصرف في

____________________________

1 . اقرأ ترجمته في المصادر التالية: طبقات السبكي:4/101، تبيين كذب المفتري: 291_ 306، والمنتظم:9/168، مهرجان الغزالي في دمشق عام 1961، مؤلّفات الغزالي لعبد الرحمن البدوي ط 1990م.

2 . قواعد العقائد: 60و

204.

3 . نفس المصدر: 60و 204.

( 328 )

ملك الغير فرع منه ولا ينحصر الظلم فيه.

وثانياً: أنّ حكم العقل بالقبح لا يترتب على لفظ الظلم حتى يفسر بأنّه تصرف في ملك الغير، والعالم كلّه ملكه سبحانه، بل العقل يستقل بقبح إيذاء الغير وتعذيبه من دون جرم ولا تعدّ من أي فاعل صدر، سواءً أكان خالقاً أم غيره، ولا يجوز التخصيص في الأحكام العقلية.

ثمّ إنّ الغزالي يستدل على صدور القبيح منه بقوله:

«فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال، إذ لا غرض له، فلا يتصوّر منه قبيح كما لا يتصوّر منه ظلم».

فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم: إنّ ذلك عليه محال؟ وهل هذا إلاّ مجرّد تشهّ يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار.(1)

يلاحظ عليه: أنّ تفسير القبيح بما لا يوافق الغرض ساقط جداً، وهو من التفسيرات الخاطئة التي وردت في كتب المتكلّمين من الأشاعرة، وقليل من المعتزلة، بل المراد من القبيح ما يستقل العقل بداهة بقبحه إذا لاحظه من دون أن يلاحظ الغرض، فقد قلنا إنّه كما يوجد في الحكمة النظرية قضايا بديهية ونظرية فهكذا يوجد في الحكمة العملية قضايا يستقل العقل بحسنها وقبحها بالبداهة، وقضايا يتوقف فيها العقل في بدء الأمر حتى يرجع إلى القضايا الواضحة في الحكمة العملية، فلا الحسن يدور على موافقة الغرض ولا القبح على مخالفته، بل كلاهما يدوران على أحكام عقلية واضحة لدى العقل من دون تخصيصها بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، أو فاعل دون فاعل.

2. معرفة الله واجبة شرعاً لا عقلاً

وقد اقتفى الغزالي في هذه المسألة أثر شيخه أبي الحسن الأشعري وقال:

____________________________

1 . قواعد العقائد: 208، ويشير بقوله«من مخاصمة أهل

النار» إلى المناظرة التي وقعت بين الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي، وقدأوعزنا إليها في صدر الكتاب.

( 329 )

إنّ معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل، لأنّ العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إمّا أن يوجبها لغير فائدة وهو محال، فإنّ العقل لا يوجب العبث، وإمّا أن يوجبها لفائدة وغرض، وذلك لا يخلو إمّا أن يرجع إلى المعبود، وذلك محال في حقّه تعالى، فإنّه يتقدّس عن الأغراض والفوائد; وإمّا أن يرجع ذلك إلى غرض العبد، وهو أيضاً محال، لأنّه لا غرض له في الحال، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه.

وليس في الم آل إلاّالثواب والعقاب ومن أين يعلم أنّ الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما؟(1)

يلاحظ عليه: أنّا نختار الشق الثاني، وهو أنّ الغرض عائد إلى العبد، وهو أنّه يعلم من صميم ذاته بأنّ له منعماً، وأنّ النعمات التي أحاطت به معطاة من غيره، وعندئذ يحتمل أن يكون لمنعمه أوامر وزواجر وتكاليف وإلزامات ربما يعاقب على تركها، فعندئذ يحكم العقل عليه بأنّه يجب التعرف على المنعم دفعاً للضرر المحتمل.

والغرض العائد للعبد في المقام ليس غرضاً دنيوياً حتى يقال: كيف يكون هناك غرض وهو يتعب بالمعرفة وينصرف عن الشهوات، بل غرض عقلي وهو دفع العقاب المحتمل في الم آل.

وما قال من أنّه من أين علم أنّ الله تعالى يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ولا يعاقب عليهما؟ فهو ناشئ عن إنكار الحسن والقبح العقليين، أي إنكار أوضح القضايا العقلية وأبدهها; يقول سبحانه دعماً لما تقضي به الفطرة الإنسانية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَما يَحْكُمُونَ) .(2)

____________________________

1 . قواعد العقائد: 209، ولعلّ

قوله: «يثيب على المعصية والطاعة» تصحيف «يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة».

2 . الجاثية:21.

( 330 )

3.جواز التكليف بمالا يطاق

وقد بنى على إنكار الحسن والقبح العقليين أنّه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق مالا يطيقونه، خلافاً للمعتزلة، ولو لم يجز ذلك، لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا: (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) .(1)

ولأنّه تعالى أخبر نبيّه بأنّ أبا جهل لا يصدقه، ثمّ أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله، وكان من جملة أقواله أنّه لا يصدقه، فكيف في أنّه لا يصدقه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ في كلا الاستدلالين وهناً واضحاً:

أمّا الأوّل: فهو عجيب جداً كيف يستدل بجزء من الآية ويترك صدرها، يقول سبحانه:

(لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَو أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانْصُرْنا عَلى الْقَومِ الكافِرينَ).(3)

فصدر الآية يبين شأنه سبحانه وأنّ حكمته مانعة عن أن يكلف نفساً شيئاً خارجاً عن وسعها، وإنّما يكلفها ما في وسعها، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

إنّ التكليف عبارة عن الإرادة الجدية المتعلّقة بطلب شيء من الغير، ولا تتمشّى تلك الإرادة إلاّ مع العلم بكون الفعل في وسع الغير، فلو وقف على كونه خارجاً عن وسعه، لما تعلّقت به الإرادة الجدية، فكيف يمكن تكليف الغير بشيء خارج عن وسعه، م آل ذلك إلى التكليف المحال؟

____________________________

1 . البقرة:286.

2 . قواعد العقائد: 203_ 204.

3 . البقرة: 286.

( 331 )

وأمّا قوله سبحانه: (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) فالمراد هو التكاليف الشاقة التي

لا تُتحمل عادة، وإن كانت تُتحمل عقلاً.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من الموصول في (ما لا طاقة لنا به) هو العذاب النازل أو الرجس، كالمسخ وغيره، الذي عمّ الأُمم السابقة.

وأمّا الثاني:فالظاهر أنّ في كلامه تصحيفاً، وكان الأولى أن يقول أبا لهب مكان أبي جهل.

نعم تصح العبارة لو ورد في الروايات بأنّ النبي أخبر أبا جهل بأنّه لا يؤمن. وعلى كلّ تقدير فالاستدلال في مورد أبي لهب أوضح بأن يقال إنّ الله كلّف أبا لهب الإيمان بالقرآن، ومن جملة ما أنزل في القرآن أنّه لا يؤمن فقال: (سيصلى ناراً ذات لهب) فكأنّه كلّفه الإيمان بأنّه لا يؤمن.

يلاحظ على الاستدلال بأنّ الآية إخبار عن عدم إيمانه، وأنّه لا يؤمن إلى يوم هلاكه نظير قول نوح :(رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً) .(1)

ولم يؤمر أبو لهب أن يؤمن بأنّه لا يؤمن بالله ورسوله وكتابه، وأمّا ما نزل في حقّه فإنّما هو إخبار عن علم جازم بأنّه لا يؤمن فقط.

وإن شئت قلت: سقط التكليف عنه بعصيانه القطعي المستمر في علم الله إلى يوم وفاته بعد نزول هذه السورة الكاشف عن ذلك العصيان، وكلّ من اتحد معه في هذا الوصف فهو كذلك.

4. رأيه في كون فعل العباد مخلوقاً لله

قد رأى الغزالي فعل العباد مخلوقاً لله سبحانه ومكسوباً لهم يقول _ بعد التفريق بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية _: إنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً، وبقدرة العبد على وجه آخر، يعبر عنه بالاكتساب، وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل

____________________________

1 . نوح: 26_ 27.

( 332 )

قد كانت متعلّقة بالعالم، ولم يكن

الاختراع حاصلاً بها، وهي عند الاختراع متعلّقة به نوعاً آخر من التعلّق، فبه يظهر أنّ تعلّق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها.(1)

إنّ الغزالي: يريد أن يثبت تعلّق قدرة العبد على الفعل ببيان أنّه ليس معنى تعلق القدرة هو الاختراع، بل للتعلّق أقسام بشهادة أنّ قدرته سبحانه تعلّقت بالعالم أزلاً ولم يكن الاختراع حاصلاً عنده فتعلّق القدرة أعم من الاختراع، فعند ذلك فالاختراع أثر قدرته الأخيرة، والكسب أثر قدرة العبد.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره لا محصل له، وإنّما هو مجرّد لفظ خال عن معنى،وذلك أنّه إن أُريد بالقدرة العلة التامة التي يتحقّق بعدها الفعل فتمنع تعلق قدرته سبحانه بكلّ أجزاء العالم أزلاً وأبداً في الأزل وإنّما تعلقت مشيئته على إيجاد كلّ جزء في ظرفه ومكانه، والقدرة بهذا المعنى خارجة عن إطار البحث، وإنّما الكلام في القدرة المستدعية للفعل، فليس لها أثر إلاّ الإيجاد، وعندئذ فالفعل في وجوده لو استند إليه سبحانه لا يبقى شيء لأن يستند إلى قدرة العبد حتى نقول: الله سبحانه خالق، والعبد كاسب،وقد عرفت أنّ الكسب من المفاهيم التي لم يظهر لأحد واقع المراد منها.

5. رأيه في استوائه سبحانه على العرش

إنّ الظاهر من كلامه في استوائه سبحانه على العرش هو التفويض، أي تفويض معناه إلى الله سبحانه، لكنّه عندما يشرح معنى الاستواء ومفاد الآية يفترق عن شيخه أبي الحسن ويلتحق بالمعتزلة الذين يذهبون إلى التأويل في هذه المواضع،وإليك عبارته:

وأنّه مستو على الوجه الذي قال، وبالمعنى الذي أراد، استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق

____________________________

1 . قواعد العقائد: 196.

( 333 )

العرش والسماء، فوق كلّ شيء إلى تخوم الثرى، فوقية

لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً على الأرض والثرى، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء، كما أنّه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى، وهو مع ذلك قريب من كلّ موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كلّ شيء شهيد.(1)

ويقول في موضع آخر:

العلم بأنّه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء، وهو الذي أُريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن: (ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (2). وليس ذلك إلاّبطريق القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر:

قد استوى بِشْرٌ على العراق من غير سيف ودم مه_راق

واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطر أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنما كُنْتُم) إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإجابة والعلم.(3)

6. رأيه في تكلّمه سبحانه

قد ذهب الغزالي في تفسير تكلّمه سبحانه إلى ما اختاره شيخه فقال: إنّه تعالى متكلّم، آمر، ناه، واعد، متوعد، بكلام أزلي، قديم، قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان.(4)

وقال في موضع آخر:

____________________________

1 . قواعد العقائد: 52.

2 . فصلت:11.

3 . قواعد العقائد: 165.

4 . قواعد العقائد: 165.

( 334 )

إنّه سبحانه و تعالى متكلّم بكلام وهو وصف قائم بذاته _ إلى أن قال _ : والكلام بالحقيقة كلام النفس، وإنّما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات، وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم:

إنّ الك_لام لف_ي الف_ؤاد وإنّم_ا جُعل اللسان على الفؤاد دليلا(1)

وقد أوضحنا حال الكلام

النفسي، وأنّ نفي التكلم عنه سبحانه لرجوعه إلى العلم.

7. رأيه في رؤية الله سبحانه

إنّ الغزالي مع أنّه من المصرّين على التنزيه فوق ما يوجد في كلام الأشاعرة، ولكنّه لم يستطع تأويل ما دلّ على أنّه سبحانه يُرى يوم القيامة فقال: العلم بأنّه تعالى مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار، مقدساً عن الجهات والأقطار، مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة.

ثمّ قال: وأمّا وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو غير مؤد إلى المحال، فإنّ الرؤية نوع كشف وعلم، إلاّ أنّه أتم وأوضح من العلم، وإذا جاز تعلّق العلم به وليس في جهة، جاز تعلّق الرؤية به وليس بجهة.(2)

يلاحظ عليه: إنّه بأيّ دليل يقول: إذا جاز تعلّق العلم به سبحانه، جاز تعلّق الرؤية به؟ فهل هذا قضية كلية؟ مع أنّ الإرادة والحسد والبخل وسائر الصفات النفسانية يتعلّق بها العلم، فهل تتعلّق بها الرؤية؟ وهو يعترف بأنّه سبحانه ليس جسماً ولا جسمانياً ولا صورة، والمغالطة في كلامه واضحة، فإنّ العلم بالشيء نوع تصور له، والتصور لا يستلزم الإشارة إلى الشيء ولا كونه في جهة أو كونه متحيزاً، بخلاف الرؤية بالأبصار فإنّها لا تنفك عن

____________________________

1 . قواعد العقائد: 58 و 182، والشعر للأخطل وقبله:

لا يعجبنك من أم_ير خطب_ة حتى يكون مع الكلام أصيلا

2 . قواعد العقائد: 169_ 171.

( 335 )

ذلك، ومن أنكر فإنّما ينكر بلسانه، وهو يؤمن بقلبه وجنانه.

ثمّ إنّ له استدلالاً آخر في المقام يقول: وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم، جاز أن يراه الخلق من غير مقابل و كما جاز أن يُعلم من غير كيفية وصورة، جاز أن يرى كذلك.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ الاستدلال لو كانت الرؤية من الجانبين على نسق واحد:

فالعباد ينظرون إليه بعيونهم والله سبحانه ينظر إلى عباده ويراهم بعيونه،وأمّا إذا قلنا بأنّ رؤيته سبحانه إحاطة وجوده بجميع الأشياء وقيامها به قياماً قيومياً فلا يصحّ القياس، فرؤيته سبحانه لا تتوقف على المقابلة، لأنّ الرؤية إنّما تتوقّف على المقابلة إذا لم يكن الرائي محيطاً بالمرئي فيحتاج إلى المقابلة، دونما لم يكن محتاجاً لها.

وأظن أنّ عقلية الغزالي الشامخة كانت تصده عن تجويز الرؤية وإنّما صدرت منه هذه الهفوة لاتّفاق الأشاعرة وأهل الحديث على الرؤية.

8. نظره في رعاية الأصلح لعباده

يقول: إنّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنّه لا يجب عليه سبحانه شيء، بل لا يعقل في حقّه الوجوب، فإنّه لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وعلّق عليه محقّق الكتاب وقال: فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة، كان له ذلك، ولو أورد الكل منهم النار من غير زلة منهم كان له ذلك، لأنّه تصرف مالك الأعيان في ملكه، وليس عليه استحقاق، إن أناب فبفضله يثيب، وإن عذب فلحق ملكه يعذب.(1)

يلاحظ عليه: أنّ القائل بالأصلح للعباد يريد بذلك إخراج فعله سبحانه عن العبث لأنّه حكيم ولا سبيل للعبث إليه، قال سبحانه:

____________________________

1 . قواعد العقائد: 205.

( 336 )

(وَما خَلَقْنا السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ) .(1)

وقال سبحانه: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَوَالأَرْضََ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) .(2)

إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله، وتصرح باقترانها بالحكمة والغرض، فمن قال بوجوب رعاية الأصلح فإنّما قال بإخراج فعله عن العبث.

وأمّا كون العمل الأصلح واجباً عليه، لا يراد منه تكليفه من جانب العبد بالقيام بالأصلح وإنّما المراد استكشاف العقل الحكمَ الضروري من صفاته الكمالية، أعني

كونه حكيماً، وأنّ حكمته تقتضي _ إيجاباً _ أنّه لا يفعل العبث والعمل الخالي عن الهدف، كما أنّك تحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي كذا وكذا حتماً وليس معناه حكمك على الخارج، بل معناه استكشاف العقل حكماً ضرورياً من ملاحظة نفس المثلث وزواياه.

وأمّا تعذيبه سبحانه البريء فلا شكّ أنّه يقدر على ذلك، ولكن لا يفعل لأنّه قبيح، والعقل يدرك قبح ذلك العمل من أي مقام صدر وفي أي موضع وقع، وليس حكم العقل بإيجابه إلاّ الاستكشاف على ما مرّ.

وأمّا القول بأنّ الحكم بلزوم اقتران فعله بالغرض، يستلزم استكماله به، فهو خلط بين كون الغرض للفاعل وكون الغرض للفعل، فالغاية غاية للفعل لا للفاعل.

وقد حققنا ذلك في الجزء الثالث عند البحث عن عقائد المعتزلة، فتربص حتى حين.

9. مناوأة معاوية لعلي _ عليه السَّلام _ كانت عن اجتهاد

الغزالي يرى مناوئي علي _ عليه السَّلام _ في الجمل وصفين مجتهدين يقول:

____________________________

1 . الدخان:38.

2 . ص: 27.

( 337 )

وما جرى بين معاوية و علي _ عليه السَّلام _ كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة، إذ ظن علي رضي الله عنه أنّ تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها، فرأى التأخير أصوب، وظن معاوية أنّ تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمّة، ويعرض الدماء للسفك، وقد قال أفاضل العلماء:«كلّ مجتهد مصيب»و قال قائلون: «المصيب واحد» ولم يذهب إلى تخطئة علي ذو تحصيل أصلاً.

يلاحظ عليه: أنّ للاجتهاد مقومات، وللمجتهد مؤهلات مقررة في محله، أوضحها هو الوقوف على الكتاب والسنة واستخراج الحكم الشرعي من مداركه، وأمّا الاجتهاد تجاه النص فهو اجتهاد خاطئ، بل تشريع في مقابل الحجة.

وعلى ضوء ذلك فهل

يمكن لنا توصيف عمل معاوية وزميله عمرو بن العاص ومن لفّ لفهما في الجمل والنهروان بالاجتهاد؟ فما معنى هذا الاجتهاد الذي سفكت الدماء من أجله، وأُبيحت وغضبت الفروج، وانتهكت المحارم؟ وما معنى الاجتهاد تجاه قول رسول الله مخاطباً لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»؟ فبهذا الاجتهاد عُذِرَابن ملجم المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين على قتل خليفة الحق والإمام المبين في محراب عبادة الله، حتى قبل إنّ ابن ملجم قيل علياً متأولاً مجتهداً على أنّه صواب،وفي ذلك يقول عمران بن حطان:

ي_ا ضرب_ة م_ن تقىّ م_ا أراد به_ا * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناً

عجباً لهذا الاجتهاد يبيح سبّ علي أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ ، ويبيح سبّ كلّ صحابي احتذى مثاله، ويجوّز لعنهم والوقيعة فيهم والنيل منهم في خطب الصلوات والجمعات والجماعات وعلى رؤوس المنابر، ولا يلحق فاعل هذه الموبقات ذم ولا تبعة، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ، وإن كان المجتهد من بقايا الأحزاب.

هذا عرض خاطف لنظريات «الإمام الغزالي» و قد عرفت موقفها من

( 338 )

الحقّ، ولنختم ترجمته بنقل أمرين من كتابه:

1. إنّ صفاته سبحانه تشتمل على عشرة أُصول وهي:

العلم بكونه حياً، عالماً، قادراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، منزهاً عن حلول الحوادث، وأنّه قديم الكلام والعلم والإرادة.(1)

وهذه العبارة تتضمن أحد عشر وصفاً له سبحانه، ولأجل ذلك قال المعلق: قوله منزهاً عن حلول الحوادث غير معدود في هؤلاء ولم يعلم وجه استثناء خصوصه كما لا يعلم أنّه وصف العلم بالقدمة، مع أنّ القدرة مثله فليس قدرته حادثة.

2. ومن لطائف كلامه في رد المجسّمة ما قاله: فأمّا رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنّها قبلة الدعاء، وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من

الجلال والكبرياء، وتنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، فإنّه تعالى فوق كلّ موجود بالقهر والاستيلاء.(2)

وفي خاتمة المطاف: نأتي بكلام لأبي زهرة في حقّ الغزالي ثمّ نعقبه بما يليق به:

إنّ الغزالي نظر في كلام أبي منصور الماتريدي، وأبي الحسن الأشعري نظرة حرة بصيرة فاحصة، لا نظرة تابع مقلد، فوافقهما في أكثر ما وصل إليه وخالفهما في بعض ما ارتآه ديناًواجب الاتّباع.(3)

ماذا يريد أبو زهرة من قوله«نظر في كلام الشيخين نظرة حرة»؟

فلو كان محور حكمه هو كتاب «قواعد العقائد» الذي نقلنا منه مجموعة من آرائه فهو لم يخالفهما إلاّ في أقل القليل، كيف وقد أنكر الحسن والقبح العقليين، كما أثبت الرؤية في الآخرة، وقال بقدم كلامه، وبذلك ترك عاراً

على جبين أهل التوحيد، وإنّما خالف الأشعري في الصفات الخبرية حيث ذهب فيها إلى التفويض دون الحمل على معانيها اللغوية، ونظرية التفويض وإن كانت أقل شناعة من الحمل على معانيها اللغوية، لكنّها نظرية باطلة توجب أن يكون القرآن من المعمّيات غير نازل للفهم والتدبر.

____________________________

1 . قواعد العقائد: 145.

2 . قواعد العقائد: 165.

3 . ابن تيمية عصره وحياته: 193.

أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني

أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني

(479أو 467_ 548ه_)

الشهرستاني، أحد المهتمين بدراسة المذاهب والشرائع، ويعدّ شخصية ثالثة بين الأشاعرة في معرفة الملل والنحل، بعد الشيخين: أبي الحسن الأشعري، وعبد القاهر البغدادي، وكتابه المعروف بالملل والنحل يعد من المصادر لهذا العلم، ويمتاز عن غيره من الكتب المتقدمة عليه ك_«مقالات الإسلاميين» للأشعري و«الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي بذكر كثير من الآراء الفلسفية المتعلّقة بما وراء الطبيعة، التي كانت سائدة في عصر المؤلف،ولأجل ذلك حاز الكتاب إعجاب الناس وتقديرهم، ومع ذلك كلّه قد خلط بين الحقّ والباطل، خصوصاً في نقل آراء

بعض الطوائف الإسلامية.

ويعرّفه ابن خلكان بقوله: كان مبرزاً فقيهاً متكلماً، تفقّه على أحمد الخوافي وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما، وبرع في الفقه وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه، وصنف كتباً منها: «نهاية الإقدام في علم الكلام» وكتاب «الملل النحل» و«المناهج والبيّنات» وكتاب «المضارعة» و «تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام» و كان كثير المحفوظ(1)، حسن المحاورة، يعظ الناس، ودخل بغداد سنة 510 وأقام بها ثلاث سنين،وظهر، قبول كثير عند العوام، وسمع الحديث من علي بن أحمد المديني ب_«نيسابور»وغيره، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني، وذكره في كتاب

____________________________

1 . كذا في المصدر والأصحّ : «كثير الحفظ».

( 340 )

«الذيل»، و كانت ولادته سنة 479 أو 467،وتوفّي في أواخر شعبان سنة 548ه_.(1)

ويصفه الذهبي بقوله: شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب التصانيف،ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع (القرامطة) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم، كما ينقل عن صاحب «التحبير» بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم: عالم كيّس متعفف.

ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد، لكان هو الإمام، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له، نعوذ بالله من الخذلان، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله و قال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال: سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال: مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى، فسألوا الثوم والبصل. ثمّ نقل عن ابن أرسلان أنّه حجّ في

سنة 510ه_.(2)

المطبوع من كتبه

1. «الملل والنحل» قد طبع كراراً، وأخيراً في القاهرة في جزءين بتحقيق محمد سيد كيلاني، طبع في 1381ه_.

2. «نهاية الإقدام» وهو مطبوع حرره وصححه «الفرد جيوم» المستشرق ولم يذكر عام الطبع. ومجموع الكتاب يحتوي على عشرين قاعدة كلامية. قال في مقدمة الكتاب: وقد أوردت المسائل على تشعث خاطري وتشعب فكري، ممتثلاً أمره في معرض المباحثات ترتيباً وتمهيداً، سؤالاً

____________________________

1 . وفيات الأعيان:4/273 برقم 611.

2 . سير أعلام النبلاء:20/287_ 288، ولاحظ الروضات:8/26برقم 675.

( 341 )

وجواباً، وسمّيت الكتاب «نهاية الإقدام (بالكسر) في علم الكلام»(1) وإليك فهرس القواعد:

1. القاعدة الأُولى: في حدوث العالم وبيان استحالة حوادث لا أوّل لها،واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكاناً.

2. القاعدة الثانية: في حدوث الكائنات بأمرها بإحداث الله سبحانه.

3. القاعدة الثالثة: في التوحيد.

4. القاعدة الرابعة: في إبطال التشبيه.

5. القاعدة الخامسة: في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل.

6. القاعدة السادسة: في الأحوال.

7. القاعدة السابعة: في المعدوم هل هو شيء أم لا، وفي الهيولي وفي الرد على من أثبت الهيولي بغير صورة الوجود.

8. القاعدة الثامنة: في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى.

9. القاعدة التاسعة: في إثبات العلم بالصفات الأزلية.

10. القاعدة العاشرة: في العلم الأزلي خاصة، وأنّه أزلي واحد.

11. القاعدة الحادية عشرة: في الإرادة.

12. القاعدة الثانية عشرة: في كون البارئ متكلّماً بكلام أزلي.

13. القاعدة الثالثة عشرة: في أنّ كلام البارئ واحد.

14. القاعدة الرابعة عشرة: في حقيقة الكلام الإنساني والنطق النفساني.

15. القاعدة الخامسة عشرة: في العلم بكون البارئ تعالى سميعاً بصيراً.

____________________________

1 . نهاية الإقدام: 4.

( 342 )

16. القاعدة السادسة عشرة: في جواز رؤية البارئ تعالى عقلاً ووجوبها سمعاً.

17. القاعدة السابعة عشرة: في التحسين والتقبيح، وبيان أنّه لا يجب على الله تعالى شيء من قبل العقل،ولا يجب على

العباد شيء قبل ورود الشرع.

18. القاعدة الثامنة عشرة: في إبطال الغرض والعلة في أفعال الله تعالى، وإبطال القول بالصلاح والأصلح واللطف، ومعنى التوفيق والخذلان والشرح والختم والطبع، ومعنى النعمة والشكر، ومعنى الأجل والرزق.

19. القاعدة التاسعة عشرة: في إثبات النبوات.

20. القاعدة العشرون: في إثبات نبوة نبيّنا محمّد _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ .

وقد نسب إليه غير واحد هذين البيتين وجاءا في أوّل كتاب «نهاية الإقدام» و هما:

لقد طفت في تلك المعاهد كلّها * وسيرت طرفي بي_ن تلك المع_الم

فلم أُر إّلا واضع_اً ك_ف ح_ائر * على ذق_ن أو ق_ارعاً س_ن ن_ادم

نكات

1. إنّ القول بميل الرجل إلى القرامطة، لا يصدقه كلامه في الملل والنحل، فإنّه قد طرح في هذا الكتاب عقائد الإسماعيلية واستوفى الكلام فيها وختم كلامه بقوله:

وكم ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم _ إلى أن قال _: وقد سددتم (الطائفة الإسماعيلية) باب العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة، وأن يسلك طريقاً من غير بينة.(1)

____________________________

1 . الملل والنحل:1/197_ 198، ط دار المعرفة بيروت.

( 343 )

2. يروي الشهرستاني أنّ عقيدة السلف في إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه هو التفويض بقوله:

بالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلّت الأفعال عليها و ما ورد به الخبر، فافترقوا فرقتين:

فمنهم من أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.

ومنهم من توقّف في التأويل وقالوا: لسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها.(1)

3. إنّ الرجل يتخبط حقاً في عرض عقائد الشيعة، وكأنّه لم يرجع إلى مصدر شيعي معتبر، يقول في حقّ هذه الطائفة: إنّ الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أمّا الغلو

فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس، وأمّا التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق، ولما ظهرت المعتزلة والمتكلّمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير».(2)

يلاحظ عليه: أنّ الشيعة هم الذين يمثلون أصحاب الإمام علي والسبطين وعلي والسجادوالباقرين والكاظمين... _ عليهم السَّلام _ وهؤلاء عن بكرة أبيهم مبرأون عن هذه التهم الساقطة. كيف وهم مقتفون أثر عترة النبي الذين جعلهم الرسول الأعظم قرناء الكتاب في العصمة والهداية، وقد تواترت عليه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ رواية الثقلين، وأنّه قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(3)

____________________________

1 . الملل والنحل:1/93، وقد عرفت ما في التفويض من الإشكال.

2 . الملل والنحل:1/93، وقد عرفت ما في التفويض من الإشكال.

3 . راجع في الوقوف على مصادره ونصوصه، كنز العمال:1/172 باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

وقد نشرت جماعة دار التقريب بالقاهرة رسالة مستقلة في هذا المجال أنهى فيها صور الحديث وأسناده.

( 344 )

أفهل يتصور أن يعتقد مقتفو آثارهم تألية الأئمة، أو تشبيه إله العالم بواحد من الخلق؟!

4. يقول أيضاً في حقّ الإمامية: صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأُصول وبالمشبهة في الصفات، متحيرين تائهين.(1)

تمسك الإمامية بالعدل معروف لا شكّ فيه، وكفى ذلك الكتاب والعقل والسنّة المروية عن طريق أهل البيت، وأمّا كونهم مشبهين في الصفات ففرية لا يجد الرجل دليلاً عليها في كتبهم، فهم من أشدّ المنزّهين لله سبحانه عن الصفات الخبرية مثل اليدين والوجه بالمعاني الحقيقية، وكفى في ذلك خطب علي _ عليه السَّلام _ في النهج، فقد نزّه الباري سبحانه لا عن الصفات الخبرية وحدها، بل نزّهه عن كونه متصفاً بصفات ذاتية زائدة على ذاته، بل

صفاته سبحانه عندهم نفس ذاته،لا بمعنى النيابة، بل بلوغ الذات في الكمال إلى حدّ صارت نفس العلم والقدرة، قال _ عليه السَّلام _ : «لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه،ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه».(2)

ففي الكتاب نقول ضعيفة، وساقطة عن هذه الطائفة تحتاج إلى نظارة التنقيب جداً، فلنكتف بهذا المقدار.

____________________________

1 . الملل والنحل:1/172.

2 . نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

الفخر الرازي(543_ 606ه_)

الفخر الرازي(543_ 606ه_)

محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أصله من طبرستان، ومولده في الري وإليها نسبه، ولد فيها عام ثلاث وأربعين وخمسمائة

( 345 )

أو سنة أربع وأربعين، وتوفّي في «هراة» عام ست و ستمائة.(1)

قال ابن خلّكان: فريد عصره، ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، وله التصانيف المفيدة في حقول عديدة، منها تفسير القرآن الكريم، جمع فيه كلّ غريب وغريبة، وهو كبير لكنّه لم يكمله، ثمّ ذكر تصانيفه و قال: وكل كتبه ممتعة،وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة، فإنّ الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدّمين _ إلى أن قال _ : و كان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين: العربي والعجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة «هراة» أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه،وهو يجيب كلّ سائل بأحسن إجابة، وكان رجع بسببه خلق كثيرمن الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنّة، وكان يلقب بهراة «شيخ الإسلام».

وقد تخرج في

المذهب على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأُستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي، وهو على شيخ السنّة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.

يقول أبو عبد الله الحسين الواسطي: «سمعت فخر الدين ينشد بهراة على المنبر عقيب كلام عاتب فيه أهل البلد:

المرء م_ادام حي_اً يسته_ان ب_ه * ويعظم الرزء فيه حين يفتقد(2)

لا شكّ أنّ الرازي من أئمّة الأشاعرة في عصره، وقد نصر المنهج الأشعري في تآليفه الكلامية وفي تفسيره خاصة، يقف عليه كلّ من لاحظ الآيات التي تختلف في تفسيرها المعتزلة والأشاعرة، وستقف على كلامه في تفسير قوله سبحانه: (الرَّحمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (3)ولما كان يناظر الكرامية

____________________________

1 . الكامل لابن الأثير:12/288; و الوفيات:4/252.

2 . وفيات الأعيان:4/248_ 252برقم 600.

3 . طه:5.

( 346 )

من أهل التجسيم والتشبيه ويكبتهم في القول بهما صريحاً صار ذلك سبباً للطعن عليه ممن لا يروقه التخطي عن ظواهر النصوص.

يقول الذهبي: وقد بدت في تآليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنّة، والله يعفو عنه، فإنّه توفّي على طريقة حميدة، والله يتولّى السرائر.(1)

وأظن أنّ نسبة الانحراف عن السنّة إليه هو ما نقله صاحب «تاريخ روض المناظر» من ابن الأثير: أنّ السلطان غياث الدين قد أبلغ في إكرام الإمام فخر الدين، و بنى له المدرسة بهراة، فعظم ذلك على أهلها الكرامية من الحنفية والشافعية، فحضروا عند الأمير غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي و القاضي عبد المجيد بن القدوة وهو أكبر الكرامية وأعلمهم وأزهدهم، فتكلم الرازي فأعرض عنه ابن القدوة، وطال الكلام، وقام غياث الدين فاستطال الرازي على ابن القدوة وشتمه، فأغضب ذلك الملك ضياءالدين ابن

عم غياث الدين، وذم فخر الدين الرازي ونسبه إلى الزندقة والفلسفة عند غياث الدين، فلم يصنع إليه شيئاً، فلما كان الغد وعط ابن القدوة الناس من الغدوة بالجامع، فحمد الله وصلّى على النبي وقال: (رَبّنا آمَنّا بِما أَنْزلتَ وَاتَّبَعنا الرَّسُول فَاكْتُبْنا مع الشّاهدين) ، أيّها الناس لا نقول إلاّما صحّ عندنا من رسول الله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، وأمّا علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي (جهة) تسنم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيّه، فبكى و بكت الكرامية،واستعانوا وثار الناس من كلّ جانب، وامتلأ الناس فتنة، وبلغ ذلك السلطان غياث الدين، فسكن الفتنة وأوعد الناس بإخراج فخر الدين.

ثمّ أمره بالعود إلى هراة، فعاد إليها، ثمّ عاد إلى خراسان وحظي عند السلطان خوارزم شاه ابن محمد بن تكش.(2)

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء:21/501برقم 261.

2 . روضات الجنات:8/44برقم 682.

( 347 )

ولأجل وجود هذا الجو المشحون بالعداء على أهل التنزيه لا يمكن أن يصدق ما نسبه إليه من الشعر الذي ينتقد فيه المنهج الفكري في العقائد، أعني:

نهاية إقدام العقول عقال * وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا * سوى أنّ جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم قد رأينا من رجال ودولة * فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها * رجال فزالوا والجبال جبال(1)

آثاره في العقائد والكلام

إنّ الرازي كان كثير الإنتاج، وقد طبع قسم من آثاره نذكر منها ما له صلة بالموضوع:

1. «أسماء الله الحسنى» وهو المسمى «لوامع البينات» طبع بمصر عام 1396 وهو كتاب قليلالزلة ويفسر الأسماء بين التشبيه والتعطيل.

2. «مفاتيح الغيب» في ثمان

مجلدات كبار في تفسير القرآن الكريم، وهو مشحون بالأبحاث الكلامية في مختلف الأبواب، ويناضل فيه المعتزلة، وينصر الأشاعرة،ويرد فيه على سائر الطوائف، وله من الشيعة الإمامية في الكتاب مواقف تحكي عن عناده ولجاجه، وأنّه بصدد الرد سواء أصحّ أم لم يصحّ،وستوافيك وصيته عند الموت.

3. «محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين» وقد لخصّه المحقّق الطوسي وأسماه«تلخيص المحصل» ونقد منهجه في كثيرمن الموارد، وقد طبع أيضاً.

4. «المباحث المشرقية» في جزءين جمع فيه آراء الحكماء والسالفين ونتائج أقوالهم وأجاب عنهم، طبع في حيدرآباد دكن، وأُعيد طبعه ب_«الأُوفست».

5. «شرح الإشارات» لابن سينا على نمط النقد والرد على الشيخ

____________________________

1 . وفيات الأعيان:4/250برقم 600.

( 348 )

الرئيس، يقول المحقّق الطوسي في شرحه للإشارات: وقد شرحه فيمن شرحه الفاضل العلاّمة فخر الدين ملك المناظرين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي _ جزاه الله خيراً _ فجهد في تفسير ما خفي منه بأوضح تفسير، واجتهد في تعبير ما التبس فيه بأحسن تعبير، وسلك في تتبع ما قصد نحوه طريقة الاقتفاء، وبلغ في التفتيش عمّاا أودع فيه أقصى مدارج الاستقصاء، إلاّ أنّه قد بالغ في الرد على صاحبه أثناء المقال، وجاوز في نقض قواعده حدّ الاعتدال، فهو بتلك المساعي لم يزده إلاّ قدحاً، ولذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحاً، ومن شرط الشارحين أن يبذلوا النصرة لما قد التزموا شرحه بقدر الاستطاعة، وأن يذبّوا عمّا قد تكفلوا إيضاحه، بما يذب به صاحب تلك الصناعة، ليكونوا شارحين غير ناقضين، ومفسرين غير معترضين.

اللّهمّ إلاّ إذا عثروا على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح، فحينئذ ينبغي أن ينبهوا عليه بتعريض أو تصريح، متمسكين بذيل العدل والإنصاف، متجنبين عن البغي والاعتساف، فإنّ إلى الله الرجعى، وهو

أحقّ بأن يخشى.(1)

إلى غير ذلك من الآثار الفكرية العقيدية.

تصلّبه في المنهج الأشعري

إنّ الرازي في تفسيره وأكثر كتبه متصلّب في المنهج الأشعري، ويكفي في ذلك ما ذكره في تفسير قوله سبحانه: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى) عند الإجابة على كلام صاحب الكشاف. ينقل عن صاحب الكشاف قوله: «لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلاّ مع الملك، جعلوه كناية عن الملك، فقالوا استوى فلان على البلد يريدون «ملك» و إن لم يقعد على السرير البتة، وإنّما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنّه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك.

ونحوه قولك: «يد فلان مبسوطة» و «يد فلان مغلولة» بمعنى أنّه جواد

____________________________

1 . الإشارات والتنبيهات:1/2.

( 349 )

وبخيل، لا فرق بين العبارتين إلاّفيما قلت حتى إنّ من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً، قيل فيه يده مبسوطة، لأنّه لا فرق عندهم بينه و بين قوله جواد. ومنه قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُود يَدُ الله مَغْلُولَة غُلَّت أَيْدِيهِمْ _ أي هو بخيل _ بلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان) أي هو جواد من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط. والتفسير بالنعمة والتمحّل للتسمية من ضيق العطن».

ويقول الرازي: وأقول: إنّا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية، فإنّهم يقولون: المراد من قوله :(فَاخْلَعْ نَعْلَيْك) : الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله: (يا نار كُوني بَرداً وسَلاماً على إِبراهيم) المراد منه: تخليص إبراهيم _ عليه السَّلام _ من يد ذلك الظالم، من غير أن يكون هناك نار و خطاب ألبتة.

وكذا القول في كلّ ما ورد في كتاب الله تعالى، بل القانون أنّه يجب حمل كلّ لفظ ورد في القرآن على حقيقته، إلاّ

إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه.(1)

أظن أنّ الرازي يقول في لسانه ما ليس في قلبه، فإنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه واضح لا يخفى على مثل الرازي. فإنّ القرائن الحافّة بالكلام في مسألة الاستواء على العرش، قاضية بأنّ المراد هو الاستيلاء على القدرة لا جلوسه عليه، وقد ذكرنا القرائن الموجودة في نفس الآيات الدالّة على ذلك المعنى عند البحث عن الصفات الخبرية(2)، و هذا بخلاف الآيات التي تؤوّلها الباطنية فإنّها تأويلات بلا دليل.

نظرة في تفسير الرازي

إنّ تفسير تفسير الرازي مع كونه تفسيراً على الكتاب العزيز كموسوعة كلامية في مختلف الأبواب. فينقل آراء الطوائف الإسلامية في مجالات مختلفة، فيدافع

____________________________

1 . مفاتيح الغيب:6/6، طبع مصر.

2 . لاحظ بحث الصفات الخبرية من هذا الكتاب مضافاً إلى دلالة العقل على امتناع اتصافه سبحانه بأحكام المحدّثات والممكنات.

( 350 )

عن الأشاعرة ويهاجم المعتزلة بحماس بالغ، فمن أراد الوقوف على آرائه فعليه بفهارس الأجزاء التي جاءت الإشارة فيها إلى استدلال الأشاعرة أو المعتزلة أو الإمامية على ما يتبنونه من المذاهب، ونحن نترك ذلك المجال للقارئ الكريم.

ولكن نركز هنا على نكتة، وهي أنّ الرازي يخالف الإمامية في غالب المجالات، خصوصاً فيما يرجع إلى مباحث الإمامة والآيات الواردة في حقّ الإمام علي _ عليه السَّلام _ ، فيورد التشكيك تلو الآخر في كثير من القضايا التاريخية والأحاديث المستفيضة، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة في موارد نأتي بها أداءً لحقّه في المقام:

1. من اقتدى بعلىّ فقد اهتدى

اختلف الفقهاء في الجهر بالبسملة في الصلاة، واستدلّ الرازي على استحباب الجهر بها: بأنّ علياً كان يجهر بها، وقد ثبت ذلك بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعليّ بن

أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ : «اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار».(1)

2. الكوثر أولاد الرسول

يفسر الرازي الكوثر بأولاد الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ، ويقول في عداد الأقوال: «القول الرابع» الكوثر: أولاده، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثمّ العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به. ثمّ انظر، كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا _ عليهم السَّلام _ والنفس الزكية وأمثالهم.(2)

____________________________

1 . مفاتيح الغيب:1/111، الحجة الخامسة.

2 . مفاتيح الغيب:8/498.

( 351 )

3. المسح على الرجلين

استرسل الرازي في الكلام على وجوب المسح على الأرجل على وجه، كأنّ المسح هو خيرته، وإليك كلامه: «اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أنّ الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل. وقال ابن داود الإصفهاني: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلّف مخيّر بين المسح والغسل».

حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله :(وأَرجلكم)فقرأ ابن كثير و حمزة و أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه بالنصب.

فنقول: أمّا القراءة بالجر، فهي تقضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما

وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله:«جحر ضب خرب» و قوله: «كبير أناس في بجاد مزمل»؟ قلنا: هذا باطل من وجوه:

الأوّل: إنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه.

وثانيها: إنّ الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله:«جحر ضب خرب» فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. و في هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

وثالثها: إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

وأمّا القراءة بالنصب فقالوا إنّها أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ قوله (وامسحوا برؤوسكم) فرؤوسكم في محل النصب ولكنّها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس، جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس

( 352 )

والجر عطفاً على الظاهر. وهذا مذهب مشهور للنحاة.

إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: (وأرجلكم)هو قوله :(وامسحوا) ويجوز أن يكون هو قوله:(واغسلوا)لكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فجب أن يكون عامل النصب في قوله: (وَأرجلكم ) هو قوله (وامسحوا) ، فثبت أنّ قراءة (وأرجلكم) بنصب اللام توجب المسح أيضاً، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح، ثمّ قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنّها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.(1)

وصية الرازي عند الموت

لمّا مرض الرازي وأيقن أنّه ملاق ربّه، أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الإصفهاني وصية في الحادي والعشرين من محرم سنة 606.وممّا جاء في تلك الوصية:

يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة....

فاعلموا أنّي كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب في كلّ شيء شيئاً لا أقف على كميته وكيفيته، سواء أكان حقّاً أم باطلاً أم غثّاً أم سميناً...

وأمّا الكتب العلمية التي صنفتها أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدّمين فيها، فمن نظر في شيء منها، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضيل والإنعام،وإلاّ فليحذف القول السيّء فإنّي ما أردت إلاّ تكثير البحث، وتشحيذ الخاطر والاعتماد في الكلّ على الله تعالى.(2)

وغير خفي على من سبر كتب الرازي في الكلام والفلسفة والتفسير وغيرها، أنّه يشكك في كثير من المسائل المسلّمة، وربما يبالغ بأنّه لو اجتمع الثقلان على الإجابة عن هذا الإشكال لما قدروا.(3) ولعل هذه الندامة الظاهرة

____________________________

1 . مفاتيح الغيب:3/380_ 381، طبع مصر.

2 . دائرة المعارف، القرن الرابع عشر، فريد وجدي:4/148_ 149.

3 . شرح المواقف:8/155.

( 353 )

منه حين الموت تكون كفّارة لبعض هذه التشكيكات، والله العالم.

سيف الدين الآمدي(556_621ه_)

سيف الدين الآمدي(556_621ه_)

أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي، الفقيه الأُصولي الملقب ب_«سيف الدين الآمدي» كان حنبلي المذهب، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي، ولما بلغ الدرجة الممتازة انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول، وحفظ منه الكثير وتمهر فيه، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم، ثمّ انتقل إلى الديار المصرية، ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة، وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم، وهذه

شنشنة يعرفها التاريخ من الذين أعدموا العقل وصلبوه وشوهوا صورة الشريعة، واعتمدوا في كلّ شيء حتى فيما يجب ثبوته قبل ثبوت الشرع، على الحديث، ورأوا الاشتغال بالعلوم العقلية كفراً وزندقة فابتلي الآمدي(1) بهؤلاء المتزمّتين،وقبله الشهرستاني كما عرفت ذلك في ترجمته.

ينقل ابن خلّكان أنّ رجلاً منهم لمّا رأى التحامل وإفراط التعصب على الآمدي كتب في المحضر الذي أعدّوه للسعاية عليه:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالق_وم أع_داء ل__ه و خص_وم

والله أعلم وكتب: فلان بن فلان.

ولعل الحسد _ في جميع العصور التي قام فيها هؤلاء بقمع أهل الفكر والعقل وطردهم عن الساحة الإسلامية _ كان أحد العوامل الباعثة على التكفير والتفسيق،والقتل والصلب، وكان هناك عامل آخر أشد تأثيراً في هذه المجالات، وهو سوء الوعي وقلّة العمق في المخالفين، إذ لم يعرفوا أنّ الإسلام

____________________________

1 . الآمدي: منسوب إلى آمد وهي مدينة في ديار بكر.

( 354 )

يحارب الجمود والتقليد، ويتآخى فيه العقل والشرع،وتتحد فيه نتيجة البرهنة والتعبد.

ومن جراء هذه القلاقل لم يجد الآمدي بدّاً من مغادرة مصر إلى دمشق،وعُيّنَ مدرساً بالمدرسة العزيزية، ثمّ عزل عنها لبعض التهم الفكرية، وأقام بطّالاً في بيته. وتوفي على تلك الحال سنة 581 ودفن بسفح جبل قاسيون.(1)

ويشهد لما ذكرنا من السبب ما نقله الذهبي عن سبط ابن الجوزي في حقّه: لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام، وكان أولاد «العادل» كلّهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق، وكان يدخل على «المعظم» فلا يتحرك له، فقلت: قم له عوضاً عني. فقال: ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاّه تدريس العزيزية. فلمّا مات «العادل» أخرج «الأشرف» سيف الدين ونادى في المدارس: من ذكر غير التفسير والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته.

فأقام السيف خاملاً في بيته إلى أن مات ودفن بقاسيون.

ولم يكن عمل «العادل» ولا «الشريف» نسيج وحدهما_ بل لم يزل أهل التعقّل والتفكّر الذين كانوا صفاً كالبنيان المرصوص مقابل الملاحدة والزنادقة _ مضطهدين مقهورين بيد الحنابلة والمتسمين بأهل الحديث، و قد بلغ السيل الزبى في العصور السابقة على عصر الآمدي عندما تدخل الخليفة «القادر بالله» العباسي في اختلاف المعتزلة مع الحنابلة وأهل الحديث، وأصدر كتاباً ضد المعتزلة يأمرهم بترك الكلام والتدريس والمناظرة، وأنذرهم _ إن خالفوا أمره _ بحلول النكاية والعقوبة عليهم. وقد سلك السلطان «محمود» في غزنة مسلك الخليفة في بغداد، فصلب المخالفين ونفاهم وأمر بلعنهم،وقد اتخذ ذلك سنّة في الإسلام.(2)

ففي الحقيقة ما صلبوا المعتزلة، بل صلبوا العقل وأعدموه، وأبعدوا الدين المبنية أُصوله على الأسس العقلية عن أساسه.

____________________________

1 . وفيات الأعيان:3/293_ 294برقم 432.

2 . البداية والنهاية: 12/6_7.

( 355 )

ولم يقتصروا في النكاية على المعتزلة، بل عمّ التعذيب المفكّرين من الأشاعرة، الذين كان منهجهم منزلة بين المنزلتين بين الحنابلة والمعتزلة.

والعجب من الذهبي أنّه كيف يصور شخصية علمية مثل السيف بأنّه كان تارك الصلاة.

قال: كان القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة يحكي عن شيخه ابن أبي عمر قال: كنا نتردّد إلى السيف. فشككنا هل يصلي أم لا؟ فنام فعلّمنا على رجله بالحبر. فبقيت العلامة يومين مكانها، فعلمنا أنّه ما توضّأ، نسأل الله السلامة في الدين.

أفي ميزان النصفة والعدل، القضاء بهذه الظنون واستباحة النفوس والأموال بها، بعد إمكان أنّه تيمّم مكان الوضوء،وصلى لعذر شرعي بالطهارة الترابية مكان الطهارة المائية وبقي الحبر في محله.

هلم معي إلى سفسطة أُخرى ينقلها الذهبي من شيخه ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف، حتى أنّه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل،

وزعم أنّه لا يعرف عنه جواباً، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم، ولا وحدانية الله، ولا النبوات، ولا شيئاً من الأُصول الكبار.

وما ذكره فرية محضة على السيف، ونحن نعرض فهرس الموضوعات التي أشبع السيف البحث عنها في كتابه «غاية المرام في علم الكلام» حتى نعرف مدى صدق قوله، فقد جاء فيها:

القانون الأوّل: في إثبات الواجب بذاته.

القانون الثالث: في وحدانية الباري تعالى.

(ج) القاعدة الثالثة: في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات.

(1) الطرف الثاني: في إثبات الحدوث بعد العدم.

القانون السابع في النبوات، والأفعال الخارقة للعادات.

( 356 )

(1) الطرف الأوّل: في بيان جوازها بالعقل.(1)

إنّ تعطيل العقول من المعارف العقلية ليس بأقل خطراً من تعطيل ذاته سبحانه وتعالى عن الاتّصاف بالصفات الخبرية، الذي صار حجّة لدى الحنابلة على تكفير أو تفسيق المعطّلين كيف،وهو سبحانه يقول:(وَيَتفَكّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً)(2)، ويقول تعالى: (وَفي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(3)، وقوله تعالى:(إِنَّ في ذلكَ لآيات لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ) .(4)

إلى غير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكّر في الصنع والكون والنفس، ولم تكن الغاية من تأسيس علم الكلام إلاّ إقامة الحجة على العقائد الإيمانية، بالأدلّة العقلية والرد على المبتدعة.

إنّ احتكاك الثقافة الإسلامية مع ثقافات سائر الأُمم أوجد موجة من الاضطراب الفكري والصراع العقيدي بين المسلمين،وكانت الوسيلة المنحصرة لحماية العقيدة الإسلامية ومحاربة الفرق والمذاهب الإلحادية، تأسيس علم كامل لإثبات ما يعتنقه المسلمون بالأدلّة العقلية، وكان تأسيسه وليد الحاجة والضرورة، فلا عتب على قائل يصفه بصخرة النجاة وسلم السلام والأمان.

مؤلّفاته

إنّ ما وصل إلينا من تآليفه كلّها يتسم بالطابع العقلي، إمّا عقلية صرفة، أو مزيجاً من العقل والنقل، فمن مؤلّفاته في أُصول الفقه:

1. «الإحكام في أُصول الأحكام»،

طبع كراراً وأخيراً بتحقيق السيد الجميلي في أربعة أجزاء في مجلدين، نشر دار الكتاب العربي1404ه_، وهو أبسط

____________________________

1 . لاحظ: 395_ 396 من غاية المرام.

2 . آل عمران:191.

3 . الذاريات:21.

4 . الرعد:3.

( 357 )

كتاب في أُصول الفقه، نظير الذريعة للسيد المرتضى بين الشيعة في القرن الخامس.

2. «منتهى السؤول في علم الأُصول»، طبع بمصر، وكان مقرراً للدراسة في الأزهر في الثلاثينات من هذا القرن.

3. «غاية المرام في علم الكلام» ضمن فيه كتابه الآخر المسمّى بأبكار الأفكار.(1)

نعم يؤخذ عليه أنّه يصف المعتزلة في المقدمة بالإلحاد، ويقول واصفاً لكتابه: «كاشفاً لظلمات تهويلات الملحدين كالمعتزلة وغيرهم من طوائف الإلهيين»(2). كما يؤخذ عليه قصوره في عرض عقائد الشيعة، وكأنّه لم يقف على كتاب لهم، ونقل ما نقل عنهم عن كتب خصومهم.

ومن عجيب الكلام استدلاله على عدم اشتراط العصمة في الإمام بالاتّفاق على عقد الإمامة للخلفاء الراشدين، واعترافهم بأنّهم ليسوا بمعصومين.(3).

فلا أُعلّق عليه بكلمة إلاّ قولنا«يا للعجب ما أتقنه من برهنة»!!

وفي آخر الكتاب «كان الفراغ من نسخة في الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وستمائة وذلك بثغر الاسكندرية بالمدرسة العادلية».(4)

وقد طبع الكتاب بتحقيق حسن محمود عبد اللطيف، وقام بتحقيقه باعتباره جزءاً من رسالته للحصول على درجة «الماجستير» في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

____________________________

1 . غاية المرام: 5 من المطبوع.

2 . غاية المرام: 5 من المقدمة.

3 . غاية المرام: 384_ 385.

4 . غاية المرام: 392.

( 358 )

عبدالرحمن عضد الدين الإيجي(700_ 756ه_)(1)

عبدالرحمن عضد الدين الإيجي(700_ 756ه_)(1)

كان إماماً في المعقول، عالماً بالأُصول والمعاني والعربية، مشاركاً في الفنون، كريم النفس، كثير المال جداً، كثير الإنعام على الطلبة، ولد بعد السبعمائة وأخذ من مشايخ عصره، وأنجب تلامذة عظاماً اشتهروا في الآفاق، منهم الشيخ شمس الدين الكرماني،

والتفتازاني والضياء القرمي.(2)

1. آثاره المعروفة

1. «المواقف في علم الكلام»، وهو المتن الكامل على المنهج الأشعري وشرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني، والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني تلميذ المصنف، ولعلّه من شرحه. وطبع المتن والشرح للشريف في ثمانية أجزاء مع حواشي لعبد الحكيم السيالكوتي اللاهوري.

وهو المرجع الوثيق لكثير من المتأخرين. وألّفه الإيجي(3) باسم الأمير الشيخ أبي إسحاق، الذي صار صاحب الخطبة والسكة في شيراز سنة 744ه_.

2. شرحه على مختصر الأُصول للحاجبي في أُصول الفقه، وقد أكبّ عليه طلبة الأعصار، وقد شاركه في تأليفه عدّة من الأفذاذ. واشتهر بشرح العضدي على مختصر الأُصول،وطبع كراراً.(4)

3. «العقائد العضدية».

4. «الرسالة العضدية».

____________________________

1 . في ميلاده وعام وفاته اختلاف، وما ذكرناه هو أحد الأقوال.

2 . الدرر الكامنة لابن حجر:2/229.

3 . «الإيج» يقع في جنوب إصطهبانات من نواحي شيراز.

4 . روضات الجنات:5/51_ 52.

( 359 )

ويظهر من خير الدين الزركلي في «الأعلام» أنّهما طبعتا. وله وراء ذلك آثار لم تر نور الوجود.(1)

إلى أن قضى حياته في كرمان مسجوناً (عام 756 أو 757ه_) ويظهر من غير واحد ممن ترجمه أنّه كان يبغض الشيعة ويعاندهم إلى حدّ يضرب به المثل ومن لطائف شعره قوله:

خذ العفو وأم_ر بعرف كما أم_ر * ت وأع__رض ع_ن الج_اهلي_ن

ول_ِ_ن في الك_لام لك_ل الأن_ام * فمستحسن من ذوي الجاه لين

2. حريته الفكرية في اتخاذ الموقف

إنّ الإيجي، أشعري المنهج، يركز على آراء الأشاعرة ويحتج، ولكن ربما يرد عليهم ولإيقاف القارئ على نماذج نشير إلى موردين:

الأوّل: قد نقل أدلّة أصحابه على زيادة صفاته سبحانه على ذاته فقال:«لوكان مفهوم كونه عالماً حياً قادراًنفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا: الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه واللازم باطل».

وغير خفي على

القارئ أنّ المستدلّ لم يفرق بين العينية المفهومية والعينية المصداقية. فزعم أنّ المدّعى هو الأُولى مع أنّه هو الثانية، ووقف العضدي على فساد الاستدلال فقال:«وفيه نظر، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا».(2)

وما ذكره يبطل جميع ما أقامه الأشاعرة من البرهان على الزيادة.

الثاني: طرح مسألة التكليف بمالا يطاق. وقال: إنّه جائز عند الأشاعرة، فلمّا رأى أنّ القول به يخالف الفطرة، أخذ يقسم مالا يطاق إلى مراتب، فمنع عن التكليف بالمرتبة القصوى منه، لا الوسطى ثمّ قال: «وبه

____________________________

1 . الأعلام للزركلي:3/295.

2 . المواقف: 280.

( 360 )

يعلم أنّ كثيراً من أدلّة أصحابنا نصب للدليل في غير محل النزاع».(1)

نعم، ربما يأخذه التعصب، فيستدل على مذهبه بشيء مستلزم للدور في مقابل الخصم المنكر. مثلاً يقول: «إنّ الإمامية تثبت ببيعة أهل الحل والعقد، خلافاً للشيعة، لثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة».(2)

كما يستدل على عدم وجوب العصمة في الإمام بقوله: «إنّ أبا بكر لا تجب عصمته اتّفاقاً».(3)

والمترقب من مثل الإيجي العارف بالمناظرة، الاجتناب عن مثل هذه الاستدلالات التي لا تصح إلاّ أن يصحّ الدور.

نرى أنّه ينكر القضايا التاريخية المسلمة عند الجميع ويقول في ردّ حديث الغدير: «إنّ علياً لم يكن يوم الغدير».(4)

ونرى أنّه لا يطرح فرق الشيعة وينهيها إلى اثنتين وعشرين فرقة، ويأتي بأسماء فرق لم تسمع أذن الدهر بها إلاّفي ثنايا هذه الكتب. ويقول: «من فرق الشيعة البدائية الذين جوزوا البداء على الله».(5)

ولكنّه غفل عن أنّ الاعتقاد بالبداء بالمعنى الصحيح وهو تغيّر المصير بالأعمال الصالحة والطالحة، عقيدة مشتركة بين الشيعة جمعاء وليست مختصة بفرقة دون أُخرى. وتفسير البداء بما يستلزم الظهور بعد الخفاء على الله أو غير

ذلك فرية على الشيعة. إلى غير ذلك من الهفوات الموجودة في الكتاب، غفر الله لنا و لعباده الصالحين.

____________________________

1 . المواقف: 331.

2 . المواقف: 399.

3 . المواقف: 399.

4 . المواقف: 405.

5 . المواقف: 421.

مسعود بن عمر التفتازاني(712_ 791ه_)(6)

مسعود بن عمر التفتازاني(712_ 791ه_)(6)

هو من أئمّة العربية ومن المتضلّعين في المنطق والكلام،ولد بتفتازان من

____________________________

6 . قيل أيضاً إنّه تولد عام 722 وتوفّ_ي عام 787، 793ه_.

( 361 )

نواحي «نساء» في خراسان، أخذ العلوم العقلية عن «قطب الدين الرازي تلميذ العلاّمة الحلي» والقاضي عضد الدين الإيجي وتقدم في الفنون واشتهر ذكره وطال صيته وانتفع الناس بتصانيفه، وانتهت إليه معرفة العلم بالمشرق. مات في سمرقند سنة 791.(1)

آثاره العلمية في الأدب والمنطق والكلام

ترك المترجم له آثاراً علمية مشرقة نذكر بعضها:

1. شرحه المعروف ب_«المطول» على «تلخيص المفتاح» للخطيب القزويني في المعاني و البيان والبديع. نقله إلى البياض عام 748ه_ بهراة. وقد لخّص هذا الشرح وأسماه بالمختصر.

2. شرحه على تصريف الزنجاني، فرغ منه عام 744ه_.

3. شرحه على العقائد النسفية فرغ منه عام 778ه_.

4. شرح على شمسية المنطق فرغ منه عام 772ه_.

5. مقاصد الطالبين مع شرحه، فرغ منه عام 774ه_.

6. تهذيب أحكام المنطق ألّفه بسمرقند عام 770ه_.(2)

وهذه الآثار كلّها مطبوعة متداولة، وبعضها محور الدراسة في الجامعات العلمية إلى يومنا هذا.

ومن لطيف أشعاره ما نسبه إليه شيخنا البهائي في كشكوله:

كأنّه عاشق قد مد صفحت_ه * يوم الوداع إلى توديع مرتح_ل

أو قائم من نعاس فيه لوثت_ه * مواصل لتخطيه من الكسل

ويظهر ممّا نقل عنه من الشعر الفارسي أنّه كانت له يد غير قصيرة في الأدب الفارسي.

____________________________

1 . بغية الوعاة:2/285.

2 . روضات الجنات:4/35_ 36.

( 362 )

أشعري لا ماتريدي

الماتريدية منهج كلامي أسسه محمد بن محمد بن محمود المعروف بأبي منصور الماتريدي، و«ماتريد»

محلة بسمرقند في ماوراء النهر ينسب إليها، وتوفّي عام 333ه_.

وهذا المنهج قريب من منهج الشيخ الأشعري، والخلاف بينهما لا يتجاوز عدد الأصابع. ولأجل تقارب الفواصل بينهما يعسر التمييز بين المنهجين، ومقتفي أثرهما. وسنعقد فصلاً _ بإذنه سبحانه _ لبيان هذا المنهج، وحياة مؤسسه، والفروق الموجودة بينه و بين الأشعري، وكان المؤسّسان يعيشان في عصر واحد، ويسعى كلّ منهما للغاية التي يسعى الآخر إليها. بيد أنّ الأشعري كان بالعراق قريباً من المعتزلة، والماتريدي كان بخراسان بعيداً عن مواضع المعركة.

والظاهر أنّ التفتازاني _ رغم كونه خراسانياً قاطناً في سمرقند وسرخس وهراة _ كان أشعرياً، ولا يفترق ماطرحه في شرح المقاصد عمّاخطته الأشاعرة أبداً.

ولنجعل الموضوع (هل هو أشعري أو ماتريدي؟) تحت محكّ التجربة. إنّ النقطة التي تفترق فيها الماتريدية عن الأشاعرة كون القضاء والقدر سالبين للاختيار عند الأشعري، وليسا كذلك عند الماتريدي.

والتفتازاني في شرحه على مقاصد الطالبين ينحو إلى القول الأوّل ويقول: قد اشتهر بين أكثر الملل أنّ الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهذا يتناول أفعال العباد، وأمره ظاهر عند أهل الحقّ لما تبين أنّه الخالق لها نفسها.

ثمّ إنّه ينقل أدلة المعتزلة على أنّه لو كان القضاء والقدر سالبين للاختيار، يلزم بطلان الثواب والعقاب(1)، ثمّ يخرج في مقام الجواب عن استدلال

____________________________

1 . وقد أتى بروايتين: إحداهما عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ والأُخرى عن علي _ عليه السَّلام _ وكلاهما يركزان على أنّ التقدير لا يسلب الاختيار. لاحظ رواية علي _ عليه السَّلام _ في نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78، وأمّا الرواية النبوية فهذا متنها:«روي عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ أنّه قال لرجل قدم عليه من فارس: أخبرني بأعجب شيء

رأيت. فقال: رأيت أقواماً ينكحون أُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك؟ قالوا: قضاء الله علينا وقدره. فقال _ عليه السَّلام _ : سيكون في آخر أُمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أُولئك مجوس أُمّتي».

( 363 )

المعتزلة بقوله: إنّ ما ذكر لا يدل إلاّ على أنّ القول بأنّ فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته، يجوز للعبد الإقدام عليه، ويبطل اختياره فيه، واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس.(1)

والظاهر منه قبول النتيجة، ومعه لا يمكن أن يعدّ من الفرقة الماتريدية.

مقتطفات من المقاصد

إنّ شرح المقاصد كتاب مبسوط في علم الكلام، بعد شرح المواقف للسيد الشريف. وقد أصحر في الكتاب بفضائل علي وأهل بيته.

1. يقول: قوله تعالى: (قُلْ تَعالَوا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَناوَنِساءَكُمْ وَأَنُفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أراد علياً. وقوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَودَّةَ فِي القُربى)وعليّ رضي الله عنه منهم.... إلى آخر ما ذكر في هذا الفصل من فضائل عليّ.(2)

2. ويقول في حقّ السيدة فاطمة الزهراء _ عليها السَّلام _ : فقد ثبت أنّ فاطمة الزهراء سيدة نساءالعالمين،وأنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة.(3)

3. ويقول في حقّ الإمام المهدي _ عليه السَّلام _ : وقد وردت الأحاديث الصحيحة في ظهور إمام من ولد فاطمة الزهراء _ رضي الله عنها _ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(4)

____________________________

1 . شرح المقاصد:2/144.

2 . مقاصد الطالبين، هامش شرح المقاصد:2/299.

3 . المصدر نفسه: 302.

4 . المصدر نفسه: 307.

السيد الشريف الجرجاني الأستر آبادي(740_816

السيد الشريف الجرجاني الأستر آبادي(740_816ه_)

علي بن محمد المعروف بالسيد الشريف الجرجاني من المتضلّعين في الأدب العربي، المعدود من كبار المتكلّمين على المنهج الأشعري ولد في قرية «تاكو»قرب «أسترآباد» وأتم دروسه في شيراز، ولمّا دخلها «تيمور»سنة

789ه_، غادرها الجرجاني وألقى عصا رحله في سمرقند، ولكنّه عاد أيضاً إلى شيراز بعد موت تيمور.(1)

وهو يعادل التفتازاني في التوغّل في العلمين،الأدب والكلام. لكن الشريف أدق نظراً منه، وآثاره العلمية تعرب عن تخصصه في بعض العلوم، ومشاركته في كثير منها.

آثاره العلمية

1. شرحه الكبير على مواقف القاضي عضد الدين الإيجي وهو شرح مبسوط، بلغ الغاية في توضيح ما ذكره القاضي، وقد طبع كراراً، وأخيراً في ثمانية أجزاء، في أربعة مجلدات.

2. الكبرى والصغرى في المنطق.

3. الحواشي على المطول للتفتازاني.

4. التعريفات.

إلى غير ذلك من التآليف البالغة نحو خمسين كتاباً. و قد برز جميع ما عنونّاه إلى الطبع.(2)

____________________________

1 . الأعلام: 5/7.

2 . لاحظ روضات الجنات:5/300; الأعلام:5/7.

( 365 )

علاء الدين علي بن محمد القوشجي مؤلّف

علاء الدين علي بن محمد القوشجي مؤلّف

شرج التجريد الجديد(..._ 879ه_)

علي بن محمد القوشجي الحنفي فلكي رياضي، متكلم بارع، أصله من سمرقند. والقوشجي كلمة تركية بمعنى «حافظ الطير» يقال كان أبوه من خدام الأمير«الغ بك» ملك ماوراء النهر، يحفظ له البزاة، ثمّ ذهب إلى كرمان فقرأ على علمائها وصنّف فيها شرح التجريد للطوسي، وعاد إلى سمرقند. وكان «الغ بك» قد بنى رصداً فيها، ولم يكمله فأكمله القوشجي، ثمّ ذهب إلى تبريز فأكرمه سلطانها«الأمير حسن الطويل» وأرسله في سفارة إلى السلطان«محمد خان» سلطان بلاد الروم، ليصلح بينهما فاستبقاه محمد خان عنده، فألّف له رسالة في الحساب أسماها «المحمّدية» ورسالة في علم الهيئة أسماها «الفتحية»، فأعطاه محمدخان مدرسة «أيا صوفيا» فأقام بالآستانة، وتوفي فيها، ودفن في جوار الصحابي أبي أيوب الأنصاري.

آثاره العلمية

من أشهر آثاره «شرح التجريد» و هو شرح لكتاب «تجريد العقائد» تأليف المحقّق الطوسي، وقد شرحه ببسط و استيعاب، وخالفه في مواضع لا توافق منهجه الأشعري، ولكنّه أنصف في موارد حيث شرح العبارة

ولم يزد عليها بشيء.

يقول في مقدّمة الكتاب: إنّ كتاب التجريد الذي صنّفه في هذا الفن المولى الأعظم، والحبر المعظم، قدوة العلماء الراسخين، أسوة الحكماء المتألهين، نصير الحقّ والملة الدين، محمد بن محمد الطوسي _ قدّس الله نفسه، و روّح رمسه _ تصنيف مخزون بالعجائب، وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم، وجيز النظم، فهو كثير العلم، عظيم الاسم، جليل البيان، رفيع المكان، حسن النظام، مقبول الأئمّة العظام، لم تظفر بمثله علماء الأعصار، ولم يأت بشبهه الفضلاء في القرون والأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمهات، مشحون بتنبيهات

( 366 )

على مباحث هي المهمات، مملوّ بجواهر كلّها كالفصوص، ويحتوي على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص، متضمن لبيانات معجزة، في عبارات موجزة، وتلويحات رائقة لكمالات شائقة، يفجر ينبوع السلاسة من لفظه، ولكن معانيه لها السحرة تسجد، وهو في الاشتهار كالشمس في رائعة النهار، تداولته أيدي النظار، وسابقت في ميادينه جياد الأفكار.

ثمّ أشار إلى أنّ شمس الحقّ والملة والدين محمد الإصفهاني قد شرحه قبله، فهو قدر طاقته حام حول مقاصده، وبقدر وسعه جال في ميدان دلائله وشواهده، وأنّ السيد الشريف الجرجاني علّق على ذلك الشرح حواشي تشتمل على تحقيقات رائقة، ولكن مع ذلك كان كثيراً من مخفيات رموز ذلك الكتاب باقياً على حاله» إلى آخر ما أفاده في مقدمة الكتاب. ثمّ أهدى كتابه إلى سلطان عصره أبي سعيد الكوركاني.

ولهذا الشرح حواش من المحقّقين كالمحقّق الأردبيلي وغيره،وهذا الكتاب أبسط كتاب في الكلام الأشعري بعد شرح المواقف.

كما أنّ له تآليف أُخرى ذكرت في الأعلام ومعجم المؤلفين وغيرهما من كتب التراجم، و في كتاب ريحانة الأدب لشيخنا«المدرس» ترجمة اضافية للقوشجي فلاحظه.(1)

ذكر جماعة من الأشاعرة

وممّا يناسب إلفات النظر إليه، أنّ ابن

النديم عنون الشيخ الأشعري باسم «ابن أبي بشر» عند البحث عن الكلابية أصحاب عبد الله بن محمد بن كلاب القطان، وعنوان البحث يعطي أنّه من أصحابه ومقتفي منهجه، ولم يذكر من تلاميذ الأشعري إلاّ شخصين، وقال:

«ومن أصحابه: الدمياني،وحمويه من أهل «سيراف» و كان يستعين بهما، على المهاترة والمشاغبة، وقد كان فيهما علم على مذهبه، ولا كتاب لهما

____________________________

1 . الأعلام:5/9; معجم المؤلفين:7/227; ريحانة الأدب:4/495.

( 367 )

يعرف».(1)

ولكن ابن عساكر الدمشقي (المتوفّى571ه_) ذكر أعيان مشاهير أصحابه، وخصّ لهم باباً و قال: باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه، إذ كان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدى به، ثمّ ذكر فهرس أسمائهم على النحو التالي:

الطبقة الأُولى من أصحاب الأشعري

1. أبو عبد الله بن مجاهد البصري.

2. أبو الحسن الباهلي البصري.

3. أبو الحسين: بندار بن الحسين الشيرازي الصوفي.

4. أبو محمد الطبري المعروف بالعراقي.

5. أبو بكر القفال الشاشي.

6. أبو سهل الصعلوكي النيسابوري.

7. أبو زيد المروزي.

8. أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي.

9. أبوبكر الجرجاني المعروف بالإسماعيلي.

10. أبو الحسن عبد العزيز الطبري.

11. أبو الحسن علي الطبري.

12. أبو جعفر السلمي البغدادي النقاش.

13. أبو عبد الله الإصبهاني.

14. أبو محمد القرشي الزهري.

15. أبو بكر البخاري الاودني.

16. أبو منصور بن حمشاد النيسابوري.

17. أبو الحسين بن سمعون البغدادي المذكر.

18. أبو عبد الرحمن الشروطي الجرجاني.

19. أبو علي الفقيه السرخسي.

____________________________

1 . فهرست ابن النديم: 271.

( 368 )

هؤلاء أصحاب الشيخ أبو الحسن الأشعري الذين تتلمذوا عليه، وارتووا من مهل علمه، ويعدّون من الطبقة الأُولى للأشاعرة، وأمّا الطبقة الثانية، وهم أصحاب أصحابه، ممّن سلكوا مسلكه في الأُصول وتأدّبوا بآدابه، فقد جاء بأسمائهم وترجمتهم ابن عساكر في كتابه «تبيين كذب المفتري» وها نحن نأتي بأسمائهم، ومن أراد الوقوف على حياتهم وكتبهم، فعليه الرجوع إليه،

وهؤلاء عبارة عن:

الطبقة الثانية من أصحابه

20. أبو سعد بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني.

21. أبو الطيب بن أبي سهل الصعلوكي النيسابوري.

22. أبو الحسن بن داود المقري الداراني الدمشقي.

23. القاضي أبو بكر بن الطيب بن الباقلاني.(1)

24. أبو علي الدقاق النيسابوري شيخ أبي القاسم القشيري.

25. الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري.

26. أبو نصر بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني.

27. الأُستاذ أبو بكر بن فورك الإصبهاني.

28. أبو سعد بن عثمان النيسابوري الخركوشي.

29. أبو عمر محمد بن الحسين البسطامي.

30. أبو القاسم بن أبي عمرو البجلي البغدادي.

31. أبو الحسن بن ماشاذه الإصبهاني.

32. أبو طالب بن المهتدي الهاشمي.

33. أبو معمر بن أبي سعد الجرجاني.

34. أبو حازم العبدوي النيسابوري.

35. الأُستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني.

36. أبو علي بن شاذان البغدادي.

37. أبو نعيم الحافظ الإصبهاني.

____________________________

1 . وقد تعرفت على حياته وتآليفه فيما سبق.

( 369 )

38. أبو حامد أحمد بن محمد الاستوائي الدلوي.

الطبقة الثالثة من أصحابه

المراد من هذه الطبقة من لقي أصحابه وأخذ العلم عنهم، وإليك أسماء من ذكرهم وترجمهم ابن عساكر:

39. أبو الحسن السكري البغدادي.

40. أبو منصور الأيوبي النيسابوري.

41. أبو محمد عبد الوهاب البغدادي.

42. أبو الحسن النعيمي البصري.

43. أبو طاهر بن خراشة الدمشقي المقري.

44. الأُستاذ أبو منصور النيسابوري البغدادي.(1)

45. أبو ذر الهروي الحافظ.

46. أبو بكر الدمشقي المعروف بابن الجرمي.

47. أبو محمد الجويني والد الإمام أبي المعالي.

48. أبو القاسم بن أبي عثمان الهمداني البغدادي.

49. أبو جعفر السمناني قاضي الموصل.

50. أبو حاتم الطبري المعروف بالقزويني.

51. أبو الحسن رشا بن نظيف المقري.

52. أبو محمد الإصبهاني المعروف بابن اللبان.

53. أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي.

54. أبو عبد الله الخبازي المقري النيسابوري.

55. أبو الفضل بن عمروس البغدادي المالكي.

56. الأُستاذ أبو القاسم الإسفراييني.

57. الحافظ أبو بكر البيهقي.

الطبقة الرابعة من أصحابه

58. أبو بكر

الخطيب البغدادي.

____________________________

1 . وقد تعرفت على ترجمته فيما سبق.

( 370 )

59. الأُستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري.

60. أبو علي بن أبي حريصة الهمداني الدمشقي.

61. أبو المظفر الإسفرائيني.

62. أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي.

63. الإمام أبو المعالي الجويني.

64. أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي.

65. أبو عبد الله الطبري.

الطبقة الخامسة من أصحابه

66. أبو المظفر الخوافي النيسابوري.

67. الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي.

68. الإمام حجة الإسلام أبو حامد الطوسي الغزالي.(1)

69. الإمام أبو بكر الشاشي.

70. أبو القاسم الأنصاري النيسابوري.

71. الإمام أبو نصر بن أبي القاسم القشيري.(2)

72. الإمام أبو علي الحسن بن سليمان الإصبهاني.

73. أبو سعيد أسعد بن أبي نصر بن الفضل العمري.

74. أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن جني العثماني الديباجي.

75. القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة المعروف بابن الرطبي.

76. الإمام أبو عبد الله الفراوي النيسابوري.

77. أبو سعد إسماعيل بن أحمد النيسابوري المعروف بالكرماني.

78. الإمام أبو الحسن السلمي الدمشقي.

79. أبو منصور محمود بن أحمد بن عبد المنعم ماشاذه

____________________________

1 . قد تعرفت على ترجمته، وعلى آرائه في كتابه: «قواعد العقائد»، وقد نقل ابن عساكر مفتتح هذا الكتاب، في تبيينه: 299.

2 . وقد رفع بعض أصحاب هذا الإمام شكوى عن الحنابلة، وقد عرفت نص الشكوى وفيها خطوط الأئمّة بتصحيح مقاله.

( 371 )

80. أبو الفتح محمد بن الفضل بن محمد بن المعتمد الإسفرائيني.

81. أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي.

هؤلاء هم الذين ذكر ابن عساكر أسماءهم وشيئاً من حياتهم، وقد أدرك هو نفسه عدة من الطبقة الخامسة، بعضها بالمعاصرة وبعضها بالرؤية والمجالسة.

ثمّ إنّ تاج الدين أبا نصر عبد الوهاب بن علي السبكي قد استدرك على ابن عساكر الطبقات الأُخرى التي لم يدركها ابن عساكر، وقد ذكر

ابن عساكر خمس طبقات لأصحابه فاستدرك عليه الطبقتين التاليتين وقال:

ومن السادسة

82. الإمام فخر الدين الرازي.(1)

83. سيف الدين الآمدي.(2)

84. شيخ الإسلامي عز الدين بن عبد السلام.

85. الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي.

86. شيخ الإسلام عز الدين الحصيري الحنفي، وصاحب «التحصيل والحاصل»

87. الخسرو شاهي.(3)

ومن السابعة

88. شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد.

89. الشيخ علاء الدين الباجي.

90. الشيخ الإمام الوالد تقي الدين السبكي.

91. الشيخ صفي الدين الهندي.

92. الشيخ صدر الدين بن المرحل.

____________________________

1 . وقد تعرفت على ترجمتهما.

2 . وقد تعرفت على ترجمتهما.

3 . نسبة إلى خسروشاه وهي قرية من قرى «مرو» وهي غير الواقعة في آذربيجان.

( 372 )

93. ابن أخيه الشيخ زين الدين.

94. الشيخ صدر الدين سليمان عبد الحكم المالكي.

95. الشيخ شمس الدين الحريري الخطيب.

96. الشيخ جمال الدين الزملكاني.

97. الشيخ جمال الدين بن جملة.

98. الشيخ جمال الدين ابن جميل

99. قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي.

100. القاضي شمس الدين بن الحريري الحنفي.

101. القاضي عضد الدين الإيجي الشيرازي.(1)

وهاهنا نجعجع بالقلم عن الإفاضة،ونترك أسماء الباقين من الأشاعرة إلى كتب التراجم، وقد وقفت على ترجمة أعيانهم ومشاهيرهم الذين استثمروا المنهج ونضجوه،ودافعوا عنه بحماس.

***

إلى هنا وقفت على حياة الإمام الأشعري ومنهجه الكلامي وترجمة الشخصيات البارزة الذين أرسوا ما شيّده، ونضجوا منهجه، ولكن الذين جاءُوا بعدهم في أقطار الشرق والغرب ما راموا إلاّ تحرير ما ورثوه من مشايخهم وأساتذتهم، ولم يضيفوا عليها شيئاً قابلاً للذكر.

تمّ الجزء الثاني من الكتاب ويليه الجزء الثالث في تبيين عقائد الماتريدية والمعتزلة إن شاء الله تعالى .

والحمد لله ربّ العالمين

____________________________

1 . السبكي، طبقات الشافعية الكبرى:3/372_ 373.

( 373 )

فتوى شاذة عن الكتاب والسنّة

فتوى شاذة عن الكتاب والسنّة

بعد أن خرجت الملازم من الطبع وانتهينا إلى هذا المقام وقفنا على فتوى لعبد العزيز بن

عبد الله بن باز المؤرخ 8/3/1407 المرقم 717/2 جواباً على سؤال عبدالله عبد الرحمن يتعلّق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية يوم القيامة، فأفتى بأنّ من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلّى خلفه، وهو كافر عند أهل السنّة والجماعة، وأضاف أنّه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الأباضية في عمان: الشيخ أحمد الخليلي فاعترف بأنّه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة، ويعتقد أنّ القرآن مخلوق، واستدلّ لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح»: ذكر الطبري وغيره أنّه قيل لمالك: إنّ قوماً يزعمون أنّ الله لا يُرى يوم القيامة فقال مالك : السيف السيف.

وقال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملي على عبد العزيز ابن سلمة الماجشون رسالة عما جحدت الجهمية فقال: لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَة *إلى ربّها ناظرة) .

وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنّه قال: إني لأرجو أن يحجب الله عزّوجلّ جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه، الذي وعده أولياءه حين يقول: (وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَة* إلى ربّها ناظرة) .

إلى أن نقل عن أحمد بن حنبل و قيل له في رجل يحدّث بحديث عن رجل

( 374 )

عن أبي العواطف أنّ الله لا يُرى في الآخرة فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثمّ قال: أخزى الله هذا.

و قال أبو بكر المروزي: من زعم أنّ الله لا يرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر.

وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذّب بها فهو زنديق.

وقال: من زعم أنّ الله لا يُرى فقد كفر بالله، وكذّب بالقرآن، وردّ

على الله أمره، يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل....

تحليل لهذه الفتيا

1. إنّ هذه الفتوى لا تصدر عمّن يجمع بين الرواية والدراية، وإنّما هي من متفرعات القول بأنّ الله مستقر على عرشه فوق السماوات، وأنّه ينزل في آخر كلّ ليلة نزول الخطيب عن درجات منبره(1)، وأنّ العرش تحته سبحانه يئط أطيط الرحل تحت الراكب(2) ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول:

بل عطلوا منه السماوات العلى والعرش أخلوه م_ن الرحم_ان(3)

ومثل تلك العقيدة تنتج أنّ الله تعالى يرى كالبدر يوم القيامة، والرؤية لا تنفك عن الجهة والمكان، تعالى عن ذلك كلّه.

2. إنّ النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم _ ولم ير أنّ النبي الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك، مثل رؤية الله وما شابهه، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه : أنّ الإسلام بني على خمس وليس فيه شيء من الإقرار بالرؤية،وهل النبي ترك ما هو مقوم الإيمان والإسلام؟!.

3. إنّ الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلّمين والمفسرين، وكلّ طائفة تمسّكت بلفيف من الآيات، فتمسّك المثبت بقوله سبحانه: (إِلى ربّها ناظرة)وتمسّك النافي بقوله سبحانه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار وَهُوَ اللَّطيفُ

____________________________

1 . نقله وسمعه السياح الطائر الصيت ابن بطوطة عن ابن تيمية.

2 . السنّة: 80.

3 . من قصيدة ابن زفيل النونية، والمراد منه هو ابن القيم. لاحظ السيف الصيقل للسبكي.

( 375 )

الخَبير) .

فكيف يكون إنكار النافي رداً للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت رداً له؟!

فإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفاً لعقيدته، فكيف لا يسوغ لطائفة أُخرى؟!

وليست رؤية الله يوم القيامة من الأُمور الضرورية التي يلازم إنكارها

إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن، بل كل طائفة تقبل برحابه صدر المصدرين الرئيسيين، أعني: الكتاب والسنّة، ولكن يناقش في دلالتهما على ما تدّعيه الطائفة الأُخرى، أو تناقش سند الرواية وتقول: إنّ القول بالرؤية عقيدة موروثة من اليهودوالنصارى، أعداء الدين، وقد دسّوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين، فلم تزل مسلمة اليهود والنصارى يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين،وتشويه تعاليم هذا الدين، حتى تذرعوا بعد وفاة النبي بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد، فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان.

4. إنّ الاعتقاد بشيء من الأُمور من الظواهر الروحية لا تنشأ جذوره في النفس إلاّ بعد تحقّق مبادئ ومقدّمات توجد العقيدة، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيف السيف، بدل أن يقول: الدراسة الدراسة، الحوار الحوار؟!!

أليس شعار «السيف السيف» ينم عن طبيعة قاسية، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟!

وأنا أجلّ إمام دار الهجرة عن هذه الكلمة.

5. إنّ مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلاّ على نقول وفتاوى ذكرها ابن القيم في كتابه دون أن يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة، أو يناقش المسألة في ضوء السنّة.

( 376 )

فما أرخص مهمة الإفتاء ومؤهّلات المفتي في هذه الديار.

وفي الختام، إنّ ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية، فإنّ نفي الرؤية شعار أئمّة أهل البيت، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي _ عليه السَّلام _ في خطبه، وكلمه قبل أن يتولد الجهم وأذنابه،ولأجل ذلك اشتهر: «العدل والتنزيه علويان، والجبر والتشبيه أمويان».

ولأجل ضيق المقام اكتفينا بهذا القدر، ومن أراد التبسّط في البحث فليرجع إلى الصفحة 191_ 239 من هذا الكتاب، و

الجزء الثالث (الماتريدية، والمرجئية)

اشاره

الملل والنحل الجزء الثالث (الماتريديّة، والمرجئية، والجهميّة، والكراميّة، والظاهريّة والمعتزلة)

مقدمة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد، فهذا هو الجزء الثّالث من كتابنا «بحوث في الملل والنحل» نقدّمه للقرّاء الكرام ونبحث فيه عن المدرستين المعروفتين «الماتريديّة» و«المعتزلة»، والمدرسة الاُولى مشتقّة من منهج أهل الحديث من الحشويّة والحنابلة، كاشتقاق المنهج الأشعريّ منه، والفرعان يشتركان في كثير من الاُصول ويختلفان في بعضها الآخر، وستوافيك الفوارق الموجودة بينهما.

وأمّا المدرسة الثّانية _ أعني مدرسة الاعتزال _ فهي منهج عقليّ لا يمتّ لمنهج أهل الحديث بصلة، والمدرستان تتحرّكان على محورين متخالفين، ونرجو منه سبحانه أن يوفّقنا لتحرير عقائد الطائفتين متحرّرين من كلّ نزعة، وتعصّب، ورأي مسبّق لا دليل عليه، ولنقدّم تحرير منهج الطائفة «الماتريديّة» على «المعتزلة» للصّلة التامّة بينه وبين المنهج الأشعري الذي سبق عنه البحث مفصّلاً في الجزء الثّاني.

ولقد نجمت في القرنين الأوّلين مناهج كلاميّة لها صلة بالمدرستين، فلإكمال الفائدة نبحث قبل تبيين منهج الإعتزال عن الفرق التالية:

المرجئة، القدريّة، الجهميّة، الكرّاميّة والظاهريّة. فالمرجوّ منه سبحانه، التّوفيق لبيان الحقّ والحقيقة والقضاء، بعيداً عن التعصّب والانحياز الممقوت. إنّه وليّ التوفيق.

الماتريدية

اشاره

1- الماتريدية

الماتريدية

الماتريدية

قد تعرّفت على جذور الاختلاف في عصر الرّسالة وبعدها، كما تعرّفت على حوافز الاختلاف ودوافعه في عصر الخلفاء، وخرجنا بالنّتيجة التالية وهي: أنّ أهل البحث والنّقاش من المسلمين قد تفرّقوا على فرقتين مختلفتين في كثير من المبادئ والاُصول وإن اشتركتا في كثير منها أيضاً:

1_ فرقة أهل الحديث الّتي يعبّر عنها بالحشويّة تارة، والحنابلة اُخرى، والسلفيّة ثالثة وكانوا يتّسمون بسمة الاقتفاء لكتاب الله، وسنّة رسوله، ولا يقيمون للعقل والبرهان وزناً، كما لا يتفحّصون عن مصادر الحديث تفحّصاً يكشف عن صحته، بل ويقبلون كلّ حديث وصل إليهم عن كل من هبّ ودبّ، ويجعلون في حزمتهم كلّ رطب ويابس، ولأجل هذا التّساهل ظهرت فيهم آراء وعقائد تشبه آراء أهل الكتاب، كالتشبيه، والتجسيم،والجبر، وسيادة القضاء والقدر على الإنسان كإله حاكم،لا يُغيّر ولا يُبدّل، ولا يقدر الإنسان على تغيير مصيره إلى غير ذلك من البدع ولا يقصر عمّا ذكرناه القول بالرؤية تبعاً للعهدين، وكون القرآن قديماً غير مخلوق، مضاهياً لقول اليهود بقدم التّوراة، أو النّصارى بقدم المسيح، وقد أوضحنا الحال في هذه المباحث في الجزأين الماضيين.

2 _ فرقة المعتزلة التي تعتمد على العقل أكثر مما يستحقّه، وتزعم أنّ ظواهر بعض

( 8 )

النّصوص الواردة في الكتاب والسنّة، مخالفة لما يوحي إليهم عقلهم وفكرتهم، فيبادرون إلى تأويلها تأويلاً واهياً يسلب عن الكلام بلاغته، فينحطّ من ذروته إلى الحضيض، وهؤلاء هم المعروفون بالمعتزلة، وفي ألسن خصومهم ب_(القدريّة).

وقد كان الجدال بين الطّائفتين قائماً على قدم وساق بغلبة الاُولى على الثّانية تارة، وانتصار الثانية على الاُولى اُخرى، وقد كان لأصحاب السّياسة والبلاط دور واضح في إشعال نار الإختلاف بإعلاء إحداهما، وحطّ الاُخرى، حسب مصالحهم الوقتية، والغايات المنشودة لهم.

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

كان النزاع

يعلو تارة، وينخفض اُخرى، إلى أن دخل القرن الرابع الهجري، فأعلن الشيخ أبو الحسن الأشعري، في أوائل ذلك القرن، رجوعه عن الاعتزال الذي عاش عليه أربعين سنة، وجنح إلى أهل الحديث، وفي مقدّمتهم منهج إمام الحنابلة «أحمد بن حنبل»، لكن لا بمعنى اقتفاء منهجه حرفيّاً بلا تصرّف ولا تعديل فيه، بل قبوله لكن بتعديل فيه على وجه يجعله مقبولاً لكلّ من يريد الجمع بين النّقل والعقل، والحديث والبرهان، وقد أسّس في ضوء هذا منهجاً معتدلاً بين المنهجين وتصرّف في المذهب الاُمّ، تصرّفاً جوهرياً وقد أسعفه حسن الحظّ ونصره رجال في الأجيال المتأخرة، حيث نضّجوا منهجه، حتى صار مذهباً عامّاً لأهل السنّة في الاُصول، كما صارت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية في الفروع.

وفي الوقت الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها، وإقصاء المعتزلة عن السّاحة الإسلاميّة.

كلّ ذلك بالتصرف في المذهب وتعديله، وذلك المذهب الآخر هو مذهب

( 9 )

الماتريديّة للامام محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى عام 333 ه_) أي بعد ثلاثة أو تسعة(1) أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

والداعيان كانا في عصر واحد، ويعملان على صعيد واحد، ولم تكن بينهما أيّة صلة، فهذا يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه، وذاك يناضل المعتزلة في شرق المحيط الإسلامي (ما وراءالنّهر)، متقلّداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه، وكانت المناظرات والتيّارات الكلامية رائجة في كلا القطرين. فكانت البصرة _ يوم ذاك _ بندر الأهواء والعقائد، ومعقلها، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم، وكانت منبتَ الكرّامية وغيرهم أيضاً، نعم كانت المعتزلة بعيدة عن شرق المحيط الإسلامي، ولكن وصلت أمواج منهجهم الى

تلك الديار عن طريق اختلاف العلماء بين العراق وخراسان.

ولأجل انتماء الداعيين إلى المذهبين المختلفين نرى اهتمام الشافعية بترجمة الأشعري في طبقاتهم، واهتمام علماء الأحناف _ أعني المتكلّمين منهم _ بالماتريدي وإن قصروا في ترجمته في طبقاتهم، ولم يؤدّوا حقّه في كتبهم.

نعم انتماء الماتريدي للإمام أبي حنيفة في الفقهين (الأكبر والأصغر)(2) أمر واضح، فإنّه حنفيّ، كلاماً وفقهاً، وأكثر من نصره، بل جميعهم، من الأحناف، مثل فخر الاسلام أبي اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي (المتوفّى عام 493 ه_) والإمام النّسفي (المتوفّى عام 573 ه_) وسعد الدّين التّفتازاني (المتوفّى عام 791 ه_) وغيرهم كإبن الهمام والبياضي كما سيوافيك في تراجمهم، بخلاف انتماء الأشعري للامام الشافعي فإنّه ليس بهذا الحدّ من الوضوح.

______________________

1 . على اختلاف في تاريخ وفاته بين كونه في 330 أو 324 .

2 . سمّى أبو حنيفة الكلام بالفقه الأكبر، وعلم الشريعة بالفقه الأصغر، وقد سمّى بعض رسائله بهذين الاسمين كما سيوافيك.

( 10 )

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

المنهج الذي اختاره الماتريدي، وأرسى قواعده، وأوضح براهينه، هو المنهج الموروث من أبي حنيفة (م 150 ه_) في العقائد، والكلام، والفقه ومبادئه، والتاريخ يحدّثنا عن كون أبي حنيفة صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه، وقبل اتّصاله بحماد بن أبي سليمان الذي أخذ عنه الفقه.

وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر، بل معاصره أبو جعفر الطّحاوي صاحب «العقيدة الطحاوية» (م 321 ه_ ) مقتف أثر أبي حنيفة حتّى عنون وصدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطّحاوية بقوله «بيان عقيدة فقهاء الملّة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدبن الحسن»(1).

ويذكر عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب «الفَرْق بين الفِرَقِ» في كتابه الآخر «اُصول الدين» أنّ أبا حنيفة له كتاب في الرد

على القدرية سمّاه «الفقه الأكبر»، وله رسالة أملاها في نصرة قول أهل السنّة: أنّ الاستطاعة مع الفعل... وعلى هذا قوم من أصحابنا(2)، والرسائل الموروثة من أبي حنيفة أكثر ممّا ذكره البغدادي(3).

ولمّا كانت المسائل الكلامية في ثنايا هذه الرسائل، غير مرتّبة قام أحد الماتريديّة في القرن الحادي عشر، أعني به كمال الدين أحمد البياضي الحنفي، باخراج المسائل الكلامية عن هذه الرسائل من غير تصرّف في عبارات أبي حنيفة وأسماه «إشارات المرام من عبارات الامام» ويقول فيه: «جمعتها من نصوص كتبه التي أملاها على أصحابه من الفقه الأكبر، والرسالة، والفقه الأبسط، وكتاب العالم والمتعلّم، والوصيّة، برواية من الإمام حمّاد بن أبي حنيفة، وأبي يوسف الأنصاري، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله

______________________

1 . شرح العقيدة الطحاوية: ص 25، والشرح للشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي (المتوفى سنة 1298 ه_).

2 . اُصول الدين: ص 308 .

3 . وسيوافيك فهرس الرسائل الموروثة من أبي حنيفة، وقد طبع قسم كبير منها .

( 11 )

البلخي، وأبي مقاتل حفص بن مسلم السمرقندي.

وروى عن هؤلاء، إسماعيل بن حمّاد، ومحمّد بن مقاتل الرازي، ومحمد بن سماعة التميمي، ونصير بن يحيى البلخي، وشداد بن الحكيم البلخي، وغيرهم.

ثمّ قال: إنّ الامام أبا منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي روى عن الطّبقة الثانية، أعني نصير بن يحيى، ومحمّد بن مقاتل الرازي، وحقّق تلك الاُصول في كتبه بقواطع الأدلّة، وأتقن التّفاريع بلوامع البراهين اليقينيّة»(1).

هذه جذور منهجه واُسس مدرسته الكلامية.

لمحة عن حياة الماتريدي

لمحة عن حياة الماتريدي

من المؤسف جدّاً إهمال كثير من المؤرخين، وكتب التراجم، ذكر الامام الماتريدي، وتبيين خصوصيات حياته، بل ربّما أهملوا الإشارة إليه عندما يجب ذكره أو الإشارة إليه، فإنّ الرجل من أئمة المتكلّمين، وأقطاب التفسير في عصره فكان الإلمام

بحياته عند ذكر طبقات المتكلّمين والمفسرين لازماً، وهذا خلاف ما نجده من العناية المؤكّدة بذكر الأشعري، وتبيين حياته، والإشارة إلى خصوصياتها، حتّى رُؤاه، وأحلامه، وغلّة ضيعته، ولعلّ إحدى الدوافع إلى هذا، هي أنّ الأشعري استوطن في مركز العالم الاسلامي (العراق)، وشهر سيف بيانه وقلمه على الاعتزال في مركز قدرتهم، وموضع سلطتهم، فصار ذلك سبباً لأن تمدّ إليه الأعين، وتشرئب(2)نحوه الأعناق،فيذكره الصديق والعدو في كتبهم بمناسبات شتّى، وأمّا عديله وقرينه فكان بعيداً عنه، مستوطناً في نقطة يغلب فيها أهل الحديث وفكرتهم، وكانت السلطة في مجالي العلم والعمل لهم، فجهل قدره،ولم تعلم قيمة نضاله مع خصومهم، فقلّت العناية به،

______________________

1 . إشارات المرام من عبارات الامام للبياضي: ص 21 _ 22، وهذا الكتاب من المصادر الموثقة في تبيين المنهج الماتريدى بعد كتابيه «التوحيد» و «التفسير». ومثله كتاب «أصول الدين» للامام البزدوي.

2 . إشْرَأبّ إليه وله: مدّ عنقه أو ارتفع لينظر إليه.

( 12 )

وبعلومه، وأفكاره، والإشارة إليه.

ولأجل ذلك نرى ابن النديم (م 389) لم يترجمه في فهرسته، وفي الوقت نفسه ترجم الشيخَ الأشعري (م33ه_)، والامام الطحاوي شيخ الأحناف في مصر (م321ه_) مؤلّف «عقائد الطحاوي » المسمى ببيان السنّة والجماعة الذي اعتنى به عدّة من الأعلام بالشرح والتعليق.

هذا وقد أهمله جمع من المتأخّرين، فلم يترجمه أحمد بن محمد بن خلكان (م681ه_) في «وفيات الأعيان» مع أنّه ترجم للطحاوي، ولا صلاح الدين الصفدي (م764ه_) في «الوافي بالوفيات»، ولا محمد بن شاكر الكتبي (م764ه_) في «فوات الوفيات»، ولا تقي الدين محمد بن رافع السّلامي (م 774ه_) في «الوفيات»، ولم يذكره ابن خلدون (م808) في مقدمته في الفصل الذي خصّه بعلم الكلام، ولا جلال الدين السيوطي (م911ه_) في «طبقات المفسرين» مع كونه أحد

المفسرين في أوائل القرن الرابع، إلى غير ذلك من المعنيّين بتراجم الأعيان والشخصيات، ولم تصل أيديهم إليه، وإلى كتبه، ونشاطاته العلمية، ونضالاته مع خصوم أهل السنّة.

حتى إنّ من ذكره وعنونه، لم يذكر سوى عدة كليات في حقه، لا تلقي ضوءاً على حياته، ولا تبيّن شيئاً من خصوصياته، هذا والمعلومات التي وصلت إلينا بعد الفحص عن مظانّها عبارة عن الاُمور التالية:

1_ ميلاده:

اتّفق المترجمون له على أنّه توفّي عام (م333ه_)، ولم يعيّنوا ميلاده، ولكن نتمكّن من تعيينه على وجه التقريب من جانب مشايخه الّذين تخرّج عليهم في الحديث، والفقه، والكلام، فإنّ أحد مشايخه كما سيوافيك، هو نصير بن يحيى البلخي (المتوفّى عام 268ه_) فلو تلقّى عنه العلم وهو ابن عشرين يكون هو من مواليد عام (248ه_)، أو ما يقاربه، فيكون أكبر سنّاً من الأشعري بسنين تزيد على عشر.

( 13 )

2_ موطنه:

قد اشتهر الامام، بالماتريدي (بضم التاء) و«ماتريد» قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النّهر (جيحون)(1).

ويوصف بالماتريدي تارة، والسمرقندي اُخرى، ويلقب ب_ «علم الهدى» لكونه في خطّ الدفاع عن السنّة.

3 _ نسبه

ينتهي نسبه إلى أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، مضيف النّبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في دار الهجرة، وقد وصفه بذلك البياضي في «إشارات المرام»(2).

4 _ مشايخه وأساتذته:

قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ هم:

1 _ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

2 _ أبو نصر أحمد بن العياضي.

3 _ نصير بن يحيى، تلميذ حفص بن سالم (أبي مقاتل).

4 _ محمد بن مقاتل الرازي(3).

قال الزبيدي: تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي.. ومن شيوخه الامام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق، والتمييز.. ومن

مشايخه محمّد ابن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

______________________

1 . أحد الأنهار الكبيرة المعروفة كالنيل ودجلة والفرات.

2 . اشارات المرام: ص 23.

3 . المصدر نفسه.

( 14 )

والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهو من تلاميذ أبي يوسف، ومحمّد بن الحسن الشيباني.

وأمّا شيخه الرابع أعني محمّد بن مقاتل، فقد تخرّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط، واُخرى بواسطتين. فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث، وعن طريق الثالث(بن مقاتل) بواسطتين(1).

5 _ ثقافته:

إنّ ثقافته و آراءه في الفقهين، الأكبر والأصغر، ينتهي إلى إمام مذهبه «أبي حنيفة». فإنّ مشايخه الّذين أخذ عنهم العلم، عكفوا على رواية الكتب المنسوبة إليه ودراستها، وقد نقل الشيخ الكوثري أسانيد الكتب المرويّة عن أبي حنيفة عن النسخ الخطّيّة الموجودة في دار الكتب المصرية وغيرها، وفيها مشايخ الماتريدي. قال:

«ومن الكتب المتوارثة عن أبي حنيفة، كتاب الفقه الأكبر رواية عليّ بن أحمد الفارسي، عن نصير بن يحيى، عن أبي مقاتل (حفص بن سالم)، وعن عصام بن يوسف، عن حمّاد بن أبي حنيفة، عن أبيه، وتمام السند في النسخة المحفوظة ضمن المجموعة الرقم (226) بمكتبة شيخ الاسلام بالمدينة المنوّرة.

ونصير بن يحيى أحد مشايخ الماتريدي كما عرفت.

ومن هذه الكتب «الفقه الأبسط» رواية أبي زكريا يحيى بن مطرف بطريق «نصير بن يحيى» عن أبي مطيع، عن أبي حنيفة، وتمام السند في المجموعتين (24 و215 م) بدار الكتب المصريّة.

ومن هذه الكتب «العالم والمتعلّم» رواية أبي الفضل أحمد بن علي البيكندي الحافظ، عن حاتم بن عقيل، عن الفتح بن أبي علوان، ومحمّد بن يزيد، عن الحسن بن

______________________

1 . لاحظ: اتحاف السادة المتقين، ج 2 ص 5 .

( 15 )

صالح، عن أبي مقاتل حفص

بن سالم السمرقندي، عن أبي حنيفة، ويرويه أبو منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن محمد بن مقاتل الرازي، عن أبي مقاتل، عنه، وتمام الأسانيد في مناقب الموفّق والتّأنيب (73 و85).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي، رواية نصير بن يحيى، عن محمّد بن مقاتل الرازي، عن أبي مقاتل، عنه، وتمام الأسانيد في مناقب الموفق والتّأنيب (73 و85).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي رواية نصير بن يحيى، عن محمّد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وبهذا السند رواية الوصيّة أيضاً، وتمام الأسانيد في نسخ دار الكتب المصرية _ إلى أن قال: فبنور تلك الرسائل سعى أصحاب أبي حنيفة وأصحاب أصحابه في إبانة الحقّ في المعتقد .. إلى أن جاء إمام السنّة في ماوراء النهر، أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريدي المعروف ب_ (امام الهدى) فتفرّغ لتحقيق مسائلها، وتدقيق دلائلها، فأرضى بمؤلّفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد»، ثمّ ذكر مؤلفاته(1).

ترى أنّ أسناد هذه الكتب والرسائل تنتهي إلى أحد مشايخ الماتريدي وقد طبع منها: «الفقه الأكبر، الرسالة، العالم والمتعلّم، والوصيّة» في مطبعة حيدرآباد عام (1321ه_).

وهذه المؤلّفات لا تتجاوز عن كونها بياناً للعقيدة وما يصحّ الإعتقاد به، من دون أن تقترن بالدليل والبرهان، ولكنّها تحوّلت من عقيدة إلى علم، على يد (الماتريدي) فهو قد حقّق الاُصول في كتبه، فكان هو متكلّم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنّة في بلاد ماوراء النّهر، ولذلك سمّيت المدرسة باسمه، وأصبح المتكلّمون على مذهب الإمام أبي حنيفة في بلاد ماوراء النّهر، يسمّون بالماتريديّين، واقتصر إطلاق اسم أبي حنيفة على

______________________

1 . مقدمة اشارات المرام: ص 5 _ 6 .

( 16 )

الأحناف المتخصّصين في مذهبه الفقهي(1).

وفي

(مفتاح السعادة) : «إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفيّ، والآخر شافعي، أمّا الحنفي: فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي، وأمّا الآخر الشافعي: فهو شيخ السنّة أبوالحسن الأشعري البصري»(2).

وفي حاشية الكستلي(3) على شرح العقائد النسفية(4) للتفتازاني: «المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، هم الأشاعرة، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي، تلميذ أبي بكر الجرجاني، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة»(5).

ويقول الزبيدي: «إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية»(6).

6_ المتخرّجون عليه:

تخرّج عليه عدّة من العلماء منهم:

أ _ أبو القاسم إسحاق بن محمّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (ت340 ه_)

______________________

1 . مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 5 بقلم الدكتور فتح اللّه خليفة _ ط 1392 ه_ -، وهو المراد من «التوحيد» كلما اطلق في هذا الفصل.

2 . مفتاح السعادة ومصباح السيادة: ج 2 ص 22_23 طبعة حيدر آباد على ما في مقدمة محقق كتاب التوحيد للماتريدي.

3 . هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني (م 902).

4 . وهذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر وغيره، وما زال كذلك إلى يومنا هذا، وهو بمنزلة «شرح الباب الحادي عشر» عند الامامية، يعرض عقائد أهل السنة على مذهب الامام «الماتريدي» بشكل واضح.

5 . بهامش شرح العقائد النسفية: ص 17.

6 . اتحاف الس__ادة المتقين بشرح أس__رار اح__ياء علوم الدين:تأليف محمد بن محمد بن الحسيني، طبع القاهرة ج2 ص8.

( 17 )

ب _ الإمام أبواللّيث البخاري.

ج _ الامام أبومحمّد عبد الكريم بن موسى البزدوي، جدّ محمّد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف (اُصول الدين).

يقول حفيده: «ووجدت للشيخ الامام

الزاهد «أبي منصور الماتريدي السمرقندي» كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة، وكان من رؤساء أهل السنّة. حكى لي الشيخ الامام والدي _ رحمه الله _ عن جده الشيخ الامام الزاهد «عبد الكريم بن موسى» _ رحمه الله _ كراماته. فإنّ جدّنا كان أخذ معاني كتب أصحابنا، وكتاب التوحيد، وكتاب التأويلات من خلق(1) عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي _ رحمه الله _ إلا أنّ في كتاب التوحيد الذي صنّفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق و تطويل، و في ترتيبه نوع تعسير لولا ذلك لاكتفينا به(2).

7 _ أنصار مذهبه في الأجيال اللاحقة:

إنّ للمنهج الكلاميّ الموروث من أبي منصور الماتريدي، أنصاراً وأعواناً قاموا بإنضاج المذهب ونصرته، ونشره وإشاعته، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه مذهب الأشعري من الانتشار وكثرة الإقتفاء، وإليك ذكر بعض أنصاره:

1 _ القاضي الإمام أبو اليسر محمّد بن محمّد بن الحسين عبد الكريم البزدوي (المولود عام 421 ه_، والمتوفّى في «بخارى» عام 478 ه_) وقد عرفت كلامه في حقّ الماتريدي، وسيوافيك بعض كلامه عند البحث عن فوارق المنهجين، وقد ألّف كتاب اُصول الدين على غرار هذا المنهج، وسيوافيك الإيعاز إليه.

2 _ أبوالمعين النسفي (م502 ه_) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب فهو

______________________

1 . (كذا في النسخة).

2 . اُصول الدين للبزدوي: ص 3و 155_ 158.

( 18 )

عند الماتريديّة كالباقلاّني بين الأشاعرة، مؤلّف كتاب «تبصرة الأدلّة» الذي مازال مخطوطاً حتّى الآن، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب «التوحيد» للماتريدية الّذين جاءوا بعده(1).

3 _ الشيخ نجم الدّين أبو حفص عمر بن محمّد (م 537 ه_) مؤلف «عقائد النّسفي» ويقال إنّه بمنزلة الفهرس لكتاب «تبصرة الأدلّة» ومع ذلك ما زال هذا الكتاب محور الدّراسة في

الأزهر، وغيره، إلى يومنا هذا، كما تقدّم.

4 _ الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة، والمنطق، والكلام، وهو شارح «عقائد النسفي» الّذي أُلّف على منهاج الإمام الماتريدي، ولكن لم يتحقّق لي كونه ماتريديّاً، بل الظاهر من شرح مقاصده كونه أشعريّاً. خصوصاً في مسألة خلق الأعمال، وكونه سبحانه خالقاً، والعبد كاسباً.

5 _ الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام (المتوفّى عام 861 ه_) صاحب كتاب «المسايرة» في علم الكلام. نشره وشرحه محمّد محيي الدين عبد الحميد وطبع بالقاهرة.

6 _ العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب «إشارات المرام من عبارات الإمام» أحد العلماء في القرن الحادي عشر وكتابه هذا أحد المصادر للماتريديّة.

7 _ وأخيراً الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة، أحد الخبراء في الحديث، والتاريخ، والملل، والنحل. له خدمات صادقة في نشر الثقافة الإسلاميّة ومكافحة الحشوية والوهابيّة، ولكنّ الحنابلة يبغضونه وما هذا إلاّ لأنّ عقليّته لا تخضع لقبول كلّ ما ينقل باسم الحديث ولا سيّما فيما يرجع إلى الصفات الخبرية لله سبحانه الذي لا يفترق عن القول بالتشبيه والتجسيم قدر شعرة.

______________________

1 . مقدمة التوحيد: ص 5 .

( 19 )

8 _ مؤلّفاته و آثاره العلميّة:

سجّل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والامعان والتّحقيق، غير أنّ الحوادث لعبت بها، ولم يبق منها إلاّ ثلاثة، وقد طبع منها اثنان:

1 _ «كتاب التوحيد» وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريدية وشيوخها الّذين جاءوا بعد الماتريدي، واعتنقوا مذهبه، وهو يستمدّ في دعم آرائه من الكتاب، والسنّة، والعقل، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل، وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح اللّه خليف (عام 1970 م

، 1390 ه_) وطبع الكتاب في مطابع بيروت مع فهارسه في (412) صفحة وقد عرفت من البزدوي مؤلف «اُصول الدين» أنّ الكتاب لا يخلو من انغلاق في التّعبير، وهو لائح منه لمن سبره.

2 _ «تأويلات أهل السنّة» في تفسير القرآن الكريم، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنيّة، وقد مزجه بآرائه الفقهية والاُصولية وآراء اُستاذه الإمام أبي حنيفة، فصار بذلك تفسيراً عقيدياً فقهيّاً، وهو تفسير عامّ لجميع السور، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين، إلى آخر القرآن، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية (114) من سورة البقرة. حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين والسيد عوضين، وطبع في القاهرة عام (390ه_)، والمقارنة بين الكتابين تعرب عن وحدتهما في المنبع، والتعبير، والتركيب، فمثلاً ما ذكره في تفسير قوله: (رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) من الاستدلال على جواز الرؤية، هو نفس ما ذكره في كتاب التوحيد، إلى غير ذلك من المواضيع المشتركة بين الكتابين، ولكنّ التفسير أسهل تناولاً، وأوضح تعبيراً.

وأمّا كتبه الاُخر فإليك بيانها:

3 _ المقالات: حكى محقّق كتاب (التوحيد) وجود نسخة مخطوطة منه في المكتبات الغربيّة.

4_ مأخذ الشرايع، 5_ الجدل في اُصول الفقه، 6_ بيان وهم المعتزلة، 7_ ردّ كتاب

( 20 )

الاُصول الخمسة للباهلي، 8_ كتاب ردّ الإمامة لبعض الروافض، 9_ الردّ على اُصول القرامطة، 10_ كتاب ردّ تهذيب الجدل للكعبي، 11_ رد وعيد الفسّاق للكعبي أيضاً، 12_ رد أوائل الأدلّة له أيضاً.

9_ الفرق بين المنهجين: الأشعرية والماتريدية:

لا شكّ أنّ الإمامين، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة، والوقوف في وجه المعتزلة و _ مع ذلك _ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية، فضلاً

عن التّفاريع، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر، وقلّة العناية بالعقل والبرهان، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.

وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة، ويعلو على ذلك المنهج، الطّابع العقلي والإستدلال، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول، فضلاً عن الفروع، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها:

1_ قال أحمد أمين المصري: «لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات، بعضها يشرح مذهب الماتريدي ك_(العقائد النسفية) لنجم الدين النسفي، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري ك_(السنوسية) و(الجوهرة)، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة_ ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال

( 21 )

أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي»(1).

والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي «التوحيد والتفسير» و آراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا، على خلاف ما

ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى، ومعرفة وحدانيّته، واتّصافه بما يليق، وكونه محدثاً للعالم، كما روي ذلك عن أبي حنيفة، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان، ولا يحرم كفر قبل البعث.

فإذا(2) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري، فهناك من ذهب إلى خلافه، وإليك البيان:

2_ قال أبو زهرة: «إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان، ذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة، الماتريديّة، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين، الأشاعرة»(3).

يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان، مع أنّ بين

______________________

1 . ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 _ 95.

2 . المصدر نفسه.

3 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.

( 22 )

أهل الحديث طوائف المشبِّهة، والمجسِّمة، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً، وإنزال الكتب عبثاً، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي (عليه السلام) في خطبة بقوله «وأهل الأرض يومئذ (يوم بعث النّبي الأكرم) ملل متفرِّقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتّتة، بين مشبِّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير به إلى غيره»(1).

ويا للعجب!

إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى) . (الشورى/23)؟!! وعرّفهم رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه، وقال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي»(2).

وقد عرف الأبكم والأصمّ _ فضلاً عن غيرهما _ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب، والسنّة، والعقل السليم، فما معنى هذا التقسيم؟ «ما هكذا تورد يا سعد الإبل» و«تلك إذاً قسمة ضيزى»، «أهم يقسمون رحمة ربّك ...».

3_ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري: «الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلّما يوجد بينهم متصوّف، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي»(3).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً،

______________________

1 . نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25.

2 . حديث متفق عليه رواه الفريقان.

3 . مقدمة تبيين كذب المفتري: ص19.

( 23 )

كما سيأتي عند عرض مذهبهم، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين، أمراً لفظيّاً، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.

4_ قال محقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي، في مقدّمته: «إنّ

شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(1).

ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة، أو مجازاً، اختلافاً جوهريّاً، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته، أو زائدة عليه، أو جواز التّكليف بما لايطاق، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده، وتفسيره، وكتب أنصاره، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين، واختلافهما.

وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال:

«وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها»(2) وذكر بعد ذلك، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما، بين موجز في الكلام، ومسهب فيه، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال:

أ _ اُصول الدين للامام البزدوي، قال فيه تحت عنوان «ما خالف أبو الحسن

______________________

1 . مقدمة التوحيد، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18.

2 . اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.

( 24 )

الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة».

1 _ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه تعالى أفعالاً، وهي الخلق، والرزق، والرحمة، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها، وأفعال اللّه ليست بحادثة، ولامحدثة، ولا ذات الله، ولا غير الله تعالى، كسائر الصِّفات.

وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل، وقال: الفعل والمفعول واحد، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة، وعليه

عامّة أصحابه، وهو خطأ محض(1).

2_ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي والكفر ليست برضى اللّه، ولا محبّته، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.

وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي، ويحبّها، وهو خطأ محض أيضاً.

3_ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب، والإقرار باللّسان، وقال أبو الحسن: إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.

وذكر أبوالحسن في كتاب «المقالات» مذهب أهل الحديث، ثمّ قال: وبه نأخذ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا، فكان حبّه(2) في هذه المسائل قولان، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.

وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب(3).

______________________

1 . سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم.

2 . كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء.

3 . اُصول الدين للبزدوي: ص 245 _ 246.

( 25 )

ب _ «إشارات المرام من عبارات الامام» تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة(1).

ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف ب_ «شيخ زاده» طبع في القاهرة (عام1317 ه_).

د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة، طبع في حيدرآباد (عام 1332 ه_).

ه_: خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة (بالرقم 3441ج)(2).

و: قصيدة

في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي، مؤلّف (طبقات الشافعيّة الكبرى) المطبوعة بمصر (عام 1324 ه_) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم (202) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية(3).

وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً، لا لفظيّاً، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة، الموجودة بين المنهجين، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.

10 _ عرض مذهب الماتريدي:

ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل الحديث والأشعري، وقد عرضنا

______________________

1 . اشارات المرام: ص 53 _ 56.

2 . انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

3 . انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

( 26 )

عقائدهم في الجزء الأول من هذه السلسلة، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق فيها عن الأشعري، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما يتدرّع به الأشعري، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية، فإنّ القول برؤيته في النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان، ومن أجل ذلك قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد، وهو أنّ الرؤية تقع «بلا كيف» أو ما يفيد ذلك، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.

قال ابن عساكر: «قالت الحشويّة المشبِّهة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقاً بينهما فقال: يرى من غير حلول، ولا حدود، ولا تكييف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى، وهو غير محدود، ولا مكيّف»(1).

وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع الرؤية عند عرض عقائده(2).

وقال الماتريدي في

ذلك البحث: «فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام وقعود، واتّكاء وتعلّق، واتّصال وانفصال، ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور وظلمة، وساكن ومتحرِّك، ومماسّ ومباين، وخارج وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم، أو يقدره العقل، لتعاليه عن ذلك»(3).

يلاحظ عليه: أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات إنكار لها، وأشبه بالأسد بلا ذنب، ولارأس.

والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في كثير من المسائل الكلاميّة، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث:

1_ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر، ومجالاً أوسع، وذلك هو الحجر الأساس

______________________

1 . تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 _ 150.

2 . لاحظ الجزء الثاني: ص 201.

3 . التوحيد للماتريدي: ص 85.

( 27 )

للسمتين الأخيرتين.

2_ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه والتّجسيم من الأشعري، وأقرب إلى التّنزيه.

3_ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على المعتزلة، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في مختلف المسائل، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف، نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.

1 _ استيلاؤه على العرش:

1 _ استيلاؤه على العرش:

اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى، ومنها استيلاؤه على العرش، والأشعري يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل، وأنّ الله حقيقةً مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له، ويقول: «إنّ الله مستو على العرش الّذي فوق السّماوات» ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول: «يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الإستقرار» ويستشهد بما روي عن رسول الله: إذا بقي ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى، فيقول: من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له(1).

وعلى ضوء هذا فالأشعري

ممّن يثبت الصفات الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه، غاية الأمر يتدرّع بلفظة «على نحو يليق به» أو «بلا كيف» كما في الموارد الاُخر، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه بالصفات الخبريّة، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه، فهو يفارق الأشعري في التّفويض وعدمه، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه، فالأشعري من المثبتة بلا تفويض وتأويل، وهو من المثبتة مع التّفويض، كما أنّ المعتزلة

______________________

1 . الابانة: ص 85 .

( 28 )

من المؤوِّلة، وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزليّ، وإليك نصّه في مورد استوائه على العرش:

قال: «وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء» فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول ب_(الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى) على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء، لاحتماله غيره مما ذكرنا، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير محتمل شبه الخلق، ونؤمن بما أراد اللّه به، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه، نحو الرؤية وغير ذلك، يجب نفي الشبه عنه، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (1).

2_ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

2_ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله، واختلفا في طريق ثبوت هذا الوجوب، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعيّ، والمعتزلة على أنّه عقليّ، قال العضدي في المواقف: النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً، واختلف في طريق ثبوته، فهو عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم مسلكان:

الأوّل: الاستدلال بالظّواهر مثل قوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ)إلى آخره(2).

ولا يخفى وهن النّظرية، لاستلزامها الدور، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب، فإنّ

من لا نعرفه بوجه من الوجوه، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب، لزم الدور.

وأيضاً: لو كانت المعرفة تجب بالأمر، فهو إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره،

______________________

1 . التوحيد للماتريدي: ص 74.

2 . المواقف: ص 28 وشرحها ج 1 ص 124و الآية 101 من سورة يونس.

( 29 )

فالأوّل تحصيل للحاصل، وأمّا الثاني، فهو باطل، لاستحالة خطاب الغافل، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.

هذا ما عليه الأشاعرة، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي: «ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال، معرفة وجوده، ووحدته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر، والتّكذيب به، لا من البعثة وبلوغ الدعوة»(1).

القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.

3_ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:

3_ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:

إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة(2). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.

قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده (أبي منصور الماتريدي) إجمالاً عقلي، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة(3). كما في التوضيح وغيره، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه

______________________

1

. اشارات المرام: فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص 53.

2 . لاحظ الجزء الثاني: ص 310 _ 332.

3 . اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.

( 30 )

بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار، فشرعي، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي، والصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وكثير من متقدّميهم، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في (التبصرة البغدادية). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان، وحرمة الكفر واختاره المذكورون _ إلى أن قال:_ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع، ولا العفو عن الكفر، عقلاً، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه، كما في التنزيهات(1).

وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه:

1_ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ، وفاعل الآخر الذمَّ، سواء أكان الفاعل بشراً، أم انساناً، أم ملكاً، أم غيرهما، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.

2_ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله(2).

3 _ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق، يجعل العقل

موجِباً ومكلِّفاً _ بالكسر _ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً _بالفتح _، لأنّ شأن العقل هو الادراك، ومعنى إيجابه القيام بالحسن، والاجتناب عن ضدّه، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى

______________________

1 . اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة، ص 54 .

2 . اللمع: ص 116 .

( 31 )

المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم، فالمتّصف بكلّ الكمال، والمبرّأ عن كلّ سوء، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره، ويمتنع صدور غيره عنه، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال، وغنىُّ عن فعل القبح، يترك القبيح ولا يفعله، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب، والعقل كاشفه، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.

4_ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها (على فرض كون الثّواب بالاستحقاق). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه، والتّعذيب حقُّ له، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك.

4_ التكليف بما لا يطاق غير جائز:

4_ التكليف بما لا يطاق غير جائز:

ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال: «والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة: (أَنْبِؤُني بِأسْماءِ هؤلاءِ) (البقرة /31) يعني أسماء الخلق، وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في محلّها (1).

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب: 185 .

( 32 )

والماتريدي مخالف صنوه الداعي ويقول: «ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في (التبصرة) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور»(1).

هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة، وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه «التوحيد» بين مضيِّع القدرة فيجوز تكليفه، وبين غيره فلا يجوز. قال: «إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل، وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلاّ من يطيع» (2).

يلاحظ عليه:

1_ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل، كون الامتناع بالإختيار غير مناف للإختيار، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه اختياراً، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار، ولكنّه لمّا كان الإلقاء _ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل _ في اختياره، يعدّ القتل فعلاً اختياريّاً لا اضطراريّاً.

2_ أنّ من فقد القدرة، وعجز عن القيام بالعمل، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره، لا يصحّ تكليفه به عن جدّ، لأنّ فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع الذهن، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع، والتنديد، وغيرهما.

وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع قدرته يُعذَّب،

لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ولكن لا يصحّ تكليفه بعد الضياع، للغويّة الخطاب واستهجانه، وبذلك يظهر وهن برهان المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع، لما عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب

______________________

1 . اشارات المرام: ص 54 في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية.

2 . التوحيد: ص 266 .

( 33 )

بالتضييع، لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار، لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين بامتناع التكليف بما لايطاق، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة، وجعل نفسه في عداد العجزة، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة، ومن ضيّعها، ولما ضرب الجميع بسهم واحد.

5_ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:

5_ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض، وأنّه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح عليه شيء، واستدلّوا على ذلك بما يلي:

1_ لو كان فعله تعالى لغرض، لكان ناقصاً لذاته، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه، وهو معنى الكمال(1).

وقالت الماتريديّة: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد(2).

هل الغاية، غاية للفاعل أو للفعل؟

إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل، والغرض الراجع إلى فعله، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض، والغايات، والدواعي، والمصالح، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات، وغنيّاً في الصِّفات، وغنيّاً في الأفعال، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج

إلى شيء، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو، يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام، لا إلى وجوده وذاته، كما لا يخفى.

______________________

1 . المواقف: ص 331 .

2 . اشارات المرام: ص 54 .

( 34 )

تفسير العلة الغائية:

العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة، يراد منها في مصطلح الحكماء، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل،ومن الامكان إلى الوجوب، ويكون مقدّمة صورة وذهناً، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل، مثلاً النجّار لا يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه، ولولا تصوّر تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل، وعلى هذا فللعلّة الغائيّة دور في تحقّق المعلول، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل، وسوقه إلى العمل.

ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات، والوصف، والفعل، فكما أنّه تامّ في مقام الوجود، تامّ في مقام الفعل، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته، وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان، الذي لايقوم بالايجاد والخلق، إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة، مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.

هذا ما ذكره الحكماء، وهو حقّ لا غبار عليه، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن أيّة غاية وغرض، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين، يفعل (العياذ باللّه) بلا غاية، ويعمل بلا غرض، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته الأشاعرة واضح البطلان، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى، لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح

وحكم ينتفع بها العباد، وينتظم بها النظام، وإن لم تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه.

( 35 )

وبعبارة ثانية، لا نعني من ذلك أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية، فيقوم بهذا دون ذاك، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين، لا يختار منهما إلاّ ما يوافق شأنه، ويناسب حكمته، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور، فليس يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور، بل يعنى أنّه تام القادريّة لكلا العملين، لكن عدله، وحكمته، ورأفته، ورحمته، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.

هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم من دون أن يكون هناك استكمال.

دليل ثان للأشاعرة:

ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة في المقام، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل، وأنّها غير راجعة إلى الفاعل، بل إلى العباد والنّظام، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه وإليك نصّ كلامهم:

1_ «فان قيل: لانسلّم الملازمة، فإنّما الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.

قيل له: نفع غيره والاحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه، جاء الالزام، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً، أو مرجوحاً، لم يصلح أن يكون غرضاً له»(1).

وقد جاء بنفس هذا البيان «الفضل بن روزبهان» في ردّه على «نهج الحقّ» للعلاّمة الحلّي وقال:

«إنّه لا يصلح غرضاً

للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه، لا يكون باعثاً

______________________

1 . المواقف: ص 332 .

( 36 )

على الفعل، وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل، وأليق به من عدمه، فهو معنى الكمال، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده، ناقصاً بدونه»(1).

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الأصلح والأولى به، ما يناسب شؤونه، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه، كما أنّ كلّ فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه، فتفسير الأصلح والأولى بما يفيده ويكمِّله، تفسير في غير موضعه.

ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه إيجاد الأصلح والأولى، بل مقتضى كماله وحكمته، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح والأولى، ويترك اللّغو والعبث، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة ومن أبرزها كونه حكيماً، صار مقتضى ذلك الوصف، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه، فأين هو من حديث الاستكمال، والاستفادة، والالزام، والافراض، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف الآخر.

والحاصل، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة بالنسبة إلى كلا الفعلين: الفعل المقترن مع الحكمة، والخالي عنها، وذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن والقبيح، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ فعله بالأوّل، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان: حسن وقبيح. مثلاً، اللّه سبحانه قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكلّ، ولكن لا يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح

(على القول بهما) كونه ناقصاً في الفاعليّة، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكماليّة،

______________________

1 . دلائل الصدق: ج 1 ص 233 .

( 37 )

المنزهة عن خلافها، فجماله وكماله، وترفّعه عن ارتكاب القبيح، يطلب الفعل المناسب له، وهو المقارن للحكمة، والتجنّب عن مخالفتها.

والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل فهو كامل بلانهاية، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة و أين هو من الاستكمال.

دليل ثالث للأشاعرة:

وهناك دليل ثالث لهم حاصله: أنّ غرض الفعل خارج عنه، يحصل تبعاً له وبتوسّطه، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به، ليصلح غرضاً لذلك الفعل، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض(1).

وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة ويقول: لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت المطلوب، أو لا فيتسلسل وهو محال.

يلاحظ عليه:_ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره إلى الكون، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر، فالغاية من ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها، وأمّا الغاية في خلق العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه، وكمال بارئه.

إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى هناك أوائل الأفعال، وثوانيها، وثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي، ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل بالذات، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات

غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في وجوده.

هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر

______________________

1 . المواقف: ص 322 .

( 38 )

الجملي، فالغاية للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه وأجزائه إلى الكمال الممكن، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة في نفس النظام، ويعدّ صورة فعليّة له، فالله سبحانه خلق النظام، وأوجد فعله المطلق، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه الغاية حتّى تتسلسل، أو تصل إلى موجود لا غاية له.

وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله، غاية ذاتيّة، لأنّه عمل جميل بالذات، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا، لأنّه حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.

فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع النظام، لقلنا: بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن، لكان السؤال جزافياً ساقطاً، لأنّ العمل الحسن بالذات، يليق أن يفعل، والغاية نفس وجوده.

فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن، وإبلاغه إلى كماله فيض آخر، يتمّ به الفيض الأوّل، فالمجموع فيض من الفيّاض تعالى إلى الفقير المحتاج، ولا ينقص من خزائنه شيء، فأيّ كمال أحسن وأبدع من هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ

الجواب، مستتر في نفس السؤال وهو أنّه فعله لأنّه حسن بالذات، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية، ولا يحتاج إلى غاية اُخرى.

ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال: إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له: لماذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في

( 39 )

إحدى المراكز الصناعية، أو العلميّة، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ماهي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش، لوجدنا السؤال جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها، غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.

القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة:

والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون /115) وقال عزّ من قائل: (وما خَلَقْنَا السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين) (الدخان /38).

وقال سبحانه: (وَ مَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأرضَ وَ مَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) (ص /27) وقال سبحانه: (وَ مَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون) (الذاريات /56) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله، وتصرّح باقترانها بالحكمة والغرض.

وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه ولا مؤوّليها، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية، أو تأويلها، وهم يفرّون منه، وينسبونه إلى مخالفيهم.

عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة:

ومن الخطأ الواضح، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون

بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة بالأغراض، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول: «إنّ من المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة، مع أنّك قد علمت أنّ للطّبيعة غايات»(1) وقال أيضاً:

______________________

1 . الأسفار: ج 2، ص 59 .

( 40 )

«إنّ الحكماء ما نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً، بل إنّما نفوا عن فعله المطلق (إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة)وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة، والمقيّدة، فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة. كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها كما يعلم من مباحث الفلكيّات، ومباحث الأمزجة، والمركّبات، وعلم التشريح، وعلم الأدوية، وغيرها»(1).

وعلى ذلك فنظريّة الحكماء تتلخّص في أمرين:

1_ إنّ أفعاله سبحانه غير متّصفة بالعبث واللّغو، وإنّ هنا مصالح وحِكَماً تترتّب على فعله، يستفيد بها العباد، ويقوم بها النّظام.

2_ إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه الإطلاق، فليس لفعله غرض خارج عن ذاته، لأنّ المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني جملة واحدة، والغرض الخارج عن الذّات لو كان أمراً موجوداً فهو داخل في الوجود الإمكاني، وليس شيء وراءه، وعند ذاك فليس الغرض شيئاً خارجاً عن الذات وإنّما الغرض نفس ذاته، لئلاّ يكون ناقص الفاعليّة، لأنّ الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته في القيام بالفعل، آية كونه ناقصاً في الفاعليّة، والمفروض أنّه سبحانه تامّ في فاعليّته، غنيّ في ذاته وفعله عن كل شيء سوى ذاته.

ثمّ إنّ لهم بياناً فلسفيّاً ممزوجاً بالدليل العرفاني، يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه، وبه فسّروا قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) وقوله في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ، فخلقت الخلقَ

لكي أُعرف» والله سبحانه هو غاية الغايات، ومن أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى أسفارهم(2).

______________________

1 . الأسفار: ج 7، ص 84 .

2 . الأسفار: ج 2 ص 263 .

( 41 )

6 _ الماتريدية والصفات الخبرية:

6 _ الماتريدية والصفات الخبرية:

إنّ تفسير الصفات الخبرية أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين وجعلهم فرقاً متضادّة، وبما أنّ أهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها، اشتهروا بالصفاتيّة في مقابل المعتزلة الّذين يؤوِّلونها ولا يثبتونها بما يتبادر منها من ظواهرها، ولأجل أن نقف على نظريّة الماتريديّة في هذا المقام، ننقل كلام الامامين الأشعري والماتريدي ليعلم مدى الاختلاف بين المدرستين، وإليك كلام الأشعري أوّلاً، ثمّ كلام الماتريدي ثانياً:

أ _ كلام الامام الأشعري:

إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى) (طه /5) وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمَ الطَّيِّبُ)(فاطر/10) وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) (النساء /158) وقال عزّ وجلّ: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ) (السجدة/5). وقال حكايةً عن فرعون: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمواتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً)(غافر/36 _ 37) فكذّب فرعون نبيّ الله موسى _ عليه السلام _ في قوله «إنّ الله عَزّ وجلّ فوق السماوات والأرض» وقال عزّ وجلّ: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ)(الملك/16) فالسماوات فوقها العرش، فلمّا كان العرش فوق السماوات قال: (ءأمنتم من في السماء) لأنّه مستو على العرش الّذي فوق السّماوات، وكلّ ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: (ءأمنتم من في السماء)يعني جميع السماوات،

وإنّما أراد العرش الّذي هو أعلى السماوات. ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ ذكر السماوات فقال: (وجعل القمر فيهنّ نوراً)(نوح/16) ولم يرد أنّ القمر يملأهنّ جميعاً، وأنّه فيهنّ جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السّماء لأنّ الله مستو على

( 42 )

العرش الّذي هو فوق السماوات. فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض(1).

ومن تأمّل في ظواهر كلماته ودلائله لا يشكّ في أنّ الشيخ يعتقد بكونه سبحانه على العرش فوق السّماوات، وأيّ كلام أصرح من قوله «فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش» فلو صحّت نسبة النسخة من (الابانة) إلى الشّيخ، وكانت مصونة عن دسّ الحشويّة والحنابلة(2)، فهو من المشبّهة قطعاً، غير أنّه لدفع عار التشبيه والتجسيم عن نفسه، يتدرّع بلفظة «بلا كيف أو «على نحو يليق به» أو «من غير طول الاستقرار» وقد أوضحنا حال هذه الألفاظ في الجزء الثاني.

والعجب أنّ الشيخ يفسّر الرفع الوارد في الآيات تصريحاً، أو تلويحاً، بالرفع الحسّي. مع أنّ في نفس الآيات _ لدى التدبّر _ قرائن تدلّ على كون الرفع، هو الرفع المعنوي لا الحسّي والصعود المادّي.

وأعجب منه أنّه نسب إلى الكليم _ عليه السلام _ أنّه قال لفرعون: إنّ الله سبحانه فوق السماوات، فصار فرعون بصدد تكذيبه إذ قال لهامان: «ابن لي صرحاً لعلّي أطّلع إلى إله موسى» مع أنّه أشبه بالرجم بالغيب، إذ من الممكن أن يكون المصدر لاعتقاده بكون إله موسى في السماء، هو اجتهاده الشخصي الخاطئ، بأنّه إذا لم يكن إله موسى في الأرض كسائر الآلهة، فلا محالة هو في السماء، ولأجل ذلك طلب من هامان بناء

______________________

1 . الابانة: ص 85 _

86.

2 . إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري الماتريدي لا يرى للكتب المطبوعة باسم الأشعري أصالة لأنّها بحرفيتها نفس عقائد الحشوية مع أنّ المعروف أنّهم أعداء له.

يقول: وطبع كتاب (الابانة) لم يكن من أصل وثيق، وفي (المقالات) المنشور باسمه وقفة، لأنّ جميع النسخ الموجودة اليوم من أصل وحيد كان في حيازة أحد كبار الحشوية ممن لا يؤتمن لا على الاسم، ولا على المسمّى، بل لو صحّ الكتابان عنه على وضعهما الحاضر، لما بقي وجه لمناصبة الحشوية العداء له على الوجه المعروف، على أنّه لا تخلو آراؤه من بعض ابتعاد عن النّقل مرّة، وعن العقل مرة اُخرى، في حسبان بعض النظار كقوله في التحسين والتعليل، وفيما يفيده الدليل النقلي (مقدمة اشارات المرام: ص 7). أقول: إنّ الاعتزال عن العقل، وإعلان الالتحاق بأهل الحديث الّذين أعدموا العقل، والإلتجاء إلى كل ما سمي حديثاً لا ينتج إلاّ ما جاء في الكتابين، فلا وجه للتشكيك في مضامينهما.

( 43 )

الصرح.

ثمّ إنّ نقد كلام الشّيخ وتفسير الآيات الّتي استدلّ بها على كونه سبحانه في العرش،يحتاج إلى بسط في الكلام،وسوف نقوم بها عند عرض عقائد المعتزلة إن شاء الله.

إنّ الصفات المتشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، لا تتجاوز عن سبع عشرة، منها اليمين، والساق، والأعين، والجنب، والإستواء، والغضب، والرضى، والنور، على ما ورد في الآيات، والكفّ والاصبعان، والقدم، والنزول، والضحك، وصورة الرحمان، على ما ورد في الأحاديث الّتي لم تثبت صحّة أسنادها، وقد أرسلتها الحشويّة والحنابلة إرسال المسلّمات، وعلى أيّ حال فنظريّة الأشاعرة في هذه الصفات هي الإثبات متدرعّة بلفظة «بلا كيف»، أو «بلا تشبيه» أو ما يقرب ذلك.

ب _ كلام الماتريدي :

ما ذكره أبو منصور في (توحيده) يعرب بوضوح عن كون منهجه

هو التنزيه ظاهراً وباطناً، فهو بعدما نقل الآراء المختلفة صار بصدد تفسير الآية (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)فقال: إنّ الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان،فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جلّ عن التغيّر والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث الّتي بها عرف حدث العالم.

ثمّ ردّ على القائلين بكونه سبحانه على العرش، بأنّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ) (الأعراف / 54) فدلّك على تعظيم العرش(1).

______________________

1 . التوحيد: ص 69 و 70 .

( 44 )

ولأجل اختلاف المفسّرين في مفاد الآية، التجأ هو إلى «تفويض معناها إلى الله»، وقال: «وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ الله تعالى قال: (ليس كمثله شيء)فنفى عن نفسه، شبه خلقه، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بأنّ الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل. ثمّ لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره ممّا ذكرنا»(1).

فالماتريدي ينفي بتاتاً كونه سبحانه على العرش، حتّى على النّحو اللائق به الّذي ملأ كتب الأشاعرة وينزّهه عن تلك الوصمة، ولكن لّما كانت المعاني الأُخرى متساوية عنده، لم يجزم بشيء منه، وفوّض المراد إليه سبحانه، ولأجل ذلك لخّص البياضي نظريّة الامام الماتريدي وقال: «ولا يؤوّل المتشابهات ويفوِّض علمها إلى الله مع التنزيه عن إرادة ظواهرها»(2). ومراده من «المتشابهات»

هوالصفات الخبريّة الواردة في الكتاب والسنّة.

وأمّا البزدوي _ أحد أئمّة الماتريدية في القرن الخامس _ فيظهر منه الجنوح إلى إمكان الوقوف على مقاصد الكتاب في هذه الصفات. قال في مسألة «أنّ الله لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء»: فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنّه يوصف بالاتيان قال الله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَل مِنَ الغَمَامِ) (البقرة/210) وقال (وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ المَلِكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر / 22) ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) (يونس /3). والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأنّ له أيدياً وأعيناً، قال الله تعالى (ممّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعَاما) (يس/71) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور/48) وهذا من أمارات الأجسام.

ثمّ أجاب عن كلّ واحد بأنّا نصفه بذلك كما وصف اللّه تعالى به نفسه وهو

______________________

1 . التوحيد: ص 69 و 74 .

2 . اشارات المرام: ص 54 .

( 45 )

الصحيح من مذهب السنّة، فلا بدّ من الوصف بما وصف اللّه نفسه به، ولكن هذه الصِّفات ليست من صفات الأجسام، فإنّ الاتيان يذكر ويراد منه الظُّهور. قال الله تعالى: (فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَواعِدِ) (النحل/26) وقال (فَأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحتَسِبُوا) (الحشر/2) معناه _ واللّه أعلم _ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم _ إلى أن قال:_ وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإنّ الاستواء هو الاستيلاء على الشّيء والقهر عليه. قال اللّه تعالى: ( ولمّا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً) (القصص/14) معناه _ والله أعلم _ تقوّى حاله بتمام البِنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه، عبارة عن

الاستيلاء. فإنّه (لا) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرّاً عليه، فالمستقرّ على العرش مستو، فكان معنى قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرشِ الرَّحمن)(الفرقان/59) _ والله أعلم _ أى استوى عليه بعد خلقه، والله تعالى مستول على جميع العالم، إلاّ أنّه خصّ العرش بالذّكر لأنّه أعظم الأشياء وأشرفها، ثمّ ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين(1).

وكلّ من كلامي الاُستاذ والتّلميذ يعربان بوضوح عن اختلاف منهجهما مع منهج الامام الأشعري، فهو يثبت جميع هذه الصِّفات الخبريّة الظاهرة من كونه سبحانه جسماً وذا أعضاء، ولا يتحرّج من الإثبات، غاية الأمر يتدرّع بما عرفت، وهذا بخلاف الدّاعي الآخر وتلاميذ منهجه، فإنّهم لايخرجون من خطّ التنزيه، لكن بين مفوِّض غير قاطع بمراد الآية، أو مفسِّر لها مثل تفسير العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.

ثمّ إنّ الشيخ البزدوي أفاض الكلام في نقد ما استدلّ به الأشعري من كونه سبحانه على العرش من الآيات والرِّوايات في كتابه، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى المسألة (14) من كتابه(2).

______________________

1 . اُصول الدين: ص 25 _ 28 .

2 . اُصول الدين: ص 28 _ 31 .

( 46 )

وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري (أحمد أمين) حول عقيدة الأشاعرة في الصِّفات الخبرية، قال:«وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة،والنّزول عن البرد والعطاء،والضحك عن عفوه»(1).

وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف» والماتريديّة هم المفوِّضة، يفوِّضون معانيها إلى قائلها.

وكم لهذا الكاتب المصري من هفوات في بيان الطّوائف الاسلاميّة.

فقد كتب عقيدة الشيعة في كتابيه: «فجر الاسلام» و«ضحى الاسلام» وبين التقريرين في الكتابين بون بعيد. واللّه الحاكم. والعجب أنّه لم يعتمد على مصدر شيعيّ فيهما، وأعجب منه أنّه لم يشر إلى واحد من النّقود الّتي وجّهها علماء الشيعة إلى كتابه «فجر الاسلام»، مع أنّ بعضها طبع في نفس القاهرة عاصمة مصر ك_ «أصل الشيعة واُصولها». حيّا اللّه الحريّة في القضاء، والأمانة في النّقل.

7_ الاستطاعة قبل الفعل أو بعده:

7_ الاستطاعة قبل الفعل أو بعده:

اتّفق الإلهيّون على أنّ استطاعة الواجب سبحانه متقدّمة على الفعل، فهو سبحانه يوصف بالقدرة قبل إيجاد الأشياء، كما يوصف بها معه وبعده.

إنّما الكلام في استطاعة الإنسان على الفعل، فذهب الأشعريّ إلى كونها مقارنة للفعل ببيان عقليّ ذكره في اللّمع(2).

والماتريدي يفصِّل في المسألة بين العلّة النّاقصة الّتي يعبّر عنها باستطاعة

______________________

1 . ظهر الإسلام: ج 4 ص 94، الطبعة الثالثة عام 1964 .

2 . اللمع: ص 93 _ 94 .

( 47 )

الأسباب والآلات، وبين العلّة التامّة الّتي يعبّر عنها باستطاعة الفعل، وإليك نصّ عبارته في «التّوحيد»:

«الأصل عندنا في المسمّى باسم القدرة أنّها على قسمين: أحدهما: «سلامة الأسباب وصحّة الآلات» وهي تتقدّم الأفعال، وحقيقتها ليست بمجعولة للأفعال، وإن كانت الأفعال لا تقوم إلاّ بها، لكنّها نعم من الله أكرم بها من شاء، والثاني: معنى لا يقدر على تبيّن حدِّه بشيء يصار إليه، سوى أنّه ليس إلاّ للفعل لا يجوز وجوده بحال إلاّ ويقع به الفعل عندما يقع معه».

ثمّ حاول تفسير كثير من الآيات الّتي استدلّوا بها على تقدّم الاستطاعة على الفعل، بأنّ الاستطاعة الواردة فيها، هي استطاعة الأسباب والأحوال لا استطاعة الفعل(1).

8_ القدرة صالحة للضدّين:

8_ القدرة صالحة للضدّين:

القدرة في مقابل «الايجاب». فالثّاني لايصلح إلاّ للتعلّق بشيء واحد، كالنّار بالنسبة إلى الإحراق، وهذا بخلاف قدرة الانسان فإنّها يصحّ أن تتعلّق بالجلوس تارة، والقيام اُخرى.

وما ذكره من التفصيل في تقدّم الاستطاعة على الفعل، أو كونها معه، يأتي في المقام أيضاً. فالقدرة الناقصة الّتي يعبّر عنها بقابليّة الفاعل واستعداده، والّتي يعبِّر عنها الماتريدي بصحّة الأسباب والآلات، صالحة للضدّين.

وأمّا إذا وصل إلى حدّ وجب معه الفعل، فحينئذ تكون القدرة أحديّة التعلّق، لاتصلح إلاّ بشيء واحد. وقد نقل شارح

(المواقف) كلاماً عن الرازي يعرب عن كون النزاع بين الطرفين لفظيّا(2). وهو خيرة الماتريدي أيضاً حيث قال : «ثمّ اختلف أهل

______________________

1 . التوحيد: ص 256 _ 257 .

2 . شرح المواقف: ج 8 ص 154 .

( 48 )

هذا القول في قوّة الطّاعة، أهي تصلح للمعصية أم لا؟ قال جماعة: هي تصلح للأمرين جميعاً وهو قول أبي حنيفة وجماعته، وهذا القول أثبته جميع أهل الاعتزال». واستدلّ على ذلك بقوله «وأصل هذا أنّه لما كان سبب من أسباب القول يصلح للشيء وضدّه، فكذلك القدرة، مع ما في نفي أن يصلح للأمرين، فوت القدرة على فعل ضدّ الّذي جاء به، وقد يؤمر به وينهى عنه في وقته، فيلزم القول بالقدرة على الشّيء وضدِّه ليكون الأمر والنّهي على الوسع والقوّة»(1).

وقال البياضي: «والاستطاعة صالحة للضدّين على البدل، واختاره الإمام القلانسي، وابن شريح البغدادي كما في «التبصرة» لعبد القاهر البغدادي، وكثير منهم كما في (شرح المواقف»(2).

9_ الماتريدي وأفعال العباد:

9_ الماتريدي وأفعال العباد:

اتّفق المسلمون على أنّه لا خالق إلاّ اللّه واختلفوا في تفسيره في أفعال العباد و آثار الموجودات فذهب أهل السنّة إلى أنّه لا صلة بين الطبائع وآثارها. والطبائع وآثارها من صنع الخالق مباشرة من دون دخالة للطّبيعة ولو بنحو الشرط، والمعدّ في سطوعها على الطبيعة وقد اشتهر بين الأزهريّين قول القائل:

ومن يقل بالطّبع أو بالعلّة * فذاك كفر عن_د أه_ل الملّة

هذا كلّه في غير أفعال العباد، وأمّا فيها فذهبت الجهميّة أتباع جهم بن صفوان إلى أنّ العبد لا يقدر على إحداث شيء، ولا على كسب شيء، وهذه النظرية هي نظرية الجبريّة الخالصة، ولازم ذلك لغويّة بعث الرسل، وإنزال الكتب، وإغلاق باب المناهج التربويّة في العالم.

______________________

1 . التوحيد: ص 263 .

2 .

اشارات المرام: ص 55 .

( 49 )

وأهل الدقّة من أهل السنّة حاولوا الجمع بين حصر الخلق في اللّه سبحانه، وصحّة تكليف العباد، فقالوا إنّ الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب، والتكليف، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، بالملاك الثّاني دون الأوّل، وقد أخذوا مصطلح الكسب من الذّكر الحكيم. قال سبحانه (لهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتسبَتْ)(البقرة/286) لكنّهم اختلفوا في تفسير حقيقة الكسب إلى حدّ صارت النظرية إحدى الألغاز إلاّ ما نقل عن الماتريدي وإمام الحرمين من الأشاعرة، فقد استطاعوا من توضيحها إلى حدّ معقول ومقبول.

ولا يعلم مدى الاختلاف بين المدرستين في تفسير الكسب إلاّ بنقل نصوصهما في هذا المجال.

معنى الكسب عند الأشعري:

قال الفاضل القوشجي وهو من أئمّة الأشاعرة: «المراد بكسبه إيّاه، مقارنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاله»(1). وحاصله أنّه ليس للعبد دور في خلق الفعل وإيجاده، غير كونه ظرفاً ومحلا لخلق اللّه وإيجاده، غاية الأمر إنّ شرط إيجاده سبحانه هو قصد العبد وعزمه، فإذا قصد وعزم وحدثت فيه القدرة غير المؤثِّرة، خلق الله الفعل وأوجده، من دون أن يكون لقدرة العبد دور وتأثير، وهذه النظرية قد شغلت بال أئمّة الأشاعرة طوال قرون، وقد بذلوا الجهود لتبيينها فما أتوا بشيء يسكن إليه القلب.

إذ لقائل أن يسأل ويقول:

1_ إذا كان الخالق للفعل هو اللّه سبحانه مباشرة، ولم يكن لقدرة العبد دور فيه، فلماذا صار الإنسان هو المسؤول عن فعله دون الله سبحانه، مع أنّ الفعل فعله، لا فعل الإنسان.

______________________

1 . شرح التجريد للقوشجي: ص 444 _ 445 .

( 50 )

2_ إذا كانت القدرة الحادثة في العبد، غير مؤثِّرة في الإيجاد والتكوين، فما هو الغاية في إحداثها في

العبد، وإقداره على العمل، أليس هذا عملاً لغواً غير مناسب لساحة الفاعل الحكيم؟

3_ إذا كان قصد العبد وعزمه شرطاً لإيجاده سبحانه الفعل بعده، فيسأل عن نفس ذاك القصد فمن خالقه؟ فهل هو مخلوق للقاصد، أو للّه سبحانه؟ فعلى الأوّل تنتقض القاعدة « لا خالق إلاّ اللّه» ويثبت في صحيفة الكون، فعل مخلوق للعبد دونه سبحانه، وعلى الثاني تتّحد النظرية مع نظريّة الجهميّة الّتي عرّفوها بالجبريّة الخالصة، فإذا كان وجود العبد وقصده وقدرته غير المؤثرة فعلاً مخلوقاً للّه سبحانه فبأيّ ذنب يدخل العاصي النّار؟ وبأيّ عمل حسن، يثاب المطيع ويدخل الجنّة.؟

والحاصل، إنّ تفسير الكسب بإيجاده سبحانه فعل العبد عند عزمه وقصده، يدور أمره بين نقض القاعدة، أو ثبوت الجبر الخالص.

ولو تدبّر القوم في آيات الذّكر الحكيم خصوصاً في الآيات الناصّة على أنّه لا خالق إلاّ الله، لوقفوا على المعنى الصحيح من الآيات والمراد منها، وذلك لأنّ المراد من حصر الخالقيّة هو حصرها بالمعنى المناسب لشأنه سبحانه، وليس اللاّئق بشأنه إلاّ القيام بالايجاد مستقلاً من دون استعانة من أحد، وعليه فلا مانع من حصر الخالقيّة في اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه أن يكون العبد موجداً لفعله، بقدرة مكتسبة من اللّه وإذن منه سبحانه، وحصر الخالقيّة المستقلّة، غير المعتمدة على غيره، في اللّه سبحانه، لا ينافي نسبة الخالقيّة إلى بعض الممكنات، لكن خالقيّة مستندة إلى القدرة المكتسبة والمعتمدة إليه، وبالوقوف على اختلاف الخالقيّة المنسوبة إلى اللّه، مع الخالقيّة المنسوبة إلى عبده، يتحرّر المفسِّر من مشكلة الجبر وعقدته، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند عرض عقائد الأشعري(1).

______________________

1 . الجزء الثاني، ص 128 _ 158 .

( 51 )

نظريّة أبي حنيفة (شيخ الماتريدي) في الكسب:

إذا كان هذا معنى الكسب لدى

الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!

أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: «لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً، والايمان والكفر فعل العباد، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون،كسبهم على الحقيقة، واللّه خالقها»(1).

وقال في الفقه الأبسط (على ما في بعض نسخه): «والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية»(2).

ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.

كلام الماتريدي في أفعال العباد:

هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:

1 _ وجوب إضافتها إلى اللّه، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة، فلم

______________________

1 . اشارات المرام: ص 254 .

2 . المصدر نفسه .

( 52 )

يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.

2 _ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل، وقد نفى الله ذلك بقوله: (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم) (الرعد/16).

قال الشيخ (الماتريدي نفسه): وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم (العباد) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر

به والنهي عنه، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً، من نحو قوله: (وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم)(فصّلت/40) وقوله: (افعَلُوا الخَيرَ)(الحج/77) وفي الجزاء (يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ) (البقرة/167) وقوله: (جزاءً بما كانوا يَعمَلون) (الواقعة/24) وقوله: (فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة)(الزلزلة/7) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك، بل هي للّه، بأن خلقها على ما هي عليه، وأوجدها بعد أن لم تكن، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: (إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور، والمنهى، والمثاب، والمعاقب، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له، ولا قوّة إلا باللّه.

وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا، والعقاب لمن عصاه، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة، فالائتمار والانتهاء كذلك، ولا قوّة إلاّ باللّه.

وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه، أو يطيعها، أو يعصيها، ومحال تسمية الله عبداً، ذليلاً، مطيعاً، عاصياً، سفيهاً، جائراً، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له، فيكون هو الربّ، وهو

( 53 )

العبد، وهو الخالق والمخلوق، ولا غير ثمّة، وذلك مدفوع في السمع والعقل، ولا

قوّة إلاّ باللّه.

وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب _ إلى آخر ما أفاده..(1).

هذا كلام الماتريدي، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة (يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة) في مقابل قول الأشعري(2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله، واللّه هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل اللّه تعالى» ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من المجبِّرة، والجهميّة، والقدريّة، والأشعريّة، ويستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنيّة ويقول: «فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا، وهي مخلوقة الله تعالى، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع (حتّى الأشعرية). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله تعالى: (جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُون) (السجدة /17) (وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها) (البقرة/72) وقال: (إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ) (المائدة/6). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة، فلا بدّ أن يكون لنا فعل، ويجب أن يكون ذلك بهدايته، ومشيئته، وارادته»(3).

ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب «إشارات المرام» وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر (تفويض) بل أمر بين الأمرين،

______________________

1 . التوحيد: ص 225 _ 226 .

2 . اُصول الدين: ص 101 .

3 . اُصول الدين ص 99 و 104 _ 105 .

( 54

)

فقال: «وقال قوم من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار (أبوحنيفة) بقوله كسبهم على الحقيقة والله خالقها»(1).

ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور الماتريديّة والأشاعرة: «واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد، فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير أصلاً، واختاره الباقلاّني كما في (المواقف،) وهو مذهب السلف كما في الطريقة للمحقّق البركوي، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى، فلا تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال، ولا يلزم تماثل القدرتين»(2).

10_ صفاته عين ذاته:

10_ صفاته عين ذاته:

اتّفق المسلمون على إثبات صفات ذاتيّة للّه سبحانه مثل العلم، والقدرة، والحياة. ولكن اختلفوا في كيفيّة الإثبات، فالإماميّة من العدليّة على أنّ صفاته سبحانه ليست زائدة على ذاته، لا بمعنى سلبها عن ذاته، كما هو القول المنسوب إلى الزّنادقة، ولا بمعنى نيابة الذّات مناب الصِّفات، ولم تكن واقعيّاتها متحقّقة في الذات، بل بمعنى أنّها نفس العلم، والقدرة، والحياة، لا أنّ لها العلم، والقدرة، والحياة، فالصفات على القول الأوّل نفس الذّات وأنّه بلغ من الكمال والجمال رتبة صارت الذات نفس الانكشاف والاستطاعة، كما أنّها على الثاني اُمور زائدة على الذّات قائمة معها، قديمة كقدمها.

فالشيخ الأشعري يصرّ على النظريّة الثانية، ويستدلّ عليها بوجوه طرحناها على

______________________

1 . اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه، فهو ينقل عن الامام الباقر _ عليه السلام _ قوله: لا جبر ولاتفويض الخ .

2 . اشارات المرام: ص 55.

( 55 )

بساط البحث في محلّه، ولكنّ الظاهر من الماتريدي حسبما ينقله النسفي هو القول بالعينيّة. يقول النّسفي: «ثمّ اعلم إنّ عبارة

متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ اللّه تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصّفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازاً عما توهّم أنّ العلم آلة وأداة فيقولون: إنّ اللّه تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصِّفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي _ رحمه الله _ يقول: إنّ اللّه عالم بذاته، حيّ بذاته، قادر بذاته، ولا يريد منه نفي الصِّفات، لأنّه أثبت الصّفات في جميع مصنّفاته، وأتى بالدّلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأنّ ذاته يستحيل أن لايكون عالماً (1).

حصيلة البحث:

هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد عليهما، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل، وعلى ضوء هذا لا يصحّ لمحقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي أن يقول: «إنّ توسّط الماتريدي (بين أهل الحديث والمعتزلة) هو بعينه توسّط الأشعري، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(2).

لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من المسائل، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو صفة له قديمة بذاته، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات، إلى غير ذلك من الاُصول.

لكنّ الاتّفاق فيهما، وفي بعض الاُصول الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.

______________________

1 . العقائد النسفية: ص 76 .

2 . مقدمة التوحيد: ص 17 _ 18 .

( 56 )

نعم هناك مسائل اختلف الداعيان فيها، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً، ونحن نشير إلى قسم منها:

1_ الوجود نفس الماهية أو

غيرها؟

نقل البياضي في «إشارات المرام» أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة، ولدى الأشعري هو الوحدة.

والظّاهر كون الاختلاف لفظياً، والمراد هو الوحدة في عالم العين والتحقّق، والمغايرة في عالم التصور والذهن(1).

2_ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟

البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه(2).

يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.

وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان كالمجرّدات، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر، ليس هنا محلّ بيانه.

3 _ القدرة غير التكوين، والتكوين غير المكوِّن:

وممّا اختلف فيه الدّاعيان، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة.

______________________

1 . اشارات المرام: ص 53 و 94 .

2 . لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13 .

( 57 )

قالت الأشاعرة: إنّ الشأنيّ من الاستطاعة (إن شاء فعل) هو القدرة، والفعليّ منها (إذا شاء فعل) هو التّكوين، فليست هنا صفتان مختلفتان، بل وصف واحد بمعنى القدرة، له حالتان تحصلان باقتران المشيئة وعدمها، فالقدرة قديمة، والتّكوين حادث، وأمّا الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين، والصفات الفعليّة من الخلق، والرّزق، والرّحمة، والمغفرة، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.

وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة اُخرى أيضاً، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر، هل هو نفس المكوَّن (اسم المصدر) كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة، فهناك فعل بمعنى الخلق والتكوين، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.

قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة: إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث، بل

هو أزلي كالعلم والقدرة (المسألة الاُولى) والمكوّن والموجود غير التكوين، وكذا التخليق والخلق صفة الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق (المسألة الثّانية) وكذا الرحمة والإحسان وكذا الرزق والمغفرة، وجميع صفات الفعل للّه.

وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست بصفات الله تعالى، والفعل والمفعول واحد، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة مثل قولنا(1).

وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى صفة ذاتيّة هي التكوين، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود(2)، وليس بمعنى المكوّن(3).

والإمعان في هذه العبارات وأمثالها، يدلّ على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين، فالكلّ واقع تحته، لا تحت القدرة، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق(إن شاء فعل) وإن لم يفعل، وهذا بخلاف وصف التكوين،

______________________

1 . اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ «إشارات المرام» ص 69 .

2 . اسارة إلى المسألة الاُولى .

3 . اسارة إلى المسألة الثانية ص 53 .

( 58 )

وهو لا يصدق إلاّ مع وجود الفعل، وبما أنّ التكوين غير المكوّن، والأوّل قائم بذاته، بخلاف المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه، يكون التكوين أو الخلق وصفاً أزليّاً، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.

يلاحظ عليه:

1_ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة، وفعليّته في التكوين، لا تجعلانهما شيئين مختلفين، بل أقصى الأمر وحدتهما جوهراً، واختلافهما مرتبة.

وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.

2 _ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً أزليّاً، لاستلزمت أزليّته، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها، إذ لا يفارق وصف التكوين وجوداً عن وجود المكوّن، وهو ينافي اُصول التوحيد، ولو فسّر بشأنية التكوين، يكون بمعنى القدرة

لا شيئاً غيرها، وهو بصدد تصوير المغايرة.

وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال، ونقله عن بعض مخالفيه وقال: «ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل، كالكسر بلا مكسور، والضرب بلا مضروب، فلو قلنا بقدم الايجاد (التكوين) صرنا قائلين بقدم الموجودات، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد».

لكنّه تخلّص عنه بقوله: «انّ للّه تعالى فعلاً واحداً غير حادث، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها، كما أنّ لله تعالى قدرة واحدة، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها» (1).

______________________

1 . اُصول الدين ص 73 .

( 59 )

يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً، يخالف التوحيد ويضادّه، لأنّ قدم الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد، والمستغنى عن العلّة واجب، كذات الواجب، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.

وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره، وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج، والرأي المسبق، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعَت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار»(1).

3_ جعل التكوين غير المكوّن، والخلق غير المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه، فالايجاد هو المصدر، والموجود هو نتيجته، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب زيد عمراً، فالصّادر من زيد، يسمّى بالمصدر، والواقع على عمرو يسمى باسمه، فهل يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين، أمر قائم بالفاعل، وأمر قائم بالمفعول وهكذا غيره، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى المفعول يصير اسم المصدر، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.

4_ الكلام النفسي لا يسمع:

الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات

لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في «اشارات المرام»: «ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ عليه، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في «التبصرة» للامام أبي المعين النسفي»(2).

وقد استند الأشعري في جواز السماع على الدّليل الّذي استند عليه في جواز

______________________

1 . نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44 .

2 . إشارات المرام ص 55 .

( 60 )

رؤيته سبحانه، وجعل الملاك للسماع هو الوجود، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.

وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.

كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.

هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.

والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة، وإسدال الستر على وجهها.

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:

قد انتشر مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم الاسلامي، وكثرت أنصاره وأعوانه، بين مبيِّن مقاصده، إلى ذابّ عن براهينه ودلائله، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده، وأمّا مذهب الماتريدي فقد

نبت في نقطة بعيدة عن الحواضر، فقلّت العناية بنقله وشرحه.

وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره، وهو أنّ لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر

( 61 )

السنّة، طابع التعقّل، وقد كثرت الدعاية في عصر ظهوره، على ضدّ أهل التعقّل والتفكّر، وصار العكوف على النقل المحض، وترك التعقّل والبرهنة آية القداسة، والإمام بما أنّه أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري، ووافق في عدّة من الاُصول، منهاج المعتزلة، فصار هذا وذاك سببين لقلّة انتشاره، وندرة أنصاره.

ومع ذلك فقد شاع مذهبه بين علماء ماوراءالنهر فقاموا بنشر دعوته ومعاضدته، فألّفوا حول منهاجه، كتباً ورسائل منشورة وغير منشورة.

ولأجل ايقاف القارئ على أعلام الماتريديّين نأتي بترجمة عدّة منهم:

1_ أبواليسر محمّد البزدوي (421 _ 493ه_)

إنّ أرباب المعاجم من الأحناف وغيرهم قد قصّروا ولم يؤدّوا حقّ الماتريدي في كتبهم، فإذا كان هذا حال الاُستاذ فما ظنّك بحال التلامذة والأتباع، ولأجل ذلك نجد أنفسنا أمام ظلام دامس يلفّ حياة البزدوي، وأحسن مرجع للوقوف على حياته هو نفس كتابه «اُصول الدّين» الّذي حقّقه وقدّم له الدكتور «هانز بيتر لنس» ونشرته عام (1383ه_) دار إحياء الكتب العربية في القاهرة، ونقل محقّق الكتاب أنّه وجد عن طريق المصادفة في هامش كتاب خطّي لابن قطلوبغة «طبقات الحنفيّة» بجانب مَلْزَمة عن حياة البزدوي: روى السمعاني أنّه _ أي البزدوي _ ولد في عام (421ه_).

ويظهر من غير واحد من مواضع كتابه أنّه تلقّى العلوم على يد أبيه. يقول في مسألة: «هل الايمان مخلوق أو غير مخلوق، ولا يجوز الاطلاق بأنّ الإيمان مخلوق» ونحن نختار هذا القول، فإنّ هذا مذهب أبي حنيفة، وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع، عن «أبي حنيفة» روى لنا والدنا الشيخ الامام أبوالحسن محمّد بن الحسين

بن عبد الكريم _رحمة الله عليه _ هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم(1).

______________________

1 . اُصول الدين ص 155 _ 158 .

( 62 )

وقال في مسألة أنّ البعث حق: «وقد روى لنا الشيخ الامام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثاً متّصلاً إلى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم» (1).

ولم يكتف في تلقّي العلم بوالده، ويظهر من موضع من كتابه أنّه أخذ العلم عن غير واحد من أعلام عصره، ومنهم أبوالخطّاب. قال في مسألة (75): هكذا سمعت الشيخ أبا الخطّاب(2).

ثق_افت__ه:

ينتسب البزدوي إلى مدرسة الإمام أبي حنيفة، وهو يعترف بالصّراحة بانتمائه إلى المذهب الحنفي، كما ينتسب في العقيدة إلى مدرسة الماتريدي، وهو اُستاذ جدّ أبيه «عبد الكريم»(3) الّذي تلقّى العلوم بدوره عن الماتريدي.

ويظهر من مقدّمة كتاب اُصول الدّين أنّه قرأ أكثر الكتب المؤلّفة في ذلك العصر في الفلسفة والكلام، لا سيّما للمعتزلة والأشاعرة. قال: «نظرت في الكتب الّتي صنّفها المتقدّمون في علم التوحيد فوجدت بعضها للفلاسفة مثل «إسحاق الكندي» و«الاسفزاري» وأمثالهما، وذلك كلّه خارج عن الطريق المستقيم،زائغ عن الدّين القويم.

ووجدت أيضاً تصانيف كثيرة في هذا الفن من العلم «للمعتزلة» مثل «عبد الجبّار الرازي» و«الجبّائي» و«الكعبي» و«النظّام» وغيرهم.

وكذلك «المجسّمة» صنّفوا كتباً في هذا الفنّ مثل «محمّد بن هيصم» وأمثاله، ولا يحلّ النّظر في تلك الكتب، وقد وجدت لأبي الحسن الأشعري كتباً وغيره (غيرها ظ) في هذا الفنّ من العلم، وهي قريب من مائتي كتاب، والموجز الكبير يأتي على عامّة ما في

______________________

1 . اُصول الدين ص 156 .

2 . اُصول الدين ص 28 .

3 . نسبه هكذا: محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم .

( 63 )

جميع كتبه، وقد صنّف الأشعري كتباً كثيرة

لتصحيح مذهب «المعتزلة»، فإنّه كان يعتقد مذهب الاعتزال في الابتداء، ثمّ إنّ اللّه تعالى بيّن له ضلالة «المعتزلة» فتاب عمّا اعتقد من مذاهبهم، وصنّف كتاباً ناقضاً لما صنّف للمعتزلة. وقد أخذ علمه أصحاب الشافعي بما استقرّ عليه «أبو الحسن الأشعري» وقد صنّف أصحاب الشافعي كتباً كثيرة على وفق ما ذهب إليه الأشعري إلاّ أنّ أصحابنا من أهل السنّة والجماعة خطّأوا أبا الحسن في بعض المسائل مثل قوله: «التكوين والمكوّن واحد» ونحوه على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاءالله فمن وقف على المسائل الّتي أخطأ فيها أبوالحسن الأشعري، وعرف خطأه، فلا بأس بالنّظر في كتبه وإمساكها، وقد أمسك كتبه كثير من أصحابنا ونظروا فيها، الّذين هم رؤساء أهل السنّة والجماعة.

وقد صنّف أبومحمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطّان (1) ، كتباً كثيرة في هذا النّوع من العلم وهو أقدم من أبي الحسن الأشعري، فلم يقع في يدي شيء من كتبه، وعامّة أقاويله توافق أقاويل أهل السنّة والجماعة إلاّ مسائل قلائل لاتبلغ عشرة مسائل، فإنّه خالف فيها أهل السنّة والجماعة، وقد أخطأ فيها على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاء الله تعالى فلا بأس من إمساك كتبه، والنظر فيها لمن وقف على ما أخطأ من المسائل.

وقد وجدت للشيخ الامام الزاهد «أبي منصور الماتريدي السمرقندي» كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة والجماعة، وكان من رؤساء أهل السنّة والجماعة(2).

وهذا يعرب عن عكوفه على دراسة الكتب للفرق الكلاميّة وعرضها على الاُصول الّتي تلقّاها أنّها اُصول السنّة والجماعة.

تلامي__ذه:

قد تلقّى عنه عدّة من أكابر علماء الحنفيّة أشهرهم نجم الدين عمر بن محمّد

______________________

1 . توفي عبد الله بن سعيد عام 245 ه_.

2 . اُصول الدين 1 _ 3 وقد

عرفت ذيل كلامه في ما سبق .

( 64 )

النسفي (460-537ه_) وهو يقول في حقّ اُستاذه: «كان أبواليسر شيخ أقراننا في بلاد ماوراءالنهر، وكان إمام الأئمّة، وكان يفد عليه الناس من كل فجّ وقد ملأ الشرق والغرب بمؤلفاته في الاُصول والفروع»(1).

مؤلف____اته:

له مؤلفات منها:

1 _ تعليقة على كتاب الجامع الصغير للشيباني.

2 _ الواقعات.

3 _ المبسوط في بعض الفروع(2).

4_ اصول الدين المطبوع.

* * *

2 _ النسفي ميمون بن محمّد ( 418 _ 508 ه_)

ميمون بن محمّد بن معبد بن مكحول، أبو المعين النسفي الحنفي، أحد المتكلّمين البارعين على منهاج الماتريدي كان بسمرقند سكن «بخارى».

تآليفه: «بحر الكلام» وهو مطبوع، و«تبصرة الأدلة» مخطوط ويقال إنّه الأصل للعقائد النسفية لأبي حفص النسفي، توجد نسخة منه في القاهرة وغيرهما من الكتب.

وقد ترجم في الجواهر المضيئة ج 2: 189، وفي الأعلام لخير الدين الزركلي ج 7: 341، و ريحانة الأدب للمدرسي ج 6 ص 174، وذكر تآليفه الكاتب الجلبي في كشف الظنون.

______________________

1 . مقدمة اُصول الدين نقلاً من طبقات الحنفية لابن قطوبغة، المخطوطة.

2 . نفس المصدر .

( 65 )

3_ النسفي عمر بن محمّد (460 _ 537ه_):

عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعيل، أبو حفص المعروف ب_ «نجم الدين النسفي»، ولد ب_ «نسف» وتوفّي بسمرقند، وكتابه المعروف «عقائد النسفي» من الكتب المشهورة الّتي يدور عليه رحى الدراسة منذ قرون إلى يومنا هذا. ولأجل ذلك كتبت عليه الشروح والتعليقات، وهو على منهاج الماتريدي. وشرحه التفتازاني، وله ترجمة في «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» لمحمّد بن عبد الحي ،ص: 149 طبع في القاهرة عام 1324ه_. والجواهر المضيئة ج 1: ص 394، ولسان الميزان ج4: ص 327، والأعلام لخير الدين الزركلي ج 5: ص60 و

ريحانة الأدب للمدرسي ،ج 6:ص173، وقد تقدّم تتلمذه على البزدويّ.

4_ ابن الهمام: محمد بن عبد الواحد (790 _ 816 ه_):

محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري، كمال الدين المعروف بابن الهمام، متكلّم حنفي، له تآليف في الكلام والفقه، وقد ألّف «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة»، في الكلام، وهو مطبوع. حقّقه محمّد محي الدين عبد الحميد. ومن كتبه «فتح القدير» في شرح الهداية، ثمانية مجلّدات في فقه الحنفية، كما ألّف «التحرير» في اُصول الفقه وقد طبعا. له ترجمة في الفوائد البهية ص: 18، والجواهر المضيئة ،ج 2:ص 86، وشذرات الذهب ج7:ص 289 والأعلام للزركلي ج 2:ص 255، وغيرها.

5_ البياضي: كمال الدين أحمد بن حسن الرومي الحنفي _ (القرن 11):

هو من بيت قضاء، وفقه، وعلم، أخذ العلم ببلاده عن والده، والعلامة يحيى المنقاري، وغيرهما من أفاضلهم، وقد أُسند إليه منصب القضاء بحاضرة حلب الشهباء سنة 1077ه_، كما تولّى قضاء مكّة عام 1083ه_، ومن تآليفه «إشارات المرام من

( 66 )

عبارات الامام» الّذي طبع بتقديم محمّد زاهد بن الحسن الكوثري، الذي هو من دعاة الماتريديّة في العصر الحاضر وبتحقيق يوسف عبد الرزاق سنة 1368ه_، وقد وقفت على خصوصيات الكتاب في خلال الأبحاث السابقة.

هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة، وقلّت الدعاة إليها، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر، غير الشيخ الكوثري وأترابه، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها، لكونها منهاجاً وسطاً

بين العقليّة المحضة، والنّقلية الخاصّة.

إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة، فعلى طلاب الحريّة، السعي والإجتهاد، للتعرّف على الحقّ، وإزهاق الباطل، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.

بيان لقادة الفكر في الأمة:

إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين: الشرق والغرب، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين، وعن التفاني دونه _ إنّ هذا الغزو _ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن «كعب الأحبار»، و«تميم الداري» وأضرابهما، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال، على مايعتنقه من العقائد، لأنّه يضفي

( 67 )

لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.

ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري _ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابه _ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.

ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة، ولا الاعتدال في الرأي، فهم بين غارق في العقليّات، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان، وإن كان على

خلاف الحسّ والعقل.

هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل، واحترام حريّة الفكر، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.

ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول:

«ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ، كانت الحياة أقوم، فالحياة القيّمة _ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان _ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.

وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله:(أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(الأنعام /122). وقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا

( 68 )

يَعْلَمُونَ) (الزمر/9) وقوله: (يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات)(المجادلة 11) وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب) (الزمر/17 و18) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح، وترويج طريق العلم، ممّا لا ريب فيه.

ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.

إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي، ثمّ تدبّرت في آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل،

وتلقين النّبي _ صلىّ الله عليه وآله _ الحجّة لإثبات حقّ، أو لإبطال باطل، كقوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ) (المائدة/17) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه، كنوح وإبراهيم وموسى، وسائر الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم/10) وقوله: (وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ( لقمان/13) وقوله: (وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)(غافر/28) وقوله حكاية عن سحرة فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا)(طه/72) إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به، أو بشيء ممّا هو من عنده، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء، وهم لا يشعرون، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: (إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر) (العنكبوت/45) وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

( 69 )

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/183) وقوله في آية الوضوء: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة/6) إلى غير ذلك من الآيات(1).

يا اُمّه اثكليه(2):

قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد، وهو يرى أنّ لله

نزولاً كنزول الإنسان، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.

يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية، في جامع دمشق يهتف: أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا _ ثمّ نزل درجة من درج المنبر _ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول: «وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً.. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته(3).

اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم، ومعلّماً لتوحيدهم، وإليه يرحلون، وعن فتياه يصدرون، وكأنّه صار صنماً يُعبد، ويدور الحقّ مداره، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.

______________________

1 . الميزان ج 5 ص 273 _ 275.

2 . مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج 2 ص 426 حرف الياء.

3 . رحلة ابن بطوطة ط دار صادر، بيروت ص 95.

( 70 )

بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته، وكيان نحلته، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات

العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.

فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض، لا ينفكّ عن الحركة والسكون، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟

وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.

ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال:

فإن كان تجسيماً ثبوت استوائه * على عرشه إنّي إذاً لمجسِّم

وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته * فمن ذلك التشبيه لا أتكتّم

وإن كان تنزيهاً جحود استوائه * وأوصافه أو كونه يتكلّم

فعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا * بتوفيقه والله أعلى وأعظم(1)

______________________

1 . الصواعق المرسلة ج 1 ص 170 كما في المعتزلة ص 252 .

( 71 )

وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن:

علا في السماوات العلى فوق عرشه * إلى خلقه في البرّ والبحر ينظر

يداه بنا مبسوطتان كلاهما * يسحّان والأيدي من الخلق تقتر

نهينا عن التفتيش والبحث رحمة * لنا وطريق البحث يردي ويخسر

ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلا * لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر

وإنّ وليّ الله في دار خلده *

إلى ربِّه ذي الكبرياء سينظر

ولم يحمد الله الجدال وأهله * وكان رسول الله عن ذاك يزجر

وسنّتنا ترك الكلام وأهله * ومن دينه تشديقه والتقعّر(1)

ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب «علاقة الاثبات والتفويض» تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.

فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.

وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.

تم الكلام في الماتريدية

والحمد لله ربّ العالمين.

______________________

1 . مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص 425 _ 426 ط مصر، الطبعة الأولى .

( 72 )

المرجئة

المرجئة

المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر: أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخّرته. وقرئ أرجه، وأرجئه قال تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) (الأحزاب /51) و«الإرجاء» التأخير، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي(1).

وقال ابن الأثير في (النِّهاية): المرجئة تهمز، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ(2).

وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين:

1_ طال التشاجر في معنى

الإيمان في العصر الأوّل، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول

______________________

1 . لسان العرب مادة «رجأ».

2 . النهاية ج 2 ص 206 نفس المادة.

( 74 )

والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا من الإيمان جانب القول، وطردوا جانب العمل، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: «لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة».

وعلى هذا، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم، وشارب الخمر، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي _ عليه السلام _ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.

ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.

ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخّر عنهم.

يلاحظ على هذا الوجه: أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه، ولم يعتبروه جزءاً و شرطاً، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد، والاقرار باللّسان، بل لهم آراء في ذلك.

فاليونسيّة منهم (أتباع يونس بن عون) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله، والمحبّة، والخضوع له بالقلب، والإقرار باللّسان، أنّه واحد ليس كمثله شيء(1).

والغسّانية (أتباع غسّان المرجئ) زعمت

أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى،

______________________

1 . الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

( 75 )

فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله(1). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان(2).

وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً و أمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي، وأُخرى بالاقرار باللسان، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي:

أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.

قال ابن سعد: «كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن عليّ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان: «يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه» وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز» ! (3).

وقال ابن كثير في ترجمة الحسن: «وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره: كان أوّل من تكلّم في الإرجاء، وكتب في ذلك رسالة، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم: كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير، فلا يتولاّهم، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وق_ال أبوعب__يد: توفّي س__نة خمس وتسع_ين. وقال خلي_فة: توفّي

أيّام ع_مر بن عب_د الع_زي_ز

______________________

1 . الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

2 . فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص 135 _ 136.

3 . الطبقات الكبرى ج 5 ص 328.

( 76 )

والله أعلم»(1).

وقال ابن عساكر في تاريخه: «قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم، وكنت مع عمّي في حلقته، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فأكثروا، والحسن ساكت، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه»(2).

وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته:

«قال ابن حبان: كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب: أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه. قلت (ابن حجر): المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب

الايمان له في آخره قال: حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال: كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس: أما بعد، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقاده _ ثمّ قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر _رضي الله عنهما _ ونجاهد فيهما، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما، ونرجئ من

______________________

1 . البداية والنهاية ج 9 ص 140.

2 . تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 246 طبع دمشق 1332 ه_.

( 77 )

بعدهما ممّن دخل الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله _ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب»(1).

هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور:

1_ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة، وقد توفّي ولده الحسن (أصل الارجاء) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة، أو ما يقاربه.

2_ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر (وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة

ما كتبه) لغاية توحيد الكلمة، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين _ عليه السلام _ حيث كان الخطباء و وعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة، وتطلّعوا إلى أمر، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.

والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت

______________________

1 . تهذيب التهذيب: ج 2، ص 320 _ 321.

( 78 )

على هذه الفكرة.

3_ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر: «أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد، ليس بينهم اختلاف قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً، وكان أولى بالعدل أصحابه، وبعضكم يقول: كان عليّ أولى بالحقّ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق، فنحن لا نتبرّأ منهما، ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما»(1).

يلاحظ عليه: أنّه قتل عثمان أواخر عام (35) من الهجرة، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام (40ه_)، ومقتضى ما ذكره الدكتور، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من

القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ عشرون سنة، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء و أرحام الاُمّهات، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل، هو أنّ _ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة، وأوّل من أظهرها و طرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه:يا بنيّ: ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.

4_ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال:إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من

______________________

1 . فجر الاسلام: ص 279، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.

( 79 )

أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل «أبي بكرة» و«عبدالله بن عمر» و«عمران بن حصين» وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي..»(1).

5_ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين _ عليه السلام _، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة،

والخروج على الإمام المفترض الطاعة، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين: إمّا الإجتهاد، وخرق الحجب، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء، وإرجاء الأمر إلى الله، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته، فصار الثاني متعيّناً.

يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان: «ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة، حتى أصبحت وبالاً على الدّين، وشرّاً على المسلمين، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية»(2).

6_ يعتقد الكاتب المصري «أحمد أمين» أنّ المرجئة تكوّنت، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب، بل ولا يحكم بتخطئة فريق

______________________

1 . فجر الاسلام ص 280.

2 . عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص 41 ، كما في الغدير ، ج 8.

( 80 )

وتصويب آخر.

وما ذكره حدس لا أساس له، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين.. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.

والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فغشيت وجه الحقيقة، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث

الخطيرة، واقتحام المعارك المدلهمّة، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر، لكنّهم _ في زعمهم _ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.

7_ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة، وأخذ أصل آخر مكانه، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر، والمؤمن والكافر.

فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.

وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.

وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء _ يوم تكوُّنه _ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه، خضوعاً للدعايات

( 81 )

الفارغة، وتسليماً لها، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين، صلاحهم ودعم عروشهم.

فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور، وعبد الملك السفّاك، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.

والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة

اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين، إذ على ضوء ذلك، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.

عقيدة المرج_ئة:

لا تجد للمرجئة رأياً خاصّاً في أبواب المعارف والعقائد سوى باب الايمان والكفر، فكلامهم يدور حول هذين الموضوعين وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هوالتصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، أو ما يقرب من ذلك، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:

1_ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.

2_ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الإتصاف بالايمان، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى:

( 82 )

فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.

وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.

3_ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو(1).

هذه عقيدة

المرجئة عرضناها على وجه الإجمال. وقد تأثّر أهل السنّة ببعض هذه الفروع كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار، وجواز تخلّف الوعيد دون الوعد.

وهيهنا سؤال وهو أنّه إذا كانت حقيقة الإرجاء هو الاكتفاء في الحكم بالايمان بالتصديق القلبي، أو الإقرار باللسان، فما هو الوجه في لعنهم والتبرّي منهم، اذ ليست هذه النظرية بمجرّدها سبباً للّعن والتحاشي والتبرّي بهذه الدرجة.

والإجابة عنه: هي إنّ التبرّي منهم ليس لأجل هذه النّظرية، بل لأجل أنهّم جرّدوا الأعمال من الايمان ولم يعتقدوها من الفرائض(2) ولم يتقيّدوا بها في مجال الفعل والترك،ولأجل ذلك أصبح الايمان عندهم يتلخّص في التصديق القلبي،والإقرار اللّفظي.

ولا يخفى أنّ هذه العقيدة خاطئة جدّاً، إذ لو صحّت فعندئذ لا يتجاوز الايمان عن التصديق القلبي أو الإقرار باللسان، فما أسهل الإسلام وأيسره لكلّ من انتسب إليه ولو انتساباً شكليّاً.

______________________

1 . ذكر الشيخ الأشعري فروعاً آخر لهم في هذا المجال. لاحظ مقالات الإسلاميين ص 126 _ 147.

2 . كنز الفوائد ص 125 ط بيروت.

( 83 )

قال الصاحب بن عبّاد: ادّعت المرجئة أنّ قاتل النفس بغير الحقّ، وسارق المال، ومخيف السبل ومرتكب الزنا، وشارب الخمر، لايقطع أنّهم من أهل النار، وإن ماتوا مصرّين. وقالت العدليّة: بل هم من أهل النار مخلّدون لا يجدون عنها حولاً، لأنّ الله أخبر ( وَ إِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم) (الانفطار/14) ولم يخصّ فاجراً عن فاجر، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٌ *يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّين * وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) (الانفطار/13 _ 16) وقال تعالى: (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء/93)

فإن قالوا فقد قال الله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذِلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/48) فالجواب أنّه تعالى قال في هذه الآية: « لمن يشاء» والمشيئة مغيّبة عنّا، إلى أن نعرفها بالأدلّة، وقد بيّن «من يشاء» بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء/31) فهو يكفّر الصغائر بتجنّب الكبائر، والكبائر بالتوبة، قال سبحانه : (وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (الزمر/54)(1).

وهنا وجه آخر للعنهم وهو يرجع إلى قولهم بالإرجاء بالمعنى الأوّل أعني التوقّف في أمر الامام عليّ أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وعدم الحكم بشيء فيه من الإيمان وضدّه. وأيّ مصيبة أعظم من التوقّف في ايمان أخي رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وصنوه ووزيره، وهو الصدّيق الأكبر، وأوّل المؤمنين. قال _ صلوات الله عليه _: «ولقد كنت أتّبعه (الرسول) اتّباع الفصيل أثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة ب_(حراء)، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة»(2).

______________________

1 . الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل للصاحب (385ه_) ص 23 المطبوع ضمن نفائس المخطوطات.

2 . نهج البلاغة: الخطبة القاصعة ج 3 ص 161 _ 182 بالرقم 187.

( 84 )

أفي مثله يتوقّف الإنسان المنصف في الحكم بإيمانه؟

فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة * وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تبيين حقيقة الإيمان وتحديده لغةً وكتاباً وسنّةً.

آراء ونظريات حول الإيمان:

اختلف العلماء في ماهيّة

الإيمان ولهم أقوال أربعة نعرضها مع التحليل:

1_ الايمان هو معرفة الله بالقلب فقط، وإن أظهر اليهوديّة، والنصرانية، وسائر أنواع الكفر بلسانه، فإذا عرف الله بقلبه فهو مؤمن. نسب إلى الجهم بن صفوان وغيره.

2_ إنّ الايمان هو إقرار باللّسان بالله تعالى وشريعته، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.

3_ الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وأنّ الأعمال ليست إيماناً، ولكنّها شرائع الايمان، وهو قول جماعة من الفقهاء وهو الأقوى كما سيوافيك.

4_ الايمان هو المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وأنّ كلّ طاعة واجبة، بل الأعمّ منها ومن النافلة فهي إيمان وكلّما ازداد الإنسان عملاً إزداد ايماناً، وكلّما نقص نقص إيمانه(1).

وإليك تحليل الآراء والأقوال:

ما هوالايمان لغةً وكتاباً:

إنّ الإيمان لغة هو التصديق، وهو على وزن «إفعال» من الأمن بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم وجود سبب الخوف، فحقيقة قوله «آمن به» : أذعن به، وسكنت نفسه، واطمأنّت بقبوله فيؤول «الباء» في الحقيقة إلى السببية، وهو تارة يتعدّى

______________________

1 . الفصل ج 3 ص 188، ونسب إلى محمد بن زياد الحريري الكوفي قول خامس ساقط جداً، ومن شاء فليرجع إليه.

( 85 )

بالباء كما في قوله تعالى: (آمنّا بما أنْزَلْت) «آل عمران/53) واُخرى باللام كقوله سبحانه: (وما أنتَ بِمُؤْمِن لَنا)(يوسف/17) وقوله تعالى: (فآمَنَ لَهُ لُوطٌ)(العنكبوت/26).

فإذا كان الإيمان بمعنى التّصديق لغة، فهل يكفي التصديق لساناً فقط، أو جناناً فقط، أو لا يكفي هذا ولا ذاك، بل يشترط الجمع، والظّاهر من الكتاب العزيز هو الأخير. فالإيمان بمقتضى الآيات عبارة عن التّصديق بالقلب، الظّاهر باللسان، أو ما يقوم مقامه، ولا يكفي واحد منهما وحده. أمّا عدم كفاية التصديق القلبي فلقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم ظُلْماً وَ

عُلُوّاً) (النمل/14) وقوله سبحانه: (فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (البقرة/89) فأثبت لليهود المعرفة وفي الوقت نفسه الكفر. وهذا يعرب عن أنّ الاستيقان النفساني لا بدّ له من مظهر كالإقرار باللسان، أو الكتابة، أو الإشارة كما في الأخرس.

ويمكن أن يقال إنّه يكفي التّصديق القلبي، ولكنّ الإنكار باللسان مانع، فلو علم أنّه مذعن قلباً، ولم ينكره لساناً، لكفى في الحكم بالايمان، كما كفى في تحقّقه واقعاً.

وأمّا عدم كفاية التّصديق اللّساني فلقوله تعالى : (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ) (الحجرات/14) والأعراب صدّقوا بألسنتهم، وأنكروه بقلوبهم أو شكّوا فيه. وهؤلاء جروا في توصيف أنفسهم بالايمان على مقتضى اللّغة، وادّعوا أنّهم مصدّقون قلباً وجناناً، فردّ الله عليهم بأنّهم مصدّقون لساناً، لا جناناً، وأسماهم مسلمين، ونفى كونهم مؤمنين.

وعلى ضوء هذه الآيات يتبيّن فساد القولين الأولين وتظهر قوةّ القول الثالث وهو كون الايمان لغة: هو التّصديق القلبي، لكنّ الكتاب العزيز دلّ على عدم كفاية التصديق القلبي وأنّه يشترط أن يكون معه إقرار أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة يدلّ على التسليم الباطني، وقد عرفت ما احتملناه أخيراً.

وأمّا الأثر المترتّب على الإيمان بهذا المعنى في الدنيا فهو حرمة دمه وعرضه وماله

( 86 )

إلاّ أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.وأمّا الأثر المترتّب عليه في الآخرة فهو صحّة أعماله واستحقاق الثواب عليها _ لو قام بها _ وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة.

وأمّا السّعادة الاُخرويّة فهي رهن العمل كما يأتي بيانه. فمن صدّق لساناً وجناناً، ولكن تجرّد عن العمل والامتثال، فهو مؤمن فاسق، وليس بكافر (خلافاً للخوارج) ولا هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الايمان والكفر (خلافاً للمعتزلة) ولا يكفي في

النّجاة، بل _ إن لم يتب _ يدخل النار ويعذّب فيها.

وهذه هي النقطة الّتي يفترق فيها أهل الحقّ عن المرجئة، فإنّهم يقولون إنّ التصديق لساناً أو جناناً أو معاً، يكفي في النجاة من النار و دخول الجنّة، ويثيرون في العصاة روح الطغيان على المُثل والأخلاق، اعتماداً على أنّهم مؤمنين وإن فعلوا الكبائر وارتكبوا الموبقات. هذا هو الحقّ القراح، وإليك تحليل أدلّة سائر الأقوال على ضوء الأقوال الّتي سردناها في صدر البحث.

هل الايمان هو التصديق القلبي؟

استدلّ القائل بأنّ الإيمان هو التّصديق القلبي مضافاً إلى ما مرّ من الآيات في صدر البحث(1) بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين، وخاطبنا الله بلغة العرب، وهو في اللغة التصديق، والعمل بالجوارح لايسمّى ايماناً.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في إثبات خروج العمل عن حقيقة الايمان، وأمّا كون التصديق بالقلب كافياً في صدق الايمان فلا يثبته، كيف وقد دلّت الآية على أنّ الجحد لساناً أو بغيره، والاستيقان قلباً يوجب دخول الجاحد في عداد الكفّار. قال سبحانه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل/14).

______________________

1 . (وما أنت بمؤمن لنا) (يوسف / 17) (ف آمن له لوط) (العنكبوت / 26).

( 87 )

غاية ما يمكن أن يقال ما عرفت من أنّ التصديق القلبي كاف في تحقّق الايمان، والجحد لساناً مانع، فلو تحقّق التصديق القلبي ولم يقترن بالجحد عناداً لكفى في كون الرجل مؤمناً ثبوتاً وواقعاً، وأمّا الحكم بكونه مؤمناً إثباتاً فيحتاج إلى إظهاره باللسان، أو بالعمل، أو العلم بكونه معتقداً بطريق من الطّرق.

ثمّ إنّ ابن حزم الظاهري (ت456ه_) أورد على هذا القول بوجهين:

الأوّل: أنّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق، لأنّه لا يسمّي التصديق بالقلب دون التصديق باللسان ايماناً في لغة العرب، وما قال قطّ عربيّ

إنّ من صدّق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه، أنّه يسمّى مصدّقاً به ولا مؤمناً به. وكذلك ما سمّى قطّ التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً.

الثاني: لو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق إسم الايمان لكلّ من صدّق بشيء ما، ولكان من صدّق بإلهيّة الحلاّج والمسيح والأوثان مؤمنين، لأنّهم مصدّقون بما صدّقوابه(1).

يلاحظ عليه: أنّ الوجه الأوّل صحيح لو رجع إلى ما ذكرنا من كون الإنكار باللسان مانعاً وإلاّ فلو صدّق قلباً ولم ينكره بلسانه فهو مؤمن لغةً وقرآناً. غير أنّ الحكم في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل من الإقرار باللسان، أو الكتابة باليد، أو الإشارة بالجوارح.

وأمّا الوجه الثّاني، فهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان وكم لهذا الرجل من كلمات واهية. أضف إليه ما في كتابه من بذاءة في الكلام وتحرّش بالسباب وتحكّك بالوقيعة.

هل الايمان هو الإقرار باللسان؟

إنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه ومن بعدهم، اتّفقوا على أنّ من أعلن بلسانه بشهادة

______________________

1 . الفصل: ج 3، ص 190

( 88 )

الإسلام فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

أضف إليه قول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء «اعتقها فإنّها مؤمنة»(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم لهم بالايمان كان بحسب الظّاهر لا الحكم بأنّه مؤمن عند الله واقعاً، ولذلك لو علم عدم مطابقة اللّسان مع الجنان يحكم عليه بالنفاق. قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ)(البقرة/8). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «أُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله الاّ الله ويؤمنوا بما اُرسلت به،

فإذا عصموا منّي دماءُهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله» وبذلك يظهر وجه حكمهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء «بأنّها مؤمنة».

روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّي لم اُبعث لأشقّ عن قلوب الناس.

إلى هنا تبيّن فساد القولين الأوّلين، وأنّ الحقّ هو القول الثالث، وعرفت الأثر المترتّب عليه، إنّما المهم هو نقد القول الرابع الّذي يجعل العمل جزءاً من الإيمان وإليك البحثفيه:

ليس العمل جزءاً من الايمان:

إذا كانت المرجئة في جانب التّفريط، فالخوارج المكفّرة لمرتكبي الكبائر، والمعتزلة القائلة بأنّ من فقد العمل، فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، في جانب الإفراط. فإنّ الذكر الحكيم _ مع الدعوة المؤكّدة إلى العمل _ لايرى العمل جزءاً من الإيمان بل يعطفه عليه، ويراه كمالاً له، لا عنصراً دخيلاً فيه. ويكفي في ذلك الآيات التالية:

______________________

1 . نفس المصدر ، ص 206.

( 89 )

1_ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحَاتِ) (البقرة/277) فالعطف يقتضي المغايرة، فلو كان العمل داخلاً فيه لزم التكرار، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يحتاج الى وجود نكتة لذكره بعده، إلاّ أن يقال: إنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنفل، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد بها خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرّمات، فحينئذ يصحّ عطف الخاص على العام لحصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

نعم، الآية تصلح دليلاً على ردّ مقالة من جعل مطلق العمل _ فرضاً كان أو نفلاً _ جزءاً من الإيمان.

2_ (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ) (طه/112) والجملة حالية والمقصود: عمل صالحاً حال كونه

مؤمناً، وهذا يقتضي المغايرة.

3_ (وَ إِنْ طِائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إْحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ) (الحجرات/9) فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية وقال ما هذا معناه: «فان بغت احدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الاُخرى منهم» إلاّ أن يقال: إنّ اطلاق المؤمن بلحاظ حال التلبّس أي بما أنّهم كانوا مؤمنين قبل القتال، لا بلحاظ حال الجري والتكلّم.

4_ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ) (التوبة/ 119). فأمر الموصوفين بالايمان، بالتقوى، أي الاتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات، فدلّ على أنّ الايمان يجتمع مع عدم التقوى وإلاّ كان الأمربه لغواً وتحصيلاً للحاصل، إلاّ أن يحمل الأمر على الإستدامة فيخرج عن كونه تحصيلاً للحاصل.

5_ الآيات الدالّة على كون القلب محلاّ ً للايمان.

منها قوله تعالى: (اُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) (المجادلة /22). ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلا لجميعه. وقوله سبحانه : (وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي

( 90 )

قُلُوبِكُمْ)(الحجرات/14) وقوله تعالى: (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيمَانِ)(النحل/106).

6 _ آيات الطّبع والختم، فإنّها تشعر بأنّ محلّ الإيمان هو القلب، ولأجل ذلك من طبع أو ختم على قلبه لا يؤمن أبداً.

قال تعالى: (اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِم) (النحل/108) وقال سبحانه: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ)(الجاثية/23).

فإن قلت: دلّ الكتاب على أنّ الايمان عبارة عن التصديق الظّاهر بالإقرار باللّسان أو نحوه. فعندئذ كيف يكون محلّه هو القلب مع أنّ جزءاً منه الإظهار باللّسان ونحوه.

قلت: قد عرفت أنّ الايمان لغة هو التّصديق قلباً، غاية الأمر دلّ الدّليل على عدم كفايته إذا أنكره وجحده باللّسان وإن أذعن به في القلب. بل يمكن أن يقال: إنّ

الايمان هو التّصديق المورث للسكون والسكينة والتسليم. والجاحد بلسانه لا تحصل له تلك الحالة وإن حصل له العلم، لكن ليس كلّ علم ملازماً للإيمان بل هو أخصّ منه. ولأجل ذلك قال سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء/65) فالايمان هو المعرفة المورثة للسكون، الباعثة إلى التسليم، ولا تحصل تلك الحالة للجاحد الحاقد.

هذا هو مقتضى الكتاب، ويؤيّده الإجماع حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحّة العبادات، ولا يكون الشيء شرطاً لصحّة جزئه.

وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان، ايمان. وإليك بعضها:

روى الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده و

( 91 )

رسوله، ويقرّ بالطّاعة، ويعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن(1).

ومثله غيره.

وأمّا زيادة الايمان ونقصانه، فالظّاهر من المتكلّمين أنّ الإيمان لو كان هو التّصديق فلا يزيد ولا ينقص، بخلاف ما لو جعلنا العمل جزءاً منه فهو يزيد وينقص بزيادته ونقصانه.

والتّحقيق _ كما سيأتي _ خلافه، فهو على كلا القولين يزيد وينقص، لأنّ التصديق ذو مراتب، والتسليم مثله ذو درجات، وليس تسليم الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لله، ولأحكامه، ولفروضه، ولسننه، أو معرفتهم، وإذعانهم كتسليم ومعرفة سائر الناس، ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره بلسانه ولكن قلبه مطمئنّ ببطلانه.

هل العمل جزء من الايمان؟

احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات:

1 _ قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ) (الفتح/4). ولو كانت حقيقة الايمان هي التّصديق، لما قبل الزيادة والنقيصة، لأنّ

التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له (2).

يلاحظ عليه: أنّ الايمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب، فيقين الإنسان بأنّ الإثنين نصف الأربع، يفارق يقينه في الشدّة والظهور، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس، كما أنّ يقينه الثاني، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج

______________________

1 . البحار (ج 66: ص 16) كتاب الايمان والكفر نقلاً عن (معاني الاخبار).

2 . الفصل ج 3 ص 194.

( 92 )

تركيبي له ماهيّة ووجود، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين، ووصل إلى حدّ الظنّ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد) (ق/22) فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان بمعنى التّصديق والإذعان، دائر بين الوجود والعدم، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء بعالم الغيب، كإيمان الانسان العادي، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه: (وَ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(الاسراء /109). وقال: (وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا

فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُوراً)(الاسراء/41). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم، لا كثرة عددهما، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.

2 _ قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة/143) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.

يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاذعان وردّ فعل له، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الإستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه، ولم يقل به أحد.

3_ قوله سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء/65). أقسم سبحانه

( 93 )

بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم، بل هو عمل خارجي.

يلاحظ عليه: أنّ المنافقين _ كما ورد في شأن نزول الآية _ كانوا يتركون النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار و _ مع ذلك _ كانوا يدّعون الايمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في المرافعات، والتسليم العملي أمام قضائه، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى

قوله سبحانه: (فلا وربّك لا يؤمنون)، أنّه لا يقبل ادّعاء الايمان منهم إلاّ عن ذلك الطّريق.وبعبارة ثانية; إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)(النساء/64) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت. فنزلت الآية، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الايمان تسليم تامّ باطني وظاهري.فلا يستكشف ذلك التسليم التامّ، إلاّ بالتسليم للرّسول ظاهراً، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟

4_ قوله سبحانه: (وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران/97) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.

يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.

5_ قوله سبحانه: (وَمَا اُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلوةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَ ذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة) (البيّنة/5). والمشار اليه بلفظة «ذلك» جميع ما جاء بعد «إلاّ» من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.

( 94 )

والمراد من الدّين، هو الإسلام لقوله سبحانه (إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام)(آل عمران/19).

وعلى ضوء هذا، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه:

الف _ الإسلام هو المبتغى لقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(آلعمران /

85) والايمان أيضاً هو المبتغى، فيكون الإسلام والايمان متّحدين.

ب _ قوله سبحانه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات / 17) فجعل الاسلام مرادفاً للايمان.

ج _ قوله سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِنَ المُسْلِمِينَ) (الذاريات / 35 _ 36) وقد اُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله (وذلك دين القيّمة) هو الجملة الاُولى بعد «إلاّ» أعني (ليعبدوا الله مخلصين له الدّين) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمراد من قوله (ليعبدوا الله مخلصين له الدين) هو إخلاص العبادة لله، كإخلاص الطّاعة(2) له، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(الروم / 30). فإنّ وزان قوله (ذلك الدّين القيّم) وزان قوله (ذلك دين القيّمة)والمشار إليه في الجملة الاُولى هو

______________________

1 . الفصل: ج 3 ص 234 ، والبحار: ج 66 ص 16 _ 17.

2 . المراد من الدين في قوله «مخلصين له الدين» هو الطاعة.

( 95 )

الدّين الحنيف الخالص عن الشرك، بإخلاص العبادة والطّاعة له سبحانه.

ثانياً : يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً...) لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته، بإخلاص العبادة والطّاعة له في

مقام العمل دون غيره من الأوثان والأصنام، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم «مسلماً» في قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولانَصْرانِياً وَلكِنْ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)(آل عمران / 67) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ) (يوسف / 101) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له، والتجنّب من الشّرك، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين،فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.

ثالثاً: نمنع كون الإسلام والايمان بمعنى واحد، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ) (الحجرات / 13) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في «الفصل»(1) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه، والإستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.

نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها:

1 _ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: «ملعون ملعون من قال: الإيمان قول

______________________

1 . الفصل: بكسر الفاء وفتح الصاد بمعنى النخلة المنقولة من محلّها الى محلّ آخر لتثمر، كقصعة وقصع.

( 96 )

بلا عمل»(1).

2 _ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ قال: «قيل لأمير المؤمنين _ عليه السلام_: من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً؟

قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان عليّ _ عليه السلام _ يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم، ولا صلاة، ولا حلال، ولا حرام، قال: وقلت لأبي جعفر _ عليه السلام _: إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار الله للمؤمنين، وأنّ الجنّة للمؤمنين، وأنّ الحور العين للمؤمنين، ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً»(2).

والمراد من «جحد الفرائض» تركها عمداً بلا عذر، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.

3 _ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن _ عليه السلام _: الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر، قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن(3).

4 _ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ _ وأظنّ معهما أبو حنيفة _ على أبي جعفر عليه السلام، فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر _ عليه السلام _: يا ابن قيس أمّا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت(4).

______________________

1 . البحار ج 69 ص 19، الحديث 1.

2 . الكافي ج 2 ص 33، الحديث 2، والبحار ج 66

ص 19، الحديث 2.

3 . الكافي ج 2 ص 284 _ 285، الحديث 21.

4 . الكافي ج 2 ص 285، الحديث 22.

( 97 )

5 _ وعن الرضا عن آبائه _ صلوات الله عليهم _ قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وآله _: الايمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالأركان(1).

إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي _ قدس سره _ في بحاره، باب«الايمان مبثوث على الجوارح»(2).

أقول: الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت _ عليه السلام _ لعن المرجئة.

روى الكليني عن الصادق _ عليه السلام _ أنّه قال: لعن الله القدريّة، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين قال: إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه: (ألاّ نُؤْمِنُ لِرَسُول حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا(3).

وروى أيضاً عن أبي مسروق قال:سألني أبو عبدالله _ عليه السلام _ عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة، قال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء(4).

إلى غير ذلك من الرِّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.

______________________

1 . عيون أخبار الرضا ج 1 ص 226.

2 .

بحار الأنوار ج 69 الباب 30 من كتاب الكفر والايمان ص 18 _ 149.

3 . الكافي ج 2، ص 409، الحديث 1.

4 . الكافي، ج 2، ص 409، الحديث 2. والآية 183 من سورة آل عمران.

( 98 )

والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة، هو أنّ الايمان ذو مراتب ودرجات، ولكل أثره الخاصّ.

1 _ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه وماله، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب، وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة.

2 _ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة، ومانع الزّكاة، وتارك الحجّ، وعليه ورد قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وثمرة هذا الايمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.

3 _ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات، ورفع الدّرجات.

4 _ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات، وترك المكروهات، بل بعض المباحات، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء(1).

ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله _ عليه السلام _ في حديث قال: «قلت: ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقولهو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه إليه، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: الايمان حالات ودرجات وطبقات، ومنازل: فمنه التامّ

المنتهى تمامه، ومنه النّاقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

______________________

1 . البحار ج 69 ص 126 _ 127.

( 99 )

قلت:إن الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اُختها... الخ»(1).

ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبدالله _ عليه السلام _ قال: قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس الايمان بالتحلّي، ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب، وصدّقه الأعمال(2).

والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.

وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين _ عليه السلام _ شواهد على ذلك التقسيم(3).

خاتمة المطاف

إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة، كما عالجناه، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم، أو هو مع العمل، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا ؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا ؟

مثلاً; إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله

و سلَّم حكم عليه

______________________

1 . البحار ج 69 ص 23 _ 24 لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلامة المجلسي.

2 . البحار ج 69 ص 72 نقلاً عن معاني الاخبار ص 187.

3 . البحار ج 69 ص 73 _ 74 نقلاً عن تفسير النعماني.

( 100 )

بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين _ عليه السلام _: «اُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم»(1).

فهذه الآثار لا تتطلّب أزيد من الإقرار باللّسان ما لم تعلم مخالفته للجنان، سواء أصحّ كونه مؤمناً أم لا.

وأمّا غير هذه من الآثار التي نعبّر عنه بالسعادة الأُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل، وأنّ مجرّد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغنى من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: (إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ)(الحجرات /15). نرى أنّه ينفي الايمان عن غير العامل. وما هذا إلاّ لأنّ المراد منه، الإيمان المؤثّر في السعادة الأخرويّة، وقال أمير المؤمنين _ عليه السلام _: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل»(2).

فالإمام _ عليه السلام _ بصدد بيان الإسلام الناجع في الحياة الاُخروية، ولأجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الاسلام الّذي ينسلك به الانسان في عداد المسلمين، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه.

فلو أوصلَنا السبر والدقّة إلى تحديد الايمان

فهو المطلوب، وإلاّ فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الأدلة سواء أصدق عليه الايمان أم لا،سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن عقيدة الطائفتين _ المعتزلة والخوارج _ في مورد مرتكب الكبيرة، ونحدّد مفهوم الايمان في ضوء الكتاب والسنّة.

______________________

1 . بحار الأنوار : ج 68 ص 242.

2 . نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 125.

( 101 )

المرجئة والفرق الاُخرى:

الانسان يتصوّر بادئ بدء أنّ المرجئة كسائر الطّوائف لهم آراء في جميع المجالات الكلاميّة، خاصّة بهم، يفترقون بها عن غيرهم، ولكن سرعان ما يتبيّن له أنّ الأصل المقوّم للمرجئة هو مسألة تحديد الإيمان والكفر. وأمّا الموضوعات الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ. ولأجل ذلك تفرّقوا في آخر أمرهم إلى فرق متبدّدة ومتضادّة. فترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار او باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:

1 _ مرجئة الخوارج، 2 _ مرجئة القدرية، 3 _ مرجئة الجبرية، 4 _ المرجئة الخالصة.

وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للانسان، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد، وهو الإرجاء، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:

1 _ اليونسيّة 2 _ العبيديّة 3 _ الغسّانيّة 4 _ الشعبانيّة

5 _ التومينية 6 _ الصالحيّة.

وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج، يبغض عثماناً وعليّاً، ويناضل ضدّ الحكّام، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع، ويرى الانسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.

( 102 )

شعراء المرجئة:

قد وجد بين المرجئة شعراء عبّروا عن عقيدتهم في قصائدهم ونذكر هنا شاعرين:

1 _ ثابت بن قطنة. كان في صحابة يزيد بن المهلّب يولّيه أعمالاً من أعمال الثغور، وقد روى أبو الفرج الإصفهاني قصيدة له في أغانيه مستهلّها:

يا هند فاستمعي لي أنّ سيرتنا * أن نعبد الله لم نشرك به أحداً

نرجى الاُمور إذا كانت مشبهة * و نصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الاسلام كلّهموا * والمشركون استووا في دينهم قددا

و لا أرى أنّ ذنباً بالغ أحداً * مِ النّاس شركا إذا ما وحّدوا الصمدا

لانسفك الدم إلاّ أن يراد بنا * سفك الدماء طريقا واحداً جددا

من يتّق الله في الدنيا فإنّ له * أجر التقيّ إذا وفّى الحساب غدا

و ماقضى الله من أمر فليس له * ردّ و مايقض من شيء يكن رشدا

كلّ الخوارج مُخط فى مقالته * ولو تعبّد فيما قال و اجتهدا

أمّا عليّ و عثمان فانّهما * عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا

و كان بينهما شغب وقد شهدا * شقّ العصا و بعين الله ما شهدا

يجزى عليّاً و عثماناً بسعيهما * و لست أدري بحق آيةً وردا

الله يعلم ماذا يحضران به * وكلّ عبد سيلقى الله منفردا(1)

2

_ عون بن عبدالله بن علقبة بن مسعود: وقد وصف بكونه من أهل الفقه والأدب وكان يقول بالإرجاء ثم عدل عنه وقال مخطئاً ما اعتقده:

فأوّل ما أُفارق غير شكّ * أُفارق ما يقول المرجئونا

وقالوا مؤمن من آل جور * وليس المؤمنون بجائرينا

وقالوا مؤمن دمه حلال * وقد حرمت دماء المؤمنينا(2)

______________________

1 . فجر الاسلام ص 281 _ 282 نقلاً عن الأغاني ج 4 ص 204.

2 . نفس المصدر:ص 282، نقلاً عن الأغاني ج 8 ص 92.

( 103 )

خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:

قد عرفت التطوّر في فكرة الإرجاء وأنّه استقرّ رأي المرجئة أخيراً على أنّ الايمان عبارة عن الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب، وهذا يكفي في اتّصاف الانسان بالإيمان. ولو صحّ ما نسب إليهم في شرح المواقف «من عدم العقاب على المعاصي» (1) فالمصيبة أعظم.

وهذه الفكرة فكرة خاطئة تسير بالمجتمع _ وخصوصاً الشباب _ إلى الخلاعة والإنحلال الأخلاقي وترك القيم، بحجّة أنّه يكفي في اتّصاف الانسان بالايمان، وانسلاكه في سلك المؤمنين، الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة، ولا يضرّه شرب الخمر وفعل الميسر، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.

ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع، لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه، ومن الدين إلاّ اسمه. ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعياً، اتّخذ هذه الفكرة واجهة لما يكنّ في ضميره.

ولقد شعر أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ بخطورة الموقف، وعلموا بأن إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، سترجعهم إلى الجاهليّة، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة فقالوا:

«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة» (2).

______________________

1 . شرح المقاصد للتفتازاني ج 2، ص 229 و 238.

2 .

الكافي ج 6 ص 47، الحديث 5. قال المجلسي في المرآة عند شرح هذا الحديث: «أي علموهم في شرخ شبابهم بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التميز من الحديث ما يهتدون به الى معرفة الأئمة _ عليهم السلام _ والتشيع قبل أن يغويهم المخالفون ويدخلوهم في ضلالتهم، فيعسر بعد ذلك صرفهم عن ذلك. والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنى التأخير، لتأخيرهم عليّاً عليه السلام عن مرتبته، وقد يطلق في مقابلة الوعيديّة إلاّ أن الأول هو المراد هنا».

ويحتمل أن يكون المراد هو الثاني بقرينة «أولادكم» فإنّ فكرة الإرجاء بالمعنى الأول تضرّ الكلّ، وبالمعنى الثاني تضر الشباب الّذين تهددهم الغرائز الجامحة كما أوعزنا إليه في المتن.

( 104 )

وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة تضرّ بالمجتمع عامّة. وإنّما خصّص الإمام منهم الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر للشباب لاقتراف الذنوب والانحلال الأخلاقي والانكباب وراء الشهوات مع كونهم مؤمنين.

ولو صحّ ما ادّعته المرجئة من الايمان والمعرفة القلبيّة، والمحبّة لإله العالم، لوجب أن تكون لتلك المحبّة القلبيّة مظاهر في الحياة، فإنّها رائدة الانسان وراسمة حياته، والانسان أسير الحبّ وسجين العشق، فلو كان عارفاً بالله، محبّاً له، لاتّبع أوامره ونواهيه، وتجنّب ما يسخطه ويتّبع ما يرضيه، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحبِّ.

ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الذي يتركه الحبّ والودّ في نفس المحبّ في كلام الإمام الصادق _ عليه السلام _ حيث قال: «ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه» ثم أنشد الامام _ عليه السلام _ قائلاً:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه * هذا محالٌ في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته * إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع(1)

إنّ للامام الصادق _ عليه

السلام _ احتجاجاً على المرجئة، علّمه لأحد أصحابه وأبطل فيه حجّة القائل بكفاية الاقرار بالايمان قياساً على كفاية الانكار باللسان في الكفر، وإليك الحديث:روى محمّد بن حفص بن خارجة قال: سمعت أبا عبدالله _ عليه السلام _ يقول: وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والايمان وقال: إنّهم يحتجّون علينا ويقولون: كما أنّ الكافر عندنا هو الكافر عند الله، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإ يمانه أنّه عند الله مؤمن، فقال: سبحان الله; وكيف يستوي هذان، والكفر إقرار من العبد فلا يكلّف بعد اقراره ببيّنة، والايمان دعوى لا يجوز إلاّ ببيّنة، وبيّنته عمله ونيّته، فإذا اتّفقا فالعبد عند الله مؤمن، والكفر موجود بكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث، من نيّة، أو

______________________

1 . سفينة البحار: ج 1 ص 199 مادة «حبب».

( 105 )

قول، أو عمل. والأحكام تجري على القول والعمل، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان، ويجري عليه أحكام المؤمنين، وهو عند الله كافر، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله (1).

توضيح الرواية; أنّ الامام _ عليه السلام _ شبّه الاقرار الظاهري بالدعوة كسائر الدعاوي، كما أنّ الدعوة في الدعاوي لا تقبل إلاّ ببيّنة، فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوة غير مقبولة إلاّ بشاهدين من قلبه وجوارحه فلا يثبت إلاّ بهما.

المرجئة وعلماء الشيعة

إنّ علماء الشّيعة الإماميّة تبعاً لأئمتهم، قاموا في وجه المرجئة وحذّروا الاُمّة من ألوان خداعهم، علماً منهم بأنّ في نفوذ فكرة الارجاء، مسخ الإسلام ومحوه من أديم الأرض، وإليك كلمة قيّمة لفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري (المتوفّى عام 260ه_) من أصحاب الأئمة الثلاثة: _ الجواد والهادي والعسكري _ عليهم السلام _ ذكرها في كتابه (الايضاح ص 20) قال: «ومنهم

المرجئة الّذين يروي منهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي، وإبراهيم بن يزيد التيمي، ومن دونهما مثل سفيان الثوري، وابن المبارك ووكيع، وهشام، وعلي بن عاصم عن رجالهم أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب; القدريّة والمرجئة. فقيل لهم: ما المرجئة؟ قالوا: الّذين يقولون: الايمان قول بلا عمل. وأصل ما هم عليه أنّهم يدينون بأنّ أحدهم لو ذبح أباه واُمّه وابنه وبنته وأخاه واُخته، وأحرقهم بالنار، أو زنى، أو سرق، أوقتل النّفس الّتي حرّم الله، أو أحرق المصاحف، أو هدم الكعبة، أو نبش القبور، أو أتى أيّ كبيرة نهى الله عنها، إنّ ذلك لا يفسد عليه ايمانه، ولا يخرجه منه، وأنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين إنّه مستكمل الايمان، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل _ صلّى الله عليهما _ فعل ما فعل، وارتكب ما ارتكب ممّا نهى الله عنه، ويحتجّون بأنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اُمرنا أن نقاتل النّاس حتّى يقولوا:

______________________

1 . الكافى: ج 2 ص 39 _ 40، الحديث 8.

( 106 )

لا إله إلا الله، وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ.

وقد روى محمد بن الفضل، عن أبيه، عن المغيرة بن سعيد، عن أبيه، عن مقسم، عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود هذه الاُمّة. وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حين قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان(1) .

وله _ رحمه الله _ احتجاج و مناشدة مع المرجئة في كتابه فمن أراد فليرجع إليه(2).

هل كان أبو حنيفة

مرجئياً؟

إنّ المشهور بين أرباب الملل والنحل أنّ الامام أبا حنيفة كان مرجئيّاً، وممن نقل ذلك، الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» فقال: «الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أنّ الإيمان المعرفة بالله، والإقرار بالله والمعرفة بالرّسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفصيل».

ثمّ ينقل عن غسّان وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنّهم ينقلون عن أسلافهم أنّ الايمان هو الاقرار والمحبّة لله والتعظيم له والهيبة منه، وترك الاستخفاف بحقّه، وأنّه يزيد ولا ينقص(3).

والظّاهر هو الأوّل لتنصيصه في كتاب «العالم والمتعلّم» الذي أملاه وكتبه ت لاميذه على ذلك وإليك النصّ:

قال العالم _ رضي الله عنه _: الايمان هو التصديق والمعرفة واليقين والاقرار والاسلام. والناس في التصديق على ثلاث منازل:

فمنهم: من يصدِّق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه.

______________________

1 . الايضاح: ص 20 _ 21.

2 . الايضاح :ص 47 _ 66.

3 . مقالات الاسلاميين: ص 132.

( 107 )

ومنهم: من يصدِّق بلسانه ويكذّب بقلبه.

ومنهم: من يصدّق بقلبه ويكذّب بلسانه.

قال المتعلّم _ رحمه الله _: لقد فتحت لي باب مسألة لم أهتد إليه، فأخبرني عن أهل هذه المنازل الثّلاث أهم عند الله مؤمنون؟

قال العالم _ رضي الله عنه _: من صدّق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن.

ومن صدّق بلسانه وكذّب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً، لأنّ الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليه يسمّونه. مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب.

ومنهم من يكون عند الله مؤمناً وعند الناس كافراً وذلك بأنّ الرّجل يكون مؤمناً بالله وبما جاء عنه. ويظهر الكفر بلسانه في حال التقيّة

أي الإكراه فيسمّيه من لا يعرف أنّه يتّقي، كافراً، وهو عند الله مؤمن(1).

وفي الفقه الأكبر المنسوب له ما هذا نصّه: «الإيمان هو الإقرار والتصديق» وجاء فيه: «ويستوي المؤمنون كلّهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبّة والرضا والرجاء ويتفاوتون فيما دون الايمان في ذلك كلّه». وجاء فيه: «الله متفضّل على عباده عادل قد يعطي في الثّواب أضعاف ما يستوجبه العبد، تفضّلاً منه وقد يعاقب على الذّنب عدلاً منه وقد يعفو فضلاً منه»، وجاء فيه: «ولا نكفّر أحداً بذنب ولا ننفي أحداً عن الايمان»(2).

أقول: إنّ القول بأنّ الايمان هو التصديق القلبي فقط، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل ويرى النجاة والسعادة فيه، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير

______________________

1 . العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة، تحقيق عمر رواس قلعة جى وعبد الوهاب الهندي الندوي، ص 52 _ 53.

2 . ضحى الإسلام: ج 3 ص 321.

( 108 )

رابح. فالمرجئة هم الّذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثراً في الحياة الاُخرويّة، ويعيشون على أساس العفو والرجاء وبالجملة يهتمّون بالرغب دون الرهب والله سبحانه يقول: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً) (الأنبياء / 90).

وعلى ذلك; فرمي كلّ من قال بأنّ الايمان هو التصديق بالإرجاء، رمي في غير محلّه، فإذا كان المرميّ ذا عناية خاصّة بالعمل بالأركان، والقيام بالجوارح، وكان شعاره قوله سبحانه: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحَقّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ)فهو على طرف النقيض منهم، خصوصاً على ما نقله شارح المواقف من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.

هذا إجمال القول في عقيدة المرجئة وما يترتّب عليها من المفاسد،

ولأئمّة أهل البيت _عليهم السلام _ كلمات في حقّهم حذّروا المجتمع فيها من تلك الطائفة يجدها المتتبّع في محلّه(1) . ويظهر من الأمير نشوان الحميري (المتوفّى عام 573ه_) شيوع المرجئة في عصره في الأوساط الإسلاميّة قال: «وليس كورة من كور الاسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل»(2) _ أعاذنا الله من شرّ الأبالسة.

إكمال :

قد عرفت التطوّر في استعمال لفظ «المرجئة» وأنّها تستعمل تارة في تأخير القول في عثمان وعليّ، وعدم القضاء في حقّهما بشيء، وإرجاع أمرهما إلى الله. وأُخرى في تقديم القول على العمل وتأخيره عنه قائلاً بأنّه لا تضرّ مع الايمان المعصية، كما لا تنفع مع

______________________

1 . بحار الأنوار: ج 18 ص 392 فصل المعراج، وغيره.

2 . شرح الحور العين ص 203، كما في «بحوث مع أهل السنة».

( 109 )

الكفر الطاعة، والحسن بن محمّد بن الحنفيّة مبدع الإرجاء بالمعنى الأوّل، لا الثاني. وإطلاقها على المعنيين لاشتراكهما في التأخير.

غير أنّ الدكتور جلال محمّد عبد الحميد موسى نسب الإرجاء بالمعنى الثاني الى الحسن وقال: «إنّنا نجد بذور هذا المذهب عند الحسن بن محمّد الحنفيّة (ت 101ه_) وهو عالم من علماء أهل البيت، قد تصدّى للردّ على الخوارج حين نشروا مبدأهم الخطير «لا عقد بدون عمل» وهو يستلزم تكفير مرتكب الكبيرة واستحلال قتله، فأعلن «الحسن» أنّه لا يضرّ مع الايمان معصية وأنّ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الايمان، حتى يزول الايمان بزوالها»(1).

وما ذكره خلط بين معنيي الارجاء فلاحظ، وقد تقدّم في كلام ابن حجر التصريح بذلك(2).

تمّ الكلام في المرجئة

______________________

1 . نشأة الأشعرية وتطورها: ص 20.

2 . تهذيب التهذيب: ج 2، ص 321.

( 110 )

( 111 )

القدريّة

القدريّة

القدريّة أسلاف المعتزلة

خرج المسلمون من الجزيرة العربيّة بدافع

نشر الاسلام وبسط نفوذه، فلمّا استولوا على البلاد واستتبّ لهم الأمر، تفاجأوا بثقافات وحضارات، وشرائع وديانات، لم يكن لهم بها عهد، ففرضت الظُّروف عليهم الاختلاط والتعايش مع غير المسلمين، وربّما انتهى الأمر إلى التفاعل والتأثير بمبادئهم وأفكارهم، فوقفوا على اُصول ومبادئ تخالف دينهم، فأوجد ذلك اضطراباً فكريّا بين الأوساط الإسلاميّة. كيف لا، وقد كان الخصم متدرّعاً بالسلاح العلمي، ومجهّزاً بأساليب كلاميّة، والمسلمون الغزاة بسطاء غير مجيدين كيفيّة البرهنة، والمجادلة العلميّة مع خصمائهم، فصار ذلك سبباً لطرح أسئلة ونموّ اشكالات في أذهان المسلمين خارج الجزيرة العربيّة وداخلها، وقد كان الغزاة ينقلون ما سمعوا أو ما تأثّروا به في حلّهم وترحالهم داخل المدن وخارجها.

وهذا التلاقح الفكري بين المسلمين وغيرهم أدّى إلى افتراق الاُمّة الاسلاميّة إلى طائفتين:

الطائفة الاُولى: وهم يشكّلون الأكثريّة الساحقة في المسلمين، جنحت إلى الجانب السلبي وأراحت نفسها من الخوض في تلك المباحث، وإن كانت لها صلة بصميم الدين كالقضاء والقدر، وعينيّة الصفات للذات أو زيادتها عليها، كيفيّة

( 112 )

الحشر والنشر، ووجود الشرّ في العالم، مع كون خالقه حكيماً إلى غير ذلك ممّا لا يمكن فصلها عن الدين، وأقصى ما كان لدى هؤلاء المتزمّتين، دعوة المسلمين إلى التعبّد بما جاء من النصوص في القرآن والسنّة، وقد تصدّر هذه الطائفة الفقهاء وأهل الحديث ولقد أثر عنهم قول وعمل يعرِّفان موقفهم في هذه التيّارات، ويرجع مغزى ذلك إلى الأخذ بالجانب السّلبي وترك الكلام الّذي هو أسهل الأمرين، ولأجل ذلك قامت تلك الطّائفة بتحريم علم الكلام والمنطق والفلسفة، وإن كان يهدف إلى تقرير العقائد الإسلاميّة عن طريق العقل والبرهان.

وإليك نماذج من أقوالهم في هذا المضمار:

1 _ عن أبي يوسف القاضي (م 192): طلب علم الكلام هو الجهل، والجهل بالكلام

هو العلم(1).

2 _ وعن الشافعي: لأن يلقى الله تبارك وتعالى بكلّ ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام(2).

3 _ وهذا الإمام مالك (م 179) لمّا سئل عن كيفيّة الاستواء على العرش؟ فقال: الاستواء معقول والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة(3).

فهؤلاء صوّروا البحث عن قوانين الكون، وصحيفة الوجود جهلاً، والجهل بها علماً، والبرهنة على وجوده سبحانه أمراً مذموماً، والسؤال عن مفاد الآية ومرماها بدعة.فكأنّ القرآن أُنزل للتلاوة والقراءة دون الفهم والتدبّر، وكأنّ القرآن لم يأمر النّاس بالسؤال من أهل الذكر إذا كانوا جاهلين. فإذا كان هذا حال قادة الاُمّة وفقهائها، فكيف حال من يَقتدي بهم؟

4 _ سأل رجل عن مالك وقال: ينزل الله سماء الدنيا؟ قال: نعم. قال: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فصاح مالك: اسكت عن هذا وغضب غضباً شديدا (4).

5 _ قد بلغ تطرّف إمام الحنابلة إلى حدّ أنّ أبا ثور (م 240) فسّر حديث رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّ الله خلق آدم على صورته» على وجه لا يستلزم التجسيم والتشبيه بإرجاع الضمير إلى آدم حتّى يتخلّص من مغبّتهما، فهجره أحمد، فأتاه أبو ثور، فقال أحمد: أيّ صورة كانت لآدم يخلق عليها، كيف تصنع بقوله: (خلق آدم على صورة الرحمان) فاعتذر أبو ثور

______________________

1 . تاريخ بغداد ج 14 ص 253.

2 . حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 11، كما في كتاب «المعتزلة» ص 242.

3 . طبقات الشافعية: ج 3 ص 126.

4 . الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزي، طبع مكة المكرمة، عام 1348 ج 2 ص 251، كما في «المعتزلة» ص 245.

( 113 )

وتاب بين يديه(1).

فالدواء عنده لكلّ داء هو الدّعوة

إلى التعبّد بالنّصوص تعبّداً حرفياً من غير تحليل ولا تفسير.

6 _ إنّ أحد أصحابه، الحارث المحاسبي (م 243) ألّف كتاباً في الردّ على المعتزلة، فأنكره أحمد وهجره. ولمّا اعترض عليه المحاسبي بأنّ الردّ على البدعة فرض، أجاب أحمد بقوله: إنّك حكيت شبهتهم أوّلاً ثمّ أجبت عنها فلم تأمن أطالع الشّبهة ولا ألتفت إلى الجواب أو أنظر إلى الجواب ولا أفهم كنهها(2).

يلاحظ عليه: أنّه لا شكّ في أنّ الردود على أصحاب البدع والضلالات، يجب أن تكون بشكل تهدي الاُمّة ولا تضلّها، وتقمع الإشكال ولا ترسّخه. فمن كانت له تلك الصلاحية فعليه القيام بالردّ والنقد. فهذا هو القرآن الكريم الأسوة المباركة، ينقل آراء المشركين ثمّ ينقضها ويدمِّرها، وإلاّ فمعنى ذلك أن يفسح المعنيّون من علماء الإسلام للأبالسة أن يهاجموا الإسلام و يضعضعوا أركانه، ويتّخذوا الأحداث والشبّان فريسة لأفكارهم يفتكون بهم، ويكون الغيارى من المسلمين القادرون على دفع هجومهم، متفرّجين في مقابل جرأة العاصي وحملة الماجن «ما هكذا تورد يا سعد الإبل». وكيف يرضى الشارع الّذي جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضة على المسلمين بهذه

______________________

1 . نفح الطيب ج 3 ص 153، كما في كتاب «المعتزلة».

2 . المنقذ من الضلال ص 45 راجع كتاب المعتزلة ص 245 _ 251.

( 114 )

النكسة.

هذا حال الطائفة الاُولى وإليك نبذة عن وضع الطائفة الاُخرى.

الطائفة الثانية: وهم الأقليّة من أصحاب الفكر، وقد عاينوا المشاكل عن كثب وحاولوا حلّها بالدراسة والتحليل. فلأجل تلك الغاية تدرّعوا بمنطق الخصم وأساليبه الكلاميّة، فقلعوا بها الشبه وصانوا دينهم وايمان أحداثهم عن زيغ المبطلين. كلّ ذلك بدافع الذبّ عن حريم الدّين وصيانته، وتجسيداً للأصل الأصيل في الكتاب والسنّة _الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر _ واسوةً بالنبي الأكرم صلَّى

الله عليه و آله و سلَّم الّذي كان يدافع عن دين الله بسيفه وسنانه، وبنانه وبيانه، وكتبه ورسائله.

وقد نجم بين الاُمّة في هذه الطّائفة علماء أخيار اشتروا رضا الله سبحانه بغضب المخلوق، فكانوا يحمون جسد الإسلام من النّبال المرشوقة والموجّهة من السلطة الحاكمة إليه، تحت ستار الدفاع عن الدّين ومكافحة المضلّين، وقد أساء لهم التاريخ فأسماهم بالقدريّة، حطّاً من شأنهم، وإدخالاً لهم تحت الحديث المرويّ عن الرسول الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم «القدريّة مجوس هذه الاُمّة» وكان العصر الأموي (من الوقت الّذي استولى فيه معاوية على عرش الملك إلى آخر من تولّى منهم)، يسوده القول بالجبر، الّذي يصوِّر الانسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد، وسعة وضيق، وجوع وكظّة، وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضى به عليهم، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.

وقد اتّخذت الطغمة الأمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجّة أنّ الاعتراض عليهم إعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره، وأنّ الله سبحانه فرض على الانسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير . وأبناء البيت الاموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكباد حرّى.

وقد كانت هذه الفكرة تروّج بالخطباء ووعّاظ السلاطين مرتزقة البلاط الاموي.

( 115 )

ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة، بل يرونها من حبائل الشيطان،اُلقيت لاصطياد المستضعفين، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً، فكان جزاؤهم القتل والصّلب

والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.

ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم،وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفيّ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.

واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ «القدريّة»، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف، ومدار بعث الرسل، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم _ كذباً وزوراً _ بانكار تقدير الله وقضائه، من باب إطلاق الشيء (القدريّة) وإرادة نقيضه (انكار القدر ونفيه)، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.

دعاة الحرية

1 _ معبد بن عبدالله الجهني البصري (م 80): أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين،

( 116 )

وخرج مع ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف، فخرج وأقام بمكّة فقتله الحجّاج صبراً بعد أن عذّبه، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان في دمشق على القول بالقدر ثمّ قتله(1).

وقال المقريزي في خططه: «أوّل من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني وكان يجالس الحسن بن

الحسين البصري، فتكلّم بالقدر في البصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لمّا رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري، فلمّا عظمت الفتنة به عذّبه الحجّاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان، سنة ثمانين من الهجرة _ إلى أن قال: وكان عطاء بن يسار قاضياً يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري، فيقولان له إنّ هؤلاء يسفكون الدّماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله فقال: كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا»(2).

2 _ غيلان بن مسلم الدمشقي: وهو ثاني من تكلّم بالقدر ودعا إليه ولم يسبقه سوى معبد الجهني. قال الشهرستاني في «الملل والنحل»: «كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد، وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته. فأفتى الأوزاعي بقتله، فصلب على باب كيسان بدمشق وقتل عام (105)(3).

قال القاضي عبد الجبّار: «ومنهم (الطبقة الرابعة من المعتزلة) غيلان بن مسلم، أخذ العلم عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة»(4).

وقال ابن المرتضى نقلاً عن الحاكم: «أخذ غيلان الدمشقي المذهب عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ولم تكن مخالفته (الحسن) لأبيه ولأخيه إلاّ في شيء من الإرجاء. روى

______________________

1 . الأعلام للزركلي ج 8 ص 177 ناقلاً عن تهذيب التهذيب ج 10 ص 225، وميزان الاعتدال ج 3 ص 183، وشذرات الذهب ج 1 ص 88، والبداية والنهاية ج 9 ص 34.

2 . الخطط المقريزية: ج 2 ص 356. سيوافيك نظرنا في كلامه فانتظر .

3 . الملل والنحل: ج 1 ص 47 ولسان الميزان ج 4 ص

424. والأعلام للزركلي ج 5 ص 320.

4 . طبقات المعتزلة: ص 229 ولكلامه ذيل يجيء عن ابن المرتضى عند البحث عن جذور الإعتزال.

( 117 )

أنّ الحسن كان يقول _ إذا رأى غيلان في الموسم _: أترون هذا، هو حجّة الله على أهل الشام، ولكنّ الفتى مقتول، وكان وحيد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله، قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه. وسبب قتله أنّ غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يحذِّره فيه من انطفاء السنّة وظهور البدعة(1). فلمّا وصلت الرسالة إلى عمر بن عبد العزيز دعاه وقال: أعنّي على ما أنا فيه. فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن وردّ المظالم فولاّه فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظّلمة، تعالوا إلى متاع من خلَف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته، وكان فيما نادي عليه جوارب خزّ فبلغ ثلاثين ألف درهم، وقد أتكل بعضها. فقال غيلان: من يعذرني ممّن يزعم أنّ هؤلاء كانوا أئّمة هدى وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع. فمرّ به هشام بن عبد الملك قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي وإن ظفرت به لاُقطّعنّ يديه ورجليه فلمّا ولى هشام قتله على النّحو الّذي وعده»(2).

وما ذكرناه من النُّصوص يوقفنا على اُمور:

1 _ إنّ القول بكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً يتّصل جذورها بالبيت الهاشمي. فقد عرفت أنّ معبداً الجهني كان تلميذاً لابن عبّاس، وغيلان الدمشقي تتلمذ للحسن بن محمّد بن الحنفيّة. فما ذكره المقريزي من أنّه أخذ ذلك الرأي من أبي يونس سنسويه لا يركن إليه، بعد ثبوت تتلمذهما لقادة الفكر من البيت الهاشمي،ولعمران بن حصين الصحابي الجليل ومن أعلام أصحاب علي _ عليه السلام _.

2

_ إنّ نضال الرّجلين في العهد الأموي كان ضدّ ولاة الجور الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلّته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحريّة من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.

______________________

1 . ستوافيك رسالته فانتظر.

2 . المنية والأمل: ص 26.

( 118 )

3 _ إنّ هذا التاريخ يدلنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة.

4 _ إنّ صلب معبد الجهني بيد الحجّاج السفّاك بأمر عبد الملك أوضح دليل على أنّ الرجل كان من دعاة الإصلاح، ولكن ثقل أمره على الطغمة الأمويّة فاستفزّوه من أديم الأرض وقطعوا جذوره بالصّلب والقتل، كما أنّ قيام غيلان في وجه هشام بن عبد الملك يعرب عن صموده في سبيل الحقّ وإزهاق الباطل وقتله به يدلّ على قداسة ما كان يذهب إليه.

وعلى أيّ تقدير; فهذان الرجلان، في الطّليعة من دعاة الحريّة و الاختيار، ويعدّان أسلافاً للاعتزال ولا يمتّان له بصلة غير الإشتراك في نفي الجبر و التسيير.

5_ إنّ هؤلاء الأحرار و إن رُموا بالقدرية بمعنى إنكار القضاء و القدر، ولكنّهم كانوا بصدد إثبات الاختيار و الحريّة للإنسان في مقابل الجبر و إغلال الأيدي الّذي كانت السلطة تشجّعه، والاختيار هو الّذي بُنيت عليه الشرائع و عليه شرّعت التكاليف، فإنكاره إنكار للأمر الضّروري.

ولكنّ السلطة لأجل إخماد ثورتهم اتّهمتهم بالقدريّة حتّى تطعن بهم أنّهم خالفوا الكتاب و السنّة الدالّين على تقدير الأشياء من جانبه سبحانه و قضائه عليها، و أين هذه التهمة ممّا تمسّك به القوم

من الدعوة إلى الاختيار و الحريّة؟

وأمّا تفسير القدريّة في حقّ هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه و أفعاله، أنّه ليس لله سبحانه أي صنع في فعله فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء، و به رُميت المعتزلة كما سيأتي الكلام فيه.

و في الحقيقة كانت دعوة هؤلاء ردّ فعل لاسطورة الجبر الّتي كانت ذائعة في الصدر الأوّل عن طريق أهل الكتاب الّذين تلبّسوا بالإسلام، و كانت الأكثريّة الساحقة من المسلمين يؤمنون بالقدر على وجه يجعل الإنسان مغلول اليدين. و قد قال

( 119 )

أحد رجّاز ذلك الزمان معبّراً عن تلك العقيدة:

يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُم * إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَم

ولو علوت شاهقاً من العلم * كيف توقِّيك و قد جفّ القلم(1)

فإذا كان الرأي العام عند المسلمين هذا، فعلى العالم أن يظهر علمه. فلأجل ذلك نرى أنّ معبداً الجهني و غيلان الدمشقي و القاضي عطاء بن يسار و غيرهم كعمر المقصوص (م/80) الّذي ظهر بدمشق و كان اُستاذاً للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية و قتله الأمويّون بتهمة إفساد الخليفة(2) انتفضوا ضدّ هذه الفكرة الفاسدة فلقوا ما لقوا من القتل و التنكيل، و قد أدّوا رسالتهم.

ولو أنّ علماء الإسلام في السنّة والجماعة قاموا بواجبهم في تلك الحقبة التأريخيّة وما هابوا السلطة، لما ظهرت الحركات الرجعيّة بين الاُمّة الإسلاميّة في أوائل القرن الثاني، الّتي كانت تدعو إلى الجاهليّة الاُولى، ولأجل إيقاف القارئ على هذه الحركات ومبادئها سنعرض عليه بعض الحركات الرجعية الّتي ظهرت في القرن الثاني و الثالث بعد إكمال البحث في المقام فانتظر.

رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز

الرسالة الّتي بعث بها غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز توقفنا:

أوّلاً: على مكانته من الصمود في وجه المخالفين، ومّما جاء في

تلك الرسالة : «أبصرت يا عمر ..... و ماكدت أعلم يا عمر، أنّك أدركت من الإسلام خلقاً بالياً، و رسماً عافياً، فيا ميّت بين الأموات، لا ترى أثراً فتتبع، ولا تسمع صوتاً فتنتفع، طفئ أمر السنّة، وظهرت البدعة، اُخيف العالم فلا يتكلّم، ولا يعطى الجاهل فيسأل، و ربّما نجحت الاُمة بالإمام، و ربّما هلكت بالإمام، فانظر أيّ الإمامين أنت، فإنّه تعالى يقول :

______________________

1 . تأويل مختلف الحديث: ص 28 ط بيروت دار الجيل.

2 . مختصر الدول لابن العبري: ص 151. لاحظ كتاب المعتزلة ص 91.

( 120 )

(وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) فهذا إمام هدى، ومن اتّبعه شريكان، وأمّا الآخر: فقال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار وَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(القصص:41) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار _ إذاً لا يتبعه أحد _ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذّب على ماقضى، أو يقضي ما يعذّب عليه، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة، أو يعذّبهم على الطاعة، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم و التظالم، و هل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً، و بالعمى عنه عمى»(1) .

و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء، و غيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع و رجوعه القهقرى، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة.. وأين كلامه هذا «اُنظر أيّ الإمامين

أنت» من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله:

ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح

و هذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :

إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة * تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الّذي بها * غلام إذا هزّ القناة سقاها

وقال الآخر:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً * شديداً بأعباء الخلافة كاهله

______________________

1 . المنية والامل ص 25 _ 26.

( 121 )

إلى غيرهم من الشعراء والاُدباء الّذين يمدحون الطغاة بشعرهم لابشعورهم ونثرهم لا بعقولهم.

ثانياً : إنّ المتبادر من قوله «أو يعذّب على ما قضى ... الخ» إنمّا هو انكار القضاء الدارج في ألسن الأمويين من غلّ الأيدي و جعل الإنسان كالريشة في مهبّ الريح، وأمّا القضاء بمعنى العلم الأزلي بالأشياء و الحوادث فلم يعرف إنكاره له.

محاكمة غيلان

و من العجب «وما عشت أراك الدهر عجباً» أنّ هشام بن عبدالملك قبض على غيلان الدمشقي فقال له :قد كثر كلام الناس فيك، فبعث إلى الأوزاعي، فلمّا حضر قال له هشام : يا أبا عمر ناظر لنا هذا القدريّ، فقال الأوزاعي مخاطباً غيلان : اختر إن شئت ثلاث كلمات و إن شئت أربع كلمات و إن شئت واحدة. فقال غيلان : بل ثلاث كلمات.

فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل قضى على مانهى؟

فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ أحال دون ماأمر؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى، ما عندي

في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل أعان على ما حرّم؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى و الثانية، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه(1).

ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال

______________________

1 . لا تنس أن هشاماً قد يمّم قتله قبل القاء القبض عليه وقبل هذه المناظرة المسرحيّة.

( 122 )

الأوزاعي: أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه و بين السجود، و أمّا الثالث، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم، حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير، ثمّ أعان عليها بالاضطرار...(1).

يلاحظ على هذه المناظرة:

أوّلاً: أنّ الجهل بهذه الأسئلة الثلاثة لوكان مبرّراً لضرب العنق، فهشام بن عبدالملك خليفة الزمان أولى بهذا، لأنّه كان أيضاً جاهلاً بها بدليل استفساره عنها من الأوزاعي. فلماذا لا تضرب عنقه أيضاً؟ وهذا يعرب عن أنّ الحكم بالإعدام كان صادراً قبل المناظرة، و إنّما كانت المناظرة بين يدي الأوزاعي تبريراً للإعدام حتّى لا يقال إنّ الحكم صدر إعتباطاً.

ثانياً : ما سأله الأوزاعي عنه ثمّ أجاب عنه، يدل على أنّه كان يمشي على خطّ الجبر، و أنّه كان معتقداً بأنّ قضاء الله يسلب عن الإنسان الحريّة و الإختيار. فكان أكل آدم من الشجرة بقضاء من الله و ما كان له محيص عن الأكل، كما أنّ تخلّف إبليس عن السجود كان بقضاء الله و لم يكن له مفرّ عن المعصية. وقد

حال سبحانه بينه و بين السجود على آدم، ومن المعلوم أنّ غيلان الدمشقي و كلّ موحّد يعتقد بصحّة بعث الرّسل و صحّة التكليف ... لا يراه صحيحاً.

ثالثاً : إنّ المناظرة لم تكن مبنيّة على اُصولها. فإنّ من أدب المناظرة أن يطرح السؤال أو الإشكال على وجه واضح، حتى يتدبّر الآخر فيما يرتئيه المناظر من الجواب، وأمّا الأسئلة الّتي طرحها الفقيه الأوزاعي فإنّها أشبه بالأحاجى واللّغز، لا يستفاد منها إلاّ في مواضع خاصّة لاختبار ذكاء الإنسان، ولم يكن المقام إلاّ مقام السيف والدم لا الإختبار للذكاء.

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة ج 1 ص 127 _ 128 نقلاً عن العقد الفريد وشرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.

( 123 )

وفي حدسي أنّ غيلان الدمشقي قد وقف على نيّة الأوزاعي و أنّه يريد أن يأخذ منه الإعتراف بأحد الأمرين إمّا بالجبر إذا أجاب بمثل ما يريد، و عندئذ يكون مناقضاً لعقيدته.

وإمّا بالاختيار و الحريّة فيكون محكوماً بالإعدام و ضرب العنق. فاختار السكوت و عدم الإجابة حتّى يتخلّص من كلتا المغبّتين. وما كان المسكين عارفاً بأنّ الحكم بالإعدام قد سبق السؤال والجواب، وهذه المناظرة مناظرة مسرحيّة رُتّبت لتبرير إراقة دمه تحت غطاء السؤال و الجواب.

هذا وقد قام بعض المعنيّين بالملل والنحل، بنشر ما وصل إليه من الوثائق عن بدايات علم الكلام في الاسلام، فنشر ضمن مجموعةِ رسالتين : رسالة الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة في القدر، و رسالة عمر بن عبدالعزيز فيه أيضاً. وسيوافيك الكلام حولهما في آخر المطاف.

وللكتاب ملحق يهدف إلى تبيان بعض القضايا المتعلّقة بشخصيّة من شخصيات القدريّة المفكّرين وهو غيلان الدمشقي، وخاصة تلك القضايا المتعلّقة بحياته وإعدامه في زمن خلافة هشام بن عبدالملك (125).

قال محقّق الكتاب

: وتدلّ معظم الروايات على أنّها أقاصيص موضوعة اختلقتها رواتها ليبرهنوا على أنّ غيلان كان خارجاً عن الجماعة، و أنّ حججه كانت غير مقنعة، وأنّ السلطة السياسيّة كانت على حقّ عندما أعدمته. و هذا كلّه مما يجعل استخلاص ما حدث على وجه الدقّة أمراً صعباً، على أنّني حاولت توضيح الأمر بمعلومات استقيتها من كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، بالاضافة إلى المصادر الاُخرى(1).

______________________

1 . بدايات علم الكلام في الاسلام: رسالتان في الرد على القدرية مع ملحق في أخبار غيلان الدمشقي حققها وترجمها وعلّق عليها يوسف فان اسّ نشرها المعهد الالمائي للأبحاث الشرقية في بيروت. وقد وقفنا على تصوير الرسالتين الاوليين دون الملحق واكتفينا ببيان كلام المحقّق.

( 124 )

خاتمة المطاف

قد تكرّر لفظ «القدريّة» في كلمات أهل الحديث و المتكلّمين و مؤلّفي الفرق والملل والنحل، ورويت حولها أحاديث وهي إحدى المصطلحات الدارجة بينهم، وتحاول كلّ طائفة أن تتبّرأ منها وتتّهم مخالفها بها. ولأجل إكمال البحث نتحدّث عن سند الحديث أوّلاً، ودلالته ثانياً على وجه الإجمال، وإليك متن الحديث بصوره:

1- روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال : «القدريّة مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم».

2- وروى أيضاً عن عبدالله بن عبّاس(1) أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم».

3- روى الترمذي عن عبدالله بن عبّاس قال : قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم:

«صنفان من اُمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، و القدرية»(2).

إذا عرفت متن الحديث فإنّ الكلام يقع في موردين:

الأوّل: في سند الحديث. فهل روي بسند صحيح يمكن الاحتجاج به أو لا؟

الثاني:

فما هو المقصود من القدريّة على فرض صحّته؟

أمّا من ناحية السند، فيكفي في ضعف الأوّل ما قاله المنذري: «إنّه منقطع لأنّه يرويه سلمة بن دينار عن ابن عمر، ولم يدركه، وقد روى عن ابن عمر من طرق لا يثبت منها شيء».

و يكفي في ضعف سند الثاني وجود «حكم بن شريك الهذلي البصري» فيه وهو مجهول لم يعرف.

______________________

1 . كذا في جامع الاُصول ولكن في سنن أبي داود، «عمر بن الخطاب» مكان «عبد الله بن عباس»، لاحظ: ج 4، ص228، الحديث 4710.

2 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

( 125 )

و في ضعف سند الثالث وجود «محمّد بن فضيل بن غزوان» وهو ضعيف(1).

أضف إلى ذلك أنّ جمعاً من الحفّاظ عدّوا أصل الحديث من الموضوعات. منهم سراج الدين القزويني قال: إنّه موضوع و تعقّبه ابن حجر(2).

و قال أبوحاتم: «هذا الحديث باطل»، وقال النسائي: «هذا الحديث باطل كذب»،وقال ابن الجوزي: «حديث لعن القدريّة لا شكّ في وضعه»(3).

هذا وضع السند، وأمّا الدلالة، فقد اختلف النّظر في مفاده، كلّ من المجبّرة والعدليّة يتبرّأ منه، ويريد تطبيقه على خصمه. فأهل الحديث و الحشويّة والسلفيّة والأشعريّة الّذين يتّسمون بسمة الجبرالجليّ أو الخفيّ، يفسّرون القدريّة بنفاة القدر، من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، والمعتزلة و أسلافهم، أعني دعاة الحريّة و الاختيار يتّهمون الجبرية بالقدريّة، لأنّهم قائلون بالقدر و التقدير، وأنّ كل شيء يتحقّق بتقدير من الله سبحانه و لا محيص عمّا قدّر وقُضي.

وهناك كلمة للعلاّمة محمّد بن علي الكراجكي (م 449) من تلاميذ الشيخ المفيد لا بأس بنقلها، قال : «ولم نجد في أسماء الفرق ما ينكره أصحابه و يتبرّأ منه سوى القدرية».

فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم «القدريّة»، وأهل الجبر

يقولون لأهل العدل: «أنتم القدريّة»،و إنّما تبرّأ الجميع من ذلك لأنّهم رووا _ من طريق أبي هريرة _ عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه لعن القدرية وقال : «إنّهم مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»(4).

وقد حاول الأشعري تطبيق الحديث على المعتزلة وقال : «زعمت القدريّة _ يريد بها المعتزلة وأسلافهم _ أنّا نستحقّ اسم القدر، لأنّا نقول: إنّ الله عزّ و جلّ قدّر الشرّ

______________________

1 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

2 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

3 . الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 275 _ 276 واللئالي المصنوعة للسيوطي، ج 1، ص 258.

4 . كنز الفوائد: ج 1 ص 123 ط بيروت.

( 126 )

والكفر، فمن يثبت القدر كان قدريّاً دون من لم يثبته».

ثمّ أجاب عن استدلال المعتزلة وقال : «القدريّ من يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ و جلّ، وأنّه يقدّر أفعاله دون خالقه، وكذلك هو في اللّغة، لأنّ الصائغ هو من زعم أنّه يصوغ دون من يقول إنّه يصاغ له، فلمّا كانت المعتزلة تزعم أنّهم يقدّرون أعمالهم ويفعلونها دون ربّهم، وجب أن يكونوا قدريّة، ولم نكن نحن قدريّة لأنّا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربّنا ولم نقل : إنّا نقدّرها دونه. قلنا إنّك تقدّر لنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّ القضاء و القدر من الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة بكثرة. والفاعل في الجميع هو الله سبحانه و تعالى، لا الإنسان قال تعالى : (والّذي قدّر فهدى)(الأعلى-3) وقال : (إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (القمر/49). فلو أطلق «القدريّة» يراد به المعتقد لما جاء في المصدرين من قضاء الله و قدره، لا المعتقد بأنّ الإنسان هو الّذي

يقدّر أفعاله و أعماله.

وأعجب من ذلك قياسه اسم الفاعل على المصادر المنسوبة، فالأوّل كالصائغ يراد منه الفاعل أي من يصوغ، دون الثانية. بل يراد منها المعتقد بالمصدر الّذي نسب إليه، كالجبريّة : من يعتقد بالجبر، والعدليّة : من يعتقد بالعدل، وهكذا.

ثمّ إنّ هنا محاولات اُخرى لأجل تطبيق الحديث على عقيدة دعاة الحريّة والاختيار غير ما عرفته من كلام الأشعري من أنّ الإنسان هو المقدّر لأعماله، كما عرفت ضعفه وإليك بيانها:

1- القدريّة منسوبة إلى «القدرة» بمعنى الاستطاعة، فمن قال بتأثير قدرة الإنسان في فعله و أنّها المصدر له، فهو قدريّ.

يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ هذا الوجه لوجب ضمّ الفاء دون فتحها، والمشهور هو الأوّل ولم يسمع الثاني.

______________________

1 . الابانة: ص 146.

( 127 )

أضف إليه أنّ المناسب على هذا الوجه هو التعبير «بالقادرية» لا «القدرية» بضمّ الفاء الّذي هو غير مأنوس للأذهان و الأفهام.

2_ إنّ الحديث من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، أي نفاة القدر و منكروه، وسيأتي في حديث أحمد ما يوافق ذلك.

يلاحظ عليه: أنّه لم ير مثله في أمثالها، فلا تطلق الجبريّة، ولا العدليّة على نفاة الجبر والعدل.

أضف إليه أنّه لم يظهر من هؤلاء _ أعني معبداً الجهني ولا غيلان الدمشقي _ إنكار التقدير بالمعنى الصحيح، غير المنافي للحريّة والاختيار، فإذا أردنا أن نعرف مذهبهم في مجال القضاء و القدر، فيلزم علينا الرجوع إلى مذهب خصومهم، فإنّ الاُمور تعرف بأضدادها، و حاشا أن يكون المسلم الواعي منكراً للقضاء والقدر الواردين في الكتاب و السنّة، غير السالبين للاختيار و الحريّة، غير المنافيين لصحّة التكليف و بعث الرسل. و إنّما أنكروا القدر بالمعنى الّذي كان البلاط و مرتزقته ينتحلونه لتبرير أعمالهم الإجراميّة، ولا يرون للإنسان ولا

لأنفسهم أيّة مسؤوليّة فيها، و يرفعون عقيرتهم بأنّ كلّ ما في الكون من خير و شرّ، وكظّة وسغب، إنّما يرجع إلى إرادته سبحانه. فلايصحّ الاعتراض على جوع المظلوم و شبع الظالم. وهؤلاء الأحرار قد قاموا في وجهالأمويين وأنكروا القدر بهذا المعنى الّذي يعرّف الإنسان كالريشة في مهبّ الريح.ونفي القدر بهذا المعنى، غير نفيه بالمعنى الصّحيح سواء فسّر بالعلم والارادة الأزليين، أم بتقدير الأشياء و القضاء على وجودها و تقدير الإنسان بينهما موجوداً مختاراً مسؤولاً عن فعله، والقضاء على ما يصدر منه بهذه الصورة على ما أوضحناه في محلّه.

3_ ما نقله الشيخ أبو زهرة عن الشيخ مصطفى الصبري شيخ إسلام (تركيا) السابق وهو مقاربة رأيهم بعض عقائد المجوس، فالمجوس ينسبون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان و كذلك هؤلاء القدريّة يفرقون بين الخير و الشر فيسندون الخير إلى الله

( 128 )

والشرّ إلى الشيطان(1).

يلاحظ عليه: أنّ نسبة الثنوية بالمعنى الّذي ذكره شيخ إسلام تركيا إلى المعتزلة رجم بالغيب، فإنّ المعروف من مذهب المعتزلة فضلاً عن أسلافهم هو نسبة الخير و الشرّ إلى الإنسان نفسه لا التّفريق بينهما.

وهذا كلام قاضي القضاة عبد الجبّار، يمنع بتاتاً عن انتساب فعل الإنسان إلى الله خيره و شرّه و يقول : «إنّ أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من الله و من عنده و من قبله، وذلك واضح، فإنّ أفعالهم حدثت من جهتهم و حصلت بدواعيهم و قصودهم، واستحقّوا عليها المدح و الذّم، والثواب و العقاب فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ...»(2).

هذا بعض الكلام حول الحديث و مفاده و من أراد البسط والاستيعاب فعليه المراجعة إلى «شرح الاُصول الخمسة ص 772 _

778، وشرح التجريد للعلاّمة الحلّي، ص 196، ط صيدا و شرح المقاصد للتفتازاني ج 2، ص 122 والتمهيد للباقلاني الفصل الثامن والعشرين».

ولو أنّ الرّسول يعدّ القدريّة في هذا الحديث مجوس هذه الاُمّة، ففي بعض ما روي عن ابن عمر عن الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدّت نفاة القدر مجوس الاُمّة، وإليك نزراً منه:

روى أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «لكلّ أُمّة مجوس، ومجوس أُمّتي الّذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم»(3).

وروى الترمذي و أبو داود عن نافع مولى ابن عمر أنّ رجلاً جاء ابن عمر فقال: «إنّ فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال ابن عمر : بلغني أنّه قد أحدث التكذيب بالقدر،

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 124.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 778.

3 . مسند أحمد: ج 2 ص 86.

( 129 )

فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني السّلام فإنّي سمعت رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول : «ويكون في هذه الأُمّة، أو في أمّتي _ الشكّ منه _ خسف و مسخ و ذلك بالمكذّبين بالقدر»(1).

ولا يخفى وجود التعارض الصّريح بين كون القدريّة مجوس الاُمّة، و كون نافي القدر مجوسها. و تفسير الأوّل بنفاة القدر تفسير بلا دليل، بل تفسير على خلاف اللّغة والعرف.

و يكفي في ضعف الحديث الثاني أنّه وقع التكذيب و صدر الشك في القدر في العصور الماضية، ولم يعمّ الخسف والمسخ للمكذّبين و الشاكّين فيه.

إنّ السابر في كتب الحديث والتاريخ والملل والنحل يرى العناية التامّة من أصحاب الحديث و غيره لمسألة القدر. و قد كانت تحتلّ في

تلك العصور، المكانة العليا بين المسائل العقيديّة حتّى كان مدار الإيمان و الكفر فكان المثبت مؤمناً و النافي كافراً.

هذا مع أنّ الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام آلاف القائلين بالشهادتين من دون أن يسألهم ولو في مورد عن القضاء والقدر، وأنّه هل يعتقد القائل، بأنّ الله سبحانه يقدّر أفعال الإنسان و أعماله، فيحكم عليه بالإسلام أو لا، فيحكم عليه بالكفر.

إذن فما معنى هذه العناية الحادثة بعد رحلة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بهذه المسألة؟

أليس هذا يدفع الإنسان إلى القول بأنّها كانت مسألة مستوردة، زرعها الأحبار والرّهبان، وغذّتها السلطة الأموية و ... وبالتالي شقّ بها عصا المسلمين و صاروا يكفّر بعضهم بعضاً.

هذا و إنّ الشيخ البخاري يروي عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة والحجّ وصوم رمضان»(2).

______________________

1 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526 _ 527.

2 . صحيح البخاري: ج 1 ص 7 من كتاب الايمان.

( 130 )

وروى عبادة بن الصامت و كان شهد بدراً و هو أحد النقباء ليلة العقبة: أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال _ وحوله عصابة من أصحابه _ : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله و من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، و من أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره الله، فهو

إلى الله إن شاء عفا عنه و إن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك(1).

فلو كان للاعتقاد بالقدر، تلك المكانة العظمى، فلماذا لم يذكره رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّمولو في مورد، ولماذا تركه سبحانه عند أمره رسوله بأخذ البيعة عن النساء؟(2)

كلّ ذلك يشرف الإنسان على القطع بأنّ البحث عن القدر و المغالاة فيه، كان بحثاً سياسياً وراء ه غاية سياسية لأصحاب السلطة و الإدارة. و إلاّ فلا وجه لأن يتركه الوحي في أخذ البيعة عن النساء. ولا الرسول الاكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في عرض الإسلام و تبيينه وقبوله من الآلاف المؤلفة من المتشرفين بالإسلام.

رسائل ثلاث حول القدر

ولو طلب القارئ الكريم التعرّف على التشاجر الّذي كان قائماً على قدم و ساق في بيان معنى القدر و أنّه ماذا كان يراد منه، وأنّه هل كان الاعتقاد به يوم ذاك ملازماً للجبر أو لا؟ فعليه بدراسة ثلاث رسائل في هذا المجال، تعدّ من بدايات علم الكلام في الإسلام وقد نشرت تلك الرسائل حديثاً وهي:

1- الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، والرسالة كتبت بايحاء من الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (م 86 ه_) و يرجع تأريخ تأليفها إلى عام 73 ه_ فيكون أقدم رسالة في هذا المجال إن صحّت النسبة إليه.

______________________

1 . صحيح البخاري: ج 1 ص 8 _ 9 من كتاب الايمان.

2 . الممتحنة / 12.

( 131 )

2- ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (م 101 ه_) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر،

والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل «ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه».

وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346-353.

3- ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري (م 110 ه_) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: «بلغنا عنك في القدر شيء» فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص 13-14.

قال الشهر ستاني : «ورأيت رسالة(1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن مروان و قد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية، والشدّة والرخاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشرّ، والحسن والقبيح، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم»(2).

ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً _ حتّى الصادر من العبد _ هو الله سبحانه دون العبد، ومن

______________________

1 . نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» ص 215 _ 223.

2 . الملل والنحل ج 1 ص 47، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.

( 132 )

كان هذا مذهبه،

يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري _ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة _.

وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه، لا على وجه التفويض من الله إليه، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين، واختيار كُوِّنت ذاته به، و حريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.

وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد (ت: 326 _ م _ 385) في الردّ على القدريّة أسماها «الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل».

وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:

رسالة الصاحب في الرد على القدريّة (المجبّرة)

زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد، ويحبُّ الكفر والعدوان، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد، وكيف يريد الفساد و قد نهى عنه و توعّد، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم، ولم يرد أن يعظّم، ورضى أن تجحد نعمه، وأحبّ أن لا تشكر مننه، قال الله تعالى : (وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ)(1) وقال تعالى :

(ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ(2))

______________________

1 . المؤمن / 31.

2 . الزمر / 9.

( 133 )

وقال تعالى : (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ)(1) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ _ إلى قوله _ و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ) (2) أي تكذبون.

فإن قالوا : وقال الله (وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ) (3) فقل: هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ(4) )وقال تعالى في سورة اُخرى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ) (5).

فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه، فهذا ينقلب في الأمر، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا، كلاّ...بل هو الغالب، و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً، بل أزاح عللهم، وأقدرهم و أمكنهم، فمن أحسن فإلى ثوابه، ومن أساء فإلى عقابه، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ)(6) وكقوله تعالى: (وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا _ إلى قوله _ أَجْمَعِينَ)(7) وقال تعالى: (لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)(8).

وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق الكفر و فاعله، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي

القيادة و موجدها، ومبتدع السرقة و محدثها، و كلّ قبائح العباد من صنعته، وكلّ تفاوت فمن عنده، وكلّ فساد فمن تقديره، وكلّ خطأ فمن تدبيره.

فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك، فإذا طولبوا بمعنى

______________________

1 . البقرة / 205.

2 . الأنعام / 148 .

3 . الدهر / 30.

4 . التكوير / 28 _ 29 .

5 . الدهر / 29 _ 30.

6 . يونس / 99 .

7 . السجدة / 13.

8 . البقرة / 256 .

( 134 )

الكسب لم يأتوا بشيء معقول، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً، وصواباً وعدلاً، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به، و إنّما تولّى المذمّة العاصي، إذ باع الآخرة بالدُّنيا، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها، إذ خلقها على ما خلقها، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما خلق و يذمّ مافعل، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد، أو من الله و من العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب، وقال تعالى : (يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ _إلى قوله _ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(1) )فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال: (وما هو من عند الله )(2).

وبعد، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة، فعلمنا أنّ الكفر

ليس منها، و هكذا أخبر تعالى بقوله : (الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ)(3) وقوله تعالى: (صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء(4) ).

فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام، والأصنام أجساد، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام، بل الله خلقها، ألا ترى أنّه قال تعالى : (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ)(6) .

فإن قالوا: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ)(7) فقل: إنّه أدلّ على العدل، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها، وعدلاً لا ظلم معها، تنزّه عن أن يسأل، ولم يرد بهذا ما

______________________

1 . آل عمران / 78.

2 . آل عمران / 78.

3 . السجدة / 7 .

4 . النمل / 88.

5 . الصافات / 96 .

6 . الصافات / 95 _ 96.

7 . الأنبياء / 23 .

( 135 )

تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم (كذا)، كلاّ ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل، وعدله الفائض، ولولا ذلك لم يقل: (لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل)(1) فنحن نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً، بل نقول: إنّها منه، بمعنى أنّه مكّن منها، ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها، وزجر وتوعّد عليها، وخوّف منها و أنذر، ونقول: إنّها من الشيطان

بمعنى أنّه دعا إليها و أغوى، و مَنّى في الغرور (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ(2) ) (أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ _ إلى قوله _ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (3) و قال تعالى في صفة الشيطان: (يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً) (4).

فإن قالوا: فقد قال تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ) (5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك، لأنّه تعالى يقول: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ _ إلى قوله _ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)(6) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله _ عليه السلام _ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ _ إلى قوله _ لا يَعْلَمُونَ) (7)فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّه _ يعني الخصب والجدب _ من عنده،إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ) (8) .

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار، وخلقهم أشقياء بلا ذنب

______________________

1 . النساء / 165.

2 . فصلت / 46 .

3 . النحل / 90.

4 . النساء / 120 .

5 . النساء / 78.

6 . النساء / 78.

7 . الاعراف / 131 .

8 . النساء / 79.

( 136 )

ولا جرم، وغضب عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه، وخذلهم من قبل أن يعصوه، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه، وقالت

العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته، ولم يخلقهم لمخالفته، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة، ولم يضلّ عن دينه و سبيله.

وكذا أخبر بقوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )(2).

فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل: «لام العاقبة» معناها أنّ مصيرهم إلى النار، كما قال تعالى: (فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) _ إلى(5) آخره _ وكذلك الجواب بقوله تعالى: (أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به، وأنّ الأنبياء _ عليهم السلام _ أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين، و قالت العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى )(7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي، و أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته، وذلك جزاء على سيئاتهم، وعقاب على جرمهم، قال الله تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ _ إلى قوله _ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)(8) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل

شياطين الجنّ والإنس، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال: (وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ )(9)وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:

______________________

1 . الذاريات / 56.

2 . ص /

75 .

3 . الأعراف / 179 .

4 . القصص / 8.

5 . القصص / 9 .

6 . آل عمران / 178 .

7 . فصلت / 16.

8 . البقرة / 26 _ 27 .

9 . طه / 85 .

( 137 )

(وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ) (1) وما يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.

وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم، وأراده منهم، وقضاه عليهم، عاقبهم عذاباً دائماً.

وقالت الع_دلي_ّ_ة :معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له (الوسع: دون الطاقة) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و عبث، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى: (لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل، قال تعالى: (ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) _ إلى آخره(3) _ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: (فَأَنّى يُؤْفَكُونَ) (5).

و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله، ونفيناها عنه سبحانه، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.

فإن

قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى أوينزّه عنها، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.

______________________

1 . البقرة / 286 .

2 . الشعراء / 99.

3 . آل عمران / 97.

4 . التكوير / 26 .

5 . العنكبوت / 61.

( 138 )

وبعد: فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا القول، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها، وقد قال عزّ من قائل : (وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) _ إلى آخرها _ (1).

تمّ الكلام في الق__دريّة

______________________

1 . النساء / 112.

( 139 )

الجهميّة

الجهميّة

الحركات الرجعية

الحركات الرجعية ونعني بها الحركات الفكرية الّتي ظهرت بين المسلمين بين القرنين الثاني والثالث، وهي ترمي إلى إرجاع الاُمّة إلى العقائد السائدة في العصر الجاهلي بين المشركين وأهل الكتاب، من القول بالجبر والتجسيم إلى غير ذلك من البضائع الفكريّة المستوردة منهم إلى أوساط المسلمين .

ولأجل إيقاف القارىء على نماذج من هذه الحركات، نبحث عن عدّة مناهج زرعت شروراً في المجتمع الإسلامي، وبقيت آثارها إلى العصر الحاضر لكن بتغيير الاسم والعنوان، وتحت غطاء مخدع. والسبب الوحيد لبثّ هذه السموم هو إقصاء العقل عن ساحة العقائد وإخضاعه لكلّ رطب ويابس يتّسم بسمة الحديث، وليس بحديث، بل يعدّ من مرويات العهدين وأقاصيص الأحبار والرهبان. وإليك بيان هذه الحركات واحدة تلو الاُخرى:

الجهميّة وسماتها: الجبر والتعطيل

مؤسّسها جهم بن صفوان السمرقندي(ت 128 ه_). قال الذهبي: «جهم بن صفوان، أبو محرز

السمرقندي الضالّ المبتدع، رأس الجهميّة، هلك في زمان

( 140 )

صغارالتّابعين، و ما علمته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً » (1).

قال المقريزي: «الجهميّة أتباع جهم بن صفوان التّرمذي مولى راسب، و قتل في آخر دولة بني أُميّة، و هو:

1- ينفي الصفات الإلهية كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه.

2- أنّ الإنسان لا يقدر على شيء و لا يوصف بالقدرة، ولا الإستطاعة.

3- أنّ الجنّة و النار يفنيان، و تنقطع حركات أهلهما.

4- أنّ من عرف اللّه ولم ينطق بالإيمان لم يكفر، لأنّ العلم لا يزول بالصمت، و هو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة. وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات و خلق القرآن ونفي الرؤية.

5- وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6- وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره(2).

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة (128ه_) كيفيّة قتله بيد نصر بن سيّار، ومن أراد فليرجع إليه(3).

وقد نسب إليه عبد القاهر البغدادي، أُصولاً تقرب ممّا نسب إليه المقريزي في خططه على ما عرفت.

وقال : «وكان جهم مع ضلالاته الّتي ذكرناها يحمل السّلاح و يقاتل السلطان

______________________

1 . ميزان الاعتدال: ج 1 ص 426 رقم الترجمة 1584.

2 . الخطط المقريزية: ج 3، ص 349 ولاحظ ص 351.

3 . الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 342 _ 345.

( 141 )

وخرج مع السريج بن حارث(1) على نصر بن سيّار و قتله سلم بن أحوز المازني في آخر زمان بني مروان، وأتباعه اليوم ب_(نهاوند)، وخرج إليهم في زماننا إسماعيل بن إبراهيم بن كبوس الشيرازي الديلمي، فدعاهم إلى مذهب شيخنا أبي الحسن الأشعري، فأجابه قوم منهم وصاروا مع أهل ا(2)لسنّة.

وقد نسب إليه الشهرستاني عدّة أُمور نذكر منها

أمرين:

1- إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالإستطاعة و إنّما هو مجبور على أفعاله لا قدرة له، والله هو الّذي يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال أثمرت الشّجرة، وجرى الماء، و تحرّك الحجر، وطلعت الشّمس و غربت، و تغيّمت السماء و أمطرت، واهتزّت الأرض و أنبتت، إلى غير ذلك، والثّواب و العقاب جبر. كما أنّ الأفعال كلّها جبر. قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف إذاً جبر.

2- إنّ حركات أهل الخلدين تنقطع، و الجنّة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما، وتلذّذ أهل الجنّة بنعيمها، وتألّم أهل النار بجحيمها، إذ لا تتصوّر حركات لا تتناهى آخراً، كما لا تتصوّر حركات لا تتناهى أوّلاً. وحمل قوله تعالى (خالدين فيها) على المبالغة و التأكيد دون الحقيقة في التخليد. كما يقال خلد الله ملك فلان، واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ) (هود / 107) فالآية اشتملت على شريطة واستثناء، والخلود و التأبيد لا شرط فيه ولااستثناء(3).

وقد نقل الشهرستاني عنه أُموراً أُخر، مضى بعضها في كلام غيره.

أقول: قاعدة مذهبه أمران:

______________________

1 . في تاريخ الطبري: الحارث بن سريج وهو الصحيح.

2 . الفرق بين الفرق: ص 212.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 87 _ 88.

( 142 )

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة و القدرة، فالجهم بن صفوان رأس الجبر و أساسه، ويطلق عليه و على أتباعه الجبريّة الخالصة في مقابل غير الخالص منها.

قال الشهرستاني: «الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الربّ تعالى، والجبريّة أصناف، فالجبرية الخالصة هي الّتي لا تثبت للعبد فعلاً و لا قدرة

على الفعل أصلاً. والجبريّة المتوسطة هي الّتي تثبت للعبد قدرة غير مؤثّرة أصلاً. فأمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثراً مّا في الفعل وسمّى ذلك كسباً فليس بجبري»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الفرق الثلاث كلّهم جبريّون من غير فرق بين نافي القدرة والاستطاعة كما عليه «الجهم» أو مثبتها، لكن قدرة غير مؤثّرة، بل مقارنة لإيجاده سبحانه فعل العبد وعمله، أو مؤثّرة في اتّصاف الفاعل بكونه كاسباً و الفعل كسباً، لما عرفت من أنّ القول بالكسب نظريّة مبهمة جدّاً لا ترجع إلى أصل صحيح، وأنّ القول بأنّه سبحانه هو الخالق المباشر لكلّ شيء لا يترك لنظريّة الكسب مجالاً للصحّة، لأنّ الكسب لو كان أمراً وجوديّاً فالله هو خالقه و موجده (أخذاً بانحصار الخلق في الله)، وإن كان أمراً عدميّاً اعتبارياً، فلا يخرج الفاعل من كونه فاعلاً مجبوراً(2).

وعلى أيّ تقدير، فالقول بالجبر و إذاعته بين الناس وانقيادهم له كان حركة رجعيّة إلى العصر الجاهلي، وقدكان الجبر سائداً على مشركي العرب و غيرهم(3).

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بصفات الكمال و الجمال ومن هنا نجمت المعطّلة. ولكنّه لم يتبيّن لي صدق ما نسبه إليه البغداديّ والشهرستاني من أنّه قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأنّ ذلك يقتضي تشبيهاً، فنفى كونه حيّاً عالماً و أثبت كونه قادراً، فاعلاً، خالقاً، لأنّه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق(4).

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 86.

2 . راجع: الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 130 _ 153.

3 . راجع: الجزء الأول ص 232.

4 . الملل والنحل: ج 1 ص 86.

( 143 )

وأظنّ أنّ مراده من قوله «بصفة يوصف بها خلقه» هي الصفات الخبرية، كاليد، والعين، والرجل، وما

أشبهها، مما أصرّ أهل الحديث والحشوية على توصيفه سبحانه بها، بالمعنى اللغوي الملازم للتجسيم و التشبيه.

هاتان قاعدتا مذهب الجهم، وأمّا غيرهما ممّا نسب إليه، فمشكوك جدّاً، وبما أنّه استدلّ لمذهبه في مورد عدم الخلود في الجنّة والنار بما عرفت من الآية، فنرجع إلى توضيح الآية فنقول:

جعل الجهم الاستثناء في الآية دليلاً على عدم الخلود.

يلاحظ عليه: أنّه استدلّ بالآية على عدم الخلود بوجهين:

الأوّل: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبّدتين بالضّرورة قال سبحانه: (مَا خَلَقْنَا السَّمواتِ وَالأرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إلاّ بِالحقِّ وَ أَجَلٌ مُسَمَّى) (الأحقاف/3) وقال تعالى: (وَالسَّمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر / 67).

الثاني: الاستثناء الوارد في الآية من الخلود بقوله: (إلاّ ما شاء ربّك) في كلا الموردين: نعيم الجنّة و عذاب الجحيم.

أمّا الأوّل: فالإجابة عنه واضحة، لأنّ المراد من السماوات والأرض فيها، ليس سماء الدنيا و أرضها، بل سماء الآخرة و أرضها، والاُوليتان فانيتان، والاُخريتان باقيتان والله سبحانه يذكر للنظام الآخر أرضاً و سماءً غير ما في الدنيا. قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا للّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ)(إبراهيم/48) وقال حاكياً عن أهل الجنّة: (وَقَالُوا الحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) (الزمر/74) فللآخرة سماء وأرض، كما أنّ فيها جنّة وناراً ولهما أهل، وتحديد بقاء الجنّة والنار وأهلها بمدّة دوام السماوات والأرض راجع إلى سماء الآخرة و أرضها وهما مؤبّدتان غير فانيتين، و إنّما تفنى سماء الدنيا و أرضها، وأمّا السماوات الّتي تظلّل الجنّة مثلاً و الأرض الّتي تقلّها وقد أشرقت بنور ربّها فهما ثابتتان غير زائلتين.

( 144 )

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه وصف الجنّه بأنّها عنده وقال: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّهِ بَاق) (النحل/96)

فالجنّة باقية غير فانية، ولا يفترق عنها الجحيم ونارها.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه في مورد الجنّة أوضح من الآخر، لأنّه يذكر فيها قوله (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ) الظّاهر في دوام النعمة وعدم تحقّق المشيئة.

توضيح ذلك أنّه سبحانه يقول في مورد أهل النار:

(فَأَمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأَرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ) (هود 106-107).

و يقول في أهل الجنّة:

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ) (هود / 108).

ترى أنّه سبحانه يذيّل المشيئة في آية الجنّة بقوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ)(1) الدالّ على عدم انقطاع النعمة، وأنّ تلك المشيئة أي مشيئة الخروج لا تتحقّق.

وعلى كلّ تقدير، فالجواب عن الاستثناء في الآيتين هو أنّ الاستثناء مسوق لاثبات قدرة الله المطلقة، وأنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة والنار، وملكه لا يزول ولا يبطل، وأنّ قدرته على الاخراج باقية، فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة و إن وعد لهم البقاء فيها دائماً، لكنّة سبحانه لا يخرجهم لمكان وعده، و الله لا يخلف الميعاد.

نعم قوله سبحانه في آية النّار (إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ) يشير إلى تحقّق المشيئة في جانب النار كما في المسلمين العصاة دون المشركين و الكفار.

التطوير في لفظ «الجهمي»

لمّا كان نفي الصفات عن الله، والقول بخلق القرآن ونفي الروٌية، ممّا نسب إلى

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ج 2 ص 494 ، والفرق بين الفرق ص 211.

( 145 )

منهج الجهم وقد عرفت أساس مذهبه فيما مرّ، صار لفظ «الجهميّ» رمزاً لكلّ من قال بأحد هذه الاُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر.

ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة و يراد منها المعتزلة أو القدريّة، وعلى هذا الأساس يقول أحمد بن حنبل:

«والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله و وقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهميّ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم»(1).

نعم، القوم و إن نسبوا إلى الجهم كون القرآن مخلوقاً، لكنّه بعيد جدّاً، لأنّه مات في آخر دولة الأمويين ولم تكن المسألة معنونة في تلك الأيّام، وإنّما طرحت في العصر العبّاسي خصوصاً في عصر المأمون.

وقد ألّف البخاري والإمام أحمد(2) كتابين في الردّ على الجهمية وعنيا بهم المعتزلة. والمعتزلة يتبرّأون من هذا الاسم. ويتبرّأ بشر بن المعتمر _ أحد رؤساء المعتزلة _ من الجهميّة في ارجوزته إذ يقول:

ننفيهم عنّا ولسنا منهم * ولا هم منّا ولا نرضاهم

إمامهم جهم وما لجهم * وصحب عمرو ذي التقى والعلم(3)

ويريد عمرو بن عبيد الرئيس الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء.

وعلى كلِّ تقدير، فعدُّ المعتزلة «جهميّة» ظلم و اعتساف، ولم يذكر أحد منم الجهم من رجالهم، وقد أرسل واصل بن عطاء، حفص بن سالم إلى خراسان، وأمره

______________________

1 . السنّة لأحمد بن حنبل: ص 49.

2 . طبع مع كتاب السنّة له.

3 . فجر الاسلام: ص 287 _ 288.

( 146 )

بلقائه فمناظرته و إنّه لقيه في مسجد «ترفد» حتّى قطعه(1).

* * *

مقاتل بن سليمان المجسِّم

إنّ القضاء على العقل في ساحة العقائد، والاعتماد على النّقل المحض _ الّذي انقطع أثره بعد رحلة رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى عصر أبي

جعفر المنصور _ إلاّ شيئاً لا يذكر أيّد هذه الحركات الرجعيّة لو لم نقل إنّة أنتجها.

ومن رافع ألوية التشبيه والتجسيم، وناقل أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثاني، هو مقاتل بن سليمان الذي كان هو و جهم بن صفوان في مسألة التنزيه والتشبيه على طرفي نقيض، فالأوّل غلا في التنزيه حتى عطّل، وذاك غلا في الاثبات حتى شبّه فهذا معطّل وذاك مشبّه، وقد مُلئت كتب التفاسير بأقوال مقاتل و آرائه فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: «كان يأخذ من اليهود والنصارى في علم القرآن الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، و كان يكذب في الحديث».

قال أبو حنيفة: «أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الاثبات حتّى جعله مثل خلقه».

وقال وكيع: «كان كذّاباً».

وقال البخاري: «قال سفيان بن عيينة: سمعت مقاتلاً يقول: إن لم يخرج الدجّال في سنة خمسين و مائة فاعلموا أنّي كذّاب»(2).

______________________

1 . طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار: 97 _ 163.

2 . لم يخرج الدجال في هذه السنة ولا بعدها، فهل يبقى الشك في أنه كذّاب؟ نعم، مات هو في تلك السنة فبموته مات الدجل والكذب القائم به.

( 147 )

وقال النسائي: «كان مقاتل يكذب».

وقال الجوزجاني: «كان دجّالاً جسوراً. سمعت أبا اليمان يقول: قدم هيهنا فلمّا أن صلّى الإمام أسند ظهره إلى القبلة وقال: سلوني عمّا دون العرش، وحدّثت أنّه قال مثلها بمكّة، فقام إليه رجل، فقال: أخبرني عن النّملة أين أمعاؤها؟ تم الكلام في الجهمية

( 148 )

( 149 )

الكراميّة

الكراميّة

الحركات الرجعيّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمّد بن كرّام السجستاني شيخ الكرامية (م 255).

قال الذهبي: «ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد

الجويباري ومحمّد بن تميم السعدي وكانا كذّابين».

قال ابن حبّان: «خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها...وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة».

و قال ابن حزم: «قال ابن كرّام: الإيمان قول باللسان، و إن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن. ومن بدع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام و قد سُقت أخبار ابن كرّام في تأريخي الكبير. وله أتباع و مريدون وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثم أخرج وسار إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255 ه_.»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما أسماه مؤمناً سمّاه القرآن منافقاً. قال سبحانه ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون/1).

______________________

1 . ميزان الاعتدال: ج 4 ص 21.

( 150 )

وقاعدة مذهبه التجسيم، وتوصيف الواجب باُمور حادثة، وكلّ ما يذكره أصحاب الملل والنحل يرجع إلى هذا الأصل، وأمّا أصنافهم فقد ذكر البغدادي أنّ للكرّامية بخراسان ثلاثة أصناف:حقائقية، والطزائقية و اسحاقية(1) وذكر الشهرستاني لها اثنتي عشرة فرقة و أنّ اُصولها ستّة.

وكانت الحركة الكرّامية، حركة رجعية بحتة حيث دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده، وأنّه جسم له حدّ ونهاية من تحت والجهة الّتي منها يلاقي عرشه. وقال البغدادي: وهذا شبيه بقول الثنوية: إنّ معبودهم الّذي سمّوه نوراً، يتناهى من الجهة التي تُلاقي الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات.

ومن عقائده: أنّ معبودهم محلّ للحوادث و زعموا أنّ أقواله و إراداته، و إدراكاته للمرئيات، وإدراكاته للمسموعات، وملاقاته للصفحة العليا من العالم، أعراض حادثة فيه، وهو محلّ لتلك الحوادث الحادثة فيه(2).

ومن غرائب آرائه أنّه وصف معبوده بالثِّقل و ذلك أنّه قال في كتاب «عذاب القبر» في تفسير قول الله عزّ وجلّ: ( إذا

السماء انفطرت ) : أنّها انفطرت من ثقل الرحمان عليها.

إلى غير ذلك من المضحكات والمبكيات في الاُصول والفقه. وقد ذكر البغدادي آراءه الفقهيّة أيضاً و ذكر فيه قصّة عجيبة من أرادها فليرجع إليه(3).

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات اُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النّبيّ أخطأ في تبليغ قوله «ومناة الثالثة الاُخرى» حتّى قال بعده: «تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتها ترتجى»(4).

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 215.

2 . الملل والنحل: ج 1 ص 108.

3 . الفرق بين الفرق: ص 218 _ 225.

4 . الفرق بين الفرق: ص 222.

( 151 )

مع أنّ قصّة الغرانيق اقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة وقد أوضحنا حالها في محاضراتنا باسم سيّد المرسلين صلَّى الله عليه و آله و سلَّم» فلاحظ.

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد والاكتفاء بالروايات، مع ما فيها من أباطيل و ترّهات وضعها الأعداء، واختلقتها الأهواء فهي من أسوأ الحركات الرجعية، الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

تم الكلام في الكرّامية

( 152 )

( 153 )

الظاهرية (1)

الظاهرية (1)

الحركات الرجعية

وهذا المسلك الفقهي منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري (ت 200 _ م 270) وسمع من سليمان بن حرب و أبي ثور.

قال الخطيب: «كان إماماً ورعاً، زاهداً ناسكاً، وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جدّاً»(2).

وقال ابن خلّكان: «كان من أكثر النّاس تعصّباً للإمام الشافعي وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقلّ و تبعه جمع كثير _ يعرفون بالظّاهرية _ وكان ولده _ أبوبكر محمّد _ على مذهبه، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد»(3).

وقد بسط الخطيب الكلام في تأريخه ونقل بعض ما

رواه وأشار إلى جوانب من حياته (4).

______________________

1 . التعرّض للمذهب الظاهري في المقام مع أنّه مذهب فقهي لا كلامي، لاشتراكه مع الحركات الرجعية الكلامية في طرد العقل والتفكير عن ساحة العلم، وقد ظهر ذلك المذهب في نفس الوقت الذي ظهرت فيه سائر المناهج الفكرية الكلامية والكل يحمل طابعاً واحداً وهو اعدام العقل واقصاؤه عن الأوساط العلمية فناسب ذكره في المقام.

2 . ميزان الاعتدال ج 2 ص 15.

3 . وفيات الأعيان ج 2 ص 255.

4 . تاريخ بغداد للخطيب ج 8 ص 369.

( 154 )

وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع و الأحكام، لا العقائد والاُصول فالمصدر الفقهي عنده هو النّصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها و إذا لم يكن النصّ أخذوا بالاباحة الأصليّة.

أقول: إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبّد بالنصوص، وعدم الافتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكنّ الجمود على حرفيّة النصوص شيء والتعبّد بالنصوص و عدم الافتاء في مورد لا يوجد فيه أصل و دلالة في المصدرين الرئيسيين شيء آخر. فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثّاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 _ إنّ الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروريّ الإنتاج من غير فرق بين الاُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتميّة لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكلّ مسكر حرام، فالفقاع حرام. لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين و لكن لا يفتي بالنتيجة بحجّة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 _ ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب و إن كان شيئاً غير مذكور في

نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيِّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: (فَلا تَقُلْ لَهُما اُفّ) (الإسراء/ 23) يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما و شتمهما بطريق أولى، ولكنّ الفقيه الظّاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ) (الأنفال / 38) فالموضوع للحكم «مغفرة ما سلف عند الانتهاء» و إن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضّرورة و هو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد. ولكنّ الظّاهري يتركه بحجّة أنَّه غير مذكور في النصّ.

( 155 )

وهذا النوع من الجمود يجعل النُّصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع و التقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوّة نبيّنا محمدصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه وسنتّه و....

وهؤلاء بين السنّة كالاخباريين بين الشيعة، غير أنّ الظاهرية ظهرت في القرن الثالث وقد عمل فيما لا نصّ فيه بالإباحة الأصليّة، والأخباريّة ظهرت في الشيعة في القرن العاشر وهم يعملون فيما لانصّ فيه بالاحتياط.

إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص له تفسيران; أحدهما صحيح جدّاً، والآخر باطل، فإن اُريد منه نفي الظنون الّتي لم يدلّ على صحّة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نصّ الكتاب العزيز. قال سبحانه: (قُلْ ءَاللّهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ)(يونس/59)، فالشيعة الإماميّة بفضل النصوص الوافرة عن أئمّة أهل البيت المتصلة أسنادها إلى الرسول الإكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت

عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنّية الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدّليل على حرمة العمل على بعضها كالقياس وقد ورد فى نصوص أئمّتهم _ عليهم السلام _ : «و إنّ السنّة إذا قيست محق الدين»(1).

و إن اُريد بها لوازم الخطاب أي ما يكون في نظر العقلاء كالمذكور أخذاً بقولهم: «الكناية أبلغ من التصريح» ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير النصوص. نعم ليس عملاً بالظّاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

وعلى ذلك الأساس يكون لوازم الخطاب حجّة إذا كانت الملازمة ثابتة بيّنة في نظر العقلاء الّذين هم المعنيّون بهذه الخطابات، كادّعائها بين وجوب الشيء و وجوب

______________________

1 . الوسائل ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

( 156 )

مقدّمته، أو حرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع وجوبه مع حرمته، إلى غير ذلك من المداليل الالتزامية كمفاهيم الجمل الشرطية أو الوصفيّة أو المغيّاة بغاية.

ولأجل كون هذه المداليل على فرض ثبوت الملازمة، بحكم المنطوق، ذهب المحقّقون في باب «المفاهيم» إلى أنّ النزاع في باب «حجّية المفاهيم» صغروي، أي في ثبوت أصل المفهوم والملازمة، وأنّه إذا قال المولى: إن سلّم زيد فأكرمه، هل يتبادر منه إلى الأذهان الصافية وجوب الاكرام عند التسليم، وارتفاعه عند انتفائه أو لا؟ لا كبروي، بمعنى البحث عن حجّية هذه الملازمة بعد ثبوتها، إذ لا كلام في الحجية بعد ثبوتها.

وبذلك يتبيّن الحقّ الصراح في مسألة «تبعية النصوص الشرعية» و عدم الخروج عن إطارها، وأنّ أهل السنّة فيها بين مفرط و مفرّط. والطريق الوسطى هي الجادة(1).

فأصحاب القياس والاستحسان مفرطون في الخروج عن النُّصوص الشرعيّة، ويعملون بما لم يدلّ على الاحتجاج به دليل.

كما

أنّ الظاهرية مفرِّطة فى عدم الخروج عن ظواهر النصوص بحرفيتها، وإن كان العقلاء على خلافهم في محاوراتهم العرفيّة، ومن المعلوم أنّه ليست للشارع طريقة للمفاهمة غير الطريقة الدارجة.

تلاميذه ومدى سلطان مذهبه

قال الخطيب في تأريخه: «روى عنه ابنه محمّد، وزكريّا بن يحيى الساجي، ويوسف بن يعقوب بن مهران الداودي، والعباس بن أحمد المذكّر، وهؤلاء رووا عنه و انتحلوا مذهبه» (2).

______________________

1 . اقتباس من كلام الامام علي عليه السلام في النهج قال: اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة. نهج البلاغة قسم الخطب الرقم 15 ط عبده.

2 . تاريخ بغداد ج 8 ص 370.

( 157 )

«ولكن عامّة الفقهاء والمحدّثين تركوا الرّواية عنه كما تركوا مذهبه، وكثرت المعارضة، وقلّ التأييد، ولم يكن لمذهبه سلطان إلاّ في بلاد الشرق (نيسابور وضواحيها) في القرنين الثالث والرابع. و نقل عن صاحب «أحسن التقاسيم» أنّه كان رابع مذهب في القرن الرابع في الشرق، وكان الثّلاثة الّتي هو رابعها:مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، ومالك، فكأنّه كان في الشرق أكثر انتشاراً أو تابعاً من مذهب أحمد إمام السنّة في القرن الرابع الهجري، ولكن في القرن الخامس جاء أبو يعلى وجعل المذهب الحنبلي مكانه، و بذلك زحزح المذهب الظاهري و حلّ محلّه»(1).

ابن حزم (ت 384_ م 458) آخر تلميذ فكري لداود الظاهري

قد عرفت أنّ أبا يعلى الحنبلي (م 458) قد زحزح المذهب الظاهري، وأحلّ محلّه مذهب إمامه أحمد في أواسط القرن الخامس و بذلك خبا ضوءه وانحسر عن المدارس الفقهيّة، ولم يبق له وجود إلاّ في ثنايا الكتب، لولا أنّ عليّ بن أحمد بن حزم الأندلسي أعاد ذكره بلسانه و قلمه، وألّف حول ذلك المذهب كتباً و رسائل و انتقل المذهب الظاهري من

الشرق إلى الغرب، ودخل الأندلس وقد حمل العبء وحده وخدم المذهب الظاهري بتأليفه:

1 _ الاحكام في اُصول الأحكام: بيّن فيه اُصول المذهب الظاهري.

2 _ النبذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 _ المحلّى: وهو كتاب كبير انتشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار. طبع في بيروت، بتحقيق أحمد محمّد شاكر.

نزر من آرائه الشاذّة

1 _ أفتى ببطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهيّة مستدلاً بقوله سبحانه:

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 351 نقلاً عن مقدمة «النبذ» للشيخ الكوثري.

( 158 )

(مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيء) (الأنعام/38) ولو كان ثمّة موضع للرأي لكان الكتاب قد فرّط في شيء، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوه إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) (النساء/59)(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بهاتين الآيتين يعرب عن كون ابن حزم فقيهاً ظاهريّاً بحتاً، ينظر إلى الظّواهر بحرفيّتها ولا يتأمّل حتّى في القرائن الموجودة في نفس الآيات.

أمّا الآية الاُولى; فالمراد من الكتاب فيها، هو صحيفة الكون لقوله سبحانه في صدرها: (وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ...) (الأنعام/38). لأنّ التفريط في المقام بمعنى التضييع و التقصير، والمعنى أنّ الدوابّ والطيور ل_مّا كانت أُمماً أمثال الإنسان، فما قصّر سبحانه في حقّهم من إعطاء الكمال بمقدار ما لها من اللّياقة والشأن.

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ المراد منه، هو اللّوح المحفوظ الّذي يسمّيه سبحانه في موارد من كلامه كتاباً مكتوباً فيه كلّ شيء، وأمّا تفسيره بالقرآن فضعيف لا يركن إليه بعد ملاحظة جمل الآية.

وأمّا الآية الثانية; فهي راجعة إلى القضاء في

المنازعات و المرافعات فالمرجع هو الله سبحانه و رسوله، ولا صلة للآية بحصر المصادر في الكتاب والسنّة.

ولأجل ذلك لم يذكر فيه الإجماع الّذي هو حجّة عند ابن حزم و مؤٌسّس منهجه، وما هذا إلاّ أنّ الآية وردت في مجال القضاء في المرافعات، دون الافتاء في الأحكام الكلّية.

توضيح ذلك: أنّ القضاء في المنازعات يشترك مع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة في أنّ كلاّ ً من القاضي والمجتهد يسعى لكسح الجهل و رفع الشبهة، غير أنّ الشّبهة في

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 388.

( 159 )

مجال القضاء، موضوعيّة على الأغلب مع كون الحكم الكلّي معلوماً، كاختلاف الناس في الأموال والديون، بخلاف الشبهة في مجال الاجتهاد فإنّ الحكم الكلّي مشتبه غير معلوم، والمجتهد يسعى بكلّ حول وقوّة رفع الشبهة، و إراءة مُحيّا الحقيقة.

والآية كما هو صريح سياقها، ناظرة إلى المقام الأوّل، ولا صلة لها بالمقام الثاني. يقول سبحانه بعد هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء/60) وقد ورد في أسباب نزولها ما يؤيّد ما ذكرناه فلاحظ.

2 _ يجوز للجنب مسُّ المصحف

قال في المحلّى: «وأمّا مسّ المصحف، فإنّ الآثار الّتي احتجّ بها من لم يجز للجنب مسّه، فإنّه لا يصحّ منها شيء، لأنّها إمّا مرسلة، وإمّا ضعيفة لا تسند، وإمّا عن مجهول... فإن ذكروا قول الله: (فِي كِتَاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ)(الواقعة/78 _ 79). فهذا لا حجّة لهم فيه، لأنّه ليس أمراً، وإنّما هو خبره والله تعالى لا يقول إلاّ حقّاً، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى

الأمر إلاّ بنصّ جلي أو إجماع متيقّن. فلمّا رأينا المصحف يمسّه الطّاهر و غير الطّاهر علمنا أنّه عزّوجلّ لم يعن المصحف و إنّما عنى به كتاباً آخر»(1).

واستدلّ على الجواز بعمل النّبي و أنّه كتب كتاباً إلى عظيم «بصرى» ليدفعه إلى هرقل وفيه قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَواءٌ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً) (آل عمران/64). وقد أيقن أنّهم يمسّون ذلك الكتاب(2).

______________________

1 . المحلى: ج 1 ص 83.

2 . الدر المنثور: ج 1 ص 40.

( 160 )

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ قوله (في كِتاب مَكْنُون) وصف ثان للقرآن في قوله: (بَل هوَ قُرآنٌ مجِيدٌ) والمراد أنّ القرآن في كتاب محفوظ من التّغيير و التبديل، والمراد من الكتاب هو اللّوح المحفوظ بشهادة قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ) (البروج/21 _ 22). وليس المراد منه المصحف، لاستلزامه وحدة الظرف و المظروف.

وثانياً: أنّ الظّاهر من ابن حزم الظاهري، أنّ الاستدلال على حرمة مسّ المصحف للجنب مبنيّ على تعيين المراد من الكتاب في قوله: (في كِتاب مَكْنُون)فهل المراد منه هو المصحف أو غيره؟ فعلى الأوّل يثبت حرمة مسّ المصحف لغير المتطهّر بخلاف الثاني.

فرجّح كون المراد منه هو غيره، لما ذكر من الدّليل ولكن خفى عليه أنّ الاستدلال ليس مبنيّاً على ما ذكره، بل الاستدلال مبنيّ على كون الضمير في قوله: (لا يمسّه) هل هو عائد إلى القرآن، أو إلى الكتاب، المتقدّمين عليه في الآية؟ فإن قلنا بالأوّل يكون المراد من المسّ هو مسّ كتابة القرآن، ومن التّطهير هو الطهارة من الخبث والحدث. ولا مناص عندئذ من حمل النّفي على النّهي لصيانة كلامه عن الكذب نظير قوله سبحانه:

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَ لا جِدَالَ فِي الحَجِّ)(البقرة/197). وقولهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا ضرر ولا ضرار» على القول الحق(1).

وإن قلنا بالثّاني، يكون المراد من المسّ، هو العلم به ويكون المراد من المطهّرين، من طهّر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي و أقذار الذنوب.

وأمّا تعيين أحد الاحتمالين فخارج عن موضوع البحث، وإنّما الهدف إراءة نماذج من تفكير ابن حزم.

أمّا الاستدلال بكتابة الآية و بعثها إلى عظيم «بصرى» والنبيّ يعلم أنّ الكافر سيمسّها.

______________________

1 . لاحظ محاضرات المؤلف باسم «قاعدتان فقهيتان» تقف على اسناد الحديث ومضمونه.

( 161 )

فيلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هم مكلّفون بالاُصول وهو بعدُ أمر متنازع فيه.

وثانياً: أنّ التسبيب إنّما يحرم إذا كان مؤدّياً إلى مسّ الجاهل القاصر، كما إذا وضع الإنسان يد غير المتطهّر على كتابة القرآن وهو جاهل أو غافل، لا ما إذا كان غير معذور كعظيم «بصرى» و غيره من الطغاة غير المعذورين في ترك الاُصول و مخالفة الفروع، إذ في وسعهم أن يعتنقوا الإسلام و يدخلوا تحت السلم و يتعرّفوا على اُصوله و يعملوا بفروعه ويجتنبوا محرّماته. وهذا الجواب سائد في تمكين الكافرين من الكتب الّتي فيها أسماؤه سبحانه بعد إتمام الحجّة عليهم وإن كان في جريانه في المقام خفاء.

وثالثاً: أنّ المصالح الكبرى الّتي تتبلور في بثّ الدّعوة الإسلاميّة في المناطق المعمورة و إنقاذ الأجيال عن الوثنيّة و عبادة الطغاة ربّما ترخّص للرسول أن يقوم بعمل ربّما ينتهي إلى مسّ غير المتطهّر آية من الكتاب العزيز وله نظائر في الشّريعة الإسلاميّة.

3 _ قاتل الإمام عليّ _ عليه السلام _ كان مجتهدا

وهذا هو النموذج الثالث من آراء الرّجل نأتي بنصّه من

كتاب المحلّى، فقال: «مسألة، مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون اختلف الناس في هذا: فقال أبو حنيفة: إذا كان للمقتول بنون وفيهم واحد كبير وغيرهم صغار، أنّ للكبير أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغار. ثمّ أورد على الشافعيّة القائلة بعدم الجواز بأنّ الحسن بن عليّ_عليهما السلام _ قد قتل عبدالرحمن بن ملجم، ولعليّ بنون صغار. ثمّ قال: هذه القصة (يعني قتل ابن ملجم) عائدة على الحنفيّين بمثل ما شنّعوا على الشافعيين سواء سواء، لأنّهم والمالكيّين لا يختلفون في أنّ من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك، ولا خلاف بين أحد من الاُمّة في أنّ عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل عليّاً _ رضي الله عنه _ إلاّ متأوّلاً مجتهداً مقدّراً أنّة على صواب و في ذلك يقول عمران بن حطّان شاعر الصفرية:

( 162 )

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه * أوفى البريّة عندالله ميزانا

أي لاُفكّر فيه ثمّ أحسبه، فقد حصل الحنفيّون من خلاف الحسن بن عليّ على مثل ما شنّعوا به على الشافعيّين و ما ينقلون أبداً في رجوع سهامهم عليهم، ومن الوقوع فيما حفروه(1).

يلاحظ عليه: أنّ الفقيه الأندلسي قد خرج في فتياه هذه عن مسلكه وهو التقيّد بالنصوص الشرعية تعبّداً حرفيّاً غير معتمد على العقل والاجتهاد، مع أنّه هو طرح النصّ ولجأ إلى الاجتهاد الخاطئ. فهذا هو النّبيّ الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول لعليّ: ألا أخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله قال: فإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود و خاضب لحيتك بدم رأسك(2).

وقد وصف النبيّ صلَّى الله عليه

و آله و سلَّم قاتل عليّ في غير واحد من أحاديثه بأنّه أشقى الآخرين وأشقى هذه الاُمّة(3).... إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا السياق.

والحقّ أنّ الاجتهاد الّذي يؤدّي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته بالنصّ، اجتهاد يهتزّ منه العرش ونحن أيضاً نصافق ابن حزم واُستاذه داود الاصفهاني في ردّ هذا القسم من الاجتهاد الّذي تكون نتيجته نجاح الخوارج المارقين عن الدين، وما ذكره من الشعر هو لعمران بن حطّان رأس الخوارج في عصره وقد أجابه معاصره القاضي أبوالطيب طاهر بن عبدالله الشافعي قائلاً:

يا ضربة من شقي ما أراد بها * إلاّ ليهدم للاسلام أركاناً

إنّي لأذكره يوما فألعنه * ديناً وألعن عمراناً و حطّاناً

______________________

1 . المحلى: ج 10 ص 482 _ 484.

2 . العقد الفريد: ج 2 ص 298.

3 . مسند أحمد: ج 4 ص 263.

( 163 )

عليه ثم عليه الدّهر متّصلا * لعائن الله إسراراً و إعلانا

فأنتما من كلاب الدّهر * جاء به نصّ الشريعة برهاناً وتبيانا(1)

وله في كتابه «الفصل» كلام يشبه ما ذكره في قاتل الإمام حيث عدّ فيه قاتل عمّار وهو أبو الغادية يسار بن سبع السلمي متأوّلاً مجتهداً مخطئاً مأجوراً بأجر واحد، وعدّ عمّاراً الثائر على الخليفة فاسقاً محارباً سافكاً دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان (2).

وما تلك المذاهب إلاّ نتيجة تقاعس العلماء الأخيار عن وظيفتهم، ونتيجة طرد العقل الصحيح الفطري عن مناهج الحياة.

ولا أظنّ أنّ إنساناً منصفاً يفكّر في هذه المناهج والمسالك، يعدّ دعاة الحرية والاختيار والتعقّل ضلاّلاً كفّارا، ودعاة الجبرية والتشبية والتجسيم والجمود الفكري علماء وعاة.

(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَاب فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْم هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ)(الأعراف/52).

تمّ الكلام حول الحركات الرجعية الثلاث

______________________

1 . مروج الذهب: ج

2 ص 415.

2 . الفصل: ج 4 ص 161.

المعتزلة

اشاره

7 _ المعتزلة

المعتزلة

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة، مدرسة فكريّة عقليّة، أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل له للقضاء فيه، ولها من نتائج الفكر والمعرفة ما شهد له التأريخ، ودلّت عليه كتب القوم و رسائلهم الباقية. وما نقله عنهم خصومهم و أعداؤهم. وباختصار، إنّه مذهب فكري كبير يزخر بمعارف حول المبدأ والمعاد، وبأنظار عقليّة أو تجريبيّة حول صحيفة الكون.

ومن المؤسف جدّاً أنّ هوى العصبيّة بل يد الخيانة و الجناية لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة و أطاحت به فأضاعتها بالخرق و المزق و إن كان فيما بقى و ما كشفت عنه بعثة وزارة المعارف المصريّة إلى اليمن و نشرتها(1) كفاية لمن أراد التعرّف على المذهب عن لسان شيوخهم، ثمّ دراستها، وسنتلو عليك قائمة الكتب الباقية أو المنشورة في هذه الآونة الأخيرة عنهم، وبالنّظر إليها يعلم أنّ الباقي يشكل طفيفاً من الكثير المضاع _ ومع ذلك _ فهو يستطيع أن يرسم لنا معالم هذا المذهب بوضوح بحيث يغني عن المراجعة إلى كتب خصومهم و أعدائهم.

إنّ ضياع كتب المعتزلة في القرون السابقة وعدم تمكّن الباحثين عنها، ألجأهم في

______________________

1 . أصدرت دار الكتب المصرية عام 1967 قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.

( 166 )

كتابة عقائدهم و تحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل و النحل، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين و موضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها(1).

إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة

تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب و خبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل و رسم التحقيق.

بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على «مقالات الإسلاميّين» للشيخ الأشعري و «الفرق بين الفرق» لعبد القادر البغدادي و «الملل و النحل» للشهرستاني، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة و يرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم و نقلهم حجّة في حقّهم، إلاّ إذا طابق الأصل، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً _ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله و تدمير مقالة الخصم _ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج، كما هو واضح لمن سبر.

إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي (المتوفّى عام 456 ه_) وابن خلدون المغربي (المتوفّى عام 808 ه_) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة و مؤلّفاتهم، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء...وهذا مبلغ علم الشهرستاني و اطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول: إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم(2) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه (أبو محمّد الخوارزمي) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه

______________________

1 . مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 732 يقول: إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال: وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا

بالواجبات عذِّبوا في القبر... وسيأتي البحث عنه في محلّه.

2 . الملل والنحل: ج 1 ص 169.

( 167 )

واُصوله والحديث: «ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله و كيف مال إلى شيء لا أصل له و اختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان»(1).

اهتمام المستشرقين بتراث المعتزلة

اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان و اختياره و حرّيتة، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة و بالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم و نشر كتبهم و تقدير فكرتهم و الدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.

ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل:

1 _ تأريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي الدمشقي، طبع في القاهرة عام 1331 ه_.

2 _ المعتزلة: تأليف زهدي حسن جار اللّهطبع في القاهرة عام 1366 ه_، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة و عقائدهم و أثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.

3 _ فجر الإسلام: لأحمد أمين المصري، الفصل الرابع، ص 283 _ 303.

4 _ ضحى الإسلام: له أيضاً، الفصل الأوّل ص 21 _ 107.

5 _ تأريخ المذاهب الإسلاميّة: تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة، ص123 _ 179.

______________________

1 . معجم البلدان: ج 3 ص 377 ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.

( 168 )

6 _ فضل الاعتزال

و طبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد السيّد، نشرته الدار التونسيّة للنشر، عام 1406 ه_، الطبعة الثّانية، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال: أبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار، و الحاكم الجشمي، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.

وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة و عقائدهم وإظهار الأسف و الأسى لذهاب ثروتهم العلميّة، و إنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها، عمل مبارك وجهد مقدّر، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو (آلفرد جيوم) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :

«إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك، فإنّ أملنا لكبير، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي»(1).

وهذا «شتيز» المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم.

ووصفهم «آدم ميت» و«هاملتون» بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (2).

وقال «جولد تسيهر»: «إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه

______________________

1 . من مقدمة كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له «آلفرد جيوم» اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام 1947 م = 1366 ه_.

2 . أدب المعتزلة: ص

172.

( 169 )

الناحية»(1).

وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول و الصّحابة والتابعين... وكتب السنّة و السيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.

يلاحظ عليه: أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره «جولد تسيهر» ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام و نبيّه، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط، و أحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.

وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، و إن اُريد منه الحكم القطعي من العقل، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.

هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.

أحمد أمين و مدرسة الاعتزال

إنّ أحمد أمين (الكاتب الشهير المصري) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط (م 311)، والكشّاف للزمخشري(م538)، وبعض كتب الجاحظ (م 255) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة

______________________

1 . المعتزلة بين العمل والفكر:ص 103، تأليف: علي الشابي، أبو لبابة حسن، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.

( 170 )

على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري (م 324)، ونهاية الاقدام للشهرستاني (م 548)، والاقتصاد للغزالي (م 505)،

والمواقف للعضدي (م 775) إلى غير ذلك، وهؤلاء كلّهم أعداء المعتزلة ولا يستطيعون تقرير مواقف خصومهم في المسائل مجرّدين عن كلّ انحياز، _ مع أنّه لم يقف _ تأثّر كثيراً بمنهج الاعتزال تبعاً لأساتذته الغربيّين، ولولاهم لما خرج الاُستاذ أحمد أمين عمّا حاكت عليه البيئة المصريّة الأشعريّة من الشباك الفكري قدر أنملة، ولا بأس بنقل جمل من إطرائه للمعتزلة في فصول مختلفة.

1 _ يقول حول توحيد المعتزلة و تنزيههم: «وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً»(1).

2 _ يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد: «وقالت المع_تزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخش_بة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل و حرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل»(2).

3 _ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام 231: «أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شكّ، ولم

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 68.

2 . نفس المصدر : ج 3، ص

70.

( 171 )

ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.

وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله»(1).

وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان «المعتزلة والمحدثون»:

كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.

هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.

ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.

وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 112.

( 172 )

الدين، والسياسة دائماً شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا

النّاس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه، ولم يكن له كلّ هذا الفضل، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.

فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.

فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.

فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.

ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون

أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به

( 173 )

وافتخروا، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون، ولله في خلقه شؤون»(1).

هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم، ولكن ل_مّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:

______________________

1 . رسالة الإسلام التي تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.

( 174 )

الفصل الأوّل

الفصل الأوّل

سبب تسميتهم بالمعتزلة

لقد شغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة، فاختار كلّ مذهباً، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال، مع التّحليل والقضاء بينها.

1 _ اعتزالهم عن علي _ عليه السلام _ في محاربته لمخالفيه

قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه «فرق الشيعة» عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان: «فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة، ثمّ افترقوا بعد ذلك و صاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايته _ عليه السلام _، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص،

وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي _عليه السلام_ وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.

وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة

( 175 )

قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم».

وذكر(1) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص) فركب حتّى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.

ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟

فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا(2).

غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: «ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه، وليس كذلك، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً _عليه السلام_ كان على صواب، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون

أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه _عليه السلام_ ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم»(3).

أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: «وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد» لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا

______________________

1 . فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 ه_.

2 . وقعة صفين ص 620 _ 621 طبع مصر.

3 . فضل الاعتزال ص 13 _ 14.

( 176 )

عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.

2 _ اعتزالهم عن الحسن بن علي _ عليهماالسلام _

وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية، نقله الملطي (المتوفّى عام 373) في «التنبيه والردّ» واستحسنه الكوثري(1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ _ عليهما السلام _ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة»(2).

أقول: هذا الرأي قريب

من جهة، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ _عليه السلام_ كما سيأتي، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن _ عليه السلام _ مع معاوية.

ومع ذلك كلّه، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن _عليه السلام_ وكان لها طابع سياسي، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه، لها طابع عقلي.

وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: «وهم سمّوا أنفسهم

______________________

1 . تعليق «تبيين كذب المفتري» ص 10.

2 . التنبيه والرد ص 26.

( 177 )

معتزلة» وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.

3 _ اعتزال عامر عن مجلس الحسن البصري

وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: «ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة»(1).

وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: «كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم ...

الخ» ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري(2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد، فكتب إليه قائلاً:

«فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله و عد»(3).

وقال المعلِّق على كتاب «فضل الاعتزال»: إذا كان ابن دريد و أبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة 35 وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه، إلى سنة 44 وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه».

______________________

1 . الاشتقاق ج 1 ص 213 كما في تعاليق «فضل الاعتزال» ص 15.

2 . كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام 36، حتّى عزله علي _ عليه السلام _ لأجل قعوده عن نصرة الامام.

3 . حلية الأولياء: ج 2 ص 93 _ 95.

( 178 )

يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (21)، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (110)، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 _ 44، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه، وقد قدّر الزركلي في كتابه «الأعلام» وفاة عامر نحو سنة (55)(1).

ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 _ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها، ول_مّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ

عليّ _ عليه السلام _ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ، وهو بعيد، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.

ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل، ازدراءً به، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ _ عليهما السلام _ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.

4 _ اعتزال واصل عن مجلس الحسن البصري

قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة

______________________

1 . الأعلام: ج 4 ، ص 21.

( 179 )

في عصر عليّ _ عليه السلام _ وبعده، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.

نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم

لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن و لا كافر. ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة(1).

و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى «عمرو بن عبيد». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي: «كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عبيد و نفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري و حلّقوا و ارتفعت أصواتهم، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال: إنّما هؤلاء المعتزلة، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة»(2).

وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» حيث قال: «وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له،

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 21، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.

2 . وفيات الأعيان ج 4 ص 85 رقم الترجمة 541.

( 180 )

فتابعه عمرو بن عبيد، ووافقه على التديّن به من قال بها و من اتّبعهما عليه،

إلى اعتزال الحسن البصري و أصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله و تفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس»(1).

ولولا قوله: «وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة و سائر العلماء» لكان نصّاً في هذه النظرية، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.

قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة، فنقلها المرتضى في أماليه ج 1 ص 167، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص 118، والشهرستاني في الملل و النحل ج 1 ص 48، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج 6 ص 8، والمقريزي في خططه ج 2 ص346.

وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور «نيبريج» المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض(2).

ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.

5 _ الاعتزال عن القولين السائدين في ذلك العصر

وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي (م 317) يقول: «والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف

______________________

1 . أوائل المقالات ص 5 _ 6.

2 . مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص 54.

( 181 )

وقع في أسماء مرتكبي الكبائر من أهل الصّلاة، فقالت الخوارج: إنّهم كفّار مشركون وهم مع ذلك فسّاق،

وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون لإقرارهم بالله و رسوله و بكتابه و بما جاء به رسوله وإن لم يعملوا به، فاعتزلت المعتزلة جميع ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والإيمان والنفاق و الشّرك، قالوا: لأنّ المؤمن وليّ الله، والله يجبّ تعظيمه و تكريمه وليس الفاسق كذلك، والكافر والمشرك و المنافق يجب قتل بعضهم و أخذ الجزية من بعض، وبعضهم يعبد في السرّ إلهاً غير الله، وليس الفاسق بهذه الصفة.

قالوا: فلمّا خرج من هذه الأحكام، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين أي الفسق منزلة بين الكفر والإيمان»(1).

و يظهر هذا من البغدادي أيضاً قال: «ومنها اتّفاقهم على دعواهم في الفاسق من اُمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنّه فاسق لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سمّاهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالهم قول الاُمّة بأسرها»(2) وفي الوقت نفسه نقل البغدادي، قصّة اعتزال «واصل» حلقة الحسن بنحو يوهم كون وجه التسمية هو اعتزال واصل مجلس الحسن. لاحظ ص 118.

ويظهر من ابن المرتضى تأييده. قال في ذيل كلامه: «سمّي و أصحابه معتزلة لاعتزالهم كلّ الأقوال المحدّثة و المجبّرة». ثمّ ردّ على من زعم أنّ إطلاق المعتزلة لمخالفتهم الاجماع بقوله: «لم يخالفوا الإجماع، بل عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأوّل ورفضوا المحدثات المبتدعة»(3).

ويظهر هذا أيضاً من نشوان بن سعيد اليمني حيث قال:

«وسمّيت المعتزلة معتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين وذلك أنّ المسلمين اختلفوا

______________________

1 . باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي ص 115.

2 . الفرق بين الفرق: ص 21 و 115، ط دار المعرفة.

3 . المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى ص 4 طبع

دار صادر .

( 182 )

في أهل الكبائر فقالت الخوارج: هم كفّار مشركون، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون، وقالت المعتزلة: لا نسمّيهم بالكفر و لا بالإيمان، ولا نقول إنّهم مشركون ولا مؤمنون بل فسّاق، فاعتزلوا القولين جميعاً و قالوا بالمنزلة بين المنزلتين فسمّوا بالمعتزلة»(1).

6 _ جعل الفاسق معتزلاً عن الإيمان والكفر

وهذه النظرية غير النظرية الماضية، فإنّ الاعتزال فيها كان وصفاً لنفس المعتزلة فهم اعتزلوا عن جميع ما اختلفت فيه من الآراء و أخذوا بالمتّفق عليه، ولكنّه في هذه النظرية وصف لمورد الخلاف، أعني الفاسق، فجعلوه معتزلاً عن الإيمان والكفر، فلا هو مؤٌمن ولا كافر، وتظهر تلك النّظرية من المسعودي في مروجه، قال في بيان الأصل الرابع من الاُصول الخمسة: «وأمّا القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع، فهو أنّ الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمّى فاسقاً على حسب ما ورد التّوقيف بتسميته وأجمع أهل الصّلاة على فسوقه».

قال المسعودي: «وبهذا الباب سمّيت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام مع ما تقدّم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار»(2).

وقال أيضاً: «مات واصل بن عطاء _ ويكنّى بأبي حذيفة _ في سنة إحدى و ثلاثين و مائة وهو شيخ المعتزلة و قديمها، وأوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أنّ الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سمّيت المعتزلة وهو الاعتزال»(3).

والدقّة في قوله: «وبه سمّيت...» (أي بعزل الفاسق عن الإيمان والكفر) تعطي أنّ وجه التسمية يعود إلى جعل الفاسق منعزلاً عنهما.

______________________

1 . شرح رسالة الحور العين: ص 204 _ 205.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 222، ط بيروت دار الأندلس.

3 . نفس المصدر : ج 4 ص 22، ط بيروت

دار الأندلس.

( 183 )

وهناك نظريّة سابعة ذكرها أحمد أمين المصري في فجر الإسلام ص 344، ولكنّها من الوهن بمكان لم يرتضها هو نفسه في كتبه اللاحقة فلنضرب عنها صفحاً.

إلى هنا خرجنا بهذه النّتيجة أنّه لو كان أساس الاعتزال هو واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، فتسميتهم بالمعتزلة، إمّا لاعتزال المؤسّس عن مجلس البحث أو باعتزاله عن الرأيين السائدين، أو لاعتقادهم بكون الفاسق منعزلاً عن الكفر والإيمان، وخروج مرتكب الكبيرة عن عداد المؤمنين والكافرين.

والعجب أنّ اُستاذ واصل كان يذهب إلى أنّه منافق، وأراد بذلك تخفيف أمره بالنسبة إلى الكافر، مع أنّ جزاء المنافق في الآخرة لو لم يكن أشدّ من الكافر ليس بأقلّمنه.

أرى أنّ إفاضة الكلام في تحقيق وجه التسمية أزيد من هذا خروج عن وضع الرسالة فلنرجع إلى سائر أسمائهم.

سائر ألقاب المعتزلة

فقد ذكر ابن المرتضى لهم أسماء اُخر.

1 _ العدليّة: لقولهم بعدل الله و حكمته.

2 _ الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله (1).

ولأجل هذا يطلق على هذه الطّائفة أهل العدل و التوحيد، ولعلّهم يعنون بالعدل مضافاً إلى ما ذكر ابن المرتضى نفي القدر بالمعنى المستلزم للجبر، أو يريدون بذلك نفي كونه سبحانه خالقاً لأفعال العباد، إذ فيه الظلم والقبيح والجور، وأمّا التّوحيد فإنّهم يريدون منه نفي الصفات الزائدة القديمة، فإنّ في الاعتقاد بزيادة الصفات اعتراف بقدماء معه سبحانه، وتنزيهه سبحانه عن التشبيه و التجسيم،

______________________

1 . المنية و الأمل ص 1.

( 184 )

وسيأتي أنّ هذين الأصلّين اللّذين يعدّان الرّكنين الأساسيين لمدرسة الاعتزال مأخوذان من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _.

3 _ أهل الحق: المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل الحقّ، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة، وقد فرغنا الكلام عن هذا الحديث و تعيين الفرقة

الناجية في الجزء الأوّل.

4 _ القدرية: يعبّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة. والمعتزلة يطلقونها على خصمائهم، وذلك لما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة. فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر عِدْل القضاء، فتنطبق على خصماء المعتزلة القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة، أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره و تمكّنه في إيجاده، فتنطبق _ على زعم الخصماء _ على المعتزلة لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث و ذكر كلّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها(1).

والحقّ أنّ المتبادر من الحديث هو القدريّة المنسوبة إلى القدر الّذي هو بمعنى التقدير، و إطلاقه على مثبت القدر كأهل الحديث والحنابلة متعيّن، إذ لا يطلق الشيء و يراد منه ضدّه.

فلو كان المراد منه المعتزلة يجب أن يراد منها نفي القدر. وقد روي عن زيد بن عليّ أنّه قال _ حين سأله أبو الخطّاب عمّا يذهب إليه _ : «أبرأ من القدريّة الّذين حملوا ذنوبهم على الله ومن المرجئة الّذين أطمعوا الفسّاق». هذا، ولقد أوضحنا المراد من الحديث في محلّه(2).

5 _ الثنوية: المعتزلة يدعون بالثنوية و لعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم لقولهم

______________________

1 . لاحظ في الوقوف على هذه الوجوه كشف المراد للعلامة الحلي ص 195، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 143، وقد مضى الكلام في سند الحديث ودلالته في فصل القدرية من هذا الجزء فلاحظ.

2 . لاحظ الجزء الأول من الملل والنحل للمؤلف ص 103 _ 109 ولاحظ الالهيات في ضوء الكتاب والسنة والعقل: محاضراتنا الكلامية بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي.

( 185 )

الخير من الله

والشرّ من العبد.

وهناك وجه آخر لتسميتهم بالثنويّة، أو المجوسيّة، وهو أنّ المعتزلة قالت باستقلال الإنسان في ايجاد فعله، بل نقل عن بعضهم القول بحاجة الموجود في حدوثه إلى الواجب دون بقائه و استمراره، فصيّروا الإنسان كأنّه مستقلّ فى فعله، بل صيّروا الممكنات كواجب غنىّ عن العلّة في بقائه و استمراره، دون حدوثه.

ولكنّ النسبة غير صحيحة، إلاّ إلى بعض المتأخّرين من المعتزلة، ولم يظهر لنا أنّ المتقدّمين منهم كانوا على هذا الرأي.

6 _ الوعيديّة: و إنّما اُطلقت عليهم هذه الكلمة لقولهم بالوعد والوعيد، وأنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده و أنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ولا يغفر له جزماً و يخلّد في النار و يعذّب عذاباً أضعف من عذاب الكافر.

7 _ المعطّلة: أي تعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، وهذا اُلصق بالجهميّة الّذين يعدّون في الرعيل الأوّل فى نفي الصفات.وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

1 _ القول بالنيابة، أي خلوّ الذات عن الصفات ولكن تنوب الذات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم «خذ الغايات واترك المبادئ»، وهذا مخالف لكتاب الله و السنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدث عنه ولا حرج، لأنّ الكمال يساوق الوجود وكلّما كان الوجود أعلى و أشرف يكون الكمالات فيه آكد.

2 _ عينيّة الصفات مع الذات و اشتمالها على حقائقها. من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم والقدرة.

وهذا هو الظاهر من خطب الإمام أمير المؤمنين _عليه السلام_ ، وتعضده البراهين

( 186 )

العقليّة و إطلاق المعطّلة على هذه الطائفة لا يخلو من

تجنّ وافتراء.

والأولى بهذا الاسم أهل الحديث و الحنابلة، فإنّهم المعطِّلة حقيقة، إذ عطّلوا العقول عن معرفة الله و أسمائه و صفاته و أفعاله، ومنعوا الخوض فى المسائل العقليّة، وكأنّ العقل خلق لا لغاية إلاّ للسعي وراء الحياة الماديّة.

8 _ الجهميّة:(1) وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكلّما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهمي يريد به المعتزلة لما وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل، و إن كانت الجهمية متقدّمة على المعتزلة، لكنّها على زعمهم مهّدوا السّبيل للمعتزلة ، مع أنّك عرفت أنّ واصلاً أرسل أحد تلاميذه إلى معارضته و أنّهم لا يعدّون الجهم من رجالهم أو طبقاتهم لاختلافهم معه في بعض المسائل الجوهرية، فإنّ الجهم جبريّ والمعتزلة قائلة بالاختيار، ولعلّ بعض هذه التسميات من مصاديق قوله سبحانه (ولا تنابزوا بالألقاب)(الحجرات/11).

9_ المفنية:

10 _ اللفظيّة:

وهذان اللقبان ذكرهما المقريزي وقال: أنّهم يوصفون بالمفنية لما نسب إلى أبى الهذيل من فناء حركات أهل الجنّة و النار، واللّفظيّة لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة والقبريّة لانكارهم عذاب القبر(2).

______________________

1 . نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد عرفت القول في عقائده وآرائه وأنّ المهم منه أمران: نفي الرؤية والجبر.

2 . الخطط للمقريزي: ج 4، ص 169.

( 187 )

الفصل الثاني

الفصل الثاني

المبادئ الفكرية للاعتزال

و خطب الإمام عليّ _ عليه السلام _

قد تعرّفت فيما مضى على تأريخ ظهور المعتزلة و أنّ الاعتزال بعنوان المنهج الفكري العلمي لا السياسي يرجع إلى أوائل القرن الثاني، وذلك عندما اعتزل واصل بن عطاء عن حلقة الحسن البصري و شكّل حلقة دراسية فكريّة في مقابل اُستاذه، والقرائن القطعيّة تؤكّد بظهوره في أوائل ذلك القرن، فإنّ واصل بن عطاء من مواليد عام 80 من الهجرة، وقد توفّي اُستاذه الحسن البصري

عام 110، فمن البعيد أن يستطيع إنسان على تشكيل حلقة دراسيّة قابلة للذكر في مقابل الخطيب الحسن البصري، وله من العمر دون العشرين. وهذا يؤكّد على أنّ الاعتزال ظهر في أوائل القرن الثاني.

ثمّ إنّ القول بالمنزلة بين المنزلتين و إن كان يعدُّ منطلق الاعتزال، ومغرس بذره، ولكن حقيقة الاعتزال لا تقوم بهذا الأصل، ولا يعدّ الدرجة الاُولى من اُصوله، فإنّ الأصلين التوحيد والعدل يعدّان حجر الأساس لهذا المنهج، وسائر الاُصول في الدرجة الثانية.

وفي ضوء هذا يقف القارئ بفضل النصوص الآتية على أنّ الاعتزال أخذ ذينك الأصلين من البيت العلويّ عامّة، ومن خطب الإمام عليّ _عليه السلام_ وكلماته خاصّة، ولأجل ذلك يجب أن يعترف بأنّ الاعتزال أخذ الاُصول الأصليّة لمنهجه من بيت الولاية.

ولأجل ايقاف القارئ هذا الاستنتاج، نضع أمامه شواهد من التأريخ والاعترافات الّتي أجهر بها شيوخ المعتزلة:

1 _ هذا هو الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع يقول: «والمعتزلة يقال إنّ لها و لمذهبها أسناداً تتّصل بالنبيّ وليس لأحد من فرق الاُمّة مثلها، وليس يمكن لخصومهم دفعهم

( 188 )

عنه، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وأنّ واصلاً يسند إلى محمّد بن عليّ بن أبي طالب و ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي، وأنّ محمّداً أخذ عن أبيه علىّ و أنّ علياً عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم(1).

2 _ كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمّد بن عليّ بن أبي طالب و علّمه، وكان مع ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمّد في الكتاب، ثمّ صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة، وحكي عن بعض السّلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمّد بن عليّ؟ فقال:

إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل. ثمّ انتقل واصل إلى البصرة فلزم الحسن ابن أبي الحسن (2).

3 _ وقال القاضي عبد الجبّار في «طبقات المعتزلة»: «وأخذ واصل العلم عن محمّد بن الحنفيّة وكان خالاً لأبي هاشم وكان يلازم مجلس الحسن»(3).

وما ذكره القاضي لا ينطبق على الحقيقة، فإنّ واصل بن عطاء الغزّال ولد بالمدينة سنة ثمانين، وقد مات محمّد بن الحنفيّة عام 80 أو 81، فلا يصحّ أخذ العلم منه، والصّحيح أن يقال أخذ واصل العلم من أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وقد نقل المحقّق أنّ في حاشية الأصل «من أبي هاشم».

والصّحيح ما في عبارته التالية، قال:

4 _ وقال: «إنّ أبا الهذيل قد أخذ هذا العلم عن عثمان الطّويل، وأخذ هو عن

______________________

1 . ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي: ص 68.

2 . ذكر المعتزلة للكعبي: ص 64.

3 . طبقات المعتزلة: ص 234.

( 189 )

واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، وأخذ واصل و عمرو عن أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمّد بن الحنفيّة، وأخذ محمّد عن أبيه عليّ بن أبي طالب _عليه السلام_ وأخذ عليّ عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم»(1).

وقد تنبّه الشريف المرتضى لما ذكرنا. قال: «وذكر أبو الحسين الخيّاط أنّ واصلاً كان من أهل مدينة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم ومولده سنة ثمانين و مات سنة إحدى و ثلاثين و مائة. وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وصحبه، و أخذ عنه و قال قوم إنّه لقى أباه محمّداً و ذلك غلط، لأنّ محمّداً توفّي سنة ثمانين أو إحدى و ثمانين و واصل ولد

في سنة ثمانين»(2).

5 _ وقال القاضي أيضاً: «فأمّا أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن عليّ، فلو لم يظهر علمه و فضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه.

فكان واصل بما أظهر بمنزلة كتاب مصنّفه أبو هاشم، وذكر قوله فيه. وكذلك أخوه، فإنّ غيلان يقال إنّه أخذ العلم من الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أخي أبي هاشم»(3).

6 _ وقال الشهرستاني: «يقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة»(4).

7 _ وقال ابن المرتضى: «وسند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق، إذ يتّصل إلى واصل و عمرو اتّصالاً شاهراً ظاهراً. وهما أخذا عن محمّد بن علي بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد، ومحمّد هو الذي ربّى واصلاً و علّمه حتّى تخرّج واستحكم. ومحمّد أخذ عن أبيه عليّ بن أبي طالب _عليه السلام_ عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم».

______________________

1 . المصدر نفسه: ص 164.

2 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 164 _ 165.

3 . طبقات المعتزلة: ص 226.

4 . الملل والنحل: ج 1 ص 49.

( 190 )

8 _ وقال أيضاً: «ومن أولاد عليّ _عليه السلام_ أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وهو الّذي أخذ عنه واصل وكان معه في المكتب فأخذ عنه و عن أبيه، وكذلك أخوه الحسن بن محمّد اُستاذ غيلان و يميل إلى الإرجاء»(1).

9 _ وقال ابن أبي الحديد: «إنّ أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم و من كلامه (عليّ عليه السلام) اقتبس و عنه نقل، ومنه ابتدأ وإليه انتهى. فإنّ المعتزلة _ الّذين هم أهل التوحيد والعدل و أرباب النظر،

ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ _ تلامذته و أصحابه، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة. وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام»(2).

10 _ وقال المرتضى في أماليه: «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين _ صلوات الله عليه _ و خطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه، و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الاُصول، وروي عن الأئمّة (من أبنائه _ عليهم السلام _) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحبّ الوقوف عليه و طلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة»(3).

11 _ وقال القاضي عبدالجبّار: «وهذا المذهب _ أعني صاحب الكبيرة لايكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً بل يكون فاسقاً _ أخذه واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وكان من أصحابه»(4).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 5 _ 6 وص 11.

2 . الشرح الحديدي: ج 1 ص 17.

3 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 148.

4 . شرح الاُصول الخمسة: ص 138

( 191 )

12 _ وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن: «فقد نسبت المعتزلة عقائدها إلى عليّ ابن أبي طالب، و قلّما نجد كتاباً من كتبهم و على الأخصّ كتب المت_أخّرين منهم إلاّادّعوا ف_يه أنّهُ ليس ثمّة مؤسّس لمذهب الاع_تزال و علم الك_لام غير الإمام عليّ _ عليه السلام _ »(1).

13 _ يقول محقّق كتاب شرح الاُصول الخمسة: «ويؤكّد المعتزلة أنّهم تلقّوا هذه الاُصول

عن الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ ويذكرون سندهم في ذلك و نحن نثبت فيما يلي هذاالسند _ كما على أوّل ورقة من شرح الاُصول(2) _ تعليق الفرزاذي .

يقول:أخذهذه الاُصول من الفقيه الإمام الأوحد نجم الدين أحمد بن أبي الحسين الكني، وهو عنالفقيه الإمام الأجلّ محمّد بن أحمد الفرزاذي، وهو عن عمّه الشيخ السعيد البارع إسماعيل بن عليّ الفرزاذي، وهو عن محمّد بن مزدك، وهو عن أبي محمّد بن متّويه، وهو عن الشيخ أبي رشيد النيسابوري، وهو عن قاضي القضاة عماد الدين عبد الجبار بن أحمد _ رحمه الله _ وهو عن الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، و هو عن الشيخ أبي علي ابن خلاّد، و هو عن الشيخ أبي هاشم و هو عن أبيه الشيخ أبي علي الجبائي وهو عن أبي يعقوب الشحام، وهو عن عثمان الطّويل، وهو عن الشيخ أبي الهذيل، وهو عن واصل ابن عطاء، وهو عن أبي هاشم (3)محمّد بن الحنفية، وهو عن أبيه أمير المؤمنين عليّ _عليه السلام_ وهو عن خير الأوّلين والآخرين و خاتم النبيّين محمد المصطفى _ صلوات اللّهعليه _ وهو عن جبرئيل _عليه السلام_ وهو عن الله تعالى وليس لأحد من أرباب المذاهب مثل هذا الإس(4)ناد. أفبعد هذه التصريحات يبقى شكّ في أنّ المعتزلة في اُصولهم عالة لعلوم أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ .

______________________

1 . تاريخ الاسلام: ج 2، ص 156، الطبعة السابعة.

2 . النسخة المخطوطة.

3 . وفي العبارة سقط والصحيح: «عبدالله بن محمد عن أبيه».

4 . مقدمة شرح الاُصول الخمسة ص 24.

( 192 )

وسيوافيك التصريح من القاضي عبد الجبّار أنّ اُصول الاعتزال ترجع إلى أصلين : التوحيد والعدل، وأمّا الاُصول الثّلاثة فهي داخلة تحت

الأصلين وقد عرفت أنّ المعتزلة أخذت الأصلين من أئمّة أهل البيت _عليهم السلام _.

14_ وقال أبو سعيد بن نشوان الحميري(ت573) إنّ لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ليس لأحد من فرق الاُمة مثلهم، و لا يمكن لحضومهم دفعه و ذلك ان مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء و ان واصلا يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفيه، و إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي و ان محمد يسند إلى ابنه علي بن أبي طالب _ رضى الله عنه _ و إن علياً يسند إلى النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1) .

15_ و قال بن المرتضى: و سند مذهبهم أصح أسانيد أهل القبلة إذ يتصل إلى واصل و عمرو... عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحنفيه عن أبيه علي _عليه السلام _ عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ما ينطق عن الهوى (2) .

(كَلاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةً * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه)

______________________

1 . الحور العين: 206.

2 . البحر الزخار 1: 44.

الفصل الثالث

الفصل الثالث

الشيعة والمعتزلة أيّتهما أصل للآخر

إنّ بعض المتسرِّعين من الكتّاب المتأخّرين كأحمد أمين المصريّ ومن حذا حذوه، يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في الاُصول والعقائد من المعتزلة، لما رأوا من وحدة العقيدة في القول بالتوحيد والعدل، وإنكار الرؤية و إثبات الحسن والقبح العقليين، وقدرة العبد و اختياره في أفعاله إلى غير ذلك من المبادئ المشتركة بين الطّائفتين.

نظريّة أحمد أمين و مناقشتها

يقول أحمد أمين : «ولقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلّمي الشيعة

الإماميّة، فكنت كأنّي أقرأ كتاباً من كتب اُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة ولكن أيّهما أخذ من الآخر؟

أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة أخذوا عنهم، وأنّ واصل بن عطاء تتلمذ على جعفراً الصّادق _ عليه السلام _ وإنّي اُرجّح أنّ الشيعة أخذوا من المعتزلة تعاليمهم، ونشوء مذهب الاعتزال يدلّ على ذلك».

استدلّ أحمد أمين على ما يرتئيه بأنّ زيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعيّة الزيديّة تتلمذ لواصل بن عطاء.

وكان جعفر الصادق _عليه السلام_ يتّصل بعمّه زيد. ويقول أبو الفرج في «مقاتل

( 194 )

الطالبيّين» : «كان جعفر بن محمّد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب، ويسوي ثيابه على السرج» فإذا صحّ ما ذكره الشهرستاني و غيره من تتلمذ زيد لواصل، فلا يعقل كثيراً أنيتتلمذ واصل لجعفر، وكثير من المعتزلة كان يتشيّع، فالظّاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت اُصول المعتزلة إلى الشيعة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا اُصولهم من أبي هاشم ابن محمّد الحنفيّة، وأخذ هو عن أبيه محمّد، وهو أخذ من عليّ بن أبي طالب ومع هذا التنصيص من نفس المعتزلة فما معنى هذا الاجتهاد؟

ترى ابن المرتضى يعدّ عليّاً من الطبقة الاُولى للمعتزلة، كما يعدّ الحسنين اللّذين اشتهر منهما القول بالتوحيد والعدل من الطبقة الثانية. وهكذا يذكر عدّة من علماء أهل البيت كالنفس الزكيّة وغيره من الطّبقة الثالثة. وقد نقل في كتابه هذا كلمات أئمّة أهل البيت وعلمائهم في الاُصول والعقائد(2).

ومع هذا كيف يصحّ أن تكون الشيعة عالة على المعتزلة؟!

ونظير ذلك ما ذكره القاضي عبد الجبّار المعتزلي في «فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة»(3).

أفبعد هذا التنصيص منهم يصحّ الاجتهاد في مقابل النصّ ؟!

وأمّا ما استند

إليه أحمد أمين، فالحقّ أنّه لم يثبت أوّلاً تتلمذ واصل للإمام الصادق _عليه السلام _ حتّى يثبت قوله: إنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل وهو زيد، ولميدّع أحد من المحقّقين تتلمذه للصّادق. كما أنّه لم يثبت تتلمذ زيد بن عليّ لواصل.

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 267 _ 268، الطبعة الثالثة.

2 . المنية والأمل: ص 7 _ 10.

3 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 214.

( 195 )

ومن سبر تأريخ أئمّة أهل البيت و ذرّيتهم الطيّبة وقف على أنّهم لم يدقّوا باب أحد من الناس، بل تلقّوا ما تلقّوه عن نفس الأئمّة، على أنّ زيد بن عليّ قد صلب عام 121 وله من العمر في ذلك الوقت 42. فيكون من مواليد عام 79 أو 80، وكان واصل من مواليد عام 80، فمن البعيد أن يكون وليد البيت العلويّ تلميذاً لمن هو أصغر منه سنّاً أو مثله، وقد عدّه الرجاليون من أصحاب أبيه عليّ السجاد _عليه السلام_ (م 94) وأخيه الإمام الباقر _عليه السلام_ (م 114) والإمام الصادق _عليه السلام_ الّذي استشهد زيد في حياته.

نظريّة بعض المستشرقين و مناقشتها

وهناك رجال آخرون قد وقعوا في نفس هذه الشبهة، وأرسلوها إرسال المسلّمات، إمّا مجرّدة عن الدّليل أو مقرونة بتلفيقات غير منتجة. فمن الطائفة الاُولى المستشرق «آدم متز» يقول:

«لم يكن للشيعة حتّى ذلك الوقت (عام 334) مذهب كلامي خاصّ بهم، فاقتبسوا عن المعتزلة اُصول الكلام و أساليبه... حتّى إنّ ابن بابويه أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري اتّبع في كتابه «العلل» طريقة علماء المعتزلة الّذين كانوا يبحثون عن علل كلّ شيء _ إلى أن قال _: إنّ الشيعة من حيث العقيدة و المذهب هم ورثة المعتزلة»(1).

يلاحظ عليه

أوّلاً : أنّ ما ذكره يعرب عن قلّة اطّلاع المستشرق على الثّقافة الشيعية، وعدم تعرّفه على المتكلمين البارزين فيهم قبل السنة المذكورة. ويكفي في ذلك مراجعة كتاب «تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام» للسيد حسن الصدر ص353 _ 402. لقد كان للشيعة متكلّمون بارعون في الجدل و المناظرة في أبواب العقائد في القرون الثلاثة الاُول. وها نحن نأتي بأسماء نماذج من أبرع متكلّمي الشيعة في

______________________

1 . الحضارة الاسلاميّة في القرن الرابع الهجري لآدم متز: ج 1 ص 102.

( 196 )

القرن الثاني، ونترك البحث عن غيرهم من السابقين واللاحقين إلى محلّه.

1 _ عيسى بن روضة

يعرّفه النجاشي بقوله: «عيسى بن روضة حاجب المنصور كان متكلّماً جيّد الكلام، وله كتاب في الإمامة وقد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد، وذكر أنّه رأى الكتاب، وقال بعض أصحابنا رحمهم الله: إنّه رأى هذا الكتاب. وقرأت في بعض الكتب أنّ المنصور لما كان بالحيرة تسمّع على عيسى بن روضة وكان مولاه وهو يتكلّم في الإمامة فاُعجب به واستجاد كلامه»(1).

2 _ علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار البغداديّ

يقول ابن النديم: «أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة: علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من جلّة أصحاب عليّ _ عليه السلام _ ولعليّ من الكتب كتاب الإمامة وكتاب الاستحقاق»(2).

وقال النجاشي: «عليّ بن إسماعيل ...كوفيّ سكن البصرة، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا، كلّم أبا الهذيل والنظام، له مجالس و كتب منها كتاب الإمامة...وكتاب مجالس هشام بن الحكم»(3).

3 _ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق

قال النجاشي: «وأمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر،...وله كتاب إفعل لا تفعل...كتاب كبير حسن...وله كتاب الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين _ عليه السلام _

وكتاب كلامه على الخوارج وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة و المرجئة....الخ»(4).

______________________

1 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 796.

2 . فهرست ابن النديم: الفن الثاني من المقالة الخامسة ص 223.

3 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 661.

4 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 886.

( 197 )

وقال ابن النديم: «كان حسن الاعتقاد والهدى حاذقاً في صناعة الكلام، سريع الحاضر والجواب، وله مع أبي حنيفة مناظرات . ثمّ ذكر مناظرته مع أبي حنيفة في المتعة و الرجعة»(1).

4 _ هشام بن الحكم

يقول ابن النديم: «هو من جلّة أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق _عليهما السلام _ وهو من متكلّمي الشيعة الإماميّة و بطائنهم وهو الّذي فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب. وكان أوّلاً من أصحاب الجهم بن صفوان، ثمّ انتقل إلى القول بالإمامة بالدّلائل والنظر»(2).

يقول أحمد أمين: «أمّا هشام بن الحكم فيظهر أنّه أكبر شخصيّة شيعيّة في علم الكلام ... جدلاً، قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة و ناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته قد ناظر أبا الهذيل العلاّف المعتزلي»(3).

أفبعد هذه الشخصيات البارزة (4) في علم الكلام يصحّ قول هذا المستشرق الحاقد إنّه لم يكن للشيعة مذهب كلامي خاصّ بهم؟

وثانياً : إنّ الاستدلال على تأثّر الشيعة بالمعتزلة بتأليف الشيخ الصدوق «علل الشرائع» على غرار كتب المعتزلة الّذين يبحثون عن علل كلّ شيء، يكشف عن أنّ المستشرق لم يرجع إلى نفس الكتاب رجوعاً دقيقاً، فإنّ الكتاب فسّر علل الشرائع والأحكام، بالأحاديث المرويّة عن النّبيّ والوصيّ والأئمّة من بعدهما _ عليهم السلام _ وليس

______________________

1 . فهرست ابن النديم: الفن الثاني من المقالة الخامسة، ص 264.

2 .

نفس المصدر .

3 . ضحى الاسلام: ج 3 ص 268.

4 . هذا قليل من كثير وقدجئنا بأسماء لفيف من متكلمي الشيعة في القرون الثلاثة في رسالتنا «الشيعة و علم الكلام عبر القرون الأربعة».

( 198 )

الكتاب تفسيراً للأحكام من نفس المؤلّف حتّى يقال إنّه ألّفه على غرار كتب المعتزلة.

وثالثاً : إنّ المناظرات الّتي دارت بين الشيعة و المعتزلة من عصر الإمام الباقر _عليه السلام_ إلى العصر الّذي ارتمت فيه المعتزلة في أحضان آل بويه أدلّ دليل على أنّ النظام الفكري للشيعة لا يتّفق مع المعتزلة من لدن تكوّن المذهبين، ومن أراد الوقوف على تلك المساجلات فعليه الرجوع إلى المصادر(1).

وهذا محمّد بن عبدالرحمان بن قبة (المتوفّى قبل سنة 317) له كتاب الردّ على الجبّائي. ونقل النّجاشي عن أبي الحسين السوسنجردي، أنّه قال: «مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا _عليه السلام_ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً بي و معي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف فوقف عليه و نقضه ب_«المسترش_د في الإمام_ة» فعدت إلى الريّ فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه ب_«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب_ «نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات _ رحمه الله _ »(2).

وهذا الحسن بن موسى النوبختي من أكابر متكلّمي الشيعة له ردود على المعتزلة:

1 _ الردّ على الجبّائي 2 _ الرد على أبي الهذيل العلاّف في أنّ نعيم الجنّة منقطع 3_النقض على أبي الهذيل في المعرفة 4 _ النقض على جعفر بن حرب 5 _ الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين(3).

وقد قام الشيخ المفيد (ت 336 _ م 413) بنقض كثير من كتب المعتزلة، فله الكتب التالية و

كلّها ردود عليهم.

1 _ الردّ على الجاحظ العثمانية 2 _ نقض المروانيّة له أيضاً 3 _ نقض فضيلة المعتزلة له أيضاً 4 _ النقض على ابن عبّاد في الإمامة 5 _ النقض على عليّ بن عيسى

______________________

1 . لاحظ: الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للشيخ المفيد (م 413) وكنز الفوائد، للعلامة الكراجكي (م / 449) ومناظرات هشام ومؤمن الطاق وغيرهم الواردة في بحار الأنوار.

2 . رجال النجاشي: رقم 1023.

3 . رجال النجاشي: رقم 146.

( 199 )

الرماني 6_النقض على أبي عبدالله البصري في المتعة 7 _ نقض الخمس عشرة مسألة للبلخي 8_ نقض الإمامة على جعفر بن حرب 9 _ الكلام على الجبائي في المعدوم 10 _ نقض كتاب الأصمّ في الإمامة 11 _ كتاب الردّ على الجبّائي في التفسير 12 _ عمد مختصرة على المعتزلة في الوعيد. إلى غير ذلك من كتبه حول الإمامة الّتي أكثر ردودها على ما ألّفته المعتزلة في هذا المجال(1).

كما أنّ تلميذه السيّد المرتضى (ت 355 _ م 436) نقض بعض كتب المعتزلة، فألّف الشافي ردّاً على الجزء العشرين من كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار (م 415)(2).

كلّ ذلك يعرّف موقف الطّائفتين في المسائل الكلاميّة و أنّهما و إن اجتمعتا في مسائل، اختلفتا في مسائل كثيّرة أخرى.

نظرية مؤلف كتاب «المعتزلة» و مناقشتها

إنّ هنا وجوهاً اُخر لفّقها مؤلف كتاب «المعتزلة» تبعاً لأحمد أمين ربّما يستظهر منها عيلولة الشيعة في العقائد على المعتزلة و إليك تحليلها:

1 _ إنّ المقدّسي نظر في كتب الفاطميّين الشيعة فى شمال أفريقيا فوجد أنّهم يوافقون المعتزلة في أكثر الاُصول (3) .

يلاحظ عليه: أنّه وجد الشيعة في بلاد العجم يقولون بالتوحيد والعدل كما تقول به المعتزلة، وهو لا يدلّ على أنّ

الشيعة أخذتهما من المعتزلة لو لم نقل بالعكس.

نعم، إنّ المعتزلة بعد النكبة وطرق النّكسة في حياتهم لجأوا الى اُمراء آل بويه في أوائل القرن الرابع لما وجدوا فيهم من سعة الصدر، واستعادوا في ظلّ حكمهم شيئاً من القوّة والسيطرة، ولعلّنا نتحدّث عنه في محلّه، ولم تكن تلك الالفة موجودة قبل النّكبة. كيف ومن قرأ تأريخ المعتزلة يقف على أنّهم كانوا خصماء الشيعة في العصور السابقة،

______________________

1 . رجال النجاشي: رقم 1067 .

2 . المصدر نفسه: رقم 708.

3 . يأتي سائر الوجوه ص 216 فانتظر .

( 200 )

فكانت الطّائفتان تتصارعان صراع الأقران و ربّما يقتتلان قتال موت وحياة، فكيف يمكن أنّ تكون الشّيعة عالة على المعتزلة في عقائدهم. فمن نسب ذلك إلى الشيعة فقد جهل تأريخ علم الكلام. فأين مبادئ الشيعة من مبادئ الاعتزال؟ فهما و إنّ كانا يشتركان في التوحيد والعدل ونفى الرؤية و التجسيم و القول بالتحسين و التقبيح العقليّين، ولكن يفترق

أنّ في كثير من الاُصول و تكفي في ذلك المراجعة لكتاب «أوائل المقالات»(1) للشيخ المفيد، فقد عنون فيه بعض الفوارق الموجودة بين عقيدة الشيعة وسائر الفرق و منهم المعتزلة.

الفوارق الفكرية بين الشيعة والمعتزلة

إنّ بين المنهجين الكلاميين مشتركات ومعترقات، وقد تعرفت على قسم من المشتركات، فها نحن نلمح إلى الفوارق بينهما، الّتي جعلهما منهجين كلاميين مختلفين لكّل ميزة وخصوصيّة، وإليك رؤوسها على وجهه الإجمال:

1_ عينية الصفات مع الذات :

اتفقت الطاتئفتان على أنّ صفاته الذاتية ليست زائدة على الذات، بمعنى أنّ تكون هناك ذات، وصقة وراءها، كما في المكنات فإنّ الإنسان له ذات وله علم وقدرة، هذا ممّا اتّفقتا عليه، ولكنّهما اختلفتا في تفسير ذلك، فالعيشة الإميّة ذهبت إلى أنّ الوجود في مقام الواجب بالغ من

الكمال على حدّ يعد نفس العلم والضابطة الكلية حتى في مقام الواجب بل الموصوف هناك لأجلّ الكمال المفرط نفس الصفة، ولا مانع من كون العلم في درجة، قائماً بالذات، وفي اُخرى نفس الذات، وما هذا إلاَ لأنَ زيادة الوصف على الذات توجب حاجتها إلى شيء وراءها، وهو ينافي وجوب

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 8 _ 16.

( 201 )

الوجود والغناء المطلق. هذه هي نظرية الشيعة مقرونة بالدليل الإجمالي، وقد اقتفوا في ذلك مارسمه علي _ عليه السلام _ فقال:«وكمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله (بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (قرن ذاته بشيء غيرها) ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله(1)

وقال الإمام الصادق: «لم يزل الله جلّ وعزّ، ربّنا والعلم ذاته، ولا معلوم، والسمع ذاته، ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر، و القدرة ذاته ولا مقدور»(2)

هذا ما لدى الشيعة، وأمّا المعتزلة فقد اضطرب كلامهم في المقام، فالقول المشهور عندهم هي نظرية نيابة الذات عن الصفات، من دون أنّ تكون هناك صفة، وذلك لأنّهم رأواأنّ الاّمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين .

1_ لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم، وجب الاعتراف بالتعدد و الإثنينية، لأنّ واقع الصفات هو المغايرة للموصوف .

2_ إنّ نفي العلم والقدرة و سائر الصفات الكمالية يستلزم النقص في ذاته أولاً ويكذبه اتقان آثاره وأفعاله ثانياً.

فالمخلَص والفر من هذين المحذورين يتلخّص عندهم في انتخاب نظرية النيابة، وهي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات، و إنّ لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذات، فما يترقب من الذات المقرونة بالصفة، يترتب على تلك الذات

النائبة مقامها، هذا هو المشهور عن المعتزلة وإليك نصّ كلام عباد بن سليمان في ذلك المجال قال:«هو عالم قادر، حىّ، ولاأثبت له علماً، ولاقدرةً، ولا حياةً، ولا أثبت سمعاً، ولا أثبت بصراً وأقول هو عالم لابعلم، قادر لابقدرة، حىّ لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائر مايسمّى من الأسماء الّتي يسمّى بها(3)

يلاحظ: أنّ نظرية النياية المشهورة عن المعتزلة، مبنية على تخيّل كون الشيء وصفاً ملازم للزيادة دائماً، فوقعوا بين المحذورين وتخلّصوا بالنيابة، ومن المعلوم أنّ موجع النيابة إلى خلو الذات عن الكمال أولاً، وكون الذات الفاقدة للعلم، نائبة عن الذات المقرونة بها أشبه باللغز.

نعم، بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاف (130_235)ذهب إلى نفس ماذهب الشيعة إليه، وقد ذكرنا كلامه في الجزء الثاني(4)

______________________

1 .الرضي: نهج البلاغة: الخطبة (1)

2 . الصدوق: الاتوحيد: 139.

3 . الأشعري: مقالات الإسلاميين 1: 335.

4 . لاحظ بحوث في الملل والنحل 2:84 نقلا عن شرح الاُصل الخمسة للقاضي عبدالجبار: 183، ومقالات الإسلاميين: 225.

( 202 )

2_ إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة

الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن بطلان الحسنة، وعدم ترتب مايتوقع منها عليها، ويقابله التفكير وهو إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة، والمعروف عن الإماميّة والأشاعرة هو أنّه لاتحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب، والمعروف من المعتزلة هو التحاط(1)، ثمّ إنهم اختلفوا في كيفيته فمنهم من قال :من أنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة وتمحوها بالكلية من دون أنّ يكون لها تأثير في تقليل الإساءة وهو المحكي عن أبي علي الجبائي.

ومنهم من قال: بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يقلل في تأثير الإساءة فينقص الإحسان من الإساءة فيجري العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

ومنهم

من قال :إنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات وإنّ كانت الإساءة أقل منها، حتى قيل :إنّ الجمهور من المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة، تحبط ثواب

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات: 57. وسيوافيك نصوص المعتزلة في محلها.

( 203 )

جميع العبادات (1)

هذا على قول المعتزلة. وأمّا على قول نفاة الإحباط فالمطيع والعاصي يستحق الثواب والعقاب معاً فيعاقب مدّة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنّة.

نعم، ثبت الإحباط في موارد نادرة، كالإرتداد بعد الإسلام، والشرك المقارن للعمل، والصدّ عن سبيل الله، ومجادلة الرسول ومشاقته، وقتل الأنبياء، وقتل الآمرين بالقسط، وإساءة الأدب مع النبي، والنفاق، وغير ذلك ممّا شرحناه في الإلهيات (2).

3_ خلود مرتكب الكبيرة في النار

اتّفقت الإماميّة على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلات، و وافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامّ في الكفار و جميع فساد أهل الصلاة .

ويظهر من العلاّمة الحلي أنّ الخلود ليس هو مذهب جميع المعتزلة حيث قال :أجمع المسلمون كافة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لاينقطع، وأمّا أصحاب الكبائر من المسلمين، فالوعيدية على أنّه كذلك. وذهبت الإماميّة وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعره إلى أنّ عذاب منقطع (3).

والظاهر من القاضي عبد الجبار هو الخلود، واستدل بقوله سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا) (النساء/14). فالله تعالى

______________________

1 . التفتازاني: شرح المقاصد 2: 232، القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 625.

2 . حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 870 _ 874.

3 . العلامة الحلي: كشف المراد:265.

( 204 )

أخير أنّ

العصاة يعذّبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليها لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينة فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه.

فإن قيل: إنّماأراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق، ألاترى إلى قوله تعالى: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وذلك لايصيوّر إلاّفي الكفرة إلاّفالفاسق لابتعدى حدود الله تعالى أجمع. ثم أجاب عنه فلاحظ كلامه(1)

4 _ لزوم العمل بالوعيد وعدمه

المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسيء لاستلزامه الخلف، وأنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعيد، والظاهر من القاضي أنها نظرية البغدادين من المعتزلة قال: اعلم أنّ البغدادية من أصحابنا أوجبت على الله أنّ يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محال، وقالت: لايجوز أنّ يعفو عنهم، فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب، فإن الثواب عندهم لايجب إلامن حيث الجود، وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله بكل حال (2).

وذهبت الإماميّة إلى جواز العفو عن المسيء إذا مات بلاتوبة، واستدل الشريف المرتضى بقوله سبحانه:(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبِلِهمُ المَثُلتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنَّاسِ َعلَى ظُلْمِهِمْ َوإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الِعقَابِ) (الرعد /6).وقال: في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لإنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله:(على ظلمهم) جملة حالية إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل:

______________________

1 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 675.

2 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة:644.

( 205 )

«أنا أودّ فلانا على غدره (و) وأصله على هجره» (1).

وقد أوضحنا الحال في دلالة الآية وأجبنا عن إشكال القاضي على دلالتها في الإلهيات (2).

5 _ الشفاعة حطّ الذنوب أوترفيع الدرجة :

لما ذهبت

المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار، وإلى لزوم العمل بالوعيد، ورأت أنّ آيات الشفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا(3).

فالشفاعة عندهم عبارة عن ترفيع الدرجة، فخصوها بالتائبين من المؤمنين وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه، قال القاضي: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع والدلالة على منزلة من المشفوع (4).

وأمّا عند الشيعة الإماميّة فهو عبارة عن إسقاط العذاب، قال الشيخ المفيد: اتفقت الإماميّة على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من اُمته، وأنّ أمير المؤمنين _ عليه السلام _ يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأنّ أئمة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعنهم كثيراً من الخاطئين، و وافقهم على شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف وزعمت أنّ شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)للمطيعين دون العاصين

______________________

1 . الطبرسي 3: 287.

2 . حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 910.

3 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة :688.

4 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 689.

( 206 )

وأنّه لايشفع في مستحقي العقاب من الخلق أجمعين (1).

6 _ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر

إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة والأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة الله. وهو عند الخوارج، كافر كفر ملة عند جميع فرقهم إلاّ الأباضية فهو عند كافر كفر النعمة، وأمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي: إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين لايكون

اسمه اسم الكافر، ولا اسم المؤمن فلا يكون حكمه حكم الكافر ولاحكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، قال صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان (2).

وهذا أحد الاُصول الخمسة الّتي عليها يدور رمى الاعتزال ومن أنكر واحداً منها فليس بمعتزلي(3).

7 _ النسخ جائزٌ ممتنع عند المعتزلة

اتفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لليهود، واختلفوا في البداء، ذهبت الشيعة إلى إمكانه و وقوعه، خلافاً لغيرهم فقالوا بالامتناع .

ثم إنّ الّذي صار سبباً للتفريق عند القاضي هو أنّه اشترط في النسخ اُموراً أهمها: أنّ النسخ لايتعلّق بعين ما كان ثابتاً، بل يتعلّق بمثل ما كان ثابتاً أشار إليها بقوله : النسخ إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية، بدليل آخر شرعي على وجه لولاه لثبت، ولم يزل مع تراخيه عنه.

______________________

1 . المفيد: أوئل المقالات: 14 _ 15.

2 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 697.

3 . الخياط: الانصار / 126، ومروج الذهب 3 / 222.

( 207 )

قال: فاعتبرنا أنّ يكون إزالة مثل الحكم الثابت لأنه لو زال عين ما كان ثابتاً من قبل لم يكن نسخاً بل كان نقضاً، وهذا بخلاف البداء فإنه يتعلّق بعين ما كان ثابتاً. ومثاله أنّ يقول أحدنا لغلامه: إذا زالت الشمس و دخلت السوق فاشتر اللحم. ثم يقول له: إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم، وهذا هو البدء وإنما سمي به لأنه يقتضي أنّه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خايفاً عليه كم قبل (1).

وقال أيضاً: الّذي يدل على البداء، أنّ يأمر الله جلّ وعزّ بنفس مانهى عنه في وقت واحد على وجه واحد وهذا محال لانجيزه البتة

(2).

نحن لانحوم حول البداء وما هو الفرق بينه وبين النسخ، فقد أشبعنا الكلام فيه في نحوثنا الكلامية(3).غير أنّ الّذي يتوجّه على كلام القاضي أنّ ما أحاله هو أيضاً من أقسام النسج لا من أقسام البداء المصطلح فإنه على قسمين:

1_ النسخ بعد حضور وقت العمل .

2_ النسخ قبل حضور وقت العمل.

والّذي أحاله هو القسم الثاني، وأمّا الوجه الّذي اعتمد عليه فموهون بأنه ربّما تترتّب المصلحة على نفس إنشاء الحكم وإنّ لم يكن العمل به مراداً جدياً كما هو الحال في أمر إبراهيم بذبح ولده، والأوامر الامتحانية كلها من هذا القبيل فإذا شوهد من الإنسان القيام بمقدّمات الواجب، ينسخ الحكم، وعلى كل تقدير فما سماه بداء، ليس هو محل النزاع بين الإماميّة وغيرهم.

والبداء عندهم عبارة عن تغيير المصير الأعمال الصالحة أو الطاعة وهو شيء

______________________

1 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: ص 584، 585.

2 . رسائل العدل والتوحيد 1، رسالة القاضي عبد الجبار / 241.

3 . لاحظ الالهيات :ج 1،ص 565.

( 208 )

اتفق عليه المسلمون، ورد به النص في القرآن و النسنة.

هذه هي حقيقة البداء في عالم الثبوت، وله أثر في عالم الإثبات وهو أنّه

ربّما يقف النبي على مقتضي المصير ولايقف على مايغيره، فيخير به على حسب العلم بالمقتضى ولكن لا يتحقّق لأجلّ تحقّق ما يغيّره، فيقال هنا: بدا لله والمقصود بداء من الله للعباد كما هو الحال في إخبار يونس عن تعذيب القوم وغير ذلك، وقد وردت جملة «بدا لله» في صحيح البخاري (1).

قال الشيخ المفيد: أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء، والأمراض بعد الإعفاء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها

بالأعمال وأمّا إطلاق لفظ البداء، فإنّما صرت إليه لأجلّ السمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله _

عزّ وجلّ _ وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه (2).

وهذا يعرب عن أنّ القوم لم يقفوا على مصطلح الإماميّة في البداء وإلاّ لأصفقوا على جوازه.

8 _ الواسطة بين الوجود والعدم

اتفق المفكرون من الفلاسفة و المتكلمين على أنه لاواسطة بين الوجود والعدم كما لا واسطة بين الموجود والعدم، وإنّ الماهيات قبل اتصفاها بالوجود معدومات حقيقة، غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى انها في حال العدم غير موجود ولا معدوم، بل متوسط بينهما و هذا هو العروف منهم بالقول بألأحوال .

قال الشيخ المفيد: المعدوم هو المنفي العين، الخارج عن صفحة الموجود، ولا

______________________

1 . البخاري: الصحيح 4 / 172 باب حديث «أبرص وأعمى وأاقرع في بني إسرائيل».

2 . المفيد: أوائل المقالات، ص 53 .

( 209 )

أقول: إنّه جسم ولاجوهر ولا عرض، ولا شيء على الحقيقة، وإنّ سميته بشيء من هذه الأسماء، فإنما تسميه به مجازا وهذا مذهب جماعة من بغدادية المعتزلة وأصحاب المخلوق )كذا(، والبلخي يزعم أنّه شيء ولا يسميه بجسم ولا جوهر ولا عرض، والجبائي وابنه يزرعان أنّ المعدوم شيء وجوهر وعرض، والخياط يزعم أنّه شيء وعرض وجسم (1).

وبما أنّه المسألة واضحة جداً لانحوم حولها.

9 _ التوفيض في الأفعال

ذهبت المعتزلة الا من شذ كالنجار و أبي الحسين البصري (2)إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال ايجاب (3) بل باختيار .

قال القاضي: أفعل العباد لايجوز أنّ توصف بأنها من الله تعالى ومن عنده و من قبله 000(4).

قال السيد الشريف إنّ المعتزلة اسدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر

واحد وهو أنّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار، لبطل التكليف وبطل التأديب الّذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم إذليس للفعل استناد إلى العبد أصلا، ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موحدين أفعالهم، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب (5).

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات / 79.

2 . لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحليم السيالكوتي، ج 2، ص 156.

3 . ولعل قولهم بلا إيجاد اشارة إلى أنّ حال الصدور لايتصف بالوجوب أيضاً. والقاعدة الفلسفية «الشيء مالم يجب لم يوجد» غير مقبولة عندهم .

4 . القاضي عبدالجبار: شرح الأصول الخمسة 778، وفي ذيله ما ربّما يوهم خلاف ما هو المشهور غنهم .

5 . السيد الشريف الجرجاني (ت 886): شرح المواقف، ج 8، ص 156.

( 210 )

ثم إنّ نظريتهم في استقلال العبد في الفعل مبنية على مسألة فليسفسة وهو أنّ حاجة الممكن إلى العلّة تنصر في حدوثه، لافيه وفي بقائه، وعلى ضوء ذلك قالوا با ستقلال العبد في مقام الإيجاد.

والمبنى والبناء كلاهما باطلان. أما الافتقار حدوثاً فقط، فهو لا يجتمع مع كون الإمكان من لوازم الماهية وهي محفوظة حدوثاً وبقاء، فكيف يجوز الغناء عن الفاعل بقاء.

قال الحكيم الشيخ محمد حسين الإصفهاني:

والافتقار لازم الإمكان * من دون حاجة إلى البرهان

لافرق مابين الحدوث والبقاء * في لازم الذات ولن يفترقا

هذا كله حول المبنى في التخلص عن الجبر استناد الفعل إلى الفاعل والخالق معاً، لكن يكون قدرة المخلوق في طول قدرة الخلق، ومنشعبة عنها، وهذا يكفي في الاستناد وصحة الامر والنهي والتأديب والتثويب، فالجبر والتوفيض باطلان، والامر بين الامرين هو الحق الصراح، وقد تواتر عن أئمة أهل

البيت قولهم :لاجبر وتفويض لكن أمر بين الأمرين (1).

ثم إنّ الدافع

إلى القول بالتفويض هو صيانة عدله سبحانه فزعموا أنّ الصيانه لها رهن ما ذهبت إليه الإماميّة، ثم انهم و إنّ نزهوا العبد عن الظلم ولكن صورواله شريكا في الايجاد، ولأجل ذلك قال الامام الرضا _ عليه السلام:

«مساكين القدرية أرادوا أنّ يصفوا الله _ عزّ وجلّ _ بعدله، فأخرجوه من قدرته وسلطانه (2).

______________________

1 . الصدق: التوحيث 8، ولاحظ الأحاديث الاُخرى .

2 . نفس المصدر، ص 54، الحديث 93.

( 211 )

10 _ قبول التوبة واجب على الله أو تفضّل منه ؟ اتفق المسلمون على أنّ التوبة تسقط العقاب، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجب على الله قبولها فلو عاقب بعد التوبة كان ظالماَ أو هو تفضل منه سبحانه ؟فالمعتزلة على الأوّل، والأشاعره والإماميّة على الثاني(1).

قال المفيد:

«اتفقت الإماميّة على أنّ قول التوبة بفضل من الله عزّ وجلّ، وليس بواجب في العقول اسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب، ولولا أنّ السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الإستحقاق، و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلافهم و زعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الواجب (2).

و لقد أحسن _ قدّس الله سره _ حيث جعل محور المسألة قبول التوبة وعدمه بما هو هو لابلحاظ آخر كما في صورة الأخبار بقبول التوبة قال سبحانه:(يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) (التوبة / 104). إذ عندئذ يجب قبول التوبة عقلا وإلالزم الخلف في الوعد. قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه:(إلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فاُولئكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّاُب الرَّحِيمُ) ( البقوة / 160). وصفحه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضل منه سبحانه ورحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، وأنّه

غير واجب عقلاً على خلاف ماذهب إليه المعتزلة (3).

ومن أراد أنّ يقف على دلائل المعتزلة في المقام فليرجع إلى كشف المراد شرح المقاصد.

______________________

1 . لاحظ: التفتازاني: شرح المقاصد، ج 2، 242، العلامة الحلّي: كشف المراد، ص 268، القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة، ص 798 .

2 . المفيد: أوئل المقالات ص 15.

3 . الطبرسي: ومجمع البيان 1 / 242.

( 212 )

11 _ عصمة الأنبياء قبل البعثة و بعدها اتفقت الإمامية على أنّ جميع أنبياء الله _ صلوات الله عليهم أجمعين _ معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، وممّا يستخف فاعله من الصغائر وأما ماكان من صغير لا يستخف فاعله فجائز و قوعة منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها، على كل حال هذا مذهب جمهور الإمامية والمعتزلة بأسرها تخالف فيه (1).

والمقول عن أبي علي الجبائي التفصيل في الكبائر بين قبل البعثة وبعدها فيجوز في الأول دون الثاني، والمختار عند القاضي في الكبائر عدم الجواز مطلقاً وأمّا المفرات فاتفقوا على عدم جواز(2).

12_ وجوب الأمر بالمعروف عقلاًوعدمه

اتفقت الاُمّة على و جوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استثناء غير أنهم اختلفوا في وجوبه عقلاً وسمعاً، أو سمعاً فقط، فالمعتزلة على الأوّل والاماميّة على الثاني .

قال المفيد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجة على من لايعلم لديه إلأبذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبه الظن وبذلك (3).

ثم إنّ المحقق الطوسي ذكر في متن التريد دلائل العتزلة على وجوبهما عقلاً، ثم عقب عليها بنقد وتحليل (4).

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات / 30.

2 . القاضي عبدالجبار :شرح الاُصول الخمسة: 573.

3 . المفيد: أوائل المقالات / 98، وبذلك يظهر وهن ما

ذكره القاضي في شرح الاُصول الخمسة من نسبة عدم الوجوب على الإطلاق إلى الإماميّة لاحظ ص 741.

4 . العلامة الحلّي: المراد / 271 طبع صيدا.

( 213 )

13 _ آباء رسول الله كلهم موحّدون اتفقت الإماميّة على أنّ آباء رسول الله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ _ موحّدون له، وخالفهم على هذا القول جميع الفرق (1).

14 _ تفضيل الأنبياء على الملائكة

اتفقت الإماميّة على ذلك أنّ أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله من البشر أفضل من الملائكة و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعم الجمهور منهم أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء والرسول (2).

15_ الرجعة: إمكانها و وقوعها قضية الرجعة الّتي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية و الأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة ممّا تعتقد به الشيعة من بين الامة الإسلاميّة قال الشيخ المفيد: إنّ الله يحشر قوماً من اُمّةُ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)بعد موتهم قبل يوم القيامة وهذا مذهب

يختص به آله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن شاهد به (3).

وخالفت المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث في ذلك.

16_ الجنّة والنار مخلوقتان أو لا؟

إنّ الله سبحانه وعد المتقين بالجنّة أو عد العصاة بالنار فهل هما مخلوقتان أو لا؟

والمسألة نقلية محضة فالإماميّة إلاّمن شذ، ذهب إلى أنّ الجنّة والنار في هذا الوقت مخلوقتان قال الشيخ المفيد: وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات، ص 12.

2 . المفيد: أوائل المقالات، ص 16.

3 . المجلسي: البحار شرح 53 / 36، نقلاالمسائل السرورية للشيخ المفيد.

( 214 )

والآثار(1).

وقال التفتازاني: «جمهور المسلمين على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبدالجبار ومن يجري مجراهما

من المعتزلة حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء »(2).

والظاهر من السيد الرضي من الشيعة (359 _ 406) أنهما غير مخلوقتين الآن حيث قال: الصحيح أنهما إنما تخلقان بعده (3).

17_ تأويل النصوص اعتماداً على القواعد العقلية:

إنّ الاصول الخمسة عند المعتزل توصف بالصحة والاتقان على درجة تقدم على النصوص الشرعية الواردة في القرآن الكريم والسنّة، فقد أعطوا للعقل أكثر ممّا يستحقه، فقالوا: إنّ المراد في الشفاعة هو ترفيع الدرجة لا رفع العقاب وقس على ذلك سائر تأويلاتهم في الكتاب والسنّة .

إنّ النص الوارد في القرآن الكريم دليل قطعي لايعادله شيء فعند ذلك تجب تخطئة العقل لاتأويل القرآن، والتعارض بين القطعيين غير معقول، وتأويل النص القطعي كرفضه، نعم لو كان النص ظني السند أو كان الدليل الشرعي ظنّي الدلالة فللتأويل مجال، هذا وللبحث صلة تطلب في مجالها.

18_ الإمامة بالتنصيص أو بالشورى:

اتفقت الإماميّة على أنّ الامامه بالتنصيص خلافاً للأشاعرة والمعتزلة وقالوا

______________________

1 . المفيد: أوائل المقلات / 102 .

2 . التفتازاني: شرح المقاصد /2 318 ولاحظ شرح التجريد للقوشجي / 507 وعبارة الأخيرين واحدة.

3 . تارضي: حقائق التأويل 5 / 245 .

( 215 )

بالشورى وغيرها، ويتفرع على ذلك أمر آخر وهو: أنّ النبي نص على خليفة بالذات عند الإمامية، وقال الآخرون: سكت وترك الأمر شورى بين المسلمين.

قال القاضي عند البحث عن طرق الإمامة (عند المعتزلة): إنها العقد والاختيار (1).

19 _ هل يشرط في الإمام كونه معضوماً

اتقضت الإمامية على أنّ الامام يجب أنّ يكون معصوماً عن الخطأ والمعصية خلافاً للمعتزلة حيث اكتفت أنه يجب أنّ يكون مبرزاً في العلم مجتهداً ذا ورع شديد، يوثق بقوله ويؤمن منه ويعتمد عليه (2).

قال المفيد: إنّ الئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الاحكام، وإقامة

الحدود، وحفظ الشرائع، وتأديب الأنام، معصومون كعصمة الأنبياء، وانهم لايجوز منهم صغيرة إلأ ما قدّمت ذكر جوازه على الأنبياء، وانه لايجوز منه سهو في شيء في الدين و الاينسون شيئأ من الأحكام، و على هذا مذهب سائر الإماميّة إلأمن شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد في الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الأئمّة وقوع الكبائر والردّه عن إسلام (3).

20 _ حكم محارب الإمام علي أمير المؤمنين:

اتفقت الإمامية على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وانّهم بذلك في النار مخلدون وأجمعيت المعتزلة سوى الغزال منهم وابن باب، والمرجئة والحشوية من أصحاب

______________________

1 . القاضي عبدالجبار شرح الاُصول الخمسة: 753.

2 . نفس المصدر: 754.

3 . الشيخ المفيد: أوائل المقلات: 35 .

( 216 )

الحديث على خلاف ذلك، فزعمت المعتزلة كافّة إلاّ من سمّيناه وجماعة من المرجئة وطائفة من أصحاب الحديث، انّهم فسّاق ليسوا بكفار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون (1).

هذه جملة من الاُصول الّتي يختلف فيها المنهجان وبقيت هناك اُصول اُخرى تضاربت فيها آراء الفريقين لم نذكرها روماً للإختصار.

ولنعد إلى تحليل سائر الوجوه لمؤلف كتاب المعتزلة.

2 _ قال الذّهبي: «وجد الرفض والاعتزال في زمانه متصادقين مت آخيين»(2).

3 _ وقال المقريزي: «قلّما يوجد معتزلي إلاّ وهو رافضي»(3).

4 _ يقول الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي (م 1331): «إنّ المعتزلة اليوم كفرقة أهل السنّة والجماعة، من أعظم الفرق رجالاً و أكثرها تابعاً، لأنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة. وكذلك شيعة الأقطار الهندية و الفارسية و الشامية، ومثلهم الشيعة الزيديّة باليمن»(4).

إنّ هذه الكلمات لا تدلّ على عيلولة الشيعة في

عقائدهم على المعتزلة، فإنّ الشيعة الإماميّة تقتدي فى اُصولها و فروعها بأئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ الّذين جعلهم الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدلاً للقرآن الكريم و قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»، ولا ترجع إلى غيرهما. ولم نر شيعيّاً إمّاميّا أخذ عقيدته من عالم معتزلي.

ومع هذين المصدرين الصحيحين لا حاجة للرجوع إلى غيرهما.

والمعتزلة كما أقرّ أعلامهم اقتفوا في التّوحيد والعدل أثر خطب الإمام أمير

______________________

1 . نفس المصدر: 10 .

2 . ميزان الاعتدال: ج 2 ص 235، كما في «المعتزلة»، ص 218.

3 . الخطط: ج 4 ص 169، كما في المصدر نفسه، ص 218.

4 . تاريخ الجهمية والمعتزلة: ص 42، كما في المصدر نفسه، ص 219.

( 217 )

المؤمنين _عليه السلام _ وتتلمذوا على حفيده أبي هاشم ابن محمّد بن الحنفيّة.

وما ذكره القاسمي الدمشقي من أنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، صحيحة إنّ أراد أنّ شيعة العراق بل الشيعة في جميع الأقطار قائلون بالتوحيد والعدل، اقتفاءً لأثر الكتاب والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت لا سيّما خطب الإمام عليّ _عليه السلام _ ، كما أنّ المعتزلة أيضاً قائلون بهما مقتفين أثر ما أخذوه من البيت العلوي.

نعم إنّ المعتزلة أقرب إلى الشيعة من الحنابلة والأشاعرة، فإنّ ولاء كثير منهم لأهل البيت لا ينكر، كما أنّ تمسّكهم بالاُصول العقلية المبرهنة، ورفض الآخرين لها، جعلهم متّحدين في كثير من الاُصول مع الشيعة، ومع ذلك فإنّ لجميع الطّوائف الإسلاميّة، اُصولاً مشتركة، واُصولاً يتميّز بها بعضهم عن بعض فلكلّ طائفة إسلاميّة مشتركات ومميّزات.

رمي الاعتزال بالتشيّع

إنّ من عجائب الدّهر _ وما عشت أراك الدّهر عجباً _ رمي المعتزلة بالتشيّع، وترى تلك النسبة في كتب

الأشاعرة والحنابلة، خصوصاً الرجاليّين منهم، فلم تكن الشيعة وحدها متّهمة بالاعتزال، بل صارت المعتزلة متّهمة بنظيرتها، غير أنّ رمي الشيعة بالاعتزال لايختصّ بقوم دون قوم، حتّى إنّ أصحاب الطبقات من المعتزلة عدّوا أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ وكبار علماء الشيعة من المعتزلة، حتّى قالوا: إنّ الحسن بن موسى النوبختي من المعتزلة، ولم يكتفوا بذلك،بل عدّوا المرتضى والرضي منهم(1).

وقد عرفت مدى صدق هذه النسبة، و أنّ كثيراً من أعلام الشيعة نقدوا كتب المعتزلة، حتّى إنّ الشّيخ المفيد نقض كتاب «فضيلة المعتزلة» للجاحظ.

إنّما الكلام في التهمة الاُخرى، وهو رمي الاعتزال بالتشيّع، والحقّ

أنّه لو فسِّر التشيّع بحبّ عليّ وأهل بيته _ عليهم السلام _ فأعلام السنّة من الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة

______________________

1 . طبقات المعتزلة: أحمد بن يحيى المرتضى، ص 9 و 15 و 117، الطبعة الثانية (1407).

( 218 )

كلّهم شيعة إلاّ من له هوى العثمانيّة، الّذين يكثرون من الوقيعة في عليّ وأولاده _ عليهم السلام _ . أمّا لو فسّر بتقديم عليّ على سائر الخلفاء في العلم والزهد و سائر المثل الأخلاقيّة، فمعتزلة بغداد إلاّ من شذّ شيعة، فإنّهم و إن اعترفوا بخلافة الخلفاء، لكن يعترفون بفضل عليّ _ عليه السلام _ وتقدّمه على أقرانه، وهذا هو الّذي صار سبباً لجرح كثير من الرواة العدول، وما ذنبهم إلاّ تقديم عليّ على غيره فى الفضائل، أخذاً بنصوص الآيات والروايات فى حقّه.

نعم، لو فسّر التشيع بالاعتراف بخلافة عليّ بتنصيب من النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأمر منه سبحانه فالشيعة تنحصر بمن يعتقد بهذا المبدأ، والمعتزلة كلّهم يخالفون ولا يعترفون به.

والّذي أوقع جمعاً من مؤلّفي المقالات في الوهم الأوّل هوالتقاء التشيّع مع الاعتزال في بعض المواضع والنقاط

كالتوحيد والعدل، ولو صار ذلك سبباً لرمي الشيعة بالاعتزال، صحّ عدّ الأشاعرة منهم لالتقائهم معهم في عدّة من الاُصول.

وأمّا الّذي أوقعهم في الوهم الثّاني هو انحيازهم إلى عليّ في كثير من المبادئ خصوصاً التوحيد والعدل.

وعلى أيّ تقدير، فلفظ التشيع قد تطوّر من جهة المعنى بعد ما كان معناه في اليوم الأوّل، بعد رحلة الرسول، هو من شايع عليّاً دون غيره، وقال بخلافته دون سائر الخلفاء، فأطلق على من أحبّ عليّاً و أولاده، وناضل العثمانيّة و أهوائها، وعلى من قدّم عليّاً في الفضائل والمناقب، لا في الخلافة، فلأجلّ هذا التطوّر فربّما يشتبه المراد منه في كلمات الرّجاليين و أصحاب المقالات، وربّما تعدّ اُناس شيعةً بالمعنى الأوّل، مع أنّهم شيعة بالمعنيين الأخيرين، فلاحظ، وسيوافيك التوضيح عن البحث عن عقائد الشيعة الزيدية والاسماعيليّة و الإماميّة.

«رزقهم الله توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد»

«وبنى الإسلام على دعامتين»

«كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة»

الفصل الرابع

الفصل الرابع

أئمّة المعتزلة

دلّت النّصوص التأريخيّة على أنّ «واصل بن عطاء» هو المؤسّس الأوّل لمنهج الاعتزال، وقد طرح اُصولاً نضجت و تكاملت بأيدي تلامذته و مقتفي منهجه عبر العصور والقرون.

ومن أراد أنّ يكتب تأريخ المعتزلة و طبقاتهم، فعليه أنّ يجعل «واصلاً» رأس مخروط الاعتزال إلى أنّ يصل بالتدريج إلى قاعدته.

وأمّا من تقدّم عليه من الصحابة و التابعين حتّى القدريّة المتبلورة في «معبد الجهني» و «غيلان الدمشقي» وغيرهم...فلا يمتّون للاعتزال بصلة، و إنّ اتّفقوا مع المعتزلة في القول بالتوحيد والعدل، وحريّة الإنسان و استطاعته على الفعل والترك. وذلك لأنّ التوحيد والعدل، كان شعار المسلمين من عصر النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى الزمان الّذي طلع فيه منهج الإعتزال، كما أنّ القول بالحريّة و استطاعة الإنسان على أحد

الطّرفين قول بأمر فطري جبل عليه الإنسان طوال القرون والأدوار قبل الإسلام و بعده، فلا يعدّ الاعتقاد به إحداثاً للمنهج و تأسيساً له.

نعم، القول بكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً، و أنّ فاعل الخير والشرّ هو الله سبحانه، و أنّ كلّ إنسان خلق لما قدّر له في علمه الأزلي، و أنّ التقدير كاله، لا يتغيّر حكمه وقضاؤه، إحداث منهج جديد رغم أنّ العقلاء و نصوص الكتّاب على خلافه في جميع

( 220 )

الأدوار.

وعلى ضوء هذا، فلا يصحّ عدّ كلّ من قال بواحد من هذه الاُصول سلفاً للاعتزال، وشيخاً للمعتزلة، و إنّ اتّفق معهم فيها.

وعلى هذا الخطّ الّذي رسمناه مشى أبو القاسم البلخي (م 317) في كتابه «مقالات الإسلاميين _ باب ذكر المعتزلة» فابتدأ في ذكر طبقاتهم ب__ «واصل بن عطاء» و «عمروبن عبيد» وانتهى إلى أعلامهم في عصره وقال: «وفي زماننا هذا شيخنا أبوالحسين الخيّاط عبدالرحيم بن محمّد (م 311) و أحمد بن الشنطوي»(1).

نعم، خالفه القاضي عبدالجبّار (م 415)فعدّ للمعتزلة طبقات قبل واصل، فعدّ الخلفاء من الطّبقة الاُولى، والحسن والحسين _ عليهما السلام _ ومحمّد (بن الحنفيّة) بن عليّ من الطبقة الثانية، وأبا هاشم عبدالله بن محمّد (بن الحنفيّة) بن عليّ و أخاه الحسن بن محمّد والحسن البصري وابن سيرين ومن في طبقتهم ممّن حكي العدل عنه من الطّبقة الثالثة، وعدّ غيلان بن مسلم و واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد من الطبقة الرابعة إلى أنّ أنهاهم إلى عشر طبقات(2).

وقد كتب الحاكم الجشمي اليمني الزيدي (ت413 _ م494) ذيلاً له فأضاف إليها طبقتين اُخريين وهو جزء من كتابه «شرح العيون»(3).

وأمّا أحمد بن يحيى بن المرتضى، فقد مشى على ضوء القاضي فأعاد ما ذكره هو وغيره في

باب خاصّ، أسماه «باب ذكر المعتزلة» وهو جزء من كتابه «المنية والأمل» في شرح كتاب الملل والنحل، وقد طبع منه خصوص ذلك الباب كراراً، فنحن ننقل عن النسخة الّتي حقّقها المستشرق «توما أرنلد» طبع دار صادر بيروت.

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: باب ذكر المعتزلة ص 64 _ 74 وقد طبع من المقالات خصوص هذا الباب بتحقيق فؤاد سيد، ط.تونس.

2 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 214 _ 333.

3 . طبع هذا الجزء مع كتاب فضل الاعتزال بتحقيق فؤاد سيد.

( 221 )

ولقد أجاد أبوالحسين الخيّاط، حيث جعل الاعتقاد بالاُصول الخمسة ملاكاً لصدق الاعتزال وكون المعتقد معتزلياً. قال: «الاعتزال قائم على أصول خمسة عامّة، من اعتقد بها جميعاً كان معتزلياً، ومن نقص منها أو زاد عليها ولو أصلاً و احداً لم يستحقّ اسم الاعتزال، وتلك الاُصول مرتّبة حسب أهميتها وهي:

1 _ التوحيد، 2 _ العدل، 3 _ الوعد والوعيد، 4 _ المنزلة بين المنزلتين، 5 _ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).

إنّ عدّ أمثال الشريف المرتضى من المعتزلة بحجّة قوله بالتوحيد والعدل، يستلزم أنّ يعدّ شيخه كالمفيد و تلميذه كالطوسي منهم. مع أنّ موقف هؤلاء من تلك الطّائفة موقف النقد والردّ. وقد ردّ الشيخ المفيد (م 413) في أكثر كتبه عليهم، لا سيمّا في كتابه «أوائل المقالات» كما نقد الشريف المرتضى (م 436) خصوص الجزء العشرين من «المغني» للقاضي عبد الجبّار وأسماه «الشّافي» واختصره تلميذه شيخ الطّائفة الطوسي (م 460) وأسماه «تلخيص الشافي» وقد انتشر الجميع بطباعة قديمة و حديثة، ومن طالع تلك الكتب يقف على أنّ موقف الشيعة الإماميّة من المعتزلة موقف الموافقة في بعض الاُصول والمخالفة في البعض الآخر، كشأنهم مع الأشاعرة وغيرهم من الطّوائف الإسلاميّة.

والعجب أنّ

أكثر من كتب عن المعتزلة من المتأخّرين اشتبه عليهم الأمر، وربّما عدّوا أعلام الإماميّة من مشايخ الاعتزال و روّاد منهجه، والشيعة الإماميّة بفضل علوم أئمّتهم ونصوص رواياتهم في غنى عن كلّ منهج لا يمتّ بالكتاب والعترة (أعداله وقرنائه) بصلة.

وهذا الفصل الّذي نقدّمه للقرّاء يختص بتعريف أئمّة المعتزلة و مشايخهم الكبار، الّذين نضج المذهب بأفكارهم و آرائهم و وصل إلى القمّة في الكمال.

وأمّا أعلام الطّائفة الّذين كان لهم دور في تبنّي هذا الخطّ من دون أنّ يتركوا أثراً

______________________

1 . الانتصار: ص 5، ومقالات الاسلاميين للأشعري: ج 1، ص 278.

( 222 )

يستحقّ الذّكر، في الأصول الخمسة نذكرهم في فصل لاحق حتّى تتميّزالطّافتان.

نعم، انطفأء دعوة الاعتزال وضعفت شوكتهم بعد سادس القرون أو سابعها، فلا تسمع لهم ذكراً في الأجيال اللاّحقة فلا إمام ولا علم ولا فقد انقرضوا بسيف السلطة و قسوة الحنابلة والأشاعرة، وتركوا آثاراً وكتباً عبث بها الزمان، فلم يبق إلاّ النّزر اليسير. ولكن آثارهم 000

إنّ آثارنا تدلّ علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار

1 _ واصل بن عطاء (ت 80 _ م 131 )

أبو حذيفة واصل بن عطاء مؤسس الاعتزال، المعروف بالغزّال. يقول ابن خلّكان: «كان واصل أحد الأعاجيب ذلك أنّه كان ألثغ، قبح اللثغة في الرّاء فكان يخلّص كلامه من الرّاء ولايُفطَن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الرّاء على كثرة تردّدها في الكلام حتّى كأنها ليست فيه

عليم بإبدال الحروف وقامع * لكلّ خطيب يغلب الحقّ باطله

وقال الآخر:

ويجعل البرّ فمحاً في تصرّفه * وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولم يطق مطراً والقول يعجله * فعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

قد ذكر عنده بشّر بن برد (المتّهم بالزندقة) فقال: «أما

لهذا الأعمى المكنّى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أنّ الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثمّ لا يكون إلاّ سذوسياً أو عقيليّاً»

فلاحظ أنّه قال: «هذا الأعمى» ولم يقل: بشّار ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: «من أخلاق الغالية» ولم يقل: المغيرية ولا المنصورية، وقال: «لبعثت» ولم يقل: لأرسلت، وقال: «على مضجعه» ولم يقل: على مرقده ولا على فراشه، وقال: «يبعج» ولمق

يقل: يبقر (1)

يقول ابن العماد الحنبلي: «كان واصل ألثغ يبدل الرّاء غيناً في كلامه وكان يخلِّص كلامه بحيث لا تسمع منه الرّاء حتّى يظنّ خواصّ جلسائه أنّه غير ألثغ، حتّى يقال: إنّه دفعت إليه رقعة مضمونها: أمر أمير الاُمراء الكرام أنّ يحفر بئراً على قارعة الطريق، فيشرب منه الصادر والوارد. فقرأ على الفور: حكم حاكم الحكّام الفخام، أنّ ينبش جُبّاً على جادّة الممشي فيسقى منه الصادي والغادي. فغيّر كلّ لفظ برديفه وهذا من عجيب الإقتدار، وقد أشارت الشعراء إلى عدم تكلّمه بالرّاء. من ذلك قول بعضهم:

______________________

1 . وفيات الأعيان: ج 6 ص 8 وأمالي المرتضى: ج 1 ص 139 _ 140.

( 223 )

نعم تجنّب لا يوم العطاء كما * تجنّب ابن عطاء لفظة الرّاء(1)

وقد كانت بينه وبين بشّار بن برد قبل اظهاره ما يخالف عقيدة واصل أواصر الصداقة وقد ذكر بشّار خطبته الّتي ألقى فيها الرّاء وقال:

تكلّف القول والأقوام قد حلفوا * وحب__ّروا خ_طب_اً ن_اهي_ك من خطب

وق__ال مرتج__لاً تغ__لى ب__داهت__ه * كمرج_لّ الق_ين لم__ا حفّ بالل__ّه_ب

وجانب الرّاء ولم يشعر به أحد * قبل التصفّح والإغراق في الطلب

ول_مّا تبرّأ منه واصل لما ظهر منه ما لا يرضيه، هجاه بشّار وقال:

مالي اُشايع غزّالاً له عنق * كنِقْنِق الدَوّ إنّ

ولّي و إنّ مَثلا

عنق الزرافة ما بالي و بالكم * ت_ُ_كفّرون رج__الاً كفّروا رج_لا(2)

بثّ الدعاة في البلاد

كان واصل صموداً في عقيدته، ول_مّا تمكّن من إنفاذ الدعاة إلى الآفاق، فرّق

______________________

1 . شذرات الذهب: ج 1 ص 182 و 183 حوادث عام 131 ه_.

2 . المنية والأمل: ص 19 طبع دار صادر.

( 224 )

أصحابه في البلاد حتّى يكونوا دعاة إلى طريقه. فبعث عبدالله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم، فدخل «ترمذ» ولزم المسجد حتّى اشتهر، ثمّ ناظر جهماً فقطعه، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيّوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطّويل إلى أرمينية(1) .

يقول صاحب كتاب «المعتزلة»:

«درج أصحاب الواصل و تلاميذه من بعده على هذه الخطة (المناظرة) في الردّ على المخالفين، فكان عمرو بن عبيد حيث التقى بأحدهم لا يتركه حتّى يناظره. ناظر جريربن حازم الأزدي السمني في البصرة وقطعه، واشترك مع واصل بن عطاء في مناظرة بشاربن برد، وصالح بن عبد القدوس، وكلاهما من الثنوية المعروفين فقطعاهما، وتناظر عمرو بن عبيد مع مجوسي على ظهر سفينة فقطعه المجوسيّ. [كذا] قال له عمرو: لما لا تسلم؟ فقال: لأنّ الله لم يرد إسلامي، فإذا أرادالله إسلامي أسلمت. قال عمرو: إنّ الله تعالى يريد إسلامك ولكنّ الشياطين لا يتركونك.

فأجاب المجوسي: فأنا أكون مع الشّريك الأغلب!»(2)

يلاحظ عليه: أنّه كان اللازم على عمرو أنّ يقول: إنّ الله تعالى أراد إسلامك ولكن بحرّية واختيار، لا بإلجاء و اضطرار. فلو أسلمت كان إسلامك على طبق ما يريد، وإنّ كفرت لم يكن كفرك آية غلبتك عليه و قد أوضحنا كيفيّة تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد.

من آرائه و مناظراته

إنّ واصل هو أوّل من أظهر

المنزلة بين المنزلتين، لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال. كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك. والمرجئة

______________________

1 . المنية والأمل: ص 19 _ 20.

2 . كتاب المعتزلة: ص 39 _ 40.

( 225 )

تسمّيهم بالإيمان. وكان الحسن و أصحابه يسمّونهم بالنفاق.

1 _ رأيه في مرتكب الكبيرة

ذهب واصل بن عطاء إلى القول بأنّهم فسّاق غير مؤمنين، لا كفّار ولا منافقون. واستدلّ على ذلك بما نقله المرتضى عنه في أماليه من أنّنا نجد أهل الفرق على اختلافهم يسمّون صاحب الكبيرة فاسقاً، ويختلفون في ما عدا ذلك من أسمائه، لأنّ الخوارج تسمّيه مشركاً فاسقاً، والشيعة الزيدية تسميه كافر نعمة فاسقاً، والحسن يسمّيه منافقاً فاسقاً، والمرجئة تسميه مؤمناً فاسقاً. فاجتمعوا على تسميته بالفسق. واختلفوا فيما عدا ذلك من أسمائه فالواجب أنّ يسمّى بالاسم الّذي اتّفق عليه وهو الفسق. ولا يسمّى بما عدا ذلك من الأسماء الّتي اختلف فيها. فيكون صاحب الكبيرة فاسقاً، ولا يقال فيه إنّه مؤمن ولا منافق ولا مشرك، ولا كافر نعمة، فهذا أشبه بأهل الدّين(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره لا يثبت أزيد من أنّ المسلمين اتّفقوا على كون مرتكب الكبيرة فاسقاً ولم يتّفقوا على غيره من سائر الأسماء. لكن عدم اتّفاقهم على شيء منها لا يدلّ على أنّه ليس منها أبداً، كما هو ظاهر قوله «ولا يقال فيه إنّه مؤمن...» فإنّ عدم وجود الإجماع على واحدة من تلك الأسماء لا يلازم عدم وجود دليل آخر على وجود واحد منها فيه. فكان اللاّزم على واصل أنّ يقيم الدّليل على أنّه لا يسمّى بواحد منها.

و إلى ما ذكرنا ينظر قول السيّد المرتضى في أماليه حيث قال: «إنّ الإجماع

وإنّ لم يوجد في تسمية صاحب الكبيرة بالنّفاق،

ولا في غيره من الأسماء، كما وجد في تسميته بالفسق، ولكنّه غير ممتنع أنّ يسمّى بذلك لدليل غير الإجماع، ووجود الإجماع في الشيء، وإنّ كان دليلاً على صحّته لكن ليس فقده دليلاً على فساده»(2).

وقد اعترض ابن المرتضى صاحب «المنية و الأمل» على كلام السيّد المرتضى

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 161.

2 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 167 ولكلامه ذيل فراجع.

( 226 )

بكلام واه، يشبه كلام الهازل حيث قال: «يصحّ الاستدلال بالإجماع المركّب و صورته هنا أنّه أجمعوا على تسميته فاسقاً واختلفوا فيما عداه، وهو حكم شرعي فلا يثبت إلاّ بدليل ولا دليل على ما عدا المجمع عليه هيهنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّه اشتبه عليه معنى الإجماع المركّب، لأنّ معناه أنّه إذا كانت المسألة بين الأمة ذات قولين ، مثلاً قالت طائفة من الفقهاء: الحبوة للولد الأكبر، وقالت الاُخرى: الحبوة لجميع الورثة، فيقال: لا يجوز إحداث قول ثالث، أخذاً بالإجماع المركّب، لأنّ الاُمّة اتّفقت على نفي الثّالث. وأين هو في المقام؟ إذ لم تتّفق الاُمّة على نفي هذه الأسماء، بل اختلفوا على أقوال، فالرجل غير عارف بمصطلح الاُصوليين فاستعمله في غير محلّه.

2 _ مناظرته مع عمرو في مرتكب الكبيرة

إنّ عمرو بن عبيد كان من أصحاب الحسن و تلاميذه. فجمع بينه و بين واصل ليناظره فيما أظهر من القول بالمنزلة بين المنزلتين، فلمّا وقفوا على الاجتماع ذكر أنّ واصلاً أقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى حلقة الحسن، وفيها عمروبن عبيد جالس. فلمّا نظر إلى واصل وكان في عنقه طول واعوجاج، قال: أرى عنقاً لا يفلح صاحبها، فسمع ذلك واصل فلمّا سلّم عليه قال له: يابن أخي إنّ من عاب الصنعة عاب الصانع، فقال له عمرو بن عبيد:

يا أبا حذيفة قد وعظت فأحسنت ولن أعود إلى مثل الّذي كان منّي.

وجلس واصل في الحلقة وسأل أنّ يكلّم عمراً، فقال واصل لعمرو: لم قلت: إنّ من أتى كبيرة من أهل الصّلاة استحقّ اسم النفاق؟ فقال عمرو: لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ اُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (النور/4) ثمّ قال في موضع آخر: (إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ)(التوبة/67) فكان كلّ فاسق منافقاً. إذ كانت ألف ولام

______________________

1 . المنية والأمل: ص 24.

( 227 )

المعرفة موجودتين في الفاسق.

فقال له واصل: أليس قد وجدت الله تعالى يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) (المائدة/45) وأجمع أهل العلم على أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ اسم الظالم، كما يستحق اسم الفاسق، فألاّ كفّرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة بقول الله تعالى: (وَالكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ) (البقرة/254) فعرّف بألف و لام التعريف(1).

يلاحظ عليه: أنّ «واصلاً» دفع دليل خصمه بالنقض ولأجل ذلك يقول السيّد المرتضى في حقّه: «أمّا ما ألزمه واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فسديد لازم» ولكن كان في وسعه الإجابة عنه بشكل جلّي، وهو أنّ ما استدلّ به «عمرو » من الآيات غير كاف في إثبات ما يرتئيه. لأنّ آية النور وإنّ حكمت بفسق مرتكب الكبيرة، ولكن آية التوبة لم تحكم بأنّ كلّ فاسق منافق، وإنّما حكم بأنّ كلّ منافق فاسق، وبعبارة واضحة حصرت الآية، المنافقين بالفاسقين ولا العكس. ومن المحتمل أنّ يكون المنافق أخصّ من الفاسق. والفاسق أعمّ منه فيكون استدلاله عقيماً. قال سبحانه: ( إنّ المنافقين هم الفاسقون ) ولم يقل: إنّ الفاسقين هم المنافقون.

وبذلك تقف على مغزى ما نقض به واصل دليل عمرو،

فإنّه صحيح إذا كان الهدف إفحام الخصم بالجواب النقضي.

وأمّا إذا كانت الإجابة على الوجه الحلّي فهي ساقطة جدّاً، لأنّه سبحانه حصر الكافرين في الظالمين لا العكس. فقال: (والكافرون هم الظالمون) فمن الممكن أنّ يكون كلّ كافر ظالماً ولا العكس. وصاحب الكبيرة وإنّ استحقّ اسم الظالم، كما استحقّ اسم الفاسق، ولكنّه لا يستحقّ اسم الكافر بحجّة أنّه سبحانه قال: (والكافِرونَ هُمُ الظّالمون ) ، و لم يقل: (والظالمون هم الكافرون).

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 166 ولكلامه ذيل لا حاجة لنقله، وربّما أوجد تشويشاً في الاستدلال وقد نقله ابن المرتضى في المنية والأمل بصورة واضحة ص 23.

( 228 )

3 _ من لطائف تفسيره للقرآن

حكي أنّ واصلاً كان يقول: «أراد الله من العباد أنّ يعرفوه ثمّ يعملوا ثمّ يعلّموا. قال الله تعالى (يا مُوسى إنّي أَنَا اللّهُ) فعرّفه نفسه، ثمّ قال: ( اخلَعْ نَعْلَيْكَ)(طه/12) فبعد أنّ عرّفه نفسه أمره بالعمل قال: والدّليل على ذلك قوله تعالى: (وَالعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا _ يعني صدقوا _ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) علموا و عملوا و علّموا(1).

يلاحظ عليه: أنّ الآية الاُولى دلّت على تقدّم العلم على العمل، وأمّا تقدّم العمل على تعليم الغير فهي ساكتة عنها. نعم الآية الثالثة ربّما تكون ظاهرة فيما يدّعيه بحجّة النظم والترتيب في الذكر، وإنّ كانت واو العاطفة لا تدلّ على الترتيب.

4 _ من نوادر حكاياته

روى المبرّد قال : حُدّثتُ أنّ واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسّوا بالخوارج، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني و إيّاهم، فقالوا : شأنك. فقال الخوارج له

: ما أنت و أصحابك؟ قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويقيموا حدوده فقالوا : قد أجرناكم، قال : فعلّمونا أحكامه، فجعلوا يعلّمونه أحكامهم، وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنّكم إخواننا، قال لهم : ليس ذلك لكم. قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )(التوبة/6) فأبلغونا مأمننا فساروا بأجمعهم حتّى بلغوا الأمن(2).

5 _ تهجّده ولقبه بالغزّال

ينقل ابن المرتضى عن اُخت «عمرو بن عبيد» _ وكانت زوجة واصل _ أنّها قالت

______________________

1 . أمالي المرتضى ج 1 ص 168.

2 . المصدر نفسه .

( 229 )

: «كان واصل إذا جنّه اللّيل صفّى قدميه يصلّي ولوح ودواة موضوعان، فإذا مرّت به آية فيه حجّة على مخالف، جلس فكتبها ثمّ عاد في صلاته.

ونقل أيضاً: أنّ واصلاً كان يلزم أبا عبدالله الغزّال _ وكان صديقاً له _ ليعرف المتعفّفات من النّساء فيجعل صدقته لهنّ وكان يعجبه ذلك، وقال الجاحظ: لم يشكّ أصحابنا أنّ واصلاً لم يقبض ديناراً ولا درهماً، وفي ذلك قال بعضهم في مرثيته:

ولا مسّ ديناراً ولا مسّ درهماً * ولا عرف الثّوب الّذي هو قاطعه(1)

وأمّا مولده فقد اتّفقوا على أنّ ولادته كانت سنة 80 للهجرة في مدينة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وتوفّي عام 131 ه_(2).

مؤلّفاته

ذكر ابن النديم في الفهرست _ و تبعه ابن خلّكان _ أنّ لواصل التّصانيف التالية:

1 _ كتاب أصناف المرجئة.

2 _ كتاب التّوبة.

3 _ كتاب المنزلة بين المنزلتين.

4 _ كتاب خطبته الّتي أخرج منها الرّاء. وقد نشرت هذه الخطبة عام 1951 في المجموعة الثانية من نوادر المخطوطات بتحقيق عبدالسلام هارون.

5 _ كتاب معاني القرآن.

6 _ كتاب

الخطب في التّوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ _ عليه السلام _ في التّوحيد والعدل

______________________

1 . المنية والأمل: ص 18.

2 . وفيات الأعيان: ج 6 ص 11، والمنية والأمل: ص 18.

( 230 )

فأفرده تأليفاً.

7 _ كتاب ما جرى بينه و بين عمرو بن عبيد.

8 _ كتاب السّبيل إلى معرفة الحقّ.

9 _ كتاب في الدعوة.

10 _ كتاب طبقات أهل العلم والجهل(1). وغيرذلك.

القواعد الأربع لواصل بن عطاء

إنّ الاعتزال مذهب عقلي اُلقيت نواته في أوائل القرن الثاني بيد واصل بن عطاء، ثمّ نمت عبر العصور، فكلّما تقدّم الاعتزال إلى الإمام، و ربّى في أحضانه ذوي الحصافة، والأدمغة الكبيرة، أخذ يتكامل في ضوء البحث والنّقاش، وكان الاعتزال في زمن المؤسّس يدور على أربع قواعد فقط، وهي بالنسبة إلى ما تركنه المعتزلة من التراث الكلامي إلى فترة الانقراض شيء قليل، وأين هو من الاعتزال الّذي تريه لنا كتب القاضي عبد الجبّار في كتاب المغني أو غيره من البسط في تلك القواعد، وتأسيس اُصول و قواعد اُخر، لم تخطر ببال المؤسّس.

قال الشهرستاني: «الواصليّة هم أصحاب واصل بن عطاء واعتزالهم يدور على أربع قواعد:

القاعدة الاُولى: القول بنفي صفات الباري من العلم والقدرة والإرادة والحياة، وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة، وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتّفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليّين(2) قال: ومن أثبت معنى، وصفة قديمة فقد أثبت إلهين.

______________________

1 . فهرست ابن النديم: الفن الأول من المقالة الخامسة، ص 203.

2 . وهذا يعرب بوضوح عن أنّ الداعي لتأسيس هذه القاعدة ليس انكار صفاته سبحانه كالملاحدة المنكرين لكونه عالماً قادراً، بل الداعي هو تنزيه الرب عن وجود قديم مثله، وما نسب

إليه الأشعري في كتاب الإبانة ص 107 من الداعي ليس في محله.

( 231 )

القاعدة الثانية: القول بالقدر، وحاصلها أنّ العبد هو الفاعل للخير والشرّ والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، والربّ أقدره على ذلك.

القاعدة الثالثة: المنزلة بين المنزلتين، وأنّ مرتكب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً، بل فاسق مخلّد في النّار إنّ لم يتب.

القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وصفّين، أنّ أحدهما مخطئ لا بعينه، وكذلك قوله في عثمان وخاذليه، أنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة، لكن لا بعينه».

ثمّ رتّب الشّهرستاني على تلك القاعدة وقال: «وقد عرفت قوله في الفاسق وأقلّ درجات الفريقين أنّه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين، فلم يجوِّز شهادة عليّ و طلحة والزبير على باقة بقل، وجوّز أنّ يكون عثمان وعليّ على الخطأ»(1).

أقول: إنّ القاعدة الاُولى إشارة إلى الأصل الأوّل من الاُصول الخمسة، أعني التّوحيد، وهذا الأصل عندهم رمز إلى تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتجسيم، كما أنّ القاعدة الثانية من فروع الأصل الثاني، أعني القول بالعدل، فتوصيفه سبحانه به يقتضي القول بالقدر، أي إنّ الانسان يفعل بقدرته واستطاعته المكتسبة، ولا معنى لأن يكون خالق الفعل هو الله سبحانه، ويكون العبد هو المسؤول. نعم دائرة الأصل الثاني (العدل) أوسع من هذه القاعدة.

والقاعدة الثالثة نفس أحد الاُصول الخمسة، وبقي منها أصلان _ الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر _ ولم يأت ذكر منهما في كلام «واصل».

وأمّا القاعدة الرابعة فقد خالف فيها واصل وتلميذه عمرو بن عبيد جمهور المعتزلة.

قال ابن حزم: «اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق:

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 49.

( 232 )

1 _ فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة و

جمهور المعتزلة وبعض أهل السنّة: إنّ عليّاً كان هو المصيب فى حربه، وكلّ من خالفه على خطأ. وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد و أبوالهذيل و طوائف من المعتزلة:

إنّ عليّاً مصيب في قتاله مع معاوية و أهل النهروان، ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل، وقالوا: إحدى الطّائفتين مخطئة ولا نعرف أيّهما هي، وقالت الخوارج: عليّ المصيب في قتال أهل الجمل و أهل صفّين وهو مخطىء في قتاله أهل النهر(1).

ولا يخفى وجود الاختلاف بين النّقلين، فعلى ما نقله الشهرستاني كانت الواصليّة متوقّفة في محاربي الإمام في وقعتي «الجمل وصفّين» وعلى ما نقله ابن حزم يختصّ التوقّف بمحاربيه في وقعة «الجمل» ويوافق ابن حزم عبد القاهر البغدادي، وقال: «ثمّ إنّ واصلاً فارق السّلف ببدعة ثالثة، وذلك أنّه وجد أهل عصره مختلفين في عليّ وأصحابه، وفي طلحة والزبير وعائشة، وسائر أصحاب الجمل _ إلى ما ذكره»(2).

ويوافقهما نقل المفيد حيث قال ما هذا خلاصته:

« اتّفقت الإماميّة و الزيديّة والخوارج، على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام كفّار ضلاّل، ملعونون بحربهم أمير المؤمنين. وزعمت المعتزلة كلّهم أنّهم فسّاق ليسوا بكفّار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون، وزعم واصل الغزّال و عمرو بن عبيد بن باب من بين كافّة المعتزلة أنّ طلحة و الزبير و عائشة ومن كان فى حربهم، من عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين و محمّد ومن كان في حزبهم كعمّار بن ياسر وغيره من المهاجرين، و وجوه الأنصار وبقايا أهل بيعة الرضوان، كانوا في اختلافهم كالمتلاعنين وأنّ إحدى الطّائفتين فسّاق ضلاّل مستحقّون للخلود في النّار إلاّ أنّه لم يقم دليل عليها»(3).

______________________

1 . الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج 4 ص 153.

2

. الفرق بين الفرق: ص 119.

3 . أوائل المقالات: ص 10 _ 11.

( 233 )

نقد النظرية

إنّ واصل بن عطاء ومن لفّ لفّه في هذا الباب، يلوكون في أشداقهم ما يضادّ نصّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد أخبر عليّاً بأنّه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقد عهد به الرّسول و أمره بقتالهم.

روى أبو سعيد الخدري قال: «أمرنا رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين و القاسطين والمارقين.

قلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ قال: مع عليّ بن أبى طالب _عليهالسلام _ ».

روى أبو اليقظان عمّار بن ياسر قال: «أمرني رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين».

وقد رواه الحفاظ من أهل الحديث و أرباب المعاجم والتأريخ، ومن أراد الوقوف على تفصيله فعليه الرجوع إلى «الغدير: ج 3 ص 192 _ 195».

ويكفي في ذلك ما نقله ابن عساكر في تأريخه عن أبي صادق أنّه قال: قدم أبو أيّوب الأنصاري العراق، فأهدت له الأزد «جزراً» فبعثوا بها معي فدخلت فسلّمت إليه و قلت له: قد أكرمك الله بصحبة نبيّه و نزوله عليك، فمالي أراك تستقبل الناس تقاتلهم؟ تستقبل هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة؟ فقال: إنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ الناكثين، فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أنّ نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم _يعني معاوية و أصحابه _ ، وعهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ المارقين فلم أرهم بعد(1).

وقد تجاهل واصل وأتباعه و عرفوا الحقّ وأنكروه، فإنّ حكم الخارج على الإمام المفترض طاعته ليس أمراً مخفياً على رئيس المعتزلة، ولا أرى باغياً أخسر من الزبير، ولاأشقى من طلحة، غير

ابن آكلة الأكباد حزب الشيطان.

______________________

1 . الغدير: ج 3 ص 192.

( 234 )

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً فانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ)(1).

و في نهاية المطاف نقول: إنّه من مواليد عام الثمانين في المدينة وتوفّي في البصرة عام 131، كما أرّخه المسعودي و غيره.

2 _ عمرو بن عبيد (ت 80 _ م 143) (2)

الشخصيّة الثانية للمعتزلة بعد واصل بن عطاء هو عمرو بن عبيد وكان من أعضاء حلقة الحسن، مثل واصل، لكنّه التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة كما نقلناها.

يقول السيّد المرتضى في أماليه: «يكنّى أبا عثمان مولى لبني العدوية من بني تميم. قال الجاحظ: وهو عمرو بن عبيد بن باب. و«باب» نفسه من سبي كابل من سبي عبدالرحمان بن سمرة، وكان باب مولى لبني العدوية قال: وكان عبيد شرطيّاً، وكان عمرو متزهّداً، فكان إذا اجتازا معاً على الناس قالوا هذا أشرّ الناس، أبو خير الناس، فيقول عبيد: صدقتم هذا إبراهيم وأنا تارخ».

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره عبيد من التشبيه إنّما يتمُّ على عقيدة أهل السنّة، بأنّ أبا إبراهيم كان وثنيّاً، وأمّا على عقيدة الشيعة، وهي الّتي تؤيّدها الآيات القرآنية، أنّ أباه كان مؤمناً موحّداً وأنّ «آزر» كان عمّه لا والده(3) فلا يتمّ.

وقد روى السيّد في أماليه و غيره من أرباب المعاجم قصصاً في زهده وورعه غير أنّ قسماً منها يعدّ مغالاة في الفضائل و إليك نموذجاً منها:

روى ابن المرتضى عن الجاحظ أنّه قال: صلّى عمرو أربعين عاماً صلاة الفجر

______________________

1 . النحل/14.

2 . فهرس ابن النديم: الفن الأول من المقالة الخامسة، ص 203.

3 . مجمع البيان: ج 3 ص 319 ط صيدا في تفسير قوله (ربنا اغفر لي ولوالدي) إبراهيم /

41).

( 235 )

بوضوء المغرب. وحجّ أربعين حجّة ماشياً، وبعيره موقوف على من أحصر، وكان يحيي اللّيل بركعة واحدة، ويرجِّع آية واحدة(1).

وقد روى نظيره في حقّ الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد قلنا إنّه من المغالاة في الفضائل، إذ قلّما يتّفق لإنسان ألاّ يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة أربعين سنة، حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة.

ما اثر عنه في مجالي التفسير والعقيدة

1 _ روى المرتضى في أماليه أنّ ابن لهيعة أتى عمرو بن عبيد في المسجد الحرام فسلّم عليه و جلس إليه وقال له: يا أبا عثمان ما تقول في قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) (النساء/129) فقال: ذلك في محبّة القلوب الّتي لا يستطيعها العبد ولم يكلّفها، فأمّا العدل بينهنّ في القسمة من النفس والكسوة والنفقة، فهو مطيق لذلك، وقد كلّفه بقوله تعالى: (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ)فيما تطيقون (فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقَةِ ) بمنزلة من ليست أيّماً ولا ذات زوج. فقال ابن لهيعة: هذا والله هو الحق(2).

أقول: ما سأله ابن لهيعة كان سؤالاً دارجاً في ذلك العصر، وقد طرحه بعض الزنادقة، كابن أبي العوجاء في البصرة _ بندر الأهواء والآراء _ ليوهم أنّ في القرآن تناقضاً. ولأجل ذلك سأل عنها هشام بن الحكم تارة و أبا جعفر الأحول، مؤمن الطّاق، اُخرى، فغادر الرجلان البصرة، لزيارة الإمام الصادق _عليه السلام_ في المدينة في غير موسم الحجّ والعمرة للتعرّف على الجواب وقد عرضا السؤال عليه، فأجاب بنفس الجواب الّذي مرّ في كلام عمرو بن عبيد، فلمّا سمع ابن أبي العوجاء الجواب قال: هذا ما حملته الإبل من الحجاز(3).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 22. لاحظ الجزء الثاني من كتابنا ص 24.

2 . أمالي

المرتضى: ج 1 ص 170 _ 171.

3 . البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص 420، الحديث 2 _ 3.

( 236 )

ولعلّ ما أجاب الإمام _ عليه السلام _ كان منتشراً في البصرة من جانب تلميذيه، وانتهى إلى عمرو بن عبيد، فأجاب بنفس ما أجاب به الإمام، ويظهر من كلام ابن أبي العوجاء، تقدّم إجابة الإمام على جواب عمرو بن عبيد زماناً وإلاّ لما صحّ أنّ يقال «هذا ما حملته الإبل من الحجاز» بل كان له أنّ يحتمل أنّ الجواب اُخذ من عمرو بن عبيد، عميد الاعتزال.

نعم يحتمل أنّ تكون الإجابتان من قبيل توارد الخاطر و مجيئهما على سبيل الاتّفاق، بلا أخذ أحدهما من الآخر.

2 _ روى السيّد المرتضى في أماليه و قال: « إنّ هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها و عمرو لا يعرفه فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى، قال: ولم؟ قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لك فماً؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: لأذوق الطعوم واُجيب الداعي، ثمّ عدّد عليه الحواسّ كلّها، ثمّ قال: وجعل لك قلباً؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال لتؤدّي إليه الحواسّ ما أدركته فيميّز بينها. قال: فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواسّ حتّى جعل لها إماماً ترجع إليه، أترضى لهذا الخلق الّذين جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟ فقال له عمرو: ارتفع حتّى ننظر في مسألتك وعرفه. ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتّى اختلفوا»(1).

أقول: ما أجاب به عمرو بن عبيد هشام بن الحكم، يدلّ على دماثة في الخلق وسماحة في المناظرة مع أنّه

طعن في السنّ، وهشام بن الحكم كان يعدّ في ذلك اليوم من الأحداث، وقد استمهل حتّى يتأمّل في مسألته ولم يرفع عليه صوته وعقيرته بالشتم والسبّ، كما هو عادة أكثر المتعصّبين، ولم يرمه بالخروج عن المذهب.

3 _ قال الجاحظ: «نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو: إنّ الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشك عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى:

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 176 _ 177.

( 237 )

(فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر / 92 و 93). ولم يقل لنسألنّهم عمّا قضيت عليهم، أو قدّرته فيهم، أو أردته منهم، أو شئته لهم، وليس بعد هذا الأمر، إلاّ الإقرار بالعدل، أو السكوت عن الجور الّذي لا يجوز على الله تعالى»(1).

أقول: روي نظير ذلك من الإمام جعفر الصادق _ عليه السلام _ وقد سئل عن القدر؟ فقال: «ما استطعت أنّ تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع فهو فعل الله، يقول الله للعبد: لم كفرت ولا يقول لم مرضت»(2).

و أخيراً روى السيّد المرتضى أنّ أبا جعفر المنصور مرّ على قبره بمرّان _ وهو موضع على ليال من مكّة على طريق البصرة _ فأنشأ يقول:

صلّى الإله عليك من متوسّد * قب___راً مررت ب___ه ع_لى مَرّان

قبراً تضمّن مؤمناً متخشّعاً * عب___د الإل___ه ودان ب__ال_فرقان

وإذا الرّجال تنازعوا في شبهة * فصل الخطاب بحكمة وبيان

فلو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً * أب_قى لنا عمراً أبا عثمان(3)

4 _ قال الخطيب: «كان عمرو يسكن البصرة، وجالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثمّ أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنّة فقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحسن وكان له سمعة

و إظهار زهد _ ثمّ نقل بعض ما يدلّ على زهده أو إظهاره»(4).

ما ذكره الخطيب من تخصيص أهل السنّة باتّباع مذهبه تخصيص بلا دليل، فإنّ الفرق الإسلاميّة يحترمون السنّة الصّحيحة، والكلّ بهذا المعنى أهل السنّة. ولو كان وجه إزالته عنهم قوله بالقدر،فقد سبقه أستاذه الحسن إلى هذا القول، كما تدلّ عليه رسالته

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 177.

2 . المنية والأمل: ص 21 ط دار صادر.

3 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 178، ووفيات الأعيان: ج 2 ص 462.

4 . تاريخ بغداد: ج 12، ص 166، رقم الترجمة 6652.

( 238 )

إلى عمر بن عبدالعزيز، الّتي أتى بنصّها القاضي عبدالجبّار في «فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة»(1) فلو خرج عمرو بالقول بالقدر عن مذهب أهل السنّة، فهذه شنشنة أعرفها من عبد القاهر في كتابه «الفرق بين الفرق»، والخطيب في تأريخه، وغيرهما من الكتّاب المتعصّبين الّذين يفتحون أبواب الجنّة على مصاريعها على وجوه أصحابهم، ويقفلونها بإحكام أمام الفرق الاُخرى.

نعم، تطرّف من قال: «إنّ تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنّة، تسمية متأخِّرة يرجع تأريخها إلى حوالي القرن السّابع الهجري، إلى بعد عصر آخر الأئمّة المشهورين وهو ابن حنبل بحوالي أربعة قرون»(2).

فإنّ أهل الحديث كانوا يسمّونهم أهل السنّة، وهذا أحمد بن حنبل يقول في ديباجة كتابه «السنّة»:«هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسّكين بعروتها المعروفين بها»(3). وهذا الشيخ الأشعري يعرض عقائد أهل الحديث باسم أهل السنّة(4).

إنّما الاشكال في احتكار هذا الإسم في طائفة خاصّة من المسلمين، مشعراً به إلى أنّ غيرهم رفضوا السنّة و عملوا بالبدعة.

نعم، لم تكن هذه التسمية في عصر النّبي، ولا الخلفاء، ولا في أوائل القرن الثاني، وإنّما حدثت في أواسطه.

5 _ نقل الخطيب بسنده عن

معاذ قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: «إنّ كانت (تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب) في اللّوح المحفوظ، فما على أبى لهب من لوم».

و ينقله أيضاً عن معاذ بصورة اُخرى قال: «كنت جالساً عند عمرو بن عبيد،

______________________

1 . طبقات المعتزلة: ص 215 _ 223. مرّ نصّ الرسالة في الجزء الأول ص 282 _ 291.

2 . الاباضية بين القرون الاسلاميّة: ج 2، ص 128 تأليف علي يحيى معمر.

3 . السنّة: ص 44.

4 . مقالات الإسلاميين: ص 290.

( 239 )

فأتاه رجل يقال له عثمان أخو السمري فقال: يا أبا عثمان! سمعت والله اليوم بالكفر فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشماً الأوقصي يقول: إنّ (تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب)وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) و: (سَأُصْلِيهِ سَقَر)إنّ هذا ليس في اُمّ الكتاب، والله تعالى يقول: (حم * وَالكِتَابِ المُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ إِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌ حَكِيمٌ) فما الكفر إلاّ هذا يا أبا عثمان. فسكت عمرو هنيئة، ثمّ أقبل عليّ فقال: والله لو كان القول كما يقول، ما كان على أبي لهب من لوم، ولا على الوحيد من لوم. قال: يقول عثمان ذاك؟ هذا والله الدين يا أبا عثمان. قال معاذ: فدخل بالاسلام وخرج بالكفر»(1).

ثمّ ينقل عن معاذ أنّه نقل مقالة عمرو لوكيع بن الجرّاح فقال: «من قال هذا القول استتيب، فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه».

يلاحظ عليه: أنّ تأريخ بغداد عيبة الأعاجيب والموضوعات. إنّه يروي في بداية ترجمة «عمرو بن عبيد» قصصاً في زهده و تمرّده على الطّواغيت، كأبي جعفر المنصور العبّاسي على وجه يليق أنّ تنسب إلى الأنبياء و الأولياء، ولا يلبث فيأتي بهذه الأعاجيب الّتي لا يليق أنّ ينسب

إلى مسلم عادي، فضلاً عن شيخ الكلام في عصره. لأنّ المعتزلة وفي مقدّمهم الشيخان، اعترفوا بأنّ علمه سبحانه بالأشياء والحوادث أزلي لا حادث(2) و معه كيف يمكن لمثل عمرو شيخ المنهج أنّ ينكر علمه سبحانه بما يصدر من الوليد ابن المغيرة، أو أبي لهب من الأفعال و الأقوال؟ وكيف يمكن لمسلم أنّ ينكر كون القرآن موجوداً في الكتاب (لدينا لعليّ حكيم) مع وروده فيه على وجه الصّراحة. كلّ ذلك يعرب عن أنّ ما نسب إليه من السفاسف أخيراً، وليد العداء والبغضاء. فالمسلم الّذي يأخذ عقائده و آراءه من الكتاب والسنّة الصّحيحة والعقل السليم، يعترف بأنّ كلّ

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 12 ص 170 _ 172.

2 . قال القاضي عبد الجبار (م 415): فاعلم أنّ تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق (عالم، لا عالم) يستحقها لذاته وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادراً عالماً حياً موجوداً لما هو عليه في ذاته... إلى آخر ما ذكر في شرح الاُصول الخمسة: ص 129.

( 240 )

شيء معلوم لله سبحانه في الأزل. غير أنّ علمه الأزلي لا يصيِّر الإنسان مسيّراً مكتوف الأيدي، لأنّ علمه سبحانه لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن الإنسان على الإطلاق و بأيّ وجه كان، وإنّما تعلّق بصدوره منه في ظلّ المبادئ الموجودة فيه، ومنها الإرادة والاختيار و الحريّة والانتخاب و باختصار; علمه سبحانه تعلّق بأنّ الإنسان فاعل مختار يفعل كلّ شيء بإرادته ومثل هذا العلم لو لم يؤكّد الاختيار لما كان سبباً للجبر.

وقد أوضحنا هذا الجواب عند البحث عن عموم مشيئته سبحانه و علمه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة:

نعم، عمرو بن عبيد وكلّ من يعتقد بعدله سبحانه لا يجنح إلى روايات القدر الّتي تعرِّف

الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح. ولقد ذكرنا نزراً من تلك الأحاديث في كتابنا هذا.

وفود عمرو على الإمام الباقر _ عليه السلام _

روي أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر _ عليه السلام _ لامتحانه بالسؤال عن بعض الآيات، فقال له: «جعلت فداك، ما معنى قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (الانبياء/30) ما هذا الرّتق والفتق؟ فقال أبو جعفر _عليه السلام _: كانت السّماء رتقاً لا ينزل القطر وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النّبات، ففتق الله السّماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات». فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً و مضى.

ثمّ عاد إليه فقال: أخبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) (طه/81) ما غضب الله؟ فقال له أبو جعفر _ عليه السلام _: «غضب الله تعالى عقابه يا عمرو. من ظنّ أنّ الله يغيّره شيء فقد كفر»(1).

______________________

1 . بحار الأنوار: ج 46، ص 354 نقلاً عن المناقب لابن شهر آشوب. وغيره.

( 241 )

وفود عمرو على الإمام الصادق _ عليه السلام _

روى الطّبرسي في «الاحتجاج» عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال: كنت عند أبي عبداللّه_ عليه السلام _ بمكّة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيدوواصل ابن عطاء و حفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم وذلك حين قتل الوليد(1) واختلف أهل الشّام بينهم فتكلّموا و أكثروا، وخطبوا فأطالوا فقال لهم أبوعبدالله _عليه السلام _: «إنّكم قد أكثرتم عليّ و أطلتم فأسندوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلّم بحجّتكم و ليوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ و أطال، فكان فيما قال: قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتّت أمرهم.

فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين و عقل و مروّة ومعدن للخلافة وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن(2) فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا...إلى آخر ما قال. فلّما تمّ كلامه أجابه الإمام بكلام مسهب. وفي آخر كلامه: «اتّق الله يا عمرو وأنتم أيّها الرّهط، فاتّقوا الله، فإنّ أبي حدّثني و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب الله و سنّة رسوله أنّ رسول الله قال: من ضرب النّاس بسيفه و دعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلِّف(3).

روى الصّدوق في عيونه عن عليّ الرضا _ عليه السلام _ عن أبيه، عن جدّه _ عليهم السلام_ قال: «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبدالله، فلّما سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ)(الشورى/37) ثمّ سأل عن الكبائر فأجابه _ عليه السلام _ فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك والله من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم»(4).

______________________

1 . الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان. قتل في جمادى الآخرة عام 126 وكان فاسقاً شرّيباً للخمر.

2 . الملقّب بالنفس الزكية، قتل بالمدينة في خلافة المنصور عام 145.

3 . بحار الأنوار: ج 47، ص 213 _ 215 .

4 . بحار الأنوار: ج 47، باب مكارم أخلاقه، ص 19، الحديث 13.

( 242 )

3 _ أبو الهذيل العلاّف (ت 135 _ م 235)

أبو الهذيل محمّد بن الهذيل العبدي _ نسبة إلى عبدالقيس _ وكان مولاهم وكان يلقّب بالعلاّف، لأنّ داره في البصرة كانت في العلاّفين(1).

قال ابن النّديم: «:كان شيخ البصريّين في الاعتزال و من أكبر علمائهم وهو

صاحب المقالات في مذهبهم و مجالس و مناظرات.

نقل ابن المرتضى عن صاحب المصابيح أنّه كان نسيج وحده وعالم دهره ولم يتقدّمه أحد من الموافقين ولا من المخالفين. كان إبراهيم النظّام من أصحابه، ثمّ انقطع عنه مدّة و نظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلمّا ورد البصرة كان يرى أنّه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق إلى أبي الهذيل. قال إبراهيم: فناظرت أبا الهذيل في ذلك فخيّل إليّ أنّه لم يكن متشاغلاً إلاّ به لتصرّفه فيه وحذقه في المناظرة فيه(2).

قال القاضي:«ومناظراته مع المجوس والثنويّة و غيرهم طويلة ممدودة وكان يقطع الخصم بأقلّ كلام. يقال إنّه أسلم على يده زيادة على 3000 رجل».

قال المبِّرد: «ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة. شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت...وفي مجلس المأمون استشهد في عرض كلامه بسبعمائة بيت»(3).

وما ناظر به المخالفين دليل على نبوغه المبكر وتضلّعه في هذا الفن، فلنذكر بعضه:

1 _ مات ابن لصالح بن عبد القدّوس الّذي يرمى بالزندقة، فجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: «لا أعرف لجزعك عليه وجهاً، إذ كان الناس عندك كالزّرع فقال صالح:

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 178، وفيات الأعيان: ج 4، ص 265 _ 267 رقم الترجمة 606 وقد قيل في تاريخ وفاته غير هذا نقله المرتضى في أماليه.

2 . فهرست ابن النديم: ص 225 _ 226.

3 . المنية والأمل: ص 26 _ 27.

( 243 )

يا أبا الهذيل إنّما أجزع عليه لأنّه لم يقرأ كتاب «الشكوك». فقال: ما هذا الكتاب يا صالح؟

قال: هو كتاب قد وضعته، من قرأه يشك ّ فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن، ويشكّ فيما لم

يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان. فقال له أبو الهذيل: فشكّ أنت في موت ابنك، واعمل على أنّه لم يمت و إن كان قد مات. وشكّ أيضاً في قراءته كتاب «الشكوك» وإن كان لم يقرأه»(1).

2 _ بلغ أبا الهذيل في حداثة سنّه أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة و قطع جماعة من متكلّميها، فقال لعمّه: «يا عمّ امض بي إلى هذا اليهودي حتّى اُكلّمه. فقال له عمّه: يا بنيّ كيف تكلّمه وقد عرفت خبره، وأنّه قطع مشايخ المتكلّمين! فقال: لا بدّ من أن تمضي بي إليه. فمضى به.قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى _ عليه السلام _، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتّفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه، فتقدّمت إليه، فقلت: أسألك أم تسألني؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لي: أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّي _ عليه السلام _ وشهد بنبوّته وصدّقه فهو نبيّ صادق، وإن كان غير من وصفت، فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته; فورد عليه ما لم يكن في حسابه، ثمّ قال لي: أتقول إنّ التوراة حقّ؟ فقلت: هذه المسألة تجري مجرى الاُولى، إن كانت هذه التوراة الّتي تسألني عنها هي الّتي تتضمّن البشارة بنبيّي _ عليه السلام _ فتلك حقّ، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ، ولا أقرّ بها.

فبهت و اُفحم ولم يدر ما يقول. ثمّ قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني و بينك، فظننت أنّه يقول شيئاً من الخير، فتقدّمت إليه فسارّني فقال لي: اُمّك كذا وكذا واُمّ من علّمك، لا يكنّي، وقدّر أنّي أثب

به، فيقول: وثبوا بي وشغبوا عليّ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت: أعزّكم الله، ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّاي وعلى جوابي

______________________

1 . الفهرست لابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 204 _ وفيات الأعيان: ج 4، ص 265 _ 266.

( 244 )

إيّاه؟ قالوا:بلى، قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضاً؟ قالوا: بلى، قلت لهم: فإنّه ل_مّا سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحدّ، وشتم من علّمني، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني، فأخذته الأيدي من كلّ جهة فخرج هارباً من البصرة»(1).

أقول: إنّ ما طرحه الرجل اليهودي من الشبهة كانت شبهة دارجة لأهل الكتاب يتمسّكون بها كلّ منهم من غير فرق بين اليهودي و المسيحي. وقد سأل الجاثليق النصراني الإمام عليّ بن موسى الرضا _ عليه السلام _ في مجلس المأمون عن هذه الشبهة، فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى و كتابه هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا _ عليه السلام _ : «أنا مقرّ بنبوّة عيسى و كتابه...وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه ولم يبشّر به اُمّته»(2).

إنّ الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا _ عليه السلام _ قدم خراسان عام 199، وتوفّي بها عام 203 ه_، وكانت المناظرات خلال هذه السنوات دائرة و مجالسها بالعلماء و الاُدباء حافلة، فنقلوا ما دار بين الإمام والجاثليق إلى العواصم الإسلاميّة. فليس من البعيد أن يكون أبو الهذيل قد اقتبس كلامه من الإمام _ عليه السلام _ ، كما أنّ من المحتمل أن يكون من باب توارد الخاطر.

3 _ أتى إليه رجل فقال: «اُشكل عليّ أشياء

من القرآن فقصدت هذا البلد فلم أجد عند أحد ممّن سألته شفاء لما أردته، فلمّا خرجت في هذا الوقت قال لي قائل: إنّ بغيتك عند هذا الرّجل فاتّق الله و أفدني، فقال أبو الهذيل ماذا أشكل عليك؟ قال: آيات من القرآن توهمني أنّها متناقضة و آيات توهمني أنّها ملحونة. قال: فماذا أحبّ إليك، اُجيبك بالجملة أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة، فقال أبو الهذيل: هل تعلم أنّ محمّداً كان من أوساط العرب و غير مطعون عليه في لغته، وأنّه

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 178 _ 179.

2 . الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 202 وللمناظرة صلة، من أراد فليراجع.

( 245 )

كان عند قومه من أعقل العرب فلم يكن مطعوناً عليه؟ فقال: اللّهمّ نعم، قال أبو الهذيل: فهل تعلم أنّ العرب كانوا أهل جدل؟ قال: اللّهمّ نعم، قال: فهل اجتهدوا عليه بالمناقضة واللّحن؟ قال: اللّهمّ لا، قال أبو الهذيل: فتدع قولهم على علمهم باللّغة وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟ قال: فأشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله، قال: كفاني هذا و انصرف و تفقّه في الدين»(1).

تآليف__ه

بينما لم يذكر ابن النّديم أيّ تأليف لأبي الهذيل يحكي ابن المرتضى عن يحيى بن بشر أنّ لأبي الهذيل ستّين كتاباً في الرّدّ على المخالفين في دقيق الكلام(2).

نعم، ذكر ابن النّديم في باب الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن أنّ لأبي الهذيل العلاّف كتاباً في ذلك الفن(3).

قال ابن خلّكان:«ولأبي الهذيل كتاب يعرف بالميلاس و كان «ميلاس» رجلاً مجوسياً و أسلم، وكان سبب إسلامه أنّه جمع بين أبي الهذيل وبين جماعة من الثنويّة، فقطعهم أبو الهذيل فأسلم ميلاس عند ذلك»(4).

وذكر البغدادي كتابين لأبي الهذيل

هما «الحجج» و «القوالب» والثاني ردُّ على الدهريّة(5).

أقول: إنّ من سبر كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي يعرف حقده على المعتزلة وعلى ذوي الفكر و لذلك ترجمه بصورة تكشف عن عمق غيظ له، فقال: «كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج أبناء السبايا لظهور أكثر البدع منهم، وفضائحه تترى تكفِّره فيها سائر فرق الاُمّة من أصحابه في الاعتزال ومن غيرهم،

______________________

1 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 254.

2 . المنية والأمل: ص 25.

3 . الفهرست لابن النديم: الفن الثالث من المقالة الاُولى ص 39.

4 . وفيات الأعيان: ج 4 ص 266.

5 . الفرق بين الفرق: ص 124.

( 246 )

وللمعروف بالمزدار من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبي الهذيل، وفي تكفيره بما انفرد به من ضلالته. وللجبّائي أيضاً كتاب في الردّ على أبي الهذيل في المخلوق، يكفّره فيه، ولجعفر بن حرب المشهور في زعماء المعتزلة أيضاً كتاب سمّاه «توبيخ أبي الهذيل» وأشار بتكفير أبي الهذيل، وذكر فيه أنّ قوله يجرّ إلى قول الدهريّة»(1).

تشيّعه

قال ابن المرتضى: «ذكروا أنّه صلّى عليه أحمد بن أبي دؤاد القاضي فكبّر عليه خمساً، ثمّ ل_مّا مات هشام بن عمرو فكبّر عليه أربعاً،فقيل له في ذلك (ما وجه ذلك)؟ فقال: «إنّ أبا الهذيل كان يتشيع لبني هاشم فصلّيت عليه صلاتهم» وأبو الهذيل كان يفضّل عليّاً على عثمان. وكان الشيعي في ذلك الزمان من يفضّل عليّاً على عثمان» (2).

وهذا يكشف عن أنّ التشيّع ربّما يستعمل في تفضيل الإمام _ عليه السلام _ على خليفة أو على الخلفاء الثلاث فقط، ولا يلازم التشيّع القول بكون عليّ هو خليفة رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بلافصل. فإنّ هذا هو التشيّع بالمعنى الأخصّ.

قال ابن

أبي الحديد: «سئل شيخنا أبو الهذيل أيّما أعظم منزلة عند الله: عليّ _ عليه السلام _ أم أبوبكر؟ فقال: والله لمبارزة عليّ عمرواً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار و طاعاتهم كلّها، فضلاً عن أبي بكر»(3).

وفاته

إذا كانت ولادة أبي الهذيل 135 و وفاته 235 فقد توفّى الرجل عن عمر يناهز المائة.

ويقول ابن خلّكان: «وكان قد كفّ بصره، وخرف في آخر عمره إلاّ أنّه كان لا

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 121 _ 122.

2 . المنية والأمل: ص 28.

3 . شرح نهج البلاغة: ج 19 ص 60.

( 247 )

يذهب عليه شيء من الأصول، لكنّه ضعف عن مناهضة المناظرين و حجاج المخالفين و ضعف خاطره»(1).

و جرى ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» على ذمّ مشايخ المعتزلة ورميهم بقصص خرافيّة، فنقل أوّلاً عن بعض أصدقاء أبي الهذيل أنّه بذل مائة ألف درهم على الإخوان. ثمّ قال ردّاً على هذه القصّة: «وكان أبو الهذيل أهدى دجاجة إلى موسى بن عمران فجعلها تأريخاً لكلّ شيء، فكان يقول: فعلت كذا وكذا قبل أن أهدي إليك تلك الدّجاجة أو بعد أن أهديت إليك تلك الدّجاجة». ثمّ فرّع على ذلك وقال: «هذا نظر من لا يقسم على الاخوان عشرة أفلس فضلاً عن مائة ألف»(2).

«اللّهمّ لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا».

كلمة بذيئة

عنون الخطيب شيخ المعتزلة محمّداً أبا الهذيل، ولكنّه جرى فيه كعادته فيهم بتسليط لسانه عليهم فقال: «شيخ المعتزلة»، ومصنّف الكتب في مذاهبهم وهو من أهل البصرة. ورد بغداد وكان خبيث القول. فارق إجماع المسلمين وردّ نصّ كتاب الله عزّوجلّ إذ زعم أنّ أهل الجنّة تنقطع حركاتهم فيها، حتّى لا ينطقوا نطقة ولا يتكلّموا بكلمة، فلزمه القول بانقطاع نعيم الجنّة عنهم والله

تعالى يقول: (اُكلّها دائم).

وجحد صفات الله الّتي وصف بها نفسه، وزعم أنّ علم الله هو الله، و قدرة الله هي الله. فجعل الله علماً و قدرة _ تعالى الله عمّا وصفه به علوّاً كبيراً _ »(3).

يلاحظ عليه: أنّ النسبة الاُولى لم تثبت بعد، وهؤلاء هم الأشاعرة ينقلونه عن أبي الهذيل و أتباعه، وقد اعتذر أبو الحسين الخيّاط عن هذه النسبة في كتابه «الانتصار» وبما

______________________

1 . وفيات الأعيان: ج 4 ص 267.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 43.

3 . تاريخ بغداد: ج 3، ص 366.

( 248 )

أنّ كتب الرجل قد ضاعت و عبث بها الزمان فلا يصحّ في منطق العقل الجزم بذلك إلاّ إذا تواتر النّقل وهو مفقود.

وأمّا النسبة الثانية فقد غفل عن مغزاها الخطيب فتصوّره أمراً شنيعاً مع أنّ أبا الهذيل يقصد بذلك الوصول إلى قمّة التوحيد، وهو نفي كون صفاته سبحانه زائدة على ذاته. لأنّ القول بالزيادة يستلزم التركيب (تركيب ذاته مع صفاته السبع الكماليّة) وقد أوضحناه في الجزء الثاني من كتابنا فراجع(1).

والّذي يندي الجبين أن يقذف الشيخ بأمر شنيع. نقل الخطيب عن أبي حذيفة: كان أبو الهذيل يشرب عند ابن لعثمان بن عبدالوهاب، قال: فراود غلاماً في الكنيف ... إلى آخر ما ذكره في الوقيعة به الّتي يجب أن يحدّ القاذف و يبرء المرمىّ بها، ولكنّ الطائفيّة البغيضة دفعت الخطيب إلى نقل القصّة بلا اكتراث.

(إنّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

4 _ النظّام (ت 160ه_ _ م 231 ه_)(2)

إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام

النظّام: هو الشخصيّة الثالثة للمعتزلة ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال.

قال ابن النديم: يكنّى أبا إسحاق، كان متكلّماً

شاعراً أديباً وكان يتعنّف أبا نؤاس وله فيه عدّة مقطّعات و إيّاه عنى أبو نؤاس بقوله:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة * حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرءاً حرجاً * ف___انّ ح__ظركه ب__ال_دين إزراء(3)

______________________

1 . ص 78 _ 79 وسيوافيك بيانه في الفصل المختص ببيان الاُصول الخمسة للمعتزلة.

2 . في ميلاده ووفاته أقوال اُخر وما ذكرناه هو المؤيد بالقرائن.

3 . فهرست ابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 205 _ 206 .

( 249 )

وذكره الكعبي في «ذكر المعتزلة» وقال: «هو من أهل البصرة ثمّ نقل آراءه الّتي تفرّد بها»(1).

وقال الشريف المرتضى: «كان مقدّماً في علم الكلام، حسن الخاطر، شديد التدقيق والغوص على المعاني، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتي تفرّد بها واستشنعت منه، تدقيقه وتغلغله وقيل: إنّه مولى الزياديين من ولد العبيد و إنّ الرّق جرى على أحد آبائه»(2).

وذكره القاضي عبدالجبّار في «طبقات المعتزلة» وقال: «إنّه من أصحاب أبي الهذيل و خالفه في أشياء»(3).

ذكاؤه المتوقّد

1 _ روى الشّريف المرتضى أنّ أبا النظّام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد (م170 ه_) ليعلِّمه فقال له الخليل يوماً يمتحنه _ وفي يده قدح زجاج _: يا بني، صف لي هذه الزّجاجة، فقال: أبمدح أم بذمّ؟ قال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى، لا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء، قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء جبرها، قال: فصف هذه النّخلة، و أومأ إلى نخلة في داره، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناظر أعلاها، قال: فذمّها، قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى، فقال الخليل: با بنيّ، نحن إلى التعلم منك أحوج.

قال الشّريف المرتضى بعد

نقل هذه القصّة: «وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمّاً أو مدحاً بأقصى ما يقال فيه»(4).

2 _ قال أبوعبيدة: «ما ينبغي أن يكون فى الدّنيا مثله، فإنّي امتحنته فقلت: ما

______________________

1 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 70.

2 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 187.

3 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 264.

4 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 189.

( 250 )

عيب الزجاج؟ فقال على البديهة: يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر»(1).

3 _ روي أنّه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس في الفتيا(2).

4 _ قال الجاحظ: «الأوائل يقولون: في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له. فان كان ذلك صحيحاً فهو: أبو إسحاق النظّام»(3).

ولو صحّ ما نقلناه في حقّه، فهو يحكي عن كون المترجم له ذا نبوغ مبكر، و ذكاء وقّاد، وقابليّة كبيرة،ومثل هذا لو وقع تحت رعاية صحيحة و تربّى على يدي اُستاذ بارع يتجلّى نبوغه بأحسن ما يمكن و تتفجّر طاقاته لصالح الحقائق، و إدراك الواقعيّات، وإذا فقد مثل ذلك الاُستاذ البارع وهو على ما ذكرناه من المواهب والقابليّات انحرف انحرافاً شديداً، و تحرّكت طاقاته في اتّجاه الجناية على الحقائق و ظلم الواقعيات.

ولعلّ ما يحكى عن النظام من بعض الأفكار المنحرفة _ إن صحّت _ فذلك نتيجة النبوغ غير الموجّه، والقابليّة غير الخاضعة للارشاد والهداية.

وسيوافيك بعض أفكاره غير الصّحيحة، غير أنّ أكثر مصادرها هي كتب الأشاعرة ك_ «مقالات الإسلاميين» للأشعري، و«الفرق بين الفرق» و غيرهما من كتب الأشاعرة الّذين ينظرون إلى المعتزلة بعين العداء و مخالفي السنّة.

نعم هجوم الأشاعرة عليه، وردّ بعض المعتزلة عليه(4) يعرب عن شذوذ في

منهجه، وانحراف في فكره.

5 _ روى القاضي أنّه كان يقول عندما يجود بنفسه: «اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم اُقصّر في نصرة توحيدك ولم أعتقد مذهباً إلاّ سنده التوحيد، اللّهمّ إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنوبي و سهِّل عليّ سكرات الموت». قال: فمات من ساعته(5).

______________________

1 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

2 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

3 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

4 . لاحظ الفرق بين الفرق ص 132 ترى ردود المعتزلة عليه. فقد ذكر أنّ لأبي الهذيل والجبائي والاسكافي وجعفر بن حرب ردوداً عليه.

5 . فضل الاعتزال للقاضي: ص 264 _ المنية والأمل ص 29 _ 30.

( 251 )

ولو صحّ هذا فلا يصحّ ما ينسب إليه البغدادي من أنّ النظّام كان أفسق خلق الله عزّوجلّ و أجرأهم على الذنوب العظام و على إدمان شرب المسكر. وقد ذكر عبدالله بن قتيبة في كتاب «مختلف الحديث» أنّ النظّام كان يغدو على مسكر و يروح على مسكر وأنشد قوله في المسكر:

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * وأستبيح دماً من غير مذبوح

حتّى انثنيت ولي روحان في بدن * والزقّ م___طّرح جس__م بلا روح

ثمّ أخذ البغدادي في ذمِّه بكلمات رديئة لا تصلح للنقل، وقد عدّ البغدادي له أزيد من عشرين فضيحة و جعل بعضها سبباً لكفره، غير أنّ بعضها ليس بفضيحة و بعضها الآخر لا يوجب الكفر(1) و البغداديّ في هذه التّهم و النّسب _ كما قال _ تبع شيخ أصحاب الحديث ابن قتيبة حيث قال: «وجدنا النظّام شاطراً من الشطّار يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على جرائرها و يدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات» ثمّ ذكر

البيتين(2).

أفي ميزان النّصفة الاعتماد على قول الخصم عند القضاء عليه؟.

وذكر الشهرستاني له مسائل انفرد بها وأنهاها إلى ثلاث عشرة مسألة(3) و في قلمه نزاهة قابلة للتقدير بخلاف البغدادي في الفرق و نذكر نموذجين من هذه الفضائح المزمومة:

1 _ قوله بانقسام كلِّ جزء لا إلى نهاية. فزعم البغدادي أنّ نتيجة ذلك القول إحالة كون الله تعالى محيطاً بأجزاء العالم، عالماً بها، وذلك قول الله تعالى: (وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً) (الجن/28)(4).

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 131 _ 150.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 17 و 18.

3 . الملل والنحل: ج 1 ص 54 _ 58.

4 . الفرق بين الفرق: ص 139.

( 252 )

يلاحظ عليه : أنّ القائل ببطلان تركّب الجسم من أجزاء لا يتجزّأ، وأنّ كلّ جزء مفروض ينقسم إلى ما لا نهاية له، لا يعنى به انقسام كلِّ جزء إلى ما لا نهاية له بالفعل، بحيث يكون في كلِّ ذرة أجزاء فعليّة مترتبة متسلسلة، بل المراد هو الانقسام بالقوّة، بمعنى أنّ الانقسام لا ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه عقلاً، لأنّ ما نفرضه جزءاً غير متجزّئ، شرقه غير غربه، فيكون منقسماً بهذا الشّكل إلى ما لا نهاية له، وإن كان ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه حسّاً لأجل ضعف أدوات التّقسيم، ولكن هذا لا يصدّ التقسيم العقلي و لا يمنع منه.

وهذا واضح لمن أمعن النّظر في أدلّة القائلين ببطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ. فالبغدادي خلط بين مسألة أجزاء غير متناهية بالفعل و مسألة أجزاء غير متناهية بالقوّة، وما فرضه إشكالاً _ على فرض صحّته في نفسه _ إنّما يترتّب على الأوّل دون الثّاني، لأنّ العالم على الفرض الثّاني يكون متناهياً

بالفعل، ويكون سبحانه محيطاً بأجزاء العالم، عالماً به، وإن كان غير متناه بالقوّة، لكن مناط العلم هو الأوّل لا الثّاني.

و ثانياً: نفرض أنّ العالم له أجزاء غير متناهية، ولكنّه سبحانه أيضاً موجود غير متناه، على ما برهن عليه في محلّه، فلا يشذّ عن حيطة وجوده شيء، نعم من خصّ وجوده سبحانه بالعرش فوق السّماوات لا محيص له عن توصيفه بالتّناهي والله سبحانه منزّه عن التّناهي وأحكام الممكنات.

2 _ قوله بأنّ الإنسان هو الروح و هو جسم لطيف تداخل بهذا الجسم، ثمّ رتّب عليه على زعمه إشكالات: منها; أنّ الإنسان على هذا لا يرى على الحقيقة و إنّما يرى الجسد الّذي فيه الإنسان.

ومنها; أنّه يوجب أنّ الصّحابة ما رأوا رسول الله و إنّما رأوا قالباً فيه الرّسول، إلى غير ذلك من الاشكالات الواهية.

أقول: لايظهر من القرآن كون الروح هو الجسم اللّطيف المتداخل في البدن، ولكنّه يظهر منه كون حقيقة الإنسان هي روحه، وأنّ واقعيَّته و شخصيّته بروحه لا

( 253 )

بجسده. قال سبحانه: (قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون)(السجدة/11). إنّ كلمة «التوفّي» لا تعني الاماتة كما هو معروف، بل تعني الأخذ و القبض، فقوله سبحانه (يتوفّاكم) بمعنى يأخذكم و يقبضكم، فالآية ظاهرة في أنّ ملك الموت يأخذ الإنسان كلّه، ويكون محفوظاً عند ربّه، وهذا إنّما يتمّ ولو كان حقيقة الإنسان هو روحه و نفسه، لا روحه و جسمه، وإلاّ يكون المأخوذ بعض الإنسان و جزئه، لوضوح أنّ ملك الموت يأخذ أحد الجزأين وهو الرّوح و يترك الجزء الآخر وهو يودع في القبر الّذي لا علاقة لملك الموت به.

وما رتّب البغدادي على نظريّة النظّام من الاشكالات لا يستحقّ الردّ والنّقد.

إذا عرفت هذين النموذجين

الّذين عدّهما البغدادي من فضائح النظّام _ وليسا منها _ فعند ذا يتبيّن وجوب دراسة آراء ذلك الرجل في جوّ هادىء بعيد عن الحقد والبغض حتّى يتّضح الحقّ عن الباطل، مع أنّه لا مصدر لنسبة هذه الآراء إلاّ كتب الأشاعرة و بصورة ناقصة «الانتصار» لأبي الحسين الخيّاط، وليس كتابنا هذا كتاباً كلاميّاً و إنّما هو كتاب تأريخ العقائد ولأجل ذلك نكتفي بهذا المقدار، غير أنّه نرى من الواجب التعرّض لعقيدة منسوبة إليه في إعجاز القرآن المعروفة بمذهب الصِّرفة.

النظّام و مذهب الصرفة في إعجاز القرآن

من الآراء الباطلة الّتي نسبت إلى النظّام، هو حصر إعجاز القرآن في الاخبار عن المغيبات، وأمّا التأليف والنّظم فقد كان يجوِّز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع(1). وقد نقل عنه البغدادي في «الفرق» بقوله: «إنّه أنكر إعجاز القرآن فى(2) نظمه».

وقال الشهرستاني: «قوله في إعجاز القرآن إنّه من حيث الاخبار عن الاُمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ص 225.

2 . الفرق بين الفرق: ص 132.

( 254 )

جبراً وتعجيزاً، حتّى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة و فصاحة و نظماً»(1).

أقول: لا شكّ أنّ مذهب الصرفة في إعجاز القرآن مذهب مردود بنصّ القرآن وإجماع الاُمّة، لأنّ مذهب الصرف يرجع إلى أنّ القرآن لم يبلغ في مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز، حتّى لا يتمكّن الإنسان العادي من مباراته و مقابلته، بل هو في هذه الجهة لا يختلف عن كلام الفصحاء و البلغاء، ولكنّه سبحانه يحول بينهم وبين الإتيان بمثله، إمّا بصرف دواعيهم عن المعارضة، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.

ومن المعلوم أنّ تفسير إعجاز القرآن بمثل هذا باطل

جدّاً لأنّ القرآن عند المسلمين معجز لكونه خارق للعادة لما فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة: 1 _ الفصاحة القصوى 2 _ البلاغة العليا 3 _ النظم المخصوص 4 _ الاُسلوب البديع. فقد تجاوز عن حدِّ الكلام البشري و وصل إلى حدّ لا تكفي في الاتيان بمثله القدرةُ البشريّة.

يقول الطّبرسى في تفسير قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً) (الإسراء/88) «معناه قل يا محمد لهؤلاء الكفّار: لئن اجتمعت الإنس و الجنّ متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من فصاحته و بلاغته و نظمه على الوجوه الّتي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة و الدرجة القصوى من حسن النظم وجودة المعاني و تهذيب العبارة.. لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»(2).

إنّ مذهب الصرفة كمذهب الصّدفة لدى المادِّيين في الوهن و البطلان، فإنّه سبحانه أرفع شأناً من أن يأمر الإنسان والجنّ بأن يباروا القرآن، ويرضى منهم بمباراة بعضه لو تعذّر عليهم الكلّ، ثمّ يعترض سبيلهم و يصرف منهم القوّة والهمّة و يمنعهم

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 56 _ 57.

2 . مجمع البيان: ج 6 ص 676.

( 255 )

من أن يأتوا بما أراد منهم مع قدرتهم عليه قبل عزم المباراة والمقابلة.

ولو صحّ وجه إعجازه في الصّرفة، فيتمّ حتّى مع كونه كلاماً مغسولاً من الفصاحة، ومبذولاً مرذولاً للغاية، وكلّما حاول الإنسان أن يقابله، صرفت دواعيه وسلبت قدرته عن الاتيان بمثله، هوكما ترى(1).

مؤلّفات_ه

مع أنّه كثر اللّغط والصّياح حول آراء النظّام(2) فطبع الحال يقتضي أن يكون له عشرات المؤلّفات، غير أنّه لم يصل من أسماء

مؤلّفاته إلينا أزيد ممّا يلي:

1 _ التّوحيد2 _ العالم(3) 3 _ الجزء (4) 4 _ كتاب الردّ على الثنويّة(5).

ومن أراد أن يرجع إلى متفرِّداته _ إن صحّت النّسبة _ فليرجع إلى «الملل والنحل» للشهرستاني، فإنّه جمعها تحت ثلاث عشرة مسألة، مع النزاهة و رعاية أدب البحث، خلافاً للبغدادي، فإنّ كلامه بعيد عن الأدب.

5 _ أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي (ت 235 _ م 303)

هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره، وإماماً في كلامه و يعرّفه ابن النديم في فهرسته بقوله: «هو من معتزلة البصرة، ذلّل الكلام و سهّله و يسّر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشحّام. ورد البصرة

______________________

1 . ومن أراد البحث حول تلك النظرية فعليه الرجوع إلى المصادر التالية: أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 31، بحار الأنوار: ج 12، ص 1 _ 32. المعجزة الخالدة للعلامة الشهرستاني ص 92 _ 93. مقال للكاتب الفكيكي في مجلّة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثالثة، والعدد الأول من السنة الرابعة. الجزء الثاني من الإلهيات من محاضراتنا الكلامية التي قام بتحريرها الشيخ الفاضل حسن مكي العاملي.

2 . ألّف محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاباً مستقلاً حول آراء النظام وأسماه «إبراهيم بن سيار النظام» وطبع عام 1365 بالقاهرة وقد جمع آراءه عن مصادر مطبوعة ومخطوطة.

3 . ذكرهما أبو الحسين الخياط (م 311) في الانتصار ص 14 _ 172.

4 . مقالات الاسلاميين: ج 2 ص 316.

5 . الفرق بين الفرق: ص 134.

( 256 )

و تكلّم مع من بها من المتكلّمين، وصار إلى بغداد، فحضر مجلس أبي...الضّرير و تكلّم فتبيّن فضله و علمه، وعاد إلى العسكر ومولده سنة

235 ه_ وتوفّي سنة 303 ه_ »(1).

وقال ابن خلّكان: «إنّه أحد أئمّة المعتزلة، كان إماماً في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة و عنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرة روتها العلماء»(2).

قال الياقوت: «الجبّائي منسوب إلى «جبّا» بضمّ الجيم و تشديد الباء: بلد أو كورة من خوزستان، و من الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة و هي في طرف من البصرة و الأهواز، حتّى جعل من لا خبرة له «جبّا» من أعمال البصرة و ليس الأمر كذلك _ إلى أن قال _: «جبّا» في الأصل عجمي وكان القياس أن ينسب إليها جُبّوي، فنسبوا إليها جبّائي على غير قياس مثل نسبتهم إلى الممدود، وليس فى كلام العجم ممدود، وجبّا أيضاً من أعمال النّهروان»(3).

وقد أثنى عليه ابن المرتضى في «المنية والأمل» بما لا مزيد عليه فقال: «وهو الّذي سهّل علم الكلام و يسّره و ذلّله وكان مع ذلك فقيهاً ورعاً زاهداً جليلاً نبيلاً، ولم يتّفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدّم و الرئاسة بعد أبي الهذيل مثله، بل ما اتّفق له هو أشهر أمراً و أظهر أثراً، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام، ولقى غيره من متكلّمي زمانه و كان على حداثة سنّه معروفاً بقوّة الجدل»(4).

مناظراته

1 _ حضر من علماء المجبِّرة رجل يقال له صقر. فإذا غلام أبيض الوجه زجّ

______________________

1 . فهرست ابن النديم الفن الأول من المقالة الخامسة ص 217 _ 218.

2 . لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 18.

3 . معجم البلدان: ج 2 ص 96 _ 97 طبع التراث

العربي.

4 . المنية والأمل: ص 45.

( 257 )

نفسه في صدر صقر و قال له: أسألك؟ فنظر إليه الحاضرون و تعجّبوا من جرأته مع صغر سنّه. فقال له: سل، فقال: هل الله تعالى يفعل العدل؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه بفعله العدل عادلاً ؟ قال: نعم، قال: فهل يفعل الجور؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه جائراً؟ قال: لا، قال: فيلزم أن لا تسمّيه بفعله العدل عادلاً، فانقطع صقر، وجعل الناس يسألون من هذا الصّبي؟ فقيل: هو غلام من جبّاء(1).

يلاحظ على تلك المناظرة: أنّه في وسع المجبِّر أن يقول: إن أسماءه سبحانه توقيفيّة ولا يصحّ لنا تسميته بما لا يسمّي به نفسه.

2 _ روى ابن المرتضى أنّ أبا عليّ ناظر بعضهم في الإرجاء و أبو حنيفة و الزبير حاضران، فقال أبو حنيفة: إنّ أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد، فقال له: يا أبا عثمان إنّك أعجميّ ولست بأعجميّ اللّسان و لكنّك أعجميّ الفهم. إنّ العرب إذا وعدت أنجزت، وإذا أوعدت أخلفت و أنشد شعراً:

إنّ_ي و إن أوعدت_ه و وعدت__ه * لمخلف إيعادي، ومنجز موعدي

فقال أبو عليّ: إنّ أبا عثمان أجابه بالمسكت وقال له: إنّ الشاعر قد يكذب وقد يصدق، ولكن حدّثني عن قول الله عزّ و جلّ: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود/119، السجدة/13) إن ملأها أتقول صدق؟ قال: نعم، وإن لم يملأها أفتقول صدق ؟ فسكت أبو حنيفة.

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه إنّما يخلف بما أوعده إذا عفا عن الكافر والمشرك والمسلم جميعاً، وأمّا إذا عفا عن المسلمين خاصّة فلا يلزم الكذب، لأنّه لا يستلزم خلف الايعاد الوارد في الآية المباركة، ولا يلزم خلوّ جهنّم من الجنّة و النّاس الّذي أشار الله إليه بقوله: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، لأنّ من يجري عليه العفو أقلّ ممّن يكون محكوماً بدخول الجحيم، وليس القائل بالعفو يقول بأنّ العفو يعمّ كلّ

______________________

1 . المنية والأمل: ص 46.

( 258 )

كافر و مشرك ومسلم، وإنّما يتحقّق في إطار محدود و مضيّق. كيف وقد وعد سبحانه على وجه الجزم و القطع بقوله: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ) (النساء/48) وليس المراد من الغفران هو المغفرة لأجل التّوبة، لأنّ الغفران بعد التوبة يعمّ المشرك و غيره، وإنّما المراد هو الغفران و المغفرة بلا توبة و إنابة، والمشرك و المنافق لا يعمّهما العفو أبداً و يكفي ذلك في تحقّق وعيد الربّ و صدق إخباره(لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ).

وخلاصة القول: أنّ القائل بالعفو في مورد الايعاد يدّعي قضيّة جزئيّة لا قضيّة كلّيّة استيعابيّة، وللبحث صلة تمرّ عليك عند البحث عن اُصول المعتزلة فارتقب.

ثمّ إنّ في وسع أبي عليّ أن يقابل شعر المناظر بشعر شاعر آخر وينشد قوله:

إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأي * ش___ري_____ف الآب___اء و ال_بيت

لا يخلف الوعد والوعيد ولا * يبيت من ثاره على فوت(1)

تأليفات_ه

يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج. قال: قال أبو الحسين:«وكان أصحابنا يقولون: إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف و خمسين ألف ورقة، قال: وما رأيته ينظر في كتاب إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي، ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير لمحمّد بن الحسن و كان يقول: إنّ الكلام أسهل شيء، لأنّ العقل يدلّ عليه»(2) .

يلاحظ عليه: أنّ علم الكلام كما يستمدّ من العقل، يستمدّ من الكتاب و السنّة الصّحيحة خصوصاً فيما يرجع إلى ما بعد الموت، وأنّ الاستبداد بالعقل الشخصي من دون المراجعة لآراء من سبق

من الأعاظم لا ينتج شيئاً ناضجاً. فكما أنّ التقاء الأسلاك

______________________

1 . المنية والأمل: ص 48.

2 . نفس المصدر : ص 47.

( 259 )

الكهربائيّة يوجب تفجّر النور والطاقة، فهكذا التقاء الأفكار والآراء يوجب اكتساح ظلمات الجهل عن أمام المفكّر.

ويظهر من ابن المرتضى في ترجمة الأصمّ أنّ لأبي عليّ تفسيراً، قال: «وكان أبو عليّ لا يذكر أحداً في تفسيره إلاّ الأصمّ»(1) ومن المحتمل أن يكون المقصود أنّه لا يذكر من آراء الرجال في التفسير شيئاً إلاّ عن الأصمّ.

ويظهر أيضاً منه _ في ترجمة أبي محمّد عبدالله بن العبّاس الرامهرمزي تلميذه _ أنّ لأبي عليّ كتباً في الردّ على أهل النجوم، ويذكر أنّ كثيراً منها يجري مجرى الأمارات الّتي يغلب الظنّ عندها(2).

كما يظهر منه _ في ترجمة الخراسانيّين الثّلاثة الّذين خرّجوا على أبي عليّ و أخذوا عنه_ أنّ أبا عليّ أملى كتاب «اللّطيف» لأبي الفضل الخجندي، ثالث الخراسانيّين(3).

ونقل ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» عن الشيخ الأشعري أنّ له كتاباً في الردّ على كتاب «الاُصول» لاُستاذه أبي عليّ الجبّائي(4).

إلى غير ذلك ممّا أهمل أرباب التراجم ذكره في ترجمته.

لمحة من أحواله

روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: «وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً _ إلى أنّ قال _: وكان إذا روى عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال لعليّ والحسن والحسين وفاطمة: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم» يقول: العجب من هؤلاء النوابت(5)يروون هذا الحديث ثمّ يقولون بمعاوية»(6).

وروى عن عليّ _ عليه السلام _ أنّ رجلين أتياه فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية

______________________

1 . المنية والأمل: ص 33.

2 . نفس المصدر : ص 58.

3 . نفس المصدر : ص 65.

4 . تبيين كذب

المفتري: ص 130.

5 . تطلق على الحشوية ومن لفّ لفّهم.

6 . المنية والأمل: ص 47.

( 260 )

فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه. فقال عليّ _ عليه السلام _ : «أما إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما»(1).

قال أبو الحسن: «والرافضة لجهلهم بأبي عليّ و مذهبه يرمونه بالنّصب و كيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر، ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمّى «المعيار والموازنة في تفضيل عليّ على أبي بكر»(2).

إنّ العالم العابد رضي الدين بن طاووس (المتوفّى سنة 664) نقل كثيراً من آرائه في كتاب «سعد السعود» و نقضه، ولو صحّت نسبة تلك الآراء إليه فهو مبغض للشيعة وقد أنكر كثيراً من الحقائق التأريخية فراجعه.

5 _ أبو هاشم الجبائي (ت 277 _ م 321)

عبدالسلام بن محمّد بن عبدالوهّاب بن أبي عليّ الجبائي، قال الخطيب: «شيخ المعتزلة و مصنّف الكتب على مذاهبهم. سكن بغداد إلى حين وفاته»(3).

وقال ابن خلّكان: «المتكّلم المشهور، العالم بن العالم، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما. وكان له ولد يسمّى أبا عليّ و كان عامّياً لا يعرف شيئاً. فدخل يوماً على الصاحب بن عبّاد فظنّه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته. ثمّ سأله عن مسألة، فقال: «لا أعرف نصف العلم»، فقال له الصاحب: «صدقت يا ولدي، إلاّ أنّ أباك تقدّم بالنصف الآخر»(4).

وقد حكى الخطيب عنه تأريخ ولادته، أنّه قال: «ولدت سنة سبع و سبعين ومائتين و ولد أبي أبو عليّ سنة خمس و ثلاثين و مائتين و مات في شعبان سنة ثلاث

______________________

1 . المنية والأمل: ص 47.

2 . المنية والأمل: ص 47.

3 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 55.

4 . وفيات

الأعيان: ج 3، ص 183.

( 261 )

وثلاثمائة». قال أبو الحسن: ومات أبو هاشم في رجب سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة ببغداد و تولّيت دفنه في مقابر باب البستان من الجانب الشرقي، وقد توفّي في اليوم الّذي توفّي أبو بكر بن دريد. وعن الحسن بن سهل القاضي: بينا نحن ندفن أبا هاشم إذ حملت جنازة اُخرى ومعها جُميعَة عرفتهم بالأدب. فقلت لهم: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبي بكر ابن دريد، فذكرت حديث الرشيد لمّا دفن محمّد بن الحسن و الكسائي بالري في يوم واحد. قال: وكان هذا في سنة ثلاث و عشرين وثلاثمائة، فأخبرت أصحابنا بالخبر، وبكينا على الكلام والعربيّة طويلاً ثم افترقنا.

وعلّق عليه الخطيب: «الصّحيح أنّ أبا هاشم مات في ليلة السبت الثالث والعشرين من رجب سنة إحدى و عشرين، قال: وكان عمره ستّاً و أربعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوماً»(1).

وقال القاضي نقلاً عن أبي الحسن بن فرزويه أنّه بلغ من العلم ما لم يبلغه رؤساء علم الكلام. وذكر أنّه كان من حرصه يسأل أبا عليّ (والده) حتّى يتأذّى منه، فسمعت أبا عليّ في بعض الأوقات يسير معه لحاجة وهو يقول لا تؤذنا و يزيد فوق هذا الكلام.

وكان يسأله طول نهاره ما قدر على ذلك، فاذا جاء اللّيل سبق إلى موضع مبيته لئلاّ يغلق أبو عليّ دونه الباب، فيستلقي أبو عليّ على سريره، ويقف أبو هاشم بين يديه قائماً يسأله حتّى يضجره، فيحوّل وجهه عنه، فيتحوّل إلى وجهه، ولا يزال كذلك حتّى ينام، وربّما سبق أبو عليّ فأغلق الباب دونه. قال: ومن هذا حرصه على ما اختصّ به من الذكاء، لم يتعجّب من تقدّمه(2).

كان أبو هاشم أحسن الناس أخلاقاً و أطلقهم وجهاً،

واستنكر بعض الناس خلافه مع أبيه (في المسائل الكلاميّة) وليس خلاف التابع للمتبوع في دقيق الفروع بمستنكر، فقد خالف أصحاب أبي حنيفة إياه. وقال أبو الحسن بن فرزويه في ذلك

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 56.

2 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 304.

( 262 )

شعراً وهو قوله:

يقولون بين أبي هاشم * وبين أبيه خلاف كبير

فقلت وهل ذاك من ضائر * وهل كان ذلك ممّا يضير

فخلّوا عن الشيخ لا تعرضوا * لبحر تضايق عنه البحور

فان أبا هاشم تلوه * إلى حيث دار أبوه يدور

ولكن جرى في لطيف الكلام(1) * كلام خفي وعلم غزير

فإيّاك إيّاك من مظلم * ولا تعد عن واضح مستنير(2)

تأليفاته

ذكر ابن النديم لأبي هاشم كتباً، و قال: «أبو هاشم عبدالسلام بن محمّد الجبّائي، قدم مدينة السّلام سنة 314 وكان ذكيّاً حسن الفهم، ثابت الفطنة، صانعاً للكلام، مقتدراً عليه، قيّماً به، وتوفّي سنة 321 وله من الكتب:

1 _ الجامع الكبير، 2 _ كتاب الأبواب الكبير، 3 _ كتاب الأبواب الصغير، 4 _ الجامع الصغير، 5 _ كتاب الإنسان، 6 _ كتاب العوض، 7 _ كتاب المسائل العسكريات، 8 _ النقض على أرسطو طاليس في الكون والفساد، 9 _ كتاب الطبايع والنقض على القائلين بها، 10 _ كتاب الاجتهاد كلام (3).

انتشار مذهبه

يظهر من البغدادي أنّ مذهبه كان منتشراً في أوائل القرن الخامس في بغداد وقد سمّى أتباعه بالبهشميّة وقال: هؤلاء أتباع أبي هاشم الجبّائي، وأكثر معتزلة عصرنا على

______________________

1 . المراد من لطيف الكلام، المباحث التي لها صلة لاثبات بعض العقائد الاسلاميّة وليست منها، كالبحث عن الجوهر والعرض والأكوان والأفلاك وفي الحقيقة كان البحث عنها تبعاً للفلاسفة.

2 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 305.

3 . فهرست ابن النديم:

الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 222.

( 263 )

مذهبه، لدعوة ابن عبّاد وزير آل بويه إليه(1).

تلاميذه

قد ذكر ابن المرتضى أبا هاشم في الطبقة التاسعة، وذكر تلاميذه في الطبقة العاشرة، وقال:«اعلم أنّ هذه الطّبقة تشتمل على من أخذ عن أبي هاشم وعمّن هو في طبقته مع اختلاف درجاتهم وتفاوت أحوالهم وقدّمنا أصحاب أبي هاشم لكثرتهم وبراعتهم». ثمّ ذكر أسماء تلاميذه، فمن أراد فليرجع إليه.

7 _ قاضي القضاة عبد الجبّار (ت نحو 324 _ م 415 أو 416)

هو عبدالجبّار بن أحمد بن عبدالجبّار الهمداني الأسدآبادي، الملقّب بقاضي القضاة ولا يطلق ذلك اللّقب على غيره.

قال الخطيب: «كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع و مذاهب المعتزلة في الاُصول، وله في ذلك مصنّفات و ولي قضاء القضاة بالري و ورد بغداد حاجّاً وحدّثبها.

وقال: مات عبدالجبّار بن أحمد قبل دخولي الري في رحلتي إلى خراسان و ذلك في سنة 415»(2).

وترجمه الحاكم الجشمي (المتوفّى عام 494 ه_) في كتاب «شرح عيون المسائل» وعدّه من الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة وقال: «يعدّ من معتزلة، البصرة من أصحاب أبي هاشم لنصرته مذهبه».

قرأ على أبي إسحاق بن عيّاش أوّلاً، ثمّ على الشيخ أبي عبدالله البصري(3).

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 113.

2 . المصدر نفسه.

3 . كلاهما من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة.

( 264 )

وليست تحضرني عبارة تنبئ عن محلِّه في الفضل وعلوّ منزلته في العلم، فإنّه الّذي فتق الكلام و نشره و وضع فيه الكتب الجليلة الّتي سارت بها الركبان و بلغ المشرق والمغرب، وضمّنها من دقيق الكلام و جليله ما لم يتّفق لأحد قبله، وطال عمره مواظباً على التّدريس والاملاء حتّى طبّق الأرض بكتبه و أصحابه. وبَعُدَ صوته وعظم قدره وإليه

انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها و عالمها غير مدافع، وصار الاعتماد على كتبه و مسائله حتّى نسخ كتب من تقدّم من المشايخ و قرب عهده، و شهرة حاله تغني عن الاطناب من وصفه. وفيه يقول أبو الأسعد الآبي في قصيدة له في التوحيد والعدل:

ويعدّ من مشايخ أهل العدل.

أم لكم مثل إمام الاُمّة * قاضي القضاة سيّد الأئمّة

من بثّ دين الله في الآفاق * وبتّ حبل الكفر والنفاق

وأصله من أسدآباد همدان، ثمّ خرج إلى البصرة و اختلف إلى مجالس العلماء وكان يذهب في الاُصول مذهب الأشعريّة وفي الفروع مذهب الشافعي، ولما حضر المجالس و ناظر ونظر عرف الحقّ، وانقاد وانتقل إلى أبي إسحاق بن عيّاش فقرأ عليه مدّة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبدالله مدّة مديدة حتّى فاق الأقران وخرج واحد دهره وفريد زمانه، وصنّف وهو بحضرته كتباً كثيرة وكان ربّما يدرس بها وبالعسكر(1) ورامهرمز(2) .

وابتدأ بها إملاء «المغني» في مسجد عبدالله بن عبّاس متبرّكاً به. فلمّا قدم الريّ سألوه أن يجعله باسم بعض الكبار فأبى و استدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستّين و ثلاثمائة فبقى بها مواظباً على التدريس إلى أن توفّي سنة 415 أو 416 فكان يدرس ويملي وكثر الانتفاع به و طار ذكره في الآفاق.

______________________

1 . عسكر مكرم بلد مشهور من نواحي خوزستان.

2 . مدينة من بلاد خوزستان.

( 265 )

وروي أنّه كان في التفضيل بمذهب الشيخين(1) في التوقف، ثمّ رجع في آخر عمره إلى تفضيل أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وهو المذكور في كتبه.

وكان الصاحب يقول فيه مرّة: هو أفضل أهل الأرض، واُخرى: هو أعلم أهل الأرض(2) .

اسلوبه في الكتابة

يظهر من ترجمة حياته أنّ كتابه الكبير

«المغني» الّذي يقع في عشرين جزءاً ممّا أملاه على تلاميذه ولم يكتبه ببنانه. يقول الحاكم: كان _ رحمه الله _ يختصر في الاملاء و يبسط في الدرس على ضدّ ما كان يفعله الشيخ أبو عبدالله (3) فكان من حسن طريقته ترك الناس كتب من تقدّم. ولما فرغ من كتاب «المغني» بعث به إلى (الصاحب) فكتب (الصاحب) إليه كتاباً هذه صورته:

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أتمّ الله على قاضي القضاة نعمته، وأجزل لديه منّته،لقد أتمّ من كتاب «المغني» ذخيرة للموحّد، وشجى للملحد، وعتاداً للحق، وسداداً للباطل، وإنّه كتاب تفخر به شرعتنا على الشرع، و نحلتنا على النحل، واُمّتنا على الاُمم و ملّتنا على الملل، وفّقه الله له حين نامت الخواطر وكلّت الأوهام و ظنّ الظانّون بالله أنّ العلم قد قبض ونخاعه قد ضعف، وأنّ شيوخه الأعلون (كذا) قد شالت نعامتهم و خفّت بضاعتهم، ووهن كاهلهم، ودرج أفاضلهم، ولم يدروا أنّ في سرّ الغيب إن كان آخراً بالاضافة إليهم، إنّه الأوّل بالامامة عليهم، كذلك يفعل الله ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. فليقرّ قاضي القضاة _ أدام الله تمكينه _ عيناً بما قدّم لنفسه و أخّر و اكتسب لغده و ذخر،

______________________

1 . هما الجبائيان أبو علي وأبو هاشم.

2 . مقدّمة فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 131.

3 . هو الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري من الطبقة العاشرة.

( 266 )

وليرينّ في ميزانه _ إن شاء الله _ من ثواب ما دأب فيه و احتسب و سهر ليله و انتصب، صابراً على كدّ الخواطر و معانياً برد الأصايل إلى حرّ الهواجر، أثقل من أحد و أرزن، وأوفى من الرمل و أوزن (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر

مُحْضَراً)و ورد محمّد ولدنا بالنباء العظيم و الصّراط المستقيم من الجزء الأخير من كتاب «المغني» فقلت يا بشراي، هذا زاد المسافر، وكفاية الحاضر و تحفة المرتاد و طفقت أنشئ و أقول:

ولو أنشر الشيخان عمرو و واصل * لقالا جوزيت الخير عنّا و أنعما

فأتمّ على قاضي القضاة نعمه، كما أورد علينا ديمه و السلام(1) .

ثمّ إنّ الحاكم بسط الكلام في أسماء تآليفه، و قال: «إنّ له 400 ألف ورقة ممّا صنّف في كلّ فنًّ و كان موفّقاً في التصنيف والتدريس، وكتبه تتنوّع أنواعاً فله كتب في الكلام لم يسبق إلى تصنيف مثلها في ذلك الباب.

ثمّ سرد أسماء كتبه البالغة إلى ثلاثة و أربعين، نأتي بها ملخّصاً:

1 _ الدواعي و الصوارف،2 _ الخلاف و الوفاق، 3 _ الخاطر، 4 _ الاعتماد، 5 _ المنع والتمانع، 6 _ كتاب ما يجوز فيه التزايد وما لا يجوز، 7 _ المغني، 8 _ الفعل والفاعل، 9 _ المبسوط، 10 _ المحيط، 11 _ الحكمة والحكيم، 12 _ شرح الاُصول الخمسة، 13 _ شرح الجامعين، 14 _ شرح الاُصول، 15 _ شرح المقالات، 16 _ شرح الأعراض وهذا كلّه في الكلام.

ومنها في اُصول الفقه:

17 _ النهاية، 18 _ العمدة، 19 _ شرحها.

وهناك كتب في النّقض على المخالفين:20 _ نقض اللمع، 21 _ نقض الامامة.

وهناك جوابات مسائل وردت عليه من الآفاق: 22 _ الرازيات، 23_العسكريات، 24 _ القاشانيات، 25 _ الخوارزميات، 26 _ النيسابوريات.

______________________

1 . الطبقتان 11 و 12 من كتاب شرح العيون ص 369 _ 371 للحاكم الجشمي.

( 267 )

وهناك كتب في الخلاف والمواعظ:

27 _ الخلاف بين الشيخين، 28 _ نصيحة المتفقّهة.

وله كتب تكلّم فيها على أهل الأهواء الخارجين عن الإسلام

و غيرهم أوضح فيها الحقّ: 29 _ شرح الآراء.

وله كتب في علوم القرآن:

30 _ المحيط، 31 _ الأدلّة، 32 _ التنزيه، 33 _ المتشابه، 34 _ شهادات القرآن».

ثمّ قال الحاكم: «له كتب في كلّ فنّ بلغني اسمه أو لم يبلغ، أحسن فيها غاية الاحسان، نحو كتابه:

35 _ التجريد، 36 _ المكّيات، 37 _ الكوفيات، 38 _ الجمل، 39 _ العهود، 40 _ المقدّمات، 41 _ الجدل، 42 _ الحدود، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده، وذكر جميع مصنّفاته يتعذّر»(1) .

ومن حسن حظّ القاضي دون سائر المعتزلة أنّه قد طبعت كميّة هائلة من كتبه في الآونة الأخيرة، وهذه الكتب رفعت الستار عن وجه عقائد المعتزلة و أغنتنا عن الرجوع إلى كتب خصومهم، فنذكر ما طبع:

1 _ «تنزيه القرآن عن المطاعن»: طبع في بيروت طبع دار النّهضة الحديثة.

واسمه يحكي عن محتواه و يجيب فيه عن كثير من الأسئلة الّتي تدور حول الآيات.

قال في ديباجته: «فقد أملينا كتاباً يفصِّل بين المحكم والمتشابه. عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها و بينّا معاني ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها، ليكون النفع به أعظم».

______________________

1 . الطبقتان 11 و 12 من شرح العيون ص 267 _ 269. للحاكم الجشمي تحقيق فؤاد سيّد. ط تونس.

( 268 )

وطبع أيضاً في القاهرة سنة 1326.

2 _ «طبقات المعتزلة»: وهو أساس «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى. نشره فؤاد سيّد، و أسماه «فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة» مع كتاب «ذكر المعتزلة» للكعبي و«الطبقات الحادية عشرة و الثانية عشرة من شرح العيون» للحاكم الجشمي طبع سنة 1406.

3 _ «شرح الاُصول الخمسة»: نشره عبدالكريم عثمان في القاهرة سنة 196 م_1384 ه_.

وهو كتاب مختصر جامع

يعرض عقائد المعتزلة عامّة و عقيدة القاضي خاصّة، وهو أحسن كتاب لمن أراد أن يطّلع على عقائدهم، وقد أملاه على تلاميذه.

4 _ «المغني»: وهو من الكتب المبسوطة في عقائد المعتزلة. اكتشفته البعثة المصريّة في اليمن عام 1952 وقد عثر منه حتّى الآن على 14 جزءاً. والكتاب يقع في عشرين جزءاً و إليك الأجزاء المطبوعة 4 _ 5 _ 6 _ 7 _ 8 _ 9 _ 11 _ 12 _ 13 _ 14 _ 15 _ 16 17 _ 20 والجزء الأخير يختصّ بالإمامة وهو الّذي نقضه السيّد المرتضى و أسماه «الشافي» وطبع في مجلّد كبير، ولخّصه الشيخ الطوسي و أسماه «تلخيص الشافي» وطبع في جزأين.

5 _ «المحيط بالتكليف»: تحقيق السيّد عزمي، طبع الدار المصريّة للتأليف، جمعه الحسن بن أحمدبن متّويه(ت683). لاحظ مقدّمة المحقّق.

6 _ «متشابه القرآن»: تحقيق عدنان محمّد زر زور، طبع دار التراث في القاهرة في جزأين.

تلاميذه

وقد فصّل الكلام ابن المرتضى في تلاميذه وجعلهم من الطّبقة 12 و أسماهم واحداً بعد آخر، منهم أبو رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري والشريف المرتضى

( 269 )

أبوالقاسم عليّ بن الحسين الموسوي. أخذ عن قاضي القضاة عند انصرافه من الحجّ، إلى غير ذلك من تلاميذه(1) .

وقال الرضي في «شرح المجازات النبويّة» عند البحث عن حديث الرؤية: «ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر» قال: «وممّا علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية أنّ من شروط قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلاً، وراوي هذا الخبر: قيس بن أبي حازم عن جرير ابن عبدالله البجلي، وكان منحرفاً عن أمير المؤمنين عليّ _عليه السلام_ ويقال إنّه

كان من الخوارج، وذلك يقدح في عدالته و يوجب تهمته في روايته، وأيضاً فقد كان رمي في عقله قبل موته وكان مع ذلك يكثر الرواية، فلا يعلم هل روى هذا الخبر في الحال الّتي كان فيها سالم التمييز أو في الحال الّتي كان فيها فاسد المعقول، وكلّ ذلك يمنع من قبول خبره، وبوجب إطراحه. ثمّ قال: وأقول أنا: ومن شرط قبول خبر الواحد أيضاً مع ما ذكره قاضي القضاة من اعتبار كون راويه عدلاً، أن يعرى الخبر المرويّ من نكير السّلف، وقد نقل نكير جماعة من السّلف على راوي هذا الخبر. منهم العرباض بن سارية السلمي وهو من مختصّي الصّحابة، روى عنه أنّه قال: من قال: إنّ محمّداً رأى ربّه فقد كذب. وروى أيضاً عن بعض أزواج النبيّ _ عليه الصلاة والسلام _ أنّها قالت: من زعم أنّ محمّداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله.

وقالت ذلك عند ذهاب بعض الناس إلى أنّ قوله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) إنّما اُريد بها رؤية الله سبحانه لا رؤية جبرائيل كما يقوله أهل العدل. وأيضاً ففي هذا الخبر كاف التّشبيه، لأنّه قال: «ترونه كما ترون القمر» الّذي هو في جهة مخصوصة وعلى صفة معلومة. وإذا كان الأمر كما قلنا لم يكن للخبر ظاهر واحتجنا إلى تأويله كما احتجنا إلى ذلك في غيره»(2).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 69 _ 71.

2 . المجازات النبوية تحقيق طه محمد ص 48 _ 49.

( 270 )

وقال أيضاً في تفسير قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «قيّدوا العلم بالكتاب»: «وذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبّار بن أحمد عند قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسوم بالعمد في اُصول الفقه: إنّ

هذه العلوم المخصوصة (العلوم العقليّة العمليّة كالتّحسين والتّقبيح العقليّين) إنّما سمّيت عقلاً، لأنّها تعقل من فعل المقبّحات، لأنّ العلم بها إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شيء من المقبّحات، منعه علمه بقبحه من ارتكابه والاقدام على طرق بابه، تشبيهاً بعقال الناقة المانع لها من الشرود، والحائل بينها وبين النهوض. ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنّه عاقل، لأنّ هذه العلوم غير حاصلة له، إذ هو عالم بالمعلومات كلّها لذاته.

قال: وقيل أيضاً إنّما سمِّيت هذه العلوم المخصوصة عقلاً، لأنّ ما سواها من العلوم يثبت بثباتها و يستقرّ باستقرارها تشبيهاً بعقال الناقة الّذي به تثبت في مكانها، ولمثل ذلك قيل معقل الجبل للمكان الذي يلجأ إليه و يعتصم به، وله سمّيت المرأة عقيلة، وهي الّتي يمنعها شرف بيتها و كرم أهلها وقوّة حزمها من الإقدام على ما يشينها، والتعرّض لما يعيبها. والكلام في تفصيل هذه العلوم وبيان ما لأجله احتيج إلى كلّ واحد منها يطول وليس هذا الكتاب من مظانّ ذكره و مواضع شرحه»(1).

______________________

1 . المجازات النبوية للشريف الرضي تحقيق طه محمد طه ص 180 _ 181.

الفصل الخامس

الفصل الخامس

أعلام المعتزلة

قد تعرّفت على أئمّة المعتزلة الّذين رسموا معالم المذهب. وهناك شخصيّات لامعة شاركوا الأئمّة في نضج المذهب و نشره، ولكنّهم دون الأئمّة في العلم والتفكير. ولأجل إيقاف القارئ على حياتهم و آرائهم و آثارهم نورد ترجمة قسم قليل منهم:

1 _ أبوسهل بشر بن المعتمر (م 210) مؤسّس مدرسة اعتزال بغداد

قال الشريف المرتضى: «هو من وجوه أهل الكلام ويقال: إنّ جميع المعتزلة بعده من مستجيبيه.

وقال أبو القاسم البلخي : إنّه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة...وله أشعار كثيرة يحتجّ فيها على أهل المقالات»(1).

وقال القاضي : «إنّه زعيم

البغداديين من المعتزلة وله قصيدة طويلة يقال إنّها أربعون ألف بيت، ردّ فيها على جميع المخالفين، ويقال إنّ الرّشيد حبسه حين قيل له : إنّه رافضيّ. فقال في السجن أبياتاً بعثها إليه فأفرج عنه»(2). توفّي عام 210 كما أرّخه الذّهبي في «لسان الميزان».

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 186 _ 187.

2 . فضل الاعتزال للقاضي: ص 265.

( 272 )

2_ معمّر بن عبّاد السلمي (م 215) خريج مدرسة البصرة

يكنّى أبا عمرو وكان عالماً عدلاً و تفرّد بمذاهب وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو وأبو الحسين المدائني من تلامذته.

قال القاضي عبدالجبّار: «لمّا منع الرّشيد من الجدال في الدين و حبس أهل علم الكلام، كتب إليه ملك السند: إنّك رئيس قوم لا ينصفون و يقلِّدون الرجال و يغلبون بالسيف، فإن كنت على ثقة من دينك فوجّه إليّ من اُناظره، فإن كان الحقّ معك تبعناك، وإن كان معي تبعتني. فوجّه إليه قاضياً، و كان عند الملك رجل من السمنية وهو الّذي حمله على هذه المكاتبة، فلمّا وصل القاضي إليه أكرمه ورفع مجلسه، فسأله السمني فقال: أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال: نعم، قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة، وأصحابنا ينكرونه.

فقعال السمني: من أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وعدّ جماعة من الفقهاء، فقال السمني للملك: قد كنت أعلمتك دينهم وأخبرتك بجهلهم و تقليدهم و غلبتهم بالسيف، قال: فأمر ذلك الملك القاضي بالانصراف، وكتب معه إلى الرشيد: إنّي كنت بدأتك بالكتاب وأنا على غير يقين ممّا حكي لي عنكم، فالآن قد تيقّنت ذلك بحضور هذا القاضي _ وحكى له في الكتاب ما جرى.

فلمّا ورد الكتاب على الرّشيد قامت قيامته،

وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الّذين نهيتهم عن الجدال في الدين و جماعة منهم في الحبس. فقال: أحضروهم، فلمّا حضروا قال: ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم: هذا السؤال محال، لأنّ المخلوق لا يكون إلاّ محدثاً، والمحدث لا يكون مثل القديم، فقد استحال أن يقال: يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال: يقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً، فقال الرشيد: وجّهوا بهذا الصبي إلى السند حتّى يناظرهم. فقالوا: إنّه لا يؤمّن أن يسألوه عن غير هذا، فيجب أن توجّه من يفي بالمناظرة في كلّ العلم. قال الرشيد: فمن لهم ؟ فوقع اختيارهم على

( 273 )

معمر، فلمّا قرب من السند بلغ خبره ملك السند فخاف السمني أن يفتضح على يديه وقد كان عرفه من قبل، فدسّ من سمّه في الطّريق فقتله»(1).

أقول: ما أجاب به الصّبي صحيح، غير أنّ العبارة غير وافية، والمقصود: ما سألته (خلق المثل) محال لا نفس السؤال محال.

قال صاحب كتاب «المعتزلة»: «فلئن صحّت هذه القصّة فإنّها تعني أنّ الرشيد لم يجد في مملكته الواسعة من يدافع عن الإسلام غير المعتزلة.

والواقع أنّ المعتزلة تحمّسوا لهذه القضية كثيراً، فلم يكتفوا بالردّ على المخالفين وتقطيعهم بل تعدّوا ذلك إلى التبشير بالدين الإسلامي و حمل الناس على اعتناقه فكانوا لا ينفكّون يرسلون وفودهم لهذا الغرض إلى البلاد الّتي يكثر فيها المجوس أو غيرهم من الوثنيين»(2).

ويقول صفوان الأنصاري شاعر المعتزلة في مدح واصل وصحبه ما يظهر حقيقة الجهود الّتي بذلوها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين و التبشير به:

رجال دعاة لا يفلّ عزيمهم * تحكّم جبّار ولا كيد ساحر

إذا قال

مرّوا في الشتاء تطاوعوا * وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجر(3)

3- ثمامة بن الأشرس النميري (م213) خرّيج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم: «نبيه من جلّة المتكلّمين المعتزلة، كاتب بليغ، بلغ من المأمون منزلة جليلة وأراده على الوزارة فامتنع »(4).

______________________

1 . ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل، ص 31 و 32.

2 . المعتزلة: ص 44.

3 . البيان والتبيين: ج 1، ص 37، نقلاً عن «المعتزلة» ص 45. والناجر: أشدّ أشهر الصيف حرّاً.

4 . الفهرست لابن النديم، الفن الاول من المقالة الخامسة: ص 207.

( 274 )

قال البغدادي: «كان زعيم القدريّة في زمن المأمون والمعتصم والواثق، وقيل: إنّه هو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال»(1).

وقال ابن المرتضى: «ثمامة ابن الأشرس، يكنّى أبا معن النّميري وكان واحد دهره في العلم والأدب، وكان جدلاً حاذفاً. قال أبو القاسم: قال ثمامة يوماً للمأمون: أنا اُبيّن لك القدر بحرفين و أزيد حرفاً للضّعيف. قال: ومن الضّعيف؟ قال: يحيى بن أكثم،قال: هات، قال:لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه: إمّا كلّها من الله ولا فعل لهم، لم يستحقُّوا ثواباً ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذمّاً. أو تكون منهم ومن الله، وجب المدح والذمّ لهم جميعاً أو منهم فقط، كان لهم الثّواب والعقاب والمدح والذّم. قال: صدقت(2).

أقول: ذهب عليه أنّ استناد الفعل إلى الله و العبد إنّما يقتضي الاشراك في الثّواب والعقاب أو المدح والذّم إذا كانا فاعلين بالسّويّة في جميع المراحل، حتّى في مرحلة الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل كما إذا اشترك الفاعلان معاً في إنقاذ غريق أو قتل إنسان، وأمّا إذا كان أحدهما هو الجزء المؤثّر دون الآخر فيكون هو المسؤول، وعليه الثّواب والعقاب، وهذا هو الأمر بين الأمرين، والعبد غير مجبور

ولا مفوّض، والتّفصيل في محله.

روى المرتضى أنّه سأل مجبر بشر بن المعتمر وقال له: «أنتم تحمدون الله على إيمانكم؟ قال: نعم، فقال له: فكأنّه (الله)يحبُّ أن يحمد على ما لم يفعل وقد ذمّ ذلك في كتابه. فقال له: إنّما ذمّ من أحبّ أن يحمد على ما لم يفعل ممّن لم يعن عليه، ولم يدع إليه. وهو يشغب إذ أقبل ثمامة بن أشرس، فقال بشر للمجبر: قد سألت القوم وأجابوك، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة، فقال له: هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان؟ فقال: لا، بل هو يحمدني عليه، لأنّه أمرني به ففعلته، وأنا أحمده على الأمر به، والتّقوية

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 172.

2 . المنية والأمل: ص 35.

( 275 )

عليه، والدعاء إليه، فانقطع المجبر، فقال بشر: شنُعتْ فسهُلت»(1).

وقال يوماً للمأمون: «إذا وقف العبد بين يدي الله تعالى يوم القيامة فقال الله تعالى: ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر: يا ربِّ أنت خلقتني كافراً وأمرتني بما لم أقدر عليه، وحلت بيني وبين ما أمرتني به ونهيتني عمّا قضيته عليّ وحملتني عليه أليس هو بصادق؟ قال: بلى، قال: فإنّ الله تعالى يقول: (يوم ينفع الصّادقين صدقهم) أفينفعه هذا الصّدق؟ فقال بعض الهاشميّين: ومن يدعه يقول هذا أو يحتجّ (به). فقال ثمامة: أليس إذا منعه الكلام والحجّة يعلم أنّه قد منعه من إبانة عذره، وأنّه لو تركه لأبأنّ عذره؟ فانقطع»(2).

وقد ترجم له الخطيب في تأريخه، ومن ظريف ما نقل عنه أنّه قال: شهدت رجلاً يوماً من الأيّام وقد قدّم خصماً إلى بعض الولاة فقال: أصلحك الله ناصبيّ رافضيّ جهمىُّ مشبِّه مجبّر قدريّ يشتم الحجّاج بن الزبير الّذي هدم الكعبة على عليّ بن

أبي سفيان و يلعن معاوية بن أبي طالب. فقال له الوالي: ما أدري ممّا أتعجّب؟ من علمك بالأنساب أو من معرفتك بالمقالات؟ فقال: أصلحك الله ما خرجت من الكتاب حتّى تعلّمت هذا كلّه»(3).

وقال الذّهبي: «من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضّلالة، كان له اتّصال بالرّشيد، ثمّ بالمأمون وكان ذا نوادر وملح»(4).

ومن أراد الوقوف على نوادره فعليه الرجوع إلى «المنية والأمل» و «فضل الاعتزال» وقد اتّفقا على أنّ وجه اتّصاله بالخلفاء صار سبباً لوجود بعض الهزل في كلامه وقد اتّخذه طريقاً إلى ميلهم إليه ليتوصّل به إلى المعونة في الدين.

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 186. فضل الاعتزال: ص 273 وفي المصدر الأخير: «سهّلت بعد ما صعبت».

2 . فضل الاعتزال: ص 273. المنية والأمل: ص 35 و 36.

3 . تاريخ بغداد: ج 7، ص 146.

4 . ميزان الاعتدال: ج 1، ص 371.

( 276 )

4- أبوبكر عبدالرحمن بن كيسان الأصمّ (م قريباً من 225) خرّيج مدرسة البصرة

قال القاضي:«كان من أفصح النّاس و أفقههم و أورعهم. لكنّه ينفي الأعراض وله تفسير عجيب، وكان جليل القدر يكاتبه السلطان، وعنه أخذ ابن عليّة(1) العلم، والّذي نقم عليه أصحابنا بعد نفي الأعراض، ازوراره عن عليّ _ عليه السلام _ وكان أصحابنا يقولون: بلى بمناظرة هشام بن الحكم فيعلوه هذا ويعلوه ه(2)ذا».

5- أبو موسى عيسى بن صبيح المردار (م226).

قال القاضي: «كان متكلّماً عالماً زاهداً وكان يسمّى راهب المعتزلة لعبادته، ويقال: إنّ أبا الهذيل حضر مجلسه و سمع قصصه بالعدل وحسن بيانه على الله تعالى و عدله وتفضّله، فقال: هكذا شهدت أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء، و أبي عثمان عمرو، وله كتب في الجليّ من الكلام و لمّا حضرته الوفاة ذكر أنّ

ما كان في يديه من المال شبهة لم يدر ما حكمها، فأخرجها إلى المساكين تحرّزاً و إشفاقاً، وقيل فيه شعر:

لكنّ من جمع المحاسن كلّها * كهلٌ يقال لشيخه المردار(3)

تلاميذه

ذكر القاضي أنّ من تلاميذه الجعفرين و المراد: جعفر بن حرب و جعفر بن مبشر وذكر ترجمتهما في الطّبقة السابعة.

تأثير كلامه

إنّ جعفر بن حرب كان من الجند وكان في جنديّته (ن خ حداثته) يمرّ على

______________________

1 . إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، توفي 193 أو 194.

2 . فضل الاعتزال: ص 267.

3 . المصدر نفسه: ص 277 و 278.

( 277 )

أصحاب أبي موسى و يعبث بهم ويؤذيهم، فشكوا إلى أبي موسى فقال: تعهّدوا إلى أن يصير إلى مجلسي، فلمّا صار إلى مجلسه وسمع كلامه و وعظه مرّ (ظ خرج) حتى دخل الماء عارياً من ثيابه، وبعث إلى أبي موسى أن يبعث له ثياباً ليلبسها ففعل، ثمّ لزمه فخرج في العلم ما عرف به.

وكان أبو الوليد بشر بن وليد بن خالد الكندي قاضياً على مدينة للخليفة المأمون، وكان شديد القسوة على أبي موسى وأصحابه، فدخل إبراهيم بن أبي محمّد اليزيدي وهو رضيع المأمون عليه فأنشد هذه الأبيات:

يا أيّها الملك الموحِّد ربّه * قاضيك بشر بن الوليد(1) حمار

ينفي شهادة من يبثّ بما به * نطق الكتاب وجاءت الآثار

فالنفي للتشبيه عن ربِّ العلا * سبحانه وتقْدس الجبّار

ويعدّ عدلاً من يدين بأنّه * شيخ تحيط بجمسه الأقطار

إنّ المشبِّه كافر في دينه * والدائنون بدينه كفّار

فاعزله واختر للرعية قاضياً * فلعلّ من يرضي ومن يختار

عند المريسى (2) اليقين بربِّه * لو لم يشب توحيده اجبار

والدين بالارجاء مبنى أصله * جهل وليس له به استبشار

لكن من جمع المحاسن كلّها * كهل يقال لشيخه المزدار(3)

6-

أبو جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي (م240)

قال الخطيب:«محمد بن عبدالله أبو جعفر المعروف بالاسكافي أحد المتكلّمين من

______________________

1 . هو أبو الوليد، بشر بن الوليد بن خالد الكندي قاضي مدينة منصور كما عرفت. توفي سنة 238. لاحظ تاريخ بغداد: ج 7، ص 80.

2 . هو بشر بن غياث المريسي العدوي، كان يسكن بغداد وأخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة وكان الشافعي من أصدقائه مدّة اقامته ببغداد. توفي سنة 219، لاحظ تاريخ بغداد: ج 7 ص 56.

3 . وقد ضبطه بعض المحققين بالزاء وبعده الدال. راجع فضل الاعتزال: ص 277 _ 279.

( 278 )

معتزلة البغداديّين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن عليّ بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه و يناظره و بلغني أنّه مات في سنة أربعين ومائتين»(1).

وقال ابن أبي الحديد: «كان شيخنا أبو جعفر الاسكافي _ رحمه الله _ من المتحقّقين بموالاة عليّ _ عليه السلام _ والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول بالتفصيل عامّاً شائعاً في البغداديّين من أصحابنا كافّة إلاّ أنّ أبا جعفر أشدُّهم في ذلك قولاً و أخلصهم فيه اعتقاداً»(2).

وقال أيضاً: «وأمّا أبو جعفر الاسكافي وهو شيخنا محمّد بن عبدالله الاسكافي، عدّه قاضي القضاة في الطّبقة السابعة من طبقات المعتزلة، مع عبّاد بن سليمان الصيمري، ومع زرقان، ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أوّل الطّبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثمّ أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المردار، ثمّ أبا عمران يونس بن عمران... إلى أن قال: كان أبو جعفر فاضلاً عالماً صنّف سبعين كتاباً في علم الكلام»(3).

وهو الّذي نقض كتاب «العثمانيّة» على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام

السواري الّذي بلغنا أنّه يعرض لنقض كتبنا والاسكافي جالس، فاختفى حتّى لم يره»(4).

وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك وكان علوي الرأي، محقّقاً منصفاً، قليل العصبيّة(5).

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 5، ص 416.

2 . شرح ابن أبي الحديد: ج 4، ص 63 ولكلامه ذيل نافع ولكنّه خارج عن موضوع البحث.

3 . لم نجد هذا النص في ترجمته في طبقات القاضي المطبوع والذي حققه «فؤاد سيد». وهذا يعرب عن كون المطبوع ناقصاً محرّفاً. نعم ما بعد هذا النص موجود فيها.

4 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 276.

5 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; ج 17، ص 133.

( 279 )

وظاهر نصّ القاضي أنّه ألّف تسعين كتاباً في علم الكلام(1).

وهذه صورة بعض كتبه: كتاب اللّطيف، كتاب البدل، كتاب الردّ على النظّام في أنّ الطّبعين المختلفين يفعل بهما فعلاً واحداً، كتاب المقامات في تفضيل عليّ _ عليه السلام _، كتاب إثبات خلق القرآن، كتاب الردّ على المشبّهة، كتاب المخلوق على المجبِّرة، كتاب بيان المشكل على برغوث، كتاب التمويه نقض كتاب حفص، كتاب النّقض لكتاب أبي الحسين النجّار، كتاب الردّ على من أنكر خلق القرآن، كتاب الشّرح لأقاويل المجبِّرة، كتاب إبطال قول من قال بتعذيب الأطفال، كتاب جمل قول أهل الحقّ، كتاب النّعيم، كتاب ما اختلف فيه المتكلّمون، كتاب الردّ على أبي حسين في الاستطاعة، كتاب فضائل عليّ _ عليه السلام _ ، كتاب الأشربة، كتاب العطب، كتاب الردّ على هشام، كتاب نقض كتاب أبي شبيب في الوعيد(2).

وقداشتهر من بين كتبه كتاب «النقض على العثمانيّة» للجاحظ، وهذا يدلّ على أنّ الرّجل كان مبدئياً متحمّساً حيث قام بالمحاماة عن أكبر شخصيّة إسلامّة من أهل

بيتالرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في العصر الّذي استفحل الانحراف عن أهل البيت، وشاع التكالب على الدُّنيا بين الناس، وراج التقرّب إلى أرباب السلطة من بني العبّاس أعداء أهل البيت.

ولكن هذا الكتاب لم يصل لحدّ الآن إلى أيدي المحقّقين في عصرنا هذا، غير ما نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وقد استقصى محمّد هارون المصري محقِّق كتاب العثمانيّة للجاحظ ما رواه ابن أبي الحديد عن كتاب النّقض في شرحه، فجمعه وطبعه في آخر كتاب «العثمانيّة».

هذا، وقد نقل المقريزي في خططه آراء خاصّة عنه وهي ساقطة وضعها أعداؤه عليه. قال: «الاسكافيّة أتباع أبي جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي، ومن قوله: إنّ الله

______________________

1 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 285.

2 . المعيار والموازنة: المقدّمة، ص 2.

( 280 )

تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانين ... الخ»(1).

7- أحمد بن أبي دؤاد (ت 160_ م 240 ه_) خريج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم: «هو من أفاضل المعتزلة وممّن جرّد في إظهار المذهب و الذّب عن أهله والعناية به، وهو من صنايع يحيى بن أكثم و به اتّصل بالمأمون، ومن جهة المأمون اتّصل بالمعتصم ولم ير في أبناء جنسه أكرم منه ولا أنبل ولا أسخى»(2).

قال الذّهبي: «أحمد بن أبي دؤاد القاضي جهمي بغيض، هلك سنة 240. قلّ ما روى»(3).

في «العبر» أنّه قال: «قاضي القضاة كان فصيحاً مفوّهاً شاعراً جواداً وكان مع ذلك رأساً من رؤوس الجهميّة والمعتزلة، وهو الّذي شغب على إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل وأفتى بقتله، وقد غضب عليه وعلى آله المتوكّل العبّاسي سنة 237 فصادرهم وأخذ منهم ستّة عشر ألف ألف درهم وحبسه ومرض بالفالج ومات سنة 240

ه_»(4).

بذل القاضي أحمد بن دؤاد أقصى جهده في نشر الاعتزال واستغلّ السلطة الّتي جعلت له في ذلك السبيل بالتّرغيب تارة و بالترهيب اُخرى. والحنابلة والأشاعرة يواجهونه بالسّبِّ والشتم، لأنّه هو الّذي حاكم الإمام أحمد في قوله بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق فأفحمه.

وقد استخرج مؤلّف كتاب «المعتزلة» صورة المحاكمة من «الفصول المختارة» المطبوعة بهامش «الكامل» للمبرّد وإليك بيانه:

ابن أبي دؤاد: أليس لا شيء إلاّ قديم أو حديث؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: أو ليس القرآن شيئاً؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: أو ليس لا قديم إلاّ الله؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: القرآن إذاً حديث.

ابن حنبل: لست أنا بمتكلّم(5).

______________________

1 . الخطط المقريزيّة: ج 2، ص 246.

2 . الفهرست لابن النديم: الفنّ الأوّل من المقالة الخامسة، ص 212.

3 . ميزان الاعتدال: ج 1، ص 97، رقم الترجمة: 374.

4 . العبر في خبر من غبر: ج1، ص339.

5 . المعتزلة: ص 175.

( 281 )

وهذه إحدى صور المحاكمة ولها صور اُخر طوينا الكلام عن ذكرها وتأتى عند البحث عن محنة أحمد وهذا يعرب عن براعة الرّجل في مقام قطع الطّريق على الخصم، وهذا وأشباهه ممّا دفع الحنابلة والأشاعرة على التّحامل والازدراء بالرّجل، وسيوافيك أنّ أكثر ما نقل في محنة الإمام من التشديد والتغليظ عليه، ودوسه بالأقدام و سحبه، يرجع إلى أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتعصّب لإمامه وليس له مصدر في التأريخ سواه.

وقد نقل البغدادي حول و فاته قصّة أشبه بالاسطورة(1) وكم له في كتابه «الفرق بين الفرق» من نظائر.

8 - أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (م 255)

قال القاضي نقلاً عن «المصابيح»: «إنّه نسيج وحده في العلوم، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه و تأويل الكلام

وهو متقدّم في الجدّ والهزل، وله كتب في التوحيد و إثبات النبوّة ونظم القرآن و حدثه، وفي فضائل المعتزلة»(2).

أقول: كتابه الأخير هو كتاب «فضيلة المعتزلة» الّذي ردّ عليه ابن الراوندي في

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 174 _ 175.

2 . فضل الاعتزال: ص 275.

( 282 )

كتاب خاصّ أسماه «فضيحة المعتزلة» ثمّ إنّ أبا الحسين الخيّاط (م 311) ألّف كتاب «الانتصار» وانتصر فيه للجاحظ وقد طبع الانتصار لأوّل مرّة في القاهرة عام 1925.

ومن أحسن تصانيفه و أمتنها كتاب «الحيوان» في أربعة أجزاء، و«البيان والتبيين» في جزأين، و«البخلاء»، و «مجموع الرسائل»، وأردأها كتاب «العثمانيّة». وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة بأقلام المستشرقين والعرب ومن أراد فليرجع إلى:

كتاب: «الجاحظ معلّم العقل والأدب» لشفيق جبري.

وكتاب: «أدب الجاحظ» لحسن السندوبي.

وكتاب: «الجاحظ» لفؤاد أفرام البستاني...و غيرها.

وإنّ أدب الرّجل و اطّلاعه الوسيع شيء لا ينكر وتشهد عليه آثاره المطبوعة. ولكنّ الكلام في ورعه وتقاه و نفسيّته و روحيّته، فلا يشكّ من سبر حياته في طيّات المعاجم والكتب أنّه لم يكن رجلاً مبدئيّاً أبداً، بل كان متقرّباً لفراعنة عصره، وكفى أنّه كان ملازماً لمحمّد بن عبدالملك المعروف بالوزير الزيّات. يقول ابن خلّكان: «كان محمّد المذكور شديد القسوة، صعب العريكة، لا يرقّ لأحد ولا يرحمه، وكان يقول: الرحمة خور في الطّبيعة. ووقع يوماً على رقعة رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه، فقال: الجوار للحيطان والتعطّف للنسوان.

فلمّا أراد المتوكّل قتله أحضره و أحضر تنّورَ خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة، كان محمّد اتّخذه ليعذّب فيه من يطالبه _وهو أوّل من عمل ذلك وعذّب فيه ابن أسباط المصري _ وقال: أجرينا فيك حكمك في الناس.

فأجلس فيه. فمات

بعد ثلاث و ذلك في سنة ثلاث و ثلاثين ومائتين، وقيل: إنّه كتب في التنّور بفحمة:

من له عهد بنوم * يرشد الصبَّ إليه

رحم الله رحيماً * دلّ عينيَّ عليه

( 283 )

ودفن ولم يعمق قبره فنبشته الكلاب و أكلته»(1).

هذا حال صديق الرّجل و زميله، فاعرف حاله من حاله. فإنّ الرجل على دين جليسه.

تلوّن الرجل في حياته

تدلّ آثاره على أنّ الرجل كان متلوّناً في حياته غير جانح إلى فئة، بل كان كالريشة في مهبّ الريح يميل مع كلّ ريح، فتارة يكون عثماني الهوى و يؤلّف كتاباً في ذلك ويدعمه بكتاب آخر في إمامة المروانيّة و خلافة الشجرة الملعونة في القرآن، واُخرى علويّاً يجمع الكلم القصار لعليّ _ عليه السلام _ يفضّل عليّاً على غيره. قال ابن قتيبة في شأنه: «تجده يحتجّ مرّة للعثمانيّة على الرافضة، ومرّة للزيديّة على العثمانيّة و أهل السنّة، ومرّة يفضّل عليّاً _ رضي الله عنه _ ومرّة يؤخّره...إلى أن قال: ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النّصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوّز في الحجّة كأنّه انما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون و تشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه المضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث و شرّاب النّبيذ.

ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت و قرن الشيطان و ذكر الحجر الأسود و أنّه كان أبيض فسوّده المشركون، وقدكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا و يذكر الصّحيفة الّتي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة.

وهو مع هذا من أكذب الاُمّة و أوضعهم للحديث و أنصرهم للباطل»(2).

وقال المسعودي في «مروج الذّهب» عند ذكر الدّولة العبّاسية: «وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحجاج

عند نفسه، و أيّده بالبراهين وعضده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله و ترجمه بكتاب «العثمانيّة» يحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ _ عليه السلام _

______________________

1 . وفيات الأعيان ج 5 ص 102، ط دار صادر.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 59 _ 60.

( 284 )

ومناقبه، ويحتجّ فيه لغيره طلباً لاماتة الحقّ و مضادّة لأهله والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

ثمّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب «العثمانيّة» حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة و أقوال شيعتهم، و رأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروانيّة و يؤيّد فيه إمامة بني اُميّة و غيرهم.

ثمّ صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب «مسائل العثمانيّة» يذكر فيه ما فاته ذكره و نقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين عليّ _ عليه السلام _ ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقضت عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانيّة و غيره.

وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة كأبي عيسى الورّاق والحسن بن موسى النّخعي(1) و غيرهما من الشيعة ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعة و متفرّقة»(2).

ومن أراد أن يقف على ضعف الرجل في مجال العفاف والورع فعليه أن يرجع إلى ما نقله عنه ابن خلّكان في «وفيات الأعيان»(3).

9- أبو الحسين عبدالرّحيم بن محمّد المعروف بالخيّاط (م _ 311) خريج مدرسة بغداد

ترجمه القاضي في «فضل الاعتزال» وقال: «كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر(4) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي و غيره. وهو اُستاذ أبي القاسم البلخي_رحمه الله _ وذكر أنّه لمّا أراد العود إلى خراسان من عنده أراد أن يجعل طريقه

______________________

1 .

كذا في النسخة والصحيح: النوبختي.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 237 _ 238 طبع دار الأندلس.

3 . وفيات الأعيان: ج 3 ص 471 _ 473.

4 . يريد: جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي المتكلم (المتوفى سنة 234) من معتزلة بغداد له ترجمة في تاريخ بغداد: ج 7، ص 162، ولسان الميزان: ج 2، ص 121.

( 285 )

على أبي عليّ (الجبّائي) فسأله أبو الحسين بحقّ الصحبة أن لا يفعل ذلك، لأنّه خاف أن ينسب إلى أبي عليّ وهو من أحفظ الناس باختلاف المعتزلة في الكلام و أعرفهم بأقاويلهم.

وقدكان الشيخ أبو القاسم يكاتبه بعد العود من عنده حالاً بعد حال فيعرف من جهته ما خفى عليه»(1).

ومن أشهر كتبه: «الانتصار» ردّ فيه على كتاب «فضيحة المعتزلة» لابن الراوندي وطبع بالقاهرة _ 1925 م.

وسأل أبو العبّاس الحلبي أبا الحسين الخيّاط فقال: «أخبرني عن إبليس هل أراد أن يكفر فرعون؟ قال: نعم، قال الحلبي: فقد غلب إبليس إرادة الله؟ قال أبو الحسين: هذا لا يجب فإنّ الله تعالى قال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالفْحْشَاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً) وهذا لا يوجب أن يكون أمر إبليس غلب أمر الله، فكذلك الإرادة و ذلك لأنّ الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن(2).

وبعبارة واضحة، إنّ إرادة كلّ منهما (الله سبحانه و إبليس المطرود) ليست إرادة تكوينيّة قاهرة سالبة للاختيار، بل إرادة أشبه بإرادة تشريعيّة يتراءى أنّها تعلّقت بفعل الغير، وهو مختار في فعله و عمله و تطبيقه على كلّ من الطّلبين، فليس في موافقته أو مخالفته أيّ غلبة من المريدين على الآخر. نعم لو كانت إرادة كلّ منهما إرادة تكوينيّة تعلّقت واحدة

بإيمان فرعون والاُخرى بكفره فكفر ولم يؤمن لزمت غلبة إرادة إبليس على إرادة الله تعالى.

وسئل عن أفضل الصّحابة فقال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام_ لأنّ الخصال الّتي فضّل الناس بها متفرّقة في الناس وهي مجتمعة فيه، وعدّ الفضائل فقيل فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال: هذا باب لا علم لي به إلاّ بما فعل

______________________

1 . فضل الاعتزال: ص 29.

2 . المنية والأمل: ص 49.

( 286 )

الناس وتسليمه الأمر على ما أمضاه عليه الصّحابة، لأنّي لمّا وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف، علمت صحّة ما فعلوا»(1).

يلاحظ عليه: إذا أثبت كونه أفضل الصحابة، فتقدّم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً، وبه ردّ سبحانه اعتراض بني إسرائيل على جعل طالوت ملكاً. قال سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ الجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ) (البقرة/247).

وأمّا تسليم الإمام لعمل الصّحابة فهو غير صحيح، فقد اعترض على عملهم مرّة بعد مرّة و يكفي في ذلك خطبه وقصار حكمه وما نقله عنه المؤرّخون(2).

هذا و أشباهه قابل للاغماض، وإنّما الكلام فيما نسب إلى الشيعة من النسب المفتعلة والأكاذيب الشائنة و إليك نماذج من قذائفه و طامّاته في كتاب «الانتصار»:

1- الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة و صورة يتحرّك ويسكن و يزول و ينتقل، وأنّه كان غير عالم فعلم...إلى أن قال: هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة و اعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم و

تبرّأت منهم. فأمّا جملتهم و مشايخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعليّ بن ميثم، وهشام بن الحكم بن منصور، والسكاك فقولهم ما حكيت عنهم.

2- فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إنّ لله صورة، ويروى في ذلك الروايات و يحتجّ فيه بالأحاديث عن أئمّتهم، إلاّ من صحب المعتزلة منهم قديماً، فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقربه.

3- يرون الرافضة أن يطأ المرأة الواحدة في اليوم الواحد مائة رجل من غير

______________________

1 . المنية والأمل: تصحيح توما أرنلد، ص 49 و 50.

2 . لاحظ: الامامة والسياسة، ص 11 لابن قتبية وغيرها.

( 287 )

استبراء ولا قضاء عدّة وهذا خلاف ما عليه اُمّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1).

نحن لا نعلّق على تلك الأساطير شيئاً و إنّما نمرّ عليها كراماً.

10- أبو القاسم البلخي الكعبي (ت 273 - م 317 أو 319) خريج مدرسة بغداد

عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتباً كثيرة و أقام ببغداد مدّة طويلة و انتشرت بها كتبه، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري، (حدّثنا) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني، قال: كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة»(2).

وقال ابن خلّكان: «العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم «الكعبيّة» وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه

لها، وكان من كبار المتكلّمين، وله اختيارات في علم الكلام، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة و ثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان»(3).

وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل

______________________

1 . لاحظ: الانتصار ص 8، 144، 89.

2 . تاريخ بغداد: ج 9، ص 384.

3 . وفيات الاعيان: ج 3، ص 45 رقم الترجمة 330.

( 288 )

الطبيعية، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.

وبعبارة واضحة: إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار، وآية الحرّيّة، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» ما هذا لفظه، قال: «كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله: إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته، ولا هو يريد إرادته و (لا) إرادته حادثة في محلّ، بل إذا أطلق عليه: إنّه يريد، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل: إنّه مريد لأفعاله، فالمراد

أنّه خالق لها على وفق علمه، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده، فالمراد أنّه راض بما أمر به»(1).

مؤلفّات_ه

قال ابن حجر في «لسان الميزان»: «عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه»(2).

غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان و أضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب «ذكر المعتزلة» لأبي القاسم

______________________

1 . باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين، لأبي القاسم البلخي، المقدمة ص 44، نقلاً عن عيون التواريخ ج 7، ص 106 مخطوطة دار الكتب.

2 . لسان الميزان: ج 3 ص 252.

( 289 )

البلخي أسماء كتبه و أنهاها إلى ستّة و أربعين كتاباً.

وقال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة: «وأخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسه وقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي» ثمّ قال:«سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي _ رضي الله عنه _ يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى و هناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان _ رحمهم الله أجمعين _: سمعت أبا الحسين السوسنجردي _ رحمه الله _ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة-يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا _ عليه السلام _ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف، فوقف عليه ونقضه ب_ «المسترشد في الإمامة» فعدت إلى الري،

فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه ب__«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب_«نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات-رحمه الله-»(1).

مناظرته مع رجل سوفسطائي

حكى في كتابه «مقالات أبي القاسم» أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات و يلحقها بالخيالات، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه، فأخذ البغل و ذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده، فرجع إلى أبي القاسم وقال: إنّي لم أجد البغل، فقال أبوالقاسم: لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل و إنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه

______________________

1 . فهرس النجاشي: الرقم 1023.

( 290 )

بأنواع من هذا الكلام، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه(1).

تلك عشرة كاملة من أعلام المعتزلة و فطاحلهم. ولعلّ هذا المقدار في ترجمة أئمّتهم و مشايخهم يوقفنا على موقفهم في الفضل و الفضيلة و هذا البحث الضافي يوقفك على أنّ تدمير تلك الطائفة _ مع ما فيها، ما فيها _ كانت خسارة لا تجبر.

______________________

1 . المنية والامل: ص 51.

( 291 )

الفصل السادس

الفصل السادس

في طبقات المعتزلة و مدارسهم

المعتزلة تنقسم تارة بحسب الطّبقات و اُخرى بحسب المدارس. أمّا الأوّل، فقد قسمها القاضي عبدالجبّار (م 415) إلى طبقات عشر. ثمّ جاء بعده الحاكم(1) فأضاف عليها طبقتين فصارت اثنتي عشرة طبقة.

وقد أدرجها ابن المرتضى في كتابه «المنية و الأمل» الّذي طبع منه

هذا القسم فقط. ولأجل رفع الاشتباه في الاسم نعبّر عن كتاب القاضي بالطّبقات، وعن هذا القسم باسم كلِّ الكتاب: المنية والأمل.

إنّ ملاك التقسيم في ترتيب الطّبقات هو التسلسل الزّمني و الترتيب التأريخي. فالأساتذة في طبقة والتلامذة في طبقة بعدها. ومن أراد الوقوف على أسمائهم وحياتهم فعليه المراجعة إلى المصادر السابقة باضافة «ذكر المعتزلة» للكعبي. وبما أنّ الاكتفاء بذكر الأسماء وحده لا يفيد شيئاً والتّفصيل خارج عن موضوع البحث، فنحيل القارئ إلى الكتب المذكورة و نكتفي بذكر مدارس الاعتزال و بعض الفروق الموجودة بينها.

______________________

1 . المراد منه المتكلم المعتزلي الزيدي أبو سعد المحسن بن محمد كرامة الجشمي البيهقي صاحب المؤلفات توفي مقتولاً بمكة في شهر رجب سنة 465، أو 445. وتوهمت المستشرقة سوسنه « ديفلد ملزر» أنّ المراد منه هو المحدث المشهور محمد بن عبداللّه الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك المتوفى عام 405 وهو وهم.

( 292 )

مدارس الاعتزال

إنّ مدارس الاعتزال لا تتجاوز مدرستين: مدرسة البصرة، ومدرسة بغداد. والاُولى منهما مهد الاعتزال ومغرسه، وفيها برز واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبو الهذيل العلاّف والنظّام.

غير أنّه تأسّست في أواخر القرن الثاني مدرسة اُخرى في عاصمة الخلافة العبّاسيّة «بغداد» بمهاجرة أحد خرّيجي مدرسة البصرة إليها وهو بشر بن المعتمر (م210).فظهر هناك رجال مفكّرون على منهج الاعتزال، وأثار التعدّد و البعد المكاني خلافات بين خرّيجي المدرستين في كثير من المسائل الفرعيّة بعد الاتفاق على المسائل الرئيسيّة.

ولكلّ من المدرستين مميّزات و مشخّصات يقف عليها من تدبّر في أفكار أصحابها وآرائهم. ولبعض المعتزلة رسائل مخصوصة في هذا المضمار.

غير أنّ الناظر فيما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي من مشايخه البغداديّين أنّهم يوافقون الشيعة أكثر من معتزلة البصرة. وقد ألّف الشيخ المفيد (م 413)

رسالة باسم «المقنعة» في وفاق البغداديين من المعتزلة لما روى عن الأئمّة _ عليهم السلام _(1).

و للتعرّف على بعض مشايخ المدرستين نأتي بهذا الجدول:

مشايخ مدرسة البصرة

1- واصل بن عطاء (م 131).

2- عمرو بن عبيد (م 143).

3- أبو الهذيل العلاّف (م 235).

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 25. وهذا الكتاب غير كتابه الآخر بهذا الاسم في الفقه.

( 293 )

4- إبراهيم بن سيّار النظّام (م 231).

5- عليّ الأسوار (المتوفّى حوالى المائتين).

6- معمر بن عباد السلمي (م 220).

7- عبّاد بن سليمان (م 220).

8- هشام الفوطي (م 246).

9- عمرو بن بحر الجاحظ (م 255).

10- أبو يعقوب الشحّام (م 230).

11- أبو عليّ الجبّائي (م 303).

12- أبو هاشم الجبّائي (م 321).

13- أبو عبدالله الحسين بن عليّ البصري (م 367).

14- أبو إسحاق بن عياش (شيخ القاضي).

15- القاضي عبد الجبّار (م 415).

مشايخ مدرسة بغداد

1- بشر بن المعتمر (م 210)، مؤسّس المدرسة.

2- ثمامة بن الأشرس (م 234).

3- جعفر بن المبشر (م 234).

4- جعفر بن حرب (م 236).

5- أحمد بن أبي دؤاد (م 240).

6- محمّد الاسكافي (م 240).

7- أبو الحسين الخيّاط (م 311).

( 294 )

8- أبوالقاسم البلخي الكعبي ( م 317).

من أراد أن يقف على بعض آرائهم الّتي يخالفون فيها مشايخهم البصريّين فعليه بمطالعة شرح النهج لابن أبي الحديد، فإنّه يعرض آراءهم في شرحه في

مجالات مختلفة.

الفصل السابع

الفصل السابع

في الاُصول الخمسة عند المعتزلة

اشتهرت المعتزلة باُصولها الخمسة، فمن دان بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. وتلك الاُصول المرتّبة حسب أهمّيتها، عبارة عن : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بها ثمّ خالف بقيّة المعتزلة في تفاصيلها أو في فروع اُخر لم يخرج بذلك عنهم.

قال

الخيّاط : «فليس يستحقّ أحد منهم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اكملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي»(1).

قال المسعودي (م 345) بعد سرد الاُصول الخمسة حسب ما سمعت منّا :«فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة ومن اعتقد ما ذكرناه من الاُصول الخمسة، كان معتزليّاً، فان اعتقد الأكثر أو الأقلّ لم يستحقّ اسم الاعتزال، فلا يستحقّه إلا باعتقاد هذه الاُصول الخمسة. وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم»(2).

والعجب من ابن حزم (م 456) حيث زعم أنّ الاُصول الخمسة عبارة عن القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، والتشبيه ونفي القدر، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، ونفي

______________________

1 . الانتصار للخيّاط: ص 126.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 222.

( 296 )

الصفات(1).

فقد ذكر من الاُصول ثلاثة، حيث إنّ نفي القدر و خلق القرآن إيعاز إلى العدل(2) كما أنّ نفي الصفات والرؤية إشارة إلى التوحيد أي تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق، وأهمل اثنتين منها أعني الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا مبلغ علم الرجل بأصول الاعتزال الّذي هو أقرب إليه من الشيعة، فما ظنّك بعلمه بطوائف أخرى كمعتقدات الشّيعة الّذين يعيشون في بيئة بعيدة منه، ولأجل ذلك رماهم بنسب مفتعلة.

إيعاز إلى الاُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الاُصول على وجه الاجمال حتّى يعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثمّ نأخذ بشرحها واحداً بعد واحد فنقول:

1- التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً و إثباتا على الحدّ الّذي يستحقّه. وسيوافيك تفصيله فيما بعد، والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الامكان ووهم المثليّة و غيرهما ممّا يجب

تنزيه ساحته عنه كالتجسيم والتشبيه و إمكان الرؤية و طروء الحوادث عليه، غير أنّ المهمّ في هذا الأصل هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه ونفي الروية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل، لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه إلاّ القليل منهم.

2- العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يخلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي

______________________

1 . الفصل: ج 2، ص 113.

2 . سيأتي في الأصل الثاني أنّ القاضي أدخل البحث عن خلق القرآن تحت ذلك. و إن كان غير صحيح.

( 297 )

الكذّابين، ولا يكلِّف العباد ما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يقدرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك ويبيّن لهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة) (1) و أنّه إذا كلّف المكلّف و أتى بما كلّف على الوجه الّذي كلف فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم و أسقم فإنّما فعله لصلاحه و منافعه و إلاّ كان مخلاّ ً بواجب...

3- الوعد و الوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخلف لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل ثمّ تركه يكون كذباً، ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخلف كذباً، وعلى ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.

4- المنزلة

بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء و الأحكام، وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: والمعروف كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما، إنّما الخلاف في أنّه هل يعلم عقلاً أو لا يعلم إلاّ سمعاً؟ ذهب أبو عليّ (م303) إلى أنّه يعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (م 321) إلى أنّه يعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: «وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ _ عليهما السلام _ لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عزّوجلّ ولهذا نباهي به سائر الاُمم فنقول: لم يبق من ولد الرّسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى

______________________

1 . الأنفال/42.

( 298 )

قتل دون ذلك»(1).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين:

أحدهما: إقامة ما لا يقوم به إلاّ الأئمّة كإقامة الحدود و حفظ بيضة الإسلام وسدّ الثغور و إنفاذ الجيوش و نصب القضاة والاُمراء وما أشبه ذلك.

والثاني: ما يقوم به كافة الناس، وفي المسلمين-كالإماميّة-من يقول بأنّ بعض المراتب منه كالجهاد الابتدائي مع الكفّار مشروط بوجود إمام معصوم مفترض الطاعة.

وهذا إلماع إلى معرفة الاُصول الخمسة الّتي يدور عليها فلك الاعتزال وقد أخذناها من شرح الاُصول الخمسة وقد أتى بها في الفصل الّذي عقده

لبيان اُصول المعتزلة على وجه الاختصار. ثمّ أخذ بالتفصيل في ضمن فصول.

والمعتزلة قد اتّفقوا على هذه الاُصول و إن اختلفوا في تفاصيلها. نعم، إنّ هناك اختلافات فيها بين أصحاب المدرستين: أصحاب مدرسة البصرة وعلى رأسهم واصل ابن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظّام والجبائيان والقاضي، وأصحاب مدرسة بغداد وفي مقدّمهم بشر بن المعتمر، وأبو الحسين الخيّاط، وأبو القاسم البلخي، وقد عرفت في الفصول السابقة ترجمة حياتهم.

هذه الاُصول الخمسة الّتي بها يناط دخول الرجل في سلك المعتزلة.

وقد ذكر الشهرستاني الاُصول الّتي اتّفقت المعتزلة عليها، من دون أن يفرّق بين ما يدخل في الاُصول الخمسة وما هو خارج عنها، وإليك نصّه:

«القول بأنّ الله تعالى قديم، والقدم أخصّ وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حيّ بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة، ومعان قائمة به، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الّذي هو أخصّ الوصف،

______________________

1 . الاُصول الخمسة ص 142.

( 299 )

لشاركته في الإلهيّة.

واتّفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محلِّ، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإنّ ما وجد في المحلّ عرض قد فني في الحال. واتّفقوا على أنّ الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها كما سيأتي.

واتّفقوا على نفي روية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه: جهة، ومكاناً، وصورة و جسماً، وتحيّزاً، وانتقالاً، وزوالاً و تغيّراً و تأثّراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسمّوا هذا النّمط توحيداً.

واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها و شرّها مستحقّ على ما يفعله ثواباً و عقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم،

وفعل هو كفر ومعصية، لأنّه لو خلق الظّلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً.

واتّفقوا على أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الصّلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأمّا الأصلح واللّطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النّمط عدلاً.

واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة و توبة، استحقّ الثّواب والعوض. والتّفضل معنى آخر وراء الثّواب و إذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحقّ الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار و سمّوا هذا النمط وعداً و وعيداً.

واتّفقوا على أنّ اُصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السّمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التّكاليف ألطاف للبارىء تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء _ عليهم السلام _ امتحاناً واختباراً (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة)(الانفال/42).

واختلفوا في الإمامة، والقول فيها نصّاً و اختياراً، كما سيأتي عند مقالة كلّ

( 300 )

طائفة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة لم تقل في الإمامة بالنصّ، وإنّما يقولون بالاختيار. ونسبة نظرية النصّ إليهم مبنيّ على عدّ الشيعة القائلين بالنص منهم، وهو خطأ.

ولا يخفى على القارئ بعد الاحاطة بما حقّقنا حول الاُصول الخمسة تفكيك الاُصول عمّا يترتب عليها من الأحكام، وقد خلط هو وقبله الأشعري بين المبني و ما يترتب عليه من البناء وغيرهما من الاُصول.

***

وتحقيق الحقّ حول هذه الاُصول يستدعي رسم اُمور تلقي ضوءاً على الأبحاث التالية:

1- أصلان أو اُصول خمسة؟

إنّ القاضي عبدالجبّار ليس أوّل من ألّف في عقائد المعتزلة باسم الاُصول الخمسة بل سبق في ذلك شخصان آخران من خرّيجي المدرستين، أحدهما: أبو الهذيل العلاّف البصري، والثاني: جعفر بن حرب البغدادي.

قال النّسفي

في «بحر الكلام»: «خرج أبو الهذيل فصنّف لهم كتابين و بيّن مذهبهم، وجمع علومهم، وسمّى ذلك: «الخمسة الاُصول»، وكلّما رأوا رجلاً قالوا له:هل قرأت «الاُصول الخمسة» فإن قال: نعم، عرفوا أنّه على مذهبهم»(2).

وقال ابن المرتضى: «ومنهم جعفر بن حرب (م 236) الّذي عدّه المرتضى من الطّبقة السابعة فقال: له الاُصول الخمسة»(3).

والظاهر أنّ القاضي أملى شرح الاُصول الخمسة على غرار الكتابين الماضيين وكتبه عدد من تلاميذه، وقد اختلفت كلمة القاضي في عدّ الاُصول، فجعلها في شرح

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 44 _ 46، طبعة دار المعرفة.

2 . نقله محقق شرح الاُصول الخمسة للقاضي، ص 26، عن مخطوط دار الكتب المصرية لبحر الكلام، ورقة 57.

3 . المنية والامل: ص 41. والصحيح «الخمسة».

( 301 )

الاُصول خمسة على الوجه الّذي عرفت، وجعلها في «المغني»(1) اثنين: التوحيد والعدل. وجعل غيرهما داخلاً في ذينك الأصلين. وجعلها في كتاب «مختصر الحسنى»، أربعة: التوحيد والعدل والنبوّات والشرائع، وأدخل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرائع. ويظهر من كلمات تلاميذه الّذين أملى لهم القاضي كتاب «الاُصول الخمسة» أنّ ما فعله في «المغني» هو الأرجح، قالوا:

إنّ النبوّات والشرائع داخلان في العدل، لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنافي بعثة الرُّسل و أن نتعبّد بالشريعة، وجب أن يبعث ونتعبّد، ومن العدل أن لا يُخلّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل. لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثّواب، وتوعّد العصاة بالعقاب فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده، ومن العدل أن لا يُخلف ولا يكذب، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل، لأنّه كلام في أنّ

الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا في أن يتعبّدنا بإجراء أسماء و أحكام على المكلّفين وجب أن يتعبّدنا به، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأولى أن يقتصر على ما أورده «في المغني»(2).

يلاحظ عليه:أوّلاً: _ أنّه لو صحّ إدخال المنزلة بين المنزلتين في باب العدل، حسب البيان الّذي سمعت، لصحّ إدخال المعارف العقليّة كلّها تحته بنفس البيان، بأن يقال إنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا أن يتعبّدنا بالمعارف وجب أن يتعبّدنا بها، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب، ولا أرى أنّ واحداً من المعتزلة يقبل ذلك.

وثانياً _ إنّ الاُصول الاعتقاديّة على قسمين:

قسم يجب الاعتقاد به بنفس عنوانه ولا يكفي الاعتقاد بالجامع البعيد الّذي يشمله، وذلك كالاعتقاد بنبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وعموميّة رسالته وخاتميتها، فالكلّ ممّا

______________________

1 . من أبسط كتب القاضي وأهمها، يقع في عشرين جزءاً، طبع منه أربعة عشر جزءاً ولم يعثر على الباقي.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 123.

( 302 )

تجب معرفته بنفس عنوانه ولا يكفي في معرفته عرفان عدله سبحانه، بحجّة أنّ النبوّات والشرائع داخلة تحته، فمن عرف الله سبحانه بالعدل كفى في معرفة ما يقع تحته.

ولعلّ المعارف العقليّة الّتي يستقلّ العقل بعنوانها من مقولة القسم الأوّل.

وقسم آخر يكفي فيه الاعتقاد بالعنوان البعيد ولا يلزم الاعتقاد بشخصه، كالاعتقاد ببعض الخصوصيّات الواردة في الحياة البرزخيّة والأخروية.

***

2-ما يلزم المكلّف عرفانه من اُصول الدين

عرّف المتكلّمون اُصول الدين ب__«ما يجب الاعتقاد به على وجه التفصيل أو الاجمال» ويقابلها الفروع فهي ما يجب العمل به. ويظهر من القاضي أنّه يجب على كلّ مسلم، عالماً كان أو غيره، الاعتقاد بالاُصول الخمسة أمّا التوحيد و

العدل فذلك لوجهين:

1- إنّ في ترك الاعتقاد بالتوحيد والعدل مظنّة الضرر ويخاف الإنسان من تركه.

2- إنّهُ لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبّحات.

وأمّا الاُصول الاُخر فيجب الاعتقاد بها، لأنّ العلم بكمال التوحيد والعدل موقوف على ذلك، ألا ترى أنّ من جوّز على الله تعالى في وعده و وعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علّة المكلّفين و غيره فإنّه لا يتكامل له العلم بالعدل، ولا فرق في ذلك بين من يسلك طريقة العلماء وبين من لا يكون كذلك، لأنّ العامي أيضاً يلزمه معرفة هذه الاُصول على سبيل الجملة، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التّفصيل، لأنّ من لم يعرف هذه الاُصول، لا على الجملة، ولا على التّفصيل، لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل(1).

يلاحظ عليه أوّلاً : - أنّ القول بلزوم معرفة الاُصول الخمسة على النّحو الّذي

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 123 _ 124.

( 303 )

تسرده المعتزلة قول بلا دليل. كيف والنّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام من شهد الشهادتين وإن لم يشهد على بعض هذه الاُصول، ومعنى الشهادة الثانية هو التصديق بكلّ ما جاء به وهذا يكفي في تسمية الشاهد مسلماً إذا اعترف بلسانه، ومؤمناً إذا اعترف بقلبه. وعلى ضوء ذلك فلا يلزم عرفان هذه الاُصول، لا على وجه التفصيل أي بالبرهنة والاستدلال، ولا على وجه الاجمال أي تلقّيها اُصولاً مسلّمة.

وثانياً: أنّه لو صحّ ما ذكره من البيان بطل الاقتصار على الاُصول الخمسة، لأنّ الاعتقاد بالنبوّات والشرائع والمعاد وحشر الأجساد ممّا يتكامل به العلم بالعدل، فمن لم يعرفها، لا على وجه الجملة ولا على وجه التفصيل، لم يتكامل اعتقاده بالتوحيد والعدل، وقس عليه سائر الاُصول.

والّذي يمكن أن يقال في

المقام أنّ ما يجب تحصيله من هذه الاُصول الخمسة هو وجوب معرفة و حدانيّته على الوجه اللائق به، وأمّا الاُصول الأربعة فلا دليل على وجوب عرفانها بعينها استدلالاً أو تعبّداً.

***

3- سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة

قد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال: «إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر و ربّما فسق و ربّما كان مخطئاً.

أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته، وأثبت ما يجب نفيه عنه، فإنّه يكون كافراً.

وأمّا من خالف في العدل و أضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب و إظهار المعجزات على الكذّابين و تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم

( 304 )

والإخلال بالواجب، فإنّه يكفّر أيضاً.

وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال: إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

وكذا لو قال: إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده، لأنّ الخلف في الوعيد كرم، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.

فان قال: إنّ الله تعالى وعد و توعّد، ولا يجوز أن يخلف في وعده و وعيده، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين، فقال: إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس و غيرهم فإنّه يكون كافراً، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.

فان قال: حكمه حكم

المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى، فإنّه يكون فاسقاً، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.

فان قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، وقال: إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ و دين الاُمّة.

فان قال: إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء، لاتختصّ

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة، ص 125 _ 126، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.

( 305 )

بهذه الخمسة، فهناك اُصول حالها حال الخمسة.فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شبفاسق، ومعها مخطىء.

وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال:«إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول، وهو أن السابر في كتب الحنابلة و الأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي

اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.

والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.

وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية و غيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً، «وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام»، فإنّ السلفيّين و أهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها «قولهم

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة، ص 124.

( 306 )

الّذي يقولون به، وديانتهم الّتي يدينون بها»(1). و بيّنوا «مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنّة، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل ا(2)لحقّ».

وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع، و صفت لدى الشيخين بعد عراك، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن و كونه غير مخلوق، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين و يتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني ... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة

لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء و اختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.

إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً، وصيّرتها فرقاً شتى، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.

وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من

______________________

1 . هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في «الابانة» الباب الثاني، ص 17.

2 . وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه «السنة»، ص 44.

( 307 )

أهل النجاة و غيرهم من أهل النار، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.

هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري (م 321) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة و خمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة: أبي حنيفة، وأبي يوسف

يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني(1)وقد كتب على هذه الرسالة شروح و تعاليق، واحتلّت مكانها _بعد زمن _ «العقائد النسفية». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة و نحلة، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.

ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة «سوسنه ديفلد» محقّقة كتاب «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى عن الاُستاذ «ه_.ريتر»: «من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ «ضالّة» إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة»(2).

فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.

إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر:

______________________

1 . شرح العقائد الطحاوية: ص 25.

2 . طبقات المعتزلة لابن المرتضى: المقدمة. ط بيروت.

( 308 )

الأصل الأوّل التوحيد

الأصل الأوّل التوحيد

عرِّف التوحيد في مصطلح المتكلّمين بأنّه العلم بأنّ الله سبحانه واحد لا يشاركه غيره في الذات والصفات و الأفعال والعبادة وبالجملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)(الشورى/11). والّذي يصلح للبحث عنه في هذا الأصل عبارة عن الاُمور التالية:

1-إثبات وجوده سبحانه في مقابل الدهريّة والماديّة القائلين بأصالة المادّة وقدمها و غناها في الفعل والانفعال و إيجاد الأنواع عن قدرة خارجة عن نطاقها.

2- إنّه سبحانه واحد لا ثاني له، بسيط لا جزء له، فهو

الواحد الأحد، خلافاً للثنويّة والمانويّة في الواحديّة، وللنّصارى في الأحديّة.

3- عرفان صفاته سبحانه سواء أكانت من صفات الذات ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً مدركاً، أم من صفات الأفعال ككونه خالقاً رازقاً غافراً.

4- كيفيّة استحقاقه لهذه الصّفات وتبيّن وجه حملها عليه سبحانه، فهل تحمل عليه كحملها على سائر الممكنات أو لا؟

5- تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به كالحاجة وكونه جسماً أو جسمانيّاً، عرضاً أو جوهراً أو غير ذلك.

6- تنزيهه سبحانه عن إمكان الرؤية الّتي يتبنّاها أهل الحديث والأشاعرة

( 309 )

بحماس.

فمع أنّ هذه الأبحاث الستّة صالحة للبحث في هذا الأصل، لكن نرى أنّ المعتزلة يركّزون على البحث عن الرابع والسادس أكثر من غيرهما، و يمرّون على الأبحاث الباقية مروراً إجمالياً. وما هذا إلاّ لأنّ أهل الحديث والأشاعرة متّفقون معهم فيها. وهذا أيضاً يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الاُصول العقائدية إنّما رتّبت ونظمت بين كلّ فرقة لأجل الردّ على مخالفيها لا لبيان الاُصول الّتي يناط بها الإسلام والإيمان في عصر النّبيّ والصحابة.

و لأجل ذلك صار التوحيد عند المعتزلة رمزاً للتنزيه، فكلّما أطلقت هذه الكلمة، انصرفت أذهانهم إلى تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به في باب الصّفات و مجال الروية.

وبما أنّهم ينفون الصفات الزائدة على ذاته سبحانه، وتثبته الأشاعرة و قبلهم أهل الحديث، صارت الصفاتية شعاراً لهذه الفرقة.

إذا وقفت على ذلك فلنركّز على النّقاط الّتي يرجى تبيينها في زاوية فكر الاعتزال ونطوي الكلام عن غيرها لعدم الخلاف، فنقول:

إنّ البحث عن صفاته سبحانه يتمركز على نقاط ثلاث:

الاُولى: تبيين كيفيّة استحقاقه سبحانه لصفاته الكماليّة وحملها عليه، فهل هذه الصّفات حادثة أو قديمة، زائدة على الذات أم لا؟

الثانية: تبيين كيفية حمل الصفات الخبرية عليه الواردة في الذكر الحكيم من اليد والوجه

والعين، فهل تحمل على الله سبحانه بظواهرها الحرفيّة كما عليه السّلفية والأشاعرة، أو تحمل عليه بظواهرها التصديقيّة، أو لا هذا ولا ذاك بل تؤوّل لقرائن عقليّة؟

الثالثة: نفي الرؤية الحسية الّتي يدّعيها أهل الحديث.

فلنرجع إلى تبيين النقطة الاُولى أعني تبيين كيفيّة حمل الصّفات عليه.

( 310 )

أ - نفي الصفات الزائدة على ذاته

اتّفق أهل الحديث والكلابيّة وتبعهم الشيخ الأشعري على أنّ لله سبحانه صفات ذات كماليّة قديمة، زائدة على ذاته.

قال القاضي: «وعند الكلابيّة إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة، وأراد بالأزلي القديم، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك، ثمّ نبغ الأشعري و أطلق القول بأنّه تعالى يستحقُّ هذه الصّفات لمعان قديمة لوقاحته و قلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين»(1) ورائدهم في هذه العقيدة هو الظّواهر القرآنية. قال سبحانه: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء/166)، وقال تعالى: (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ)(فاطر/11). وقال عزّ من قائل: (ذو القوّة المتين) (الذاريات/58).

قالوا: إنّ ظواهر هذه الآيات تعرب عن أنّ هنا ذاتاً ولها علم ولها قدرة كلاهما يغايران ذاته. ولو كانا نفس ذاته لما صحّ التعبير بقوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أو (ذُو القوة المتين) ومثلها سائر الآيات الظاهرة في مغايرة الصّفات للذات(2).

هذا دليل أهل الحديث و الكلابيّة و الأشاعرة و نرجع إلى تبيين مفاد الآيات بعد الفراغ من دليل المعتزلة.

تثنية القديم في نظريّة أهل الحديث

إنّ هذه النظريّة الّتي يتبنّاها أهل الحديث اغتراراً بظواهر النّصوص، تؤدّي إلى تعدّد القديم المنتهي إلى تعدّد الواجب حسب عدد الصفات، وأيّ ثنويّة أسوأ من هذه؟ فلو قالت الثنويّة بأصلين أزليّين هما النور و الظلمة، وقالت المانويّة بأنّ العالم مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر

ظلمة، أو قالت النّصارى بالأقانيم

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 183.

2 . لاحظ: الابانة للشيخ الأشعري: ص 107.

( 311 )

الثّلاثة فقد قال هؤلاء الأشاعرة بقدماء كثيرين بحسب تعدّد الصفات.

وبذلك تقف على أنّ الحافز على التركيز على نفي الصّفات الزائدة، هو التحفّظ على التوحيد و وحدانيّة الواجب والقديم، ونفي المثيل و النّظير له أخذاً بقوله سبحانه (ليس كمثله شيء) و (قل هو الله أحد).

فمن المحتمل عند البعض أنّ المعتزلة أرادوا بهذا، الردّ على فكرة الأقانيم لدى النّصارى، فإنّ القول بأنّ الذات الإلهيّة جوهر يتقوّم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة، قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر، وإلى اعتبار الصّفات أشخاصاً، وإلى تجسّد «الاقنوم الثاني» _ اقنوم العلم _ في الابن. فلموا جهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنّه جوهر واعتبروا الصّفات هي الذات غير مغايرة لها، فصفات الله ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة، ويمكن أن تختلف وجوه الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد دون أن يلزم من ذلك التعدّد في ذاته، فيقال عالم و نعني إثبات علم هو ذاته، ونفي الجهل عن ذاته، ويقال: قادر ونعني إثبات ذاته ونفي العجز، فالله حيّ عالم قادر بذاته لا بحياة وعلم وقدرة زائدة على ذاته(1).

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصح لو كانت الصّفات الذاتيّة منحصرة في الثلاث: العلم والقدرة و الحياة حتّى يقال إنّ الهدف من القول بالعينيّة نفي توهّم التثليث، بل الصفات الذاتية أكثر من ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ تفسير عقيدة المعتزلة في باب الصّفات بأنّها ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة، غير تامّة ناشئة من تفسير خصومهم بما ذكر، بل الحقُّ أنّ مرادهم هو أنّ واقعيّة خارجيّة بسيطة تجمع

هذه الواقعيات ببساطتها و وحدتها، لا أنّها اعتبارات ذهنيّة، و ليست للصفات واقعيّة خارجية، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول بالنيابة.

______________________

1 . نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني: ص 192 _ 194، و «في علم الكلام» قسم المعتزلة للدكتور أحمد محمود صبحي، ص 123.

( 312 )

محاولة الأشاعرة لتصحيح تثنية القديم

لمّا كان ما استند إليه أهل الاعتزال من البرهان في نفي الصفات الزائدة برهاناًدامغاً قاطعاً للنزاع، حاول أهل التفكير من الأشاعرة نقده، ولكن أتوا بالعجب العجاب. فهذا هو القاضي عضد الدين الإيجي يجيب عن البرهان في مواقفه بقوله: «إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات»(1) وقد أقرّه شارحه الشريف الجرجاني.

وهو من الوهن بمكان، إذ هو أشبه بتخصيص القاعدة العقليّة، والقاعدة العقليّة لا تخصّص. إذ لسائل أن يسأل: أيّ فرق بين الذات والوصف حتّى يكون القول بتعدّد الأوّل موجباً للكفر دون الثاني، مع أنّ ملاك الكفر موجود في كلا الموضعين، فإنّ القول بتعدّد القدماء قول بتعدّد الواجب، قول بتعدد الغنيّ بالذات المستغني عن غيره، قول بتعدّد من يكون وجوده عن ذاته لا عن غيره، وهذا كلّه من صفات الباري عزّ اسمه، فلو كانت صفاته غير ذاته و كانت قديمة، تكون واجبة غنيّة عن كلّ شيء، واجدة لوجودها.

وهناك محاولة ثانية للتخلّص عن تعدّد القدماء وهي القول بأنّ الصفات لا هو ولا غيره(2) وهذا أشبه باللّغز مع أنّ العقائد الإسلاميّة تتّسم بسمة الوضوح والسهولة، لا التعقيد والغموض الّذي ربّما ينتهي في المقام إلى رفع النقيضين.

ولو قال بحدوث الصفات _ ولن يقول أبداً _ يكون الفساد أفحش، والمصيبة أعظم، لأنّ اتّصافه بالقدرة الحادثة مثلاً إمّا بالاختيار وإمّا بالإيجاب. والأوّل محال لاستلزامه محذور التسلسل في صفاته، لأنّ الكلام ينتقل إلى

القدرة الثانية. فهل اتّصافه بها عن اختيار أو بايجاب؟ فعلى الأول يعود السؤال فيلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم أن يكون فاعلاً موجباً بالذات، وأىُّ نقص أعظم من تصوير مبدأ الكمال والجمال وخالق

______________________

1 . المواقف: ص 280.

2 . أوائل المقالات: ص 17.

( 313 )

القدرة والاختيار في الإنسان، فاعلاً موجباً في اتّصافه بصفاته، فلو صحّ كونه موجباً في مورد، فليصحّ في سائر الموارد ككونه فاعلاً موجباً بالقياس إلى مصنوعاته.

وهذه الاُمور هي الحوافز الحقيقية الّتي دعت المعتزلة إلى القول بالتوحيد والتنزيه في باب الصفات ونفي الصفات الزائدة والمعاني القائمة بذاته، ولم يكن الحافز إلاّ الفرار عن الثنويّة و توابعها.

ومن الجسارة الواضحة بل الظلم الفاحش اتّهام هذه الفرقة بما كتبهم عنه أهل الملل والمقالات. فهذا الأشعري يتّهمهم بقوله «أرادت المعتزلة أن تنفي أنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه، لأنّهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنّه ليس بعالم ولا قادر و وجب ذلك عليهم، وهذا إنّما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأنّ الزنادقة قال كثير منهم إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه و قالت: إنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير من طريق التسمية (الكتاب والسنّة) من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسّمع والبصر.

وحاصل (1)تحليل الشيخ أنّ المعتزلة كانت بصدد نفي الأسماء والصفات وفاقاً للزنادقة، فلم يقدروا عليه خوفاً من السلطة، ولكنّهم نفوا العلم والقدرة والحياة حتّى يتسنّى لهم نفي الأسماء والصفات (العالم والقادر) بالملازمة، فمثلهم كمثل من خرج من الباب موهماً للانصراف ثمّ دخل من النافذة.

تلك والله جرأة

في الدين و جسارة بلا مبرّر، والآثار الباقية من المعتزلة تبيّن لنا جهة إصرارهم على نفي الصفات الزائدة على الذات. وليست الغاية نفي أسمائه وصفاته وتصوير كونه سبحانه غير عالم ولا قادر، بل الغاية نفي الثنويّة وتعدُّد الواجب.

قال القاضي: «لو كان عالماً بعلم، لكان لا يخلو إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً،

______________________

1 . الابانة: ص 107 _ 108.

( 314 )

لا يجوز أن يكون معدوماً، وإن كان موجوداً فلا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو محدثاً، والأقسام كلُّها باطلة، فلم يبق إلاّ أن يكون عالماً بذاته على ما نقوله»(1).

وقال أيضاً: «لو كان يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة، وجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى...إلى آخر ما أفاده»(2).

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الداعي لنفي الصفات الأزليّة هو تنزيهه سبحانه عن المثل بل الأمثال. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

نعم هناك حافزان آخران صارا سببين لنفي الصفات الزائدة على الذات نشير إليهما:

1- تركيب الذات مع الصّفات، فإنّه سبحانه كما هو واحد لا نظير له ولا مثيل فهو عزّ وجلّ «أحد» بسيط لا جزء له، والتركيب حليف الامكان، لأنّ المركّب متقوّم بالأجزاء، والمتقوّم لا يكون واجباً ولا غنياً.

2- استلزام القول بالصفات الزائدة على الذات كونه سبحانه ناقصاً مستكملاً بالخارج عن ذاته و حيطة وجوده، مع أنّه سبحانه كلّ الجمال والكمال، لا يشذُّ كمال عن حيطة وجوده، ولاجمال عن حدِّ ذاته.

ولأجل هذين الأمرين مع ما تقدّم من حديث تعدّد القدماء اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات «الصفات الزائدة على الذات» كما اشتهرت الأشاعرة بالصفاتية، متظاهرين بأنّ هناك ذاتاً و وصفاً، والذات غير الوصف، وكلاهما قديمان.

إذا عرفت موقف المعتزلة في نفي الصفات الزائدة على الذات، فهلمّ معي نقرأ بحثاً آخر من هذا

المقام وهو تبيين كيفيّة حمل الصّفات على ذاته سبحانه على مذهبهم، إذ كيف يمكن توصيفه سبحانه بأنّه عالم و قادر مع القول بعدم الصفات الزائدة على

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 183.

2 . المصدر نفسه: ص 195، ولاحظ ص 197. ولاحظ الملل والنحل: ج 1 ص 46 في تبيين القاعدة الأولى من القواعد الأربع الّتي اختارها واصل بن عطاء، ترى فيها التصريح منه بأنّ الغاية لنفي الصفات هو التنزيه.

( 315 )

الذات أي عدم العلم والقدرة المغايرين لها.

وهذا هو البحث المهمّ في المقام، فنقول: إنّ لهم في تبيين كيفيّة الحمل آراء مختلفة بين صحيح و زائف و إليك الاشارة إلى عناوين مذاهبهم إلى أن نأخذ بالتّفصيل.

أ - مذهب أبي الهذيل: إنّه عالم بعلم هو هو.

ب - مذهب أبي عليّ الجبّائي: إنّه يستحقُّ هذه الصفات الأربع الّتي هي كونه قادراً، عالماً، حيّاً، موجوداً لذاته.

ج - مذهب أبي هاشم: إنّه يستحقّها لما هو عليه في ذاته(1).

هذه هي مذاهبهم الثلاثة في تبيين كيفيّة الحمل، وقد حاق بها الابهام، وإليك التوضيح:

توضيح مذهب أبي الهذيل

إنّ أبا الهذيل من كبار رجال الاعتزال و أحد شيوخ مدرسة البصرة، توفّي سنة 235 ه_، و يعتبر أوّل من نظم قواعد الاعتزال و وضع اُصوله، ولكنّ الزّمان عبث بكتبه، ولأجل ذلك طرأ على مذهبه الابهام حتّى إنّ القاضي عبدالجبّار أرجعه إلى مذهب أبي عليّ الجبّائي و قال: «أراد أبو الهذيل ما ذكره الشيخ أبو عليّ إلاّ أنّه لم تتلخّص له العبارة»(2).

لكن ما نقل عنه حول مذهبه في علم الباري يدفعنا إلى القول بأنّ مذهبه في باب الصفات يغاير مختار الجبّائي و إليك هذه الكلمات:

قال الشيخ الأشعري: «والفرقة الهذيليّة يزعمون أنّ لله علماً هو هو، وقدرة هي

هو، وحياة هي هو، وسمعاً هو هو، وكذلك قالوا في سائر صفات الذات»(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 182.

2 . المصدر نفسه: ص 183.

3 . مقالات الاسلاميين: ص 179.

( 316 )

قال الشهرستاني: «انفرد أبو الهذيل بعشر قواعد، الاُولى: إنّ الباري تعالى عالم بعلم و علمه ذاته، قادر بقدرة و قدرته ذاته، حيّ بحياة و حياته ذاته، وإنّما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه، وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته»(1).

ولو صحّ نقل هذه الكلمات عن أبي الهذيل فهو لا يهدف إلى إنكار أسمائه كالعالم و القادر والحيّ، ولا إلى إنكار صفاته من العلم و القدرة والحياة، بل يعترف بهما معاً، غير أنّه يقول باتّحاد الصفات مع الذات وجوداً و عينيّة، وتغايرهما مفهوماً دفعاً للاشكالات المتوجّهة إلى القول بالزيادة.

ولأجل إيقاف القارئ على مرام الشيخ أبي الهذيل نأتي بالتوضيح التالي:

إنّ المتبادر من قولنا «عالم، قادر، حيّ» في نظر أهل اللّسان هو الذات الموصوفة بالعلم والقدرة و الحياة، بمعنى أنّه يتبادر مفهوم بسيط ينحلّ إلى ذلك المركّب م آلاً. فتكون هناك اثنينيّة باعتبار أنّ هناك موصوفاً و معروضاً و وصفاً و عرضاً.

هذا هو المتبادر في الاستعمالات العرفيّة، ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. ولكنّه بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله، لاستلزامه تثنية الواجب أوّلاً، وتركّبه من شيئين ثانياً، واستكماله بغيره ثالثاً. فلأجل ذلك يجب أن يصار في توصيفه سبحانه إلى فرض آخر يحفظ معه أمران:كونه سبحانه واجداً لحقيقة العلم والقدرة و الحياة حتّى لا يلزم التّعطيل، وكونه واحداً بسيطاً غير مركّب من شيء و شيء حتّى لا ترد الاشكالات الثلاثة الماضية، والتحفّظ على هذين الأمرين لا

يحصل إلاّ بالقول بأنّ أوصافه سبحانه و نعوته كلّها موجودة بوجود واحد وهو وجود الذات، وهي بمفردها مصداق لهذه النعوت، و يكفي نفس وجودها في حمل هذه الصفات الكماليّة عليها بلا طروء تعدُّد في مرحلة الذات. ولأجل تقريب المطلب وأنّه يمكن أن تحمل صفات كثيرة على شيء

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 49 _ 50.

( 317 )

واحد، وينتزع منه مفاهيم عديدة، نأتي بمثال و إن كان الفرق بين المثل والممثّل عظيماً، ولكنّ الهدف هو التقريب لا التشبيه.

إذا تصوّرنا الإنسان الخارجي و فرضنا له ماهيّة، فلها ذاتيات _ كالحيوان والناطق_ يعدّان من الاُمور الذاتية بالنسبة إلى ماهيته، فهذه الذاتيات موجودة بوجود واحد شخصي من دون أن تكون حيثيّة الحيوان في الخارج غير حيثيّة الناطق، بل الإنسان الخارجي كلّه بوحدته مصداق للحيوان، كما هو كلّه مصداق للناطق.

فهنا شيء واحد و هو الشخصية الخارجية الّتي هي مصداق الإنسان، يصحّ أن ينتزع منه مفاهيم كثيرة من دون أن تنثلم وحدته.

وعلى ضوء هذا المثال نقول : إنّ ذاته سبحانه بوحدتها و بساطتها، مصداق لكونه عالماً وقادراً و حيّاً، وليست حقيقة العلم في ذاته تغاير واقعيّة القدرة فيه. كما أنّ كليهما لا يغايران حقيقة الحياة. بل الذات الواحدة بما أنّها موجود بسيط، مصداق لهذه الكمالات من دون أن تضمّ إلى الذات ضميمة أو تطرأ كثرة.

وبهذا البيان تحفظ على بساطته، كما تحفظ على كونه واجداً لحقيقة الصفات الكماليّة. ولا يهدف هذا البيان إلى إخلاء الذات عن حقيقة هذه الصّفات، ولا تعطيلها عن الاتّصاف بها، بل يريد أنّ الذات لأجل كونها كلّ الكمال و كلّ الجمال، وليس فوقها موجود أكمل و أجمل، بوحدتها و بساطتها واجدة لحقيقة هذه الصفات. والفرق بين كونه

سبحانه عالماً و كون زيد عالماً، بعد اشتراكهما في كونهما واجدين لحقيقة هذا الوصف، هو أنّه سبحانه ببساطته واجد لهذا الكمال، وذاته مصداق للعلم، ولكنّ زيداً بذاته غير واجد لهذا الكمال و إنّما وصل إليه في مرتبة بعدها.

نعم، كونه سبحانه عالماً بهذا المعنى يخالف ما هو المتبادر منه لفظ «العالم» وأشباهه، فإنّ المتبادر منه هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا الذات البسيطة المتحقّق فيها المبدأ، والقسم الثاني مصداق جديد لم يتعرّف عليه العرف كما لم يتعرّف عليه الواضع، وإنّما هو مصداق كشف عنه العقل بدقّته و غفل عنه العرف لمسامحته، ولكنّه لا يضر

( 318 )

بالاطلاق، لأنّ العرف لا يتوجّه إلى هذه الدّقائق، وأهل الدقّة غير غافلين عن هذا الفرق، وارتكاب خلاف الظواهر بهذا المقدار فراراً عن الاشكالات العقليّة كثير النظير(1).

ثمّ إنّ القائلين بوحدة الصّفات مع الذات لا يعنون منها الوحدة من حيث المفهوم والموضوع له، بداهة أنّ ما يفهم من لفظ الجلالة في قولنا «الله عالم» غير ما يفهم من المحمول كلفظ «العالم» و إنّما يعنون بها الوحدة من حيث العينيّة والتحقّق، بمعنى أنّ ما هو المصداق للفظ الجلالة هو المصداق للفظ العالم، وهكذا سائر الصفات.

برهان بديع لاثبات الوحدة

ثمّ إنّ لأهل التّحقيق في إثبات الوحدة العينيّة براهين دقيقة نكتفي بذكر واحد منها:

«إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ ذاتاً ما إذا كان لها من الكمال ما هو بحسب نفس ذاتها، فهي أفضل و أكمل من ذات لها كمال زائد على ذاتها، لأنّ تجمّل الاُولى بذاتها، وتجمّل الثانية بصفاتها. وما تجمّل بذاته أشرف ممّا يتجمّل بغير ذاته، وإن كان ذلك الغير صفاته. وواجب الوجود يجب أن يكون في أعلى ما يتصوّر من البهاء و الشّرف والجمال، لأنّ ذاته مبدأ

سلسلة الوجودات و واهب كلّ الخيرات و الكمالات، والواهب المفيض لا محالة أكرم و أمجد من الموهوب المفاض عليه، فلو لم يكن كماله بنفس حقيقته المقدّسة، بل مع اللّواحق لكان المجموع من الذات و اللّواحق أشرف من الذات المجرّدة، والمجموع معلول فيلزم أن يكون المعلول أشرف و أكمل من علّته وهو محال بيّن الاستحالة»(2).

هذا هو واقع النّظرية و حقيقتها، وأنت إذا لاحظت دليلها وما أوضحناها به

______________________

1 . قال سبحانه (الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً) (الانفال / 66) فهل يمكن الأخذ بظاهره البدئي في أنّه لم يكن عالماً قبله.

2 . الاسفار: ج 6، ص 134 _ 135.

( 319 )

تقف على أنّ ما ردّ به تلك النظرية ناش عن عدم الوقوف على مراد القائل، ولو أنّهم كانوا واقفين على مصدر هذه النظريّة لما وجّهوا إليها سهامهم المرقوشة، وإليك تلك الردود واحداً بعد الآخر.

1- قال الأشعري: «وألزم أبو الهذيل فقيل له: إذا قلت إنّ علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي و ارحمني فأبى ذلك، فلزمته المناقضة».

2- وقال: «إنّ من قال عالم ولا علم، كان مناقضاً، كما أنّ من قال علم ولا عالم كان مناقضاً»(1).

يلاحظ عليه: أمّا أوّلاً: فإنّ أبا الهذيل لم يقل بالوحدة من حيث المفهوم و إنّما قال بالوحدة من حيث التحقق و العينيّة وما ذكره من النّقض إنّما يرد على الوجه الأوّل لا على الوجه الثاني. فلا يصحّ أن يقال «يا علم الله اغفرلي»، لأنّ المفهوم من لفظ علم الله غير المفهوم من لفظ الجلالة، فلا يصحّ أن يوضع «علم الله» من حيث المفهوم مكان لفظ «الله» و يدعى بمفهوم غيره، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يقال يا موجود،

ويقصد به الله سبحانه، بحجّة أنّ ماهيّته إنيّته، ووجوده نفس ماهيّته.

وأمّا ثانياً: فبأنّ الشيخ الأشعري خلط بين نظريّة أبي الهذيل و نظرية الجبّائي الّذي تتلمذ عليه الشيخ الأشعري سنين متمادية إلى أن رفضه و رفض مذهبه، وانسلك في عداد الحنابلة. فتصوّر أنّ مذهب أبي عليّ نفس مذهب أبي الهذيل. ففي مذهب أبي عليّ، الذات خالية من الصّفات الحقيقيّة، غير أنّها نائبة منابها، ولأجل هذه النيابة يصحّ الحمل، ويجيء توضيحه عمّا قريب، بخلافه على مذهب أبي الهذيل.

3- قال البغدادي: «الفضيحة الرابعة من فضائحه (أبي الهذيل) قوله بأنّ علم الله سبحانه و تعالى هو الله و قدرته هي هو، ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علماً و قدرة، ولو كان هو علماً وقدرة لاستحال أن يكون عالماً قادراً، لأنّ العلم لا يكون

______________________

1 . الابانة: ص 108.

( 320 )

عالماً والقدرة لا تكون قادرة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الاشكال مبنىُّ على اقتناص المعارف الإلهية من اللّغة والعرف، أو من باب مقايسة الواجب بالممكن، فيما أنّ العلم والقدرة في الإنسان عرض والإنسان معروض لهما، تخيّل أنّ العلم والقدرة في جميع المراتب أعراض لا تخرج عن حدِّها، ولكنّه غفل عن أنّ للعلم والقدرة والحياة مراتب و درجات. فالعلم منه عرض كعلمنا بالأشياء الخارجيّة، و منه جوهر كعلمنا بذاتنا و حضور ذاتنا لدى ذاتنا، ومنه واجب قائم بنفسه كعلم الله سبحانه بذاته. فعند ذلك لا مانع من أن يكون هناك علم قائم بالذات و قدرة مثلها و حياة كذلك.

وهناك كلمة قيّمة للحكيم الفارابي حيث يقول: «يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات، وفي العلم علم بالذات، وفي القدرة قدرة بالذات، وفي الارادة إرادة بالذات، حتّى تكون هذه الاُمور في

غيره لا بالذات».

ومصدر ه(2)ذه الكلمات العجيبة هو مقايسة الغائب بالشاهد و تصوّر أنّ علمه سبحانه أو قدرته و حياته كعلم الممكنات و قدرتها و حياتها. فذلك هو التشبيه الّذي هو الأساس لمذهب أهل الحديث ومن لفّ لفّهم.

4- ذكر الشهرستاني أنّ أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه(3).

يلاحظ عليه: أنّه رجم بالغيب ومن الممكن أنّه وصل إليه من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ كما سيوافيك كلامه، وقد عرفت أنّ المعتزلة في التوحيد والعدل عالة على خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ .

5- قال القاضي الايجي: «لو كان مفهوم كونه عالماً حيّاً قادراً نفس ذاته، لم يفد

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 127.

2 . تعاليق الاسفار: ج 6، ص 135.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 50.

( 321 )

حملها على ذاته، وكان قولنا:«الله الواجب» بمثابة حمل الشيء على نفسه».

6- وقال أيضاً: «لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاشكالين من الوهن بمكان، حتّى إنّ المستشكل لم يقبله. وأساس الاشكال هو الخلط بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة، والقائل يقول بالثاني لا بالأوّل. ولأجل ذلك يقول الايجي في دفع الاشكال الأوّل: «وفيه نظر، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا».

وعند ذلك يصحّ لشيخ الاعتزال أن يتمثّل و يقول:

وكم من عائب قولاً صحيحاً * وآفت_ه م_ن الفه_م السقي__م

كلام الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ في عينيّة الصفات مع الذات

قد ورد في خطب الإمام _ عليه السلام _ ما

يدلّ على نفي زيادة الصفات لله تعالى بأبلغ وجه و آكده حيث قال في خطبة من خطبه المشهورة: «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصِّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصِّفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال فيم فقد ضمّنه، ومن قال علام فقد أخلى منه»(2).

وتوضيح هذه الجمل الدّريّة تدفعنا إلى البسط في الكلام ولكنّ المقام لا يقتضيه وإنّما نشير إلى بعضها.

______________________

1 . المواقف: ص 280.

2 . نهج البلاغة: الخطبة الاُولى.

( 322 )

قال _ عليه السلام _ : «وكمال توحيده الاخلاص له»، يريد تخليصه سبحانه من الزوائد والثواني حتّى لا يكون خليطاً مع غيره، ثمّ فرّع على ذلك قوله: «وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه» يريد نفي الصّفات الّتي وجودها غير وجود الذات لا نفي حقائقها عن ذاته، فإنّ ذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة و الأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد على ذاته، فعلمه وقدرته و .... كلُّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة مع أنّ مفاهيمها متغايرة.

وقال _ عليه السلام _: «لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ... الخ» إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة، سواء فرضت قديمة كما عليه الكلابيّة و الأشاعرة أو حادثة. فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها.

فعندئذ يترتّب عليه قول: «فمن وصفه فقد قرنه» أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره، فان كان ذلك الغير مستقلاّ ً في

الوجود يلزم أن يكون له ثان في الوجود، وإن كان غير مستقلّ فبما أنّه جزء له فقد جعله مركّباً ذا جزأين و إليه يشير بقوله: «ومن ثنّاه فقد جزّأه» ومن المعلوم أنّ من جزّأه فقد جهله، ولم يعرفه على ما هو عليه. ومن جهله بهذا المعنى فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، لأنّ الاشارة إلى الشيء حسّيّة كانت أو عقليّة تستلزم جعله محدوداً بحدّ خاصّ، ومن حدّه بحد معيّن فقد جعله واحداً بالعدد _ إلى آخر ما أفاده.

هذا هو توضيح نظريّة أبي الهذيل وهو المختار لدى الإماميّة وعليه خطب الإمام وكلمات أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ وعندئذ يحين وقت إيضاح النظرية الثانية المنسوبة إلى أبي علي الجبّائي.

توضيح مذهب أبي عليّ الجبّائي

إنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصّفات الأربع الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً لذاته. فهو يهدف إلى نظريّة اُخرى يليق أن يتّهم معها

( 323 )

بالتعطي_ل.

وقد أوضح الشهرستاني الفرق بين هذه النظرية و النظرية السابقة بقوله: «والفرق بين قول القائل: «عالم بذاته لا بعلم» وبين قول القائل: «عالم بعلم هو ذاته»، أنّ الأوّل هو نفي الصفة، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات»(1).

ولقد أحسن في التّوضيح و أصاب الغرض. فعلى هذا القول ليست الذات واجدة لواقعيات الصّفات، غير أنّ ما يترقّب من الذات المتصفة بها، يترتّب على ذاته سبحانه و إن لم تكن هناك تلك الصفات. مثلاً أثر الذات الموصوفة بالعلم هو إتقان الفعل وهو يترتّب على ذاته سبحانه بلا وجود وصف العلم فيه، وقد اشتهر عندهم «خذ الغايات واترك المبادئ».

وصاحب النظريّة توفّق في الجمع بين الأمرين الخطيرين. فمن جانب اتّفقت الشرائع

السماويّة على أنّه سبحانه عالم حيّ قادر. ومن جانب آخر واقعية الصفة لا تنفكّ عن القيام بالغير بحيث لو لم تكن قائمة به لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يدور الأمر بين الاُمور التالية:

1- نفي كونه عالماً قادراً حيّاً .... وهذا يكذّبه اتّفاق الشرائع السماوية ووجود آثار الصفات في أفعاله من الإتقان والنظم البارزين.

2- كون صفاته زائدة على ذاته وهو يستلزم المفاسد السابقة من تعدّد القدماء وغيره.

3- كون صفاته عين ذاته كما عليه شيخ المعتزلة في عصره «أبي الهذيل» وهو لا يتّفق مع واقعيّة الصِّفات، فإنّ واقعيّتها نفس قيامها بالغير لا صيرورتها نفسه، فتعيّن القول التالي:

4- كون ذاته نائبة مناب الصّفات وإن لم تكن هناك واقعيّتها. وممّن اختار هذا

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 50.

( 324 )

القول قبل الجبّائي هو عبّاد بن سليمان المعتزلي. قال: «هو عالم، قادر، حيّ، ولا أثبت له علماً، ولا قدرة، ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم، وقادر لا بقدرة، وحىُّ لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء الّتي يسمّى بها»(1).

تقييم نظريّة النيابة

إنّ هذه النظريّة من الوهن بمكان، فإنّ أبا عليّ لو تأمّل في واقعيّة الصفات الكماليّة لما أصرّ على أنّ واقعيّتها في جميع المجالات و المراحل، واقعية القيام بالغير. وإنّما هي واقعيتها في بعض المراتب كعلم الإنسان و قدرته و حياته، وليس في جميع المراتب كذلك. وذلك لأنّ الكمالات ترجع إلى الوجود، وله شؤون و عرض عريض. فكما أنّ منه وجوداً رابطاً و رابطيّاً و جوهراً، فكذا العلم. فمنه عرض قائم بالغير، ومنه جوهر قائم في نفسه كعلم الإنسان المدرك بذاته، ومنه ممكن ومنه واجب، وهكذا سائر الصفِّات.

وعلى ذلك فالاصرار على واقعيّة واحدة تجمع شتات العلم، إصرار في غير محلِّه. فإنّ للعلم و كلّ كمال مثله، إطارات و قوالب و مظاهر و مجالات تختلف حسب اختلاف المراتب.

إذا وقفت على مذهب الوالد (أبي عليّ) فهلمّ معي ندرس مذهب الولد في باب حمل الصفِّات الذاتية عليه سبحانه.

مذهب أبي هاشم

إنّ لأبي هاشم في كيفيّة استحقاق الصفِّات مذهباً خاصّاً عبّر عنه القاضي بقوله: «وعند أبي هاشم يستحقّها لما هو عليه في ذاته» وعبّر عن نظرية أبيه بقوله: «إنّه

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ج 1، ص 225. نعم نقل القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 183 رأياً آخر لسليمان بن جرير وهو غير عباد بن سليمان فلا يختلط عليك الأمر.

( 325 )

يستحقّها القديم تعالى لذاته»(1).

وقد حاول البغدادي تبيين الفرق بقوله: «إنّ أبا عليّ جعل نفس الباري علّة لكونه عالماً و قادراً، وخالف أبو هاشم أباه و زعم أنّ الله عالم لكونه على حال، قادر لكونه على حال وزعم أنّ له في كلِّ معلوم حالاً مخصوصاً، وفي كلِّ مقدور حالاً مخصوصاً. وزعم أنّ الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء»(2).

و أوضحه الشهرستاني بقوله: «قال الجبّائي: عالم لذاته، قادر حيّ لذاته، ومعنى قوله:«لذاته» أي لا يقتضي كونه عالماً، صفة هي علم أو حال توجب كونه عالماً، وعند أبي هاشم: «هو عالم لذاته» بمعنى أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً، وإنّما تعلم الصِّفة على الذات، لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذّات»(3).

وأنت تعلم أنّ هذه المحاولات تزيد في الغموض، وقد أصبحت نظريّته لغزاً من الألغاز لم يقف عليه

أحد. قال الشريف المرتضى: «سمعت الشيخ المفيد يقول: ثلاثة أشياء لا تعقل وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلِّ حيلة، فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يناقض المعنى فيها مفهوم الكلام: اتّحاد النّصرانية (التثليت مع ادّعاء الوحدة)، وكسب النّجارية و أحوال البهشميّة»(4).

ممّا يقال ولا حقيقة عنده * معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال * عند البهشمي وطفرة النظام(5)

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 129.

2 . اُصول الدين للبغدادي: ص 92.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 82.

4 . الفصول المختارة: ص 128.

5 . القضاء والقدر، لعبد الكريم الخطيب: ص 185.

( 326 )

وبما أنّ تحقيق نظريته مبنيّ على تحقيق «الأحوال» الّتي يتبنّاها أبو هاشم فلنكتف بهذا المقدار.

هذا كلّه حول المسألة الاُولى الّتي تركِّز المعتزلة عليها عند البحث عن الأصل الأوّل (التوحيد) وإليك البحث في المسألة الثانية الّتي يركّزون عليها في إطار هذا الأصل، وهي تبيين كيفيّة حمل الصفّات الخبريّة عليه سبحانه.

***

ب - المعتزلة وحمل الصفات الخبريّة (1)

قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتيّة و صفات خبريّة، فتوصيفه سبحانه بالعلم والقدرة توصيف بصفات ذاتيّة، كما أنّ توصيفه بما دلّ عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالوجه واليدين صفات خبريّة.

وأمّا عقيدة المعتزلة في هذه الصفِّات، فقد وصفها الشيخ الأشعري فى كتابه بأحسن وجه. وإليك نصّ كلامه:

«أجمعت المعتزلة على أنّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثّة، ولا صورة لحم ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرّك ولا يسكن ولا يتبعّض،

ولا بذي أبعاض و أجزاء و جوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين و شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسّة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنّه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه

______________________

1 . هذه هي النقطة الثانية التي تركّز عليها المعتزلة في هذا الأصل.

( 327 )

الحواسّ ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات، ولا تحلّ به العاهات، وكلّ ما خطر بالبال، وتصوّر بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أوّلاً، سابقاً، متقدّما للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ولا يزال كذلك. لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حيّ لا كالعلماء القادرين الأحياء. وإنّه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضارّ، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى و الآلام، ليس بذي غاية فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدّس عن ملامسة النساء، وعن اتّخاذ الصاحبة والأبناء، قال: فهذه جملة قولهم في التّوحيد»(1).

والسابر في نهج البلاغة يقف على أنّ المعتزلة أخذت جلّ هذه الكلمات

من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ لكن باختلاف في التعبير والألفاظ.

وقد ذكرت المعتزلة وغيرهم دليلاً عقليّاً على تنزيهه سبحانه عن هذه الصفِّات، خلاصته: أنّه سبحانه ليس مادّة ولا ماديّاً ولا مركّباً منهما، وما ليس كذلك يمتنع عليه هذه الصفات. فمن يُثبت له حركة أو سكوناً أو يداً أو رجلاً فلا منتدح له عن القول بكونه جسماً أو جسمانياً.

هذا هو الحقّ القراح الّذي لا يشكّ فيه مسلم واع. إنّما الكلام في تفسير ما ورد من النُّصوص المشتملة بظواهرها على هذه الصفِّات. وهذه النقطة هي المخمصة الكبرى للمعتزلة. فلابدّ لهم من الجمع ما بين العقل والنّقل بوجه يقبله العقل، ولا

______________________

1 . مقالات الاسلاميين للاشعري: ص 155 _ 156. وقد كتب أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (م 449) قائمة تشتمل على اُصول التنزيه على مذهب الامامية أسماها «البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان» فمن أراد فليرجع إلى كنز الفوائد، ج 1، ص 240 ط بيروت.

( 328 )

يكذّبه النقل.

ثمّ إنّ للباحثين من المتكلِّمين و أهل الحديث في المقام طرقاً نشير إليها:

الأوّل : الإثبات مع التّشبيه والتّكييف.

الثّاني : الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.

الثالث : التفويض.

الرابع : التّأويل.

وقد بحثنا عن الوجوه الثّلاثة الاُول في الجزء الثاني، وهي خيرة أهل الحديث والأشاعرة. والأمر الرابع هو خيرة المعتزلة. ولأجل ذلك يسمّون المؤوّلة، فيؤوّلون الآيات المشتملة على اليد والوجه والاستيلاء وغير ذلك، ولنا هنا كلمة موجزة وهي:

إنّ التأويل على قسمين: قسم يرفضه الكتاب ولا يرضى به العقل وهو تأويل النصوص القرآنيّة والأحاديث المتواترة بحجّة أنّها تخالف العقل الصّريح فقط، وهذا رأي عازب، بل فكرة خاطئة. فإنّ ظواهر الكتاب والنصوص الصحيحة لا يمكن أن تكون مخالفة للعقل.

ولقد كذب من قال من

المؤوّلة: إنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من اُصول الكفر أو إنّ التمسّك في اُصول العقائد بمجّرد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية(1).

فإنّ هؤلاء لم يعرفوا موقف الكتاب والسنّة الصحيحة، فإنّ من الممتنع أن يشتمل الكتاب الهادي على ما يضادّ العقل الصحيح. وهو القائل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)(محمد/24).

وقسم يراد منه تمييز الظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي، وتمييز الظاهر البدوي عن الظاهر الاستمراري (ما يستقرّ في الذهن بعد التدبّر) ومثل هذا لا يتحقّق إلاّ

______________________

1 . علاقة الاثبات والتفويض: ص 67، نقلاً عن الصاوي على تفسير الجلالين ج 3، ص 10 وغيره.

( 329 )

بالتأمّل في نفس الآية الكريمة و ما احتفّ بها من القرائن اللفظية أو ما جاء في الآيات الأخر. وهذا القسم لو صحّت تسميته بالتأويل، تأويل مقبول. كيف وهو ليس بتأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره والأخذ بخلاف الظاهر، بل واقعيته تحديد ظاهر الكلام، وتعيينه. وهذا من خواصّ كلِّ كلام مشتمل على نكات بديعة و معاني رفيعة ألقي لهداية الناس باختلاف طبقاتهم و تعدّد ثقافاتهم. ومثل هذا لو صحّ عليه أنّه أخذ بخلاف الظاهر فإنّما هو أخذ بخلاف الظاهر الحرفي و رفض لظاهره الابتدائي. وأمّا الظاهر التصديقي والاستمراري فهو عين الأخذ به. ونمثِّل لك مثالاً:

إذا قال القائل في تبيين سماحة شخص وجوده: «فلان كثير الرّماد» فهناك ظاهر حرفي و ظاهر تصديقي، كما أنّ هناك ظاهراً بدئياً و ظاهراً استمراريّاً.

فالأوّل مرفوض جدّاً، فإنّ كثرة الرّماد في البيت لو لم يكن ذمّاً لا يكون مدحاً، مع أنّ القائل بصدد المدح.

والثاني مقبول عند العقلاء وعليه يدور رحى الفصاحة والبلاغة و إلقاء الخطب الرنانّة و إنشاء الكلم اللّذيذة على الأسماع.

المعتزلة بين

التأويل المرفوض و المقبول

إنّ المعتزلة في تفسير الآيات الواردة في مجال الصفِّات بين تأويل مرفوض، وتأويل مقبول. فتارة يؤوّلون الكلام بحجّة أنّه يخالف العقل ولا يذكرون للتّأويل قرينة مقاليّة أو شاهداً من سائر الآيات. وهذا يعرب عن أنّ الغاية منه هو التخلّص من مخالفة النقل مع العقل، وهذا هو التأويل المرفوض، فحاشا أن يكون النقل مخالفاً للعقل. بل المخالفة تتراءى إمّا لعدم تشخيص حقيقة النّقل و تخيّل ما ليس بظاهرها ظاهراً، أو لاشتباه العقل فيما يحكم و يبرم.

وأخرى يؤوّلون معتمدين على القرائن و الشّواهد الّتي تثبت الظهور التصديقي وتوقفنا على أنّ الظهور البدائي أو التصوّري ليس بمراد. وهذا هو التّأويل المقبول،

( 330 )

وإليه الاستناد في تأويل المتشابهات بالمحكمات و تعيين الظهور التصديقي.

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من التأويلين نأتي بمثالين:

1- قول سبحانه: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ) (ص/75).

ترى أنّ القاضي يبادر إلى تأويل الآية بأنّ اليد هنا بمعنى القوّة(1).

يلاحظ عليه: أنّ اليد و إن كانت تستعمل في القوّة والنعمة ، قال سبحانه (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوّاب)(ص/17) فإنّ اليد في هذه الآية مردّدة ابتداء بين النعمة والقوّة والعضو المخصوص، إلاّ أنّ القرينة في الآيات تدلُّ على أنّها كناية عن النعمة أو القوّة، والقرينة عليه ورودها في قصّة داود المشهورة في القرآن. فقد كان ذا نعمة و قوّة، أشار إليهما سبحانه في تلك ا لسورة وقال: (إنّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ...) (ص/19-29) و هذه الآيات قرينة على أنّ اليد إنّما كنّى بها عن النّعمة والقوّة. إلاّ أنّ الآية السابقة تفارق هذه الآية و ليس مثلها وذلك لأجل أمرين:

أوّلاً: إنّ من المعلوم أنّ الخالق لا يخلق

شيئاً إلاّ عن قوّة، فلا معنى لذكرها إلاّ أن تكون هنا نكتة، مثل دفع توهّم العجز في المتكلّم و ليس المقام كذلك كما سيأتي في قوله سبحانه (وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد).

وثانياً : أنّه لو كان المراد منها هو القوّة، فما هو وجه التثنية؟

فلأجل ذلك كان اللاّزم على القاضي و أمثاله، الامعان في الآية حتّى يقفوا على الظهور التصديقي، ليستغنوا به عن مخالفة العقل. فنقول:

إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص، ولكنّها كنّى بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم. فقوله سبحانه: (مَامَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 228.

( 331 )

يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له، بحجّة أنّه لا صلة له بي، مع أنّه موجود خلقته بنفسي، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي و مخلوقي الّذي قمت بخلقه، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فاُطلقت الخلقة باليد و كنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه، وعنايته بايجاده، وتعليمه إيّاه أسماءه، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا ما بنيته بيدي، أو ما صنعته بيدي، أو ربّيته بيدي و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

و نظير ذلك قوله سبحانه: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس/71) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف

المّلاك كأنّها مصنوعة لهم، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.

قال الشريف المرتضى: «قوله تعالى:( لما خلقت بيديّ)» جار مجرى قوله «لما خلقت أنا» و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك، وما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه، ولا ينطق لسانه، ولا تكتب يده، وكذلك في الاثبات، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل»(1).

وأمّا قوله سبحانه (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَ إِنَّا لَمُوسعونَ) (لذاريات/47)، فالمراد من الأيدي هو القوّة و الإحكام، والقرينة عليه قوله: (لموسعون) وكأنّه سبحانه

______________________

1 . امالي المرتضى: ج 1، ص 565.

( 332 )

يقول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة. ومن أراد أن يقف على تأويل غير مقبول في تفسير الآية فعليه أن يرجع إلى كلام الزمخشري في هذاالباب، فإنّ تأويله أردأ من تأويل القاضي، وهو من ذلك العالم البارع الأديب بعيد جدّا(1).

هذا نموذج من التّأويل المردود، وأمّا التأويل المقبول فحدّث عنه ولا حرج، وإليك نموذجاً منه:

2- قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(يونس/3).

وقوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ

مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) (الأعراف/54).

وقد شغل بال المفسّرين و أهل الكلام استواؤه سبحانه على العرش، فأقصى ما عند أهل التنزيه من الأشاعرة أنّه سبحانه مستو على عرشه (جالس أو مستقرّ عليه) ولكن من غير كيف(2).

وأمّا المشبّهة فهم يقولون بالجلوس على العرش على الكيف والتّشبيه.

ولو أنّ القوم تدبّروا في نفس الآيتين الماضيتين والآيات الاُخر(3) التّي ورد فيها قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ)، لوقفوا على أنّ الظهور التصوّري وهو كونه سبحانه ذا سرير متربّعاً عليه، غير مراد قطعاً، إذ لا مناسبة لهذا المعنى مع ما جاء في الآيات من بيان عظمة قدرته وسعة ملكه و تدبيره، وإنّه لا يشذّ عن علمه شيء، بل

______________________

1 . لاحظ الكشاف: ج 3 ص 21.

2 . الابانة: باب ذكر الاستواء على العرش، ص 85.

3 . الرعد / 2، الفرقان / 59، السجدة / 5، الحديد / 5، غافر / 15، طه / 8 باختلاف يسير .

( 333 )

المراد هو الظهور التصديقي، وأنّ الاستواء بمعنى التمكّن والاستيلاء التام، لا الجلوس ولا الاستقرار بعد التزلزل، كما أنّ المراد من العرش، عرش التدبير و عرش الملك لا الّذي يجلس عليه الملوك. وليس هذا شيئاً غير موجود في الأدب العربي بل هو مملوء من هذه المعاني.

أمّا الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولى إمرة العراقين:

قد است_وى بشر على العراق * من غي_ر سي_ف ودم مه_راق

فالحمد للمهيمن الخلاّق

فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار، بل التمكّن والاستيلاء التام والسيطرة على العراقين وكسح كلِّ مزاحم ومخالف.

وقال الطرمّاح بن حكيم:

طال على رس_م مه_دد أب_ده * وعف__ى واست__وى ب_ه بل__ده

والمراد استقام له الأمر واستتبّ.

وقال آخر:

فلمّا علونا

و استوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر و كاسر

هذا حول الاستواء. وأمّا العرش، فالمتبادر منه تصوّراً هو السرير يجلس عليه الملوك، و يدبّرون منه ملكهم و يصدرون الأوامر والنواهي. غير أنّه هناك كناية عن الملك والسّلطة. يقال: ثلّ عرش بني فلان، إذا زال ملكهم. يقول الشاعر:

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم * وأودت كما أودت أي_اد وحمي_ر

فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها، بل كناية عن زوال الملك والسيطرة وانقطاع سلطتهم. والدقة في الآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش يثبت بوضوح أنّ المراد من الآية هو السيطرة والتمكّن على صحيفة الكون

( 334 )

والخلقة، وأنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته و حوزة سلطنته لم تفوّض لغيره، ولأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة قوله: (يدبِّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه) معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة، وذلك لاستيلائه على عرش ملكه. فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره، ومن ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير. كما أنّه سبحانه يذكر بعد هذه الجملة في سورة الأعراف كيفيّة التدبير و يقول: >>ِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) فهذه الجمل تعابير عن تدبيره صحيفة الكون. وكونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة، دليل على أنّه مستول على ملكه، مهيمن عليه، مسيطر على ما خلق ولم يخرج الكون عن حوزة قدرته، ومثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة، فإنّك ترى أنّه جاء في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه. ففيها دلالات على «التوحيد في التدبير» الّذي هو أحد مراتبه.

وأمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس والاستقرار، والعرش بالكرسي الّذي يتربّع

عليه الملوك، يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم، إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي والقيام بهذه التدابير الرفيعة. فإن المصحِّح للتدبير هو السيطرة والهيمنة على الملك وهو لا يحتاج إلى التربّع والجلوس على الكرسي، بل يتوقّف على سعة ملكه و نفوذ سلطته.

وقد قام القاضي بتأويل الآية بمثل ما ذكرنا-بعبارات قليلة-وهو نموذج واضح للتأويل المقبول.

وإذا وقفت على هذا المقياس تقدر على تمييز المقبول عن الزائف في الصفات الخبريّة، وعليك بالآيات الوارد فيها الألفاظ التالية:

الوجه، العين، الساق، مجيئه سبحانه.

وفي الأحاديث المرويّة عن طرق ضعاف ورد: الرجل، والقدم.

فالمعتزلة بل العدليّة عامّة يصفونه سبحانه بكلِّ ما وصف نفسه به. ولكنّ

( 335 )

الاختلاف في تمييز المراد الجدّي عن الصّوري، والظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي. فالمشبِّهة والأشاعرة مصّرون على الأخذ بالأوّل مع أنّ سيرة العقلاء العارفين بالكلام وأساليب البلاغة على الثاني. وعند ذلك لا تجد أيّ مخالفة بين العقل والنّقل الصحيح كالقرآن الكريم. وأمّا الروايات فأكثرها إسرائيليات دسّت في الأحاديث الإسلاميّة من طريق الأحبار والرهبان و نقلها السذّج من أصحاب الحديث زاعمين أنّها حقائق راهنة يلزم الأخذ بها، وقد استوفينا الكلام فيها عند البحث عن عقائد أهل الحديث.

***

ج- نفي الرؤية الحسية

هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات و أحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين و المتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه «شرح الاُصول الخمسة»، و «المغني» على وجه البسط.

يقول القاضي: «وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية، وهذه مسألة خلاف بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا

يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو».

وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول:

استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.

( 336 )

هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال: إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة، وأن يلمس بحاسّة ثامنة، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً(1).

أقول: كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب، خروج عن الموضوع.

وأمّا السمعيّة: فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى: (لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير)(الأنعام/103).

قال: «وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.

ثمّ

قال: فإن قيل: أليس يقولون: «أدركت ببصري حرارة الميل» فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء، و إنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور».

أقول: إنّ العرب في هذا المجال تقول: «أحسست ببصري حرارة الميل» على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم: «مشيت برجلي و كتبت بقلمي» والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة، بل يستوي فيه البصر والسّمع، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.

ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 248 _ 253.

( 337 )

ممتاز، فمن أراد فليرجع إليه(1).

ومن لطيف ما أفاده في المقام، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر»(2). فأجاب عن الاستدلال بوجوه:

الأوّل: إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.

يلاحظ عليه: أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ _ بعد ما رأى القمر _ أنّه رآه، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.

الثاني: أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبدالله البجلي، عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين:

أحدهما: أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال: «منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة

يقول: انفروا إلى بقيّة الأحزاب _ يعني النّهروان _، دخل بغضه على قلبي» ومن دخل بغض أمير المؤمنين _ عليه السلام _ قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله، ولا يحتجّ بخبره.

وثانيهما: قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.

الثالث: إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.

ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 248 _ 253.

2 . صحيح البخاري، كتاب المواقيت، الباب 16، الحديث 26 ج 1 ص 111، وباب الاذان وغيره.

3 . شرح الاُصول الخمسة: ص 269.

( 338 )

الاجابة عن الشّبه الثلاث

إنّ للمثبتين، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث:

الأولى:إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه، قال إنّه يراه غيره.

يلاحظ عليه: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.

الثانية:إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.

يلاحظ عليه: أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.

الثالثة:إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه، ولا إلى حدوث معنى

فيه، ولا إلى تشبيهه بخلقه.

وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً، أو حالاً في المقابل، وهذه من صفات الأجسام، فيجب أن يكون تعالى جسماً، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (1).

______________________

1 . كان على القاضي و غيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده، ولكنه غفل عن ذلك.

الأصل الثاني العدل

العدل

العدل

هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه، وتمييزه عمّا يجوز، و هذا يهدف إلى أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة و أضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.

وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم، خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وعمّهم بهدايته، بدأهم بالنِّعم و تفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.

ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة، وهو الحجر

الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين، فلو ثبتا بالبرهان العقلي، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي، يقول:

( 340 )

«إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً، ثمّ قد يذكر و يراد به الفعل، وقد يذكر و يراد به الفاعل، فإذا وصف به الفعل، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.

فأمّا إذا وصف به الفاعل، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم:صوم، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح، أو لا يختاره، ولا يخلّ بما هو واجب عليه، وأنّ أفعاله كلّها حسنة، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح»(1).

إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة:

الأوّل: إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.

الثاني: إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.

الثّالث: إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.

أمّا الأوّل: فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة و قال: «إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء، وإنّما تفرق بينهما الحسنة و إلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر».

قال القاضي عبدالجبّار: «ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير و استدلال، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة، كمعرفة قبح الظّلم، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما

تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين»(2).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 301.

2 . المغني: ج 6، ص 20.

( 341 )

توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة، ولولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة، ومثلها الحكمة العمليّة، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.

مثلاً، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب_ «أمّ القضايا» فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة و واضحة عند ذلك العقل، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا: «العدل حسن» و «الظّلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاء الإحسان بالإساءة قبيح». فهذه

القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً، وتدبير المنزل ثانياً، وسياسة المدن ثالثاً، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال

( 342 )

العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة، المشترك بين جميع أفراد الإنسان، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ _ في كونها كمالاً أو نقصاً _ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع، والثاني قبيح كذلك، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.

وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما كذلك.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة، و إلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية و بديهيّة، أو نظريّة و ضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه، أو المطروحة في القضايا البيتيّة و العائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل، أو القضايا المبحوث عنها في

علم السياسة و تدبير المدن، ليست في الوضوح على نمط واحد، بل لها درجات ومراتب.

فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها و يرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.

( 343 )

وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ_ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق و الكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً و إن صدقت أعطيناك درهماً، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه و بغناه عنه(1).

يلاحظ عليه: أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة و الكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته، ومن حقِّ العالم لذاته _ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به(2).

يلاحظ عليه: أنّ كلامه مجمل و لعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء و علّة لصفاتها، والعلم بالعلّة، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.

ولكن التقرير عليل من وجهين:

الأوّل:إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء

الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات، العلم بها.

الثاني: إنّ الحسن والقبح، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال و الأشياء، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه،

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 303.

2 . المصدر السابق: ص 302.

( 344 )

وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما، والله سبحانه عالم بما خلق، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.

فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق، فهي معلومة له بالضرورة، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير) (الملك/14) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.

وأماّ الأمر الثالث: فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه، وكلاهما منفيّان عنه تعالى، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل، كما في غصب الأموال.

يلاحظ عليه: أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.

والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين-على ما عرفت-هو أنّ العقل بما هو هو، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو، حسن أو قبيح، وأنّ

أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعيّة عامّة و متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه، المدرك للفعل ووصفه _ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير

( 345 )

خصوصيّة للفاعل _ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل، لأنّ الظلم قبيح و ممّا يجب التنزّه عنه، ولا يصدر القبيح من الحكيم، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.

وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!

ما يتفرّع على العدل من المسائل

قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث و الأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن:

1- الله قادر على القبيح.

2- أفعال العباد غير مخلوقة فيهم و أنّهم المحدثون لها.

3- الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.

4- قبح التّكليف بما لايطاق.

5- الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.

6- اللّطف واجب على الله سبحانه.

7- حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.

8- ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع و معاجز الأنبياء.

هذه هي المسائل

المبنيّة على العدل، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.

( 346 )

المسألة الاُولى: قدرته سبحانه على القبيح

المسألة الاُولى: قدرته سبحانه على القبيح

قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في (شرح الاُصول الخمسة) فهو رائدنا في هذه المباحث، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر: «المغني» وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً، وقد ردّ عليه القاضي بقوله «إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة»(1).

أقول: إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح، موهون جدّاً، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً، وإلاّ لما وصف بالقدرة، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر، بل كان فاعلاً موجباً، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة، وإليك عناوينها:

1- ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه، قائلاً

بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً، فهو واجب الوقوع، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً، فهو ممتنع

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 314.

( 347 )

الوقوع.

يلاحظ عليه: أنّ معناه نفي القدرة و توصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ(1).

2- ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد، لأنّه إمّا طاعة، أو معصية، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً، أو عاصياً، أو عابثاً.

وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله، والفعلان متّحدان ماهيّة و هيئة، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.

وبعبارة أُخرى: أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى، وعلى هذا فهناك واقعيّتان: الأوّل: الأمر، الثاني، المأتيّ به، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة، وعن الثانية بالعصيان، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه، أو عن عباده، أمرين متباينين.

3- ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد، أو بالعكس.

يلاحظ عليه: أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ

الاعتزال، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني: ص 301 _ 307.

( 348 )

وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين: «الله» و «الإنسان»، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده، ولكنّه باطل، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.

المسألة الثانية: في أنّ أفعال العباد، ليست

المسألة الثانية:

في أنّ أفعال العباد، ليست مخلوقة للّه سبحانه

من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله، لا فعل خالقه.

توضيحه: أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.

ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي:

1- العباد هم المحدثون لأفعالهم، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.

2- من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.

3- من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر و المتولّد، وقال: كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.

4- ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد، فقال: إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.

وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة و مفهوم الكسب في الجزء الثاني،

--------------------------------------------------------------------------------

( 349 )

نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة.

فالمنقول عنهم تفويض، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده، فذواتهم مخلوقة للّه و أفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.

وبعبارة ثانية: العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم و حركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة، مرميّة بهذه العقيدة، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم:

1- قال الأشعري: «زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا، على ثلاث مقالات:

فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل و خالق واحد، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.

وقال بعضهم: هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة، وهذا يستحيل منه.

وقال بعضهم: معنى خالق: أنّه وقع منه الفعل مقدّراً، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق، قديماً كان أم محدثاً»(1).

وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري و غيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.

2- وقال البغدادي: «وقالت المعتزلة: إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم و أنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع و تقدير»(2).

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ص 295 ط 2.

2 . الفرق بين الفرق: ص 114 _ 115.

--------------------------------------------------------------------------------

( 350 )

3- وقال القاضي عبدالجبّار: «ذكر شيخنا أبو عليّ _ رحمه اللِّه _: اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم و

قيامهم و قعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطاؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين»(1).

4- وقال أيضاً: «نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث و إيجاد، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين، أو قديم ومحدث.... و نبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد، والخروج عن الدّين، والتزام جحد الضروريات»(2).

5- قال صدر المتألّهين: «ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد و أقدرهم على بعض الأفعال، وفوّض إليهم الاختيار، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم و طبق إرادتهم»(3).

وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة، تحاول أن ترميهم بالتّفويض و إن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور:

1- لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر _ عليه السلام _ كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان (ت86ه_)، من عامله في المدينة، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق _ عليه السلام _ . فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري، فقال للإمام: سل عمّا شئت. فقال: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها... حتّى بلغ قول الله تبارك و تعالى: (إيّاك نَعْبُدُ وَ

______________________

1 . المغني: ج 6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1.

2 . المغني: ج

6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1.

3 . رسالة خلق الأعمال.

--------------------------------------------------------------------------------

( 351 )

إِيَّاكَ نَسْتَعِين) فقال له جعفر _ عليه السلام _: قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري(1).

2- تضافر عنهم _ عليهم السلام _ التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه:

سأل محمّد بن عجلان الصّادق _ عليه السلام _ أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال: فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه»(2).

3- تضافر عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ قولهم: «لا جبر ولا تفويض» وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل، وأواسط القرن الثاني.

4- إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار، أو هم غيرهم، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.

أمّا ما نقلناه من «المغني» فهو محتمل الوجهين، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم و أعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله: «لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم»، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد: «وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها و محدثها، فقد عظم خطاؤه و أحالوا حدوث فعل من فاعلين».

فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث و الأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم و غناهم عن الواجب في أعمالهم.

______________________

1

. بحار الأنوار: ج 5، ص 55 _ 56.

2 . المصدر نفسه: ص 51.

--------------------------------------------------------------------------------

( 352 )

وبعبارة ثانية: كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين: كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة و بلا واسطة، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.

نعم، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم و أهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض و الاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.

5- إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر و كون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به، فلا تثبته أدلّته، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال:

الأوّل : قال: «والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه و نذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر، لما وجب هذا الفصل»(1).

الثاني : قال: «لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول و إبليس، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس»(2).

الثالث : قال: «يلزم قبح مجاهدة الكفّار، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه، فالجهاد لكم أولى و

أوجب، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا...فذلك جهاد لا معنى له»(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.

2 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.

3 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 336.

--------------------------------------------------------------------------------

( 353 )

إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.

6- إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب، وواقعيّة العلل و المعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب و يعتمد عليه.

وبعبارة ثانية: كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث: التصور، والدلالة، والتحقّق في الخارج، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته و أفعاله، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.

هذا، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً و عقلاً في أبحاثنا الكلاميّة(1).

7- هنا مسألتان:

الاُولى: هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟

الثانية: هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط، أو في حدوثهم و بقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.

قال الشيخ الرئيس في إشاراته: «وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل، حتّى

إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى

______________________

1 . لاحظ «الالهيات في الكتاب والعقل والسنة» الجزء الثاني 321_ 331.

--------------------------------------------------------------------------------

( 354 )

العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل و حصل له الوجود عن العدم، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل»(1).

أقول: ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه، فمن قال بالثاني، صوّر الممكن غنياً في بقائه _ فضلاً عن فعله _ عن الواجب. ومن قال بالأوّل، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً و بقاءً و ذاتاً و فعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.

ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان، و هو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً، فكيف بأفعاله، فانتظر.

8- الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال: «إنّ الله عدل كريم _ إلى أن قال: _ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، و تعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.

وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة، وبه تواترت

الآثار عن آل محمّد _ عليهم السلام _ وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها و أتباعه. وهو قول كثير من المرجئة، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة، و نفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامّة و بقايا ممّن عددناه»(2).

وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر و التفويض

______________________

1 . الاشارات، للشيخ الرئيس: ج 3، ص 68.

2 . أوائل المقالات: ص 24 _ 25.

--------------------------------------------------------------------------------

( 355 )

معاً.

9- يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال: «الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه، والامتناع من وجوده فيه.... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة و أصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك... إلى آخر ما أفاده»(1).

10- هل يصحّ إطلاق «الخلق» في مورد فعل الإنسان، أو يختصّ «الخلق» بفعل الله سبحانه؟

لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق، وأنّه خلق السّموات و الأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول: «خلق القيام والقعود» أو إذا أكل و شرب هل يصحّ لنا أن نقول: «خلق الأكل و الشرب» أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.

والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير

بالكسب والفعل. قال سبحانه: (لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(البقرة/286).

وقال تعالى: (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النمل/33).

وقال سبحانه: (لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ) (الصف/2).

فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب و الفعل، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل و الشرب.

______________________

1 . شرح عقائد الصدوق، ص 14 _ 15.

--------------------------------------------------------------------------------

( 356 )

وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال: «خلق الفعل و العمل» فليس بمعهود، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه «خلق الأعمال».

قال الشيخ المفيد: «إنّ الخلق يفعلون، و يحدثون، ويخترعون، ويصنعون، ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة، والزيديّة، والبغداديّين من المعتزلة، وأكثر المرجئة، وأصحاب الحديث، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة، و أطلقوا على العباد أنّهم خالقون، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين»(1).

أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد، قال سبحانه: (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً و تَخْلُقُونَ إِفْكاً)(العنكبوت/17) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.

قال في اللّسان: «الخلق: الكذب. وخلق الكذب والإفك: افتراه، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه: (وتخلقون إفكا) و منه أيضاً قوله سبحانه: (إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين) أي كذب الأوّلين(2).

نعم، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير، خاطبه سبحانه بقوله: (وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي) (المائدة/110)

وعليه يحمل قوله سبحانه: (فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ)(المؤمنون/14).

وأمّا في غير هذه الصورة، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي و القعود،

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 25.

2 . لسان العرب: مادة خلق.

--------------------------------------------------------------------------------

( 357 )

فلم يعهد توصيفه بالخلق، وإنّما حدث هذا الاصطلاح (أي خلق الأفعال و الأعمال) في أواخر القرن الأوّل و أوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.

هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة، فالظاهر من «اللّسان» التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه، والخلق بمعنى التّقدير، والأوّل يختصّ بالله سبحانه، والثاني يعمّه و غيره، وعليه حملوا قوله سبحانه: (أحسن الخالقين) (أي المقدّرين).

قال في اللّسان: «الخلق بمعنى التقدير، وخلق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه»(1).

ولأجل ذلك، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال: هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط، أو إلى العباد فقط، أو إليهما معاً، أو ما يشبه ذلك؟

11- إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.

وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين، أمّا الجبر _ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب _ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب، وكيف يمكن أن يكون الأكل، والشرب، والمشي، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.

وأمّا التفويض _ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل

والعمل _ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد، والشرك في الفاعليّة.

______________________

1 . لسان العرب: مادة خلق.

--------------------------------------------------------------------------------

( 358 )

فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل، والكتاب، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.

12- إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :

ألف - كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!

ب - لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.

مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث

إنّ هذا الأصل (كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد، بل و آثار كلِّ الكائنات، باطل من وجوه:

الوجه الأوّل: إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين،وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه و مثل هذا، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه، و يقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً، فتوجده ثالثاً، فيتحقّق الوجود رابعاً، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط

الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر (تصوّر)، فاحتاج، فأُوجد، فوجد، فحدث.

--------------------------------------------------------------------------------

( 359 )

وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء (الماهيّة) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين و تخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.

فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة، دون حدوثه، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول: إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته، يحتاج إلى علّة، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.

ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني(1296 _ 1361) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :

والافتقار لازم الامكان * من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقا * في لازم الذّات ولن يفترقا

الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه و أبعاضه، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة،

حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية، فالتّفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.

وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة، في تبدّل

--------------------------------------------------------------------------------

( 360 )

مستمرّ و تغيّر دائم، نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادّي، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء و سيلانه، فهناك صور مستمرّة.

وعلى ضوء هذه النظرية، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة، فإذا كان هذا حال العالم المادّي، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم، ومنه الإنسان، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء و ثبات، بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال و التبدّل والسيلان (وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(النمل/88)(1).

الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول و نسبته إلى علّته، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر، والدّلالة، والتّحقق، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.

فإذا كان هذا حال المقيس عليه

فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب، أو ممكن، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً، فثبت الثاني، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (أي الامكان). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.

______________________

1 . البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب (الله خالق الكون: ص 514 _ 560) تجد فيه بغيتك.

--------------------------------------------------------------------------------

( 361 )

نعم، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها، والارادة الّتي توجدها في موطنها، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

وأمّا الفاعل الطّبيعي، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق، فخارج عن إطار بحثنا، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة و الكيميائيّة، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط و خصوصيات توجب التبدّل، و ليس هناك حديث عن الايجاد و الاعطاء.

وعلى ذلك فالتّفويض-أي استقلال الفاعل في الفعل-يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين:

الاُولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.

الوجه الرابع: إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان، والاُخرى الإنسان بل كلّ

الكائنات، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً، وتأثيراتها ثانياً.

فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة (غناء الممكن في بقائه عن العلّة)، بالأمثلة المحسوسة، منها: بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع، ولكنّ

--------------------------------------------------------------------------------

( 362 )

التّمثيل في غير محلّه، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة _ لو صحّت النسبة _ قياس غير تامّ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين:

الأوّل: إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب، كمثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة، من المولّد الكهربائي، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه،

لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن، وزماناً بعد زمان.

الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها، وإفاضته بما يشبه الرذاذ(1)، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها، ولو انقطع لحظة ساد

______________________

1 . المطر الضعيف

--------------------------------------------------------------------------------

( 363 )

عليها الجفاف، وصارت يابسة.

فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين

قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (1) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.

وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته «المغني» بالجبر والاختيار، وأسماه «المخلوق» ويشتمل على عشرين فصلاً، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم، وردّ على شبهاتهم.

وقد عقد فصلاً خاصّا(2) لهذا الأمر، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟

فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة، وتصير علّة ناقصة.

لأنّ المقدور بعد التحقّق

إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير و دخالة، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة، والقادر التامّ إلى القادر غير

______________________

1 . لاحظ ص350 من هذا الجزء.

2 . المغني: الجزء 8، ص 109 _ 161.

--------------------------------------------------------------------------------

( 364 )

التامّ وهو خلف الفرض، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.

وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى، وهذا هو المطلوب.

وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما، فكيف خرج عن كتم العدم، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.

وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.

واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين، فإنّ قدرة الله سبحانه و قدرة العبد ليستا في عرض واحد، بل الثانية في طول الاُخرى، فهو الّذي خلق العبد، وحباه القدرة، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن و حين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب، جنوده و قواه، بين فاعل بالاختيار، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد، كما أنّ له صلة بالله سبحانه و قدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.

إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين و زعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر، والآخرى إلى التفويض.

1- صلة الفعل بالله سبحانه و انقطاعه عن العبد، فعند ذاك يقال: فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟

2- نسبة الفعل إلى العبد و انقطاعه

عن بارئه، فيسأل: هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟

فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه و صوّروا العبد محلاً لارادته و قدرته سبحانه، من دون أن يقميوا لإرادة العبد و قدرته و زناً وقيمة.

--------------------------------------------------------------------------------

( 365 )

والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.

ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين و يجمع مزيّتهما، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين، فللفعل صلة لخالق العبد، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال و يعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.

المسألة الثالثة: في تقدّم الاستطاعة على الفعل

المسألة الثالثة: في تقدّم الاستطاعة على الفعل

اختلفت المعتزلة والأشاعرة في تقدّم القدرة على المقدور، فالطّائفة الاُولى على لزوم تقدُّمها عليه والثانية على لزوم المقارنة بينهما.

وكان الأولى البحث عن هذه المسألة فى باب القدرة. غير أنّ القاضي طرحه في باب العدل و قال: «ووجه اتّصاله به أنّه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور، تكليف ما لا يطاق و ذلك قبيح، ومن العدل أن لا يفعل القبيح».

ثمّ استدلّ على مذهبه بوجهين:

الأوّل: لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق، إذ لو أطاقه لوقع منه، فلمّا لم يقع دلّ على أنّه كان غير قادر عليه. وتكليف ما لا يطاق قبيح.

الثّاني: إنّ القدرة صالحة للضدّين، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضّدّين، فيجب في الكافر وقد كلّف بالإيمان، أن يكون كافراً مؤمناً دفعة واحدة، وذلك محال(1).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 396.

(

366 )

يلاحظ على الاستدلال الأوّل: أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف، فقدان القدرة والطّاقة، إذ لو كانت لآمنت، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.

هذا، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور، ولا يستكشف من عدمه عدمه، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.

فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.

ويلاحظ على الثاني: أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول: إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً و كافراً.

وبالجملة: كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.

والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين، إذ لم ينقّح موضوع البحث، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل، والعلّة التامّة فمقارنة له(1).

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا: ص 172.

المسألة الرابعة: في قبح التكليف بما لا يطاق

المسألة الرابعة: في قبح التكليف بما لا يطاق

القول بجواز التّكليف بما لا يطاق نشأ من المسألة السابقة. ولو كانت السابقة

منقّحة من حيث الموضوع والحكم، لما اندفعت الأشاعرة إلى اختيار الجواز في هذه المسألة الّتي يشهد العقل السّليم بقبحه أوّلاً وعدم إمكانه ثبوتاً ثانياً، إذ كيف يريد الإنسان بالارادة الجدّيّة الركض من الفالج، والنّكاح من الطّفل الرضيع؟

ولكنّهم لمّا فسّروا القدرة بالعلّة التامّة من جانب، واعتقدوا بلزوم اقترانها بالمقدور من جانب آخر، واستنتجوا من عدم الاعتناق عدم القدرة، فلزمهم عند تكليف الكفّار بالإيمان وعدم اعتناقهم، القول بجواز التّكليف بما لا يطاق، وإنّه كان هناك تكليف للكافر، ولم تكن له طاقة، وذلك لأنّه لو كانت له طاقة لآمن قطعاً. فبقاؤه على الكفر يكشف عن عدم قدرته، إذ لو كانت لآمن قطعاً لحديث امتناع الانفكاك. فينتج أنّ التّكليف كان موجوداً ولم يكن هناك قدرة.

غير أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده، لو فسّروا القدرة الّتي هي من شرائط التّكليف بمعنى العلّة الناقصة والاقتضاء، لما لزمهم الالتزام بهذه النّتيجة الفاسدة، حتّى ولو قالوا بلزوم الاقتران. ففي مورد أبي جهل و أبي لهب كان هناك تكليف أوّلاً، وطاقة بمعنى الاستعداد والاستطاعة على نحو لو أراد كلّ لآمن ثانياً، وكانت القدرة بهذا المعنى مقارنة للتّكليف ثالثاً. ولكن عدم إيمانه و إصراره على الكفر، لايكشفعنفقدان الشّرط، لأنّ الاستطاعة بمعنى الاقتضاء أعمّ من تحقّق المعلول معها وعدمه.

والعجب أنّ هؤلاء استدلّوا بآيات على ما يتبنّونه من جواز التّكليف بالقبيح. وبذلك عرّفوا الإسلام والقرآن مناقضين للفطرة و حكم العقل و إدراك العقلاء-أعاذنا الله من سوء الموقف.

( 368 )

وبما أنّ الاجابة عن الاستدلال بالآيات واضحة، طوينا الكلام عن استدلالاتهم، روماً للاختصار ولما سبق منّا في الجزء الثاني في تحليل عقائد الأشعري(1).

--------

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.

المسألة الخامسة: في أنّ الله لا يريد المعاصي

المسألة الخامسة: في أنّ الله لا يريد

المعاصي

ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة(2).

المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح و يسري إلى الفاعل، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّبّ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.

وقد نقل التفتازاني في «شرح المقاصد» أنّه دخل القاضي عبد الجبّار (ت415ه_) دار الصاحب بن عبّاد (ت385ه_) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني (ت413ه_)، فقال القاضي: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء) فأجابه الاسفرائيني بقوله: «سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته»(3).

لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية (التّنزيه و التّعظيم) يحصل برفض القولين، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين، وأمر

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 431.

3 . انظر شرح المقاصد: ج 2، ص 145.

( 369 )

بين الأمرين.

وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ ويوافقه العقل و تؤيّده نصوص الكتاب، وهو جامع بين المزيّتين و منزّهٌ عن شناعة القولين.

فالمعتزلة، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته و سلطنته وملكه، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته، ويعمل

بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.

والأشاعرة، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه و سلطنته، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه و غيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.

وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم و شعور، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ و حرّيّة فطريّة.

وباختصار، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله و عمله. فإذا اختار و فعل فقد فعل بارادته، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته و اختياره، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة(1). فلاحظ.

وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي (المتوفى عام 786ه_) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر، يقرب ممّا ذكرناه، قال (قدّس سرّه):

______________________

1 . لاحظ: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل، ص 632، والجزء الثاني من هذه الموسوعة، ص 302.

( 370 )

«أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر و نقصانه بسبب

من الأسباب؟».

ثمّ أجاب وقال: «إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر، علم ارتباطه بسببه المخصوص، وكما علم من زيد دخول الجنّة، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة، من إيجاده، وخلق العقل له، وبعث الأنبياء و نصب الألطاف، وحسن الاختيار، والعمل بموجب الشّرع، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به، ولا يتّكل على العلم، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.

وبالجملة: جميع ما يحدث في العالم، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة»(1).

ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه (قدّس الله سرّه) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله «جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده .. وحسن الاختيار» وقوله: «جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه ...».

المسألة السادسة: في وجوب اللّطف

المسألة السادسة: في وجوب اللّطف

اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف(2) على الله سبحانه، وخالفتهم الأشعريّة وبشر

______________________

1 . القواعد والفوائد: ج 2، ص 56، القاعدة 163.

2 . المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة، أو الجود والكرم، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة، تحصيلاً لهدف الخلقة، أو هدف التكليف، أو من باب الجود والكرم، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.

( 371 )

ابن المعتمر من معتزلة بغداد، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:

الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و أقسامه.

إنّ اللّطف، في اصطلاح المتكلّمين، يوصف بوصفين:

1- اللّطف المُحَصِّل.

2- اللّطف المُقَرِّب.

وهناك مسائل

تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني .. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.

1-اللُّطف المحصِّل

اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللّغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغاً عن الغاية، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث، وذلك كبيان تكاليف الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.

ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله، والاستغناء عن التّعليم السماوي.

و وجوب اللّطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل(1). وإنّما الكلام في «اللّطف المقرِّب»، وإليك البيان فيه:

______________________

1 . لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.

( 372 )

2_ اللُّطف المقرِّب

اللّطف المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد، والتّرغيب و التّرهيب، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، وبعده عن المعصية(1).

وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك

وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.

والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف (لا غرض الخلقة) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.

مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل _ وان كانوا قادرين عليها _ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد، والتّرغيب والتّرهيب، وجب على المكلِّف القيام بذلك، صوناً للتّكليف عن اللّغوية، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.

وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:

______________________

1 . عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة، ولا يبلغ حدّ الالجاء.

فخرج بالقيد الأوّل (لم يكن له حظ...) اللطف المحصّل، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة.

وخرج بالقيد الثاني (لا يبلغ حدّ الإلجاء) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف (لاحظ: كشف المراد، ص 201، ط صيدا).

وقال القاضي عبد الجبار: «اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح» (شرح الاصول الخمسة: ص 519).

( 373 )

(وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون)(سوره الأعراف/168)

والمراد من الحسنات والسّيئات، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.

و يقول سبحانه: (وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون)(سوره الأعراف/94) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف، ومفاد الآية أنّ الله تعالى

أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال (اللّطف المحصِّل)، غير أنّ الرّفاه و الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.

ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا _ مضافاً إلى ذلك _ مبشِّرين و منذرين، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرين و مُنذِرينَ)(سورة النساء/165) و الإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.

وفي كلام الإِمام عليّ _ عليه السلام _ إشارة إلى هذا:

قال _ عليه السلام _: «أيّها الناس، إنّ الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي(1)، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك ... الخ»(2).

وقوله _ عليه السلام _: «والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد» إشارة إلى أنّ

______________________

1 . هذا إشارة إلى اللطف المحصل.

2 . بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الباب الخامس عشر، الحديث 13، ص 316.

( 374 )

امتثال الأمر و النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس، يتوقّف على الثّواب والعقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى، لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.

فتحصّل من ذلك أنّ ما هو

دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.

نعم، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.

وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام، أو سقمه.

استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله: «إنّه تعالى كلّف المكلّف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره، فإنّه يجب عليه أن يبعث، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك هيهنا»(1).

قال الشّهرستاني: «اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه، رؤوفاً بخلقه، ناظراً لعباده، لا يرضى لعباده

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 521.

( 375 )

الكفر، ولا يريد ظلماً للعالمين، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا

فعل بهم، أتوا بالطّاعة والصّلاح»(1).

وقال العلاّمة الحلي: «إنّ المكلِّف _ بالكسر _ إذا علم أن المكلّف _ بالفتح _ لايطيع إلاّ باللّطف، فلو كلّفه من دونه، كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض»(2).

وقال الفاضل المقداد: «إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدّم، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.

ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله، من إرسال رسول، أو نوع، أدب، أو بشاشة، أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض باطل، لأنّه نقص، والنّقص عليه تعالى محال، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة»(3).

وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.

هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف، وهو على إطلاقه غير تامّ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين، فيجب من

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 107.

2 . كشف المراد: الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة،

ص 325، ط قم 1407.

3 . ارشاد الطالبين: ص 277 _ 278.

( 376 )

باب الحكمة، وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.

واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: «لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى»(1).

يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.

يقول القاضي عبد الجبّار: «إنّ العباد على قسمين، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح، أو يكون أقرب إلى ذلك، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً»(2).

ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.

قال سبحانه: (وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون)(3).

وقال سبحانه: (ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك)(4).

وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب، من شؤون الحكمة،

فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 523.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 520.

3 . سورة يونس: الآية 101.

4 . سورة البقرة: الآية 145.

( 377 )

أوضح من القول به في المقرِّب.

ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم، قال: «إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة، أو غرض التّكليف، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين، كما عرفت.

ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس، من حاكميّة العباد على الله، مع أنّ له الحكم والفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا-بدليل عقليّ قاطع-أنّه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.

المسألة السابعة: في حدوث كلامه تعالى

المسألة السابعة: في حدوث كلامه تعالى

من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم و غير المخلوق، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث

الطارئ على صفاته مثل التكلّم.

ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 25 _ 26.

( 378 )

كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم، خرجوا عن منهجهم السّابق _ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر _ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم (خلق القرآن) بالقوّة والاكراه، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.

هذا من جانب و من جانب آخر، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة، و قد استبطلته المعتزلة و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم اُموراً:

1- مسلك أهل الحديث

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله، ولا عن أصحابه، ومع الأسف كان موقفهم _وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل _ موقف الايجاب وتكفير المخالف.

يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب «السنّة»:

«والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه، فهو جهميّ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو

( 379 )

مثلهم»(1).

إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.

2- النّصارى و قدم الكلمة

إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : «وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله»(2).

قال أبو العبّاس البغوي: «دخلنا على «فثيون» النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله) فقال: «رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن»(3).

قال أبو زهرة: «إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس

بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا:لا، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:

______________________

1 . كتاب السنّة: ص 49.

2 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 198، حوادث سنة 218.

3 . فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.

( 380 )

قديمة، ادّعى أنّ عيسى قديم»(1).

وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب «المعتزلة» من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه، وصنّف في خلق القرآن(2).

هذا، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة(3).

وعلى كلِّ تقدير، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.

إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:

أ-إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و مشحون بالعداء، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب- لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ، أو النّبي الأكرم، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.

يقول القاضي: «ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف، غير

مخلوق ولا محدث، بل قديم مع الله تعالى».

وقال ابن قتيبة: «اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2، ص 394.

2 . المعتزلة: ص 22، زهدي حسن جار الله.

3 . اليهودية: ص 222، تأليف أحمد شلبي، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص 153.

( 381 )

اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال _ مقروءاً و مكتوباً ومسموعاً و محفوظاً _ غير مخلوق»(1).

وذهبت الكلابيّة(2) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.

وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً و دالاً على نبوّته، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام واستوجب منّا بذلك الحمد و الشّكر والتّحميد والتّقديس، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه و إن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن(3).

3- استدلالهم على حدوث القرآن

إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها، ثمّ حدوث السين كذلك، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان

مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.

وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.

______________________

1 . تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 16 طبع دار الجيل، .

2 . المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب، وله مع عباد بن سليمان مناظرات، وكان يقول: إنّ كلام الله هو الله، وكان عباد يقول: إنّه نصراني بهذا القول: فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.

3 . شرح الاُصول الخمسة: ص 528.

( 382 )

ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات:

1- (وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث)(الأنبياء/2) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله: (إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ و إنَّا لَهُ لَحَافِظُون). فقد وصفه بأنّه محدث، ووصفه بأنّه منزّل، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر، لأنّه قال: (وإنّا له لحافظون) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.

2-(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ)(هود/1).

بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه، ثمّ وصفه بأنّه كتاب، أي مجتمع من كتب، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.

3- (اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ)(الزمر/23).

وصفه بأنّه «منزّل» أوّلاً، ثمّ قال: «أحسن الحديث». وصفه بالحسن، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه «حديث» وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه «كتاباً»، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال: «متشابهاً» أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً(1).

4- محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم

ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة _

الّتي صارت متروكة و مندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتين_ بالتّفريق بين القدم و عدم المخلوقيّة و قال:

«وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة، ولا التّابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال «هو قديم»، عبدالله بن سعيد بن

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 532.

( 383 )

كلاب»(1).

ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة و القدم، كالتّفريق بين المترادفين مثل «الإنسان» و«البشر» فكما لا يصحّ أن يقال: هذا بشر لا إنسان، فهكذا لا يصحّ أن يقال: «القرآن غير مخلوق و لكن ليس بقديم» لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.

أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا: إنّ القرآن كلام الله قديم(2).

فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله، حيث قال: «وما تكلّم الله به فهو قائم به، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة، أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ»(3).

إنّ القول بقدم موادِّ القرآن _ أعني حروف المعجم _ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها، كما أنّ الماهيّات بنوعها، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة و إنّما تتشخّص بالوجود، وتتحقّق بالكينونة، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً و هو حادث قطعاً حسب ما

اعترف به.

هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم، وليس شيئاً غيره.

______________________

1 . مجموعة الرسائل: ج 3 ص 20.

2 . المنتظم في ترجمة الأشعري، ج 6، ص 332.

3 . مجموعة الرسائل: ج 3، ص 45.

( 384 )

ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.

5- نقد أدلّة القائلين بالقدم

إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن و يقول: «وللمخالف في قدم القرآن شبه، من جملتها:

الشبهة الأولى: قولهم: قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل: الله تعالى. قالوا: والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول: تالله و والله. وهكذا يقول: بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ و الأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد:

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما * ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

أي السّلام عليكما.

وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال: طلّقت زينب، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك».

وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى و إلاّ فمن قال: ناراً، يجب أن يحترق فمه.

وعلى هذا قال بعضهم:

لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه * لما تف_وّه باس__م النّ__ار مخل__وق

فكيف يكون الاسم و المسمّى واحداً، مع أنّ الاسم عرض و المسمّى جسم؟.

أقول: يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور:

1- إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه و باطل

على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه

( 385 )

بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم، وليست ذاته شيئاً و عالميّته شيئاً آخر، ولأجل ذلك، الاسم هو واقعيّة العالميّة، ولفظ (العالم) إسم للاسم.

وإن أرادوا اتّحاد لفظ (العالم) الّذي حدوثه ذاتيّ، و تدرّجه عين تحقّقه، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.

2- إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث، و ينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه و طاعته و عصيانه، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.

فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.

3- إنّ الحلف في قول «تالله» و «والله»، واقع على الاسم لا على المسمّى، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه، غاية الأمر اللّفظ طريق و مرآة إلى المسمّى، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه، لا مصداقه و ذاته مباشرة، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد و تصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم، يكون الحلف في قوله «باسم الله» أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف

واقع على الاسم، دون المسمّى، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم، على أنّ الاسم هو المسمّى و يستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم و منه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.

إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم، والفكر

( 386 )

الصحيح، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث و أهل السنّة، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة: «إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج»(1).

يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً و كتب عليه «الله». قال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله و تدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده و كتب بجنبه: «الله» آخر. فقال للحنبليّ: أيّهما الله إذن؟-فانقطع المدبر(2).

فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه و كثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.

الشبهة الثانية: إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى: (ألا لَهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ) (الاعراف/54) قالوا: إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق(3). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.

وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامّ، مثل قوله سبحانه: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ)(الرحمن/68).

ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.

أمّا نقضاً فبقوله سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي)(الإسراء/85).

فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق و قديماً.

وأمّا حلاّ ً فبوجهين:

أ _ المراد من الخلق هنا هو التّقدير، قال في اللّسان: «الخلق: التقدير، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً:

قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً:

______________________

1 . المقالات: ص 290. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى، فراجعه.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 544.

3 . المصدر نفسه

( 387 )

ولأن__ت تَف__ري م__ا خلق__تَ * و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري(1).

والمراد من الأمر هو الايجاد، لقوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(يس/82). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات و الأرض و ما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً و الشَّمسَ والقَمَرَ و النُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِهِ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين)(الأعراف/54).

فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة، رهن التّقدير و الايجاد، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين، و عندئذ لا صلة لكلمة الأمر، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.

ب- المراد من الخلق هو الايجاد، كما هو الشائع، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. و يشهد له قوله قبل ذلك: (مسخّرات بأمره) أي مسخّرات بسننه و قوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق و التّدبير بالسنن له سبحانه، لا يشاركه فيهما شيء.

ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ «الألف واللام» في «له الأمر» إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي: (مسخّرات بأمره) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن و قوانين على عالم الخلق.

الشبهة الثالثة: إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق، ولهذا

يقال: قصيدة مخلوقة و مختلقة، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.

قال سبحانه: (إن هذا إلاّ خلق الأوّلين) (الشعراء/137).

وقال سبحانه: (إن هذا إلاّ اختلاق) (ص/7).

والإجابة عنه واضحة، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً، كونه مخلوقاً لله سبحانه.

______________________

1 . لسان العرب: مادة «خلق».

( 388 )

ويشهد له أنّه سبحانه وصفه ب_ «أنزله»، و «جعله»، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.

واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب و الاختلاق لا يغيِّر الواقع، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة و التّابعين والمسلمين، شيء موجود و لا بدّ له من محدث و خالق، و خالقه هو الله سبحانه.

قال المفيد _ رحمه الله _: «إنّ كلام الله تعالى محدث، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد _ عليهم السلام _ والمراد أنّ القرآن كلام الله و وحيه و أنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ»(1).

والحاصل إنّ إطلاق لفظة «الخلق» على القرآن، لم_ّا كان موهماً لكونه كذباً و مختلقاً، منع من إطلاقه في هذا المقام، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ «محدث». وأنّه كلام الله و كتابه و تنزيله، مما يفيد أنه غير أزليّ، وليس بقديم. فإذن، يكون من قبيل:

عباراتنا شتّى' و حسنك واحد * وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن _ لصدّ استغلال الملاحدة _ في (توحيد الصّدوق)(2).

هذا، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه و قال:

«فان قيل: أليس قوله تعالى' «و تخلقون إفكاً» أريد به كونه كذباً فما أنكرتم، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً...

أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب، و على هذا الوجه يقول القائل: خلقت حديثاً و اختلقته»(3).

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 18 _ 19.

2 . لاحظ: توحيد الصدوق، باب القرآن، الأحاديث 2 و 3 و 4 و 5، ص 221 _ 222.

3 . المغنى: أبواب التوحيد والعدل، ج 7، ص 216 _ 217.

( 389 )

ولكنّ الإجابة عنه واضحة، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً، أو إنّه غير قديم.

والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.

وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان، فيلزم فناء القرآن و موته مع أنّه سبحانه يقول: (إنّا نحن نزّلنا الذِّكر و إنّا له لحافظون)(1).

الشّبهة الرابعة: إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ «كن»، يقول: (إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس/74) و يقولون لو لم يكن هذا ال_ «كن» قديماً، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ ب_ «كن» آخر. والكلام في ذلك ال_ «كن» كالكلام فيه، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له(2).

وأجاب عنه القاضي: ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف و النّون، إذ لا شكّ في حدوثه، فيجب أن يكون المراد هو الارادة(3).

ثمّ قال: «والغرض من هذه الآية و ما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع، نظيرها قوله تعالى: (وقال لها و للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً)(فصلت/11). ومنه قول الشاعر:

و قالت له العينان سمعاً و طاعة * وحدرت__ا كال_دُّرّ لم_ّا يثقّ__ب

والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة «كن»، أنّه ليس

في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه

______________________

1 . المغنى: ج 7، ص 121 وهو أيضاً كما ترى.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 560.

3 . المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته، وهو كما ترى.

( 390 )

مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.

وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.

قال سبحانه: (وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر) (القمر/50) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته و مشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده و ليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء، بل يحتاج إلى مقدّمات و أسباب.

المسألة الثامنة: ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و

المسألة الثامنة: ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و معاجز الأنبياء

إنّ القاضي رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل زعم أنّها من نتائج القول به، وبما أنّ الاختلاف فيها بين المعتزلة و غيرهم بسيط، نكتفي بإيرادها إجمالاً:

1- بعث الأنبياء: قال: «ووجه اتّصاله بباب العدل هو أنّه سبحانه إذا علم أنّ صلاحنا يتعلّق بالشّرعيات، فلا بدّ من أن يعرِّفناها، لكي لا يكون مُخلاًّ بما هو واجب عليه، ومن العدل أن لا يخلّ بما هو واجب عليه».

2- لزوم اقتران النبوّة بالمعجز: قال: «إذا بعث إلينا رسولاً ليعرِّفنا المصالح، فلا بدّ من أن يدّعي النبوّة و يظهر عليه العلم المعجز الدّالّ على صدقه عقيب دعواه النُّبوة».

ثمّ فصّل حقيقة المعجز.

يلاحظ عليه: إنّ مقتضى العدل بعث الأنبياء بالدّلائل و البيّنات المثبتة لدعواهم النّبوّة، ولا تنحصر البيّنات بالمعجزات، بل المعجز

إحدى الطّرق إلى التعرّف على صدق النّبي. وهناك طريقان آخران نشير إلى عنوانيهما:

أ-تصديق النبّيّ السابق (الّذي ثبتت نبوّته قطعيّاً) نبوّة النّبىِّ اللاّحق.

( 391 )

ب- جمع القرائن والشّواهد الّتي تدلّ على صدق دعواه صدقاً قطعيا(1).

3- صفات النّبي: يقول: «الرّسول لا بدّ أن يكون منزّهاً عن المنفِّرات جملة، كبيرة أو صغيرة، لأنّ الغرض من البعثة ليس إلاّ لطف العباد و مصالحهم. فلا بدّ من أن يكون مقبولاً للمكلّف.

ثمّ جوّز صدور الصّغائر عن الأنبياء الّتي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثّواب دون التنفير...، لأنّ قلّة الثّواب ممّا لا يقدح في صدق الرُّسل ولا في القبول منهم»(2).

يلاحظ عليه: أنّ صدور الذّنب من النّبي يوجب زوال الثّقة بصدق قوله، فيقال: لو كان صادقاً فيما يرويه فلماذا يتخلّف عنه.

4- نسخ الشرائع: فقد ذكر جملة من الأدلّة على جواز النّسخ في الشّرائع وطرح القول بالبداء و بيّن الفرق بينه و بين النّسخ.

5- نبوّة نبيّ الإسلام و دلائل نبوّته وأنّ القرآن معجز: ثمّ بسط الكلام في إعجاز القرآن إلى أن وصل بحثه إلى القول بالتّحريف في القرآن.

ومن أعجب ما أتى به قوله إنّ الإماميّة جوّزوا فى القرآن الزّيادة و النّقصان حتّى قالوا: إنّ سورة الاحزاب كانت بحمل جمل، وإنّه قد زيد فيها، ونقص، وغيِّر و حرِّف(3).

أقول: غاب عن القاضي أنّ الإماميّة على بكرة أبيهم لم يصدر منهم هذا الكلام الرّكيك.

نعم، روى القرطبي عند تفسيره سورة الأحزاب من عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مائتي آية، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن(4).

تمّ الكلام حول الأصل الثّاني والفروع الّتي تترتّب عليه.

______________________

1 . قد فصلنا تلك الطرق في بحوثنا

الكلامية لاحظ الالهيات ج3 ص 61_114.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 574 _ 575.

3 . شرح الاصول الخمسة: ص 601.

4 . تفسير القرطبي: ج 14، ص 113.

الأصل الثّالث الوعد والوعيد

الأصل الثّالث الوعد والوعيد

هذا هو الأصل الثّالث من الاُصول الّتي بني عليها الاعتزال، والمراد من الوعد هو المدح والثّواب على الطّاعات، و من الوعيد الذّمّ والعقاب على المعاصي.

والمسائل المبتنية على الوعد والوعيد في الكتاب والسنّة والعقل كثيرة طرحها المتكلِّمون و المفسِّرون في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة. وليست المعتزلة متفرِّدة بالرأي في هذه المسائل وإنّما تفرّدوا في بعض الفروع و لأجل ذلك نذكر عناوين المسائل الكليّة، ثمّ نركِّز على متفرِّدات المعتزلة، وإليك البيان:

1 _ الكلام في المستحَقّ بالأفعال (الطّاعة والعصيان) فهو إمّا المدح والذّمّ، أو الثّواب والعقاب.

2 _ الكلام في الشروط الّتي معها تستحقّ هذه الأحكام.

3 _ هل الثّواب على وجه التفضّل كما هو المشهور لدى الشّيعة و جماعة من أهل السنّة، أو من باب الاستحقاق، كما هو المشهور لدى معتزلة البصرة؟

4 _ هل استحقاق العقاب عقليّ و سمعيّ، أو سمعيّ فقط؟

5 _ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب، فيعبّر عن الأوّل بالتّكفير، وعن الثاني بالإحباط؟

6 _ تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصّغائر.

( 393 )

هذه هي المسائل الّتي اختلفت فيها كلمة المتكلّمين من غير فرق بين المعتزليّ وغيره ولا نركّز البحث على هذه المسائل، وإنّما نبحث في المسائل الآتية الّتي تعدّ من متفرّدات المعتزلة.

أ _ هل يحسن من الله تعالى عقلاً أن يعفو عن العصاة و أن لا يعاقبهم إذا ماتو بلا توبة، أو إنّه ليس له إسقاطه؟

ب _ هل الفاسق (مرتكب الكبائر) مخلّد في العذاب أو لا؟ سواء أكان العذاب بالنّار أم بغيرها.

ج

_ إذا كان التّخليد في العذاب أمراً محقّقا، فما معنى الشّفاعة الّتي تضافر عليها الكتاب والسنّة المفسّرة بخروج الفسّاق من النّار بشفاعة الرّسول و غيره؟

د _ هل القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود مرجئة أم راجية؟

ه_ _ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثرة في سقوط الثّواب؟

هذه هي المسائل الّتي تفرّدت بها المعتزلة، واشتركت معهم فئة الخوارج في تخليد الفسّاق في العذاب، لقولهم بكفر المرتكب للكبيرة، وهذا الأصل _ أي الوعد والوعيد _ رمز إلى هذه المسائل الخمس الأخيرة.

أ _ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟

اختلفت مدارس الاعتزال فيها، فالبصريّون و منهم القاضي عبدالجبّار على الجواز، والبغداديّون على المنع، حتّى قالوا: يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة، ولا يجوز أن يعفو عنه، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.

( 394 )

احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.

استدلّ البغداديّون بوجوه:

الأوّل: إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر(1).

يلاحظ عليه: أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان

من الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء، ففي الاُولى العمل والسّعي، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.

وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر فيلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته، كان أقرب إلى الطّاعة، وأبعد من المعصية.

أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.

وأخيراً نقول: إنّ القول بجواز العفو، غير القول بحتميّته. و الأثر السّلبي _ لو سلّمنا _ يترتّب على الثاني دون الأوّل، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه و حتميّته.

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 646 و 647.

( 395 )

الثّاني: مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في (شرح العقائد)، قال: «المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة، و حرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره، وهما محالان»(1).

واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود و شروط معلومة من النّصوص، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط(2).

وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقاباً

فهو في الخيار»(3).

وروي أنّ عمرو بن عبيد (رئيس المعتزلة بعد واصل) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو، يخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل، بل يرى ذلك كرماً و فضلاً، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال (عمرو بن عبيد) فأوجدني هذا العرب. قال:نعم، أما سمعت قول الشاعر:

وإنّي إذا أوعدت_ه أو وعدت_ه * لمخلف إيعادي و منجز موعدي

وذكر الشاعر الآخر:

إذا وعد السرّاء أنجز وعده * وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع(4)

______________________

1 . شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 _ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

2 . شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 _ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

3 . شرح العقائد العضدية ج 2 ص 194 _ 199 والمتن للقاضي الايجي (المتوفى عام 756) والشرح لجلال الدين الدواني (المتوفى عام 908، أو 909ه_) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى (عام 1205ه_) في استنبول (عام 1317ه_).

4 . المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».

( 396 )

يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.

وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي و الأدبي، مع أنّ المسألة عقليّة، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب «العيون والمحاسن» وهو

التّفصيل بين الوعد والوعيد، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.

ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير و إمساك عن أداء ما عليه من الحقّ، وأمّا الوعيد فإنّ م آل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.

الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله، فالعقاب ضروري، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي و ذلك ما لا يتّفق مع العدل(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة، ولو صحّ ما ذكر، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة، وأمّا حديث التّسوية، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي و إنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى و ثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة:

اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله، وإن عفا عنه فبفضله (ومَا رَبُّكَ

______________________

1 . المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».

( 397 )

بِظَلاّم لِلْعَبِيد) وقال عزّوجلّ: (إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(1).

هذا هو

موجز الكلام في المسألة الأولى، وإليك البحث في مسألة التّخليد.

ب _ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا ؟

هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها و صار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد: «اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة، و وافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار، وجميع فسّاق أهل الصّلاة»(2).

ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر و المنافق والفاسق، و إليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى:

الآية الأولى: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء/14) (3).

ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 14. والآيتان من سورتي فصّلت46 والنساء 48.

2 . أوائل المقالات: ص 14.

3 . وأمّا قوله سبحانه: (ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها) (الجن 23). فهو راجع الى الكفار، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.

( 398 )

يلاحظ عليه: أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق، والمطلق قابل للتّقييد، وقد

خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله و رحمته، ويخرج عن العذاب، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية، المشرك والمنافق.

وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه، وطردها، وعدم قبولها. كيف، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

يقول سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَنِ...)(النساء/11).

ويقول سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...)(النساء/12).

ويقول سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ...)(النساء/13).

ثمّ يقول سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ...)(النساء/14).

وقوله: (ويتعدّ حدوده) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع، لكنّه يحتمله، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.

يقول الطّبرسي _ رحمه الله _ : «إنّ قوله: (ويتعدّ حدوده) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي، أو يتفضّل الله عليه بالعفو، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول

( 399 )

التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو»(1).

الآية الثّانية: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ

خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء/93).

قال القاضي: «وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه، وغضب عليه، ولعنه وأخلده في جهنّم»(2).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً: إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

لاحظ قوله سبحانه: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(النساء/91).

ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً و تعمّداً، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.

الآية الثّالثة: قوله سبحانه: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة/81).

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2، ص 20، طبعة صيدا.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 659.

( 400 )

والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود، أضف إليه أنّ قوله سبحانه: (وأحاطت به خطيئته)لايهدف إلاّ إلى الكافر، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه و كتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فلو ثبت ما

تقوله جمهرة المسلمين، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.

الآية الرابعة:قوله سبحانه:(إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون * وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين) (الزخرف/74 _ 76).

إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِين *ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف/69_ 70).

ثمّ يقول : (إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون)» ف_ «المجرمين» في مقابل «الّذين آمنوا» فلايعمّ المسلم.

هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة، وتقييد المطلق أمر سهل، مثل تخصيص العام، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات(1) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين، وإليك بيانها:

1 _ قوله سبحانه: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ)(الرعد/6).

قال الشريف المرتضى: «في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله: (على ظلمهم)

______________________

1 . كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.

( 401 )

إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره، وأصِلُه على هجره»(1).

وقد قرّر القاضي دلالة الآية و أجاب عنه بأنّ الأخذ

بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى، فلا بدّ من أن يؤوّل، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب(2).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال، جار في صورة التّوبة أيضاً، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.

والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب و غيره هو التّعبير بلفظ «الناس» مكان «المؤمنين». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه: «وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم» مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب و غيره.

وفي الختام، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها و شرائطها، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط و القيود.

2 _ قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(النساء/48).

وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب، فمعنى قوله: «إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ» أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة، كما أنّ معنى قوله: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» أنّه يغفر ما دون

______________________

1 . مجمع البيان: ج 3، ص 278.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 684.

( 402 )

الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين.

ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة، لما حسن التّفصيل بينهما، مع وضوح الآية في التّفصيل(1).

وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال: «إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية(2).

أقول: عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.

نعم، دفعاً للاغراء، وقطعاً لعذر الجاهل، قيّد سبحانه غفرانه بقوله: «لمن يشاء» حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.

ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: آيات الوعيد لا إجمال فيها، وهذه الآيات و نحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى (وإني لغفّارٌ لمن تابَ و آمَنَ و عَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى)(طه/82) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة(3).

ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين، وعدم تعذيبهم، أو إخراجهم من العذاب، بعد فترة خاصّة.

هذا، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران، حتّى يتّضح الحال فيها، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2 ص 57 بتلخيص.

2 . شرح

الاُصول الخمسة: ص 678.

3 . الأساس لعقائد الأكياس: ص 198.

( 403 )

ج _ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟

إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم، فيعفو عنهم من بدء الأمر، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.

وأمّا المعتزلة، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب، أو الخروج منه.

وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله و سنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن و الروايات وقالوا: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتّى يقتله;، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا(1).

والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة، و رفض الروايات المتواترة، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ و خاصّته فلا يقف عند حد، قال أمير المؤمنين _ عليه السلام _ : «ألا و إنّ الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، و خلعت لجمها»(2).

وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة، المحرّرة في محلِّها، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة، و في حرمان طوائف من الناس منها.

والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام، ولا يخرج الفاسق

______________________

1 . شرح الاُصول

الخمسة: ص 688.

2 . نهج البلاغة: الخطبة 61.

( 404 )

من النّار بشفاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقوله سبحانه: (واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً) (البقرة/48)، وقوله سبحانه: (ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ)(غافر/18)(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف(2) فأخذ صنفاً واحداً و ترك الأصناف الاُخر.

ثانياً: ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم: (إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين* وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون * فَما لَنَا مِن شَافِعِين* ولا صَدِيق حَمِيم)(الشعراء/98 _ 101).

وقال سبحانه: (وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين)(المدثر/46 _ 48).

ثالثاً: أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل، و خاصّة الوثنيّين واليهود، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات، و ممّا نسج حولها من الأوهام، و قرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له، و هي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.

و من امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في

أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على

______________________

1 . الاصول الخمسة: ص 689.

2 . لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن 177 _ 199.

( 405 )

الدّارجة بينهم، خصوصاً اليهود، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطِّ ذنوبهم، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ)(البقرة/55)، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد: (ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/28).

وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع، و رضاه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة و هي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة و زيادة الثّواب.

وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه، والتّرمذي في صحيحه، وابن حنبل في مسنده، وابن ماجة في صحيحه (1) .

وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا «مفاهيم القرآن»(2).

______________________

1 . راجع سنن ابي داود، ج 4، ص 236. وصحيح الترمذي، ج 4، ص 45. وصحيح ابن ماجة، ج 2،

ص 144. ومسند احمد، ج 3 ص 213.

2 . لاحظ: ج 4، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة، ص 289 _ 311. فتجد في تلك الصحائف (112) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار (ج 8،ص 29 _ 63) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج 14ص 628_640.

( 406 )

د _ القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود، مرجئة أو راجية؟

قد تعرّفت على عقيدة المرجئة في الفصول السّابقة و أنّ شعارهم أنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الشِّرك طاعة. وقد عرّفناك منهجهم و أنّ هؤلاء بهذا الشعار يغرّون الجهّال بالمعصية واقتراف الذنوب ولا يعتنون بالعمل بحجّة أنّهم مؤمنون في كلِّ حال، ويعيشون في جميع الأحوال بإرجاء العمل و يقولون: إنّ إيمان واحد منّا يعدل إيمان جبرائيل والنّبيّ الأكرم. هذه هي المرجئة.

وأمّا جمهرة المسلمين القائلون بجواز العفو وعدم الخلود، فهم راجية، يعتقدون بالعقاب والثّواب، يدعون ربّهم رغباً و رهباً، ولا يتّكلون في حياتهم على العفو و الرجاء من دون عمل، غير أنّهم يبثّون بذور الرجاء في قلوب العباد لما فيه من آثار تربويّة. وقد ذكرنا في محلِّه أنّ في القول بالعفو عن العصاة و خروجهم من النّار بالشّفاعة و غيرها، بصيص من الرجاء، و نافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتّى لا ييأسوا من روح الله و رحمته، ولئلاّ يغلبهم الشّعور بالحرمان من عفوه، فيتمادوا في العصيان.

فالمرجئة من قدّموا الإيمان و أخّروا العمل، بخلاف الراجية، فإنّهم جعلوا الإيمان غير منفكّ عن العمل و ينادون بأعلى أصواتهم أنّ الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر، لا

يغني ولا يسمن من جوع، ويخافون ربّهم بالغيب، ومع ذلك يرجون رحمته. فلا ينفكّ الخوف عن الرجاء، والرّهبة عن الرغبة.

ه_ _ هل الطاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب، و هذا ما يعبّر عنه بالإحباط و التكفير.

الاحباط في اللّغة بمعنى: الإبطال، يقال: أحبط الله عمل الكافر. أي أبطله(1).

والكفر بمعنى «السّتر» و «التّغطية»، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفر درعه،

______________________

1 . المقاييس: ج 2، مادة حبط، ص 129.

( 407 )

والمكفّر: الرّجل المتغطّي بسلاحه، ويقال للزّارع: كافر، لأنّه يغطي الحَبّ بتراب الأرض، قال الله تعالى: (كمثلِ غيث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(سورة الحديد، الآية 20). والكفر ضدّ الإيمان، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ(1).

والمراد من الحبط هو: سقوط ثواب العمل الصالح المتقدَّم، بالذّنوب المتأخّرة، كما أنّ المراد من التّكفير هو سقوط الذّنوب المتقدَّمة، بالطّاعة المتأخِّرة.

وبعبارة اُخرى: إنّ الاحباط في عرف المتكلّمين: عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتّب ما يتوقّع منها عليها، ويقابله التّكفير وهو: إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها، فهو في المعصية نقيض الاحباط في الطّاعة و لنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.

1 _ الاحباط

المعروف عن المعتزلة هو القول بالإحباط، كما أنّ المعروف عن الاماميّة و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطّاعات والثّواب والعقاب(2).

قال القاضي عبد الجبّار: «إنّ المكلّف لا يخلو إمّا أن تخلص طاعاته و معاصيه، أو يكون قد جمع بينهما، فلا يخلو إمّا أن تتساوى طاعاته و معاصيه، أو يزيد أحدهما على الآخر، فإنّه لا بدّ من أن يسقط الأقلّ بالأكثر....وهذا هو القول بالإحباط و التّكفير على ما قاله المشايخ، وقد خالفنا في ذلك المرجئة، وعبّادبن سليمان الصّيمري»(3).

قال التفتازاني: «لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل

الجنّة بمنزلة من لا معصية له، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصّالح، فهو من أهل النّار بمنزلة من لا حسنة له. وإنّما الكلام فيمن آمن و عمل صالحاً و آخر سيّئاً، واستمرّ على

______________________

1 . المقاييس: ج 5، مادة كفر، ص 91.

2 . أوائل المقالات: ص 57.

3 . الأصول الخمسة: ص 624، وقد ذهب القاضي إلى عدم جواز استحقاق المكلّف الثواب والعقاب إذا كانا مساويين، فانحصر الأمر في المطيع المحض والعاصي كذلك ومن خلط أحدهما بالآخر على وجه لا يتساويان، وهذا القسم هو مورد نظريّة الإحباط والتكفير. فلاحظ.

( 408 )

الطّاعات والكبائر، كما يشاهد من النّاس، فعندنا م آله إلى الجنّة ولو بعد النّار، واستحقاقه للثّواب والعقاب، بمقتضى الوعد والوعيد من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النّار إذا مات قبل التّوبة، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه و طاعته و ما يثبت من استحقاقاته، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطّاعات، ومالوا إلى أنّ السيّئات يذهبن الحسنات»(1).

أقول: اشتهر بين المتكلّمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط و التّكفير، وأمّا الأشاعرة والإماميّة فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة وهي أنّ نفيهما على الاطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين من أنّ الإيمان يُكفِّر الكفر، ويُدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها، و أنّ الكفر يُحبط الإيمان و يخلِّد الكافر في النار. وهذا النّوع من الإحباط و التّكفير ممّا أصفقت عليه الاُمّة، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة و الإماميّة؟ ولأجل ذلك، يجب الدقّة في فهم مرادهما من نفيهما على الاطلاق، وسوف يتبيّن الحال في هذين المجالين. هذا، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيّته، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة، وتمحوها

بالكليّة، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة، وهو المحكيّ عن أبي عليّ الجبّائي.

ومنهم من قال بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة، ولكنّه يؤثّر في تقليل الإساءة فينقص الإحسان من الاساءة، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التّنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

وهناك قول آخر في الإحباط وهو عجيب جدّاً، حكاه التّفتازاني في «شرح المقاصد» وهو أنّ الإساءة المتأخِّرة تحبط جميع الطّاعات و إن كانت الإساءة أقلّ منها قال: حتّى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات.

وعلى هذا(2) ففي الإحباط أقوال ثلاثة:

______________________

1 . شرح المقاصد: ج 2، ص 232.

2 . شرح المقاصد: ج 2، ص 232.

( 409 )

1 _ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

2 _ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

3 _ إنّ الإساءة المتأخِّرة عن الطّاعات، تبطل جميع الطّاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.

إذا عرفت موضع النّزاع في كلام القوم، فلننقل أدلّة الطّرفين:

أدلّة نفاة الإحباط

استدلّ النافون بوجهين: عقليّ و نقليّ.

أمّا الوجه العقليّ: فهو أَنّ القول بالإِحباط يستلزم الظّلم، لأنّ من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإن كان إحسانه أَكثر، يكون بمنزلة من لم يسىء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما، وهو نفس الظّلم(1).

يلاحظ عليه: أنّ الإِحباط إنّما يعدّ ظلماً، و يشمُلُه هذا الدّليل، إذا كان الأكثر من الإِساءة مؤثِّراً في سقوط الأقلّ من الطّاعة بالكلّية، من دون أن تؤثّر الطّاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة، كما عليه أبو عليّ الجبّائي. وأمّا على القول بالموازنة، كما هو المحكيّ عن ابنه أبي هاشم، فلا يلزم الظّلم، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة

استحقّ عليها عشرة أجزاء من الثّواب، وبمعصية استحقّ عليها عشرين جزءً من العقاب، فلو قلنا بأنّه يَحسُن من الله سبحانه أَن يفعل به عشرين جزءً من العقاب، ولا يكون لما استحقّه من الطّاعة أيّ تأثير للزم منه الظّلم. وأَمّا إذا قلنا بأنّه يقبح من الله تعالى ذلك، ولا يحسن منه أَن يفعل به من العقاب إلاّ عشرة أجزاء، وأَمّا العشرة الاُخرى فإنّها تسقط بالثّواب الّذي استحقّه على ما أتى به من الطّاعة، فلا يلزم ذلك.

يقول القاضي عبدالجبّار بعد نقل مذهب أبي هاشم: «وَ لَعَمري إنّه القول اللاّئق بالله تعالى. دون ما يقوله أبو عليّ و الّذي يدلّ على صحّته هو أَنّ المكلّف أتى

______________________

1 . كشف المراد: ص 260.

( 410 )

بالطاعات على الحدّ الذي أُمر به، وعلى الحدّ الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحقّ عليها الثّواب، فيجب أن يستحقّ عليها الثّواب وإن دَنّسها بالمعصية، إلاّ أَنّه لا يمكن والحالة هذه أَن يوفّر عليه، على الحدّ الّذي يستحقّه، لاستحالته، فلا مانع من أَن يزول من العقاب بمقداره، لأنّ دفع الضّرر كالنّفع في أنّه مما يعدّ من المنافع.

ثمّ قال: فأَمّا على مذهب أبي عليّ فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئاً ممّا أتى به من الطّاعات. وقد نصّ الله تعالى على خلافه»(1).

والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأَنّه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجّزاً، كما هو في محلّ النّزاع، وأمّا إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به، فهو خارج عن محلِّ البحث هذا، من غير فرق بين قول الوالد والولد.

وأمّا الوجه النّقلي، فقوله سبحانه: (فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ)(سورة الزلزلة: الآية 7).

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية إنّما يتمّ على القولين الأوّل

والثّالث، حيث لا يكون للإحسان القليل دور، وأمّا على القول الثّاني، فالآية قابلة للانطباق عليه، لأنّه إِذا كان للإحسان القليل، تأثير في تقليل الإِساءة الكثيرة، فهو نحو رؤية له، لأنّ دفع المضرّة كالنّفع في أنّه مما يُعَدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة قليلاً، وخسر في تجارة أُخرى أكثر فأَدّى بعض ديونه من الرِّبح القليل.

نعم الظّاهر من الآية رؤية جزاء الخير،وهو بالقول بعدم الإِحباط اَلصق و اَطبق.

سؤال و إجابة

السؤال: لو كان القول بالاحباط مستلزماً للظّلم، أو كان مستلزماً لخلف الوعد، فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ

______________________

1 . شرح الأصول الخمسة: ص 629.

( 411 )

الكفر والارتداد والشرك و الإِساءة إلى النّبي و غير ذلك ممّا يحبط الحسنات(1). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟

الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسِّرون الآيات بأنّ الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطّاعات، فإذا عصى الإِنسان ولم يحقِّق الشرط، انكشف عدم الاستحقاق.

ويمكن أن يقال بأنّ الإستحقاق في بدء صدور الطّاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيّام، هو المشروط بعدم لحوق المعصية، فإن فُقِد الشرط فُقِد استقرار الاستحقاق و استمراره.

يقول الشيخ الطّوسي في تفسير قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ، فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرةِ و أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيْهَا خالِدُونَ)(2)«معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن، لإيقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به، وليس المراد أنّهم استحقّوا عليها الثّواب ثمّ انحبطت، لأنّ الإحباطَ _ عندنا باطلُ على هذا ال(3)وجه».

ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه: (وَمَنْ يَكْفُر بالإِيمانِ فَقَدْ

حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُو في الآخِرةِ مِنَ الخاسِرينَ)(المائدة: الآية 5). «وفي قوله: (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثّواب. فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب، وإنّما يكون له عمل في الظّاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثّواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط، فهو حقيقة معناه»(4).

ويقول في تفسير قوله سبحانه: (وَ يَقولُ الّذين آمنوا أهؤلاءِ الّذينَ أقسموا باللّهِ

______________________

1 . سنذكرها في آخر البحث.

2 . سورة البقرة: الآية 217.

3 . التبيان: ج 2، ص 208، ولاحظ: مجمع البيان، ج 1، ص 313.

4 . مجمع البيان: ج 2، ص 163.

( 412 )

جَهْدَ أَيْمانِهِم إنَّهُم لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فَأَصْبَحُوا خَاسِرينَ)(سورة المائدة:الآية53). «أي ضاعت أَعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أَوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، وبَطَلَماأظهروه من الإِيمان، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم، فلم يستحقّوا به الثّواب»(1).

وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان، فإذا صدر يكشف عن عدم الإستحقاق أبداً، فكيف يطلق عليه الإِحباط، وما الإحباط إلاّ الإِبطال والإسقاط، ولم يكن هناك شيء حتّى يبطل أو يسقط؟

وذلك لأنّ نفس العمل في الظّاهر سبب و مقتض، فالإبطال و الإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلّة و سببها ومقتضيها، وهذا كمن ملك أَرضاً صالحة للزراعة فأَحدث فيها ما أفقدها هذه الصّلاحيّة.

وبعبارة أُخرى، إنّ الموت على الكفر، وإن كان يُبطل ثواب جميع الأعمال، لكن ليس هذا بالإحباط، بل بشترط الموافاة على الإِيمان في استحقاق الثّواب على القول بالاستحقاق. أو في إنجاز الوعد بالثّواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنّها حابطة لبعض الحسنات

من غير قول بالحبط، بل يكون الإستحقاق أَو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.

والّذي يبدو لنا من هذه الكلمات إنّ النّزاع بين نافي الاحباط و مثبته في هذه الموارد الخاصّة، أشبه بنزاع لفظي، لأنّهما متّفقان على النّتيجة وهي عدم ترتّب الثّواب على الإيمان و الأعمال الحسنة إذا لحقها الكفر أو بعض الكبائر، غير أنّ النافي يقول بأنّه لم يكن هناك ثواب فعليّ حتّى يحبطه الكفر أو بعض الكبائر، لأنّ ترتّب الثّواب أو الاستحقاق كان مشروطاً بشرط غير حاصل، والمثبت له يقول بوجوده فعلاً، لكنّه يسقط

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2، ص 207.

( 413 )

بهما. وعلى كلّ واحدة من النّظريّتين فالكافر و المرتكب للكبائر، صفر اليد يوم القيامة.

نعم، هذا التّفسير إنّما نحتاج إليه في جانب الاحباط، وأمّا في جانب التّكفير فلا حاجة إليه، بل لنا أَن نقول إنّ التّوبة و الأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الإستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

هذا، ولا يصحّ القول بالإِحباط و التّكفير في كلِّ المعاصي عند النافي، بل يجب عليه تَتَبُّعُ النّصوص، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصّحيحة إنّها مذهبة لأثر الإيمان و الحسنة نقول بالاحباط فيها على التّفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التّكفير فلا يمكن لنا أَن نقول إِنّ كلّ حسنة تُذهب السيّئة إلاّ بالنّص. وأمّا على قول المثبت فالظاهر أنّه يقول بأنّ كلّ كبيرة توجب الإحباط للأصل الّذي افترضه صحيحاً وهو خلود مرتكب الكبيرة في النّار على الإطلاق.

إلى هنا تمّ بيان دليل النّافين للإحباط على الوجه اللاّئق بكلامهم، والإجابة عليه.

أدلّة مُثبِتي الإِحباط

استدلّ القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقليّ فقال: «قد ثبت أَنّ الثّواب(1) والعقاب

يستحقّان على طريق الدّوام. فلا يخلو المكلّف إمّا أن يستحقّ الثّواب فيثاب، أَو يستحقّ العقاب فيعاقب، أَو لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب، فلا يثاب ولا يعاقب، أَو يستحقّ الثّواب والعقاب، فيثاب و يعاقب دفعة واحدة، أَو يؤثّر الأكثر في الأقلّ على ما نقوله:

لا يجوز أن لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب، فإنّ ذلك خلاف ما اتّفقت عليه الاُمّة. ولا أَن يستحقّ الثّواب والعقاب معاً فيكون مثاباً و معاقباً دفعة واحدة، لأنّ ذلك

______________________

1 . يكفي في ذلك كونه مستحقاً للعقاب دائماً فقط ولا يتوقف على استحقاقه للثواب كذلك فلاحظ.

( 414 )

مستحيل والمستحيل ممّا لا يستحقّ...

فلا يصحّ إلاّ ما ذكرناه من أنّ الأقلّ يسقط بالأكثر. و هذا هو الّذي يقوله الشّيخان أبو عليّ و أبو هاشم ولا يختلفان فيه، وإنّما الخلاف بينهما في كيفيّة ذلك»(1).

يلاحظ عليه: إنّه مبنيّ على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدّوام، وهو مبنيّ على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النّار، وبما أنّ الأساس باطل، فيبطل ما بنى عليه، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب، وعلى ذلك فالحصر غير حاصر، وأنّ هنا شقّاً سادساً ترك في كلامه وهو أنّه يستحقّ الثّواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة، بل يعاقب مدّة ثمّ يخرج من النّار فيثاب بالجنّة على ما عليه جمهور المسلمين.

وقد نقل القاضي عبدالجبّار وجهاً عقليّاً آخر للإِحباط عن الشّيخ أبي عليّ و أجاب عنه، فلاحظ(2).

تحليل لمسألة الإِحباط

وهيهنا تحليل آخر للمسألة و هو أَنّ في الثّواب والعقاب أقوال:

1 _ الثّواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعيّة الجعليّة، كجعل الاُجرة للعامل، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

2 _ الثّواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات الّتي اكتسبها في هذه الدّنيا، بحيث لا يمكن لصاحب

هذه الملكة، السُّكون والهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها.

3 _ الثّواب و العقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة و تجلّيه فيها

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 625. وترك تعليل الوجه الأول (وهو أن يستحق الثواب فقط) والثاني (وهو أن يستحق العقاب فقط) لوضوحه.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 630 _ 631، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف، بارتكاب الكبيرة يخرج نفسه من صلاحيّة استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل، إذ لا دليل على أنّ كلّ معصية لها هذا الشأن، وليست كلّ معصية كالكفر والارتداد والنفاق.

( 415 )

بوجوده الاُخروي من دون أَن يكون للنّفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

فلو قلنا بالوجه الأوّل، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن، لأنّ الاُمور الوضعيّة، رفعها ووضعها و تبسيطها و تضييقها، بيد المقنِّن و المشرع، وعندئذ يُجمع بين حكم العقل بلزوم الوفاء بالوعد، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة، كما سيوافيك.

وقد عرفت حاصل الجمع، وهو أَنّ إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثّواب، بل لم يكن مستحقّاً من رأس لعدم تحقُّق شرط الثّواب، وأمّا مصحِّح تسميته بالإحباط فقد عرفته أَيضاً، وهو أَنّ ظاهر العمل كان يحكي عن الثّواب وكان جزء علّة له.

ولو قلنا بالوجه الثاني، وحاصله أَنّ الملكات الحسنة و السيّئة الّتي تعدّ فعليّات للنّفس، تحصل بسبب الحسنات و السيّئات الّتي كانت تصدر من النّفس. فإذا قامت بفعل الحسنات، تحصل فيها صورة معنويّة مقتضية لخلق الثّواب. كما أَنّه إذا صدر منها سيّئة، تقوم بها صورة معنويّة تصلح لأن تكون مبدأ

لخلق العقاب. وبما أَنّ الإنسان في معرض التّحوّل والتغيّر من حيث الملكات النفسانيّة، حسب ما يفعل من الحسنات والسيّئات، فإنّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النّفس و تبدُّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدّنيوية.

نعم، تقف الحركة و يبطل التّحوّل عند موافاة الموت، فعند ذلك تثبت لها الصّور بلا تغيير أصلاً.

فلو قلنا بهذا الوجه، كان الإحباط على وفق القاعدة، لأنّ الجزاء في الآخرة، إِذا كان فعل النّفس و إِيجادها، فهو يتبع الصّورة الأخيرة للنّفس، الّتي اكتسبتها قبل الموت، فإن كانت صورة معنويّة مناسبة للثّواب فالنّفس منعّمة في الثّواب من دون

( 416 )

مقابلة بالعقاب، لأنّ الصّورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى. وإذا انعكست الصّورة انعكس الحُكم.

وأمّا لو قلنا بالوجه الثالث، وهو تَجَسّم الأعمال و تمثّلها في الآخرة بالوجود المماثل لها، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة، إذ لا معنى للإِبطال في النشأة الاُخرى.

غير أَنّ الكلام كلّه في انحصار الثّواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين(1).

عوامل الإحباط و أَسبابه

البحث عن عوامل الإِحباط و أَسبابه، بحثُ نقليّ يتوقّف على السّبر و الفحص في الكتاب والسنّة، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

1 _ الإرتداد بعد الإِسلام

قال سبحانه: (وَ مَن يرتَدِد مِنكُم عَن دِيِنِه فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ، فأُولئكَ حَبِطَت أَعْمالُهُم في الدنيا و الآخرة، وَ أُولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ)(سورة البقرة: الآية 217) .

2 _ الشرك المقارن بالعمل

يقول سبحانه: (ما كانَ للمُشركينَ أَنْ يَعمُرُوا مساجِدَ اللّهِ شاهدينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ أُولئكَ حَبِطَتْ أَعّْمالُهُم و في النّارِ هُمْ خالِدونَ)(سورة التوبة: الآية 17) .

وقدكان المشركون يزعمون أَنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثّواب، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة، و صرّح بأنّ الثّواب يترتّب على

العمل الصالح، إذا صدر من فاعل مؤمن.

ولأجل ذلك أتبع سبحانه الآية السابقة بقوله: (إنّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله مَنْ آمَنَ

______________________

1 . لاحظ: «الالهيات» ج 1، ص 299.

( 417 )

باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ)(سورة التوبة: الآية 18) .

3 _ كراهة ما أنزل الله

قال سبحانه: (وَالّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُم وَأَضَلّ أَعّْمالَهُم * ذَلِكَ بأَنّهُمّْ كَرِهُوا ما أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ( سورة محمد: الآيتان 8 و 9).

4 _ الكُفر

5 _ الصدُّ عن سبيل الله

6 _ مجادلة الرسول و مشاقّته

وقد جاءَت هذه العوامل الثّلاثة في قوله سبحانه: (إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ الله وَ شَاقُّوا الرّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدى لَنّْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحبِطُ أَعْمالَهُم)(سورة محمد: الآية 32. ولاحظ في عامل الكفر، سورة التوبة: الآية 69).

وهل كلُّ منها عاملٌ مستقلٌٌّ، أَو أَنّ هنا عاملاً واحداً هو الكفر، ويكون حينئذ الصّدُّ عن سبيل الله و مشاقّة الرّسول من آثار الكفر، فهم كفروا، فصّدوا و شاقّوا؟ وجهان.

وتظهر الثّمرة فيما لو صَدّ إنسانٌّ عن سبيل الله لأغراض دنيويّة، أَو شاقّ الرّسولَ لحالة نفسانيّة مع اعتقاده التّام بنبوّة ذاك الرّسول و قبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منها في الحبط، يحبط عمله، وإلاّ فلا، و بما أَنّ الآية ليست في مقام البيان، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كلّ منها في الحبط نعم، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولويّة، وذلك أنّه إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النّبي من عوامل الإحباط كما سيأتي فكيف لا يكون الصدّ و القتل من عوامله؟

7 _ قتل الأنبياء

8 _ قتل الآمرين بالقِسط من الناس

قال سبحانه: (إنّ الّذينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللّهِ، و يَقْتُلونَ النّبِييّنَ بغير حقّ،

( 418 )

وَيَقْتُلُونَ

الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشْرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرينَ) (آل عمران: الآيتان 21 _ 22).

9 _ إساءة الأدب مع النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(سورة الحجرات: الآية 2).

وربّما يُتصوّر أَنّ رفع الصّوت ليس عاملاً مستقلاّ ً فى الإحباط، بل هو كاشف عن كفر الرافع، ولكنّه احتمال ضعيف، لأنّ الآية تخاطب المؤمنين به بقولها: (يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوُا).

نعم، لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ إساءة بالنّسبة إلى النّبي تُحبط الأعمال الصّالحة(1)، إِلاّ إِذا كانت هتكاً في نظر العامّة، و تحقيراً له في أَوساط المسلمين، كما هوالظّاهر من أَسباب نزول الآية.

10 _ الإقبال على الدُنيا و الاعراض عن الاخرة

قال سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* اُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سورة هود: الآيتان 15 و 16).

ويمكن أَن يقال إنّ الاقبال على الدّنيا بهذا النّحو الّذي جاء في الآية يساوق الكفر، أَو يساوق ترك الفرائض، والتوغّل في الموبقات، فتكون إِرادة الحياة الدّنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

______________________

1 . كالغضب في محضره _ صلوات الله عليه وآله.

( 419 )

11 _ إنكار الآخرة

قال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِ آيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)(سورة الأعراف: الآية 147. ولاحظ سورة الكهف: الآية 105).

وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملاً مستقلاّ ً.

12 _ النِفاق

قال سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المَعَوِّقِينَ

مِنْكُمْ وَ القَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إَلَيْنَا وَ لا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً* أُولِئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً) (سورة الاحزاب: الآيتان 18 و 19).

وقوله: «لإخوانهم»، يدلّ على أَنّهم لم يكونوا مؤمنين، بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله: «أُولئك لم يُؤّْمِنوا». وعلى ذلك فيَرجع النّفاق إلى عامل الكفر و عدم الإِيمان، وليس سبباً مستقلاً.

هذه هي أبرز أسباب الإِحباط في الذّكر الحكيم، وقد عرفت إمكان إذعام البعض في البعض، وعلى كلِّ تقدير، فالإحباط هنا هو بطلان أَثر المقتضي، لا إبطال أَثر ثابت بالفعل، كما تقدّم(1).

2 _ التكفير

التّكفير هو إسقاط ذنوب الأفعال المتقدّمة بثواب الطّاعات المتأَخِّرة، وهو لا يعدّ ظلماً، لأنّ العقاب حقّ للمولى، وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان، وقد عرفت أَنّ خلف الوعيد ليس بقبيح و إنّما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه بعدم تعقّب الطّاعات. بل الاستحقاق

______________________

1 . وأمّا بيان عوامل الإحباط في السنّة فهو موكول الى محل آخر.

( 420 )

واستمراره ثابتان، غير أَنّ المولى سبحانه، تَفَضّلاً منه، عفا عن عبده لفعله الطّاعات.

قال سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(سورة النساء: الآية 31) .

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيم)(سورة الأنفال: الآية 29).

وقال سبحانه: (والّذينَ آمَنوُا وَ عَمِلوا الصالحاتِ و آمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمّد وَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سيِّئاتِهِمْ و أَصْلَحَ باَلُهمْ) (سورة محمد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الآية 2).

ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات، و أَنّ كلّ معصية تكفَّر،

لأنّها بصدد بيان تشريع التّكفير، و أمّا شروطه و بيان المعاصي الّتي تكفّر دون غيرها، فلا يستفاد منها، وإنّما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها، ومن الآية الثانية، اشتراط تكفير السّيئات بالتّقوى و من الثالثة، تكفير السيّئات للّذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نُزِّل على الرّسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم .

روى الكراجكي بسنده عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «وإنْ كان عليه فضل، وهو من أَهل التّقوى، ولم يشرك بالله تعالى، واتّقى الشرك به، فهو من أَهل المغفرة، يغفر الله له برحمته إن شاء و يتفضّل عليه بعفوه»(1).

______________________

1 . البحار، ج 5، ص 335.

الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً، كما عليه الخوارج، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.

قال القاضي: «لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث و هذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما»(1).

ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين: إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.

ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً «وهو المرتكب للكبيرة».

ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن

المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان،

______________________

1 . شرح الأصول الخمسة: ص 697.

( 422 )

وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين و فيه تشترك المعتزلة والخوارج، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلة _أو له _ بين المنزلتين، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.

ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها:

الدّليل الأوّل: ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء و اتّفاقهم على كونه فاسقاً، فنأخذ بالمجمع عليه و نطرح ما اختلفوا فيه، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً، فنأخذ بالمتيقّن و نطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.

الدّليل الثّاني: ما ذكره القاضي من أنّ «المؤمن» نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) و قوله: (إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)وقوله: (إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه) إلى غير ذلك من الآيات.

ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح و التّعظيم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي: إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن، والصّوم للجُنّة من النار، والزّكاة لتنمية المال، لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم :

«الصّلاة معراج المؤمن» و «الصّوم جُنّة من النار» و «الزّكاة تنمية للمال».

والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.

1 _ قال سبحانه: (ولعبد مؤمن خير من مشرك) (البقرة/221).

( 423 )

2 _ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) (النساء/92).

3 _ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة) (الأحزاب/36) إلى غير ذلك من الآيات.

والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر)(النساء/39).

و قال سبحانه: (والّذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرّقوا بين أحد منهم)(النساء/251)

وقال سبحانه:(فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به) (النساء/175).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر و رسوله.

وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم منقوض بقوله سبحانه: (ومن يؤمن بالله و يعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته)(التغابن/9).

وقال سبحانه: (الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)(الأنعام/82) و الظّاهر أنّ القيد «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» احترازيّ لا توضيحيّ.

أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات و مراتب، فالمدح المطلق للدّرجة العليا و المدح النّسبي للدرجات التالية لها.

ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين: من يستحقّ الثّواب، ومن يستحقّ العقاب، لا يصدقه القرآن، بل هناك قسم ثالث و هو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه: (وآخرون (من الأعراب) اعترفوا بذنوبهم خلطوا

عملاً صالحاً و آخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم) (التوبة/102) فلأجل كونه ذا عمل

( 424 )

صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة و لنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(النحل/97) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.

ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله:

1 _ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً و إن كان كافراً.

2 _ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.

3 _ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.

4 _ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مؤمنين(1).

يلاحظ عليه: أنّ هذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل، فالمؤمن هو المذعن المصدّق، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه: (وما أنت بمؤمن لنا)(يوسف/17).

وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة و مصطلح القرآن و الحديث، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر و رسالة رسوله، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع و المتشرّعة بهذا الملاك.

وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما، غاية الأمر يكون النّوم و السّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة، لا حال التكلّم، فالضّارب

والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم، والشّجرة

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 703 _ 705.

( 425 )

المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.

ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة، فلا نطيل.

ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض و النّوافل، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.

واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات.

وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.

بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على

أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (1) المختصّ بعقائدهم،

فانتظر.

______________________

1 . لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

( 426 )

الأصل الخامس الأمر بالمعروف و النّهي عن

الأصل الخامس الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر

هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه، فهو بالعمل ألصق و على هذا الأصل بعث واصل بن عطاء و غيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.

1 _ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟

2 _ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟

3 _ ما هي شرائط وجوبهما؟

4 _ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟

5 _ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أمّا الأُولى، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم و بكلامهم اعتداد(1).

يلاحظ عليه: أنّه ماذا يريد من قوله «من الإماميّة»؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر،

فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة، وصريح الكتاب و أحاديث العترة الطّاهرة على

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 741.

( 427 )

وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة(1).

ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ أنّه قال: «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(2).

وإن كان الثّاني، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم و جوبهما.

قال الشّيخ المفيد (م413ه_): «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك»(3).

وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين (م672ه_) يقول في «تجريد الاعتقاد»: «والأمر بالمعروف واجب، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب»(4).

نعم، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا _ عليه السلام _ في كتابه إلى المأمون: «والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله و نفسه فهو شهيد»(5).

وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث و غيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك

______________________

1 . لاحظ: وسائل الشيعة، ج 11، الباب الأول من أبواب الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 393.

2 . المصدر السابق، الحديث السابع.

3 . أوائل المقالات: ص 98.

4 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

5 . الوسائل: ج 11، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو، الحديث 10.

( 428 )

للفقيه الجامع للشّرائط(1).

وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب و التّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.

نعم، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة و الأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة: «السّمع والطّاعة للأئمّة و أمير المؤمنين البرّ و الفاجر».

وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا، وإن جاروا، ولا ندعو على أحد منهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية»(2).

وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر، مع أنّ النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(3).

وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه»(4).

ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.

والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.

وامّا الثانية، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم: «بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غمّ، فإنّه يجب عليه النّهي و دفعه، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من

______________________

1 . جواهر الكلام: ج 21، ص 13 _

14.

2 . قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا.

3 . صحيح الترمذي، ج 4، كتاب الفتن، الباب 14، ص 471، رقم الحديث 2174.

4 . المصدر السابق، الباب 8، رقم الحديث 2168.

( 429 )

الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً» وقال القاضي: «وهو الصّحيح من المذهب»(1).

يلاحظ عليه: أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً و لم يختصّ بمرتكبه، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع و تحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.

ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.

روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال: سمعت عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما

أرادوا، هلكوا جميعاً و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعاً»(2).

وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن:

روى جعفر بن محمّد عن آبائه، عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة» قال جعفر

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 742.

2 . صحيح البخاري: ج 3، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ص 139. المطبوع على النسخة الاميرية، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج 2 ص 49.

( 430 )

بن محمّد _عليهما السلام _ : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله و يقتدي به أهل عداوة الله(1) و بهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً و ربّما يكون مستوراً.

ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي: أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقليّ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة و ابعادهم عن المعصية، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.

غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال: «لو كانا واجبين عقلاً، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته».

وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال: «إنّهما لو

وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه، وانتفاء المنكر قطعاً، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى»(2).

يلاحظ عليه: أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه،لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض و إبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء و الإخلال بالغرض،

______________________

1 . الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب 4 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.

2 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

( 431 )

فيكتفي فيه بالتّبليغ و الانذار و غيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله: «لاستلزام القيام به على هذا الوجه (من وجوبه قولاً و فعلاً) الالجاء الممتنع في التّكليف، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف، والمفروض أنّه قد فعل»(1).

وأمّا الثّالثة، وهي شرائط وجوبهما، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا: شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة:

الأوّل: علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.

الثّاني: تجويز التّأثير، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثّران لم يجبا.

الثّالث: انتفاء المفسدة، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر(2).

وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها:

الرابع : تنجّز

التّكليف في حقّ المأمور والمنهيّ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.

وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث _ أي عدم المفسدة _ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر و النّاهي تحمّل المضرّة و عدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم و غير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة(3).

وأمّا الرّابعة، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً، فالأكثر على أنّه كفائيّ، لأنّ

______________________

1 . الروضة البهية: ج 1، كتاب الجهاد، الفصل الخامس، ص 262، الطبعة الحجرية.

2 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

3 . لاحظ: رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.

( 432 )

الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر، من غير اعتبار مباشر معيّن، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.

وأمّا الخامسة، أعني مراتبهما، فتبتدئ من القلب، ثمّ اللّسان، ثمّ اليد و تنتهي باجراء الحدود و التّعزيرات. قال الباقر _ عليه السلام _ : «فانكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم»(1).

وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة و يتوقّف على صدور الحكم، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.

وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب

واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.

إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة، وبقي هنا بحوث نجعلها

خاتمة المطاف.

______________________

1 . الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.

( 433 )

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف

الأوّل: تحليل بعض ما رمي به مشايخ المعتزلة من الانحلال الأخلاقي، فإنّ في ذلك توضيحاً للحقّ، بل دفاعاً عنه.

الثاني: تبيين تاريخ المعتزلة من حيث تدرّجهم من القدرة إلى الضّعف، وذلك بحث تاريخيّ يهمّنا من بعض الجهات، وسيظهر في طيّات البحث.

الثالث: الآثار العلميّة الباقية من المعتزلة.

1 _ دفاع عن الحقّ

الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.

ولعلّ تصلّبهم في المناظرة، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.

ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.

مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد، فهدّده واصل بالقتل، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.

( 434 )

و في ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار:

كأنّك غضبان على الدّين كلّه * وطالب دخل لا يبيت على حقد

رجعت إلى الأمصار من بعد واصل * وكنت شريراً في التّهائم والنّجد(1)

ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة و مكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف و

الأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه و رفض التّشبيه، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته(2).

وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب «الألف مسألة في الردّ على المانويّة» لواصل، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده(3).

وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.

ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة «معمر بن عباد» وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.

هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن، فألّف كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه «تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب «شرح الأُصول الخمسة» بأنّه أعدّه للطّبع.

______________________

1 . البيان والتبيين: ج 1، ص 25.

2 . المنية والامل: ص 20، ط توماارنلد.

3 . المنية والامل: ص 21.

( 435 )

ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة و العمليّة، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون و الانحلال الأخلاقي.

لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي، عادل لا يعصي ولا يخطأ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة، ورمى طائفة أُخرى بضدّه، ممّا لا يؤيّده الإنصاف، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم

لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخير(1) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.

ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي:

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * و أستبيح دماً من غير مجروح

حتّى انثنيت ولي روحان في جسد * و الزق منطرح جسم بلا روح(2)

1 _ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على حرائرها، ويدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات، وله في الشّراب شعر.

2 _ نقل البغدادي عن كتاب «المضاحك» للجاحظ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى(3).

3 _ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه و كان مصرّاً على شرب الخمر وقيل: إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة:

يعيب القول بالإرجاء حتّى * يرى بعض الرجاء من الجرائر

وأعظم من ذوي الارجاء جرماً * وعيديّ أصرّ على الكبائر(4)

______________________

1 . اقتباس من قوله سبحانه : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)(فاطر / 32).

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 18.

3 . الفرق بين الفرق: ص 173.

4 . المصدر السابق: ص 191.

( 436 )

يلاحظ عليه: أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها، على أنّ من سبر كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.

وعلى ذلك، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:

حسدوا

الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالكلّ أعداء له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسداً و بغياً إنّه لدميم(1)

(ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان)(الحشر/10)

المعتزلة من القوّة إلى الضّعف

إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين، كيزيد بن وليد بن عبدالملك (م126ه_)، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم (م132ه_)، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر(2).

ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 _ 158ه_) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.

ولمّا هلك المنصور، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء، حسب ما يقولون.

______________________

1 . الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ راجع ملحق ديوانه.

2 . الكامل لابن الاثير: ج 4، ص 332 قال: «وكان مروان يلقب بالحمار، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.

( 437 )

روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام ... أنّه لمّا كان أيّام المهدي، شدّد على أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق، صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس، فقال يونس: «قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح»(1).

وبما

أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة و المرجئة والمحكّمة والشيعة و غيرهم.

ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله، و جاء عصر الرّشيد (170 _ 193ه_) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم(2) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى: «وكان الرّشيد نهى عن الكلام، وأمر بحبس المتكلّمين»(3).

نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم و التعقّل، والبحث والجدال، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.

يقول الطّبري: «وفي هذه السّنة (212ه_) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام _ وقال: هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وذلك في شهر ربيع الأوّل(4) و لمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن و اشتدّ أمرهم كتب المأمون عام (218ه_) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة و المحدّثين،

______________________

1 . رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم، الرقم 131، ص 227. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين.

2 . لاحظ: طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 55.

3 . طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 56.

4 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 188، حوادث سنة 212.

( 438 )

وممّا جاء في تلك الرسالة:

فاجمع من بحضرتك من القضاة، و اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، و تكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن و إحداثه، وأعلمهم أنّ أمير

ألمؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلّده الله و استحفظه من أُمور رعيّته، بمن لا يوثق بدينه و خلوص توحيده و يقينه، فإذا أقرّوا بذلك و وافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، و ترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم و تفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين و الإخلاص للتّوحيد و اكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله، و كتب في شهر ربيع الأوّل سنة (218ه_)»(1).

رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه

ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم:

1 _ محمّد بن سعد كاتب الواقدي 2 _ أبو مسلم، مستملي يزيد بن هارون 3_يحيي بن معين 4 _ زهير بن حرب أبو خثيمة 5 _ إسماعيل بن داود 6 _ إسماعيل بن أبي مسعود 7 _ أحمد بن الدورقي، فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث، فأقرّوا بمثل ما

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7 ص 197، حوادث سنة 218.

( 439 )

أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.

رسالة ثالثة للمأمون إلى

إسحاق بن إبراهيم

ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة و ممّا جاء فيه:

«وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته و طالعه بفكره، فتبيّن عظيم خطره و جليل ما يرجع في الدّين من وكفه و ضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. و أثراً من رسول الله و صفيّه محمّد _ صلّى الله عليه و آله _ باقياً لهم و اشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم و تزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه، و تفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته، وأنشأها بقدرته، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه و حدثاً هو المحدِث له، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه و قاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.

والله عزّوجلّ يقول: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) و تأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله: (وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها) وقال: (وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً و جَعَلْنا النّهارَ معاشاً)و (جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة و أخبر أنّه جاعله وحده فقال: (إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وقال لنبيّه : (لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقال: (مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث) و قال: (ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه) و أخبر عن

قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى)فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً

( 440 )

و ذكراً و إيماناً و نوراً و هدىً و مباركاً و عربياً و قصصاً فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن) و قال: (قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ) و قال: (قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات) وقال: (لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)فجعل له أوّلاً و آخراً، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا و وصفوا خلق الله و فعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده و شبّهوه به، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين....إلى أن قال: فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك و انصصهما عن علمهما في القرآن و أعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن و ثق بإخلاصه و توحيده، و أنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا: بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق و نصّهم عن قولهم في القرآن، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله و إن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره، وافعل ذلك بمن

في سائر عملك من القضاة و أشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته و يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله»(1).

دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة

ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم 1_ أبو حسّان الزيادي، 2_ وبشر بن وليد الكندي، 3_ وعليّ بن أبي مقاتل،

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 198 و 199و 200، حوادث سنة 218.

( 441 )

4_والفضل بن غانم، 5_ والذيال بن الهيثم، 6_ وسجّادة، 7_ والقواريري، 8_ وأحمد بن حنبل، 9_وقتيبة، 10_ وسعدويه الواسطي، 11_ وعليّ بن الجعد، 12_ وإسحاق بن أبي إسرائيل، 13_ وابن الهرش، 14_ وابن عليّة الأكبر، 15_ ويحيى بن عبدالرحمان العمري، 16_ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب، كان قاضي الرقّة، 17_ وأبو نصر التمّار 18_ وأبو معمر القطيعي، 19_ ومحمّد بن حاتم بن ميمون، 20_ ومحمّدبن نوح المضروب، 21_ وابن الفرخان، 22_ والنّضر بن شميل، 23_ وابن عليّ بن عاصم، 24_وأبو العوام البزاز، 25_ وابن شجاع، 26_ وعبدالرّحمان بن إسحاق.

فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.

فنجد في الأجوبة عيّاً و غباوة، لا يتطلّبون الحقّ. و إليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.

1 _ إسحاق بن إبراهيم، مخاطباً بشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟

بشر: القرآن كلام الله.

إسحاق: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو، قال الله: (خالق كلّ شيء) ما القرآن شيء؟

بشر: هو شيء.

إسحاق: فمخلوق ؟

بشر: ليس بخالق.

إسحاق: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟

بشر: ما أُحسن غير ما قلتُ لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا

أتكلّم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.

محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل

إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟

( 442 )

عليّ بن أبي مقاتل: القرآن كلام الله.

إسحاق: لم أسألك عن هذا.

ابن أبي مقاتل: هو كلام الله.

محاورته مع أبي حسّان الزيادي

إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان: القرآن كلام الله، والله خالق كلّ شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا و بسببه سمعنا عامّة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلّده الله أمرنا، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا و نؤدّي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.

إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان: (أعاد كلامه السابق).

إسحاق: إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.

أبو حسّان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين و لا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.

إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئاً.

قال «علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في الفرائض و المواريث، ولم يحملوا النّاس عليها».

أبو حسّان: ما عندي إلاّ السّمع والطاعة، فمرني أئتمر.

إسحاق: ما أمرني أن آمرك و إنّما أمرني أن أمتحنك.

محاورته مع أحمد حنبل إسحاق: ما تقول في القرآن؟

( 443 )

أحمد: هو كلام الله.

إسحاق: أمخلوق هو؟

أحمد: هو كلام الله، لا أزيد عليها.

إسحاق: (قرأ عليه رقعة و فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه). فلمّا أتى إسحاق

إلى قوله: «ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير»(1)، وأمسك عن قوله: «لا يشبهه شيء، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه»، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر(2) فقال: أصلحك الله، إنّه (أحمد) يقول: سميع من اذن، بصير من عين.

فقال إسحاق: ما معنى قوله سميع بصير؟

أحمد: هو كما وصف نفسه.

إسحاق: فما معناه؟

أحمد: لا أدري، هو كما وصف نفسه.

ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً، كلّهم يقولون: القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن، وابن علية الأكبر، وابن البكاء، وعبدالمنعم بن إدريس، والمظفّر بن مرجا، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) والقرآن محدث لقوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث).

قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟

قال: نعم.

______________________

1 . سقط قوله: «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» من الرقعة التي نقلها ص200 و لكن نقله ص201.

2 . في المصدر «أصغر» والصحيح ما أثبتناه.

( 444 )

قال إسحاق: فالقرآن مخلوق؟

قال: لا أقول مخلوق، ولكنّه مجعول، فكتب مقالته.

فلمّا فرغ من امتحان القوم و كتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً و وجّهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.

الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق

كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي:

«أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة و ملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من

أهل الملّة من القول في القرآن و أمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم و تكشيف أحوالهم و إحلالهم محالّهم».

ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً و الرِّسالة مفصّلة(1) والملفَت للنّظر فيها أمران:

الأوّل: أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين و تسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا و يتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.

الثاني: تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح و فلاح، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي:

«وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله و أنّه لو كان مقتفياً

______________________

1 . لاحظ تاريخ الطبري 7: 202_ 203.

( 445 )

آثار سلفه و سالكاً مناهجهم و مهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.

وأمّا أحمد بن حنبل و ما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها و استدلّ على جهله و آفته بها.

وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة، وما شجر بينه و بين المطّلب بن عبدالله في ذلك، فإنّه من كان شأنُه شأنَه، وكانت رغبته في الدّنيا و الدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما و ايثاراً لعاجل نفعهما.

وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.

وأمّا

الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره تربّصاً بمن استودعه و طمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده و تطاول الأيّام به.

وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً و صاروا للنصارى مثلاً».

ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات و ما كسبت قلوبهم من الشِّرك (1).

فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم و قرأ عليهم كتاب المأمون، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم

______________________

1 . تاريخ الطبري: 7/ 203_ 204.

( 446 )

أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمّد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده و خلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لمّا اعترض على

الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك و قلبه مطمئنّ بالإيمان(1) و قد كُتب تأويلهم إلى المأمون، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.

فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق _ وهو والي الرقة _ إلى أن يصيروا إلى الرقة، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام (بغداد) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج(2).

وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد و من كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه

______________________

1 . إشارة الى قوله سبحانه (إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (النمل / 106).

2 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 195 إلى 206 بتلخيص منّا.

( 447 )

إلاّ إشخاص أحمد و محمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس و إشخاص غيرهما مطلقين، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.

هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة و قال:

«وصار المأمون إلى دمشق سنة (218ه_) و امتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق و غيرها فامتحنهم في خلق القرآن و أكفر من

امتنع أن يقول _ : القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً»(1).

هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين: المعتصم والواثق، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.

تعليق على محنة خلق القرآن

إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها:

1 _ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد، وصموده أمام الشِّرك، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.

2 _ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل و أتقنها، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به، ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وثالثة بتوصيفه ب_ «محدث»، و رابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات

______________________

1 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 468، ط دار صادر.

( 448 )

المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته، والدّعوة إلى الاتيان بمثله، وأنّ له أماماً و خلفاً، إلى غير ذلك.

3 _ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين، وقال: «إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق»، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.

4 _ لو

صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين و عيّهم في الجواب، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات، وهو كما ترى.

ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق و مزوّر أو مخلوق للبشر، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير، والله هو خالقه و جاعله ليس غير.

5 _ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو، وكان ذلك و صمة عار على حياة الخليفة و بالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم، ويلحقهم وزر أعماله، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب، لا يوافق تعاليم المعتزلة، كما لا يوافق تعاليم الإسلام، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل و النّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.

6 _ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق

( 449 )

القرآن، فيرى أنّ بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره، مع أنّ الجرم واحد، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا،

وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء، يستغلّونه حسب أهوائهم.

7 _ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.

ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة، حدث عنها التّاريخ.

قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم (218 _ 227ه_) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.

يقول اليعقوبي: «وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء و ناظره عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم: ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال: شأنك به.

إسحاق بن ابراهيم: هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟

ابن حنبل: علمته من الرِّجال.

إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟

ابن حنبل: علمته شيئاً بعد شيء.

( 450 )

إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟

ابن حنبل: بقي عليّ.

إسحاق: فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.

ابن حنبل: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.

إسحاق: في خلق القرآن؟

ابن حنبل: في خلق القرآن.

فأشهد عليه وخلع عليه و أطلقه إلى منزله(1).

هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى (عام 290ه_).

وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.

وقال المسعودي: «وفيها (سنة 219ه_) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن»(2).

نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة (219ه_) و

قال: «وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل و امتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله و تقطّع جلده و حبس مقيّداً»(3).

وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً، ولا كان مثقّلاً بالحديد، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب و يرزنون و يخفّ و يحلمون و يطيش»(4).

هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله:

«وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون، فأُعيد إلى

______________________

1 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 472.

2 . مروج الذهب: 3/464 ط دار الاندلس.

3 . الكامل، ج 5، ص 233.

4 . الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد: ج 2، ص 139.

( 451 )

السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر، ثمّ سيق إلى المعتصم و اتّخذت معه ذرايع الاغراء و الارهاب، فما أجدى في حمله ترغيب و لا ترهيب، فلمّ_ا لم يجد القول رغباً و رهباً، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط، المرّة بعد الأُخرى، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه و ينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه و ثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح و أثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن»(1).

وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى «مناقب الامام أحمد بن حنبل» للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في «البداية و النهاية»(2).

والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل و أنّهما

يريدان نحت الفضائل له و عند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.

محنة خلق القرآن والواثق

قضى المعتصم نحبه و خلفه ابنه الواثق (223 _ 227ه_)(3) وكان للمعتزلة في عصره قوّة و قدرة و نشاط و سيطرة.

قال اليعقوبي: «وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان و أن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً»(4).

______________________

1 . ابن حنبل _ حياته وعصره _ أبو زهرة، ص 65.

2 . البداية والنهاية، ج 10، ص 230 الى 343.

3 . البداية والنهاية: ج 10، ص 297.

4 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 482.

( 452 )

يقول الحافظ ابن كثير:

«وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج، بالقول بخلق القرآن و أنّ الله لا يرى في الآخرة، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى و إلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء، شنعاء، عمياء، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح»(1).

ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة و أصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل، وبما أنّ في الكتاب، مغالاة في الفضائل، و محاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.

يقول: «إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس، وكان حفيده أحمد بن نصر بن

مالك، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين و ابن الدورقي و ابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث و كلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر و حملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن، والغاية من هذه الحركة، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق، وخلعه من الخلافة، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا و حملوا إلى سامراء، الّتي كانت مقرّاً للواثق، فحضر القوم واجتمعوا عنده، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له: ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، قال أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال:فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال: ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فنحن على الخبر.

فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق: يا أمير

______________________

1 . البداية والنهاية: ج 10، ص 307.

( 453 )

المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، كافر يستتاب لعلّ به عاهة، أو تغيّر عقليّ، فقال الواثق، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي، فإنّي أحتسب خطاي إليه، ودعا بالصمصامة، سيف عمرو بن معديكرب، فمشى إليه وهو في وسط الدّار، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه، ومدّ الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه و حزّ رأسه»(1).

هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت

مبرّرة عنده، لا لأجل قوله بخلق القرآن و رؤية الله، بل لما قام به من الثّورة عليه.

ويقول أيضاً: «أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه»(2).

وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم و أمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم(3).

وكانت المحنة مستمرّة، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام 232.

وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء، وهم ثمامة بن أشرس و أحمد بن أبي دؤاد الزيّات و غيرهم. وبموت الخليفة و تسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة، غاب نجم المعتزلة و انحدروا من الأوج إلى الحضيض و من العزِّ إلى الذّلّة، وإليك هذا القسم من التّاريخ.

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 231، ص 328، 329.

2 . المصدر السابق: ص 331.

3 . المصدر السابق: ص 332.

( 454 )

قصّة المحنة و خلافة المتوكّل

قضى الواثق نحبه و قام مقامه المتوكّل و أمر الناس بترك النظر و البحث والجدال و ترك ما كانوا عليه في أيّام الخلفاء الثلاث: المأمون و المعتصم والواثق، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث و إظهار السنّة(1).

قال اليعقوبي: «نهى المتوكِّل النّاس عن الكلام في القرآن و أطلق من كان في السّجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاّهم جميعاً و كساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً

ينهي عن المناظرة و الجدل»(2).

هذه هي الضّربة الأُولى الّتي وجّهها المتوكِّل إلى المعتزلة، وأقفل باب البحث والمناظرة الّذي كان لصالح المعتزلة على ضدِّ أهل الحديث، حيث كان المعتزلة يتفوّقون على خصمائهم في مجال النِّقاش. ومع ذلك كلّه لم يكن ذلك ضربة قاضية لنظام الاعتزال، ولأجل ذلك لم يعزل أحمد بن دؤاد عن قضاء القضاة ولا عن مظالم العسكر، بل أبقاه على منصبه إلى أن عجز عن القيام بالعمل لإصابته بالفالج عام 233 و اختار بعده ولده محمّد بن أحمد.

يقول الخطيب: «فلمّا فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة 233 ... ولّى المتوكِّل ابنه محمّد بن أحمد أبا الوليد القضاء و مظالم العسكر مكان أبيه»(3).

ومن المعلوم أن أحمد بن أبي دؤاد هو العامل المؤثِّر في دعوة الخلفاء على ضدِّ أهل الحديث القائلين بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق.

ويظهر من ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد أنّ المتوكِّل وجّه إلى المعتزلة ضربة ثانية مؤثِّرة في إبعادهم عن ساحة المساجد والمدارس وإشخاص أهل الحديث

______________________

1 . مروج الذهب: ج 4، ص 1.

2 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 484 _ 485.

3 . تاريخ بغداد: ج 1، ص 298.

( 455 )

ودعوتهم إليها. يقول: «في سنة 234 أشخص المتوكِّل الفقهاء و المحدِّثين، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس و أن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة، وأن يحدِّثوا في الرّؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور، ووضع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً»(1).

والتّاريخ يعرب عن شدّة تفاقم أمر المعتزلة سنة بعد سنة وانجذاب المتوكِّل إلى أهل الحديث،

وتخطئة عمل أبيه الواثق، حيث إنّ أباه قتل بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه و كانت جثّته باقية على الصّليب إلى عام 237، ولكنّ المتوكِّل أمر بإنزال جثّته وهو نوع تخطئة لعمل أبيه أوّلاً، وإمضاء لمنهج أهل الحديث ثانياً.

يقول الطبري: «وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء و الرّعاع إلى موضع تلك الخشبة و كثروا و تكلّموا، فبلغ ذلك المتوكّل، فوجّه إليهم نصربن اللّيث، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم و حبسهم، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً ... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى (بغداد) وغسل ودفن و ضمّ رأسه إلى بدنه»(2).

ومع ذلك لم يكتف في قطع جذور المعتزلة عن بلاطه و صار بصدد الانتقام من آل ابن أبي دؤاد. يقول الطبري: «وفي سنة 237 غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد و أمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج

______________________

1 . مناقب الامام أحمد: ص 375 _ 385.

2 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 368 _ 369.

( 456 )

وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة»(1).

والظّاهر من الخطيب في تاريخه أنّ عزل محمّد بن أحمد كان يوم الأربعاء بعشر بقين من صفر سنة 240 وصُدرت

أمواله، ومات أبو الوليد محمّد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة 240 ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً (2).

ثمّ إنّ إبعاد المعتزلة عن ساحة القدرة فسح للشعب إظهار حقده و إبداء كامل غيظه في مناسبات شتّى. منها ما عرفت عند إنزال جثّة أحمد بن نصر، ومنها ما فعلوه في تشييع جنازة أحمد بن حنبل، فقد شيّعه جماعة كثيرة و إن غالى ابن الجوزي _ كما هو شأنه _ في حقِّ إمامه وقال: «وعن بعض الشهود أنّه مكث طول الأسبوع رجاء أن يصل إلى القبر فلم يتمكّن إلاّ بشقِّ النّفس لكثرة ازدحام النّاس عليه»(3). وأخذ الشعراء يهجون المعتزلة. يقول شاعرهم:

أفلت سعود نجومك ابن دؤاد * و بدتْ نحوسك في جميع إياد

فرحت بمصرعك البريّة كلّها * من كان منها موقتاً بمعاد

كم من كريمة معشر أرملتَها * و محدِّث أوثقتَ بالأقيادِ

كم مجلس لله قد عطّلتَه * كيلا يحدّث فيه بالاسناد

كم من مساجد قد منعتَ قضاتها * من أن يعدّل شاهد برشاد

كم من مصابيح لها أطفأتها * كيما تزلّ عن الطّريق الهادي(4)

وأخذ أهل الحديث يجلسون في المساجد و يروون الأحاديث ضدّ الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم(5).

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 367 _ 368.

2 . تاريخ بغداد: ج 1، ص 298، ولاحظ الكامل لابن الاثير ج 5، حوادث سنة240، ص 294.

3 . مناقب الامام أحمد: ص 418.

4 . تاريخ بغداد: ج 4، ص 155.

5 . تاريخ بغداد: ج 3، ص 285.

( 457 )

عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية و أنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة

يريدون أن يقضوا عليهم و يشفوا غيظ صدورهم منهم، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها و يتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش.فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم «فضيلة المعتزلة» فأثنى عليهم و عدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة، و بالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي (م 345ه_) الّذي كان من المعتزلة، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه «فضيحة المعتزلة» ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف «الانتصار» انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.

ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم و فرقهم، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين، مدرسة معتزلة بغداد و مدرسة معتزلة البصرة، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين و عند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي (م303ه_) و ولده أبي هاشم (م321ه_).

وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي و تلميذه، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً و نادى بأعلى صوته: «من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها و أنا تائب مقلع، معتقد للردّ على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم»(1).

فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس

______________________

1

. فهرس ابن النديم، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 231، ووفيات الاعيان، ج 3، ص 275.

( 458 )

وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجنّ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة، بين بالغ إلى ساحل النّجاة و هالك في أمواج الدّهر. هذا هو القادر بالله أحد خلفاء العبّاسيين قام في سنة (408ه_) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير: «وفي سنة (408ه_)، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع و تبرّأوا من الاعتزال و الرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك و أنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان و غيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة و صلبهم و حبسهم و نفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع و نفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام» (1).

قال الخطيب: «وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث و أورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز و إكفار المعتزلة و القائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي و يحضر النّاس سماعه»(2).

أقول: وهذا الكتاب هو المعروف «بالبيان القادري» وصار هذا الكتاب محوراً لتمييز الحقِّ عن الباطل و الصّحيح عن الزّائف.

وقال ابن الجزري في حوادث سنة (420ه_): «ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و مذاهب الاعتزال والنّجوم و أخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل»(3).

______________________

1 .

البداية والنهاية: ج12 ص6.

2 . تاريخ بغداد: ج 4، ص 37 و 38.

3 . الكامل: ج 7، حوادث سنة 420.

( 459 )

وقال ابن كثير في حوادث سنة (456ه_) ناقلاً عن ابن الجوزي: «وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع و تدريسه للنّاس بهذا المذهب و أهانوه و جرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور و جلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة»(1).

وقال في حوادث سنة (477ه_): «إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها».

ويقول أيضاً في حوادث (461ه_): «وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال»(2).

ويقول في حوادث سنة (465ه_): «وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال»(3).

وبذلك حقّق التّاريخ السنّة المعروفة «كما تدين تدان» وأخذت الطّائفتان، الحنابلة والمعتزلة يتصارعان و يقتتلان قتال موت أو حياة، فصارالانتصار لأصحاب الحديث، والهلاك والاضطهاد للمعتزلة، فلم يظهر بعد هذه القرون إلاّ آحاد ينجمون في الفينة بعد الفينة والفترة بعد الفترة لا تجد لهم ذكراً بارزاً في ثنايا التاريخ.

إنّ تكامل الأُمم و بلوغها الذّروة من العظمة، ثمّ انحدارها إلى هاوية الضعف والانحلال سنّة إلهيّة قضى بها على جميع الأُمم، فلم يكن ارتقاء المعتزلة بلا سبب، كما أنّه لم يكن ضعفهم بلا علّة. فيجب على الباحث المتأمِّل في ثنايا القضايا

التّاريخية تحليل هذه الظاهرة تحليلاً علميّاً يوافق الأُصول المسلّمة في تحليل هذه المباحث.

______________________

1 . البداية والنهاية: الجزء 12، ص 91.

2 . المصدر نفسه: ص 98 و 105.

3 . المصدر نفسه: ص 98 و 105.

( 460 )

أقول: إنّ المعتزلة لم يسقطوا سياسيّاً فحسب، بل سقطوا فكريّاً، فلا تسمع بعد أبي هاشم الجبائي (م 321ه_) في القرن الرابع، وبعد القاضي عبدالجبّار (م 415ه_) في القرن الخامس، مفكّراً قويّاً في المسائل الكلاميّة، يوازي المتقدّمين منهم مثل أبي هذيل العلاّف، والنّظام. بل أكثر ما قام به المتأخّرون بعد القاضي لا يتجاوز عن تبيين المذهب و توضيح صياغته من دون تأسيس قاعدة أو أصل في المجالات الكلاميّة.

والظّاهر أنّه لم يكن لسقوطهم سبب واحد، بل يستند انحلالهم إلى أسباب متعدّدة أدّت بهم إلى الهلاك والدمار والانقراض إلاّ في نقاط خاصّة كاليمن و غيرها.

وها إليك بيان الأُمور الّتي سبّبت سقوطهم:

1 _ إنّ مذهب السنّة بمفهومه الحقيقي، يبتني على عدالة الصحابة أجمعين وإجلالهم، بل على تعديل السلف من التّابعين وتابعي التّابعين في الأقوال والأفعال، كيف وهؤلاء عند أهل السنّة عمد المذهب، الّتي قام عليها صرحه. وجرح واحد من الصّحابة أو ترك قوله، إخلال في الأساس، وهو ما لا يقبله المذهب بتاتاً. فلأجل ذلك ترى أنّ أهل السنّة، يقدِّسون السلف و يكسونهم حلية العدالة الّتي لا تقلُّ عن العصمة في حقِّ النّبي الأكرم والعترة الطاهرة _ عليهم السلام _ عندالشيعة. وما هذا إلاّ لأنّ المذهب مبنيّ على تلك الأُسس من أوّل يوم اجتمعوا فيه لاختيار خليفة للرّسول إلى يومنا هذا.

فمع أنّ كثيراً من المفكِّرين منهم يتلون كتاب الله الصّريح في التنديد ببعض الصحابة، و يقرأون الصحاح والمسانيد الصّريحة في ارتداد الكثير منهم بعد رحلة

النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويقلبون التاريخ ظهر المِجنّ، فيشاهدون فيه موبقات بعض الصحابة وخداعهم و ضلالهم، مع ذلك كلِّه لا ينبسون فيهم ببنت شفة و يحكِّمون الأصل على هذه المعارف الصحيحة. وهذه قاصمة للمذهب السنّي بالمعنى الحقيقي. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إنّ المعتزلة كانوا منتمين لأهل السنّة، وفي الوقت نفسه كانوا

( 461 )

يعطون للعقل قسطاً أوفر و يقدِّمونه على النّصوص الواردة في الصِّحاح والمسانيد عن الصحابة والتابعين. مثلاً إنّ النّصوص النبويّة الّتي يرويها المحدِّثون من أهل السنّة تركِّز على التجسيم والرؤية والتشبيه والجبر وسلب الاختيار عن الإنسان، فمعنى كون الفرقة فرقة سنّية، تكريم هذه الأُصول والأحاديث وعدم الخروج عن خطوطها، ولكنّهم مع الانتماء واجهوا هذه النّصوص بشدّة و قسوة، فأخذوا يردّونها و يضربونها عرض الجدار، وهذان لا يجتمعان.

فكون الإنسان مقتفياً لمذهب أهل السنّة لا ينفكّ عن اقتفاء هذه الآثار و عدم التخطّي عنها، والثورة على هذه النّصوص، إمحاء لمذهب السنّة وهدم لأُسسه، فكيف يجتمعان. فلازم ذلك أنّهم صاروا يتبنّون مبدأين متناقضين يضربون بواحد منهما المبدأ الآخر.

فالحقّ أنّ التسنّن بالمعنى الصحيح هو ما كان عليه أحمد بن حنبل و نظراؤه من الجمود على الظواهر، والأخذ في الصفات الخبريّة بالمعنى الحرفي، و رفض العقل والبرهان في مجالي العقائد والأحكام، وترك التفكير والتعقّل في المعارف، وهذا هو الخطّ السنّي الحقيقيّ الّذي عليه و هّابية اليوم في نجد والحجاز، فمن أراد الانتماء إلى هذا المذهب، يجب أن يسلك هذا الطريق و يترك التفكّر والبرهنة في جميع المجالات، ومن جمع بينهما فقد جمع بين الضدّين والنقيضين.

إنّا نرى أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعريّ بعد ما تاب والتحق بالحنابلة، وحاول إثبات عقائد أهل الحديث بالبرهنة والدليل، قابله

إنكار شديد من قبل الحنابلة، ولأجل ذلك لم يترجموه في طبقاتهم ولا عدّوه من أنفسهم، بل استنكر «البر بهاري» رئيس حنابلة بغداد طريقته بأنّه يتجاوز في طرح الأُصول والعقائد عن النّصوص ويدخل في باب الدليل والبرهان، وقد صار ذلك سبباً لحدوث مخاصمة شديدة بين الحنابلة والأشاعرة على مدى القرون.

وقد عرفت في الجزء الثاني شكوى الأشاعرة من المتوسّمين بالحنبليّة، وما هذا إلاّ

( 462 )

لأنّ خطّ الحنابلة خطّ الرواية عن التّابعين والصحابة والاقتفاء بهم من دون أن يقيموا للعقل وزناً، وهذا على طرف النقيض من كتب الإمام الأشعري (سوى الابانة) وكتب أئمّة الأشاعرة، فإنّها مشحونة بالاستدلال العقليّ على العقائد وإن كان لصالح آراء أهل الحديث.

وفي ضوء ذلك تقف على أنّ موضع المعتزلة من المجتمع السنّي موضع الرقعة من اللّباس، فكانوا من أهل السنّة و يدّعون الانتماء إليهم، غير أنّ أهل السنّة لا يقبلونهم وهذا وحده يكفي في سقوطهم من أعين العامّة و أوساط الناس.

2 _ كان لأصحاب الحديث _ بما أنّهم حفظة السنّة و علماء الدين _ نفاذ عجيب في نفوس العامّة و كان ذلك كافياً في إثارة سخطهم على المعتزلة، لأنّهم ما زالوا يذكرونهم على صهوات المنابر وأندية الوعظ والإرشاد بالالحاد ورفض السنّة و مخالفة الدين، ولم تكن الوقيعة فيهم منحصرة بيوم أو شهر أو سنة، بل امتدّت طوال قرون في العواصم الإسلاميّة حتّى أيقن بسطاء الأُمّة بل علماؤهم بأنّ الاعتزال خروج على الدّين باسم الدّين ومحو للسنّة باسم البرهنة بالعقل. وكفى هذا في إبعاد المعتزلة عن ساحة المجتمع و إسقاطهم عن أعين النّاس والهجوم عليهم وعلى أموالهم إذا أتيحت للنّاس الفرصة و وافقت عليه السّلطة الحاكمة.

3 _ إنّ المعتزلة كانوا يتبنّون عقائد تخدش عواطف العامّة

بخلاف أهل الحديث، فقد كانوا يتبنّون ما يوافق أفكارهم و مصالحهم في الدّنيا و الآخرة، فأهل الحديث كانوا يدّعون بأنّ شفاعة الشّافعين تعمّ العادل والفاسق و أنّ رسول الله ادّخرها للمذنبين من أُمّته و مثل هذا يوجب التفاف عامّة الناس حول رايتهم، وهذا بخلاف ما يتبنّاه المعتزلة، فإنّهم يقولون بأنّها لا تشمل إلاّ صلحاء الأُمّة، والغرض منها رفع الدّرجة لاإمحاء الذّنوب. فأىُّ العقيدتين أولى بأن تتّبع عند عامّة النّاس؟

إنّ أهل الحديث يقولون بأنّ الخلود في النّار يختصّ بالكافر، والمؤمن وإن كان فاسقاً لا يخلّد و إن مات بلا توبة.

( 463 )

وهذا بخلاف ما يقوله المعتزلة من خلود مرتكبي الكبائر في النّار إذا ماتوا بلا توبة. فكان لفكرة أهل الحديث جاذبيّة تضمّ العامّة إليهم و هذا بخلاف ما تقوله المعتزلة.

4 _ إنّ نجم المعتزلة أفل بعد الواثق عند ما تسنّم المتوكِّل منصّة الخلافة، فعند ذلك صارت السلطة الحكوميّة سيفاً مصلتاً فوق رقابهم و شبحاً مرعباً يلاحقهم بعد ما كانت أداة طيّعة لهم، والنّاس على دين ملوكهم وسلاطينهم، ثمّ اشتدّ غضب الخلفاء عليهم على مرِّ الزمن، فصار ذلك سبباً لذبح المعتزلة تحت كلّ حجر و مدر، وقد استغلّ أهل الحديث والحنابلة غضب السّلطة على المعتزلة وقادوهم إلى الحدّ الّذي عرفت من النكاية.

5 _ إنّ المعتزلة قد اشتهروا بالقول بحريّة الفرد في أعماله و كانوا يدافعون عن حريّة الإنسان و احترام العقل، وهذا لا يجتمع مع ما ارتكبوه في أيّام الخلفاء الثلاث، فناقضوا بذلك أنفسهم و عارضوا تعاليمهم و أظهروا أنّهم لا يقدرون العقل حقّ قدره، فإذا كانت الحريّة تفرض على المعتزلة أن يدينوا بخلق القرآن، فهذا بنفسه يفرض عليهم أن لا يسوقوا النّاس بالجبر والحبس والضّرب على

الاعتراف بخلق القرآن، وغاية ما كان على المعتزلة تشكيل أندية الوعظ والارشاد والجدال الصحيح حتّى يتمّوا الحجّة على متحرّي الحقيقة أخذاً بقوله سبحانه: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين)(1).

وأين هذا من الاصرار على تبديل السّرائر والحكومة على الضمائر و فرض العقيدة بالجبر والضّرب؟ «إنّ الحركة الفلسفيّة العلميّة الّتي بدأت تتقوّى و تنتشر بيد المعتزلة وأخذت تلقى أنصاراً و أعواناً، لو تركت تسير في مجراها الطبيعي، لاستطاعت أن تقضي على الرّوح الرجعية في الأُمّة على قوّتها و عنفها. ولكتب لها الفوز والنجاح، ولكنّ

______________________

1 . سورة النحل / 125.

( 464 )

المعتزلة استبقوا الزمن واستعجلوا الأُمور، فأرادوا في زمن دولتهم أن يحقِّقوا ما لا يتحقّق إلا بالاقناع، وأن ينجزوا في برهة و جيزة ما قد يتطلّب قروناً»(1).

6 _ إنّ صمود أحمد بن حنبل في طريق عقيدته أضفى له عند الأُمّة بطولة في طريق حفظ السنّة وجعل منه أُسطورة للدّفاع عن العقائد و قبول الاضطهاد في طريق الدّين ولمّا أفرج عنه التفّ النّاس حوله واندفعوا يحاربون أعداءه و يكيدون لهم، ولم يبرح في الإجهار على ضدّ المعتزلة و إثارة النّاس عليهم.

7 _ إنّ الرجعيّة كانت متأصّلة في نفوس العامّة، متحكّمة في كثير من العلماء وكانوا لا يرغبون في مخالفة السلف قدر شعرة، وهذا أوجب انتصار أهل الحديث على أهل العقل والاستدلال، وكان عمل المعتزلة مثيراً لروح التعصّب فيهم أزيد ممّا كانوا عليه، ولعلّهم كانوا يتقرّبون في ضربهم و شتمهم و قتلهم إلى الله.

8 _ وقد كان للشّيخ أبي الحسن الأشعري دور مؤثّر في تأليب العامّة و الخاصّة على المعتزلة، فإنّه كان معتزليّاً عارفاً

بسلاح العقل والمنطق. فقد رجع عن المعتزلة لأجل أنّه رأى الهوّة السحيقة بين أهل السنّة و أهل الاعتزال، فأراد أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين المذهبين، ولكنّه بدلاً من أن يستعمل ذلك السِّلاح في نصرة الدّين قام بمقاومة الاعتزال وهدمه، ولم يفعل ذلك إلاّ مجاراة للرأي العامّ و طمعاً في كسب عطفهم و تأييدهم، وبالتالي خضع للقوى الرجعية إلى حدّ كبير، فأمضى كلّ ما كان عليه الحنابلة من مسألة القدر والرّؤية بحرفيتّها.

9 _ إنّ جنوح السّلطة إلى أصحاب الحديث من عصر المتوكِّل إلى آخر العبّاسيّين وتولّيهم عن المعتزلة دعاة العدل والتّوحيد، لم يكن خالياً عن الأهداف السياسيّة الّتي كانت لمصالح عروشهم وحكومتهم، لأنّ من مبادىء أهل الحديث وجوب إطاعة السّلطان الجائر و حرمة الخروج عليه و وجوب الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر إلى غير ذلك من الأحكام الّتي ذكرها إمام الحنابلة في عقيدة أهل الحديث، ومن المعلوم أنّ هذا هو ما تتوخّاه السّلطة، فإنّ في ذلك دعماً لجورها و استبدادها.

وأين هذا من القول بالعدل والدعوة إلى التفكّر و وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و وجوب الخروج على السلطان الجائر و نصب الإمام العادل، إلى غير ذلك من الأُصول الّتي كانت المعتزلة تتبنّاه ولم تكن لصالح الحكومة.

هذا و ذاك صار سبباً لرجوع السّلطة إلى أهل الحديث و تقديمهم على المعتزلة.

10 _ إنّ للّه سبحانه سنّة في الأقوام و الأُمم عبّر عنها في الكتاب العزيز بقوله:

(وتلك الأيّام نداولها بين النّاس) (آل عمران/140) فلا ترى أُمّة في ذروة العزِّ دائماً ولا في حضيض الذلّ كذلك. نعم لتحقّق السنّة و تبلورها في المجتمع أسباب وعلل ربّما يكون ما ذكرنا من الأسباب بعضها.

______________________

1 . المعتزلة لحسن زهدي جار الله: ص

252.

( 465 )

2 _ الآثار الباقية من المعتزلة(1).

كان مشايخ الاعتزال و أئمّتهم ذوي قرائح خصبة، وكفاءات خاصّة في نضد القريض و ارتجال الخطب. فكان إلقاء الكلام على الوجه البليغ، المطابق لمقتضى الحال، أحد أسلحتهم الفتّاكة في باب المناظرة. ومن المحتمل أيضاً أنّ تسمية علم الكلام به لأنّ المعتزلة هم الأُسس لتدوين علم الكلام بين أهل السنّة، وبما أنّهم قد بلغوا الذّروة والسّنام في البلاغة والفصاحة و إلقاء الكلام، سمّيت صناعتهم بأوصافهم و خصوصيّاتهم، فأطلقوا على منهجهم الفكري لفظ الكلام و علمه. ويظهر ذلك من الرّجوع إلى تاريخ حياتهم، وقد عرفت أنّ واصل بن عطاء مع أنّه كان به لثغة بالرّاء ولكن كان يتجنّب عن الراء في خطبه، فيتكلّم بالقمح مكان البُرّ، والغيث مكان المطر. ولم يكن التفوّق في البلاغة مختصّاً به، بل هو الغالب على أئمّة المعتزلة. فلا عجب لأن يتركوا كتباً قيّمةً في مجالات العقيدة والأدب والتفسير، غير أنّ الدهر لعب بكتبهم،

______________________

1 . هذا هو البحث الثاني الذي وعدنا به في صدر خاتمة المطاف.

( 466 )

وأعان على حرقها و إعدامها خصماؤهم، فلم يصل إلينا إلاّ النّزر القليل الّذي حفظته الصدفة. و نذكر من آثار المعتزلة ما طبع و نشر، وأمّا المخطوطة منها الموجودة في المكتبات العالميّة فهي على عاتق الفهارس، ولو قمنا به لطال بنا المقام فنذكر المطبوع حسب التّسلسل التّاريخي للتأليف.

1 _ «المعيار والموازنة» لأبي جعفر الاسكافي (م 240)، في فضائل الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام _ تحقيق محمد باقر المحمودي،طبع في بيروت/1402.

2 _ «درّة التنزيل و غرّة التأويل» له أيضاً طبع في مطبعة السعادة، عام (1326ه_).

3 _ «البيان و التبيين» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (م

255ه_) في أربعة أجزاء، طبع عدّة مرّات، آخرها طبعة دار الفكر عام 1968.

4 _ «المحاسن والاضداد» له أيضاً طبع في القاهرة (عام 1331ه_).

5 _ «الفصول المختارة من كتب الجاحظ» جمعها الإمام عبيد الله بن حسّان، طبع على هامش «الكامل» للمبّرد في القاهرة، (عام 1324ه_).

6 _ «العثمانيّة» تحقيق محمّد هارون المصري طبع مصر، واستقصى المحقّق ما بثّه ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة من كتاب (نقض العثمانية) لأبي جعفر الاسكافي، فجمعه وطبعه في آخر «العثمانيّة» فجاء الكتاب ونقضه في مجلّد واحد. وتعرّفت على شأن الكتاب في ترجمة الجاحظ.

7 _ «رسائل الجاحظ» في جزءين، تحقيق عبدالسلام هارون، طبع في القاهرة عام (1964م).

8 _ «البخلاء» له أيضاً، تحقيق طه الحاجزي، طبع في مصر.

9 _ «الانتصار» في الردّ على ابن الرّاوندي، تأليف أبي الحسين المعروف بالخيّاط،

( 467 )

طبع مع مقدّمة و تحقيق وتعليق للدكتور نيبرج الاستاذ بجامعة (آبسالة) في (مملكة السويد). وفي آخره قائمة لفهرس الكتب المذكورة في هذا الكتاب أكثرها للمعتزلة يبلغ عددها أربعين كتاباً(1).

10 _ «فضل الاعتزال أو ذكر المعتزلة» لأبي القاسم البلخي (م317 أو319ه_) تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدّار التونسية، عام (1406ه_).

11 _ «شرح الأُصول الخمسة» لقاضي القضاة عبدالجبّار بن أحمد (415ه_). حقّقه وقدّم له الدّكتور عبدالكريم عثمان، المطبوع بمصر، عام (1364ه_)، في (804) صفحة وراء الفهارس وهو أجمع كتاب لتبيين الأُصول الخمسة الّتي تتبنّاها المعتزلة في مجال العقائد.

12 _ «المغني» له أيضاً، وهو إملاء القاضي لتلاميذه، وقد طبع منه لحدّ الآن أربعة عشر جزءاً وهو في عشرين جزءاً، وقد اكتشفته البعثة العلميّة المصريّة باليمن، وهو أبسط كتاب للمعتزلة في مجال الكلام، والجزء الأخير منه في الإمامة، الّذي نقضه السيّد المرتضى بكتاب أسماه ب_

«الشافي» ولخّصة الشيخ الطُّوسي، والأصل والملخّص مطبوعان.

13 _ «تنزيه القرآن عن المطاعن» طبع عن النسخة المخطوطة بدار الكتب المصريّة. له أيضاً ما يلي:

14 _ «متشابه القرآن» له في جزءين. طبع في القاهرة، دار التراث، تحقيق الدكتور عدنان زرزور.

15 _ «المجموع المحيط بالتكليف له».

16 _ «المختصر في أُصول الدّين» من رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة.

______________________

1 . الانتصار: قسم الفهرس، ص 249 _ 252.

( 468 )

17 _ «طبقات المعتزلة» له أيضاً، تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدار التونسية، عام (1406ه_).

18 _ «ديوان الأُصول في التوحيد» لأبي رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري رئيس المعتزلة بعد القاضي عبدالجبّار، طبع مصر، عام (1968م)، تحقيق محمّد عبدالهادي أبو ريدة، وقد تبعنا في نسبة الكتاب إليه، رأي محقِّق الكتاب.

19 _ «الطبقتان الحادية عشرة والثانية عشرة من طبقات المعتزلة» لأبي السعد المحسن بن محمّد كلام الجشمي البيهقي (م494ه_)، وكأنّه ذيل لكتاب «طبقات المعتزلة» للقاضي حيث ترجم فيه الطبقتين الحادية عشرة والثانية عشرة من المعتزلة، تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدّار التونسية، وهو جزء من كتابه «شرح العيون».

20 _ «رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس» له أيضاً، تحقيق حسين المدرسي الطباطبائي، طبع عام (1406)، وقد ألّفه بصورة روائيّة على النهج المعروف اليوم.

21 _ «تفسير الكشّاف» للشّيخ محمود بن عمر بن محمود الزمخشري (م538ه_) وقد طبع عدّة مرّات، وهو أحد التفاسير الّتي يرجع إليها جميع المسلمين في الوقوف على بلاغة القرآن، ولا يزال إلى اليوم ينظر إليه كأحد التفاسير المهمّة، وقد أدرج في تفسيره حسب تناسب الآيات آراء المعتزلة و أخضع الآيات لتلك المبادىء. وله أيضاً ما يلي:

22 _ «أساس البلاغة» في اللّغة، طبع في مصر.

23 _ «أطواق الذهب في المواعظ والخطب» تحتوي مائة مقالة في النصايح،

طبع في مصر و بيروت و استنبول.

24 _ «عجب العجاب في شرح لامية العرب» طبع في القاهرة و استنبول.

25 _ «الانموذج» طبع في ايران مع شرح عبدالغني الأردبيلي.

26 _ «الجبال و الأمكنة والمياه» طبع في ليدن.

27 _ «ربيع الأبرار و نصوص الأخبار».

28 _ «الفائق في غريب الحديث» طبع في حيدرآباد.

( 469 )

29 _ «الكلم النوابغ أو نوابغ الكلم» طبع في القاهرة و بيروت.

30 _ «المفصّل في صناعة الإعراب» طبع في مصر و غيرها.

31 _ «مقدّمة الأدب» في اللّغة، طبع في ليبسيك.

32 _ «شرح نهج البلاغة» لعز الدين عبدالحميد بن أبي الحديد البغدادي المدائني (م655ه_) وهو أعظم الشّروح و أطولها و أشملها بالعلوم والآداب والتّاريخ والمعارف، ألّفه لمؤيّد الدّين محمد بن أحمد بن العلقمي وزير المستعصم بالله آخر الخلفاء والملوك العبّاسيّين، وكان له كتب فيها عشرة آلاف مجلّد من نفاس الكتب(1) طبع في عشرين جزءاً بتحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم في القاهرة.

33 _ «طبقات المعتزلة» لأحمد بن يحيى بن المرتضى أحد أئمّة الزّيدية، ولد عام (م764ه_) وتوفّي بظفار عام (840ه_)، وهو جزء من كتابه الآخر «المنية والأمل» في شرح كتاب الملل والنحل .

34_ البحر الزخّار دورة فقهية على مذهب الإمام زيد طبع في ستة أجزاء.

35 _ «كتاب الأساس لعقائد الأكياس» تأليف القاسم بن محمّد بن علىّ الزيديّ العلويّ (م1029ه_). حقّقه و قدّم له الدكتور البيرنصري نادر، طبع دار الطليعة بيروت، عام1980.

36 _ «العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ» للشيخ صالح المقبلي (م1108ه_)، طبع القاهرة عام (1331ه_)(2).

***

هذه هي المعتزلة و تأريخها، هذه تعاليمها و مشايخها و آثارها، فمن أراد الكتابة

______________________

1 . مقدمة نهج البلاغة، بقلم المحقق.

2 . ولعل الفائت منّي أكثر من المذكور، والتكليف على

حدّ المقدور، وقد اكتفينا بذكر ما وقفنا على المطبوع من كتبهم، أمّا المخطوط منها فحدّث عنه ولا حرج، يقف عليها من راجع فهرس مخطوطات المكتبة المتوكلية في جامع صنعاء باليمن، وقد صور أكثرها دار الكتب المصرية ونشر قسماً كبيراً منها.

( 470 )

عن المعتزلة فعليه الرجوع إلى هذه المصادر وإن كانت قليلة، لكنّها تغنيه عن الرجوع إلى كتب خصمائهم ك_ «الفرق بين الفرق» للبغدادي، فإنّه أخذ ما أخذه عن خصمهم ابن الراونديّ فنسب إليهم فى كتابه فضائح لا يمكن الرّكون عليه، فإنّ الخصم لا يصدّق في النّسبة والنقل.

نعم، كان انقراض المعتزلة انهزاماً لدعاة الحرّيّة و انتصاراً للتحجّر و تقوية لقوى الجهل والأُميّة، ولو كانت الحرّيّة سائدة على الأُمّة الإسلاميّة لكان الوضع غير ما نشاهده بين الأُمّة، والحكم لله العليّ القدير.

بلغ الكلام إلى هنا و فرغنا من تأليف هذا الجزء و ترصيفه و تبييضه يوم الجمعة يوم تحرير القدس العالمي التاسع والعشرين من شهر رمضان من شهور عام 1409ه_/ق.

والحمدللّه أوّلاً و آخراً و ظاهراً و باطناً.

قم _ مؤسسة الإمام الصادق _ عليه السلام _

جعفر السبحاني

الجزء الرابع (يتناول حياة ابن تيمية )

اشاره

الملل والنحل الجزء الرابع (يتناول حياة ابن تيمية وابن عبد الوهاب وعقائدهما وشخصيّاتهم)

مقدمة

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الخاتم وعلى آله المصطفين الأخيار.

أما بعد: فهذا هو الجزء الرابع من موسوعتنا الكلامية حول المذاهب الإسلامية، ونستعرض فيه دراسة المذهب الوهابي الّذي نشأ في أوسط القرن الثاني عشر في إقليم «نجد» وقد غاب نجمه يوم طلوعه، وصار خامل الذكر، ثم أعيد الي الساحة الإسلامية في أواسط القرن الرابع عشر، بعد استيلاء العائلة السعودية على الحرمين الشريفين (مكة و المدينة)، وتبنّت الدعايات السياسية الزمنية ترويج ذلك المسلك بترغيب وإرهاب، وقامت الدوائر الإعلامية العالمية _ عن طريق المجلات والصحف، والمؤلفين المأجورين الجدد _ بنشر تعاليمه و تفاصيله. أسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا في هذا الجزء، ويعيننا في هذه الدراسة، ويوصلنا إلى الحق الصواب إنه قريب مجيب.

إنّ المذهب الوهابي المفروض على الشعب المسلم في الجزيرة العربية وغيرها، قام على الأفكار الّتي ورثها مؤسّسها محمد بن عبدالوهاب (ت 1115 _ م 1207) من أحمد بن تيمية (ت 661 _ م 728) الّذي بذر هذه الأفكار في أواخر القرن السابع (698) وأوائل القرن الثامن، وكانت بذرته الّتي بذرها مودوعة في الكتب وزوايا المكتبات، إلى أن أحيى محمد بن عبد الوهاب ما دثره الدهر، واتّخذ من عقائد شيخه في المذهب ابن تيمية قاعدة

( 6 )

لمذهبه، وحذف منها ما يمتّ إلى مسألة التشبيه والتجسيم وإثبات الجهة والفوقية بصلة، واهتم بما يرجع من عقائده إلى مسألة التوحيد والشرك .

ولأجل أن تكون الدراسة متكاملة الأطراف، مترامية الجوانب، نشرع باذيء بدء دراسة حياة شيخه ابن تيمية أولا، ثم نعقبها بدراسة مجدّد مذهبه ومسلكه في القرن الثاني عشر الهجري، وإليك البحث عن

حياة ابن تيمية وآراء معاصريه في حقّه، وآرائه، مع تحليل ما اعتمد عليه من الأُصول لمذهبه، ولكن بعد تقديم مقدّمة تكشف عن الظروف العصيبة الّتي أُلقيت فيها هذه البذرة، ونشأ فيها هذا المذهب .

قم _ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

شوال المكرم / 1410 .

( 7 )

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

دعامتان للإسلام

بُنىّ الإسلام على كلمتين هما دعامتاه المبدئيتان: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة; أمّا الأُولى فقد دعا إليها النبي الأعظم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، بل الأنبياء والمرسلون قاطبة، ولم يكن لهم هدف سوى إرساء قاعدة التوحيد والقضاء على الوثنية، وما سوى ذلك من التعاليم من فروع تلك الشجرة الطيبة وأغصانها وثمارها، ولولا هذا الأصل لما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإسلام عود. قال سبحانه: (و لقد بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّة رَسُولا أنِ اعبُدُوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) .(1)

وأمّا الثانية فهي الدعامة الثانية لإرساء صرح الإسلام، بل هي الركن الركين لنشر تعاليمه وكبح جماح الجبابرة والطواغيت، ولولا وحدة الكلمة لكان الإسلام في بدء طلوعه فريسة لمطامع الظالمين، وقد دعا إليها الذكر الحكيم في غير مورد من آياته. قال سبحانه: (وَ اعتَصِموا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا واذكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُم إذْ كُنْتُم أعداءً فَألَّف بين قُلُوبِكُم فَأَصبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْواناً)(2) .

وقد قام النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في دار هجرته بتجسيد مفهوم الاخوّة بين أصحابه، قال سبحانه: (إنَّما المؤْمنونَ إخوةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُم)(3)،

____________________________

1 . سورة النحل : الآية 36 .

2 . سورة آل عمران : الآية 103 .

3 . سورة الحجرات : الآية 10 .

( 8 )

فآخى بين الأوس و الخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، وآخى بين نفسه وصنوه وصهره عليّ صلوات اللّه عليه(1)

.

ثمّ إنّ الرسول الأكرم _ انطلاقاً من هذا المبدأ _ شبّه المؤمنين مع كثرتهم ووفرتهم بالجسد الواحد وقال: «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد (الواحد) إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(2) .

ولقد كان النبي الأكرم يراقب أمر الأُمة، لا يشقّ عصاها منازع جاهل أو عدوّ غاشم، وكان يقودها إلى الأمام برعايته الحكيمة، وكلّما واجه خلافاً أو شقاقاً ونزاعاً بادر إلى ترميم صدعها بحزم عظيم وتدبير وثيق، ولقد شهد التاريخ له بمواقف في هذا المجال انتخبنا منها ما يلي:

1- انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق وقتل من قتل من العدوّ وأُسر من أُسر منهم; فبينما رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ على مائهم، نشب النزاع بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين، فصرخ الأنصاري فقال: يا معشر الأنصار، وصرخ الآخر وقال: يا معشر المهاجرين، فلما سمعها النبي، قال: دعوها فإنّها منتنة.. يعني إنّها كلمة خبيثة، لأنّها من دعوى الجاهلية، واللّه سبحانه جعل المؤمنين إخوة وصيّرهم حزباً واحداً، فينبغي أن تكون الدعوة في كل مكان وزمان لصالح الإسلام و المسلمين عامة، لا لصالح قوم ضدّ الآخرين، فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية يُعزّر (3).

فالنبي الأكرم يصف كل دعوى تشقّ عصا المسلمين و تمزّق وحدتهم بأنّها دعوى منتنة، فكيف لا يكون كذلك وهي توجب انهدام الدعامة للكيان الإسلامي، وبالتالي انقضاض صرح الإسلام .

____________________________

1 . راجع في الوقوف على مصادر الحديث كتاب الغدير. ج 3 ص 112 _ 124 .

2 . مسند أحمد ج 4 ص 270 .

3 . السيرة النبويّة، ج 3 ص 303 غزوة بني المصطلق، ولا حظ التعليقة للسهبيلي، وراجع مجمع البيان، ج 5 ص 293

وغيره من التفاسير .

( 9 )

2- نزل النبي الأكرم دار هجرته والتفّت حوله القبيلتان: الأوس والخزرج، فمرّ شأْس بن قيس _ الّذي كان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم _ على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني غيلة بهذه البلاد، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار، فأمر فتىً شاباً من اليهود كان معهم فقال: اعمد اليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث، يوم اقتتلت فيه الأوس و الخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأُوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهري، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعاً .

دخل الشاب اليهودي مجمتع القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية، فأحيى فيهم حميتها حتّى استعدوا للنزاع والجدال بحجة أنّهم قتل بعضهم بعضاً في العصر الجاهلي يوم بعاث، وأخذ الشاب يُؤجّج نار الفتنة ويصب الزيت على النار حتّى تواثب رجلان من الحيّين فتقاولا .

فبلغ ذلك رسول اللّه فخرج، إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتّى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين! اللّه، اللّه، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللّه بالإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟

كانت كلمة النبي كالماء المصبوب على النار بشدة وقوة، حيث عرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم

_ مذعنين، متسالمين، مطيعين قد دفع اللّه عنهم كيد عدو اللّه شأْس بن قيس، فأنزل اللّه تعالى في شأْس وما صنع (1)..

____________________________

1 . السيرة النبوية ج 2 ص 250 .

( 10 )

3- كان لقضية الإفك في عصر الرسول دوىّ بين أعدائه، فكان عدوّ اللّه «عبد اللّه بن أُبي» يشيع الفاحشة ويؤذي النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، فقام رسول اللّه في الناس يخطبهم، فحمد اللّه وأثنى عليه _ ثم قال: «أيّها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، واللّه ما علمت منهم إلاّ خيراً، ويقولون ذلك الرجل، واللّه ما علمت منه إلاّ خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلاّ وهو معي _ و كان كبر ذلك الإفك عند عبد اللّه بن أُبي بن سلول في رجال من الخزرج .

فلمّا قال رسول اللّه تلك المقالة، قال «أسيد بن حضير» وكان أوسياً: يا رسول اللّه! إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فواللّه إنّهم لأهل أن تضرب أعناقهم، فقال سعد بن عبادة _ وكان خزرجياً _ : كذبت لعمر اللّه لا تضرب أعناقهم، أما واللّه ما قلت هذه المقالة إلاّ أنّك قد عرفت أنّهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: ولكنّك منافق تجادل عن المنافقين. و عندئذ تساور الناس حتّى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شرّ. وفي لفظ البخاري: فصار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همُّوا أن يَقْتَتِلوا ورسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قائم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت(1) .

هذه نماذج من مواقف النبي الأعظم حيال الخلافات الّتي

كانت تنشب أحياناً بين أُمّته وهو _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كان يصنع من الخلاف وئاماً ومن النزاع وفاقاً، ويدفع الشر بقيادته الحكيمة، وما هذا إلاّ لأنّ صرح الإسلام قائم على كلمتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة .

وهذا صنو النبي الأكرم ووصيه وخليفته _ إذ حرم من حقّه المشروع، وبدلت الخلافة التنصيصية إلى تداول الخلافة بين تيم وعدي، ثم إلى أُمّية _ قد

____________________________

1 . السيرة النبوية ج 3 ص 312 _ 313، و صحيح البخاري ج 5 ص 119 باب غزوة بني المصطلق .

( 11 )

بقي حليف بيته وأليف كتاب اللّه، وهو يرى المفضول يمارس الخلافة مع وجود الفاضل، بل يرى تراثه نهباً، ومع ذلك كله لم ينبس ببنت شفة إلاّ في موارد خاصة، حفظاً للوفاق والوئام، وهو _ عليه السَّلام _ يشرح لنا تلك الواقعة بقوله: «فواللّه ما كان يُلْقَى في رُوعي، وَ لا يَخْطُرُ ببالي، أنّ العَرَبَ تُزعِجُ هَذَا الأَمرَ مِنْ بَعْدِهِ _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عَنْ أهْل بَيتِهِ، وَ لا أنّهُمْ مُنَحُّوهُ عنّي مِنْ بَعْدِهِ، فما رَاعَني إلاّ انثيالُ الناسِ على فُلان يُبَايِعُونَهُ فَأمْسَكْتُ يدي حتّى رأيتُ راجعة الناسِ قد رَجَعَتْ عن الإسلام يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دينِ مُحَمّد فخَشيتُ إن لَمْ أنْصُرِ الإسلامَ و أهلَهُ أن أرَى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تَكُونُ المُصيبَةُ بِهِ علىَّ أعْظمَ مِنْ فَوْتِ ولايَتِكُم، الّتي إنّما هِىَ مَتاعُ أيّام قَلائِلَ...»(1).

وعندما تسنّم سدّة الخلافة ورجع الحق إلى مداره، قام خطيباً فقال: «والزَمُوا السّوادَ الأعظَمَ، فإنَّ يدَ اللّهِ مَعَ الجماعَةِ و إيّاكُمْ و الفُرْقَةَ فإنّ الشّاذَّ مِنَ الناسِ للشيطانِ كَمّا أنّ الشّاذّ مِنَ الغَنَمِ للذِّئْبِ. ألا مَنْ دَعَا إلى هذا الشّعارِ فَاقْتُلُوهُ وَ لَوْ كَانَ

تحتَ عِمَامَتي هَذَهَ»(2) .

هذه هي سيرة النبي الاكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وسيرة وصيّه وتلميذه، وهما تعربان عن أنّ حفظ الوحدة من أهمّ الواجبات وأوجب الفرائض، ولكن يا للأسف لم تراع الأُمّة نصح النبي الأكرم عبر القرون والأجيال، وهذه مأساة سقيفة بني ساعدة المسرحية وما تمخّض عنها. واقرأها بدقة وإمعان ترَ أنّ الجانبين المهاجرين والأنصار تشبّثوا بدعاوي منتنة تشبه دعوى الجاهلية، فمندوب الأنصار يجرّ النار إلى قرصه بحجة أنّهم نصروا النبي الأكرم و آووه، كما أنّ المتكلم عن جانب المهاجرين (و لم يكن في السقيفة منهم آنذاك إلاّ خمسة أشخاص) يراهم أحقّ بتداول الخلافة بحجة أنّهم عشيرة النبي الأكرم، وفي الوقت نفسه لم نجد في كلامهما ما يشير إلى ما يخدم صالح الإسلام والمسلمين، وأنّ المصالح الكبرى تكمن ضمانتها في تنصيب من توفّرت فيه شرائط وسمات وملامح القيادة الربّانية دون سائر أفراد الأُمّة .

____________________________

1 . نهج البلاغة، الرسالة 62 .

2 . نهج البلاغة، الخطبة 127 .

( 12 )

وقد توإلى الخلاف والشقّاق، ودارت الدوائر على المسلمين بعد مقتل عثمان وانتخاب علي _ عليه السَّلام _ للزعامة باتفاق المهاجرين والأنصار، إلاّ من شذّ ولا يتجاوز عددهم خمسة، وعند ذلك ثقل على الأُمّة عدل علىّ وسيرته، فثارت الضغائن البدرية ضدّه فوقع ما وقع، وتوالت الوقائع والأحداث، فجاءت وقعة الجمل الّتي أُريقت فيها دماء المسلمين، لأجل إزالة الإمام وتنحيته عن حقّه ومقامه. وبعد ما انتصر الإمام على الناكثين وعاد الحق إلى مقره، نجم قرن آخر تمثل في وقعة صفين الّتي ذهبت ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين، إلى أن انتهى الأمر إلى وقعة النهروان الّتي شغلت بال الإمام واستنفدت طاقات المسلمين، واستشهد الإمام، والمسلمون بعد لم

يندمل جرحهم، وبويع ولده الإمام الحسن السبط للخلافة، وأخذ بزمام الأمر أشهراً قلائل، غير أنّ ابن ابي سفيان شنّ الغارة على العراق وشيعة الحسن _ عليه السَّلام _ ومبايعيه، فانجرّ الأمر إلى التصالح، وأُنيخ جمل الخلافة على باب بني أُميّة يتداول كرتها واحد بعد واحد، حتّى انتكث عليهم فتلهم وأجهز عليهم عملهم بانتفاضة الأُمة ضدّهم، إلى أن استولى العباسيون فصاروا خلفاء الأُمة وقادتها، ولم يكونوا بأحسن من الأمويين .

يا ليت جور بني مروان دام لنا * وليت عدل بني العباس في النار

كان العباسيون يتوارثون الخلافة من الآباء إلى الأولاد، و كان للإسلام صولة وللمسلمين هيبة، ولم تكن تجترىء القوى الكافرة في العالم عبر قرون على غزو المسلمين، وإن كانت الفتن والحروب الداخلية دائرة بينهم. غير أنّ تلك الحروب وضعف القيادة الإسلامية أتاحت فرصة صالحة للقوى الكافر ة المتربّصة بالمسلمين لشنّ الغارة على الوطن الإسلامي وضرب الإسلام والمسلمين ضربة قاضية في أوائل القرن السادس، حيث أنشبت مخالبها في جسد الإسلام والمسلمين، وانقضّت عليهما بالحملات الصليبية في أوائل ذلك القرن، وكان منطلق شنّ تلك الحملات والغارات من جانب الغرب، عن طريق البحر تارة على سواحل الشامات، وأُخرى عن طريق البر عبر القسطنطنية.

كانت تلك الحروب لا تزال طاحنة ومشتعلة ينتصر فيها المسلمون على

( 13 )

العدو في فترة بعد فترة، إذ بدأت الحملات الاُُخرى من جانب الشرق على يد التتار والمغول، فكان مختتم الحروب الصليبية مبدأ للحروب الوثنية بايدي عبدة الشمس والكواكب، ولعلّ هذا يعرب عن اتفاق الصليب والصنم، وبالتالي الصليبيين والصنميين على تدمير الحضارة الإسلامية... ولسنا أول من تنبّه إلى اتفاق هاتين القوتين في ذلك العصر المظلم، بل يظهر عن طريق الإمعان في ثنايا التاريخ أنّ ذلك

كان أمراً مدبّراً، ولو لم يكن هناك اتفاق في بدء الأمر لكن حصل الاتفاق بين الصليبي والوثني في أثناء تلك الحروب، وفي كلام ابن الأثير المعاصر لهذه الحروب إشارة إلى ذلك حيث يقول: «وقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأُمم. منها هؤلاء التتار _ قبحهم اللّه _ أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال الّتي يستعظمها كل من سمع بها، ومنها خروج الإفرنج _ لعنهم اللّه _ من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف اللّه تعالى ونصره عليهم»(1) .

ثم إنّ ابن الأثير يشير إلى ضعف القيادة الإسلامية في تلك العصور، ويزيح النقاب عنها بقوله: «يسرّ اللّه للمسلمين و الإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه...»(2) .

ولأجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الواردة على الإسلام والمسلمين، الناجمة عن هذه الحروب الصليبية والتترية، نذكر لمحة خاطفة من هاتين الحربين كنموذج تمثيلي، ليعلم بذلك داء المسلمين فيه، ثم نبحث عن الدواء الّذي كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يقدّموه إلى المجتمع الإسلامي، والمصل الناجع، ونقدّم الكلام عن الحروب الصليبية أوّلا، ثم عن التترية ثانياً، ثم تنامي رقعة الهجمات الصليبية في الوطن الإسلامي بهجومهم على الأندلس ثالثاً، وقد استغرقت هذه الهجمات الصليبية والتترية قرنين، من

____________________________

1 . الكامل في التاريخ ج 12 ص 360 .

2 . الكامل في التاريخ ج 12 ص 376 .

( 14 )

أوائل القرن السادس إلى أواخر القرن السابع أو أزيد.

الحروب الصليبية (491 _ 616)

كانت النصارى بالمرصاد للمسلمين، وكان من أُمنياتهم الاستيلاء على بيت المقدس

و سلبه من أيدي المسلمين بحجّة أنّه قبلة الأُمم المسيحية ومثوى ومنتجع عواطفهم الدينية، فشنّوا الغارة على بلاد المسلمين حوالي سنة 491 إلى أواخر القرن السابع، وكانت للحروب الصليبية مراحل ثمان أو تسع، فكانوا ينتصرون في بعضها، كما تلحقهم الهزيمة في بعضها الآخر، ومن المراحل التي انتصروا فيها على المسلمين المرحلة المعروفة التي: «ساروا فيها إلى بيت المقدس، فحاصروه ونصبوا عليه برجين، وملكوه من الجانب الشمالي، وسلّط على الناس السيف، ولبث الإفرنج في البلد أُسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، وقتل بالمسجد ما يزيد على سبعين ألفاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء» (1) .

إنّ التواريخ الإسلامية تعرف السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب (م 589 ه_) الفاتح الكبير والقائد الفذّ، الّذي صمد في وجه، الصليبيين حيث طرد الإفرنج عن الشامات، غير أنّه لم يقض في فتوحاته على غائلة الحروب الصليبية بشكل نهائي، بل امتدت هذه الحروب في الوطن الإسلامي بعده ايضاً. كيف وقد وقعت حرب ضروس في سنة 593 ه_ بين الملك العادل ابي بكر بن ايوب وبين الإفرنج، فأنقذ مدينة يافا من الساحل الشامي من يد الإفرنج(2) وقد ذكر ابن الأثير أيضاً في حوادث سنة 614: «أن الإفرنج اقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة 615 فساروا في البحر إلى دمياط، فوصلوا في صفر، فأرسلوا على بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل...»(3) .

زحف التتار إلى البلاد الإسلام

قد ذكر المؤرخون بعض الدوافع لاشتعال هذه الحرب في أوائل القرن

____________________________

1 . تاريخ مختصر الدول، للملطي المعروف بابن العبري، المتوفى 675 ه_ .

2 . الكامل ج 12 ص 126 .

3 . الكامل ج 12 ص 323 .

( 15 )

السابع بين الوثنيين والمسلمين قالوا: إنّ ملك التتار المعروف ب_ «جنكيز

خان» قد سيّر جماعة من التجار ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى ما وراء النهر، سمرقند وبخارى، ليشتروا به ثياباً للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمّى «أوترار» وهي آخر ولاية «خوارزم شاه» وكان له نائب هناك، فلما وردت عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم، ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال، فقتلهم وسيّر ما معهم، وكان شيئاً كثيراً، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى و سمرقند، وأخذ ثمنه منهم، فبلغ الخبر إلى جنكيزخان فأرسل رسولا إلى خوارزم شاه يقول: «تقتلون أصحابي و تجاري وتأخذون مالي منهم، فاستعدوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به» (1) .

ويظهر من بعض الآثار أنّ يد بعض الأساقفة كانت وراء تحريض ملك التتار على الزحف والحرب، يقول ابن العبري: «عظم الأمر عند جنكيزخان وتأثر منه إلى الغاية وهجره النوم، وصار يحدث نفسه ويفكر في ما يفعله، ففي اليلة الثالثة رأى في منامه راهباً عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم، فذكر رؤياه للأسقف فقال الأسقف: يكون الخان قد رأى بعض قديسينا، ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم، ومن هذه السنة (616) قصد جنكيزخان البلاد الإسلامية»(2).

الداهية العظمى أو خروج التتار إلى بلاد الإسلام

إنّ عظمة الداهية بلغت حداً لا يستطيع القلم واللسان تبيينها وترسيمها ولا يستطيع المسلم أن يسمع ذكراً منها أو يقرأ فصلا من فصولها، حتّى أنّ ابن الأثير بقي عدة سنين معرضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فبقي يقدّم رجلا ويؤخّر أُخرى، ثم علّل إعراضه عن تحرير هذه الواقعة

____________________________

1 .

الكامل ج 12 ص 361 _ 362 .

2 . تاريخ مختصر الدول ص 230 .

( 16 )

بقوله: «ومن ذا الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني، ويا ليتني متّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رايت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين، فلو قال قائل إنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه وتعالى آدم و إلى الآن لم يبتلوا بمثله لكان صادقاً، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يقاربها ولا ما يدانيها .

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب بيت المقدس، وما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، الّتي كل مدينة منها أضعاف بيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإنّ أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لن يروا مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلاّ يأجوج ومأجوج .

وأمّا الدجال فإنّه يبقي على من اتّبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم، ولهذه الحادثة الّتي استطار شررها، وعمّ ضررها، وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاسغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما،

فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً، وتخريباً وقتلا، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمدان، وبلد الجبل وما فيها من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد آذربيجان وأرانية يخربونها ويقتلون أكثر أهلها ومن ينجو إلاّ الشريد الفارّ (فعلوا كل ذلك) في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله .

ثم لما فرغوا من آذربيجان وأرانية صاروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه

( 17 )

ولم يسلم غير القلعة الّتي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز، ومن في ذلك الصقع من الأُمم المختلفة فأوسعوهم، قتلا، ونهباً، وتخريباً، ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عدداً، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال، وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها في أسرع زمان، ولم يلبثوا إلاّ بمقدار مسيرهم لا غير.

ومضت طائفة أُخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد. وهذا ما لم يطرق الأسماع مثله. فإنّ الإسكندر الّذي اتفق المؤرخون على أنّه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنّما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحداً. وإنّما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة، ولم يبق في البلاد الّتي لم يطرقوها إلاّ وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه» (1) .

ثم إنّ ابن الأثير تتبّع مسير التتار وهجماتهم الوحشية، فذكر الحوادث المفجعة سنة بعد سنة، إلى أن وصول إلى حوادث (628 ه_) وبعدها بقليل .

و أظنّ أنّ فيما ذكره على وجه الإجمال غنى وكفاية، ولا يحتاج

إلى سرد التفاصيل الّتي جاءت بعد هذا الإجمال، ولكنّه لم يدرك الهزيمة النكراء الّتي أصابت المسلمين عند سقوط بغداد، ولكن المؤرخين الذين جاءوا بعده ذكروا سقوط العاصمة في أيدي أولئك الوحوش الضواري، وقد ارتكبوا جرائم لا تغسل عن ساحة الذاكرة الإنسانية بماء المحيط، فضلا عن البحر والنهر، ولاجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الروحية والجسدية الواردة على المسلمين، نذكر من تلك الهجمات العديدة هجومهم على بغداد، فإنّه يوقفنا على حقيقة ما جرى في غيرها، معتمدين في ذلك على ما سطره ابن كثير في تاريخه.

____________________________

1 . الكامل لابن الأثير ج 12 ص 358 _ 361 .

( 18 )

سقوط الخلافة العباسية بأيدي وحوش التتار

لم تستهل هذه السنة إلاّ وجنود التتار قد أحاطت ببغداد بصحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكوخان، وقد جاءت إليهم أمداد صابح الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبّحهم اللّه تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة الّتي لا ترد من قدر اللّه سبحانه وتعالى شيئاً، كما ورد في الأثر «لن يغني حذر عن قدر» و كما قال تعالى: (إنَّ أجَلَ اللّهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) (1) وقال تعالى: (إنَّ اللّهَ لا يُغيِّرُ ما بِقَوم حتّى يُغيِّروا ما بأنفُسِهم وَإذا أرادَ اللّهُ بِقوم سُوءاً فَلا مَردَّ لَهُ وَمَا لَهم مِن دُونِهِ مِن وَال)(2). وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة خطاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً

شديداً، وأحضر السهم الّذي اصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: «إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب عن ذوي العقول عقولهم» فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها _ وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل _ إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة.

ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم بقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتّى استعطى كثير منهم في الأسواق وعلى أبواب المساجد، و أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثونهم ويحزنون على الإسلام وأهله .

ولما فتحوا البلد، قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء

____________________________

1 . سورة نوح: الآية 4 .

2 . سورة الرعد: الآية 11 .

( 19 )

والوالدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار و أماكن الحوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون في الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إمّا بالكسر و إمّا بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتّى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم... وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، وبذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها، كأنّها خراب ليس فيها إلاّ القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة .

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت

المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قصّ اللّه تعالى، علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: (وَ قَضَينا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابَ لَتُفْسِدُُنَّ في الأرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً * فإذا جاءَ وَعدُ أولاهُما بَعَثْنا عَليكُم عَباداً لَنا أُولي بَأْس شَديد فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكَانَ وَعْداً مَفعولا)(1) .

وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء .

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي نفس، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلىّ العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً .

ولما انقضى الأمر المقدور وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على

____________________________

1 . سورة الإسراء: الآية 4_5 .

( 20 )

عروشها ليس بها أحد إلاّ الشاذّ من الناس، القتلى في الطرقات كأنّها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتّى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام; فمات خلق كثير من تغيّر الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والطعن والطاعون فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

ولما نودي ببغداد الأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنّهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الّذي يعلم السرّ وأخفى

اللّه لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى، وكان رحيل السلطان المسلّط هولاكوخان عن بغداد في جمادي الأُولى من هذه السنة (666 ه_) إلى مقر ملكه (1) .

ثم امتدّت الهجمات بعد سقوط بغداد حتّى وصل جيش العدو إلى عين جالوت وغزة في فلسطين، وكانت الأُمنية الكبرى للعدو هي الاستيلاء على الشامات ثم مصر، ولكن الزحف توقف بتدبير الملك الظاهر بيبرس (659 _ 676 ه_) ولكن العدو حاول الاستيلاء ثانياً على الشامات...(2) .

وهذا اليافعي يتتبّع مسير التتار وهجومهم، فيقول في حوادث عام 700 ه_ :

«حصلت أراجيف بالتتار وجاء غازان بجيشه الفرات وقصد حلب فتشوشت الخواطر...» .

ويقول في حوادث عام 702 ه_ : «طرق غازان الشام ولكن انهزم عند سور دمشق وتفرّقت جيوشه، ثم جهّز غازان جيوشه فصاروا إلى مرج دمشق وتأخر المسلمون وبات أهل دمشق في بكاء واستغاثة وخطب شديد، وقدم

____________________________

1 . البداية والنهاية، ج 13، ص 200 _ 213 .

2 . فيليب حتي. تاريخ العرب المترجم إلى الفارسية، ج 2 ص 883، 851، 828 .

( 21 )

السلطان وانضمّت إليه جيوشه...»(1) .

هذا قليل من كثير مما جنت يد التتار على الإسلام والمسلمين، وقد امتدّ الدمار والهلاك بعد هذه السنة حتّى تجاوز القرن السابع إلى أواخر القرن الثامن. فابتدأت الحروب التترية من عام 603 ه_ وانتهت عام 807 ه_ بموت تيمورلنك الّذي تظاهر هو بالإسلام وبعض من قبله، ولكن لمن تزل القلوب مضطربة باستيلاء هؤلاء على المناطق الإسلامية .

* * *

إبادة المسلمين في الأندلس

انتهت الحروب الصليبية والتترية في مختتم القرن الثامن، ولكن نار الحرب بين المسلمين والمسيحيين كانت مشتعلة في الوطن الإسلامي «الأندلس» عن طريق إبادة المسلمين وإجلائهم عن وطنهم والتنكيل بهم .

إنّ المسلمين بفضل المجاهدين الإسلاميين

وصلوا إلى تلك البلدة الخصبة عام 92 ه_ واستمرّوا في الفتح إلى أن وصلوا إلى قلب فرنسا عند مدينتي «تور» و«بواتييه» عام 112 ه_ (2) وهناك توقفت الفتوحات بسبب ضعف القيادة الإسلامية في بغداد، وقطع صلة الحكام بالأندلس عنها، وعند ذلك طمع الصليبيون في سلب تلك البلدة من أيدي المسلمين، فبدأوا بالحروب ضدهم، وكانت الأندلس في نهاية القرن الخامس الهجري قد انقسمت إلى عدة ممالك صغيرة، عرف حكامها بملوك الطوائف، وكان نصارى الشمال يهددون هذه المنطقة»(3) .

إلى أن حلت الهزيمة بالمسلمين في موقعة العقاب في 15 صفر 609 ه_ أي في نفس الوقت الّذي كان التتار قد بدأوا بشنّ الغارة على المسلمين من الشرق إلى الغرب وبالتالي زال سلطان «الموحدين» وسقطت هذه البلاد في يد

____________________________

1 . مرآة الجنان ج 4 ص 234 _ 235 .

2 . دائرة المعارف الإسلامية، مادة «أندلس» .

3 . تاريخ الإسلام، تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن، ج 4 ص 537 .

( 22 )

«الإسبان» ولم يبق في أيدي المسلمين سوى منطقة جبلية في جنوب شرقي إسبانية حيث قامت مملكة «غرناطة» الإسلامية على أيدي بني نصر (بني الأحمر) الذين بايعوا الخليفة الحفصي أقوى حكام المغرب في ذلك الحين (1) .

ولكن العدو لم يرض بما اكتسب من الفتوح فشنّ الغارة عليهم حتّى أبادهم عام 898 ه_ فصار الأندلس كله للإسبان.

ثم إنّ التاريخ يحكي لنا تعامل الإفرنج مع المسلمين معاملة سوء، حيث أجبروهم على التنصّر وعلى خروج النساء مكشوفات، فهرب المسلمون إلى الجبال فصاروا يطاردونهم كما تطارد الفرائس. وقد عدّ بعض المؤرخين عدد العرب المطرودين في قرن واحد (أي من عام 791 إلى عام 898 ه_) نحواً من ثلاثة ملايين كانوا نخبة المسلمين وأعظمهم صناعة

وعلماً .

و أنت إذا قرأت التاريخ وقلبت صفحاته تقف على أنّ هذه القرون الأربعة أي من بداية 500 إلى 900 ه_ شرّ القرون وأسوأها بالنسبة إلى المسلمين، فقد حلت بهم عقوبات وضحايا لم يسجّل التاريخ لواحد من الأُمم مثلها، وإليك مبدأ هذه الحروب ومختتمها:

1- الحروب الصليبية. بدأت من عام 489 ه_ واستمرت إلى عام 660 ه_ .

2- الحروب التترية، ابتدأت من عام 603 وانتهت عام 807 ه_ بموت تيمور لنك الّذي تظاهر بالإسلام .

3- إبادة المسلمين في الأندلس و إجلاؤهم بعد انحصار سلطانهم في منطقة صغيرة في غرناطة، ابتدأت من عام 609 إلى 898 ه_ .

حصيلة البحث

نحن نستنتج من هذا البحث الضافي أنّ الخلافة العباسية وملوكها وسلاطينها بلغوا من الفساد والانحلال إلى حدّ غاب عنهم معه ما كان يجري

____________________________

1 . المصدر نفسه، ص 318 .

( 23 )

خارج قصورهم، فقد كانت القوى الكافرة محيطة بدار الخلافة، والخليفة كان غافلا عمّا يجري خارج القصر، وكانت تلعب بين يديه جاريته فلم يوقظه من الغفلة أو السكرة إلاّ إصابة نبل الخصم لجاريته، فإذا كان هذا هو الإسلام وهذا خليفته، وهذا شعوره وإحساسه، فعلى الإسلام السلام، وعلى تلك الخلافة العفاء .

وقد عرفت أنّ ابن الأثير كان من المشاهدين للقضايا عن كثب، ويعرف الخلفاء وسلاطينهم بأنّهم بلغوا من العقلية إلى درجة لا يهمّهم إلاّ ما يهمّ البهيمة من إشباع بطنها و إرضاء فرجها (1) .

ومن المعلوم أنّ الفساد لم يكن مقتصراً على بلاط الخلفاء، بل الانحلال الخلقي والانحطاط المعنوي كان سائداً على الغالبية العظمى من المجتمع، إذ الناس على دين ملوكهم، ومن العجب أنّ المؤرخين الأباعد يحملون وزر سقوط الخلافة العباسية على عاتق الوزير الشيعي مؤيّد الدين ابن العلقمي، الّذي يصفه

ابن الكثير بقوله: «وكان عنده فضيلة في الإنشاء وليديه فضيلة في الأدب» ويضيف أيضاً: «إنّه أشار على الخليفة بأن يبعث إلى هولاكو بهدايا سنية ليكون ذلك مدارة له عمّا يريده من قصد بلادهم، فخذّل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير «أيبك» وغيره، وقالوا إنّ الوزير إنّما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكوخان»(2) .

ومن الظلم إلقاء جريرة سقوط بغداد على عاتق هذا الوزير مع كون الخليفة على الحال الّتي سمعتها من ابن الكثير، وكون الملوك والسلاطين لا يهمّهم إلاّ بطنهم وشهوتهم، مع اشتعال نار الخلاف بين الرؤساء والقادة الشاغلين منصّة قيادة المجتمع الإسلامي، فلا تنتج تلك المقدمات إلاّ هذا الوضع الوبيل، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون .

____________________________

1 . الكامل في التاريخ ج 12 ص 375 .

2 . البداية والنهاية ج 13 ص 214 .

( 24 )

الحواضر الإسلامية آنذاك، دواؤها وذواوها

قد تعرّفت على الأوضاع المؤسفة السائدة في الحواضر الإسلامية، وما آلت إليه من الدمار والهلاك والمذابح الفظيعة، والمجازر الرهيبة الّتي تعرّض لها سكانها الأبرياء، بسبب تلك الحملات العدوانية، وعندئذ نسأل كل مسلم حر الضمير عن دواء هذا الداء الّذي ألمّ بالمسلمين، وعلاج تلك المأساة الّتي وقع فيها الإسلام ؟

ولا أشك في أنّ دواءها الوحيد كان هو إحياء التعاليم الإسلامية _ آنذاك _ في مجال الجهاد والمقاومة، وإعادة الثقة إلى النفوس، والعمل على تقوية المعنويات ورفع المستوى العسكري لدى المسلمين عملا بقوله تعالى: (وَ أعِدُّوا لهم مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّة وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُم)(1) .

ثم السعي في توحيد ما تفرّق وتشتّت من صفوف المسلمين، وحثّهم على تعمير

ما تهدم من حضارة الإسلام، وإحياء شتى مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ممّا انهارت تحت ضربات الأعداء من الشرق والغرب .

ولا يكون ذلك إلا بإعادة العلم الناجع إلى الساحة، وتناسي الخلافات الفرعية، والدعوة إلى التمسّك بمبادىء الوحدة، وتجسيد قوله سبحانه: (إنَّما المُؤمنُونَ إخوةٌ)(2) ورفض البحث عن الخلافات الّتي تثير النزاع، وتوجد الفرقة وتمزق الصفوف.

هذا ما يحكم به ضمير كل إنسان حر، فلو وجدنا في مثل هذه الظروف العصيبة من يثير نار الخلافات الطائفية والمذهبية، وبالتالي يضرب المسلم بالمسلم ويشغلهم بالبحث عن فروع ليس لها من الأهمية بالقياس إلى علاج الدمار الرهيب الّذي حلّ بالمسلمين _ لو وجدنا رجلا بهذا الوصف والنعت _ فلا نشك أنّ نعرته نعرة جاهلية، وحركته حركة مشبوهة، ودعوته دعوة منتنة

____________________________

1 . سورة الانفال: الآية 60 .

2 . سورة الحجرات: الآية 10 .

( 25 )

حسب تعبير النبي، ومن الظلم والجناية على الإسلام والمسلمين تلقيب هذا الداعي ب_ «شيخ الإسلام» أو «محيي الشريعة» أو «محيي السنة» أو غير ذلك من ألفاظ الثناء الوافر الّذي يوصف به هذا الرجل في هذا القرن، بترغيب وترهيب من أصحاب الثراء والسلطة، بعد أن كان معروفاً بغيرها في القرون الغابرة، كما ستوافيك كلمات معاصريه ومن جاء بعدهم إلى هذه الأعصار .

إنّ طرح الخلافات الكلامية والفقهية _ في العصر الّذي كانت القوارع تنصبّ فيه على رؤوس المسلمين من الشرق والغرب، وتهدم الديار وتقتل النفوس البريئة، وتشقّ بطون النساء والأطفال، ويرفع الرجال على أعواد المشانق وتخضب الأراضي بدماء المسلمين _ ما هو إلاّ من قبيل صب الزيت على النار، وتعميق الجرح غير المندمل .

إنّ طرح المسائل على ضوء العقل إذا كان لغاية التعرّف على الحقائق أمر يستحسنه العقل ويقبله الشرع

في جميع الحالات ولكن طرح هذه المسائل على وجه يتضمن تكفير الفرق الإسلامية واتهامهم بالشرك، وتجويز قتلهم وإهدار دمائهم، في الوقت الّذي غمس العدو يده في دمائهم إلى مرفقه، وقتل منهم الملايين، لا يصحّ تفسيره إلاّ بأحد وجهين: إمّا أن يكون رجلا غبياً لا يعرف الداء ولا الدواء، أو رجلا مُعقّداً مغرماً بالشهرة وحبّ العظمة.

وما هذا الرجل إلاّ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 661 _ م 728 ه_ ) فقد ولد في شر القرون وعاش في أجوائها الصعبة على المسلمين، ومات في ظروف الهزيمة الّتي حلت بالمسلمين، لعلل تعرّفت عليها، فقد أثار في تلك الظروف العصيبة مسائل خلافية لا تزيد في الطين إلاّ بلّة ولا في الجرح إلاّ تعميقاً، فهو بدل أن يعيد إلى الساحة الإسلامية الأخلاق والعمل بالإسلام، ويعظ الملوك والساسة بالقيام بالوظائف وفتح معسكرات لإعداد الشباب وتدريبهم، وإيجاد روح الكفاح، تجده يرفع عقيرته بالمسائل الّتي لا تعود على المسلمين في تلك الظروف العصيبة بشيء سوى تعميق الخلاف وتعكير الصفو، وتشديد النزاعات المذهبية والطائفية .

ورؤوس المسائل الّتي طرحها ابن تيمية وأصرّ عليها وخالف الرأي العام

( 26 )

للمسلمين _ ولأجل ذلك اعتقل ونفي إلى مصر _ هي الأُمور التالية:

1- يجب توصيفه سبحانه بالصفات الخبرية بنفس المعاني اللغوية من دون تصرّف، كالاستواء على العرش، و أن له يداً ووجهاً، وأن له نزولا وصعوداً.

2- يحرم شدّ الرحال إلى زيارة النبي وتعظيمه بحجّة أنّها تؤدّي إلى الشرك.

3- يحرم التوسّل بالأولياء والصالحين.

4- تحرم الاستغاثة بالأولياء ودعوتهم.

5- يحرم بناء القبور وتعميرها.

6- لا يصح أكثر الفضائل المنقولة في الصحاح والسنن في حقّ علىّ وآله .

إلى غير ذلك من المسائل الفرعية في أبواب الطلاق وغيرها كما ستقف عليها عند عرض

آرائه. هب أيّها القارىء لما أنّ تبنّاه من الآراء مسحة من الحق _ وليست آراء ساقطة تضاد القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة المسلمين _ هب أنها آراء صحيحة _ ولكنّها هل كانت مفيدة في تلك الظروف، هل كانت دواءً لداء الأُمة الإسلامية؟ أو كانت أموراً غريبة عمّا يجب القيام به، بل كانت مؤيدة لما يتوخاه العدو من تشتيت الشمل وتمزيق الصفوف؟!!

إنّ من البداهة بمكان أنّ هذه المسائل لم تكن مما يخشاه العدو، فإنّ هذا النوع من المسائل الجدلية لا تفضح نوايا العدو ولا تعرقل خططه، لأنّها لا تعيد إلى المسلمين روح الوثبة والمقاومة والاستبسال، بل من شأنها أن تستنفد طاقاتهم من دون جدوى، و تفني قواهم من دون أثر يتّصل بالواقع .

فلو كان ابن تيمية «شيخ الإسلام» حقاً لكان عليه أن يدع ما يلهي المسلمين عن مصيرهم، بل ما يعمّق محنتهم، ويتصدّى لمواجهة العدو بإعادة الروح الجهادية إلى نفوسهم، وبث المعنويات في قلوبهم، وتوجيه همم

( 27 )

المسلمين، إلى إعادة بناء كيانهم العسكري والصناعي والعلوم الناجعة، حتّى يستعيدوا بذلك مجدهم المندثر الّذي تألق في القرن الرابع الهجري .

ويا للأسف إنّه بدل القيام بوظائف شيخوخة الإسلام الحقيقية انصرف إلى مسائل اجتهادية ليست ناجعة في ذلك العصر ولا بعده .

ابن تيمية لم يكن سلفياً

إنّ الموالين لابن تيمية والمقتفين أثره يصفونه بالسلفية، ويتقولون فيه بأنّه محيي مذهب السلف. هب أنّ السلفية مسلك ومذهب، ولكن السلفي عبارة عمَّن لا يتخطّى عمّا سلكه السلف الصالح طيلة قرون سبعة، ولكن أراءه وأفكاره على طرف النقيض من أراء السلف. إنّ المسلمين طيلة قرون كانوا يحترمون قبر النبي ويزورونه، ولم تقع الزيارة في تلك العصور ولو مرة واحدة ذريعة إلى الشرك، بل كان الداعي

إلى زيارته في كل فترة من الفترات، كونه نبىّ الإسلام نبىّ التوحيد، ومكافح الشرك ومنابذه، فيجب احترامه وتكريمه وحفظ آثاره وقبره، وآثار أصحابه وزوجاته وأبنائه انطلاقاً من هذا المبدأ (أي كونه نبىّ التوحيد، مشيد بنائه الشامخ) ولكنّا نرى أنّ ابن تيمية يخالف هذه السيرة الموروثة من الصحابة إلى زمانه، ويحرّم شدّ الرحال إلى زيارته تمسكاً بحديث غير دال على ما يرتئيه، كما سيوافيك.

إنّ المسلمين طيلة القرون الغابرة إلى ميلاد ابن تيمية كانوا يتبرّكون بالنبي وآثاره، ولا يرون ذلك شركاً ولا ذريعة إليه، حتّى أنّ الشيخين أوصيا بمواراتهما في جوار النبي، لما استقرّ في قرارة ضميرهما بأنّ للمكان شرافة ومكانة بالغين، وأنّ المواراة في ساحة النبي لها كرامة، ولم ينبس أحد من الصحابة ببنت شفة بأنّ ذلك ذريعة إلى الشرك، إلى أن ألقى الشر بجرانه إلى الأرض بميلاد ابن تيمية وآرائه الساقطة، فجعل ينكر هذا العمل ويخالف السلف.

إنّ السلف الصالح في حياة النبي وبعده كانوا يستغيثون بالنبي لما له من كرامة عند اللّه، لما أمرهم اللّه سبحانه بالمجيء إليه وطلب الاستغفار منه، ولم يخطر ببال أحد أن الاستغاثة بالملخوق شرك أو ذريعة إلى الشرك، وكان هذا

( 28 )

ديدن السلف في جميع القرون، فجاء ابن تيمية ينكر الاستغاثة والتوسل، ثم يصف نفسه سلفياً، فما معنى هذه السلفية؟ (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) .

تقييم إنجازات ابن تيمية

إنّ قيمة كل امرىء بما يقدّمه إلى الأُمة من خدمات وخيرات، فإمّا أن يشيد بناء ثقافتهم ويضمن تقدمهم في ميادين العلم والعمل، ويرفع من مستوى أخلاقهم وسلوكهم الإنساني والإسلامي، وإمّا أن يرفع مستوى معيشتهم و يسعى في ترفيههم بمشاريع البرّ و الإحسان، من بناء المدارس ومراكز التعليم والمستشفيات والمستوصفات، ودعم الكفاح

بالتدريب العسكري وغيره مما يرجع إلى دعم البنية المادية للمجتمع.

هلم معي نطرح إنجازات ابن تيمية على طاولة النقاش والمحاسبة، فهل قام بأحد الأمرين؟

أمّا من جانب المعنى فلم نر أنّه قدم إلى المجتمع، دراسة نافعة في الحقوق والسياسة والاقتصاد أو الاجتماع، أو ألف جامعاً حديثياً يكون هو المرجع للمسلمين كما قام بعض معاصريه بهذا الأمر، فلم يبق منه إلاّ التركيز على المسائل الّتي قدمنا رؤوسها والّتي كفّر بها مخالفيه، وبالتالي كفّر جمهور المسلمين الذين عاشوا طيلة سبعة قرون .

هب أنّه قدم إلى المسلمين دراسات توحيدية، ولكن ما كانت نتيجة تلك الدراسات، فغاية ما أنجز وأتى _ بعد ما تصوب وتصعد _ أنّه يجب توصيفه سبحانه بنفس الصفات الخبرية بمعناها اللغوي، فصار معناه هو التجسيم والتشبيه وإثبات الجهة والفوقية للّه سبحانه، وقد فهم الكل هذا المعنى من دراساته. هب أنّه لم يقصد من إثبات هذه الصفات ما نسب إليه من الجسمية، ولكنّه صبّ ما رآه في قوالب أذْعَنَ الكُلُّ _ الداني منهم والنائي _ بأنّه مُجسّم مشبّه مُثْبت للّه سبحانه الجهة والفوقية، مع أنّه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني، و أنَّهُ ليس كمثله شيء .

ما معنى هذه الدراسات العميقة الّتي لم تورث إلاّ هذه الأفكار الباطلة،

( 29 )

وسوف يوافيك أنّ الرجل مجسّم وإن كان لا يتفوه به، ولكن جُمَلَهُ وألفاظه وعباراته وما أصرّ عليه لا تنتج إلاّ ذلك.

وقس عليه سائر إنجازاته من جانب المعنى، فقد منع شدّ الرحيل إلى زيارة النبي الأكرم، مع أنّ قبور الأنبياء لم تزار تزل من عصر النبي وقبله وبعده، وليست الغاية من زيارتهم إلاّ التوقير والتكريم و عقد الميثاق مع ما جاءوا به من أُسس التوحيد، فكيف يكون ذلك ذريعة إلى الشرك؟

وحصيلة

البحث هي أنّنا لم نجد في جميع إنجازاته شيئاً بديعاً يرفع به رأسه ويفتخر به على من سواه، سوى ما في كلامه من الغلظة والأذى .

اللسان والقلم مرآتان للضمير

إنّ اللسان والقلم مرآتان لضمير صاحبهما يعربان عن نفسيته الخبيثة أو الطيبة، الشريرة أو الخيّرة، فاللسان البذيء يكشف عن نفسيته المستهترة المريضة، كما أنّ اللسان و مثله القلم النزيهين يكشفان عن ملكة فاضلة. ومن رجع إلى كتب ابن تيمية يعرف أنّه ما كان يملك لسانه وقلمه عن التقوّل على المسلمين والتهجّم عليهم فجاءت كتاباته مليئة بالقول البذيء و إساءة الأدب، الّذي هو على طرف النقيض من الإسلام والعلم.

ابن تيمية في مرآة الرأي العام

ولقد كانت ثورة الرأي العام الإسلامي عليه من جانب الفقهاء والحكام والمتكلمين والمحدثين أدلّ دليل على انحرافه عن الخط المستقيم والطريق المهيع، فليس من القضاء الصحيح تخطئة جمهور المسلمين وتصويب رجل واحد، فمنذ نشر الرجل رأيه حول الصفات الخبرية عام 698 ه_ في «الرسالة الحموية» جاءت الاستنكارات تترى من جميع الطوائف، وكلما تعرض الرجل للعقائد الإسلامية الّتي اطبقت عليها الأُمة في جميع القرون، تعالى الاستنكار، حتّى أُلقي عليه القبض ونفي من بلد إلى بلد، وتعرض لاعتقال بعد اعتقال، إلى أن منع من القرطاس والكتابة، حتّى مات في السجن ممنوعاً من كل شيء .

ولو كان الرجل شيخ الإسلام ورائده وناصحه، لما ضاق عليه المجال من

( 30 )

جانب أبناء جلدته من قضاة وحكام: شوافع وأحناف .

نعم الأسف كلّه على الناشئة الجدد الذين وقعوا فرائس في أحابيل الدعاية الوهابية الّتي يقودها النظام السعودي ويغذيها بثروته الواسعة، ويدعمها الاستعمار الغاشم لغاية إضعاف المسلمين بالخلافات وإشغالهم بقضايا ومسائل لا تمتّ إلى الحياة بصلة.

ولأجل ذلك نضع حياة الرجل وشخصيته أولا، وآراء

معاصريه ومن جاء بعده في القرون اللاحقة في حقه في ميزان النقد والقضاء ثانياً، ثم نبحث عن آرائه و أفكاره ونعرضها على الكتاب والسنة ثالثاً، حتّى يتبين الحق ويظهر، ويزهق الباطل .

ابن تيمية: حياته والرأي العام فيه

ابن تيمية: حياته والرأي العام فيه

هو أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 ه_ ، بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد، وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة.

كان مولده بمدينة حران مهد الصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام، وقد نشأ النشأة الأُولى إلى أن بلغ السابعة من عمره، فلما أغار عليها التتار، فرّ سكانها منها، وكان ممن هاجر أُسرة ابن تيمية، حيث هاجرت إلى دمشق، وقد اتّجه إلى العلم منذ صغره، وكان يدرس الفقه الحنبلي ويتتبّع سير ذلك المذهب، وكان أبوه من شيوخ هذا المذهب، ففي المدارس الحنبلية تخرج ابن تيمية، ودرس في كنف ابيه وتوجيهه ولم ير منه بادرة إلاّ بعد ما كتب رسالة في جواب سؤال أهل حماة، سألوه بقولهم: «ما قول السادة العلماء أئمة الدين _ أحسن اللّه إليهم أجمعين _ في آيات الصفات، كقوله تعالى: (الرّحمنُ عَلىَ العَرْشِ اسْتَوى) وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماء) إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، وأيضاً كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّ قلوب بني آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «يضع الجبّار قدمه في النار» إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه، وليبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء اللّه؟»(1) .

____________________________

1 . الرسالة الحموية، ص 425 _ طبعت في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 .

( 32 )

فأجاب بما هو نصّ في التجسيم، وإن ذيّل كلامه بشيء يريد به الستر على عاره،

ولكنّه لا يسمن ولا يغني من جوع، وسيوافيك نصّه عند تبيين عقائده، فاوجد الجواب ضجة كبرى، وعرف بالشذوذ والانحراف، وكان ذلك عام 698 ه_.

يقول تلميذه «ابن كثير» في حوادث تلك السنة: «قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي «جلال الدين الحنفي» فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة الّتي كان قد سأله عنها أهل حماة، المسماة بالحموية...»(1) .

وقد كانت له محنة أُخرى في عام 705 ه_ يذكره ابن كثير في حوادث تلك السنة ويقول: «وفي يوم الإثنين ثامن رجب حضر القضاء وفيهم «الشيخ تقي الدين ابن تيمية» عند نائب السلطنة بالقصر، وقرأت عقيدة الشيخ تقي الدين (الواسطية)، وحصل بحث في أماكن منها، وأُخّرت مواضع إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور، وحضر الشيخ صفي الدين الهندي وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين الزملكاني هو الّذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين الزملكاني، وجودة ذهنه، وحسن بحثه، حيث قاوم «ابن تيمية» في البحث وتكلم معه...

ثم عقد المجلس في يوم سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى، إلى أن صدر القرار بنفي الشيخ إلى مصر إن لم يعزف عن بوادره وعقائده، فأدى به الأمر إلى انتدابه في مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة، وانتدب للبحث معه شمس بن عدنان، وادّعى عليه عند «ابن مخلوف» المالكي أنّه يقول: إنّ اللّه فوق العرش حقيقة، وإنّ اللّه يتكلم بحرف وصوت، فحكم عليه القاضي بالحبس في برج أياما، ثم نقل منه إلى الحبس المعروف بالجب، وكُتِبَ

____________________________

1 . البداية والنهاية ج 14 ص 4 و 26 .

( 33

)

كتاب نودي به في البلاد الشامية والمصرية، وفيه الحط على الشيخ تقي الدين، فانضمّ إلى صفّه جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة(1) .

بقي الشيخ في السجن بسبب عقيدته الّتي لا تجتمع مع عقيدة جمهور المسلمين حتّى مطلع سنة (706 ه_) .

يقول ابن كثير: وفي ليلة عيد الفطر من تلك السنة، أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر، القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء، فالقضاة: الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء: الباجي، والجزري، والمنواري، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطاً في ذلك منها أنّه يلتزم بالرجوع عن بعض عقائده، فأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع عن الحضور .

استهلّت سنة (707 ه_) والشيخ معتقل في قلعة الجبل بمصر، إلى أن أُطلق سراحه يوم الجمعة 23 من ربيع الأول، وخيّر بين الإقامة بمصر أو الروح إلى موطنه الشام، وقد اختار هو الإقامة بمصر، ولكنّه لم يبرح في غلوائه وأفكاره إلى أن واجهته محنة ثالثة، وقد ذكرها ابن كثير ايضاً في تاريخه.

المحنة الثالثة

وفي شوال عام 707 ه_ ، شكي منه أيضاً، فردّ الأمر إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس، وادّعى له ابن عطاء بأشياء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنّ في آرائه قلة أدب بساحة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فحضرت رسالة إلى القاضي إلى أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فتمّ الأمر بحسبه في سجن القضاة، ودخل السجن، وأُفرج عنه في مستهل سنة 708 ه_ وبقي في القاهرة إلى أن توجّه منفياً إلى الإسكندرية في ليلة سلخ صفر في عام 709 ه_ وأقام هناك ثمانية أشهر إلى

أن تغيرت الظروف، فعاد

____________________________

1 . المصدر نفسه .

( 34 )

الشيخ منها إلى القاهرة يوم عيد الفطر سنة 709 ه_ فاقام بها إلى سنة 712 ه_ ثم رجع إلى الشام (1) .

وشغل الشيخ منصة التدريس والإفتاء إلى سنة 718 ه_ . وقد صدر منه فتاوى شاذة، وكان مصرّاً عليها، فعقد له يوم الخميس ثاني رجب من شهور سنة 820 ه_ مجلس بدار السعادة، فحضر نائب السلطنة، وحضر القضاة والمعنيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه، ثم حبس في القلعة خمسة أشهر، إلى أن ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الإثنين يوم عاشوراء، سنة 721 ه_ .

وظل الشيخ بعد خروجه من الحبس مستمراً في التدريس إلى عام 726 ه_ .

يقول جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي: «ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة 726 بأن يجعل في قلعة دمشق، فاقام فيها مدة مشغولا بالتصنيف، ثم بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما كان عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواتاً[ دواةً] ولا قلماً ولا ورقاً»(2) .

وقال اليافعي: «مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير، تقي الدين أحمد، بن تيمية، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر عن الدواة والورق»(3) .

هذا، وقد لفظ الرجل نفسه ومات في قلعة دمشق عام 728 ه_ وبذلك طويت صحيفة حياته، وبقيت آثاره، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ ما تلوناه عليك من حياته يعرب:

أولا: إنّه لم يكن رجلا موضوعياً يهمّه ما كان يعاني منه المسلمون في تلك الظروف العصيبة، الّتي كانت الدعوة إلى الوحدة فيها أحوج ما يحتاج إليه

____________________________

1 . البداية والنهاية ج 14 ص 52، وكانت إقامته بمصر سبع سنين.

2 . المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، ص 340 .

3 . مرآة الجنان ج

4 ص 277 .

( 35 )

الناس، فكان يبثّ بذور الخلاف فترة بعد فترة، ويشغل الحكومات والقضاة عن القيام بالواجب بنقل الشيخ من مقام إلى مقام .

وثانياً: إنّ جماهير الفقهاء والقضاة كانوا يخالفونه فيما يبديه من الآراء الشاذة، في مجال الأُصول والفروع، وإنّ آراءه كانت مخالفة لما هو المشهور المجمع عليه بين العلماء .

وثالثاً: إنّ الرجل كان معروفاً بالقول بالتجسيم والتشبيه والجهة، وكان اعتقاله لأجل التفوّه بها، فكلّ من أراد تنزيهه عن هذه التهمة، خالف الرأي العام في حقّه وما عرف منه يوم حياته .

نعم إنّ هناك أُناساً ترجموا للرجل ترجمة وافية، فأثنوا عليه الثناء البالغ، وذكروا ذكاءه وتوقّد ذهنه، وإحاطته بالكتاب والسنّة، كما ذكروا آثاره العلمية من كتب ورسائل، ولكن يؤخذ عليهم بأنّه لماذا ركّزوا على جانب واحد من حياته، ولم يشيروا إلى الجانب السلبي منها، فإنّه لا يمكن لأحد تخطئة أولئك العلماء الذين ناظروه، وباحثوه، وأصدروا أرائهم فيه، وهم كثيرون، ولأجل ذلك نشير إلى المصادر الّتي أخذتها العصبية العمياء فجاءوا كأنّهم يعرفون رجلا أطبق علماء عصره على نزاهته وصفاء فكره، فمن أراد أن يقف عليها فليرجع إلى المصادر التالية:

1- تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1496، بالرقم 1175. وإن استدرك زلّته هذه ببعث رسالة مستقلة إلى ابن تيمية يستنكر فيها عليه أعماله وأقواله كما ستوافيك .

2- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن عماد الحنبلي (م 1098) 6/80 .

3- طبقات الحفاظ، لجلال الدين السيوطي، (ت 911 ه_)، ص 52 .

4- الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب زين الدين، أبي الفرج، عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، (736 _ 795 ه_) 2/ 387، بالرقم 495 .

( 36 )

5- الوافي بالوفيات،

لصلاح الدين، خليل بن أيبك الصفوي 7/15 _ 33 بالرقم 2964 .

6- طبقات المفسرين، للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي (م 945 ه_ )، ص 45 _ 49 بالرقم 42 .

7- تاريخ الشيخ زين الدين عمر، الوردي، المعروف بتاريخ ابن الوردي ج 2 ص 406 .

8- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تاليف محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 ه_)، ج 1 ص 63 _ 72 بالرقم 40 .

9- البداية والنهاية، للحافظ عماد الدين، أبي الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير، (م 744 ه_)، ج 14، في حوادث سنة (698 ه_)، وغيرها. ولكنّه أشار في مواضع آخر إلى بعض زلاته ومخالفته للرأي العام في ذلك اليوم كما عرفت .

10- الأعلام للزركلي، ج 1 ص 44 .

نعم هؤلاء هم الدين ركّزوا على الجانب الإيجابي وتناسوا الجانب السلبي، مع أنّ التقييم لا يصحّ إلاّ بملاحظة كلا الجانبين، ولكن هناك جماعة موضوعيين واقعيين، لم تملأ عيونهم كتب الرجل ورسائله، فجاءوا بتقييم آرائه فيما صار سبباً لاشتهاره، وإليك نصوص هؤلاء حتّى لا نخرج في التقييم عن حد العدل .

آراء معصاريه ومقاربي عصره في حقه

قد تعرّفت على حياة الشيخ وأنّه لم يزل ينتقل من معتقل إلى آخر، ومن مصر إلى مصر، وكان الرأي المتفق عليه بين القضاة والمعنيين من الحكام هو أنّه رجل يصدر عن عقائد وآراء في مجال العقائد والأحكام تخالف الرأي العام بين أهل السنة، ولأجل ذلك كانوا يصدرون الحكم عليه بعد الحكم، ويعاقبونه مرة بعد أُخرى; وقد علمت أنّه منع من الكتابة حتّى في نفس السجن، فما حال من كان على طرف الخلاف من قضاة المذاهب وحكامهم و علمائهم؟

( 37 )

وبذلك تعرف أنّ

الدعايات الأخيرة هي الّتي تريد أن تعرّفه بشيخ الإسلام و محيي السنة، فما معنى هذه الشيوخة لأهل السنة مع أنّهم أجمعوا على ضَلاله وشذوذه؟

ولأجل أن يقف القارىء على آراء معصاريه في حقه ومقاربي زمانه، نقتطف من غضون التاريخ جملا تكشف عن إطباق العلماء، على الرد عليه ونقد آرائه، وستوافيك في أثناء البحث رسالة الذهبي إليه بنصها.

وإليك قائمة الشخصيات الذين ردّوا عليه في عصره أو بعده بقليل:

1- الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي (ت 715 ه_)

عرّفه السبكي بقوله: «متكلم على مذهب الأشعري، كان من أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن وأدراهم بأسراره، متضلّعاً بالأصلين، ومن تصانيفه في علم الكلام «الزبدة»، وفي أصول الفقه: «النهاية»، وكل مصنفاته حسنة جامعة، لاسيما «النهاية» .

مولده ببلاد الهند سنة 644 ه_ ثم قدم دمشق سنة 685 ه_ واستوطنها وتوفي بها سنة 715 ه_ ولما وقع من ابن تيمية في «المسألة الحموية» ما وقع، وعقد له المجلس بدار السعادة(1) بين يدي الأمير «تنكز» وجمعت العلماء، أشاروا بأنّ الشيخ الهندي يحضر، فحضر، وكان الهندي طويل النفس في التقرير، إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضاً إلاّ اشار إليه في التقرير، بحيث لا يتم التقرير إلاّ وقد بعد على المعترض مقاومته، فلما شرع يقرّر، أخذ ابن تيمية يعجّل عليه على عادته، ويخرج من شيء إلى شيء.

فقال له الهندي: ما أراك يا بن تيمية إلاّ كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكان، فرّ إلى مكان آخر .

وكان الأمير تنكز يعظم الهندي ويعتقده، وكان الهندي شيخ الحاضرين كلّهم، فكلّهم صدر عن رأيه، وحبس ابن تيمية بسبب تلك المسألة، وهي

____________________________

1 . قال المعلق: كان ذلك سنة (705 ه_)، راجع البداية والنهاية ج 14 ص 36

_ 38 .

( 38 )

الّتي تضمّنت قوله بالجهة، ونودي عليه في البلاد وعلى أصحابه، وعزلوا من وظائفهم(1) .

2- الشيخ شهاب الدين اببن جهبل الكلابي الحلبي (ت 733 ه_)

قال «السبكي»: «درس وأفتى وشغل بالعلم مدة بالقدس ودمشق.

مات سنة 733 ه_ ووقفت له على تصنيف صنفه في نفي الجهة رداً على ابن تيمية» وبما أنّ الرسالة مفصّلة نكتفي في المقام بذكر مقدمتها. يقول: «أمّا بعد فالذي دعا إلى تصدير هذه النبذة. ما وقع في هذه المدة، مما علّقه بعضهم في إثبات الجهة واغترّ بها من لم يرسخ له في التعليم قدم، ولم يتعلّق بأذيال المعرفة، ولا كبحة لجام الفهم ولا استبصر بنور الحكمة فاحببت أن أذكر عقيدة أهل السنة وأهل الجماعة ثم أُبيّن فساد ما ذكره، مع أنّه لم يدّع دعوى إلاّ نقضها ولا أطّد قاعدة إلاّ هدمها»(2) .

3- قاضي القضاة كمال الدين الزملكاني (667 _ 733 ه_)

عرّفه السبكي بقوله: «الإمام العلاّمة المناظر، ولد في شوال سنة 667 ه_ ودرس بالشامية البرانية _ إلى أن قال _ : ثم ولي قضاء حلب، وصنفّ الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة(3) .

4- الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (ت 748 ه_)

ترجمه في «تذكرة الحفاظ» غير أنّه لم يذكر مما ردّ عليه بشيء، وهذا عجيب من الحافظ الذهبي، ولكنّه نصحه في رسالة بعثها إليه ويذكر ما فيه ويقول:

«الحمدللّه على ذلّتي، يا ربّ ارحمني، وأقلني عثرتي، واحفظ علىّ

____________________________

1 . طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 162 _ 164 .

2 . تاج الدين، أبونصر، عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي (ت 727 _ م 771) طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 34 _ 35) .

3 . طبقات الشافعية الكبرى

ج 9 ص 190 _ 191.

( 39 )

إيماني، واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونوني على البكاء، واحزناه على فقد أُناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات، آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتبّاً لمن شغله عيوب الناس عن عيبه.

إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذمّ العلماء وتتبع عورات الناس؟ مع علمك بنهي الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ [ وآله ]: «لا تذكروا موتاكم إلاّ بخير، فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدموا» بل اعرف أنّك تقول لي لتنصر نفسك: إنّما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام، ولا عرفوا ما جاء به محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ [ وآله ]وهو جهاد، بلى واللّه عرفوا أخيراً كثيراً مما إذا عمل به العبد فقد فاز، وجهلوا شيئاً كثيراً مما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، يا رجل! باللّه عليك كفّ عنّا، فإنّك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام، إياكم والغلوطات في الدين، كره نبيك _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ [ وآله] المسائل وعابها، ونهى عن كثرة السؤال وقال: «إنّ أخوف ما أخاف على أُمّتي كل منافق عليم اللسان» وكثرة الكلام بغير زلل، تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات الّتي تعمي القلوب، واللّه قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية؟.

لنرد عليها بعقولنا، يا رجل! قد بلعت «سموم» الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات، وكثرة استعمال السموم

يدمن عليه الجسم، وتكمن واللّه في البدن، واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبّر وخشية بتذكّر وصمت بتفكّر. واهاً لمجلس يذكر فيه الأبرار، فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، بل عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة، كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما، باللّه خلّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدّوا في ذكر بدع كنّا نعدّها من أساس الضلال، قد صارت هي محض السنة وأساس

( 40 )

التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفر فهو أكفر من فرعون، وتعدّ النصارى مثلنا، واللّه في القلوب شكوك، إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد، يا خيبة من اتّبعك فإنّه معرض للزندقة والانحلال، لاسيما إذا كان قليل العلم والدين باطولياً شهوانياً، لكنّه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه، وفي الباطن عدوّ لك بحاله وقلبه .

فهل معظم أتباعك إلاّ قعيد مربوط خفيف العقل؟ أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر؟ أو ناشف صالح عديم الفهم؟ فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم اقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟ إلى كم تعظمها وتصغر العباد؟ إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح _ واللّه _ بها أحاديث الصحيحين؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك .

بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف و الإهدار، أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟ بلى _ واللّه _ ما أذكر أنّك تذكر الموت، بل تزدري بمن يذكر الموت. فما أظنك تقبل علي قولي ولا تصغي إلى وعظي، بل لك همة

كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات، وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتّى أقول البتة سكت، فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد، فكيف حالك عند أعدائك؟ وأعداؤك _ واللّه _ فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء، عما أنّ أولياءك فيهم فجزة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر، قد رضيت منك بأن تسبني علانية، وتنتفع بمقالتي سراً، فرحم اللّه امرأً أهدى إلىّ عيوبي، فإنّي كثير العيوب، غزير الذنوب، الويل لي إن أنا لا أتوب، وافضيحتي من علاّم الغيوب! ودوائي عفو اللّه ومسامحته وتوفيقه وهدايته، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيدنا محمّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين». (1)

____________________________

1 . تكملة السيف الصقيل، للمحقّق المعاصر الكوثري، ص 190 _ 192 كتبه من خط ابن قاضي: شهبة، منقولا من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة وكتبه، هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ من خط الذهبي، وجاء شطر منه في «فرقان القرآن» تأليف الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي في مقدمة كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي ص 129. وقد طبعت صورة خط ابن قاضي شهبة في تكملة السيف الصقيل ص 187 _ 189.

( 41 )

5- الشيخ الإمام صدر الدين المرحل (ت حوالي 750 ه_)

عرّفه السبكي بقوله: «كان إماماً كبيراً، بارعاً في المذهب والأصلين، يضرب المثل باسمه، فارساً في البحث، نظاراً مفرط الذكاء، عجيب الحافظة _ إلى أن قال _ : وله مع ابن تيمية، المناظرات الحسنة، وبها حصل عليه التعصّب من أتباع ابن تيمية، قيل فيه ما هو بعيد عنه، وكثر القائل فارتاب العاقل، وكان الوالد يعظّم الشيخ صدر الدين ويحبّه، ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة ومعرفة الكلام على مذهب الأشعري (1) .

6-

الحافظ علي بن عبدالكافي السبكي (ت 756 ه_)

ترجمهُ ولده في طبقات الشافعية، وهو أحد من ردّ على ابن تيمية، وألّف فيه كتاباً أسماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام» وربما سمي «شنّ الغارة على من أنكر السفر للزيارة»(2) وهو يعرّف والده ويقول: «إمام ناضح عن رسول اللّه بنضاله، وجاهد بجداله، حمى جناب النبوة الشريف، بقيامه في نصره، وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره... إلى أن قال: قام حين خلط على ابن تيمية الأمر، وسول له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر، حين سد باب الوسيلة وأنكر شدّ الرجال لمجرّد الزيارة، وما برح يدلج ويسير حتى نصر صاحب ذلك الحمى الّذي لا ينتهك، وقد كادت تذود عنه قسراً صدور الركائب. وتجر قهراً أعنة القلوب بتلك الشبهة الّتي كادت شرارتها تعلق بحداد الأوهام... كيف يزار المسجد ويخفى صاحبه، أو يخفيه الإبهام؟ ولولاه _ عليه السلام _ لما عرف تفضيل ذلك المسجد، ولولاه لما قدّس الوالي، ولا أسس على التقوى مسجد في ذلك النادي

____________________________

1 . طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 253 .

2 . طبقات الشافعية ج 10 ص 308 .

( 42 )

شكر اللّه له، قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع»(1) .

وكان لهذا الكتاب دوي في ذاك العصر، حيث جابه السبكي ضوضاء الباطل بكتابه الهادي، وصار مدار الدراسة والقراءة، وهذا هو الشيخ صلاح الدين الصفدي قرأ الكتاب على المؤلف، يقول السبكي (ولد المؤلف): قرأ علي الشيخ الإمام (المراد تقي الدين السبكي) _ رحمه الله _ جميع كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام»(2) .

وقال أيضاً في خطبة كتابه «الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية» ما هذا لفظه: «أمّا

بعد فإنّه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أُصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنّة، مظهراً أنّه داع إلى الحق، هاد إلى الجنة، فخرج عن الإتباع إلى الإبتداع، وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وإنّ الإفتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات اللّه تعالى، وإنّ القرآن محدث تكلم اللّه به بعد أن لم يكن، وإنّه يتكلم ويسكت، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدّى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزم بالقول بأنّه لا أوّل للمخلوقات فقال بحوادث لا أوّل لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين الّتي افترقت عليها الأُمّة، ولا وقفت به مع أُمّة من الأُمم همة. وكل ذلك و إن كان كفراً شنيعاً، لكنّه تقل حملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع.

ثم إنّ السبكي لما وقف على كتاب «منهاج السنة» في الرد على «منهاج الكرامة» للعلامة الحلي، أنشأ قصيدة، ومما جاء فيها ناقداً لابن تيمية قوله:

____________________________

1 . طبقات الشافعية ج 10 ص 149 _ 150 وللكلام صلة .

2 . المصدر نفسه، ص 5 .

( 43 )

ولابن تيمية رد عليه وفي * بمقصد الرد واستيفاء أضربه

لكنّه خلط الحق المبين بما * يشوبه كدراً في صفو مشربه

يرى حوادث لا مبدا لأولها * في اللّه سبحانه عما يظن به

لو كان حياً يرى قولي ويفهمه * رددت ما قال أقفو اثر سبسبه

كما رددت عليه بالطلاق وفي * ترك الزيارة ردّاً غير مشتبه (1)

إنّ الشيخ الذهبي

من الحنابلة الذين يتعصّبون للمذهب الحنبلي، ومع ذلك نرى أنّه يصف تقي الدين السبكي الّذي ولي مشيخة دار الحديث وخطابة الجامع الأموي بدمشق بقوله:

لِيَهْنَ المنبرُ الأموىُّ لما * علاه الحاكمُ البحر التقىُّ

شيوخ العصر أحفظهم جميعاً * وأخطبهم «وأقضاهم علىُّ»

فإذا كان هذا مقام السبكي عند الذهبي، فليكن حجة على الحنابلة ممن يبغض السبكي لنقده نظرية ابن تيمية في الزيارة وغيرها(2) .

7- محمد بن شاكر الكتبي (ت 764 ه_)

قال في «فوات الوفيات» في ترجمته: «إنّه ألّف رسالة في فضل معاوية، وفي أنّ ابنه يزيد لا يسب»(3) .

هذه الرسالة تعرب عن نزعته الأموية، ويكفي القول في الوالد والوالد: «ووالد وما ولد» أنّه بدّل الحكومة الإسلامية إلى الملكية الوراثية، ودعا عباد اللّه إلى ابنه يزيد، المتكبّر، الخميّر، صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهديد والرهبة، وهو يطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكره وفجوره، ولما استتبٌ

الأمر ليزيد، أوقع بأهل الحرة الوقيعة الّتي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش، وظن أنّه قد انتقم من أولياء اللّه فقال مجاهراً بكفره:

____________________________

1 . المصدر نفسه ج 10 ص 186 وتوفي السبكي تقي الدين والد تاج الدين عام (756 ه_)وتوفي الولد عام (771 ه_) .

2 . فرقان القرآن ص 129 .

3 . فوات الوفيات ج 1 ص 77 .

( 44 )

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل

وهذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى اللّه ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله، ثم من أغلظ ما انتهك وأعظم مااخترم سفكه دم الحسين بن علىّ، بن فاطمة بنت رسول اللّه، مع موقعه من رسول اللّه ومكانه منه، ومنزلته

من الدين والفضل، وشهادة رسول اللّه له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراءً على اللّه، وكفراً بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهدة لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنّما يقتل به وبأهل بيته، قوماً من الكفار(1) .

8- أبو محمد المعروف باليافعي (ت 768 ه_)

قال في كتابه «مرآة الجنان» في ترجمة ابن تيمية: «مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن تيمية معتقلا، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر عن الدواة والورق، وسمع من جماعة وله مسائل غريبة _ أنكر عليها وحبس بسببها _ مباينة لمذهب أهل السنة، ومن أقبحها نهيه عن زيارة النبي _ عليه الصلاة والسلام _ وطعنه مشايخ الصوفية، وكذلك ما قد عرف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة، وما نقل فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك ما هو معروف من مذهبه، ولقد رأيت مناماً في وقت مبارك يتعلّق بعضه بعقيدته، ويدل على خطئه فيها، وقد قدمت ذكره في حوادث سنة 558 ه_ في ترجمة صاحب «البيان» .

وقال: كان ابن تيمية يقول: قوله: «إنّ اللّه على العرش استوى»، استواء حقيقة، وإنّه يتكلّم بحرف وصوت، وقد نودي في دمشق وغيرها: من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه! (2) وقال في حوادث سنة 728 ه_ : وله

____________________________

1 . مأخوذ من كتاب (المعتضد) الّذي تلي على رؤوس الأشهاد في أيامه. نقله الطبري في تاريخه ج 11 ص 77 .

2 . مرآة الجنان ج 4 ص 277، في حوادث سنة 728 ه_ وص 240 .

( 45 )

مسائل غريبة أنكر عليها وحبس بسببها مباينة لمذهب (أهل السنة) ثم (عدّ له) قبائح، قال: ومن أقبحها نهيه عن زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

9- أبوبكر

الحصني الدمشقي (ت 829 ه_)

يقول: «فاعلم أنّي نظرت في كلام هذا الخبيث الّذي في قلبه مرض الزيغ، المتتبّع ما تشابه من الكتاب والسنّة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد اللّه عزّوجلّ إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به، ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره، لما فيه من تكذيب ربّ العالمين، في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء بأصفيائه، المنتخبين وخلفائهم الراشدين، واتباعهم الموفقين، فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمّة المتّقون، وما اتّفقوا عليه من تبعيده وإخراجه ببغضه من الدين(1) .

10- شيخ الإسلام، شهاب الدين، أحمد بن حجر، العسقلاني (ت 852 ه_)

ترجمه ابن حجر في كتابه «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» وذكر حياته على وجه التفصيل وقال: «وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 ه_ قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع من الكلام» ثم ذكر معتقلاته وسجونه إلى أن أدركته المنيّة بما لا حاجة إلى ذكره، ونقتبس مما ذكره الجمل التالية:

أ _ يقول: «حكم المالكي بحبسه فأُقيم من المجلس وحبس في برج، ثم بلغ المالكي أنّ الناس يترددون عليه، فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلاّ فقد ثبت كفره، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب، وعاد القاضي الشافعي إلى ولايته، ونودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، خصوصاً الحنابلة، وقرأ المرسوم وقرأها ابن الشهاب محمود في الجامع، ثم جمعوا الحنابلة من

____________________________

1 . دفع شبهة من شبّه وتمرّد، ص 216، طبع بمصر عام 1350 ه_ .

( 46 )

الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الإمام الشافعي» .

ب _ نقل عن

جمال الدين السرمري أنّه قال: وكان ابن تيمية يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس: «... ومن ثم نصب أصحابه إلى الغلوّ فيه، واقتضى ذلك العجب بنفسه حتّى زها على أبناء جنسه، واستشعر أنّه مجتهد يرد على صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً، ثم خالف فيها، وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة، حتّى أنّه سب الغزالي،.. فعظم ذلك على الشيخ نصر المنبجي، وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد المثيرة وقعت منه في مواعيده وفتاواه، فذكروا أنّه ذكر حديث النزول، فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا(1) ، فنسب إلى التجسيم، وردّه على من توسّل بالنبي، فأشخص من دمشق في رمضان سنة (705 ه_) .

ثم يقول: إنّه اختلف الناس بعد إخراجه عن بعض معتقلاته، فمنهم من نسبه إلى التجسيم، لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك، كقوله إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية للّه، وإنّه مستو على العرش بذاته، فقيل له يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام، ومنهم من أنكر كون التحيّز والانقسام من خواص الأجسام (2) .

ومنهم من ينسبه إلى الزندقة، لقوله: إنّ النبي لا يستغاث به، وإنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي، ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علىّ

____________________________

1 . سيوافيك نص ابن بطوطة السياح المعروف في ذلك، وأنه سمعه بأذنه ورآه بعينه، فانتظر .

2 . اقرأ واضحك على عقلية القائل .

( 47 )

ماتقدم، ولقوله إنّه كان مخذولا حيثما توجّه،

وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، إنّما قاتل للرئاسة لا للديانة، ولقوله إنّه كان يحب الرئاسة، وإنّ عثمان كان يحبّ المال، ولقوله أبوبكر أسلم شيخاً يدري ما يقول، وعلىّ أسلم صبياً والصبي لا يصحّ إسلامه على قول(1) .

11- جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي (812 _ 874 ه_)

وقد ترجمه جمال الدين في كتابه: «المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي» ومما جاء فيه: قال القاضي كمال الدين الزملكاني: «ثم جرت له محن في مسألة الطلاق الثلاث، وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحبّب للناس القيام عليه، وحبس مرات في القاهرة والإسكندرية ودمشق، وعقد له مجالس بالقاهرة ودمشق، إلى أن ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة (726 ه_) بأن يجعل في قلعة دمشق، فاقام فيها مدة مشغولا بالتصنيف، ثم بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما كان عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواتاً [ دواةً ]ولا قلماً ولا ورقة.

ومما وقع له قبل حبسه أنّه ناظر بعض الفقهاء، وكتب محضراً، فإنّه قال. أنا أشعري ثم أخذ خطه بما نصه:

أنا أعتقد أنّ القرآن معنى قائم بذات اللّه، وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وأنّ قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلمه إلاّ اللّه، والقول في النزول كالقول في الاستواء، وكتبه أحمد بن تيمية، ثم أشهدوا عليه جماعة أنّه تاب مما ينافي ذلك مختاراً، وشهد عليه بذلك جمع من العلماء وغيرهم»(2) .

____________________________

1 . الدرر الكامنة ج 1 ص 154 _ 165 .

2 . «المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي» ج 1 ص 336 _ 340، والزملكاني هو كمال الدين محمد بن

علي بن عبد الواحد الشافعي، ولد سنة (667 ه_) وتوفي سنة (733 ه_) .

( 48 )

وترجمه أيضاً في كتابه الآخر: «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» بنفس النص الوارد في «المنهل الصافي»(1) .

12- شهاب الدين، ابن حجر، الهيثمي (ت 973 ه_)

قال في ترجمة ابن تيمية: «ابن تيمية عبد خذله اللّه، وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، بذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد، أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العزّ بن جماعة، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفيةولم يقصر اعتراضه على متأخّري السلف الصوفية، بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلىّ بن ابي طالب رضي الله عنهما.

والحاصل أنّه لا يقام لكلامه وزن، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنّه مبتدع، ضالّ، مضلّ، غال، عامله اللّه بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله. آمين! إلى أن قال: إنّه قائل بالجهة، وله في إثباتها جزء، ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار. أي فلعلّه بعض الأحيان كان يصرّح بتلك اللوازم فنسبت إليه، وممن نسب إليه ذلك من أئمة الإسلام المتفق على جلالته وإمامته وديانته، وإنّه الثقة العدل المرتضى المحقق المدقق، فلا يقول شيئاً إلاّ عن تثبت، وتحقق، ومزيد احتياط، و تحر، لا سيما إن نسب إلى مسلم ما يقتضي كفره، وردّته، وضلاله، وإهدار دمه»(2) .

وقال أيضاً في كتابه: «الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم»: «فإن قلت: كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله، كما

____________________________

1 . «النجوم الزاهرة...» ج 2 ص 279 .

2 .

الفتاوى الحديثية، ص 86. ونقله العلامة الشيخ محمد بخيت (م 1354 ه_ ) في كتابه «تطهير الفؤاد» ص 9 ط مصر.

( 49 )

رآه السبكي في خطه، واطال ابن تيمية في الاستدلال بذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً، وأنّه لا تقصر فيه الصلاة، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه! .

قلت: من هو ابن تيمية حتّى ينظر إليه؟ أو يعوّل في شيء من أُمور الدين عليه؟ وهل هو إلاّ كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة، و حججه الكاسدة، حتّى أظهروا عوار سقطاته، وقبائح أوهامه وغلطاته، كالعز بن جماعة: عبد أذلّه اللّه وأغواه، وألبسه رداء الخزي وبوّأَهُ من قوة الإفتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان...»(1) .

13- ملاّ علي القارىء الحنفي (ت 1016 ه_)

وقال ملاّ علي القارىء الحنفي في شرحه على الشفاء(2): «وقد أفرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كما أفرط غيره حيث قال: كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة. وجاحده محكومع ليه بالكفر، ولعلّ الثاني أقرب إلى الصواب، لأنّ تحريم ما أجمع العلماء فيه على الاستحباب يكون كفراً، لأنّه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب» .

14- أبو العباس أحمد بن محمد المكناسي، الشهير بابن القاضي (960 _ 1025 ه_)

وقد ترجمه ابن القاضي في ذيل وفيات الأعيان المسمى ب_ «درة الحجال في أسماء الرجال» قال: «أحمد بن عبد الحليم مفتي الشام ومحدّثه وحافظه، وكان يرتكب شواذ الفتاوى، ويزعم أنّه مجتهد»(3) .

____________________________

1 . فرقان القرآن، ص 132 _ طبع في مقدمة كتاب الأسماء والصفات للبيهقي .

2

. «درة الحجال في أسماء الرجال» ج 1 ص 30 .

3 . تأليف الحافظ أبي الفضل عياض بن موسى القاضي (ت 544 ه_) وأسماه: «الشفا في تعريف حقوق المصطفى» وله شروح كثيرة ذكره الكاتب الحلبي في كتابه .

( 50 )

15- النبهاني (ت 1350 ه_)

قال النبهاني في تأليفه «شواهد الحق» بعد نقل أسماء عدة من الطاعنين به: «فقد ثبت وتحقّق وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أنّ علماء المذاهب الأربعة قد اتّفقوا على ردّ بدع ابن تيمية، ومنهم من طعنوا بصحة نقله، كما طعنوا بكمال عقله، فضلا عن شدة تشنيعهم عليه في خطئه الفاحش في تلك المسائل الّتي شذّ بها في الدين، وخالف بها إجماع المسلمين، ولا سيما فيما يتعلّق بسيّد المرسلين _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ » .

16- المحقق الشيخ محمد الكوثري المصري (ت 1371 ه_)

إنّ الشيخ الكوثري هو أكثر الناس تتبّعاً لمكامن حياة ابن تيمية، وقد شهره وفضحه، بنشر كتاب «السيف الصقيل» للسبكي وجعل له تكملة، نشرهما، معاً فمن وقف على هذا الكتاب وما ذيّل به، لعرف مواقع الرجل، وإليك كلمة من الكوثري في حق الحشوية، يقول في تقديمه لكتاب «الأسماء والصفات» للحافظ البيهقي _ بعد ما يسرد أسماء عدة من كتب الحشوية كالاستقامة لخشيش بن أصرم، والسنة لعبد اللّه بن أحمد «والنقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم _ : «إنّ السجزي أول من اجترأ بالقول «إنّ اللّه لو شاء لا ستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش عظيم» وتابعه الشيخ ابن تيمية الحراني في ذلك، كما تجد نص كلامه في «غوث العباد» المطبوع سنة 1351 بمطبعة الحلبي» (1) .

وقال ايضاً في مقدمته على السيف الصقيل:

جزى اللّه علماء

أُصول الدين عن الإسلام خيراً، فإنّ لهم فضلا جسيماً في صيانة عقائد المسلمين بادلّة ناهضة مدى القرون، أمام كل فرقة زائفة _ إلى أن قال _ :

ومن طالع من ألّفه بعض الرواة على طول القرون من كتب في التوحيد

____________________________

1 . مقدمة الأسماء والصفات للبيهقي، ص «ب» .

( 51 )

والصفات والسنة، والردود على أهل النظر، يشكر اللّه سبحانه على النور الّذي افاضه على عقله، حتّى نبذ مثل تلك الطامات بأول نظرة.

وقد استمرّت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط اللّه تعالى، ولاستسخاف العقلاء، من غير أن يخطر ببال عاقل أن يناضل عن سخافات هؤلاء، إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق، حرّاني تجرّد للدعوة إلى مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء، متظاهراً بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه من الكتب، بدون أُستاذ يرشده في مواطن الزلل، وحاشا العقل الناهض والنقل الصحيح أن يتضافرا في الدفاع عن تحريف السخفاء إلاّ إذا كان العقل عقل صابئي والنقل نقل صبي، وكم انخدع بخزعبلاته أُناس ليسوا من التأهّل للجمع بين الرواية والدارية في شيء، وله مع خلطائه هؤلاء، موقف في يوم القيامة لا يغبط عليه.

ومن درس حياته يجدها كلها فتناً لا يثيرها حافظ بعقله، غير مصاب في دينه، وأنّى يوجد نصّ صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة والحركة والثقل والمكان ونحوها للّه سبحانه؟ .

وكل ما في الرجل أنّه كان له لسان طلق، وقلم سيال، وحافطة جيدة، قلّب _ بنفسه بدون أُستاذ رشيد _ صفحات كتب كثيرة جداً من كتب النحل الّتي كانت دمشق امتلأت بها بواسطة الجوافل من استيلاء المغول على بلاد الشرق، فاغترّبما فهمه من تلك الكتب من الوساوس والهواجس، حتى طمحت نفسه إلى أن

تكون قدوة في المعتقد والأحكام العملية، ففاه في القبيلين بما لم يفه به أحد من العالمين، مما هو وصمة عار وأمارة مروق في نظر الناظرين، فانفضّ من حوله أُناس كانوا تعجّلوا في إطرائه _ بادىء بدء _ قبل تجريبه، وتخلّوا عنه واحداً إثر واحد على تعاب فتنة المدونة في كتب التاريخ،ولم يبقَ(1) معه إلاّ أهل مذهبه في الحشو من جهلة المقلدة، ومن ظن أن علماء

____________________________

1 . وقال في التعليق: وثناء بعض المتأخرين عليه لم يكن إلا عن جهل بمضلات الفتن في كلامه، ووجوه الزيغ في مؤلفاته، ومنهم من ظن أنه دام على توبته بعد ما استتيب فدام على الثناء، ولا حجة في مثل تلك الأثنية، وأقواله الماثلة أمامنا في كتبه لا يؤيدها إلاّ غاو غوى، نسأل اللّه السلامة .

( 52 )

عصره صاروا كلهم إلباً واحداً ضدّه حسداً من عند أنفسهم، فَلْيَتّهم عقله وإدراكه قبل اتّهام الآخرين، بعد أن درس مبلغ بشاعة شواذه في الاعتقاد والعمل، وهو لم يزل يستتاب استتابة إثر استتابة، وينقل من سجن إلى سجن إلى أن افضى إلى ما عمل وهو مسجون فقير، هو وأهواؤه في البابين، بموته وبردود العلماء عليه، وماهي ببعيدة عن متناول رواد الحقائق .

كلامه في حق تلميذه ابن القيم

وكان ابن زفيل الزرعي المعروف بابن القيم يسايره في شواذه حياً وميتاً، ويقلده فيها تقليداً أعمى في الحق والباطل، وإن كان يتظاهر بمظهر الاستدلال، لكن لم يكن استدلاله المصطنع سوى ترديد منه لتشغيب قدوته، دائباً على إذاعة شواذ شيخه، متوخياً _ في غالب مؤلفاته _ تلطيف لهجة أُستاذه في تلك الشواذ لتنطلي وتنفق على الضعفاء، وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن تلك الأهواء المخزية، حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات

الشيخ الحراني .

تراه يثرثرفي كل واد ويخطب بكل ناد، بكلام لا محصل له عند أهل التحصيل، ولم يكن له حظ من المعقول، وإن كان كثير السرد لآراء أهل النظر، ويظهر مبلغ تهافته لمن طالع شفاء العليل له بتبصّر، ونونيته(1) و عَزَوْه من الدلائل على أنّه لم يكن ممن له علم بالرجال ولا بنقد الحديث، حيث أثنى فيهما على أُناس هلكى، واستدل فيهما باخبار غير صحيحة على صفات اللّه سبحانه.

وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة، ولم يترجم له الحسيني

____________________________

1 . وهي قصيدته البالغة خمسة آلاف بيت في العقائد، وهي الّتي رد عليها السبكي بتاليف كتاب السيف الصقيل، وأكمله محمد الكوثري وأسماه تكملة السيف الصقيل، وها نحن ننقل هاتيك العبارات منها.

( 53 )

ولا ابن فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ، وما يقع من القارىء بموقع الأعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره، فمختزل مأخوذ مما عنده عن كتب قيّمة لأهل العلم بالحديث، ك_ «المورد الهني في شرح سير عبدالغني» للقطب الحلبي ونحوه .

ولو لا محلى ابن حزم «وأحكامه» و «مصنف» ابن أبي شيبه «وتمهيد» ابن عبدالبر لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في «أعلام الموقعين» .

وكم استتيب وعذر مع شيخه وبعده على مخاز في الاعتقاد والعمل، تستبين منها ما ينطوي عليه من المضي على صنوف الزيغ تقليداً لشيخه الزائغ، وسيلقى جزاء عمله هذا في الآخرة _ إن لم يكن ختم له بالتوبة والأمانة _ كما لقي بعض ذلك في الدنيا .

كلام الحافظ الذهبي وغيره في حق ابن القيم

قال الذهبي في المعجم المختص عن ابن القيم هذا: «عني بالحديث بمتونه وبعض رجاله وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو

ويدريه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم _ عليه السَّلام _ ) ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم، لكنّه معجب برأيه جريء على الأُمور .

قال ابن حجر في الدرر الكامنة: «غلب عليه حب ابن تيمية حتّى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الّذي هذب كتبه ونشر علمه... واعتقل مع ابن تيمية بالقلة، بعد أن أُهين وطيف به على جمل مضروباً بالدرة، فلما مات أُفرج عنه، وامتحن مرة أُخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه».

قال ابن كثير: «كان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق، حتى جرت له بسببها أُمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره... وكان جماعاً للكتب فحصّل منها ما لا يحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم.. وهو طويل النفس في مصنفاته، يتعانى

( 54 )

الإيضاح جهده، فيسهب جداً، ومعظمها من كلام شيخه بتصرف في ذلك، وله في ذلك ملكة قوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها.. وجرت له محن مع القضاة، منها في ربيع الأول طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل فأنكر عليه، وآل الأمر إلى أنّه رجع عما كان يفتي به من ذلك» .

كلام ابن الحصني في حقه

وقال التقي الحصني: كان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأنّ شدّ الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة، ويصرّح بقبر الخليل وقبر النبي (صلى اللّه عليهما وسلم) ، وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي، وإسماعيل بن كثير الشركويني، فاتّفق أنّ ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف، ورقي على منبر في الحرم

ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة: وها أنا راجع ولا أزور الخليل.

ثم جاء إلى نابلس، وعمل له مجلس وعظ، وذكر المسألة بعينها حتى قال: فلا يزور قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله، فحماه منهم والي نابلس، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرّفون صورة ما وقع منه، فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه، فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه، ولم يعزّره لأجل ابن تيمية... ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادُّعي عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر، فقامت عليه البينة بما قاله، فأُدّب وحُمل على جمل، ثم أُعيد إلى السجن، ثم أُحضر إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه، فما كان جوابه إلاّ أن قال: إنّ القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي، فأُعيد إلى الحبس إلى أن أُحضر الحنبلي فأخبر بما قاله، فأُحضر وعزّر وضرب بالدرة، وأُركب حماراً وطيف به في البلد والصالحية، وردّوه إلى الحبس _ وجرسوا ابن القيم وابن كثير، وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسالة الطلاق .

( 55 )

قال ابن رجب: قد امتحن و أوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المدة الأخيرة بالقلعة منفرداً، لم يفرج عنه إلاّ بعد موت الشيخ .

وقد سقت هنا نماذج من كلمات أصحابه و أضداده والمتحايدين في حقه، ليعتبربها المغرورون به. على أنّ الخبر اليقين فيما يجده القارىء الكريم في حقه في هذا الكتاب، وأرجو أن الحق لا يتعدى ما دللت عليه في حقه فيما كتبناه.

وأحق الناس بالرثاء وأجدرهم بالترحّم من أفنى

عمره في سبيل العلم منصاعاً لمبتدع يرديه من غير أن يتخيّر أُستاذاً رشيداً يهديه، ومثله إذا دوّن أسفاراً لا يزداد بها إلاّ بسمعه ولا يبصر بعداً عن اللّه وأوزاراً، وهو الّذي يصبح متفانياً في شيخه الزائغ بحيث لا يسمع إلاّ ببصره في جميع شؤونه، ويبقى في أحط دركات الجهل من التقليد الأعمى، ولو فكر قليلا لكان أدرك أنّ من السخف بمكان، وضعه لشيخه في إحدى كفّتي الميزان ليوازن به جميع العلماء والفقهاء من هذه الأُمة في كفته الأُخرى فيزنهم ويغالبهم به فيغلبهم في علومهم!! وهذا ما لا يصدر من حافظ بعقله، ولا سيما بعد التفكير في تلك المخازي من شواذه .

نعم، يمكن أن يكون عنده أو عند شيخه بعض تفوق في بعض العلوم على بعض مشايخ حارته، أو أهل خطته أو قريته أو مضرب خيام عشيرته، لكن لا يوجب هذا أن يصدق ظنه في حق نفسه أن جوّ هذه الأرض يضيق عن واسع فهومه، وعرض هذه البحار لا يتّسع لزاخر علومه»(1) .

17- الشيخ سلامة القضا العزامي (ت 1379 ه_)

قال: «بدأ ابن تيمية حياته بطلب العلم على ذكاء وتصالح، ورفق به أكابر العلماء لأنّ اباه كان رجلا هادئاً وكان من بيت علم، فساندوه وشجعوه وأثنوا عليه خيراً، حتّى إذا أقبل عليه الناس بدأ يظهر بالبدع، وأبطرته الغرة، فتمادى في التعصب لآرائه، وما زال يتلاعب به الهوى حتّى كان مجموعة بدع

____________________________

1 . تكملة السيف الصقيل ص 4 _ 9 .

( 56 )

شنعاء، ودائرة جهالات وأباطيل شوهاء، فتجده في مسائل من علم التوحيد حشوياً كرامياً، يقول في اللّه بالأجزاء والجهة والمكان، والنزول والصعود الحسيين، وحلول الحوادث بذاته تعالى، ومن ناحية أُخرى تجد فيه حضيضة الخوارج، يكفّر أكابر الأُمة

ويخطىء أعاظم الأئمة وقال: من نذر شيئاً للنبي أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور، أوذبح له ذبيحة كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير اللّه فيكون بذلك كافراً، ويطيل في ذلك الكلام، واغترّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه، وهو منه تلبيس في الدين، وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للمتقين من الأنبياء والأولياء إلاّ الصدقة عنهم، وجعل ثوابها إليهم، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنة منعقدة على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم.

ولقد تعدّى هذا الرجل حتّى على الجناب المحمدي فقال: إنّ شد الرحال إلى زيارته معصية، وإنّ من ناداه مستغيثاً به بعد وفاته فقد أشرك، فتارة يجعله شركاً أصغر، وأُخرى يجعله شركاً أكبر، وإن كان المستغيث ممتلىء القلب بأنّه لا خالق ولا مؤثر إلاّ اللّه، وأنّ النبي إنّما ترفع إليه الحوائج ويستغاث به، على أنّ اللّه جعله منبع كل خير، مقبول الشفاعة، مستجاب الدعاء كما هي عقيدة جميع المسلمين مهما كانوا من العامة .

وقد أوضح ذلك كل الإيضاح قبلنا أكابر جهابذة العلم لا سيما علَمُ أعلام هذا العصر، حامل لواء الحكمة الإسلامية، وأحد جماعة كبار العلماء بحق، الشيخ يوسف الدجوي، فيما كتبه في مجلة الأزهر _ أدم اللّه تأييده بروح منه، وجلله بالعافية من لدنه _ .

وهذه البدعة من مبتكراته قد اغتر بها ناس، فقالوا بكفر من عداهم من جماهير المسلمين، وسفكت في ذلك دماء لا تحصى، وقد أُلفت الكتب الكثيرة في رد هذه البدعة وفروعها، بين مطوّل قد جوّده صاحبه، ومختصر أفاده مؤلفه وأجاد.

(

57 )

ومن عجيب أمر هذا الرجل أنّه إذا ابتدع شيئاً حكى عليه إجماع الأولين والآخرين كذباً وزوراً، وربما تجد تناقضه في الصفحة الواحدة، فتجده في منهاجه مثلا يدّعي أنّه ما من حاديث إلاّ وقبله حادث إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي، ثم يقول: وعلى ذلك أجمع الصحابة والتابعون. وبعد قليل يحكي اختلافاً لحق الصحابة في أول مخلوق ما هو؟ أهو القلم أم الماء؟ وبينما تراه يتكلّم بلسان أهل الحق المنزهين، إذا بك تراه قد انقلب جهوياً(1) وسمّى كل من لا يقول بذلك معطّلا، وزنديقاً، وكافراً، وقد جمع تلميذه «ابن زفيل» سفاهاته ووساوسه في علم أصول الدين، في قصيدته النونية، وبينما تراه يسب جهماً والجهمية، إذا بك تراه يأخذ بقوله في أنّ النار تفنى، وأن أهلها ليسوا خالدين فيها أبداً _ إلى أن قال _: وليس من غرضنا بسط الكلام في بدع هذا الرجل، فقد كفانا العلماء _ شكر اللّه سعيهم _ من عصره إلى هذا العهد، المؤنة بالتصانيف الممتعة في الرد عليها، ولكن رفع الجهل رأسه في عصرنا هذا، وانتدب ناس من شيعته لطبع الكثير من كتبه وكتب تلميذه ابن زفيل، ففضحوا الرجل وشهّروا به عند المحققين من أهل الفقه في الدين، وتبينت صحة نسبة ما كان يتورع العلماء عن نسبته إليه، وإنّ نصيحتي الّتي أسديها لكن مسلم نصيحة للّه ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم، هي لزوم جماعة المسلمين في أُصول الدين وفروعه، ولولا أنّي اشفق على القارىء أن يملّ لتحدّثت إليه طويلا فيما أصاب الإسلام والمسلمين من عظائم هذا الرجل، ولبسطت له ما قال أكابر العلماء فيه وفي شيعته، ولكنّي أرجو أن يكون ما قدّمته كافياً لذوي النهى»(2) .

18- الشيخ محمد أبو

زهرة (1316 _ 1396 ه_)

ألّف الشيخ محمد أبو زهرة، كتاباً في حياة ابن تيمية وشخصيته، ومع

____________________________

1 . كذا في النسخة ولعل المراد: «جهمياً» .

[أو لعل المراد: نسبته إلى من يقول في اللّه بالجهة] الناشر .

2 . فرقان القرآن ص 132 _ 137 وقد فرغ المؤلف منه سنة 1358 ه_ .

( 58 )

أنّه أغمض عن كثير من الجوانب السلبية في حياته، وأخرج كتابه على وجه يلائم روح المحايدة في الكتابة، ومع ذلك انتقد عليه في موارد، ومنها: منعه التبرك بآثار النبي. يقول: «دفن النبي في حجرة عائشة لأنّ يكون قبره قريباً من المسجد، وأن يكون قبره معروفاً غير مجهول، فإنّه لو دفن بالبقيع في الصحراء، فقد يجهل موضعه، ويكون بعيداً عن مسجده، وأمّا إذا دفن في حجرة عائشة فإنّه يكون قريباً من مهبط الوحي ومبعث الدعوة ومكان التنزيل، وبعد فإنّا نخالف ابن تيمية منعه التبرك بزيارة قبر الرسول و المناجاة عنده، وعدم الندب إليه، وإنّ التبرك الّذي نريده ليس هو العبادة أو التقرب إلى اللّه بالمكان. إنّما التبرك هو التذكّر والاعتبار والاستبصار. وأىّ امرىء مسلم علم حياة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وسيرته، وهدايته، وغزواته وجهاده، ثم يذهب إلى المدينة ولا يحس بأنّه في هذا المكان كان يسير الرسول ويدعو ويعمل، ويدبّر ويجاهد، أو لا يعتبر _ ولا يستبصر، أو لا يحس بروحانية الإسلام و عبقرية النبي الأمين، أو لا تهزّ أعطافه محبة للّه ورسوله والأخذ بما أمر اللّه به، والانتهاء عما نهى عنه إلاّ من أعرض عن ذكر اللّه ولم يكن من أولي الأبصار؟ إنّ الزيارة إلى قبر الرسول هي الذكرى والاعتبار، والهدي والاستبصار والدعاء عند القبر دعاءً، القلب خاشع، العقل خاضع،

والنفس مخلصة، والوجدان مستيقظ، وإنّ ذلك أبرك الدعاء»(1) .

وهذه النصوص الرائعة من أئمة الحديث والتفسير والكلام في حق الرجل تغنينا عن إفاضة القول فيه، وقد اكتفينا بهذا المقدار عن الكثير، فإنّ الناقدين له أكثر مما ذكرنا. وقد نشر كتيب باسم «الوهابية في نظر المسلمين»(2) وذكر بعض من لم نذكره، كما أنّه لم يذكر بعض ما ذكرنا من النصوص .

والّذي يعرب عن أنّ الرأي العام يوم ذاك كان على ضدّه هو أنّ لفيفاً من العلماء من معاصريه والمتأخرين عنه ردّوا عليه بكتب ورسائل فندوا فيها.

____________________________

1 . ابن تيمية حياته وشخصيته ص 228 .

2 . تأليف: إحسان عبداللطيف البكري.

( 59 )

الرجل حول الصفات الخبرية أولا، والزيارة والتوسل ثانياً، إلى غير ذلك مما أثار عجاباً في السحاة الإسلامية، وإليك الإيعاز بالردود الّتي كتبت على آرائه.

الناقضون والرادّون على ابن تيمية

وإليك قائمة ممن ألف كتاباً أو رسالة حول آرائه:

1- شفاء السقام في زيارة خيرالأنام، لتقي الدين السبكي .

2- الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية، له أيضاً .

3- المقالة المرضية، لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبداللّه الأخنائي .

4- نجم المهتدي ورجم المقتدي، للخفر ابن المعلم القرشي .

5- دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد، لتقي الدين الإمام أبي بكر الحصني الدمشقي (ت 729 ه_) .

6- التحفة المختارة في الرد على منكري الزيارة، لتاج الدين عمر بن علي اللخمي المالكي الفاكهاني (ت 734 ه_) .

ومما جاء فيه قوله: أخبر جمال الدين عبداللّه بن محمد الأنصاري المحدث قال: رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني إلى دمشق، فقصد زيارة نعل رسول اللّه الّتي بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وكنت معه، فلما رأى النعل المكرمة، حسر عن رأسه، وجعل يقبله ويمرغ

وجه عليه ودموعة تسيل وأنشد:

فلو قيل للمجنون: ليلى ووصلها * تريد أم الدنيا وما في طواياها

لقال غبار من تراب نعالها * أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها(1)

7- اعتراضات على ابن تيمية، لأحمد بن إبراهيم السروطي

____________________________

1 . الغدير: ج 5 ص 155 نقلا عن الديباج المذهب .

( 60 )

الحنفي (1) .

8- إكمال السنة في نقض منهاج السنة، للسيد مهدي بن صالح الموسوي القزويني الكاظمي (ت 1358 ه_)(2).

9- الإنصاف والإنتصاف لأهل الحق من الإسراف، في الرد على ابن تيمية الحنبلي الحراني، فرغ منه مؤلفه سنة (757 ه_)، توجد نسخة منه في المكتبة الرضوية _ مشهد _ رقم 5643 .

10- البراهين الجلية في ضلال ابن تيمية، للسيد حسن الصدر الكاظمي (ت 1354 ه_) (3).

11- البراهين الساطعة، للشيخ سلامة العزامي (1379 ه_) (4) .

12- جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر)، للشيخ نعمان بن محمود الألوسي(5) .

13- الدرة المضيّة في الرد على ابن تيمية، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي كمال الدين المعروف بابن الزملكاني (6) .

14- الرد على ابن تيمية في الاعتقاد، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي (7) .

الفتيا الّتي اصدرها الشاميّون في حق ابن تيمية

وفي الختام نثبت في المقام صورة الفتيا الّتي أصدرها الشاميون ونقلها

____________________________

1 . معجم المؤلفين: ج 1 ص 140 .

2 . الذريعة ج 10 ص 176 .

3 . الذريعة ج 3 ص 79 .

4 . ابن مرزوق: كتاب التوسل بالنبي، ص 253 .

5 . إيضاح المكنون: ج 1 ص 263، معجم المؤلفين ج 13 ص 107 .

6 . كشف الظنون ج 1 ص 744، معجم المؤلفين ج 11 ص 22 .

7 . معجم المؤلفين ج 8 ص 316 .

( 61

)

الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل، وإليك ما ذكره:

«وقد اصدر الشاميون فتياً وكتب عليها البرهان ابن الفركاح الفزاري نحو أربعين سطراً بأشياء، إلى أن قال بتكفيره، ووافقه على ذلك الشهاب بن جهبل، وكتب تحت خطه، كذلك المالكي، ثم عرضت الفتيا لقاضي القضاة الشافعية بمصر: البدر بن جماعة، فكتب على ظاهر الفتوى:

الحمد للّه، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله: إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة، وما ذكره من نحو ذلك، ومن أنّه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء، باطل مردود عليه، وقد نقل جماعة من العلماء أنّ زيارة النبي فضيلة وسنة مجمع عليها، وهذا المفتي المذكور _ يعني ابن تيمية _ ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء، ويمنع من الفتاوى الغريبة، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به.

وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد اللّه بن جماعة الشافعي .

وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري، الحنفي: لكن يحبس الآن جزماً مطلقاً، وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي، ويبالغ في زجره حسبما تندفع تلك المفسدة وغيرها من الفاسد .

وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي:

وهؤلاء الأربعة قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة (726 ه_)(1) .

ولو أردنا أن نستقصي كل ما كتب رداًعلى ابن تيمية، لخرجنا عمّا هو الهدف، وكفى في ذلك ما نشر باسم «الوهابية في نظر المسلمين»(2) .

إلى هنا تمّ تبيين الرأي العام في ابن تيمية، في حياته ومماته، وقد عرفت

____________________________

1 . راجع تكملة السيف الصيقل، ص 155، ودفع الشبهة لتقي الدين الحصني ص 45 _ 47 .

2 . تأليف إحسان عبداللطيف البكري: الطبعة الرابعة، ومجلة «تراثنا» .

( 62 )

فما هو

الحق، غير أن تقييم الرجل بنقل آراء الأكابر من العلماء وإن كان له قيمة _ ولكنّه تقييم تقليدي لهم _ ومن أراد تقييمه عن اجتهاد وإمعان فيجب أن يستعرض آراءه وأقواله من كتبه ورسائله، ليعرف ما هو الحق في ذلك المجال، وعندئذ يصدر القاضي عن اجتهاد وإمعان، لا عن تقليد واقتداء بالغير، ولأجل ذلك نخص الفصل الآتي بنقل آرائه في مواضع مختلفة، ونكتفي ببعضها الّذي أوجد ضجة في الأيام الغابرة، وقام العلماء في وجهه كصف واحد، وزجروه وعاتبوه ونفوه وسجنوه، إلى أن مات في سجن دمشق، ولا ينافي كل ذلك ما للرجل من فضل وفضيلة في نواح من العلوم الإسلامية، فإنه لولا تحلّيه بالذكاء والتوقّد، أو بالعلم بالكتاب والسنة لما اكتسب مقاماً في الأوساط الإسلامية، ولم يكن لآرائه قيمة، فالمبدع لا يكون ناجحاً في بدعه وضلاله إلاّ إذا خلط الحق بالباطل _ وإلاّ _ فالباطل المطلق لا يكون له نجاح ونفوذ، ولنعم ما قال أميرالمؤمنين علىّ _ عليه السَّلام _ :

«إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللّه، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين اللّه. فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق، لم يخف على المرتادين، ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه السنُ المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى»(1) .

____________________________

1 . نهج البلاغة الخطبة 49 .

الإتهام بالشرك والبدعة

الإتهام بالشرك والبدعة

إنّ أكثر شيء تداولا وأرخصه في كتب الوهابيين ودعاياتهم هو اتّهام المسلمين بالشرك والبدعة، وكأنهم لا يجدون في كنانتهم شيئاً يرمون به المسلمين سوى هاتين الفريتين.

ترى أنّهم يتّهمون جميع المسلمين من عرب وعجم

وسنة وشيعة بالشرك في العبادة، وأنه ليس تحت السماء وفوق أديم الأرض أُمة موحّدة سوى محمد بن عبدالوهاب وأتباعه .

كما أنهم بدل تكريم المسلمين عند اللقاء، وتهنئتهم بالتسليم ونشر العطور ونثر الازاهير عليهم، يتهمونهم بالابتداع، ويسمونهم بالمبتدعة.

ولأجل ذلك يجب على كل محقق وناقد لمزاعم الوهابيين الموروثة من ابن تيمية القيام بأمرين مهمين وهما:

1- تحديد العبادة تحديداً منطقياً بحيث يكون جامعاً ومانعاً .

2- تحديد البدعة تحديداً دقيقاً مثل الشرك في العبادة .

ثم القيام بتطبيق ما أوقفه عليه البحث والتنقيب على ما يصفونه بالشرك والبدعة، حتّى يتبيّن أنّ التطبيق صحيح أولا؟ فها نقدّم إليك أيّها القارىء الكريم بحثاً ضافياً حول هذين الموضوعين المهمين، حتّى يتّضح الحقّ بأجلى مظاهره، وتقف على أنّ أكثر من يصفونه بالشرك والبدعة خيال وضلال وجهل بحقيقتهما.

( 64 )

ابن تيمية

ابن تيمية

وملاكات التوحيد والشرك في العبادة

إنّ المفتاح الوحيد لردّ شُبَهِ الوهابيين هو تحديد العبادة وتمييزها عن غيرها، فما لم يتحدّد مفهموم العبادة بشكل منطقي حتّى تتميز في ضوئه العبادة من غيرها، لم يكن البحث والنقاش ناجحاً، ولأجل ذلك نخصّص هذا الفصل لتعريف العبادة، و نبيّن ما ذكر حولها من التعاريف.

إنّ للتوحيد مراتب بيّنها علماء الإسلام في الكتب الكلامية والتفسيرية، ونحن نشير إلى هذه المراتب على وجه الإجمال، ونركزٌ على التوحيد في العبادة:

الأُولى: التوحيد في الذات، أو التوحيد الذاتي، والمراد منه هو: أنه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له. قال سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ)(1) .

الثانية: التوحيد في الخالقية، والمراد منه هو: أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه، ولا مؤثر مستقل سواه، وأنّ تأثير سائر الأسباب الطبيعية وغيرها بأمره وإذنه وإرادته سبحانه. قال سبحانه: (قُلَ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيء وَ

هُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ)(2) .

الثالثة: التوحيد في الربوبية والتدبير، والمراد منه أن للكون مدبّراً واحداً

____________________________

1 . سورة الإخلاص: الآية 1 .

2 . سورة الرعد: الآية 16 .

( 66 )

ومتصرّفاً فرداً لا يشاركه في التدبير شيء آخر، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب بأمره وإذنه، فلم يفوّض أمر التدبير إلى الأجرام السماوية والملائكة والجن. قال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرش يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ)(1) .

والمراد من الشفيع هو العلل الطولية، وسُمّي بالشفيع لأنّ تأثيره متوقف إلى ضمّ إذنه سبحانه إليه، والشفع هو الضم، سمي السبب شفيعاً لأنه يؤثر بانضمام إذنه تعالى .

وإذ انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين، أو الاعتضاد بأعضاد، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأُمور _ وهو الشفاعة _ إلاّ من عبد إذنه تعالى، فهو سبحانه السبب الأصلي الّذي لا سبب بالأصالة دونه، وأمّا الأسباب فإنها أسباب بتسبيبه، وشفعاء من بعد إذنه(2) .

الرابعة: التوحيد في التشريع والتقنين، والمراد منه حصر الحاكمية التشريعية في اللّه فليس لأحد أن يأمر وينهى ويحرم ويحلل إلاّ اللّه سبحانه. قال تعالى: (إنِ الحُكْمُ إلاّ للّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه)(3) .

الخامسة: التوحيد في الطاعة، والمراد منه هو: أنه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى، فهو وحده الّذي يجب أن يطاع، ولو وجبت طاعة النبي فإنما هو بإذنه. قال سبحانه (فاتّقوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُم واسْمَعُوا و أطَيعُوا)(4) .

السادسة: التوحيد في الحاكمية، والمراد منه هو: أن جميع الناس سواسية، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات، بل الولاية للّه المالك الخالق، فمن مارس الحكم في الحياة يجب أن يكون بإذنه، قال سبحانه:

(إنِ الحُكمُ

____________________________

1 . سورة يونس: الآية 3 .

2 . الميزان ج 10، ص 76 .

3 . سورة يوسف: الآية 40 .

4 . سورة التغابن: الآية 16 .

( 67 )

إلاّ للّهَ يَقُصُّ الحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصلينَ)(1) .

السابعة: التوحيد في الشفاعة والمغفرة، والمراد منه هو: أن كلا من الشفاعة والمغفرة حق مختص به فلا يغفر الذنوب إلاّ هو، ولا يشفع أحد إلاّ بإذنه. قال سبحانه: (وَ مَن يَغْفرُ الذُّنوبَ إلاّ اللّه)(2) .

وقال سبحانه: (مَنْ ذا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذنِهِ)(3) .

الثامن: التوحيد في العبادة، وحصرها في اللّه سبحانه، فلا معبود إلاّ هو، لا يشاركه فيها شيء، وهذا الأصل مما اتفق عليه الموحدون، فلا تجد موحداً يجوّز عبادة غير اللّه. إنّما الكلام في المصاديق والجزئيات، وأن هذا العمل مثلا (الاستغاثة بالأولياء وطلب الدعاء منهم والتوسل بهم) هل هو عبادة لهم حتّى يحكم على المرتكب بالشرك، لأنّه عبد غيراللّه، أوْ لا؟ وهذا هو البحث الّذي عقدنا هذا الفصل لبيانه، وما تقدم ذكره من أقسام التوحيد كان استطراداً في الكلام(4).

جاءت لفظة العبادة في المعاجم بمعنى الخضوع و التذلل. قال ابن منظور: أصل العبودية: الخضوع والتذلل، وقال الراغب: العبودية إظهار

____________________________

1 . سورة الأنعام: الآية 57 .

2 . سورة ال عمران: الآية 135 .

3 . سورة البقرة: الآية 255 .

4 . إنّ الوهابية تعترف بنوعين من التوحيد وهما التوحيد الربوبي والتوحيد الالوهي، ويفسرون الأول بالتوحيد في الخالقية، والثاني بالتوحيد في العبادة، وكلا الاصطلاحين خطأ.

أمّا الأول فالمراد من الربوبية هو تدبير المربوب وإدارته، وأن وظيفة الرب الّذي هو بمعنى الصاحب، إدرة مربوبه، كرب الدابة والدار والبستان بالنسبة إليها. فالتوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، وإن كان ربما تنتهي الربوبية إلى الخالقية.

و أمّا

الثاني، أعني التوحيد في الالوهية فهو مبنىّ على أن الإله بمعنى المعبود، ولكنه خطأ، بل هو ولفظ الجلالة بمعنى واحد، غير أن الأول كلّيّ والثاني علم لواحد من مصاديق ذلك الكلّي .

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مفاهيم القرآن، الجزء الأول ص 432. وعلى ضوء هذا كلما أطلقنا لفظ الإله أو الالوهية فلا نريد منه إلاّ هذا، لا المعبود .

( 68 )

التذلل، والعبادة أبلغ منها، ولكن هذه التعاريف وأمثالها كتفسيرها بالطاعة كما في القاموس، كلها تفسير بالمعنى الأعم، فليس التذلل وإظهار الخضوع والطاعة نفس العبادة، وإلاّ يلزم الالتزام بأُمور لا يصحّ لمسلم أن يلزم بها:

1- يلزم أن يكون خضوع الولد أمام الوالد، والتلميذ أمام الأُستاذ، والجندي أمام القائد، عبادةً لهم.

قال تعالى: (وَاخْفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ)(1) .

2- يلزم أن يكون سجود الملائكة لآدم، الّذي هو من أعلى مظاهر الخضوع، عبادةً لآدم. قال سبحانه: (وَ إذ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ...)(2) .

3- يلزم أن يكون سجود يعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف عبادة له. قال سبحانه: (وَ رَفَعَ أبَوَيْهِ عَلَى العَرشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْياىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقاً)(3) .

4- يلزم أن يكون تذلل المؤمن عبادة له، مع أنه من صفاته الحميدة، قال تعالى: (فَسَوفَ يَأتِي اللّه بَقَوْم يُحبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أذِلَّة عَلَى المُؤمِنينَ أعَزّة عَلَى الكَافِرينَ)(4) .

كل ذلك يدفع بنا إلى القول بأنّ تفسير العبادة بالتذلل والتخضع أو إظهارهما، وبالطاعة وما يشابه ذلك تفسير بالمعنى الأعم، ولا يكون الخضوع ضعيفهُ وشديدهُ عبادةً إلاّ إذا دخل فيه عنصر قلبي خاص يميزه عن مماثلاته ومشابهاته، وهذا العنصر عبارة عن أحد الأمور التالية:

1- الاعتقاد بألوهية المعبود .

____________________________

1 . سورة الإسراء: الآية 24 .

2 . سورة

البقرة: الآية: 34 .

3 . سورة يوسف: الآية 100 .

4 . سورة المائدة: الآية 54 .

( 69 )

2- الاعتقاد بربوبيته .

3- الاعتقاد باستقلاله في الفعل من دون أن يستعين بمعين أو يعتمد على معاضد.

إنّ هذه العبارات الثلاثة تهدف إلى أمر واحد، وهو أنّ مقوّم العبادة ليس هو ظواهر الأفعال وصورها، بل مقومها هو باطن الأعمال ومناشئها، والخضوع الّذي ينبعث عن اعتقاد خاص في حق المعبود، وهو:

إمّا عبارة عن الاعتقاد بألوهية المعبود، سواء أكانت ألوهية حقيقية أم الوهية كاذبة مدّعاة، فاللّه سبحانه إله العالم وهو الإله الحقيقي الّذي اعترف به كل موحد على وجه الأرض، كما أنّ الأوثان والأصنام آلهة مدّعاة اعتقد بألوهيتها عبدتها والعاكفون عليها، فاللّه سبحانه عند المشركين كان إلهاً كبيراً وهؤلاء آلهة صغيرة، وزّعت شؤون الإله الكبير عليهم.

أو عبارة عن الاعتقاد بربوبية المعبود، وأنّه المدبّر والمدير بنفسه.

أو عبارة عن الاعتقاد باستقلال الفاعل في فعله وإيجاده، سواء أكان مستقلا في وجوده وذاته كما هو شأن الإله الكبير عند المشركين، أم غير مستقل في ذاته ومخلوقاً للّه سبحانه، ولكنه يملك شؤونه سبحانه من المغفرة والشفاعة، أو التدبير والرزق أو الخلق، إلى غير ذلك مما هو من شؤونه سبحانه، والمراد من تملّكه بعض هذه الشؤون أو كلها، هو استقلاله في ذلك المجال، فكأنه سبحانه فوضها إليه وتقاعد هو عن العمل .

هذه هي الملاكات الّتي تضفي على كل خضوع خفيف أو شديد، لون العبادة وتميزه عن أي تكريم وتعظيم للغير. وفي الآيات القرآنية إلماعات إلى هذه القيود الّتي ترجع حقيقتها إلى أُمور ثلاثة:

أمّا الأول: فإليك بعض الآيات: قال سبحانه: (أمْ لَهُم إلهٌ غَيْرُ اللّه، سُبْحانَ اللّه عمّا يُشرِكُونَ)(1) فقد جعل في هذه الآية اعتقادهم بألوهية

____________________________

1 . سورة

الطور: الآية 43 .

( 70 )

غير اللّه هو الملاك للشرك. يقول سبحانه: (إنّهم كانُوا إذا قيلَ لَهُم لا إله إلاّ اللّه يستَكبرون)(1) أي إنّهم يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم، ويعبدونها بما أنّها آلهة حسب تصورهم، ولأجل تلك العقيدة السخيفة، قال تعالى: (إذا دُعيَ اللّه وَحْدَهُ كَفَرْتُم وَإنْ يُشْرَك بِهَ تُؤمِنُوا فالحُكْمُ للّهَ العلىّ الكَبير)(2) .

وقال سبحانه: (وَإذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمأزَّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونِ بالآخِرَةِ وَ إذا ذُكِرَ الّذينَ مِنْ دُونِهِ إذا هُمْ يَسْتَبشِرُونَ)(3) .

والآيات في هذا المجال وافرة جداً لا حاجة لنقلها، ومن تدبّر في هذه الآيات يرى أن التنديد بالمشركين لأجل اعتقادهم بألوهية أصنامهم وأوثانهم. قال سبحانه: (الذينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(4) .

وأما الثاني: أي كون الاعتقاد بالربوبية مؤثراً في إضفاء طابع العبادة على الخضوع، فيكفي قوله سبحانه: (يا أيُّها الناس اعْبُدُوا ربَّكُمُ الّذي خَلَقَكُم والَّذينَ مِنْ قَبْلِكُم)(5) .

وقال تعالى: (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكم لا إلهَ إلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شيء فَاعْبُدُوه)(6) .

فتعليل لزوم العبادة بكونه سبحانه «ربكم» في الآية الأُولى أو «ربكم وخالق كلّ شيء» في الآية الثانية، يعرب عن أن الدافع إلى العبادة هو ذلك الاعتقاد، وبالتالي ينتج أنه لا يتصف الخضوع بصفة العبادة إلاّ إذا اعتقد الإنسان أن المخضوع له خالق ورب أو ما يقاربه، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه

____________________________

1 . سورة الصافات: الآية 35 .

2 . سورة غافر: الآية 12 .

3 . سورة الزمر: الآية 45 .

4 . سورة الحجر: الآية 96 .

5 . سورة البقرة: الآية 21 .

6 . سورة الأنعام: الآية 102 .

( 71 )

ينفي صلاحية من في السماوات والأرض لأن يكون معبوداً لأجل أنهم عباد الرَّحمن، قال: (إن كُلّ مَنْ في

السّمواتِ والأرْضِ إلاّ آتي الرّحمنِ عَبْداً)(1)، فليسوا أرباباً ليدبّروا أُمورهم، ولا خالقين ليخلقوهم .

نعم، الاعتقاد بالربوبية ينحل إلى الاعتقاد بأنه يملك شؤون العابد، إمّا في جميع الجهات كما هو الحال في إله العالم عندن الموحدين، أو بعض الشؤون كالشفاعة والمغفرة، أو قضاء الحوائج ورفع النوازل، كما هو الحال في الآلهة الكاذبة عند المشركين، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينفي عن معبوداتهم كونهم مالكين لكشف الضر. قال: (لاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِم نَفْعاً وَ لا ضرّاً)(2)، وقال تعالى: (لا يَمْلِكُونَ كَشْف الضُّرّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْويلا)(3) وقال: (لا يَمْلُكون عَنِ الشّفاعة إلاّ مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْداً)(4) .

وقال: (إنّ الذينَ تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُم رِزْقاً)(5) إلى غير ذلك من الآيات الّتي بتاتاً، تملّك معبوداتهم المدعاة شيئاً من شؤونه سبحانه .

وهذا يعرب عن أنّ وجه اتّصاف خضوعهم بالعبادة ودعائهم لها، هو اعتقادهم بأنهم أرباب يملكون ما ينفع في حياتهم عاجلا أو آجلا، ويؤيد ذلك ما كانوا يرددون في ألسنتهم حين الطواف والسعي ويقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك .

وأما الثالث: وهو الاعتقاد بكون المخضوع له مستقلا إمّا في ذاته وفعله، أو في فعله فقط، الإلماع إليه في غير موضع من كتاب اللّه العزيز، وهو توصيفه سبحانه بالقيوم، قال سبحانه: (اللّه لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ

____________________________

1 . سورة مريم: الآية 93 .

2 . سورة الرعد: الآية 16 .

3 . سورة الإسراء: الآية 56 .

4 . سورة مريم: الآية 87 .

5 . سورة العنكبوت: الآية 17 .

( 72 )

القَيُّومُ)(1) وقال: (وَعَنَتِ الوُجوهُ للحيِّ القَيُّومِ)(2) والمراد منه هو الموجود القائم بنفسه، ليس فيه شائبة من الفقر والحاجة، وأنّ كل ما

سواه قائم به، ومن المعلوم أن القائم بنفسه والغني في ذاته، غني في فعله عن غيره، فلو استغثنا بأحد باعتقاد أنه يملك كشف الضر عنّا فقد طلبنا فعل اللّه سبحانه من غيره، لأنه تعالى وحده الّذي يملك كشف الضر لا غيره، والغني في الفعل هو اللّه سبحانه، فلو أقمنا موجوداً آخر مكان اللّه سبحانه في مجال الإيجاد، وزعمنا أنه يخلق ويرزق ويدبّر الأُمور، أو أنه يغفر الذنوب ويقضي الحاجات من عند نفسه، أو بتفويض من اللّه سبحانه واعتزاله عن الساحة، فقد وصفناه بالربوبية أولا (التعريف الثاني) ولو زعمنا أنه قائم بنفس الفعل الّذي يقوم به سبحانه ثانياً فكأننا أعطينا غيره صفة من صفاته سبحانه، وهي القيومية ولو في مجال الإيجاد (التعريف الثالث) .

هذا وللتفويض شؤون واسعة:

منها تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء، ويسمى بالتفويض التكويني .

ومنها تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة ويسمى بالتفويض التشريعي .

وهذا هو الذكر الحكيم يصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه يقول: (اتّخَذوا أحْبَارَهُم وَ رُهْبانَهُم أرباباً مَنْ دُون اللّه والمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِروا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إله هُوَ سُبْحانَهُ عمّا يُشرِكُون)(3) .

إنّ أهل الكتاب لم يعبدوهم من طريق الصلاة والصوم لها، وإنما

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 255 .

2 . سورة طه: الآية 111 .

3 . سورة التوبة: الآية 31 .

( 73 )

أشركوهم في تفويض أمر التشريع والتقنين إليهم، وزعموا أنهم يملكون شأناً من شؤونه سبحانه.

قال الإمام الصادق _ عليه السَّلام _ : «واللّه ما صَامُوا لَهُم، وَ لاَ صَلُّوا لَهُم، وَلَكِن أحَلُّوا حَرَماً وَ حَرّموا عَلَيْهِم حَلاَلا فاتّبعوهم»(1).

روى الثعلبي في تفسيره: عن عدي بن

حاتم قال: أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يا عدي، اطرح هذا الربق من عنقك» قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً) حتّى فرغ منها، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحلّه اللّه، فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادة(2) .

وفي ضوء هذا البحث الضافي تستطيع أن تميّز العبادة عن غيرها، والتعبّد عن التكريم، والخضوع العبادي عن التعظيم العرفي وتقف على أنّ سجود الملائكة لآدم، ويعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف، لم تكن عبادة قط، وما هذا إلاّ لأن خضوعهم لم يكن نابعاً عن الاعتقاد بألوهيتهما أو ربوبيتهما، أو أنهما يملكان شؤون اللّه سبحانه، كلها أو بعضها، ويقومان بحاجة المستنجد بنفسهما وذاتهما.

ومما يؤيد أنّ خضوع المشركين أمام أوثانهم وأصنامهم كان ممزوجاً بالاعتقاد بكونهم آلهة صغيرة، أو أرباباً، وموجودات تملك شؤون الرب أو بعضها، أنهم كانوا يصفونها بأنها أنداد للّه سبحانه. قال سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللّه أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبّ اللّه)(3) ولما زعموا أن معبوداتهم المصطنعة، تستجيب دعاءهم وتشفع لهم مثله، عادوا يحبّونها كحب اللّه، ويذكر في آية أُخرى أنّ المشركين كانوا يسوّون آلهتهم بربّ العالمين.

____________________________

1 . الكافي ج 1 ص 53 .

2 . مجمع البيان ج 3 ص 23 والبرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 120 .

3 . سورة البقرة: الآية 165 .

( 74 )

قال سبحانه: (تاللّه إنْ كُنّا لَفِي ضَلال مُبين * إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العَالمين)(1) .

والمراد هو التسوية في شؤونه سبحانه جميعها أوبعضها، وأمّا التسوية في العبادة فكانت من شؤون ذلك الاعتقاد، فإنّ العبادة خضوع من الإنسان للمعبود، فلا تتحقق إلاّ أن يكون

هناك إحساس من صميم ذاته بأن للمعبود سيطرة غيبية عليه، يملك شؤونه في حياته، وكان المشركون في ظل هذه العقيدة يسوّون أوثانهم برب العالمين. وبالتالي يعبدونهم. وليس المراد من التسوية هو التسوية في خصوص توجيه العبادة، إذ لم يعهد من المشركين المتواجدين في عصر الرسول توجيه العبادة إلى اللّه، ويؤيد ذلك: أنّ الوثنية دخلت مكة ونواحيها أول ما دخلت بصورة الشرك في الربوبية، وفي ذلك يكتب ابن هشام:

كان عمرو بن لحي أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عما يفعلون بقوله: «ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدونها؟» قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منه فأسير به إلى أرض العرب فيعبدون؟!.

ثم إنّه استصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم (هبل)، ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ودعا الناس إلى عبادتها(2)، فطلب المطر من هذه الأوثان يكشف عن اعتقادهم بأن لهذه الأوثان دخلا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

الوهابيون وملاكات التوحيد و الشرك

ثم إنّ الوهابيين لما لم يضعوا للعبادة حدّاً منطقياً تتميّز به عن غيرها،

____________________________

1 . سورة الشعراء: الآية 97 _ 98 .

2 . سيرة ابن هشام ج 1 ص 79 .

( 75 )

عمدوا إلى وضع ملاكات للعبادة، عجيبة جداً، وهي مبثوثة في كتبهم وثنايا دعاياتهم وهي:

1- الاعتقاد بالسلطة الغيبية .

2- الاعتقاد بأن المدعو يقضي حاجته بسبب غير عادي .

3- طلب الحاجة من الميت .

4- طلب الحاجة مع كون المطلوب منه عاجزاً .

إلى غير ذلك من المعايير الّتي لا تمت إلى التوحيد والشرك بصلة أبداً ولكون هذه الملاكات تدور على ألسنتهم و تتكرر في كتبهم، نركّز على هذه

المعايير وأشباهها لنخرج بنتيجة قطعية، وهي أنّ الملاك في تمييز التوحيد عن الشرك أمر واحد وهو الاعتقاد بالألوهية والربوبية، أو كون الفاعل مستقلا ومفوضاً إليه الأمر، وأمّا هذه المعايير فكلها معايير عرضية، بل لا تمت إلى مسألة العبادة بصلة أصلا، بل كل منها يوصف بالتوحيد على وجه، وبالشرك على آخر، وإليك البيان:

1- هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية معيار للشرك ؟

«إنّ هناك من يتصور أن الاعتقاد بالسلطة الغيبية في المدعو يلازم الاعتقاد بكونه إلهاً. يقول الكاتب المودودي: «إنّ التصوّر الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه هو _ لا جرم _ تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على الطبيعة، وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة»(1) وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة ملازماً للاعتقاد بالألوهية، وعلى ضوء ذلك فكل من اعتقد في واحد من الصالحين بأنّ له تلك السلطة فهو معتقد بألوهيته، فيصبح دعاؤه عبادة، والداعي عابداً له .

وهو مردود من وجهين:

____________________________

1 . المصلطحات الأربعة ص 17 .

( 76 )

أولا: إنّ التصور الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله، لا ينحصر في تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة، كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم لأنّها تملك الشفاعة والمغفرة، وهو غير القول بوجود السلطة على عالم التكوين، وبذلك يظهر الضعف في كلام آخر له، حيث يقول:

«إنّ كلا من السلطة والألوهية تستلزم الأُخرى»(1).

والحال أنّ الإعتقاد بالألوهية أعمّ من الاعتقاد بالسلطة، فلو افترضنا أن الاعتقاد بالسلطة يستلزم الألوهية، ولكن الاعتقاد بالألوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة، بل يكفي أن يعتقد أنّ المدعو يملك مقام الشفاعة والمغفرة، أو شأناً من شؤونه سبحانه .

وثانياً:

إنّ الاعتقاد بالسلطة إنّما يستلزم الاعتقاد بالألوهية إذا كان ينطوي على الاعتقاد بأنّه فوّضت إليه تلك السلطة تفويضاً، بحيث يقوم بأعمالها باختياره من دون استئذان من اللّه سبحانه واعتماد عليه، وعلى ضوء ذلك لا يكون الاعتقاد بها _ إذا كان إعمال تلك السلطة بإذن اللّه _ ملازماً للاعتقاد بالألوهية، وإلاّ وجب أن لا نسجّل أحداً من المسلمين المعتقدين بالقرآن في ديوان الموحدين، فإنّه يثبت ليوسف وموسى وسليمان والمسيح، بل لأناس آخرين ليسوا بأنبياء سلطة غيبية. هذا قوله سبحانه في قصة سليمان:

(قال يَا أيُّها المَلأ أيُّكُم يَأتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أن يَأتُوني مُسلِمينَ * قال عِفْريتٌ مِنَ الجنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أمينُ * قَالَ الّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُكَ فَلَمّا رَآه مُستَقرّاً عَندَهُ قَالَ هَذَا مَنْ فَضلَ رَبّي لِيَبْلُوني أأشْكُرُ أم أكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبَّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ)(2).

____________________________

1 . المصلطحات الأربعة ص 30 .

2 . سورة النمل: الآية 38 _ 40 .

( 77 )

ولا يرتاب أحد في أنّ سليمان سأل ما سأل بعد اعتقاده بكونهم أصحاب السلطة الغيبية، أفيصح للمودودي أن يرمي ذلك النبي العظيم بما لا يليق بساحته، بل لا يحتمل في حقه؟ .

إنّ الذكر الحكيم يثبت _ لسليمان _ نفسه سلطة غيبية، وأنّه كان له سلطة على الجن والطير حتّى أصبحا من جنوده، كما يقول: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنودُهُ مِنَ الجِنّ وَ الإنسِ وَ الطّيرِ...)(1).

وكانت له السلطة على عالم الحيوانات حتّى أنّه كان يخاطبهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره، كما يقول: (وَ تَفَقَّدَ الطّيرَ فَقالَ مَاليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أم كَانَ مِنَ الغَائَبينَ * لاُعذِّبَنَّهُ عَذَاباً

شَديداً أو لأَذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأتِيَنىّ بِسُلطان مُبين)(2)، وكانت له السلطة على الجن، فكانوا يعملون بأمره وإرادته، كما يقول:

(وَ مِنَ الجنّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَإذْنِ رَبَّهِ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ...)(3)، وكانت له السلطة على الريح أيما تسليط كما يقول: (وَ لِسُلَيَْمانَ الرّيحَ عاصَفَةً تَجْرِيَ بأَمْرِهِ)(4) .

وعلى أىّ تقدير فايّة سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة الّتي كانت لسليمان؟ والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقق بأمره .

هذا ما ذكره القرآن في حق سليمان، وقد ذكر نظيره في حق غير واحد من الأنبياء، لاحظ الآيات(5) فكيف يكون الاعتقاد بالسلطة الغيبية المهيمنة على الطبيعة على وجه الإطلاق ملازماً للاعتقاد بالألوهية ؟

____________________________

1 . سورة النمل: الآية 17 .

2 . سورة النمل: الآية 20 _ 21 .

3 . سورة سبأ: الآية 12 - 13 .

4 . سورة الأنبياء: الآية 81 .

5 . سورة يوسف: الآية 93 _ 96، سورة الشعراء: الآية 63، سورة البقرة: الآية 60 (في حق موسى)، سورة آل عمران: الآية 49 (في حق المسيح)، سورة المائدة: الآية 110 (في حقه أيضاً) .

( 78 )

2- هل طلب قضاء الحاجة بأسباب غير طبيعية معيار للشرك ؟

يرى المودودي ان التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك، أمّا طلب الحاجة وإنجازها بأسباب غيرها فهو يلازم الشرك. يقول: فالمرء إذا كان أصابه العطش فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء، لا يطلق عليه حكم الدعاء، ولا أن الرجل اتخذ إلهاً، وذلك أنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب، ولكن إذا استغاث بولىّ في هذا الحال فلا شك أنّه دعاه لتفريج الكربة واتّخذه إلهاً، فكأنّي به يراه سميعاً بصيراً، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على

عالم الأسباب مما يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من المرض(1) .

أقول: إنّ ما ذكره صورة أُخرى للمعيار الأول، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، فإنّ طلب التوسل بالأسباب غير الطبيعية لا ينفك عن الاعتقاد بكونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة .

يلاحظ عليه: أنّ المودودي تصوّر أنّ طلب التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك، وإنّما الشرك هو طلب التوسل بغيرها. والحال أنّ كلا منهما على وجهين: فلو تصوّر أنّ القائم بعمل على وفق الأُصول الطبيعية، إنّما يقوم به عند نفسه وباقتدار مستقل من دون اعتماد على اقداره سبحانه واستئذان منه، فقد اعتقد بألوهيته وطلب فعل الإله من غيره، وأمّا إذا اعتقد أنّ الخادم يحضر الماء بقدرة مكتسبة واستئذان منه فهو نفس التوحيد. ومثله الكلام في الأسباب غير الطبيعية، فلا شك أنّ أُمة المسيح كانوا يعتقدون في حقه _ بعدما رأوا الآيات والمعجزات منه _ أنّ له سلطة غيبية، وكانوا يسألونه إبراء مرضاهم وإحياء موتاهم، أفهل يتصوّر أنّ سؤالهم هذا كان شركاً؟ وأنّ المسيح كان مجيباً لدعوتهم الشركية؟! فمن ذا الّذي يسمع قول المسيح بين بني إسرائيل: (أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيئَةِ الطّيرِ فَأنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيراً بإذنِ اللّهِ و أُبْرَىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ و أُحيِ المَوْتى بِإذنِ اللّهِ وأُنَبِّئُكُم بِما تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي

____________________________

1 . المصطلحات الأربعة ص 30 .

( 79 )

بُيُوتِكُم إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إنْ كُنْتُم مُؤمِنينَ)(1) .

فَمَنْ ذا الّذي يسمع كلامه هذا _ ولا يعتقد بسلطته الغيبية؟ ولا يسأله كشف الكرب والملمات بإذنه سبحانه؟ أفيصح للمودودي أن يتّهم أُمة المسيح وفيهم الحواريون الذين أُنزلت عليهم مائدة من السماء ومدحهم سبحانه في الذكر الحيكم(2)بالشرك ؟

هذا هو الذكر الحكيم ينقل عن السامري

قوله: (بَصُرْتُ بِما لَمْ يِبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لي نَفْسي)(3) .

وهو يعطي أنّ السامري توسّل بالتراب المأخوذ من أثر الرسول، وكان له أثر خاص في إخراج العجل الّذي كان له خوار. فلو اعتقد المسلم _ تبعاً للقرآن _ بأنه توسل باسباب غير طبيعية لإضلال قومه، فهل يصحّ اتهامه بالشرك؟ .

وبالجملة: ليس الاعتقاد بالسلطة الغيبية في مقابل الاعتقاد بالسلطة العادية، كما وليس التوسل بالأسباب غير العادية في مقابل التوسل بالأسباب العادية، معيارين للتوحيد والشرك، بل كل واحد منهما يمكن أن يقع على وجهين، فعلى وجه يوافق الأُصول التوحيدية، وعلى آخر يخالفها .

3- هل الموت والحياة ملاكان للتوحيد والشرك؟ .

يظهر من الوهابيين أنهم يجوّزون استغاثة الأحياء، وفي الوقت نفسه يرون استغاثة الأموات شركاً. يقول محمد بن عبدالوهاب: وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلا صالحاً تقول له: ادع اللّه لي، كما كان أصحاب الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يسألونه في حياته، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلاّ أن يكونوا سألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللّه عند قبره، فكيف بدعاء نفسه(4) .

____________________________

1 . سورة آل عمران: الآية 49 .

2 . سورة المائدة: الآية 115 وسورة الصف: الآية 14 .

3 . سورة طه: الآية 96 .

4 . كشف الشبهات _ طبع مصر _ ص 70 .

( 80 )

عجيب جداً أن يكون عمل محدد ومشخّص إذا طلب من الحي، نفس التوحيد، وإذ طلب من الميت يكون عين الشرك. إنّ القرآن ينقل عن بعض شيعة موسى ويقول: (فاسْتَغَاثَهُ الّذي مِنْ شِيَعتِه عَلَى الّذي من عَدوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوْسى فَقَضى عَلَيْهِ)(1)فنفس هذه الاستغاثة في حال الحياة، يتصور على وجهين،

يحكم على أحدهما أنه موافق لأصول التوحيد، وعلى الآخر بخلافها!!

إنّ هذه الاستغاثة إنما تكون على وفق التوحيد إذا اعتقد أنّ موسى في حال حياته يقوم بالاغاثة بقدرة مكتسبة وإذن منه سبحانه، ولو اعتقد بأصالته في إغاثة المستغيث فقد اعتقد بألوهيته، فإذا كان هذا هو المعيار في الاستغاثة من الحي، فليكن هذا هو المعيار عند الاستمداد بالأرواح المقدسة العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن (أو الأموات) على زعم الوهابيين .

فلو فرضنا أنّ أحداً من شيعة موسى استغاث به بعد خروج روحه الشريف عن بدنه على نحو الاستغاثة الأُولى، فهل يتصوّر أنّه أشرك باللّه؟ وأنّه عبد موسى لاعتقاده أنّه يغيث المستغيث حياً وميتاً؟ .

ولو كانت حياة المستغاث ومماته معياراً، فإنّما يصحّ أن يكون معياراً في الجدوائية وخلافها، لا في الشرك و التوحيد.

وبذلك تقف على ضعف كلام تلميذ ابن تيمية حيث يقول: «و من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإنّ الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً»(2) .

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الدليلين لا يثبت مدّعاه، لأنّ قوله: «فإنّ الميت قد انقطع عمله» على فرض صحته، يثبت عدم الفائدة في

____________________________

1 . سورة القصص: الآية 15 .

2 . فتح المجيد، تأليف حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 67 الطبعة السادسة .

( 81 )

الاستغاثة بالميت، لا انّه شرك، وأمّا قوله: «ولا يملك نفسه ضراً ولا نفعاً» فهو جار في الحي والميت، فليس في صفحة الوجود من يملك لنفسه شيئاً، فإنما يملك بإذنه وإراته سواء أكان حياً أم ميتاً، ومع الإذن الإلهي يقدرون على إيصال النفع والضر أحياءً وأمواتاً.

هذا كلام التلميذ، فهلمّ ندرس كلام أُستاذه ابن تيمية وهو

يقول: كل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية وجعل يقول: يا سيدي فلان أنصرني وأغثني... فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلاّ قتل(1) .

يلاحظ عليه: أنّ الإستغاثة بالأموات _ حسب تعبير الوهابيين، أو الأرواح المقدسة حسب تعبيرنا _ إذا كانت ملازمة للاعتقاد بنوع من الألوهية، يلزم أن تكون الاستغاثة بالأحياء ملازمةً لذلك، لأنّ حياة المستغاث ومماته حدّ لجدوائية الاستغاثة وعدمها، وليس حداً للتوحيد والشرك، في حين أنّ الاستغاثة بالحي تعد من أشد الضروريات للحياة الاجتماعية .

وهناك كلام آخر له هلم معي نستمع إليه يقول:

«والذين يدعون مع اللّه ألهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم; يقولون: ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إى اللّه زلفى، أو هؤلاء شفعاؤنا»(2) .

إنّ قياس استغاثة المسلمين بما يقوم به المسيحيون والوثنيون، والخلط بينهما ابتعاد عن الموضوعية، لأنّ المسيحيين يعتقدون بألوهية المسيح، والوثنيين يعتقدون بتملّك الأوثان مقام الشفاعة والمغفرة، بل مقام التصرف في الكون كإرسال الأمطار على ما نقله ابن هشام(3) ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح والأوثان عبادة لها .

____________________________

1 . فتح المجيد ص 167 .

2 . نفس المصدر .

3 . السيرة النبوية ج 1 ص 79 .

( 82 )

وأمّا استغاثة المسلمين بالأرواح المقدّسة فخالية من هذه الشوائب فعندئذ، لا يكون شركاً ولا عبادة، بل استغاثة بعبد لا يقوم بشيء إلاّ بإذنه سبحانه، فإن أذن أجاب، وإن لم يأذن سكت، فما معنى توصيف هذا بالشرك ؟

4- هل القدرة والعجز حدان للتوحيد والشرك ؟

وهناك معيار مزعوم آخر يظهر من كلمات ابن تيمية، وهو أنّ قدرة المستغاث على

تحقيق الحاجة يوجب أن لا يكون الطلب شركاً ولكن عجزه عن قضاء الحاجة يضفي على الطلب لون الشرك، يقول ابن تيمية: «مَنْ يأتي إلى قبر نبيى أو صالح ويسأل حاجته ويستنجد به، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّوجلّ. فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاّ قتل»(1) .

وليس هذا ملاكاً جديداً بل هو وجه آخر للملاك السابق، غير أنّه عبّر في السابق بموت المستغاث وحياته، وهنا بالعجز والقدرة، يقول الصنعاني:

«الاستغاثة بالمخلوقين في ما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلاّ اللّه تعالى، من عافية المرض وغيرها، وقد قالت أُم سليم: يا رسول اللّه. خادمك أنس، ادع اللّه له، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي، وهذا أمبر متفق على جوازه، والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم، ونحو ذلك من المطالب الّتي لا يقدر عليها إلاّ اللّه»(2) .

وعلى أىّ تقدير، فسواء أكان هذا وجهاً آخر للملاك السابق أم ملاكاً آخر بقرينة عطف الأحياء على الأموات في هذا الكلام، فليست القدرة والعجز ملاكين للتوحيد والشرك، وإنّما هما ملاك الجدوائية وعدمها.

____________________________

1 . زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ص 156 _ والهداية السنية، ص 40 .

2 . كشف الإرتياب ص 272 نقلا عن الصنعاني .

( 83 )

5- طلب فعل اللّه من غيره

هذا هو الملاك الحقيقي الّذي أو عز إليه الصنعاني، ويوجد في كلمات ابن تيمية وقد عرفت قوله:

«مَن يأتي إلى قبر نبي أو صالح ويسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا

يقدر عليه إلاّ اللّه تعالى» وهذا مما لا إشكال فيه، غير أنّ الكلام في تمييز فعل اللّه عن فعل غيره، أمّا الكبرى فمسلمة عند الكل، فقد اتفق الموحدون على أنّ طلب فعله سبحانه من غيره، ملازم للاعتقاد بألوهية المسؤول وربوبيته، فاللازم دراسة الصغرى، وأنّ فعل اللّه ما هو؟ والتركيز عليه .

ترى أنّ ابن تيمية قد سلم أنّ شفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه، مع أنّ الحق أن قسماً منهما يعدّ فعلا للّه سبحانه دون قسم آخر .

إنّ إبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالة وغيرها بالسنن الطبيعية أو غيرها على وجه الاستقلال ومن دون استعانة بأحد هو فعل اللّه سبحانه، فلو طلب نفس ذلك من غيره لا ينفك عن الاعتقاد بالألوهية والربوبية .

وأمّا لو طلب منه مع الاعتقاد بأنّه مستغاث يقوم بهذه الأُمور عن طريق العلل الطبيعية أو غيرها، مستمداً من قدرة اللّه وقائماً بإذنه ومشيئته، فليس هذا فعل اللّه حتّى يكون طلبه من غيره شركاً. لأنّه سبحانه يقوم بالفعل مستقلا وبلا استمداد.

كيف وقد صرح القرآن بأنّ المسيح «يبرىء الأكمه والأبرص بإذنه» مع أنّ ابن تيمية وأتباعه زعموا أنها من أفعاله سبحانه، قال سبحانه: (وَ تُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَص بِإذني وَ إذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي)(1) وقد نسب الذكر الحكيم

____________________________

1 . سورة المائدة: الآية 110 .

( 84 )

كثيراً من الأمور الخارقة للعادة إلى أنبيائه، فلم تكن هذه النسبة إلاّ لأجل أنّهم يقومون بما يقومون، بإذنه سبحانه .

وحصيلة الكلام: التوسّل بالأسباب بقيد أنّها أسباب _ سواء أكانت طبيعية أم غير طبيعية _ لا يلازم الشرك، نعم، السبب ربما يكون سبباً واقعياً، وأُخرى سبباً كاذباً وخاطئاً، والاشتباه في سببية السبب لا يستلزم الاعتقاد بألوهية السبب أو

ربوبيته، أو كون الطلب منه طلب فعل اللّه من غيره .

ونعيد الكلام حتّى يتّضح الحق بأجلى مظاهره فنقول: إنّ التعلّق بالشيء والطلب منه مع الاعتقاد بالسببية، وأنّ اللّه سبحانه أعطاه المقدرة على إنجاز المأمول يمتنع أن يتصف بالشرك، لأنّ المفروض أنّ المتوسل إنّما تعلّق به بقيد كونه رابطاً وسبباً.

نعم يمكن أن يكون المتوسل صائباً في الاعتقاد بالسببية أو خاطئاً، ولكن الاشتباه في الموضوع لايكون دليلا على الاعتقاد .

وأمّا إذا كان التعلق بالشيء لا بوصف السببية والرابطية، بل بما أنّ المطلوب منه، موجود مستقل في فعله وإيجاده، يقوم بالفعل بنفسه، ويقوم بحاجة المستنجد من صميم ذاته من دون أن يكون سبباً ورابطاً بين الإنسان وربّه، فهذا يكون ملازماً للإعتقاد بالألوهية من دون نقاش .

كان اللائق بابن تيمية ونظرائه دراسة فعل اللّه سبحانه وتمييزه عن غيره، حتّى لا يحكموا بضرس قاطع بأنّ الإعانة والإماتة والشفاعة وغيرها على الإطلاق من أفعال اللّه سبحانه، بل الحق أنّ كلاّ من هذه الأفعال يقع على وجهين، فهو على وجه فعله سبحانه، وعلى وجه آخر يصحّ أن يعدّ فعلا للسبب، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينسب فعلا واحداً لذاته، وفي الوقت نفسه ينسبه لمخلوق من مخلوقاته، وإليك نماذج من ذلك:

1- يعدّ القرآن _ في بعض آياته _ قبض الأرواح فعلا للّه تعالى، ويصرح بأنّ اللّه هو الّذي يتوفّى الأنفس حين موتها إذ يقول مثلا:

( 85 )

(اللّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)(1) .

بينما تجده ينسب التوفّي في موضع آخر، إلى غيره، قال: (حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنا)(2) .

2- يأمر القرآن _ في سورة الحمد _ بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول: (وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ)(3)، في حين نجده في آية أُخرى يامر بالاستعانة بالصبر والصلاة

إذ يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(4) .

3- يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده، إذ يقول: (قُلْ للّهِ الشّفَاعَةُ جَميعاً)(5) .

بينما يخبرنا _ في آية أُخرى _ عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة ويقول: (وَكَم مِنْ مَلَك في السّمواتِ لاَ تُغْني شَفَاعَتُهُم شَيئاً إلاّ مَنْ بَعْدِ أنْ يأذَنَ اللّه)(6) .

4- إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول: (وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُون)(7) في حين أنّ القرآن يعتبر الملائكة كتبة أعمال العباد إذ يقول: (بَلَى وَرُسُلُنا لَدَيْهم يَكْتُبُونَ)(8) .

5- قد تضافرت الآيات على أنّه سبحانه هو المدبّر، يقول: (وَمَن يُدَبّرُ الأمرَ فَسَيَقُولُونَ اللّه)(9) بينما يصرّح القرآن بمدبرية غيره ويقول:

____________________________

1 . سورة الزمر: الآية 42 .

2 . سورة الأنعام: الآية 61 .

3 . سورة الفاتحة: الآية 5 .

4 . سورة البقرة: الآية 45 .

5 . سورة الزمر: الآية 44 .

6 . سورة النجم: الآية 26 .

7 . سورة النساء: الآية 81 .

8 . سورة الزخرف: الآية 80 .

9 . سورة يونس: الآية 31 .

( 86 )

(فَالمُدبّراتِ أمراً)(1) .

وهذه نماذج من الآيات مما نسب الفعل إلى اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه نسب إلى عباده، وما المصحح إلاّ ما ذكرنا، وهو أنّ المنسب إليه سبحانه غير المنسوب إلى العباد، وأنّ قيامه سبحانه بالأفعال على وجه الاستقلال من دون أن يعتمد على سبب عال أو قوة عليا، وأمّا قيام غيره فإنما هو بالسببية والرابطية والمأمورية.

وفي ضوء هذا تقدر على تمييز فعله سبحانه عن فعل غيره، فليس شفاء المريض وقضاء الدين وردّ الضالة على وجه الإطلاق، من فعله سبحانه، ولا من فعل عباده، بل لكلّ سمة وعلامة، بها يتميز عن غيره. والحد الفاصل بين فعله سبحانه وفعل غيره هو كون الفاعل

مستقلا في الايجاد، ومالكاً لفعله، وكونه غير مستقل في الفعل وغير مالك له، والأول (أي الّذي يصدر عن الفاعل على وجه الاستقلال) لا يطلب إلاّ منه، والثاني يطلب من غيره.

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ كل خضوع قلبي أو لساني أو خشوع فعلي لا يتصف بالعبادة إلاّ إذا اعتقد الخاضع بأنّ في المخضوع له، عنصر الألوهية والربوبية، وأنّه مستقل في الذات والفعل، أو في الفعل فقط، وأمّا إذا كان قلب الخاضع خالياً عن الاعتقاد بهذا العنصر، بل كان معتقداً بعبوديته وعدم مالكيته شيئاً، وعدم قيامه بأمر إلاّ بإذنه، وأنّه ليس له دور سوى دور السببية، فطلب أىّ شيء منه لا يتّسم بالعبادة، سواء أطلب منه القيام عن طريق أسباب طبيعية، أم القيام به عن طريق أسباب خارقة للعادة .

وسواء اعتقد أنّ فيه سلطة غيبية يقوم بأعمال خارقة للعادة في ظلها أو لا

وسواء أكان المطلوب منه عاجزاً أم قادراً.

وسواء أطلب أُموراً عادية كالسقي، أم أُموراً غير عادية كبرء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى .

____________________________

1 . سورة النازعات: الآية 5 .

( 87 )

إذ ليس شيء منها هو العامل المؤثر لإضفاء العبادة على الطلب، وإنّما الموثر هو ما ذكرناه، وبذلك نقدر على القضاء في الموضوعات التالية الّتي وصفتها الوهابية بأنّهاشرك محرّم وهي:

1- طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين .

2- الاستعانة بأولياء اللّه .

3- طلب شفاء المريض من غير اللّه .

4- دعوة الصالحين، مثل: يا محمد أغثني .

فإنّ الوهابيين تبعاً لشيخهم في المنهج يصورون جميع هذه الدعوات دعوات شركية أشبه بدعاء عبدة الأصنام .

ولكنّك بعدما أحطت خبراً بما ذكرنا سرعان ما ترجع وتقضي بحكمين مختلفين ينشآن من اختلاف عقيدة الداعي وتقول: إنّ كل واحد من هذه الاُمور على وجه، شرك، وعلى

وجه آخر ليس بشرك، ولا يعلم أىّ واحد منهما إلاّ أن نقف على عقيدة السائل .

فلو كان المدعو في اعتقاد الداعي هو اللّه العالم أو غيره، لكن باعتقاد أن له سهماً من الألوهية أو الربوبية، فهو عبادة بلا شك، حتّى لو سئل منه السقي بالماء وإيصاد الباب، وما شابههما من الأُمور العادية البسيطة والمتعارفة.

وأمّا إذا كان المدعو حسب اعتقاد الداعي عبداً مرزوقاً ومربوباً محتاجاً، قائماً في ذاته باللّه سبحانه، مستمداً في فعله منه، ولا يقوم بفعل إلاّ بإقداره واذنه، فلا يكون الطلب منه ولا دعاؤه متسماً بوصف العبادة، بل أقصى ما يمكن أن يقال هو أنّه إذا كان المسؤول والمدعو قادراً على العمل، يكون الطلب مفيداً، وإلاّ يكون لغواً .

وبذلك يظهر أنّ الميزان في توصيف العمل بالشرك والانحراف عن خط التوحيد ليس هو صور الأعمال وظواهرها، بل المراد حقائقها وبواطنها. فما ورد

( 88 )

في كلمات القوم من تشبيه عمل المسلمين بعمل عبدة الأصنام تشبيه باطل لا يعوّل عليه.

بقيت هنا كلمة وهي :

ما هو المراد من النهي عن دعوة غير اللّه ؟

إنّ الآفة كل الآفة هي أن الوهابيين كشيخهم ابن تيمية يسردون الآيات والروايات من دون أن يتفكروا في مفادهما ومواردهما، ولكنهم يأخذون بالظواهر الابتدائية مع تناسي ما حول الآيات من القرائن، فتراهم يعدون دعاء الصالحين والاستغاثة بهم والطلب منهم شركاً، بحجّة أنّه سبحانه عد دعاء المشركين للأصنام والأوثان شركاً وقال:

(وَ أنّ المَساجِدَ للّه فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً)(1) .

(لَهُ دَعوَةُ الحَقّ والّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجيبونَ لَهُم بِشَىء)(2) .

(إنّ الّذينَ تَدْعونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عَبادٌ أمْثَالَكُمُ)(3) .

(وَالّذينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِهَ مَا يَملِكُونَ مِن قِمطير)(4) .

(قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ

عَنْكُم وَلا تَحويلا)(5) .

(أُولئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهم الوَسيلَة...)(6) .

____________________________

1 . سورة الجن: الآية 18 .

2 . سورة الرعد: الآية 14 .

3 . سورة الأعراف: الآية 194 .

4 . سورة فاطر: الآية 13 .

5 . سورة الإسراء: الآية 56 .

6 . سورة الإسراء: الآية 57 .

( 89 )

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ...)(1) .

(وَ مَنْ أضَلّ مَمَّن يَدْعُو مَنْ دُونِ اللّه مَنْ لا يَسْتَجيبُ لَهُ إلى يَومِ القيامَةِ)(2) .

ترى أنهم يسردون هذه الآيات الواردة في حقّ المشركين المعتقدين بالوهية الأصنام وربوبيتهم، وكونهم مفوّضاً إليهم القيام بالأفعال والأعمال، من الشفاعة والمغفرة، والشفاء وغيرها. يسردون هذه الآيات بصلافة وقحة في حق المسلمين الإلهيين الذين لا يعتقدون في حق الأنبياء والصالحين سوى كونهم عباداً مقربين، تستجاب دعوتهم إذا دعوا، ويقومون بحاجة المستنجد بإذنه سبحانه وقدرته، وإليك محصّلها:

1- إنّ هذه الآيات وما ضاهاها تختص بالمشركين الذين كانوا يصورون أوثانهم وأصانهم آلهة يملكون كشف الضر والتحويل، وينصرون بلا استئذان منه سبحانه، لأنّهم يملكون هذا الجانب من الأفعال الإلهية، وأين هو من عقيدة المسلم الموحد في حقّ الأنبياء والصالحين من أنهم عباد مكرمون، لا يعصون اللّه ما أمرهم، وهم بأمره يعملون، وبإذنه يشفعون و...؟

2- إنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات، ليس الدعوة المجردة بمعنى النداء بل المراد هو الدعاء الخاص المرادف للعبادة، وليس ذلك بغريب، فقد جمع سبحانه في آية واحدة، بين الدعوة والعبادة، وفسّر الأُولى بالثانية نحو قوله: (وَقالَ رَبُّكُم ادْعُوني أستَجِب لَكُم إنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنم دَاخرينَ)(3) .

يقول الإمام زين العابدين _ عليه السَّلام _ : «وسميت دعاءك عبادة، وتركه استكباراً وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين»(4) .

____________________________

1

. سورة يونس: الآية 106 .

2 . سورة الاحقاف: الآية 5 .

3 . سورة غافر: الآية 60 .

4 . الصحيفة السجادية، الدعاء 49 .

( 90 )

وما ورد في الحديث: «الدعاء مخّ العبادة» فالمراد هو هذا القسم من الدعاء، أي الدعاء المقرون بالوهية المدعو بنحو من الأنحاء .

3- إنّ المنهي عنه هو جعل المدعو في مرتبة اللّه الخالق، كما يعرب عنه قوله: (وَ أنَّ المَسَاجِدَ للّه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً)(1) وكان هو أساس عبادة المشركين، قال سبحانه: (و جَعلوا للّهِ أنداداً لِيُضلُّوا عَنْ سبيله)(2) وقال: (إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبّ العَالمين)(3) وأين هذه الآيات من الموحدين الذين لا يرون مع اللّه شيئاً، بل يرون الكل دونه لكونهم مربوبين؟.

____________________________

1 . سورة الجن: الآية 18 .

2 . سورة إبراهيم: الآية 30 .

3 . سورة الشعراء: الآية 98 .

البدعة في الدين وما هو حدها

البدعة في الدين وما هو حدها

«البدعة» هي إدخال ما ليس من الدين في الدين، ولا شك أنّ البدعة محرّمة بنص الكتاب العزيز، قال سبحانه: (اللّهُ أذِنَ لَكُمْ أم عَلى اللّهِ تَفْتَرُونَ)(1) دلّت الآية على أنّ كل ما ينسب إلى اللّه سبحانه بلا إذن منه فهو أمر محرّم، ومن أدخل في الدين ما ليس منه فقد افترى على اللّه، ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعد من افترى على اللّه أظلم الناس; قال سبحانه: (فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أو كَذَّبَ بآياتِهِ إنّه لا يُفْلِحُ الُْمجْرِمُونَ)(2) .

نرى أنّه لما اقترح المشركون على النبي أن يأتي بقرآن غير هذا أو يبدله إلى الآخر، تحاشى عن ذلك وقال: (قُلْ مَا يَكُونُ لي أنْ أُبَدِّلَهُ مَنْ تَلْقَاءِ نَفْسي إنْ أتَّبِعُ إلاّ مَا يُوحى إِلَىَّ إنّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذابَ يَوم عَظيم (3)

.

فالمبدع في الشريعة، مبدل لها، وسوف يحيق به عذاب أليم .

هل التقاليد والآداب من البدع؟

قد تعرّفت أنّ مقوّم البدعة هو أن يقوم الإنسان بفعل ما، باسم الدين والشريعة، وباعتقاد أنّه جزء منها، وأمّا إذا قام بأمر مباح في حد نفسه، ومن

____________________________

1 . سورة يونس: الآية 59 .

2 . سورة يونس: الآية 17 .

3 . سورة يونس: الآية 15 .

( 92 )

دون أن ينطبق عليه أحد العناوين المحرمة كشرب الخمر واقتراف الميسر، لا بما انّه من الدين، بل بما أنّه من العادات والتقاليد المتعارفة في حياة الشعب، من دون أن يمت إلى الدين بصلة، مثلا إذا احتفل شعب بيوم استقلالهم، وخروجهم عن ذل الاستعباد، أو إذا احتفلوا في أول الربيع بما أنه أول السنة، وترددوا في أندية الأحبّة والإخوان، فلا يكون ذلك بدعة، وذلك لأنّ المحتفلين لا يقومون به بما أنه من الدين، وأنّ الشارع أمر بذلك، وإنّما يقومون به باسم التقاليد والعادات الّتي جرت عليها الآباء والأجداد، أو ابتكرها الجيل الحاضر تشييداً لعزائم الشعب، في طريق حفظ استقلالهم، والخروج عن سيطرة القوى الكبرى عليهم، مع كون العمل غير محرم في ذاته، بل هو اجتماع وإنشاد قصائد، وإلقاء خطب وشرب شاي، ولقاء إخوان، إلى غير ذلك .

لقد مرّت على الشعب الجزائري أعوام عديدة كان يسيطر عليهم فيها الإستعمار الفرنسي، ينهب أموالهم وثرواتهم الطائلة، ويدمر ثقافتهم الإسلامية وهو يتهم الدينية، ثم إنّ اللّه سبحانه منحهم _ في ظل عزائمهم القوية واستعدادهم لبذل النفس والنفيس في سبيل هدفهم المنشود _ الإستقلال والحرية، والرجوع إلى هويتهم الإسلامية، فلو عزم هذا الشعب على أن يقيم في ذلك اليوم في كل سنة احتفالا عظيماً غير مقترن باقتراف المنكرات وارتكاب المعاصي، لا

يلامون ولا يذمّون على فعلهم هذا، بل يمدحهم العقلاء بفطرتهم السليمة، ولا يدور في خلد أحد أنّهم ارتكبوا بدعة في الدين، وذلك لأنّهم لم يقوموا بما قاموا به، باسم الدين والشريعة، وأنّ النبي أمر بذلك، بل قاموا بذلك باسم حفظ المصالح الشعبية وتشييد عزائمهم الّذي هو في حد ذاته حلال بلا ريب: فمن حكم بحرمة هذه التقاليد والآداب و الرسوم، سواء أكانت لها جذور في الأعوام السابقة أم كانت من محدثات العصر، فقد ارتكب الخطأ في تحديد البدعة، ولم يميّزها عن غيرها من المراسم والآداب .

ولو صحّ تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة، فإنما يصحّ في هذا القسم، أي التقاليد والآداب العرفية، فقد يتصف بالحسن وأُخرى بالقبح، وأمّا

( 93 )

البدعة بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين فهو قبيح مطلقاً، لا ينقسم وليس له إلاّ قسم واحد، وهو أنّه قبيح محرّم على الإطلاق .

هذا ابن تيمية باذر هذه البذور الخبيثة والشكوك الساقطة يصرح بأنّ الأصل في العادات هو الحلية، إلاّ ما حظره اللّه، قال: «فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلاّ ما شرعه اللّه، والأصل في العادات لا يحظر منها إلاّ ما حظره اللّه»(1) .

وبذلك يعلم أنّ تضييق الأمر والتقاليد الّتي لم يرد فيها حظر من الشرع، لا يصدر إلاّ من الجاهل، فإنّ الشريعة الإسلامية سمحة سهلة(2) لم تتدخل في عادات الناس وتقاليدهم، بل خوّلتها إلى أنفسهم حتّى يختار كل شعب ما يناسب بيئته و ظروفه وملابساته، وهذا هو الأساس، لكون الإسلام خاتم الشرائع، وكتابه خاتم الكتب، ونبيّه خاتم الأنبياء ولو كان محدداً للتقاليد والآداب، والرسوم والمراسم لوقع التصادم بينه وبين حياة الشعوب وحضاراتها المتكاملة مع مر الحقب والأزمان .

هل الاحتفال بالمواليد من التقاليد أو

من صميم الدين ؟

البحث المهم في المقام هو تعيين حكم هذا المصداق، وأن الاحتفال بميلاد النبي هل هو كالاحتفال بمواليد سائر الأفراد كالآباء والأجداد أو الأولاد الّذي جرى عليه ديدن العقلاء في العالم؟ أو أن الاحتفال به يعد من الأُمور الدينية؟

لا اظن أنّ من لمس روح الاحتفالات والمهرجانات الّتي تقام بين المسلمين يوم الميلاد وغيره أن ينسبها إلى التقاليد والرسوم والآداب القومية، فإذن ذلك شيء لا يلائم روح الاحتفالات وأغراض المقيمين لها، فلا شك أنهم يقومون

____________________________

1 . المجموع من فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 196 .

2 . صحيح البخاري ج 1 كتاب الإيمان باب «الدين يسر» ص 12 روي عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «أحب الدين إلى اللّه الحنيفية السمحة» .

( 94 )

به باسم الدين، ويرجون ثواباً جزيلا في عقباهم، فالإصرار على أنّه من الآداب والرسوم خطأ، لا يتفوه به من شاهدها وعاينها وعاشر المقيمين لها، فيجب على المسوغ والمانع البحث في أمر آخر، وهو أنه هل لهذا الأمر أصل في الشريعة على الوجه الكلي حتّى يكون الإحتفال تجسيداً له في هذه الظروف، أو ليس له اصل في الشريعة حتّى يكون بدعة؟ والأسف كله أن المانعين والمسوغين لم يركزوا على هذا المهم إلاّ القليل منهم(1) فعلى من يحاول حسم مادة الخلاف تبيين تلك النقطة الحساسة، وترك ما يثار حوله من الجدال والحوار .

فنقول:

إنّ كون شيء أمراً جائزاً في الدين على قسمين:

تارة يقع النص عليه بشخصه، كالاحتفال في عيدي الفطر والأضحى، أوالاجتماع في عرفة ومنى، فلا شك أنّ هذا الاجتماع والاحتفال أمر به الشارع بشخصه، فخرج به عن كونه بدعة.

وأُخرى يقع النص عليه على الوجه الكلي، ويترك انتخاب أساليبه وأشكاله

وألوانه إلى الناس حسب الظروف ورعاية المقتضيات، وإليك بعض الأمثلة :

1- ندب الشارع إلى تعليم الأولاد ومكافحة الاُمّية، ولا شك أنّ لهذا الأمر الكلي أشكالا أو ألواناً حسب تبدل الحضارات وتكاملها، فلو كان التعليم والكتابة في الظروف السابقة متحققة بالكتابة بالقصب والحبر، وجلوس المتعلم أمام المعلم على الأرض في الكتاتيب، فقد تطورت كيفية التعليم من هذه الحالة البسيطة إلى حالة تستخدم فيها الأجهزة المتطورة، حيث أصبح الناس يتعلمون عن طريق الإذاعة والتلفاز، و (الكمبيوتر)، والأشرطة، إلى غير ذلك من وسائل التعليم وأجهزة الإعلام، سواء أكان ما يذيعه تعليمياً أم تبليغياً، فالشارع أمر

____________________________

1 . ولقد أعطى العلامة الحجة السيد جعفر مرتضى في كتابه القيم «المواسم والمراسم» للتحقيق في هذا المجال حقه. شكر اللّه مساعيه .

( 95 )

بالتعليم والتعلم، وخوّل اتخاذ الأساليب إلى الظروف والمقتضيات، ولو كان مصراً على لون خاص من كيفية التعليم، لفشل في طريق هدفه المقدس، لأن الظروف ربما لا تناسب الأداة الخاصة والكيفية المختصة الّتي يعينها ويحددها.

2- ندب الإسلام إلى الإحسان إلى اليتامى، والتحنن عليهم وحفظ أموالهم، وتربيتهم، غير أن هذا الأمر الكلي له ألوان وأساليب مختلفة، تجاري مقتضيات، العصر وإمكانياته، فاللازم علينا هو امتثال ما ندب إليه الشارع، وأما كيفية الإحسان فقد خولت إلى أوليائهم حسب إمكانيات الظروف ومقتضياتها، فمن أصر على أن الشارع بين خصوصيات الامتثال ومشخصات إطاعة ذلك الأمر، فقد جهل الإسلام ولم يعرف أساس كونه خاتماً، إذ لا يكون خاتماً إلاّ إذا أخذ باللب (الإحسان إلى الأيتام) وترك القشر واللباس إلى الناس ومقتضيات الظروف .

3- إنّ الصحابة _ حسب رواية أهل السنة _ قاموا بجمع آيات القرآن المتفرقة في مصحف واحد، ولم يصف أحد منهم هذا العمل بدعة، وما

هذا إلاّ لأن عملهم كان تطبيقاً لقوله سبحانه: (إنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(1)، فعملهم في الواقع كان تطبيقاً عملياً لنصوص شرعية من الكتاب والسنة، وعلى ذلك جرى المسلمون في مجال الاهتمام بالقرآن من كتابته وتنقيطه، وإعراب كلمه وجمله، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمر، وأخيراً طباعته ونشره، وتقدير حفاظه وتكريمهم والاحتفال بهم، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي كلها دعم لحفظ القرآن وتثبيته وبقائه، وإن لم يفعله رسول اللّه ولا الصحابة ولا التابعون، إذ يكفي وجود أصل له في الأدلة .

4- الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: (وَأعدّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مَنْ قُوّة)(2)، وأما كيفية الدفاع ونوع السلاح ولزوم الخدمة العكسرية

____________________________

1 . سورة الحجر: الآية 9 .

2 . سورة الأنفال: الآية 60 .

( 96 )

فالكل تطبيق لهذا المبدأ وتجسيد لهذا الأصل، فما ربما يرمي التجنيد العمومي إلى أنّه بدعة، غفلة عن حقيقة الحال، وإنّ الإسلام يتبنىّ الأصل، ويترك الصور والألوان والأشكال إلى مقتضيات الظروف .

هذا هو الأصل الّذي به نميز «البدعة» عن «التطبيق»، و«الابتداع» عن «الاتّباع» وإليك بعض الكلمات من المخالفين للذكريات وغيرهم حول ما هو بدعة وما ليس ببدعة، والكل يؤكد ما قلناه:

قال ابن رجب: قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «وإيّاكم ومحدثات الأُمور فإنّ كل بدعة ضلالة» تحذير للأُمة من اتّباع الأُمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: «كل بدعة ضلالة» والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأمّا ما له أصل فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغةً، وفي صحيح مسلم: «عن جابر رضي اللّه عنه أن النبي كان يقول في خطبته: «إن خير

الحديث كتاب اللّه، وخير الهدى هدى محمد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة...» وقوله: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أُصول الدين، وهو شبيه بقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه(1).

وقال ابن حجر في شرح قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ أحسن الحديث كتاب اللّه» والمحدثات _ بفتح الدال _ جمع محدثة، والمراد ما أُحدث وليس له اصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له اصل يدل عليه الشرع، فليس ببدعة فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإنّ كل شيء أُحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواء أكان محموداً أم مذموماً، وكذا القول في المحدثة(2) .

____________________________

1 . جوامع العلوم والحكم ص 233 .

2 . فتح الباري ج 13 ص 253 .

( 97 )

ومن راجع القرآن والسنة يقف على أصل رصين في الإسلام في حق النبي الأكرم، وهو لزوم تكريم النبي وتعظيمه حياً وميتاً، وهو أصل لا يمكن لمسلم إنكاره، وإذا ثبت ذلك الاصل يقع الكلام في أن هذه الاحتفالات هل هي تجسيد لهذا الأصل أو لا؟ فيلزم البحث في موردين:

الأول: لزوم تكريم النبي حياً وميتاً

من أمعن في القرآن الكريم يقف على أنه يحثّ المسلمين على تكريم النبي وتعظيمه، وأنه لا يصحّ للمسلمين أن يعاملوه معاملة الإنسان الاعتيادي، وإليك ما يمكن استنباط هذا الأصل منه .

1- قال سبحانه: (الّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النُّورَ الّذي أُنْزِلَ مَعَهُ

أُلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)(1) .

إن الكلمات الواردة في هذه الآية هي: 1- «آمنوا به» 2- «عزروه» 3- «نصروه» 4- «اتبعوا النور الّذي أُنزل معه» .

فالآية تدعو إلى الإيمان بالنبي وتعزيره ونصرته واتّباع النور الّذي أُنزل معه، والمراد من التعزير، ليس مطلق النصرة، لأنه ذكره بقوله «نصروه» ولا حاجة لتكراره; ولا مطلق منع الأعداء عنه، بل المراد هو توقيره وتعظيمه(2)، أو نصرته مع التعظيم (3) .

وعلى كل تقدير فالمفهوم من الآية هو تعزير النبي واحترامه، ومن المعلوم أنّ احترامه ليس إلاّ لأجل كونه سراجاً منيراً للأُمة وهادياً إلى الشريعة ودينه سبحانه .

2- أشار سبحانه إلى مكانته المرقومه ولزوم توقيره وتكريمه بقوله: (يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبَي وَ لاَ تَجْهَرُوا لَهُ بَالْقَولِ

____________________________

1 . سورة الأعراف: الآية 157 .

2 . تفسير الجلالين ص 225 مجمع البيان ج 2 ص 488 .

3 . الميزان ج 8 ص 296، مجمع البحرين مادة «عزر» .

( 98 )

كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم وَ أنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(1)، فجعل رفع الصوت فوق صوته والجهر له كجهر بعضكم بعضاً، سبباً لحبط الأعمال فما أعظم شأنه وأجلّ قدره .

3- وقال سبحانه: (لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً)(2) .

4- وأشار إلى حرمة التسرّع في إبداء الرأي بقوله: (يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَميِعٌ عَلِيمٌ)(3) .

5- إنّه سبحانه قرن طاعة النبي بطاعته وقال: (أطِيعُوا اللّهَ وَ أطِيعُوا الرّسُولَ)(4)، وجعل طاعته طاعة نفسه وقال: (مَنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللّه)(5)، وجعل اتّباع الرسول آية لحب اللّه سبحانه، وقال: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللّه)(6)، وندّد بمن قدّم حبّ الآباء والأبناء والإخوان

والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن على حب الرسول، وقال: (قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُم وَ إخْوانُكُم وَ أَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبّ إلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ أبناؤكُم وَجِهَاد فِي سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ)(7).

وروى أنس أنَّ رسول اللّه قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، وروى أنّ رسول اللّه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن الإيمان، أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما...»(8) .

____________________________

1 . سورة الحجرات: الآية 2 .

2 . سورة النور: الآية 63 .

3 . سورة الحجرات: الآية 1 .

4 . سورة النساء: الآية 59 .

5 . سورة النساء: الآية 80 .

6 . سورة آل عمران: الآية 31 .

7 . سورة التوبة: الآية 24 .

8 . مسند أحمد، مما أسند أنس بن مالك ج 3 ص 103 و 174 و 230، انظر صحيح البخاري ج 1 ص 8 «باب حب الرسول من الإيمان» والروايات حول حب النبي وعترته كثيرة، لاحظ جامع الأصول، وكنز العمال.

( 99 )

6- إنّه سبحانه أمر بالصلاة والتسليم على النبي وقال: (إنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلَى النبِىّ يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(1) .

وروي أنّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «البخيل من ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ علىّ» وقال: «من صلّى علىّ واحدة صلّى اللّه عليه بها عشراً»(2) .

والصلاة عليه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أحد أركان الصلاة، من تركها عامداً بطلت صلاته، والدعاء له بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود عقيب الأذان أمر محمود، وفيه فضل كبير .

7- أشار إلى كيفية معاشرة المؤمنين معه ومع أزواجه بعد وفاته، فقال:

(يَا أيُّهَا الّذِينَ

آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِىَّ إلاّ أن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَام غَيْرَ نَاظِرينَ إناهُ، ولَكِن إذَا دُعِيتُم فَادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا، وَ لاَ مُستَأنِسِينَ لِحَديث إِنَّ ذَلِكُم كَانَ يُؤذِي النَّبِىّ فَيَسْتَحِي مِنكُم وَاللّهُ لا وَلاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنّ مَتاعاً فَاسْألُوهُنّ مِنْ وَراءِ حِجَاب ذَلِكُم أطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُم أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه وَلاَ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً إنّ ذَلِكُم كَانَ عِنْدَ اللّه عَظيماً)(3) .

ومن وقف على خصائص النبي الّتي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية، يقف على مكانته عند اللّه، وعظمته عند المسلمين، ولزوم توقيره وتكبيره وتعظيمه.

هذه الآيات والأحاديث تفيد بأنه سبحانه فرض محبة النبي ومودته على

____________________________

1 . سورة الأحزاب: الآية 56 .

2 . مسند أحمد، مما أسند إلى علي بن الحسين ج 1 ص 201، والدر المنثور ج 5 ص 217 في تفسير قوله: «إن اللّه وملائكته»، ورواه الترمذي في ج 5، في كتاب الدعوات .

3 . سورة الأحزاب: الآية 53 .

( 100 )

المؤمنين، وأنّ المؤمن لا يتم له إيمان حتّى يكون _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أحب إليه من نفسه وماله وأهله، ومن شك في ذلك فهو شاك في البديهيات الدينية.

وهنا يقع الكلام في المقام الثاني، وهو ما يتحقق به التكريم، وما يمكن الاستقلال به على أنه صادق في حبّ النبي، وإليك البحث فيه.

الثاني: الاحتفال تجسيد لتكريم النبي

أذا دلّت الآيات والأحاديث على لزوم تكريم النبي وتعظيمه أولا، وحبه ومودته ثانياً، فعندئذ يقع الكلام: فيما يتحقق به ذلك الأصل، وتتجسم به هذه الفريضة .

لا شك أنّ لتكريم الإنسان وتعظيمه طرقاً مختلفة مألوفة للناس، ولكن صاحب الشخصية العالمية إذا أراد الشعب المسلم تكريمه وتعظيمه، فالاحتفال بولادته وإقامة العزاء يوم

رحلته، تكريم وتعظيم له، وتجسيد لذلك الأصل الّذي نطق به الكتاب والسنة، وليس ذلك أمراً خفياً على الناس فإنّ العقلاء بفطرتهم يحتفلون بذكرى شخصياتهم ولادة ووفاة، تكريماً واحتراماً لهم، والفرق بين تكريم النبي وتكريم تلك الشخصيات أنّ تكريمهم من قبيل التقاليد والآداب الشعبية، فلو لم يرد حظر منه كفى في جواز ذلك عدم الحظر .

وأمّا تكريم النبي الأكرم فله أصل في الشريعة الغرّاء، وله تجليات في الظروف المختلفة، فلو احتفل المؤمنون في كل دورة وكورة بميلاد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من دون اقتراف المعاصي والمنكرات، وأقاموا احتفالا حاشداً يبهر العيون ويحير العقول، فقام الخطباء فيه بإلقاء الكلم حول فضائله ومناقبه، وما نزل في حقه من الآيات والآثار، وما ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية أُمته، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الّتي تُستلهم من الكتاب والسنة خالية عن الغلو والإفراط، ثم قاموا بإطعام الإخوان و المحبين لرسول اللّه من مال اللّه الّذي جعل الناس فيه مستخلِفين،... فلا شك أنهم جسدوا ذلك الأصل الرصين (تكريم النبي وتعظيمه) بعملهم المشرق، كما أظهروا بذلك محبتهم وولاءهم لصاحب الرسالة.

( 101 )

وعند ذلك كيف يمكن أن توصف تلكم الاحتفالات الباهرة بالبدعة؟ أوليست البدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين؟ وهل المسلمون أدخلوا في الدين ما ليس منه؟ أوليس تكريمه وتوقيره هو الأصل الرصين؟ أوَليس الإحتفال الباهر تحقيقاً عملياً لذلك المبدأ عند جميع العقلاء، فأين البدعة ياترى؟ أوَليس القرآن والسنة ندبا المسلمين إلى حب النبي، وهل الحب يجب أن يبقى كامناً في مكامن النفس، ولو تظاهر به الإنسان كان عاصياً، أو أن المحبة والمودة لها مظاهر ومجال، وإظهار الفرح يوم ولادته والحزن يوم رحلته دليل على الحب

الأصيل والمودة المكنونة في القلب .

ولسنا ننكر أن لإظهار المودة وتوقيره طرقاً أُخرى، منها التمسك بسة قولا وعملا وتعلماً وتعليماً وإيثاراً، أو التأسّي بأخلاقه وآدابه، ونشر سنته وأحاديثه، إلى غير ذلك مما يمكن أن يكون مظاهر للحب، _ ولكن أيها الأخ العزيز _ لا ينحصر إظهار الحب والتكريم في هذه الأُمور، فإنّها من الوظائف الدينية الّتي يجب على المسلم القيام بها في كل يوم وليلة، وهي في الوقت نفسه مظاهر لتوقير النبي وتكريمه وإظهار المودة والحب له، ولكن الاحتفال بمولده وإقامة العزاء في يوم رحلته أيضاً مظهر آخر للتوقير والتكريم وإظهار المودة، فلماذا نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟ .

فكيف تقام الاحتفالات في نفس المملكة السعودية لأبناء عائلتها وتغفل عن النبي الأكرم وأهل بيته، وإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى العدد (102) من مجلة «الفيصل» الّتي تصدر في طباعة أنيقة جداً في السعودية، فهو يحتوي على تقرير مبسوط عن الاحتفال الكبير الّذي أقامته السلطات السعودية بمناسبة عودة «الأمير سلطان» من الرحلة الفضائية في مركبة «ديسكفري»، ويحتوي هذا العدد على صور كثيرة تحكي عن حجم المبالغ الطائلة الّتي صرفت في ذلك الاحتفال، وقد نشرت الكلمات والقصائد الّتي أُلقيت فيه، وقرىء فيها المدح المفرط والثناء المسرف على آل سعود عامة والأمير العائد من الرحلة الفضائية خاصة...

ألا يستحق رسول الإسلام أن تخلُّد ذكرى مولده الشريف، وتنشر مناقبه

( 102 )

وفضائله وإنجازاته العظيمة، وعطاؤه الزاخر، وخدماته الجليلة، وجهاده وجهوده وغير ذلك، حتّى يعرف الصديق والعدو ما أسداه هذا النبي العظيم من خدمة، وما قدمه من عطاء، وما تحمّل من عناء وعذاب في سبيل هداية البشر، وهل التكريم إلاّ الاحتفال به، ونشر قِيَمهِ الفاضلة، والحث على الاقتداء به والأخذ بهديه، والمحافظة

على آثاره؟ ما هذا التناقض بين القول والعمل؟ تقيمون الاحتفال لأمير البلد، وتحرّمون الاحتفال للنبي الأكرم؟ .

فلو أُقيم احتفال في أيّ بلد من بلاد اللّه تبارك وتعالى، سواء أكان في ميلاد النبي أم غيره، وقرأ المقرىء الآيات النازلة في حقه، أو تليت قصيدة حسان بن ثابت الّذي قال رسول اللّه بأنّ لسانه على المشركين أشد وقعاً من السيوف على رقابهم، كقوله في قصيدة رثى بها النبي بعد رحلته، يقول فيها:

بطيبة رسمٌ للرسول ومعهد * منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

يدل على الرّحمن من يقتدي به * وينقذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهداً * معلِّم صدق إن يطيعوه يسعدوا(1)

أو ألقي فيها شعر كعب بن زهير الّذي يمدح به النبي ويقول:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متّيم إثرها لم يُفْد مكبول

نُبّئتُ أنّ رسول اللّه أوعدني * والعفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الّذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ و تفصيل * إن الرسول لَنورٌ يستضاءيه مهنّدٌ من سيوف اللّه مسلول(2)

أو ما أنشأه عبداللّه بن رواحه ويقول فيه:

خلّوا بني الكفار عن سبيله * خلّوا فكل الخير في رسوله

يارب إنّي مؤمن بِقيلِه * أعرف حق اللّه في قبوله(3)

أو قرأ فيها قصيدة البوصيري الّتي أنشأها عن إيمان وإخلاص بالرسول لغاية التكريم والاحترام مستهلها:

أمِْن تذكُّر جيران بذي سَلَم * مَزجْتَ دمعاً جرى من مقلة بدم

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 666، والقصيدة .

2 . السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 513 .

3 . السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 371 .

( 103 )

أم هبت الريح من تلقاء كاظمةً * وأومض البرق في الظلماء من أضم(1)

فهل يتصور أن يعد ذلك أمراً محرماً وبدعة؟ وكأنّ

الرسول يجب أن يكون خامل الذكر. ولو هتف به هاتف بالتكريم يكون آثماً، يجب أن يجلد أو يقتل لأجل البدعة أو الشرك: سبحانك يا رب ما أعظم جرأتهم على الحط من كرامة الرسول وعظمته!!

نرى أنه سبحانه خَلَّدَ ذكره ورفع مقامه بمنْحِهِ النبوة وقال: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ)(2) فلنفترض أن الآية: «رفعنا لك ذكرك» تشير إلى منح منصب النبوة، ومقام الرسالة له، ولكن يستفاد من الآية أن رفع النبي أمر مطلوب للّه سبحانه، وأن تتويجه بالنبوة سبب لذلك الرفع المحمود، فالاحتفال بمولده ليس إلاّ تجسيداً لذلك الرفع المطلوب، وليس لقائل أن يقول: إنّ المطلوب هو رفعه بمنح النبوة له فقط، فلا يسوغ ترفيعه وتخليد ذكراه في المجتمع عن طريق آخر، فإنّ ذلك يأباه الذوق السليم .

هذا هو معنى البدعة، وهذا تحديدها، فاتخذه مقياساً تميز به المبتدع عن المتشرع، والبدعة عن السنة، وبذلك تقف على أن أكثر ما يصفونه بالبدعة له أصل في القرآن والسنة، ولأجل أن يكون البحث مترامي الأطراف نردفه بالبحث عن التبرك، حتّى يكون الوقوف على حقيقته معيناً على حل عقدهم ومشاكلهم، وسيوافيك البحث مستقلا عن الاحتفال بالمواليد .

____________________________

1 . جواهر الأدب، أحمد الهاشمي، ص 467 والقصيدة لشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري صاحب «البردة» و «الهمزية» ولهذه القصيدة شروح.

2 . سورة الإنشراح: الآية 4 .

( 104 )

( 105 )

التبرك بآثار النبي الأكرم والصالحين

التبرك بآثار النبي الأكرم والصالحين

جرت سيرة الموحدين على التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، وجرت سيرة المسلمين على التبرّك بآثار النبي الأكرم، والتبرك بالآثار إمّا تطبيقاً لمبدأ الحب والمودة لرسول اللّه، وإمّا طلباً لأثر معنوي وضعه اللّه سبحانه في الشيء المتبرّك به، كما في التبرك بماء زمزم، وماء ميزاب الكعبة وكسوتها، وماء الفرات وسؤر المؤمن، إلى

غير ذلك مما وردت الأحاديث في التبرك به. فسواء أكان تجسيداً للمحبة والمودة كتقبيل الأضرحة والمنبر والأبواب، أم كان لطلب الآثار الخاصة الّتي وردت النصوص فيها، فلا يمت ذلك إلى الشرك في العبادة بصلة، وقد عرفت أن العنصر المقوّم لتحقق مبدأ الشرك هو الاعتقاد ب_ «الألوهية» والربوبية، أو كون المدعو مبدأً لأفعال إلهية، وأمّا إظهار المودة والمحبة لآثار المحبوب على حد قول الشاعر :

أمرّ على الديار ديار ليلى * أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا

أو طلب الشفاء من الأسباب الّتي ورد الحديث بأن فيها الشفاء، فليس عبادة; فإنّ الشافي هو اللّه سبحانه، وماء زمزم وماء ميزاب الكعبة أسباب له، فهذه الأسباب المعنوية كالأدوية الكيمياوية الّتي عمّت العالم، يأوي إليها كل مريض من موحد ومشرك، غير أنّ الموحّد يستعملها بما أنها السبب، والشافي هو اللّه سبحانه، وهو الّذي أعطى السببية لها، ولو أراد لسلبها عنها .

( 106 )

فالمهم في المقام دراسة ما ورد في الشرع حول التبرك بآثار الأنبياء والأولياء، وتبيين موضع الصحابة من آثار الرسول الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وقبل أن نسرد بعض ما وقفنا عليه، نشير إلى كتابين كريمين في ذلك المجال:

1- «تبرك الصحابة» للشيخ محمد طاهر مكي، من علماء الحرم الشريف، طبع مكة المكرمة .

2- «التبرك» تأليف الأستاذ الفذ الشيخ علي الأحمدي، وقد استقصى فيه جل ما ورد في التبرك، ولا اظن أن من قرأ هذين الكتابين يبقى له الشك في جوازه، إن كان ممن يستمع القول فيتّبع أحسنه، وإلاّ يزيده إلاّ خساراً.

التبرّك في القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم يذكر أنّ يوسف أمر البشير أن يذهب بقميصه إلى ابيه، وقال:

القوا بقميصي هذا على وجهه فيعود بصيراً، واللّه سبحانه يحكي عن يوسف هكذا: (اذهَبُوا بِقَميصي هَذَا فَألْقُوهُ عَلَى وَجهِ أبي يَأتِ بَصيراً وَ أُتوني بِأهْلِكُم أجْمَعين)(1) (فَلَمّا جَاءَ البَشيرُ ألْقاهُ عَلَى وَجهِهِ فارتَدّ بَصيراً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2) فالآيات صريحة في أن يعقوب تبرّك بقميص ابنه يوسف، ولا شك أن قميص يوسف كان من القطن، والقطن كالحديد الّذي يصنع منه الأضرحة والأبواب، والقطن والحديد لا يؤثران في رفع المرض وكشف الكربة، ولكنّه سبحانه تكريماً للنبي يمنّ على المريض بالشفاء بعد التبرك به، وكأنّ هناك صلة معنوية غير مرئية ولا ملموسة ولا مدركة في المختبرات بين التبرك بالقميص وآثار الأنبياء ونزول الشفاء من اللّه سبحانه، كما نرى تلك الرابطة بين استعمال الدواء وحصول البرء بعده، ومن المعلوم أنّه سبحانه هو مسبب الأسباب، وجاعل السببية للسبب.

____________________________

1 . سورة يوسف: الآية 93 .

2 . سورة يوسف: الآية 96 .

( 107 )

إنّ هيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حول الضريح النبوي الشريف والمسجد الحرام يرفعون عقيرتهم بأنّ هذا (الضريح) حديد، والحديد لا يفيد، فليستمعوا إلى قول اللّه سبحانه: (اذهبوا بقميصي هذا)، فعلى ضوء كلامهم قميص يوسف من القطن، والقطن كالحديد، ولكنّه سبحانه منح الشفاء لعين نبيه غِبّ تبركه بقميص ولده لصموده في سبيل اللّه .

وأمّا الأحاديث والآثار الواردة حول التبرك فحدّث عنها ولا حرج، فإنها تتجاوز المائة، ومن أراد فليرجع إلى الكتابين الجليلين اللذين نوهنا بهما، وقبل أن نورد بعض الآثار، نذكر بعض الكلمات في هذا المجال من كبار العلماء :

قال ابن حجر: «كل مولود في حياة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يُحكم بأنّه رآه، وذلك لتوفّر دواعي إحضار

الأنصار أولادهم عند النبي للتحنيك والتبرك، حتّى قيل: لمّا افتتحت مكة، جعل أهل مكة يأتون إلى النبي بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة»(1) .

يقول مؤلف تبرك الصحابة: «لا شك أنّ آثار رسول اللّه _ صفوة خلق اللّه وأفضل النبيين _ أثبت وجوداً وأشهر ذكراً، فهي أولى بذلك التبرك وأحرى، وقد شهده الجم الغفير من الصحابة، وأجمعوا على التبرك بها والاهتمام بجمعها، وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون، فتبركوا بشعراته وفضل وضوئه وبعرقه وثيابه، وبمس جسده الشريف، وغير ذلك مما عرف من آثاره الشريفة الّتي صحت بها الأخبار عن الأخيار» (2) .

ولنقدم بعض ما ذكره الشيخان (البخاري ومسلم) لكون صحيحيهما من أتقن الكتب عند أهل السنة وأصحها:

1- هذا الشيخ البخاري يروي أنّ الصحابة كانوا يتبركون بفضل وضوئه، قال:

____________________________

1 . الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 5 .

2 . تبرك الصحابة ص 5 .

( 108 )

«لما خرج علينا رسول اللّه بالهاجرة، فأتى بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه ويتمسحون به»(1).

2- إنّ الصحابة كانوا يتبركون بشعره، فروى أنس أنّ رسول اللّه لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ شعره(2) .

3- إنّ الصحابة كانوا يتبركون بالإناء الّذي شرب منه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، قال أبو بردة: قال لي عبداللّه بن سلام: ألا اسقيك في قدح شرب النبي فيه؟(3) .

ويفهم من الرواية أنّ عبداللّه بن سلام كان يحتفظ بذلك القدح للتبرك، لشرب رسول اللّه منه.

4- كان الصحابة يتبركون بيديه الشريفتين، فعن أبي حجيفة: خرج رسول اللّه بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين _ إلى أن قال _ : وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، قال:

فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك(4) .

لا أظن أنّ الوهابي يجترىء على ردّ أحاديث البخاري، لأنّه أصحّ الكتب وأتقنها، خصوصاً أنّ هذه الروايات جاءت فيها متواترة، وهم القائلون:

وما من صحيح كالبخاري جامعاً * ولا مسند يلفى كمسند أحمد

هذا بعض ما رواه البخاري، وهلم معي ندرس ما ذكره مسلم في صحيحه:

ذكر مسلم أنّ الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم إلى النبي للتبرك والتحنيك، قال: إنّ رسول اللّه كان يؤتى إليه بالصبيان، فيبارك عليهم ويحنكهم(5) .

____________________________

1 . صحيح البخاري ج 1 ص 59، فتح الباري ج 1 ص 256 .

2 . صحيح البخاري ج 1 ص 54 .

3 . صحيح البخاري ج 1 ص 147، فتح الباري ج 10 ص 85 .

4 . صحيح البخاري ج 4 ص 188 .

5 . صحيح مسلم ص 1691 .

( 109 )

كما روي في حق شعره: «أنّ رسول اللّه أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم اتى منزله بمنى، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس(1) .

هذا بعض ما رواه الشيخان، وأمّا ما رواه غيرهم فحدّث عنه ولا حرج، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً سماه: «باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك، مما لم يذكر قسمته، ومن شعره ونعله وآنيته، مما يتبرك به أصحابه وغيرهم بعد وفاته»(2) .

إنّ فاطمة _ عليها السَّلام _ الّتي لا شك أنها من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً حضرت قبر أبيها، وأخذت قبضة من تراب القبر تشمه وتبكي وتقول:

ماذا على من شمّ تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان

غواليا

صُبّت علىّ مصائبٌ لو أنها * صُبّت على الأيام صرن لياليا

وفي لفظ: فجعلتها على عينيها ووجهها(3) .

نعم، كانت بنو أُمية وأذنابهم يمنعون الناس عن التبرك بقبر رسول اللّه وآثاره، فمن منع التبرك فإنما هو على خطهم.

روى الحاكم في المستدرك: «أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته، ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: إنّي لم آت الحجر، وإنما جئت رسول اللّه، سمعت رسول اللّه يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذ وليه غير أهله(4) .

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 3 ص 947 .

2 . صحيح البخاري ج 4 ص 82 .

3 . وفاء الوفاء: ج 2 ص 444، صلح الإخوان، ص 57 وغيرهما من المصادر .

4 . مستدرك الصحيحين للحاكم ج 5 ص 515، ومجمع الزوائد ج 4 ص 2، باب وضع الوجه على قبر سيدنا رسول اللّه .

( 110 )

قال العلامة الأميني :

«إنّ هذا الحديث يعطينا خبراً بأنّ المنع عن التوسل بالقبور الطاهرة إنما هو من بدع الأمويين وضلالاتهم، منذ عهد الصحابة، ولم تسمع أُذن الدنيا قط صحابياً ينكر ذلك، غير وليد بيت أُمية، مروان الغاشم .

نعم... «الثور يحمي انفه بروقه»(1) .

نعم... لبني اُمية عامة، ولمروان خاصة ضغينة على رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ منذ يوم لم يُبقِ _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في الأسرة الأموية حرمة إلاّ هتكها، ولا ناموساً إلاّ مزقه، ولا ركناً إلاّ أباده، وذلك بوقيعته _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فيهم، وهو لا «ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، علّمه شديد القوى» فقد

صحّ عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قوله: «إذا بلغت بنو أُمية أربعين، اتّخذوا عباد اللّه خولا، ومال اللّه نحلا وكتاب اللّه دغلا»(2) .

نعم تبع مروان بن الحكم _ الوزغ ابن الوزغ _ ابن طريد رسول اللّه من بعده الحجاج بن يوسف، هذا هو المبرّد ينقل في كامله، قال: ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف والناس يطوفون بقبر رسول اللّه منبره. لقوله: «إنما يطوفون بأعواد ورمّة»(3) ومراد الحجاج من الأعواد: المنبر، ومن الرّمة: عظام رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فيستسخر من المسلمين ويهينهم بكلامه، وهذا يعرب عن أنّ المسلمين كانوا يطوفون حول قبر رسول اللّه .

قال ابن أبي الحديد: خطب الحجاج بكوفة، فذكر الذين يزورون قبر

____________________________

1 . الروق: القرن، وهو مثل يضرب لمن يدافع عن شخصيته وعرضه .

2 . الغدير: ج 5 ص 149 .

3 . التبرك ص 161 .

( 111 )

رسول اللّه بالمدينة، فقال: تبّاً لهم، إنهم يطوفون بأعودا ورمّة بالية. هلا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟(1) .

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التبرك، ومن أراد التفصيل والتبسط فليرجع إلى كتاب «التبرك» فقد بلغ الغاية في ذلك المجال .

* * * * *

هذا وقع عقد العلامة الأميني فصلا أسماه «التبرك بالقبر الشريف بالتزام وتمريغ وتقبيل» وذكر هناك نصوصاً كثيرآ تحكي عن جريان السيرة على التبرك بالقبر الشريف، فمن أراد فليرجع إلى الجزء الخامس: ص 146 _ 164 .

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة ج 15 ص 242 .

عقائد ابن تيمية

عقائد ابن تيمية

عقائد ابن تيمية

عقائده و آراؤه

إنّ الآراء والمعتقدات، مقياس شخصية الإنسان، ومستوى عقليته وثقافته، كما أنّ ما يمت منها الى الإسلام بصلة، مقياس

عرفانه بالكتاب والسنة، وسلامة ذوقه وصفاء ذهنه، وقد حان تقييم شخصية ابن تيمية عن طريق عرض آرائه على المصادر الإسلامية، ليعلم مدى صحتها وانطباقها على المصدرين وحدّ سلامة ذوقه وصفاء ذهنه في مقام الاستضاءة بهما، وإليك البيان :

( 114 )

ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية(1)

ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية(1)

إنّ المحنة الأُولى لابن تيمية بدأت ممّا نشره باسم «العقيدة الحموية» حيث أجاب فيها عن سؤال أهل «حماه» في آيات الصفات، مثل قوله: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ استوى) وقوله: (ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ)، وأحاديث الصفات، كقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من اصابع الرحمن»، وقوله: «يضع الجبار قدمه في النار» بما هذا نصه:

«فهذا كتاب اللّه من أوله إلى آخره، وسنة رسوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الائمة مملوء بما هو إمّا نص وإمّا ظاهر في أنّ اللّه سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وعلى كل شيء، وأنّه فوق السماء، مثل قوله: (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ، وَ العَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ)، (إنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلىَّ)، (أمِنْتُم مَنْ فِي السّماءِ أنْ يَخسِفَ بِكُمُ الأرْضَ...)، (أمِنْتُم مَنْ في السّماءِ أنْ يُرسِلَ عَلَيْكُم حَاصباً...)، (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إليْهِ...)(إلَيْهِ تَعْرُجُ...وَالرُّوحُ...)(يَخَافُونَ رَبَّهم مِنْ فَوْقِهِم...)(ثُمَّ استَوى عَلى العَرْشِ)(في ستة مواضع). (الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ استَوى)، (يا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحاً لَعَلّي أبْلُغُ الأسبابَ، أسْبَابَ السَّمواتِ، فأطَّلِعَ إلى إله

____________________________

1 . الصفات الخبرية، هي الصفات الّتي أخبر عنها القرآن والسنة، مقابل ما يدل عليه العقل كالعلم والقدرة .

( 115 )

موسى وَ إنِّي لاَظُنّهُ كاذِباً...)، (تَنزيلٌ مِنْ حكيم حميد)، (مُنَزّلٌ مِنْ رَبِّك) إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلاّ

بكلفة .

وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى، مثل قصة معراج الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ إلى ربّه، ونزول الملائكة من عنداللّه وصعودهم إليه، وقوله في الملائكة: «الذين يتعاقبون بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم»، وفي الصحيح في حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء» وفي حديث الرقية الّذي رواه أبو داود وغيره: «ربنا اللّه الّذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض. اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين»، وقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ من إخوانه فليقل: «ربنا اللّه الّذي في السماء ذكره»، وقوله في حديث الأعمال: «والعرش فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» وقوله في حديث قبض الروح: «حتّى يعرج به إلى السماء الّتي فيها اللّه» .

وقول عبداللّه بن رواحة الّذي أنشده للنبي وأقره عليه:

شهدت بأنّ وعد اللّه حقٌ * وأنّ النار مثوى الكافرينا

وأنّ العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش ربّ العالمينا

وقول أُمية بن أبي الصلت الّذي أنشده للنبي، فاستحسنه، وقال: آمن شعره وكفر قلبه .

مجّدوا اللّه فهو للمجد أهل * ربّنا في السماء أمسى كبيراً

بالبناء الأعلى الّذي سبق النا * س وسوىّ فوق السماء سريرا

شرجعاً(1) ما يناله بصر ال_ * _عين ترى دونه الملائك صوراً(2)

إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ اللّه، مما هو من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية الّتي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، إنّ الرسول المبلغ

____________________________

1 . الشرجع: الطويل .

2 . الصور، جمع أصور: المائل العنق.

( 116 )

عن

اللّه ألقى إلى أُمته المدعوين: أنّ اللّه سبحانه على العرش استوى وأنّه فوق السماء، كما فطر اللّه على ذلك جميع الأُمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلاّ من اجتالته الشياطين عن فطرته .

ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو أُلوفاً، ثم ليس في كتاب اللّه ولا في سنة رسول اللّه، ولا عن أحد من سلف الأُمة ولا من الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط إنّ اللّه ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه ليس في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر أن النبي لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول اللّه، جعل يقول: ألا هل بلّغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم فيقول: اللّهمّ اشهد، غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة(1) .

وقد كرر ابن تيمية ما اختاره في باب الصفات الخبرية في غير واحد من آثاره، فقال في العقيدة الواسطية: «وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح الّتي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها، كذلك مثل قوله: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» وقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «يضحك اللّه إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر، كلاهما يدخل الجنة» .

وقوله: «لا

تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتّى يضع رب العزة فيها قدمه» وقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في رقية المريض: «ربنا اللّه الّذي في السماء _ تقدس اسمك _ أمرك في السماء والأرض...» .

____________________________

1 . العقيدة الحموية الكبرى _ الرسالة الحادية عشرة _ من مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية ص 429 _ 432 .

( 117 )

وقوله: «والعرش فوق ذلك، واللّه فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» وقوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ للجارية: «أين اللّه؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول اللّه. قال: أعتقها فأنها مؤمنة» وقوله: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبَلَ وجهه، فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، وقوله: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» .

وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان باللّه، الإيمان بما أخبر اللّه به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأُمة من أنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علىٌّ على خلقه، وهو معهم سبحانه أينما كانوا»(1) .

وقال: «وقد سألوه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم: نعم، وسأله أبو رزين: أيضحك ربنا؟ فقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : نعم، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. ثم إنهم لما سألوه عن الرؤية، قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فشبه الرؤية بالرؤية(2) .

وقال رداً على نُفاة الصفات(3): إمّا أن يكون اللّه يحب منّا أن نعتقد قول النفاة، أو نعتقد قول أهل الإثبات، أو نعتقد واحداً منهما; فإن كان

مطلوبه منّا اعتقاد قول النفاة، وهو أنّه لا داخل العالم ولا خارجه، وأنّه ليس فوق السماوات ربُّ ولا على العرش إله، وأنّ محمداً لم يعرج به إلى اللّه، وإنما عرج به إلى السماوات فقط، لا إلى اللّه، فإنّ الملائكة لا تعرج إلى اللّه بل إلى ملكوته، وإنّ اللّه لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، وأمثال ذلك. وإن كانوا يعبّرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام، كقولهم: ليس بمتحيز، ولا جسم، ولا جوهر، ولا هو في جهة، ولا مكان، وأمثال هذه

____________________________

1 . العقيدة الواسطية، الرسالة التاسعة، من مجموع الرسائل الكبرى، ص 398 _ 400 بتلخيص .

2 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203، طبع لجنة التراث العربي .

3 . المراد: الصفات الخبرية كاليد والوجه .

( 118 )

العبارات الّتي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص، ومقصدهم أنّه ليس فوق السماوات ربّ ولا على العرش إله يعبد، ولا عُرج بالرسول إلى اللّه، ولو كان هذا هو المطلوب كان من المعلوم أنه لا بد أن يبينه الرسول، وقد علم بالاضطرار أنّ الرسول وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة(1) .

وقال: «إنّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنّه قال: اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان، ولأنّ علماءهم حكموا إجماع السنة والجماعة على أنّ اللّه بذاته فوق عرشه»(2) .

وقال _ نقلا عن ابن أبي حنيفة _ «أنّه سئل عمن يقول: لا أعرف ربّي في السماء أو في الأرض؟ قال: كفر، لأنّ اللّه يقول: (الرَّحمن على العرش استوى) وعرشه فوق سبع سماواته، فقال السائل: إنّه يقول على العرش، ولكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض؟ فقال: إنّه إذا أنكر أنّه في السماء كفر،

لأنّه تعالى في أعلى عليين، وإنّه ليدعى من أعلى لا من أسفل(3) .

ونقل عن عبداللّه بن المبارك أنّه سئل: بماذا تعرف ربنا؟ قال: بأنّه فوق سماواته على عرشه، بائن عن خلقه قلت بحد لا يعلمه غيره. ثم نقل عن كثير من أئمة الحديث كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد، وإسحاق، عن كون اللّه سبحانه فوق العرش بذاته، وأنّ علمه بكل مكان(4).

إلى غير ذلك مما نقله وأرسله على نسق واحد، والكل يهدف إلى أن الصفات الخبرية يجب أن تجري على اللّه سبحانه بحرفيتها وظهورها التصوري، من دون تفصيل وتأويل، بإرجاعها إلى المعاني المجازية أو الكنائية .

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203 .

2 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203 .

3 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 207 .

4 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 208 _ 209 .

( 119 )

الآراء المتضاربة حول الصفات الخبرية

إنّ للمتكلمين وأهل الحديث في تفسير الصفات الخبرية مذاهب نشير إليها:

1- جريها على اللّه سبحانه كجريها على المخلوقين، وهذا ما يعبّر عنه بالتكييف، وعليه المجسمة وأصحاب الجهة والتشبيه _ خذلهم اللّه سبحانه _ وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً، أو جسمانياً جالساً على كرسي جسماني، ناظراً من عرشه إلى تحته كنظر الملك الجبار إلى عبيده وغلمانه .

2- جريها على اللّه سبحانه بنفس المفاهيم اللغوية والمعاني الابتدائية، والمدلولات التصوّرية، بلا تصرف وتعليل وتدخّل فيها، واللّه سبحانه يتّصف بها لكن بلا تكليف، والفرق بين هذا القول و القول الأوّل هوأنّ القول الأوّل يثبت المعاني مع الكيفية، وهذا القول يثبتها بنفس المعاني لكن بلا تكييف، وهذا هو الّذي اختاره ابن

تيمية، ويذكر ذلك في رسائله ويقول: «والقول الفاصل هو ما عليه الأُمة الوسط من أنّ اللّه مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به، فكما أنّه موصوف بأنّه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنّه سميع بصير، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض الّتي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق، ولوازمها»(1).

ويقول ايضاً: «ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات اللّه بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فيعطّلون أسماءه الحسنى يحرّفون الكلم عن مواضعه. أمّا المعطّلون، فإنهم لم يفهموا من أسماء اللّه وصفاته إلاّ ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولا وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة باللّه سبحانه»(2) .

____________________________

1 . العقيدة الحموية ص 428 _ 440 .

2 . المصدر نفسه .

( 120 )

3- جريها على اللّه سبحانه بمفاهيمها التصديقية، بعد الإمعان في القرائن الموجودة في نفس الآيات والروايات الصحيحة وأمّا غيرهما، فأكثر ما ورد في ذلك من وضع الأحبار والرهبان الذين دسّوا هذه الأحاديث بين المسلمين بخداع خاص .

وعلى ضوء ذلك فالكل قائلون باستوائه على العرش، لكن الطائفة الأُولى يفسرونه بالجلوس والاستقرار على العرش كاستقرار الإنسان على عرشه، الّذي له قوائم أربع.

والطائفة الثانية يفسرونه بنفس هذه المفاهيم، ولكن يقولون: استقراراً وجلوساً لائقاً بحاله سبحانه، وعرشاً لائقاً بساحته، فهو مستقر وجالس لا كجلوس الإنسان وله عرش لا كعروشه، بل الكل ما

يليق بساحته، من غير تكييف ولا تمثيل.

والطائفة الثالثة يفسرونه بالاستيلاء، أخذاً بالقرائن الموجودة في نفس الآيات، وما ورد في كلمات البلغاء والفصحاء في استعمال نظيره في كلماتهم ومحاوراتهم.

4- وهناك طائفة رابعة يقولون بالتفويض، وأنّه ليس لنا تفسير الآية، بل نفوّض معانيها إليه سبحانه .

قال الشهرستاني: «اعلم إِنَّ جماعة كثيرة من السلف، كانوا يثبتون للّه صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولا يؤوّلون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون: إنَّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله: (الرَّحمن على العرش استوى) ولسنا مكلفين بمعرفة هذه الصفات»(1) .

وقال الرازي: «إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد اللّه منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها إلى اللّه تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها»(2) .

____________________________

1 . الملل والنحل ج 1 ص 93 بتلخيص .

2 . أساس التقديس ص 223 .

( 121 )

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي نقلناها في هذه الموسوعة(1) .

ثم إنّ أصحاب التنابز بالألقاب وصفوا الطائفة الثالثة بالمعطّلة تارة، والمؤوّلة أُخرى، ولكنهم غير معطلة أبدا، لأنهم لم يعطلوا في مقام توصيفه سبحانه شيئاً مما ورد في الكتاب، غير أنهم قاموا بتعيين المراد من هذه الصفات فأجروها عليه، وأمّا المؤولّة، فإنما يصحّ توصيفهم بهذا الوصف إذا أُريد منها المعاني التصورية الابتدائية، وأمّا المعاني التصديقية الّتي تدل عليها القرائن، فلا يؤوّلون شيئاً منها، والملاك في صدق التأويل هو المعاني التصديقية، لا التصورية .

هذه هي الأقوال المعروفة في باب الصفات على وجه الإجمال، هلمّ معي ندرس نظرية ابن تيمية فيها، حتّى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره .

نظرية ابن تيمية تلازم الجهة والتجسيم

لا يشك من نظر إلى ما نقلناه عن ابن تيمية في مواضع متعددة من رسائله وكتبه في أنه صريح في التجسيم

والتشبيه، خصوصاً أنه يصرح بأنه تصحّ الإشارة الحسية بالأصابع إليه، ولا هدف له من جمع كل ما ورد في ذلك المجال من غثّ وسمين وصحيح وزائف. إلاّ إثبات أن هذه الصفات تجري عليه سبحانه بمعانيها اللغوية، غير أنّ تذرعه بلفظ «بلا كيف» أو «بلا تمثيل» أو ما يقاربهما ربما يوجب عدم عدّه من المجسّمة والمشبهة، لأنّه يقول بأنّ له سبحانه هذه الصفات لا كصفات المخلوقين، ولكن هذا التذرّع واجهة يريد به تبرير توصيفه سبحانه بها بمعانيها اللغوية، وعدم اتهامه بالقول بالتجسيم والتشبيه، ولكنها لا تفيد شيئاً وذلك:

إنّ هذه الصفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغةً على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية، فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان، وهكذا الرجل والقدم، ومثلها النزول، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل، والحركة من صفات الجسم، فالكيفية مقوّمة لمعاني هذه

____________________________

1 . راجع الجزئين الثاني والثالث .

( 122 )

الألفاظ والصفات، فاليد والرجل بلا كيفية ليستا يداً ورجلا بالمعنى اللغوي المتبادر عرفاً، وعلى ضوء ذلك فليس هنا إلاّ سلوك أحد طريقين:

1- جريها بنفس معانيها اللغوية الّتي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة، فهو نفس القول بالتجسيم .

2- جريها بمفاهيمها المجازية، ككون اليد كناية عن القدرة، كما في قوله سبحانه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاء)(1)، فهذا هو قول المؤوّلة، أو المعطلة باصطلاح ابن تيمية، وليس ههنا معنى ثالث ينطبق على ما يتبنّاه ابن تيمية، وهو إجراؤها على اللّه بنفس مفاهيمها، لكن من غير تكييف، وذلك لما عرفت أنّ مفاهيمها متقوّمة بالتكييف والتمثيل، فلو حذفنا الهيئة والكيفية من اليد، فلا يبقي منها شيء، كما أنّا لو حذفنا الحركة الحسية من النزول لا يبقى منه شىء، إلاّ إذا حملا على الكناية والتأويل، وهو ما

لا يقبله ابن تيمية وأتباعه .

ولو صحّ حمل هذه المفاهيم عليه سبحانه بالتذرّع ب_ «بلا تكيف» و «لا تمثيل» لصحّ توصيفه سبحانه بكل شيء فيه أدنى كمال، ونقول: إنّه جسم لا كالأجسام، وله قلب لا كهذه القلوب، وله لسان ناطق لا كهذه الألسنة.

وخلاصة القول: إنّ ابن تيمية يرى نفسه بين أمرين:

أحدهما: القرآن بظواهره الحرفية حجة لا يصحّ لأحد تأوليها أو حملها على الكناية والمجاز .

ثانيهما: إنَّ القرآن صريح في أنّه ليس كمثله شيء، وأنّ المشركين ما قدروا اللّه حق قدره، إلى كثير من آيات التنزيه.

فعند ذلك يريد أن يجمع بين الأمرين باللجوء إلى أنّ المقصود ما يناسب ساحته، زاعماً بأنّه ينجيه عن القول بالجهة والتجسيم، مع أنّه ليس لنا إلاّ اختيار أحد الأمرين: الأخذ بالمفاهيم اللغوية بلا تأويل ومرجعه إلى

____________________________

1 . سورة المائدة: الآية 64 .

( 123 )

التجسيم، أو الإمعان في الآيات والآثار الصحيحة وتفسيرها حسب الدلالة التصديقية، بالمعاني الكنائية أو المجازية أو غير ذلك .

وأمّا ما ادّعاه من أنّ ما ذكره نفس معتقد السلف فقد أجاب عنه العلامة الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (ت 1379 ه_) قال: «إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف: إنما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي، فلا تظن أنهم أرادوا أنّ ذاته العلية منقسمة إلى أجزاء وأبعاض، فجزء منها يد وجزء منه وجه، غير أنه لا يشابه الأيدي والوجوه الّتي للخلق .

حاشاهم من ذلك، وما هذا إلاّ التشبيه بعينه، وإنما أرادوا بذلك أنّ لفظ الوجه واليد قد استعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات الّتي تليق بالذات العلية، كالعظمة والقدرة، غير أنهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيباً من التهجم على ذلك المقام الأقدس، وانتهز

المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام، وخدعوا بها الأغمار من الناس، وحملوها على الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه، وتبرأوا من اسمه، وليس يخفى نقدهم المزيف على صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء»(1) .

وقد صرح بما ذكرنا _ الأخذ بالمفاهيم اللغوية يلازم الجهة والتجسيم _ ناصر ابن تيمية في جميع المواقف (إلاّ في موقف أو موقفين) الشيخ محمد أبو زهرة حيث لم يستطع أن يستر الحقيقة، فقال: «ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع والإقرار بأنه في السماء، وأنه يستوي على العرش، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة للحوادث. وإن التأويل (حملها على المجاز و الكناية) بلا شك في هذا يقرب العقيدة الى المدارك البشرية، ولا يصح أن يكلف الناس ما لا يطيقون، وإذا كان ابن تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في مكان والتنزيه المطلق، فعقول الناس لا تصل إلى سعة أُفقه إن كان كلامه مستقيماً»(2) .

يقول أيضاً: «ومهما حاولوا نفي التشبيه فإنّه لاصق بهم، فإذا جاء ابن

____________________________

1 . فرقان القرآن ص 80 - 81 .

2 . ابن تيمية، حياته وعصره ص 270 .

( 124 )

تيمية من بعدهم بأكثر من قرن فقال: «إنّه اشتراك في الإسم لا في الحقيقة» فإن فسّروا الاستواء بظاهر اللفظ فإنه الإقعاد والجلوس، والجسمية لازمة لا محالة، وإن فسروه بغير المحسوس فهو تأويل، وقد وقعوا فيهما نهوا عنه، وفي الحالين قد خالفوا التوقف الّذي سلكه السلف»(1) .

أقول: ليس ابن تيمية فريداً في هذا الباب، بل المذهب الّذي أرسى قواعده شيخه ابن حنبل من التعبد بالظواهر بحرفيتها ومعانيها التصورية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه، ومهما حاولوا الفرار عنه وقعوا فيه من حيث لا يشعرون. نعم

حاول ابن الجوزي أن يدافع عن أُستاذ مذهبه فوجّه اللوم إلى تلاميذه، فقال: «رأيت من أصحابنا من تكلم في الأُصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبداللّه بن حامد(2) وصاحبه القاضي (أبو يعلي) (3) وابن الزاغواني(4)، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس; فسمعوا أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم _ عليه السَّلام _ على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواءً لوجهه، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس .

وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى

____________________________

1 . ابن تيمية حياته وعصره ص 272 - 273 .

2 . شيخ الحنابلة في عصره، البغدادي، الوراق، المتوفى سنة 403 له كتاب في أصول الإعتقاد سماه «شرح أُصول الدين» وفيه أقوال تدل على التشبيه والتجسيم.

3 . القاضي أبو يعلى محمد الحسين بن خلف بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 وقد تكلم في أُصول الإعتقاد كلاماً تبع أُستاذه ابن حامد وأكثر من التشبيه والتمثيل حتّى قال فيه بعض العلماء:

«لقد شان أبويعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار» .

4 . هو أبو الحسن علي بن عبيداللّه بن نصر الزاغواني الحنبلي المتوفى سنة 527 وله كتاب في أصول الإعتقاد اسمه «الإيضاح» قال فيه بعض العلماء: «إنّ فيه من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» .

( 125 )

النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة للّه تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتّى قالوا:

صفة ذات، ثم لمّا أثبتوا أنها صفات، قالوا: «لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء وإتيان على معنى بر ولطف، ولا ساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين»، والشيء إنّما يحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرفه صارف حمل على المجاز.

ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه، ولقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل _ رحمة اللّه _ يقول وهو تحت السياط: «كيف أقول ما لم يقل به» فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه .

ثم قلتم في أن الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم: الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يحمل ما لا يثبته الأصل وهو العقل، فإنّا به عرفنا اللّه وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم، وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح، فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس فيه»(1) .

أقول: عزب عن ابن الجوزي الحنبلي أنّ إمامه هو الّذي دعم هذه الفكرة في كتبه، وأنّه هو الّذي حشا كتبه بأحاديث التجسيم والتشبيه، ومن اراد الوقوف عليها، فليرجع إلى كتاب السنة الّذي رواه عنه ابن عبداللّه، وقد روينا قسماً وافراً من رواياته في الجزء الأول(2) .

نعم، قسَّم عز بن عبدالسلام الحشوية وقال بأنهم على ضربين:

____________________________

1 . ابن تيمية، حياته وعصره، ص 273 _ 274 نقلا عن دفع شبهة التشبيه لابن الجوزي، ونقله ملخصاً الشيخ سلامة في فرقان القرآن

ص 82 .

2 . بحوث في الملل والنحل ج 1 ص 130 _ 143 .

( 126 )

أحدهما «يتحاشى عن الحشو والتشبيه والتجسيم، والآخر تستّر بمذهب السلف، ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التشبيه والتجسيم»(1) .

والحق أنّ الحشوية بأجمعهم مجسّمة، والتسمك بمذهب السلف واجهة ستروا بها قبح عقيدتهم، ولو رفع الستر لبان أنهم مجسمة ومشبهة،وفي هذاالصدد يقول الزمخشري :

ولو حنبلياً قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولىُّ بغيض مجسم

ويقول أبوبكر ابن العربي في حقهم:

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا * عنها العدول إلى رأي ونظر

بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً * ما للأنام ومعلوف من البقر(2)

نعم، الظواهر هي الأصل ولا يجوز لأحد العدول عنه: ولكن الظواهر منها ظاهر حرفي، ابتدائي، تصوري، فهو ليس بحجة أبداً، ومنها ظاهر جملي تصديقي استمراري، وهو الحجة قطعاً، فإذا قلت: رأيت أسداً في الحمام، فالظهور الإبتدائي التصوري الحرفي للفظ الأسد هو الحيوان المفترس، ويقابله الظهور التصديقي الجملي الاستمراري وهو الرجل الشجاع، وهؤلاء الذين يضلون العوام يغترون بالقسم الأول من الظاهر، دون الثاني. وإذا قال المحققون: ظواهر الكتاب والسنة حجة لا يصح العدول عنها ولا يجوز لأحد تأويلها، يريدون الظهورات التصديقية الّتي تنعقد للكلام بعد الإمعان في القرائن المتصلة أو المنفصلة، ولكن من يتبع الظواهر الحرفية فقد ضل، وغفل عن أن كلام العرب والبلغاء والفصحاء مليء بالمجازات والكنايات .

وحصيلة البحث أن الجمود على الظواهر عبارة عن الجمود على ظواهرها الحرفيةو ولا شك أنه يجر إلى الكفر أحياناً، فمن جمد على ظاهر قوله سبحانه: (ليس كمثله شيء) يجب عليه أن يقول: إنّ للّه مثلا وليس كهذا المثل شيء، كما أنّ التأويل ضلال، والمراد منه هو العدول عن الظواهر

____________________________

1 . نقض المنطق ص 119،

كما في كتاب «ابن تيمية» لمحمد أبي زهرة.

2 . فرقان القرآن ص 98 .

( 127 )

التصديقية الّتي تتبادر إلى أذهان أهل اللغة بعد الإمعان في سياق الكلام، والتأمّل في نظائره في كلمات العرب. فلو استقرّ ظهور جملة في شيء بهذا الشرط، فالعدول عنه يوجب مسخ كلام اللّه ومحو الشريعة.

فعلى العالم الباحث أن يمعن النظر في الصفات الخبرية الّتي جاءت في الكتاب والسنة، ويتلقاها آيات متشابهة، ويمعن في الآيات المحكمة حتّى يزيل عنها التشابه. «ومن تتبّع براهين القرآن واستقرأ آياته العظام وجد كثيراً مما تشابه فيه، ورأى كثيراً منه محكماً، وهو ما كان من المجاز البيّن الشائع في لغة العرب، وعلى قدر الرسوخ في العلم يكون زوال التشابه أو أكثره عن الكثير من المتشابه، ولما كان الراسخون في العلم متفاوتين لا جرم تفاوتت أنصباؤهم في زوال التشابه عنهم...»(1) .

وفي الختام نذكر أُموراً:

الأول: إنّ ابن تيمية وإن تستّر بقوله (بما يناسب ساحته) ونظيره، ولكنّه أظهر عقيدته الواقعية في مجالات خاصة، وهذا ابن بطوطة ينقل في رحلته: «وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون، إلاّ أنه كان في عقله شيء، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر، وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء.. ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزوادي المالكي وقال: إنّ هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدّد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر الشهود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة.

قال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلاّ اللّه، فأعاد عليه فاجاب عليه بمثل قوله، فامر الملك الناصر بسجنه، فسجن أعواماً، وصنّف في السجن

كتاباً في تفسير القرآن سماه بالبحر المحيط .

ثم إنّ أُمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن

____________________________

1 . كلام الإمام ابن دقيق العيد، كما في فرقان القرآن ص 97 .

( 128 )

وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق. فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إنّ اللّه ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه، وضربوه بالأيدي والمنال ضرباً كثيراً»(1).

* * *

الثاني: إنّ ابن تيمية ومن لفّ لفّه يستدلون على مقالتهم بالقياس، ويقولون: إنّ الوجه، والعين، واليدين، والقدمين والساق صفات مثل سائر الصفات، كالحياة والعلم والإرادة، فكما أنّ له سبحانه حياة لا كحياة الإنسان، فهكذا صفاته الخبرية، فله وجه لا كالوجوه، ويد لا كالأيدي، ورجل لا كالرجل .

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالقياس في مجال العقائد أشد خطأ من الاستدلال به في المسائل الفقهية، وعلى فرض الصحة فالقياس مع الفارق، وذلك أنّ كلا من العلم والقدرة موضوع لمعنى غير متقيد بالجسم والمادة، فالعلم من ينكشف لديه المعلوم، والقادر من يستطيع على الفعل عن اختيار، فلأجل ذلك لكل واحد منهما مراتب ودرجات، فمنه حصولي ومنه حضوري، فمنه زائد على الذات، ومنه عين الذات، وأمّا الصفات الخبرية كالوجه فإنها موضوعة على الموجود المادي الّذي له شكل خاص، ولو كانت له مصاديق متفاوتة كوجه الإنسان والفرس والأسد فإنما هي في إطار الجسم المادي، فالوجه بأي نحو أطلق يجب أن يكون موجوداً مادياً متهيئاً بهيئة خاصة، فالوجه الفاقد للمادة والهيئة، ليس وجهاً لغة، ومثله الرجل واليد، فالقول بأنّ له

سبحان يداً لا كالأيدي، إن أُريد منه التأويل، أي تأويله بالقدرة، فهذا هو الّذي ذهب إليه أهل التنزيه، وإن أُريد به المعنى اللغوي بلا تدخل ولا تصرف، ومع ذلك فهو يفقد المادة والهيئة والشكل فهذا أشبه بالتناقض.

* * *

____________________________

1 . ابن بطوطة: الرحلة ص 95 _ 96 طبع دار صادر (1384 ه_ ).

( 129 )

الثالث: إنّ ابن تيمية ينسب إلى السلف بأنّهم لا يؤوّلون ظواهر الكتاب في مجال الصفات الخبرية، ثم يستنتج منه أنهم يحملونها على ظواهرها اللغوية، ويقولون: إنّ للّه وجهاً ويداً ورجلا، ونزولا ونقلة بنفس معانيها اللغوية، غاية الأمر أنّ الكيف مجهول .

يلاحظ عليه: أنّ ما نسب إلى السلف إذا كان صحيحاً يهدف إلى توقّفهم في تعيين المراد وتفويض الأمر إلى اللّه، إذ في الأخذ بالظاهر اليدوي مغبة الجهة والتجسيم، وفي تعيين المراد مظنة التفسير بالرأي، فكانوا لا يخوضون في هذه الأبحاث الخطرة، وأمّا أنهم يحملونها على ظواهرها ويفسرونها بنفس معانيها الابتدائية التصورية، كما زعمه ابن تيمية، فهو افتراء على المثبتين منهم .

نعم، كان أهل التحقيق يخوضون في هذه المباحث ويعينون المعنى المراد، وهذا ما يطلق عليه التأويل، ولكن التأويل صحيح على وجه، وباطل على وجه آخر، فإن كان هناك شاهد عليه في نفس الآية والحديث، أو كان التأويل من قسم المجاز البيّن الشائع، فالحق سلوكه من غير توقف، وإن لم يكن في النصوص عليه شاهد، أو كان من المجاز البعيد، فهذا هو التأويل الباطل، وهو يلازم الخروج عن الملة والدخول في الكفر والإلحاد.

كما أنّ التأويل بلا قيد و شرط كفر وضلال، كما عليه الباطنية، فهكذا التعبد بالظواهر الابتدائية والمعاني التصورية، وعدم الاعتناء بالقرائن المتصلة أو المنفصلة أيضاً كفر وضلال وتعبّد بالتجسيم والتشبيه.

إنّ

المتحرّي للحقيقة يتبع الحق ولا يخاف من الإرهاب والإرعاب، ولا من التنابز بالألقاب، فلا يهوله ما يسمع من ابن تيمية وابن عبدالوهاب من تسمية المنزهين للحق عن الجهة والمكان، معطّلة وجهمية، وتلقيب القائلين ببدع اليهود والنصارى بالموحدين والمثبتين، فلا يصرفنّك النبز بالألقاب إلى الإنحراف عن الحق الصراح، الّذي أرشدك إليه كتاب اللّه وسنة رسوله القويمة، والعقل الّذي به عرفت اللّه سبحانه، وبه عرفت رسله ومعاجزه وآياته .

( 130 )

ومما يدل على أنّ السلف لا يحملون الصفات الخبرية على ظواهرها، بل لا يتكلمون ويفوضون الأمر إلى اللّه، هو ما نقل عن عالم المدينة مالك بن أنس عندما سئل عن قوله سبحانه: (ثمَّ استوى على العرش)أنّه كيف استوى؟ قال: الإستواء معلوم، والكيف غير معقول(1). نعم إنّ ابن تيمية وأبناء الوهابية يحكون عنه أنّه قال: «الكيف مجهول»، والفرق بين العبارتين واضح، فالأول يهدف إلى التنزيه، والثاني يناسب التجسيم، إذ معناه أنّ لاستوائه على العرش كيفية من الكيفيات ولكنها مجهولة لنا. ويدل على أن الوارد هو «غير معقول» ما جاء في ذيل الرواية أنّ مالك بعدما سمع السؤال وأجاب بما ذكرناه، علته الرحضاء، أي العرق الكثير وقال: «ما أظنك إلاّ صاحب بدعة» وما ظنّه كذلك إلاّ لأنّ سؤاله كان عن الكيفية، فأحس أن السائل يريد إثبات الكيفية لاستوائه سبحانه، فأخذته الرحضاء من سؤاله واعتقاده .

* * *

الرابع: إنّ ابن تيمية يكرر كثيراً استواءه سبحانه على العرش، ويعتمد على ظاهره، ويتخيل أنّ الإستواء بمعنى الاستقرار أو الجلوس، ولكنّه تستراً لمذهبه، يضيف إليه «بلا تكييف» ولأجل رفع الستر عن معنى الآية نأتي بكلام شيخ السلف من المفسرين أبي جعفر الطبري، ولا يشك أحد في أنّه سلفي، فهو يقول:

الاستواء في كلام العرب

منصرف على وجوه:

1- انتهاء شباب الرجل وقوته، ويقال: إذا صار كذلك قد استوى الرجل .

2- استقامة ما كان فيه أود من الأُمور والأسباب. يقال: استوى لفلان أمره إذا استقام له بعد أود، ومنه قول الطرماح:

____________________________

1 . نقله الذهبي في كتابه «العلو» عن مالك وشيخه ربيعة، كما نقله أيضاً بالسند عن أبي عبداللّه الحاكم وابن زرعة، لاحظ فرقان القرآن ص 14 _ 15 ونقله عن الإلكائي في شرح السنة.

( 131 )

طال على رسم محدد أبده * وعفا واستوى به بلده

يعني استقام به .

3- الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان، بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه .

4- الاختيار والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، أي احتوى عليها وحازها.

5- العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه .

ثم قال: وأولى المعاني بقول اللّه جلّ ثناؤه: (ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ): علا عليهن وارتفع، قد برهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات(1) .

وهذا الشيخ السلفي لا يفسر الاستواء على العرش، بالجلوس ولا بالاستقرار، بل بعلو الملك والسلطان، كما هوالمراد من قوله سبحانه:(وَهُوَ العَلِىّ العَظِيمُ)(2)، والعرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يفهمون من الاستواء إذا وقع وصفاً لموصوف بالقدرة والعظمة، سوى العلوّ، قال الشاعر:

قد استوى بِشْرٌ على العراقِ * من غير سيف ودم مهراق

وقال الآخر:

ولما علونا واستوينا عليهم * تركناهم مرعىً لنسر وكاسر

والأسف أنّ ابن تيمية وأتباعه إذ فسروا الاستواء بالعلو، يفسرونه بالعلو بالمكان، ولا يدرون أن الفضيلة والكرامة في العلو المعنوي لا العلو المكاني، فما قيمة العلو في المكان إذا لم يكن هناك علو معنوي، وهذا هو القرآن يركّز على العلو المعنوي، ويقول: (وَلاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَونَ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ)(3)،

وقال سبحانه: (ألاّ تَعْلُوا عَلَىّ وَ أْتُوني

____________________________

1 . تفسير الطبري ج 1 ص 150، سورة البقرة الآية 29 ط دارالمعرفة .

2 . سورة البقرة: الآية 255 .

3 . سورة آل عمران: الآية 139 .

( 132 )

مُسْلِمينَ)(1) وقال سبحانه: (إنّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعاً)(2) وقال تعالى: (وَ أنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللّه إنّي آتِيْكُم بِسُلطَان مُبِين)(3) وقال: (لاَ تَخَفْ إنّكَ أَنْتَ الأعْلَى)(4) .

هذا كلّه حول الاستواء، وأمّا العرش فهو سرير الملك الّذي يجلس عليه للحكم، وهذا هو أصل الوضع، ثم يكنّى به عن السلطة والسيطرة، حتّى صار يستعمل في هذا المعنى ولا ينصرف إلى المعنى اللغوي، فإذا كان الملك آخذاً بزمام الأُمور ومسيطراً على البلد وأهله يقال: استوى على العرش، أو هو مستو عليه، وإذا كان ضعيفاً في الإدارة غير نافذ أمره في البلد وأهله، وكان هناك انتفاضة بعد انتفاضة، يقال: إنّه غير مستو على عرشه .

ومن تتبّع القرآن الكريم وأمعن النظر في الموارد الّتي ورد فيها استواؤه سبحانه على العرش في موارد متعددة يجد أنّه ذكر مقروناً بفعل من أفعاله، دال على غناه المطلق، مثل رفع السماوات بغير عمد، قال سبحانه: (اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها، ثُمَّ استَوى عَلَى العَرْشَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ)(5)، أو (خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أيّام) .

وإليك الآيات الّتي جاء فيها هذا الأمر، قال سبحانه: (إنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرضَ في سِتَّةِ أيّام، ثُمَّ اسْتوى عَلَى العَرْشِ، يُغشي اللَّيلَ النَّهارَ)(6) وقال سبحانه: (اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرضَ فِي سِتَّةِ أيّام، ثُمّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ، ما مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إذنِهِ)(7)، وقال سبحانه: (اللّهُ الّذي خَلَقَ السّمواتِ وَ

الأرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا

____________________________

1 . سورة النمل: الآية 31 .

2 . سورة القصص: الآية 4 .

3 . سورة الدخان: الآية 19 .

4 . سورة طه: الآية 68 .

5 . سورة الرعد: الآية 2 .

6 . سورة الأعراف: الآية 54 .

7 . سورة يونس: الآية 3 .

( 133 )

في سِتَّةِ أيّام، ثُمّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرّحمنُ فَسْئلْ بِهِ خَبِيراً)(1) وقال سبحانه: (اللّهُ الّذي خَلَقَ السّمواتِ وَ الأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أيّام ثُمّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَ لاَ شَفيع أفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)(2) وقال سبحانه: (هُوَ الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سَتَّةَ أيّام ثُمّ استَوى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها)(3) .

والناظر في هذه الآيات يرى أنّه سبحانه عندما يذكر استواءه على العرش يذكر آثار قدرته وعظمته من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتدبيره الأمر «يدبّر الأمر»، وأنّه لا مؤثّر ولا موجد إلاّ بإذنه «ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه»، ومن علمه الوسيع بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. كلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية في جميع الموارد تهدف إلى علوّه سبحانه على عالم الوجود الإمكاني، وأنّه بجملته في سلطانه وقدرته، ولا يخرج شيء من حيطة قدرته، وأين هذا من تفسيره بالجلوس على العرش فوق السماوات ناظراً إلى ما دونه.(تَعَالَى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً).

ولو تتّبع المعاصرون المنتمون إلى السلف يجدون خير السلف كالطبري(4) يفسر «الواسع» في قوله: (واللّهُ وَاسعٌ عَلِيم)(5) ويقول: واللّه واسع الفضل، جواد بعطاياه، فزوّجوا إماءكم فإنّ اللّه واسع يوسع عليهم من فضله إن كانوا فقراء، كما أنّ الشيخ

البخاري يفسر الوجه في قوله: (كُلُّ شَىء هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ) بالملك(6) .

* * *

____________________________

1 . سورة الفرقان: الآية 59 .

2 . سورة السجدة: الآية 4 .

3 . سورة الحديد: الآية 4 .

4 . تفسير الطبري ج 18 ص 98 .

5 . سورة النور: الآية 32 .

6 . صحيح البخاري ج 6 ص 112، تفسير سورة القصص، الآية 88 .

( 134 )

الخامس:إنّ الفرقة المشبهة ليست وليدة عصرنا هذا، بل لها عرق ممتدّ إلى زمن التابعين، الّذي كثرت فيه مسلمة اليهود والنصارى، فأدخلوا في الأحاديث ما يروقهم من العقائد، فتأثر بهم السذّج من المسلمين والمحدثين، فأولئك هم المعروفون بالحشوية نسبة إلى الحشو (بسكون الشين) وهو اللغو الّذي لا اعتبار له، فضلا عن أن يكون منسوباً إلى اللّه ورسوله، أو مذهباً يدان اللّه به، وما زال أهل الحق لهم بالمرصاد.

وقد كان القول بالتجسيم والتشبيه ردّ فعل لما كان عليه علىّ _ عليه السَّلام _ وأولاده من الدعوة إلى التنزيه، والاجتناب عن التشبيه، في مجال الحق وذاته وصفاته، نعم حكي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «أتانا من المشرق رأيان خبيثان، جهم معطّل ومقاتل مشبّه، فأفرط جهم في النفي (نفي الصفات الجسمانية) حتّى قال: «وإنّ اللّه ليس بشيء» وافرط مقاتل في الإثبات، حتّى جعل اللّه تعالى مثل خلقه»(1) .

ولكن الإمام أبا حنيفة تسامح في نسبة التجسيم إلى مقاتل، بل لها جذور في الأحاديث المروية في الصحاح والمسانيد التي دسها مسلمة اليهود والنصارى في الأحاديث، وكثير من المحدثين راقتهم تلك الأحاديث، وبما أنّ عليّاً وابناء بيته الطاهر كانوا على التنزيه، وهذه خُطَبهُ الرفيعة الرائعة في تنزيه الحق، حاولت السلطة الأموية أنْ تُروّج كل حديث يتضمّن ضدّ ما كان عليه

عليّ، ويُحترم كل محدث يجنح إلى بثّ هذه الخرافات .

السادس: إنّ أتباع ابن تيمية ومن كان على ذاك الخطّ قبله من الحشوية، يفرّون من الاستدلال والبرهنة وعلم الكلام والمناظرة، ويحرّمون الاستماع إلى البراهين العقلية والمجادلة بالتي هي أحسن، ولكنّه من تمويهاتهم الّتي يريدون بها دعم مبادئهم وصيانتها عن النقد والإشكال، وكأنهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه:

(...قُلّ هَاتُوا بُرْهَانَكُم إنْ كُنْتُم صَادِقين)(2) أو قوله سبحانه:

____________________________

1 . تهذيب التهذيب ج 10 ص 281 ترجمة مقاتل .

2 . سورة البقرة: الآية 111 .

( 135 )

(الّذين يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه...)(1) أو قوله سبحانه: (ادعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بَالْحِكْمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتي هِىَ أحسنُ)(2).

والكل يهدف إلى أنّ المسلم الواعي إنّما يتّبع البرهان ولا يعرض عنه، ولا يعطّل عقله حتّى يميّز الأحسن عن غيره، ويجادل المخالف بالبرهان والدليل. نعم لو أُريد من علم الكلام، المراء والجدال وكسب العظمة والمقام، فلا شك أنّه مرغوب عنه .

نعم، ليس لهم هدف من تحريم البحث والنظر إلاّ الستر لعوار بدعهم، وعقائدهم الباطلة، ولا يجحد النظر في العقائد إلاّ أحد رجلين: رجل غبىّ يشق عليه سلوك أهل التحصيل والناس أعداء ما جهلوا، ورجل يعتقد بمذاهب فاسدة يخاف من ظهور عوار مذهبه وفضائح عقيدته .

هذا قليل مما ذكره ابن تيمية وأتباعه في الصفات الخبرية، ولو أردنا أن نستقصي كلمات الرجل في المقام لطال بنا الكلام، ولنكتف بهذا المقدار، وقد عرفت الحق، والحق أحق أن يتّبع .

____________________________

1 . سورة الزمر: الآية 18 .

2 . سورة النحل: الآية 125 .

( 136 )

ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي _ صلَّى الله

ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

ذهب ابن تيمية إلى أنّ شد الرحال إلى زيارة قبر رجل صالح

حرام، وقال: ثبت في الصحيحين عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» ثم قال: ولو نذر السفر إلى قبر الخليل _ عليه السَّلام _ أو قبر النبي لم يجب الوفاء بهذا النذر بإتفاق الأئمة الأربعة، فإنّ السفر إلى هذه المواضع منهّي عنه لنهي النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد...» فإذا كانت المساجد الّتي هي من بيوت اللّه، الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس، قد نهي عن السفر إليها، فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، فما ظنك بغيرها؟ فقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجوا بحجة شرعية _ إلى أن قال _ : وكل حديث يروى في زيارة قبر النبي فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً، ولكن الّذي في السنن ما رواه أبو داود عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنه قال: «ما من رجل يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللّه عليّ روحي حتّى أرد عليه السلام، فهو يردّ السلام على من سلم عليه عند قبره ويبلغ [إليه] سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائي عنه أنّه قال: «إنّ اللّه وكل بقبري ملائكة يبلغون لأمتي السلام» وفي السنن عنه أنه قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة

( 137 )

وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علىّ(1) .

أقول: إن هنا مسألتين:

الأولى: شد الرحال إلى زيارة الأنبياء والصالحين .

الثانية: حكم زيارة قبر الصلحاء والأنبياء والنبي الأعظم، وإن لم يكن

هناك شد للرحال، ونحن ندرس كلتا المسألتين في ضوء الكتاب والسنة، فنقول:

أفتى ابن تيمية بتحريم شدّ الرحال إلى زيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، والاستدلال بهذا يتوقف على الإمعان في سند الحديث ودلالته، فنقول: روي الحديث بصور ثلاث، والّذي يصحّ الإستدلال به إنّما هو الصورة الأولى والثانية لا الثالثة، وإليك البيان:

1- لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.

2- إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إليياء.

3- تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد(2).

فلو قلنا بأنّ لفظة «إنما» تفيد الحصر، تكون الصورة الثانية مثل الصورة الأُولى في إفادة الحصر، وإلاّ فينحصر الاستدلال بالصورة الأُولى، فلنفترض أنّ الحديث ورد على نمط الصورتين الأُوليين، فنقول: إنّ الاستثناء

____________________________

1 . مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 57 _ 65 الرسالة الثالثة في زيارة بيت المقدس .

2 . أورد مسلم هذه الأحاديث في صحيحه ج 4 ص 126، كتاب الحج باب (لا تشد الرحال) وذكره أبو داود في سننه ج 1 ص 469 كتاب الحج، وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي ج 3 ص 37 و 38 وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدل، لاحظ شفاء السقام ص 98 .

( 138 )

لا يستغني عن وجود المستثنى منه، وحيث لم يذكر في كلامه، فيلزم تقديره وهو أحد الأمرين:

أ _ لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة .

ب _ لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد .

أمّا الأول فيجب علينا ملاحظة الأمور التالية:

الأول: إنّ الحديث لو دلّ على شيء فإنما يدلّ على النهي

عن شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة، وأمّا شد الرحال إلى الأماكن الأُخرى فالحديث ساكت عنه، غير متعرّض لشيء من أحكامه، بل النفي والإثبات يتوجّهان إلى المسجد، فالمساجد ينهى عن شد الرحال إليها غير المساجد الثلاثة، والاستدلال به على حكم شد الرحال إلى المنتزهات و المراكز العلمية أو الصناعية أو مقابر الأولياء والشهداء أو الصديقين والصلحاء فهو ساكت عنه، ومن العجيب أن نستدل به على تحريم شد الرحال إليها .

الثاني: إنّ النهي عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد لا يعني تحريمه بل يعني نفي الفضيلة فيه، وذلك لأنّ المساجد سوى الثلاثة، لمّا كانت متساوية في الفضيلة والثواب فلا ملزم لتحمّل العبء بشد الرحال إليها، فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة في عامة البلاد، فلا وجه لشد الرحال إلى مسجد لإقامة الصلاة فيه، ولكنّه إذا شدّ الرحال بقصد الصلاة فيه والعبادة لربّه، لا يعد عمله محرماً، بل غاية الأمر لا يترتب عليه ثواب خاص .

وبذلك يتبين بطلان ما ذكره ابن تيمية من الاستدلال بالأولوية بأنّه إذا حرم شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة مع أنه من بيوت اللّه الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس يكون شد الرحال إلى زيارة القبور حراماً بطريق أولى، إذ ليست ساحة القبور مراكز للعبادة، فهي أقل درجة من سائر المساجد .

وجه الضعف أنّ الإستدلال مبني على أنّ التحريم تحريم مولوي تعبدي، وأما على ما استظهرناه من أن النهي إرشادي إلى أنه لا وجه لتحمل العبء في هذا الطريق، لتساوي المساجد في الفضيلة والكرامة، فلا وجه للإستدلال، لترتب الثواب على زيارة القبور .

( 139 )

الثالث: إنّ الحديث نص أو ظاهر في الحصر، مع أنّه ورد في الصحيح أنّ النبي كان يأتي مسجد

قبا راكباً وماشياً يصلّي فيه(1) فكيف يجتمع هذا العمل مع هذا الحصر، ولسان الحديث لسان الإباء عن التخصيص؟ فلا يصحّ لنا أن نقول إنّ النهي خصّص بعمل النبي، وهذا ربما يكشف عن كون الحديث غير صحيح من رأس، أو أنّه نقل محرّفاً، خصوصاً أنّه نقل عن طريق أبي هريرة، والاستدلال بمتفرداته أمر مشكل، وقد تنبّه ابن تيمية لهذا الإشكال فحاول أن يرفع التناقض بين الحصر، فقال: «إنّه يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إلى مسجد قبا» ولكنّه لا يرفع الإشكال، فإنّ الكلام في تخصيص النص الدال على الحصر، وأنّه لا يشد إلى غيره أبداً، سواء المقيم والمسافر.

هذا كله على فرض كون المستثنى منه هو المسجد، وقد عرفت كونه أجنبياً عن السفر إلى غير المساجد، وبما أنّ المستثنى منه هو المسجد فالمناسب هو كون المستثنى من هذا القبيل .

وأمّا على التقدير الثاني وهو تقدير الأماكن وما يقاربه ويعادله، فلازم ذلك أن تكون كافة الأسفار محرّمة غير السفر إلى المساجد الثلاثة، وهل يلتزم بذلك مسلم، وهل يفتي به أحد؟ كيف ولو كان الحديث بصدد منع كافة الأسفار المعنوية، فكيف كان النبي والمسلمون يشدّون الرحال في موسم الحج إلى عرفات والمشعر ومنى، وهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو المساجد لا الأماكن .

أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم والأحاديث الصحيحة حثّا على السفر إلى طلب العلم، والجهاد في سبيل اللّه، وصلة الرحم، وزيارة الوالدين، قال سبحانه: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ)(2) .

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 4 ص 127 وصحيح البخاري ج 2 ص 176 السنن للنسائي، المطبوع مع شرح السيوطي ج 2 ص 127 .

2

. سورة التوبة: الآية 122 .

( 140 )

مضافاً إلى ما ورد في السفر لطلب الرزق، فلو كان الحكم عاماً، فما معنى هذه التخصيصات الكثيرة الوافرة الّتي تنافي البلاغة، والّتي تزلزل الحصر، وهناك كلمة قيّمة للغزالي في إحياء العلوم يقول:

«القسم الثاني هو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحج أو جهاد.. ويدخل في جملة زيارة قبور الأنبياء _ عليهم السَّلام _ وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته، يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام و المسجد الأقصى» لان ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه(1) .

تحليل آخر للنهي عن السفر

ولنفترض أنّ المستثنى منه هو الأمكنة، ولكن المتبادر من الحديث أن يكون الدافع إلى السفر هو تعظيم ذلك المكان، فيختص النهي بما إذا أُريد من شد الرحال إلى مكان، تعظيمه ولو بإيقاع العبادة فيه، وعندئذ يخرج السفر إلى زيارة النبي عن منطوق الحديث، لأنّه لا يسافر لتعظيم بقعته، وإنما يسافر لزيارة من فيها مثل ما لو كان حياً. ويؤيد ذلك أمران:

1- روي عن بعض التابعين أنّه سأل ابن عمر أنّه يريد أن يأتي الطور، فأجابه: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد... ودع الطور فلا تأته(2) .

2- أفتى الجمهور بأنّه لو نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى الثلاثة

____________________________

1 . كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247،

كتاب آداب السفر، طبعة دار المعرفة بيروت .

2 . الفتاوى الكبرى ج 2 ص 24 .

( 141 )

فلا ينعقد النذر، فإنّه ليس في قصد مسجد بعينه غير الثلاثة قربة مقصودة، وما لا يكون قربة ولا عبادة فهو غير ملزم بالنذر .

كل ذلك يحدد مصب الحديث وهدفه، وأنّ المقصود هو المنع عن تعظيم مكان تشد الرحال إليه، وأمّا إذا كانت الغاية تعظيم من عظّمه اللّه سبحانه وأكرمه ورزقه فضلا كبيراً _ كما قال -: (وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(1)، فهو خارج عن مورد الحديث .

ومع ذلك فإنّ النهي عن شد الرحال إلى مكان خاص ليس لغاية تحريمه، وإنما هو إرشاد إلى نفي الفضيلة. قال ابن قدامة الحنبلي: «إن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها، قال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه، لأنّ النبي كان يأتي قبا ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال: زوروها تذكركم الآخرة، وأمّا قوله _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، فيحمل على نفي الفضيلة، لا على التحريم، فليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها(2) .

هذا كله حول الحديث وتحديد مضمونه، وقد عرفت أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي خارج عن موضوع الحديث على كلا التقديرين، فالاستدلال به على التحريم باطل جداً .

الدليل على جواز السفر إلى زيارة القبور

ثم إنّ هنا سؤالا يثار في المقام، وهو أنّ الحديث وإن كان قاصراً عن إثبات التحريم، ولكن ما هو الدليل على جواز السفر لزيارة قبر النبي أو سائر

____________________________

1 .

سورة النساء: الآية 113 .

2 . المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620، ج 2 ص 217 _ 218، وذكر في ج 3 ص 498 استحباب الزيارة، وكيفية زيارة النبي فلاحظ، وما نقله عن ابن عقيل غير ثابت، لأنّ السبكي نقل عنه خلافه، لاحظ شفاء السقام ص 113 .

( 142 )

القبور، خصوصاً إذا كان السفر دينياً ومنسوباً إلى الشرع، فإنّ الإفتاء بجوازه بما أنّه عمل يؤتى به لأجل كونه أمراً دينياً يحتاج إلى الدليل، وإلى الجواب:

يدل على جواز السفر لفيف من الدلائل، وإليك بيانها:

الأول: ما ورد من الحث على زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وستوافيك نصوصها فإنّها بين صريح في جواز السفر أو مطلق يعم المقيم والمسافر، فقول النبي وفعله حجتان، أمّا قوله:

فقد روي عن عبداللّه بن عمر أنّه قال: قال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : من جاءني زائراً لا تعمله (تحمله) إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.

روي أيضاً عن عبداللّه بن عمر عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي .

والثاني صريح في جواز السفر، والأول مطلق يعم المسافر والمقيم في المدينة، وستوافيك هذه النصوص عن أعلام المحدثين .

وأمّا فعله، فقد روي عن طلحة بن عبداللّه قال: خرجنا مع رسول اللّه يريد قبور الشهداء _ إلى أن قال _ : فلمّا جئنا قبور الشهدا، قال: هذه قبور إخواننا(1) .

الثاني: الإجماع، لإطباق السلف والخلف، لأنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، وإن منهم من يفعل

ذلك قبل الحج، قال السبكي: هكذا شاهدناه، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة، وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من

____________________________

1 . أخرجه أبو داود في سننه ج 1 ص 311، والبيهقي في السنن الكبرى ج 5 ص 249 والمراد من الشهداء شهداء أحد، كما هو مورد الحديث .

( 143 )

مشارق الارض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّوجلّ، ومن تأخر فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه، وودّ لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمع على خطأ فهو المخطىء .

وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهي الصلاة في المسجد، باطل جداً. فإنّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة، فمن عرف الناس أنهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرفت، فالمقصود الأعظم في المدينة، كما أنّ المقصود الأعظم في مكة، الحج أو العمرة، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجّه إلى المدينة ما قصد بذلك(1) .

الثالث: إنّه إذا كانت الزيارة قربة وأمراً مستحباً على الوجه العام والخاص، فالسفر وسيلة القربة، والوسائل معتبرة بالمقاصد، فيجوز قطعاً.

الرابع: ما نقله المؤرخّون عن بعض الصحابة والتابعين .

1- قال ابن عساكر في ترجمة بلال:

إنّ بلالا رأى في منامه رسول اللّه وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال، اما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً، وجلا، خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما _ فجعل يضمّهما ويقبّلهما، فقالا له: نشتهي نسمع أذانك الّذي كنت تؤذن به لرسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الّذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: «اللّه أكبر، اللّه أكبر» ارتجّت المدينة، فلمّا أن قال: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه»، ازدادت رجّتها، فلمّا أن قال: «أشهد أنّ محمداً رسول اللّه» خرجت العواتق من

____________________________

1 . شفاء السقام، في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي ص 85 _ 86 ط بولاق مصر .

( 144 )

خدورهن فقالوا: أبعث رسول اللّه؟ فما رئي يوماً أكبر باكياً بالمدينة بعد رسول اللّه من ذلك اليوم(1) .

2- إنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىء النبي السلام، ثم يرجع، قال السبكي: إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي، ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك من أمر الدنيا، ولا من أمر الدين، ولا من قصد المسجد، ولا غيره .

3- إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم، وفرح عمر بإسلامه، قال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتّع بزيارته؟ فقال لعمر: أنا أفعل ذلك،

ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد، سلم على رسول اللّه(2) .

4- ذكر ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بأسانيدهما إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وزرته وسلمت بحذائه، فجاءه أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل، إنّ اللّه أنزل إليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أنّهمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ واستَغفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّاباً رَحيماً) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، مستشفعاً فيها بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكم

وقد ذيّله أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بأبيات وقال:

وفيه شمس التقى والدين قد غربت من بعد ما أشرقت من نورها الظلم

____________________________

1 . شفاء السقام ص 44 _ 47 وقد نقله من مصادر كثيرة، قال: وذكره الحافظ أبو محمد عبدالغني المقدسي في «الكمال في ترجمة بلال».

2 . المصدر نفسه .

( 145 )

حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت في الشرق والغرب من أنواره الأُمم(1)

وبذلك تعرف قيمة ما ذكره ابن تيمية حول السفر إلى المشاهد وقال: وقد رخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجّوا بحجّة شرعية(2) .

وبما أنّك تعرّفت على الحجج الشرعية على الجواز، هلمّ معي ندرس نصوص الأعلام من علماء الإسلام لنعرف موقف ابن تيمية في التثبّت والأمانة، وإليك نصوصهم حول السفر للزيارة نقتطف موضع الحاجة من كلماتهم:

نصوص الأعلام على جواز السفر لزيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

لعل القارىء يتصوّر أنّ لما ذكره ابن تيمية من

عدم الإفتاء بجواز السفر، مسحة من الحق والصدق، ولكنّه إذا أمعن النظر فيما وصل إلينا من فتاواهم، يقف على أنّ الحق على ضد ما نسب إليهم، وإليك البيان:

1- قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي المتوفّى سنة (425 ه_) في «التجريد»: ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي .

2- وقال أبو الحسن الماوردي المتوفّى سنة (450 ه_)، في الأحكام السلطانية، ص 105: «فإذا عاد (ولي الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللّه، ليجمع لهم بين حج بيت اللّه عزّوجلّ وزيارة قبر رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، رعاية لحرمته، وقياماً بحقوق طاعته(3) .

3- وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الفقيه البغدادي الحنبلي المتوفّى سنة (510 ه_) في كتاب الهداية: «فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي وقبر صاحبيه».

4- قال القاضي عياض المالكي،المتوفّى سنة (544 ه_) في «الشفاء»، نقلا

____________________________

1 . شفاء السقام ص 52 .

2 . نفس المصدر .

3 . مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 60 .

( 146 )

عن إسحاق بن إبراهيم الفقيه: «ممّا لم يزل من شأن من حج، المزور(1) بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول اللّه، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه، وملامس يديه، ومواطن قدميه، والعمود الّذي استند إليه، ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه، ومن عمره وقصده من الصحابة وائمة المسلمين .

5- قال أبو محمد عبدالكريم بن عطاء اللّه المالكي المتوفى سنة (612 ه_) في مناسكه: فصل: إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه المشروع، لم يبق بعد ذلك إلاّ إتيان مسجد رسول اللّه للسلام على النبي والدعاء عنده، والسلام على صاحبيه، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه

من قبور الصحابة والتابعين .

6- وقال نجم الدين بن حمدان الحنبلي المتوفى سنة (595 ه_) في الرعاية الكبرى في الفنون الحنبلية: «ويسن لمن فرغ من نسكه، زيارة قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وقبر صاحبيه، وله بعد فراغ حجه، وإن شاء قبل فراغه» .

7- قال القاضي الحسين: «إذا فرغ من الحج... ثم يأتي المدينة ويزور قبر النبي» .

8- قال الإمام ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي، المتوفى سنة (737 ه_) في (المدخل) في فصل زيارة القبور (1: 257): وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل _ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين _ فيأتي إليهم الزائر، ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة.

9- قال الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة (756 ه_) في «شفاء السقام في زيارة خير الأنام»: «ومن روي عنه السفر إلى زيارة النبي، بلال بن أبي رباح» ثم ذكر قصته. لاحظ الباب الثالث من كتاب شفاء السقام فقد عقده في ما ورد في السفر إلى زيارته .

10- ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي المتوفى

____________________________

1 . مصدر ميمي بمعنى الزيارة .

( 147 )

سنة (925 ه_) في «أسنى المطالب» (1/501) «فيما يستحب لمن حج»: ثم يزور قبر النبي ويسلم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة..

11- أفتى الشيخ محمد بن الخطيب الشربيني المتوفى سنة (977 ه_) في مغني المحتاج (1/357) باستحباب زيارة النبي مطلقاً، وأنّ تخصيص بعض باستحبابه بعد الفراغ عن الحج لأجل التأكيد، وأنّه يتأكد للحاج أكثر من غيره .

12- وقال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031 ه_) في شرح الجامع الصغير، ج 6 ص 140: وزيارة القبر الشريف من كمالات الحج .

13- عقد الشيخ حسن بن عمار

الشرنبلالي في «مراقي الفلاح بإمداد الفتاح» فصلا في زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وقال: زيارة النبي من أفضل القربات فإنّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال: من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني .

14- وقال القاضي شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفى سنة (1062 ه_) في شرح الشفاء (3/566) واعلم أنّ هذا الحديث «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد...» هو الّذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة الّتي كفّروه بها، وصنّف فيها السبكي مصنفاً مستقلا وهي منعه من زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه، وهو كما قيل:

لمهبط الوحي حقاً ترحل النجب * وعند ذاك المرجّى ينتهي الطلب

فتوهمّ أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها.

15- قال الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة (1087 ه_) في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/157): «من أحسن المندوبات، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد، وقد حرض _ عليه السَّلام _ على زيارته وبالغ في الندب إليها، ثم قال: فإن كان الحج فرضاً فالأحسن أن يبدأ به إذا لم يقع في طريق الحاج المدينة المنورة، ثم يثني بالزيارة.

( 148 )

16- قال أبو الحسن السندي محمد بن عبدالهادي الحنفي المتوفي سنة (1138ه_) في شرح سنن ابن ماجة ج 2 ص 268 قال الدميري: فائدة: زيارة النبي من أفضل الطاعات وأعظم القربات، لقوله من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة .

17- قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي المتوفى سنة (1277 ه_) في حاشيته على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي

شجاع في الفقه الشافعي، (1/347): ويسن زيارة قبره ولو لغير حاج ومعتمر كالذي قبله، ويسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه .

18- قال الشيخ عبدالمعطي السقاء في الإرشادات السنية ص 260: زيارة النبي إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة _ أدام اللّه تشريفها وتعظيمها _ طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنورة للفوز بزيارته عليه الصلاة والسلام .

19- وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل ص 156 : ولم يخف ابن تيمية من اللّه في رواية عدّ السفر لزيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي _ وحاشاه عن ذلك _ راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى والتوسل به، كما هو مذهب الحنابلة، ثم ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وكيفية زيارته(1) .

وهذه النصوص تدل على أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي الأكرم كان أمراً متسالماً عليه، وقد شذّ من حرّمه وسعى في منع الناس من زيارته .

20- ثم إنّ تقي الدين السبكي ذكر فروعاً فقهية عن أئمة المذاهب،

____________________________

1 . قد أخذنا هذه النصوص برمتها من كتاب الغدير للمحقق الأميني من ج 5 ص 109 _ 125 وقد نقل أربعين كملة عن أعلام المذاهب الأربعة حول زيارة النبي الأقدس، ونحن اقتطفنا منه ذلك، ويدل على استحباب السفر فقط، وأما استحباب زيارته فسيوافيك في فصل آخر .

( 149 )

تدل على محبوبية شد الرحال إليها من أرجاء الدنيا، فمن أراد فليرجع إليه(1).

وفيما ذكرنا من النصوص غنى، كما أنّ

فيما ذكرنا من الحجج كفاية لمن أراد الحق وتجنب عن العصبية، فحان حين البحث حول نظريته في نفس الزيارة، وما أثار حولها من شبهات .

* * *

(وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِباً أوْ كَذّبَ بآياتِهِ إنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ)(2) .

____________________________

1 . شفاء السقام ص 42 .

2 . سورة الأنعام: الآية 21 .

ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي _ صلَّى الله عليه

ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

المعروف من ابن تيمية وأبناء الوهابية هو جواز زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وتحريم السفر إليها، لكن ما نقلناه في البحث الثاني ينافي ذلك، فإنّ الظاهر أنّه يحرّم أصل الزيارة وقد عرفت أنّه قال: كل حديث يروي في زيارة قبر النبي فإنّه ضعيف، بل موضوع، ولم يرو اهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً(1).

وقال السبكي: قد يتوهم أنّ نزاع ابن تيمية قاصر على السفر للزيارة دون أصل الزيارة، وليس كذلك، بل نزاعه في الزيارة أيضاً كما سنذكره من الشبهتين وهما:

1- كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة .

2- كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك .

وما كان كذلك، كان ممنوعاً، وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه، وقد نقل السبكي فتياً بخط ابن تيمية ولكن كلامه فيها مضطرب، ففي صدرها ما يشعر بمنع الزيارة مطلقاً، وفي ذيلها ما يقتضي أنّه إذا كانت الزيارة بمعنى السلام عليه والدعاء له، جازت، ويطابق ذلك ما نقلناه عن الرسالة الثالثة.

والحاصل أنّه يقسم الزيارة إلى الزيارة البدعية والزيارة الشرعية فيجوّز

____________________________

1 . مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 65 الرسالة الثالثة .

( 151 )

الثانية ويقصرها في السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً، يقول: فالزيارة لقبر المؤمن،

نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته، يدعى له كما يدعى إذا صلى على جنازته(1).

فاللازم البحث عن زيارة القبور أولا، وزيارة قبر النبي الأعظم بشخصه ثانياً .

* * *

زيارة القبور في السنة

لا شك أنّ زيارة القبور تنطوي على آثار أخلاقية وتربوية هامة، لأنّ مشاهدة هذا الوادي الهادي _ الّذي يضم في أعماقه مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذا الحياة الدنيا ثم انتقلوا إلى الآخرة _ تخفّف روح الطمع والحرص على الدنيا، ولربما يغيّر الإنسان سلوكه في هذه الحياة، فيترك الجرائم والمنكرات، ويتوجّه إلى اللّه والآخرة .

ولذا يقول الرسول الأعظم:

1- «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»(2) .

ودل بعض الأحاديث على أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ نهى عن زيارة القبور في أول الأمر، ولعل النهي كان لأجل أن الأموات يوم ذاك كانوا مشركين وعبدة للأصنام، فنهى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن زيارة الأموات، ولمّا كثر الشهداء بين المسلمين وماتت مجموعة كبيرة من المسلمين في المدينة وأطرافها، رخّص النبي بإذن من اللّه سبحانه وقال:

2- «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة»(3) .

____________________________

1 . شفاء السقام ص 107.

2 . سنن ابن ماجة ج 1 ص 113.

3 . السنن لابن ماجة ج 1 ص 114 طبعة الهند _ باب ما جاء في زيارة القبور، وصحيح الترمذي، أبواب الجنائز ج 3 ص 274 .

( 152 )

3- وروى مسلم في صحيحه: «زار النبي قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله... وقال: استأذنت ربّي أن أزورَ قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنّها تذكركم الموت»(1) .

4- وقالت عائشة: «إنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ رخّص

في زيارة القبور»(2) .

5- وقالت: إنّ النبي قال: أمرني ربي أن آتي البقيع فأستغفر لهم. قلت: كيف أقول يا رسول اللّه؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون(3) .

وجاء في أحاديث أُخرى نص الكلمات الّتي كان رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يقولها عند زيارة القبور، وهي:

6- «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا وإياكم متواعدون غدا ومواكلون، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد»(4) .

وجاء في حديث آخر نص الكلمات بما يلي:

7- «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله العافية لنا ولكم»(5) .

وفي حديث ثالث:

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 3 ص 65 باب استئذان النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ربه عزّوجلّ في زيارة قبر أُمه .

2 . صحيح ابن ماجة ج 1 ص 114 .

3 . صحيح مسلم ج 3 ص 64، باب ما يقال عند دخول القبور، السنن للنسائي ج 3 ص 76.

4 . السنن للنسائي ج 4 ص 76 _ 77 .

5 . السنن النسائي ج 4 ص 56 _ 77 .

( 153 )

8- «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون»(1) .

ويستفاد من حديث عائشة أن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كان يخرج إلى البقيع في آخر الليل من كل ليلة، ويقول:

9- «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد»(2) .

ويستفاد من حديث آخر أنّ النبي

_ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كان يزور المقابر مع جماعة من أصحابه، ويعلمهم كيفية الزيارة:

10- «كان رسول اللّه يعلمهم _ إذا خرجوا إلى المقابر _ فكان قائلهم يقول: السلام على أهل الديار _ أو _ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء اللّه لاحقون، أسأل اللّه لنا ولكم العافية»(3) .

النساء وزيارة القبور

ولعل هنا من يتوهم أن الزيارة تسوغ للرجال دون النساء، لما روي عن النبي: لعن رسول اللّه زوارات القبور(4) .

ويناقض هذا الحديث ما نقله مسلم في صحيحه والنسائي في سننه أنّ النبي زار البقيع مع حليلته عائشة، وعلّمها كيفية الزيارة كما مرّ في الرقم (5) من الروايات، ولأجل ذلك يجب أن يعالج هذا الحديث بشكل خاص وهو التفريق بين زائرات القبور وزواراتها، ولعل الثاني كان مقروناً بأُمور محرّمة كالتبرّج المنهي عنه، أو البكاء بما يقترن بالنوح المحرم، أو غير ذلك من الوجوه الّتي يمكن الجمع بها بين المتعارضين، وإلاّ فأىّ فرق بين الرجل والمرأة في هذا الأمر حتّى تكون لأحدهما جائزة وللاُخرى محرّمة، لولا المحذورات الخاصة؟

____________________________

1 . السنن لأبي داود ج 2 ص 196 .

2 . صحيح مسلم ج 3 ص 63 باب ما يقال عند القبور .

3 . صحيح مسلم ج 3 ص 11، باب ما يقال عند دخول القبر .

4 . صحيح ابن ماجة ج 1 ص 478، كتاب الجنائز الطبعة الأولى بمصر .

( 154 )

أضف إلى ذلك جريان السيرة بين المسلمين حتّى في نفس عصر الصحابة والتابعين على زيارة السيدات لقبور أعزائها، فهذه السيدة فاطمة الزهراء _ عليها السَّلام _ كانت تخرج إلى زيارة قبر عمها حمزة في كل جمعة، أو أقلّ من ذلك، وكانت تصلّي

عند قبره وتبكي(1) .

وهذه عائشة زوجة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ لما جاءت إلى مكة خرجت لزيارة قبر أخيها عبدالرحمن بن أبي بكر، وأنشدت بيتين من الشعر في رثائه(2) .

هذا كله في زيارة قبور المسلمين، وأمّا زيارة أوليائهم من النبي والأئمة والشهداء والصالحين فلا شك أنّ لزيارتهم نتائج بنّاءة، نشير إليها:

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هو نوع من الشكر والتقدير لتضحياتهم، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحق والهدى والفضيلة، والدفاع عن المبدأ والعقيدة، وهذا لا يدفعنا إلى زيارة قبورهم وحدها، بل يدفعنا إلى إبقاء ذكرياتهم حيّة ساخنة، والمحافظة على آثارهم، وإقامة المهرجانات في ذكرى مواليدهم، وعقد المجالس وإلقاء الخطب المفيدة في أيام رحلاتهم، وهذا شيء مما يدركه كل ذي مسكة، فلأجل ذلك نرى أنّ أبناء الأُمم الحية يتسابقون في زيارة مدافن رؤسائهم وشخصياتهم الذين ضحوا أنفسهم و أموالهم في سبيل إحياء الشعب و اسقلاله، و نجاته من يد المستعمرين والظالمين، ويقيمون الذكريات المئوية لإحياء معالمهم وآثارهم وأسمائهم، ولا يخطر ببال أحد أنّ هذه الأُمور عبادة لهم، فأين التعظيم والتعزيز للشخصيات من عبادتهم؟ فإنّ التعظيم تقدير لجودهم، والعبادة رمز لألوهيتهم وربوبيتهم، فهل منّا من يخلط بين الأمرين؟

إذا وقفت على الآثار البنّاءة لزيارة مطلق القبور، وزيارة قبور الأولياء والصالحين، وتعرّفت على مجموعة من الروايات الحاثّة على زيارة قبور دار

____________________________

1 . مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 277 .

2 . صحيح الترمذي ج 4 ص 275، كتاب الجنائز باب ما جاء في زيارة القبور .

( 155 )

المؤمنين، فلنذكر خصوص ما ورد من الروايات الّتي فيها الحث على زيارة قبر النبي الأعظم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

قد نقل

قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن عبدالكافي السبكي 15 حديثاً في ذلك المجال وتكلم في أسنادها و صحّح كثيراً منها (1) .

كما قام العلامة السمهودي المتوفّى سنة (911 ه_) في كتابه القيم (وفاء الوفاء بأحوال دار المصطفى) بنقل روايات كثيرة في ذلك المجال(2) .

كما أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في مصر العزيزة في العصر الحاضر أفتوا بأن زيارة قبر النبي أفضل المندوبات. ورد فيها أحاديث. وقد اعتمدوا على رواية عبداللّه بن عمر عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(3).

وبما أنّ العلامة الأميني قد تحمّل جهوداً جبارة في جمع الأحاديث الواردة حول زيارة النبي الأكرم، والفحص عن مظانّها ومصادرها من أقدم العصور إلى عصرنا هذا، فنحن _ تقديراً لجهوده الجبارة ومثابرته الجليلة في هذا الطريق _ ننقل عن تلك الموسوعة نفس الروايات ومصادرها. قال قدس سره:

(1)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

أخرجته أُمة من الحفاظ وأئمة الحديث، منهم:

1- عبيد بن محمد أبو محمد الوراق النيسابوري المتوفى سنة (255 ه_) .

2- ابن أبي الدنيا أبو بكر عبدالله بن محمد القرشي المتوفى سنة (281 ه_).

____________________________

1 . شفاء السقام في زيارة خير الأنام، ص 3 _ 34، الباب الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة .

2 . وفاء الوفاء ج 4 ص 1336 .

3 . الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 505 .

( 156 )

3- الدولابي أبو بشر محمد الرازي المتوفى سنة (310 ه_) في الكنى والأسماء ج 2 ص 64 .

4- محمد بن إسحاق أبو بكر النيسابوري المتوفى سنة (311 ه_) الشهير بابن خزيمة، أخرجه في صحيحه .

5- الحافظ محمد بن عمرو أبو جعفر

العقيلي المتوفى سنة (322 ه_) في كتابه .

6- القاضي المحاملي أبو عبداللّه الحسين البغدادي المتوفى سنة (330 ه_) .

7- الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفى سنة (365 ه_) في الكامل.

8- الحافظ أبو الشيخ أبو محمد عبداللّه بن محمد الأنصاري المتوفى سنة (369 ه_) .

9- الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_) في سننه .

10- أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة (450 ه_) في «الأحكام السلطانية» ص 105 .

11- الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) في «السنن» وغيره .

12- القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي الشافعي المتوفى سنة (492 ه_) في فوائده .

13- الحافظ إسماعيل بن محمد بن الفضل القرشي الإصبهاني المتوفى سنة (535 ه_) .

14- القاضي عياض المالكي المتوفى سنة (544 ه_) في «الشفاء» .

15- الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر المتوفى سنة (571 ه_)، في تاريخه في باب (من زار قبره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وهذا الباب أسقطه المهذب من الكتاب في طبعه، واللّه يعلم سر تحريفه هذا وما أضمرته سريرته .

16- الحافظ أبو طاهر أحمد بن السلفي المتوفى سنة (576 ه_) .

17- أبو محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأندلسي المتوفى سنة

( 157 )

(581 ه_) الأحكام الوسطى والصغرى(1).

18- الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه_) في «مثير الغرام الساكن» .

19- الحافظ علي بن مفضل المقدسي الإسكندراني المالكي المتوفى سنة (611 ه_) .

20- الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة (648 ه_) .

21- الحافظ أبو محمد عبدالعظيم المنذري المتوفى سنة (656 ه_).

22- الحافظ أبو الحسين يحيى بن علي القرشى الأموي المالكي المتوفى سنة (662 ه_). في كتابه «الدلائل المبينة في فضائل المدينة».

23- الحافظ أبو

محمد عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705 ه_).

24- الحافظ أبو الحسين هبة اللّه بن الحسن .

25- أبو الحسن يحيى بن الحسن الحسيني في كتاب «أخبار المدينة» .

26- أبو عبداللّه محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج المتوفى سنة (737 ه_)، في «المدخل» ج 1 ص 261 .

27- تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة (756 ه_)، بسط القول في ذكر طرقه في شفاء السقام، ص 3 _ 12 وقال في ص 8: والرواة جميعهم إلى موسى بن هلال ثقاة لا ريبة فيهم، وموسى بن هلال، قال ابن عدي: أرجو أنه لا باس به، هو من مشايخ أحمد، وأحمد لم يكن يروي إلاّ عن ثقة، وقد صرح الخصم بذلك في الرد على البكري .

ثم ذكر شواهد لقوة سنده فقال: وبذلك تبين أن اقل درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن نوزع في دعوى صحته، إلى أن قال: وبهذا بل

____________________________

1 . قال في خطبة الأحكام الصغرى: أنه تخيرها صحيحة الأسناد معروفة عند النقاد، قد نقلها الإثبات وتداولها الثقاة، وقال في خطبة الوسطى: إنَّ سكوته عن الحديث دليل على صحته... الخ راجع (شفاء السقام) ص 9 .

( 158 )

بأقل منه يتبين افتراء من ادّعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة، فسبحان اللّه! أما الستحي من اللّه ومن رسوله في هذه المقالة الّتي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث ولا من غيرهم؟ ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديثه هذا بالوضع، ولا اتهمه به فيما علمنا، فكيف يستجيز مسلم أن يطلق على كل الأحاديث الّتي هو واحد منها موضوعة، ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله، ولا

ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع، ولا حكم متنه بما يخالف الشريعة، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً؟ فكيف وهو حسن وصحيح .

28- الشيخ شعيب عبداللّه بن سعد المصري، ثم المكي الشهير بالحريفيش المتوفى سنة (801 ه_) في «الروض الفائق» ج 2 ص 137 .

29- السيد نور الدين علي بن عبداللّه الشافعي القاهري السمهودي(1) المتوفى سنة (911 ه_) في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 394 .

30- الحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطي المتوفى سنة (911 ه_) في «الجامع الكبير» كما في ترتيبه: ج 8 ص 99 .

31- الحافظ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني(2) المتوفى سنة (923 ه_)، في «المواهب اللدنية» من طريق الدارقطني، وقال: رواه عبد الحق في أحكامه الوسطى والصغرى وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيه دليل على صحته .

32- الحافظ ابن الدبيغ أبو محمد الشيباني المتوفى سنة (944 ه_)، في «تمييز الطيب من الخبيث» ص 162 .

33- الشيخ شمس الدين محمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة (977 ه_)، في «المغني» ج 1 ص 494 عن صحيح ابن خزيمة .

34- زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031 ه_)، في «كنوز

____________________________

1 . السمهود قرية كبيرة غربي نيل مصر .

2 . نسبة إلى قسطلة بلدة بالأندلس .

( 159 )

الحقائق» ص 141، وشرح الجامع الصغير للسيوطي ج 6 ص 140 .

35- الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة (1078 ه_)، في «مجمع الأنهر» ج 1 ص 157.

36- أبو عبداللّه محمد بن عبدالباقي الزرقاني المصري المالكي المتوفى سنة (1122 ه_) في «شرح المواهب» ج 8 ص 298 نقلا عن أبي الشيخ وابن أبي الدنيا .

37- الشيخ إسماعيل بن محمد الجراحي العجلونيي المتوفى

سنة (1162 ه_)، في «كشف الخفاء» ج 2 ص 250 نقلا عن أبي الشيخ، وابن أبي الدنيا، وابن خزيمة.

38- الشيخ محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة (1250 ه_)، في «نيل الأوطار» ج 4 ص 325 نقلا عن غير واحد من أئمة الحديث .

39- الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني المتوفى سنة (1276 ه_) في «حسن الأثر» ص 246 .

40- السيد محمد بن عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة (1307 ه_)، في «مصباح الظلام» ج 2 ص 144 .

41- عدة من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر اليوم في «الفقه على المذاهب الأربعة» ج 1 ص 590 .

(2)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من جاءني زائراً لا تعمله إلاّ زيارتي، كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة. وفي لفظ: لا تحمله إلاّ زيارتي. وفي آخر: لم تنزعه حاجة إلاّ زيارتي وفي رابع: لا ينزعه إلاّ زيارتي كان حقاً على اللّه عزّوجلّ، وفي خامس للغزالي: لا يهمه إلاّ زيارتي أخرجه جمع من الحفاظ لا يستهان بهم وبعدتهم منهم:

1- الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان السكن البغدادي المتوفى بمصر

( 160 )

سنة (353 ه_) في كتابه «السن الصحاح» جعل في آخر كتاب الحج (باب ثواب من زار قبر النبي) ولم يذكر في الباب غير هذا الحديث. قال السبكي في «شفاء السقام» ص 16: وذلك منه حكم بأنه مجمع على صحته بمقتضى الشرط الّذي شرطه في الخطبة، وابن السكن هذا إمام حافظ ثقة كثير الحديث واسع الرحلة... الخ .

قال في خطبة كتابه: اما بعد: فإنك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة الّتي نقلها الأئمة من أهل البلدان، الذين لا يطعن عليهم طاعن فيما نقلوه، فتدبرت ما

سألتني عنه فوجدت جماعة من الأئمة قد تكلفوا ما سالتني من ذلك وقد وعيت جمع ما ذكروه، وحفظت عنهم أكثر ما نقوله، واقتديت بهم، وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك، وجعلته أبواباً في جميع ما يحتاج إليه من احكام المسلمين، فأول من نصب نفسه لطلب صحيح الآثار: البخاري وتابعه مسلم، وأبو داود، والنسائي وقد تصفحت ما ذكروه وتدبرت ما نقلوه فوجدتهم مجتهدين فيما طلبوه، فما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته، وما ذكرته بعد ذلك مما يختاره أحد من الأئمة الذين سميتهم، فقد بينت حجته في قبول ما ذكره، ونسبته إلى اختياره دون غيره، وما ذكرته مما يتفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بينت علته، ودللت على انفراده دون غيره، وباللّه التوفيق .

2- الحافظ أبوالقاسم الطبراني المتوفى سنة (360 ه_)، أخرجه في معجمه الكبير .

3- الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري الإصبهاني المتوفى سنة (381 ه_)، في معجمه .

4- الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_)، أخرجه في أماليه .

5- الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى سنة (402 ه_).

6- القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي الشافعي المتوفى سنة (492 ه_) صاحب «الفوائد» .

( 161 )

7- حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة (505 ه_)، في «إحياء العلوم» ج 1 ص 246 .

8- الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة (571 ه_)، صاحب «تاريخ الشام» .

9- الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة (648 ه_) .

10- الحافظ يحيى بن علي القرشي الأموي المالكي المتوفى سنة (622 ه_) .

11- الحافظ أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد في كتابه .

12- تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة (756

ه_) فصل القول في طرق هذا الحديث، وأخرجه من طرق شتى وصححه في «شفاء السقام» ص 13 _ 16 .

13- السيد نور الدين علي بن عبداللّه الشافعي القاهري السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 396، ذكره من طرق شتى، منها طريق الحافظ ابن السكن فقال: ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع على صحته ثم قال: قلت: ولهذا نقل عنه جماعة منهم الحافظ زين الدين العراقي أنه صححه... الخ .

14- أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة( 924 ه_)، في «المواهب اللدنية» وقال: صححه ابن السكن .

15- الشيخ محمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة (977 ه_)، في «مغني المحتاج» شرح المنهاج ج 1 ص 494 وقال: رواه ابن السكن في سننه الصحاح المأثورة .

16- الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة (1078 ه_)، في «مجمع الأنهر» ج 1 ص 157.

(3)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» وفي غير واحد من طرقه زيادة: وصحبني. أخرجه جمع من الحفاظ منهم:

( 162 )

1- الحافظ عبد الرزاق أبو بكر الصنعاني المتوفى سنة (211 ه_) .

2- الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان الشيباني المتوفى سنة (303 ه_) .

3- الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي المتوفى سنة (307 ه_) في مسنده .

4- الحافظ أبو القاسم عبداللّه بن محمد البغوي سنة (317 ه_) .

5- الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة (360 ه_) .

6- الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفى سنة (365 ه_) في «الكامل» .

7- الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري المتوفى سنة (381 ه_) .

8- الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_)،

في سننه وغيرها.

9- الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) في سننه ج 5 ص 246 .

10- الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة (571 ه_) في تاريخه .

11- الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه_) في «مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن» .

12- الحافظ أبو عبداللّه بن النجار البغدادي المتوفى سنة (643 ه_)، في كتابه «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» .

13- الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة (648 ه_) .

14- الحافظ أبو محمد عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705 ه_).

15- أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحداد في كتابه .

16- الحافظ أبو الحسين المصري .

17- ولي الدين الخطيب التبريزي في «مشكاة المصابيح» المتوفى سنة (737 ه_)، في باب حرم المدينة في الفصل الثالث .

18- تقي الدين السبكي المتوفي سنة (756 ه_)، بسط القول في طرقه في «شفاء السقام» ص 16 - 21 ورواه عن كثير من هؤلاء الحفاظ المذكورين وغيرهم .

( 163 )

19- الشيخ شعيب عبداللّه المصري الحريفيش المتوفى سنة (801 ه_)، في «الروض الفائق» ج 2 ص 137 .

20- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، فصل القول في طرقه في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 397 .

21- الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911 ه_)، في «الجامع الكبير» كما في ترتيبه ج 8 ص 99 .

22- قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المتوفى سنة (1069 ه_)، في شرح الشفاء للقاضي عياض ج 3 ص 567 .

23- الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة (1078ه_)، في «مجمع الأنهر» ج 1 ص 157 .

24- الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة (1250 ه_)، في «نيل الأوطار» ج 4 ص 325 .

25- السيد محمد بن

عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة (1307 ه_)، في «مصباح الظلام» ج 2 ص 144 .

(4)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» أخرجه جمع منهم:

1- الحافظ أبو حاتم محمد بن حبَّان التميمي البستي المتوفى سنة (354 ه_)، في «الضعفاء» .

2- الحافظ ابن عدي المتوفى سنة (365 ه_)، في «الكامل» .

3- الحافظ الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_)، في كتابه أحاديث مالك الّتي ليست في الموطأ .

4- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (765 ه_)، من غير طريق في «شفاء

( 164 )

السقام» ص 22، وردّ حكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع .

5- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (921 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 398.

6- أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة (922 ه_)، في «المواهب اللدنية» نقلا عن ابن عدي، وابن حبان، والدارقطني.

7- الشيخ اسماعيل الجراحي العجلوني المتوفى سنة (1162 ه_)، في «كشف الخفاء» ج 2 ص 278 نقلا عن ابن عدي، وابن حبان، والدارقطني .

8- الشيخ المرتضى الزبيدي الحنفي المتوفى سنة (1205 ه_)، في «تاج العروس» ج 10 ص 74 .

9- الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة (1250 ه_)، في «نيل الأوطار» ج 4 ص 325 .

(5)

عن عمر مرفوعاً: «من زار قبري (أو من زارني) كنت له شفيعاً (أو شهيداً) ومن مات في أحد الحرمين بعثه اللّه عزّوجلّ في الآمنين يوم القيامة» أخرجه:

1- الحافظ أبو داود الطياليسي المتوفى سنة (204 ه_)، في مسنده ج 1 ص 12 .

2- الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى سنة (430 ه_) .

3- الحافظ البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) في «السنن الكبرى» ج 5 ص 245 .

4- الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة (571 ه_)، في «تاريخ

الشام» .

5- الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة (648 ه_) .

( 165 )

6- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 22 .

7- نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 399 .

8- أبوالعباس القسطلاني المتوفى سنة (923 ه_)، في «المواهب اللدنية».

9- الحافظ ابن الدبيع المتوفى سنة (944 ه_)، في «تمييز الطيب» ص 162 .

10- زين الدين عبدالرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031 ه_)، في «كنوز الحقائق» ص 141 .

11- الشيخ إسماعيل العجلوني المتوفى سنة (1162 ه_)، في «كشف الخفاء» ج 2 ص 278 .

(6)

عن حاطب بن أبي بلتعة مرفوعاً: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة من الآمنين». أخرجه:

1- الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_)، في «السنن» .

2- الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) .

3- الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة (571 ه_) .

4- الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي المتوفى سنة (648 ه_) .

5- الحافظ أبو عبداللّه عبدالمؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705 ه_) .

6- أبو عبداللّه العبدري المالك ابن الحاج المتوفى سنة (737 ه_)، في «المدخل».

7- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 25 .

( 166 )

8- الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة (810 ه_)، في «الروض الفائق» ج 2 ص 137 .

9- نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 399 .

10- أبو العباس القسطلاني المتوفى سنة (923 ه_) في «المواهب اللدنية» عن البيهقي .

11- الجراحي العجلوني المتوفى سنة (1162 ه_)، في «كشف الخفاء» ج 2 ص 551 عن ابن

عساكر والذهبي، وحكى عن الأخير أنّه قال: إنّ هذا الحديث من أجود أحاديث الباب إسناداً.

12- الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة (1250 ه_) في «نيل الأوطار» ج 4 ص 325 .

13- الشيخ محمد بن درويش الحوت البيروني المتوفى سنة (1276 ه_)، في «حسن الأثر» ص 246 .

(7)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من حج حجة الإسلام وزار قبري، وغزا غزوة وصلى علىّ في بيت المقدس لم يسأل اللّه عزوجل فيما افترض عليه» .

أخرجه الحافظ محمد بن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي المتوفى سنة (374 ه_)، في فوائده، ورواه عنه الحافظ السلفي أبو طاهر الإصبهاني المتوفى سنة (576 ه_) بإسناده، وأخرجه بالطريق المذكور تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_) في «شفاء السقام» ص 25، وذكره السيد السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 400 والشيخ محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة (1250 ه_)، في «نيل الأوطار» ج 4 ص 326 .

(8)

عن أبي هريرة مرفوعاً: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي،

( 167 )

ومن زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» أخرجه:

1- الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه المتوفى سنة (416 ه_).

2- الحافظ أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن الإصبهاني المتوفى سنة (540 ه_).

3- أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في فوائده المتوفى سنة (552 ه_) .

4- الحافظ أبو سعد عبدالكريم السمعاني الشافعي المتوفى سنة (562 ه_) .

5- ابن الأنماطي إسماعيل بن عبداللّه الأنصاري المالكي المتوفى سنة (619 ه_) .

6- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_) في «شفاء السقام» ص 26 .

7- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص

400 .

(9)

عن أنس بن مالك مرفوعاً: «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً». وفي رواية أُخرى عنه أيضاً:

«من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة».

وفي لفظ ثالث له زيادة: وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة. أخرجته أُمة من الحفاظ منهم:

1- ابن أبي فديك محمد بن إسماعيل المتوفى سنة (200 ه_) .

2- ابن أبي الدنيا أبو بكر القرشي المتوفى سنة (281 ه_) .

3- الحافظ أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري المتوفى سنة (405 ه_) .

4- الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) في «شعب الإيمان» .

5- القاضي عياض المالكي المتوفى سنة (544 ه_) في «الشفاء» .

( 168 )

6- الحافظ علي بن الحسن الشهير بابن عساكر المتوفى سنة (571 ه_) .

7- الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه_) في «مثير الغرام الساكن» .

8- الحافظ عبد المؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705 ه_) .

9- أبو عبداللّه العبدري المالكي ابن الحاج المتوفى سنة (737 ه_) في «المدخل» ج 1 ص 261 .

10- شمس الدين أبو عبداللّه الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة (751 ه_)، في «زاد المعاد ج 2 ص 47» .

11- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 27 .

12- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 400 .

13- أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة (923 ه_) في «المواهب اللدنية» .

14- جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911 ه_)، في «الجامع الكبير» كما في ترتيبه ج 8 ص 99 .

15- الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة (1078 ه_)، «مجمع الأنهر» ج 1 ص 157 بلفظ:

«من زارني في المدينية متعمداً كان في جواري إلى يوم القيامة» .

16- الشيخ محمد الشوكاني المتوفى سنة (1250 ه_)، في «نيل الأوطار» ج 4 ص 326 .

17- أبو عبداللّه الزرقاني المالكي المتوفى سنة (1122 ه_)، في «شرح المواهب» ج 8 ص 299 .

18- الجراحي العجلوني المتوفى سنة (1162 ه_)، في كشف «الخفاء» ج 2 ص 251 .

( 169 )

19- السيد أحمد الهاشمي في مختار الأحاديث النبوية، ص 169 .

20- السيد محمد بن عبداللّه الدمياطي الشافعي المتوفى سنة (1307ه_)، في «مصباح الظلام» ج 2 ص 144 .

21- الشيخ منصور علي ناصف في «التاج» ج 2 ص 216 .

(10)

عن أنس بن مالك مرفوعاً: «من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» أخرجه:

1- الحافظ أبو عبدالله محمد بن محمود ابن النجار المتوفى سنة (643 ه_)، في كتابه «الدرة الثمينة في فضائل المدينة».

2- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 28 .

3- الحافظ زين الدين العراقي المتوفى سنة (806 ه_)، أشار إليه كما في «المواهب» .

4- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_)، في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 400 .

5- أبو العباس شهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة (923 ه_) في «المواهب اللدنية» .

6- العجلوني المتوفى سنة (1162 ه_)، في «كشف الخفاء» ص 278 .

(11)

عن ابن عباس مرفوعاً: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً، أو قال: شفيعاً».

أخرجه الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة (322 ه_)، في كتاب

( 170 )

«الضعفاء» في ترجمة

فضالة بن سعيد المازني، والحافظ ابن عساكر المتوفى سنة (571 ه_) كما في «شفاء السقام» ص 21، و«وفاء الوفاء» ج 2 ص 401، و«نيل الأوطار» للشوكاني ج 4 ص 325 _ 326 .

(12)

عن علي أميرالمؤمنين مرفوعاً وغير مرفوع: «من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزر قبري فقد جفاني» أخرجه:

1- أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر الحسني في كتابه «أخبار المدينة» .

2- أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري الخركوشي المتوفى سنة (406 ه_)، في «شرف المصطفى» .

3- الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة (571 ه_) .

4- الحافظ أبو عبداللّه ابن النجار المتوفى سنة (643 ه_) في كتاب «الدرة الثمينة» .

5- الحافظ عبد المؤمن الدمياطي المتوفي سنة (705 ه_) .

6- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 29 .

7- الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة (801 ه_)، في «الروض الفائق» ج 2 ص 137 .

8- السيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة (911 ه_) في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 401 .

9- زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031 ه_) في «كنوز الحقائق» ص 141 .

(13)

عن بكر بن عبداللّه مرفوعاً: «من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي

( 171 )

يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً».

أخرجه أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسني في كتابه «أخبار المدينة» كما في «شفاء السقام» للسبكي ص 30، و «وفاء الوفاء» للسمهودي، ج 3 ص 402 .

(14)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» أخرجه:

1- الحافظ سعيد بن منصور النسائي أبو عثمان الخراساني المتوفى سنة (227 ه_).

2- الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة (360 ه_) .

3- الحافظ

أبو أحمد ابن عدي المتوفى سنة (365 ه_) .

4- الحافظ أبو الشيخ الأنصاري المتوفى سنة (369 ه_) .

5- الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_) .

6- الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_) .

7- القاضي عياض المالكي المتوفى سنة (544 ه_) .

8- قاضي القضاة الخفاجي الحنفي المتوفى سنة (1069ه_)، في شرح الشفاء ج 3 ص 565 نقله عن البيهقي، والدارقطني، والطبراني، وابن منصور.

9- زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031 ه_)، في «كنوز الحقائق» ص 141 بلفظ: «من زار قبري بعد موتي».

10- العجلوني المتوفي سنة (1162 ه_) في «كشف الخفاء» ج 2 ص 251، نقلا عن أبي الشيخ، والطبراني، وابن عدي، والبيهقي .

(15)

عن ابن عباس مرفوعاً: «من حجّ إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان» .

أخرجه الفردوس في مسنده كما في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 401 و«نيل الأوطار» ج 4 ص 326 .

( 172 )

(16)

عن رجل من آل الخطاب مرفوعاً: «من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه اللّه في الآمنين (من الآمنين)». وزاد الشحامي عقب قوله «يوم القيامة»: «ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» روي بأسناده. فيه من الحفاظ. :

1- الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة (322 ه_) .

2- الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385 ه_) .

3- الحافظ أبو عبداللّه الحاكم المتوفى سنة (405 ه_) .

4- الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفى سنة (458 ه_)، في «شعب الإيمان» .

5- الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة (571 ه_) .

6- الحافظ أبو محمد بن المؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705 ه_)، وأخرجه من طريق هؤلاء الحفاظ .

7- ولي

الدين الخطيب العمري التبريزي في «مشكاة المصابيح» المتوفى سنة (737 ه_) في باب حرم المدينة في الفصل الثالث .

8- تقي الدين السبكي المتوفى سنة (756 ه_)، في «شفاء السقام» ص 24 وقال: مرسل جيد، ورواه عنه السيد نور الدين السمهودي في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 399 .

(17)

عن عبداللّه بن عمر مرفوعاً: «من زارني بالمدينة كنت له شهيداً وشفيعاً»، أخرجه الحافظ الدارقطني بأسناده في «السنن» كما في «وفاء الوفاء» ج 2 ص 398 .

( 173 )

(18)

روي عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، قال: «من وجد سعة ولم يفد «يغد» إلي فقد جفاني».

ذكره ابن فرحون في مناسكه، والغزالي في «الإحياء» ج 1 ص 246، والقسطلاني في «المواهب اللدنية»، والعجلوني في «كشف الخفاء» ج 2 ص 278 .

(19)

قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «من زارني بعد وفاتي وسلم علىّ رددت عليه السلام عشراً، وزاره عشرة من الملائكة، كلهم يسلمون عليه، ومن سلم علىّ في بيته رد اللّه تعالى علي روحي حتّى أسلم عليه» .

ذكره الشيخ شعيب الحريفيش المتوفى سنة (801 ه_) في «الروض الفائق» ج 2 ص 137 .

(20)

عن أبي عبداللّه محمد بن العلاء رحمه اللّه قال: دخلت المدينة وقد غلب علي الجوع، فزرت قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وسلمت عليه وعلى الشيخين رضي اللّه عنهما وقلت: يا رسول اللّه جئت وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلاّ اللّه عزّوجلّ، وأنا ضيفك في هذه الليلة، ثم غلبني النوم فرأيت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه ثم انتبهت من المنام وفي يدي نصفه الآخر، فتحقق

عندي قول النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإنّ الشيطان لا يتمثل بي». ثم نوديت: يا أبا عبداللّه: «لا يزور قبري أحد إلاّ غفر له ونال شفاعتي غداً».

ذكره الشيخ شعيب الحريفيش في «الروض الفائق» ج 2 ص 138 فقال في المعنى

من زار قبر محمد * نال الشفاعة في غد

باللّه كرر ذكره * وحديثَهُ يا منشدي

واجعل صلاتك دائماً * جهراًعليه تهتدي

( 174 )

فهو الرسول المصطفى * ذو الجود والكف الندي

وهو المشفع في الورى * من هول يوم الموعد

والحوض مخصوص به * في الحشر عذب المورد

صلى عليه ربنا * ما لاح نجم الفرقد

(21)

مرفوعاً عنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «لا عذر لمن كان له سعة من أُمتي ولم يزرني». رواه الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده في «مجمع الأنهر» في شرح ملتقى الأبحر ص 157، وَعَدّهُ من أدلة الباب من دون غمز فيه.

(22)

عن أميرالمؤمنين علىّ _ عليه السَّلام _ : «من زار قبر رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كان في جواره» أخرجه ابن عساكر كما في «نيل الأوطار» للشوكاني ج 4 ص 326 .

* * *

وبعد هذه النصوص المتضافرة لا حاجة إلى نقل كلمات أعلام المذاهب الإسلامية حول زيارة النبي الأقدس، وهي وافرة، وقد نقلنا شطراً منها عند البحث عن شدّ الرحال إلى زيارته، فمن أراد أن يقف على تلك النصوص فليرجع إلى الأثر القيم «الغدير» للعلامة الأميني(1) .

وأخيراً نذكر كلام محمد بن عبدالوهاب، مجدد مذهب ابن تيمية في المقام قال: «تسن زيارة النبي إلاّ أن لا تشد الرحال إلاّ إلى زيارة المسجد والصلاة فيه» (2) .

انظر كيف يسير إثر أُستاذه في

المنهج حذو النعل بالنعل.

إلى هنا اتضح الحق بأجلى مظاهره، وبقي هنا أمر وهو دفع ما أثار ابن

____________________________

1 . الغدير ج 5 ص 109 _ 129 .

2 . الهدية السنية، الرسالة الثانية..

( 175 )

تيمية من الشبهة في زيارة النبي الأكرم الّتي أشرنا إليها في صدر البحث وهي:

1- كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.

2- كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك .

أمّا الشبهة الأُولى فهي باطلة من رأس، وذلك لأنّ البدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين، فهل يمكن لأحد بعد هذه النصوص المتضافرة، التقوّل بأنّه لم يرد في الدين شيء حول زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ لم يامر بها؟ كيف وقد أمر هو بزيارة القبور؟ فهل يُتصوّر أنه لا يعادل زيارته زيارة قبر مسلم؟ (كَبُرَت كَلِمةٌ تَخْرُجُ مِنْ أفواهِهِم)وقد أمر النبي بزيارة قبور المؤمنين .

وأمّا الشبهة الثانية فنقول: كيف تكون زيارة النبي مفضية إلى الشرك مع أنّ زيارة قبر نبي التوحيد، استشعار لحقيقته، وتقديس لمعناه؟ فإنّ التقديس الّذي يتصل بالرسل إنما هو من فكرتهم وهدايتهم. فالتقديس لمحمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ تقديس للمعاني الّتي دعا إليها وَحَثَّ عليها، فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لأي معنى من معاني الوثنية، وهو يستعبر ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة؟

فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدي ذلك إلى الوثنية بمضي الأعصار والدهور فإنه خوف من غير جهة، لأنّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول إلى أول القرن الثامن، ثم باتوا إلى العصور من بعده إلى يومنا هذا، ومع ذلك لم ينظر أحد إليه نظر عبادة أو وثنية، ولو أفرط بعض العوام

فذلك لا يمنع تلك الذكريات العطرة، بل يجب إرشادهم وتفهيمهم لا منعهم من الزيارة ولا تكفيرهم .

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري :

«إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارته يدل على ضغينة كامنة فيه نحو الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وكيف يتصوّر الإشراك بسبب الزيارة،

( 176 )

والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسوله، وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقل تقدير، إدامة لذكرى ذلك، ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شؤونهم، ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شيء، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية، وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس»(1) .

ثم إنّ آخر ما في كنانة ابن تيمية وأتباعه في عدّ الزيارة بدعة وتقسيمها إلى قسمين، ما رواه أحمد في مسنده، وهو أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قال: أللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد(2).

وسيوافيك الكلام في معنى الحديث عند البحث عن الاحتفال بميلاد النبي، ولا صلة لهذا الحديث بالزيارة، والزائر المسلم لا يعبد النبي ولا يعبد قبره، كما هو واضح، بل يعبد اللّه سبحانه، وإنما يزور قبر نبيه كما يزور قبور آبائه وأجدادهم من غير فرق، غير أنّه يترتب على زيارة قبر نبي التوحيد ما لا يترتب على غيره .

* * *

(أُولَئِكَ الَّذينَ هَدَى اللّه فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه)(3) .

____________________________

1 . تكملة السيف الصقيل ص 158 .

2 . مسند أحمد ج 3 ص 248 .

3 . سورة الأنعام: الآية 90 .

ابن تيمية والبناء على القبور

ابن تيمية

والبناء على القبور

إنّ إبن تيمية هو أول من أفتى بحرمة البناء على القبور، سواء أكان صاحب القبر صالحاً أم طالحاً، وإليك نصه:

قال: وقد اتفق أئمة الإسلام على:

1- أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد الّتي على القبور .

2- ولا يشرع اتخاذها مساجد .

3- ولا تشرع الصلاة عندها .

4- ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة واعتكاف، أو استغاثة وابتهال، ونحو ذلك، وكرهوا الصلاء عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة لأجل النهي عنها... إلى أن قال: وإنما دين اللّه تعالى تعظيم بيوت اللّه وحده، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلاة جماعة وغير جماعة، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء له.. وذكر بعض الآيات الواردة في تعظيم المساجد، وعدّ منها قوله تعالى:

(في بُيُوت أذنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيها اسْمُهُ، يُسَبّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ* رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهم تِجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإقامِ الصّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيه القُلُوبُ وَ الأبْصَارُ)(1) .

____________________________

1 . سورة النور: الآية 36 _ 37 وقد أفتى في كلامه هذا بحرمة أمور اربعة، سنبحث عنها واحداً بعد واحد إلاّ مسألة قصد المشاهد، لما استوفينا الكلام فيه عند البحث عن قصد السفر إلى زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

( 178 )

وأمّا اتّخاذ القبور أوثاناً فهو من دين المشركين(1) .

يقول تلميذه ابن القيم: يجب هدم المساجد الّتي بنيت على القبور، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً(2) .

وعلى هذا الأصل لمّا استولى السعوديون على الحرمين الشريفين هدموا المراقد المقدسة في البقيع، وبيوت أهل البيت، بعدما رفعوا سؤالا إلى علماء المدينة المنورة، وإليك السؤال والجواب:

السؤال: ما قول علماء المدينة المنورة _

زادهم اللّه فهماً وعلماً _ في البناء على القبور، واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها، ومنع الصلاة عندها أم لا؟.

وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليه، فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟

الجواب: أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً، لصحة الأحاديث الواردة في منعه، ولذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين بحديث علىّ (رضي اللّه عنه) أنّه قال لأبي الهياج:

«ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه، أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته»(3) .

والامعان في الاستفتاء يعرب عن أنه لم تكن الغاية منه الوقوف على حكم

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 _ 60 طبع مصر، تحت إشراف السيد محمد رشيد رضا .

2 . زاد المعاد في هدى خير العباد، ابن القيم ص 661 .

3 . جريدة أم القرى،وقد نشرت نص الإستفتاء وجوابه في العدد الصادر بتاريخ 17 شوال سنة 1344 ه_ .

( 179 )

اللّه، سواء أكان جائزاً أم حراماً، وإنما كانت الغاية هي أخذ الاعتراف منهم على الحظر، ولأجل ذلك أدرج المستفتي الجواب في السؤال وقال: «بل هو ممنوع منهي عنه نهياً شديداً» وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على أن المستفتي قام على رأس المفتين فأخذ منهم الجواب بالتخويف والتهديد.

ثم إنّ المستفتي أي الشيخ النجدي المعروف بسليمان بن بليهد، يقول في مقال نشرته جريدة «أم القرى» في عددها الصادر في شهر جمادى الآخرة من شهور سنة 1245 هجرية:

«إنّ بناء القباب على مراقد العلماء صار متداولا منذ

القرن الخامس الهجري» .

وهذا ما يكرره علماء الوهابية في دعاياتهم، ويضيفون إلى حديث «أبي الهياج» حديث «جابر» عن النبي الّذي سيوايك بيانه ونقده سنداً ومتناً.

ولأجل إيضاح الحال، نحلل ما جاء في الجواب، من الاستدلال بالإجتماع تارة، والحديث ثانياً، فنقول:

هل هناك إجماع على التحريم؟

إنّ للإجماع الوارد في كلامه احتمالات:

1- الإجماع التقديري، بحجة وجود الحديث الصحيح في الصحاح، بمعنى أنه لو وقف العلماء عليه لأفتوا بمضمونه كما أفتى به المجيب، ولا يخفى أنه غير مفيد، إذ هو فرع كون الحديث صحيحاً سنداً وكاملا من حيث الدلالة على مقصوده عند غيرهم، وكلا الأمرين غير ثابت، بل ثبت خلافهما كما سيوافيك بيانه .

2- الإجماع المحقق، وأنّ العلماء أفتوا في كتبهم بالتحريم حدوثاً وبقاءً، وهذا خلاف نصوصهم; ونكتفي بالنص الوارد في الفقه على المذاهب الأربعة الّذي اتفق عليه علماء أهل السنة في العصر الحاضر، حيث قالوا بكلمة واحدة:

( 180 )

«يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبة أو مدرسة أو مسجد»(1) :

وهذا شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج: أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نص عليه الشافعي والأصحاب(2) .

وتحريم البناء _ عندئذ _ لأجل عنوان عرضي لا ذاتي، وهو المزاحمة لأهداف الواقف وأغراضه .

3- سيرة المسلمين وعملهم منذ أن ارتحل النبي الأكرم إلى يومنا هذا، سوى الوهابيين .

أما سيرة المسلمين فحدّث عنها ولا حرج، فقد دفن النبي الأكرم في بيته الرفيع، ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أن البناء على القبر حرام، وأنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ نهى عنه نهياً شديداً، ولما كان البيت متعلّقاً بزوجته (عائشة) جعلوا في وسطه ساتراً، ولما توفي الشيخان أوصيا بدفنهما

في حجرة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ تبرّكاً بذاته ومكانه، ولم تسمع من أيّ ابن أُنثى نعيرة أنّه حرام ولا مكروه، وعلى ذلك استمرت سيرة المسلمين في حق الصلحاء والأولياء والعلماء، يدفنونهم في البيوت المعدة لذلك، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن تكريماً لهم وتقديراً لتضحياتهم، ولم يخطر ببال أحد أنه على خلاف الدين والشرع .

وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار، ملء المسامع والأبصار على اختلاف نزعاتهم، من بدء الإسلام إلى هذا العصر من الشيعة والسنة، وأىّ بلاد من بلاد الإسلام من مصر أو العراق أو الحجاز أو سوريا، وتونس ومراكش وإيران، وهلمٌ جرّاً ليس فيها قبور مشيدة، وضرائح منجدة وهؤلاء أئمة المذاهب: الشافعي في مصر، وأبو حنيفة في بغداد، ومالك بالمدينة، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب،

____________________________

1 . الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 421 .

2 . صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 كتاب الجنائز طبع مصر .

( 181 )

شامخة المباني غير أنّ الوهابيين لما استولوا على المدينة هدموا قبر مالك. وهذه القبور قد شيدت وبنيت في الأزمنة الّتي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى، وزعماء المذهب، فما أنكر منهم ناكر، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم، بل يعد تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقي، فكل هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك، ولو لم تكن تلك السيرة المسلمة بين المسلمين والعقلاء عامة غير مفيدة في المقام، فلا يصحّ الاستناد إلى أية سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس .

وليس يصحّ في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل

النتائج المحمودة لحفظ الآثار

الإسلامية

إنّ المحافظة على آثار الأنبياء وخاصة آثار النبي الأكرم من قبره وقبور زوجاته وأولاده وأصحابه والشهداء الذين ضحوا بانفسهم في سبيل دينه، نتائج محمودة لا تستغني عنها الأُمة الإسلامية في وقت من الزمن، فإنّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب، ونبيه خاتم الأنبياء، فهي حجة على الناس إلى قيام الساعة الّتي لا يحيط بوقتها إلاّ اللّه تعالى، قال سبحانه:

(قُلْ إنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي، لاَ يُجَلِّيَها لِوَقْتِهَا إلاّ هُوَ)(1) .

فمن الممكن أن تمر على عمر الدنيا، وبالتالي على عمر الشريعة الإسلامية آلاف السنين، فالقضاء على آثار الشريعة ومعالم وجود نبيها يجعلها في معرض التشكيك والتردد، وأنه هل لما يدّعيه المسلمون من الرجة الكبرى ببعث النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ومواقفه وقضاياه وتشريعاته مسحة حق؟ بل ربما تحولها بعد مدة إلى أُسطورة تاريخية، حيث لا يجد الناس بعد حقب من الدهر آثاراً ملموسة من صاحب الشريعة، وليس هذا شيئاً غريباً، وهذه هي المسيحية قد مضى من عمرها عشرون قرناً، وقد تحول المسيح وأُمه العذراء

____________________________

1 . سورة الأعراف: الآية 187 .

( 182 )

وكتابه الإنجيل وتلاميذه إلى أساطير تاريخية، وصار بعض المستشرقين يشككون مبدئياً في وجود رجل اسمه المسيح واسم اُمه مريم وكتابه الإنجيل، وكادوا يعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه اُسطورة (المجنون العامري وليلاه) وما هذا إلا لعدم وجود أثر ملموس منه، ولا من كتابه الواقعي وأصحابه وحوارييه .

وأمّا المسلمون فهم يواجهون العالم مرفوعي الرؤوس، ويقولون: يا أهل العالم قد بعث نبي في ارض الحجاز قبل ألف وأربعمائة سنة، وقدحقق نجاحاً في مهمته، وهذه آثار وجوده وحياته، فهذه هي الدار الّتي ولد فيها، وهذا هو غار حراء، مهبط وحيه في بدء الأمر، وهذا هو البيت الّذي

دفن فيه، وهذه مدارس أولاده و...

فالإبقاء على الآثار الإسلامية وصيانتها من الزوال، صغيرة أو كبيرة، دعم لاستمرار رسالة هذا الدين وبقائه على مدى العصور والأزمان، وتدميرها سبب رئيس لتعريضها للشك والإنكار، وإعانة على أهداف المخالفين .

وقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي وسيرته وسلوكه، حتّى أنهم سجلوا دقائق أُموره وخصائص حياته و مميزات شخصيته إلى درجة أنهم سجلوا حتّى ما يرتبط بخاتمه وحذائه، وسواكه وسيفه، ودرعه، ورمحه، وجواده وإبله وغلامه، والآبار الّتي شرب منها الماء، والأراضي التى وقفها لوجه اللّه سبحانه، و مشيته، وأكله، وشربه، وما يرتبط بلحيته المقدسة وخضابه لها وغير ذلك، ولا زالت آثار البعض باقية إلى يومنا هذا .

ولو كان ابن تيمية موجوداً في تلك الأعصار، وكان ينظر إلى الموضوع بالفكرة التي نشأ عليها، لرمى الصحابة الأجلاء والسلف الصالح بالشرك والوثنية، وزعم أنهم اتخذوا نبيهم وثناً يعبد، ولكن من حسن الحظ أنه لم يكن موجوداً فيها، ولكن كتب السير حافلة بذكرها فليقض عليهم بالحق.

وما أشبه عمل من يدمر الآثار النبوية تحت واجهة قلع الشرك بعمل الصبيان النوكى الذين يتلاعبون بميراث آبائهم بالتمزيق والتدمير، أوالبيع بثمن بخس .

( 183 )

ولأجل أن تعرف مدى شيوع هذه السيرة فارجع إلى ما يكتبه أحد الكتاب الوهابيين ويقول:

«وهذا أمر عمّ البلاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالباً لا تخلو من قبر ومشهد، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام»(1) .

فلو كانت هذه سيرة المسلمين، فما معنى ادّعاء الإجماع على حرمة البناء ووجوب هدمه؟

فلو كان الهدم واجباً فلماذا لم يأمر الخليفة عمر بهدم قبور الأنبياء عندما

فتح المسلمون بيت المقدس؟.

فهل الخليفة تسامح في هذا الأمر الخطير، أم أنه وسائر الصحابة الحضور في الواقعة، وجدوه أمراً مطابقاً للفطرة والشريعة الإسلامية، فلأجل ذلك أبقوها على حالها، وقام المسلمون بصيانتها وحفظها طوال القرون؟ .

إلى هنا تبين أنه لا إجماع في المسألة، بل لم تكن المسألة خلافية إلى عصر ابن تيمية، وقد خالف هو وحده وتبعه تلميذه ابن القيم، وكانت الفتوى مدفونة في الكتب إلى أن أحياها تلميذه في المنهج محمد بن عبدالوهاب، فنبش تلك الدفائن واستخرج هاتيك الكوامن والبذور المهلكة، فأثمرت قتل النفوس، وقطع الرؤوس كما سيوافيك تفصيل هذه الكوارث .

وقد استند ابن تيمية وأتباعه في ادّعاء الحرمة لحديث أبي الهياج، ونحن نذكر متن الحديث بالسند الّذي رواه مسلم في صحيحه.

«حديثنا يحيى بن يحيى، وأبوبكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي

____________________________

1 . تطهير الاعتقاد ص 17 طبع مصر. ثم إنه حاول أن يجيب عن هذا الأمر بما الإعراض عن ذكره أحسن .

( 184 )

ثابت، عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علىّ بن أبي طالب: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه، أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته(1) .

زعم المستدل أن معناه: ولا قبراً عالياً إلاّ سوّيته بالأرض.

والاستدلال به باطل، لأنه ضعيف السند، قاصر الدلالة.

وأمّا السند فيكفي أن علماء الرجال ضعفوا هؤلاء الأربعة الواقعين في السند:

1- وكيع.

2- سفيان الثوري .

3- حبيب بن أبي ثابت .

4- أبو وائل الأسدي(2).

ويكفي في ضعف الحديث أنه رواه أبو الهياج وليس له في الصحاح والمسانيد حديث غير هذا، فكيف يستدل بسند يشتمل على المدلسين والمضعفين والذين لا

يحتج بحديثهم، كما ذكره ابن حجر في ترجمة هؤلاء الأربعة .

وإليك نقل اقوال العلماء في حقهم:

1- وكيع: هو وكيع بن الجراح بن مليح، الرواسي، الكوفي، روى عن عدة منهم سفيان الثوري، وروى عنه جماعة منهم يحيى بن يحيى، وهو مع ما مدحوه نقلوا فيه أيضاً قدحاً كثيراً، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب:

قال عبداللّه بن أحمد عن أبيه (أحمد بن حنبل) قال: سمعت أبي يقول: كان وكيع أحفظ من عبدالرَّحمن بن مهدي كثيراً كثيراً، وقال في

____________________________

1 . صحيح مسلم، ج 3 كتاب الجنائز ص 61، السنن للترمذي ج 2 ص 256، باب ما جاء في تسوية القبور، السنن للنسائي ج 4 باب تسوية القبر ص 88 .

2 . لاحظ تهذيب التهذيب للعسقلاني الأجزاء 3، 4، 11 ص 179، 115، 130، 125 .

( 185 )

موضع آخر: ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع: ووكيع أكثر خطأ منه .

وقال في موضع آخر: أخطأ وكيع في خمسائة حديث .

وقال ابن عماد: قلت لوكيع: عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث غلطت فيها، فقال: حدثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.

وقال علي بن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدث بألفاظه لكان عجباً.

وقال محمد بن نصر المروزي: كان يحدث بآخره من حفظه، فيغيّر ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعنى، ولم يكن من أهل اللسان(1) .

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما مدحه:

قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدث بألفاظه كان عجباً(2).

* * *

2- سفيان الثوري: وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أكثروا المدح في حقه، وقال الذهبي: مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن كان له نقد وذوق، ولا عبرة بقول من قال: يدلس ويكتب عن

الكذابين(3) .

وقال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلس، فلما رآني استحيى، وقال: نرويه عنك؟(4) .

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ قال: أبوبكر، وسمعت يحيى يقول: جهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفاً فما أمكنه(5) .

____________________________

1 . تهذيب التهذيب ج 11 ص 123، 131 .

2 . ميزان الإعتدال ج 4 ص 336 .

3 . ميزان الإعتدال ج 2 ص 169 برقم 3322 .

4 . تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 في ترجمة سفيان .

5 . تهذيب التهذيب ج 11 ص 218 .

( 186 )

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه، وبينه وبينه واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص، ولا حيان بن أياس، ولم يسمع من سعيد بن أبي بردة، وقال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي. وقال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية، يضع ماله حيث يشاء ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً، ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً(1) .

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مدلساً، وعندئذ يكون فاقداً لملكة العدالة، لأنه كان يصور غير الواقع واقعاً.

وقال الإمام الذهبي: قال صاحب الحلية: أخبرنا أبو أحمد الفطريفي، أخبرنا محمد بن أحمد بن مكرم، أخبرنا علي بن عبد الحميد، أخبرنا موسى بن مسعود، أخبرنا سفيان، دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبة خز وكساء خز دخاني، فقلت: يابن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ليس هذا من لباس آبائك قال: كانوا على قدر اقتار الزمان، وهذا زمان قد اسبل عزاليه ثم حسر عن جبّة صوف

تحته، وقال: لبسنا يا ثوري هذا للّه وهذا لكم، فما كان للّه أخفيناه وما كان لكم أبديناه(2) .

إنّ هذا الإعراض يدل على عدم فهمه للأُمور، وعدم معرفته بها .

* * *

3- حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار: تابعي، وثقه بعض، ولكن قال ابن حبان في الثقات: كان مدلساً، وقال العقيلي: غمزه ابن عون، وقال القطان: له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه، وليست محفوظة.

وقال ابن خزيمة في صحيحة: كان مدلساً.

وقال العقيلي: وله عن عطاء أحاديث لا يتابع(3) .

____________________________

1 . تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 والمسائية: العبد المعتق .

2 . تذكرة الحفاظ ج 1 ص 167 .

3 . تهذيب التهذيب ج 2 ص 179 .

( 187 )

وقال ابن حجر ايضاً في تقريب التهذيب:

حبيب بن أبي ثابت: قيس، ويقال: هند بن دينار الأسدي، مولاهم أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة تسع عشرة ومائة(1) .

ونقل ابن حجر عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخط المنذري أنه نقل فيه حديثاً عن أبي كعب في قول جبرئيل: لو جلست معك مثل ما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، وقال، ولم يعله ابن الجوزي إلاّ بعبد اللّه بن عامر الأسلمي شيخ حبيب بن أبي ثابت(2) .

* * *

4- أبو وائل الأسدي: وهو شقيق بن سلمة الكوفي، كان منحرفاً عن علىّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك: علىّ أم عثمان؟ قال: كان علىّ أحبّ إلىّ ثم صار عثمان(3) .

ولفظة «أحب» هناك ليست صيغة التفضيل بل المراد أنه كنت علوياً ثم صرت عثمانياً، وكان الحزبان يومذاك يبغض أحدهما الآخر.

ويشهد لذلك ما ذكره ابن

أبي الحديد حيث قال: ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة، كان عثمانياً يقع في علىّ _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ويقال إنّه كان يرى رأي الخوارج، ولم يختلف في أنّه خرج معهم، وأنّه عاد إلى علي _ عليه السَّلام _ منيباً مقلعاً. روى خلف ابن خليفة، قال: قال أبو وائل: خرجنا أربَعة آلاف فخرج إلينا علىّ فما زال يكلّمنا حتّى رجع منّا ألفان .

وروى صاحب كتاب «الغارات» عن عثمان بن أبي شيبة، عن الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري قال: سمعت أبا وائل يقول: شهدت صفين وبئس الصفوف كانت!.

____________________________

1 . تقريب التهذيب ج 1 ص 148 تحت رقم 106 .

2 . لسان الميزان ج 2 ص 168 في ترجمة حبيب بن ثابت .

3 . تهذيب التهذيب ج 4 ص 362 .

( 188 )

قال وقد روى أبوبكر بن عاصم بن أبي النجود قال: كان أبو وائل عثمانياً(1).

ويكفي أنّه كان من ولاة عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه .

قال ابن ابي الحديد: وقال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة(2) .

هذا كله حول سند الرواية، وقد عرفت أنّ سندها يشتمل على ضعاف، وعلى فرض ورود المدح في حقهم فو معارض بما عرفت من الجرح، وعند التعارض يقدّم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاعتبار، و يرجع إلى أدلة أُخرى، وسيوافيك أنّ الأصل في المقام الجواز، كما سيأتي ذلك في آخر البحث .

* * *

وأمّا ضعفه دلالةً فإليك البيان .

إنّ تبيين ضعف دلالة الحديث يتوقف على توضيح معنى اللفظين الواردين في الحديث المذكور:

1- «قبراً مشرفاً».

2- «إلاّ سوّيته» .

أمّا الأول فقد قال صاحب القاموس: والشرف محركة: العلو. ومن البعير سنامه، وعلى ذلك فيحتمل أن يراد

منه مطلق العلو، أو العلو الخاص كسنام البعير ولا يتعين ذلك إلاّ بالقرينة .

أمّا الثاني، أعني قوله: «سوّيته» فهو يستعمل على وجهين:

أ _ يطلق ويراد منه مساواة شىء بشىء، فيتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه (إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ)(3) .

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 99 .

2 . شرح نهج البلاغة ج 12 ص 223 .

3 . سورة الشعراء: الآية 98 .

( 189 )

أي نعدّ الآلهة المكذوبة متساوين مع رب العالمين، فنضيف إليكم ما نضيف إلى رب العالمين. وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة (يَوْمَئِذ يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوِّى بِهِمُ الأرْضُ وَ لاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً)(1) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض .

ب _ يطلق ويراد منه ما هو وصف لنفس الشيء، لا بملاحظة شيء آخر، فيكتفي بمفعول واحد، قال سبحانه: (الّذي خَلَقَ فَسَوَّى)(2) وقال سبحانه: (بَلَى قَادرينَ عَلَى أنْ نُسَوِّي بَنَانَهُ)(3) وقال سبحانه: (فَإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهَ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدينَ)(4) في هذه الموارد وقعت التسوية وصفاً لنفس الشيء بلا إضافة إلى غيره. ويراد منه حسب اختلاف الموارد تارة كمال الخلقة واستقامتها في مقابل نقصها واعوجاجها، وهذا هو المقصود في الآيات الكريمة، وأُخرى تسطيحه مقابل اعوجاجه، وبسطه مقابل كونه كالسنام .

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى الحديث ولنطبق الضابطة عليه، فبما أنّه استعمل مع مفعول واحد فلا يراد منه المعنى الأول، أي مساواته بالأرض، وإلاّ كان عليه أن يقول «سويته بالأرض» بل يراد منه ما هو وصف لنفس القبر والمعنى المناسب هو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه، وبسطه في مقابل اعوجاجه، وهذا هو الّذي فهمه شراح الحديث،

وبما أنّ السنة هي التسطيح، والتسنيم بدعة، أمر علىّ _ عليه السَّلام _ بأن تكافح هذه البدعة، ويسطّح كل قبر مسنم .

ويؤيد ما ذكرناه أنّ المحققين من أهل السنة لم يفهموا من الحديث إلاّ ما ذكرنا، وإليك نقل كلماتهم :

1- قال القرطبي في تفسير الحديث: «قال علماؤنا: ظاهر حديث أبي

____________________________

1 . سورة النساء: الآية 42 .

2 . سورة الأعلى: الآية 2 .

3 . سورة القيامة: الآية 4 .

4 . سورة الحجر: الآية 29 .

( 190 )

الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة»(1) .

إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهرة، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها فغير ظاهر، بل مردود باتفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر(2) .

2- قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصه:

(مسنَّماً بضم الميم وتشديد النون المفتوحة أي: مرتفعاً. زاد أبو نعيم في مستخرجه: وقبر أبوبكر وعمر كذلك واستدل به على أنّ المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية .

وقال أكثر الشافعية ونص عليه الشافعي: التسطيح أفضل من التسنيم، لأنّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ سطح قبر إبراهيم، وفعله حجة لا فعل غيره، وقول السفيان التمار «رأى قبر النبي مسنّماً في زمان معاوية» لا حجة فيه، كما قال البيهقي، لاحتمال أنّ قبره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة _ إلى أن قال _ : ولا يخالف ذلك قول علىّ _ عليه السَّلام _ أمرني رسول اللّه أن لا أدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، ونقله في المجموع عن الأصحاب(3) .

3-

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: إنّ السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يسنم بل يرفع نحو شبر، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها، وهو مذهب مالك(4) .

ويؤيد ذلك أنّ صاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب ب_ (باب تسوية القبور) ثم روى بسنده إلى تمامه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ،

____________________________

1 . تفسير القرطبي ج 2 ص 380 تفسير سورة الكهف .

2 . الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42 .

3 . إرشاد الساري ج 2 ص 468 .

4 . صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 ص 36 الطبعة الثالثة _ دار إحياء التراث العربي .

( 191 )

فتوفي صاحب لنا، فأمر فضال بن عبيد بقبره فسوي، قال: سمعت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يأمر بتسويتها، ثم أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدم(1) .

وفي الختام نذكر أُموراً:

1- القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة، وكلهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر(2) ولو أخذنا بالتفسير الّذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه .

2- لما عجز الوهابيون في مقابل سيرة المسلمين، حيث دفنوا النبي في بيته فصار القبر عليه بناء، عمد بعضهم إلى التفريق بين الأمرين فقال: الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء، وقد دفنوا النبي تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً(3) ولكنّه تفريق بلا وجه، لأنّ حديث أبي الهياج مطلق يعم الصورتين .

3- حديث أبي الهياج _ على فرض

صحة سنده ودلالته _ يهدف إلى تخريب القبر ومساواته بالأرض، لا هدم البناء الواقع عليه، فالاستدلال به على الثاني استدلال عجيب.

* * *

ب _ حديث جابر وتحليله سنداً ومتناً

إنّ الوهابيين يستدلون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور، وقد ورد بنصوص مختلفة، ونحن نذكر نصاً واحداً منها:

روى مسلم في صحيحه: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص

____________________________

1 . المصدر السابق .

2 . الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42 .

3 . رياض الجنة، بقلم مقبل بن الهادي طبع الكويت .

( 192 )

ابن غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه(1) .

والاستدلال بحديث جابر غير صحيح سنداً ومتناً .

أمّا الأول فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف :

1- ابن جريج: وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج .

2- أبو الزبير. وهو محمد بن مسلم الأسدي .

أمّا الأول فإليك كلمات أئمة الرجال في حقه:

سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال: فقال: ضعيف، فقيل له إنّه يقول: أخبرني قال: لا شيء.. كله ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج: قال فلان وقال فلان جاء بمناكير.

وقال مالك بن أنس: كان ابن جريج حاطب ليل .

وقال الدارقطني: يجنب تدليس ابن جريج فإنّه قبيح التدليس، لا يدلس إلاّ في ما سمعه من مجروح .

وقال ابن حبان: كان ابن جريج يدلس في احاديث(2).

وأمّا الثاني: فإليك أقوال علماء الرجال فيه:

فعن إمام الحنابلة عن أيوب إنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية .

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على متون الحديث المختلفة وأسانيده: صحيح مسلم، كتاب الجنائز ج

3 ص 62، والسنن للترمذي ج 2 ص 208، طبع المكتبة السلفية، وصحيح ابن ماجة، ج 1 كتاب الجنائز، ص 473، وصحيح النسائي ج 4 ص 87 إلى 88، وسنن أبي داود ج 3 ص 216، باب البناء على القبر، ومسند أحمد ج 3 ص 295 و 332 ورواه أيضاً مرسلا عن جابر ص 399 .

2 . تهذيب التهذيب ج 6 ص 2 _ 4 و ص 5 _ 6 طبع دار المعارف العثمانية. ولاحظ ما ذكرناه في الجزء الأول ص 96 .

( 193 )

وعن شعبة: لم يكن في الدنيا أحبّ إلىّ من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكة فسمعت منه فبينا أنا جالس عنده، إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه، فافترى عليه فقلت: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنّه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً.

وعن ورقاء قال: قلت لشعبة: مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يزن ويسترجع في الميزان .

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير، فقال: يكتب ولا يحتج به قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال: يروي عنه الناس قلت: يحتج بحديثه؟ قال: إنما يحتج بحديث الثقات(1) .

باللّه عليك أيصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أفهل يصحّ هدم آثار النبوة والرسالة والصحابة بهذه الرواية؟ .

على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب والوضع .

هذا كله ما يتعلّق بالسند، وأمّا المتن ففيه ملاحظتان:

الأُولى: إنّ الحديث روي بِصوَر سبع، مع أنّ النبي نطق بصورة واحدة، ولو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر الّتي أوعزنا إليهاترى فيها الاضطراب العجيب، وإليك صورها:

1- نهي رسول اللّه عن تجصيص القبر والاعتماد

عليه .

2- نهي رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن الكتابة على القبر .

3- نهي رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن تجصيص القبر، والكتابة والبناء عليه، والمشي عليه .

____________________________

1 . تهذيب التهذيب، ترجمة أبي الزبير ج 9 ص 442 طبع حيدرآباد _ دكن عام 1326، ولاحظ: الطبقات الكبرى ج 5 ص 481 .

( 194 )

4- نهي رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن الجلوس على القبر، وتجصيصه، والبناء والكتابة عليه .

6- نهي عن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن الجلوس على القبر، وتجصيصه والبناء عليه .

7- نهي رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه، والزيارة عليه، والكتابة عليه(1).

مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداء مقصود واحد، فيعبّر عنه تارة بالاعتماد، وأُخرى بالوطء، وثالثة بالقعود.

ومن المعلوم إِنَّ الاعتماد غير الوطء، وهما غير القعود، فمع هذا الاضطراب والاختلاف في المضمون لا يمكن لأي فقيه أن يعتمد عليه؟!.

الثانية: إنّ الحديث على فرض صحته لا يثبت سوى ورود النهي من النبي ولكن النهي منه تحريمي ومنه تنزيهي، وبعبارة أُخرى: نهي تحريم، ونهي كراهة، وقد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً ولأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة، فترى الترمذي يذكر هذا الحديث في صحيحة تحت عنوان كراهية تجصيص القبور، والسندي شارح صحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي (بالمضمون التحريمي) أحد من المسلمين، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور .

وأمّا الكراهة فربما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتبة عليه، كما إذا صار البناءعلى القبر سبباً لحفظ

الآثار الإسلامية، وإظهار المودة لصاحب القبر الّذي فرض اللّه مودته على الناس(2)، أو يكون لاستظلال الزائر وتمكّنه من تلاوة القرآن وإهداء ثوابه إلى صاحب القبر، إلى غير ذلك من الأُمور

____________________________

1 . لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث مضافاً إلى المصادر الّتي أوعزنا إليها، كتابنا (الوهابية في الميزان) ص 88 _ 89 .

2 . قال سبحانه: (قل لا أسألكم عليه أجراً الاّ المودة في القربى) (الشورى/23) .

( 195 )

الّتي يتمكّن الإنسان منها تحت الظل لا تحت الشمس ولا في برد الليل، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات الّتي ترتفع بأقوى منها .

أحاديث ثلاثة في الميزان

فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها ومتنها:

روى ابن ماجة في صحيحه ما يلي:

1- حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد اللّه الرقاشي، حدثنا وهب، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي سعيد أنّ النبي نهى أن يبنى على القبر(1) .

ويذكر ابن حنبل حديثاً آخر بسندين هما:

2- حدثنا حسن، حدثنا بريد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أُم سلمة عن أُم سلمة قالت: نهى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أن يبنى على القبر أو يجصّص .

3- علي بن إسحاق، حدثنا عبد اللّه بن لهيعة، حدثني بريد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أُم سلمة: أنّ النبي نهى أن يجصّص قبر أو يبنى عليه أو يجلس(2) .

فسند الحديث الأول يشمل على (وهب) وهو مردد بين سبعة عشر رجلا، وفيهم الوضّاعون والكذّابون(3) .

والحديث الثاني والثالث لا يحتج بهما لاشتمالهما على (عبداللّه بن لهيعة) الّذي يقول فيه ابن معين:

ضعيف لا يحتج به، ونقل الحميدي عن يحيى بن سعيد أنّه كان لا يراه شيئاً(4) .

____________________________

1

. صحيح ابن ماجة ج 1 ص 474 .

2 . مسند أحمد ج 6 ص 299 .

3 . ميزان الاعتدال ج 3 ص 350 _ 355 .

4 . ميزان الاعتدال ج 2 ص 476، وتهذيب التهذيب ج 1 ص 444 .

( 196 )

هذه حال الأحاديث الّتي صارت ذريعة بيد الوهابيين لتدمير الآثار الإسلامية منذ أن استولوا على الحرمين الشريفين، حيث لا تمر سنة إلاّ ويدمّر أثر من الآثار الإسلامية بحجة توسيع الحرم الشريف، حتّى المكتبات وبيوتات بني هاشم ومدارسهم، وبيت مضيف النبي أبي أيوب الأنصاري، وفي الوقت نفسه يعكفون على حفظ آثار اليهود في خيبر وغيرهم باسم الحفاظ على الآثار التاريخية.

ثم إنّ القاضي ابن بليهد قد أعوزته الحجة فتمسّك بكون البقيع مسبلة موقوفة، وأنّ البناء على القبور مانع عن الانتفاع بأرضها. سبحان اللّه ما أتقنه من برهان؟ من أين علم أنّ البقيع كانت أرضاً حية وقفها صاحبها على دفن الأموات؟ .

ومن أراد أن يقف على حال البقيع، وأنه لم يكن فيها يوم أُعِدَّت للتدفين أي أثر من الحياة، فليرجع إلى كتاب (وفاء الوفاء) .

آخر ما في كنانة المستدل

ذكر البخاري في صحيحه في باب كراهة اتّخاذ المساجد على القبور الخبر التالي:

لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبّة على قبره سنة، ثم رفعت، فسمعوا صالحاً يقول:

ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا(1) .

إنّ هذا الخبر لو صحّ فهو على نقيض المطلوب أدل، فهو يدل على جواز نصب المظلّة على القبر، ولو كان ذلك حراماً لما صدر من امرأة الحسن بن الحسن _ عليهما السَّلام _ لأنه كان بمرأى ومسمع من التابعين وفقهاء المدينة، ولعلها نصبت تلك القبة لأجل تلاوة القرآن في

جوار زوجها وإهداء ثوابها إلى روحه .

وأمّا قول الصالح فهو أشبه بقول غير الصالح، كما أنّ الجواب أيضاً

____________________________

1 . صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 171.

( 197 )

مثله، لأنه بصدد الشماتة على امرأة افتقدت زوجها وهي مستحقة للتعزية والتسلية لا الشماتة، لأنها ليست من أخلاق المسلمين، ولم تكن المرأة تأمل عودة زوجها إلى الحياة حتّى يقال إنها يئست، بل كان نصبها للمظلة للغايات الدينية والأخلاقية .

ترى هؤلاء الأغبياء يدمّرون آثار الرسالة وهم يتمسكون في ذلك بركام من الأوهام، ويسخرون من الذين أظهروا حباً لأهل بيت رسول اللّه الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وفرض مودّتهم وولاءهم وقال: (قُلْ لاَ أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)(1) .

* * *

إلى هنا تبين أنّه ليس للقوم دليل، بل ولا شبهه على حرمة البناء على القبور، وأنهم لم يدرسوا صحاحهم ومسانيدهم حسبما درس السلف الصالح. والآن هلمّ معي أتلو عليك أدلة القائلين بالجواز، سواء أكان صاحب القبر رجلا عادياً أم كان عظيماً من عظماء الدين، وإليك بيانها:

عرض المسألة على الأدلة المحكمة

إذا وقفت على ضعف ما استدل به القوم على تحريم البناء على القبور، وسقوطه عن الاعتبار، فيجب عرض المسألة على الأدلة المحكمة الّتي لا يصحّ لأحد النقاش في اعتبارها وحجيتها .

فإذا دلت تلك الأدلة على الجواز، فلا محيص من طرح هذه الأحاديث الضعاف، أوحملها على الكراهة، أو غير ذلك. وإليك بيان تلك الأدلة:

1- الكتاب والبناء على القبور

يظهر من الكتاب أنّ البناء على القبور، بل بناء المسجد عليها كان جائزاً في الشرائع السابقة، وأنّ الناس عندما وقفوا على قبور أصحاب الكهف،

____________________________

1 . سورة الشورى: الآية 23 .

( 198 )

اختلفوا

على قولين: فمن قائل: (ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً)(1) .

ومن قائل آخر: (لَنَتَّخِذَنّ عَليْهِم مَسْجداً)(2) .

والاستدلال بالآية واضح لمن يرى القرآن قدوة وأُسوة.

فإنّ القرآن ينقل كلا القولين، من دون أن ينتقدهما أو يعترض عليهما ويردع عنهما بل الظاهر أنّه ينقلهما بصورة التحسين، وأنّ أصحاب الكهف بلغ بهم ثباتهم في طريق العقيدة إلى حد لما عثر عليهم الناس اجتمعوا على تكريمهم واحترامهم، بل التبرك بهم، فمن قائل بلزوم البناء عليهم. وآخر باتخاذ مراقدهم مسجداً، وليس القرآن كتاب قصة وأُسطورة، وإنما هو كتاب إرشاد وقدوة وإمام. فلو كانوا في عملهم هذا ضالين لعلق على قولهم بشىء أو عابه، كما هو الحال فيما ينقل عن المشركين، والكافرين، عملا، أو رأياً.

قال سبحانه حاكياً كيفية غرق فرعون: (حَتّى إذَا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلهَ اَلاّ الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ)(3) ولأجل إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد، عقّب عليه بقوله:(ألآن وَقَد عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفسِدِينَ)(4) .

فلأجل ذلك يكون القرآن قدوة في كل ما ينقله من أعمال الماضين، إلاّ إذا عقّب عليه بالرد، أو دلّت القرائن على كونه عملا غير مقبول .

2- السيرة المستمرة بين المسلمين

لم يزل الإلهيون من أهل الكتاب والمسلمين في قاطبة الأعصار يهتمون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير، ثم التطهير والتنظيف، حتّى نرى أنّ كثيراً من المتمكّنين يخصصون أموالهم ويوقفونها في هذا المجال.

فهذه القباب الشاهقة، والمنائر الرفيعة، والساحات الوسيعة حول

____________________________

1 . سورة الكهف: الآية 21 .

2 . سورة الكهف: الآية 21 .

3 . سورة يونس: الآية 90 .

4 . سورة يونس: الآية 91 .

( 199 )

مراقد الأنبياء والأولياء، في مختلف البلاد شرقها وغربها، وهذا دليل قاطع على أنّ هذه السيرة

كانت مرضية عن صاحب الشريعة وخلفائه وأصحابه، وإلاّ كان عليهم رفضها وردها بالبنان والبيان، والسلطة والقوة، فالسكوت في بعض الفترات ودعمها في بعض الأحايين أدلّ دليل على كونها سيرة مرضية.

نعم، إذا كان اتّخاذ المقابر مساجد على النحو الرائج عند اليهود والنصارى فهو محرّم، وقد نصّ الرسول على تحريمه، كما تأتي الروايات مع توضيحها، وهو مسألة أُخرى غير مجرّد البناء على القبور الّذي هو مسألتنا.

هذا هو السلف الصالح قد وقفوا _ بعد ما فتحوا الشام _ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ... فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أن تهدم، وهكذا الحال في سائر القبور المشيدة عليها الأبنية في أطراف العالم، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم، وإليك نص ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية:

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة «لخم» النصرانية يقومون على حرم إبراهيم ب_ «حبرون» ولعلهم استغلوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجاج هذا الحرم.. وربما يكون توصيف تميم الداري نسبة إلى الدار، أي: الحرم، وربما كان دخول هؤلاء اللخميين للإسلام، لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديس اليهود والنصارى من قبلهم(1) .

وجاء أيضاً في دائرة المعارف الإسلامية في مادة «الخليل»: ويقول المقدسي، وهو أول من أسهب في وصف الخليل: إنّ قبر إبراهيم كانت تعلوه قبة بنيت في العهد الإسلامي، ويقول مجير الدين: إنها شيدت في عهد الأمويين، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضه، وقبر يعقوب قباله، وكان المقدسي أول من ذكر تلك الهبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الورعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح، وذلك الاستقبال الكريم الّذي يلقاه الحجاج من

جانب

____________________________

1 . دائرة المعارف الإسلامية ج 5 ص 484 مادة تميم الداري .

( 200 )

التميميين (1) .

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان، لجاء بكتاب فخم ضخم، يعرب عن أنّ السّنة السنية الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، هي مشروعية البناء على القبور، والعناية بحفظ آثار رجال الدين، ولم ينبس أىّ ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة، وما اعترض عليها، بل تلقوها إظهاراً للمحبة والود لأصحاب الرسالات والنبوات وأصحاب العلم والفضل، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين قال سبحانه:

(وَمَنْ يَشَاقَقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلَ الْمؤْمِنينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(2) .

وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقف، ولم يزل المسلمون مذ أن وورِيَ جثمانه، على العناية بحجرته الشريفة بشتى الأساليب، وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً وقد جاء تفصيل كل ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلقة بتاريخ المدينة، لا سيما وفاء الوفاء للعلامة السَّمهودي المتوفى عام (911 ه_)(3) والبناء الأخير الّذي شيّد عام (1270 ه_) قائم لم يمسه سوء، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء .

وأمّا المشاهد والقباب المبنية في المدينة في العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج، ولا سيما في بقيع الغرقد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة .

هذا هو المسعودي المتوفى عام (345 ه_) يقول: «وعلى

قبورهم في هذا

____________________________

1 . دائرة المعارف الإسلامية ج 8 ص 420 مادة خليل .

2 . سورة النساء: الآية 115.

3 . وفاء الوفاء ج 2 الفصل التاسع ص 458 إلى آخر الفصل .

( 201 )

الموضع من البقيع رخامة مكتوبه عليها: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمدللّه مبيد الأُمم ومحي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علىّ بن أبي طالب، وعلىّ بن الحسين بن أبي طالب، ومحمد بن علىّ و جعفر بن محمد»(1) .

وذكر السبط ابن الجوزي المتوفى عام 654 ه_ في تذكرة الخواص ص 311 نظير ذلك، وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: «وقبر الحسن بن علىّ عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلا، عليه مكتوب: هذا قبر الحسن بن علىّ، دفن إلى جنب أُمه فاطمة رضي اللّه عنها وعنه(2) .

ويقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار المتوفى عام 643 ه_ في أخبار مدينة الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ :.. في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة، رضي اللّه عنهم(3) .

يقول ابن جبير ذلك السائح الطائر الصيت المتوفى عام 614 ه_ في رحلته في وصف بقيع الغرقد: مقابل قبر مالك، قبر السلامة الطاهرة إبراهيم ابن النبي عليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها تربة ابن عمر بن الخطاب (رضي الّه عنه)... وبإزائه قبر عقيل ابن أبي طالب (رضي اللّه عنه). وعبداللّه بن جعفر الطيار (رضي اللّه عنه)، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، ويليها روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي (رضي اللّه عنه)، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور، وعن يمين الخارج من، رأس الحسن إلى رجلي العباس (رضي اللّه عنهما)، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع، إلصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر، وعلى هذا

____________________________

1 . مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2 ص 288 .

2 . مجلة العرب رقم 5 _ 6 المؤرخ 1393 .

3 . أخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال _ طبع مكة المكرمة 1366 .

( 202 )

الشكل قبة إبراهيم ابن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، ويعرف ببيت الحزن... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين (رضي اللّه عنه)، وعليه قبة صغيرة مختصرة، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُم علىّ (رضي اللّه عنها) وعن بنيها(1).

روى البلاذري أنّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلى عليها «عمر» وكان دفنها في يوم صائف، ضرب «عمر» على قبرها فسطاطاً(2) ولم يكن الهدف من ضربه تسهيل الأمر لمن يتعاطى دفنها، بل لأجل تسهيله لأهلها حتّى يتفيّأوا بظلّه ويقرأوا ما تيسّر من القرآن والدعاء، فلاحظ .

حصيلة البحث

إنّ سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين، إلى عصرنا هذا أقوى حجة على الحكم الشرعي _ فإنّ اتفاق العلماء في عصر و «إجماعهم على حكم» حجة شرعية عليه، فكيف اتفاقهم عليه طيلة قرون،

ولا سيما الصحابة العدول .

فالصحابة واروا جسد النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في بيته، ولم يخطر ببال أحد أن البناء على القبور محرّم، ولا أظن أنّ جاهلا متنسّكاً يفرق بين البناء المتقدم على الدفن والمتأخر عنه، فضلا عن عالم، فإنّ كون قبر الميت تحت بناء تكريم له وتعظيم، والقوم يتلقونه شركاء لأنّه تعظيم لغير اللّه، فلا يفرق بين البناء على القبور أو دفن الميت تحت بناء .

وليس هذا شيء ينكره أحد من المسلمين .

والعجب أنّ الوهابيين لما واجهوا هذه السيرة المستمرة عمدوا إلى تفسير هذه السيرة بأنّ النبي إنما دفن في بيته، لأجل حديث رواه أبوبكر، قال ابن كثير: إنّ أصحاب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ لم يدروا أين يقبرون

____________________________

1 . رحلة ابن جبير، بيروت دار صادر. وقد زار المدينة المنورة عام 578 ه_ .

2 . أنساب الأشراف ج 1 ص 436 .

( 203 )

رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ حتّى قال أبوبكر: سمعت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يقول:: لم يقبر نبىّ إلاّ حيث يموت(1) .

ثم أضاف المؤلف: فعلمنا من هذه الأحاديث أنّ النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ دفن في بيته كما أمر بذلك، فعلى هذا فلا حجة فيه للقبوريين في البناء على القبور، إذ لم يبن على قبره، وإنّما دفن في بيته(2) .

ولا يخفى وجود التهافت في عبارته، فصدرها يدل على أنّ دفن النبي في بيته كان بأمره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، ولو لم يكن أمره لما دفنوه فيه، لأنّ الدفن في البناء حرام، وذيل العبارة يدل على التفريق بين الدفن تحت البناء

القائم والبناء على القبر .

فلو أراد الوجه الأول كما هو ظاهره حيث استقصى مصادر الحديث المذكور قرابة ست صفحات، فهو مردود بدفن الشيخين في البيت، مع أنّه لم يرد في حقهما ما ورد في حق النبي .

ولو أراد الثاني فهو تفريق لا يجنح إليه ذو مسكة، بعد وحدة الملاك والاشتراك في المفسدة المزعومة.

وبعد دلالة الذكر الحكيم والسيرة على الجواز، لا مناص عن طرح هذه الروايات أو تأوليها.

3- البناء تعظيم لشعائر اللّه

إنّ تعظيم قبور الأنبياء والأولياء وتنظيفها وحفظها عن تطرق الفساد والانهدام مظهر لتعظيم شعائر اللّه قال سبحانه:

(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظَّم شَعَائِرَ اللّهِ فإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوبِ)(3) .

____________________________

1 . البداية والنهاية ج 5 ص 266، وقد جاءت مصادر هذه الرواية في كتاب رياض الجنة ص 264 .

2 . رياض الجنة 269 .

3 . سورة الحج: الآية 32 .

( 204 )

والاستدلال بالآية يتوقف على ثبوت صغرى وكبرى:

الغصرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر اللّه... والكبرى عبارة عن كون البناء والتنظيف وصيانة المقابر تعظيم لشعائر اللّه .

ولا أظن أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان، إنما المهم بيان الصغرى، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر اللّه، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللّه من الآيات :

1- (إنَّ الصّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه)(1) .

2- (يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهَ وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامِ وَلا الهَدْيَ وَ لاَ القَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رضْوَاناً)(2) .

3- (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِر اللّه لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ)(3) .

4- وفي رواية أُخرى جعل مكان شعائر اللّه، حرمات اللّه وقال:

(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ

الأنْعامُ إلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنِ الأوثَانِ...)(4) .

ما هو المقصود من (شعائر اللّه) ؟

هنا احتمالات:

1- تعظيم آيات وجوده سبحانه .

2- معالم عبادته وأعلام طاعته .

3- معالم دينه وشريعته وكل ما يمتإليهما بصلة .

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 158 .

2 . سورة المائدة: الآية 2 .

3 . سورة الحج: الآية 36 .

4 . سورة الحج: الآية 30 .

( 205 )

أمّا الأول فلم يقل به أحد، إذ كل ما في الكون آيات وجوده، ولا يصحّ تعظيم كل موجود بحجة أنه دليل على الصانع .

وأمّا الثاني فهو داخل في الآية قطعاً، وقد عدّ الصفا والمروة والبدن من شعائر اللّه، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعنه، إنما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام طاعته، الظاهر المتبادر هو الثالث، أي معالم دينه سبحانه، سواء أكانت أعلاماً لعبادته وطاعة أم لا، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبوية كلها من شعائر دين اللّه وأعلام شريعته، فمن عظمها فقد عظم شعائر الدين .

قال القرطبي: فشعائر اللّه: أعلام دينه، لا سيما ما يتعلق بالمناسك(1) ولقد أحسن حيث عمّم أولا، ثم ذكر مورد الآية ثانياً، ومما يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلق ب_ (حرمات اللّه) في آية أُخرى .

قال سبحانه: (وَمَنْ يُعظَّمْ حُرُماتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ ربّه)، والحرمات ما لا يحل انتهاكه، فأحكامه سبحانه حرمات اللّه، إذ لا يحل انتهاكها، وأعلام طاعته وعبادته وحرمات اللّه، إذ يحرم هتكها وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات اللّه، يحرم هتكهم، فلو عظّمهم المؤمن أحياء وأمواتاً فقد عمل بالآيتين: «وَمَن يَعظّم حرمات اللّه» «ومن يعظّم شعائر اللّه».

4- الإذن في ترفيع بيوت خاصة

لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت الّتي

يذكر فيها اسمه فقال: (في بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوَّ وِ الآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاّبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه)(2) وقد عرفت أنّ ابن تيمية جعل الآية دليلا على تكريم المساجد، ولكنّه غفل عن أنّ البيوت غير المساجد، فهناك بيت وهناك مسجد، والبيت هو البناء الّذي يتشكّل من جدران أربعة وعليها

____________________________

1 . تفسير القرطبي، طبع دار إحياء التراث العربي، ج 12 ص 56 .

2 . سورة النور: الآية 36 _ 37 .

( 206 )

سقف قائم، ولأجل ذلك يقال للكعبة بيت اللّه، وللساحة المحيطة به (المسجد الحرام) وأيضاً يستحب أن تكون المساجد غير مسقّفة، وترى المسجد الحرام مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يظلّه، دون البيت فالسقف من مقوماته .

قال سبحانه: (وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بَالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُون)(1) .

فالبيوت غير المساجد، ولو تنزلنا فهي أعمّ منها تشمل المسجد وغيره. هذا كله حول البيوت، وأمّا الرفع الوارد في الآية الكريمة فسواء أفسّر بالرفع الحسي بإرساء القواعد وإقامة الجدران كما في قوله سبحانه: (وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسماعِيلُ)(2)، أَمْ فسّر بالرفع المعنوي كما هو الحال في قوله سبحانه: (وَرَفَعَنَاه مَكَاناً عَلياً)(3). أي منحناه مكانة عالية. فلو فسرّ بالرفع الحسّي يكون دليلا على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء، وتعميرها في حياتهم وبعد وفاتهم حسب إطلاق الآية، وقد كان بيوت كثير من الأئمة الصالحين هي مقابرهم، فتشييد هذه البيوت عمل جائز بنص الآية، وأمّا لو فسّر بالرفع المعنوي، وأنّ من وظائف المسلمين تكريم هذه البيوت كما هو المتبادر، فتعمير بيوتهم من مظاهر ذلك التعظيم المعنوي، كما أنّ تدميرها وجعلها معرضة

لما لا يناسب ساحتهم، تجاهل لهذه الآية وتولٍّ عنها .

ومن لطيف ما روي في المقام ما رواه الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك، وبريدة، أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قرأ قوله: (في بيوت أذن اللّه أن ترفع) فقام إليه رجل وقال: أي بيوت يا رسول اللّه؟ فقال: «بيوت الأنبياء» فقام إليه أبوبكر وقال: يا رسول اللّه وهذا البيت منها؟ _ مشيراً إلى بيت علىّ وفاطمة _ فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : نعم من أفاضلها(4) .

____________________________

1 . سورة الزخرف: الآية 33 .

2 . سورة البقرة: الآية 127 .

3 . سورة مريم: الآية 57 .

4 . الدر المنثور: ج 5 ص 50 .

( 207 )

فهذه الآية وحدها كافية في جواز تعظيم بيوت الأنبياء والأوصياء وأهل بيت النبي مطلقاً، ومقابرهم ومراقدهم إذا كانت بيوتهم .

5- إظهار المودة للنبي والقربى

إنّ القرآن الكريم _ يأمرنا _ بكل صراحة _ بحب النبي وأقربائه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول:

(وَمَنْ يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ)(1) .

(قُل لا أسْالُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ فِي القُرْبَى)(2) .

ومن الواضح لدى كل من يخاطبه اللّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي وأهل بيته _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، وهو نوع من إظهار الحب والمودة لهم، وبذلك يخرج عن كونه بدعة لوجود أصل له في الكتاب والسنة، ولو بصورة كلية .

وهذه العادة متبعة عند كافة الشعوب، والاُمم في العالم، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودة لصاحب ذلك القبر، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة، ويزرعون أنواع الأزهار والأشجار

حولها .

إلى هنا تمّ الكلام حول جواز البناء على القبور مطلقاً، وقبور الأنبياء والأوصياء والصالحين خاصة، على وجه لم يبق لمتدبّر فيه شكّ، ولا لمكابر إنكار، إلاّ من أعمى اللّه بصره وبصيرته .

هذه هي الآيات الواضحة الدلالة على جواز البناء، وهذه هي سيرة المسلمين المشرقة طوال القرون .

____________________________

1 . سورة المائدة: الآية 56 .

2 . سورة الشورى: الآية 23 .

( 208 )

فلو فرضنا تعارض الأدلة من الجانبين، فالأصل هو الإباحة كما سيوافيك .

6- الأصل هو الإباحة

إنّ القائل بالحرمة يجب أن يستدل عليها، والقائل بالإباحة يكفيه الأصل (عدم الحرمة إلاّ ما قام الدليل على تحريمه) وقد عرفت أنّه ليس هناك شبه دليل على الحرمة، والآيات أدل دليل على أنّه سبحانه لا يعذب أُمَّةً إلاّ بعد إرسال الرسل و بعثهم، وهو كناية عن وصول البيان والتشريع إلى الناس، فلو لم يصل _ وإن بلغه الرسول _ لا يكون منجزاً في حق العبد. قال سبحانه:

(وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا)(1) .

وظاهر الآيات يعطي أن وظيفة التشريع تبيين المحرمات لا المباحات. قال سبحانه:

(قَلْ تَعَالُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم)(2) .

وقال: (قُلْ لاَ أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَىّ مُحَرّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ..)(3) .

فإذا كان صعيد التشريع فارغاً عمّا يدل على التحريم فهو حجة على كون الشيء مباحاً محللا.

وإليك البحث عن بناء المساجد على قبور الصالحين، وهو الموضوع الخامس فيما طرحه ابن تيمية .

* * *

____________________________

1 . سورة الإسراء: الآية 15.

2 . سورة الأنعام: الآية 151 .

3 . سورة الأنعام: الآية 145 .

ابن تيمية وبناء المساجد على القبور

ابن تيمية وبناء المساجد على القبور

قال ابن تيمية: «ولا يشرع اتّخاذها _ أي القبور _ مساجد»(1) .

وقال أيضاً: «لا يجوز بناء المسجد على القبور» .

وقد استدلّ الوهابيون على

ما يتبنّونه بالحديث التالي المروي بعبارات مختلفة:

1- «قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

2- «لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

3- «ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك» .

4- «أخرجوا أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنَّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

5- «لعن اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) .

____________________________

1 . مضى مصدرها .

2 . راجع للوقوف على مصادر هذه الأحاديث صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 871، صحيح مسلم ج 2 ص 568 كتاب المساجد وغيرها، وقد جمع مصادر الحديث وصوره المختلفة محمد ناصر الدين الألباني في كتابه تحذير الساجد ص 11 _ 28 فذكر للحديث 14 صورة كما جمعها أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي في كتاب رياض الجنة ص 278 _ 281 .

( 210 )

إنّ الوهابيين استغلوا هذا الحديث وخرجوا بهذه النتيجة بأنّ مفادها:

أ _ حرمة بناء المساجد على القبور .

ب _ وحرمة قصد الصلاة فيها .

حتّى قال ابن تيمية: إنّ المسجد والقبر لا يجتمعان(1) .

وهذا هو الكلام الّذي يجتره ويكرره كل من جاء بعده، فنظروا إلى الروايات بعقيدة مسبقة، وتركوا إجماع الأُمة ودلالة الكتاب على الجواز كما بيّناه، فنقول: إنّ لهذه الروايات محتملات:

1- الصلاة على القبور بالسجود عليها تعظيماً .

2- الصلاة باتّجاه القبور واتّخاذها قبلة .

3- بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها تبركاً بالمقبور .

4- إقامة الصلاة عند مراقد الأنبياء ومقابرهم فقط .

فهل للحديث إطلاق يعم هذه الصورة والمحتملات كما ادّعاه الألباني تبعاً لشيخه ابن تيمية، وزعم أنّ هذا الحديث من جوامع كلمه

_ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

أو أنّ الحديث ينصرف _ بشهادة القرائن المتصلة والمنفصلة _ إلى بعض الصور مما يلازم كون العمل شركاً، والمصلي مشركاً وخارجاً عن الحدود الّتي حددها الكتاب والسنة، كما هو الحق بشهادة القرائن العشر التالية؟ وإليك البيان:

1- إنّ الحديث يركّز على عمل اليهود والنصارى، وأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وينهى المسلمين عن متابعتهم في ذلك .

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 _ 60 وزاد المعاد تأليف ابن القيم ص 661 .

( 211 )

وبما أنّ أهل الكتاب معروفون بالشرك وعبادة غير اللّه طيلة الأجيال والقرون، فالمسيحية تعبد _ المسيح وأمه _ كما أنّ كثيراً منهم اتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون اللّه، يحرّمون ما أحلّ اللّه ويحلّلون ما حرّم اللّه .

اليهود هم الذين طلبوا من نبيهم أن يجعل إلهاً كما أنّ لغيرهم آلهة، وهم الذين عبدوا العجل، بل عبدوا بعد رحلة الكليم أرباباً وآلهة، فهم كأنهم مفطورون على الوثنية وعبادة البشر _ فعند ذلك _ ينصرف الحديث إلى عمل يلحق المسلم بهم، ولا يمكن أن يدّعى أنّ الحديث يعم ما إذا كان عمل اتخاذ القبور مساجد مجرّداً عن أىّ شرك، أو إذا كانت إقامة الصلاة عند قبورهم من باب التبرك بهم .

2- نرى أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يصف هؤلاء الجماعة بكونهم شرار الناس. فقد روى مسلم في كتاب المساجد أنّ أُم حبيبة وأُم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجد، وصَوّر فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق

عند اللّه(1) .

إنّ توصيفهم بأنهم شرار الخلق عند اللّه، يميط الستر عن حقيقة عملهم، إذ لا يوصف الإنسان بالشر المطلق، إلاّ إذا كان مشركاً. قال سبحانه: (إنَّ شَرَ الدَّوابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لاَ يَعْقِلُونَ)(2)، وقال تعالى: (إنَّ شَرَّ الدّوَابِّ عِندَ اللّهِ الّذينَ كَفَرُوا فَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ)(3) .

كل ذلك يكشف عن مرمى الحديث، وأنّ عملهم لم يكن عملا مجرداً مثل صرف بناء المسجد على القبر والصلاة فيه، أو إقامة الصلاة عند القبور، بل كان عملا مقترناً بالشرك بألوانه وصوره المختلفة، كاتخاذ القبر إلهاً ومعبوداً أو قبلة عند الصلاة، أو السجدة عليها بمعنى اتخاذها مسجوداً .

3- إنّ الروايات الناهية الواردة في المقام على قسمين:

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 2 كتاب المساجد ص 666 .

2 . سورة الأنفال: الآية 22 .

3 . سورة الأنفال: الآية 55 .

( 212 )

قسم يشتمل على اللعن، وهذا مختص باتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.

وقسم آخر مشتمل على مجرد النهي من دون اقتران باللعن، وقد ورد ذلك في مطلق القبور .

1- عن أبي مرصد الغنوي قال: قال رسول اللّه: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها(1) .

2- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة و الحمّام(2) وغير ذلك .

3- عن عبداللّه بن عمر: نهى عن الصلاة في المقبرة(3) .

فعندئذ يجب التأمل في هذا التفريق، لماذا اقترن الأول (اتخاذ قبور الأنبياء مساجد) باللعن دون الآخر، وإنّما ورد فيه مجرد النهي، (المحمول على الكراهة مطلقاً، أو في ما إذا كان القبر بحيال المصلي، أو كانت الصلاة بين القبرين) وما هذا إلاّ لأنّ القسم الأول ناظر إلى عمل اليهود والنصارى في

مورد قبور أنبيائهم .

وبما أنه كان مقترناً بالشرك بالسجود لها تعظيماً لهم، أو باتخاذها قبلة، استحقوا اللعن، وعرفوا بأنهم شرار الناس، ووهي المسلمون عن اتّباعهم .

وأمّا القسم الآخر فلم يكن مقترناً بذلك أبداً، فجاء فيه النهي مجرداً عن اللعن .

وبهذا لا يمكن القول بإطلاق الحديث و عموميته لكل الأحوال .

4- إنّ السيدة عائشة، قالت: قال رسول اللّه: «لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت: فلولا ذاك لأبرز قبره،

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 7 ص 38 .

2 . سنن أبي داود ج 1 ص 184 .

3 . موارد الضمآن ص 10 كما في رياض الجنة .

( 213 )

غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً (1)

إنّ المسلمين بعدما دفنوا الّنبي في بيته سوّروه بحائط مستدير، لا مربّع، لئلا يشابه الكعبة .

ومن المعلوم أنّ التسوير بالجدران وعدم إبراز قبره إنما يمنع عن اتخاذه مسجوداً له أو قبلة، وأمّا الصلاة في جنبه فلم يكن الجدار مانعاً عن إقامة الصلاة .

ومراد السيدة عائشة: إنّ عدم إبراز القبر وستره بالحيطان منع المسلمين عن أن يرتكبوا ما كان اليهود والنصارى يرتكبونه .

ومن المعلوم أنّ الجدران منعت عن الصور الشركية كصورة اتخاذه مسجوداً له أو قبلة، لا إقامة الصلاة المجردة من هذه الضمائم .

وهذا دليل واضح على أنّ الحديث كان بصدد نهي المسلمين عن اتخاذ القبر مسجوداً له أو قبلة .

والعجب من الشيخ الالباني حيث أراد استغلال الحديث لتأييد مذهبه، وموقفه، وفسِّر قولها: «فلولا ذاك لأبرز قبره» بأنّ المقصود هو الدفن خارج بيته، مع أنّ العبارة لا تتحمّل هذا، لانها تركزّ على ا لقبر الموجود، فيكون المقصود: ولو لا ذاك لكشف قبره ولم يتخذ عليه حائط .

5- قال أبو هريرة: قال رسول

اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : أللّهمّ لا تجعل قبري وثناً، لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

إنّ العلاقة بين الجملتين تكشف عن أنّ المقصود هو: اتخاذ قبور الأنبياء مساجد على نحو يعود القبر وثناً يعبد، أو يصلى إليه .

وأمّا الصلاة للّه تبارك وتعالى وإلى الكعبة عند القبر تبركاً به فلا تجعل القبر وثناً يعبد، وهذا هو قول اللّه تعالى وهو يأمر الحجيج باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى، ويقول: (وَاتَّخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى)(2)

____________________________

1 . البخاري ج 3 ص 159 ومسلم ج 2 ص 76 .

2 . سورة البقرة: الآية 125 .

( 214 )

وليست الصلاة عند القبر إلاّ كمثل الصلاة عند مقام إبراهيم .

غير أنّ جسد النبي إبراهيم قد لامس هذا المكان مرة أو مرات عديدة، ولكن مقابر الأنبياء احتضنت أجسادهم الّتي لا تبلى دائماً.

6- إنّ علماء الحديث وجهابذته فهموا من هذه الأحاديث نفس ما قلناه، وإن لم يذكر الألباني وغيره شيئاً من هذه التفاسير .

أ _ يقول العسقلاني: إنّما صوّروا أوائلهم الصور ليستأنسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها... إلى أن يقول: قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشانهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه، لا للتعظيم ولا للتوجه نحوه، فلا يدخل في الوعيد المذكور(1).

ب _ ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء إنما نهى النبي عن اتخاذ قبره و قبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدّى

ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية. ولما احتاجت الصحابة والتابعون إلى زيادة في مسجد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ حين كثر المسلمون، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، مدفن رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وصاحبيه، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلاّ يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويعود المحذور. ولهذا قالت عائشة في الحديث عنه: ولو لا ذلك لأبرز قبره، غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً(2) .

ج _ وقال السندي شارح الصحيح للنسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم

____________________________

1 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 1 ص 525 ط دار المعرفة، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ج 2 ص 437 باب بناء المساجد على القبور .

2 . صحيح مسلم بشرح النووي، ج 5 ص 13 _ 14 .

( 215 )

مساجد، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها، أو بنوا مساجد يصلون فيها، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يقضي إلى عبادة نفس القبر .

إلى أن يقول: يحذّر النبي أُمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها(1).

د _ وقال شارح آخر: إنّ حديث عائشة يرتبط بالمسجد البنوي قبل الزيادة فيه... أمّا بعد الزيادة وإدخال حجرتها فيه فقد بنوا الحجرة بشكل مثلث كي لا يتمكّن أحد من الصلاة على القبر، إنّ اليهود والنصارى كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم أو يجعلونهم شركاء في العبادة(2) .

ه__ _ قال الشيخ علي القاري: سبب لعنهم إمّا لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً

لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإمّا لأنهم كانوا يتخذون الصلاة للّه تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حال الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة اللّه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي. فنهى النبي أُمته عن ذلك إمّا لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي. كذا قال بعض الشراح من أئمتنا ويؤيده ما جاء في رواية. يحذر مثل الّذي منعوا(3) .

و _ إنّ المروي عن أئمة أهل البيت هو ما فهمه أولئك الشراح .

1- روى الصدوق مرسلا قال: وقال النبي: لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ اللّه لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(4). والمراد من قوله «مسجداً» بقرينة «قبلة» هو السجود عليه تعظيماً.

روى الشيخ الطوسي بأسناده عن معمر بن خلاد، عن الرضا _ عليه السَّلام _

____________________________

1 . السنن للنسائي ج 2 ص 41 طبع الأزهر .

2 . صحيح مسلم ج 22 ص 66 .

3 . مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ج 1 ص 456 .

4 . الوسائل: الجزء الثاني الباب 65 من أبواب الدفن. الحديث 2 .

( 216 )

قال: لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة(1) .

3- روى الصدوق في علل الشرائع بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر (الباقر) _ عليه السَّلام _ قال: قلت له: الصلاة بين القبور، قال: بين خللها، ولا تتخذ شيئاً منها قبلة، فإنّ رسول اللّه نهى عن ذلك وقال: لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ اللّه عزّوجلّ لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(2) .

ولو كان المراد هو اتخاذ القبر قبلة حقيقة، بأن يصلى عليه من كل جانب كالكعبة، يكون حراماً لكونه بدعة، ولو كان المراد كون

القبر أمامه وحيال وجهه، فيحمل على الكراهة لجريان سيرة المسلمين على الصلاة في الصفة في مسجد النبي، والقبر بحيال المصلي .

7- روى المفسرون في تفسير قوله سبحانه: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلاَ تَذَرُنَّ وُدّاً وَلاَ سُواعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(3) .

عن ابن عباس: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قومهم، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلمّا طال عليهم الأمد عبودهم .

قال القرطبي: روى الأئمة عن أبي مرصد الغنوي قال: سمعت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها (لفظ مسلم) أي لا تتخذوها قبلة، فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى(4) .

8- روى مسلم في صحيحه عن النبي الأكرم أنّه قال حينما قالت أُم حبيبة وأُم سلمة بأنهما رأتا تصاوير في إحدى كنائس الحبشة: إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة،

____________________________

1 . الوسائل الجزء الثالث، الباب 25 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3 والباب 26 الحديث 3 .

2 . نفس المصدر .

3 . سورة نوح: الآية 23 .

4 . تفسير القرطبي ج 10 ص 380 .

( 217 )

أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة(1) .

إنّ الهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إمّا لغاية اتخاذها قبلة أو عبادة ذويها، كالصنم المنصوب، ومعه لا يمكن أن يستدل به على تحريم مطلق اتخاذ القبور، مساجد .

9- إنّ أقصى ما يدل عليه الحديث لو قلنا بإطلاقه هو أن يتّخذ مدفن الأنبياء مساجد، وأمّا بناء مسجد في جنب مدافنهم بحيث يكون المسجد وراء المدفن كما هو الحال في المشاهد المشرفة لأئمة الشيعة فلا يعمه النهي أبداً .

10- وعلى

فرض وجود الإطلاق فإذا دار الأمر بين الأخذ بالكتاب(2) والسنة الرائجة بين المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا هذا، حيث يصلون في مسجد النبي وقبره في وسطه، وبين إطلاق هذه الرواية فالأول هو المتعين .

إذا تبين عدم صلاحية الحديث للاستدلال على التحريم، فيجب علينا عرض المسألة على سائر الأدلة، وإليك البيان.

عرض المسألة على القرآن

كان الواجب على الوهابيين الذين يدمّرون الآثار الإسلامية بهذه الأحاديث عرض المسألة على القرآن الكريم الّذي هو تبيان لكل شيء .

قال سبحانه:

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيء)(3) .

والقرآن صادق مصدّق لا يكذب _ يذكر سبحانه _ في قصة أصحاب الكهف أنّ القوم لما عثروا على أجسادهم المطرية في الغار اختلفوا على قولين: تذكرهما الآية التالية :

(وَكَذَلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَأنَّ السّاعَةَ لاَ رَيبَ

____________________________

1 . صحيح مسلم ج 2 ص 66 كتاب المساجد .

2 . سيوافيك بيان دلالة الكتاب على الجواز .

3 . سورة النحل: الآية 89 .

( 218 )

فيها إذْ يَتنازَعُونَ بَيْنَهُم أمْرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُم أعْلَمُ بِهِم قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم لَنَتَّخِذَنّ عَلَيْهِم مَسْجداً)(1) .

فالآية صريحة في أن القوم بعد ما عثروا عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم على قولين:

1- البناء على قبورهم «ابنوا عليهم بنياناً».

2- بناء المسجد على قبورهم «لنتخذن عليهم مسجداً».

وكلتا الطائفتين يريدان التعظيم والتكريم على اختلاف منهجهم، والمعروف بين المفسرين أنّ القائلين بالقول الأول كانوا هم المشركين، وأنّ القائلين بالقول الثاني هم الموحدون والمسلمون، وسواء أثبت ذلك أم لا فإنّ العاثرين عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم، وعلى كل تقدير فالآية حجة على جواز بناء المسجد على القبور أولا، وعلى جواز بناء المسلمين عليها ثانياً، وذلك لأنّ القرآن يذكر القولين من

دون رد وطعن، ولو كان كل من القولين _ وخصوصاً القول الثاني _ على خلاف الهداية وفي جانب الضلالة، لأشار إلى ردّه وطعنه، وليس القرآن كتاب قصة وإنما هو كتاب هداية، فلو كان يذكر شيئاً من الأُمم السالفة، فإنما هو للعبرة والاعتبار، ولأجل ذلك كثيراً ما يردّ عليهم بعد نقل كلامهم، فسكوت القرآن تجاه هذين القولين ونقلهما عن القوم بصورة كونه عملا مستحسناً، أقوى دليل على جواز العمل المذكور في الأُمة المحمدية .

قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِه إلى المَدينةَ):

«إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فزعاً، ورأى أنّه حيران، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، أمّا الغداة فاسمعهم، وكل

____________________________

1 . سورة الكهف: الآية 21 .

( 219 )

إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست بالمدينة الّتي أعرف...»(1) .

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحدة مؤمنة متدينة بشريعة المسيح، رغم ما كانوا على ضده قبل ثلاثمائة سنة .

وقال في تفسير قوله تعالى: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْياناً) فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم يقول: رب الفتية أعلم بشأنهم وقوله: «قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم» يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنّ عليهم مسجداً .

وقد نقل عن عبداللّه بن عبيد بن عمير: فقال المشركون نبني عليهم بنياناً، فإنهم آباؤنا، ونعبد اللّه فيها. وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منّاً، نبني عليهم مسجداً ونعبد اللّه فيه(2) .

وبذلك يعلم أنّ

ما ذكره الألباني في الرد على الاستدلال بالآية، من أنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ولا دليل على حجية فعلهم، رجم بالغيب، فإنّ ما ذكره الطبري يدل على أنّ المراد هو الغلبة في مجال الدين، وتدهور الوثنية وازدهار التوحيد .

وهذا يدلّ على أنّ سيرة العقلاء في العالم تكريم موتاهم، وأنّ سيرة المؤمنين الموحدين اتخاذ مقابر الصالحين مساجد ليتبركوا بوجودهم وأجسادهم الذين كرسوا حياتهم في إشادة قوائم التوحيد ورفعوا صرحه، وكيف يتصور ممن قام بتكريم إمام الموحدين وسيدهم، أن ينحرف عن خطه الأصيل (التوحيد) ويعبد غيره سبحانه ويكون مشركاً، إلاّ إذا كان منحرفاً وأشرب في قلبه العجل _ أعادنا اللّه من وساوسهم .

* * *

____________________________

1 . تفسير الطبري ج 15 ص 219 طبع مصطفى الحلبي بمصر، سورة الكهف الآية 19 .

2 . تفسير الطبري ج 15 ص 225، ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية .

( 220 )

ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء

ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء

هذا هو الموضوع السادس الّذي قال في حقه ابن تيمية: «ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبّد عندها بصلاة واعتكاف، أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة لأجل النهي عنها، إلى أن قال: وإنما دين اللّه تعالى تعظيم بيوت اللّه وحدها التي تشرّع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة، والاعتكاف، وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء له(1) .

يقول محمد بن عبد الوهاب: لم يذكر أحد من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة، ولا أنّ الصلاة والدعاء هناك أفضل، بل اتفق الكل على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأولياء والصالحين(2)

.

وجاء في الجواب المنسوب إلى علماء المدينة: «أمّا التوجه إلى حجرة النبي عند الدعاء فالأولى منعه، كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب، لأنّ أفضل الجهات جهة القبلة» .

وقد تجاوزت هذه المسألة على مر الزمان مرحلة المنع إلى مرحلة الشرك ،

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 60 .

2 . زيارة القبور ص 159 _ 160 .

( 221 )

حتّى أنهم اليوم يعتبرون ذلك شركاً، وكل من فعل ذلك يكون عندهم مشركاً، وإليك توضيح المسألة:

1- لا شك أنّ إقامة الصلاة عند القبور لغاية عبادة صاحب القبر أو اتخاذه قبلة شرك، ولكن لاتجد على وجه البسيطة مسلماً يفعل ذلك، بل لا يحوم حوله البعداء من الأوساط الإسلامية، فضلا عن المتحضّرين منهم، المتواجدين في الأوساط الدينية .

2- إنّ هدف المسلمين من إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء، هو التبرك بالمكان الّذي احتضن جسد حبيب من أحبّاء اللّه، فيتمتع ذلك المكان بمنزلة سامية، فالصلاة والدعاء هناك يعودان بثواب أكثر على فاعلهما.

إنّ لمشاهد الأولياء ومراقدهم شرفاً وفضيلة خاصة لا توجد في غيرها، ولأجل ذلك أوصى الشيخان بدفنهما في جوار النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، فالمصلي لدى قبورهم لا يقصد سوى ما قصده الشيخان لا غير. فلو كان قصد التبرك بمكان شركاً فلماذا أوصى الشيخان بالدفن بجوار النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ .

3- إنّ القرآن الكريم يأمر حجاج بيت اللّه الحرام بإقامة الصلاة عند مقام إبراهيم، وهو الصخرة الّتي وقف عليها إبراهيم لبناء الكعبة، فيقول: (وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وَأمْناً وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهيمَ مُصَلّىً)(1) .

إنّ الصلاة في مقام إبراهيم لأجل التبرك بمقام النبي إبراهيم، فلو كانت عبادة اللّه تبارك وتعالى

مقرونة بالتبرك بمكان المخلوق شركاً، فلماذا أمر به سبحانه، فهل هناك فرق بين مقامهم ومثواهم؟ .

4- سأل المنصور العباسي مالك بن أنس وهما في مسجد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فقال: يا أبا عبد اللّه، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه؟ فقال مالك: لم تصرف عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه (2) .

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 125 .

2 . وفاء الوفاء ج 4 ص 1376 .

( 222 )

والعجب أنّ الكاتب الوهابي (الرفاعي) حاول أن يكذب القصة، قال: «إنّ أبا جعفر المنصور كان من أعلم علماء عصره، فلا يصح أن يكون جاهلا فيستفسر» .

يا للعجب! من أين علم أنه كان مثل مالك بن أنس إمام المدينة المنورة؟

وهل له آثار في الفقه والحديث مثل مالك؟

ماهذه الكلمة الساقطة؟ وأي دليل على أنه لم يكن جاهلا بهذه المسألة فيستفسر مثله أو من هو أعلم منه ؟

5- روى السيوطي في أحاديث المعراج أنّ النبي الأكرم نزل في المدينة وطور وسيناء وبيت لحم، وصلّى فيها، فقال له جبرائيل: يا رسول اللّه أتعلم أين صلّيت؟ إنّك صليت في طيبة، وإليها مهاجرتك، وصلّيت في طور سيناء، حيث كلم اللّه موسى تكليماً، وصليت في بيت لحم حيث ولد عيسى(1) .

ولا أظن أن يتوهم أحد وجود الفرق بين المولد والمرقد بالتجويز في الأول دون الثاني .

6- إنّ المسلمين جميعاً يصلّون في حجر إسماعيل، مع أنّ الحجر مدفنه ومدفن أُمه هاجر، فأيٌ فرق بين مرقد النبي ومدفن أبيه إسماعيل؟

7- ولقد بلغت هاجر أُم إسماعيل مرتبة عند اللّه بسبب صبرها وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه سبحانه، فجعل اللّه موضع أقدامها محلا

للعبادة، وأوجب على حجاج بيته الحرام أن يسعوا فيها كما سعت هاجر بين جبلي الصفا والمروة، فنسأل إذا كان صبرها على المكاره، وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه تعالى قد منحا الكرامة لموضع أقدمها، وأوجب اللّه على المسلمين أن يعبدوه سبحانه في ذلك المكان بالسعي بين الصفا والمروة، فلماذا لا يكون قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

____________________________

1 . الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي ج 1 ص 154 .

( 223 )

مباركاً ومقدساً، في حين أنّه تحمّل أنواع المصاعب والمصائب والمكاره من أجل إصلاح المجتمع وإرشاده .

قال ابن القيم _ تلميذ ابن تيمية _ : «إنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه»(1) .

8- إذا كانت الصلاة عند القبر محرّمة في الشريعة الإسلامية، فلماذا قضت عائشة عمرها في البيت الّذي دفن فيه الرسول؟ .

9- إنّ السيدة فاطمة الزهراء الّتي قال في حقها النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ اللّه يرضى برضى فاطمة ويغضب بغضبها»(2) كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل جمعة أو في كل أسبوع مرتين، وكانت تبكي وتصلّي عند قبره .

يقول البيهقي: كانت فاطمة (رضي اللّه عنها) تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة، فتصلّي وتبكي عنده(3) .

10- إنّ مراقد الأنبياء ومشاهدهم تعدّ جزءاً من مطلق الأرض الّتي جعلها اللّه سبحانه محلا لعبادته، وقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(4) .

فما الدليل على إخراج مشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين عن إطلاق

الحديث المتفق عليه، أفيزعم الوهابي ان الصلاة في مشاهد الأنبياء ومراقدهم أقل ثواباً من مطلق الأرض؟!

____________________________

1 . زاد المعاد في هدى خير العباد طبع مصطفى البابي الحلبي، القاهرة بإشراف طه عبدالرؤوف 1390 ه_ ق .

2 . صحيح البخاري ج 5 باب مناقب قرابة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ص 20 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154 .

3 . السنن للبيهقي ج 4 ص 78 مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 377 .

4 . صحيح البخاري ج 1 ص 91، مسند أحمد ج 2 ص 222 .

( 224 )

وأخيراً نرى أنّ المسلمين يقيمون الصلاة طيلة أربعة عشر قرناً عند قبر النبي والخليفتين، من دون أن يختلج ببال أحد من أنّ إقامة الصلاة عند القبور حرام أو مكروه .

كيف، ولو كان مكروهاً أو حراماً لما أوصى الإمام الحسن بن علي بدفن جسده المطهر عند قبر جده المصطفى _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ حتّى حالت بنو أُمية دون إنفاذ وصيته .

هذه الوجوه العشرة كافية لمن أراد اتباع الحق، ولا أظنّ أنّ المنصف المتحرّي للحقيقة _ إذا تجرّد عن الهوى _ ينبذ هذه الأدلة وراء ظهره .

* * *

وفي الختام نذكر حكم الإضاءة عند القبور، فربّما يحكم بالحرمة لما رواه النسائي عن ابن عباس أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج(1) .

إنّ هذا الحديث وأمثاله يهدف إلى ما إذا كانت الإضاءة تبذيراً للمال، أو تشبّهاً ببعض الأُمم والشعوب، وإلاّ فالإضاءة إذا كانت لغاية قراءة القرآن والدعاء لا تكون محرمة .

بل يقول العلامة السندي في شرحه على الحديث: «والنهي عنه لأنّه تضييع مال بلا

نفع»(2) .

أضف إلى ما في الحديث من لعن زائرات القبور، مع أنّ عائشة زارت البقيع مع النبي، وقد علّمها كيفية الزيارة كما تقدم حديثه .

____________________________

1 . السنن للنسائي ج 3 ص 77 .

2 . السنن للنسائي ج 3 ص 77 طبع مصر وج 4 ص 95 طبع بيروت شرح الجامع الصغير ج 2 ص 198 .

( 225 )

ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين

ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين

إنّ التوسل بالأنبياء والصالحين في حال حياتهم أو بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى من الأُمور الرائجة بين الموحدين في جميع الأجيال والقرون، وقد أثارت فتوى ابن تيمية فيها بالحرمة ضجّة كبرى بين المسلمين، فالمسلمون كانوا إلى عصر ابن تيمية على جواز التوسل بشروطه المسوغة، إلى أن جاء ابن تيمية فأفتى بالحرمة، وتبعه الوهابيون، فأقصى ما جاز عندهم من التوسل هو التوسل بدعاء النبي في حال حياته، غير أنّ الشبه والظنون الّتي اعتمدوا عليها في منع التوسل كانت تقتضي منع هذا القسم أيضاً، لأنّه توسل بالمخلوق لا محالة في مقام العبادة، لكنّهم لم يجدوا منتدحاً عن القول بجوازه لتصريح القرآن به، حيث حثّ المسلمين على المجىء إلى النبي وطلب الاستغفار منه، قال سبحانه: (وَلَوْ أنّهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً)(1)، وقال سبحانه: (وَإذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُم رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤوُسَهُم وَرَأيْتَهُم يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)(2) وقال سبحانه ناقلا عن أبناء يعقوب (يَا أبَانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنّا خَاطِئِينَ)(3) .

____________________________

1 . سورة النساء: الآية 64 .

2 . سورة المنافقون: الآية 5 .

3 . سورة يوسف: الآية 97 .

( 226 )

ولأجل الحط من شأن النبي وكرامته يجعلون النبي مساوياً للمؤمنين ويقولون: «إنّ التوسل الجائز هو التوسل بدعاء

المؤمن حال حياته، ولو جاز التوسل بدعاء النبي فليس هذا إلاّ لكونه أحد المؤمنين، ويجوز التوسل بدعاء كل أخ مؤمن من غير فرق بين النبي وغيره، وأمّا غير ذلك فكله ممنوع».

وستوافيك أقسامه وكلماتهم فيها، وبما أنّ الوهابيين مازالوا يستدلون ضد المتوسلين ببعض الآيات، نقدم البحث عنها ونقول:

آيتان على طاولة التفسير

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُم وَلاَ تَحْويلا * أُولئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِم الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ، وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً)(1).

يقول محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية وخادمها في الرياض: إنّك ترى أنّ اللّه تعالى يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّ عمل المشركين بالتزلّف إلى اللّه بأشخاص المخلوقين لا يفيدهم شيئاً، لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنهم ولا تحويلا، فدعاؤهم بالذوات أو التوسل بهم لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يوصلهم، لأنهم أخطأوا الطريق إلى اللّه .

إنّ هاتين الآيتين في سورة الإسراء نزلتا في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنّيون، أمّا الإنس الذين كانوا يعبدونهم فلم يشعروا بإسلامهم، فأخبرهم اللّه بوحيه المنزل على عبده ورسوله محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : إنّ هؤلاء الذين يزعم المشركون أنهم يقرّبونهم إلى اللّه زلفى، يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم بالتقرّب إلى الله تعالى، ويرجون رحمته و يخشون عذابه، فكيف أيها المشركون تدعونهم لكشف الضر عنكم وتوسّطونهم، فما الّذي تؤملون منهم وهم على أشدّ ما يكونون حاجة إلى اللّه تعالى، فالذي لا يملك شيئاً، لا يعطي شيئاً(2).

____________________________

1 . سورة الإسراء: الآية 56 _ 57 .

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 12 _ 13 .

( 227 )

إنّ الاستدلال بهاتين الآيتين على رد التوسل الشائع بين

المسلمين من عجيب الأُمور، فإنّ التوبيخ فيهما متوجّه إلى المشركين الذين كانوا معتقدين بألوهية معبوداتهم، وأنهم يملكون كشف الضر وتحويل السوء عن الدعاة، واللّه سبحانه يرد عليهم بأنّ المدعوين في أشد الحاجة إلى طلب التقرب إلى اللّه سبحانه، فكيف يمكن لهم كشف الضر عنهم؟ وأيّة صلة بين أولئك المشركين المعتقدين بألوهية المدعوين، والموحدين الذين يعتقدون بأنّه لا يملك كشف الضر إلاّ اللّه، ولكنّهم يوسّطون بينهم وبين ربّهم أحد عباد اللّه الصالحين، الّذي له مكانة عند اللّه، لعلّه سبحانه يجيب دعوته لأجله وحرمته ومقامه، وليس ذلك ببدعة، فقد أمر بتوسيط دعاء النبي في طلب المغفرة من اللّه، وأمر العصاة أن يطلبوا منه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ الاستغفار على ما عرفت .

والقسمان يشتركان في توسيط المخلوق، سواء أكان ذاته القدسية أمْ دعاءَهُ المستجاب .

ثم إنّه في ذيل كلامه يقول: «إنّ الذين كان العرب يوسطونهم في توسلاتهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة، فما بال المسلمين المتوسلين لا يقتدون بهم، ولم لا يفعلون ما يفعلون ما داموا بهم وبصلاحهم واثقين»؟ .

وللملاحظة والتدبّر في كلامه مجال واسع:

أمّا أولا _ فمن أين علم أنّ هؤلاء الذين كان العرب يوسطونهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة؟ فليس في الآية شيء يدل على ذلك .

وثانياً _ لو صحّ ذلك فمعنى كلامه أنّ التوسل منحصر في ذلك، مع أنّه من المجوزين لتوسل المسلم بدعاء النبي في حال حياته، بل بدعاء أخيه المسلم، فلماذا صار التخلف هيهنا عن هديهم ومذهبهم جائزاً مع أنهم لم يكونوا متقربين إلاّ بأعمالهم فقط .

والحق أنّ الكاتب اتّخذ موقفاً مسبقاً في مجال التوسل، وهو إحياء ما بذره ابن تيمية، فلذلك ترى أنّه يقفو في كتابه أثر

شيخه، بلا تخلّف عنه قيد شعرة، مع أنه يتظاهر في بدء كتابه بأنه يريد أن يعالج الموضوع علاجاً محايداً

( 228 )

عن كلّ تحيّز(1) .

أقسام التوسل: المشروع والممنوع عند الوهابيين

ثم إنّ الرفاعي لغاية التظاهر بالحياد في الكتابة عن التوسل، يقسمه إلى مشروع وممنوع ويقول: وينقسم التوسل المشروع إلى ثلاثة أقسام:

1- توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بذاته العلية، وبأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى .

2- توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بأعماله الصالحة .

3- توسل المؤمن إلى الّه تعالى بدعاء أخيه المؤمن له .

ثم إنّه يقدم الكتابة في الموضوعات الثلاثة فيما يقرب من مائة وسبعين صفحة، مع أنّ هذه الموضوعات من المسائل البديهية لدى الأُمم جمعاء، فضلا عن المسلمين، ولكنّه جاء يصرف القلم والحبر والورق في هذه الموضوعات لغاية التظاهر بأنه ليس مانعاً من التوسل، لكن التوسل المشروع هو هذه .

ثم إنّه خصّ الشطر الآخر من كتابه التوسل الممنوع، وجعله ثلاثة :

1- التوسل إلى اللّه بذوات النبيين والصالحين، وبالأمكنة الفاضلة كالكعبة والمشعر الحرام، وبالأزمنة المباركة كشهر رمضان وليلة القدر وأشهر الحج والأشهر الحرم .

2- التوسل إلى اللّه بجاه فلان أو حرمته أو ما أشبه ذلك .

3- الإقسام على اللّه تعالى بالمتوسل به .

ثم إنّه بدأ في البحث عن أحكام هذه التوسلات الثلاثة، وخرج بالمآل بحرمتها إمّا بالطعن في أسناد الأحاديث، أو بنقد مضامينها، مع أنّ المأثورات الواردة في ذلك المقام مستفيضة أو متواترة بالمعنى، فمن العجيب المناقشة في أسناد المستفيض أو المتواتر. نعم إنّ الشيخ الرفاعي تنازل عن توصيف هذه

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 9 .

( 229 )

التوسلات بالشرك، وأفتى بحرمتها، مع أنّ المعروف من ابن تيمية وأذنابه هو توصيفها بالشرك، أو كونها ذريعة له .

يقول ابن تيمية

في بيان مراتب التوسل :

أحدها: إنَّ الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، وسواء أكان من الأنبياء _ عليهم السَّلام _ أمْ غيرهم، فيقال: يا سيدي أغثني، وأنا مستجير بك وغير ذلك، فهذا هو الشرك باللّه .

الثاني: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء الصالحين: ادع اللّه وادع لنا ربك ونحو ذلك، فهذا مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز .

الثالث: أن يقول: أسالك بجاه فلان عندك وحرمته ونحو ذلك(1) .

ترى أنّه وصف الصورة الأُولى بالشرك والثانية والثالثة بعدم الجواز، فقد فرغنا من تبيين معيار التوحيد والشرك فلا نعيد، وإنّما نتكلم في الجواز وعدمه، ولنبحث عن الصور الثلاث الّتي جاءت في كلام الرفاعي، وزعم أنها ممنوعة، فنقول:

* * *

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 22 _ 23 .

اقسام التوسل:

التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم

التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم

احتج الشيخ السلفي المعاصر على التحريم بوجوه واهية مدحوضة، وإليك بيانها:

1- لو كان هذا النوع من التوسل مشروعاً حقيقة لذكره الشارع في زمرة ما ذكره وحثّ كذلك الناس عليه، وليس معقولا أن يهمله اللّه تعالى ولا يبلّغه رسوله .

2- إنّ اللّه عاب في الآية المتقدمة (آية الإسراء) محاولتهم القربى والزلفى إليه تعالى بالأشخاص والعباد المخلوقين، فكلا الأمرين في الآية عيب وذنب .

3- إن أرادوا بالواسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد فهو من أعظم الشرك(1) .

يلاحظ على الوجه الأول: أنّ القائلين بالتوسل بالأشخاص يدّعون أنّ النبي ذكره في كلامه، وقد نقل هو في نفس الكتاب ستة وعشرين دليلا عنهم، وهو بين حديث مروي عن النبي، وأثر منقول عن الصحابة في ذلك المجال، وهو وإن ناقش في أسنادها غالباً، لكنّه غفل _ بعد تسليم

ما ناقشه _ عن أنّ هذا العدد الهائل من الأخبار، أخبار متواترة بالمعنى، ولا وجه للمناقشة في

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل 177 _ 180 .

( 232 )

المتواتر، ولو صحّ النقاش في المتواتر فربما تكون جميع الأسناد زائفة باطلة .

ويلاحظ على الوجه الثاني: أنّ اللّه تعالى عاب عليهم بعبادتهم الوسائل الّتي يوسّطونها بينهم وبين اللّه، لا لتوسلهم بالأشخاص والعباد. قال سبحانه نقلا عنهم: (مَا نَعْبُدُهُم إلاّ لِيُقَرّبُونَا إلى اللّهِ زُلْفَى)(1) فكم فرق بين أن يعيب سبحانه توسيط الصالحين في دعائه سبحانه، وأن يعيب عبادتهم الصالحين ليتوسطوا بينهم وبين اللّه، والآية تهدف إلى الثاني دون الأول، وما هذا الاعوجاج في الفهم لو لم يكن عناداً؟ .

يلاحظ على الوجه الثالث: أنّه فرية واضحة لا تصدر عن مسلم، بل يريدون منهم الدعاء والطلب من اللّه مثل حال حياتهم، أو يطلبون من اللّه سبحانه قضاء حاجتهم، لأجل حرمة الوسائط الذين كرمهم اللّه في الدنيا والآخرة، فالمدعو الحقيقي هو اللّه سبحانه، وهو الكعبة المقصودة مآلا .

إذا وقفت على دلائله الداحضة. هلمّ نقرر أدلة القائلين بجواز هذا النوع من التوسل، وهي أدلة مشرقة لا تبقي لأحد شكاً، وإليك البيان:

1- توسل الضرير بالنبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

عن عثمان بن حنيف أنه قال:

إنّ رجلا ضريراً أتى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فقال:

ادع اللّه أن يعافيني .

فقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير .

قال: فادعه! فأمره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين. ويدعو بهذا الدعاء:

«أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إنى أتوجه

____________________________

1 . سورة الزمر: الآية 3

.

( 233 )

بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، أللّهمّ شفّعه فيّ» قال ابن حنيف:

واللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضر.

كلمات حول سند الحديث

قال ابن تيمية: وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنه علّم رجلا أن يدعو فيقول:

«أللّهمّ إنّي أسألك وأتوسل بنبيك... وروى النسائي نحو هذا الدعاء(1) .

وقال الترمذي: هذا حديث حق حسن صحيح .

وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح .

وقال الرفاعي: لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور...(2) .

نعم حاول السيد محمد رشيد رضا، مؤلف المنار، الّذي علق على كتاب مجموعة الرسائل والمسائل، تأليف ابن تيمية، أن يضعف الحديث بحجة أنه ورد في سنده أبو جعفر، وأنه غير أبي جعفر الخطمي(3) .

ولكن المحاولة فاشلة، فإنّ إمام مذهبه أحمد في مسنده وصفه بالخطمي، ونقل الرفاعي عن نفس ابن تيمية أنّه جزم بأنّه هو أبو جعفر الخطمي، وهو ثقة(4) ووصفه الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه ب_ (الخطمي المدني) .

ولأجل أن يقف القارىء على مظانّ الحديث في الصحاح نذكره مصادره:

1- سنن ابن ماجة، الجزء الأول، ص 441 رقم الحديث 1385

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 158 .

3 . مجموعة الرسائل والمسائل ص 13 قسم التعليقة .

4 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 228 .

( 234 )

تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء الكتاب العربي، وقد عرفت تنصيصه بأنه حديث صحيح .

2- مسند أحمد، ج 4 ص 138 عن مسند عثمان بن حنيف، طبع المكتب الإسلامي مؤسسة دار صادر، وقد روي هذا الحديث عن ثلاثة طرق .

3- صحيح الترمذي ج 5،

كتاب الدعوات، الباب 119، الحديث برقم 3578، وقد عرفت كلمته في حق الحديث .

4- مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري، الجزء الأول ص 313 طبع حيدر آباد الهند .

قال بعد ذكر الحديث: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .

5- المعجم الكبير للطبراني: الجزء التاسع باب (ما أسند إلى عثمان بن حنيف) ص 17 برقم 8311 ، قال المعلق في ذيل الصفحة: ورواه في الصغير 1/183 _ 184 وقال: لم يروه عن روح بن أبي القاسم إلاّ شبيب بن سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الّذي يحدث يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي _ واسمه عمير بن يزيد _ وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس بن شعبة، والحديث صحيح .

وبعد هذا كله لا مجال للمناقشة في سند الحديث أو الطعن فيه، كيف والخصم الّذي يحاول أن يضعف كل صحيح، فشلت محاولته في حقه، فسلم سنده، ولكن مضى يناقش في دلالته، وسيوافيك أنها أيضاً محاوله فاشلة .

دلالة الحديث

إنّ الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الأعمى توسل بذات النبي بتعليم منه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فهو وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر، ولكنّ النبي علّمه دعاء تضمّن التوسل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث .

( 235 )

وبعبارة ثانية: الّذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأول: إنّ الراوي طلب من النبي الدعاء، ولم يظهر منه توسل بذات النبي .

الثاني: إنّ الدعاء الّذي علّمه النبي تضمّن التوسل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون دليلا على جواز التوسل بالذات، وإليك الجمل الّتي هي صريحة في المقصود:

1-اللّهمّ

إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيك .

إنّ كلمة «بنبيك» متعلقة بفعلين: «أسالك» و «أتوجه إليك» والمراد من النبي نفسه المقدسة وشخصه الكريم، لا دعاؤه .

إنّ من يقدّر كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيك» ويصوّر أنّ المراد: أسألك بدعاء نبيك، أو أتوجه إليك بدعاء نبيك، فهو يتحكم بلا دليل، ويؤوّل بلا جهة، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدرية .

2- «محمد نبي الرحمة» .

لكن يتضح أنّ المقصود هو السؤال من اللّه بواسطة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وشخصيته جاءت بعد كلمة (نبيك) جملة «محمد نبي الرحمة» لكن يتضح الهدف بأكثر ما يمكن .

3- إنّ جملة «يا محمد إني أتوجه إلى ربي» تدل على أنّ الرجل _ حسب تعليم الرسول _ اتخذ النبي نفسه وسيلة لدعائه، أي أنه توسل بذات النبي لا بدعائة .

4- إنّ قوله: «وشفّعه فىّ»: معناه يا ربّ اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقي، وليس معناه تقبّل دعاءه في حقي .

5- فإنَّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتّى يكون معناه: استجب دعاءه في حقي، ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي، إذ

( 236 )

ليس دعاؤه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من الأُمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقه .

نعم، إنّ الراوي طلب الدعاء من النبي، والنبي وعده بالدعاء حيث قال: إن شئت دعوت، ولكن النبي لمّا علّمه دعاء مؤثراً في قضاء حاجته، وسكت عن دعاء نفسه، صار هذا قرينة على أنّ وعده بالدعاء، كان أعم من الدعاء المباشري أو التسبيبي. فالدعاء الّذي وعد به النبي هو نفس الدعاء الّذي علمه الضرير، فكان دعاء له _ صلَّى الله عليه وآله وسلم

_ بالتسبيب كما كان دعاء للضرير بالمباشرة .

فالنقطة المركزية في هذا التوسل هي شخص رسول اللّه وشخصيته الكريمة، لا دعاؤه، وإن كان دعاؤه _ في سائر المواضع _ أيضاً مؤثراً مثل التوسل بشخصيته، ومن تأمل في ما ذكرنا من القرائن يجزم بأنّ المتوسل به بعد تعليم النبي، هو نفس الرسول و شخصيته .

6- ولنفترض أنّ معنى قوله: «وشفّعه فىّ»: استجب دعاءه في حقي، ونفترض أنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ _ مضافاً إلى ما علّمه من الدعاء _ قام بنفسه أيضاً بالدعاء، ودعا الباري سبحانه أن يرد إليه بصره، ولكن أيّة منافاة بين الدعاءين حتّى يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر .

فهناك كان دعاء من النبي ولم يذكر لفظه، ودعاء آخر علمه الرسول للضرير وقد تضمّن هذا الدعاء التوسل بذات النبي وشخصه، وليس بين الدعاءين أي تزاحم وتعارض حتّى نجعل أحدهما قرينة على الآخر .

تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث

إنّ الخصم قد عجز عن الدفاع عن مذهبه وهو يواجه هذه الرواية، فإنها بصراحتها تقاومه وتكافحهه، فعاد يكرر ما ذكره شيخه في رسائله، غير أنّ شيخه: نقله بصورة الاحتمال، ولكن الرفاعي ذكره بحماس.

قال ابن تيمية: «ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقاً، حياً وميتاً، ومنهم من يقول: هذه قضية عين وليس فيها إلاّ

( 237 )

التوسل بدعائه وشفاعته، لا التوسل بذاته»(1) .

ترى أنّ شيخ الرفاعي ينسبه إلى الغير عن تردد وشك، ولكن الرفاعي عاد يكرر هذا المطلب بثوب جديد، ويدّعي أنّ السائل لم يقصد التوسل بذات الرسول بل بدعائه المستجاب، ويستدل على ذلك بالعبارات التالية:

1- قول الأعمى لرسول اللّه: ادع اللّه أن يعافيني.

2- جواب الرسول له: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت

.

3- إصرار الأعمى على طلب الدعاء منه بقوله: فادعه .

4- قول الأعمى في آخر دعائه الّذي علمه إياه رسول اللّه: اللّهمّ شفّعه فىّ. فاستنتج من ذلك كله أنّ المتوسل به هو دعاؤه .

ولقد عزب عن المسكين أن الوجوه الثلاثة الأُولى لا تمت إلى مقصوده بصلة، لما عرفت من أنّ الأعمى في محاورته مع الرسول لم يكن يخطر بباله إلاّ طلب الدعاء، ولأجل ذلك طلب منه الدعاء، وأنّ الرسول لما خيره بين الدعاء والصبر على الأذى، اختار الدعاء ورفض الصبر، غير أنّ النقطة المركزية للاستدلال ليست هذه المحاورة، وإنّما هو الدعاء الّذي علّمه رسول اللّه الضرير، فإنه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ علمه دعاء يتضمن التوسل بذات النبي: وبعبارة ثانية: كانت هناك حالتان:

الأُولى: المحاورة الابتدائية الّتي وقعت بين النبي والضرير، فكان الموضوع هناك دعاء الرسول بلا شك .

الثاني: الدعاء الّذي علمه الرسول، فإنه تضمن التوسل بذات النبي، فالتصرف في هذا النص بحجة أن الموضوع في المحاورة الأُولى هو الدعاء، تصرف عجيب، فإنّ الأعمى وإن لم يتردد في خلده سوى دعاء الرسول المستجاب، ولكن الرسول علمه دعاء جاء فيه التوسل بذاته. ونحن نفترض أنه كان من الرسول، دعاء غير ما علمه للضرير، ولكن أية ضرورة تقضي بأن نؤوّل ما ورد في العبارة التي علّمها للسائل؟

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .

( 238 )

فما هذه الشبه والظنون الّتي يتمسك بها الرفاعي في سبيل دعم مذهبه؟

باللّه عليك أيها الكاتب الوهابي الّذي يعيش عيشاً رغداً في الرياض في ظل الثروة الطائلة للسلطة، لولا أنّك من القائلين بمنع التوسل بذات النبي، هل كان يخلد ببالك أن المراد من الدعاء الّذي علمه للضرير، هو التوسل بدعاء

النبي لا ذاته؟ ولولا أنك قد أخذت موقفاً مسبقاً في الموضوع، هل كان يتردد في ذهنك تأويل ذلك النص؟ وأنت وأشياخك ونظراؤك تصبّون القارعات على الذين يؤوّلون الصفات الخبرية كاليد والاستواء والوجه، وتصفونهم بالجهمية والمؤوّلة وغير ذلك من الألفاظ الركيكة، فكيف تسوّغون تأويل هذا النص الّذي لا يرتاب فيه إلاّ من اتخذ رأياً مسبقاً؟

وأمّا قوله: «وشفّعه فيّ» فقد قلنا إنّ المراد: اجعله شفيعاً لي، وليس معناه استجب دعاءه في حقي، وإلاّ لما عدل عن اللفظ الصريح إلى هذا اللفظ الّذي ليس بواضح في ما يريدون .

والعجب أنّ الرفاعي يتمسك بالطحلب ويقول:

«لو كان قصده التوسل بشخص الرسول أو بحقه أو بجاهه لكان يكفيه أن يبقى في بيته، ويدعوا اللّه قائلا مثلا: اللّهمّ ردّ بصري بجاه نبيك، دون أن يحضر ويتجشم عناء المشي...

ولكن ليس هذا بعجيب ممن اتّخذ رأياً مسبقاً في الموضوع، وذلك لأنّ الضرير لم يكن متذكراً هذا النوع من التوسل حتّى يجلس في بيته ويتوسل به _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وإنّما علّمه النبي الأكرم، وما معنى هذا الترقب من الرجل؟.

ثمّ إنّ الكاتب يدّعي أن لفظ الحديث ومفاهيم اللغة العربية وقواعدها كلها تشهد بأنّ معناه هو التوسل بدعاء النبي، ماذا يريد من لفظ الحديث؟ هل يريد المحاورة الأولى الّتي لا تمتّ إلى مركز الاستدلال وموضعه بصلة، أو يريد الدعاء الّذي علمه الرسول؟ فهو يشهد بخلافه ؟

( 239 )

وماذا يريد من مفاهيم اللغة العربية وقواعدها، وأيّة قاعدة عربية تمنع الأخذ بظاهر الدعاء؟

(ما هكذا تورد يا سعد الإبل!) .

إنّك إذا قرأت ما جاء به الكاتب من صخب وهياج في ذيل كلامه، لتعجبت من عباراته الفارغة وكلماته الجوفاء، الّتي هي بالخطابة أشبه منها بالبرهان.

* * *

2-

التوسل بالنبي بتعليم من الصحابي الجليل

روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: «أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ نبىّ الرحمة يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي، فتذكر حاجتك، ورح حتّى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفتان (رضي اللّه عنه) فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة؟ وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك اللّه خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلىّ حتّى كلّمته فىّ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلمته، ولكن شهدت رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : فتصبر! فقال يا رسول اللّه. ليس لي قائد فقد شقّ علي. فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات...

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا

( 240 )

الرجل كأنه

لم يكن به ضرّ قط(1) .

ورواه في المعجم الصغير فقال: لم يروه عن روح بن القاسم إلاّ شبيب بن سعيد، أبو سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الّذي يحدث عنه أحمد (ابن أحمد) ابن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح، وروى هذا الحديث عون بن عمارة عن روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر (رضي اللّه عنه) وهو فيه عون بن عمار، والصواب شبيب بن سعيد(2).

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسل بالنبي أظهر من الشمس وأبين من الأمس، ولكن الكاتب الوهابي أخذ يناقش في الحديث من جوانب أُخرى. فقال: «إنّ هذا الحديث تتجلى فيه آثار الصنع، ويدل عليه أُمور :

1- إنّ ما ذكره لا يوافق سيرة عثمان بن عفان لما اشتهر عنه من الرقة واللين .

2- إنّ معنى التوسل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسل به إلى اللّه تعالى بقضاء حاجة المتوسل، لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسل بذات المتوسل به .

3- لو كان دعاء الأعمى الّذي علّمه رسول اللّه دعاء ينفع لكل زمان ومكان، لما رأينا أىّ أعمى على وجه البسيطة» .

يلاحظ عليه: أنّ كل واحد من هذه الوجوه ساقط جداً لا يمكن أن يستدل به على جعل [وضع] الحديث .

أمّا الأول: فلأنّ المعروف من الخليفة هو تكريم الأقربين والإحسان إليهم، خصوصاً بني أبيه، لا تعميمه إلى الجميع. هذا هو التاريخ ضبط عطاءه

____________________________

1 . المعجم الكبير، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني المتوفي سنة 360 ه_، ج 9

ص 16 _ 17، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8310 .

2 . المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 183 _ 184، طبع دار الفكر .

( 241 )

لمروان بن الحكم خمس غنائم افريقية، والحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وقضى ما استقرضه الوليد بن عقبة من عبد اللّه بن مسعود الّذي كان أمين بيت المال في عصر ولاية الوليد على الكوفة، إلى غير ذلك من عطاياه إلى بني أبيه وأقربائه(1)وفي الوقت نفسه كان أبو ذر يعيش في الربذة ويعاني من جوع أليم، ويليه في الفقر وبساطة الحياة عبد اللّه بن مسعود، وعمار بن ياسر، فلا يمكن أن يقال إنّ الخليفة كان ينظر إلى الجميع بعين واحدة، وقد كان عمله هذا هو الّذي أجهز عليه وانتكث عليه فتله. هذا هو الإمام علىّ _ عليه السَّلام _ يصف ذلك العصر بقوله:

«إلى أنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أبِيهِ يَخْضمُونَ مَالَ اللّه خِضْمَةَ الإبلِ نَبْتَةَ الرّبيعِ»(2) .

وفي رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة يقول:

(أوْ أبيتَ مِبْطاناً وَحَولي بُطُونٌ غَرْثَى وأكْبادٌ حَرّى، أو أكُونَ كَمَا قَالَ القَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة * وَحَوْلَكَ أكْبَادٌ تَحِنُّ إلى القِدّ(3)

.

وهو يشير بذلك إلى الأوضاع السائدة في عصره وعصر من تقدمه .

وأمّا الثاني فهو من: غرائب الكلام، فقد جعل مذهبه دليلا على ضعف الرواية، وهو أنّ معنى التوسل عند الصحابة _ هو التوسل بدعاء الشخص لا بذاته _ فمن أين يدّعي أن هذا مذهب الصحابة، وما هو المصدر لذاك الحصر؟ مع أنّ الحديثين المرويين من طريق ذلك الصحابي الجليل، يدلان على خلافه .

____________________________

1 . لاحظ في ذلك تاريخ أبي الفداء ج 1 ص

168، والمعارف لابن قتيبة، ص 84، والأنساب للبلاذري ج 5 ص 52 ولاحظ الغدير ج 8 ص 286، تجد فيه قائمة من عطايا الخليفة الهائلة لنبي أبيه .

2 . نهج البلاغة الخطبة 3 .

3 . نهج البلاغة قسم الكتب رقم 45 .

( 242 )

وأمّا الثالث فهو إطاحة بالوحي وازدراء به، ولو صحّ فلقائل أن يقول: لو صحّ قوله سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِب لَكُمْ)(1) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة ذو حاجة .

ولو صحّ قوله: (أمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء...)(2) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة مضطرّ أو فقير، مع أنّ البسيطة مليئة بالمضطر والمحتاج .

نعم، إنّ الدعاء سبب لنزول الرحمة ودفع الكربة، ولكن ليس تمام السبب لإنجاح المقصود، بل له شروط ومعدات، وله موانع وعوائق، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من الأدعية لا تستجاب مع أنّه سبحانه يحث عباده على الدعاء، وأنّه يستجيب إذا دعاه ويقول:(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم).

هذا كله حول مناقشاته في متن الرواية ومضمونه.. هلمّ معي نستمع مناقشته في السند:

يقول: إنّ في سند هذا الحديث رجلا اسمه (روح بن صلاح) وقد ضعّفه الجمهور، وابن عدىّ، وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة.

يلاحظ عليه: أنّ الطبراني نقل الرواية بهذا السند:

«حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري، ثنا أصبغ بن الفرح، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف»(3) .

كما نقله بهذا السند في المعجم باختلاف يسير لا يضرّ بوحدة السند .

____________________________

1 . سورة غافر: الآية 60 .

2 . سورة النمل: الآية 62 .

3 . المعجم الكبير للطبراني ج

9 ص 17 وفي المعجم الصغير أصبغ بن الفرج مكان (الفرح) .

( 243 )

ورواه البيهقي بالسند التالي:

«أخبرنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد _ رحمه اللّه _ أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال، قال: أنبأنا أبو عروبة، حدثنا العباس بن الفرج، حدثنا إسماعيل بن شبيب، حدثنا أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني...(إلى آخر السند) (1) .

وأنت ترى أنه ليس في طريق الرواية «روح بن صلاح» بل الموجود هو روح بن القاسم، والكاتب صرّح بأن الرواية رواها الطبراني والبيهقي، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصادر وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين .

نحن نفترض أنه ورد في سند الرواية روح بن صلاح، ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدقه المعاجم الموجودة فيما بأيدينا، وإنما ضعّفه ابن عدي، وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حبان والحاكم. وسيوافيك الكلام في حقه في حديث فاطمة بنت أسد، فانتظر. أهكذا أدب نقد الرواية يا شيخ؟ هداك اللّه إلى النهج القويم .

وفي الختام نقول: إنّ السبكي نقل الرواية عن المعجم الكبير للطبراني بنفس السند الّذي نقلناه، وهذا يكشف عن صحة المطبوع(2) .

* * *

4- توسل الخليفة بعم النبي

قبل أن نذكر نص توسل الخليفة عمر بعم النبي: ننبّه على أمر وهو:

إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي وبعد وفاته تعرب عن أنهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه، من دون أن يتردد في خلد واحد منهم بأنه أمر حرام أو شرك أبو بدعة، بل كانوا يرون التوسل بدعاء النبي والصالحين رمزاً إلى التوسل بالنبي ومنزلته وشخصيته، فإنه لو كان لدعائه أثر، فإنما هو لأجل قداسة نفسه

____________________________

1 . دلائل النبوة ج 6 ص 168

.

2 . لاحظ: شفاء السقام ص 139 _ 140 .

( 244 )

وطهارة ذاته، ولولاها لما استجيبت دعوته، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء النبي والتوسل بشخصه وذاته؟ حتّى يكون الأول نفس التوحيد، والآخر عين الشرك أو ذريعة إليه؟

لم يكن التوسل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد اللّه أمراً جديداً بين الصحابة، بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك، وإليك البيان:

استسقاء عبدالمطلب بالنبي وهو رضيع

إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير، حتّى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام(1) .

استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كأنه شمس دجى تجلت عن سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذ النبي أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ إلى الغلام وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي، والبادي، وفي ذلك يقول أبوطالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(2)

وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبدالمطلب

____________________________

1 . فتح الباري ج 2 ص 398 ودلائل النبوة ج 2 ص 126 .

2 . فتح الباري ج 2 ص 494 والسيرة الحلبية ج 1 ص 116 .

( 245 )

به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس .

ويظهر

من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كان موضع رضا منه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فإنه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس فجاءالمطر وأخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حياً لقرّت عيناه، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علىّ _ عليه السَّلام _ وقال: يا رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ كأنك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(1)

إنّ التوسل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع; هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: «وأحب أن يخرج الصبيان، و يتنظفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهن; ولا أحب خروج ذات الهيبة، ولا آمر بإخراج البهائم(2). ما هو الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أن التوسل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح الستنزال الرحمة وكأن المتوسل يقول: ربي وسيدي، الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، وكلتا الطائفتين أحق بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتّى تعمّنا في ظلّهم .

إنّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، وفي ظلها تسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.

وعلى ضوء ذلك تقدر على تفسير توسل الخليفة بعمّ الرسول: العباس بن عبدالمطلب، الّذي سنتلوه عليك، وأنه كان توسلا بشخصه وقداسته وصلته بالرسول، وأنه كان امتداداً للسيرة المستمرة قبل هذا، ولا

____________________________

1 . إرشاد الساري ج 2 ص 338 .

2 . الأم ج 1 ص 230 .

( 246 )

يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة، وإنما هو شيء اخترعه الوهابيون لحفظ موقفهم المسبق في هذه المباحث .

التوسل بعم النبي _

صلَّى الله عليه وآله وسلم _

ما تعرفت عليه سابقاً كان تقدمة لدراسة هذا الحديث الّذي يرويه البخاري في صحيحه ويقول: «كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب (رضي اللّه عنه) وقال: أللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا. قال: فيسقون»(1) .

هذا نص البخاري، وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعم النبي وشخصه وشخصيته، وقداسته وقرابته من النبي، لا بدعائه، ويدل على ذلك أُمور:

1- قول الخليفة عند الدعاء.. قال: «أللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، وتوسل بعم الرسول في دعائه، ولو كان المقصود هو التوسل بدعائه، كان عليه أن يقول: يا عم رسول اللّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللّه، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.

2- روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لما اشتدّ القحط، فسقاهم اللّه تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان:

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا * فسقى الغمام بغرة العباس

عمّ النبي وصنو والده الذي * ورث النبي بذاك دون الناس

أَحَيى الإله به البلاد فأصبحت * مخضرة الأجناب بعد إلياس

ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين(2).

____________________________

1 . صحيح البخاري، باب صلاة الإستسقاء ج 2 ص 32 .

2 . الجزري: أُسد الغابة ج 3 ص 111 طبع مصر.

( 247 )

أمعن النظر في قول الخليفة: هذا واللّه الوسيلة .

3- ويظهر من شعر حسان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال: «سأل الإمام...»

وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء .

وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسل بالصالحين .

تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث

يقول الرفاعي: «لا ريب في أنّ هذا الحديث صحيح، وما ظنك بحديث يرويه الإمام البخاري» ولكنه بصلافة خاصة به يدَّعي أنه من قبيل توسل المؤمن بدعاء أخيه المؤمن، ويقول: إنّ الحديث يخبرنا أنّ أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين ويدعو اللّه تعالى أن يستسقيهم الغيث; وبيّن الأسباب الموجبة لتكليف العباس، فقال: أللّهمّ إنّا كُنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا(1).

ثم أضاف: أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أفضل وأعظم وأقرب إلى اللّه من ذات العباس بلا شك ولا ريب، فثبت أن القصد كان الدعاء ولم تكن ذات الرسول مقصودة عندما كان حياً(2) .

لا أظن أنّ أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف تجاه الحقيقة يسوغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره، فمن أين يقول: إنّ عمر بن الخطاب كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين، بل الخليفة قام بنفسه بالاستسقاء متوسلا بعم النبي

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 253 .

2 . التوسل إلى حقيقة التوسل، ص 253 و 256 وقد أخذه من ابن تيمية حيث قال: «وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا في دعائهم في الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو نبيك أو بجاههم، مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 12 .

( 248 )

العباس حيث قال: «أللّهمّ إنّا نتوسل..» فإنّ الاستسقاء وظيفة الإمام، وكان الإمام هو الخليفة نفسه لا العباس وقد عقد البخاري باباً وقال: (باب إذا

استشفعوا إلى الإمام يستسقي لهم لم يردهم)(1) .

ويؤيد أنّ المستسقي هو الامام ومن كان معه في المصلى، ما رواه المؤرخ الكبير ابن الأثير فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس، عام الرمادة، لما اشتد القحط، فسقاهم اللّه تعالى به وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان:

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا * فسقى الغمام بغرة العباس

عم النبي وصنو والده الذي * ورث النبي بذاك دون الناس

أحيى الإله به البلاد فأصبحت * مخضرة الأجناب بعد الياس

ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين(2) .

يقول القسطلاني: إنّ عمر لما استسقى بالعباس قال: أيها الناسن إنّ رسول اللّه يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدو به في عمه، واتخذوه وسيلة إلى اللّه تعالى .

ثم إنّ الاستسقاء وإن كان يتم بصرف الدعاء، ولكن أفضله هو الاستسقاء بركعتين من الصلاة. وروى البخاري أنّ النبي استسقى فصلى ركعتين، وقلب رداءه .

وروى أيضاً أنّ النبي خرج إلى المصلّى يصلّي، وأنّه لمّا دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه(3).

ولو كان الاستسقاء بإقامة الصلاة، فكانت الإمامة للخليفة، والإئتمام للباقين .

____________________________

1 . صحيح البخاري ج 2 ص 20 .

2 . أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 111 طبع مصر.

3 . صحيح البخاري ج 2 ص 31، أبواب الإستسقاء .

( 249 )

ولو تحقق بصورة الدعاء، فكان الدعاء من الخليفة، و المرافقة بالتأمين من غيره. ولا ينافي ذلك أن يكون لكل من المأمومين دعاء على حدة، وراء الدعاء الّذي يدعو به الإمام، وقد ضبط متن الدعاء الّذي دعا به العباس، وقد نقلوا أنه كان من دعائه :

أللّهمّ لم ينزل بلاء إلاّ بذنب، ولم يكشف إلاّ بتوبة،

وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث(1) .

ولقد ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت استحباب إخراج الصغار الرضّع، والكبار الركّع إلى المصلى، ليكون الحال أنسب لنزول الرحمة الإلهية، فإنّ الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسير اللّه في أرضه، وكلتا الطائفتين، أحق بالرحمة والمرحمة، فببركتهم تنزل الرحمة وتعم غيرهم، وبذلك يظهر الجواب عما ذكره الرفاعي من أنّه لو كان قصد الخليفة ذات العباس لكان النبي أولى وأقرب إلى اللّه من ذات العباس _ لما عرفت _ من أنّ الهدف من إخراج عم النبي إلى المصلى وضمه إلى الناس، هو استنزال الرحمة، قائلين بأننا لو لم نكن مستحقين لنزول الرحمة لكن عمّ النبي لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحهُ من أزمة القحط والغلاء وبالتالي تعم غيره; ومن المعلوم أن هذا لا يتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حي يكون شريكاً مع الجماعة في المصير، وفي عناء العيش ورغده، لا مثل النبي الراحل الخارج عن الدنيا و النازل دار الآخرة، ولو توسل به أيضاً، فإنما هو بملاك آخر، ولم يكن مطروحاً في المقام .

* * *

4- توسل الأعرابي بالنبي نفسه

روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وقال: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثم أنشأ يقول:

____________________________

1 . إرشاد الساري، للقسطلاني، ج 2 ص 338 .

( 250 )

أتيناك والعذراء تدمى لبانها * وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلاّ اليك فرارنا * وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟

فقام رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ يجر رداءه حتّى

صعد المنبر، فرفع يديه وقال: أللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً... فما رد النبي يديه حتّى ألقت السماء... ثم قال: للّه در أبي طالب، لو كان حياً لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟

فقام علىّ بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ وقال: كأنّك تريد يا رسول اللّه قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الهُلاّك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

فقال النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : أجل .

فأنشد علىّ _ عليه السَّلام _ أبياتاً من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول:

لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر(1)

دلالة الحديث

إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته، والدليل على ذلك الأُمور التالية:

أ _ أتيناك وما لنا بعير يئط .

ب - أتيناك والعذراء تدمى لبانها .

ج _ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا .

____________________________

1 . السيرة الحلبية ج 1 ص 116، لاحظ فتح الباري ج 2 ص 494 والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 272 _ 280 .

( 251 )

د _ واين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟

ه_ _ إنشاء علىّ بن أبي طالب شعر والده، وهو يتضمن قوله: «وأبيض يستسقي الغمام بوجهه» .

روى ابن عساكر عن أبي عرفة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا ابا طالب! أقحط الوادي وأجدب، فهلم واستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى، فأخذه ابو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هيهنا وهيهنا وأغدق واغدودق، انفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي، وإلى

تلك الحادثة يشير أبوطالب في شعره:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(1)

فمماثلة الحادثتين تحكم بأنّ التوسل كان بذات النبي، كما كان توسل أبي طالب بنفس النبي.

و _ قول رجل من كنانة في شعره، «سقينا بوجه النبي المطر» .

كل ذلك يعرب عن أنّ التوسل كان من الأعرابي وغيره بنفس النبي .

نعم إنّ النبي الأكرم قام بالدعاء، فلا يكون دعاء النبي قرينة على أنّ الأعرابي توسل بدعائه، إذ لا منافاة بين أن يكون توسله بشخص النبي وكرامته وفضيلته، وبين أن يقوم النبي بقضاء حاجته (استنزال المطر) بطلبه من اللّه سبحانه .

فمن يريد أن يؤوّل هذه النصوص ويجعلها من قبيل التوسل بالدعاء، فهو إنما يحاول دعم رأيه المسبق .

نقد ما ذكره الرفاعي

إنّ الشيخ الرفاعي لكونه قد اتخذ موقفاً مسبقاً خاصاً في التوسل بالأنبياء

____________________________

1 . مر المصدر.

( 252 )

والصالحين، تجشّم عناء تأويل نصوص الأحاديث بما يتبناه، ولما كان الحديث صريحاً في التوسل بنفس النبي صار يعترض على هذه الدلالة قائلا بأنّ الأعرابي جاء إلى النبي لأن يدعوا اللّه لهم بأن يستسقيهم الغيث، وإلاّ لبقي الأعرابي في منزله، واكتفى أن يقول وهو في بيته: اللّهمّ اسقنا الغيث بجاه نبيك، أو بذات نبيك، ولما تجشّم المجيء من أهله وبيته إلى النبي في المدينة(1) .

يلاحظ عليه: أنَّه لا منافاة بين الأمرين حتّى يكون أحدهما قرينة على الأُخرى، حتّى يتصرّف في النصوص بتفسيرها الخاص بالتوسل إلى الدعاء، فالأعرابي توسل بذات النبي، ولا يهمّه سوى قضاء حاجته من اي طريق كان، سواء أتحقق بدعاء النبي أم بإعجازه و كرامته، وأمّا أنه لماذا تجشم عناء المجي من أهله وبيته إلى النبي ولم يكتف بالتوسل نفسه فلأنه كان يرى للمثول أمامه فضيلة وكرامة، أو

أنّ توسله بشخصه إذا انضمّ إليه دعاء النبي يوجب قضاء حاجته ولا يتحقق إلاّ بالحضور لديه، فلأجل ذلك جاء إلى النبي وتوسل بشخصه وشخصيته، فصار ذلك سبباً لقيام النبي، ولا يعني هذا أنه توسل بدعائه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ إذ لا منافاة بين أن يتوسل الأعرابي بشخصه، وبين أن يكون هذا داعياً للنبي أن يقوم بالدعاء، فلا يكون دعاؤه قرينة على كيفية التوسل .

وأخيراً يؤاخذ الرفاعي بأنه ذكر متن الحديث بصورة مختصرة، فترك ما ذكرناه من القرائن، ولم يشر إلى المصادر الكثيرة الّتي نقلت هذا الحديث .

المناقشة في سند الحديث

جاء الرفاعي يناقش في سند هذا الحديث بأنّ في سنده (مسلم الملائي)، ونقل عن علماء الرجال أنه متروك، وقال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضاً: زعموا أنه اختلط، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال الذهبي: إنّه روى

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل ص 291 وقد أخذه من شيخه ابن تيمية. لاحظ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .

( 253 )

حديث الطير الّذي أهدته أُم أيمن لرسول اللّه، وحديث الطائر موضوع عند أهل الحديث .

أقول: إنّ ذيل العبارة يكشف عن الدافع الّذي دفع هؤلاء إلى تضعيف الرجل، وهو ليس إلاّ كونه ناقلا لفضيلة ساطعة للإمام علىّ بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ .

روى أحمد بن حنبل بسنده عن سفينة مولى رسول اللّه قال: أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه طيرين بين رغيفين، فقدمت إليه الطيرين، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : أللّهمّ ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك، فجاء علىّ _ عليه السَّلام _ فرفع صوته، فقال رسول

اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : من هذا؟ قلت: علىّ، قال: فافتح له، ففتحت له فأكل من الطير مع النبي حتّى فنيا(1) .

وعلى ضوء هذا لا تقام لهذا التضعيف قيمة .

5- توسل المنصور بالنبي بتعليم مالك

إنّ المنصور الدوانيقي سأل مالك بن أنس، إمام المالكية، عن كيفية زيارة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ والتوسل به، فقال لمالك:

يا أبا عبداللّه، أستقبل القبلة وأدعو. أَم أَستقبل رسول اللّه؟

فقال مالك في جوابه:

لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه اللّه، قال اللّه تعالى: (ولَو أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُم جاءُوكَ فَاستَغْفَروا اللّهَ واستغفرَ لَهُم الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً)(2) .

____________________________

1 . فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 560 ورواه غيره لاحظ العمدة لابن البطريق ص 242 _ 253.

2 . وفاء الوفاء ج 2 ص 253، النساء: 64 .

( 254 )

وقد نقل ابن حجر الهيثمي عن الإمام الشافعي هذين البيتين:

آل النبي ذريعتي * وهمُ إليه وسيلتي

أرجو بهم أُعطى غداً * بيدي اليمين صحيفتي(1)

هذه النقول و النصوص من أئمة الأمة و مشاهير تكشف عن أمرين:

1- إنّ التوسل بالصالحين _ وفي الطليعة الأنبياء العظام _ كان أمراً رائجاً بين المسلمين، ولم يخطر ببال أحد أنّه شرك، كما لم يخطر ببالهم التفريق بين التوسل باشخاصهم وذواتهم، ولم يصنع هذا التفريق سوى الوهابيين الذين يسعون في الحط من منزلة الصالحين ومكانتهم، ويجعلون التوسل بدعائهم كالتوسل بدعاء الأخ المؤمن، وإنّه لا فرق بين هذا وذاك، وهم وإن كانوا لا يصرحون بهذه التسوية، لكنهم يكنون ذلك ويضمرونه .

2- إنّ هذه النصوص تفسّر لنا قوله تعالى: (يَا أيُّها الَّذينَ

آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسيلَةَ وَجَاهِدوا في سَبيلِهِ لَعِلَّكُم تُفْلِحُونَ)(2) .

فإنّ الوسيلة سواء أفسّرت بمعنى القرابة والمنزلة والدرجة، كما عليه أكثر المفسرين مأخوذاً من قولهم توسلت إليه، أي تقرّبت .

قال عنترة بن شداد:

إن الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تلجلجي وتحصني

ويقال: وسل إليه، أي: تقرّب. قال لبيد:

بلى كل ذي رأي إلى اللّه واسل.

وعليه فمعنى الوسيلة:الوصلة والقربة .

أم فسرت بما يتقرب به إلى الغير ويجمع على الوسائل والوسل، كما عليه أهل اللغة، قال الجوهري في صحاحه: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسل والوسائل، وتوسل إليه بوسيلة أي: تقرُّب إليه بعمل .

وفي القاموس: الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة.

____________________________

1 . الصواعق المحرقة ص 178 .

2 . سورة المائدة: الآية 35 .

( 255 )

وفي المصباح: وسلت إلى اللّه بالعمل: رغبت وتقربت، ومنه اشتقاق الوسيلة، وهي ما يتقرب به إلى اللّه، والجمع الوسائل، وعلى أي تقدير:

فالتوسل بالصالحين بما لهم من مكانة ومنزلة عند اللّه، إمّا أنّه بذاته تقرب إلى اللّه تعالى، لأنّ إظهار المودة لمن يحبه اللّه محبوب وعمل صالح، أو وسيلة يتقرب به الإنسان إلى اللّه سبحانه، فهذه النقول تعرب عن مصداق للوسيلة في عرض سائر المصاديق من الأعمال الصالحة والعبادات، خصوصاً الجهاد ضد العدو الداخلي والخارجي الّذي جاء في ذيل الآية، فتخصيص الوسيلة بالعبادات والاستغفار تخصيص بلا جهة.

إلى هنا تم الكلام حول التوسل بالصالحين أنفسهم وذواتهم، وبقي الكلام في التوسل بمنزلتهم وكرامتهم وحقهم، وإليك البيان:

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُم وَمَا يُعْلِنُونَ)(1) .

____________________________

1 . سورة القصص: الآية 69 .

( 256 )

التوسل إلى اللّه بحق النبي وحرمته ومنزلته

التوسل إلى اللّه بحق النبي وحرمته ومنزلته

إنّ من التوسلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسل بمنازل الصالحين وحقوقهم

على اللّه.

وليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على اللّه سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه [عدم ]الخروج عنه، بل للّه سبحانه الحق كلّه، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام والمنزلة الّتي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم، وليس لأحد على اللّه حقّ إلاّ ما جعله اللّه سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلا وتكريماً، قال سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ المُؤمِنِينَ)(1) .

وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن أحلاف اللّه سبحانه بحق المخلوق، فانتظر .

إنّ هذا النوع من التوسل لا يفترق عن التوسل بذات النبىّ وشخصه، فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه وذاته، فإنّ حرمة الشخص وكرامته ومنزلته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها، فلو صحّ التوسل بالأوّل كما تعرفت عليه من الأحاديث، يصحّ الثاني من دون إشكال أو إبهام .

ويدلّ عليه من الأحاديث ما نذكره:

____________________________

1 . سورة الروم: الآية 47 .

( 257 )

أ _ التوسل بحق السائلين

روى عطية بن العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحقّ ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لايغفر الذنوب إلاّ أنت. إلاّ اقبل اللّه عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك»(1) .

فالحديث واضح مضموناً، ويدل على أن للإنسان أن يتوسل إلى اللّه بحرمة أوليائه الصالحين ومنزلتهم وجاههم، فيجعلها وسيلة لقضاء حاجته .

إنّ الكاتب الوهابي الرفاعي، حيث لم يجد ضعفاً في الدلالة، أخذ يضعف سند الحديث، قائلا بأنّ «في سنده عطية العوفي وهو ضعيف»(2) .

أقول:

إنّ الدافع الوحيد لتضعيف عطية، ذلك التابعي الشهير، كما وصفه به الذهبي في ميزان الاعتدال هو تشيّعه وولاؤه لعلي وآله _ عليهم السَّلام _ ، ولأجل ذلك نرى أنّ الذهبي ينقل عن سالم المرادي: «كان عطية يتشيّع»، وإنّ التشيّع أحد وجوه التضعيف لدى القوم، ومع ذلك قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ضعيف، وقال ابن معين: صالح .

وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: «عطية بن سعد بن جناده العوفي الجدلي الكوفي أبوالحسن صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً»(3)

وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عدة، وعن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يعدّ من شيعة أهل الكوفة. قال الحضرمي: توفي سنة إحدى عشرة ومائة.

____________________________

1 . سنن ابن ماجة، ج 1 ص 256، الحديث برقم 778 ومسند الإمام أحمد، ج 3، ص 21.

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل، ص 212 .

3 . تقريب التهذيب، ج 2 ص 24، برقم 216 .

( 258 )

وقال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبّ علىّ _ إلى أن قال _ وكان ثقة إن شاء اللّه، وله أحاديث صالحة. كان أبو بكر البزار يعده في التشيع، روى عن جلّة الناس. وقال الساجي: ليس بحجة، وكان يقدّم عليّاً على الكل(1) .

وهذه النصوص تعرب عن تضارب الأقوال في حقه، كما تكشف عن أنّ الدافع المهم لتضعيفه، تشيّعه وحبّه وولاؤه وتقديمه علياً، وهل هذا ذنب؟ .

إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة يوجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في

أبواب التجسيم والجهة والجنة والنار، وأمّا مثل هذا الحديث الّذي يعرب بوضوح عن أنه كلام إنسان خائف من اللّه سبحانه، ترتعد فرائصه من سماع عذابه، فبعيد عن الوضع والجعل .

ب _ توسل النبي بحقه و حق من سبقه من الأنبياء

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه، أنه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم علي _ رضي اللّه عنهما _ دخل عليها رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فجلس عند رأسها، فقال: رحمك اللّه يا أُمي. كنت أُمي بعد أُمي، تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفساً طيباً وتطعمينني، تريدين بذلك وجه اللّه والدار الآخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الّذي فيه الكافور، سكبه رسول اللّه بيده، ثم خلع رسول اللّه قميصه فألبسها إياه، وكفّنها ببرد فوقها، ثم دعا رسول اللّه أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد، حفره رسول اللّه بيده، وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه وقال: «اللّه الّذي يحيي ويميت وهو حىّ لا يموت، اغفر لأُمي فاطمة بنت أسد، ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك

____________________________

1 . تهذيب التهذيب، ج 7 ص 227، برقم 413 .

( 259 )

والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين»، وكبّر عليها أربعاً، وأدخلها اللحد هو والعباس وأبوبكر .

رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260 _ 360 ه_) .

والاستدلال به مبني على تمامية الرواية سنداً و مضموناً، وإليك البحث فيهما معاً:

1- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، ص 356 _ 357، وقال: لم يروه عن عاصم إلاّ سفيان الثوري، تفرّد به «روح بن صلاح» .

2-

ورواه أبو نعيم من طريق الطبراني في حلية الأولياء: 3/121 .

3- رواه الحاكم في مستدركه، ج 3، ص 108، وهو لا يروي في هذا الكتاب إلاّ الصحيح على شرط الشيخين (البخاري و مسلم) .

4- رواه ابن عبد البر في الإستيعاب. لاحظ هامش الإصابة، ج 4، ص 382 .

5- نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 118 _ برقم 17 .

6- ورواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى سنة 708 ه_ في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9 ص 256 _ 257 .

وقد جمع فيه زوائد مسند الإمام أحمد، وأبي يعلى الموصلي أبي بكر البزاز، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقَّه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح .

7- رواه المتقي الهندي في كنز العمال، ج 13، ص 636، برقم 37608 .

هؤلاء الحفاظ نقلوا الحديث في جوامعهم، وصرّحوا بأنّ رجال السند رجال الصحيح، وأنه لو كان هناك ففي روح بن صلاح، وقد وثَّقهُ العلمان: ابن حبان والحاكم .

( 260 )

وقال الذهبي: روح بن صلاح المصري، يقال له ابن سيابة، ضعّفه إبن عدي، يكنّى أبا الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم: ثقة مأمون(1) .

ولكن الكاتب الوهابي المعاصر يقول في سند الحديث: إنّ هذا الحديث غير صحيح لأنّ في سنده رجلا هو روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور، وقد روى أحاديث منكرة، كما صرح بذلك ابن يونس وابن عدي(2) .

وأنت خبير بأنّه إنما ضعّفه (ابن عدي) وأين هذا من قوله: وقد ضعّفه الجمهور، أليس ابن حبان من أعلام الحديث ورجاله؟ أو ليس الحاكم هو الحافظ الكبير الّذي استدرك على صحيحي الشيخين بما تركاه؟

إنّ الإنسان

إذا اتّخذ موقفاً مسبقاً في الموضوع، يحاول أن يضعف الصحيح والقوي، ويقوي ويصحح الضعيف، وعلى كل تقدير فليس لنا ترك هذا الحديث وعدم العمل به بمجرد تضعيف ابن عدي لتوثيق غيره .

وأظن _ وظن الألمعي صواب _ أنّ الدافع إلى تضعيف نظراء روح بن صلاح هو ولاؤه ومودته لأهل بيت النبوة، حيث نقل هذه الدرة الباهرة في حق أُم سيد الأوصياء.

هذا كله حول السند، وأمّا الدلالة فلا أظن أنّ من يملك شيئاً من الإنصاف يشك في دلالة الحديث على توسل النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ بحقه وحق أنبيائه .

ج _ توسل آدم بحق النبي

روى البيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: ربي أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال اللّه عزّوجلّ: يا آدم. كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا

____________________________

1 . ميزان الاعتدال، ج 2، ص 85، رقم 2801 .

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل، ص 227 .

( 261 )

رب لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه، فعلمت أنّك لم تضف إلى إسمك إلاّ أحب الخلق إليك، فقال اللّه _ عزّوجلّ _ : صدقت يا آدم. إنه لأحب الخلق إلىَّ وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك. ولو لا محمد ما خلقتك .

قال البيهقي: تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، من هذا الوجه عنه، وهو ضعيف (واللّه أعلم) (1) .

إنّ الشيخ الرفاعي لما رأى صراحة الحديث في التوسل بحق النبي أخذ يناقش في الحديث من جهات أُخرى، وإليك بيانه:

1- إنّ الحديث تضمّن

الإقسام على اللّه بمخلوقاته، وهو أمر خطير يقرب من الشرك، إن لم يكن هو ذاته، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، وإنه شرك لأنه حلف بغير اللّه، فالحلف على اللّه بمخلوقاته من باب أولى .

يلاحظ عليه: أنّه سيوافيك جواز الحلف بالمخلوق، سواء حلف بمخلوق على مخلوق أو بمخلوق على اللّه، وأن القرآن مليء بالإقسام بالمخلوقات، فلو كان أمراً حراماً أو ذريعة إلى الشرك أو الشرك نفسه لما حلف سبحانه بمخلوقاته، وسيوافيك توضيحه، ولا يلازم الحلف بالمخلوق جعله في مرتبة الخالق، بحجة «إنّا نحلف باللّه فلو حلفنا بمخلوقه يلزم من ذلك جعله في مرتبة الخالق»، كيف ونحن نطيع اللّه سبحانه ونطيع رسوله، أفهل يتصور من ذلك أنّا جعلنا الرسول في مرتبة الخالق؟ قال سبحانه: (أَطيعوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم...)(2)، قال سبحانه:(أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوالِدَيكَ إلَىَّ المَصيرُ)(3)، أفيلزم من ذلك أن يكون الوالدان في رتبة الخالق

____________________________

1 . دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 384 _ م 458 ه_ ) طبع دار الكتب العلمية _ بيروت، ج 5، ص 489 .

2 . سورة النساء: الآية 59 .

3 . سورة لقمان: الآية 14 .

( 262 )

لأنّه سبحانه أمر بشكر نفسه وشكر الوالدين .

إنّ الحلف لا يستلزم أزيد من كون المحلوف به أمراً عظيماً عزيزاً لائقاً بالحلف به، وأمّا كونه في درجة الخالق فزعم عجيب واستدلال غريب .

وأمّا كونه شركاً فقد عرفت أنّ المقصود هو الشرك في العبادة، والعنصر المقوم لتحققها هو الاعتقاد بكونها إلهاً أو ربّاً أو مفوضاً إليه فعله سبحانه، والمفروض عدمه .

ترى أنّ الكاتب يجعل معتقده دليلا

على بطلان الحديث وضعفه، أهكذا أدب النقد؟ .

2- إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتراب الخطيئة، ولكنّه قبل أن يخطىء، علّمه اللّه الأسماء كلها، ومن جملة الأسماء كلها اسم محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وعلم أنه نبي ورسول، وأنه خير الخلق أجمعين، فكان أحرى أن يقول آدم: ربي إنك أعلمتني به أنه كذلك، لمّا علمتني الأسماء كلها .

يلاحظ عليه: أنَّ المسكين زعم أن المراد من الأسماء أسماء الموجودات، وغفل عن أن المراد هو العلم بحقائق الكون وقوانينه وسننه ورموزه بقرينة قوله سبحانه: «ثم عرضهم على الملائكة» فلو كان المراد الأسماء لكان الأنسب أن يقول: ثم عرضها، على أنّه لا فضيلة رابية في تعلّم أسماء الموجودات وألفاظها .

سلمنا أن المراد ما ذكره، لكن الظاهر من الحديث أنه وقف على ذلك بعد الخلقة ونفخ الروح فيه، قبل أن يحظى بتعلّم الأسماء كلها، حيث قال: لمّا خلقتني بيدك ونفخت فىَّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش...

والمتبادر من العبارة أن هذا العلم كان علماً خاصاً جزئياً وقف عليه بعد فتح عينيه على الحياة في الجنة، قبل تعلمه جميع الأسماء، وأمّا هو فقد كان مرحلة أُخرى أوسع من هذا العلم، بل لا يقاس عليه .

وبالجملة: إنّ الحديث لا غبار عليه من حيث الدلالة. نعم يقع الكلام

( 263 )

في السند. فقد ورد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد ضعّفه الذهبي اعتماداً على تضعيف أحمد وغيره(1) .

ولكن الحاكم النيسابوري أورده في مستدركه، قائلا بصحته(2) .

وعلى ذلك فليس الخبر على حد يحكم عليه بالوضع والجعل، كما يصر عليه الرفاعي بل هو كسائر الأحاديث الّتي اختلف العلماء في تصحيحها، فلو لم يكن دليلا على المدعى يكون

مؤيداً له، كيف وقد رواه جلال الدين السيوطي في تفسيره(3) .

وهناك نكتتان ننبه عليهما:

الأُولى: إنّ أحاديث التوسل وإن كانت تتراوح بين الصحيح والحسن والضعيف، لكن المجموع يعرب عن تضافر المضمون وتواتره، فعند ذلك تسقط المناقشة في أسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات، وما يوافيك، تذعن بتضافر المضمون أو تواتره .

الثانية: نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع، ولكنه يعرب عن أنّ التوسل بالمخلوق والإقسام على اللّه بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه، بل ولا حراماً .

وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً، لما رواه الرواة الثقات واحد عن واحد، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثية، كالبيهقي في دلائل النبوة، والحاكم في مستدركه، والسيوطي في تفسيره، والطبراني في المعجم الصغير، وأكابر

____________________________

1 . ميزان الاعتدال، ج 2 ص 564 .

2 . المستدرك على الصحيحين، ج 2 ص 615 .

3 . الدر المنثور، ج 1 ص 59، ونقله كثير من المفسرين عند تفسير الآية .

( 264 )

المفسرين في القرون الغابرة، لأنّ الشرك أمر بيّن الغىّ، فلا معنى ولا مسوّغ لنقله بحجة أنه رواية .

فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في توصيف الحلف على اللّه بمخلوقاته شركاً(1) .

* * * * *

(فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤمِنونَ)(2) .

____________________________

1 . قد تركنا البحث عن التوسل بجاه النبي الوارد في كلام الرفاعي لأنه ليس قسماً ثالثاً، بل داخلا في القسم الثاني، أي التوسل بحقه .

2 . سورة المرسلات: الآية 50 .

التوسل بدعاء النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

التوسل بدعاء النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

قد تعرفت في صدر البحث على أنّ ابن تيمية وأتباعه يجوّزون

التوسل بدعاء النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في حال حياته، ويجعلونه من التوسلات الجائزة الداخلة في إطار «التوسل بدعاء الأخ المؤمن» ولكنهم يخصّونه بحال حياته، ويحرّمونه بعد رحلته، قال ابن تيمية:

«أجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به حال حياته ويتوسلون بحضرته، وأمّا في مغيبه أو بعد موته فلم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حياً كالعباس ويزيد بن الأسود، ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي عند قبره ولا غيره، بل عدلوا إلى خيارهم... ثم إنّ المسلمين بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلا عنه، فلو كان التوسل به _ حياً وميتاً _ مشروعاً لم يميلوا عنه وهو افضل الخلق وأكرمهم على ربه، إلى غيره ممن ليس مثله. فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منّا برسوله وبحقوق اللّه ورسوله، وما يشرع من الدعاء وما ينفع، وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أنّ التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون

( 266 )

يسألونه ليدعو لهم في حياته، وأمّا بعد موته فلم يسأل الصحابة منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصحالين(1) .

وقد علق السيد محمد رشيد رضا مؤلف المنار على هذا

الموضوع بقوله:

«يزعم بعض الناس في زماننا أنّه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه بين هذه الحياة و الممات، لأنّه حي في قبره وكأنهم يدعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر أئمة السلف بذلك، فالصحابة _ رضي اللّه عنهم _ فرقوا بين الحالين، وإن شئت قلت بين الحياتين، والأُمور التعبّدية لا تشرع بالعقل ولا بالقياس(2).

يلاحظ عليه: أنّ المعروف أنّ السنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، فالحجة عبارة عن أحد هذه الأمور، ونحن نفترض أن الصحابة بأجمعهم من المعصومين. فإنّ أقصى ما يمكن أن يحتج به هو أنّ فعل الصحابة دليل على جواز الفعل، وأمّا أنّ تركهم دليل على حرمته، وعدم جوازه، فمن عجائب الأُمور وغرائبها، ولم يعهد هذا الاستدلال من أهل الفتوى والدليل.

وأمّا عدول الصحابة عن التوسل بدعاء النبي في حال مماته، إلى التوسل ببعض أهل بيته فقد ذكرنا وجهه، وهو: أنّ التوسل بالإنسان الصالح الحي لأجل إظهار أن ذلك الفرد يتّحد مع المتوسلين في المصير، وأنه لولا نزول الرحمة لعمَّهُ الهلاك والدمار مثلهم، وبما أنه صالح لنزول الرحمة عليه، فلتنزل رحمتك عليه يا رب فإنه أهل لذلك، وإن كنا غير مستحقين لها .

ومن المعلوم أنّ ترسيم هذا، الّذي هو أحد الأسباب لاستنزال الرحمة، إنما يتحقق بالصالح الحي دون غيره، لأنّ غير الحي ليس متحداً في المصير مع الأحياء، ولأجل ذلك نرى الصحابة يتوسلون بالحي دون غيره، وما هذا إلاّ

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل، ج 1 ص 14 .

2 . المصدر نفسه .

( 267 )

لأجل ذلك. وقد أشار إلى ذلك «السبكي» وقال: ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي أو بالقبر، ولعل توسل عمر بالعباس لأمرين:

أحدهما: ليدعو كما حكينا من دعائه .

الثاني: إنَّه من جملة

من يستسقي وينتفع بالسقيا وهو محتاج إليه، بخلاف النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في هذه الحالة فإنه مستغن عنها، فاجتمع في العباس الحاجة وقربه من النبي وشيبه، واللّه يستحيي من ذي الشيبة المسلم، فكيف من عم نبيه، ويجيب دعاء المضطر فلذلك استسقى عمر بشيبته(1) .

هذا ويصرح الذكر الحكيم بأنه ما نفع إيمان قوم بعد إشراف العذاب عليهم، إلاّ قوم يونس، قال سبحانه:

(فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمَانُها اِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ في الحَيَاةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِين)(2) .

ذكر المفسرون: إنّ قوم يونس لما عاينوا العذاب، أشار إليهم العالم الموجود فيهم بقوله: افزعوا إلى اللّه فلعلّه يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها، ثم ابكوا وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب(3) .

ولم يكن هذا العمل إلاّ لأجل استنزال الرحمة على النحو الّذي عرفت .

نعم، ما ذكره في آخر كلامه من أنه أمر عبادىّ يحتاج إلى الدليل فهو كلام متقن، ولكنّه ليس معناه أن يكون الدليل المطلوب دليلا بالخصوص، بل لو كان هناك عام أو إطلاق حول التوسل بدعاء النبي فيؤخذ بإطلاقه، سواء أكان النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في دار التكليف أم في البرزخ، وإليك البيان:

____________________________

1 . شفاء السقام: ص 143 _ 144 .

2. سورة يونس: الآية 98 .

3 . مجمع البيان: ج 3 ص 135 .

( 268 )

وهو يتوقف على بيان أُمور:

1- بقاء الروح بعد الموت

دلّت الآيات القرآنية على بقاء الروح بعد الموت، وأنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان، بل هو عبارة عن انخلاع الروح عن البدن، وبقائه مستقلا عنه، من غير فرق بين المسلم وغيره، والمقتول

في سبيل اللّه وغيره، والآيات في ذلك متضافرة .

قال سبحانه: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرونَ)(1)، وهناك آيات نشير إلى مواردها، ومن أراد التوسع في الموضوع: فليرجع إليها(2) .

2- الحقيقة الإنسانية هي الروح

إنّ الإنسان وإن كان بحسب التحليل الظاهري يتركب من شيئين: المادة والمعنى، والجسم والروح، ولكن الحقيقة الإنسانية عبارة عن نفس الإنسان وروحه، ولأجل ذلك يردّ الوحي الإلهي على من زعم أنّ البدن الإنساني يضل في العالم بعد الموت، حيث حكى عنهم قولهم: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْق جَديد) فردّ عليهم بقوله:

(قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(3) .

ومعنى التوفّي في الآية هو الأخذ، ومعنى الآية أنّ تناثر أجزاء البدن في أجواء العالم وثناياه، لا يضر بالمعاد، فإنّ الحقيقة الإنسانية وواقعيتها محفوظة عند اللّه، وأنّ ملك الموت يأخذكم، وليس المأخوذ إلاّ الروح .

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 154 .

2 . لاحظ: سورة آل عمران: الآية 169 _ 171، سورة يس : الآية 25 _ 26، سورة غافر الآية 46 .

3 . سورة السجدة: الآية 10 _ 11 .

( 269 )

3- إمكان الاتصال بالأرواح

إنّ الذكر الحكيم يصدق صحة اتصال الإنسان العائش في الدنيا بالأرواح المتواجدة في عالم البرزخ، ويصرّح بأنّ بعض الأنبياء كصالح وشعيب كلّموا أرواح أُممهم الهالكة، ويظهر ذلك بالإمعان في الآيات التالية:

يقول في حق أُمة شعيب:

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحوا في دَارِهِمْ جاثِمينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها، الَّذينَ كَذَّبوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخَاسِرينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَد أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلَى قَوْم كافِرينَ)(1) .

ترى أنّ قوله: «فتولّى عنهم» جاء بعد

الإخبار بدمارهم وهلاكهم كما هو صريح سياق الآيات، وعندئذ خاطب الهالكين بقوله: «يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي...» .

ويقول في حق أُمة صالح:

(فَعَقَروا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرسَلينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبِحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ)(2) .

وكيفية الاستدلال واضحة بعد التدبّر في ما ذكرناه، فإنّ المخاطبة والمحاورة وقعت بعد هلاكهم، فلا يمكن لنا رفض سياق الآية والقول بأنه كلمهم في حال حياتهم.

إنّ الذكر الحكيم يأمر النبي بسؤال المرسلين ويقول: (وَاسْأَلْ مَنْ

____________________________

1 . سورة الأعراف: الآية 91 _ 93 .

2 . سورة الأعراف: الآية 77 _ 79 .

( 270 )

أرْسَلنا مِنْ قَبْلِكِ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(1) .

وتأويل الآية بإرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب تأويل بلا دليل، ولا منافاة بينهما حتّى يرجع أحدهما إلى الآخر .

إنّ المسلمين جميعاً يخاطبون النبي بالسلام في حال التشهد، ويقولون: «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته» وقد اتفق الفقهاء على كونه جزءاً من التشهّد(2) .

وفي ضوء هذه الأُمور الثلاثة تثبت إمكانية التوسل بالأرواح المقدسة، فالأولياء والأنبياء من جانب أحياء يرزقون، من جانب آخر، إنّ حقيقة الإنسان هى النفس الباقية بعد الموت أيضاً، ومن جانب ثالث، إِنَّ الأنبياء كلّموا أرواح أُممهم الماضية. كل ذلك يدل على إمكانية الاتصال بهم ووقوعه، وأنهم يسمعون كلامنا وسلامنا ومحاورتنا.

بقي الكلام في جواز التوسل شرعاً، حتّى يكون تعبداً مع الدليل .

إنّ الذكر الحكيم يحثّ المذنبين على المجيء إلى النبي وطلب الاستغفار منه يقول: (وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً

رَحِيماً) (3) والمتبادر إلى أذهاننا في هذا الزمان اختصاص الآية بحال حياة النبي، ولكن الصحابة فهموا منه الأعم من حال الحياة والارتحال إلى الرفيق الأعلى، ويدل على ذلك ما نذكر:

1- روى البيهقي عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فقال: يا رسول اللّه. استسق اللّه لأُمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول اللّه في المنام وقال: ائت عمر

____________________________

1 . سورة الزخرف: الآية: 45 .

2 . الخلاف، للشيخ الطوسي، ج 1 ص 47، وقد نقل صوراً مختلفة للتشهد عن أئمة المذاهب والكل يشتمل على خطاب النبي بالسلام .

3 . سورة النساء: الآية 64 .

( 271 )

فاقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون(1) .

فالحديث يعرب عن أنّ التوسل بدعاء النبي بعد رحلته كان رائجاً، ولو كان عملا محرّماً أو بدعة فلماذا توسل هذا الرجل بدعائه؟ ولماذا بكى الخليفة بعد سماع كلامه، كما هو في ذيل الحديث ؟

يقول السمهودي بعد نقل الحديث: ومحل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وهو في البرزخ، ودعاؤه لربه في هذه الحالة غير ممتنع، وعلمه بسؤال من يسأله قد ورد، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا(2) .

2- روى ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فزرته وجلست بحذائه، وجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل! إنّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم _ إلى قوله: رحيماً) وإني جئتك مستغفراً ربك

من ذنوبي متشفعاً بك، وفي رواية: «وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي» ثم بكى وأنشأ يقول:

ياخير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم استغفر وانصرف.

3- وقال السمهودي: قال الحافظ أبو عبداللّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علىّ بن أبي طالب _ رضي اللّه عنه - قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّه بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي وحثا من ترابه على

____________________________

1 . دلائل النبوة، ج 7 باب ما جاء في رؤية النبي في المنام، ص 47 .

2 . وفاء الوفاء: ج 4 ص 1371 .

( 272 )

رأسه وقال: يا رسول اللّه. قلت قسمعنا قولك، ووعيت من اللّه سبحانه منا وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوكَ فاستغفروا اللّه...) وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي(1) .

شبهات للكاتب الوهابي

إنّ للكاتب الوهابي، الرفاعي صخباً وهياجاً حول الحديث، فقد أشكل عليه بوجوه ستة لا يهمنا ذكرها والإجابة عن جميعها، لأنه غفل عن كيفية الاستدلال بهذه النقول، وسنشير إليها. نعم، يهمنا أن نذكر بعض اعتراضاته:

1- يقول: إنّ التوسل بدعاء النبي بعد موته رهن أن يسمع الرسول أو يتكلم، أو يصدر عنه أي عمل بعد موته، مع أنه قد انقطع عمله نهائياً كما قال هو _ عليه السَّلام _ : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» ولا شك أنّ رسول اللّه يشمله هذا الحديث .

عزب عن المسكين مفاد الحديث، فإنه بصدد

بيان انقطاع ابن آدم عن العمل الّذي يترتب عليه الثواب، بقرينة استثناء الأُمور الثلاثة، وقال أميرالمؤمنين في هذا المجال: «وإنّ اليوم عمل ولا حسابن، وغداً حساب ولا عمل»(2) .

وقال أيضاً: «الا وإنّ اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، أفلا تائب عن خطيئة قبل منيته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟»(3) .

فكيف يمكن القول بانقطاع عمل الميت نهائياً مع أنّ الشهداء في سبيل

____________________________

1 . وفاء الوفاء: ج 4 ص 1361 .

2 . نهج البلاغة; الخطبة 42 .

3 . نهج البلاغة; الخطبة 28 .

( 273 )

اللّه يقومون بأعمال ينوّه بها الذكر الحكيم ويقول: (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِم أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللّهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنينَ)(1).

أو ليس الفرح بما أوتوا من فضله سبحانه، والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، والاستشعار بعدم الخوف والحزن، والاستبشار بنعم اللّه سبحانه، أفعالا للراحلين إلى دار الآخرة؟ مضافاً إلى ما ورد من أنهم يرزقون عند ربهم(2) .

2- يقول: إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلاّ اللّه، فهي حياة مستقلة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم، لا ذاتاً ولا صفاتاً واللّه سبحانه يقول: (وَمِنْ وَرائِهمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ)(3) .

عجيب واللّه أمر هذا الرجل، إنه يأتي بالشُّبه والأوهام بصورة البرهان، ويجتهد في مقابل النص، وقد تعرفت على الآيات الّتي تحدثت عن محاورة الأنبياء أرواح أممهم الهالكة، وقد تعرفت على أنه سبحانه أمر النبي بالسؤال عن الأنبياء. فما هذا الاجتهاد في مقابل النص؟

لقد تناسى الرجل حديث تكلم النبي مع أصحاب القليب

المقتولين من كفرة قريش، وقد ذكره أصحاب الحديث والتاريخ، وإليك نص صحيح البخاري في ذلك: وقف النبي على قليب بدر وخاطب الذين قُتلوا وأُلقيت أجسادهم في القليب:

لقد كنتم جيران سوء لرسول اللّه، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، وقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً.

____________________________

1 . سورة آل عمران: الآية 170 _ 171 .

2 . سورة آل عمران: 169 .

3 . التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 267، سورة المؤمنون: الآية 100 .

( 274 )

فقال له رجل: يا رسول اللّه ما خطاب لِهام سديت؟

فقال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : واللّه ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلاّ أن أعرض بوجهي _ هكذا _ عنهم(1) .

وروى ابن هشام عن أنس بن مالك، قال: لما سمع أصحاب رسول اللّه كلام رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من جوف الليل وهو يقول: يا أهل القليب، وياعتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أُمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام _ فعدّد من كان منهم في القليب _ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فقال المسلمون: يا رسول اللّه. أتنادي قوماً قد جيفوا؟(2) قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني(3) .

لما وقعت الفتنة بالبصرة، خرج كعب بن سور، وكان قاضي البصرة لحرب خليفة رسول اللّه وإمام زمانه، ولما كان النصر حليفاً له _ عليه السَّلام _ مرّ على جسد كعب بن سور، فقال لمن حوله: أجلسوا كعب بن سور، فأجلسوه بين شخصين يمسكانه، فقال _ عليه السَّلام _ : يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربي حقاً،

فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال: أضجعوه، وسار قليلا حتّى مرّ بطلحة بن عبيد اللّه، فقال: أجلسوا طلحة، فكلّمه بمثل ما كلّم كعب بن سور، فقال له رجل: يا أميرالمؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال _ عليه السَّلام _ : يا رجل واللّه لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللّه(4) .

3- يقول إنّ القرآن يخبر بأنّ النبي لا يستطيع إسماع الموتى ويقول: (إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى)(5)، وقال (وَمَا أَنْتَ بَمُسمِع مَنْ فِي

____________________________

1 . صحيح البخاري: ج 5، باب قتل أبي جهل، ص 76 _ 77 .

2 . قد جيفوا: أي قد صاروا جيفة .

3 . السيرة النبوية لابن هشام، ج 2 ص 294، طبع دار إحياء التراث العربي _ بيروت .

4 . الجمل، للشيخ المفيد، ص 210 ط النجف، حق اليقين للسيد شبر، ج 2، ص 73 .

5 . سورة النمل: الآية 80 .

( 275 )

القُبُورِ)(1)، والرسول بعد أن توفّاه اللّه هو من الموتى ومن أهل القبور، فثبت انه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا(2) .

ولكنّه غفل عن أنّ طرف المحاورة ليس الأجساد الخالية عن الأرواح، بل أرواح هذه الأبدان، فإنّ لها عيشة برزخية مقترنة مع بدن برزخي. وأمّا الوقوف على القبر _ مع أنّ التكلّم مع أرواحهم لا مع أجسادهم _ فإنما هو لأجل تحصيل حالة نفسانية يستطيع معها الإنسان التوجه إلى أرواحهم، والالتفات إليهم حتّى يكلمهم بما يقصد .

ومن عجيب الأمر أنه يقول: إنّ قوله سبحانه:(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم...) يختص بالمنافقين، فعلى ما ذكره يكون المنافق أعز عند اللّه من المؤمن، حيث يجوز للأول، طلب الاستغفار منه دون المؤمن، فهو أشمل لرحمة اللّه من

الثاني «فاقض ما أنت قاض» مع أنّ مورد الآية لا يخصّص إطلاقها، بل الآية عامة لكل من ظلم نفسه سواء أكان منافقاً أم غيره.

هذا عمدة ما استدل به الكاتب على عدم صحة الاحتجاج بالرواية، وأمّا الإشكال على سنده، أو اشتمال متنه على الشذوذ فلا يضر أبداً، فلنفترض نحن أنّ السند ضعيف، وأنّ في المتن بعض الإشكال، لكن لو كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً يوجب الخروج عن الدين، أو أمراً محرّماً يجب أن يتوب عنه المسلم، فلماذا قامت جموع كثيرة من المحدثين بنقله والاحتجاج به، أوَ ليس عاراً على محدّث إسلامي أن ينقل في جامعه وكتابه أثراً يشتمل على الشرك والأمر المحرّم الواضح، ولا يعود عليه بشيء.

ولنفترض أنّ الراوي وضع هذا الحديث ولم يكن له حقيقة، ولكن الواضع إنما يضع الحديث لأجل إلفات الناس إليه، فلو كان ذلك الأمر موجباً للشرك أو ما يقارنه، فالدواعي تكون عن وضعه مصروفة. كل ذلك يعرب

____________________________

1 . سورة فاطر: الآية 22 .

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل، ص 268 .

( 276 )

عن أنّ هذا العمل كان أمراً مباحاً فجاء هذا الراوي ينقل هذا الأمر على عفو الخاطر .

والاستدلال بهذه الرواية وما يأتي بعده بهذا الوجه، ولأجل ذلك لم نحاول أن نصحح السند .

4- روى السمهودي عن الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» عن محمد بن المنكدر: أودع رجل أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد، وقال لأبي: إنّ احتجت أنفقها إلى أن أعود. وأصاب الناس جهد من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال أبي: عد إلىَّ غداً، وبات بالمسجد يلوذ بقبر النبي مرة وبمنبره مرة، حتّى كاد أن يصبح

يستغيث بقبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فبينما هو كذلك فإذا بشخص في الظلام يقول:

دونكها يا أبا محمد. فمدّ أبي يده، فإذا بصرّة فيها ثمانون ديناراً، فلمّا أصبح جاء الرجل فدفعها إليه(1) .

وقد نقل السمهودي في هذا الفصل قصصاً كثيرة عن شخصيات إسلامية، فمن أراد فليرجع إليه(2) .

وقد تعرّفت أنّ كيفية الاستدلال بهذه القصص ليس على أساس صحة إسنادها أو خلو متونها عن الشذوذ، وإنما هو على أساس أنه لو كان هذا الأمر شركاً أو أمراً محرماً لما اهتم المحدثون والمؤرخون بنقلها، بل ولما قام الوضّاعون بوضعها، فإن الغرض من وضع الحديث هو بثّه بين المحدثين الواعين، ومن المعلوم أنه إذا كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً وبدعة على ما تدعيه الوهابية، لكانت الدواعي عن وضعها ونقلها مصروفة جداً، وهذا يعرب عن ان العمل كان مشروعاً وسائغاً بين المسلمين، فلأجل ذلك قام هؤلاء بنقل

____________________________

1 . وفاء الوفاء: ج 4 ص 1380 .

2 . نفس المصدر: ج 4 ص 1380 _ 1387 .

( 277 )

هذه الأحاديث، وقام المتوسلون _ على فرض الصحة _ بهذا العمل، أو قام الوضاعون على احتمال، بوضعها.

إلى هنا تبيّنت أحكام التوسل بأقسامه الثلاثة :

* التوسل بذوات الصالحين وأنفسهم .

* التوسل بحقهم ومنزلتهم ومكانتهم .

* التوسل بدعائهم بعد رحلتهم ووفاتهم .

وأرى أن بسط الكلام في هذه المواضع أزيد من ذلك ضياع للوقت، ومن أراد الحق فيكفيه ما حررناه، فطوبى لمن يستمع القول ويتبع أحسنه، وتبّاً لقوم «نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون» .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيهِ الوَسيلةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1) .

____________________________

1 . سورة المائدة: الآية 35 .

( 278 )

( 279

)

إبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً

إبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً

إتفق المسلمون عامة على شفاعة النبي الأكرم يوم القيامة، وإن اختلفوا في معنى الشفاعة بين كونها سبباً لغفران الذنوب كما عليه الأشاعرة والإمامية وأهل الحديث، أو لترفيع الدرجة كما عليه المعتزلة. إنما الكلام في طلب الشفاعة من النبي في حال حياته ومماته، فالمسلمون إلى عهد ابن تيمية اتفقوا على جوازه حياً وميتاً، وهو من فروع طلب الدعاء من المشفوع له، إلى أن جاء ابن تيمية في القرن الثامن الهجري ورفع راية الخلاف بين المسلمين، وقال: «لا يجوز طلب الشفاعة من النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فهو يسلم بأن نبي الإسلام وسائر الأنبياء لهم حق الشفاعة في الآخرة، ولكن يقول: لا يطلب الشفاعة إلاّ من اللّه، يقول ابن تيمية:

«قد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة، ثم بيّن مراتب الأدعية المبتدعة على النحو التالي»:

1- الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، وسواء أكان من الأنبياء _ عليهم السَّلام _ أم غيرهم فيقال: يا سيدي فلان أغثني، وأنا مستجيرك ونحو ذلك، فهذا هو الشرك باللّه...

2- أن يقول للميت أو الغائب من الأنبياء: ادع اللّه لي، أو ادع لنا ربك ونحو ذلك، فهذا لا يستريب عالمٌ أنه غير جائز...

3- أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك، فهو

( 280 )

الّذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي، وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء، فكيف بغيرهم...؟(1)

يلاحظ على مجموع ما ذكره:

أمّا القسم الأول، فإنّ عدّه شركاً، عجيب جداً، هذا هو القرآن الكريم يذكر عن شيعة موسى قوله: (فَاسْتَغَاثَهُ

الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَُدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيهِ)(2)، ومعه كيف يقول: إنّ قول القائل «يا سيدي فلان أغثني» شرك سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، أوَ لم يكن موسى حياً حين استغاثه الّذي من شيعته؟ ولو خصّ الشرك بصورة كون المدعو ميتاً _ فمع أنه مخالف لصريح كلامه _ لا يكون سبباً للشرك، إذ لا معنى لكون خطاب في حال، عين التوحيد، وفي أُخرى نفس الشرك، نعم، الموت والحياة يؤثران في الجدوائية وعدمها.

وأمّا القسم الثالث، أعني قول القائل: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، فهو داخل في القسم الثاني من التوسل الّذي قدمنا الكلام فيه، وذكرنا هناك توسل شخص النبي بحقه وحق الأنبياء .

نعم، الكلام في القسم الثاني، وهو أن يخاطب الأنبياء والصالحين بقوله: «ادع اللّه لي، أو ادع لنا ربك» وهذا هو الّذي ذكر في حقه «أنه لا يستريب عالم في أنه غير جائز» مع أنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء من الشافعين في حال حياتهم ومماتهم .

ثم إنّ لأتباع محيي مسلك ابن تيمية في القرن الثاني عشر، أعني محمد بن عبدالوهاب، تعبيراً واضحاً في ذلك المجال يقول:

«إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من اللّه لا من الشفعاء بأن يقول:

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 22 .

2 . سورة القصص: الآية 15 .

( 281 )

اللّهمّ شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة، أو اللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم، فلا يقال: يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك(1) .

هكذا

نرى أنّ الاتهام بالشرك أرخص وأوفر شيء في كتب الوهابية وشيخها ابن تيمية، ولتحقيق الحال نركّز على أمرين يبتني عليهما جواز طلب الشفاعة عن الأنبياء والصالحين في هذه الدنيا وهما:

1- إنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء .

2- إنّ طلب الدعاء من الصالحين أمر مستحب في الاسلام، وقد جوّزته الوهابية إذا كان المدعو حياً، وإليك بيانهما:

أ _ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء

إنّ شفاعة النبي وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى اللّه وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين، واللّه سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة، فيستجاب فيما أذن، وهم لا يدعون في غير ما أذن اللّه لهم .

نعم، نحن لا نحيط بكنه الشفاعة في يوم القيامة، ولعلّ لها في ذلك اليوم مرتبة أُخرى، ولكن الدعاء إلى اللّه من مراتبها ومن أوضح مصاديقها، فقول القائل مقابل قبر النبي «يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه» لا يقصد إلاّ هذا المعنى. هذا هو المفسر المعروف النيسابوري يذكر عن مقاتل في تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصيبٌ مَنْهَا، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا)(2):... الشفاعة إلى اللّه إنما هي دعوة اللّه لمسلم(3) .

____________________________

1 . الهدية السنية، الرسالة الثانية: ص 42 والرسالة لأحد أتباعه .

2 . سورة النساء: الآية 85 .

3 . تفسير النيسابوري: ج 5 ص 118 بهامش تفسير الطبري .

( 282 )

وهذا هو الإمام الرازي يفسر الشفاعة بالدعاء والتوسل إلى اللّه، فقد قال في تفسير قوله سبحانه: (وَيَسْتَغْفِرون لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَىء رَحْمَة) هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء، لا نعقاد الإجماع على أنه لا فرق(1) .

وقال

أيضاً قال تعالى لمحمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : (وَاسْتَغْفِرْ لَذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَات) فأمر محمداً أن يذكر أوّلا الاستغفار لنفسه، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره، وحكى عن نوح _ عليه السَّلام _ أنه قال: (رَبِّ اغْفِرْلي وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بِيتِيَ مُؤمِناً وَلِلْمُؤمِنينَ وَالمُؤمِنات)(2) .

وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه، وقد سمي في الأحاديث: دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس عن النبي أنه قال: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لايشركون باللّه إلاّ شفّعهم اللّه فيه(3) .

فلو أنّ رجلا أوصى في حال حياته أربعين رجلا من أصدقائه الأوفياء على أن يقوموا بالدعاء له بعد موته وفوته، فقد طلب الشفاعة منهم .

وقد أفرد البخاري في صحيحه باباً بعنوان «إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم» وأفرد باباً آخر بعنوان «إذ استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط»(4) .

كل ذلك يدل على أنّ الشفاعة بمعنى الدعاء إلى اللّه، وطلبها هو طلب الدعاء .

____________________________

1 . مفاتيح الغيب: ج 7 ص 286 _ طبع مصر، سورة غافر: الآية 7 .

2 . مفاتيح الغيب: ج 8 ص 220، سورة محمد: الآية 19 و سورة نوح: الآية 28 .

3 . صحيح مسلم: ج 3 ص 54 .

4 . صحيح البخاري ج 2 ص 29 _ أبواب الاستسقاء .

( 283 )

ب _ طلب الدعاء من المؤمن ليس شركاً ولا حراماً

لا يتصور أن يكون طلب الدعاء من المؤمن أو الصالح أو الأنبياء العظام شركاً سواء أكانوا أحياءً أمْ أمواتاً، أمّا الأحياء فقد صرح القرآن الكريم بجوازه، وأمر الظالمين بالمجيء إلى النبي وطلب الاستغفار

منه. قال سبحانه:

(وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرو اللّهَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدوا اللّهَ تواباً رحيماً)(1). وحكى عن ولد يعقوب أنهم قالوا لأبيهم (يَا أبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي)(2) .

كما أنه لا يكون شركاً، لا يكون حراماً أيضاً، ونحن ننقل مجموعة من الأحاديث مما ورد فيه طلب الشفاعة:

1- هذا هو الترمذي يروي في صحيحه عن أنس أنه قال: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة فقال: أنا فاعل. قلت: فأين أطلبك؟ قال: على الصراط(3) .

والعجب من الشيخ الرفاعي الّذي يأتي بكل ما ذكره ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب حرفاً بحرف، لكن بثوب جديد وصبغة جديدة، استشكل على الاستدلال بهذا الحديث بقوله:

2- إنّه ليس من قبيل التوسل بالمخلوق، بل من قبيل التوسل إلى ربه بدعاء أخيه المؤمن له .

3- طلب أنس من الرسول أن يشفع له يوم القيامة، يفيد أن أَنَساً

____________________________

1 . سورة النساء: الآية 64 .

2 . سورة يوسف: الآية 97 _ 98 .

3 . سنن الترمذي: ج 4 ص 42، باب ما جاء في شأن الصراط .

( 284 )

يقصد أن يدعو له اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة، أي يجعله في جملة الحد الّذي يحده له فيشفع فيهم(1) .

يلاحظ عليه: أنّ الهدف من الاستدلال بالحديث هو إثبات جواز طلب الشفاعة من المخلوق، لا التوسل بذوات المخلوقين، فإنه بحث آخر، وله حجج أُخرى قدمناها. هذا حول الإشكال الأول .

وأمّا الثاني فهو تأويل لظاهر الحديث دعماً للمذهب الّذي تبناه، فإنّ المتبادر من قوله: «سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة» أي قلت له يا رسول اللّه اشفع لي يوم القيامة، وأين هو من التأويل الّذي يذكره

الرفاعي من أنه قصد أن يدعو اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة؟ ولو كان المقصود هذا فإنّ أنساً من العرب العرباء، كان له أن يفصح عن مراده ويقول: يا رسول اللّه ادع اللّه تعالى أن يشفعك فىّ، يوم القيامة .

وليس هذا التاويل وأمثاله الّذي ارتكبه ذلك الكاتب إلاّ تحريفاً للكلم ليروج متاعه .

ثمّ إنه استشكل على الحديث بضعف السند، فقال: «إنّ في سنده أبا الخطاب حرب بن ميمون وهو ضعّف ووثّق» وإليك ما ذكره الذهبي في حقه: حرب بن ميمون، ابو الخطاب الأنصاري، بصري صدوق يخطىء، قال أبو زرعة: ليّن، وقال يحيى بن معين: صالح وثّقه علي بن المديني وغيره.

وأمّا البخاري فذكره في الضعفاء(2) .

وقال ابن حجر: «قال الخطيب في المتفق والمفترق: كان ثقة .

وقال الساجي في حرب بن ميمون: الأصغر، ضعيف عنده مناكير، والأكبر ثقة، والوارد في سند الرواية هو الأكبر، وقال ابن حبان: في الثقات، يخطىء .

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 320 .

2 . ميزان الإعتدال: ج 1 ص 470، رقم 1773 .

( 285 )

وقرأت بخط الذهبي: وثّقه ابن المديني ومات في حدود الستين والمائة»(1) .

ترى أنّ الأكثرية الغالبة وثّقته غير البخاري، وهو ذكره في الضعفاء، ومن المعلوم أنه لا يمكن ترك حديثه بمجرد ذكر البخاري إياه في الضعفاء، ولم يعلم وجه كونه ضعيفاً عنده، ولعله لأجل كونه قدرياً كما يظهر من ابن حجر في تهذيب التهذيب، أي قائلا بالاختيار الّذي هو على طرف النقيض من القول بالجبر، وهو موجب لقوّته لا لضعفه، فالرواية حجة بلا إشكال.

كيف لا يجوز طلب الشفاعة من الصالحين وهذا هو الطبراني روى في المعجم الكبير أنّ سواد بن قارب _ رضي اللّه عنه _ أنشد

قصيدته:

وأشهد أنّ اللّه لا ربّ غيره * وأنّك مأمون على كل غائب

وأنّك أدنى المرسلين وسيلة * إلى اللّه يابن الأكرمين الأطائب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما فيه شيب الذوائب

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة * بمغن فتيلا عن سواد بن قارب(2)

والشاهد هو البيت الأخير حيث طلب الشفاعة من النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

إنّ الكاتب الوهابي الرفاعي لم يجد بداً عن التسليم لما يفيده البيت الأخير وقال:

«إنّ سواد بن قارب يخاطب رسول اللّه ويرجوه أن يدعو اللّه تعالى أن يكون له شفيعاً يوم القيامة، والخطاب هذا لا شك كان في حياته، وطلب الشفاعة منه في حياته لا بأس به، لأنه طلب لدعائه لأن يكون سواد في جملة من

____________________________

1 . تهذيب التهذيب: ج 2 ص 225 _ 226، رقم 418 .

2 . دلائل النبوة: ج 2 ص 248 ونقله الطبراني فى المعجم الكبير، ج 7 ص 109 _ 111 ورواه الحاكم في مستدركه، وابن كثير في تاريخه ج 1 ص 344 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 ص 250 .

( 286 )

يشفعه فيهم يوم القيامة(1) .

أقول: الّذي اعتذر به الرفاعي هو الّذي وصفه بالشرك شيخ منهجه أحمد بن تيمية، قال: الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً... فهذا هو الشرك باللّه(2) .

فما هذا التناقض بين كلامه وكلام شيخه، فالذي يجيزه، هو الّذي يصفه شيخه بالشرك، أبهذه المناقضات تكفّرون المسلمين وتدعون الناس إلى نهج الحق ومعين التوحيد؟

ثم إنّه نقل عن بعض الوهابيين أعني إسماعيل الأنصاري أنه ضعّف سند الحديث، وذكر وجوهاً للضعف، وقد سبقه معلق مجمع الزوائد، غير أنه غفل عن وجه الاستدلال و هو ما ذكرناه

فيما سبق:

إِنَّ هذا الحديث ونظائره على فرض الصدق وعدمه حجة على ما في مدلوله، إذ لو كان صادقاً فهو وإن كان مجعولا فلماذا ذكره المحدّثون الكبار في جوامعهم كالطبراني في معجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما؟ ولا يعني من هذا أنهم لا يذكرون الأحاديث الضعاف في جوامعهم حتّى يقال إنّ المحدثين بين ملتزم بنقل الصحيح وغيره، بل المقصود أنّه إذا كان طب الشفاعة شركاً على ما ذكره أحمد بن تيمية، أو مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز، فلماذا نقلوا الحديث الباطل من دون أن يناقشوا في مضمونه ومتنه؟ إذ لا يصحّ لهؤلاء أن يمروا على خرافة شركية في كتبهم، أو أمر محرّم لا يستريب فيه عالم، مرور الكرام .

كل ذلك يعرب عن أنّ المضمون ليس عليه غبار، وأمّا ضعف السند فلا يكون دليلا على كذبه، فإليك السند الّذي رواه الطبراني به، فقد ورد فيه هؤلاء:

____________________________

1 . التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 399 .

2 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 22 .

( 287 )

حدثنا محمد بن محمد التمارة البصري، ثنا: بشر بن حجر الشامي، ثنا علي بن منصور، عن الأنباري، عن عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي .

3- كيف يكون شركاً وقد جاء في التاريخ أنّ رجلا اسمه «تبع» قد بلغه أنّ نبي آخر الزمان سوف يظهر من مكة ويهاجر إلى المدينة، فكتب كتاباً ودفعه إلى بعض أقربائه كي يسلّموه إلى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وذكر فيه إسلامه وإيمانه، وأنّه من أُمة رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ و مما جاء في هذه الرسالة: «فإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة

ولا تنسني» ومات الرجل، وكان الكتاب ينتقل من واحد إلى آخر، فلما قدم النبي المدينة دفعوا إليه الكتاب فقال: مرحباً بالأخ الصالح»(1) .

فهل يصحّ للنبي أن يصف المشرك بالأخ الصالح؟ أو أن تقراً عليه الرسالة ويقف على ما طلبه منه من الأمر المحرم دون أن يرد عليه؟

كل ذلك يعرب عن أنّ طلب الدعاء وطلب الشفاعة من الصالحين والأنبياء ليس شركاً في العبادة، ولا أمراً محرماً، ما هذا الجمود في فهم الإسلام؟ وما هذه الظنون والشبه الّتي تعتمدون عليها؟ فإنّ الإسلام دين حنيف سهل .

نعم لهم اعتراض على ما ذكرناه من الأدلة، بأنها ترجع إلى طلب الشفاعة من الأحياء، وأن البحث إنما هو في طلبه من غيرهم، والجواب من وجهين:

الأوّل: قد عرفت في البحث السابق بوجوه قيمة من أنّ الطلب متوجه إلى الأرواح المقدسة الّتي لم تنقطع صلتها بنا، وقد جرت السنة على ذلك، وقد عرفت الأدلة على جواز التكلم مع الأرواح المؤمنة والمشركة، كما عرفت أنّ الأنبياء العظام كصالح وشعيب، والنبي الأكرم كلّموا قومهم بعد هلاكهم ودمارهم، غير أنّه تكميلا للبحث نذكر بعض ما ورد من الأثر في ذلك

____________________________

1 . المناقب، لابن شهر آشوب: ج 1 ص 16 .

( 288 )

المجال، أي طلب الدعاء بعد الالتحاق إلى رحمة اللّه .

هذا ابن عباس يقول: لما فرغ أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ من تغسيل النبي، قال:

«بأبي أنت وأُمي، اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»(1) .

ويروي أهل السنة أنه لما توفّي رسول اللّه جاء أبوبكر من سلع، ووقف على فوته وكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً واذكرنا عند ربك»(2) .

فما معنى المعارضة مع هذه النصوص ومعاكستها؟

(فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤمِنُونَ)(3) .

أدلة الوهابيين على حرمة

طلب الشفاعة

لقد تعرّفت فيما مضى على أنّ طلب الشفاعة يساوق طلب الدعاء، ولا يتصوّر أن يكون من أقسام الشرك في العبادة، أو يكون طلبه من المخلوق عبادة له، إلاّ أن يكون طلب الدعاء من مخلوق شركاً وعبادة، وهو مما لم يقل به أحد حتّى الوهابيون .

نعم لهم شبهة ربما يغتر بها البسطاء، وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم، فسمّاه اللّه عبادة لهم وقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُم وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمواتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(4) .

والشاهد في قوله: «ويعبدون من دون اللّه» مع ملاحظة ما في ذيل

____________________________

1 . نهج البلاغة: الخطبة رقم 235 ونقل السيد الأمين في كشف الإرتياب، ص 265 أنه قال: بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك، نقلا عن مجالس المفيد .

2 . السيرة الحلبية: ج 3 ص 392 .

3 . سورة الأعراف: الآية 185 .

4 . سورة يونس: الآية 18 .

( 289 )

الآية: «ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه» وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم: «هؤلاء شفعاؤنا»(1) .

إنّ الاستدلال بالآية على كون طلب الشفاعة شركاً من غرائب الاستدلال وعجائبه، فإنّ الآية لو لم تدل على أنّ طلب الشفاعة يغاير عبادتهم لها، لا تدل على أنّ طلب الشفاعة عبادة للمدعو، وذلك أنه ورد في الآية جملتان نسبتهما إلى المشركين:

1- ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم .

2- ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه .

والعطف يدل على المغايرة، وأنّ هنا عبادة، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة، وما هذا الخلط؟

ولنفترض أنّ طلب شفاعتهم كان عبادة لمعبوداتهم، وأنّ الجملة الثانية من قبيل عطف

العام على الخاص ولكن أين طلب شفاعة المسلم الموحّد من سيد الموحدين، من طلب شفاعة عبدة الأصنام والأوثان، فالمشركون كانوا يعتبرون الأوثان مالكة للشفاعة والمغفرة، فكان اللّه في معزل عنهما تماماً، ولا شك أنّ طلب الشفاعة من أىّ موجود مقروناً بهذا الاعتقاد يعد شركاً، لأنّ هذا الطلب مقرون بألوهية المدعو وربوبيته، في حين أنّ الإنسان المسلم يطلب الشفاعة والدعاء من الشفيع باعتباره عبداً مقرباً إلى اللّه، وإنساناً وجيهاً عنده، أذن اللّه تعالى له في شفاعة المجرمين، وادّخرها النبي لأهل الكبائر من أُمته، كما ورد عن النبي الأكرم، ورواه الفريقان .

والمصدر لهذه التهمة هو أنّ القوم لم يضعوا حداً منطقياً جامعاً ومانعاً للعبادة حتّى يميزوا به الدعاء العبادي عن غيره، فجعلوا يخبطون خبط عشواء لا يميزون بين الصحيح والسقيم .

نعم، إنّ الشفاعة حق خاص باللّه دل عليه الذكر الحكيم وقال: (أَمِ

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 15 .

( 290 )

اتَّخَذُوا مِنْ دونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيئاً وَلاَ يَعْقَلُونَ * قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)(1) .

ولأجل كونه حقاً مختصاً باللّه، لا يشفع النبي الأكرم ولا الشفعاء الأُخر لأحد إلاّ بإذنه سبحانه، ولكن قوله «للّه الشفاعة جميعاً» ليس معناه أنه سبحانه هو الشفيع دون غيره، لبداهة أنّ اللّه لا يشفع لأحد عند أحد، بل معناه أنه مالكٌ لمقام الشفاعة، لا يملكه غيره ولا يشفع إلاّ بإذنه .

هذا وإنّ المشركين كانوا على خلاف ذلك كما يعرب عنه قوله سبحانه: «قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً» .

وفي الختام نذكر النقطة الأخيرة من كلامهم، وهي أنّ النبي الأكرم بعد التحاقة بالرفيق الأعلى لا يسمع بدليل قوله سبحانه (إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ

الدُّعاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ)(2) .

وقوله: (إنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِع مِنْ في القُبُورِ)(3)، ولكنّك عرفت أنّ الآيتين لا تمتّان إلى طلب الشفاعة عن الأنبياء بصلة، فإنّ الأجساد الراقدة تحت التراب، غير قادرة على الإدراك والسماع، ولكن المخاطب هو الروح الطاهرة والحية الّتي تعيش بالجسد البرزخي في عالم البرزخ، والخطاب لتلك الأرواح النورانية والشفاعة تطلب منها، وأمّا السعي إلى الحضور في مقابرهم ومراقدهم فلأجل أنّ الحضور فيها يهيّىء أنفسنا للاتصال بأرواحهم المقدسة، وعند ذلك نجد في أنفسنا دافعاً إلى التحدّث معهم وهم يستمعون إلينا.

هذا هو الإمام الصادق _ عليه السَّلام _ أحد الأئمة يعلّم شيعته كيفية زيارة أئمة أهل البيت بقوله:

____________________________

1 . سورة الزمر: الآية 43 _ 44 .

2 . سورة النمل: الآية 80 .

3 . سورة فاطر: الآية 22 .

( 291 )

«عالماً أنّك تسمع كلامي وترد سلامي... فكن لي إلى اللّه شفيعاً، فما لي وسيلة أوفى من قصدي إليك وتوسّلي بك إلى اللّه»(1) .

وجاء في كلام آخر له _ عليه السَّلام _ : «اللّهمّ... وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك _ عليهم السَّلام _ أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردون سلامي، وأنك حجبت عن سمعي كلامهم، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم»(2) .

هذا وقد قال ابن تيمية: وفي سنن أبي داود عن النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: ما من رجل مسلم سلّم علىّ إلاّ ردّ اللّه علىّ روحي حتّى أردّ عليه السلام، وفي موطأ الإمام مالك أنّ عبداللّه بن عمر _ رضي اللّه تعالى عنهما _ كان يقول: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف، وكذلك أنس بن مالك

وغيره من الصحابة رضي اللّه عنهم، نقل عنهم السلام على النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ (3) .

فأىّ فرق بين التسليم على الميت وبين طلب الدعاء منه؟ وإذا كان قادراً على رد السلام، يكون قادراً على الدعاء إلى اللّه، والشفاعة للداعي، ولو فرضنا أنّه قادر على شيء واحد وهو رد السلام، وليس قادراً على الدعاء، يكون طلبه عندئذ لغواً، لا شركاً ولا محرماً، ويكون أشبه باعتقاد أثر في نبات مع كونه خطأ. أو كون شخص قادراً على إنجاز عمل ولم يكن كذلك. ولم يقل أحد بكون هذا النوع من الاعتقاد شركاً .

____________________________

1 . بحارالأنوار: ج 97، ص 295 .

2 . عدة الداعي لابن فهد الحلي، 841 .

3 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 23 .

ابن تيمية والنذر لأهل القبور

ابن تيمية والنذر لأهل القبور

قال ابن تيمية: وإذا كان الطلب من الموتى _ ولو كانوا أنبياء _ ممنوعاً خشية الشرك، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان .

ويقول: ومن اعتقد أنّ في النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهو ضالّ جاهل، ثم يقرر: إنّ ذلك نذر في معصية، وإنّ من يعتقد أنها باب الحوائج إلى اللّه، وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ العمر، فهو كافر مشرك يجب قتله(1).

أقول: إنّه قد ذيل كلامه بشيء لا يعتقد به أحد من المسلمين، حتّى يجعل ذلك ذريعة لقبول صدر كلامه. فأىّ مسلم يعتقد أن النبي يكشف الضرر ويفتح الرزق ويحفظ العمر؟ بل معتقَدُ جماهير المسلمين هو أنّ كل الأُمور بيده سبحانه، وأنّ الناس هم الفقراء واللّه هو الغني الحميد، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ)(2) .

ولو اعتقد أحد من المسلمين أن

الأنبياء والصالحين ربما يقومون بأُمور خارجة عن السنن العادية فهو نفس الاعتقاد بأنهم أصحاب المعاجز والكرامات، وقد تواترت النصوص على ذلك وأنهم يبرئون الأكمه والأبرص

____________________________

1 . قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص 103 .

2 . سورة فاطر: الآية 15 .

( 293 )

ويحيون الموتى بإذن اللّه(1) .

ومن يصف أحداً من الصالحين بباب الحوائج فإنما يصفه بهذا المعنى، يعني أنه سبحانه يستجيب دعاءه إذا دعاه، أو أنّه سبحانه أعطاه مقدرة كبيرة مثل ما أعطى لمن كان عنده علم من الكتاب(2) .

فإذا صحّ ما في القرآن من أنّ أُناساً من الأنبياء وغيرهم كانوا أصحاب مقدرة كبيرة يقومون بخوارق العادات وعجائب الأعمال بإذن اللّه، لصحّ التصديق في غيرهم ممن لم يجىء عنهم ذكر في القرآن، فما معنى الإيمان ببعض والكفر ببعض؟

وأمّا النذر للأموات، فتحقيقه يتوقف على بيان مقدمة:

النذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقق هدفه وقضيت حاجته، فيقول: للّه علىَّ أن أفعل كذا، إذا كان كذا. مثلا يقول: للّه علىَّ أن اختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسية .

هذا هو النذر الشرعي، ويجب أن يكون للّه، فإذا قال الناذر: نذرت لفلان، ففي قوله مجاز لغاية الاختصار، والمعنى نذرت للّه على أن أفعل شيئاً يكون ثوابه لفلان، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام:

1- أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر .

2- أن يكون لشخص ميت .

3- أن يكون لشخص حي .

وهذه الأقسام الثلاثة كلها جائزة، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قضيت حاجته، وقد مدح اللّه سبحانه أهل البيت، لأجل الوفاء بالنذر. قال

____________________________

1 . سورة آل عمران: الآية 49 وسورة المائدة: الآية 110 .

2 . قال سبحانه: (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الجنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ

مِنْ مَقَامِكَ... قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدّ إلَيكَ طَرفُكَ)سورة النمل: الآية 39 _ 40 .

( 294 )

تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً)(1)، هذا هو النذر .

وقد تعارف بين المسلمين أنّ النذر للّه وإهداء ثوابه لأحد أولياء اللّه وعباده الصالحين، وكانت عليه السيرة بين المسلمين، إلى أن جاء الدهر بابن تيمية فحرّم ذلك كما عرفت من عبارته، وقد نقل عنه أيضاً العبارة التالية، وقال: «من نذر شيئاً للنبي أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير اللّه، فيكون بذلك كافراً»(2) .

عجيب جداً حكم ابن تيمية وتكفيره المسلمين بحجة أنّ عمل الناذر يشبه عمل المشركين، أيصحّ في ميزان النصفة الحكم بتكفير المسلمين الذين أرسوا قواعد التوحيد، وحملوه جيلا بعد جيل إلى عصر ابن تيمية، بمجرد أنّ عمل الذابح والناذر يشبه عمل المشركين .

فلو كان هذا ملاكاً للتكفير فابن تيمية والوهابيون وحماة هذه البدع من أعظم المشركين! فإنّ كثيراً من مناسك الحج و فرائضه (الّتي يقوم بها المسلمون من غير فرق بين الوهابي وغيره) تشبه في ظاهرها أعمال عبدة الأصنام، فقد كانوا يطوفون حول أصنامهم ويقبّلونها، ونحن أيضاً نطوف حول الكعبة المشرفة ونقبّل الحجر الأسود، ونذبح الذبائح ونقرّب القرابين في منى يوم عيد الأضحى، كما كانوا يذبحون لأصنامهم، أفيصح تكفير الجميع لأجل هذه المماثلة؟

أو المقياس هو النية القلبية، وأنّ المعيار هو النية والضمائر دون المشابهة والظواهر، وقد قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : إنما الأعمال بالنيات(3) .

____________________________

1 . سورة الإنسان: الآية 7 .

2 . نقله عنه شهاب الدين ابن حجر الهيثمي

في كتاب «الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم» كما في فرقان القرآن للعزامي القضاعي، ص 132 .

3 . صحيح البخاري: ج 1، كتاب الإيمان ص 16 .

( 295 )

ولا يصحّ التسرّع في الحكم بمجرد المماثلة، لأنّ كل من ينذر لأحد من الأولياء فإنما يقصد النذر للّه، وإهداء الثواب للولي الصالح ليس إلاّ، ولا تجد في أديم الأرض من يسجّل اسمه في ديوان المسلمين إلاّ وينوي ذلك، نعم شذّ عنهم ابن تيمية ومن أحيى مسلكه حيث اتّهموا المسلمين بغير ذلك .

يقول الشيخ الخالدي رداً على ابن تيمية:

«إنّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين، وإنما الأعمال بالنيات، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه، والتقرّب إليه بذلك، لم يجز _ قولا واحداً _ وإن كان قصده وجه اللّه تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه به، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له، وسواء عيّن وجهاً من وجوه الإنتفاع، أو أطلق القول فيه، وكان هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس، أو أقرباء الميت، أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور»(1) .

قال العزامي:

«...ومن استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات _ من الأنبياء والأولياء _ إلاّ الصدقة عنهم، وجعل ثواباها لهم، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات، واصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة.

فمنها: ما صحّ عن سعد أنّه سأل النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قال: يا نبىّ اللّه إنّ اُمّي قد افتلتت، وأعلم أنها لو عاشت لتصدّقت أفإن تصدّقتُ عنها أينفعها ذلك؟

قال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : نعم. فسأل النبي: أىّ الصدقة انفع يا رسول اللّه؟

قال: الماء

.

____________________________

1 . صلح الأخوان: للخالدي، ص 102 وما بعده .

( 296 )

فحفر بئراً وقال: هذه لأُم سعد(1) .

وقد أخطأ محمد بن عبدالوهاب فادّعى أن المسلم إذا قال: «هذه الصدقة للنبي أو للولي: فاللام بنفسها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرت للّه» يراد منها الغاية» .

بل العمل للّه، بينما لو قال: للنبي، يريد بها الجهة التي يصرف فيها الصدقة من مصالح النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في حياته ومماته.

وفي هذا الصدد يقول العزامي _ بعد ذكر قصة سعد _ :

«اللام في هذه لأُم سعد»، هي الام الداخلة على الجهة الّتي وجهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لا وثنيون، وهي كاللام في قوله تعالى: (إنّما الصّدقات للفرقاء) لا كاللام في قوله سبحانه: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحرَّراً)(2) أو في قول القائل: صلّيت للّه ونذرت للّه، فإذا ذبح للنبي أو الولي أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدق بذلك عنه، ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الأحياء للأموات، المشروعة، المثاب على إهدائها، والمسألة محرّرة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على الرجل ومن شايعه»(3) .

وهكذا ظهر لك _ أيها القارىء _ جواز النذر للأنبياء والأولياء من دون أن تكون فيه شائبة شرك، فيثاب به الناذر إن كان للّه وذبح المنذور باسم اللّه: فقول القائل «ذبحت للنبي» لا يريد أنه ذبحه للنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ بل يريد أن الثواب له، كقول القائل: ذبحت للضيف، بمعنى أن النفع له والفائدة له، فهو السبب في حصول الذبح .

ويوضح ذلك ما روي عن ثابت بن الضحاك قال:

____________________________

1 . لاحظ:

فرقان القران ص 133 .

2 . سورة آل عمران: الآية 35 .

3 . فرقان الفرقان: ص 133 .

( 297 )

«نذر رجل عهد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أن ينحر إبلا ب_ «بوانة» فأتى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فأخبره، فقال النبي:

هل كان فيها من يعبد من أوثان الجاهلية؟

قالوا: لا .

قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟

قالوا: لا .

قال _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ للسائل: أوف بنذرك، فإنّه لا وفاء في معصية اللّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم»(1) .

وروي أيضاً:

«إنّ امرأة أتت النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فقالت: يا رسول اللّه... إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، كان يذبح فيه أهل الجاهلية .

فقال النبي: الصنم؟

قالت: لا .

قال: الوثن؟

قالت: لا.

قال: في بنذرك»(2) .

وعن ميمونة بنت كردم أنّ أباها قال لرسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : يا رسول اللّه إني نذرت إن ولد لي ذكر، أن أنحر على رأس بوانة «في عقبة من الثنايا» عدة من الغنم..

قال «الراوي عنها»: لا أعلم إلاّ أنها قالت: خمسين .

____________________________

1 . سنن أبي داود: ج 2 ص 80 .

2 . سنن أبي داود: ج 2 ص 81 .

( 298 )

فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : هل من الأوثان شيء.

قالت: لا .

قال: فأوف بما نذرت به لله...»(1) .

أرأيت أيّها القارىء _ كيف يكرر النبي _ _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ السؤال عن جود الأصنام في المكان الّذي تذبح فيه الذبائح؟

إنّ هذا دليل على أنّ النذر الحرام هو النذر للأصنام، حيث كان ذلك عادة أهل الجاهلية، كما قال

تعالى:

(وَمَا ذُبحَ عَلَى النُّصُبِ... ذَلِكُمْ فِسْقٌ)(2) .

ومن اطّلع على أحوال الزائرين للعتبات المقدسة ومراقد أولياء اللّه الصالحين يعلم جيداً أنهم ينذرون لله تعالى ولرضاه، ويذبحون الذبائح باسمه عزّوجلّ، بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها، وانتفاع الفقراء بلحومها، وبذلك تعرف سقوط كلمة محمد بن عبدالوهاب في اتّهام المسلمين بأنهم ينحرون للنبي، وِزانَ النحر لله سبحانه، حيث يلقِّن أتباعه الحجة ويقول: «فقل: فإذا عملت بقول اللّه تعالى: «فصل لربك» وأطعت اللّه ونحرت له هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإن نحرت لمخلوق: نبي أو أجنبي أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير اللّه؟ فلابد أن يقرّ ويقول: نعم» (3) .

والمسلمين تخيّل أنّ اللام في «هذا للنبي» نفس اللام في «نذرت لله» وقد عرفت أن إحداهما للغاية، والأُخرى للإنتفاع .

وختاماً لهذا الفصل نذكر كلمة للخالدي _ بعد أن ذكر ما رواه أبو داود في سننه _ قال:

____________________________

1 . سنن أبي داود: ج 2 ص 81 .

2 . سورة المائدة: الآية 3 .

3 . صلح الإخوان للخالدي، ص 109 .

( 299 )

«وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في اماكن الأنبياء والصالحين. زاعمين بأنّ الأنبياء والصالحين أوثان _ والعياذ باللّه _ وأعياد من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالاتهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء اللّه وأوليائه، حتّى سمّوهم أوثاناً، وهذا غاية التحقير لهم، خصوصاً الأنبياء، فإنّ من انتقصهم ولو بالكناية _ يكفر ولا تقبل توبته _ في بعض الأقوال _ وهؤلاء المخذولون بجهلهم، يسمّون التوسل بهم عبادة، ويسمونهم أوثاناً، فلا عبرة بجالهة هؤلاء وضلالاتهم، واللّه أعلم»(1) .

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكينَاً وَيَتيمَاً وَأَسيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ

اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)(2) .

____________________________

1 . كشف الشبهات، ص 8 .

2 . سورة الإنسان: الآية 7 - 9 .

( 300 )

ابن تيمية والحلف بغير اللّه تعالى

ابن تيمية والحلف بغير اللّه تعالى

إنّ من المسائل المهمة عند الوهابيين هو الحلف بغير اللّه، وذهب ابن تيمية إلى كونه شركاً، اعتماداً على ما رواه الترمذي: «من حلف بغير اللّه فقد أشرك» وتحقيق الحق يتوقف على توضيح الأُمور التالية:

1- هل اليمين الفاصل في الدعاوي هو الحلف باللّه، أو يعمه وغيره؟

2- هل ينعقد اليمين بالحلف بالنبي مثلا، بحيث لو حنث لزمته الكفارة أو لا؟

3- هل يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه أولا؟

وإليك نقل أقوال أئمة المذاهب الفقهية في المجالات المتقدمة:

أ - ما هو الحلف الفاصل في الخصومات؟

أمّا فقهاء الشيعة فقد اتفقت كلمتهم على أن اليمين الفاصل في الخصومات هو الحلف باللّه وأسمائه. قال المحقق الحلي: لا يستحلف أحد إلاّ باللّه ولو كان كافراً، فلا يجوز الإحلاف بغير أسماء اللّه سبحانه، كالكتب المنزلة، والرسل المعظمة، والأماكن المشرفة(1) وأمّا السنّة فلم أجد لهم نصاً في خصوص هذه المسألة في الكتب الفقهية، نعم يعلم حكمها مما سنذكره عنهم في المسألتين التاليتين .

____________________________

1 . جواهر الكلام، في شرح شرائع الإسلام، ج 40 ص 225 .

( 301 )

ب _ هل ينعقد الحلف بغيره سبحانه؟

قال ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أنّه لا ينعقد اليمين بغير اللّه، ولو حلف بالكعبة أو بالملائكة أو بالأنبياء _ عليهم السَّلام _ لم تنعقد يمينه، ولم يقل أحد إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء، فإنّ عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي روايتين، لكن الّذي عليه الجمهور كمالك والشافعي، وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح(1) .

وقال

ابن قدامة في المغني: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحلف فيها... وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلف بحق رسول اللّه وحنث فعليه الكفارة. قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة، فالحلف به موجب للكفارة، كالحلف باسم اللّه(2) .

وبالإمعان في كلام ابن قدامة يظهر عدم صحة ما ذكره ابن تيمية من أنه «اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير اللّه» وأين هو من قول ابن قدامة: «قال أصحابنا: الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة؟ وهو وابن قدامة كلاهما حنبليان، وبما أن المسألة فقهية لا نستعرضها أزيد من ذلك، وإنما نركز البحث على المسألة الثالثة .

ج _ هل يجوز الحلف بغير اللّه أو لا؟

هذه المسألة هي الّتي عقدنا الفصل لبيان حكمها. قال ابن تيمية: «لا يشرع ذلك بل ينهى عنه إمّا نهي تحريم وإمّا نهي تنزيه، وإنّ للعلماء في ذلك قولين، والصحيح أنه نهي تحريم، وفي الصحيح عنه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت، وفي الترمذي أنه قال: من

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 209 .

2 . المغني لابن قدامة: ج 11 ص 17 .

( 302 )

حلف بغير اللّه فقد أشرك(1) .

وقال الصنعاني: إنّ الحلف بغير اللّه شرك صغير(2)، وقال ابن قدامة: ولا يجوز الحلف بغير اللّه وصفاته، نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام. قال الشافعي: أخشى أن يكون معصية. قال ابن عبد البر: وهذا أصل مجمع عليه، وقيل; يجوز ذلك لأنّ اللّه تعالى أقسم بمخلوقاته فقال: «والصّافّات صفّاً، والمرسلات عرفاً، والنازعات غرقاً»، وقال

النبي للأعرابي السائل عن الصلاة: «أفلح وأبيه إن صدق» وفي حديث أبي الشعراء: «وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزاك» ثم إن لم يكن الحلف بغير اللّه محرّماً فهو مكروه، فإن حلف فليستغفر اللّه تعالى، أو ليذكر اللّه تعالى، كما قال النبي: من حلف باللاّت والعزّى فليقل: لا إله إلاّ اللّه(3) .

أنت ترى أنّ ابن تيمية وتلميذ منهجه الشيخ الصنعاني أفتيا بالحرمة، ولكن الظاهر من عبارة ابن قدامة أن المسألة مما اختلف فيه الفقهاء، فهم بين محرّم ومجوّز، حتّى أنّ الشافعي قال: أخشى أن يكون معصية، وإذ كانت المسألة على هذا المستوى من الاختلاف، فهل يجوز تكفير الحالف بمثل هذه المسألة؟ مع أنّ أكثر الفقهاء قائلون بالجواز.

قال في الفقه على المذاهب الأربعة: «إذا قصد الحالف إشراك غير اللّه معه في التعظيم ففيه تفصيل في المذاهب، ثم ذكر التفصيل بالنحو الآتي»:

«الحلف بالطلاق نحو: علىّ الطلاق: إن فعلت كذا، جائز بدون كراهة، ويلزمه الطلاق إذا كان الغرض منه الوثيقة، أي وثوق الخصم بصدق الحالف، جاز بدون كراهة. وإذا لم يكن الغرض منه ذلك، أو كان حلفاً على الماضي فإنه يكره، وكذلك الحلف (بنحو وأبيك ولعمرك) .

وقالت الشافعية: يكره الحلف بغير اللّه إذا لم يقصد شيئاً مما ذكر في أعلى الصحيفة، ويكره الحلف بالطلاق .

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 17 .

2 . تطهير الاعتقاد، ص 14 .

3 . المغني لابن قدامة: ج 11 ص 163 (كتاب الأيمان) طبع دارالكتاب العربي _ بيروت .

( 303 )

وقالت الحنابلة: يحرم الحلف بغير اللّه وصفاته، ولو بنبي أو ولي، ويكره الحلف بالطلاق والعتاق والمشهور الحرمة»(1) .

فعلى ضوء هذا فقد أفتى الحنابلة من بين المذاهب الأربعة بالحرمة، وذهبت الحنفية والشافعية إلى

الجواز وللمالكية قولان .

هذه هي الأقوال في المسألة، وإليك تحليلها فقهياً واجتهاداً:

عرض المسألة على القرآن

إنّ القرآن الكريم هو الثقل الأكبر والقدوة العليا والمثل الحي لكل مسلم، نرى فيه الحلف بغير اللّه في غير واحد من السور، فقد أقسم تعالى في سورة الشمس وحدها بغير ذاته وصفاته، أعني الشمس وضحاها، والقمر والنهار والليل، والسماء والأِض، والنفس الإنسانية، وأقسم سبحانه في سورة النازعات بأمرين: المرسلات والناشرات، كذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة «الطارق» و «القلم» و «العصر» و «البلد» وغيرها.

وإليك نماذج من آيات الحلف بغير اللّه سبحانه الواردة في غير هذه السور:

(وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ * وَطُورِ سِينيِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأمينِ)(2) .

(وَالليلِ إذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إذَا تَجَلّى)(3) .

(وَالفَجْرِ * ولَيال عَشْر * والشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَالليلِ إذَا يَسْرِ)(4) .

(وَالطُّورِ * وَكِتاب مَسْطُور * فِي رَقٍّ مَنْشور * وَالبَيتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرفُوعِ * وَالبَحْرِ المَسجُورِ)(5) .

____________________________

1 . الفقه على المذاهب الأربعة، ج 2 (كتاب اليمين)، ص 75 .

2 . سورة التين: الآية 1-3 .

3 . سورة الليل: الآية 1-2 .

4 . سورة الفجر: الآية 1-4 .

5 . سورة الطور: الآية 1-6 .

( 304 )

إذا كان القرآن كتاب هداية للبشر والناس يتخذونه قدوة وأُسوة، فلو كان هذا النوع من الحلف حراماً على العباد، وأمراً خاصاً باللّه سبحانه، لكان المفروض أن يحذّر منه القرآن، ويذكر بأن هذا من خصائصه سبحانه .

ومن هنا يعلم أنّ توصيف الحلف بغير اللّه بكونه شركاً صغيراً يستلزم نسبة الشرك إلى اللّه سبحانه، وإذا كانت ماهية الحلف بغير اللّه ماهية شركية فلا يفرق بينه وبين عباده، فإذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء، فاللّه وعباده فيه سيان، قال تعالى: (قُلْ إنَّ اللّهَ لاَ

يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمونَ)(1) .

إنّ الحلف بهذه العظائم كما يتضمن الدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها، والنواميس السائدة عليها، واللطائف الموجودة فيها، وبالتالي يحتج بها على صانع لها عالم وقادر وحي و...، كذلك يتضمن جواز الحلف بها إذا كان موجوداً مقدساً، كما حلف سبحانه بحياة النبي وقال:

(لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمِهُونَ)(2) .

عرض المسألة على الأحاديث

هذا بالنسبة إلى القرآن، وإليك عرض المسألة على سنة النبي الأكرم، أعني قوله وفعله وتقريره، فقد حلف بغير اللّه في موارد عديدة منها:

1- روى مسلم في صحيحه:

«جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللّه أىّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وأبيك فننبئنّك: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء»(3) .

2- روى مسلم أيضاً:

____________________________

1 . سورة الأعراف: الآية 28 .

2 . سورة الحجر: الآية 72 .

3 . صحيح مسلم، ج 3، كتاب الزكاة _ باب أفضل الصدقة، ص 94 .

( 305 )

«وجاء رجل إلى رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ _ من نجد _ يسأل عن الإسلام، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : خمس صلوات في اليوم والليل .

فقال: هل علىّ غيرهن؟

قال: لا... إلاّ أن تطّوّع، وصيام شهر رمضان .

فقال: هل علىّ غيره؟

قال: لا... إلاّ أن تطّوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة.

فقال الرجل: هل علىَّ غيرها؟

قال: لا... إلاّ أن تطّوّع .

فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه .

فقال رسول اللّه: أفلح وأبيه(1) إن صدق .

أو قال: دخل الجنة _ وأبيه _ إن صدق»(2) .

3- وروي الحديث في مسند أحمد بن حنبل، وفي نهايته: أنّ النبي قال له:

«... فلعمري لئن تتكلم(3) بمعروف و تنهى عن

منكر، خير من أن تسكت»(4) .

وهناك أحاديث أُخرى لا يسع الكتاب ذكرها(5) .

وقد أقسم الإمام علىّ _ عليه السَّلام _ _ ذلك النموذج البارع في التربية

____________________________

1 . أي حلفاً بأبيه، فالواو واو القسم .

2 . صحيح مسلم، ج 1 باب ما هو الإسلام، ص 32 .

3 . أي تتكلم _ للمخاطب _ كما في قوله تعالى: «فأنت له تصدى» «أي تتصدى» .

4 . مسند أحمد، ج 5 ص 225 .

5 . راجع مسند أحمد: ج 5 ص 212، وسنن ابن ماجة: ج 1 ص 255 وج 4 ص 595 .

( 306 )

الإسلامية والقيم العالية _ بنفسه الشريفة مرات في خطبه ورسائله وكلماته(1) .

وهذا أبوبكر بن أبي قحافة يقول للسارق الّذي سرق حلي ابنته، فقال: «وأبيك ما ليلك بليل سارق»(2) .

ولا أرى البحث أكثر من هذا إلاّ تطويلا بلا طائل، وبما أنّ الوهابيين يتمسكون ببعض الأحاديث فلا بأس بدراستها:

1- إنّ رسول اللّه سمع عمر و هو يقول: وأبي، فقال: إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت(3) .

يلاحظ على الاستدلال: بأنّ وجه النهي عن الحلف بالآباء، أنّ أباءهم في الغالب كانوا مشركين وعبدة الأصنام، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتّى يحلف أحد بهم، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي أنه قال: «ولا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد»(4) وروي أيضاً: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت»(5) .

على أنّه يحتمل أن يكون النهي عن الحلف بالأب في مقام فصل الخصومات و حسم الخلافات، وقد عرفت أنّ الفاصل في هذا المجال هو الحلف باللّه وصفاته .

وأكثر ما يمكن أن يقال: إنّ النهي تنزيهي لا تحريمي بشهادة ما سبق من الحلف بغير اللّه في

حديث الرجل النجدي .

2- جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: لا، ولكن احلف برب الكعبة، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _

____________________________

1 . نهج البلاغة: تعليق محمد عبده: الخطبة رقم 22 و25 و56 و85 و161 و168 و182 و183 و187 والرسالة رقم 6 و9 و54 .

2 . الموطأ، أخرجه في باب الحدود برقم 29 .

3 . سنن ابن ماجة: ج 1 ص 277، سنن الترمذي: ج 4 ص 109 وغيرهما.

4 . سنن النسائي ج 7 ص 9 .

5 . سنن النسائي: ج 7 ص 7، سنن ابن ماجة: ج 1 ص 278 _ والطواغيت هي الأصنام .

( 307 )

لا تحلف بأبيك فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك(1) .

يلاحظ على الاستدلال: أنّ الحديث يتألف من أُمور ثلاثة:

1- إِنَّ رجلا جاء إلى ابن عمر فقال: أحلف بالكعبة؟ فأجابه بقوله: لا، ولكن احلف برب الكعبة .

2- إِنَّ عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عن ذلك .

3- إِنَّ رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ علل ذلك بقوله: «من حلف بغير اللّه فقد أشرك» .

والمتبادر من كلام الرسول حيث وقع تعليلا لنهي عمر عن الحلف بوالده _ الكافر _ ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدس كالكافر والصنم، وأما إذا كان المحلوف به مقدساً وذا فضيلة وكرامة كالكعبة، فكلام الرسول منصرف عنه، وإنما اجتهد ابن عمر حيث حمل كلام الرسول حتّى على الحلف بالمقدس، كالكعبة، واجتهاده حجة على نفسه لا على غيره .

وهناك جواب آخر، وهو أنه يحتمل وقوع التحريف في الخبر، وأن قوله فقال: «رسول

اللّه» مصحّف قوله: وقال رسول اللّه، وعندئذ يكون كلام الرسول مستقلا، لا تعليلا بشيء حتّى النهي عن الحلف بالكافر، وعلى هذا فالحديث مركب من أُمور ثلاثة جمعها ابن عمر في حديث واحد .

والّذي يعرب عن أنّ كلام الرسول كان كلاماً مستقلا غير واقع في ذيل النهي عن الحلف بالأب، ما رواه إمام الحنابلة عن ابن عمر، قال:

«كان يحلف أبي، فنهاه النبي وقال: من حلف بشيء دون اللّه فقد أشرك»(2) فلو كان كلام الرسول مصدّراً بنهي عمر عن الحلف بأبيه كان اللازم أن يقول: «فقال» مكان «قال» وعلى فرض استقلاله ووروده بدون

____________________________

1 . السنن للبيهقي: ج 1 ص 29، وقريب منه في مسند أحمد: ج 2 ص 69 .

2 . مسند أحمد: ج 2 ص 34 .

( 308 )

«الفاء» يكون القدر المتيقن منه الحلف بالأصنام .

ويشهد على ذلك ما رواه النسائي: أن النبىَّ _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلاّ اللّه»(1) .

والحديث يعرب عن أن رواسب الجاهلية كانت باقية في بعض النفوس، فكانوا يحلفون بأصنامهم المعبودة، فأمرهم النبي أن يقولوا بعد الحلف: «لا إله إلاّ اللّه» ليقضي على تلك الرواسب الجاهلية .

وحصيلة الجوابين: إنَّ قول النبي: «من حلف بغير اللّه فقد أشرك» إمّا مختص بغير المقدسات كالحلف باللات والعزى والكافر، أو مختص بالأصنام والأوثان فقط، ولا يعم الكافر فضلا عن المقدسات .

____________________________

1 . سنن النسائي: ج 7 ص 8 .

( 309 )

ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء

ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء

إنّ من نقاط الاختلاف بين جماهير المسلمين والوهابيين هي مسألة الحلف على اللّه بحق الأولياء .

قال ابن تيمية: التوسل في لغة الصحابة: أن يطلب من النبي

الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين و متوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند اللّه، وأمّا في لغة كثير من الناس: أن يسأل بذلك، ويقسم عليه بذلك، واللّه تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك، بل إنما يقسم باللّه وأسمائه وصفاته... وأمّا أن يسأل اللّه ويقسم عليه بمخلوقاته، فهذا لا أصل له في الإسلام .

وقال: وقوله: «اللّهمّ إنّي أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك وجدك الأعلى وكلماتك التامة» مع أنّ في جواز الدعاء به قولين للعلماء: فجوّزه أبو يوسف وغيره، ومنع منه أبو حنيفة وأمثاله، فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة الّتي جاء بها الكتاب والسنة(1) .

ترى أنّ ابن تيمية يفتي بالحرمة من دون أن يذكر لها مصدراً، بل يفتي على خلاف النص كما ستعرفه .

____________________________

1 . مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 21 .

( 310 )

وجاء الرفاعي يتفلسف في تبيين حرمة الحلف على اللّه بمخلوقه، ويقول:

إنّ الإقسام على اللّه بمخلوقاته أمر خطير يقرب من الشرك، إن لم يكن هو ذاته، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، وإنّه شرك لأنّه حلف بغير اللّه، فالحلف على اللّه، بمخلوقاته من باب أولى، أي جعلنا المخلوق بمرتبة الخالق، والخالق بمرتبة المخلوق، لأنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه، ولذلك كان الحلف بالشيء دليلا على عظمته، وأنّه أعظم شيء عند المحلوف عليه(1) .

ومن هنا كان الحلف بالمخلوق على اللّه شركاً باللّه، لأننا خصصنا هذه المكانة العليا بالمخلوق، مع أنها هي بالخالق أولى(2) .

يلاحظ عليه: أنّ كلامه يشتمل على أمرين:

1- إنَّ

الحلف بغير اللّه شرك .

2- إنَّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه، فلازم الحلف بالمخلوق على اللّه كونه أعظم من اللّه .

وكلتا الدعويين باطلتان، أمّا الأُولى فقد عرفت في البحث السابق أن الحلف بغير اللّه ليس بحرام، بل هو سنة متبعة بين المسلمين، فقد حلف رسوله ووصيه بغير اللّه، وأن الكتاب قدوة وأسوة، فقد حلف بعمر النبي وحلف بالقرآن الكريم وقال: «يس والقرآن الحكيم» فما هذا الإفتاء به دليل، والتشريع بلا برهان؟

(قُلْ ُآللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرونَ)(3) .

____________________________

1 . تلاحظ أن هذا لا ينسجم مع ما سبق منه: «إنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه» وفي النسخة بعد لفظة «عليه» لفظة «به» .

2 . التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 217 _ 218 .

3 . سورة يونس: الآية 59 .

( 311 )

و أمّا الثانية فالمصيبة فيها أعظم، فإن لازم الحلف بشيء على اللّه، أن يكون المحلوف به محترماً عند اللّه و مقبول الشفاعة والدعاء، لا كونه أعظم من المحلوف عليه، فالرجل لم يفرق بين كونه أكرم عند الّه وبين كونه أعظم من اللّه، والحاصل أنّ هذه التفلسفات لا تكون مدركاً للتشريع والإفتاء بالحرمة، فيجب اتّباع النص وتعليل المسألة في ضوء القواعد الفقهية، فها هنا مقامان:

1- هل الحلف بمخلوق على اللّه شرك؟

2- هل هناك ما يدل على حكم هذا الحلف؟

أمّا الشرك فقد حددناه ووضعنا له حداً منطقياً، وهو الخضوع عن اعتقاد بألوهية المخضوع له وربوبيته، أو كونه قائماً بفعله سبحانه، وهل ينطبق هذا الحد على الحلف بالمخلوق على اللّه؟

إنّ الذكر الحكيم يصف بعض عباد اللّه ويقول:

(الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ والقَانَتِينَ والمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَارِ)(1) .

فلو أنّ إنساناً قام في هزيع من الليل وصلّى لربه ركعات، ثم تضرع إلى

اللّه قائلا:

«اللّهمّ إنّي أسألك بحق المستغفرين في الأسحار، اغفرلي ذنبي» فهل يصحّ لنا أن نعده مشكركاً، وأنه أشرك الغير في عبادة اللّه، مع أنه رفع يديه إلى اللّه سبحانه ودعاه بالضراوة؟

إنّ القرآن الحكيم ذكر مقياساً للتمييز بين المشرك والموحّد فقال:

(إِنَّهُم كَانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إلاّ اللّه يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنا لِشَاعِر مَجْنُون)(2) .

____________________________

1 . سورة آل عمران: الآية 17 .

2 . سورة الصافات: الآية 35 _ 36 .

( 312 )

وقال: (وَإذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(1)وقال سبحانه: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُم، وَإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنُوا فَالحُكْمُ لَلّهِ العَلِىِّ الكَبير)(2) .

فهل ينطبق هذا المقياس المركز عليه في الذكر الحكيم على من أحلف اللّه بحبيب من أحبائه، أو شهيد من شهداء دينه؟ فهل هو من الذين إذا دعي اللّه وحده كفر، وإن أشرك به آمن؟

كلاّ وألف كلاّ .

إنّ أرخص شيء وأوفره في سوق الوهابيين هو البذاءة في اللسان، وتكفير المسلمين واتهامهم بالشرك، فكأنهم لا يوجد في علبتهم إلاّ السب والكلام البذيء والاتهام بالشرك، معرضين عن قوله سبحانه:

(وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤمِناً)(3)

وكأنه سبحانه خوّل تفسير الشرك إلى الوهابيين ليفسروه كيف يشاؤون، فيعتبروا جماعة مشكرين وأُخرى موحدين .

أمّا المقام الثاني، أعني استخراج حكم المسألة من الكتاب والسنة، فيكفي في ذلك :

1- ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي...(4) .

2- ما رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه _ صلَّى

الله عليه وآله وسلم _ :

____________________________

1 . سورة الزمر: الآية 45 .

2 . سورة غافر: الآية 12 .

3 . سورة النساء: الآية 94 .

4 . لاحظ ص 257، 261، 232، 258 من هذا الجزء .

( 313 )

لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلاّ غفرت لي..»(1) .

3- وما رواه عثمان بن حنيف عن رسول اللّه من دعاء الرسول للضرير وفيه «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبىّ الرحمة...» (2) .

4- وما روي من دعاء النبي عند دفن فاطمة بنت أسد، قال: اغفر لفاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي» (3) .

إنّ هذه الأحاديث وإن خلت من لفظ القسم بعينه، لكن مضمونه موجود لمكان الباء فيها، والمعنى: أقسم عليك بحقّهم .

هذا ما روي عن النبي الأكرم، وإليك ما روي عن أئمة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ .

5- هذا إمام المتقين أميرالمؤمنين علي _ عليه السَّلام _ يقول في دعائه بعد صلاة الليل: «اللّهمّ إني أسألك بحرمة من عاذ بك منك، ولجأ إلى عزّك، واستظلّ بفيئك، واعتصم بحبلك، ولم يثق إلاّ بك» (4).

6- ويقول في دعاء علّمه لأحد أصحابه... «وبحق السائلين عليك، والراغبين إليك، والمتعوذين بك، والمتضرعين إليك، وبحق كل عبد متعبّد لك في كل برّ أو بحر أو سهل أو جبل، أدعوك دعاء من اشتدّت فاقته» (5) .

7- وهذا أبو الشهداء الإمام الحسين بن علىّ _ عليهما السَّلام _ يقول في دعائه:

«اللّهمّ إني أسالك بكلماتك، ومعاقد عزك، وسكان سماواتك وأرضك، وأنبيائك ورسلك أن تستجيب لي، فقد رهقني من أمري عسر،

____________________________

(1، 2، 3) المصدر السابق .

(4، 5) الصحيفة العلوية: ص 370 .

( 314 )

فأسألك أن تصلي على

محمد وآل محمد، وأن تجعل من أمري يسراً».

8- وهذا هو الإمام زين العابدين يقول في دعائه يوم عرفة وهو يناجي ربّه:

«بحقّ من انتخبت من خلقك، بمن اصطفيته لنفسك، بحقّ من اخترت من بريّتك، ومن اجتبيت لشأنك، بحقّ من وصلت طاعته بطاعتك، ومن نيطت معاداته بمعاداتك»(1) .

وهذا هو الإمام الصادق _ عليه السَّلام _ يقول عندما زار مرقد جده الإمام أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ :

«اللّهمّ استجب دعائي، واقبل ثنائي، واجمع بيني وبين أوليائي بحق محمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين»(2) .

ولعلّ القارىء يسأل: هل للوهابيين على تحريم هذا النوع من الحلف دليل؟

والجواب: نعم، إنّ لهم شُبهاً وظنوناً فحسب، وإليك البيان:

1- إنّ الإقسام على اللّه بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء(3) .

إنّ معنى الإجماع على حكم هو اتفاق علماء الإسلام في جميع الأعصار، أو في عصر واحد على حكم .

وأيضاً نسأل من أين وقف هذا الناقل للإجماع على اتفاق علماء الإسلام على التحريم؟ ونحن نسامحه ونقول: هل أفتى خصوص أئمة المذاهب الأربعة بالحرمة؟ فأين هذه الفتاوى؟ دلونا على محلها ومصادرها وكتبها!.

ثم ما قيمة هذه الفتاوى المدّعاة تجاه النصوص والأحاديث الصحيحة

____________________________

1 . الصحيفة السجادية: الدعاء 47 .

2 . مصباح المتهجد: ص 681 .

3 . الهدية السنية، المنسوب إلى عبدالعزيز بن محمد بن مسعود كما في كشف الارتياب، ص 329 .

( 315 )

والآثار المروية عن أئمة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ ، أو ليسوا من السلف الصالح والقادة الأعلين؟ .

2- إنّ المسألة بحق المخلوقين لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق .

إنّ هذا الاستدلال عجيب جداً. هذه هي الآيات القرآنية تثبت حقوقاً على اللّه سبحانه لعباد اللّه الصالحين، وكذلك الأحاديث الشريفة:

(وَكَانَ حَقَّاً عَلَينَا نَصْرُ المُؤمِنِينَ)(1) .

(وَعْداً عَلَيهِ حَقّاً

فِي التَّوراةِ وَالإنجيلِ)(2) .

(كَذَلِكَ حَقّاً عَلَينَا نُنْجِ المُؤمِنينِ)(3) .

وبالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة... هناك مجموعة كبرى من الأحاديث الشريفة في هذا المجال، وإليك نماذج منها:

ألف _ قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «حقٌّ على اللّه عون من نكح التماس العفاف مما حرم اللّه»(4) .

ب _ «ثلاثة حق على اللّه عونهم: الغازي في سبيل اللّه، والمكاتب الّذي يريد الأداء، والناكح الّذي يريد التعفف»(5) .

ج _ «أتدري ما حق العباد على اللّه...»(6) .

نعم إنّ من الواضح أنه ليس لأحد بذاته حق على اللّه، فعندئذ، ربما يُسأل عن معنى هذا الحق؟

____________________________

1 . سورة الروم: الآية 47 .

2 . سورة التوبة: الآية 111 .

3 . سورة يونس: الآية 103 .

4 . الجامع الصغير، للسيوطي: ج 2 ص 33 .

5 . سنن ابن ماجة: ج 2 ص 841 .

6 . النهاية لابن الأثير، مادة حق .

( 316 )

الجواب: إنّ المقصود من الحق هو المنزلة الّتي يمنحها اللّه تعالى لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم له، وهو مزيد من التفضل والعناية منه تعالى حقاً، فهذا هو الحق الّذي نقسم به على اللّه، حق جعله اللّه ومنحه لعبده، لا أنّ للعبد حقاً على اللّه ذاتاً، وهذا مثل القرض الّذي يستقرضه سبحانه من عباده ويقول:

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرضاً حَسَناً)(1).

وهذا النوع من التعبير لطف من اللّه سبحانه وعناية فائقة بعباده، حيث يعتبر نفسه المقدسة مدينة وعباده دُيّاناً، فلما أعظم لطفه، مع أنّه سبحانه هو المالك، والعباد خلفاؤه .

قال: (آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنفِقُوا مَمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)(2).

ترى أنّ مالك الملوك يستقرض من خلفائه ونوابه .

3- عن جندب بن عبداللّه

قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : قال رجل: واللّه لا يغفر اللّه لفلان، فقال اللّه عزّوجلّ:

«من ذا الّذي يتألى علىّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك» .

رواه مسلم:

وقد استدل به الشيخ عبدالرَّحمان حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه «قرة عيون الموحدين»(3) .

ولم يذكر كيفية الاستدلال، وذيّل كلامه بحديث أبي هريرة الّذي رواه أبو داود عنه قال: سمعت رسول اللّه يقول: كان رجلان في بني إسرائيل

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 245 .

2 . سورة الحديد: الآية 7 .

3 . ص 333، طبع لاهور .

( 317 )

متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: اقصر، فوجده يوماً على ذنب فقال له: اقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علىّ رقيباً؟ واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكتب بي عالماً؟ أو على ما في لِدي قادراً؟ فقال للمذنب: أذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: إذهبوا به إلى النار(1) .

والحديث الثاني يفسر الحديث الأول، وأنّ المراد من قوله: «يتألى علّي أن لا أغفر لفلان» هو الحلف بلا علم على اللّه، كما ورد في الحديث الثاني: «أكنت بي عالماً، أو على ما في يدي قادراً»؟ .

____________________________

1 . قرة عيون الموحدين: ص 233، والحديث في التعليقة وفي المتن إشارة إليه .

ابن تيمية وتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم

ابن تيمية وتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم

إنّ من المنكرات والبدع عند ابن تيمية وابن عبدالوهاب هو تكريم مولد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ بالاحتفال وقراءة القرآن و إنشاد القصائد والأشعار، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام، إلى غير ذلك مما

يعد مجلي لحب النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وتكريمه ورفعه، كما رفعه اللّه سبحانه وقال: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَك)(1) .

وقد عرفت في ترجمة ابن تيمية أنّ مسلكه يشتمل على أبعاد أربعة، وأحد الأبعاد هو الحط من كرامة النبي وعظمته الّتي جاءت في الكتاب والسنة، فجاء يحقق بغيته بتحريم الاحتفال بالمواليد والتأبين في الوفيات، مع أنه لا يشك ذو مسكة أنّه ليس عبادة للنبي، لما عرفت من أنّ العنصر المقوم للعبادة هو الاعتقاد بألوهية المعبود أو ربوبيته أو كونه مفوضاً إليه فعل الرب، وليس في الاحتفال شيء من ذلك .

وكما أنه ليس عبادة، ليس بدعة، لأنه تجسيد للأصل الوارد في الذكر الحكيم، وهو حب النبي ومودته على وجه يكون النبي مقدماً على الإنسان ونفسه ونفيسه، وقد قام به السلف طيلة قرون، وإجماع العلماء في عصر حجة، فكيف في قرون، ومع ذلك فابن تيمية يظهر ما يضمره عن طريق تحريم هذه الاحتفالات ويقول:

____________________________

1 . سورة الانشراح: الآية 4 .

( 319 )

إنّ اتخاذ هذا اليوم عيداً محدث لا أصل له، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيداً، حتّى يحدث فيه أعمالا، إذا الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الإتباع لا الإبتداع، وللنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ خطب وعهود، ووقائع في ايام متعددة، يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً، وإنما يفعل مثل هذا، النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى _ عليه السَّلام _ أعياداً، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه اللّه أتبع، وإلاّ لم يحدث في الدين ما ليس منه .

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا

مضاهاةً للنصارى في ميلاد المسيح _ عليه السَّلام _ ، وإمّا محبة للنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وتعظيماً له، واللّه قد يثيبهم على هذه المحبة، والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عيداً مع اختلاف الناس في مولده، فإنّ هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف _ رضي اللّه عنهم _ أحق به منّا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص(1) .

إنّ هذه البذرة الّتي بذرها ابن تيمية استغلّها تلميذه ابن القيم وبعده الوهابية، وإليك بعض نصوصهم:

قال ابن القيم: «نهى رسول اللّه عن اتّخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج، واشتد نهيه في ذلك حتّى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أن يتخذوا عيداً»(2) .

وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ:

«وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور الّتي تعبد من دون اللّه، ويسمونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لما يوجد فيها

____________________________

1 . اقتضاء الصراط المستقيم: ص 293 - 294 .

2 . زاد المعاد في هدى خير العباد: ج 1 ص 179 .

( 320 )

من الشرك والمعاصي العظيمة»(1) .

وقال محمد حامد الفقي: «والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء، هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم»(2).

وقد استدلوا بما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا علىَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنت»(3) .

وملاحظة هذه الكلمات تفيد أنهم يستدلون على التحريم بأُمور:

الأول:

إِنَّها عبادة للأولياء وأصحاب الذكريات .

الثاني: إِنَّها بدعة، وإِنَّها مما لم يشرعه الشارع الشريف .

الثالث: لو كان هذا خيراً لأقامه السلف .

الرابع: الاستدلال برواية أبي هريرة من النهي عن اتخاذ قبر النبي عيداً .

هذه هي الوجوه المهمة الّتي يستدل بها ابن تيمية وأتباعه على تحريم تكريم المواليد، ونحن ندرس كل واحد من هذه الأدلة واحداً بعد آخر :

أ _ هل الاحتفال بالمواليد شرك؟

قد عرفت أنّ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية أفتى بكونه شركاً، وقال: هو نوع من العبادة للأولياء وتعظيمهم.

ولكنّه كعامة الوهابيين لم يفرّق بين التكريم والعبادة، ولذلك عطف التعظيم على العبادة، وهذا هو الداء العياء في دعاية الوهابيين وكتبهم وخطبهم، وأرخص شيء عندهم هو الشرك في العبادة، فلا تميل يميناً ولا يساراً

____________________________

1 . قرة العيون، كما في فتح المجيد: ص 154 .

2 . تعليق فتح المجيد: ص 154 .

3 . مسند أحمد: ج 3 ص 248 .

( 321 )

إلاّ وتسمع من الجماعة المتسمين بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يصرخون في وجهك «يا حاج! هذا شرك» وهم لم يحددوا للعبادة حداً منطقياً حتّى يميزوا في ضوئه العبادة عن التعظيم، فعادوا يسمّون كل تعظيم شركاً، ولو كان تعظيم وخضوع عبادة، للزم كفر المملوك والزوجة، والولد والخادم، والأجير، والرعية، والجنود، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى والزوج والأب والمخدوم والمستأجر والملك والأمراء، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضاً، بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم، وقد أوجب اللّه طاعة أوامر الأبوين، وخفض جناح الذل لهما، وقال لرسوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِيِنَ)(1)، وأمر بتعزير(2) النبي وتوقيره، وأمر بإِطاعة الزوجة لزوجها، وأوجب إطاعة العبيد لمواليهم وسمّاهم عبيداً(3) .

وقد عرفناك على أنّ العنصر المقوم لكون التعظيم عبادة، هو الاعتقاد

بألوهية المعظَّم له، أو ربوبيته، أو كونه مالكاً لمصير المعظّم، وأنّ بيده عاجله وآجله، ومنافعه و مضارّه، ولا اقل مغفرته وشفاعته، وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر، وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه من أجل استقلال أُمته وإخراجها عن نير الاستعباد، وهيّأ لهم أسباب الاستقلال، فلا يعد ذلك عبادة له، وإن كان هناك احتفال أو احتفالات، وأُلقي فيها عشرات القصائد والخطب فلا صلة لهذابالعبادة. نعم يدور أمر كل ذلك بين الحلال والحرام، وهل الشارع رخص ذلك أو لم يرخص، وسيوافيك أنّ باذر هذه الشكوك ابن تمية، يرى أن الأصل في العادات عدم الخطر، إلا ما حظره اللّه(4). نعم، الاحتفال بمولد النبي ليس من العادات، ولا يقام بما أنه أمر عادي بل بما هو أمر قربي له أصل في الكتاب والسنة كما مرّ وسيأتي أيضاً .

____________________________

1 . سورة الشعراء: الآية 215 .

2 . إشارة إلى قوله سبحانه:(فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوه النور الّذي أُنزل معه)سورة الأعراف:الآية 157

3 . كشف الارتياب، ص 103 وللكلام صلة مفيدة جداً فمن أراد فليرجع إليه .

4 . المجموع من فتاوى ابن تيمية: ج 4 ص 195 .

( 322 )

ب _ هل الاحتفال بالمواليد بدعة؟

إنّ القوم يعدّون الاحتفال شركاً تارة، وبدعة ثانياً، وقد عرفت أنه ليس بشرك لفقدان العنصر المقوم للشرك فيه، وأمّا كونه بدعة فقد عرفت بطلانه عند البحث عن أنه عبارة عن إحداث أمر باسم الدين، وليس له فيه نصّ أو أصل، والاحتفال، وإن لم يكن فيه نص، لكن له أصلا في الكتاب والسنة، وهو حبّ النبي ومودته وإظهاره; فليست هذه الاحتفالات إلاّ تجسيداً للحب لا للعداء والنصب والبغضاء، نعم، المنع عنه إظهار للضغينة الكامنة في القلوب

.

هلمّ معنا ندرس دليلهم الثالث:

ج _ لو كان خيراً لأقامة السلف

هذا هو الدليل الثالث الّذي يركن إليه المانع، وهو من أعجب الدلائل، فكأنّ السلف مقياس الحق والباطل في الفعل والترك معاً، فلو تركوا شيئاً دل ذلك على أنه باطل يجب تركه، نحن نفترض أنّ السلف لم يقيموه ولم يحوموا حوله، ولكن الخلف أبناء الدليل، فلو كان له أصل في القرآن والسنة لا يعبأ بترك السلف. على أنّ هذا ما يقوله القائل، ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أنّ السلف أقامه عبر القرون والأجيال قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك .

هذا مؤلف تاريخ الخميس يقول: ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، يظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، يعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عميم(1) .

وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده _ عليه السَّلام _ ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات،

____________________________

1 . تاريخ الخميس، ج 1 ص 323 للديار بكري .

( 323 )

ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم. ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم... فرحم اللّه امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّةً على من في قلبه مرض وأعياه داء .

ولقد أطنب ابن الحاج في «المدخل» في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع و الأهواء، والغناء بالآلات المحرمة في العمل بالمولد الشريف، واللّه تعالى يثيبه على قصده الجميل(1) .

وقال ابن عباد في رسائله الكبرى: «وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك... أمر مباح لا منكر»(2)

.

كلمة أخيرة

إنّ المانعين عن الاحتفال بمولد النبي يقولون: إنّ أول من احتفل بمولد النبي هو الأمير أبو سعيد مظفر الدين الاربلي عام 630 ه_ ، وربما يقال: أول من أحدثه بالقاهرة، الخلفاء الفاطميون، أولهم المعز لدين اللّه، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 ه_ ، وقيل في ذلك غيره(3) وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أىّ ابن أُنثى، وعلى أىّ حال فقد تحقق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتّفاق الأُمة بنفسه أحد الأدلة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية، والعز بن عبد السلام، وابن رجب، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرون، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه ؟

____________________________

1 . المواهب اللدنية: ج 1 ص 27 .

2 . لاحظ المواسم والمراسم، نقلا عن القول الفصل في الاحتفال بمولد خير الرسل ص 175 .

3 . المواسم والمراسم: ص 20 .

( 324 )

الدليل الأخير «لا تجعل قبري وثناً يعبد»

آخر ما في كنانة القوم من نبال مرشوقة إلى المؤمنين المحتفلين بمولد النبي الأكرم، ما روى أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا علىّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم» .

وفي الاستدلال بالحديث مجال للنظر:

أولا: إنّ إمام الحنابلة رواه في مسنده عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. عن النبي أنه قال: «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً. لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(1) .

ورواه في كنز العمال بالنحو التالي:

«اللّهمّ لا تجعل

قبري وثناً يصلّى إليه، فإنّه اشتدّ غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) .

وفي الوقت نفسه رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة: قال رسول اللّه: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلّوا علّي فإنّ صلاتكم تبلغني»(3) .

وروى أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة نفس هذا المتن(4) .

ومن المتحمل جداً طروء التصحيف على الرواية، فبدل «وثناً» إلى «عيداً» ويؤيد ذلك ذيل الرواية، أعني قوله: «ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً» فإنه يناسب قوله: «لا تجعل قبري وثناً» .

وثانياً: إنّ العيد في اللغة هو الموسم، وهو كل يوم فيه اجتماع أو تذكار

____________________________

1 . مسند أحمد: ج 2 ص 246 .

2 . كنز العمال: ج 2 برقم 3802 .

3 . مسند أحمد: ج 2 ص 367 .

4 . سنن أبي داود: ج 2 ص 218، طبع دار إحياء التراث العربي .

( 325 )

لذي فضل، أو حادثة مهمة، سمّي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.

فعلى هذا لا يصحّ أن يقع خبراً لقوله: «قبراً» إذا لا معنى لجعل القبر عيداً، فإنما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً، فهو يقع خبراً أو صفة للزمان لا للمكان، ولو صحّ جعله صفة للمكان فإنما هو باعتبار اليوم الّذي يجتمع الناس فيه في ذلك المكان، فالتعبير الوارد في الحديث لا يوافق الذوق العربي السليم، فكيف يمكن نسبته إلى أشرف من نطق بالضاد، ولو أُريد منه ما يحاول المستدل أن يثبته كان الأولى أن يقول: لا تتخذوا مولدي عيداً، لا قبري عيداً، أو يقول: لا تتخذوا مولدي حول قبري عيداً.

وحصيلة الكلام أنّ يوم العيد هو يوم الفرح ويوم الزينة، ولا يمكن تطبيق هذا المعنى على القبر، إلاّ بارتكاب مجاز

متكلف فيه .

وثالثاً: إنّ الرواية لم يعمل بها الصحابة حيث جعلوا بيت النبي قبوراً، إذ دفن فيه النبي الأكرم، وبعده أبو بكر وعمر، فصار بيته قبوراً.

وأمّا الاعتذار بأنّ للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون، لا يدفع الإشكال، إذ ليست هذه الخصوصية في غيرهم كصاحبيه «أبي بكر وعمر» فلماذا جعل بيت النبي قبوراً .

ورابعاً: إنّ الحديث يحتمل معاني مختلفة وراء ما يرتئيه المستدل .

1- منها ما ذكره الحافظ المنذري من أنه يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبر النبي، وأن لا يهمل حتّى يكون بمثابة العيد(1) .

2- ومنها ما ذكره السبكي حيث قال: «ويحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه، كماترى أنّ كثيراً من المشاهد، لزيارته يوم معين كالعيد، وزيارة قبره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ليس لها يوم بعينه، بل أي يوم كان(2)

____________________________

1 . شفاء السقام: ص 67، نقلا عن زكي الدين المنذري (أي: يزار بين المدة الطويلة كالعيد الّذي لا يكون في كل عام إلاّ يوماً واحداً أو يومين) .

2 . المصدر نفسه .

( 326 )

3- ومنها ما ذكره أيضاً من أنه يحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه، وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه .

وقال العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي: «يحتمل قوياً أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار، حسبما يناسب حرمته واحترامه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو

واللعب والغفلة والمزاح وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم، ثم عقبه بقوله: ولعل هذا مراد السبكي»(1) .

وخامساً: إنّ الحديث بكلتا صورتيه (وثناً _ عيداً) ضعيف .

أمّا الصورة الأُولى فقد وقع في السند «سهيل بن أبي صالح» وهو ليس بالقوي في الحديث، والحديث ليس بحجة; قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقد كان اعتلّ بعلّة فنسي بعض حديثه، وقال ابن المديني: مات أخ لسهيل ووجد عليه فنسي كثيراً من الحديث، وقال ابن أبي خيثمة: ابن معين يقول: لم يزل أصحاب الحديث يثقون بحديثه، وقال مرة: ضعيف(2) .

وأمّا الصورة الثانية فقد وردت في مسند الإمام أحمد وأبي داود «عبداللّه بن نافع» قال البخاري: يعرف حفظه وينكر، وقال أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، وكان ضعيفاً فيه، ولم يكن في الحديث بذاك، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين يعرف حفظه وينكر، ووثّقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن عدي: روى عن مالك غرائب، وهو في رواياته مستقيم الحديث(3) .

هذا هو حال الحديث الّذي يحتج به ابن تيمية ومن يلعق قصعته من

____________________________

1 . المواسم والمراسم: ص 71 .

2 . ميزان الاعتدال: ص 243 - 244، ونقل أقوال الآخرين في توثيقه، فالرجل مختلف فيه جداً .

3 . شفاء السقام: ص 66 .

( 327 )

الوهابية، وبذلك أفتوا بحرمة الاحتفال بذكرى النبي الأكرم _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ .

وهذه هي أدلة المانعين وشواهدهم، وقد عرفت ضعفها وعدم دلالتها على ما يرتأون، ولنختم البحث بذكر أُمور:

الأول: إنّ الاحتفال بالمواليد يجب أن يكون بعنوان أنّه تطبيق للأصل القرآني من لزوم تكريم النبي وتوقيره وتعظيمه، ولأجل ذلك يصحّ إيقاعه في كل شهر وأُسبوع

ويوم، وعند ما يقام الاحتفال بمولده فإنما يقام بما أنّه جزئي لذلك بالتكريم بالخصوص، حتّى يكون الاحتفال تجسيداً لهذا الأمر، فهو بدعة لا يصار إليها، ولا أرى أحداً يدّعي أنّه ورد الأمر بالخصوص بمولده .

الثاني: يجب أن يكون الاحتفال مطابقاً للسنن الإسلامية، خالياً عما يستقبح فعله في الشريعة، كعزف المعازف، واتخاذ القيان، واختلاط الرجال بالنساء، فلو فرض أنه اقترنت بعض هذه الاحتفالات بالمحرمات، فلا يكون دليلا على حرمة نفس الاحتفال، ولا يكون سبباً للمنع عنه، فالنّ بعض الفرائص ربما تكون ذريعة لما هو أعظم من هذه المحرمات .

الثالث: ليست لإقامة الاحتفال كيفية خاصة، بل ينبغي أن يكون الكل في إطار الشريعة الغراء، ويكون في طريق تكريم النبي وتعظيمه، وإظهار الحب، وأحسن الطرق هو تلاوة الآيات الواردة في حقه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ثم الإيعاز إلى الجهود الّتي بذلها الرسول في طريق إنقاذ البشر، وبلغ بهم إلى أعلى مراتب العز والعظمة، ثم دعوة المسلمين عن طريق إلقاء الخطب بالتمسك بالكتاب والسنة، والسعي لتطبيق وتجسيد مبادئها في الحياة، ودعم الصحوة الإسلامية للنهوض والوقوف في وجه القوى الكبرى الّتي تتربص بهم الدوائر، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي فيها خير وسعادة المسلمين كافة، في عاجلهم وآجلهم .

يقول العالم الجليل السيد محمد علوي بن عباس المالكي المكي الحسني:

( 328 )

«إنّنا نرى أنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لا بد من الالتزام وإلزام الناس بها، بل إنّ كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم، يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي، ولذلك فلو اجتمعنا على شيء من المدائح الّتي فيها ذكر الحبيب _ صلَّى

الله عليه وآله وسلم _ وفضله، وجهاده، وخصائصه، ولم نقرأ قصة المولد النبوي الّتي تعارف الناس على قراءتها، واصطلحوا عليها حتّى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلاّ بها، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات، وإلى ما يتلوه القارىء من آيات; أقول: لو فعلناه فإنّ ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف، ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وأظنّ أنّ هذا المعنى لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان» انتهى(1) .

ومن المؤسف جداً أنّ الوهابية قامت بشن حملة شعواء على هذا الكتاب، ولم تراع أدب الكتابة والمناظرة إلى حد اعتراف الكاتب بأسولبه القاسي في المحاورة، وينتهي في خاتمة كتابه إلى قوله: «ونكرر أسفنا وتأثرنا من القسوة الّتي آثرنا أن يشتمل عليها أسلوبنا في رد ترهاته، وأباطيله، ويعلم اللّه أن الباعث لهذا الأسلوب القاسي، الغيرة لحق اللّه(2) .

ويؤاخذ عليه أن الغيرة لحق اللّه يجب أن تكون في إطار الأدب الّذي ندب إليه الذكر الحكيم وقال: (ادْعُ إلى سبِيلِ رَبِّكِ بِالحِكْمِةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ)(3) .

وكان الإمام أميرالمؤمنين علىّ _ عليه السَّلام _ يؤدب أصحابه عند مقابلة الشاتمين من الشاميين، من أصحاب معاوية القاسطين بقوله: إنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَن تَكُونُوا سَبَّبابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَو وَصَفْتُم أعْمَالَهُم وَذَكَرتُم حَالَهُمْ، كَانَ أصْوَبَ في القَولِ، وأبلَغَ فِي العُذْرِ، وَقُلتُم مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللّهُمّ احْقِن دِمَاءَنَا

____________________________

1 . حوار مع المالكي، تأليف عبداللّه بن سليمان بن منيع، ص 168 .

2 . حوار مع المالكي، ص 190 .

3 . سورة النحل: الآية 125 .

( 329 )

وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِم وَاهْدِهِم مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتّى يَعْرِفَ الحَقُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرعَوِيَ عَنِ الغَىِّ وَالعُدُوانِ مِن لهج به(1) .

الرابع: روى

أهل السنة عن الإمام علىّ بن الحسين _ عليه السَّلام _ أنّ رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ويصلّي عليه، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علىّ بن الحسين _ عليه السَّلام _ فقال له: ما يحملك على هذا؟ قال: حبّ التسليم على النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ، فقال علىّ بن الحسين _ عليه السَّلام _ : هل لك أن أُحدّثك حديثاً عن أبي؟

قال: نعم، فقال له علىّ بن الحسين _ عليه السَّلام _ : أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا علىّ وسلّموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم(2) .

ولو صحّ الحديث فلعل انتهاره كان لأجل أنّ الرجل زاد في الحدّ وخرج عن الحد الأوسط، ولا صلة له بنفي الزيارة بتاتاً، كما لا صلة له بإقامة الاحتفال والذكريات .

إنّ هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ أنّ ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق، وهو المجي، يومياً للصلاة عليه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وزيارته، فأراد _ عليه السَّلام _ التخفيف عنه وإفهامه أنّ بإمكانه الصلاة و التسليم عليه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ حيثما كان، فسيبلغه ذلك، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقّة، ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عند قبره _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ (3)

* * * * *

____________________________

1 . نهج البلاغه، الخطبة: 206 .

2 . رواه السبكي عن عبدالرزاق عن القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي، بسنده

إلى علي بن الحسين _ عليه السَّلام _ ورواه عبدالرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن علي; لاحظ شفاء السقام، ص 280 _ 281 .

3 . المواسم والمراسم: ص 73 .

( 330 )

إلى هنا تمّ تبيين عقائد ابن تيمية ومحيي مسلكه ابن عبدالوهاب فبقي الإلماع إلى حياة المحيي وناصره، وهو ما سيوافيك في البحث التالي .

«والحمد لله رب العالمين»

* * * * *

( 331 )

محمد بن عبدالوهاب

مؤسس الحركة الوهابية

نشأته ووفاته

استشفاف بوادر الضلال من كلماته

اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

بدء الدعوة ونشرها

صِدام بين ابن عبدالوهاب وأمير عيينة

تكفير محمد بن عبدالوهاب جميع المسلمين

حروبه مع المسلمين

( 332 )

( 333 )

تاريخ الوهابية

تاريخ الوهابية

مؤسسها، ناصرها وتطورها

قد وقفت في الفصول السابقة على العقائد الوهابية عن كثب، وأنها لم تكن شيئاً جديداً سوى ما ابتدعه أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري وقد كاد أن يصير نسياً منسياً، ويذهب أدراج الرياح، غير أنّ بذورها لما كانت تقبع في طيات كتبه ورسائله، قام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي بتجديد العهد بها، وإحيائها مرة أُخرى بفضل سيف آل سعود في الشطر الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوليات القرن الثالث عشر الهجري، أي من سنة 1160 إلى سنة 1207 ه_ الّتي وافاه الأجل فيها، ثم تعاهد أبناؤه من بعده مع أبناء بيت قبيلة آل سعود فترة بعد فترة، على أن تكون الدعوة والإرشاد والتخطيط على أبنائه، والتطبيق والتنفيذ والسلطة على كاهل آل سعود، فلم تزل هذه المعاهدة باقية إلى يومنا هذا، غير أنها اتخذت في هذه الآونة لنفسها شكلا آخر، وهو أن القوة والسلطة كانت في بدء التأسيس آلة طيّعة بيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكنه في

عصرنا هذا تبدلت رأساً على عقب، فأصبحت السلطة الدينية أداة طيعة في يد آل سعود، يأتمرون بكل ما يلقى إليهم من البلاط السعودي والملك الحاكم من قبلهم على شبه الجزيرة العربية.

وهذه إحدى الصور الّتي تحكي لنا عن تراجع الوهابية عن مبادئها الأولية الّتي قامت على أعتابها يوم تأسيسها، وسنوافيك بما يحكي لك المزيد من ذلك .

( 334 )

نشأته ووفاته

اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته، فمن قائل(1) بأنه ولد سنة 1111 ه_ وتوفي عام 1207 ه_ فيكون عمره ستاً وتسعين; إلى آخر(2) بانه ولد عام 1115 ه_ وتوفي 1207 ه_ فيكون قد ناهز إحدى وتسعين، نشأ وترعرع في بلده «العيينة» في نجد، وتلقى دروسه بها على رجال الدين من الحنابلة، ثم غادر موطنه ونزل المدينة المنورة ليكمل دروسه، يقول أحمد أمين المصري: «سافر الشيخ إلى المدينة ليتم تعلمه، ثم طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغدادن وسنة في كردستان، وسنتين في همدان، ثم رحل إلى إصفهان، ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوّف، ثم رحل إلى «قم» ثم عاد إلى بلده، واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة»(3) .

وقد ذكر كثير من المؤرخين تجواله وترحاله في هذه البلاد، منهم عبد الرزاق الدنبيلي في كتابه «مآثر سلطانية»(4)، والشيخ أبو طالب الإصفهاني الّذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقد ذكر سفر الشيخ إلى إصبهان وإلى أكثر بلاد العراق وإيران، حتّى إلى «غزنين» الّذي هو بلد في أفغانستان(5) .

استشفاف بوادر الضلال من كلماته

إنّ الإنسان مهما كان ذكياً مواظباً على ستر عقيدته لا يتمكن من إخفائها في الفترة الّتي يكون فيها الوعي غائباً والذهن خاملا، وعند ذلك

يبدو على صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يكتمه ويخفيه في الأوعية، قال أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ :

____________________________

1 . زيني دحلان: الدرر السنية: ص 42 طبع الآستانة وغيره .

2 . أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 10 بيروت، وقد أرّخ الآلوسي ولادته ب_ 1111 ه_ لكنه أرّخ وفاته ب_ 1206 ه_ .

3 . نفس المصدر السابق: ص 10 .

4 . مآثر سلطانية: ص 82 و...

5 . ميرزا أبو طالب سفرنامه: ص 409 و...

( 335 )

«ما أضمر أحد شيئاً إلاّ في ظهر فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1) وقد كان محمد بن عبدالوهاب ممن يتفرّس مشايخه وأساتذته فيه الضلال، حيث كان عندما يتردد إلى مكة والمدينة لأخذ العلم من علمائهما، وعندما كان يدرس على الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ محمد حيات السندي كانا يتفرسان فيه الغواية والإلحاد، بل يتفرس غيرهما فيه مثل ذلك، وكان ينطق الكل بأنه سيضل اللّه تعالى هذا، ويضل به من أشقاه من عباده، حتّى أنّ والده عبدالوهاب _ وهو من العلماء الصالحين _ كان يتفرس فيه الإلحاد ويحذّر الناس منه، حتّى أنّ أخاه الشيخ سليمان ألف كتاباً في الرد على ما أحدثه من البدع والعقائد الزائفة، وكان محمد بن عبدالوهاب بادىء بدء كما ذكره بعض المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادّعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي وأضرابهم(2).

يكتب ميرزا أبو طالب الإصفهاني وهو معاصره ويقول: أخذ في أول أمره عن كثير من علماء مكة والمدينة، وكانوا يتفرسون فيه الضلال والإضلال، وكان والده عبدالوهاب من العلماءالصالحين، وكان يتفرس فيه ذلك ويذمه كثيراً، يحذر الناس منه، وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب أنكر عليه ما أحدثه، وألف كتاباً في الرد

عليه، وكان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار مدّعي النبوة كمسيلمة و...»(3) .

لو صحّ هذا فهو يعرب عن أنّ محمد بن عبدالوهاب كان يضمر في مكامن ذهنه شيئاً يشاكل فعل هؤلاء المتنبئين، فصبّ ما أضمره في الدعوة الجديدة إلى التوحيد، وعاد يكفّر رجال الدين عامة في كافة العصور، وينسبهم إلى الجهل والضلال، وهذه سمة المبتدعين عامة.

انتقال عبد الوهاب إلى «حريملة»

ترك أبوه «العيينة» ونزل بلدة «حريملة» وبقي فيها إلى أن وافته المنيّة

____________________________

1 . نهج البلاغه، قسم الحكم 260 .

2 . صدقي الزهاوي: الفجر الصادق ص 17 والسيد أحمد زيني دحلان: فتنة الوهابية ص 66 .

3 . ميزرا أبو طالب: سفرنامه، ص 409 .

( 336 )

سنة 1143(1) ولم يكن راضياً عن ابنه، وطالما زجره ونهاه، ولمّا توفّي الوالد تجرّأ عليه أهل «حريملة» وهمّموا بقتله، فلم يجد بداً من الهرب إلى «العيينة» وهي مسقط راسه ودار نشأته، وقد تعاهد هو وأميرها «عثمان بن معمر» على أن يشد كلُّ أزر الآخر، فيترك الأمير للشيخ الحرية في إظهار الدعوة والعمل على نشرها، لقاء أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بدوره بشتى الوسائل لسيطرة الأمير على نجد بكاملها، وكانت يومذاك موزعة إلى ست أو سبع إمارات منها إمارة العيينة(2) ولكن لكي تقوى الروابط بين الاثنين زوّج الأمير أُخته «جوهرة» من الشيخ، فقال له الشيخ: «إنى لآمل أن يهبك اللّه نجداً وعربانها»(3) .

هكذا بدأ التآلف بين الشيخ والأمير، واحدة بواحدة... مساومة ثم أخذ وعطاء، والثمن هو الدين والشعب، أمّا زواج الشيخ من «جوهرة» فتثبيت للتحالف، وضمان للوفاء... لقد سخر محمد بن عبد الوهاب الدين لأجل الدنيا، وتطوع لتعزيز حكمه دون أن يكون على يقين من عدله، أو يأخذ منه موثقاً لتحسين الأوضاع

وراحة الناس، والعمل للصالح العام، بل على العكس، فقد وعده بملك نجد وعربانها... ولكن لا بالاقتراح وحرية تقرير المصير، بل بالحرب والغزو وبأشلاء الضحايا(4) .

أبعد ذلك يصحّ أن يعدّ الشيخ من المصلحين المجددين، وممّن له رسالة إنسانية كما عدّه نفر منهم أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ومهما كان فإنّ التحالف بين الشيخ والأمير لم يطل عمره ولم يتم أمره، وما تمخّص إلاّ عن زواج الشيخ بجوهرة، وهدم قبر زيد بن الخطاب، وإثارة الفتن والقلاقل فقط _ لم يطل عمر التحالف بين ابن عبد الوهاب والأمير ابن معمر _ لأنّ سليمان الحميدي صاحب الأحساء والقطيف أمر عثمان بن معمر _ وكان أقوى منه _ أن يقتل الشيخ .

____________________________

1 . محمد جواد مغنية: هذه هي الوهابية ص 111 .

2 . الآلوسي _ السيد محمود: تاريخ نجد، ص 11 .

3 . فيلبي _ عبداللّه: تاريخ نجد، ص 36 .

4 . مغنية _ محمد جواد: هذه هي الوهابية ص 112 .

( 337 )

يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد: «قرر عثمان أن يتخلص من ضيفه، فطلب منه أن يختار المكان الّذي يريد الذهاب إليه، فاختار «الدرعية»، فأرسل عثمان معه رجلا اسمه فريد: وكلفه أن يقتل ابن عبد الوهاب في الطريق، ولكن فريداً خذلته إرادته، وترك الشيخ وقفل راجعاً دون أن يمسه بسوء(1) .

ويذكر السيد محمود شكري الآلوسي انتقال الشيخ من «عينية» إلى «حريملة» نحو ما مرّ ويزيد: خرج إلى «الدرعية» سنة: 1160 ه_ وهي بلاد مسيلمة الكذاب(2) .

اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

ورد الشيخ إلى الدرعية في العام الّذي عرفت، وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد السعوديين، وتمّ الاتفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان

قد تمّ بينه وبين ابن معمر في «العيينة»، فقد وهب الشيخ نجد وعربانها لابن سعود، كما وهبهما من قبل لابن معمر، ووعده أن تكثر الغنائم عليه والأسلاب الحربية الّتي تفوق ما يتقاضاه من الضرائب(3) على أن يدع الأمير للشيخ ما يشاء من وضع الخطط لتنفيذ دعوته .

وتقول الرواة: إنّ الأمير سعود بايع محمد بن عبد الوهاب على القتال في سبيل اللّه... ومعلوم انهما لم يفتحا بلداً غير مسلم في الشرق أو في الغرب، وإنما كانا يغزوان ويحاربان المسلمين الذين لم يدخلوا في طاعة ابن سعود، ولأجل ذلك قال الأمير لابن عبدالوهاب: «أبشر بالنصر لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، لكن أُريد أن اشترط عليك اثنين:

أولا: إذا قمنا بنصرتك وفتح اللّه لنا ولك، أخشى أن ترحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا فعاهده الشيخ أن لا يفعل .

____________________________

1 . فيلبي _ عبداللّه: تاريخ نجد، ص 390 ط المكتبة الأهلية بيروت .

2 . كشف الارتياب ص 13 _ 14 نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي .

3 . فيلبي: تاريخ نجد ص 39 .

( 338 )

ثانياً: إنّي أتقاضى من أهل «الدرعية» مالا وقت الثمار، وأخاف أن تمنع ذلك، فقال الشيخ: لعل اللّه يفتح الفتوحات فيعوضك اللّه من الغنائم ما هو أعظم منها»(1) .

وعلى هذا تم الاتفاق بين أمير «الدرعية» والشيخ .

إنّ بعض المستشرقين مثل «فيليب حتّى»(2) و «جولد تسيهر»(3) وغيرهما يذكرون أنه قد تقوّت الروابط بين الاثنين بمثل ما تقوّت بينه وبين أمير «عيينة» وزوّج محمد بن سعود ابنه عبدالعزيز من إحدى بنات محمد بن عبد الوهاب، ولا يزال العهد بين آل سعود وعائلة عبد الوهاب مستمراً إلى يومنا هذا، وإن اختلف مضمومنه مع استمرار

التزاوج على نطاق وسيع(4) .

بدء الدعوة نشرها

شعر محمد بن عبد الوهاب بقوته عن طريق هذا التحالف الجديد، وأن الامارة السعودية اصبحت تناصره وتؤازره، فلأجل ذلك جمع الشيخ أنصاره وأتباعه وحثهم على الجهاد، وكتب إلى البلدان المجاورة المسلمة أن تقبل دعوته، وتدخل في طاعته، وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض، ومن أبى غزاه بانصاره، وقتل الأنفس ونهب الأموال، وسبى الذراري، وكان شعارهم: «ادخل في الوهابية وإلاّ فالقتل لك، والترمّل لنسائك، واليتم لأطفالك» هذا هو بالذات مبدأ الوهابية الّذي لا تتنازل عنه لأية مصلحة، ومن أجله تحالف مع ابن معمر في «العيينة»، ثم مع ابن سعود في «الدرعية»، وكان على أتم استعداد أن يتحالف مع أية قوة يستعين بها على ذلك(5) .

____________________________

1 . أبو علية _ عبد الفتاح: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى ص 13 _ 14 .

2 . فيليب حتّى: تاريخ العرب ج 2 ص 926 المترجم إلى الفارسية .

3 . العقيدة والشريعة في الإسلام ص 267 ط مصر الطبعة الثانية .

4 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ط الرياض ص 23.

5 . محمد جواد مغنية: هذه هي الوهابية، ص 114 .

( 339 )

كان الشيخ يغزو بأنصاره وأتباعه عربان نجد، يسلبونهم مصدر حياتهم، ثم ينتقلون إلى الدرعية بعد أن يتركوا وراءهم أشلاء الضحايا، والخرائب والأرامل والأيتام، ويوزع الشيخ عليه أربعة أخماس الغنائم والأسلاب من المسلمين الآمنين، ويخص الخمس بالخزينة الّتي يشرفون عليها هو و الأمير السعودي .

يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد: «وقد أدخل الإمام في عقول طلابه مبادىء فريضة الجهاد المقدس، فوجد الكثير منهم في الجهاد أقدس تعاليمه، إذ أنه يتفق مع ما اعتاد عليه العرب - يريد أنّ العرب قد

اعتادوا على السلب والنهب _ ، كما خصص الشيخ خمس الأسلاب لخزينته المركزية الّتي كان الأمير والإمام يتقاضيان منها ما يقوم بأودهما... وهكذا كان سلطان الشيخ في تصرف شؤون البلاد بعد مرور سنة أو سنتين، وقد أصبح شريكاً مؤسساً.

الوهابية أو السيف

ربما يستغرب القارىء عند ما يسمع أنّ الوهابية تحصنت في بدء دعوتها بهذا الشعار، وطبقته في حياتها سنين، ولكنه لعمر اللّه حقيقة لامرية فيها، فقد ارتفع صرح الإمارة السعودية يوم انتشارها إلى العصر الحاضر على هذا الأصل، فإن السعودية آنذاك ويوم تعاهدها مع محمد بن عبدالوهاب تعيش حياة البؤس، ولم يكن ابن سعود متمكناً حتّى من تأمين الأغذية لأعز تلاميذ محمد بن عبد الوهاب، الّذي يمارس تأثيره بقوة الإقناع فقط(1) .

وبعد أُولى غزوات الدرعيين على جيرانهم، وزعت الغنائم بالعدل طبقاً لأحكام الوهابية: الخمس لابن سعود، والباقي للجند; ثلث للمشاة، وثلثان للخيالة; وكان التمسك بالوهابية يكافأ مادياً، وإذا كان الغزو في السابق مجرد حملة شجاعة، فقد تحول الآن إلى انتزاع أموال المشركين! وإحالتها إلى المسلمين الحقيقيين!

____________________________

1 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 1 ص 13 .

( 340 )

صِدام بين ابن عبد الوهاب وأمير «العيينة»

قد تعرفت أنّ التحالف بين الشيخ وأمير «العيينة» لم يلبث إلاّ برهة قليلة، وأنه اعتذر عن ضيفه وسمح له أن يغادر الامارة ويذهب إلى أية نقطة شاء، ولما التحق محمد بن عبدالوهاب بأمير «الدرعية» وبزغ نجمه، أحسّ عثمان بن معمر أمير «العيينة» بتمخض خطر من جانب السعوديين، فلم يجد مناصاً من إظهار التودد والمداراة معهم، إلى أن انتهى به الأمر إلى تزويج ابنته من ابن عبد العزيز بن محمد بن سعود، الّذي بلغ الوهابيون في عهده أوج قوتهم(1). إلاّ أنّ العداء حتّى الموت

بين الأقارب ظاهرة عادية تماماً في الجزيرة العربية، فلا داعي للدهشة من تطور الأحداث لاحقاً، وكان لموقف محمد بن عبد الوهاب _ الّذي لم ينس أنّ أمير «العيينة» نفاه منها _ أهمية حاسمة في التنافس بين حكام «الدرعية» و «العيينة»، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتّى اتّهم أمير «العيينة» بأنه أجرى مراسلات سرية مع حاكم الأحساء «محمد بن عفالق» وأعد العدة للخيانة(2) .

_ ولأجل ذلك _ أرسلوا بعض المرتزقة، ومنهم حمد بن راشد، وإبراهيم بن زيد إلى عثمان بن معمر حاكم «العيينة» فاغتالوه أثناء أدائه لصلاة الجمعة .

ومما جاء في كتاب أصدره آل سعود وآل الشيخ تحت عنوان: تاريخ نجد، ونقله عن رسائل محمد بن عبدالوهاب، الشيخ حسين بن غنا، وأشرف على طباعته عبدالعزيز بن باز مفتي الديار السعودية، العبارة التالية:

إنّ عثمان بن معمر مشرك كافر، فلمّا تحقق أهل الاسلام من ذلك تعاهدوا على قلته بعد انتهائه من صلاة الجمعة، وقتلوه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب سنة 1163 ه_ وفي اليوم الثالث من مقتله جاء محمد بن عبدالوهاب إلى «العيينة» وعين عليهم مشاري بن معمر، وهو من أتباع محمد بن عبد

____________________________

1 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 1 ص 23 .

2 . فاسيليف: فصول من تاريخ العربية السعودية - ص 28 .

( 341 )

الوهاب (1) .

هكذا كانوا يحكمون على الموحدين المصلين في محراب العبادة بالشرك والخروج عن التوحيد «وما نقموا منهم» «إلاّ أن قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا» ولم يخضعوا للسلطة الّتي أسسها محمد بن عبد الوهاب .

ثم إنّ محمد بن عبد الوهاب نحّى «مشاري» عن منصة الحكم وأسكنه «الدرعية» مع عائلته، وعين شخصاً آخر للشغال الحكم، حتّى يكون الحاكم أطوع له كطوع الظل لذي

الظل، ولم يكتف بذلك حتّى جاء إلى قصر آل معمر وأمر بتدميره(2) .

إنّ هذه العلمية تسفر عن عقيدة محمد بن عبد الوهاب في حق عامة أهل نجد دون استثناء، لأنه لو كان ابن معمر كافراً فقد كان سكنة نجد كلهم على دينه، فهم حينئذ كفرة تباح دماؤهم ونساؤهم وممتلكاتهم، والمسلم هو من آمن بالطريقة التي يسير عليها محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود(3) .

لم يبرح زمن على سلطة آل سعود على «العيينة» حتّى ثاروا على النظام الّذي فرض عليهم من جانب محمد بن عبدالوهاب، ولكن لم يكتب لانتفاضتهم النجاح، فعاد السعوديون إلى «العيينة» فدمّروا البلد على آخره، فهدموا الجدران، وردموا الآبار، وأحرقوا الأشجار، واعتدوا على أعراضهم وبقروا بطون الحوامل من النساء، وقعطوا أيدي الأطفال، وأحرقوهم بالنار، وسرقوا المواشي وكل ما في البيوت، وقتلوا كل الرجال .

هكذا خربت «العيينة» وما زالت مخروبة منذ عام 1163 ه_ حتّى يومنا هذا، وما زالت الوهابية يبررون أعمالهم بما قاله محمد بن عبد الوهاب: إنّ اللّه سبحانه وتعالى قد صبّ غضبه على العيينة وأهلها وأفناهم تطهيراً لذنوبهم، وغضباً على ما قاله حاكم العيينة، عثمان بن معمر، فقد قيل لحاكمها

____________________________

1 . تاريخ نجد، ص 97 .

2 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 1 ص 43 _ ابن غنام: تاريخ نجد، ج 2 ص 57 .

3 . تاريخ نجد، ص 98، 99، 100، 101 .

( 342 )

بأن الجراد آت إلى بلادنا و نحن نخشى أن يأكل الجراد زراعتنا، فأجاب الحاكم ساخراً من الجراد: سنخرج على الجراد دجاجاً فتأكله، وبهذا غضب اللّه سبحانه لسخرية الحاكم بالجراد، وهو آية من آيات اللّه لا يجوز السخرية منها، ولهذا أرسل اللّه الجراد على بلدة العيينة

فأهلكها عن آخرها(1) .

نحن نفترض أنّ أمير العيينة استهزأ بآية من آيات اللّه فكفر، فيجب ضرب عنقه بسيف الجلادين، فهل كفر الآخرون، وهل تزر وازرة وزر أُخرى، وما هي إلاّ خدعة يمّوه بها الأمر على الصبيان وأشباههم.

فلما قضى محمد بن عبد الوهاب وآل سعود على مناوئيهم في المنطقة، قويت الإمارة السعودية من طريق الدين باتّباعها محمد بن عبدالوهاب، وقويت دعوة ابن عبد الوهاب بطريق السيف باتّباع ابن سعود له وانتصاره به، فكان ابن سعود الأمير الحاكم، وابن عبد الوهاب الزعيم الديني، وصارت ذرية كل منهما تتولى مرتبة سلفها.

لقد قوّى انتصار القبيلة السعودية على حاكم «العيينة» عزيمتهم على توسيغ نطاق حكومتهم، مغبة أمر محمد بن عبد الوهاب بالجهاد وحث اتباعه عليه، وأول جيش تم تأليفه له من سبع ركائب(2) ومعلوم أنّ هذه الجيوش والركائب لم تغز بلاد الكفار والمشركين، ولا الرومان، وإنما غزوا بلاد المؤمنين، بلاد القائلين ب_ (لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ ) ولما أحس ابن عبد الوهاب بسلطة وقدرة، كتب إلى أهل نجد (وهم المسلمون بزعمهم) على الدخول في مذهب التوحيد، فأطاع بعضهم بينما امتنع آخرون، فأمر أهل «الدرعية» بالقتال، فأجابوه وقاتلوا معه أهل نجد والأحساء مراراً، حتّى دخل بعضهم في طاعته طوعاً أو كرهاً، وصارت جميع إمارة نجد لآل سعود بالقهر والغلبة»(3) .

____________________________

1 . ناصر السعيد: تاريخ آل سعود، ص 22 _ 23 .

2 . محمد جواد مغنية: هذه هي الوهابية، ص 117 نقلا عن ابن بشر عثمان، عنوان المجد في تاريخ نجد .

3 . السيد محسن الأمين: كشف الارتياب ص 13 _ 14 نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي .

( 343

)

سراب لا ماء

قد كان اللحركة الوهابية في عصر مؤسسها صدى ودوي، والقريب منها يستشف الحقيقة عن كثب، ويرى أنها قد بنيت على القتل الذريع، والسفك المروع، وأن محمد بن عبدالوهاب يهتف بأنه لا عدل ولا سلم، ولا رحمة، ولا إنسانية، ولا حياة، لا شيء أبداً إلاّ الوهابية أو السيف .

وهذه السنّة الّتي استنّها محمد بن عبدالوهاب يتحمل وزرها منذ يومه إلى يوم القيامة، لأنها كماترى دعوة تقوم على الحرب والضحايا، وتتطبع بطابع الدم والفوضى، ويكفي في ذلك قول أخيه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب في كتاب الصواعق الإلهية مخاطباً لأخيه وأتباعه:

«فانتم تكفّرون بأقل القيل والقال، بل تكفّرون بما تظنون أنتم أنه كفر، بل تكفّرون بصريح الإسلام، بل تكفّرون من توقف عن تكفير من كفّرتموه»(1) .

ولم يكن أخوه فريداً في القضاء، فقد رجع عن طريقته بعض المنصفين المنخدعين بدعوته، وهذا هو السيد محمد بن إسماعيل الأمير لمّا بلغه من أحوال الشيخ النجدي، الدعوة إلى التوحيد، فأنشا قصيدته المشهورة:

سلام على نجد ومن حلّ في نجد * وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

ثم حقق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن، ووجد الأمر على عكس ما روي له، فأنشأ يقول في قصيدته ثانياً عما قاله أولا:

رجعت عن القول الّذي قلت في نجد * فقد صحّ لي عنه خلاف الّذي عندي

حكي عن محمد بن إسماعيل أنه قال في شرح القصيدة المذكورة المسماة ب_ «محو الحوبة في شرح أبيات التوبة»: لمّا بلغت قصيدتي الأُولى نجداً التي مدحت فيها الحركة الوهابية، جاء إلينا بعد أعوام رجل كان يعرّف نفسه ب_ «الشيخ مربد بن أحمد التميمي» وذلك في صفر سنة ألف ومائة وسبعين،

____________________________

1 . الصواعق الإلهية، ص 27 _ 29، ط 1306

.

( 344 )

وحمل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه، ثم عاد إلى وطنه في شوال تلك السنة، وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب الّذي وجهنا إليه القصيدة، وقد قدم إلينا قبله الشيخ الفاضل عبد الرحمان النجدي، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال والتجري على قتل النفوس، ولو بالاغتيال، وتكفيره الأُمة المحمدية في جميع الأقطار، فبقي فينا تردد فيما نقله ذلك الشيخ، حتّى قدم إلينا الشيخ «مربد» وله نباهة، ومعه بعض رسائل ابن عبدالوهاب الّتي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان، وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أحواله، فعرفنا أحوال رجل عرف من الشريعة شطراً ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة ويفقّهه، بل طالع بعض مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقلدهما من غير إتقان، مع أنهما يحرمان التقليد(1) .

يقول العلامة السيد محسن الأمين العاملي:

هذا يدل على أن محمد بن إسماعيل رجع عن مغالاته في التوهب، ولعل رجوعه كان بعد تأليفه رسالة «تطهير الإعتقاد عن أدران الإلحاد» فإنّ تلك الرسالة لا تقصر عن كتب ابن عبدالوهاب في المغالاة(2) .

أهل البيت أدرى بما فيه

هذه لمحة خاطفة عن حياة محمد بن عبدالوهاب، جئنا بها ليكون القارىء الكريم على اطلاع بحقيقة حاله على جهة الإجمال، ولكن هناك الكثير الكثير في الزوايا والخبايا ذكرت في تاريخ حياته أغفلنا ذكرها روما للاختصار، ولكن ما يجب ذكره في المقام كلمة أخيه في حقه، وهو من أهل بيته وأدرى بحاله منّا ومن كل كاتب. يقول في كتاب أسماه «الصواعق الإلهية» رداً على آراء أخيه: «فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة، ويستنبط من علومهما، ولا

يبالي من خالفه .

____________________________

1 . كشف الارتياب، ص 8 .

2 . السيد محسن: كشف الارتياب: ص 16 - 19 .

( 345 )

وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ولا واللّه، ولا واللّه عشر واحدة، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهّال، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، الأُمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال! أللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق...»(1)

ويقول ايضاً: إنّ هذه الأُمور (الّتي يكفر بها محمد بن عبد الوهاب) حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام، حتّى ملأت بلاد الاِسلام كلها، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك، ولا قالوا هؤلاء مرتدون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام، ومع هذا لم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر، بل ما يظن هذا عاقل، بل واللّه لازم قولكم أن جميع الأُمة بعد زمان الإمام أحمد _ رحمة اللّه تعالى _ ، علماؤها وأُمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدّون، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، واغوثاه إلى اللّه! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم إنّ الحجة ما قامت إلاّ بكم، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام(2) .

وهذه العبارة من أخيه صريحة في أنه كان يكفّر جميع طوائف المسلمين، ويعتبر بلادهم بلاد حرب .

تكفير محمد بن عبد الوهاب

جميع المسلمين

ولعلّ القارىء ينتابه الاستغراب مما نسبه إليه أخوه، ولكنه إذا رجع إلى مبادىء دعوته يسهل له التصديق بالنسبة، وإليك خلاصة رسالته تحت أربع قواعد:

____________________________

1 . سليمان بن عبدالوهاب النجدي: الصواعق الإلهية، ص 3 _ 4 .

2 . نفس المصدر السابق، ص 38 .

( 346 )

الأُولى: إنّ الكفار الذين قاتلهم رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ مقرّون بأنّ (اللّه) هو الخالق الرازق المدبر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصَارَ... فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)(1) .

الثانية: إنهم يقولون: ما دعونا الأصنام وما توجهنا إليهم الاّ لطلب القرب والشفاعة لقوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ مَا نَعْبُدُهُم اِلاّ لَيُقَرِّبُونا إلى اللّه زُلفَى)(2). وقوله: (وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّه مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه)(3) .

الثالثة: إنّه ظهر (صلّى اللّه عليه وآله) على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء والصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

الرابعة:إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن أولئك يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى:

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ)(4) .

وهو لا يريد من قوله «إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً...» إلاّ المسلمين عامة، وذلك لأنهم يتوسلون بالنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في شدتهم ورخائهم، ولذلك صاروا عنده أغلظ من مشركي عهد الرسالة .

ومما يؤخذ عليه فيما ذكره في القاعدة الثانية، وهي المحور الرئيس للضلالة، أنّ هناك فرقاً جلياً بين المسلمين وعبدة الأوثان والأصنام، فإنّ

____________________________

1 . سورة يونس: الآية 31

.

2 . سورة الزمر: الآية 3 .

3 . سورة يونس: الآية 18 .

4 . محمد بن عبد الوهاب: رسالة أربع قواعد ص 1 - 4 ط مصر المنار، سورة العنكبوت: الآية 65 .

( 347 )

المسلمين يعبدون اللّه وحده، ولا يتوجّهون إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ إلاّ بقصد أن يدعو لهم عند اللّه، ويشفع لهم عنده، وأين هو من عبدة الطاغوت الذين كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه، ويتوجهون إليها على أنها آلهة تملك ضرهم ونفعهم، وما هذه إلاّ مغالطة مفضوحة، وقد تكررت هذه الظاهرة في أكثر رسائله وكتبه، فإليك نتفاً منها في كتابه الآخر المسمى بكشف الشبهات الّذي فرض تدريسه على علماء الحرمين في بعض الفترات الّتي شهد لها التاريخ، حيث يقول في حق النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ :

1- «أرسله إلى أُناس يتعبّدون ويحجّون ويتصدقون ويذكرون اللّه كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات بينهم وبين اللّه، يقولون نريد منهم التقرب إلى اللّه، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة و عيسى و مريم وأُناس غيرهم من الصالحين(1) .

وفي هذه العبارة من المغالطة مالا يخفى، فقد حاول تزييف الحقيقة وقال: ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين اللّه، فقد ركز على التوسيط، مع أنهم عبدوهم أولا، واتخذوهم وسائط ثانياً، فالممنوع هو عبادة الغير لا توسيطه، فالشيخ يركز على مجرد الوساطة الّتي ليست ملاكاً لشركهم، ويترك ما هو الملاك لكفرهم، أعني عبادتهم. وعمل المسلمين على اتخاذ الوسيلة لا على عبادتها .

2- يقول في موضع آخر ما نصه:

«إنّ التوحيد الّذي جحدوه هو توحيد العبادة، الّذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون اللّه سبحانه ليلا و نهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة

لأجل صلاحهم وقربهم من اللّه ليشفعوا له، أو يدعو رجلا صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى(2) .

فتراه كيف يستر الحقيقة فيقول: «ثم منهم من يدعو الملائكة أو يدعو

____________________________

1 . كشف الشبهات: ص 3 .

2 . محمد بن عبدالوهاب: كشف الشبهات، ص 4، ط مصر بتصحيح محب الدين الخطيب .

( 348 )

رجلا صالحاً فيركز على الدعوة الّتي هي أعم من العبادة، مع أنّ منهم من يعبد الملائكة، أو يعبد رجلا صالحاً، وليس كلّ دعوة عبادة، وإلاّ فلا يوجد فوق البسيطة من يصحّ تسجيل اسمه في ديوان الموحدين، والرجل لأجل إثبات أنّ المسلمين في دعوة النبي والصالحين كهؤلاء المشركين في عبادة الملائكة والصالحين، يركز على كلمة «يدعو» ويترك كلمة «يعبد» فهناك فرق بين الدعوة والعبادة، وليس كل دعوة عبادة، ولا كل عبادة دعوة، بل بينهما من النسب عموم و خصوص من وجه، فلو كانت الدعوة تنبثق من ألوهية المدعو وربوبيته فتتّسم بالعبادة، ولو كان انبثاقها من أنه عبد من عباد اللّه ولكنه عبد عزيز عند اللّه تستجاب دعوته إذا دعا، فلا تكون الدعوة عبادة، بل يدور الأمر بين كونه مفيداً إذا كان مستجاب الدعوة، وغير مفيد، إذا لم يكن كذلك .

3- يقول أيضاً: «تحققت أنّ رسول اللّه قاتلهم ليكون الدعاء كله للّه، والذبح كله للّه، والنذر كله للّه، والاستغاثة كلها باللّه» .

أمّا كون الدعاء كله للّه فإن كان المراد به العبادة فلا غبار عليه، والمسلمون على هذا عن بكرة أبيهم، وإن كان المراد هو القسم الّذي لا يراد به العبادة فليس بمنحصر في اللّه، وما أكثر دعاء إنسان لإنسان وهذا هو الدعاء ورد في القرآن الكريم في غير مورد العبادة. قال سبحانه:

(قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي

لَيلا وَنَهَاراً)(1) .

وأمّا النذر فلا شك أنّ المسلمين ينذرون للّه سبحانه، ويذكرون لفظ الجلالة في إنشاء صيغته الدالة عليه، وقد أسهبنا القول في ذلك فيما مضى، والشيخ خلط بين اللام للغاية واللام للانتفاع، فلو استعملت في بعض الموارد لفظة اللام فإنما يراد منه الانتفاع، فلو قيل هذا نذر للنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أو للروضة المباركة، فالمراد هو إهداء ثوابه إلى النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أو انتفاع الروضة به .

____________________________

1 . سورة نوح: الآية 5 .

( 349 )

4- ويقول أيضاً:

«إنّ المشركين يقرّون بالربوبية وإن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء» .

يؤاخذ عليه أن كفرهم إنما لعبادتهم الملائكة والأنبياء لا لتعلقهم بها إذ ليس مجرد التعلق مع الاعتراف بعبوديتهم وعدم تفويض الأمر إليهم موجباً للتكفير .

5- ويقول أيضاً: «إنّ الذين قاتلهم رسول اللّه مقرّون بأن أوثانهم لا تدبّر شيئاً وإنما أرادوا منها الجاه والشفاعة»(1).

فترى أنه كيف يقلب الحقيقة، فلم يكن تكفيره لهم لأجل طلب الشفاعة، بل لعبادتهم أولا، ثم طلب الشفاعة منهم ثانياً، قال سبحانه:

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُون هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه)(2) .

6- ويقول: «إنّ اللّه كفّر من قصد الأصنام، وكفّر من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول اللّه» .

كلاّ، إنّ رسول اللّه كفّر من عبد الصالحين، لا من قصدهم، فمن قصد الصالحين لطلب العلم والمال والدعاء لا يكون كافراً .

7- ويقول أيضاً _ وهو يعلّم أتباعه كيف يناظرون المخالف _ : اقرأ عليه: (ادعوا ربّكم تضرعاً وخفيةً إنه لا يحبّ المعتدين) فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت هذا عبادة للّه؟ فلا بد أن يقول نعم، والدعاء مخ العبادة، فقل له: إذا أقررت أنها عبادة،

ثم دعوت تلك الحاجة نبياً أو غيره، هل أشركت في عبادة اللّه غيره؟ فلابد أن يقول نعم»(3) .

____________________________

1 . نفس المصدر السابق، ص 6 .

2 . سورة يونس: الآية 18 .

3 . نفس المصدر السابق .

( 350 )

والمغالطة في كلامه واضحة، فإنّ الدعاء في قوله: «ادعوا ربكم» مساوق للعبادة لا بمعنى أن الدعاة بمعنى العبادة، بل معناه أن الدعوة إذا انبثقت من الاعتقاد بالألوهية والربوبية تصير مصداقاً للعبادة، وجزءاً من جزئياته، كما أن المراد من قوله: «والدعاء مخ العبادة» هو أن الدعاء مخ العبادة، أو دعاء من يعتقد أنه ند للّه في جميع الشؤون أو بعضها مخ العبادة، وأين هو من دعوة الأنبياء والصالحين الذين لا يُدعَوْن إلاّ بعنوان أنهم عباد صالحون لا يعصون اللّه ما أمرهم وهم بأمره يعملون، ولا يملكون شيئاً لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً إلاّ بإذن اللّه، أفهل تكون الدعوتان متماثلتين حتّى تشتركا في الحكم؟

وإنك إذا تتبعت كلماته وجمله في هذا الكتاب يظهر لك أنه يحاول التضليل من طريق تشبيه توسل المسلمين ودعائهم، بعمل المشركين وعبدة الأوثان، بالتمسك بمشابهات ومشاركات بعيدة، وتناسى ما هو البون الشاسع بين الأُمتين والدعوتين .

قال زيني دحلان: كان محمد بن عبدالوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر، وكان أخوه الشيخ سليمان ينكر عليه إنكاراً شديداً، فقال لأخيه يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد؟ فقال: خمسة(1) فقال أنت جعلتها ستة: السادس: من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام .

وقال رجل آخر: كم يعتق اللّه كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة، يعتق مثل ما أعتق في الشهر

كله، فقال له: لم يبلغ من اتّبعك عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم اللّه تعالى، وقد حصرت المسلمين فيك وفي من اتّبعك؟ فبهت الّذي كفر .

ولما طال النزاع بينه وبين أخيه فخاف على نفسه، فارتحل إلى المدينة المنورة، وألّف رسالة في الرد على محمد بن عبدالوهاب وأرسلها له، فلم

____________________________

1 . يشير إلى ما رواه البخاري في كتاب الإيمان .

( 351 )

ينته، وألّف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الردّ عليه وأرسلوها إليه، فلم ينته(1) .

ويقول جميل صدقي الزهاوي: كان محمد بن عبدالوهاب يسمي جماعته من أهل بلده، الأنصار; وكان يسمي متابعيه من الخارج، المهاجرين; وكان يأمر من حج حجة الإسلام قبل اتّباعه أن يحج ثانياً قائلا إنّ حجتك الأُولى غير مقبولة لأنك حججتها وأنت مشرك، ويقول لمن أراد أن يدخل في دينه: اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان (يسمي جماعة من أكابر العلماء الماضين) أنهم كانوا كفاراً.

فإن شهد بذلك قبله، وكان يصرّح بتكفير الاُمة منذ ستمائة سنة، ويكفّر كل من لا يتبعه وإن كان من أتقى المسلمين، ويسميهم مشركين، ويستحل دماءهم وأموالهم، ويثبت الإيمان لمن اتّبعه .

وكان يكره الصلاة على النبي بعد الأذان، وينهى عن ذكرها ليلة الجمعة وعن الجهر بها على المنابر، ويعاقب من يفعل ذلك عقاباً شديداً، حتّى أنه قتل رجلا أعمى مؤذناً لم ينته عن الصلاة على النبي بعد الأذان، ويلبس على أتباعه أن ذلك كله محافظة على التوحيد .

كان قد أحرق كثيراً من كتب الصلاة على النبي، كدلائل الخيرات وغيرها، وكذلك أحرق كثيراً من كتب الفقه والتفسير والحديث مما هو مخالف لأباطيله(2) .

قال أحمد زيني دحلان: إنّ الوهابيين

أرسلوا في دولة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد المتوفى سنة 1165 ه_ ثلاثين نفراً من علمائهم فأمر الشريف أن يناظرهم علماء الحرمين، فناظروهم فوجدوا عقائدهم فاسدة، وكتب قاضي الشرع حجة بكفرهم فأمر بسجنهم، فسجن بعضهم وفرّ الباقون .

ثم في دولة الشريف أحمد المتوفى سنة 1195 ه_ أرسل أمير الدرعية بعض

____________________________

1 . السيد أحمد بن زيني دحلان: الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص 39 _ 40 .

2 . صدقي الزهاوي: الفجر الصادق، ص 17 _ 18 .

( 352 )

علمائه فناظرهم علماء مكة وأثبتوا كفرهم، فلم يأذن لهم بالحج(1) .

وقال أيضاً: لما منع الناس من زيارة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ خرج ناس من الأحساء وزاروا النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وبلغه خبرهم، فلما رجعوا مرّوا عليه بالدرعية، فأمر بحلق لحاهم، ثم أركبهم مقلوبين من الدرعية إلى الأحساء .

وبلغه مرة أن جماعة قصدوا الزيارة والحج، وعبروا على الدرعية، فسمعه بعضهم يقول لتابعيه: خلّوا المشركين يسيرون طريق المدينة، والمسلمون (أتباعه) يخلفون معنا(2) .

تكفير المسلمين شعارهم الوحيد

من رجع إلى كتب محمد بن عبد الوهاب وما ألّف في الفترة المتاخمة إلى عصره يقف على أنهم اتفقوا على تكفير المسلمين قاطبة، سنّيهم وشيعيّهم ولم تكن المحاربة وقتل الأنفس وسفك الدماء في عصره وما بعده إلاّ على أساس أن غيرهم مشركون، لا حرمة لدمائهم وممتلكاتهم، يجب تتويبهم قسراً، وإلاّ فإنه ستهدر دماؤهم، ويشهد على ذلك ما كتبه الآلوسي صاحب تاريخ نجد الّذي له مع السعوديين أُلفة وطيدة حيث يقول بعد التطرق لذكر سعود بن عبد العزيز(3): إنه قاد الجيوش وأذعنت له صناديد العرب و رؤساؤهم، بيد أنه منع الناس عن الحج، وخرج على السلطان

وغالى في تكفير من خالفهم، وشدّد في بعض الأحكام، وحمل أكثر الأُمور على ظواهرها، كما غالى الناس في قدحه، والإنصاف، الطريق الوسطى، لا التشديد الّذي ذهب إليه علماء نجد من تسمية غاراتهم على المسلمين بالجهاد في سبيل اللّه، ومنعهم الحج، ولا التساهل الّذي عليه عامة أهل العراق والشامات وغيرهما(4) .

____________________________

1 . السيد محسن الأمين: كشف الارتياب، ص 15 _ نقلا عن خلاصة الكلام .

2 . الشيخ أحمد بن زيني دحلان: الدرر السنية، ص 41 .

3 . سعود بن عبدالعزيز بن محمد وهو حفيد أول من بايع محمد بن عبدالوهاب، وسيتم التعرض لتاريخ حياته .

4 . السيد محسن الأمين: كشف الارتياب، ص 9 نقلا عن تاريخ نجد .

( 353 )

فهذا الاعتراف الصريح من موالي الوهابيين يدل على أنهم كانوا في فترة من الزمن على تكفير المخالفين، وتسمية الغارة على المسلمين جهاداً في سبيل اللّه .

نعم في الفترة الأخيرة الّتي أخذ فيها أزمّة الحكم في نجد والحرمين الشريفين عبد العزيز، ثم خلفه أبناؤه من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد اليوم، تنازلوا عن تكفير المسلمين علانية، ولاترى هذه التهمة في صفحات وسائلهم الإعلامية السمعية والبصرية، فتغير موقفهم بالنسبة إلى جميع الطوائف الإسلامية، فيرون الحرمة لبلادهم ودمائهم وممتلكاتهم، إلاّ الشيعة، فهم موقفهم السابق منهم، وخصوصاً بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران فقد تأججت نار أحقادهم وحميتهم العصبية عليهم، فلا تمر برهة زمنية إلاّ وينتشر كتاب ضد الشيعة بأقلام المأجورين في مختلف أنحاء العالم، ويبذلون مال اللّه ليصدّوا الناس عن طريقه .

سؤال وجواب

إنّ الوهابية امتداد فكري لما بذره أحمد بن تيمية في أوائل القرن الثامن وتعتبر حركتهم الهدامة انعكاساً جذرياً لمبادئه الضالة، ويتمخض عن ذلك، سؤال يستثيره نجاح محمد بن

عبدالوهاب النسبي في تطبيق وإقرار مبادىء دعوته، دون مؤسس المنهج أحمد بن تيمية، فقد أخفق في دعوته، وأخمدت في بادىء بدئها، وإن كان قد تبعه بعض الناس فلم تكن متابعتهم له عن علم بمبادئه وغاياته .

وهذا ابن كثير الشامي التابع لمنهج ابن تيمية يقول: كان الناس يتبركون بجنازته(1) مع أنّه عنده شرك، والشرك من أعظم الجرائم عند ابن تيمية، فلم تكن متابعة جماعة من الناس له عن إحاطة ودراية، بل مخالفته للحكم السائد في الشام، وإبعاده منها إلى مصر ثم سجنه، صارت سبباً لاستمالة قلوب الناس

____________________________

1 . البداية والنهاية، ج 14، حوادث عام 728 .

( 354 )

إليه من دون وعي بمعتقده، وهذا بخلاف محمّد بن عبد الوهاب، فقد تكللت دعوته بالنجاح النسبي، فياترى ما هو السبب؟ .

نجيب بكلمة واحدة، إنّ ابن تيمية افتقد الأرضية الكفيلة بإنجاح دعوته لأنّه بثّها بين أوساط علمية، كان فيهم كبار العلماء والفقهاء، فأخمدوا ضوضاءها بالاستدلال والبرهنة، فثاروا في وجهه ثائرة أخمدت دعوته وأبطلت كيده، وكانت السلطة أيضاً ناصرت العلماء في مجابهتهم له، فلم يكن لبذرة الفساد نصيب سوى الكمون في ثنايا الكتب، أو النجاح في مرضى القلوب .

وأمّا ما يرتبط بدعوة محمّد بن عبد الوهاب فقد ساعد على إنجاحها وجود أرضية خصبة مليئة بالأُمية والجهل بمبادىء الإسلام، تضاف إلى ذلك مناصرة سلطة آل سعود وتحالفهم معه في تطبيق دعوته، على أن يكون التخطيط من الشيخ، والإنجاز من السلطة بالقوة والإغارة والفتك والتخويف .

يقول الزهاوي: لمّا رأى ابن عبد الوهاب أنّ قاطبة بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة، لم يزالوا على البساطة والسذاجة في الفطرة، وقد ساد عليهم الجهل حتّى لم تبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج، وجد هنالك من

قلوبهم ما هو صالح لأن تزرع فيه بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رئاسة عظيمة ينالها باسم الدين - إلى أن قال _ : فلم يجد للحصول على أُمنيته طريقاً بين أولئك إلاّ أن يدّعي أنّه مجدد في الدين، مجتهد في أحكامه; فحمله هذا الأمر على تكفير جميع طوائف المسلمين، وجعلهم مشركين بل أسوأ حالا وأشدّ كفراً وضلالا، فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين، الذين يزورون قبر نبيّهم ويستشفعون به إلى ربّهم(1) .

الرادّون على محمّد بن عبد الوهاب

هذا غيض من فيض من حياة محمّد بن عبدالوهاب المليئة بالإجرام والإفساد والتضليل، وشق عصا المسلمين، فمن أراد التوسع في دراسة حياته

____________________________

1 . جميل صدقي: الفجر الصادق، ص 14 .

( 355 )

وما جرّه على المسلمين من حروب وويلات، فليرجع إلى الكتب المؤلفة حول الوهابية ومؤسسها، وتاريخ نجد والسلطة القبلية الحاكمة فيه منذ عصر محمّد بن عبدالوهاب إلى يومنا هذا .

إلاّ أنّ العلماء الواعين في الحرمين الشريفين في عصره وما بعده، وفي سائر الأقطار الإسلامية، قد أدوا ما عليهم من وظائف رسالية تجاه هذه الحركة الهدامة، فترى كيف أنّهم قد بذلوا الجهود المضنية في سبيل ردّ دعوتهم وإثبات بطلانها، وإليك قائمة من الردود المؤلفة في إبطالها، نأتي بأسمائها وأسماء مؤلّفيها:

1- «مقدمة شيخه محمّد بن سليمان الكردي الشافعي»الّتي قرّظ بها رسالة أخيه سليمان بن عبدالوهاب، وقع في نحو ثلاث ورقات، وقد تضمّنت ما يشير إلى ضلاله ومروقه عن الدين، على نحو ما حكي في ذلك عن شيخه الآخر محمّد حياة السندي، ووالده عبد الوهاب .

2- «تجريد سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد» لشيخه العلامة عبد اللّه بن

عبد اللطيف الشافعي .

3- «الصواعق والرعود» للعلامة عفيف الدين عبداللّه بن داود الحنبلي .

قال العلامة علوي بن أحمد الحداد: كتبت عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم، تأييداً له وثناء عليه .

ثم قال: ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا .

ولخصه محمّد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعجمان .

4- «تهكّم المقلدين بمن ادّعى تجديد الدين» للعلاّمة المحقق محمّد بن عبدالرحمن ابن عفالق الحنبلي، وقد ترصّد فيه لكل مسألة من المسائل الّتي ابتدعها وردّ عليها بأبلغ رد، وقد ضمّن كتابه هذا ملحقاً يتناول ما يتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية، كما أرفقه بأسئلة كان قد بعثها إلى محمد بن عبد الوهاب، منهاشطر وافر حول علم البيان تتعلق بسورة «والعاديات» ،

( 356 )

وألمح في ذيلها إلى عجزه عن الجواب عن أدناها فضلا عن أجلِّها.

5- رسالة للعلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي، وتقع في نحو عشر كراريس عقد فصولها كافة للرد على معتقداته وتزييف أباطيله .

6- رسالة للعلامة عبدالوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي .

7- «الصارم الهندي في عنق النجدي» للشيخ عطاء المكي .

8- رسالة للشيخ عبد اللّه بن عيسى المويسي .

9- رسالة للشيخ أحمد المصري الأحسائي .

10- السيوف الصقال في أعناق من أنكر على الأولياء بعد الانتقال، لأحد علماء بيت المقدس.

11- السيف الباتر لعنق المنكر على الأكابر، للسيد علوي بن أحمد الحداد، طبع في نحو مائة ورقة .

12- رسالة للشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن عبداللطيف الأحسائي .

13- تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء، للعلامة عبداللّه بن إبراهيم مير غني الساكن بالطائف .

14- رسالة للشيخ محمد صالح الزمزمي الشافعي، تقع في نحو عشرين كراساً، حكى السيد علوي بن أحمد الحداد أنّه رآها

أمام مقام إبراهيم بمكة .

15- «الانتصار للأولياء الأبرار» للعلامة طاهر سنبل الحنفي، حكى السيد علوي المذكور آنفاً أنّه رآه عند مؤلفه بالطائف .

16- مجموعة أجوبة وردود نظماً ونثراً لأكابر علماء المذاهب الأربعة، لا يحصون، من أهل الحرمين الشريفين والأحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وغيرها.

حكى عنها السيد علوي أيضاً وذكر أنّه أتى بها إليه رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة، الذين يقطنون الزيارة والبحرين .

( 357 )

17- كتاب ضخم يحتوي على جملة من الأسئلة والأجوبة، كلها من علماء أهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، حدّث به أيضاً السيد المذكور، كلها في الرد على محمّد بن عبد الوهاب .

18- قصيدة للسيد المنعمي ردّ بها على ابن عبد الوهاب إثر قتله جماعة كانوا قد عفوا شعر رؤسهم، مطلعها:

أفي حلق رأس بالسكاكين «الحدِّ» * حديث صحيح بالأسانيد عن جدي

19- «مصباح الأنام وجلاء الضلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام» للعلامة السيد علوي بن الحداد المتقدم، طبع سنة 1325 ه_ بالمطبعة العامرية، وما سبق حكايته عن مؤلفه منقول عنه .

20- «الصواعق الإلهية» لأخيه سليمان بن عبدالوهاب «مطبوع» .

21- كتاب لشيخ الإسلام بتونس المحقق إسماعيل التميمي المالكي المتوفى سنة 1248، وهو في غاية التحقيق والإحكام، نقض فيه رسالة لابن عبدالوهاب طبعت في تونس .

22- رسالة مسجعة محكمة للمحقق الشيخ صالح الكواش التونسي، طبعت ضمن كتاب «سعادة الدارين في الردّ على الفرقتين» نقض فيها مؤلفها رسالة لابن عبدالوهاب .

23- رسالة للعلامة المحقق السيد داود البغدادي الحنفي، مطبوعة .

24- قصيدة للشيخ غلبون الليبي، ردّ بها على قصيدة الصنعاني الّتي مدح بها ابن عبد الوهاب، تقع في أربعين بيتاً، مطلعها:

سلامي على أهل الإصابة والرشد * وليس على نجد ومن

حلَّ في نجد

وهي مذكورة في سعادة الدارين .

25- قصيدة أخرى للسيد مصطفى المصري البولاقي، يرد فيها أيضاً على قصيدة الصنعاني الّتي ذكرت في المصدر السابق، تقع في مائة وستة وعشرين بيتاً، مطلعها:

( 358 )

بحمد وليِّ الحمد، لا الذم أستبدي * وبالحق لا بالخلق، للحق أستهدي

26- قصيدة ثالثة للسيد الطباطبائي البصري، يرد فيها على قصيدة الصنعاني، وقد كان لهذه القصائد الأثر الأكبر في إرجاع الصنعاني عن غيه الّذي وقع فيه، حتّى بلغ به الأمر إلى إنشاد قصيدة يعلن فيها توبته مما بدر منه: مستهلها:

رجعت عن القول الّذي قلت في نجدِ * فقد صحّ لي عنه خلاف الّذي عندي

27- «سعادة الدارين في الرد على الفرقتين _ الوهابية والظاهرية _ للعلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري المتوفى في العقد الثاني من هذا القرن، وقد طبع في مجلدين .

28- «الدرر السنية في الرد على الوهابية» لمفتي مكة السيد أحمد زيني دحلان المتوفى سنة 1304 ه_ وهو مطبوع .

29- «شواهد الحق في التوسل بسيد الخلق» للشيخ يوسف النبهاني. طبع في مجلد .

30- «الفجر الصادق» لجميل صدقي الزهاوي، مطبوع .

31- «إظهار العقوق ممن منع التوسل بالنبي والولي الصدوق» للشيخ المشرفي المالكي الجزائري .

32- رسالة في جواز التوسل، للشيخ المهدي الوازناني مفتي فاس، ردّ فيها على محمّد بن عبد الوهاب في منعه ذلك .

33- «غوث العباد (في) بيان الرشاد» للشيخ مصطفى الحمامي المصرى، مطبوع .

34- «جلال الحق في كشف أحوال أشرار الخلق» للشيخ إبراهيم الحلبي القادري الاسكندري، وهو كتاب جيد طبع في الاسكندرية سنة 1355 ه_ .

( 359 )

35- «البراهين الساطعة» للعلامة الشيخ سلامة العزامي المتوفى سنة 1379 ه_ .

36- «النقول الشرعية في الردّ على الوهابية» للشيخ حسن الشطي الحنبلي الدمشقي، مطبوع .

37-

رسالة أُخرى له أيضاً في تأييد مذهب الصوفية والردّ على من ناوأهم، مطبوعة .

38- رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء، للشيخ محمّد حسنين مخلوف، مطبوعة.

39- «المقالات الوفية في الردّ على الوهابية» للشيخ حسن قزبك، مطبوعة .

40- «الأقوال المرضية في الردّ على الوهابية» وهي رسالة صغيرة للشيخ عطا الكسم الدمشقي .

والردود على الوهابية أكثر مما ذكر، وقد اكتفينا بهذا العدد المبارك، وفيه غنى وكفاية، وكلّها لأهل السنة والجماعة، وأمّا الشيعة فحدث عنها ولا حرج، وأول من ردّ عليه، الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء الأكبر بكتاب أسماه ب_ «منهج الرشاد لمن أراد السداد» كتبه ردّاً على الرسالة الّتي بعثها سعود بن عبد العزيز إليه يشرح فيها مواقف الوهابية في المسائل الراجعة إلى التوحيد والشرك، وقد طبع في النجف الأشرف عام 1343 ه_ ، ثم توإلى النقد من علماء الشيعة بعد تدمير قباب البقيع عام 1344 ه_ ، إلى يومنا هذا، ونشير إلى قليل من كثير مما طبع وانتشر باللغة العربية:

1- الآيات البينات في قمع البدع والضلالات، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1294 _ 1373 ه_) طبع بالنجف الأشرف 1345 ه_ .

2- الآيات الجلية في ردّ شبهات الوهابية، للشيخ مرتضى كاشف الغطاء (م 1349 ه_ ).

( 360 )

3- إزاحة الوسوسة عن تقبيل الأعتاب المقدسة، للشيخ عبد اللّه بن محمد حسن المامقاني (ت 1351 ه_) طبع في النجف الأشرف مع كتابه مخزن المعاني .

4- البراهين الجلية في دفع شبهات الوهابية، للسيد محمد حسن القزويني الحائري (ت 1380 ه_) طبع بالنجف (1346 ه_) .

5- التبرك، للشيخ علي الأحمدي الميانجي، طبع في بيروت .

6- دعوى الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى، للشيخ محمد جواد البلاغي (ت 1352 ه_) .طبع في النجف

الأشرف (1344 ه_) .

7- الرد على الوهابية، للشيخ محمّد علي الغروي الأردوبادي، طبع سنة (1345 ه_) .

8- الرد على الوهابية للسيد حسن الصدر الكاظمي (ت 1354 ه_)، طبع في بغداد (1344 ه_) .

9- كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب، للسيد محسن الأمين العاملي (ت 1373 ه_) طبع في صيدا .

10- المواسم المراسم، للسيد جعفر مرتضى العاملي، يبحث عن مشروعية إقامة مراسم الاحتفال في الأعياد، أو مظاهر الحزن في المآتم _ طبع في طهران .

11- هذه هي الوهابية، للشيخ محمد جواد مغنية العاملي (ت 1400 ه_) طبع في بيروت .

12- مع الوهابيين في خططهم وعقائدهم، لمؤلف هذا الكتاب، طبع في طهران، عام (1406 ه_) .

13- الوهابية في الميزان، له أيضاً، طبع في قم المشرفة عام (1407 ه_) .

( 361 )

14- وأخير الردود لا آخرها _ التوحيد والشرك في القرآن الكريم، له أيضاً، استعرض فيه الآيات الواردة حولهما بإمعان ودقة، وفند جميع مستمسكات الوهابيين فيه .

ولنكتف بهذا المقدار، وإلاّ فاردود عليها من الشيعة بألسنة مختلفة كثيرة .

* * *

«فاحتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها»

الإمام الصادق _ عليه السَّلام _

( 362 )

تاريخ الإمارة القبلية السعودية

الفترة الأُولى

الفترة الأُولى

وقد تصدى للحكم فيها من عام 1137 إلى 1233 الأُمراء التالية أسماؤهم: 1- محمد بن سعود 2- عبدالعزيز بن محمد بن سعود 3- سعود بن عبدالعزيز 4- عبد اللّه بن سعود .

الفترة الثانية

1240 _ 1309

5- تركي ابن أخي عبد العزيز 6- مشاري بن عبدالرَّحمن 7- فيصل بن تركي 8- خالد بن سعود 9- عبداللّه بن ثنيان 10- فيصل بن تركي 11- عبداللّه بن فيصل التركي 12- سعود بن فيصل التركي 13- عبدالرَّحمن بن فيصل .

الفترة الثالثة

1319 _...

14- عبد العزيز بن عبدالرَّحمن 15- سعود

بن عبدالعزيز 16- فيصل بن عبدالعزيز 17- خالد بن عبدالعزيز 18- فهد بن عبدالعزيز .

ويعلم اللّه من سيتحكم في الديار المقدسة بعد هذا الرجل .

( 363 )

تاريخ الإمارة القبلية السعودية

قد تعرفت على أنّ آل سعود وعلى رأسهم محمّد بن سعود كانوا هم الحماة لدعوة محمّد بن عبد الوهاب، وقد تمخض عنها إبرام اتفاقية بين ابن عبد الوهاب وأمير العائلة السعودية، وهذه الاتفاقية لا تزال باقية إلى يومنا هذا وإن تبدلت بأشكال مختلفة، غير أن الوقوف على كيفية توسع نطاق دعوة ابن عبد الوهاب يتوقف على دراسة تاريخ حياة هذه القبيلة بعد هذه الاتفاقية، كيف أنّهم سلّوا سيوفهم في طريق نشرها إلى حدّ خضبوا وجه الأرض بإراقة دماء الصالحين والمؤمنين، وقتل الأطاف في حجور أُمهاتهم، وتدمير الأبنية، وإحراق الأشجار والنخيل، إلى غير ذلك ممّا يكلّ البيان عن وصفه والقلم عن الإحاطة به، والقارىء إذا استطلع ما سنذكره مؤيداً بمصادر موثقة، يقف على أنّه لم تكن هناك رسالة دينية ولا إنسانية، بل كانت الدعوة الوهابية واجهة وغطاء لما تربّوا عليه وألفوه في حياتهم القبلية من النهب والغارة والقتل والسفك، وتوسيع نطاق السلطة، إلى غير ذلك مما كانوا يمارسونه قبل قبول الدعوة الوهابية، الّتي تركز بزعمهم على رفض الشرك وزيادة رقة الموحدين، وكانت فكرةً اغترّ بها البسطاء وانطلت على عقولهم الساذجة، لأنّهم كانوا يعيشون في واحات الصحاري منقطعين عن الأُمم المتحضرة، فلأجل ذلك تمكنت الدعوة الوهابية من النفوذ إلى أذهانهم بيسر وسهولة، فصار البدو أداة طيعة بيد الأمير وصاحب الدعوة، فأشاعا الفساد بما أوتيا من قوة.

إنّ تاريخ العائلة السعودية حسبما يذكره المؤرخون تتلخص في فترات ثلاث:

الفترة الأُولى: وهي تبتدىء من عام 1137 ه_ إلى 1233 ه_ .

الفترة الثانية:

تبتدىء من عام 1240 ه_ إلى 1309 ه_ .

الفترة الثالثة: تبتدىء من عام 1319 ه_ إلى عصرنا هذا .

( 364 )

الفترة الأولى لحياة العائلة

الفترة الأولى لحياة العائلة

1- إمارة محمد بن سعود: (1137 ه_ _ 1179 ه_) .

إنّ محمد بن سعود هو أول من صافح محمد بن عبد الوهاب و كان معه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في العام الآنف الذكر، وقد حصل صدام بينه وبين عثمان بن معمر شيخ «العيينة»، وقد خشي عثمان من امتداد السلطة السعودية فعقد حلفاً مع «ثرمدة» و «ابن سويط» شيخ الظفير، ولكنه باء بالفشل واغتيل على يد الوهابيين عند خروجه من المسجد، فانضمت «العيينة» بعد ذلك إلى الحكم السعودي، وقد آل معمر دورهم السياسي في نجد(1) .

يقول زيني دحلان: «كان ابتداء ظهوره أمره (ابن عبد الوهاب) في الشرق سنة 1143 ه_ ، واشتهر أمره بعد الخمسين وألف ومئة بنجد وقراها، فتبعه وقام بنصرته أمير الدرعية محمد بن سعود، وجعل ذلك وسيلة إلى اتساع ملكه ونفاذ أمره، فأحمل أهل «الدرعية» على متابعة محمد بن عبدالوهاب فيما يقول، فتبعه أهل «الدرعية» وما حولها، ومازال يطيعه على ذلك كثير من أحياء العرب، حي بعد حي، وقبيلة بعد قبيلة، حتّى قوي امره فخافته البادية، فكان يقول لهم إنما أدعوكم إلى التوحيد، وترك الشبرك باللّه، ويزين لهم القول وهم بَواد في غاية الجهل لا يعرفون شيئاً من أُمور الدين، فاستحسنوا ما جاءهم به، وكان يقول لهم إنّي أدعوكم إلى الدين، وجميع من هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق ومن قتل مشركاً فله الجنة، فتابعوه وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنة، وكان محمد بن عبدالوهاب بينهم كالنبي في أمته، لا يتركون شيئاً مما يقول، والذا قتلوا إنساناً أخذوا

ماله وأعطوا الأمير محمد بن سعود الخمس، واقتسموا الباقي، وكانوا يمشون حينما مشى، ويأتمرون له بما شاء، والأمير محمد بن سعود ينفذ كل ما يقول، حتّى اتسع له الملك .

____________________________

1 . أبو عليه، عبدالفتاح: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية، ص 16 .

( 365 )

البعثة الوهابية إلى مكة

تولى ولاية مكة الشريف مسعود من عام 1146 إلى عام وفاته 1165 ه_ ، وقد أرسل محمد بن سعود عندما استحفل أمر محمد بن عبدالوهاب ثلاثين عالماً إلى مكة يستأذنونه في الحج، ولكن كان هدفهم هو الدعوة إلى الوهابية ونشرها في أوساط أهل الحرمين، وقد كان أهلهما قد سمعوا بظهورهم في نجد وإفسادهم عقائد البوادي، ولم يعرفوا حقيقتهم بعد عن كثب، فلما وصلت بعثته أمر الشريف مسعود أن يناظرهم علماء الحرمين، فإذا بهم فوجئوا بعقائد غريبة، فأقاموا عليهم الحجة والبرهان، فقبض على جماعة منهم، بينما فرّ بجلدته البعض الآخر(1) .

الصدام مع حاكم الرياض

كان دهام بن دواس حاكماً على الرياض، وكان من ألد الأعداء للدعوة الوهابية، وقد دامت الحروب بين الرياض والدرعية زهاء سبعة وعشرين عاماً على الرغم من قرب المسافة بينهما، وكانت سجالا، فلم تمرّ سنة إلاّ وقعت فيها غزوة بين البلدين، وفي إحدى هذه الهجمات قتل ولدا محمد بن سعود، أعني فيصلا وسعوداً(2) .

وظل أمير الرياض المنافس الرئيسي لمحمد بن سعود، وكانت الغزوات بين الدرعية والرياض تدور رحاها كل عام تقريباً .

ففي عام 1178 ه_ اتفق أبناء «يام» من أهالي نجران وقبيلتي العجمان و «بني خالد» وتحالفوا على سحق محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب .

فقد تحالف بنو يام على أن يسيروا من نجران بقيادة السيد حسن بن هبة اللّه، وأن يسير بنو خالد والعجمان من الأحساء بقيادة

حاكمها آنذاك باسم الخالدي، وتواعد الجميع على الزحف على الدرعية، فصارت جموع من

____________________________

1 . الدرر السنية، ص 43 _ بتصرف .

2 . أبو علية، عبدالفتاح: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص 19 _ 20 .

( 366 )

نجران والأحساء، ولكن قائد نجران قد وصل إلى ضواحي «الدرعية» قبل وصول العجمان وبني خالد، وبوحدتهم تمكنوا من سحق الجند السعودي واختفى محمد بن سعود، وكاد ينتهي أظلم حكم دخيل عرفته شبه الجزيرة العربية على أيدي أهالي نجران الأبطال، لو لم يلجأ محمد بن عبدالوهاب إلى المكر والخداع، فقد رفع راية الصلح على أن يقف أهالي نجران عند حدهم ويمتنعوا من دخول «الدرعية»، وأنّ يسلّموا ما تحت أيديهم من الأسرى السعوديين، ويتعهد كل من محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود بدفع عشرة آلاف جنيه ذهب كتعويض لأهالي نجران عن رحتلهم هذه، وأن لا يتعدى محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب حدود «الدرعية»، وبهذا شهد محمد بن عبدالوهاب ببطلان دعوته أمام أهالي نجران .

ولما وصلت قوات الخالدي المسلحة بالمدافع إلى ضواحي «الدرعية»، وكان قد انضمّ إليها الكثير من النجديين فوجئوا بهذا الصلح، والقبوله تمشياً مع ما اتّخذه أبناء عمهم من أبناء نجران، ولم يكن سبب فشلها الاّ التصرفات الفردية للشيخ حسن بن هبة اللّه، وإلاّ لقضي على الوجود السعودي في ذلك الوقت، وقد كان عنف الهجوم وإيجاد الرعب على حد أُصيب محمد بن سعود بإسهال، ومرض مرضاً شديدياً من جزاء ما انتابه من رعب شديد حينما شاهد أنّ أبناء يام يحاصرون «الدرعية»، بعد سحقهم للجند السعودي، وقد تسبب ذلك هلاك محمد بن سعود من جراء المرض الّذي أصابه من ذلك الحادث، ومات عام 1179 ه_ (1) .

* * *

2-

عبدالعزيز بن محمد بن سعود (1179 _ 1218 ه_ )

اختار محمّد بن سعود ولده عبدالعزيز وليّاً للعهد من بعده، باقتراح من محمد بن عبدالوهاب، فكان أول أمير يبايع بولاية العهد من السعوديين، ومنذ ذلك الحين أصبحت الإمارة تنتقل بالمبايعة بولاية العهد، تماماً كما فعل

____________________________

1 . ناصر السعيد: تاريخ آل سعود، ص 30 .

( 367 )

معاوية مع ولده يزيد، وهذه واحدة من بدع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقد تزوج عبدالعزيز ابنة محمد بن عبدالوهاب، وامتزج النسب بعضه ببعض أكثر من ذي قبل(1) .

ولم تكن سيرة عبدالعزيز خيراً من سيرة أبيه بل شرّاً منه، وقد نجمت في عهده حروب دامية سفكت فيها دماء الأبرياء بما يتجاوز حد الوصف، وإن كنت في شك مما نقول فعليك بقراءة ما أسجله لك من وثائق موثقة:

احتلال الأحساء عام 1207 ه_

تشكل الأحساء وسواحلها وموانئها جزءاً من البلاد المطلة على الخليج، والّتي يتنازع عليها العثمانيون وولاة العراق ومصر.

كانت الأحساء في القرن الثاني عشر (1100 _ 1200) تخضع لنفوذ قبائل بني خالد، وهي قبائل نجدية كبيرة منتشرة على شاطىء الخليج تحت حكم شيخهم محمد آل حميد، الّذي أنذر عثمان بن معمر شيخ العيينة بطرد محمد بن عبد الوهاب من قريته، لما أساءت تعاليمه إلى القرى المجاورة، وكان ذلك من أسباب العداء بين بني خالد وآل سعود، بالإضافة إلى رغبة هؤلاء في التوسع، وأدى ذلك إلى سقوط الأحساء في يد الوهابيين عام 1785 م «حوالي 1207 ه_» .

وفي خريف 1703 م «حوالي 1215 ه_» توجه سعود بن عبدالعزيز مع قوات كبيرة إلى الأحساء، ونهبت قواته البدوية كل ما صادفته في طريقها، وقتلت دون رحمة كل من أبدى مقاومة، ودمرت بساتين النخيل واستأثرت بمحاصيل التمور، ورعت

الماشية في الحقول، وأعربت الأحساء كلها عن خضوعها لهم، وعيّن براك بن عبدالمحسن أميراً للأحساء(2) ولكنه حاول في ربيع 1796 م أن يتخلص من سلطة الوهابيين، ولكنه اطّلع عليه سعود بن عبدالعزيز

____________________________

1 . المصدرالسابق، ص 30 .

2 . ابن غنام: تاريخ نجد، ج 2 ص 158 _ 166 .

( 368 )

فجاء بجيش قوي إلى الأحساء وقمع الحركة فيها من جديد(1) .

يقول ابن بشر في كيفية إخضاع الأحساء: فلما أصبح الإصباح رحل سعود بعد صلاة الصبح، فلما استووا على ظهور ركائبهم وقربوا من الأحساء، أطلقوا رصاص بنادقهم دفعة واحدة، فاسقط الكثير من النساء الحوامل ما في بطونهم لهول الموقف، فاحتلها، ثم نزل سعود فأمرهم بالخروج إليه، فخرج فأقام هناك مدة أشهر يقتل من أراد قتله، يجلي من أراد إجلاءه، ويحبس من أراد حبسه، ويأخذ من الأموال، يهدم من المحالّ، ويبني ثغوراً ويهدم دوراً، وضرب عليهم ألوفاً من الدراهم وقبضها منهم، وذلك لما تكرر منهم من نقض العهد ومنابذة المسلمين وأكثر فيها القتل (إلى أن يقول) فلما أراد ابن سعود الرحيل من الأحساء أمسك عدة رجال من رؤساء أهلها... فاستقدمهم إلى «الدرعية» وأسكنهم فيها، واستعمل في الأحساء أميراً باسم (ناجم) وهو رجل منهم(2) .

تدمير كربلاء والتصفية الجسدية

وفي سنة 1216 ه_ جهز سعود بن عبد العزيز بن محمد جيشاً جراراً من أعراب نجد، وغزا به العراق، وحاصر كربلاء ثم دخلها عنوة، وأعمل في أهلها السيف، ولم ينج منهم إلاّ من فرّ هارباً، أو اختفى في مخبأ من حطب ونحوه فلم يعثروا عليه، وهدم قبر الحسين _ عليه السَّلام _ واقتلع الشباك الموضوع على القبر الشريف، ونهب جميع ما في خزانة المشهد، ولم يرع لرسول اللّه _ صلَّى الله

عليه وآله وسلم _ ولا لذريته أدنى حرمة، وجدد بجريمته النكراء مأساة واقعة كربلاء ويوم الحرة، وجرائم بني أُمية وبني العباس .

ويتناول كوران سيز وصف تلك الواقعة بقوله:

وقد جرت العادة أن يحتفل الشيعة كل عام بعيد الغدير في يوم الغدير في

____________________________

1 . ابن غنام: تاريخ نجد: ج 2 ص 174 _ 175 .

2 . نفس المصدر: ج 2، ص 174 - 175 _ ابن بشر: عنوان المجد، ج 1، ص 105 _ 106 .

( 369 )

النجف الأشرف، فخرج أهالي كربلاء من بلدتهم، فانتهز الوهابيون فرصة غيابهم عن البلدة واقتحموها، وهم حوالي اثني عشر ألف جندي، ولم يكن في البلدة إلاّ عدد قليل من الرجال المستضعفين، قتلهم الوهابيون ولم يبقوا أحداً منهم حيّاً، ويقدر عدد الضحايا خلال يوم واحد بثلاثة آلاف، وأمّا السلب فكان فوق الوصف، ويقال إنّ مائتي بعير حملت فوق طاقاتها بالمنهوبات الثمينة، فقد استولى الوهابيون على كل الكنوز والأموال، وجردوا القبة من صفائح النحاس المطلية بالذهب(1) .

وقال «فيلبي» في تاريخ نجد: اقتحم سعود بجيش أبيه كربلاء، وبعد حصار قصير أعمل السيف في رقاب أهلها، ودمر ضريح الحسين _ عليه السَّلام _ ، ونهب المجوهرات الّتي كانت تغطي الضريح، وجمع كل شيء ذا قيمة في المدينة...

والحق أن يقال إنّ عمله هذا هزّ العالم كله، فضلا عن الشيعة، فقد كان منعطفاً تاريخياً للثورة على الوهابيين، كما أدّى فيما بعد إلى عواقب وخيمة على سلطة هذه الإمارة الضالة(2) .

ويقول العلاّمة السيد جواد العاملي مؤلف مفتاح الكرامة:

«... فأغار سعود بن عبدالعزيز في سنة 1216 ه_ على مشهد الحسين _ عليه السَّلام _ وقتل الرجال والأطفال، وأخذ الأموال، وعاث بالحضرة المقدسة، وخرب بنيانها وهدم أركانها، ثم إنّه بعد

ذلك استولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفعل بالبقيع ما فعل، ولم يستثن من ذلك إلاّ قبر النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ »(3) .

____________________________

1 . الدكتور منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية، ص 126 _ 127 .

2 . فيلبي: تاريخ نجد، ص 99 .

وهذا الكاتب، أعني فيلبي كان رجلا إنكليزياً باسم «سنت جون فيلبي» فقد أظهر الإسلام وأقام مدة مديدة في نجد، وكان له علاقة وطيدة مع السعوديين ثم توترت علاقته معهم بسبب تسجيله هذه الحوادث التاريخية المريرة الّتي أصبحت وصمة عار في جبين الأسرة السعودية إلى الأبد .

3 . العاملي، السيد جواد: مفتاح الكرامة، ج 5 ص 512 .

( 370 )

كان تدمير كربلاء أفدح هزيمة مني بها سليمان باشا والي بغداد، مما زاد في تدهور وضع الوالي .

احتلال الطائف عام 1217 ه_

قال الجبرتي: في أواخر سنة 1217 ه_ أغار الوهابيون على الحجاز، فلما قاربوا الطائف خرج إليهم الشريف غالب فهزموه، فرجع إلى الطائف وأحرقت داره وهرب إلى مكة، فحاربوا الطائف ثلاثة أيام حتّى دخلوها عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال، وهذا دأبهم في من يحاربهم، وهدموا قبة ابن عباس في الطائف(1) .

يقول زيني دحلان: فدخلوا البلد عنوة في ذي القعدة سنة 1217 ه_ فقتلوا الناس قتلا عاماً حتّى الأطفال، وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر اُمه، وكان جماعة من أهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين، فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم، وفتشوا على من توارى في البيوت وقتلوه، وقتلوا من في المساجد _ إلى أن قال _ : وصارت الأعراب تدخل كل يوم إلى الطائف وتنقل المنهوبات إلى الخارج حتّى صارت كأمثال الجبال، فأعطوا خمسها للأمير واقتسموا الباقي، ونشروا المصاحف وكتب الحديث والفقه والنحو

في الأزقة، وأخبروا أن الأموال مدفونة في المخابىء فحفروا في موضع فوجدوا فيه مالا، وعندها حفروا جميع بيوت البلد حتّى بيوت الخلاء والبالوعات .

استيلاء الوهابيين على مكة في سنة 1218 ه_

عزم الوهابيون في سنة 1217 ه_ على الاستيلاء على مكة المكرمة وإخضاعها لسيطرتهم ونفوذهم، فأعدّوا العدة وحشدوا الحشود المكثفة لذلك في أول الأشهر الحرم، فشاع خبرهم في الآفاق وبلغ مسامع الناس وهم في موسم الحج، وقد كان ممن حج في ذلك العام، إمام مسقط: سلطان بن سعيد ونقباء وأمراء حجيج مصر والشام وغيرهما، فاستنجد بهم الشريف غالب

____________________________

1 . غالب محمد أديب: أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي، ص 93 .

( 371 )

أمير مكة فأبوا عليه، ودعاهم إلى الجهاد ضد الوهابية بعد انقضاء مناسك الحج فأعرضوا عنه، وتعللوا بعلل واهية، وأكثر الإلحاح عليهم فلم يجد فيهم أُذناً صاغية، فاضطرّ إلى الجلاء عن مكة برفقة أتباعه وخزائنه وذخائره، وكثير من أهالي مكة إلى مدينة جدة، للأمن من غائلة سطوة الوهابيين .

ووصل ابن سعود بقواته مشارف مكة المكرمة يومة العاشر من المحرم، فدخلها من دون مقاومة تذكر، ففعل بها وبأهلها ما فعله جنده بأهل الطائف(1) .

وفرض ابن سعود على علمائها تلقّي أفكار ابن عبد الوهاب ومدارسة كتبه، كما منع مسلمي الآفاق من أداء الحج والعمرة، فانقطع عن أهل مكة والمدينة ما كان يصل إليهم من الصدقات، أو أسباب التجارة الّتي كانوا يتعيشون منها(2) .

وبعد استيلائهم على مكة، قدمت جموع غفيرة من نجد من الوهابيين، فتوجهت حشودهم بتخطيط مسبق إلى الأضرحة والمزارات ذات القباب الّتي شيدت لتكريم شخصيات صدر الإسلام فهدموها، وكذا فعلوا بدار مولد النبيّ وقبّة السيدة خديجة وقبة زمزم(3)، فما مضت عليهم إلاّ ثلاثة أيام حتّى محوا

جميع آثار صدر الإسلام ومعالمه، وآثار الصالحين، فأزالوها عن بكرة أبيها(4) .

طرد الوهابيين من مكة المكرمة

كانت الوهابية مسيطرة على الحرم الشريف على نحو ما مرّ ذكره، فدفعت جرائمهم الّتي ارتكبوها بمكة الشريف غالب إلى تصميمه على تجديد العهد بها لتطهيرها من دنس الوهابيين، فسار برفقة الشريف باشا حاكم جدة

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 64 _ تاريخ الجبرتي، ص 93 .

2 . أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي، ص 93 .

3 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 1 ص 122 .

4 . تاريخ الجبرتي، ص 118 بتصرف .

( 372 )

وكثير من العسكر والعبيد، وتمكنوا من اقتحام متاريس الوهابيين المحيطة بها، فدخلوها وأحكموا السيطرة عليها، بعد أن طردوا منها كل ما تبقى من شراذم الوهابيين.

ثم أخذ الشريف غالب يحارب كل من كان يوالي الوهابيين ممن جاور مكة من القبائل بالغارة عليهم، حتّى تمكن من استئصالهم والقضاء على تبعيتهم وعمالتهم لهم.

هذا غيض من فيض من جرائم عبدالعزيز بن محمّد آل سعود، وهذه كلها حروب وفتن، وتدمير وتخريب وضحايا، ونهب وسلب وهتك للمقدسات الدينية، وغارات متصلة ليل نهار على المسلمين الآمنين .

وظلّ على هذه السيرة إلى عام 1218 ه_ حتّى اغتاله رجل. قال جبران شامية الكاتب الوهابي: وانتقم الشيعة من غزوة كربلاء بعد سنتين باغتيال الإمام عبد العزيز وهو يصلّي في المسجد عام 1218 ه_ وقال فيلبي: لقد تنكّر القاتل بزي «درويش» وذهب إلى «الدرعية» وبقي فيها أياماً يصلّي خلف عبد العزيز، وفي ذات يوم ألقى بنفسه على عبد العزيز وهو يصلّي، وطعنه بمدية في ظهره اخترقت به إلى بطنه، وعجلت به إلى مقره الأخير، وتكاثر الناس على القاتل وقتلوه(1) .

وقال ابن بشر: كان مقتل

أمير الدرعية عبدالعزيز ضربة جديدة للوهابيين، ففي خريف عام 1803 م قتل في مسجد الطريف بالعاصمة على يد درويش غير معروف يدعى عثمان، وهو كردي من إحدى قرى الموصل، وكان هذا الدرويش قد حلّ ضيفاً على البلاط، وعندما سجد عبدالعزيز أثناء الصلاة هجم هذا الدرويش الّذي كان في الصف الثالث على الأمير وقتله بطعنة من خنجر، ثم جرح أخاه عبداللّه، وتفيد بعض المعلومات أن قاتل عبد العزيز شيعي هلك كل أفراد عائلته اثناء غزو كربلاء(2) .

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 64 .

2 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 54 .

( 373 )

وبذلك طويت صفحات حياته السوداء، وقد اقتصرنا في التعرض لتاريخ حياته على ما هو الجدير بالذكر منها، وإلاّ فقد قال أحمد بن زيني دحلان: إنّ الشريف غالباً (أمير مكة) غزا الوهابيين ما ينوف عن خمسين غزوة، من سنة 1205 ه_ إلى سنة 1220 ه_ وكانت أكثر هذه الحروب أيام سلطة عبد العزيز آل سعود، ومن اراد التفصيل فليرجع إلى كتاب «خلاصة الكلام في أُمراء البلد الحرام» وكتاب «كشف الارتياب» للسيد الأمين، وقد ذكر الأخير نبذاً من هذه الحروب .

* * *

3- سعود بن عبدالعزيز (1218 _ 1229 ه_)

استولى سعود على السلطة في الإمارة القبلية السعودية بعد وفاة والده، وكان أول عمل قام به غزو بلدتي الزبير والبصرة، وأعمل فيهما القتل والسلب وهدم قبري طلحة والزبير، وتوسعت رقعة النفوذ السعودي في عهده إلى أوجها، فقد كثف الغزوات والغارات بقصد الاحتلال والسلب والنهب، بشكل رهيب لم يكن له سابقاً في تاريخ دويلتهم، وقد تمخّض عن تلك الأغراض التوسعية ضم جميع نواحي نجد والأحساء وسواحل البحر الأحمر إلى نفوذهم، واستمر حكمه أحد عشر

عاماً(1) .

وإليك بعض حروبه وغاراته على جدة، والحرمين الشريفين على وجه الاختصار:

محاصرة الوهابيين جدة 1219 ه_

ثم دخلت سنة 1219 ه_ فاقبلت جيوش الوهابيين وعلى رأسها ابن شكبان والمضايفي باثني عشر ألف مقاتل لحصار جدة، فأراد الشريف غالب تحصين مكة لعلمه بعدم قدرتهم على جدة، فنادى بالنفير العام، فخرج الناس على طبقاتهم إلى «الزاهر» حاملين السلاح، وبقوا هناك سبع ليال .

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ص 62 _ 63 بتصرف .

( 374 )

أمّا الذين حاصروا جدة فبقوا ثلاثة أيام يحملون عليها حملة واحدة، فيفرقهم المدفع ويقتل منهم فينهزمون إلى خيامهم، حتّى قتل الكثيرون منهم وامتلأت الحفر والقنوات من جيفهم، وكانوا يدفنون العشرة في محل واحد، فلما رأوا ذلك ارتحلوا، وقتلوا في طريقهم حيّاً من الأعراب، وأخذوا إبلا للشريف غالب، فجهز الشريف جيشاً بقيادة الشريف حسين للانتقام منهم، فهجموا عليهم في منطقة تسمى «الليث» فغلبوهم، وقتل كثير من الوهابيين في تلك الملحمة، واستهشد الشريف حسين، فعاود الشريف غالب إرسال الجند والكتائب عليهم حتّى يترصدوا لهم كل موضع، فهزموهم هزائم ساحقة، واقتطعوا الكثير من رؤوسهم، وعلقت على أبواب مكة للعبرة(1) .

محاصرة مكة والمدينة سنة 1220 ه_ ثانياً

يقول زيني دحلان:

ودخلوا مكة في أواخر ذي القعدة سنة 1220 ه_ وتملكوا المدينة المنورة، على ساكنها أفضل السلام، وانتهبوا الحجرة (النبوية) وأخذوا ما فيها من الأموال، وفعلوا أفعالا شنيعة، وجعلوا على المدينة أميراً منهم يدعى «مبارك مزيان» واستمر حكمهم سبع سنين ومنعوا دخول الحاج الشامي والمصري مع المحامل مكة، وصاروا يصنعون للكعبة ثوباً من العباء، وأكرهوا الناس على الدخول في دينهم، وهدموا القباب الّتي على قبور الأولياء، وكانت الدولة العثمانية في تلك السنة في ارتباك كثير وشدّة قتال مع

النصارى، وفي اختلاف في خلع السلاطين وقتلهم(2) .

وقال الكاتب جبران شامية: إنّ سعود بن عبد العزيز حاصر المدينة المنورة وفعل بها ما فعله بالطائف ومكة(3) .

وقال السيد جواد العاملي: في سنة 1221 ه_ في الليلة التاسعة من شهر

____________________________

1 . الأمين _ السيد محسن: كشف الارتياب، ص 25 _ 26 .

2 . زيني دحلان: فتنة الوهابية ص 72، تاريخ الجبرتي ص 116 _ 118 .

3 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 65 نقلا عن خطط الشام .

( 375 )

صفر قبل الصبح بساعة، هجم علينا بالنجف الأشرف ونحن في غفلة، حتّى بعض أصحابه صعدوا السور وكادوا يأخذون البلد، فظهرت لأميرالمؤمنين الكرامات الباهرة، فقتل من جيشه الكثير، ورجع خائباً، وله الحمد على كل حال(1) .

وقال أيضاً: جاء سعود بن عبدالعزيز عام 1223 ه_ في شهر جمادى الآخرة من نجد بما يقرب من عشرين ألف مقاتل، أو أزيد، فجاءتنا النذر بأنّه يريد أن يدهمنا في النجف الأشرف غفلة، فتحذرنا منه، وخرجنا جميعاً إلى سور البلد، فأتانا ليلا فرآنا على حذر قد أحطنا بالسور بالبنادق والأطواب، فمضى إلى الحلة فرآهم كذلك، ثم مضى إلى مشهد الحسين على حين غفلة نهاراً، فحاصرهم حصاراً شديداً فثبتوا له خلف السور، وقتل منهم وقتلوا منه، ورجع خائباً، ثم عاث في العراق فقتل من قتل، وبقينا مدة تاركين البحث والنظر على خوف ووجل، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم، وقد استولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتعطل الحج سنين وما ندري ما يكون(2) .

ويظهر من غير واحد من المؤرخين أنّ الحج انقطع من العراق أربع سنين، ومن الشام ثلاث سنين، ومن مصر سنتين، ولا يعلم هل انقطع بعد ذلك أو لا.

غزو

الوهابيين لبلاد الشام

وقد غزا سعود منطقتي عسير وتهامة، ثم انسحب منهما وغزا كربلاء مرة ثانية عام 1223 ه_ ، فاستعصت عليه لأنّ أهلها حصنوها بعد الغزوة الأُولى، ثم هاجم البصرة والزبير وغنم بعض الأموال(3) .

وفي هذه السنة هجم ولد عبداللّه بن سعود على بلاد حوران فنهب

____________________________

1 . العاملي _ السيد جواد: مفتاح الكرامة، ج 5 ص 512 .

2 . نفس المصدر ج 6 ص 435 .

3 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ص 65 .

( 376 )

الأموال، وأحرق الغلال، وقتل الأنفس البريئة، وسبى النساء وقتل الأطفال، وهدم المنازل وعاث في الأرض فساداً(1) .

ويقول صلاح الدين المختار، وهو من المعجبين بآل سعود:

في السادس من ربيع الثاني عام 1225 ه_ (1809 م) سار الأمير سعود بثمانية آلاف مقاتل إلى الديار الشامية، وقد بلغه أن عشائر سوريا من عنزة وبني صخر وغيرهما قد نزلوا في نقرة الشام، فلما وصلها لم يجد فيها أحداً، فتوجه بقواته إلى «حوران» وهاجم القرى والدساكر وبصرى، واستولى على ما عثر عليه من مال ومتاع وطعام، وكان أهلها قد هربوا إلى مختلف النواحي عند ما سمعوا بقدومه، ثم هاجم الأمير قصر المزريب فاستعصى عليه، وارتحل إلى بصرى ليلا ومنها قفل عائداً إلى بلده ومعه غنائم كثيرة.

وقال السيد جواد العاملي: وفي سنة 1225 ه_ قد أحاطت الأعراب من عنيزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الأشرف ومشهد الحسين _ عليه السَّلام _ وقد قطعوا الطرق ونهبوا زوار الحسين _ عليه السَّلام _ بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان، وقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وأكثر القتلى من العجم، وربما قيل إنّهم مائة وخمسون، وقيل اقل، وبقي جملة من زوّار العرب في الحلّة ما قدروا أن يأتوا إلى النجف،

فبعضهم صام في الحلّة، وبعضهم مضى إلى الحسكة، ونحن الآن كأنّا في حصار، والأعراب إلى الآن ما انصرفوا وهم من الكوفة إلى مشهد الحسين بفرسخين أو أكثر(2) .

وقد بلغ تعصب الوهابيين إلى حدّ حملهم على قطع العلاقات التجارية مع غيرهم، وكانت التجارة إلى عام 1269 ه_ مع الشام والعراق محرمة(3) .

وكانوا إذا وجدوا تاجراً في طريق يحمل متاعاً إلى المشركين صادروا ماله(4) .

____________________________

1 . الشهابي: لمع الشهاب، ص 201 .

2 . مفتاح الكرامة .

3 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 105 .

4 . ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، ج 1، ص 122 .

( 377 )

وفي سنة 1226 ه_ أرسل محمد علي باشا، والي مصر ولده طوسون لتحرير الحجاز من الوهابيين، فصدوه في الكرّة الأُولى، وتغلّب عليهم في الثانية، واستولى على مكة والمدينة، وحاول أن يفتح نجداً، فلم يستطع.

يقول ابن بشر:

«وصلت النجدات المصرية عام 1227 ه_ فزحف طوسون على المدينة، وانضم إليه كثير من عرب جهينة وحرب، فحاصرها وقطع عنها المياه، وكان فيها سبعة آلاف من أهل نجد، فدخل المصريون البلد، وقتل من النجديين نحو أربعة آلاف(1) .

ثم تابع طوسون حتّى دخل مكة والطائف بمساعدة الشريف غالب من دون قتال عام 1229 ه_ (1883 م) .

وفي سنة 1228 ه_ حج محمد علي باشا وعزل الشريف غالباً وأرسله منفياً إلى سلانيك، وعيّن مكانه الشريف محمّد بن عون، فانتقلت الإمارة من فرع إلى آخر من أُسرة الأشراف، ومحمد بن عون هو جدّ الشريف حسين أبي فيصل ملك العراق وعبد اللّه ملك الأردن.

يقول العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية:

إنّ سعود بن عبدالعزيز أقام هيئة باسم الآمرين بالمعروف ومهمتها التجول في الأسواق أوقات الصلاة، تخضّ الناس على أدائها، وما

زالت هذه الطريقة متبعة إلى اليوم عند السعوديين، واصبحت تحمل العصا وتجول في الأسواق والشوارع تنهال ضرباً بها على حليق الذقن و من يلمس قبر الرسول، أو قبر إمام من أئمة البقيع، وغير ذلك مما يخالف العقيدة الوهابية، بل كانوا إلى الأمس القريب يضربون المدخنين علناً وإن كانوا غرباء عن الديار(2) .

وقد هلك سعود في الدرعية عام 1229 ه_ وهو في الثامنة والستين من

____________________________

1 . ابن بشر، عثمان: عنوان المجد، ص 160 .

2 . مغنية، محمد جواد: هذه هي الوهابية، ص 127 .

( 378 )

عمره، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة أي من سنة 1218 ه_ إلى سنة 1229 ه_ وبذلك طويت صحيفة عمره السوداء وكانت حياته كلها مليئة بالحرب والدمار .

* * *

4- عبداللّه بن سعود (1229 ه_ _ 1234)

وتولى بعد سعود ابنه عبداللّه، ونازعه عمه عبداللّه بن محمد، وانقسمت الأُسرة على نفسها، وفي هذه السنة ارسل الباشا عساكر كثيرة إلى ناحية القنفذة برّاً وبحراً، فاستولوا عليها وهرب من كان فيها من الوهابيين، وفي أول سنة 1230 ه_ عاد إلى الطائف، ووقعت بينه وبين الوهابيين حروب كان النصر له فيها عليهم، واستولى عر تبة وبيشة ورينة، وقتل الكثير من الوهابيين، فاستسلم أهلها، ومنها استولى على تربة، وقضى فيها على آخر مقاومة وهابية، ثم عاد إلى مكة ومنها إلى القاهرة(1) .

بقي طوسون في الحجاز بعد حملته إلى نجد .

تدمير الدرعية

وفي أوائل سنة 1234 ه_ أرسل محمد علي باشا ولده إبراهيم باشا إلى الحجاز، لإكمال محاربة الوهابيّين والاستيلاء على «الدرعية»، فتوجه بعساكر وأموال وذخائر كثيرة حتّى دخل مكة، ثم خرج منها بالعساكر قاصداً «الدرعية»، وجعل يملك كل أرض وصلها بلا معارضة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم

وغنم خياماً ومدفعين(2) .

وفي سنة 1233 ه_ ملك بلداً من بلاد الوهابيين وقبض على أميره، ثم استولى على الشقراء، وكان بها عبداللّه بن سعود، فخرج هارباً إلى «الدرعية» ليلا، وبينها وبين الشقراء يومان، ثم استولى إبراهيم باشا على بلد كبير من

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 68 .

2 . الأمين، السيد محسن: كشف الإرتياب، ص 45 .

( 379 )

بلادهم ولم يبق بينه وبين «الدرعية»، إلاّ ثمان عشرة ساعة، ثم زحف على «الدرعية»، فملك جانباً منها، وحاصر الوهابيين وأحاط بهم(1) .

وقال جبران شامية: استمر الحصار خمسة أشهر، فكانت تتوإلى على إبراهيم باشا النجدات والذخيرة من مصر، والأرزاق والمواشي من البصرة والمدينة، وبقيت قبائل البدو التي انضمن إليه تناصره مادامت عطاياه مستمرة، وفي نهاية الشهر الخامس من الحصار، أي في سنة 1234 ه_ ، استسلم عبداللّه بن سعود لإبراهيم باشا فأرسله أسيراً للقاهرة ثم للآستانة، حيث طوفوه في الأسواق ثم أعدموه، وقتل في «الدرعية»، عدد كبير من آل سعود وآل الشيخ، ونفي قسم منهم إلى مصر، وبذلك انتهت الدولة السعودية الأُولى(2) .

ثم اقام إبراهيم باشا في «الدرعية» سبعة أشهر، ثم أمر بتدميرها فاصبحت أثراً بعد عين(3). وانتهت ستة أشهر من المعارك الطاحنة، وفقد السعوديون أثناء تلك المعارك زهاء عشرين من اقرباء الإمام بمن فيهم ثلاثة من إخوانه، وكتب إبراهيم باشا إلى القاهرة والآستانة بأنّ الوهابيين خسروا 14 ألف من القتلى، و 6 آلا من الأسرى، ومن بين الغنائم 60 مدفعاً(4) .

بسبب هزيمة الوهابيين جرت في القاهرة احتفالات بهية، أطلقت فيها نيران المدافع، وأجريت الألعاب النارية، وكان الناس يسرحون ويمرحون، وأعرب شاه إيران (فتح علي شاه) في رسالة إلى محمد علي باشا عن تقديره لدحر

الوهابيين(5) .

وقال العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في هذا المجال:

____________________________

1 . المصدر السابق .

2 . جبران شامية: آل سعود، ماضيهم ومستقبلهم ص 69 .

3 . المصدر السابق .

4 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 131 _ نقلا عن ارشيف السياسة الخارجية لروسيا .

5 . الجبرتي، طبع مصر، ص 636 .

( 380 )

«وطغى إبراهيم باشا وبقي في البلاد، وأكثر فيها الفساد، وصادر أموال آل سعود وآل محمد بن عبدالوهاب، وأجلى الكثير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم من الديار، ونفى الكثير منهم إلى مصر، وكان هذا جزاء وفاقاً لما فعلوه من قبل بأُمّة محمد _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من المظالم والمآثم، وما ارتكبوه من الخيانة للّه وكتابه، وللنبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وسنّته: وهكذا كل ظالم لا بد أن يبتلى بأظلم وأغشم(1) .

* * *

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الأَبصارِ)(2) .

____________________________

1 . الشيخ محمد جواد مغنية: هذه هي الوهابية، ص 129 .

2 . سورة الحشر: الآية 2 .

( 381 )

الفترة الثانية للإمارة القبلية السعودية

قد هرب كثير من كبار الوهابيين عندما ملك إبراهيم باشا «الدرعية»، فلما ارتحل عنها رجعوا إليها، منهم عمر بن عبدالعزيز وتركي ابن أخي عبدالعزيز، ومشاري بن سعود، فعمروا «الدرعية» ورجع أكثر أهلها، فجهّز محمد علي باشا عسكراً بإمرة حسين بك، فقبضوا على مشاري الّذي كان قد انتخب رئيساً ل_ «الدرعية» وأرسلوه إلى مصر فمات في الطريق، وتحصّن الباقون في قلعة الرياض، بينها وبين «الدرعية» أربع ساعات، فحصارهم حسين بك ثلاثاً فطلبوا الأمان فآمنهم فخرجوا (إلاّ تركيّاً فهرب من القلعة ليلا) فقيدهم وأرسلهم إلى مصر.

5- تركي ابن أخي عبدالعزيز (1239 _ 1250 ه_)

عاش تركي ابن أخي عبدالعزيز مختفياً طوال عدة سنوات في

المناطق الجنوبية، وكان يتجول في صحراء نجد داعياً العربان إلى إحياء مجد الأسلاف، وتزوج أثناء تجواله بامرأة من آل تامر، ولدت له ذكراً أسماه جلوي، فتجمع حول تركي ثلاثون رجلا ثم انضمت إليه بعض القبائل، وفي تلك الأثناء بدأت في القسيم انتفاضة ضد المصريين إلى حدٍّ ألجأهم إلى الجلاء إلى الحجاز، وتركوا حاميتين في الرياض ومنفوخة(1) .

____________________________

1 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 2، ص 12 .

( 382 )

وانتهز تركي فرصة ضعف المواقع المصرية في نجد في عامي 1239 و 1240 ه_ فوسّع نفوذه في المنطقة المحيطة بالرياض ومنفوخة، وعزل الحاميتين المصريتين، وبعد عدة شهور سقطت الرياض بيد تركي، وتمّ جلاء المصريين عن نجد، وأعلنت بعض مناطق القصيم عن اعترافها بحكم تركي، فتركي إذاً هو الأمير السعودي الوهابي الأول من الفرع الثاني لمحمد بن سعود، وبه انتقلت الإمارة من سلالة عبدالعزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبداللّه بن محمد بن سعود، وما زالت فيها إلى اليوم(1) .

ولكنه نشب خلاف في العائلة السعودية، فتمرد مشاري بن عبدالرَّحْمن بن مشاري بن سعود مع بعض أفخاذ قبيلة قحطان على الأمير، فكبر على نسل عبد العزيز أن تخرج الإمارة منهم، فدبّر مشاري أمر اغتيال تركي، وتم له ذلك، ونادى مشاري بنفسه أميراً .

6- مشاري بن عبدالرحمن (1250 ه_)

قال جبران شامية: انتهت ولاية الإمام الخامس تركي بن عبد اللّه اغتيالا على يد ابن عمّه مشاري بن عبد الرحمان، الّذي استولى على السلطة وأصبح الإمام السادس، ودام حكم مشاري أربعين يوماً، إذ زحف فيصل بن تركي من الهفوف إلى الرياض بمساعدة عبداللّه، وعبيداللّه، من آل الرشيد شيوخ حائل، واستولى على المدينة وأعدم مشاري، وأصبح فيصل الإمام السابع في العائلة

السعودية.

7- فيصل بن تركي (1250 _ 1253 ه_)

تولى فيصل بن تركي الحكم بعد أبيه وهو في حوالي الأرِبعين من العمر، في أوج نضوج قابلياته الجسمانية والروحانية، وأصبح يتقبل البيعة من أهالي العاصمة، ولكن محمد علي باشا لم يمهله طويلا، فأرسل حملة كبرى إلى نجد ومعها خالد بن سعود، الّذي كان مع السعوديين المنفيين بمصر، فدخل جيش

____________________________

1 . ابن بشر: عنوان المجد، ج 2 ص 26 _ 30 .

( 383 )

محمد علي باشا واستولى على العاصمة بلا مقاومة، بعد أن فرّ منها فيصل، ثم أسر ونفي إلى مصر، وأقام المصريون فيها خالد بن سعود حاكماً مكان فيصل، وكان ذلك سنة 1253 ه_ .

وكانت الحجاز لم تزل بيد محمد علي، وكان من أعوانه خالد أصغر أبناء سعود الكبير، وأخو الإمام عبد اللّه الّذي استسلم لإبراهيم باشا في الحملة المصرية الأُولى وأُعدم في استنبول .

8- خالد بن سعود (1253 _ 1255 ه_)

نشأ خالد بن سعود في القاهرة في كنف محمد علي، الّذي أعدّه ليتولى الحكم في الجزيرة العربية نيابة عنه، وكان لخالد أنصاره الذين لم يرضوا عن انتقال الإمامة عن أولاد سعود الكبير إلى أولاد عبد اللّه بن محمد(1) .

وجد فيصل أنّ أهل الرياض وقبائل كثيرة مالت إلى الأمير خالد، لأنّه كان يمثّل نزعة دينية بحكم تثقفه في القاهرة، وذلك ممّا دعا فيصل إلى ترك الرياض، ودخل الأمير خالد الرياض سنة 1253 ه_ .

فأعاد الحكومة إلى فرع سعود الكبير، وأصبح الأمير الثامن، فاستمر خالد في الإمارة سنتين .

9- عبد اللّه بن ثنيان (1255 _ 1258 ه_)

ثم ثار عليه عبد اللّه بن ثنيان مع النجديين، فأرادوا الفتك به فهرب إلى مكة، ثم مات(2) .

ولمّا بلغ ذلك فيصلا وهو محبوس

بمصر، استطاع أن يهرب ليلا من القلعة ومن معه، حتّى وصلوا جبل شمر مقر عمارة ابن الرشيد، فأكرمهم وتوجهوا إلى القصيم فانضاف إليهم كثير منهم.

إلى أن استطاع بعون أهالي عنيزة أن يقاتل ابن ثنيان في الرياض ،

____________________________

1 . أبو علية، عبد الفتاح: الدولة السعودية الثانية، ص 41 .

2 . الأمين، السيد محسن: كشف الارتياب ص 47 _ نقلا عن خلاصة الكلام لزيني دحلان .

( 384 )

فقبضوه وحصروا عليه، ثم قتل في الحبس خنقاً في سنة 1258 ه_ .

10- فيصل بن تركي (1258 _ 1278 ه_)

صار بعد ذلك فيصل سيداً في دياره لمدة تقرب من عشرين عاماً، وفي سنة 1262 ه_ صدر الأمر من الدولة العثمانية بتجهيز العساكر لمحاربة فيصل بن تركي أمير الرياض، لأنّه استفحل أمره ويخشى أن يقع منه ما وقع من أسلافه، وأن يكون ذلك برأي الشريف محمد بن عون أمير مكة المكرمة، فتوجه الشريف مع العساكر من المدينة حتّى وصل جبل شمر، فسار معه أميره ابن الرشيد بكثير من القبائل، ولما وصلوا القصيم أطاعهم أهله، فخاف فيصل فأرسل لأهل القصيم أن يتوسط في الصلح على تأدية عشرة آلاف ريال في كل سنة، فتم الصلح، ورجع الشريف بالعساكر، واستمرّ فيصل يدفع ذلك حتّى مات سنة (1282 ه_)(1) .

ولكنه بعد ما أُصيب بالشلل وقد البصر، سلّم الأُمور لابنه عبداللّه، وبعدما مات نشبت حرب أهلية بين أولاده الأربعة، وهم عبداللّه وسعود ومحمد وعبدالرَّحمن، وعمّت الفوضى البلاد.

11- عبداللّه بن فيصل التركي (1278 ه_ _ 1284 ه_)

كان فيصل قد بايع ولده الأكبر عبداللّه بولاية العهد مطابقاً للتقاليد المتّبعة في البيت السعودي، ولكن نشبت الحروب الأهلية بين أولاده الأربعة وهم: عبداللّه وسعود ومحمد وعبدالرحمن، وعمّت الفوضى في البلاد،

وقد نازع سعود أخاه عبداللّه وثار عليه، واستمرت الحروب الأهلية بين الطرفين، ونشبت الفتن والقلاقل واستمرت 25 عاماً، ممّا أدى إلى ضعف الإمارة وذهاب سلطانها، وانتفاضة حكام المقاطعات عليها، واستقلال كلّ بدويلته واحتل الأتراك الأحساء والقطيف(2) واستمرّ الصراع داخل أُسرة آل سعود، وظهر عبداللّه في الأراضي المحتلة من قبل الأتراك، وطرد سعود من الرياض موقتاً،

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود، ماضيهم ومستقبلهم، ص 78 .

2 . وهبة _ حافظ: خمسون عاماً في جزيرة العرب، ص 24 .

( 385 )

ففي سنة 1283 ه_ عاد عبداللّه من جديد إلى الرياض إلاّ أنّ الوضع في الإمارة كان ميؤوساً منه فالمجاعة مستمرة، وكان الناس يأكلون جيف الحمير ويحرقون جلود الماعز ويدقونها، بل كانوا يدقون العظام ويأكلون مسحوقها، ومع هذا فمن لم يمت بالسيف مات جوعاً(1) .

12- سعود بن فيصل تركي (1284 ه_ _ 1291 ه_)

وفي العام القادم 1284 ه_ عاد سعود مجدداً إلى الرياض، واستمرت المعارك سجالا بين الأخوين واقترنت كالعادة بالنهب والقتل، ولكن عبداللّه بن فيصل كان يعتمد على الأتراك، بينما يعتمد سعود على الإنجليز، حتّى أنّهم أرسلوا أغذية له، وبعد طائفة من الأحداث استتب الأمر إلى سعود، ودخل الرياض في محرم 1290 ه_ و توفي بعده بعام 1291 ه_ وأمّا عبدالله فقد تنازل عن الحكم وترك الرياض هو وأخوه محمد، ورحل إلى مقربة من الكويت واستقرّ في بادية قحطان، ثم تركها بعد أن رفضوا الخوض في معركة جديدة يكونون حطبها بلا فائدة، ولما توفي سعود أخذ الحكم مكانه أخوه عبد الرَّحمن الّذي كان يميل إلى سعود بعكس محمد، فحكم لمدة عامين، ثم تلاها حرب بينه وبين أخيه محمد الّذي كان يكبره سناً، فوقعت معركة بينهما في ثرمدا

في غرب الرياض، وعاد الأمر من جديد للتوتر، حتّى وافق الاثنان على أن يتولى الحكم أخوهم الكبير عبداللّه، فعاد هذا الأخير من البادية واستلم الحكم عام 1293 ه_ حتّى عام 1305 ه_ ولم يقبل أبناء سعود أن يتولى عمّهم الكبير عبداللّه، فغادروا الرياض احتجاجاً على ذلك، واستقروا في «الخرج». وعندئذ توجه عبد الرحمن خوفاً من أبناء أخيه إلى عبداللّه، فقرر الإخوة الثلاثة (عبداللّه _ محمد - عبدالرحمن) تشكيل جبهة واحدة بزعامة عبداللّه ضد أولاد سعود الذين تمكنوا من السيطرة على الرياض بضعة أسابيع، ثم فرّ أولاده ودخل عبداللّه الرياض من جديد، وبقي فيها إلى أن مات عام 1305 ه_ .

____________________________

1 . الريحاني _ أمين: تاريخ نجد الحديث، ص 99 .

( 386 )

13- عبدالرحمن بن فيصل

ولما توفي عبداللّه أخذ أخوه عبدالرحمن الأمر بيده، وأعلن نفسه أميراً خلفاً لأخيه عبداللّه، ولم يطل الوقت حتّى اختلف عبدالرحمن مع أولاد سعود، ومن جانب آخر جنحت قبائل نجد لمحمد بن الرشيد مع أنّه لم يكن وهابياً بل كان حليفاً للخليفة العثماني، الّذي يتبع المذهب الحنفي ويستمد منه المال والسلاح(1) .

ولما رأى عبدالرحمن قوة ابن الرشيد شعر أنّه بين أمرين: إمّا أن يحارب ابن الرشيد وإمّا أن يخضع له كموظف عنده، ولا طاقة له على الأُولى ولا تطيقه نفسه على الثانية، فلم يبق أمامه إلاّ الرحيل، فرحل عن نجد بأهله سنة 1309 ه_ وظل منتقلا في الأمصار، فذهب أولا إلى الأحساء، ثمّ إلى الكويت، ثمّ إلى قبائل بني مرة قرب الربع الخالي، ثم إلى قطر ومنها عاد إلى الكويت، واستقرّ فيها مع عائلته وأولاده; وكان عمر ولده عبدالعزيز عشر سنوات، وعين له أمير الكويت الشيخ محمد بن الصباح مرتباً إلى أن

خصصت له الدولة العثمانية ستين ليرة عثمانية في الشهر(2) .

فقطع ابن الصباح عنه المرتب، وعاش هو وأفراد عائلته في شدة وضيق(3) وبذلك انتهت الدولة السعودية الثانية .

يقول بعض المؤرخين: «إنّ الوهابية فقدت صيتها وبريقها لما توسّعت فوق طاقتها فانهزمت، وهكذا خسروا الأرض والحركة الوهابية».

لم يكرم الشيخ مبارك الصباح ضيافة آل سعود في الكويت، فسكنوا ثلاث غرف من طين في أحد أزقة الكويت، ومع ذلك كان آل سعود خلال إقامتهم في الكويت مدة سبعة أو ثمانية أعوام متعاونين مع الشيخ مبارك حسبما تمليه مصالحهم، لقد كانت مجالس الشيخ مبارك بالنسبة إلى الشاب عبدالعزيز

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 81 _ 82 .

2 . الريحاني: تاريخ نجد الحديث، ص 91 .

3 . مغنية _ محمد جواد: هذه هي الوهابية، ص 132 _ 133 .

( 387 )

مدرسة تلقى مما يدور فيها من الأحداث، ولعلّ أهم درس وعاه هو الحذر عند التعامل مع القوى الدولية، والنظر بعين الاعتبار لمركز بريطانيا المتفوق(1) .

____________________________

1 . السعدون _ خالد: العلاقات بين نجد والكويت، ص 67 .

الفترة الثالثة للإمارة القبلية السعودية

الفترة الثالثة للإمارة القبلية السعودية

ذات يوم جاء الفتى عبدالعزيز إلى الشيخ مبارك وقال له: أريد أن أنقذ نجداً من ابن الرشيد فهل تساعدني بالمال والعتاد؟ فأعطاه الشيخ مائتي ريال وثلاثين بندقية وأربعين جملا وبعض الزاد، فأخذها ومضى هو وأرحامه وأصحابه، ورافق عبدالعزيز أخوه محمد وابن عمه عبداللّه بن جلوي وبعض أتباعهم وعددهم نحو أربعين رجلا(1) .

سارت الجماعة متخفّية حتّى وصلت ضواحي الرياض وغافلت حراسها، وذلك في 3 شوّال سنة 1319 ه_ ، ودخلت المدينة خلسة، وقتلت قائد الحامية الشمري عبدالرَّحْمن بن ضبعان، فاستسلم رجاله وخضعت الواحة لآل سعود، فأرسل عبدالعزيز ناصر بن سعود

إلى الشيخ مبارك مبشراً وطالباً المدد، ثم بنى سوراً حول الرياض، ثم دامت مساعدات شيخ الكويت واستتبّ له الأمر.

14- عبدالعزيز بن عبدالرحمن (1319 _ 1373 ه_)

وبعد هذا صار عبدالعزيز حاكماً للرياض وهو في الثانية والعشرين، وظل أبوه مستشاراً رئيسياً له وإماماً للمسلمين(2).

____________________________

1 . السعدون خالد: العلاقات بين نجد والكويت، ص 68 .

2 . المصدر السابق .

( 389 )

اتصلت الدولة العثمانية بعبد العزيز بن سعود بواسطة الشيخ مبارك ودعته لإرسال والده عبدالرّحْمن لمفاوضة والي البصرة، ولبّى عبدالرّحمن الدعوة ووصل إلى الكويت ومنها إلى الزبير برفقة الشيخ مبارك، حيث عقدت الجلسة الأُولى من المباحثات عام 1322 ه_ وتوصل الفريقان إلى اتفاق تضمن إقرار العثمانيين بسيطرة عبدالعزيز على مناطقه بوصف أنّه موظف عثماني برتبة قائم مقام، وتعهّد العثمانيون بمنع آل الرشيد عن التدخل في شؤون إمارة آل سعود(1) .

عبدالعزيز يتحالف مع الإنكليز

انتهز عبدالعزيز الفرصة فاجتمع لأول مرة في سنة 1328 ه_ برسمي بريطاني هو المعتمد في الكويت، أعني «ويليم شكسبير» ونشأت بينهما مودة وتقدير متبادل، واجتمعا ثانية سنة 1330 ه_ ، وكذلك في ربيع الأول 1331 ه_ وشرح عبدالعزيز لمندوب بريطانيا بأنّ الوقت مناسب لتخليص نجد والأحساء نهائياً من السيطرة العثمانية .

تمكّن شكسبير من إجراء مباحثات سياسية مع عبدالعزيز، فوضع مسودة معاهدة التزم الإنكليز بموجبها بضمان مواقع أمير الرياض في نجد والأحساء، وحمايته من الهجمات العثمانية المحتملة من جهة البحر والبر إذا التزم بمساعدة الحلفاء، وتخلى الإنكليز عن سياستهم القديمة، والتزموا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لشبه الجزيرة العربية، والتزم عبدالعزيز بعدم إقامة علاقات مع البلدان الأُخرى بدون مشاورة تمهيدية مع السلطات البريطانية، وتبين الدراسة التي أجراها «تلولير» لوثائق الأرشيفات الإنكليزية، أن عبدالعزيز كان يدرك بدقة مضامين السياسة

البريطانية في الجزيرة العربية(2) .

وجاء في المعاهدة أنّ ابن سعود يتعهّد أن يمتنع عن كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أية حكومة أو دولة أجنبية، وأنّ أمير نجد لا يمكن أن يتنازل عن

____________________________

1 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 215 .

2 . الأمين، السيد محسن: كشف الارتياب، ص 48 .

( 390 )

الأراضي أو جزء منها، ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأىّ شكل، ولا أن يقدمها على سبيل الامتياز إلى أيّة دولة أجنبية، أو إلى أحد من رعايا دولة أجنبية بدون موافقة الحكومة البريطانية.

وجاء في المادة السادسة أنّ ابن سعود يتعهّد كما تعهّد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز وتدخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ (قطر) وعمّان وسواحلها، وكل المشايخ الموجودين تحت حماية الإنكليز، والذين لهم معاهدات معها، ولم يرد في المعاهدة شيء عن الحدود الغربية لنجد، وهكذا فرضت هذه المعاهدة، الحماية البريطانية على نجد وتوابعها، وصارت هذه المعاهدة جزءاً من شبكة النفوذ البريطاني الّتي أرادت لندن فرضه على القسم الأكبر من الشرق الأوسط، وعلى أيّة حال على الجزيرة العربية كلّها بعد الحرب العالمية الأولى .

ثم استلمت نجد من عام 1344 ه_، مقابل توقيع المعاهدة مؤونة شهرية بمبلغ 5 آلاف جنيه استرليني مع إرساليات معينة من الرشاشات والبنادق(1) .

وكما كان ابن الرشيد حليفاً مخلصاً للأتراك، فقد كان عبدالعزيز حليفاً دائماً وصديقاً وفيّاً للإنكليز، فكان يذكرها ويشكرها في خطبه وغيرها، وهذا مثال من أقواله «بحق الانكليز» جاء في خطبة ألقاها بمكة المكرمة عام 1362 ه_ .

«ولا يفوتني في هذا الموقف أن أتمثّل بأنّ من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه، فأثني على الجهود الّتي قدّمتها الحكومة البريطانية بتقديم بواخر الحجاج

وتسهيل سفرهم، كما أثني على مساعدتها ومساعدة الحلفاء القيمة، ومتابعتهم تموين البلاد بما يحتاجه الأهالي من أسباب المعيشة وغيرها، وكذلك لابدّ من الإشارة إلى أنّ سيرة البريطانيين معنا طيبة من أول الزمن إلى آخره» .

يقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنية بعد نقل هذا الكلام :

____________________________

1 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 251 _ 252 .

( 391 )

«ويعلم الصغير والكبير أنّ الإنكليز والحلفاء وأية دولة استعمارية يستحيل أن تفعل شيئاً بقصد الخير والإنسانية، وإذا فعلت مع بلد أو بلدان ما يبدو كذلك فإنّما تتخذ منه وسيلة إلى التسرب إلى أسواقه والسيطرة على مقدراته. إنّ الاستعمار يوافق ويتصنع ليمتص دماء الشعوب .

وغريب أن تخفى هذه الحقيقة على الملك عبدالعزيز، وأن يقول _ وهو الوهابي الّذي يصلّي في أول الوقت حتّى في بيت عدوه عجلان _ من لم يشكر الناس (أي الإنكليز) لم يشكر اللّه، وهذا مع العلم بأنّ الوهابية تقول بفساد الصلاة عند قبر نبي أو ولي، لأنّها تكون مشوبة بعبادة صاحب القبر، إذاً كيف ربط الملك عبد العزيز شكر اللّه بشكر الإنكليز بحيث لا يقبل الأول بدون الثاني، وبعد أن ضعف الإنكليز حلّ محلهم الأمريكيون(1) .

التوسع السعودي بعد التعاون مع بريطانيا

ترافقت هذه الفترة مع تطورات دولية عملت لمصلحة آل سعود، فقد انتهت الحرب العالمية الأُولى واستسلمت تركيا عام 1337 ه_ ، وتبعتها ألمانيا، فانقطع دور تركيا في الجزيرة العربية، وانفردت بريطانيا بالتحكم بشؤون المنطقة .

ومن ناحية أُخرى نجد بريطانيا قد خانت وعودها للهاشميين بإنشاء الدولة العربية الكبرى في الشمال، وصارت تسعى للتخلص منهم ومن وعودها لهم، فتوجه عبدالعزيز ضدهم في هذه الفترة الّتي شهدت احتلال آل سعود للحائل، ثم للحجاز وعسير، واختلطت السياسة بالدين(2) .

هجوم الوهابيين

على الحجاز

في سنة 1340 ه_ غزا الوهابيون عرب الفرع من قبيلة حرب في عقر دارهم في الحجاز، ونهبوا المواشي، فجاء النذير إلى أهل الفرع فلحقوهم

____________________________

1 . مغنية _ محمد جواد: هذه هي الوهابية، ص 135 - 136 .

2 . جبران شامية _ آل سعود، ماضيهم ومستقبلهم، ص 114 _ 115 .

( 392 )

واستخلصوا منهم ما نهبوه، وقتلوا منهم، وغنموا جميع ما معهم وولوا منهزمين، ومن جملة ما غنموه أعلام وبيارق، فدفعوها إلى الملك حسين وانقطع مجيء أعراب نجد إلى الفرع لاكتيال التمر، فحصل بذلك ضيق على أهل الفرع بسبب كساد تمورهم الّتي كان يشتريها النجديون»(1) .

قتل الوهابيون الحجاج اليمانين سنة 1341 ه_

في هذه السنة التقى الوهابيون بالحجاج اليمانين وهم عزل من السلاح وجميع آلات الدفاع، فسايروهم في الطريق وأعطوهم الأمان، ثم غدروا بهم لمّا وصلوا إلى سفح جبل، مشى الوهابيون في سفح الجبل واليمانيون تحتهم، فعطفوا على اليمانيين وأطلقوا عليهم الرصاص حتّى قتلوهم عن بكرة أبيهم، وكانوا ألف إنسان، ولم يسلم منهم غير رجلين هربا وأخبرا بالحال(2).

هجوم الوهابيين على الحجاز عام 1343 ه_

وقد هجم الوهابيون في هذه السنة على الحجاز وحاصروا الطائف، ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتّى قتلوا منهم ما يقرب من الفين، بينهم العلماء والصلحاء، وأعملوا فيها النهب، وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر منها الجلود، نظير ما عملوه في المرة الأولى، حتّى أنّ السلطان عبد العزيز بن سعود لما سئل عنها لم ينكر وقوعها، لكنه اعتذر بما وقع من خالد بن الوليد يوم فتح مكة، وقول النبىّ: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد(3) .

أصبح الحجاز بعد معركة الطائف مفتوحاً أمام عبدالعزيز، لكنه تباطأ بالزحف على

مكة حتّى يستكشف نوايا الإنكليز الذين كانوا أنذروه وطلبوا منه التوقف عن القتال، لكن سياسة بريطانيا كانت قد تغيرت خلال هذه المدة،

____________________________

1 . الأمين _ السيد محسن: كشف الارتياب، ص 50 .

2 . الأمين _ السيد محسن: كشف الارتياب، ص 54 .

3 . الأمين _ السيد محسن: كشف الارتياب، ص 52 .

( 393 )

وأصبحوا يريدون التخلص من الملك حسين وأولاده في الحجاز، حتّى يكفوا عن مطالبتهم بتنفيد تعهداتهم لعرب الشمال، وكانت وسيلتهم المفضلة أن يضربوا العرب بالعرب، وكان عبدالعزيز أداتهم في تلك السياسة(1).

هجوم الوهابيين على شرقي الأردن

وفي سنة 1343 ه_ هجمت جماعة من الوهابيين فجأة على أعراب شرقي الأردن الآمنين، فهجموا على أُم العمد وجوارها، فقتلوا ونهبوا، ومالبثوا أن ارتدّوا مدحورين مأسورين، وإنّ الدبابات والطائرات الإنكليزية اشتركت في قتالهم مع عرب شرقي الأردن، وانجلت المعركة عن قتل ثلاثمائة من الوهابيين بأمر من الإنكليز .

استيلاء الوهابيين على مكة المكرمة سنة 1343 ه_

كان الملك حسين يظن أنّ الإنكليز سيتدخلون لإنقاذه على نحو ما فعلوا في شرقي الأردن في الشهر الماضي، فأرسل برقية إلى المستر بولارد القنصل البريطاني في جدة ذكر فيها أنّ الحالة حرجة، وأنّ علاقته بالحكومة البريطانية تجعله يطلب منها الاهتمام بصد ابن سعود، وتجنّب ما وقع في الطائف، وهو يأمل منها النظر في طلبه باسرع ما يمكن، فأبرق القنصل إلى حكومته في لندن فوافاه الجواب أن الحكومة البريطانية متمسكة بسياستها في عدم التدخل في الأُمور الدينية _ وهي لذلك _ لا تريد أن تتدخل في أي نزاع بشأن امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام(2) .

وفي الوقت نفسه كتب الدكتور «ناجي الأصيل» مندوب الحسين في لندن رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول فيها: «إنّ صاحب الجلالة الهاشمية

يناشد الحكومة البريطانية _ طبقاً لروح المعاهدة الّتي هي تحت المفاوضة _ أن تتدخل لوضع حدّ للاعتداء الوحشي الّذي يقوم به الوهابيون ضد الأماكن المقدسة، وإخراجهم من الطائف .

____________________________

1 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 134 .

2 . دائرة الوثائق العامة في لندن (أف، أو رقم 371 _ 10014) .

( 394 )

فوافاه الجواب: إنّ الحكومة البريطانية لا تريد أن تتورط في النزاع القائم بين أُمراء عرب مستقلين، حول امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام» .

ثم رد ناجي الأصيل على جواب وزراة الخارجية في 2 تشرين الأول وقال: إنّ ما قام به شعب الحجاز من مخاطرة كبرى في تأييد بريطانيا في الحرب العامة يستدعي من بريطانيا مساعدتها له في إنقاذ مكة من ويلات الحرب، وإنّ العالم الإسلامي لا يرضى أن تقع الأماكن المقدسة ولو لفترة قصيرة جدّاً في أيدي طائفة كالوهابية(1) .

تنازل الحسين عن العرش لصالح ولده علي

ارتأت الحكومة البريطانية حفاظاً على مصالحها في المنطقة خلع الأُسرة الهاشمية عن الحرمين الشريفين، حتّى تحلّ محلّها السلطة الوهابية، ولأجل ذلك استعملت بريطانيا جميع وسائل الضغط لتجبر الملك حسين على التنازل عن العرش، وعلى رأسها قطع المساعدات المالية عنه، حتّى عجز عن دفع رواتب الضباط والجنود(2) .

أصبح وضع الحسين ميؤوساً منه، فاجتمع أعيان الحجاز ومنهم أشراف مكّة وعلماء الدين وكبار التجار في جدة، وقرروا خلع الحسين لترضية ابن سعود، وبعد أخذ ورد، وافق الحسين على التنازل عن العرش لولده الّذي نصب ملكاً على الحجاز في 6 تشرين الأول (عام 1924 م) الموافق 1343 ه_ ، وبعد ثلاثة أيام أرسل الحسين مع أمتعته إلى جدة لكن الحكومة البريطانية تضايقت من وجوده هناك، فأرسلت إليه إنذاراً بمغادرة المدينة تلبية لطلب

عبد العزيز، وابلغته بأنّ عليه أن يسافر إلى قبرص، حتّى مات هناك عام 1931 م 1350 ه_ ونقلت جنازته إلى الأردن فدفن في المسجد الأقصى، وانتهت بذلك حقبة محزنة من تاريخ العرب(3) .

____________________________

1 . نفس المصدر .

2 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 135 .

3 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 135 .

( 395 )

دخل الوهابيون مكة بغير قتال بعدما خرج الملك حسين وولده منها إلى جدة، فنهبوا داره واستولوا على جميع ما يؤول إليه، ثم قامت الحرب بينهم وبين الملك علي المتحصن في جدة، وانقطع الحج في تلك السنة، وعين خالد بن لؤي حاكماً على مكة ثم انطلق الوهابيون وفرضوا على السكان حضور صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم، كما منعوا التدخين وقراءة المولد النبوي وزيارة القبور، ومن يشاهدونه يفعل ذلك يشتمونه ويضربونه، وربما ساقوه إلى الحبس أو فرضوا عليه الغرامة(1) .

دخل عبد العزيز مكة المكرمة، واستعرض الجيش، واجتمع مع العلماء وفرض عليهم اعتناق الأُصول الّتي جاء بها محمد بن عبدالوهاب، وكان يقول وهو يحارب الملك عليّاً: إنّه ما جاء إلى الحجاز إلاّ لينقذه من ظلم الأشراف، ولا يريد تملكه وإنّما يجعل مصيره إلى رأي عموم المسلمين .

وهذا هو الأسلوب الماكر لجميع الدهاة إذا تغلبوا على قطر من الأقطار، حتّى أنّ دولة إسرائيل الغامشة بعدما استولت على أراض جديدة عام 1967 م كانت تقول بأنّها لا تريد الاستيلاء عليها .

اكتساح قبور البقيع

لما استتبّ الأمر لعبد العزيز وملك الحجاز قاطبة، عمد إلى تخريب المعالم الإسلامية في مكّة وجدّة والمدينة، فخربوا في مكة قباب عبدالمطلب جدّ النبىّ، وأبي طالب عمّه، وخديجة أُم المؤمنين، وخربوا مولد النبي ومولد فاطمة الزهراء _ عليها السَّلام

_ ، ولما دخلوا جدّة هدموا قبّة حواء، وخربوا قبرها بل خربوا في هذه البلاد كل القباب والمزارات والأمكنة الّتي يتبرك بها، ولما حاصروا المدينة هدموا مسجد حمزة ومزاره، لوقوعهما خارج المدينة المنورة(2) .

يقول الدكتور علي الوردي أُستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد:

____________________________

1 . الريحاني .

2 . الأمين، السيد محسن: كشف الارتياب ص 55 .

( 396 )

كان البقيع مقبرة المدينة في عهد النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ وما بعده، دفن فيه العباس والخليفة عثمان، وزوجات النبي والكثير من الصحابة والتابعين، كما دفن فيه أربعة من أئمة أهل البيت _ عليهم السَّلام _ هم الحسن بن علىّ، وعلىّ بن الحسين، ومحمّد بن علىّ وجعفر بن محمّد، وقد صنع الشيعة لقبور هؤلاء الأربعة ضريحاً باهراً يشبه الأضرحة المعروفة في العراق وإيران، لكن على نطاق أصغر، واعتاد الشيعة أن يزوروا هذا الضريح فيقبلونه ويتبركون به ويصلّون عنده، على نحو ما يفعلون في أضرحة العراق وإيران(1) .

ظلّت هذه القبور سليمة أكثر من أربعة أشهر دون أن يمسّها أحد بسوء، ولكن اتّهم ابن سعود في تنفيذ مبدأ الوهابية لإبقائه عليها، فاضطر ابن سعود في شهر رمضان سنة 1344 ه_ إلى إرسال كبير علماء نجد عبداللّه بن بليهد من مكة إلى المدينة للعمل على هدم القبور، وعندما وصل ابن بليهده إلى المدينة اجتمع بعلمائها ووجه إليهم الاستفتاء التالي:

«ما قول علماء المدينة _ زادهم اللّه فهماً وعلماً _ في البناء على القبور واتّخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني

عليها، فهل هو غصب يجب دفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع اللّه، والتقرب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السرج عليها، هل هو جائز أم لا؟ .

وما يفعل عند حجرة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ من التوجه إليها عند الدعاء وغيره، والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها، وكذلك ما يفعل في المسجد من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين وبيّنوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين»(2) .

ترى أنّ الأسئلة طرحت بشكل أدرج فيها الجواب، وألزم المفتين على

____________________________

1 . الوردي _ علي: لمحات اجتماعية، ملحق الجزء السادس ص 305 .

2 . الوردي _ الدكتور علي: لمحات اجتماعية، ص 305 _ 306 .

( 397 )

الإجابة بما يرتأيه السائل، ولأجل ذلك جاء الجواب بالشكل التالي:

«أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين في ذلك بحديث علىّ قال لأبي الهياج:

ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته؟» (رواه مسلم).

وأمّا اتّخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع، لحديث ابن عباس: «لعن اللّه زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج»، رواه أهل السنن، وأمّا ما يفعه الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور، ودعاء أهلها مع اللّه فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلا .

وأمّا التوجه إلى حجرة النبي _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ عند الدعاء فالأولى

منعه، كما هو معروف عن معتبرات كتب المذهب، ولأنّ أفضل الجهات جهة القبلة، وأمّا الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً، وأمّا ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث، هذا ما وصل إليه علمنا(1) .

وعلى أثر صدور هذه الفتوى هدمت القبور، فأحدثت هذه الجريمة ضجّة مدوّية في أقطار العالم الإسلامي، خصوصاً الشيعية منها، فقرّر علماء الشيعة على أثر تلقّيهم هذا الخبر إعلان الحزن العام وإظهار الحداد وترك التدريس، وعقد في صحن الكاظمية إجتماع حضرته جماهير كثيرة، وتليت فيه البرقيات والرسائل الواردة في هذا الشأن، كما نظمت البرقيات الّتي قرّر إرسالها إلى ملوك وعلماء العالم الإسلامي في أقطارهم المختلفة، وجرى مثل ذلك في كربلاء والنجف(2) .

____________________________

1 . الوردي _ الدكتور علي: لمحات، ص 396 _ نقلا عن كشف الإرتياب، ص 349 _ 360 ولقد عرفت في الفصول السابقة أنها فتاوى فارغة عن البرهانية، فلاحظ .

2 . نفس المصدر السابق، ص 308 .

( 398 )

وفي ذلك يقول الدكتور الوردي: وأخذت الجرائد العراقية تنشر المقالات في التنديد بابن سعود وشجب أعماله، فقد كتبت جريدة «العراق» في مقالة افتتاحية لها تقول: «قضي الأمر وأصدر ابن بليهد الفتوى المعلومة، فقام بأكبر خدمة لسيده ابن سعود، ولم يعلم بأنّ مسعاه كان سهماً أصاب كبد العالم الإسلامي فآلمه أيما ألم» كما نشرت مقالة أخرى بقلم إسماعيل آل ياسين من الكاظمية عنوانها «الطامة الكبرى والأماكن المقدسة في الحجاز» وورد فيها ما نصّه:

«أيّها المسلمون، ما هذا السبات وما هذا الجمود الّذي أدّى بكم إلى السكون وإلى عدم الاكتراث بهذه القضايا المؤلمة، والأدوار المخزية الّتي يمثلها ذلك الطاغية في البلاد المقدسة؟»(1) .

يقول الوردي: نشرت جريدة «العراق» حديثاً جرى بين أحد محرريها

والسيد محمود الكيلاني نقيب أشراف بغداد، أعلن فيه السيد محمود انتقاده لما قام به الوهابيون من هدم قبور البقيع وذكر أن بناء القبب على القبور ليس مخالفاً للسنة النبوية، لأنّ النبي نفسه دفن في حجرة عائشة وهي حجرة ذات جدران وسقف كقبة، وذكر أيضاً أنّ تقبيل الأضرحة هو من باب تقبيل المحبوب، وهو أمر غير ممنوع في الإسلام .

ونشرت صحيفة «العراق» بعندئذ ثلاثة أبيات من الشعر، طالبة من الشعراء تشطيرها وتخميسها وهي:

لعمري إنّ فاجعة البقيع * يشيب لهولها فود الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا * إذا لم نَصْحُ من هذا الهجوع

أما من مسلم للّه يرعى * حقوق نبيّه الهادي الشفيع(2)

____________________________

1 . المصدر السابق. نقلا عن عددها الصادر في 29 أيار، 1926 م.

2 . الوردي _ علي: لمحات، ص 309 ولم يذكر الوردي قائل الشعر وناظمه، وهو للعلامة الفقيد الراحل آية اللّه السيد صدر الدين الصدر العاملي، المتوفى عام 1373 ه_ وهو والد الإمام السيد موسى الصدر المختطف .

( 399 )

حلّ شهر محرّم عام 1344 ه_ فكانت خطب مجالس التعزية ونوحيّات المواكب الحسينية تدور في معظمها حول فاجعة البقيع، وتطالب الانتقام من ابن سعود، إنّ يوم 8 شوال أصبح يوم حداد في السنوات التالية في النجف وكربلاء، حيث تغلق فيه الأسواق وتخرج مواكب اللطم(1) .

الصراع الداخلي بين عبدالعزيز وأتباعه

بعدما استتبّ الأمر لعبد العزيز بتأييد من بريطانيا، وطرد الملك حسين وولده الأمير علي من الحجاز، فصار سلطان نجد سلطان الحجاز اليوم، كما صار الأمير ملكاً للقطرين، ولكن أتباعه الذين يعبر عنهم في تاريخ المملكة بالإخوان أورثوا له مشكلة خاصة، وهي الإصرار على تطبيق مباديء الوهابية، فرموه بموالاة الكفار الإنكليز والتساهل في الدين، وأنكروا عليه ألقاب السلطان والملك، وتطويل

شاربه وثوبه، ولبس العقال، وإرساله ولده سعود لزيارة مصر للعلاج، لأنّه بلد الكفار، وإرسال ابنه فيصل لزيارة البلاد الأوربية لأنّها أكثر كفراً، ورأوا أنّ استخدام السيارات وأجهزة اللاسلكي والهاتف بدع لأنّها من صنع الفرنج، وأنّه يجب محاربة الدول المجاورة كالعراق والأردن واحتلالها ونشر الوهابية بين سكانها، وقد أحرقوا أول شاحنة ظهرت في مدينة (الحول) وكاد سائقها يلقى المصير ذاته، إلى غير ذلك مما عليه بني المذهب الوهابي(2) .

قال أمين الريحاني: إنّ الإخوان فيما ظهر من بسالتهم اورثوا عبدالعزيز مشكلا آخر، فقد طغى الإخوان وتجبّروا، فضج الناس، وراح الإخوان يحاربون من لم يتبعهم من البدو، ويكفّرون وينهبون ويقتلون ويقولون أنت يا بدوي مشرك، والمشرك حلال الدم والمال، وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد، وكاد يقطع حبل الأمن والسلام(3) .

____________________________

1 . المصدر السابق .

2 . أبو علية: الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبدالعزيز، ص 160 ووهبة حافظ، الجزيرة العربية في القرن العشرين، ص 229 .

3 . الريحاني _ أمين: تاريخ نجد الحديث، ص 260 .

( 400 )

كان الإخوان كارهين للعلم والتقدم، فاعتبروا أي نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة شرّاً وكفراً، كالهاتف والتلغراف والسيارات والساعات والكهرباء، وقالوا إنّها سحر من عمل الشيطان، فقاوموا استخدامها ونشرها وأخّروا تقدّم البلاد(1) .

وفي مطلع عام 1345 ه_ اجتمع رؤساء الإخوان، ومن أبرزهم فيصل الدويش وابن حثلين وابن بجاد في الغطغط، وأعدّوا قائمة ذكروا فيها ما يؤاخذون به عبدالعزيز ومن جملته:

1- سفرة ابنه سعود إلى مصر .

2- سفرة ابنه فيصل إلى لندن للتفاوض مع الإنجليز، وهو يعني التعاون مع بلد الشرك .

3- استخدام التلغراف والهاتف والسيارة في أرض إسلامية .

4- فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد، وكان هذا في الواقع احتجاجاً

على تشديد استغلال السكان عن طريق الضرائب .

5- منع قبائل الأردن والعراق حق الرعي في أراضي المسلمين .

6- حظر المتاجرة مع الكويت لأنّهم كفّار لم يأخذوا بمبادىء الوهابية .

7- التسامح مع الخوارج (الشيعة) في الأحساء والقطيف، فيجب عليه أن يهديهم إلى الإسلام أو يقتلهم(2) .

هذه بعض القرارات الّتي اتّخذها مؤتمر الإخوان، وكان عبدالعزيز آنذاك في الحجاز، فأسرع بالسفر إلى نجد عن طريق المدينة محاولا علاج غضب الإخوان بالحيل والدجل، ولما وصل إلى الرياض عقد فيها مؤتمراً بتاريخ 25 رجب سنة 1345 ه_ وحضر الدعوة جميع زعماء الإخوان، إلاّ سلطان بن بجاد، وهو القائد الّذي استولى على الحجاز، وبرر عدم حضوره بقوله: «إنه

____________________________

1 . المانع محمد: توحيد المملكة العربية السعودية، ص 15 .

2 . ابن هذلول: تاريخ ملوك آل سعود، ص 180 .

( 401 )

لم يثق بعبد العزيز وأقواله، وخاصة بعد أن اتخذنا قراراتنا بتجريمه وتكفيره وعزله» وفي هذا الإجتماع قال عبدالعزيز عن نفسه إنه خادم الشريعة، يحافظ عليها أتم المحافظة، وهو الّذي يعهدونه من قبل ولم يتغير كما يتوهم الناس، ولا يزال ساهراً على مصالح العرب والمسلمين .

وفي عام 1346 ه_ قررت الحكومة العراقية التفاوض لإقامة مخافر للشرطة مجهزة باللاسلكي والسيارات المصفحة بالقرب من الحدود النجدية، للإشراف على تنقلات البدو، ومنع الغزو، وفي أثناء إنشاء المخافر هاجم الإخوان مخفر البصية فقتلوا عدداً من العمال والشرطة الذين كانوا فيه، ثم عادوا من حيث أتوا، وتقدر المصادر البريطانية عدد القتلى بعشرين كان من بينهم امرأة واحدة. كان الإخوان يشنون غاراتهم على العشائر العراقية ويعيثون فيها نهباً وقتلا، إلى أن اضطرت الطائرات الإنجليزية بإصرار من الحكومة العراقية إلى إلقاء منشورات على البادية تنذر الإخوان بالابتعاد عن الحدود العراقية

بمسافة أربعمائة ميل، ولكن لم يهتم الإخوان بهذه المنشورات، فانتهت بقصف تجمعاتهم وقواهم(1) .

إنّ قصف الطائرات وضع ابن سعود بين نارين: نار الإنجليز ونار الإخوان، ووجد ابن سعود أن الأفضل أن يتفاوض مع الإنجليز بدلا من محاربتهم، فجرت مفاوضات في جدة مرتين، وكان يمثل الجانب البريطاني (سرجلبرت كلايتون) ورجع عبدالعزيز بعد ذلك إلى الرياض واجتمع مع الإخوان، فأخذ يهدىء روعهم، وطلب منهم أن يعرضوا شكاواهم عليه، فذكرو اله منها علاقته بالكفار وصداقته مع الأنجليز، واستعمال مخترعاتهم الشيطانية كالسيارات وأجهزة الهاتف، وتساهله تجاه المخافر الّتي يبنيها الكفار على الحدود، ومنع المسلمين من الجهاد لإعلاء كلمة اللّه ونصر دينه، وفي هذا المؤتمر حاول ابن سعود أن يقنعهم بأن جهاد الكفار يجب أن يكون في حدود الطاقة، وأن هذه الآلات ليست من السحر وعمل الشيطان .

____________________________

1 . فيلبي عبداللّه: تاريخ نجد، ص 359 .

( 402 )

ثورة الإخوان

إنّ النتيجة الّتي انتهى إليها مؤتمر الرياض لم يرض عنها الرؤساء الثلاثة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وابن حثلين، فصاروا ينشرون الإشاعات السيئة ضد ابن سعود، وأنه بصدد هدم الدين وموالا الكفار وطلب الملك، ويقطعون الطريق على القوافل، ويهاجمون عشائر العراق .

كان عدد الثائرين نحواً من خمسة آلاف رجل فأعدّ عبدالعزيز جيشاً كبيراً لقتالهم يربو على خمسة عشر ألفاً، ووقعت المعركة بين الفريقين في صباح 35 آذار سنة 1929 الموافق سنتة 1349 ه_ وانتهت بهزيمة الإخوان وانتصار عبدالعزيز .

يقول الدكتور علي الوردي: إنّ معظم بناة الدول يقتلون من ساعدهم على بنائها، وسبب ذلك أن أولئك المساعدين يريدون أن يشاركوا الباني في ثمرة بنائه، بينما هو لا يريد أن يتنازل لهم عن تلك الثمرة، فينشب النزاع بينهم، وربما ينتهي إلى القضاء على أولئك

المساعدين، وقد صدق من قال: السياسة لا أب لها.

ويبدو أنّ هزيمة الإخوان كانت بسبب أن المشايخ والعلماء كانوا مع عبد العزيز، وهذا مما أدى إلى الوهن في عزيمة الإخوان، وقلل من فدائيتهم وحماسهم الديني(1).

لمّا تخلّص عبدالعزيز من حركة الإخوان، أنشأ جيشاً تحت إشراف بعض الضباط العرب من بقايا الجيش العثماني واستورد السيارات وأجهزة اللاسلكي، وأنشأ مدارس حديثة في بلاده، وهو وإن تخلّص من شرّ الإخوان لكنه ابتلي بشر علماء الدين النجدييين، فقد أوجد فتح المدارس الإبتدائية في الحجاز ضجة بينهم، فاحتجوا على عبد العزيز بأنه يجري تعلم الرسم أولا، واللغات الأجنبية ثانياً، والجغرافيا ثالثاً في تلك المدارس الحديثة .

____________________________

1 . صادق حسن السوداني: العلاقات العراقية السعودية، ص 308 والوردي، علي، لمحات ص 335 .

( 403 )

ظل المشايخ يستنكرون المخترعات الحديثة الّتي ترد إلى البلاد، فاستنكروا الحاكي والسينما والأنوار الكشافة والطائرات، فهم يعتقدون في الطائرات مثلا أن ركابهم يتحدَّون ربهم بها(1) .

وحين بدأ الأمريكيون ينقبون عن النفط في منطقة الظهران، قال المشايخ لابن سعود: لا يجوز دخول الكفار البلاد لأنهم يفسدون الرجال والنساء، ويدخلون الخمر والفوتوغراف وما شاكل ذلك من الأمور الشيطانية إلى داخل البلاد، ومن الطرائف الّتي تروى في هذا الصدد أن جماعة من البريطانيين زاروا ابن في قصره في الرياض، وبينما هم في القصر حلّ وقت الصلاة، فقام ابن سعود وحاشيته يصلون خلف إمام لهم، فقرأ الإمام في الركعة الأولى قوله تعالى: (وَلاَ تَركَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ) وأعاد قراءة الآية في الركعة الثانية، ولما انتهت الصلاة زحف ابن سعود من مكانه نحو الإمام وأشبعه وخزاً وركلا، وهو يؤنبه قائلا: «ما لك بالسياسة يا خبيث، وما الّذي تقصده من ترديد هذه الآية في

كل ركعة؟ أفلا توجد آيات غيرها»(2) .

فلم تُجْدِ اعتراضات الإخوان ومعارضة المشايخ نفعاً .

وهنا يقف القارىء على تطور الوهابية في سيرها التاريخي، فمبادىء الوهابية هي الّتي كان الإخوان يطلبونها، فقضى عليهم عبد العزيز بالسيف والنار، ثم ما يطلبه المشايخ من تحريم العلم الحديث والاختراعات الحديثة وإيقاف المجتمع على ما كان عليه من السذاجة والبساطة، وهؤلاء يستنكرون، وعبد العزيز كان يعمل بقوة وقدرة، ويسقطب الرأي العالم لصالحه، فلم يجد المشايخ بدّاً من السكوت. وأين هذه المباديء الّتي تسوق إلى الأُمية من وهابية اليوم الّتي يدرس مشايخها في الجامعات الحديثة وينالون الدرجات العلمية الرائجة في الغرب، ويأكلون ويلبسون ويسافرون مثل الإفرنج، حتّى أنّ مفتي المملكة تذاع خطبه مباشرة عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية، وها هنّ البنات يدرسن في الجامعات في مختلف العلوم،

____________________________

1 . فيلبي، عبداللّه: تاريخ نجد، ص 356 .

2 . المميز، أمين: المملكة العربية السعودية كما عرفتها، ص 126 _ 129.

( 404 )

وهذه المقاهي ودور السينما والأفلام المبتذلة الخليعة، وأشرطة الأغاني والموسيقى: هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنه لم يبق من مبادىء الوهابية إلاّ ما يمت إلى الأولياء وقبورهم ومراسم إحياء مواليدهم، لم يبق شيء منها، سوى ما يرجع إلى الحط من مقامات الأولياء وتوقيرهم واحترامهم، فبناء القباب على مشاهد الصالحين محرم، والتوسل بهم محظور، لكن الربا جائز والحلف مع الكفّار سائغ، وتسليطهم على بلاد المسلمين لدعم عرش السلطة أمر لابد منه، والأغاني الّتي تشيع الخلاعة وتدفع الشباب إلى الميوعة والتسيب الخلقي مباحة ومشروعة، وهكذا دواليك .

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مَمّا يَكْسِبُونَ)(1) .

____________________________

1 . سورة البقرة: الآية 79 .

( 405 )

أزمة ثالثة يواجهها عبدالعزيز

قد قضى عبدالعزيز على فتنة الإخوان،

وكافح محالفة مشايخ الدين، ولكنه قد واجه عام 1349 ه_ وما بعدها أزمة خاصة، وهذه السنوات كانت منحوسة على أمير الحجاز، حيث إنّ الأزمة الاقتصادية قد خيمت بكابوسها على الحجاز ونجد، وقلّ مجيء الحجاج إلى الحجاز، فبعد ما كان عدد الحجاج في السنوات السابقة يقدر بمائة ألف انخفض إلى أربعين ألفاً في عام 1350 ه_ وإلى ثلاثين ألفاً في عام 1351 ه_ وإلى عشرين ألفاً في العام المتأخر عنها، فساد البؤس والحرمان في أنحاء الحجاز، وأصبح الكثير من سكانه على حافة المجاعة، وأينما سار الحجاج يحيط بهم المتسولون من كل جانب للاستجداء، وإذا رمى أحد الحجاج بفضلات الطعام أو قشور الفواكه تهافت عليها الأطفال متكالبين من شدة الجوع(1) .

وهذا فيلبي يذكر في مذاكراته: بدأ القلق يستحوذ على الملك عبدالعزيز، فأعرب عن قلقه في ذات يوم، وقال بأنّا سنواجه كارثة اقتصادية تحل بالبلاد، ويضيف فيلبي: قلت له إن بلدك مليء بالكنوز الدفينة من نفط وذهب، وأنت عاجز عن استغلالها بنفسك، ولا تسمح للآخرين باستغلالها بالنيابة عنك، فقال عبد العزيز: لو وجدة من يدفع لي مليون جنيه فإنني سأمنحه كل ما يريده من امتيازات في بلادي(2) .

____________________________

1 . خيري حماد، عبداللّه فيلبي، ص 208 _ بيروت، 1961 م.

2 . نفس المصدر .

( 406 )

لمّا وقف الغرب على وجود الكنوز في أراضي نجد، حصل التنافس للحصول على امتياز التنقيب عن النفط بين شركتين:

إحداهما أمريكية والأخرى بريطانية، وقد تمكنت الشركة الأمريكية من الحصول على الامتياز عام 1353 ه_، ووقعت الاتفاقية في جدة، من قبل مستر هاملتون والشيخ عبداللّه سليمان ممثل الحكومة السعودية .(1)

وكانت هذه هي الخطوة الأولى الّتي مكنت الأمريكيين من السيطرة على منابع الثروة في شبه الجزيرة العربية.

وبعد

فترة من الزمن، وبشكل تدريجي تمكن الأمريكيون من إعمال نفوذهم، والسيطرة على جميع مصادر الثروة بالحد الّذي نشاهده اليوم، ولا نطيل الكلام في ذلك، ونحيل القراء الكرام إلى مطالعة الصحف اليومية الّتي تصدر من أجهزة الإعلام العالمي، والتي تحكي مراراً وتكراراً أخبار خيانة آل سعود لشعوب العالم الإسلامي، وسعيهم الحثيث لاستنزاف مصادر الثروة لصالح الأمريكيين .

زوجاته وأولاده

يقول الوردي: كان عبدالعزيز مزواجاً إلى درجة يندر أن يكون له مثيل في عصرنا، وكان مولعاً بزيادة نسله حتّى بلغ مجموع أولاده الذكور أخيراً خمسة وأربعين ولداً، مات منهم عشرة وبقي منهم خمسة وثلاثين، وأما بناته فلا نعلم عن عددهن شيئاً، وقد تولد آخر ولده في عام 1368 ه_ وكان في الواحدة والسبعين من عمره، وقد ناهز عدد أولاد وأحفاده بما فيهم من البنات عند وفاته الثلاثمائة .

إنّ هذا العدد الكبير من الأُمراء أصبح ظاهرة اجتماعية لها أثرها الكبير في المملكة السعودية، فقد صاروا طبعة متميزة تعيش فوق القانون، وقد توافر لدى أفراد هذه الطبقة من جراء تدفق النفط مال كثير يكاد لا يحصى، ولا

____________________________

1 . الوردي _ علي: لمحات، ص 351 .

( 407 )

حاجة إلى القول بأن اجتماع هذين العاملين _ التميز الطبقي وتوافر المال - لابد أن يؤدي بطبيعته إلى الترف الباذخ والانهماك في الشهوات بلا حدود(1) .

نهاية العهد

بدأت تظهر على عبدالعزيز منذ سنة 1367 ه_ أعراض الشيخوخة والانحلال، وزاد الألم في ركبتيه فلم يعد يقوى على المشي، ولجأ إلى الاستعانة بكرسي متحرك، وعاد لا يميز الأشياء على الرغم من ارتداء النظارات، إلى أن لفظ أنفاسه في ثاني شهر ربيع الأول سنة 1373 ه_ عن سبعة وسبعين عاماً، ونودي بسعود بن عبدالعزيز ملكاً، وبفيصل ولياً للعهد، وبعدما

عُزل سعود عن العرش جرت البيعة لفيصل ملكاً، ولخالد ولياً للعهد، فلما قتل فيصل جرت البيعة لخالد بن عبدالعزيز ملكاً، ولفهد ولياً للعهد، وبعد موت خالد ألقيت مقاليد الملوكية بيد فهد، وصار عبداللّه بن عبدالعزيز ولياً للعهد; وإليك لمحة خاطفة عن حياة هؤلاء إكمالا للبحث(2) .

15 _ سعود بن عبدالعزيز (1373 _ 1384 ه_)

ولد سعود بن عبدالعزيز عام 1320 ه_ وهو الابن الثاني لعبد العزيز، وولد فيصل عام 1324 ه_ من الزوجة الثانية لعبد العزيز، وهي من آل الشيخ، وقد جرى بين الأخوين غير الشقيقين تنافس مستمر لم ينقطع حتّى بعد موت عبدالعزيز، بالرغم من اليمين الّذي أقسماه، وقد أدلى سعود في أول اجتماع لمجلس الوزراء ببيانه السياسي الأول بوصفه أنه ملك، وأنّ من أهدافه تعزيز الجيش ومكافحة الفقر والجوع والمرض، وتحسين الخدمات الطبية، وتأسيس وزارات للمعارف والزراعة والمواصلات(3) .

ولكن كان لسعود وفيصل تاريخ من المنافسة حتّى دعاهما أبوهما إلى غرفة نومه الّتي أمضى فيها آخر شهور حياته، وقال لهما: أمسكا بأيديكما وأقسما بأن

____________________________

1 . الوردي، علي: لمحات، ص 322 .

2 . جبران شامية: آل سعود، ماضيهم ومستقبلهم، ص 166 .

3 . أمين سعيد: تاريخ المملكة السعودية، ج 3 ص 16 .

( 408 )

تعملا معاً حينما أموت، وأن لا تتجادلا فيما بينكما بحيث لا يسمع العالم عدم توافقكما، ولكن ما مضى شيء من موت الوالد حتّى بدأت الخلافات تظهر بسرعة، وتزايدت الانشقاقات بأكثر مما كان يتصور(1) .

سقط الملك سعود عام 1381 ه_ مريضاً بسبب قرحة في الأمعاء، وأشار الأطباء الأمريكيون عليه بالذهاب للعلاج إلى أمريكا، ولما عاد سعود إلى البلاد بعد بضعة أشهر استغرقت علاجه في الخارج، وبعد أن استحوذ فيصل على كل شيء من

أجهزة الدولة، وكادت أن تقع مصادمات عنيفة بين الأخوين لولا أن تدخلت العائلة، حيث أثمرت تسوية بين الأخوين على أن يتقاسما الوزارة .

وفي خريف عام 1382 ه_ قصد سعود أوربا للعلاج، فأخذ فيصل يعمل بنشاط لإحكام سيطرته على السلطة، وعيّن أخاه غير الشقيق قائداً للحرس الوطني، وأخاً آخر حاكماً للرياض، فلما عاد سعود فوجىء بالتغييرات الأخيرة، فاضطر إلى الرضوخ لما أملاه عليه أخوه من الظهور بمظهر الملك، دون صلاحية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد .

وانتهى بعد خلافات واسعة إلى خلع سعود بن عبدالعزيز عن الملك، وحلّ فيصل بن عبدالعزيز ملكاً مطلقاً على المملكة، وصدرت الفتوى (الشرعية) اللازمة من الشيخ محمد إبراهيم مفتي الديار السعودية في 16 من شهر جمادى الثانية عام 1382 ه_، واضطر سعود إلى مغادرة البلاد والانتقال إلى مصر، فحل في القاهرة ضيفاً على عبد الناصر أيام كانت العلاقات بين مصر والجزيرة العربية متوترة، إلى أن مات فيها عام يراجع المصدر وقد كان ذا ثروة طائلة بذلها لاسترداد عرشه، ولكنه خسر في هذه المحاولة .

يقول جبران شامية: ما من رجل استطاع أن يبذل هذه الأموال في مثل هذا الوقت القصير، وبمثل هذه النتائج الضئيلة كسعود(2) .

____________________________

1 . القحطاني _ فهد: صراع الأجنحة في العائلة السعودية، ص 80، ط لندن .

2 . جبران شامية: آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، ص 179 _ 180.

( 409 )

16- فيصل بن عبدالعزيز (1384 _ 1395 ه_)

قد تسنّم فيصل منصة العرش بعد خلع أخيه سعود من الحكم وهو يعلم أن الضمان الوحيد للإبقاء عليه على منصة الحكم هو إظهار الولاء للأمريكيين، فاتصل بسفير أمريكا ورؤساء شركة آرامكو مراراً ليقنعهم بأنه أجدى لهم وأبقى لمصالحهم من سعود، وفي عام 1385 ه_

سافر إلى أمريكا ومكث مدة مبدياً للمسؤولين الأمريكان تذمره من سعود، واجتمع بوزير خارجية أمريكا آنذاك (جون فوستر دالاس) وبالرئيس الأمريكي السابق (أيزنهاور) شاكياً لهما سوء تصرفات سعود(1).

وقال فيصل: إنني أقول لكم بصراحة: إنّ هناك من الأمريكان المسؤولين عندما يكتب لكم ضدي ويزعم أن سعوداً أكثر إخلاصاً لأمريكا مني لكنهم على خطأ، فإنني أصدق صديق لأمريكا(2).

وجهت مجلة «المصور» لفيصل الأسئلة التالية التي أقحم فيها تعبيره عن حبه لأمريكا بطريقة غير مستقيمة:

س _ ما سبب رحلة سموكم إلى أمريكا؟

ج _ السبب هو أنني أصدق صديق لأمريكا، لكن الأمريكان مع الأسف الشديد لم يقدروا هذه الصداقة حتّى الآن. ونشرت له مجلة المصور أيضاً بتاريخ (17/8/1958) تصريحاً قال فيه: يعتقد الأمريكان أني عدو لهم، مع أنهم لو أدركوا معنى نصحي لهم لعرفوا أني أصدق صديق لهم .

وعقد «جون فوستر دالاس» وزير خارجية أمريكا مؤتمراً صحيفاً أعلن فيه بكل صراحة عندما سئل عن رأيه بتولي فيصل لمناصبه، قائلا: إنني مطمئن كل الإطمئنان بكل ما حدث في السعودية، نحن قد تفاهمنا مع الأمير فيصل في ذلك عندما كان في أمريكا(3) .

____________________________

1 . السعيد، ناصر: تاريخ ال سعود، ص 661 _ 662 .

2 . مجلة المصور المصرية في عددها الصادر بتاريخ 13/7/1958 م .

3 . ناصر السعيد: تاريخ آل سعود نقلا عن مجلة المصور المصرية .

( 410 )

قد وجه وفد مبعوث عن التلفزيون البريطاني سؤالا عن إمكان قيام نظام ديمقراطي في السعودية، فأجاب فيصل: في اعتقادنا أن في المملكة في وقتها الحاضر أحسن وأجود نظام ديموقراطي، ونحن في بلادنا لا نشعر بأن هناك أي فوارق أو مميزات لفئة أو لأشخاص دون أشخاص، وإن الجميع متساوون في الحق أمام الحكم العادل، ولذلك

نعتقد أننا نمثل أعلى ديموقراطية(1) .

وفي الوقت الّذي يجيب فيه عن الأسئلة بهذه الصورة بكل صلف وشراسة، نجد أن المملكة الواسعة صارت ملكاً لقبيلة واحدة تملك كل شيء، وليس هناك مجلس للنواب ولا مجلس للشيوخ، ومع ذلك فهم يمثلون أجود نظام ديموقراطي، وأقصى ما عندهم مجلس الوزراء، وهم الطبقة الأولى من هذه العائلة يمثلون الوزارة!

كان فيصل يملك ويحكم إلى أن قتل بيد ابن أخيه فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز، حيث دخل مكتبه مع الوفد النفطي الكويتي الّذي قدم للقاء فيصل، وحين وصل دوره للسلام على الملك وانحنى لتقبيل كفه، أخرج من معطفه مسدساً أطلق منه ثلاث رصاصات وجهت لرأس الملك وصدره، وبذلك طويت صحيفة عمره، وقد كثرت التعاليق السياسية على هذا القتل حتّى رمي القاتل بالجنون مع أنه أجري عليه القصاص!

17- خالد بن عبدالعزيز (1395 _ 1402 ه_)

اجتمعت العائلة السعودية وأفراد الأُسرة المالكة وبايعوا خالداً أخاه بالملك، وفهد كولي لعهده، وقد جاءت المبايعة بسرعة لاستباق الأحداث، ولكن منذ اليوم الأول لإعلان البيعة لخالد كانت الأنظار متوجة إلى فهد كملك غير متوج، وكان خالد يملك ولا يحكم، وهو يحكم ولا يملك، إن الأمريكيين كانوا يرغبون في وصول فهد إلى الملك، ففهد هو الّذي يلقي بيانات الملك خالد وكلماته وخطبه، وهو الّذي تفرد بالزيارات الرسمية، فزار الكويت والعراق، ثم إيران وفرنسا ولندن وسوريا والأردن ومصر .

____________________________

1 . ناصر الشمراني: فيصل القاتل والقتيل، نقلا عن كتاب فيصل بن عبدالعزيز من خلال أقواله وأعماله، صلاح الدين المجد، ص 204 .

( 411 )

زلزال جهيمان في مكة

وفي مطلع القرن الخامس عشر الهجري في شهر محرم، سيطرت مجموعات من الأشخاص الذين ينتمون إلى حركة «الإخوان» على الحرم المكي الشريف، يرافقهم في ذلك

نساؤهم وأطفالهم، وحاول النظام السعودي إخفاء ما حدث، وقام بعدة إجراءات ابتدأت بالصمت وانتهت بغلق المطارات وقطع الأتصالات الهاتفية بالخارج، ولكن لما تسرب الخبر إلى الخارج، اضطر آل سعود إلى إعلان النبأ مشوهاً، ومنعوا الصحفيين من الدخول إلى البلاد، وقال فاسيليف:

«أعلنت منظمة حركة الثوار المسلمين في شبه الجزيرة العربية، الّتي لم تكن معروفة آنذاك، أنها تتولى قيادة الأنتفاضة، وأعلن الزعيم الروحي للثوار وهو محمد القحطاني الّذي قال عن نفسه إنه المهدي المنتظر، أن هدف الحركة يتمثل في تحرير البلد من زمرة الكفار (العائلة المالكة ورجال الدين المرتزقة الذين لا همّ لهم سوى التمسك بمناصبهم وامتيازاتهم) .

أما الزعيم السياسي للحركة فهو الجهيمان العتيبي البالغ من العمر 47 عاماً، فقد ندّد في خطبه بأن الحكومة تدعي من جهة أنها مركز الدين الحنيف في العالم، ولكنها من الجهة الأخرى تناصر الظلم والفساد والرشوة، وندد جهيمان بالأمراء الذين يستولون على الأراضي ويبذرون أموال الدولة، ونعتهم ب_ «السكيرين» الذين يعيشيون حياة الفسق والفجور في البيوت والقصور الفخمة .

ولم يكن في وسع العائلة المالكة القبول بشروط المنتفضين للتفاوض إذ أنها تضمنت مطالب بإجراء تعديلات في الوزارة، منها إقصاء كبار الأمراء عن مناصبهم، وإعادة النظر جذرياً في سياسة استخراج وتسويق النفط، وطلب المنتفضون بوقف بيع النفط إلى الغرب عموماً، والعودة إلى أحكام الإسلام الخالص، وطرد جميع المستشارين العسكريين الأجانب من البلد .

وأضاف فاسيليف: عاد ولي العهد فهد من تونس، وأصر على قمع الأنتفاضة بالقوة، وقد استخدمت قوات الحكومة القنابل المسيلة للدموع

( 412 )

والمدافع والطائرات لإرغام المتنفضين على الأنسحاب من المسجد الحرام، وردّ المنتفضون بإطلاق النار من السطوح والمنائر، واستمرت المقاومة الضارية الّتي أبداها زهاء ألف شخص أسبوعين، وأدت كما تقول السلطات، إلى

مصرع عشرات الأشخاص، بينما يقول شهود العيان إن القتلى كانوا يعدون بالمئات، وكان بين القتلى «المهدي» ذاته، أما الزعيم السياسي للحركة (جهيمان العتيبي) فقد أعدم مع 62 شخصاً من رفاقه، في 9 كانون الثاني (يناير) 1970 م، وكان بين من أعدموا علاوة على السعوديين مصريون ويمنيون وكويتيون وعرب آخرون...(1) .

فتوى وعّاظ السلاطين ضد المستأمنين بحرم اللّه

اجتمع الملك خالد مع عدد من العلماء المتواجدين في الرياض بعد وقوع الحادثة، وأطلعهم على ما جرى، فقدم لهم معلومات مصطنعة عن تعداد الرهائن وقتل المصلين والحجاج وغير ذلك، فاستفتاهم في كيفية حل الأزمة، فوافاه الجواب بالنحو التالي:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم»: أما بعد، ففي يوم الثلاثاء اليوم الأول من شهر محرم عام أربعمائة وألف من الهجرة، دعانا نحن الموقعين أدناه جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود وأخبرنا أن جماعة في فجر هذا اليوم بعد صلاة الفجر مباشرة دخلوا في المسجد الحرام مسلحين، وأغلقوا أبواب الحرم وجعلوا عليها حراساً مسلحين، وأعلنوا طلب البيعة لمن سموَّه المهدي، ومنعوا الناس من الخروج من الحرم، وقاتلوا من مانعهم، وأطلقوا النار على أناس داخل المسجد وخارجه، وقتلوا بعض رجال الدولة وأصابوا غيرهم، وإنهم لا يزالون يطلقون النار على الناس والمسجد، واستفتانا في شأنهم وما يعمل معهم فأفتيناه أن الواجب دعوتهم إلى الإستسلام ووضع السلاح، فإن فعلوا قبل منهم وسجنوا حتّى ينظر في أمرهم شرعاً، وإن امتنعوا وجب اتخاذ كافة الوسائل للقبض عليهم ولو أدى إلى قتالهم وقتل من لم يحصل القبض عليه

____________________________

1 . فاسيليف: تاريخ العربية السعودية، ص 516 _ 517 .

( 413 )

منهم، ولا يستسلم إلا بذلك، لقوله تعالى:

(وَلا تُقاتِلُوهُم عِندَ المَسجِد الحَرام حتّى يُقاتِلوكُم فِيه فإن قاتَلوكُم فَاقتلوهم كَذلك جزاءُ الكافِرين).

ولقول النبي

_ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ : «من أتاكم جمع يريد يفرق جماعتكم ويشق عصاكم فاضربوا عنقه...» .

هذه الفتوى أُصدرت على أساس المعلومات قدمها الخصم، وكان من واجبهم أن يتقربوا من الحرم حتّى يطّلعوا على الأمر، وكيف يحق للقاضي أن يصدر حكمه على أساس معلومات يقدمها أحد المتخاصمين، وبالتالي قتل من قتل وأخذ من أخذ، ثم قطعت رؤوس عدة من المقبوض عليهم وسجن النساء .

وهناك سؤال يتبادر إلى الذهن وهو: لماذا التجأ هؤلاء إلى بيت اللّه الحرام؟ ولعله لما جاء في الروايات بأن المهدي حين يظهر في الحرم يأتي لقتاله جيش عرمرم يخسف اللّه به الأرض، وهذه الفكرة هي الّتي دفعت بالجماعة إلى الحرم .

وهناك خطأ غير مغفور، وهو أن ما ورد فإنما هو في المهدي المنتظر، لا في من أسمي نفسه مهدياً .

وبذلك انتهت هذه الحركة الّتي كانت استمراراً لحركة الإخوان، وكان الملك وأبناء العائلة فرحين مسرورين بذلك، ولم يبرح خالد يملك ولا يحكم إلى أن وافته المنية وأخترمه الأجل المحتوم عام 1402 ه_، وأصدر الديوان المكي بياناً آخر جاء فيه:

«لقد قام أفراد الأسرة وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز بمبايعة ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد، وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز ولياً للعهد.

وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه... وقد تقرر أن

( 414 )

يقوم المواطنون، بالبيعة لجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ولسمو ولي العهد الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز في قصر الحكم بالرياض صباح غد» .

جدير ذكره أن موت الملك لم يحدث فراغاً سياسياً، لما عرفت أنه كان يملك ولا يحكم .

الملك

فهد واستقدامه قوى الكفر(1)

ويكفي في مساوىء «فهد» المتسلط على مقدرات الحرمين الشريفين، وعدم أهليته لهذا المنصب الخطير وهذه المسؤولية المقدسة، استقدامه لقوى الفكر والشرك إلى أرض مكة والمدينة، المحرمة على المشركين، واستعانته بهم بحجة الدفاع عن الحجاز، ولكن في الحقيقة للدفاع عن مطامع الأمريكان والصهاينة الطويلة في ثروات المسلمين، من دون التفات إلى حكم المذاهب الإسلامية بحرمة دخول الكفار والمشركين مكة والمدينة وما حولهما، بل وحكم القرآن قبل ذلك بحرمة الركون إلى الكفار وتوليهم .

فقد قال القرآن: (وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(2) .

وقال: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوا قَوماً غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ)(3)

وقال: (وَلاَ تَتَوَلَّوا مُجْرِمينَ)(4). وقال تعالى: (إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَن الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهرُوا عَلَى إخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(5) .

وقال سبحانه: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَصَارى أَوْلِيَاء)(6) .

____________________________

1 . كان تقديم الملازم الأخيرة من هذا الجزء، مقارناً لهذه الحادثة المؤلمة فأثبتناها في هذا المقام لتبقى في ذاكرة التاريخ غير الناسي، وإن كان الإنسان ذهولا .

2 . سورة هود: الآية 113 .

3 . سورة الممتحنة: الآية 13 .

4 . سورة هود: الآية 52 .

5 . سورة الممتحنة: الآية 9 .

6 . سورة المائدة: الآية 51 .

( 415 )

وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنين أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لَلّهِ جَمِيعاً)(1).

وقال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ)(2) .

وقال سبحانه: (إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسجِدَ الحَرَامَ)(3) .

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْض)(4) .

وقال رسول اللّه _ صلَّى الله عليه وآله وسلم _ في حديث

متواتر: «أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأمر بمضايقتهم في الطرقات حتّى يضطروا إلى أضيقها(5) .

وأما الفقهاء، فقال الإمام النووي في كتاب المنهاج: «ويُمنع كل كافر من استيطان الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها...» راجع كتاب الجزية منه .

فكيف يجوز لفهد، وهو يدّعي خدمة الحرمين الشريفين أن يقوم بمثل هذه الخيانة العظمى للحرمين وأهلهما، وليستقدم جيوش الغزو الغربي الصليبي الصهيوني إلى بلاد الوحي والرسالة، ويتكفل مؤونتهم، ويحمّل المسلمين مليارات لاستضافتهم، كما صرح المسؤولون السعوديون الوهابيون أنفسهم بذلك، وصرّح به قادة الغزو الغربي، كل ذلك بحجة الدفاع.. الدفاع عن ماذا؟ عن الحكم الوهابي الرجعي الأسود، وليس عن الشعب الحجازي المضطهد المظلوم، وليس عن الحرمين الشريفين، اللَّذين يفديهما المسلمون متى

____________________________

1 . سورة النساء: الآية: 139 .

2 . سورة المائدة: الآية 57 .

3 . سورة التوبة: الآية 28 .

4 . سورة الأنفال: الآية 73 .

5 . راجع صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي ومسند أحمد والموطأ والدارمي .

( 416 )

لزم الأمر بأرواحهم، وأنفسهم، وبأعز مالديهم من الأهل والولد .

كل هذا بغض النظر عما يجلبه هؤلاء الكفار من فسق وفجور، بل وأمراض وعاهات خلقية إلى شعب هذه البلاد المقدسة.

هذه صورة إجمالية عن حياة العائلة السعودية بسلاطينها وأمرائها وملوكها، وقد وضعناها أمام القارىء ليقف على حقيقة المذهب، وعلى نزعات حماته وجناياتهم طيلة استيلائهم على الحكم والعرش، وأما تفصيل حياة الملك الأخير الّذي يحكم على البلاد حالياً فنتركه إلى جهد القراء لكي يقفوا على حياته وأعماله وتحالفه مع الكفار عن كثب، واللّه يعلم إلى متى يبقى هذا ويبقى عرشه .

إنّ إدارة الحرمين الشريفين رهن كفاءات ومؤهلات للقائمين بها، وقد قال سبحانه: (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُم اللّه

وَهُمْ يَصُدّونَ عِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ وَمَا كَانُوا أَولِياءَهُ إنْ أَوْلِياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ)(1)

وهل للعائلة السعودية، التقوى اللازمة لإدراة الحرمين الشريفين؟ وهل هم متّقون حتّى يتسنموا هذه المنصة؟ لا أدري، ولكن القراء يدرون .

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ) .

تمّ الجزء الرابع من هذه الموسوعة، ويليه الجزء الخامس في تبيين عقيدة الخوارج، ومبدأ تكونهم، و حياة مشايخهم بإذنه ومنّه سبحانه .

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

8 جمادي الآخرة 1411 ه_

____________________________

1 . سورة الانفال: الآية 34 .

الجزء الخامس (يتناول تاريخ الخوارج)

اشاره

الملل والنحل الجزء الخامس (يتناول تاريخ الخوارج، نشأتهم ، عقائدهم ، فرقهم وشخصيّاتهم)

المقدمة

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدللّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين .

أمّا بعد: فهذا هو الجزء الخامس من موسوعتنا في الملل و النحل، والمقارنة بين المذاهب الاسلامية، نقدّمه إلى القرّاء الكرام، راجين منهم التنبيه والارشاد إلى مواضع الزلّة والخطأ، فإنّ المؤمن مرآة المؤمن، وأحبّ الاخوان من أهدى إلى أخيه عيوبه(1) .

ويتناول هذا الجزء دراسة إحدى الفرق الإسلامية القديمة أعني فرقة الخوارج من خلال المواضيع التالية:

الف _ نشأتهم.

ب _ تاريخهم السياسي الذي يتضمّن المواجهات التي خاضوها مع

____________________________

1. اقتباس عن الكلمة المروية عن الامام الصادق _ عليه السَّلام _ حيث قال: أحبّ اخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي (لاحظ: تحف العقول 366) .

( 6 )

مخالفيهم أوّلا، ومحاولاتهم للاستيلاء على البلاد الإسلامية ثانياً، وزوالهم والقضاء عليهم ثالثاً .

ج _ طوائفهم وفرقهم .

د _ عقائدهم و أفكارهم .

ه_ _ شخصيّاتهم البارزة والآثار الأدبيّة التي خلّفوها .

والخوارج _ كما قلنا _ من أقدم الفرق الإسلامية بل أوّل فرقة ظهرت في المجتمع الإسلامي، وهو أوّل اختلاف حدث بين المسلمين، بعد اختلاف الاُمّة في مسألة الإمامة، وقد تكوَّنت في العقد الرابع من القرن الأوّل بعدما نشبت الحرب بين الإمام عليّ _ عليه السَّلام _ ومعاوية بن أبي سفيان، وقد تحدّث عنهم و عن نشأتهم وتاريخهم طائفتان:

1 - أصحاب التواريخ: فقد ذكروا عنهم شيئاً كثيراً حسب التسلسل الزمني كالطبري في تاريخه، والمبرّد في كامله، واليعقوبي في تاريخه، والمسعودي في مروجه، والجزري في كامله، وابن كثير في كتابه، ولكن اكتفوا بنقل الحوادث من دون تحليل عللها ونتائجها وغاياتها ومن دون استنتاج شيء يُعدّ درساً أو عبرة،

ومن دون قضاء بشيء في حقّهم، كأنّهم قصّاصون ليس لهم شأن سوى سرد القصّة .

وبما أنّهم ذكروا حوادث تلك الفرقة في فصول مختلفة _ كما هو مقتضى سرد الحوادث حسب السنين والقرون _ لا يمكن للإنسان أن يقف على تاريخ تلك الفرقة دفعة واحدة في موضع واحد، بل عليه السبر وتتّبع الحوادث وضمّ حلقة إلى حلقات اُخرى، حتى يكون على اطّلاع على تاريخهم عن كثب .

2 _ مؤرّخو العقائد: أعني أصحاب علم الملل والنحل فقد اهتمّوا بذكر فرقهم، وبيان لفيف من عقائدهم، من دون تركيز على كيفيّة نشأتهم، والحروب

( 7 )

الّتي مارسوها طيلة سنين، قرناً بعد قرن .

نعم هناك جماعة من المتأخرّين أفردوا تاريخهم بالتأليف، وهم بين كاتب مسلم، ومؤلّف مستشرق، ولكل غايته المتوخّاة، وإليك الاشارة إلى بعض ما اُلّف في ذلك المضمار:

1 _ ملخّص تاريخ الخوارج: تأليف محمّد شريف سليم، المطبوع في القاهرة عام 1349 ه_ _ ق .

2 _ الخوارج في الاسلام: تأليف عمر أبي النصر، المطبوع في بيروت عام 1369 ه__ ق الموافق لعام 1949 م .

3 _ أدب الخوارج: تأليف الكاتبة سهير القلماوي، والكتاب رسالتها الاُولى لنيل درجة الماجستير وقد نشرتها عام 1365 ه_ _ ق وتناولت الرسالة البحث عن شعراء الخوارج وقد ذكرت منهم عمران بن حطان و قطري بن الفجاءة، والطرماح بن حكيم وهو غير طرماح بن عدي الذي كان موالياً لعلي _ عليه السَّلام _ .

4 _ وقعة النهروان: تأليف الخطيب الهاشمي الحائري، المطبوع في طهران عام 1372 ه_ _ ق .

5 _ الخوارج في العصر الأموي: تأليف الدكتور نايف معروف، وقد طبع في بيروت مرّتين أخيرتها في عام 1401 ه_ .

6 _ الخوارج و الشيعة: تأليف يوليوس

فلهوزن، وقد نقله إلى العربية عبدالرحمن بدوي، طبع في الكويت للمرّة الثالثة عام 1978 م. ومن جنايات المؤلّف على تاريخ الشيعة في الكتاب قوله: «انّ الشيعة و الخوارج تكوّنا في وقت واحد»(1) والمسكين جاهل بتاريخ الشيعة _ فانّها تكوّنت في العصر الذي تكوّن فيه الاسلام، و الشيعة عبارة عن لفيف من المسلمين الاُول من المهاجرين

____________________________

1. يوليوس فلهوزن: الخوارج و الشيعة 112، ترجمة عبدالرحمن بدوي، من الألمانية الى العربية.

( 8 )

والأنصار، الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فاتّبعوا سنّته ولم يعدلوا عنها قيد شعرة، فأخذوا في مسألة الخلافة بالنص، وتركوا الاجتهاد في مقابله .

وأمّا الخوارج فقد نشأت في أعقاب حرب «صفّين» كما سيوافيك بيانه، فعدّهما عدلين وفي صفّ واحد جهل بتاريخ الشيعة وتاريخ الاسلام، أو تجاهل، وليس ذلك ببعيد عن المستشرقين المجتمعين على موائد الاستعمار .

هذا بعض ما اُلّف حول تاريخ الخوارج والكل كماترى ألّف بيد خصمائهم ولا يمكن الاحتجاج بهذه الكتب عليهم إلاّ إذا تضافر النقل وحصل الاطمئنان بصدقها، ولأجل رفع تلك النقيصة والتزاماً منّا بالموضوعية التي يجب أن يتّصف بها البحث والباحث، بذلنا الجهد للحصول على آثار تلك الفرقة في التاريخ والعقائد والفقه والتفسير وتقف على أسمائها في «قائمة المصادر» للكتاب. فإنّ الخوارج انقرضت بعامّة فرقها ولم يبق منهم مايعبأ به إلاّ فرقة الاباضية وهي الفرقة المعتدلة منهم، وهي المذهب الرسمي في عمّان، وقد قامت وزارة التراث القومي والثقافة لسلطنة عمان، بنشر آثار الاباضية في مجالات مختلفة، فلابّد للباحث من الرجوع إليها.

نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا في تبيين نشأة تلك الفرقة وتاريخها وعقائدها لما هو الحق والصدق، مجانبين عن كل فكرة ونظرية مسبقة في

حقّهم .

قم _ مؤسسة الامام الصادق _ عليه السَّلام _

جعفرالسبحاني

20/12/1411 ه_

( 9 )

الفصل الأوّل بداية الاختلاف بعد رحلة الرسول _

الفصل الأوّل بداية الاختلاف بعد رحلة الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _

( 10 )

( 11 )

ارتحل النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ملبّياً دعوة ربّه في العام الحادي عشر من هجرته، بعد ما بذل كل جهده لتوحيد الاُمّة ورصّ صفوفها، منادياً فيهم بقول سبحانه: (إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وَ أنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(1) وهو _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ كما دعا إلى كلمة التوحيد دعا إلى توحيد الكلمة بأمر منه سبحانه في الذكر الحكيم حيث قال:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا)(2) وقال سبحانه:(إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَةٌ...)(3) إلى غير ذلك من الآيات، وقد كان _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يُحذِّر المجتمع الاسلامي من التفرّق و التشرذم، وقد وصف التحزّب والتعصّب لقوم دون قوم «دعوى منتنة»(4).

وقد خاطب معشر الأنصار بقوله: «الله الله أبدعوى الجاهلية و أنا بين

____________________________

1. الأنبياء: 92 .

2. آل عمران: 103 .

3. الحجرات: 10 .

4. ابن هشام: السيرة النبوية 3/303 .

( 12 )

اظهركم بعد أن هداكم الله بالاسلام، وأكرمكم به، وقطع به أمر الجاهلية و استنقذكم من الكفر، وألّف به بين قلوبكم»(1) .

ومع كل هذه الأوامر العديدة و التحذيرات الشديدة نرى _ ياللاسف_ أنّ المسلمين اختلفوا بعد وفاته _ وجثمانه بَعدُ لم يُوار _ إلى فرقتين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول و يفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية وهاتان الفرقتان هما:

1 _ فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن و قالت إنّ الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على خلافة علي و ولايته في مواضع عديده و مناسبات كثيرة،

أعظمها و أشهرها يوم الغدير في منصرفه عن حجّة الوداع في العام العاشر، فقال في محتشّد عظيم: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» وقد بلغ الحديث في كل عصر حدّ التواتر بل تجاوز حدّه، ومن المتبنّين لهذه الفكرة، أكابر بني هاشم وشخصيّاتهم البارزة كعباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما ولفيف من الأصحاب، كسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود الكندي، وأبي التيهان، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين و الأنصار، الذين شايعوا علياً، و نفّذوا ما أوصى به النبي الأكرم في حقّ وصيّه، وهؤلاء همّ نواة الشيعة وهم جزء من المسلمين الاُول، فقد بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول .

2 _ فرقة تبنّت فكرة الشورى، وانّ لها اختيار القائد، وانتهت تلك الفكرة بعد مشاجرات ومشاغبات بين متبنّيها إلى خلافة أبي بكر بن أبي قحافة، و تمّت البيعة له في سقيفة بني ساعدة، ببيعة عدّة من المهاجرين، كعمر بن الخطاب

____________________________

1. ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 250 .

( 13 )

وأبي عبيدة الجراح، وبيعة الأوسيين من الأنصار، وهؤلاء قد نسوا أوتناسوا النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا الاجتهاد على النص، ورجّحوا المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي، والعجب انّ أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين و الأنصار كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة بأدلّة و مقاييس كانت سائدة في الجاهلية، والتي لاصلة لها بالكتاب و السنّة:

مثلا: إنّ الأنصار رأوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة، لأّنهم آووا رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ونصروه في حروبه في زمان أخرجه قومه فيه من موطنه وخذلوه، وقال خطيبهم الحبّاب

بن المنذر بقوله: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين.

هذا منطق الأنصار، وهلم معي نستمع منطق المهاجرين فقال أبوبكر ناطقاً عنهم: إنّ المهاجرين أقرباء النبي و عترته، ودعمه عمر فقال ردّاً لمنطق الأنصار: والله لاترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ولاتمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم، من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته؟

ترى أنّه ليس في منطق كل من المرشّحين أيّ استناد إلى الكتاب والسنّة فهذه تستدل بايوائهم رسول الله ونصرتهم إيّاه، وتلك تستند إلى قرابته منه، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق عارف بالكتاب والسنّة، مدير ومدبّر يملك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة سواء أكان من المهاجرين أم من الأنصار أو من طائفة اُخرى

كل ذلك يعرب عن أنّ الفكرة كانت غير ناضجة أوّلا، وانّ الانتخاب والاختيار لم يكن صادراً عن مبدأ الاسلامي ثانياً .

( 14 )

هذا و انّ طائفة من الأنصار أعنى الأوس بايعوا أبابكر بحجّة أنّهم إن لم يبايعوه ليكوننّ للخزرج عليهم فضيلة(1).

وهكذا ظهرت فرقتان بعد وفاة الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ والمبدأ الذي اختلفتا فيه هو: مسألة الخلافة و قيادة الاُمّة، وكان المترقّب بعد هذا الشقاق والاختلاف، طروء حروب دامية بين الطرفين، ولولا القيادة الحكيمة للامام علي _ عليه السَّلام _ ومساهمته مع الخلفاء في مهامّ الاُمور، والتنازل عن حقّه لَاْنجّر الأمر في حياة الخلفاء إلى الهلاك و الدمار، خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون تلك الفرصة ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى ليصطادوا في الماء العكر، وفي التاريخ شواهد تؤيّيد ذلك وانّ القيادة الحكيمة لصاحب النص أعني الامام علياً أفشلت

تلك الخطط الشيطانية نكتفي منها بما يلي:

روى الطبري: لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبوسفيان وهو يقول: «والله إنّي لأرى عجاجة لايدفها إلاّ دمّ، يا آل عبد مناف فيما أبوبكر من اُموركم؟ أين المستضعفان أين الاذلاّن علي والعبّاس؟ وقال: «أبا حسن أبسط يدك حتى اُبايعك» فأبى علي _ عليه السَّلام _ فجعل أبوسفيان يتمثّل بشعر المتلمّس:

ولن يقيم على خسف يراد به * إلاّ الأذلاّن غير العير و الوتد

هذا على الخسف معكوس برمّته * وذا يشجّ فلايبكي له أحدى(2)

قال: فزجره علي _ عليه السَّلام _ وقال: «إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للاسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك».

كان الامام معتقداً بشرعية امارته وخلافته، ويرى نفسه خليفة

____________________________

1. الطبري: التاريخ 2/ 446. ابن قتيبة: الامامة و السياسة 1/ 9 .

2. الطبري: التاريخ 2/ 449. ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2/ 220 .

( 15 )

رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وقد سبقت البيعة له في يوم الغدير وغيره، وكان يحتجّ به وبغيره من النصوص على استحقاقه لها و يعترف نفسه و أهل بيته بقوله: «ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصّية والوراثة»(1).

ومع ذلك رأى أنّ في مواجهة هذا الانحراف في تلك الظروف العصيبة مفسدة أعظم من فوت الولاية فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً، وطوى عنه كشحاً، وهو يصف الحال في بعض خطبه ويقول: «ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عن أهل بيته، ولا انّهم منحّوه عنّي من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون

إلى محق دين محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمئن الدين و تنهنه»(2).

قام أبوبكر بأعباء الخلافة، وحارب أصحاب الردّة، إلى أن مضى لسبيله، فأقام مكانه عمر بن الخطاب وهو أيضاً سار بسيرة من قبله، وكان المسلمون يجتازون البلاد، و يفتحون القلاع، ويسيطرون على العالم بفضل الدين والايمان، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة من قريش وزعم أنّ رسول الله مات وهو عنهم راض وهؤلاء هم: عليّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وقال: رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم، ثم نظر إلى كل واحد من هذه الستة إلى أن نظر إلى

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 5 .

2. الرضي: نهج البلاغة الكتاب 62 .

( 16 )

عثمان وقال: كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني اُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس، آثرتهم بالفيء فثارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال: فاذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن (1) .

فلمّا دفن عمر، اجتمع أصحاب الشورى في بيت فتكلّموا فتنازعوا، غير أنّ تركيب الأعضاء منذ عيّنها الخليفة كان يعرب عن حرمان علي و نجاح غيره و لأجل ذلك تمّ الأمر لصالح عثمان، فقام بالأفعال التي تنبّأ بها عمر بن الخطاب، وأحدث اُمراً نقم بها عليه، وأوجدت ضجّة بين

المسلمين ومن أبرز معالمها انحرافه عن الحق وإليك صورة من أعماله التي ثارت لأجلها ثورة الأنصار والمهاجرين:

1 _ تعطيل الحدود الالهية:

شرب الوليد بن عقبة الخمر فسكر فصلّى بالنّاس الغداة ركعتين أو أربع ركعات، فانْتُزعَ خاتمه من يده وهو لايشعر من سكر، وقد قدم رجل المدينة وأخبر عثمان ما شهده من الوليد فضربه عثمان، فكثرت الشكوى على عامله بالكوفة ولم ير بُداً من عزله ولم يجرِ الحد على الوليد، فقال الناس: عطّلت الحدود وضربت الشهود(2) .

2 _ عطياته الهائلة لبني اُميّة من بيت المال:

بين ليلة وضحاها صارت جماعة من بني اُميّة بفضل خلافة عثمان،

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1/186 .

2. السيوطي: تاريخ الخلفاء 104. أبوالفرج الاصبهاني: الاغاني 4/ 188 .

( 17 )

أصحاب الضياع العامرة والثروات الطائلة منهم: مروان بن الحكم، وعبدالله بن أبي سرح، ويعلى بن اُميّة، والحكم بن العاص، والوليد بن عقبة وأبى سفيان، وقد حفظ التاريخ صورة عطيات الخليفة لهم ولغيرهم، ومن أراد التفصيل فليرجع الى مظانه (1) .

ويكفيك أنّه أعطى مروان بن الحكم _ ابن عمّه و صهره _ خمس غنائم أفريقيا، وكانت تقدّر بمليونين و نصف مليون دينار، وفي ذلك يقول الشاعر:

واعطيت مروان خمس العبا * دِ ظلماً لهم و حميت الحمى(2)

3 _ تأسيس حكومة أموية:

كان الخليفة يبذل غاية جهده في تأسيس حكومة أموية في العواصم الاسلامية فنرى أنّه عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولاّها الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لاُمّه.

وفي سنة 27 من الهجرة عزل عمروبن العاص عن خراج مصر و استعمل عليه عبدالله بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة .

وعزل أباموسى الأشعري فولّى مكانه على البصرة عبدالله بن عامر وهو

ابن خال عثمان(3) .

وأبقى معاوية على ولايته على الشام، ولمّا كثرت الشكوى على عامله

____________________________

1. الأميني: الغدير 9 / 236 - 290 .

2. ابن قتيبة: المعارف 113 ط دار الكتب العلمية. ابن كثير: التاريخ 4/157 .

3. الدينوري: الأخبار الطوال 139. ابن الاثير: الكامل 3/88 _ 99 .

( 18 )

بالكوفة، الوليد بن عقبة، عزله وولّى مكانه سعيد بن العاص (1) حتى قيل إنّ خمساً و سبعين من ولاته كانوا من بني اُميّة (2).

4 - مواقفه العدائية تجاه الصحابة:

كان للخليفة مواقف غير مرضية مع أصحاب رسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فقد سيّر أباذر إلى الربذة وهي أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا كلاء، فهناك لفظ آخر أنفاسه غريباً فريداً(3) وأمر بضرب عبدالله بن مسعود فكسر ضلع من أضلاعه(4) كماأنّه ضرب عمّار بن ياسر حتى غشي عليه بحجّة أنّه انتقد عمل الخليفة في بيت المال (5) .

5 _ ايواؤه طريد رسول الله:

طرد رسول الله الحكم بن عاص مع ابنه مروان إلى الطائف، فردّهما إلى المدينة أيّام خلافته.

يقول الشهرستاني: ردّ الحكم بن اُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وكان يسمّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر و عمر (رضي الله عنهما) أيّام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك، نفاه عمر من

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3 / 325 .

2. الندوي: المرتضى: ولا حظ للوقوف على أسماء عمال عثمان في السنة التي قتل فيها، تاريخ الطبري 3 / 445 .

3. البلاذري: الانساب 5/54. الطبري: التاريخ 3/335 .

4. البلاذري: الانساب 5/36 .

5. البلاذري: الانساب 5/48 .

( 19 )

مقامه باليمن أربعين فرسخاً(1) .

إلى غير ذلك من الاُمور التي أغضبت جمهور المسلمين

وأثارتهم، حتى اجتمع المسلمون من المصريين والكوفيين والبصريين، وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه بتبيين سوء مواقفه وأعماله وجنايات عمّاله في البلاد، ولكن كان ردّ فعله تجاه هاتيك الاحتجاجات، سلبياً فلم يستجب لطلباتهم، بل غضب على كل من احتجّ عليه بسوء فعله أو فعل ولاته، ولكن كثرة السخط والنقد على الخليفة، شحنت النفوس نقمة وغضباً، فانفجرت ثورة عارمة لم تجمد إلاّ بقتله في عقرداره .

قتل الخليفة عثمان:

والمهاجرون والأنصار ومن تبعهم باحسان بين مجهز عليه، أو مؤلَّب ضدّه، أو مستبشر بمقتله، أو صامت رهين بيته، محايد عن الطرفين(2) .

إنّ هذه الأحداث الكبيرة لو اتّفقت في أيّ عصر من العصور التي يسود فيها الحكم الاسلامي لأثّرت نفسَ الأثر الذي خلَّفْته في عهد عثمان ولقلبت الاُمور رأساً على عقب.

ومع ذلك ترى أنّ بعض المؤرخين يريدون تبرير عمل الخليفة وانّ الثورة ضدّ الخليفة لم تكن ثورة شعبية دينية نابعة من أوساط المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في مصر والعراق، ويزعمون انّ عبدالله بن سبأ هو الذي جهّز المصريين وكدّر الصفو على الخليفة، وانّه وأتباعه كانوا وراء قتل الخليفة

____________________________

1. الشهرستاني: الملل والنحل 1/26 .

2. الطبري: التاريخ 3/399 .

( 20 )

ولكن هذا من مختلقات بعض المؤرّخين(1) الذين جرّهم حبّهم واخلاصهم للخلافة والخليفة الى اسناد هذه الثورة الى رجل مزعوم (عبدالله بن سبأ) لم يثبت وجوده أوّلا، وعلى فرض وجوده لم تثبت له تلك المقدرة الهائلة التي تثير الحواضر الاسلامية وعقلية المهاجرين والأنصار على الخليفة المفترض طاعته (2) .

فلو كان لعبدالله بن سبأ تلك المقدرة وانّه كان يجول في البلاد لتحريض الناس على الخليفة فلماذا لم يتمكّن الخليفة ولا عمّاله من القبض عليه ليسجنوه أو يطردوه من الحواضر الاسلامية الى نقطة لا ماء

فيها ولا كلاء كما طردوا أباذر إلى الربذة، وسيّروا صلحاء الكوفة إلى أمكنة اُخرى .

قال الأميني: لوكان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد، وانتهى أمره الى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يُلْقَ القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة، والتأديب بالضرب والاهانة، والزجّ الى أعماق السجون؟ ولا آل أمره الى الاعدام، المريح للأمّة من شرّه و فساده، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهتاف القرآن الكريم يرنّ في مسامع الملأ الديني:(إنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ الله وَرَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم و أرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيا وَ لَهُمْ في الآخِرَة عَذابٌ عَظيمٌ) (المائدة: 33)(3) .

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/378 .

2. لا حظ عبدالله بن سبأ لمرتضى العسكري فقد اغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.

3. الأميني: الغدير 9/219 .

( 21 )

اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة علي:

قتل الخليفة بمرأى و مشهد من الصحابة، وتركت جنازته في بيته، واجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علىّ، وطلبوا منه بإصرار بالغ قبول الخلافة، إذ لم يكن يوم ذاك رجل يوازيه ويدانيه في السبق الى الاسلام، والزهد في الدنيا، والقرابة من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، والعلم الوافر بالقرآن والسنّة، والامام يصف اجتماعهم في بيته ويقول: «فتداكوا علىّ تداكّ الابل الهيم، يوم وردها، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي»(1) .

وفي كلمة اُخرى له _ عليه السَّلام _ يقول واصفاً هجوم

المهاجرين والأنصار على بيته لبيعته: «وبسطتم يدي فكففتها، ومدد تموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداك الهيم على حياضها يوم وِرْدها حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطىء الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم ايّاي، أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت اليها الكعاب» (2) .

فلمّا عرضوا عليه مسألة الخلافة و القيادة الاسلامية أجابهم بجدَ وحماس: «دعوني فالتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لاتقوم له القلوب، ولا تثبت له العقول» (3) .

فلمّا أحسّ منهم الإلحاح و الإصرار المؤكّد وانّه لابدّ من البيعة ورفع علم الخلافة قال _ عليه السَّلام _ : إذا كان لابدّ من البيعة فلنخرج إلى المسجد حتى تكون بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار، وجاء الى المسجد فبايعه

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 54.

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 229 .

3. الطبري: التاريخ 3/156 .

( 22 )

المهاجرون والأنصار وفي مقّدمتهم الزبير بن العوام و طلحة بن عبيدالله ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل لايتجاوز عدد الأنامل كاُسامة بن زيد، و عبدالله بن عمر، وسعد بن أبيوقاص ونظائرهم (1) .

وقد عرفه التاريخ بأنّه كان رجلا زاهداً غير راغب في الدنيا ولامقبلا على الرئاسة وانّما قبل البيعة لأنّه تمّت الحجّة عليه وكان المسلمون يومذاك بحاجة الى قيادته وخلافته وهو يصف أمره: «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها»(2) .

كلّ ذلك صار سبباً لقيام علي بالزعامة والخلافة وتدبير الأمور ،ولم يكن هدف المبايعين إلاّ ارجاع الاُمّة الى عصر الرسول، ليقضي على الترف والبذخ، ويرفع راية العدل والقسط، ويهدم التفاضل المفروض على الاُمّة بالقهر والغلبة، وينجي المضطهدين والمقهورين من الفقر المدقع، ولمّا تمّت البيعة خطبهم في

اليوم التالي وبين الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة فعلى الصعيد المالي قال في قطايع عثمان التي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته: «والله لو وجدته قد تزّوج به النساء و ملك به الاماء لرددته فانّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (3) .

قال الكلبي: ثم أمر علي _ عليه السَّلام _ بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقّوى به على المسلمين، فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/156 .

2. نهج البلاغة، الخطبة 205 .

3. نهج البلاغة، الخطبة 15 .

( 23 )

داره، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمروبن العاص، وكان ب_ «ايلة» في أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب الى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع اذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تُقشر عن العصا لحاها(1).

ما مارسه الامام لتحقيق المساواة من خلال ردّ قطائع عثمان كان جرس الانذار في أسماع عبَدة الدنيا وأصحاب الأموال المكدّسة، أيّام خلافة الخليفة الثالث، فوقفوا على انّ علياً لايساومهم بالباطل، على الباطل ولايتنازل عن الحق لصالح خلافته.

وعند ذلك بدأوا يتآمرون على خلافته الفتية في نفس المدينة المنورة وفي مكة المكرمة والشامات، وقد كان هؤلاء متفرّقين في تلك البلاد.

وهذا هوالموضوع الذي نطرحه في الفصل التالي، وستعرف أنّ ظهور الخوارج في الساحة الاسلامية من مخلّفات هذا التآمر الذي رفع راياته الناكثون والقاسطون.

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة

1/270 .

( 24 )

( 25 )

الفصل الثاني حوادث وطوارئ مريرة في عصر

الفصل الثاني حوادث وطوارئ مريرة في عصر الخلافة العلوية

( 26 )

( 27 )

نهض الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالأمر، بعد قتل الخليفة عثمان، وقد عمّت الفتن والتمزّق والاضطراب الاُمّة الإسلامية، وحاق بهم البلاء، وصاروا شيعاً، المعنّيون منهم ذوو أهواء وميول.

فمن مسلم واع يرى بنور الإيمان خروج القياده الإسلامية عن الجادّة المستقيمة، وليس لها جمالها الموجود في العهد النبوي، ولا بعده إلى وفاة الشيخين، وهم الذين ثاروا على السلطة، وقتلوا الخليفة، ولمّ يدفنوه، حتى راحوا إلى رجل ليقوم بالأمر ويقيم الاود، ويصلح ما فسد، ولم يكن هذا الرجل إلاّ الإمام المعروف بالورع والّتقى، وقوّة القلب، ورباطة الجأش.

إلى متوغّل في لذائذ الدنيا وزخارفها، ادّخر من غنائمها وفراً، وجمع من بيضائها وصفرائها ثروة طائلة، واقتنى ضياعاً عامرة، ودوراً فخمة، وقصوراً شاهقة، يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، كأنّ الدنيا خلقت لأجلهم، فهؤلاء _ بعد قتل الخليفة _ لايرضون خروج الأمر من أيديهم ووقوعه في يد رجل لاتأخذه في الله لومة لائم والاُمّة الإسلاميّة عنده سواسية.

( 28 )

إلى انتهازىّ لايهمّه شيء سوى طعمته في الملك والمال، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها.

فقام الإمام بالأمر، وهذا وصف مجتمعه، وهم إلى الشدة والقسوة أقرب إلى الصلاح والفلاح. وأوّل من جهر بالخلاف وألَّب المخالفين على علىّ، هو معاوية بن أبي سفيان فقد كان واقفاً على أنّ عليّاً لايساومه بأيّة قيمة ولايبقيه في مقامه الذي كان عليه من عصر الخليفة الثاني إلى يوم بويع علىّ بالخلافة، فقام بتأليب بعض الصحابة على الامام وإغرائهم على الخلاف، بحجّة أنّه أخذ البيعة لهم من أهل الشام، وهذا نص رسالته إلى الزبير

بن العوام وقد وقف على أنّه بايع عليّاً بملأ من الناس، وفيها:«بسم الله الرحمن الرحيم، فانّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنّه لاشيء بعد هذين المصرين، وقد بايعتُ لطلحة بن عبيدالله من بعدك فاظهر الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدّ والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما».

ولّما وصل هذا الكتاب إلى الزبير، أعلم به طلحة فلم يشكّا في انّ معاوية ناصح لهما واجمعا عند ذلك على خلاف عليّ _ عليه السَّلام _ (1) .

كانت الغاية الوحيدة من أخذ البيعة من رعاع الناس في الشام للزبير وطلحة وإعلامهما لذلك، هو تشجيعهما على مخالفة الإمام _ عليه السَّلام _ بحجّة أنّهما خليفتان مترتبان، وأنّه يجب على علىّ أن يترك الخلافة جانباً، وبذلك أراد أن يحدث صدعاً في صفّ الذين بايعوا الإمام، ويفتح باب الخلاف ونكث البيعة، أمام الآخرين .

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1/231 .

( 29 )

كانت تلك الرسالة تحمل شروراً إلى الاُمّة الإسلامية وقد اغتر الشيخان بكلام ابن أبي سفيان فتآمرا على الخلاف ونكث البيعة على وجه يأتي شرحه.

ولم يكن نكث البيعة منهما نهاية الخلاف، بل كانت فاتحة لشرّ ثان وهو تجرّؤ معاوية على عليّ وبغيه على الإمام المفترض طاعته، بالحرب الطاحنة، وكان الإمام على أعتاب النصر و الظفر حتى نجم شرّ ثالت وهو خروج طائفة من أصحاب الامام عليه بحجة واهية تحكي عن سذاجة القوم وقلّة وعيهم: وهي مسألة التحكيم، وبذلك خاض الإمام في خلافته القصيرة التي لاتتجاوز عن خمسة أعوام، حروباً دامية، يحارب الناكثين تارة، والقاسطين اُخرى، والمارقين ثالثة، وفي ذلك يقول الإمام: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت

طائفة، ومرقت اُخرى، وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: (تِلْكَ الدارُ الآخرِة نَجْعَلُها لِلّذِينَ لايُريدونَ عِلُوّاً فِي الأرْضِ ولافَساداً وَ العاقِبَةُ للمتّقين) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها(1) .

قام الإمام بفقأ عين الفتنة بعد انتهاء حرب صفّين _ وياللأسف _ ولم يمض زمن إلى أن اُغْتِيل بيد أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود(2) _ حسب تعبير النبي الأكرم_، وبذلك طويت صحيفة عمره ولقى الله تعالى بنفس مطمئنة، وقلب سليم، وقد تنبّأ النبي الأكرم بحروبه الثلاثة، وأنّه سيقاتل طوائف ثلاثة وهم بين ناكث وقاسط ومارق من الدين.

روت اُمّ سلمة أنّ علياً _ عليه السَّلام _ دخل على النبي الأكرم في بيتها فقال النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ مشيراً إلى علي: هذا والله قاتل الناكثين

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة3 .

2. الصدوق: عيون أخبار الرضا297 .

( 30 )

والقاسطين والمارقين من بعدي(1) .

وروى علي _ عليه السَّلام _ ، عن النبي الأكرم: أمرني رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(2) .

هذا مجمل تلك الحوادث المريرة في خلافته، وكانت فتنة الخوارج نتيجة الحربين الطاحنتين: الجمل وصفّين، فلأجل اجلاء الحقيقة ورفع السترعن وجهها نعرضهما على القارىء، على وجه خاطف، والتفصيل على عاتق التاريخ.

____________________________

1. ابن كثير الشامي: البداية والنهاية 7/305، وقد جمع أسانيد الحديث ومتونه .

2. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 4/340 .

( 31 )

قتال الناكثين

(1)

حرب الجمل

النكث في اللغة هو نقض البيعة والمراد من قتال الناكثين: قتال الشيخين: الزبير وطلحة اللّذين نكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس، بترغيب وترهيب، وكان بدأ الخلاف انّ طلحة والزبير جاءا إلى عليّ وقالا له: يا أميرَ المؤمنين

قد رأيتَ ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها، وعلمت رأي عثمان في بني اُميّة، وقد ولاّك الله الخلافة من بعده، فوّلنا بعضَ أعمالك، فقال لهما: إرضيا بقَسم الله لكم. حتى أرى رأيي، واعْلما أنَّي لا أشرك في أمانتي إلاّ مَن أرضى بدينه، وأمانته من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلتَه .

فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة(1) .

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/231 _ 232 .

( 32 )

خرجا من عنده وهما غاضبان ويحتالان للخروج عن بيعته ونكثها، وفي ذلك الظرف القاسي، وصل إليهما كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة وأن أهلَ الشام بايعوا لهما إمامين مترتبين، فاغترّا بالكتاب(1) وعزما النكث بجد.

ثم دخلا على علىّ فاستاذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان، فحلفا له بالله انّهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ماالعمرة تريدان، وانّما تريدان الغدرة، ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولانكثَ بيعته يريدان وما رأيهما غير العمرة، فقال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشدّ مايكون من الأيمان والمواثيق، فأذنَ لهما فلمّا خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً: والله لاترونهما إلاّ في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أميرالمؤمنين فمُرْ بردِّهما عليك.

قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولا(2) .

خروج عائشة إلى مكة:

غادرت عائشة المدينة المنوّرة عندما حاصر الثوار بيت عثمان، ونزلت في مكة، ووصل خبر قتل الخليفة إليها وهي فيها، وكانت على تطلُّع إلى أين انتهت الثورة وإلى من آلت إليه الخلافة، فغادرت مكة إلى المدينة فلمّا نزلت «سرف» لقيها عبد ابن اُمّ كلاب فقالت له: «مهيم»؟ قال: قَتَلوا عثمان فمكثوا ثمانياً، قال: ثم صنعوا ماذا؟ قال: إجتمعوا على علىّ بن أبي طالب، فقالت: و الله إنّ هذه

انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، رُدّوني رُدّوني، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه، فقال لها ابن اُمّ كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أوّلَ من اَمالَ حرفه لأنت، ولقد كنت

____________________________

1. تقدم نص الكتاب .

2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/231 _ 232 .

( 33 )

تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنّهم استتابوه، ثم قتلوه، ولقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل، فقال لها: ابن اُمّ كلاب:

منك البداء و منك الغير * و منكَ الرياح و منكِ المطر

و انتِ أمرتِ بقتل الإمام * و قلتِ لنا أنّه قد كفر

فهبنا اطعناكَ في قتله * و قاتلُه عندنا مَنْ اَمَر

و لم يسقط السيف من فوقنا * ولم تنكسف شمسنا و القمر

فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحِجْرَ وسترت، واجتمع إليها الناس فقالت: يا أيّها النّاس انّ عثمان قد قتل مظلوماً والله لأطلبّن بدمه(1).

ثم إنّ طلحة والزبير بعدما استأذنا عليّاً غادرا المدينة ونزلا مكة، وكانت بينهما وبين عائشة صلة وثيقة يتآمرون ضد عليّ فلمّا بلغ عليّاً مؤامرة الزبير وطلحة وانّهما نكثا ايمانهما وعلى أهبة المكافحة معه، أشار بعض أصحابه أن لايتبعهما فأجاب علي بقوله: «والله لاأكون كالضبع تَنام على طول اللّدم، حتى يصلَ إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكن أضرب بالمقبل إلى الحق، المدبَر عنه، وبالسامع المطيع، العاصي المريب أبداً، حتى يأتي عليّ يومي»(2) .

مغادرة الشيخين وعائشة مكة:

اتّفق المؤامرون ومعهم جماعة من أعداء الامام، على أن يرتحلو إلى البصرة، ويّتخذوها مقرّاً للمعارضة المسلّحة.

____________________________

1. ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/49. الطبري: التاريخ 3/477 .

2. الرضي: نهج البلاغة، خطبة 6 .

( 34 )

وقد كان عبدالله بن عامر، عامل عثمان على البصرة، هربَ

منها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس، جاريةُ بن قدامة السعدي، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قِبَلِ علىّ .

وانصرف عن اليمن عاملُ عثمان وهو يعلى بن متيه فأتى مكّة وصادف بها عائشه وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني اُميّة، فكان ممّن حرّض على الطلب بدم عثمان وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى «عسكرا». وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار فأرادوا الشام فصدَّهم ابن عامر، وقال لهم: إنّ معاوية لا ينقاد اليكم ولايعطيكم من نفسه النصفة، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد.

فجهّزهم بألف ألف درهم، ومائة من الابل وغير ذلك، فسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب، فانتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب، يعرف ب_«الحوأب» عليه اُناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب، فقالت عائشة: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: «الحوأب»، فاسترجعتْ، وذكرت ما قيل لها في ذلك(1) وقالت: رُدّوني إلى حرم رسول الله، لاحاجة لي في المسير، فقال الزبير: تالله ما هذا «الحوأب»، ولقد غلط في ما أخبرك به، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم بالله إنّ ذلك ليس بالحوأب وشهد معهما خمسون رجلا ممّن كان معهم .

فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال، ثم إنّهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى قدوم علىّ، فلمّا كان في

____________________________

1. ورد في حديث روته عائشة، قالت: سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول وعنده نساؤه: ليت شعري ايتكنّ تنبحُها كلابُ الحوأب سائرة إلى الشرق في كتيبة!

( 35 )

بعض الليالي، بيّتوا عثمانَ بن حنيف فأسَروَه وضربوه

ونتفوا لحيته، ثم إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه: سهل بن حنيف وغيره من الأنصار، فخلوا عنه وأرادوا بيت المال فمانعهم الخُزّان والموكّلون به فقتل منهم سبعون رجلا من غير جرح، وخمسون من السبعين ضربت أعناقهم صبراً من بعد الأسر، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي وكان من سادات عبد القيس، وزهّاد ربيعة ونُسّاكها و تشاح طلحة والزبير في الصلاة بالنّاس، ثمّ اتّفقوا على أن يصلّي بالناس عبدالله بن الزبير يوماً ومحمّد بن طلحة يوماً في خطب طويل كان بين طلحة والزبير.

مسير علي إلى جانب البصرة:

وقف الامام على أنّ المتآمرين خرجوا من مكّة قاصدين البصرة، فاهتم الامام بايقافهم في الطريق قبل الدخول إليها فسار من المدينة بعد أربعة أشهر من بيعته في سبعمائة راكب، منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدريّاً وباقيهم من الصحابة، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، فانتهى إلى الربذة بين مكّة والكوفة، وكان يترقّب إلقاء القبض على رؤوس الفتنة قبل الدخول الى البصرة، لكن فاته ما يترقّب لأنّهم سبقوا الامام في الطريق ولحق بعلي من أهل المدينة، جماعة من الأنصار، فيهم خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وأتاه من طىّ ستمائة راكب(1) .

خرج عثمان بن حنيف من البصرة، وقدم على علي _ عليه السَّلام _ بالربذة، وقد نتفوا رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أميرالمؤمنين بعثتني ذا لحية،

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب 3/103 _ 104 طبعة بيروت. الطبري: التاريخ 3/485. واللفظ للأوّل، وفي لفظ الطبري زيادات تركناها روماً للاختصار.

( 36 )

وجئتك أمرد، فقال: أصبتَ خيراً وأجراً(1) .

واتصلت بيعة علي بالكوفة: وغيرها من الأنصار، وكانت الكوفة أسرعها إجابة إلى بيعته، وأخذ له البيعة على أهلها _ على كره _ أبوموسى

الأشعري حين تكاثر الناس عليه، وكان عاملا لعثمان عليها(2) .

لمّا وقف الامام على ماجرى على عثمان بن حنيف وحَرَسِه، بعثَ بعض أصحابه بكتاب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه استنهاضه للناس، ولكنّه تهاون في الأمر ولم يَقُم بواجبه بعدما أخذ البيعة له، واعترف بإمامته، وقال للناس: إنّها فتنة صمّاء، النائم فيها خير من اليقضان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنَّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم و المضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتتجلّى هذه الفتنة.

ولّما بلغ عليّاً خذلان أبي موسى الأشعري، وانّه يصف محاربة الناكثين بالفتنة، بعث هاشم بن هاشم المرقال وكتب الى أبي موسى: «إنّي لم اُولِّك الذي أنت به إلاّ لتكونَ من أعواني على الحق....»

وكان أبوموسى من أوّل الأمر عثمانّي الهوى وقد أخذ البيعة لعلي على الناس بعد اكثار الناس عليه _ كما تقدم _ فلأجل ذلك بقى على ما كان عليه من الحياد، ولم يُنهِض الناس، واستشار السائب بن مالك الأشعري فأشار هو باتباع الإمام ومع ذلك لم يقدم عليه(3) .

فكتب هاشم إلى علىّ، امتناع أبي موسى من الاستنفار.

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/495 .

2. المسعودي: مروج الذهب 3/97 .

3. الطبري: التاريخ 3/503 .

( 37 )

ولمّا تمّت الحجة عند الإمام انّ الرجل ليس على وتيرة صحيحة، عزله عن منصبه فولّى على الكوفة قرظة بن كعب الأنصاري و كتب إلى أبي موسى اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أوّلُ يومنا منك و انّ لك فينا لهنات وهنات.

وسار علي فيمن معه حتى نزل بذي قار وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس، فسارا عنها و معهما

من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف، وقيل ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا منهم الأشتر.

فانتهى علي إلى البصرة وراسل القوم وناشدهم فأبوا إلاّ قتاله(1) .

قد وصلنا إلى أعتاب الحرب الطاحنةِ المعروفة بحرب «الجمل» وقبل الخوض في تفصيلها نشير إلى نكات تستفاد فيما سردناه من المقدمات، ثم نخوض في صلب الموضوع حسب اقتضاء المقام.

1 _ إنّ الزبير و طلحة بايعا عن طوع ورغبة ولكن بايعا لبغية دنيوية وطمعاً في المال و المقام، ولم يمض زمان من بيعتهما إلاّ وقد أتيا عليّاً يسألانه اشتراكهما في بعض أعماله، وكان لهما هوى في ولاية الكوفة والبصرة، وكانت ديانة علي _ عليه السَّلام _ تصدّه عن الاجابة، إذ لم يكونا صالحين لما يطلبانه، وقد أثبتا ذلك _ قبل اشعال نار الحرب _ بنكثهما وتحريضهما الناس على النكث وقتلهم الأبرياء من الموكّلين وحرس بيت المال، وقد انتهى الأمر بسفك دماء آلاف من المسلمين.

كل ذلك يعرب عن أنّ مقاومة علي، تجاه طلبهما كانت أمراً صحيحاً يرضي به الربّ ورسوله، ولم يكن لعلي هوى إلاّ رضى الله سبحانه ورضى رسوله.

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب 3/104 .

( 38 )

2 - إنّ أباموسى الأشعري الذي قلَّب الاُمور على علىّ في قضية التحكيم،

كان من أوّل الأمر غير راض ببيعة الإمام ولم يأخذ البيعة له إلاّ بعد اكثار الناس، ولمّا أمره الإمام باستنهاض الناس و استنفارهم خذَّل الناس عن علي .

والعجب انّه كان يتمسّك في نفس الواقعة برواية سمعها من النبي أنّه قال: ستكون فتنة: القاعد فيها خير من النائم، والنائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب(1) .

نحن نفترض أنّه سمع من النبي ذلك الكلام، ولكّنه هل يمكن له تسمية مبايعة المهاجرين و الأنصار فتنة، فلو صحّ

ذلك _ ولن يصحّ حتى لو صحّت الأحلام _ لماذا لاتكون مبايعتهم السابقين من الخلفاء فتنة، يكون القاعد فيها خيراً من القائم، مع أنّ أبي موسي كان فيها من القائمين، وقد قبل الولاية في عصر الخليفتين، الثاني والثالث، حتى اعتنق بيعة الإمام بعد اكثار الناس.

ومن بايع رجلا على الإمامة والقيادة، كان عليه الذبّ عن إمامه و حياض سلطته.

3 _ إنّ الإمام _ عليه السَّلام _ أشار بقوله: «فما هذا أوّل يومنا منك و أنّ لك فينا لهنات و هنات» إلى الجناية التي سوف يرتكبها أبوموسى في قضية التحكيم حيث يخلع عليّاً عن الإمامة والخلافة كما سيوافيك تفصيله.

4 _ إنّ في منازعة الشيخين: الزبير وطلحة في أمر جزئي كالإمامة في الطلاة، يعرب عن طويتهما وما جبّلا عليه من التفاني في الرئاسة، انظر إلى الرجلين يريدان أن يقودا أمر الجماعة ويكونا امامان للمسلمين وهذه نزعتهما.

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/498 .

( 39 )

على أعتاب حرب الجمل:

سار عليّ حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية، فصلّى أربع ركعات، وعفر خدّيه على التراب وقد خالط ذلك بدموعه ثم رفع يديه يقول: اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّتْ، وربّ العرش العظيم، هذه البصرة، أسألك من خيرها، وأعوذبك من شرّها، اللّهمّ انزلنا فيها خير منزل، وأنت خير المنزلين، اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم قد بغوا علىّ وخلعوا طاعتي ونكثوا بيعتي، اللّهمّ أحقن دماء المسلمين .

ثمّ بعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء، وقال: «علام تقاتلونني؟» فأبوا إلاّ الحرب، فبعث إليهم رجلا من أصحابه يقال له مسلم، معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى فرموه بسهم فقتلوه، فحمل إلى علي قتيلا .

فأمر عليّ أصحابه أن يصافوهم ولايبدؤهم بقتال ولايرموهم بسهم، ولايضربوهم بسيف، ولايطعنوهم برمح. حتى جاء عبدالله بن بديل

بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال عليّ: اللّهمّ اشهد. أعذروا إلى القوم، ثم قام عمّار بن ياسر بين الصفّين فقال: أيّها القوم ما أنصفتم نبيّكم حين كفقتم عقائلكم في الخدور، وأبرزتم عقيلته للسيوف، وعائشة على الجمل في هودج من دفوف الخشب، قد ألبسوه المسوحَ وجلودَ البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقدغشى على ذلك بالدروع، فدنا عمّار من موضعها فناداها: إلى ماذا تدعين؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغيَ و الطالبَ لغير الحق، ثم قال: أيّها النّاس إنّكم لتعلمون أيّنا الممالى في قتل عثمان، ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبال:

فمنكِ البكاء و منكِ العويل * و منكِ الرياح و منكِ المطر

( 40 )

و أنت امرتَ بقتل الإمام * و قاتله عندنا من امر

وتواتر عليه الرمي فاتصل فحّرك فرسه، وزال عن موضعه وأتى عليّاً _ عليه السَّلام _ فقال: ما تنظر يا أمير المؤمنين وليس عند القوم إلاّ الحرب .

خطبة علي يوم الجمل:

فقام علي في الناس خطيباً ورافعاً صوته يقول: أيّها النّاس إذا هَزَمتموهم فلا تُجْهِزوا على جريح ولاتَقْتلوا أسيراً، ولاتتبعوا مولّياً، ولاتطلبوا مُدْبراً، ولاتكشفوا عورة ولاتمثلوا بقتيل، ولاتهتكوا ستراً، ولاتقربوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما تجدونه في عسكرهم من سلاح، أوكراع، أوعبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب الله .

ثمّ إنّ عليّاً نادى كلاّ من الزبير وطلحة وكلّمهما وأتمّ عليهما الحجة فقال للأوّل: أما تذكر قول رسول الله عندما قلت له: اِنّي أحبُّ عليّاً، فأجابك إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم، وقال للثاني: أما سمعت قول رسول الله يقول: الّلهمّ وال من والاه، وعاد من

عاداه، وأنت أوّل من بايعتني ثم نكثت، وقد قال الله عزوجل:(فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكِثُ عَلى نَفْسِهِ) .

ثمّ رجع علي إلى موضعه، وبعث إلى والده محمّد بن الحنفية وكان صاحب رايته وقال: «احمل على القوم» فلم يرمنه النجاح والظفر فأخذ الراية من يده، فحمل و حمل الناس معه فما كان القوم إلاّ كرماد اشتدَّت به الريح في يوم عاصف وأطاف بنوضبّة بجمل عائشة وأقبلوا يرتجزون.

نحن بنوضبَّة اصحابَ الجمل * رُدّوا علينا شيخنا ثم بجل

ننعي ابن عفان باطراف الأسل * والموت أحلى عندنا من العسل

( 41 )

وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ظبّة، منهم: كعب بن سور القاضي، كلّما قطعت يد واحد منهم فصرع، قام آخر فأخذ الخطام، ورمي الهودج بالنبل، حتى صار كأنّه قنفذ، وعُرْقبَ الجمل ولمّا سقط ووقع الهودج، جاء محمّد بن أبي بكر فأدخل يده، فقالت: «من أنت؟» فقال: أخوك، يقول أمير المؤمنين هل أصابك شيء، قالت: «ما أصابني إلاّ سهم لم يضرَّني» فجاء علي حتى وقف عليها و ضرب الهودج بقضيب وقال: «يا حميراءُ أرسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أمركِ بهذا، ألم يأمركِ أن تقرّي في بيتكِ، والله ما أنصفكِ الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم، وأبرزوك» وأمر أخاها محمداً، فأنزلها دار صفيّة بنت الحارث بن طلحة .

ولمّا وضعت الحرب أوزارها جهّز علي _ عليه السَّلام _ عائشة للخروج إلى المدينة فقالت له: «إنّي اُحبّ أن اُقيم معك فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك» فقال: «ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله» فسألته أن يؤمّن ابن اختها عبدالله بن الزبير، فأمَّنه، وتكلّم الحسن و الحسين في مروان، فأمَّنه، وأمّن الوليد بن عقبة، وولد عثمان و غيرهم من

بني اُميّة و أمّن الناس جميعاً، وقد كان نادى يوم الوقعة «مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل داره فهو آمن» .

وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالخريبة و ذلك يوم الخميس لعشر خلون من جُمادى الآخرة سنة 36 وخطب على الناس بالبصرة بخطبة، وقد قتل فيها، من أصحاب علي _ عليه السَّلام _ خمسة آلاف و من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألف رجل، وكان بين خلافة علي ووقعة الجمل خمسة أشهر وواحد وعشرون يوماً .

وولّى على البصرة، عبدالله بن عباس، وسار إلى الكوفة فدخل إليها في

( 42 )

الثاني عشر من رجب شهور سنه 36 (1) .

ولكن الإمام عبده، نقل انّه قتل سبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل و قتل من أصحاب علي ألف و سبعون (2) .

وعلى كل تقدير فهذه الضحايا كانت خسارة عظيمة في الإسلام، وقد عرقلت خطاه، وشلّت الزحوف الإسلامية في أوّل عهدها في الفتوح، ولولا هذه الحروب الداخلية، لكان للعالم حديث غير هذا، ولو كان الإمام هو القابض لزمام القيادة في جو هادىء، لكان الوضع السائد على الإسلام، غيرما هو المشاهد _ وياللأسف _ .

«ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه» .

وقد حفظ التاريخ من الامام يوم ذاك عواطف سامية وسماحة ورحب صدر على حدّ لم يسبق إليه أحد، غير النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عندما فتح مكّة، فلم يأخذ من أهل البصرة شيئاً سوى ما حواه العسكر. و كان هناك جماعة يصرّون على أن يأخذ الامام منهم، عبيداً وإماءً فاسكتهم الإمام بقول: أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنّين في سهمه (3). وقد علّم الامام بسيرته كيفيّة القتال مع البغاة من أهل القبلة.

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب 3/107 _ 117.

بتلخيص: لاحظ الطبري: التاريخ 3/543 .

2. الإمام عبده: شرح نهج البلاغة 40 .

3. وسائل الشيعة 11/59 _ 60 .

( 43 )

قتال القاسطين

(2)

حرب صفّين

قد تعرفت على أنّ النبي الأكرم أخبر عليّاً بأنّه سيقاتل القاسطين بعد الناكثين، وقد وقفت على مأساة حرب الناكثين وعرفت نواياهم وجناياتهم عن كثب، التي ارتكبوها في طريق ألتسنُّم على عرش القيادة، وأراقوا دماء بريئة حتى يُسمُّوا أمير المؤمنين وما أجرأهم على حرمات الله وماأشقاهم.

هلم معي نقرأ مأساة قتال القاسطين الذين حادوا عن الحق، والطريق المهيع، وحاربوا الإمام المفترض طاعته، يقودهم معاوية بن أبي سفيان ابن آكلة الأكباد، ولاغرو فإنّ أباه هو العدوّ الأوّل للنبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ الذي حزّب الأحزاب على الإسلام و المسلمين .

( 44 )

الخلافة كانت الامنية القصوى لمعاوية:

إنّ الخلافة كانت اُمنية في نفس معاوية، ولكن تقلُّدَ الإمام للخلافة، أفسد عليه الأمر، ولم يكن باستطاعته منافسة الإمام علي _ عليه السَّلام _ ولأجل ذلك حاول إحداث الصدع في صفِّ الاُمّة، فأطمع الشيخين في طلب الخلافة، وقد قُتِلا خائبين فلم يَجد مناصاً إلاّ أن يقوم في وجه الامام تحت ستار أخذ ثأر الخليفة المظلوم.

كان معاوية _ يطلب من الإمام _ طول محاربته _ اقراره على ولاية الشام كاقرار الخليفتين له حتى يُسلِّم له الأمر و يعترف بخلافته، ولكن الإمام عليّاً لم يرض ببقائه في الحكم لعلمه بسوء عمله خلال ولايته .

وقد أشار إلى ابقائه المغيرة بن شعبة، وقال: واترك معاوية، فإنّ لمعاوية جرأة فهو في أهل الشام يُسمع منه ولك حجة في اثباته لأنّ عمر بن الخطاب ولاّه الشام كلّها، ولكن الإمام لم يقبل اقتراحه، وقال: «لا و الله لا استعمل معاوية يومين أبداً»(1) .

بعث الإمام

جريراً إلى ولاية الشام ليأخذ منه البيعة، فأتى معاويةُ جريراً في بيته فقال: يا جرير إنّي قد رأيت رُؤياً، فقال: هات، قال: اكْتُب إلى صاحبك ليجعل لي الشام و مصر، جباية، فإذا أحضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي، واُسلِّم له هذا الأمر واكْتُبُ إليه بالخلافة، فقال جرير: اكتب بما أردت، فكتب معاوية بذلك إلى علي، فلمّا وصل كتاب جرير مع كتاب معاوية، فكتب علي إلى جرير: أمّا بعد فإنّما أراد معاوية أن لا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحبَّ(2)، وأراد أنْ يريّثك حتى يذوق أهل الشام،

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/461 .

2. سيأتي التصريح بذلك في كتاب معاوية إلى الإمام قرب ليلة الهرير، والامام تفطّن بذلك بنور الله الذي ينظر به المؤمن .

( 45 )

وأنّ المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة، فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله يراني أتّخذ المضلّين عضداً، فإن بايعك الرجل، وإلاّ فاقبل (1).

كتب معاوية إلى علي مرة اُخرى قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة يسأله اقراره على الشام، وذلك انّ عليّاً قال: لاُناجزنَّهم مصبحاً، و تناقل الناس كلمته، ففزع أهلُ الشام لذلك، فقال معاوية: قد رأيت أن اعاوِدَ عليّاً وأسأله اقراري على الشام، فقد كنت كتبت إليه ذلك، فلم يجب إليه ولاُكْتُبنّ ثانية، فألقي في نفسه الشك و الرقّة، فكتب إليه:

«أمّا بعد....وقد كنت سألتك الشام على الاّ تلزمني لك بيعة و طاعة، فأبيت ذلك عليّ فأعطاني الله مامنعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس...» .

فكتب في جوابه: «...وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك اليوم مامنعتك أمس»(2) .

هذه الكتب وغيرهما من القرائن والشواهد، تعرب

عن أنّ الغاية الوحيدة لابن أبي سفيان، هو الولاية على الشام وبقاؤه في الحكم، مادام عليّ على قيد الحياة، ثم السيطرة على جميع البلاد الاسلامية، وأمّا طلب ثأر عثمان، والقصاص من قتلته، فكلّها كانت واجهة لما كان يضمره ويخفيه، ولأجل ذلك نرى أنّه لمّا تمّ الأمر لصالحه، تناسى قتلة عثمان وتناسى الأخذ بثأره، وليس هذا ببعيد من الساسة الذين لا يتحلون بالمبدئية في سلوكهم، ويرفعون عقيرتهم بشعارات خادعة من أجل تحقيق أطماعهم الشخصية.

____________________________

1. نصربن مزاحم: وقعة صفين 52 .

2. ابن قتيبة: الإمامة و السياسة 1/109. ابن مزاحم: وقعة صفين 470 .

( 46 )

وبذلك تقف على مؤامراته وخططه الشيطانية، حيث كان شعاره منذ أن خالف: يالثارت عثمان.

وقد ردّ الإمام عليه في بعض كتبه إليه وفي بعضها مانصّه:

«قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل الناس، ثم حاكم القوم إليّ، أحْمِلُك وإيّاهم على كتاب الله» (1).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة أنّ الاُمنية الكبرى لمعاوية من تسعير نار الحرب، هو البقاء على السلطة، وتقلّد الخلافة العامة بعد علي، ولم يكن له أيّ إربة في مايدعيه، وينشره من أخذ الثأر وغيره، فلزم عندئذ أن نتعرّف على خططه في تلك الحرب الطاحنة التي سعّرها بأنانّية .

مخططات معاوية:

كانت صحابة النبي الأكرم من أوّل يوم تُقلِّد الإمام علي الخلافة، وراءه يؤّيدونه بألسنتهم وأيديهم، إلانفر قليل لم يبايعوه وهم لايتجاوزن عدد الأصابع(2) ولم يكن لمعاوية ما كان لعلي من السبق في الإسلام، والجهاد في سبيل الله، والقرابة الوثيقة من النبي الأكرم، فلم يكن له بدّ من التخطيطات الشيطانية حتى يقف سدّاً في وجه علي، وإليك تخطيطاته:

1_ الاتصال بعمرو بن العاص:

أنّ عمروبن العاص، كان داهية العرب، وقد اتّصل به معاوية وكان منحرفاً عن عثمان

لأنّه عزله عن ولاية مصر، وولاّها غيره، فلمّا بلغ إليه خبر

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، قسم الكتب برقم 64. المبرّد: الكامل 1/194 .

2. ابن الأثير: الكامل 3/98 وقد ذكر أسماءهم.

( 47 )

بيعة الناس لعلي، كتب إلى معاوية يهزِّه ويشير إليه بالمطالبة بدم عثمان، وكان فيما يكتب به إليه: «ما كت صانعاً إذا قُشِرْتَ من كل شيء تملكه؟ فاصنَع ما أنت صانع» فبعث إليه معاوية فسار إليه، فقال له معاوية: بايعني، قال: «لا والله لا اُعطيك من ديني(1) حتى أنال من دنياك». فقال: «سل»، قال: «مصر طعمة»، فأجابه إلى ذلك وكتب له به كتاباً، فقال عمروبن العاص في ذلك:

معاوي لا اُعطيك ديني ولم أنل * به منك دنياً فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة * أخذت بها شيخاً يضرّ وينفع(2)

2_ قميص عثمان المخضَّب بالدم:

قدم النعمان بن بشير بكتاب زوجة عثمان وقميصه المخضَّب بالدم، إلى معاوية فلمّا قرأ معاوية الكتاب صعد المنبر وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ماصنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابنُ عمِّك وأنت وليّه، ونحن الطالبون معك بدمه... فبايعوه أميراً وبعث الرسل إلى كور الشام، حتى بايعه الشاميون قاطبةً إلاّ من عصمه الله(3).

3_ الاستنصار بالشخصيات المرموقة:

وجّه عليّ عند مغادرته البصرة إلى الكوفة كتاباً إلى معاوية يدعوه إلى

____________________________

1. اظن انّ الرجل باع مالا يملك ولم يكن له أيّ دين في ذاك اليوم، وقد نهى رسول الله عن بيع مالا يملكه الرجل. و قال: لاتبع ماليس عندك.

2. المسعودي: مروج الذهب 3/98. الطبري: التاريخ 3/560.

3. ابن الاثير: الكامل 3/141. ذكر ابتداء وقعة صفّين .

( 48 )

بيعته ويذكر فيه اجتماع المهاجرين والأنصار

على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وماكان من حربه إيّاهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته (1).

ولمّا قرأ معاوية كتاب علي استشار عمروبن العاص، فأشار إليه بقوله: «إنّ رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكنديّ، وهو عدو لجرير المرسَل إليك، فارسل إليه و وطّن له ثقاتك فليفشوا في الناس أنّ علياً قتل عثمان وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل فإنّها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب، وإن تعلّقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبداً».

فكتب معاوية إلى شرحبيل انّ جرير بن عبدالله قدِم علينا من عند عليّ بن أبي طالب بأمر فظيع، فاقبل .

فلمّا قدم كتابُ معاوية على شرحبيل وهو بحمص، استشار أهلَ اليمن (المتواجدين في حمص) فاختلفوا فيه ولكن عبدالرحمن بن غنم الأزدي أشار إليه بقوله: «إنّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم، وانّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من النّاس، (و لايُغيِّر الله ما بِقَوْم حتّى يُغَيّروا ما بِاَنْفُسِهِم)، إنّه قد اُلقِىَ إلينا قتل عثمان وانّ عليّاً قتل عثمان، فإن يك قَتَله فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحُكّام على الناس، وإن لم يكن قتله فعلام تصُدِّق معاوية عليه، لا تُهْلِك نفسك وقومك، فان كرهت أن يذهب بحظِّها جرير، فسر إلى عليّ، فبايعه على شامك وقومك، فأبى شرحبيل إلاّ أن يسير إلى معاوية.

لم يكن عبدالرّحمن بن غنم الأزدي الرجل الوحيد الذي نصحه بل اجتمع هو مع جرير، فقال له جرير أمّا قولك إنّ عليّاً قتل عثمان، فوالله ما في

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/560 _ 561 .

( 49 )

يديك من ذلك إلاّ القذف بالغيب من مكان بعيد ولكنّك مِلْتَ إلى الدنيا(1).

كان مبعوث الإمام يحاول أن يرد

شرحبيل عن دَعْم فكرة معاوية، فكتب إليه أيضاً كتاباً ضمَّنه قصيدة، فلمّا قرأه شرحبيل ذعر وفكَّر وقال: هذه نصيحة لي في ديني ودنياي، والله لاأعجل في هذا الأمر بشيء.

فلمّا بلغ معاوية تردّد زاهد الشام وناسكه لفَّف له الرجال، يدخلون إليه ويخرجون ويُعظِّمون عنده قتل عثمان، ويرمون به عليّاً ويقيمون الشهادة الباطلة، والكتب المختلقة، حتى أعادوا رأيه وشحَّذُوا عزمه، وصار معاوية يملك قلوب الشاميين بواسطة هذا الرجل المتخّبط، ولمّا استنهضهم للقتال قاموا جملة واحدة.

4_ رسائل معاوية إلى الشخصيات:

قام معاوية بإرسال رسائل إلى شخصيات إسلامية كانوا محايدين، فكتب إلى عبدالله بن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، ومحمّد بن مسْلمة، يدعوهم إلى الثورة على علي، فكتب إلى ابن عمر بقوله: «لم يكن أحد من قريش أحبَّ إليّ أن يجتمع عليه الأُمّة بعد قتل عثمان منك، ثم ذكرتُ خَذْلك إياه، وطعنَك على أنصاره، فتغيّرتُ لك، وقد هوَّن ذلك عليَّ خلافُك على عليّ، ومَحا عنك بعض ما كان مَنك، فأعِنَّا يرحمك الله _ على حق هذا الخليفة المظلوم، فإنّي لست اُريد الإمارة عليك، ولكنّي اُريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين.(2)

وكتب إلى سعد بن أبي وقّاص: أمّا بعد فإنّ أحق الناس بنصرة عثمان، أهل الشام والذين أثبتوا حقَّه واختاروه على غيره (3) وقد نصره طلحة والزبير،

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 45 _ 48 .

2. نفس المصدر: 80 .

3. يريد بذلك سعد بن أبي وقاص حيث نصر عثمان في الشورى المعقوده لتعيين الخليفة بعد قتل عمر، بأمره .

( 50 )

وهما شريكاك في الأمر والشورى، وناظراك في الاسلام...

وكتب إلى محمّد بن مسلمة يتّهمه بخذلان عثمان ويقول «....فهّلا نهيتَ أهلَ الصلاة عن قتل بعضهم بعضاً أوترى أنّ عثمان وأهل الدار ليسوا

بمسلمين....»(1) .

فهذه الاُمور تعرب عن تخطيطاته الخادعة التي حفظ التاريخ بعضها فكان يُعْمِي الأبصار والقلوب بأكاذيبه ورسائله، فتارة يبايع الزبير وطلحة، ولمّا فشل أمرهما، صار يُقدِّم عبدالله بن عمر في أمر الخلافة لولا أنّه خذل عثمان ولم ينصره، كل ذلك لعكر الصفو وإحداث الصدع.

إنّ ابن عمر _ مع سذاجته _ وقف على نوايا معاوية، فكتب إليه بكلمة صادقة، و قال: ما أنا كعلي في الإسلام، والهجرة، ومكانه من رسول الله.

ويجيب سعد بن أبي وقّاص رسالة معاوية بقوله: إن أهل الشورى ليس منهم أحقُّ بها من صاحبه غير أنّ عليّاً كان من السابقة، ولم يكن فينا مافيه، فشاركنا في محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه، وكان أحقَّنا كلّنا بالخلافة.

ويجيب محمّد بن مسلمة، كتاب معاوية ويفشي سرّه ويقول بعد كلام: «ولئن نصرتَ (يا معاوية) عثمان ميّتاً، لقد خذَلْته حيّاً» (2) .

جهود علي ومساعيه لإخماد الفتنة:

بلغ عليّاً سعي معاوية لإثارة الفتنة بنشر الأكاذيب بين الشاميين وتعمية القلوب، فعمد إلى إخمادها قبل اشتعالها وكان الإمام على بيّنة من ربّه، وكيف لا وهو الإمام المنتخب ببيعة الأنصار والمهاجرين، والخارج عليه، خارج على

____________________________

1. ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة 1/92 _ 93 .

2. ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة 1/93 _ 94 .

( 51 )

الإمام المفترض الطاعة(1) فلمّا أراد المسير إلى الشام جمع من كان حوله من المهاجرين والأنصار فحمدالله وأثنى عليه، وقال: أمّا بعدُ: فإنّكم ميامين الرأي، ومراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وعمّار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، وخزيمة بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري يحثّون عليّاً _ عليه السَّلام _ على قطع جذور

الفتنة.

فقال عمّار: يا أمير المؤمنين، إن استطعت أن لا تُقيم يوماً واحداً فافعل. اشخص قبل استعار نار الفجرة، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة، وادْعهم إلى رشدهم، فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا إلاّ ضربَنا، فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وهو كرامة فيه.

وقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين، نحن سلم لمن سالمتَ وحرب لمن حاربتَ ورأينا رأيك ونحن كف يمينك.

إلى كلمات محرّضة وجمل حاثّة إلى الكفاح واخماد النار قبل اشتعالها. فلمّا سمع الإمام هذه الكلم النابعة من صميم الإيمان والنصح للإسلام، قام خطيباً على منبره فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: سيروا الى أعداء الله، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى بقية الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار (2).

يقول المسعودي: كان مسير علي _ عليه السَّلام _ من الكوفة إلى صفّين

____________________________

1. أين الذين يقولون «ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لايقاتلوا في الفتن» لا حظ مقالات الاسلاميين 323، للامام الأشعريّ .

2. ابن مزاحم: وقعة صفّين 92 _ 93 .

( 52 )

لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود، عُقْبة بن عمرو الأنصاري، فاجتاز في مسيره بالمدائن، ثمّ أتى الأنبار حتى نزل الرقة فعقدله هنالك جسر فعبر إلى جانب الشام، وقد اختلف في مقدار من كان معه من الجيش، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.

وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين، وقد اختلف من كان معه، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً(1) .

خروج معاوية إلى صفّين:

خرج معاوية من الشام وقدم صفّين وغلب على الماء، ووكّل أبا الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألفاً، وبات علي وجيشه في البرّ عطاشى، قد حيل بينهم وبين الورود،

فقال عمروبن العاص لمعاوية: إنّ عليّاً لا يموت عطشاً ومعه تسعون ألفاً من أهل العراق دعهم يشربون ونشرب، فقال معاوية: لا والله أويموت عطشاً كما مات عثمان.

استعادة الشريعة من جيش معاوية:

دعا علي بالأشتر فبعثه في أربعة آلاف من الخيل والرجالة، ثمّ سار عليّ وراء الأشتر بباقي الجيش، فما ردّ وجهه أحد حتى هجم على عسكر معاوية، فأزال أبا الأعور عن الشريعة، وغرق منهم بشراً وخيلا. وتراجع جيش معاوية عن الموضع الذي كان فيه، فقال معاوية لعمروبن العاص: أترانا ليمنعنا الماء كمنعنا إيّاه، فقال له عمرو: لا، لأنّ الرجل جاء لغير هذا، فأرسل إليه معاوية يستأذنه في ورود مشرعته واستقائه الماء في طريقه، ودخول رُسُله في عسكره،

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب 3/121 .

( 53 )

فأجاب علي إلى كل ما سأل وطلب منه (1) .

نزل الإمام علي منطقة صفّين في أوّليات ذي الحجة عام 36، والشهر من الأشهر الحرم، وبعث إلى معاوية يدعوه إلى إجتماع الكلمة والدخول في جماعة المسلمين، فطالت المراسلة بينهما فاتّفقوا على الموادعة إلى آخر محرّم سنة سبع وثلاثين.

ولمّا انقضى شهر محرّم، بعث علي إلى أهل الشام إنّي قد احتججت عليكم بكتاب الله تعالى، ودعوتكم إليه، وإنّي قد نبذت إليكم على سواء، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين. فما كان جوابهم إلاّ قولهم: السيف بيننا وبينك حتى يهلك الأعْجزُ منّا.

أصبح عليّ يوم الأربعاء وكان أوّلَ يوم من شهر صفر، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمام الجيش، فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وكان بينهم قتال شديد وأسفر عن قتلى بين الفريقين جمعياً.

امتدت الحرب كل يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبع وثلاثين وكان النصر حليفه في كل يوم إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس

الأخير، فعنذاك قام علي ينادي:

ياالله، يا رحمن، يا رحيم، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا الله، يا الله، اللّهُمّ إليك نقلتِ الأقدام، وأفضتِ القلوب، ورفعت الأيدي، وامتدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وطلبت الحوائج، اللّهُمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا، وكثرة عدوّنا وتشّتت أهوائنا، ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، ثم قال:

سيروا على بركة الله، ثم لا إله إلاّ الله، و الله أكبر، كلمة التقوى.

____________________________

1. ابن مزاحم: وقعة صفّين 157 - 162 .

( 54 )

قال الراوي: لا والله الذي بعث محمّداً _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بالحق ماسمعنا برئيس قدم منذ خلق الله السموات والأرض، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب. إنّه قتل فيما ذكره العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب(1) .

ثمّ قام علي خطيباً وقال: أيّها النّاس قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإنّ الاُمور إذا اقْبلت اعتُبر آخرُها بأوّلها، وقد صبر لكم القوم على غير دين، حتّى بلغنا منهم ما بلغنا، وأنا عاد عليهم بالغداة، أحاكمهم الى الله عزّوجل .

فبلغ ذلك معاوية فدعا عمروبن العاص فقال: يا عمرو انّما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل، فمّا ترى؟ قال: إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله، هو يقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على غيره. أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا، وإن ردّوه اختلفوا، ادْعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم فإنّي لم أزل اُأخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه،

فعرف ذلك معاوية، فقال صدقت (2) .

يقول تميم بن حذيم: لمّا أصبحنا من ليلة الهرير، نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام فلمّا أسفرنا فإذا هي مصاحف قد ربطت أطراف الرماح، وهي عِظامُ مصاحِف العسكر، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً، وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم، يُمسكه عشرة رهط، وقال أبوجعفر وأبوالطفيل: استقبلوا عليّاً بمائة مصحف، ووضعوا في كل مُجَنَّبة مائتي مصحف، وكان

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 477 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 544 _ 548 .

( 55 )

جميعها خمسمائة مصحف. قال أبوجعفر: ثمّ قام الطفيل بن أدهم حِيالَ علي وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة، ثمّ نادوا:....يا معشر العرب، الله الله في نسائكم وبناتكم، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال علي: اللّهُمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنّك أنت الحكيم الحق المبين. فاختلف أصحاب عليّ في الرأي. فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعِينا إلى حكم الكتاب. فعند ذلك بطلت الحروب ووضعت أوزارها، فقال محمّد بن علي: فعند ذلك حكم الحكمان.

وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش علي _ عليه السَّلام _ حيث زعموا أنّ اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل وانّ الغاية القصوى منها، هو إيجاد الشقاق والنفاق في جيش علي وتثبيط هممهم حتى تخمد نار الحرب التي كادت أن تنتهي لصالح علي وجيشه، وهزيمة معاوية وناصريه.

ولكن الخديعة كانت قد

وجدت لها طريقاً في جيش العراق حتى سمع من كل جانب: الموادعة إلى الصلح والنازل لحكم القرآن، فلمّا رأى علي _ عليه السَّلام _ تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال:«أيّها الناس إنّي أحقُّ مَنْ اجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمروبن العاص، وابن أبي معيط وحبيب ابن مسْلمة، وابن أبي سرح، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، إنّها كلمة حق يراد بها باطل: إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم

( 56 )

يعرفونها ويعلمون بها، ولكنّها الخديعة والمكيدة. أعيروني سواعِدَكم وجَماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا»(1).

وقد كان لخطاب علي أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفتن، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريين من أهل البادية، الذين ينخدعون بظواهر الاُمور، ولا يتعمّقون ببواطنها، ففوجىء علي _ عليه السَّلام _ بمجييء زهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد شاكي سيوفهم وقد اسودَّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه بإسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيتَ وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم.

فقال الإمام لهم: «ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فانّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا

العمل بالقرآن يريدون» قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتينّك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.

فلم يجد علي _ عليه السَّلام _ بداً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه، فأرسل إليه علي، يزيد بن هاني أن ائتني، فأتاه، فأبلغه، فقال الأشتر: ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، أنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلى علي _ عليه السَّلام _ فاخبره، فما هو إلاّ أن

____________________________

1. ابن مزاحم: وقعة صفّين 560 .الطبري: التاريخ 4/34 _ 35 .

( 57 )

علت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والادبار لأهل الشام فقال القوم لعلي _ عليه السَّلام _ : والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال، قال علي _ عليه السَّلام _ : أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلاّ فوالله اعتزلناك، فقال الإمام: ويحك يا يزيد قل له اقبل فإنّ الفتنة قد وقعت، فأتاه فأخبره.

فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة أنّها من مشورة ابن النابغة، ثم قال ليزيد بن هاني: ويحك ألاترى إلى الفتح؟ ألاترى إلى مايلقون؟ ألاترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟.

فقال له يزيد أتحبّ أنّك ظفرت ها هنا وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه، ويسلّم إلى عدوّه؟ قال: سبحان الله، لاوالله الا أحبّ ذلك، قال: فانّهم قد قالوا له وحلفوا عليه لتُرسِلن إلى الاشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان، أو لنسلّمنّك إلى عدوّك.

فأقبل الأشتر

حتى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا سنّة من أنزلت عليه، امهلوني فواقاً، فإنّي قد أحسست بالفتح؟ قالوا: لا نُمْهلك، فقال: أمهلوني عدوة الفرس، فإنّي قد طمعت في النصر؟ قالوا: إذاً ندخل معك في خطيئتك.

فسّبوه وسبّهم، وضربوا بسياطهم وجه دابّته، وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح عليّ _ عليه السَّلام _ بهم فكفّوا، وقال الأشتر يا أميرالمؤمنين احمل الصف على الصف، يصرَع القوم، فتصايحوا: إنّ أمير المؤمنين قد قبل الحكومة

( 58 )

ورضي بحكم القرآن، فقال الأشتر: إن كان أميرالمؤمنين قد قبل ورضى، فقد رضيت بما رضي به أميرالمؤمنين.

فأقبل الناس يقولون: قد رضي أمير المؤمنين، قد قبل أميرالمؤمنين، وهو ساكت لا يبضُّ بكلمة، مطرق إلى الأرض (1) .

ثم قام فسكت الناس كلّهم فقال: «أيّها الناس إنّ أمري لم يزل معكم على ما أحبُّ إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوّكم فلم تترك، إلاّ انّي قد كنت أمس أمير المؤمنين فصرت مأموراً، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون»(2) .

قال نصر بن مزاحم: ثمّ تكلّم رؤساء القبائل فكل قال مايراه ويهواه، فقام كردوس بن هاني البكري يدعوا الناس إلى تسليم الأمر إلى عليّ، كما قام شقيق بن ثور البكري يدعوا الناس إلى الصلح والموادعة ويقول: وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلاّ في الموادعة (3).

هذه الحوادث المؤلمة التي أسفرت عن مؤامرة خبيثة يراد منها ايقاع الفتنة والخلاف في جيش علي _ عليه السَّلام _ إلى النزول إلى حكم القوم كرهاً بلا اختيار،

واضطراراً لا عن طيب نفس.

فبعث علي قرّاء أهل العراق، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفّين فنظروا فيه وتدراسوه واجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، وأن يميتوا ما أمات القرآن، ثم رجع كل فريق إلى أصحابه، وقال الناس: «قد رضينا

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 560 _ 564 .

2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/219 _ 220. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 553 .

3. نصربن مزاحم: وقعة صفيّن 554 .

( 59 )

بحكم القرآن» .

فرض التحكيم أوّلا، وفرض المحكّم ثانياً:

ولقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ أنّهم فرضوا نفس التحكيم على الإمام المفترض طاعته ببيعة المهاجرين والأنصار، ولم يبق بينه وبين الفتح والظفر على العدو إلاٌّ قاب قوسين أوأدنى أوبمقدار عدوة الفرس كمّا قاله الأشتر.

إنّهم _ قبّح الله وجوههم _ لم يكتفوا بهذا الحد في قلّة الأدب، بل فرضوا عليه المحكّم، فإن الإمام لمّا لَم يَر بدّاً من قبول التحكيم فاقترح عليهم أن يكون المحكّم من جانبه أحد الرجلين: ابن عمّه _ عبدالله بن عباس _ أو الأشتر.

ولكنّهم رفضوا كل ذلك وأبوا إلاّ نيابة أبي موسى الأشعري الذي خذل عليّاً _ عليه السَّلام _ في بداية خلافته، ولم يبايعه إلاّ باكثار الناس ولم يشجّع أهل الكوفة على نصره بل سكت.

يقول ابن مزاحم: قال اهل الشام: فإنّا قد رضينا واخترنا عمروبن العاص، فقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد: فانّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري، فقال لهم علي _ عليه السَّلام _ : «إنّي لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أولِّيه» فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القرّاء: انّا لا نرضى إلاّ به،

فإنّه قد حذّرنا ما وقعنا فيه، قال علي _ عليه السَّلام _ : «فإنّه ليس لي برضى ولكن هذا ابن عباس اُوّليه ذلك، قالوا: والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ولا نريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء، قال علي: فإنّي أجعل الأشتر، فقال الأشعث: وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر.

( 60 )

حتى انّ عليّاً اقترح عليهم الأحنف بن قيس فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: لايكون ألاّ أبا موسى، وقد كان معروفاً بأنّه قريب القعر، كليل الشفرة، فلم ير علي _ عليه السَّلام _ بداً من قبول أبي موسى، وقد كان الإمام عارفاً ببساطته وسذاجته، وكانت في ذلك خسارة عظمى لحزب علي _ عليه السَّلام _ وأشياعه إلى حدّ وصفها الشاعر بقوله:

لو كان للقوم رأي يُعْصمونَ به * من الظلال رَمَوكم بابن عباس

لله درُّ أبيه أيُّما رجل * ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

أن يخلُ عمروبه، يقذفه في لجج * يَهوي به النجمُ تَيْساً بين أتياس

ابلغ لديك عليّاً غير عاتِبِه * قول امرىء لا يرى بالحقِّ من بأس (1)

لقد كان عليّ _ عليه السَّلام _ واقفاً على انحراف أبي موسى عنه، وانّ هواه مع غيره، ومع ذلك لم يجد بدّاً عن الرضا بما فرض عليه البسطاء من جيشه، وهذا هو الأحنف بن قيس من أصدقاء علي _ عليه السَّلام _ وخُلّصِ شيعته، فقد امتحن أبا موسى بعد ما نُصِبَ حكماً من قبل علي _ عليه السَّلام _ فقال له ممتحناً: «فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فخّيره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنّهم يولّونا الخيار

فنختار من نريد، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا، فإن فعلوا كان الأمر فينا، فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي _ عليه السَّلام _ فرجع الأحنف إلى علي _ عليه السَّلام _ فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل مخضة. لا أرانا إلاّ بعثنا رجلا لا ينكر خلعك، فقال علي _ عليه السَّلام _ : الله

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 575 _ 576 .

( 61 )

غالب على أمره(1) .

إنّ الإمام خاطب أبا موسى _ عندما بعثه إلى دُومَةِ الجندل حكماً _ بقوله: احكم بكتاب الله ولا تجاوزه، ولمّا ودّع أبا موسى وغادر المجلس، قال الإمام: كأنّي به وقد خدع، فقال عبيدالله بن أبي رافع: لماذا تبعثه وهو على هذه الفكرة؟ فقال الإمام _ عليه السَّلام _ لو عمل الله في خلقه بعلمه، ما احتجّ عليهم بالرسل (2) .

صياغة اتفاقية الصلح:

إنّ القوم فرضوا على الإمام التحكيم والمحكّم، ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا عليه ما كان الخصم يطلبه في تحرير وصياغة اتفاقية الصلح، ولمّا اتفق الطرفان على كتابة الصلح وايقاف الحرب إلى أن يحكم الحكمان دعا علي _ عليه السَّلام _ كاتبه ليكتب صحيفة الصلح على النحو الذي يمليه الإمام، فقال الإمام: اكتب: «هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين» فقال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أنّه أمير المؤمنين ثمّ قاتلته، وقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، إنّما هو أميركم، وأمّا أميرنا فلا. فلمّا اُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه، فقال الأحنف: لا تمح اسم امرة المؤمنين عنك، فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لا تمحها، وإن

قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها، ثمّ إنّ الأشعث بن قيس جاء، فقال: امح هذا الاسم. فقال علي: لا إله إلاّ الله والله أكبر، سنّة بسنّة، أما والله لعلى يدي، دار هذه الأمر يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «هذا ما تصالح عليه

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 617. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/249 .

2. ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 2/261 .

( 62 )

محمّد رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وسهيل بن عمرو» فقال سهيل: لا أجيبك إلى كتاب تسمّي (فيه) رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ولو أعلم أنّك رسول الله لم اُقاتلك إنّي إذاً ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ولكن اكتب «محمّد بن عبدالله» أجبك، فقال محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يا علي إنّي لرسول الله، إنّي لمحمّد بن عبدالله، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم«محمّد بن عبدالله»، فاكتب: محمّد بن عبدالله، فراجعني المشركون في هذا إلى مدّة، فاليوم اكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إلى آبائهم سنّة ومثلا. فقال عمروبن العاص: «سبحان الله، ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟» فقال له علي _ عليه السَّلام _ : يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً وهل تشبه إلاّ اُمّك التي وضعت بك. فقام عمرو فقال: والله لايجمع بيني وبينِك مجلس أبداً بعد هذا اليوم، فقال علي: والله إنّي لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك(1) .

اتفاقية الصلح أو وثيقة

التحكيم:

تنازل عليّ _ عليه السَّلام _ عن حقّه المشروع ورضى، كما رضي رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أن يكتب اسمه مجرّداً عن توصيفه بامرة المؤمنين فأملى عليّ صحيفة الصلح بالنحو التالي وفيها عبر ونكات وتشتمل على بنود ربّما نرجع إليها في المستقبل:

1 _ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 582 _ 583 .

( 63 )

معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب. إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم، وأن نقف عند أمره فيما أمر، وانّه لا يجمع بيننا إلاّ ذلك، وانّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، على ذلك تقاظيا، وبه تراضيا.

2 _ إنّ علياً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبدالله بن قيس(1) ناضراً ومحاكماً، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمروبن العاص ناضراً ومحاكماً.

3 _ على أنّهما أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد في خلقه، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً. ومالم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ الجامعة، لايتعمّدان لهما خلافاً، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى، ولا يدخلان في شبهة.

4 _ وأخذ عبدالله بن قيس وعمروبن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه

بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيه _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره، وانّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق، رضى بذلك راض أو أنكره منكر وانّ الاُمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل.

5 - فإن توفّى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا، لايألون عن أهل المعدلة والاقساط، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وله مثل شرط صاحبه، وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه يرضون عدله. وقد وقعت القضية

____________________________

1. هو أبو موسى الأشعري .

( 64 )

ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة.

6 - وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألاّ يألوا اجتهاداً، ولا يتعمّدا جوراً، ولا يدخلا في شبهة، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنّة رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ . فإن لم يفعلا برئت الاُمّة من حكمهما، ولا عهد لهما ولاذمّة. وقد وجبت القضية على ما قد سُمِّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله أقرب شهيداً، وأدنى حفيظاً، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

7 _ وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل الطرق وأهل الشام ولا يحضر هما فيه إلاّ من أحبّا، عن ملأ منهما وتراض. وانّ المسلمين قد اَجّلوا القاضيّين إلى انسلاخ رمضان(1)، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها، وإن أراداتا خيرها بعد رمضان إلى انقضاء

الموسم فإنّ ذلك إليهما.

8 _ فإن هما لم يحكمابكتاب الله وسنّة نبّيه _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب. ولا شرط بين واحد من الفريقين. وعلى الاُمّة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد فيه إلحاداً وظلماً أوحاول له نقضاً. ثمّ إنّه شهد بما في الكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما فمن أصحاب علي، عبدالله بن عباس، والأشعث بن قيس، والأشتر مالك بن الحارث، والحسن والحسين ابنا عليّ وطائفة اُخرى يبلغ عدد الشهود سبعاً وعشرين شخصاً وفيهم من الصحابة الكبار، نظير خبّاب بن الارث وسهل بن حنيف وعمروبن الحمق الخزاعي، وحجر بن عدي، كما شهد من أصحاب معاويه أبوالأعور

____________________________

1. أي رمضان سنة تحرير الاتفاقية وهي سنة 37، وقد كتب الكتاب في صفر هذه السنة كما سيوافيك.

( 65 )

وبسر بن أرطاة وعبدالله بن عمروبن العاص، وكتبت لثلاث عشر ليلة بقيت من صفر سنة 37(1) .

ونلاحظ أنّ في الميثاق تصريحاً بأنّه من اللازم على الحكمين الإدلأ برأيهما إلى انقضاء موسم الحج من عام 37 وهما أدليا برأيهما في شعبان تلك السنة كما سيوافيك.

وما نقله الطبري عن الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة غير صحيح(2) .

صورة اُخرى لوثيقة التحكيم:

ثمّ إنّ ابن مزاحم نقل صورة اُخرى لوثيقة التحكيم يتّحد مع ماسبق لبّاً ويختلف في بعض الموارد عبارة فمن أراد فليرجع إلى مصدره وفي ذيلها: «وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين واتَّعد الحكمان (اذرح)» (3) وأن يجيء علي بأربعمائة من أصحابه، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة.

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة

صفّين 582 .

2. الطبري: التاريخ 4/52 .

3. اذرح _ بضم الراء _ بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الروم.

االفصل الثالث نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ

االفصل الثالث نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ التحكيم

( 68 )

( 69 )

إنّ الذين حملوا عليّاً _ عليه السَّلام _ على الموادعة والرضوخ للتحكيم، رجعوا عن فكرتهم وزعموا أنّ أمر التحكيم على خلاف الذكر الحكيم حيث يقول (ان الحُكْم إلاّ لِلِّه )(1) فحاولوا أن يفرضوا على علىّ _ عليه السَّلام _ أمراً رابعاً وهو القيام بنقض الميثاق ورفض كتاب الصلح بينه وبين معاوية، فجاء هؤلاء قائلين: «لا حكم إلاّلله، الحكملله يا علي لالك، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين، فرجعنا وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا، وإلاّ برئنا منك. فقال علي: وَيْحكم، أبعد الرضا(والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله تعالى قال:( اُوفوا بالعقود) وقال: (واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون) : فأبى علي أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، وبرئت من علي _ عليه السَّلام _ ، وبري

____________________________

1. الأنعام: 57. وقد ورد في سورة يوسف أيضاً مرّتين، لا حظ الآية 40 و67 من هذه السورة .

( 70 )

منهم(1) .

وقال الطبري: لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى إلى الحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي(2)، فدخلا عليه فقالا له: لا حكم إلاّ لله، فقال علي _ عليه السَّلام _ :

لا حكم إلاّ لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا، فقال لهم علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله عزّوجل: (واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون). فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عزوجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال له علي: بؤسا لك ما أشقاك كأنّي بك قتيلا تسفى عليك الريح. قال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: لو كنت محقَاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا. إنّ الشيطان قد استهواكم فاتّقوا الله عزّوجلّ إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها فخرجا من عنده يُحكِّمان (3).

روى ابن مزاحم عن شقيق بن سلمة قال: جاءت عصابة من القرّاء قد

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 589 _ 590 .

2. إنّ الاباضية _ الفرقة الباقية من الخوارج _ يقولون المحكمة الاُولى نظراء: زرعة، وحرقوص، والراسبي مُحِقوُن بحجة أنّهم أرادوا أن لا يحكم الرجال فيما حكم فيه سبحانه وهو قتال أهل البغي حتى يفيئوا، ولكنّهم لا يذكرون شيئاً من أنّهم كانوا هم الأساس لمسألة التحكيم، وهم الذين فرضوا على الإمام، هذا الأمر. فلتكن على ذكر من هذا النقل حتى يحين وقت دراسة الموضوع.

3. الطبري:

التاريخ 4/52 _ 53 .

( 71 )

سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تنظر بهؤلاء القوم إن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق؟ فقال لهم عليّ: قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ولا يحلّ قتالهم حتى ننظر بِمَ يحكم القرآن .(1)

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت مصّرة على التصالح وانّ عصابة منهم، كانوا متوقّفين في بدء الأمر، ثمّ بدا لهم أن ينصروا الإمام في وقت، تمّت الإتفاقية بين الطرفين وأعطى الإمام العهد بالعمل بها.

هذه الكلمة الجارحة التي صدرت من زرعة الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ونظائرها كانت تصدر من الخوارج آونة بعد اُخرى، وذلك لأنّهم يتّهمون عليّاً بارتكاب الإثم ولزوم التوبة بنقض الصحيفة، وفي مقابل ذلك سطّر التاريخ مواقفاً جريئة وحرّةً صدرت عن ثلّة من أصحاب علي _ عليه السَّلام _ .

هذا هو سليمان بن صرد من أصحاب علي أتاه بعد كتابة الصحيفة ووجهه مضروب بالسيف فلمّا نظر إليه علي _ عليه السَّلام _ قال: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا)فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدل، فقال يا أمير المؤمنين: أما لو وجدتُ أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً. أما والله لقد مشيتُ في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت أحداً عنده خير إلاّ قليلا. وقام إلى علي _ عليه السَّلام _ محرز بن جريش بن ضليع، فقال: يا أمير المؤمنين: ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟ فإنّي لأخاف أن يُورث ذلاّ، فقال علي _ عليه السَّلام _ أبعد أن كتبناه ننقضه؟ إنّ هذا لا يحلّ.

وقام فضيل بن خديج مخاطباً عليّاً لمّا كتبت الصحيفة: إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه

الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم، فقال علي _ عليه السَّلام _ :

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 569 .

( 72 )

بلى إنّ الأشتر ليرضى إذا رضيت، وقد رضيت ورضيتم، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلاّ أن يعصى الله ويتعدّى ما فيه كتابه.

فلمّا رآى علي _ عليه السَّلام _ تكرّر تلك المواقف قام خطيباً ليزيل الشكوك والأوهام عن قلوب شيعته فخطب وقال: «إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق، ولاليجيبوا إلى كلمة السواء، حتى يُرْمَوا بالمناسر، تتبعها العساكر، وحتى يُرجَموا بالكتائب تقفوها الجلائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس، يتلوه الخميس، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم، وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج، وحتى يلقاهم قوم صُدُق صُبُر، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلاّ جداً في طاعة الله، وحرصاً على لقاء الله، ولقد كنّا مع رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً، ومُضيّاً على اللقم وصبراً على مضَضَ الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان متصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيَّهما يسقي صاحبه كأس المنون مرّة لنا من عدوّنا ومرة لعدّونا منّا، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقّر الإسلام ملقياً جِرَآنه، ومتبوَّئاً أو طانه، ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود، وايم الله لتحتلبنّها دماً ولتُتَبِعنَّها ندماً(1) .

وقد أعرب الإمام في خطبته هذه عن السبب الحقيقي للفصل والوهن الذي واجه جيشه مع كثرة عددهم وعدّتهم، وما هذا إلاّ لأنّهم عصوا إمامهم، واغترّوا

بظواهر الاُمور، وحسبوا أنّ اللجوء إلى كتاب الله شيء يدين به الخصم،

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 56. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 597 _ 598 وبين المنقول في المصدرين اختلاف في اللفظ، ورجحّنا نقل الرضي.

( 73 )

ففرضوا على علي _ عليه السَّلام _ التحكيم والحّكم، إلى غير ذلك من الاُمور التي ذكرناها آنفاً، فصار القائد مقوداً والإمام مأموماً والمطاع مطيعاً.

تنبّؤ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بفتنة الخوارج:

روى ابن هشام عن عبدالله بن عمروبن العاص أنّه قال: جاء رجل من بني تميم _ في غزوة هوازن _ يقال له ذوالخويصرة فوقف عليه وهو يعطي النّاس فقال: يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي، ثم قال: ويحك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمربن الخطاب: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: لا دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون(1) في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية(2)

____________________________

1. المراد من التعمق كثرة السؤال والاعتراض على الأوامر الصادرة من القيادة ويؤيّد ذلك الحديث المشهور: سأل رجل الإمام موسى بن جعفر _ عليه السَّلام _ وقال: رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء، ولا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلّي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة. انّ أباجعفر _ عليه السَّلام _ كان يقول: إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، انّ الدين أوسع من ذلك. (الصدوق: من لا يحضر الفقيه 1/167، الباب 39، الحديث 38).

ويظهر ذلك ممّا روي عن علي من قصار الكلمات قال: الكفر على أربع دعائم: على التعمّق، والتنازع،

والزيغ، والشقاق، فمن تعمّق لم ينب إلى الحق، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، نهج البلاغة قسم الحكم 31. فمعنى التعمّق هنا لا يتنافى مع ما سنذكره من أنّ البساطة والسذاجة و الظاهرية كانت سمة من سماتهم.

2. ابن هشام: السيرة النبوية 4/496. ابن الاثير: الكامل 2/184. ورواه البخاري في باب «المؤلفة قلوبهم على وجه التفصيل، فمن أراد فليرجع إلى صحيحه».

( 74 )

تحليل لكارثة التحكيم:

إنّ هناك أسئلة تطرح نفسها ونحن نجيب عنها مستندين إلى متون الروايات الواردة حولها:

الأوّل: لماذا اغتر المحكّمة بظواهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة لأجل اللجوء إلى القرآن، واجراء حكمه بين الطرفين، مع أنّ عليّاً وكثيراً من أصحابه نبّههم على أنّ ذلك خدعة ومكيدة. والجواب: انّ الذي حملهم على قبول التحكيم في بادىء ذي بدء أمران:

1 _ إنّ الخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بالعراقيين (مع أنّ خسائر الشاميين كانت أكثر) كانت عاملا نفسيّاً مهمّاً لقبول التحكيم ودافعاً لهم إليه وفي كلام الإمام علي _ عليه السَّلام _ اشارة إلى ذلك:

قال ابن مزاحم: ذكروا أنّ الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب وقتلت الرجال، وقال قوم: نقاتل القوم على ما قاتلنا هم عليه أمس، ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة وثارت الجماعة بالموادعة فقام علي أميرالمؤمنين فقال: «إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب، لقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوّكم فلم تترك، وانّها فيكم أنكى وأنهك....وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون»(1) .

ولعل النجاشي يشير إلى ذلك العامل في قصيدته إذ يقول:

غشيناهم يومَ الهرير بِعُصبة * يمانيّة كالسيل سيل عِرانِ

فأصبح أهل الشام

قد رفعوا القنا * عليها كتاب الله خير قرآن

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 553 _ 554 .

( 75 )

ونادوا(1): عليّاً، يا ابن عمّ محمّد * أما تتقي أن يهلك الثقلان

فمن للذراري بعدها ونسائنا * ومن للحريم أيّها الفَتَيان ِ(2)

2 - إنّ البساطة والسذاجة من الاُمور التي تسود أهل البادية حيث لا يملكون الوعي الفكري والتجربة الإجتماعية، وجلّ القبائل التي كانت تحارب تحت لواء عليّ من القاطنين في البادية غير متمدّنين، فطبيعة عيشهم هو الصدق والصفاء والإيمان بظواهر الاُمور دون أن يتعمّقوا فيها لمعرفة ما يدور خلف الستار من خفايا، ولأجل ذلك اغتّروا بظاهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على الأسنّة لأجل الاستظلال في ظلّه والعيش تحت رايته.

غير أنّ الإمام والواعين من قادة جيشه علموا أنّ خلف هذا العمل مؤامرات وتفرّسوا بأنّ وارء هذا ليس إلاّ الفتنة، ولأجل ذلك لمّا بعث علي _ عليه السَّلام _ أحد النخعيين إلى الأشتر لإيقاف الحرب ورجوعه إلى معسكر الإمام، فسأله الأشتر عن سبب الفتنة، وقال: «ألِرَفع هذه المصاحف؟» قال نعم، قال: أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقد اختلافاً وفرقة(3).

3 _ إنّ عيشة القوم كانت عيشة قبيلة والنظام القبلي يفرض على كافة أفراد القبيلة، الطاعة العمياء لرئيسها فإذا أصحر الرئيس بالرأي، فالباقون بحكم الأغنام يتبعونه من دون تفكّر ووعي، ولمّا كان في جيش علي _ عليه السَّلام _ رؤوس البطون، وخضعوا للتحكيم، لم يبق مجال لغيرهم في القبول والرفض، ولأجل ذلك صار التحكيم فرضاً من جانب عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد، ومن البعيد جداً أن يكون حكم كلّ واحد من هؤلاء صادراً عن وعي و إمعان.

____________________________

1. يعني أهل العراق .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 602 .

3. نصر

بن مزاحم: وقعة صفّين 562 .

( 76 )

الثاني: لماذا رجعوا عن التحكيم بعد فرضه على علي _ عليه السَّلام _ ؟:

إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه: (اَن الحُكْم إلاّ لِلّه).

قال ابن مزاحم: إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام، وراياتهم، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم: لا حكم إلاّ لله، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم:

ما لعلي في الدماء قد حكم * لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.

ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم، فقالوا: لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم، فقال رجل منهم: «لا حكم إلاّ لله، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين» وخرج عروة بن اُديَّة فقال: أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله: فأين قتلانا يا أشعث؟(1).

فزعموا أوّلا: أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 558. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.

( 77 )

سبحانه.

ثانياً: انّ هذا

تحكيم للرجال في دين الله، وهو يضادّ النصّ الصريح في الذكر الحكيم أعني قوله تعالى: (اَن الحُكْم إلاّ لِلِّه) وكلا الوجهين موجود ان في كلامهم يوم حاولوا فرض نقض الميثاق وطلبوه من علي _ عليه السَّلام _ يقول ابن مزاحم: فنادت الخوارج في كلّ ناحية:

لا حكم إلاّ لله، لا نرضى بأن يحكّم الرجال في دين الله.

قد أمضى الله حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم(1).

ثالثاً: زعموا أنّ قبول التحكيم يستلزم أنّهم كانوا ضالّين في نضالهم وجهادهم ضد معاوية طيلة شهور، ونتيجة ذلك أنّ ما ارُيقت منهم من الدماء، وما قدموا في ذلك الطريق من الشهداء كانت على غير وجه الحق ولأجل ذلك لمّا قرأ الأشعث صحيفة الصلح على تميم، قالوا: أتحكّمون الرجال في أمر الله لا حكم إلاّ لله، فأين قتلانا يا أشعث(2) .

رابعاً: قالوا: إنّك نهيت عن الحكومة أوّلا ثم أمرت بها ثانياً، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً، وبأمرك مخطئاً، وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً، فلابد من خطئك على كلّ حال.

هذه الوجوه الأربعة ممّا اغترّ به القوم، وأرادوا فرض نقض التحكيم والميثاق على علي _ عليه السَّلام _ وهي تكشف عن بساطة القوم في المقام، وإليك تحليل كل واحد من هذه الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل: فإنّه وإن كان قد مضى حكم الله في معاوية وأصحابه أن

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 594 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 588 .

( 78 )

يقتلوا أو يدخلوا في حكم الإمام المفترض طاعته، وكان الواجب على الإمام محاربتهم حتى تتحقّق احدى الغايتين ولكن التكليف بالمحاربة، مرهون بالقدرة وعدم المانع من تحقيق التكليف، والقوم سلبوا القدرة عن الإمام

القائد، حيث جاءوا إليه في عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم يدعونه باسمه ويقولون: أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

أفي هذا الموقف الحرج يتصوّر أن تكون المحاربة تكليفاً شرعيّاً على الإمام أو يكون الحكم مرفوعاً بارتفاع قدرته على مواصلة الحرب، إذ كانت نتيجة مواصلة الحرب هو قتل الإمام أوتسليمه إلى العدّو مكفوف اليدين، ولكان الذل والوهن عندئذ أكبر وأفدح.

نعم، رجعت القدرة إلى الإمام بعد ندامتهم على التحكيم واستعدادهم لمواصلة الحرب بعد الصلح وأخذ المواثيق، ولكن كانت الندامة في غير محلّها وندموا ولم ينفعهم الندم حيث ضاعت الفرصة الذهبية، إذ كما أنّ من حكمه سبحانه مواصلة حرب الطغاة وقد نطق بها الذكر الحكيم، كذلك الايفاء بالمواثيق، واحترام العقود والعهود من أحكام القرآن والسنّة المطهرّة. ولأجل ذلك أجاب علي عن اصرارهم على مواصلة الحرب بقوله: «ويحكم، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس الله تعالى قال: (اُوفُوا بالعقودِ) وقال: (وَ أوفُوا بِعَهْدِ اللهِ اِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الأيمانَ بَعْدَ تَوْكيدَها وَ قَدْجَعَلْتُمْ الله عَلَيْكُمْ كفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونْ)(1) .

ولكن القوم كانوا بعيدين عن المنطق، قريبي القعر، سمعوا أدلّة الإمام ولم يجيبوا عنها بشيء إلاّ بتضليله والبراءة منه.وسوف نرجع إلى تحليل هذا

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 589 .

( 79 )

الوجه عند البحث عن الاباضيّة.

وأمَا الوجه الثاني: أعني كون هذا تحكيماً للرجال في دين الله: وهو خطأ. إنّ الإمام وأصحابه لم يحكّموا الرجال في دين الله بل حكّموا القرآن والذكر الحكيم فيما اختلفوا فيه ولكن القرآن شجرة يانعة وحجة صامتة لا تجتني ثمرته ولا يعلم مقاصده إلاّ بمن ينطقه وإلى ذلك

يشير الإمام في بعض خطبه:

«إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن، هذا القرآن انّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان، وانّما ينطق عنه الرجال، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله سبحانه: (فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرِدُّهُ إلى اللهِ وَ الرسول) فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق النّاس وأولاهم بها»(1).

وفي كلام آخر له:

«فانّه حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، وإحياؤه الاجتماع عليه، وإماتته الافتراق عنه، فإن جرّنا القرآن إليهم، اتبعناهم، وإن جرّهم إلينا اتبعونا، فلم آت _ لا أباً لكم _ بُجراً ولا خَتلْتكم عن أمركم، ولا لبّستُه عليكم، انّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدَّيا القرآن (2).

وقد جاء في نفس الميثاق الذي أملاه على التصريح بأنّ الحكم هوالقرآن، وانّ دور الحكمين هو انطاق القرآن في محلّ النزاع وقد جاء في

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 125.

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 127.

( 80 )

الميثاق قوله:

«وان كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتّبعناه، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرقة»(1).

وبعد هذه الكلم الواضحة، المعربة عن حقيقة الحال، كان اصرارهم على نقض الميثاق صادراً عن جهل وعجز في الرأي.

وأمَا الوجه الثالث: أي أنّه يستلزم من قبول التحكيم كونهم ضالّين في نضالهم وجهادهم طيلة شهور، وانّ الدماء التي اُريقت، انّما اُريقت في غير وجه الحق، فهو أوهن من الوجهين

السابقين، وذلك لأنّه سبحانه كما أمر بالقتال والنضال في كتابه وقال:

(قاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُوْمِنُونَ بِالله وَ لا بِالْيَوْمِ الآخِرِ....)(2).

وقال سبحانه:

(وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةُّ وَيَكُونَ الدِينُ كَلُّهُ للهِ...)(3)

كذلك أمر بالصلح والسلم في غير واحد من آياته، وقال:

(وَاِن جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ....)(4)

وقال سبحانه:

(وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوْا فَاَصْلِحُوْا بَيْنَهُما فَاِنْ بَغَتْ إحْديهُما عَلى الاُخْرى فَقاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِىء إلَى أمْرِ الله فَإنْ فَآتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالْعَدْلِ

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/38 .

2. التوبة: 29 .

3. الأنفال: 39 .

4. الأنفال: 61 .

( 81 )

وَأَقْسِطُواْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)(1)

الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح، والنضال والموادعة حكم من أحكام القرآن، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد وقاتلهم في الأحزاب، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها، ومع ذلك فقد صالح قريشاً في الحديبية، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز إليه في كلام علي _ عليه السَّلام _ حتّى انّ قريشاً أبوا أن يكتب «رسول الله» إلى جانب اسمه، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة، فكان في ذلك اقتداء بالنبي، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله فلا تنقلب عمّا عليه، وأصحابها شهداء، أحياء عند ربهم يُرزقون، ولا يأبى ذلك أن يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة، مع العدو وكلا الحكمين حكم الله.

وأمّا الوجه الرابع: فقد أجاب عنه الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال:

نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق _ عليه السَّلام _ إحدى يديه على الاُخرى ثم قال:

«هذا جزاء من ترك العُقْدة(2) أما والله لو انّي حين أمرتكم به، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً، فان استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قوّمتكم، وإن ابيتم تداركتم، لكانت الوثقى، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟ اُريد أن

____________________________

1. الحجرات: 9 .

2. العقدة: الرأي الوثيق.

( 82 )

اُدواي بكم وأنتم دائي»(1) .

أقول: إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف الحكمين، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً، كان الحق هو مواصلة الحرب، ولذاك كان يصرّ على المواصلة، وعند ما عُصِيَ، وخُولِفَ، لم يكن بدّ من التنازل إلى الحكم ألآخر، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف الظروف.

* * *

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 121 .

( 83 )

الفصل الرابع تحرّكاتهم السياسيّة بعد مبدأ

الفصل الرابع تحرّكاتهم السياسيّة بعد مبدأ التحكيم

( 84 )

( 85 )

لمّا تمّت الإتفاقية، وشهد عليها شهود، وقُرِأت على الناس، انسحب معاوية إلى جانب الشام، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه ورافقه المعترضون على التحكيم الذين عرفوا بالمحكِّمة، فدخل الإمام الكوفة دار هجرته وامتنعت المحكِّمة عن الدخول، وذهبوا إلى قرية «حروراء» كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة اعتراضاً على عليّ وحكْمهِ. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلِّفون عنه، وعن أوامره، وخارجون عن طاعته، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لما آل له التحكيم ونذكر أبرزها:

1 _ التظاهر ضد علي _ عليه

السَّلام _ بقولهم «لا حكم إلاّ لله» في المسجد وخارجه خصوصاً عند قيام الإمام بالقاء الخطب.

2 _ تكفير عليّ _ عليه السَّلام _ وأصحابه الذين وفوا بالميثاق.

3 - تأمين أهل الكتاب وارهاب المسلمين وقتل الأبرياء.

وأمّا ما قام به الإمام في مقابل هذه المواقف فكلّها ينبع عن عطفه وحنانِه على الأعداء وصبره الجميل تجاه المآسي، وإليك بيانه:

( 86 )

1 - قام عليّ _ عليه السَّلام _ بتبيين موقفه من كتاب الصلح وانّه ما أمضاه إلاّ باصرار منهم وإرهاب ضدّه.

2 - التعامل معهم كسائر المسلمين في الجوائز والعطايا.

3 _ بعث شخصيات كبيرة لهدايتم، وارجاعهم عن غيّهم.

4 - محاولة أخذ الثأر من قتلة عبدالله بن خباب بن الارت وزوجته عندما قتلا بايدي سفلة الخوارج وإليك بيان الجميع:

الف _ التظاهر ضدّ عليّ _ عليه السَّلام _ :

روى الطبري: «لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من صفيّن، رجعوا متباينين له، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به، فدخل عليّ في الناس الكوفة ونزلوا بحروراء وبعث إليهم عبدالله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً، فخرج إليهم عليّ فكلّمهم(1) حتى وقع الرضى بينه و بينهم، فدخلوا الكوفة، فأتاه رجل فقال، إنّ النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك، فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلاّ لله، و استقبله رجل منهم واضعاً إصبعه في اذنيه، فقال: «وَلَقَدْ أوحى إلَيْكَ وإلى الَذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيُحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرين». فقال عليّ: «فاصْبِر إنَّ وَعَدالله حقُّ ولا يَستَخفنّك الذين لا يوُقِنون»(2).

وببالي ورد في بعض المصادر: انّ الرجل صاح بالآية و الإمام في اثناء الصلاة، فأجابه الإمام بتلاوة الآية التي عرفتها.

____________________________

1. سيوافيك ما تكلم به معهم

في خاتمة المطاف .

2. الطبري: التاريخ 4/54 .

( 87 )

ب _ تكفير عليّ و أصحابه:

أكبر كلمة كانت تصدر من أفواه الخوارج هو تكفير عليّ لأجل قبول التحكيم وكأنّه خطيئة وارتكاب الخطيئة عندهم كفر، كما هو أحد اُصولهم التي نبحث عنها عند عرض عقائدهم، ويكفي في ذلك ما نقله الطبري في مذاكرة علي مع حرقوص بن زهير السعدي، وزرعة بن برج الطائي ومرّ النصّ في أوّل الفصل السابق.

وإلى هذا يشير الإمام في بعض كلامه حيث قال لهم:

«أصابكم حاصِب(1) ولابقى منكم آبِر(2)، أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أشْهَدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت اِذاً وما أنا من المهتدين، فاوبوا شرّمآب، وارجعوا على أثر الأعقاب، أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا و سيفاً قاطعاً وإثرة(3) يتخذها الظالمون فيكم سنّة»(4).

ج _ قتل الأبرياء:

و المدهش من أخبارهم انّهم كانوا يقتلون المسلمين ويجيرون المشركين و أهل الكتاب.

روى المبّرد في كامله: إنّ القوم مضوا إلى النهروان، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فأصابوا في طريقهم مسلماً و نصرانياً، فقتلوا المسلم، لأنّه عندهم كافر، إذكان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا:

____________________________

1. الحاصب: الريح الشديدة التي تثير الحصباء .

2. الآبر: الذي يأبّر النخل أي يصلحه .

3. الاثرة: الاستبداد عليهم بالفئ و الغنائم، قال: النبي للأنصار:«ستلقون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني» .

4. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58.

( 88 )

احفظوا ذمّة نبيّكم.

قال المبّرد: وحدثت أنّ واصلَ بن عطاء أقبل في رفقة فاحسُّوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنّك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت و أصحابك فقال: قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله،

ويفهموا حدوده. قالوا: قد أجرناكم، قال: فعلِّمُونا، فجعلوا يعلِّمُونَهم أحكامَهم، ويقول واصل: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فقد صرتم اخواننا. فقال: بل تبلغوننا مأمننا. لأنّ الله تعالى يقول:«و إنْ إحدٌ مِنَ المُشْرِكُينَ استَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسمَعَ كلامَ الله ثُمَّ اَبْلِغْه مأْمَنَهُ»(1) فنظر بعضم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فصاروا معهم بجمعهم حتّى ابلغوهم المأمن(2).

ومع ذلك قتلوا عبدالله بن خباب بن الارت _ كما سوافيك بيانه في الفصل القادم _ وبقروا بطن زوجته المتم.

وأمّا السياسة الحكيمة التي مارسها الإمام ازاء أعمالهم قبل تحركاتهم العسكرية فقد وقفت على رؤوسها، وإليك الإيعاز إليها ثانياً ليقع مقدمة للشرح والتبيين.

1 - تبيين موقفه في مسألة التحكيم، وانّه لم يكن راضياً به وفرض عليه بارهاب.

2 - التعامل معهم كسائر المسلمين.

____________________________

1. التوبة: 6 .

2. المبرّد: الكامل 2/122 مكتبة المعارف بيروت، و ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/281، و المبرد متهم _ عند ابن أبي الحديد _ بالميل إليهم، و لكنا سبرناكامله، فلم نر شيئاً يدلّ عليه، غير انّه سرد تاريخهم و في بعض الموارد طعن بهم.

( 89 )

3 - بعث الشخصيات لارجاعهم عن غيّهم.

و إليك بيان كل ذلك.

1 - الإمام يبيّن موفقه من التحكيم:

قام الإمام بتبيين موقفه في مسألة التحكيم وانّه لم يكن ضلالا في نفسه ولا كان الإمام مخادعاً، فقال في بعض كلماته:

«فلم آت لا أباً لكم بُجْراً، ولا خَتَلْتُكم عن أمركم، ولا لبَّستُه عليكم، و إِنّما اجتمع رأي مَلَئِكُم على اختيار رجلين...»(1).

هذا نموذج من كلماته حول التحكيم حيث بيّن فيها موقفه في هذه المسألة و انّه كان طبق الكتاب و السنّة فلنكتف بذلك و لنرجع الى ما بقى من السياسة الحكيمة التي مارسها معهم.

2 -

التعامل معهم كسائر المسلمين:

تعامل الإمام مع الخوارج كسائر المسلمين ولم ينقص من حقوقهم شيئاً مادام لم يشنّوا الحرب عليه، روى الطبري عن كثير الحضرمي قال: قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلاّ لله، و قام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدّة رجال يحكمون، فقال عليّ: الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، و لانمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولانقاتلكم حتّى تبدؤنا، ثمّ رجع إلى مكانه الذي كان من خطبته(2)

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 127.

2. الطبري: التاريخ 4/53 .

( 90 )

3 - بعث الشخصيات لإرجاعهم عن غيّهم:

قام الإمام بإرسال أكابر أصحابه رجاء هداية بعضهم، فبعث عبدالله بن عبّاس الى معسكرهم فجرى بينه و بينهم مفاوضات ذكرها المؤرّخون، قال المبرّد: إنّ أميرالمؤمنين لمّا وجّه إليهم عبدالله بن عبّاس ليناظرهم قال لهم: ما الذي نقمتم على أميرالمؤمنين، قالوا له: قد كان للمؤمنين أمير، فلمّا حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد اقراره بالكفر نَعُدْ إليه، قال ابن عباس: ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك ان يقر على نفسه بالكفر، قالوا: إنّه حكّم، قال: إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدَل مِنْكُمْ)(1) فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا إنّه حكم عليه فلم يرض، فقال: إنّ الحكومة كالإمامة، متى فسق الإمام وجبت معصيته، و كذلك الحكمان لمّا خالفا نبذت أقاويلهما، فقال بعضهم لبعض: اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم (بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ)(2) وقال جلّ ثناءه: (وَلتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً

لُدّاً)(3).

إنّ حوار ابن عباس معهم كان حجّة دامغة فقد احتجّ عليهم بالقرآن فما أجابوه بشيء .

والعجب انّهم كانوا يرون التحكيم على خلاف الكتاب و السنّة وانّ الرضا به بمنزلة الكفر، و مع ذلك كانوا يصرّون على انّه يجب على الإمام أن يخضع لنتيجة التحكيم، فإنّ الحكمين لمّا عزلاه عن مقام الحكومة يجب عليه التنازل. فما هذا التناقض بين المبدأ والنتيجة، والتحكيم عندهم كفر وزندقة ولكن

____________________________

1. المائدة: 95 .

2. الزخرف: 58 .

3. مريم: 97 .

( 91 )

الأخذ بنتيجته عين التوحيد و التديّن، كل ذلك يعرب عن وجود العمى في القلوب و الصمم في الأسماع .

ثمّ انّ الإمام لم يكتف ببعث ابن عمه بل قام بنفسه بهذا الأمر الخطير، فركب علي _ عليه السَّلام _ إلى حروراء، فخاطبهم بقوله: ألا تعلمون أنّ هؤلاء القوم لمّا رفعوا المصاحف، قلت لكم إنّ هذه مكيدة ووهن، و انّهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لآتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أنّ أحداً كان أكره للتحكيم منّي؟ قالوا: صدقت، قال: فهل تعلمون أنّكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أنّ حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه، فأنا و أنتم من ذلك براء، و أنتم تعلمون أنّ حكم الله لايعدوني، قالوا: الّلهم نعم، قال: و كان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (قال: و هذا من قبل أن يذبحوا عبدالله بن خباب، وانّما ذبحوه في الفرقة الثانية ب_ «كسكره») فقالوا له: حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرّون بأنّا كنّا كفرنا، و لكنّا الآن تائبون فَأَقِرّ بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام، فقال: «أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته»، فقال سبحانه: (فَابْعَثُوا

حَكَمَاً مِنْ أهْلِهِ وحَكَمَاً مِنْ أهلِهآ) وفي صيد اصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال (يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ) .

فقالوا له: فإنّ عمراً لمّا أبى عليك أن تقول في كتابك: «هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين» محوت اسمك من الخلافة و كتبت «علي بن أبي طالب» فقد خلعت نفسك، فقال: لي في رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: «هذا كتاب كتبه محمّد رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و سهيل بن عمرو» وقال له: لو أقررت بأنّك رسول الله ما خالفتك، ولكنّي اُقدمّك لفضلك، فاكتب «محمّد بن عبدالله»

( 92 )

فقال لي: يا علي، امح «رسول الله» فقلت: يا رسول الله لا تسخو نفسي على محو اسمك في النبوّة فقال: قفني عليه، فمحاه بيده، ثم قال: «اكتب محمّد بن عبدالله» ثم تبسّم إليّ وقال: يا عليّ، أما أنّك ستسامُ مثلها فتعطي، فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمّعوا بها فقال لهم علي _ عليه السَّلام _ مانسميّكم؟ ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء(1).

وللامام خطبة اُخرى بيّن فيها شبهة الخوارج و أجاب عنها بشكل واضح، فمن أراد فليرجع إلى «نهج البلاغة» (2)

هذا بعض ما مارَسَه الإمام تجاه غيّهم و كلّها تكشف عن سعة صدره، وقوّة صبره، واخلاصه في الدين، و لكّن القوم تمادوا في طغيانهم و أعادوا في خواتيم أمرهم، ما تظاهروا به في بدء غوايتهم، غير انّهم لم يكتفوا به فأراقوا دماء طاهرة، فلم يكن بدّ للامام من قطع مادة الفساد، فما قام بالمواجهة المسلَّحة إلاّ بعدما بذل كل ما في وسعه من النصح و الإرشاد، و بعد أن

بلغ السيل الزبى، فردّ الحجر من حيث جاء.

***

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/135-136 ط مكتبة المعارف و له كلام معهم ذكره المبرّد أيضاً في 2/156. نأتي به عند محاكمة الأشعث فانتظر، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/274-275.

2. نهج البلاغة، الخطبة 127 .

الفصل الخامس موقف الإمام من رأي الحكمين

الفصل الخامس موقف الإمام من رأي الحكمين

( 94 )

( 95 )

لقد صالح الامام معاوية و أوكل الأمر الى الحكمين في ثلاثة عشر خلت من شهر صفر عام 37 من الهجرة، و اتّفقا على أنّ الحكمين يجتمعان بدومة الجندل ليرفعا ما رفع القرآن، و يُخَفِضّا ما خفّض القرآن، وقد اجتمعا هناك في شعبان ذلك العام، و كانت النتيجة أن خلع أبو موسى الإمام عن الخلافة، و نصب عمروبن العاص معاوية بن أبي سفيان إماماً للمسلمين، كل ذلك بخداع معروف في التاريخ، حيث اتّفقا سرّاً على أن يخلعا علياً و معاوية عن الحكم حتى يوليّ المسلمون لأنفسهم والياً، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما خدع عمروبن العاص أباموسى الأشعري فقال له: تقدَّم وأدل برأيك، فقال: يا أيّها الناس إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة فلم نرأصلح لأمرها، و لا ألمّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمروعليه، و هو أن نخلع علياً ومعاوية و تستقبل هذه الاُمة الأمر فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم، وانّي قد خلعت علياً و معاوية فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى و أقبل عمروبن العاص فقام مقامه فحمدالله و أثنى عليه و قال: إنّ هذا قد قال ما سمتعم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و اُثبِتُ صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفان(رضي الله عنه)

( 96 )

والطالب بدمه و

أحقّ الناس بمقامه، فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله غدرتَ و فجرت(1)إنّما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، و حمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط و حمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط، و قام الناس فحجزوا بينهم، وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ماأتى، و التمس أهل الشام أباموسى فركب راحلته و لحق بمكّة، قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبي موسى حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل، فكان أبوموسى يقول: حذِّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنّي إطمأننت اليه و ظننت أنّه لن يؤثِرَ شيئاً على نصيحة الاُمّة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس و شريح بن هاني الى علي _ عليه السَّلام _ و كان إذا صلّى الغداة يَقْنُتُ فيقول: الّلهمّ إلعن معاوية و عمراً و أباالأعور السلمي و حبيباً و عبدالرحمن بن خالد و الضحاكَ بن قيس و الوليد، فبلغ ذلك معاوية فكان اذا قنتَ لعن علياً و ابن عباس و الأشتر و حسناً و حسيناً.

وزعم الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة(2). لمّا بلغ علياً ماجرى بين الحكمين من الحكم على خلاف كتاب الله و سنّة رسوله و غدر عمروبن العاص و انخداع أبي موسى قام خطيباً، رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران، وقال:

____________________________

1. هذا من الصحابة العدول عند القوم، فاقض ما أنت قاض فهذا الصحابي يصف زميله بالفجور و الغدر، و الجمهور يصفون الجميع بالتقى و العدل .

2. الطبري:

4/51-52. و ما نقله عن الواقدي غير صحيح لما عرفت سابقاً: انّه كان اللازم على الحكمين الإدلاء برأيهما قبل انقضاء موسم الحج و قد اتفق الطرفان في صفر عام 37. فكيف يكون الاجتماع عام 38؟.

( 97 )

«الحمدلله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح، و الحدث الجليل، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، ليس معه إله غيره، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، صلّى الله عليه».

أمّا بعد: فإنّ معصية الناصح، الشفيق العالم، المجرَّب، تورث الحسرةَ، وتَعْقِبْ الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، و نخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاعُ لقصير أمر، فأبيتم عليّ اباء المخالفين الجفاة، و المنابذين العصاة، حتّى ارتاب الناصُح بِنُصحه، و ضنَّ الزنْدُ بقَدْحِه، فكنت أنا و إياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعَرَج اللّوى * فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد(1)

صدق الإمام، انّ من الخطب الفادح، و الحدث الجليل، خلع صدّيق الاُمّة و أوّل من آمن برسالة النبي الأكرم و صدّق به و بات في فراشه، دفعاً لريب المنون، وجاهد في سبيل الله بنفسه و نفيسه و شهد المعارك كلها إلاّ تبوك، (و كان ذلك بأمر النبي)، الى غير ذلك من فضائل و مناقب و مآثر جمّة اعترف بها الصديق و العدّو و القريب و النائي .

إنّه من المصائب العظام نصب معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق، ابن آكلة الأكباد، للخلافة و الزعامة الإسلامية، و أنّى هو من الإسلام، و هو ثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، أو ليس هذا من أدهى الدواهي؟ ولإجل ذلك نرى انّ الإمام يصف تلك الحادثة المريرة، بالخطب الفادح و الحديث الجليل.

هذا ما يرجع الى نفس الخلع و النصب وأمّا ما

كان يرجع الى الحكمين فكان عليهما قبل ادلاء الرأي في حقّ عليّ و معاوية، دراسة الأسباب التي أدّت

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 35.

( 98 )

الى إشعال نار الفتنة و اراقة الدماء الطاهرة حيث أسفرت حرب صفين عن مقتل خمسة وأربعين ألف نفر من جيش معاوية، و شهادة خمسة و عشرين ألف نفر من جيش الإمام علي بن أبي طالب(1) كلّ ذلك لأجل الأخذ بثأر شخص واحد، أفيصح في ميزان العدل و النصفة أن تزهق هذه النفوس كلّها مقابل ذلك؟ فهل كان الأساس لشنّ الحروب على عليّ _ عليه السَّلام _ هو حكم القرآن الكريم و السنّة النبويّة؟ وهل هما يسوّغان لأخذ ثأر انسان واحد، ارتكاب تلك الجنايات الهائلة؟ أو أنه كان أخذ الثأر واجهة لما يطمح إليه معاوية من دفع الإمام عن مقامه و ركوبه منصّة الخلافة، أو إلجاء عليّ إلى ابقاء ابن الطلقاء في المقام الذي كان يُشْغِلُه طيلة خلافة الخليفتين كما طلبه من الإمام قبل الحرب و خلالها؟

كان على الحكمين دراسة المواضيع التالية حتى يتبين من له الحق عمّن عليه و هي:

1 _ دراسة الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة عثمان، وهل كان هناك مبّرر لقتله أو لا؟

2 _ إنّ قيادة الإمام بعد قتل عثمان هل كانت قيادة قانونية و شرعية، حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و تمت البيعة له في مسجد النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بمرأى و مسمع من الناس من دون أيّ جبر و إكراه؟! و لم تكن هناك بيعة أصلا، أو كانت البيعة عن إكراه لاعن اختيار؟

3_ اذا خرج الباحث من دراسة الأمر الثاني بأنّ قيادة الإمام كانت قيادة شرعية هل كان هناك مبّرر لمعاوية

لرفض بيعة المهاجرين و الأنصار، و تأخير بيعته الى أن يقوم بأخذ الثأر، ويدفع الإمام إليه قتلة الخليفة و كأنّه هو الخليفة

____________________________

1. نصربن مزاحم: وقعة صفّين 643 .

( 99 )

_ معاوية _؟ و هل يكون معاوية بعمله و رفضه و خروجه باغياً على الإمام المفترض طاعته و قد جاء حكم الباغي في الذكر الحكيم(1).

أو كان على معاوية أن يدخل في جماعة المسلمين و لايشُق عصاهم بالتقاعس عنه، ثم يرفع الخصومة الى صاحب البيعة فيرى رأيه.

4 _ اذا ثبت أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره و انّه يجب أخذ ثاره من قتلته، فعندئذ يقع الكلام في أنّ أخذ الثار هل هو وظيفة الخليفة أو وظيفة معاوية أو لا هذا ولا ذاك، و إنّما هو راجع الى ولد عثمان؟

5 _ نفترض أنّ أخذ الثار وظيفة الإمام، فهل كان _ صلوات الله عليه - قادراً على تنفيذ حكم القصاص أو كانت الظروف السائدة لا تسمح بذلك؟

6 _ اذا كان طلحة و الزبير في نكث البيعة، و في اخراج زوجة الرسول من بيتها _ وقد امرت بالمكث فيه _ وفي اخراج عامل الإمام من البصرة و قتل حرسه الى غير ذلك من الاُمور التي أدّت الى حرب الجمل، اذا كانا في هذه الاُمور معذورين، مجتهدين، و ان كانا مخطئين، فهل يصحّ تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد أولا؟

7 _ و على فرض لزوم الاقتصاص و رفض اجتهادهم فهل لخليفة العصر، العفو عن القصاص و ابداله بالديّة كما فعله عثمان في حقّ عبيدالله بن عمر حين قتل هرمزان، و جفينة بنت أبي لؤلؤ بلا ذنب؟(2).

هذه هي المواضع الهامّة التي كانت دراستها أمراً مفروضاً على الحكمين حتّى يخرجا مرفوعي

الرأس محيين ما أحياه القرآن و مميتين ما أمات، غير أنّ الحكمين _ ياللأسف - لم يَنْبَسا فيها ببنت شفة ومرّا عليها مرور اللئام و لكن

____________________________

1. الحجرات: 9 .

2. الطبري: التاريخ 3/305 .

( 100 )

لا محيص للباحث المحقق عن قيمة رأي الحكمين من دراستها، ولأجل ذلك نبحث عنها بإيجاز، حتّى يقف القارىء على أنّ رأي الحكمين كما وصف أمير المؤمنين كان خطباً فادحاً و اليك دراستها:

إنّ دراستها على وجه التحقيق تحوجنا الى تأليف مفرد لايناسب وضع الكتاب، غير انّا نشير إليها إشارة عابرة، و نلمع إليها إلماعاً بسيطاً.

أوّلا: قد تعرّفت على بعض الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة و الفتك به، و انّ الاستبداد بالرأي، و تسليط بني أميّة على رقاب الناس، و تخصيص كميّة هائلة من بيت المال لأصحاب الترف و البذخ من أبناء بيته، و تسيير صلحاء الاُمّة من الصحابة و التابعين عن المدينة المنوّرة إلى منافيهم، و أخيراً تعدّي عمّاله و ولاته في العراق و مصر على الطبقات الوسطى، و الفقيرة من المجتمع و.... كل هذه أدّت إلى انتشار السخط و الغضب على الخليفة و عُمّاله إلى أن جنى ثمرة عمله فقتل في عقر داره وبين أبنائه و نسائه بمرأى و مسمع من المهاجرين و الأنصار، و هم بين مجهز عليه، و مؤلّب وراض و محايد. و القضاء في مثل هذه المسألة من صلاحية لجنة عارفة بالكتاب و السنّة، واقفة على حياة الخليفة و ما قام به من الأعمال، و ما نقم عليه من الأفعال حتى تصدر _ بعد سماع حجج الثائرين _ عن مصدر قويم و مثل هذه المشكلة لا تحل عقدتها في ساحة الحرب، بل في جوّ هادئ، يكون القاضي

فيه مستقّلا في الرأي، و حرّاً في التفكير و التعبير، و نحن لاندخل في هذه المعركة الخطيرة، نترك القضاء فيها إلى تلك اللجنة الخبيرة و نعطف عنان البحث إلى الموضوع الثاني.

ثانياً: إنّ من سبر التاريخ يقف على أنّ بيعة الإمام كانت بيعة شعبية جماهيرية، ولم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة الإسلامية، فاذا قلت:

لم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة فإنّما اقولها عن بيّنة و دليل فإنّ الخليفة

( 101 )

الأوّل قد خرج عن السقيفة ببيعة لفيف من المهاجرين من الأنصار و تخلّف عن بيعته بنو هاشم و الخزرجيون عامة.

كما انّ عمر بن الخطاب تسنّم منصة الخلافة بإيصاء من الخليفة و لم يكن هناك للناس أيّ رأي ولااختيار.

و قد كانت خلافة عثمان بانتخاب الشورى التي عَيَّنَ أعضاءها الخليفة الثاني ولم يكن للمهاجرين و الأنصار أيّ نظر في تعيين تلك الشورى .

فإذا كان كلّ ذلك معطياً للخلافة، الصبغة القانونية، فبيعة المهاجرين و الأنصار عليّاً هاتفين بأنّهم لايختارون غيره و فيهم الرعيل الأول من صحابة الرسول و التابعين لهم بإحسان، أولى بأن تكون شرعية و قانونية. و اتّفق الباحثون عن كيفية انعقاد الامامة لرجل، على انّ بيعة أهل الحل و العقد من أهل المدينة حجّة على عامّة المسلمين.

يروي الطبري عن محمّد بن الحنيفة قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان (رضي الله عنه) فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولانجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، ولاأقدمَ سابقة ولاأقرب من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فقال: لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك،

قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّة، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين، قال: سالم بن أبي الجعد: فقال عبدالله بن عبّاس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، فأبى هو الاّ المسجد، فلمّا دخل، دخل عليه المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس(1).

وقد حفظ التاريخ أسماء المتخلّفين عن بيعة علي وهم نفر يسير لا يتجاوز

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/450 .

( 102 )

العشرة و هذا يدل على أنّ جوّ البيعة كان هادئاً حراً، ولم يكن هناك أيّ ضغط و إجبار، فبايعت الجماهير، و تخلّفت عدة قليلة كانت عثمانية الهوى كحسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلد، وزيد بن ثابت، و النعمان بن البشير، و محمّد بن مسلمة، و رافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، و كعب بن عجرة.

يقول الطبري: أمّا حسّان فقد كان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلمّا حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فقال أبو أيّوب: ما تنصره إلا انّه أكثر لك من العضدات، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة المدينة و ترك ماأخذ منهم له(1)

ولاأظن انّه يوجد على أديم الأرض انتخاب جماهيري لقائد، لايوجد فيه مخالف شاذ يأبى عن البيعة لدوافع شخصيّة.

وقد تعرفت فيما سبق على كلمات الإمام و نزيد في المقام قوله مخاطباً طلحتة و الزبير: والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني إليها و حمّلتموني عليها(2).

ثالثاً: إذا خرجنا بهذه النتيجة: إنَّ بيعة الإمام كانت بيعة شرعية قانونية أطبق عليها المهاجرون و الأنصار، فلأيّ مبّرر يرفض معاوية عليّ و يؤخّر البيعة و يرفع قميص

عثمان مطالباً بالثار؟ ولأجل ذلك نرى الإمام يُنَدِّده و يبيّن موقفه من بيعته ويكتب اليه قائلا: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولاللغائب أن يرد، انّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه،

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/452 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 200.

( 103 )

فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى(1).

رابعاً: لو خرج الباحث بهذه النتيجة و هو أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره، وأنّه يجب أخذ ثأره من قَتَلِته، فلاشك انّ ذلك حقّ ولىّ الدم، قال سبحانه: (وَ منْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلطَاناً فَلا يُسْرِف فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(2) فهل كان معاوية وليّ الدم، أو أنّ وليّ الدم أولاد المقتول و إن نزلوا. إِنَّ معاوية حسب المقاييس الشرعية لم يكن وليّ الدم و إنّما أولياؤه ولده فلهم حق القصاص، ولكن لا ينالون حقّهم إلاّ برفع الأمر الى المحكمة الصالحة لتنظر في أمرهم. ولو عجزت المحكمة، فلهم الاستنجاد بغيرهم، لا في بدء الأمر، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يُندّد بقيامه بأخذ الثأر ولايراه صالحاً لهذا الأمر ويكتب الى معاوية: «زعمت أنّك انّما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان»: ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوْرَدْتُ كما أوردوا، وأصدرتُ كما أصدروا، و ما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى و بَعْد فما أنت و عثمان، إنّما أنت رجل من بني أميّة، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنّك أقوى على

ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليّ(3) .

وفي لفظ ابن قتيبة: أمّا قولك ادفع إليَّ قتلة عثمان، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان، و هم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع الى البيعة التي لزمتك و حاكم القوم إليَّ(4) .

خامساً: إذا خرجنا بهذه النتيجة، أنّ أخذ الثأر و إن كان حقّاً ثابتاً لأولياء

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة قسم الكتب برقم 6 وفي ذيل الكتاب إشارة الى قوله سبحانه(و من يشاقق الرسول...)النساء: 115 .

2. الاسراء: 33.

3. المبرّد: الكامل 1/194 مكتبة المعارف بيروت .

4. ابن قتيبة: الامامة و السياسة 1/88 .

( 104 )

الدم، لكنّهم لايقومون بأخذ حقّهم مباشرة، بل اللازم عليهم رفع الشكوى الى المحاكم الصالحة التي أقامها وليّ المسلمين أعني الخليفة المفترض طاعته، وإلا فلو قام وليّ الدم بالقصاص و أخذ الحق مباشرة، لزم الفوضى في المجتمع، كما هو واضح لكلّ من له إلمام بالمسائل الاجتماعية، فإذا كان هذا حقّاً ثابتاً للإمام، فهل كان الإمام قادراً على تنفيذ حكم القصاص في حق اولئك الثائرين، أو كانت الظروف لاتساعد إجراء الحكم، ولا تعلم حقيقة الحال إلاّ بدراسة الموضوع تاريخياً، فإنّه يشهد على أنّ الثائرين لم يكونوا أشخاصاً معيّنين، بل كانت هناك انتفاضة شعبية مختلطة من الكوفيين والبصريين والمصريين، والمدنيين، وقد حاصروا بيت الخليفة قرابة أربعين يوماً، ولم يكن في وسع أصحاب النبي رفع هذا الحصار أو تقويضه إلى أن حدثت حوادث مريرة أدّت إلى الهجوم العنيف على داره، وقد بلغ المهاجمون من الكثرة مالايحصيه أحد، ويعلم صحّة ذلك من الأمر التالي:

إنّ أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اُناس من قرّاء أهل الشام قبل مسير أمير المؤمنين إلى

صفين فقالوا له: يا معاوية علامَ تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته؟ قال معاوية لهم: مااُقاتل علياً وأنا أدعّي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته ولكن خبّروني عنكم: ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا: بلى. قال: فلْيَدَعْ إلينا قتلته، فنقتلهم به، ولا قتال بيننا و بينه. قالوا: فاكتب إليه كتاباً يأتيه به بعضنا، فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني فقدم به على عليّ ثم قام أبومسلم خطيباً فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد فإنّك قد قمت بأمر وتولّيته، والله ما أحبُ أنّه لغيرك، أن أعطيت الحق من نفسك، إنّ عثمان قتل مسلماً، محرماً، مظلوماً، فادفع إلينا قتلته، و أنت أميرنا، فإن خالفك أحد من

( 105 )

الناس كانت أيدينا لك ناصراً، وألسنتنا لك شاهداً، و كنت ذا عذر وحجة.

فقال له علي: اغدُ عَليّ غداً، فخذ جواب كتابك، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعةُ أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد و أخذوا ينادون: كلنّا قتل ابن عفان، وأكثروا من النداء بذلك، واُذن لأبي مسلم فدخل على عليّ أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية، فقال له أبومسلم: قد رأيت قوماً مالك معهم أمر. قال: وما ذاك؟ قال: بلغ القوم انّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان، فضجّوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان، فقال علي: والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه، مارأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولاإلى غيرك.(1)

نحن نفترض انّ بعض من لبس السلاح في هذه الواقعة لم يكونوا من المهاجمين، أوالمؤلّبين،

أوالمجهزين، لكن تواجد هذه الكميّة الهائلة من المتبنّين لهذه الفكرة في الكوفة، فضلا عن أبناء جلدتهم في البصرة و المدينة، المؤيّدين المتفرقين في بلادهم، يدلّ على أنّ المسألة صارت أزمة اجتماعيةً معقّدةً، ولم يكن الإمام متمكّناً من دفع من قام بالقتل إلى وليّ الدم.

ويعرب عن ذلك كلام الإمام للناكثين، فقد دخل طلحة و الزبير في عدة من الصحابة، فقال: يا عليّ إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، و إنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم، فقال لهم: يا اخوتاه، إنّي لست أجهل ما تعلمون، ولكّني كيف أصنع بقوم يملكونا، ولا نملكهم، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا،

____________________________

1. نصربن مزاحم: وقعة صفّين 95-97 .

( 106 )

والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله(1) .

فعلى هذا فلم تكن للامام يوم بويع ولابعده ولا بعد شهور، أيّة مقدرة على القاء القبض على القاتلين، وإلاّ لثارت تلك الجماهير على عليّ وخلافته الفتَّية، وكانت المصيبة أعظم.

سادساً: لاشكّ انّ طلحة و الزبير نكثا البيعة و أخرجا زوجة رسول الله من بيتها، وقد دخلوا البصرة بعنف وقتلوا حرس القصر، إلى غير ذلك من الاُمور التي لايشكّ فيها أيّ ملمّ بالتاريخ، ولكن القوم يذكرون الرجلين بخير و صلاح و يسترحمون عليهما و يرونهما من العشرة المبشّرة بالجنّة ولا يرون أعمالهم الإجرامية مخالفة لطهارتهما، ويبّررون أعمالهم بالاجتهاد كما يبرّرون به عمل معاوية و غيرهم من المجرمين الطغاة حتى عمل مسلم بن عقبة ذلك الطاغي الذي أباح أعراض نساء المدينة لجيشه ثلاثة أيّام.

فلو صحّ ذلك التبرير فلماذا لايصحّ في حقّ هؤلاء

الذين هاجموا بيت الخليفة و أجهزوا عليه؟ فكانوا مجتهدين في الرأي، مخطئين في النتيجة، فلهم اُجر واحد، كما أنّ للمصيب أجرين؟. ولكن لانرى أيّة كلمة حول هؤلاء يبرّر بها عملهم، فما هذا التفريق بين المتماثلين؟ ولماذا تُقيَّمُ الاُمور بمكيالين.

سابعاً: نقل المؤرّخون انّه لمّا قتل عمر، وثب عبيدالله بن عمر فقتل الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤ، فلمّا بلغ الخبر عمر، قال: إذا أنا متّ فاسألوا عبيدالله البيّنة على الهرمزان، هل هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي، و إن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيدالله من الهرمزان، فلمّا ولي عثمان(رضي الله عنه) قيل له: ألا تمضي وصيّة عمر(رضي الله عنه) في عبيدالله؟ قال: و من وليّ الهرمزان؟ قالوا:

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/458

( 107 )

أنت يا أميرالمؤمنين قال: قد عفوت عن عبيدالله بن عمر(1) .

إنّي لا اُريد أن أحوم حول هذه القصّة، كيف وقد نقم به على الخليفة حيث عطّل القصاص إذ قتل عبيدالله رجلا يصلّي وصبية صغيرة، ومع ذلك عفى عنه الخليفة لسبب عاطفي أو غيره، فَلِمَ لا يجوز ذلك للامام علي _ عليه السَّلام _ وقد رأى انّ في القَوَد مفسدةً عظمى على الاسلام و المسلمين؟ وانّ جبر دم الخليفة بالدية أصلح من القصاص و القود.

هذه هي المواضيع الهامّة التي كانت من المفترض دراستها و القضاء فيها، ثم الخروج بنتيجة صحيحة عن الحكومة، غير انّ الحَكَمين جعلاها وراء ظهورهما، ولم ينبسا فيها ببنت شفة، بل كان هوى أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن عمر، و كان هوى عمرو بن العاص مع معاوية، فلنتعرف على عبدالله بن عمر، ثم عمروبن العاص:

أمّا عبدالله بن عمر فكفى في ضعف نفسه انّه لمّا ولّي الحجاج الحجاز من قبل عبدالملك بن مروان

جاءه ليلا ليبايعه، فقال له الحجّاج ما أعجلك؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: من مات بغير امام مات ميتة جاهلية (2) فقال له: إنّ يدي مشغولة عنك، و كان يكتب، فدونك رجلي، فمسح على رجله و خرج، فقال الحجاج: يا أحمق. تترك بيعة علي بن أبي طالب و تأتيني مبايعاً في ليلة؟ و ما هذا إلاّ انّ الخوف من السيف جاءك إلى هنا(3) .

وأمّا عمرو، و ما أدراك ما عمرو؟ ذلك الانسان الذي عرّفه الامام بقوله:

____________________________

1. البيهقي: السنن الكبرى8/61. ولاحظ الطبري: التاريخ 3/303 .

2. الهيثمي: مجمع الزوائد 5/218. الطيالسي: المسند 259 وللحديث صور اُخرى .

3. أبو جعفر الاسكافي: المعيار و الموازنة 24. و ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 13/242. عبدالله المامقاني: تنقيح المقال برقم 6989 .

( 108 )

متى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً(1)، فكان هواه مع معاوية لموعدة وعدها إيّهاه وهي ولاية مصر و قد تحدّث عنها المؤرّخون في قصّة طويلة حيث قال معاوية له: وهلّم فبايعني، فقال عمرو: لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك. قال معاوية: سل، تعط، قال: مصر طعمة(2).

وروى ابن مزاحم قال: قال معاوية لعمرو: إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم.

قال عمرو: إلى من؟ قال: إلى جهاد عليّ، قال: فقال عمرو: والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير، مالك هجرته ولاسابقته، ولاطول جهاده، ولا فقهه، ولا علمه، والله إنّ له ذلك حدّاً وجدّاً و حظّاً و حُظوةً، وبلاءاً من الله حسناً، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر؟ قال: حكمك. قال: مصر طعمة، قال: فتلكّأ عليه

معاوية.

قال نصر: وفي حديث آخر، قال: قال له معاوية: يا أباعبدالله، إنّي أكره أن يتحدّث العرب عنك انّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال: دعني عنك. قال معاوية: إنّي لو شئت أن اُمنّيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لا لعَمرالله، ما مثلي يخْدَع، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية: اُدن منِّي برأسك اُسارّك. قال: فدنامنه عمرو يسارُّه. فعضَّ معاوية اُذنه و قال: هذه خدعة، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟(3) .

قال ابن أبي الحديد بعد هذا: «قلت: قال شيخنا أبو القاسم البلخي(رحمهم الله): قال عمرو: «دعنا عنك» كناية عن الإلحاد بل تصريح

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 583 .

2. ابن قتيبة: الامامة و السياسة 1/91. مضى النص فلاحظ تعليقتنا عليه.

3. نصربن مزاحم: وقعة صفّين 43.

( 109 )

به، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإنّ الاعتقاد بالآخرة وأنّها لاتباع بعرض من الدنيا، من الخرافات. قال (رحمهم الله): و ما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قط في الإلحاد و الزندقة، و كان معاوية مثله و يكفي في تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي(1) وانّ معاوية عضَّ اُذن عمرو، أين هذا من أخلاق علي _ عليه السَّلام _ و شدّته في ذات الله، و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة(2).

خلاصة البحث:

ما كانت دراسة جميع هذه المواضيع أمراً صعباً على الحكمين، بل في دراسة الموضوع الأوّل من المواضيع السبعة كفاية للإدلاء بالحق، وذلك إنّه إذا كانت خلافة الإمام خلافة قانونية شرعية، فالخارج عليها باغ على الإمام يجري عليه حكم البغاة أوّلا و تابع لغير سبيل المؤمنين، وخارق للإجماع ثانياً، وقد قال سبحانه في حقّ هؤلاء:

(وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى

وَ يَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا)(3)

( و ان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احديهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفىء الى امر الله)(4)

ولا عجب بعد ذلك أنا نرى أنّ الإمام يصف حكم الحكمين بقوله: «فقد خالفا كتاب الله و اتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنّة ولم ينفّذا للقرآن حكماً».(5)

***

____________________________

1. المراد ما سبق في كلام ابن مزاحم.

2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/64-65 .

3. النساء: 115

4. الحجرات: 9 .

5. الطبري: التاريخ 4/57 .

( 110 )

( 111 )

الفصل السادس تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور

الفصل السادس تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور رأي الحكمين

( 112 )

( 113 )

ولمّا بلغ الإمام ما حكم به الحكمان من الحكم الجائر، قام خطيباً وقال ألا أنّ هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بيّنة، ولا سنّة ماضية، و اختلفا في حكمهما، و كلاهما لم يرشدا، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام، واصبحوا في معسكركم إن شاء الله، ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى زيد بن حصين(1) وعبدالله بن وهب و من معهما من الناس. أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما، قد خالفا كتاب الله، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة، ولم ينّفذا للقرآن حكماً، فبرىء الله ورسوله

____________________________

1. وهذا الرجل من الذين فرضوا التحكيم على الإمام و جاء هو مع مسعر بن فدكي بزهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد، شاكّي السلاح، سيوفهم على

عواتقهم وقد اسودّت جباههم من السجود... نادوا الامام باسمه لابإمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت إليه... لاحظ: وقعة صفّين 560 وقد مرّ النصُّ أيضاً.

( 114 )

منهما والمؤمنون. فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا، فإنّا صائرون إلى عدوّنا وعدوّكم، ونحن على الأمر الذي كنّا عليه، والسلام»(1).

كان المترقّب من الخوارج إجابة علي _ عليه السَّلام _ والخروج معه إلى قتال معاوية لأّنهم هم الذين كانوا يقولون لعلي _ عليه السَّلام _ :«تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك، واخرِج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا»(2) .

ولكنّهم _ يا للأسف _ لم يستجيبوا إلى دعوة علي _ عليه السَّلام _ و كتبوا إليه: «أمّا بعد فإنّك لم تغضب لربّك، إنّما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا بيننا و بينك وإلاّ فقد نابذناك على سواء. إنّ الله لايحبّ الخائنين». فلمّا قرأكتابهم آيس منهم فرأى أن يدعهم و يمضي بالناس إلى أهل الشام حتّى يلقاهم فيناجزهم، فنزل بالنخيلة، وقام فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد فإنّه من ترك الجهاد في الله، وادهن في أمره كان على شفا هلكة، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة، فاتّقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفىء نور الله. قاتلوا الخاطئين، الضالّين، القاسطين، المجرمين، الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهّيؤا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى اخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله (3) .

ثمّ إنّه لّبى

دعوته من البصرة وحوالي الكوفة جمع كبير وقد اجتمع تحت

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/57 .

2. المصدر نفسه 52 .

3. المصدر نفسه 58 .

( 115 )

رايته ثماني وستّين ألفاً ومائتي رجل، واستعدّ للمسير إلى الشام.

إستعدّ الإمام لمواجهة العدّو بالشام، لكنّه فوجىء بما بلغ إليه من الناس أنّهم يقولون: لو سار الإمام بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم. فقام في الناس وحمدالله وأثنى عليه، فأجاب دعوتهم خصوصاً بعد ما بلغ إليه أنّهم ذبحوا عبدالله بن خباب على ضفة النهر، وبقروا بطن اُمّ ولده، وهم على اُهْبَة الخروج، وإليك تفصيله:

إنّ الخوارج اجتمعوا في منزل عبدالله بن وهب الراسبي، فقال في خطبة له: أمّا بعد فوالله ماينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، و ينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها و الركون إليها والايثار إيّاها عناءً وتباراً(1) آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحق و... فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضرّة. ثمّ خطب بعده، حرقوص بن زهير و قال بمثل ماقال: وقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم: إنّ الرأي ما رأيتم، فولّوا أمركم رجلا منكم، فإنّه لابدّ لكم من عماد و سناد، وراية تحفّون بها، وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان و شريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لاآخذها رغبة في الدنيا، ولاادعها فرقاً من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوّال و كان يقال له ذوالثفنات.

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب: اشخصوا بنا

إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنّكم أهل الحق. قال شريح: نخرج

____________________________

1. التبار: الهلاك.

( 116 )

إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكّانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنّكم إن خرجتم مجتمعين اُتْبِعْتُم ولكن اخرجوا وحداناً مستخفّين، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان وتكاتبوا اخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا هو الرأي.

وكتب عبدالله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم مااجتمعوا عليه، ويحثّهم على اللحاق بهم وأرسل الكتاب إليهم، فأجابوه أنّهم على اللحاق به.

فلمّا عزموا على المسير(1)، تعبّدوا ليلتهم وكان ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفى العبسي، وهو يتلو قول الله: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبْ قالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقآءَ مَدْيَنَ قالَ عَسَى رَبِّي أن يَهْدِيَنِي سَوآءَ السَبِيلِ)(2) .

ثمّ إنّ الخوارج تقاطرت من البصرة والكوفة حتى نزلوا جسر نهروان، فصاروا جيشاً عظيم العدد والعُدَّة، وكانت الأخبار عن أفعالهم الشنيعة تصل إلى الناس ففشى الرعب فيهم، ولأجل ذلك ألحّ الواعون من ضباط علي على مناجزة هؤلاء ثم المسير إلى الشام، فأجابهم الإمام، وإليك بيان ما ارتكبوا من الجرائم.

روى الطبري عن أبي مخنف عن حميد بن هلال: انّ الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من اخوانها بالنهر فخرجت عصابة منهم، فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار، فعبروا إليه فدعوه فتهدّدوه وافزعوه وقالوا له من أنت؟ قال: أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _

____________________________

1. المقصود الخوارج المتواجدون في الكوفة وأطرافها أعني الحرورية.

2. القصص: 21_22. الطبري: التاريخ 4/54_55 .

( 117 )

ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله

من الأرض وكان سقط عنه لمّا افزعوه، فقالوا له: افزعناك؟ قال: نعم. قالوا له: لاروع عليك، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ لعلّ الله ينفعنا به. قال: حدثني أبي عن رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : إنّ فتنة تكون، يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً، ويُصْبح كافراً، ويمسي فيها مؤمناً. فقالوا: لهذا الحديث سألناك.

فما تقول في أبي بكر و عمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال: إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنّه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إِنّك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لاعلى أفعالها. والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتّفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى متمٌّ، حتى نزلوا تحت نخلة مواقر، فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال أحدهم: بغير حلّها وبغير ثمن؟ فلفضها وألقاها من فمه، ثمّ أخذ سيفه فأخذ يمينه، فمرّ به خنزير لأهل الذمّة فضربه بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فأتى صاحب الخزير فأرضاه من خنزيره.

فلمّا رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما عَلَيَّ منكم بأس إنّي لمسلم ما أحدثت في الاسلام حدثاً ولقد آمنتموني. قلتم: لاروع عليك. فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إنّما أنا أمراة ألاتتّقون الله؟ فبقروا بطنها.

وقتلوا ثلاث نسوة من طىّ وقتلوا اُمّ سنان الصيداوية، فبلغ ذلك عليّاً و من معه من المسلمين من

قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث

( 118 )

إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغ عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولايكتمه، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسألهم، فخرج القوم إليه فقتلوه، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس، فقام إليه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين عَلامَ تدع هؤلاء يخلفوننا في أموالنا وعيالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا ممّا بيننا و بينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام، فقبل علي فنادى بالرحيل، ولمّا أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره، ثمّ جاء مقبلا إليهم ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر وبعث إلى أهل النهر: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثمّ أنا تارككم وكاف عنكم حتى نلقى أهل الشام، فلعلّ الله يقلب قلوبكم، ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه وقالوا: كلّنا قتلناهم وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم. ولمّا وصل على جانب النهر وقف عليهم فقال:

أيّتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدّها عن الحقّ الهوى...إنّي نذيركم ان تصبحوا تلفيكم الاُمّة غداً صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولابرهان بيّن، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وانّي أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالا ورجالا، فهم أهل المكر والغدر، وانّكم إن فارقتم رأيي، جانبتم الحزم، فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن و أن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة، فنبذنا

أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم؟ قالوا: إنّا حكمنا فلمّا حكمنا أثمنا وكنّا بذلك

( 119 )

كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك وإن أبيت فاعتزلنا، فانّا منابذوك على سواء، إنّ الله لايحب الخائنين، فقال عليّ: أصابكم حاصب، ولابقي منكم وابر. اَبَعْد إيماني برسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثمّ انصرف عنهم(1) .

ولم يكتف الإمام بهذا الأمر، بل كلّمهم في معسكرهم بما يلي:«أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا: منّا من شهد ومنّا من لم يشهد. قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقة، ومن لم يشهدها فرقة، حتى اُكَلِّم كّلا منكم بكلامه، ونادى الناس، فقال:

امسكوا عن الكلام، انصتوا لقولي، واقبلوا بأفئدتكم إلىّ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها.

ثمّ كلّمهم _ عليه السَّلام _ بكلام طويل، من جملته: ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً: اخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراموا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم، والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوّله رحمة، وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، وألزموا طريقتكم وعضّوا على الجهاد، بنواجذكم، ولاتلتفتوا إلى ناعق نعق، إن اُجيب أضلّ وإن ترك ذلّ(2).

ولمّا أتمّ الإمام الحجة عليهم، ورأى أنّ آخر الدواء الكي، فعبّأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، أو

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/60 _ 63. المسعودي: مروج الذهب: 3/156. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 36 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 121 .

( 120 )

معقل بن قياس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيّوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة

الأنصاري، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل، قيس بن سعد بن عبادة.

وعبّأت الخوراج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، و على خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي.

الحرص على صيانة نفوسهم:

ثمّ إنّ الإمام توخّياً لحفظ الدماء وصيانة الأنفس، بعث الأسود بن يزيد في ألفي فارس حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلاثمائة فارس من خيلهم ورفع عليّ راية أمان، مع ابي أيوب فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن و خرج من هذه الجماعة فهو آمن _ انّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة اخواننا منكم في سفك دمائكم.

لقد كان هذا التخطيط و السياسة الحكيمة مؤثّراً في تفرّق القوم وصيانة دمائهم فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي (1) في خمسائة فارس، وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين، فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي _ عليه السَّلام _ منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف وكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة، وزحفوا إلى علي _ عليه السَّلام _ .

وقدم على الخيل دون الرجال وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ

____________________________

1. سيأتي خروجه على معاوية في الفصل الثامن فانتظر.

( 121 )

المرامية أمام الصفّ الأوّل، وقال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدأوكم(1) .

قال المبرّد: لمّا وافقهم عليّ _ عليه السَّلام _ بالنهروان، قال: لاتبدوهم بقتال حتى يبدأوكم. فحمل منهم رجل على صف عليّ _ عليه السَّلام _ فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه عليّ _ عليه السَّلام _ فضربه فقتله...ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري، وكان على ميمنة

عليّ، فقال عليّ _ عليه السَّلام _ لأصحابه: احملوا عليهم، فوالله لايقتل منكم عشرة، ولايسلم منهم عشرة. فحمل عليهم فطحنهم طحناً قتل من أصحابه _ عليه السَّلام _ تسعة، وأفلت من الخوارج ثمانية(2).

قال ابن الأثير: لمّا قال عليّ لأصحابه «كفّوا عنهم حتى يبدأوكم» نادت الخوارج: الرواح إلى الجنة، وحملوا على الناس، وافترقت خيل(3) علي فرقتين، فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل. من الميمنة و الميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فمالبثوا أن أناموهم.(4)

ثمّ إنّ علياً يحدّث أصحابه قبل ظهور الخوارج انّ قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مُخدج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً، فلمّا فرغ من قتالهم، أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فوجدوه في حفرة على شاطئ النهر في خمسين قتيلا، فلمّا استخرجوه نظروا إلى عضده

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/64 .

2. المبرّد: الكامل 2/139 _ 140. الطبري: التاريخ 4/63 _ 64 والمسعودي: مروج الذهب 3/157 وقال: وكان من جملة من قتل من أصحاب عليّ، سبعة، ولم يفلت من الخوارج إلا عشرة وأتى على القوم وهم أربعة آلاف، ولعل لفظة «إلاّ» زائدة.

3. هكذا في الأصل وقد سقط لفظ «علىّ» .

4. كلّ مشوه الخلق في أحد أعضائه فهو مخدج .

( 122 )

فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة، وحلمة عليها شعرات سود... فلمّا رآه قال: الله أكبر لاكَذِبْتُ ولاكذّبت.

وقال حينما مرّ بهم وهم صرعى: بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، قالوا: يا أميرالمؤمنين: من غرّهم، قال: الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، غرّتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، نبّأتهم أنّهم ظاهرون (1) قال علي: خذوا ما في عسكرهم من شيء، قال: فأمّا السلاح والدواب و ما شهدوا به عليه الحرب

فقسمة بين المسلمين، وأمّا المتاع والعبيد والاماء فإنّه حين قدم، ردّه على أهله، ونقل الطبري أيضاً: انّ علياً أمر بطلب من به رمق منهم، فكانوا أربعمائة، فأمر بهم عليّ، ودفعوا إلى عشائرهم، وقال: احملوهم معكم فداووهم، فاذا برأوا، فوافوا بهم الكوفة(2).

فَقْاُ عينِ الفتنة:

كانت الخوارج من أهل القبلة وأهل الصلاة والعبادة، و كان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ _ عليه السَّلام _ ولأجل ذلك قام بعد قتالهم، فقال: أمّا بعد حمدا لله والثناء عليه، أيّها الناس فإنّي فَقَأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجترىءَ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلَبُهُا(3).(4)

قال ابن أبي الحديد: إنّ الناس كلّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة،

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب 3/158. ابن الأثير: الكامل 3/175 _ 176 .

2. الطبري: التاريخ 4/66 .

3. الغيهب: الظليمة والمراد بعد ما عمّ ظلالها فشمل فكّنى عن الشمول بالتموّج، لأن الظلمة إذا تموّجت شملت أماكن كثيرة، كما أنّ المراد من قوله واشتّد كلبها، أي شرّها وأذاها.

4. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 93.

( 123 )

ولايعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعون مولِّيهم أم لا؟ وهل يجهّزون على جريحهم أم لا؟ وهل يقسمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا، ويصلّي كصلاتنا، واستعظموا أيضاً حرب عائشة وحرب طلحة و الزبير لمكانتهم في الاسلام، وتوقّف جماعة منهم عن الدخول في تلك الحرب، كالأحنف بن قيس وغيره، فلو لا أنّ عليّاً اجترأ على سلّ السيف فيها ما أقدم أحد عليها(1).

تنّبؤ للإمام بعد استئصال الخوارج:

لمّا قتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت، قال بعض أصحاب الإمام: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم، فقال:

«كلاّ والله انّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات

النساء، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين» (2) .

ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين، فإن دعوة الخوارج اضمحلّت، ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض، وإليك نماذج:

خرج في أيام المتوكّل، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة، فقطع الطريق وأخاف السبيل، فحاربه أبو سعيد الصامتي فقتل كثيراً من أصحابه، وأسر كثيراًمنهم، فمدحه أبو عبادة البحتري وقال:

كنّا نكفر عن اُمية عصبةً * طلبوا الخلافة فجرةً وفسوقاً

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7/46 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 59 .

( 124 )

ونلوم طلحة والزبير كليهما * ونعنّف الصديق والفاروقا

ونقول تيم أقربت وعديّها * أمراً بعيداً حيث كان صعيقا

وهم قريش الأبطحون إذا انتموا * طابوا اُصولا في العلا وعروقا

حتّى غدت جشم بن بكر تبتغي * ارث النبي وتدعيه حقوقا

جاءوا براعيهم ليتّخذوا به * عمداً إلى قطع الطريق طريقا(1)

ثمّ ذكر أنّه خرج بأعمال كرمان وجماعة اُخرى من أهل عمان لانباهة لهم، وقد ذكرهم أبوإسحاق الصابي في الكتاب «التاجي» وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وانّما وكدهم، وقصدهم، إخافة السبيل والفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير حلّها.

ثمّ أتى يذكر المشهورين بنظر الخوارج الذين تمّ بهم صدق قول أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ : «إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء» وأشهرهم:

1 _ عكرمة مولى ابن عباس.

2 _ مالك بن أنس الأصبحي.

3 _ المنذر بن الجارود العبدي.

4 _ يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج .

5 _ صالح بن عبدالرحمن صاحب ديوان العراق.

6 _ جابر بن زيد(2).

7 _ عمرو بن دينار.

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/74 - لاحظ بقيّة الأبيات.

2. كونه منهم

موضع تأمّل وإن كانت الاباضية ترى أنّه الأصل لهم في الحديث والفقه، تولّد بين عامي 18 _ 22 وتوفّي في العقد الأخير من القرن الأوّل أو أوائل الثاني، تقرأ ترجمته في فصل خاص.

( 125 )

8 _ مجاهد.

9 _ أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي .

10 _ اليمان بن رباب.

11 _ عبدالله بن يزيد.

12 _ محمّد بن حرب .

13 _ يحيى بن كامل.

وهؤلاء الثلاثة الأخيرة كانوا من الأباضية، كما أنّ اليمان كان من البيهسيّة، وأبو عبيدة من الصفريّة، وسيوافيك أسماء مشاهيرهم (1) في فصل خاص.

كلمة أخيرة للإمام في حقّ الخوارج:

وللإمام عليّ كلمة في حق الخوارج ألقاها بعد القضاء عليهم وقال :

«لاتقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» (2).

هذه الكلمة تعرب عن أنّ انحراف الخوارج عن الحق لم يكن شيئاً مدبّراً من ذي قبل، وإنّما سذاجة القوم وقرب قعرهم، جرّهم إلى تلك الساحة، وكانوا جاحدين للحق عن جهل ممزوج بالعناد، فكانوا يطلبون الحق من أوّل الأمر، لكن أخطأوا في طلبه ودخلوا في حبائل الشيطان والنفس الأمّارة، وهذا بخلاف معاوية وجيشه، فإنّهم كانوا يطلبون الباطل ويركبون الغيّ عن تقصير وعلم، وقد عرفت أنّه لم يكن لمعاوية مرمى من أوّل الأمر سوى إزاحة عليّ عن منصبه وغصب الخلافة، و انّ دم عثمان وقميصه وكونه قتل مظلوماًفي

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/74 _ 76 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .

( 126 )

عقرداره كانت واجهة استخدمها لجلب العواطف، يطلب بها إغواء رعاع الناس، ولأجل ذلك لمّا قتل عليّ وصالحه الحسن وأخذ بزمام الأمر، لم يبحث عن قتلة عثمان.

قال ابن أبي الحديد في شرحه:

«مراده أنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم، و كانوا يطلبون الحق،

ولهم في الجملة تمسّك بالدين، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن اخطأوا فيها، وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحق، وإنّما كان ذا باطل لايحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدلّ على ذلك، فإنّه لم يكن من أرباب الدين، ولاظهر عنه نسك، ولاصلاح حال، وكان مترفاً يذهب مال الفئ فى مآربه، وتمهيد ملكه، ويصانع به عن سلطانه، وكانت أحواله كلّها موذنة بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل، و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه، وإن كانوا أهل ضلال، لأنّهم أحسن حالا منه، فإنّهم كانوا ينهون عن المنكر ويرون الخروج على أئمّة الجور واجباً(1).

***

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/78 .

الفصل السّابع انتفاضات الخوارج بعد حرب

الفصل السّابع انتفاضات الخوارج بعد حرب النهروان

في العهد العلوي

( 128 )

( 129 )

كانت حرب الإمام في النهروان، حرباً طاحنةً، قتل رجال العيث والفساد، واستأصل شافتهم، وقضى على رؤوسهم، ولكن لم يكن الخوارج كلّهم متواجدين فيها، بل كانوا متفرّقين في البصرة، والنقاط المختلفة من العراق، فقاموا بانتفاضات ضدّ عليّ وعمّاله، وكانت الحسرة والخيبة نصيبهم، وإليك ما وقعت منها في العهد العلوي صلوات الله عليه.

1 _ خروج الخريت بن راشد الناجي(1):

جاء الخريت بن راشد الناجي إلى عليّ فقال له _ وقد جرّده من إمارة المؤمنين _ : «يا عليّ، والله لااُطيع أمرك ولااُصلّي خلفك، وإنّي غداً مفارق لك، وذلك بعد تحكيم الحكمين». فناظره علي وحاول اقناعه، فلم

____________________________

1. ذكر خروج الخريت الناجي، الطبري في تاريخه 4/86 _ 100، وابن هلال الثقفي في غاراته 21، والمسعودي في مروجه 3/159، والجزري في تاريخه 3/183 _ 187، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/128 _ 148، ولمّا كانت

القصة طويلة لاتناسب بحث الملل والنحل نقلناها ملخّصاً وقد لخّصها الدكتور نايف معروف في كتابه: الخوارج في العصر الأموي 100 _ 101، وأتبعنا تلخيصه.

( 130 )

يرتدع. وسار بجمع من أصحابه فالتقى في طريقه رجلا مسلماً فسأله عمّا يقوله في علي، فأثنى عليه وقدّمه. فحملت عليه عصابة من أصحاب الخريت فقطّعوه بأسيافهم، بينما التقوا يهودياً فخلّوا سبيله. أرسل عليّ في أثرهم زياد بن خضعة البكري في عدد قليل من العساكر فأدركهم في أرض المذار، فدعا زياد صاحبهم الخريت، فسأله عمّا نقمه من أمير المؤمنين، فأخبره بأنّه لايرضى بعليّ إماماً، فطلب إليه تسليمه قتلة الرجل المسلم، فأبى عليه ذلك. فاقتتلوا قتالا شديداً دون أن يتمكّن أحدهما من الآخر، حتى جاء الليل فحجز بينهما، و تحت جنح الظلام تنكّر الخريت وأصحابه واتّجهوا صوب الأهواز، وكتب زياد إلى عليّ بما جرى بينهما. فانتدب عليّ معقل بن قيس الرياحي في جيش قوامه أربعة آلاف رجل، وبعث به في طلب الخريت الذي كان قد اجتمع إليه كثير من قطّاع الطرق والخارجين على النظام ممّن كسروا الخراج كما انضمّت إليه طائفة من الأعراب كانت ترى رأيه، وتمكّنوا من بعض مناطق فارس وأخرجوا عاملها لعلي سهل بن حنيف، ثم كان اللقاء بين الفريقين قرب جبل من جبال رامهرمز، فخرج الخريت من المعركة منهزماً حتى لحق بساحل بحر فارس.

ولكنّ الخريت لم يلق سلاحه، بل استمرّ بجمع الناس حوله، فكان يأتي من يرى رأي الخوارج فيسر إليهم: «إنّي أرى رأيكم، وانّ عليّاً ماكان ينبغي له أن يحكّم الرجال في دين الله» ثم يأتي لمن يرى رأي عثمان وأصحابه، فيقول لهم: «أنا على رأيكم، وانّ عثمان قتل مظلوماً معقولا» كما كان يجيء مانعي الصدقة فيقول: «شدّوا

على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم، وعودوا إن شئتم على فقرائكم، وهكذا كان يعمل على إرضاء كلّ طائفة من الناس بضرب من القول يتّفق وهواهم. وبذلك استطاع أن يستهوي كثيراً من الأقوام من مختلف الميول والاتجاهات. ولمّا علم معقل بموقعه بساحل البحر بفارس، عبّأ جنده وزحف

( 131 )

نحو الخريت وأصحابه، وهزمهم هزيمة منكرة قتل فيها الخريت، وتقرّق من بقي من أتباعه هنا وهناك.

هكذا، انتهت حياة الخريت الناجي الذي لم تعرف هويّته الفكرية على حقيقتها، إذ وجدناه تارة يحارب إلى جانب علي _ عليه السَّلام _ وطوراً يخرج على إمامته ويشدّد النكير عليه، ومرّة يزعم أنّه من الخوارج واُخرى يتآمر على حياة زعمائهم فيستعدي عليّاً على عبدالله بن وهب الراسبي وزيد بن حصين ليقتلهما، ويقول المسعودي: إنّ الخريت ارتدّ مع أصحابه إلى النصرانية(1) .

2 _ لمّا خرج أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على عليّ «بالدسكرة» في مائتين ثمّ سار إلى الأنبار، فوجّه إليه علي _ عليه السَّلام _ الأبرش بن حسان في ثلاثمائة وواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين .

3 _ ثم خرج هلال بن علفة ومعه أخوه مجالد فأتى «ماسبذان» ووجّه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم في جمادى الاُولى سنة ثمان وثلاثين .

4 _ ثم خرج الأشهب بن بشر و قيل الأشعث وهو من «بجيلة» في مائة وثمانين رجلا، فأتى المعركة التي اُصيب فيها هلال وأصحابه فصلّى عليهم و دفن من قدر عليه منهم، فوجّه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجربن عدي، فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلاب_ «جرجرايا» من أرض «جوخا»

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب; المطبوع في سبعة أجزاء 3/59.

ويظهر منه أنّه كان من أصحاب عليّ ولم يكن من الخوارج وإنّما انفصل عنه، عندما عسكر الإمام بالنخيلة ليذهب بالناس إلى حرب معاوية ثانيا فعند ذلك جعل أصحابه يتسلّلون و يلحقون بأوطانهم فلم يبق منهم إلاّ نفريسير، ومضى الخريت بن راشد الناجي في ثلاثمائة من الناس فارتدّوا إلى دين النصرانية.... .

( 132 )

فقتل الأشهب و أصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.

5 _ ثم خرج سعيد بن قفل التميمي في رجب ب_«البندجين» و معه مائتا رجل فأتى «درزنجان» وهي من المدائن على فرسخين، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان و ثلاثين.

6 _ ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى «شهرزور» وأكثر من معه من الموالي، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربعمائة، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل اليه عليّ يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل، قال: ليس بيننا غير الحرب، فبعث إليه عليّ شريح بن هاني في سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا، وبقي شريح في مائتين فانحاز إلى قرية، فتراجع بعض أصحابه، ودخل الباقون الكوفة، فخرج عليّ بنفسه و قدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي، فدعاهم جارية إلى طاعة عليّ، وحذّرهم القتل فلم يجيبوا، ولحقهم عليّ أيضاً فدعاهم فأبوا عليه و على أصحابه، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمنهم، وكان في الخوارج أربعون رجلا جرحى فأمر عليّ بادخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برئوا، وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين، وكانوا من أشجع من قاتل من الخوارج ولجرأتهم قاربوا الكوفة(1) .

جريمتهم الكبرى أو آخر سهم في كنانة الخوارج:

قتل

الإمام رؤوس الخوارج واستأصلهم، وقد نجت فئة منهم وتواروا في البلاد كما انّ من كان به رمق منهم، دفعهم الإمام إلى عشائرهم ليداووهم، ولكن

____________________________

1. ابن الأثير: الكامل 3/187 _ 188 .

( 133 )

كان للقوم في البصرة ونواحيها أنصار وموالون في الطريقة وكان للهالكين في ساحة القتال من ينتمي إليهم بشيء من النسب والسبب، فكانوا ينتهزون الفرصة لأخذ ثأرهم من الإمام عليّ _ عليه السَّلام _ قال: المبرّد: فلمّاقتل عليّ أهل النهروان وكان بالكوفة زهاء ألفين ممّن لم يخرج مع عبدالله بن وهب وقوم ممّن استأمن إلى أبي أيّوب الأنصاري، فتجمّعوا وأمروا عليهم رجلا من طي، فوجّه إليهم علي _ عليه السَّلام _ رجلا وهم بالنخيلة فدعاهم ورفق بهم، فأبوا فعاودهم، فأبوا فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة فوجّه معاوية من يقيم للناس حجّهم فناوشه هؤلاء الخوارج فبلغ ذلك معاوية، فوجّه بسر بن أرطاة أحد بني عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بان يصلّي بالناس رجل من بني شيبة لئلاّ يفوت الناس الحج، فلمّا انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إنّ عليّاً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الاُمّة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقّه، وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وانّه لأصل هذا الفساد، فقال عبدالرحمن بن ملجم: أنا أقتل عليّاً، فقالوا: وكيف لك به؟ قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبدالله الصريمي وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زادويه مولى عمروبن تميم: وأنا اقتل عمرو، فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة فجعلوا تلك الليلة ليلة احدى وعشرين(1)من شهر رمضان، وخرج كل واحد إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى نفسه وتزوّج إمراةً يقال لها قطام بنت علقمة من تيم

الرباب وكانت ترى رأي الخوارج، ويروى أنّها قالت: لاأقنع منك إلاّ بصداق اُسمّيه لك، وهو ثلاث آلاف درهم وعبدٌ وأمة، وأن تقتل علياً، فقال لها: لك ما سألت. فكيف لي به؟. قالت: تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شرّ وأقمتَ مع أهلك، وإن أصبتَ صرتَ إلى

____________________________

1. تفرّد المبرد بنقله، والصحيح ليلة التاسعة عشر .

( 134 )

الجنة ونعيم لايزول فانعم لها وفي ذلك يقول:

ثلاثة آلاف وعبد وقَيْنَةٌ * وضرب عليّ بالحسام المصمِّم

فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلى * ولافتك إلاّ فتك ابن ملجم

ويروى أنّ الأشعث نظر إلى عبدالرحمن متقلّداً سيفاً في بني كندة فقال: يا عبدالرحمن أرني سيفك. فأراه فرأى سيفاً حديداً، فقال: ما تقلّدك السيف وليس بأوان حرب؟ قال: فقال: إنّي أردت أن أنحر به جزور القرية. فركب الأشعث بغلته و أتى عليّاً فخبّره، فقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد.

ويروى انّ عليّاً_ رضوان الله عليه _ كان يخطب مرّة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنّهم منك، فلمّا انصرف علي _ صلوات الله عليه _ إلى بيته أتى به ملبباً(1)فأشرف عليه، فقال علي: ماتريدون؟ فخبّروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد فخلّوا عنه.

ويروى أنّ علياً كان يتمثّل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي:

اُريد حياته ويريد قتلي * عَذِيرَك من خليلكَ من مراد

فقيل لعليّ: كأنّك قد عرفته و عرفت ما يريد بك. أفلا تقتله؟ فقال: كيف اقتل قاتلي؟ .

فلمّا كان ليلة احدى و عشرين من شهر رمضان خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي فاعتورا الباب الذي يدخل منه عليّ _ رضي الله عنه _ وكان مُغَلِّساً ويُوقظ

الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل فضربه شبيب فأخطاه

____________________________

1. أي مأخوذا بتلابيه.

( 135 )

وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صَلْعَتِه (1) فقال علي: فزت ورب الكعبة، شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان بالمسجد من الأنصار، قال: سمعت كلمة عليّ ورأيت بريق السيف، فأمّا ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له وتلقّاه المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب بقطيفة فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، فقعد على صدره ، وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت وصرعه وقعد على صدره وكثر الناس فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرميّ أن يكنُّوا عليه ولايسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسلّ شبيب بين الناس فَدُخِلَ على عليّ فاومر فيه، فاختلف الناس في جوابه فقال علي: «إن أعش فالأمر إليّ، وان اُصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصّوا فضربة بضربة وإن تعفوا أقرب للتقوى»....ومات عليّ _ صلوات الله ورضوانه عليه و رحمته _ في آخر اليوم الثالث [واتّفقوا على القصاص] فدعا به الحسن _ رضي الله عنه _ [فقال ابن ملجم له]: إنّ لك عندي سرّاً فقال الحسن _ رضوان الله عليه _: أتدرون ما يريد؟ يريد أن يقرب من وجهي فيعضّ اُذني فيقطعها. فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها. فقال الحسن: كلاّ والله لأضربنّك ضربة تؤدّيك إلى النار(2) .

هذا ما ذكره المبرّد في كامله ووافقه عدّة من المؤرّخين غير أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، والصحيح أنّه قتل في المحراب وهو يصلّي الفجر وانّه ضرب في ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان واستشهد في ليلة الحادية و العشرين منه: وإليك كلمة عن الإمام الرضا _ عليه السَّلام _ في

ذلك المجال

____________________________

1. العبارة تعرب عن كونه مقتولا في باب المسجد ولكنّه مردود بقول أئمة أهل البيت على أنّه قتل في محراب عبادته.

2. المبرّد: الكامل 2/148. الطبري: التاريخ 4/110 _ 112. ابن الأثير: الكامل 3/194 _ 195. الدينوري: الأخبار الطوال 214. المسعودي: مروج الذهب 4/166 .

( 136 )

لمّا ضرب ابن ملجم _ لعنه الله _ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان معه آخر فوقعت ضربته على الحائط، وأمّا ابن ملجم فضربه فوقعت الضربة وهو ساجد على رأسه (1).

***

____________________________

1. الطوسي: الأمالي 233. المجلسي: البحار 42/205 _ 206 .

( 137 )

خاتمة المطاف:

ماهي أسباب النكسة في أعقاب حرب صفّين

لم يختلف اثنان في أنّ النصر كان حليف الإمام طوال مدّة الحرب، ولكن لمّا طرأت فتنة التحكيم واغترّبها بعض قادة جيشه وخاصة قرّاؤهم، بدأ الضعف يدبّ في معسكر الإمام، واختلفوا إلى فرقتين، فرقة تنادي بالصلح والموادعة، وفرقة أخرى _ وكانت في الظاهر قليلة _ تصرّ على مواصلة الحرب، ولاجرم أنّ الغلبة كانت للطائفة الاُولى، ثمّ إنّ نفس تلك الطائفة تراجعت عن فكرتها وحاولت أن تفرض على علي _ عليه السَّلام _ نقض ميثاق التحكيم، ولكنّها لم تنجح وانتهى إلى ما عرفت من خروج المحكِّمة بصورة قوّة معارضة للإمام إلاّ أنّ الإمام استأصل شأفتهم، وقطع جذورهم، فلم يبق في القوم إلاّ حشاشات شكّلت نواة للانتفاضات والأعمال الاجرامية حيث استطاعت اغتيال الإمام واعطاء الفرصة لمعاوية، لتحقيق طموحاته التي طالما راودته في

( 138 )

حياته السياسية.

وكان من نتائج تلك الفتنة، أنّ الإمام لم يتمكّن من عزل معاوية عن سلطته في الشام، وضمّ الشامات إلى حكومته، بل خرجت بعض المناطق التي كانت تحت يده عن سلطته، فاستولى عمرو بن العاص على مصر، وقتل عامل

الإمام محمّد بن أبي بكر فيها حتى أصبح العراق مطمعاً لمعاوية من خلال الغارات التي قامت بها كتائبه.

كلّ ذلك، مانصفه بالنكسة تارة، والهزيمة اُخرى، ويطيب لنا بيان أسبابه في خاتمتنا هذه، وربّما يتخيّل القارئ أنّ هذا البحث خارج عن موضوع هذا الجزء (الخوارج)، ولكنّه إذا اطّلع عليه يقف على أنّ له الصلة التامّة بالموضوع وإليك البيان.

إنّ السبب الحقيقي لوقوع النكسة كان أمرين:

الأوّل: سيادة نزعة الاعتراض على قرّاء الكوفة:

كان جيش الإمام خليطاً من طائفتين طائفة صالحة مطيعة لأمر القيادة إلى حدّ التضحية بكلّ ما تملك لتنفيذ أوامرها من دون أيّ اعتراض، و من نماذج تلك الطائفة مالك الأشتر، وعدي بن حاتم وعبدالله بن عباس، وعماربن ياسر، وعمروبن الحمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي، وسهل بن حنيف، وسليمان بن صرد، إلى غير هؤلاء من صلحاء الاُمّة وأتقيائها التابعين للإمام تبعية الضل لذي الضل.

وطائفه تطغى عليها نزعةُ الاعتداد بالرأي والاستبداد في الأمر، والتدخّل في شؤون القيادة، وكانوا يتصوّرون أنّه ليس بينهم و بين القائد، فرق حتى بقدر الأنملة ، وهذا الشعور كان ظاهراً منهم في جميع مواقفهم من

( 139 )

حين انضمامهم لراية الإمام إلى خروجهم عليه، ومن نماذج هؤلاء، حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية، ومِسْعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي، ونافع بن الأزرق، وعبدالله بن وهب الراسبي إلى غير ذلك من رؤوس تلك الطائفة الذين صاروا خوارج من بعد.

وبما أنّ أصحاب هذه الطائفة كانوا يكثرون قراءة القرآن والصّلاة والتهجّد في الليل حتى اسودّت جباههم من السجود، وأصبحت لهم ثفنات كثفنات البعير، فكان لكلامهم نفوذ وتأثير كبير في جيش الإمام، خاصّة اُولئك الذين كانوا من قبائلهم و كتائبهم و هم

كثيرون.

والذي يدلّنا على سيادة تلك النزعة فيهم (نزعة الاعتراض على القيادة والمتولّين لشؤون الحكومة) مانقرأه في تاريخ حياتهم وإليك بيانه:

1 _ ما سمعت من حديث النبي في حقّ رأس الخوارج (ذي الخويصرة) حيث وقف على رسول الله وهو يقسّم غنائم خيبر فقال له: ما عدلت منذ اليوم، فقال رسول الله: ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر: ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال رسول الله: إنّه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ، وقال: تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم، وصوم أحدكم في جنب صيامهم، ولكن لايجاوز إيمانهم تراقيهم، وقال سيخرج من ضئضىء هذا الرجل، قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (1) .

2 _ ما رواه الطبري عن محمّد بن راشد عن أبيه في حرب الجمل قال: كان من سيرة عليّ: أن لايقتل مدبراً ولايذفف على جريح ولايكشف ستراً ولايأخذ مالا، فقال قوم يومئذ: ما يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم؟ فقال

____________________________

1. نقله أهل السير ونقله أصحاب الصحاح و المسانيد، ورواه البخاري أيضاً في صحيحه لاحظ الجزء 6 تفسير سورة البراءة تفسير قوله سبحانه: والمؤلّفة قلوبهم ص 67 .

( 140 )

عليّ: القوم أمثالكم من صفح عنّا فهو منّا و نحن منه، ومن لجَّ حتى يصاب، فقتاله منّي على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى، فيومئذ تكلّمت الخوارج (1).

وقد ذكر الطبري قصّة الاعتراض على وجه الإجمال ولكن غيره ذكره على وجه التفصيل، قالوا: نقمت الخوارج على عليّ عندما قرب منهم في النهروان وأرسل إليهم أن سلّموا قاتل عبدالله بن خباب، فأجابوه بأنّا كلّنا قتله، ولئن ظفرنا بك قتلناك، فأتاهم عليّ في جيشه، وبرزوا إليه بجمعهم، فقال لهم قبل القتال: ماذا نقمتم منىّ؟ فقالوا له:

أوّل ما نقمنا منك انّا قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلمّا انهزم أصحاب الجمل، أبَحْتَ لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال، ومنعتنا من سبي نسائهم و ذراريهم، فكيف استحللت مالهم دون النساء والذريّة؟ فقال: إنّما أبحتُ لكم أموالهم بدلا عمّا كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم، والنساء والذرية لم يقاتلونا، وكان لهم حكم الإسلام، بحكم دار الإسلام، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام ولا يجوز استرقاق من لم يكفر، وبعد لو أبحت لكم النساء، أيّكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فخجل القوم من هذا(2) .

وما ذكره الطبري، وإن وقع في سنده سيف بن عمر، وهو ضعيف في الرواية، ولكن مانقله البغدادي نقىّ السند مضافاً إلى أنّه تضافرت الروايات على نقله من الفريقين .

روى الشيخ الطوسي في تهذيبه عن مروان بن الحكم قال: لمّا هزّمنا عليّ بالبصرة ردّ على الناس أموالهم، من أقام بيّنة أعطاه، ومن لم يقم بيّنة أحلفه،

____________________________

1. الطبري: التاريخ 3/545 .

2. البغدادي: الفَرق بين الفِرق: 78 .

( 141 )

قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين اقسم الفي بيننا والسبي، قال: فلمّا أكثروا عليه، قال: أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا (1).

3 _ روى الطبري أيضاً: لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل البصرة، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسّمها على من شهد معه، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال: لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى اعطياتكم، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء(2).

كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم، وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.

4 _ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم على

الشاميين، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين، قابلوه بالاعتراض والسيف.

قال ابن مزاحم: إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم، فرضوا بذلك، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ برايات عنزة _ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف _ فلمّا مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم، قال فتيان منهم: لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم، واسماهما معدان وجعد، اخوان، ثم مرّ بها على مراد، فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم:

ما لعليّ في الدماء قد حكم * لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

____________________________

1. الحرّ العاملي: وسائل الشيعة 11 الباب 25 الحديث 5 و 7 ص 58 .

2. الطبري: التاريخ 3/544. والمراد من السبائيّة: الخوارج، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.

( 142 )

لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا: لاحكم إلاّ لله، لانرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم: لاحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، فقال رجل منهم لآخر: أمّا هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي، فقال: أتحكّمون الرجال في أمرالله، لاحكم إلاّ لله، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه (1) .

5 _ إنّ بعض من

صار من الخوارج كانوا متواجدين في الكوفة أيّام خلافة عثمان، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص، فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة، ونرى بين المعترضين، حرقوص بن زهير السعدي، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي، وزيد بن حصين الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي، وكانوا يعدّون من أصحابه، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال: إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء _ وهم السفهاء _ شيئاً فكتب إليه: أن سيّرهم إلى الشام(2).

نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم، من الرجال الصالحين والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي، ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين)، وعمرو بن الحمق، وكميل بن زياد النخعي، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني،

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 587 _ 588 .

2. الغدير: 5 / 31 نقلاً عن الأنساب للبلاذري: 5/39 .

( 143 )

وغيرهم من الصلحاء، وذلك يكشف عن وجود نزعة الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة، ولا دليل على تلك الملازمة، فرّب انسان يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى، والامعان في حقيقة الاعتراضين _ الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين علي_ يكفي في تصديق ماذكرنا.

نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية التعبير عن الرأي، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى النقد إذا كان لأجل طلب الحق،

مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء، لغاية الوصول إلى الحق، وهذا ما يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم، بل نجد ذلك في عصر المعصوم أيضاً، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه وجرت دموعه على خدّيه، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به من عدم البكاء على المّيت، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : لا، ولكنّي نهيت عن صوتين احمقين وآخرين: صوت عند مصيبة، وخمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان، وصوت عند نعمة لهو، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (1) .

نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي، وحبّ الاعتراض، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل (ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ كَفَروا فَلا

____________________________

1. برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية 3/395 .

( 144 )

يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ) (1) وقال سبحانه: ( وَ يُجادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ) .(2)

نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى، وإن اشتركوا في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.

فالنزعة الاُولى: كانت نابعة عن روح صادقة لاعن هوى نفسي، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ عثمان، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام، وتحمّلوا التسيير والتبعيد عن الوطن، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله، سلّموا إليه مقاليد امورهم.

والنزعة الثانية: كانت نابعة عن روح مكابرة تريد فرض ما تحبّ وترى، سواء أكان

حقّاً أم باطلا، ونذكر هنا نموذجاً للقسمين:

قال ابن مزاحم: قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة: إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم، فقال علي: بلى إنّ الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ، وقد رضيتُ ورضيتُم، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا، ولا التبديل بعد الإقرار، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (3) .

وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر القيادة، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس، أو قاب قوسين او أدنى، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء

____________________________

1. غافر: 4 .

2. الكهف: 56 .

3. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 598 .

( 145 )

على حياة الإمام، تراجع عن ساحة القتال، ورجع طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام _ عليه السَّلام _ وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام، وقال خُدِعَتم والله فانخدعتم، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباة السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (1).

هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق، وأمّا الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على صحّة مبدأ التحكيم بقوله: «إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد» فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْل مِنْكُمْ) فكيف في الامامة...، فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض: اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم: ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون) وقال عزّوجلّ: ( و تُنْذِرَ

به قَوْماً لدّا)(2).

إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه النكسة، وإليك بيان العامل الثاني:

الثاني: وجود العملاء في جيش الإمام:

كان في جيش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه، حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته، كأمثال الأشعث بن قيس، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال: من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 563.

2. المبرّد: الكامل 2/122 طبع مطبعة المعارف بمصر.

( 146 )

ومسمع منه، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: «كلّ فساد كان في خلافة عليّ _ عليه السَّلام _ وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث» (1) .

وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية:

1 _ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان، وقد كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس، ولمّا بويع عليّ _ عليه السَّلام _ كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال: «وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة، وفي يديك مال من مال الله، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ». فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه: «إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان» وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ، وهو معزول عن الولاية(2) .

قال المسعوديّ: وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال (3) .

2 _ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث فانتزعها عليّ _ عليه السَّلام _ منه وولّى حسان بن مخدوع عليهما، ثمّ بعد هن وهنات

أشركه في الرئاسة(4) وقد أثار ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.

3 _ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال فترة الحرب، يقول ابن مزاحم: إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له: «إنّ ابن عمّك

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/279 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 29 .

3. المسعودي: مروج الذهب 3/117 .

4. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 153 .

( 147 )

ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله، وإن كان ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة، فتأذن لنا فيه» فقال له الأشعث: اقرأ صاحبك السّلام ورحمة الله، وقل له: إنّي أخاف أن يتهمني علي، فاطلبه إلى سعيد بن قيس فإنّه في الميمنة، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون(1).

4 _ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي سفيان، فقال: الق الأشعث، فإنّه إن رضي رضيت العامّة، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس، فقال الناس: هذا الرجل يدعوك، فقال الأشعث: سلوه من هو؟ فقال: أنا عتبة بن أبي سفيان، فقال الأشعث: غلام مترف ولابدّ من لقائه، فخرج إليه، فأبلغه دعوة معاوية (2) .

وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم له في ساحة علي _ عليه السَّلام _ من خلال كسب رضا الأشعث، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال في جواب معاوية: أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله .

فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث، أيقن بأنّ الأشعث قد جنج للسلم، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين، إلى أن اجترأ الأشعث على ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ

أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي:

5 _ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من كندة، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية، وكانت امارات النصر لعلي

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 341 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 465 .

( 148 )

ظاهرة، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في نهار تلك الليلة، فقال في خطابه: «قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب، انّا إن نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.

قال صعصعة: فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث، فقال: أصاب وربّ الكعبة، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وأنّما يبصر هذا ذووا الأحلام والنهى، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم، الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها الخيل...(1) .

6 _ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي _ عليه السَّلام _ وفرّقهم إلى فرقتين، فمنهم من يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره، ومنهم من يصرّ على إنهائها، ومنهم الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال: يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنّك أحقّ به منهم، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (2) .

7

_ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت، وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه، ابن عباس،

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 549 _ 550 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 551 .

( 149 )

فلم يقبله الأشعث، وقال: والله ما نبالي أكنتَ أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر، قال علي: إنّي اجعل الأشتر، قال الأشعث: وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر(1) .

8 _ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق يعرضه عليهم، واستقبله أهل الشام بالرضا، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله: لا حكم إلاّ لله (2) .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ _ عليه السَّلام _ ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى، وبذلك تقف على صحّة ماذكره ابن أبي الحديد: من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث .

يقول اليعقوبي: لمّا رفعوا المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فقال علي: إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن، فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، _ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسه_ فقال: قد دعوا القوم إلى الحقّ، فقال علىّ _ عليه السَّلام _ إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا

صرفكم عنهم، فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك، ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 572 .

2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 588 .

( 150 )

برمّتك.(1) .

ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله: لمّا استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي _ عليه السَّلام _ إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال: يزيد بن قيس الأرحبّي، فركب علي إليهم إلى حروراء، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مَضْرب يزيد بن قيس، فصلّى فيه ركعتين، ثم خرج فاتّكأ على قوسه، وأقبل على الناس، فقال: هذا مقام من فلج (2) فيه فلج يوم القيامة، ثمّ كلّمهم وناشدهم، فقالوا: أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعدلك، فقال علي _ عليه السَّلام _ : أنا استغفر الله من كلّ ذنب، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّاً _ عليه السَّلام _ رجع عن التحكيم، ورآه ظلالا وقالوا: إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجنى الأموال، ثمّ ينهض بنا إلى الشام، فأتى الأشعث عليّاً _ عليه السَّلام _ فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفراً، فقام عليّ _ عليه السَّلام _ يخطب، فقال: من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكَّمت (4) .

قال ابن أبي الحديد: إنّ الخوارج لمّا قالوا لعليّ: تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا، ننهض معك إلى حرب الشام، فقال

لهم عليّ: كلمة مجملة مرسلة

____________________________

1. اليعقوبي: التاريخ 2/178 طبعة النجف .

2. فلج فيه، من الفلج: وهو الظفر .

3. الكراع: اسم للخيل .

4. المبرّد: الكامل 2/155، وفي المصدر: فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه .

( 151 )

يقولها الأنبياء و المعصومين وهي قوله:

«استغفرالله من كلّ ذنب» فرضوا بها وعدّوها اجابة لهم إلى سؤالهم، وصفت له _ عليه السَّلام _ نيّاتهم، واستخلص بها ضمائرهم، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية، فانتقض ما دبّره، وعاد الخوارج إلى شبهتهم الاُولى، وراجعوا التحكيم والمروق (1) .

هل العصبية القبلية دفعت الأشعث إلى المخالفة؟:

من هذا البحث انصافاً تقف على قيمة مايذكره البعض وهو أنّ العصبية القبلية أثّرت في انحراف الأشعث عن علي، بل مهّدت لنشوء الخوارج وظهورهم في الساحة، وذلك بحجة أنّ الأشعث اعترض على ترشيح عبدالله بن عباس ممثّلا لعليّ، وقال: لا والله لا يحكم فيها مُضريّان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعله من أهل اليمن، إذا جعلوا (أهل الشام) رجلا من مضر. فقال علي: إنّي أخاف أن يُخْدَع يَمَنَيِّكُم، فإنّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في امر هوى، فقال الأشعث: والله لأن يحكماببعض ما نكرهه وأحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ في حكمهما وهما مضريان (2) .

إنّ تحليل انحراف الأشعث عن عليّ _ عليه السَّلام _ وايجاده الفوضى في قسم كبير من جيشه بهذا العامل النفسي ضعيف جداً، ولاننكر أن يكون لهذا العامل أيضاً رصيداً في ما كان يضمره ويعمله .

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/280 .

2. الدكتور نايف معروف: الخوارج في العصر الاُموي

25 وما نقله عن الأشعث، ذكره ابن مزاحم في وقعة صفّين 500 .

( 152 )

وأبعد من ذلك تحليل نشوء الخوارج في ساحة القتال بالعصبية القبلية، انّها أنجبت حركة الخوارج فصارت عصبيتهم الموجّهة ضدّ قريش وسلطانها المتجسّد في الحكومة العلوية يومذاك، سبباً لتلك الحركة الهدّامة بشهادة أنّا لانجد في صفوف الخوارج قرشياً واحداً بل على العكس من ذلك فإنّهم كانوا يحملون لواء التمرّد على قيادتها(1) .

إنّ تحليل هذه الحركة الكبيرة من بدئها إلى نهايتها بهذا العامل النفسي أشبه بتعليل الهزّة الكبيرة الموجبة لانهدام المدن والقرى، بسقوط صخرة من أعلى الجبل إلى هّوة سحيقة، نعم لايمكن انكار العصبية القبلية بين جميع القبائل العربية، خصوصاً بين قبيلتي تميم وقريش، ولكنّه ليس بمعنى أنّه الباعث والعامل المحدِث لهذه الضجّة الكبيرة التي شغلت بال المسلمين والخلفاء طوال قرون، بل العامل لحدوث هذه الحركة هو ما عرفته في المقام وفي الفصل الثالث عند البحث عن نشوء الخوارج .

***

____________________________

1. الدكتور نايف معروف: الخوارج في العصر الاُموي 28 .

الفصل الثامن الخوارج في عصر معاوية بن أبي

الفصل الثامن الخوارج في عصر معاوية بن أبي سفيان

( 154 )

( 155 )

قد تعرّفت على مأساة التحكيم وما خلّف من آثار ونتائج سيّئة في جيش الإمام وأصحابه حيث فرّقهم وشقَّ شملهم، فانقلب الاخوان أعداءً، وأصبح الأنصار معارضين، إلى أن أدّى ذلك إلى حروب دامية ضدّ إمامهم أمير المؤمنين ولم يبرحوا حتى قضوا على حياته حيلة وغيلة.

لقد بذر معاوية تلك البذرة في جيش الإمام، ولم يدر بخلده أنّ هذه البذرة سوف تنمو وتكون أشواكاً تعكّر عليه صفو خلافته، وتشغل باله عشرين سنة إلى العام الذي هلك فيه، فحصد مازرع ووقع بالحفرة التي حفرها، وسوف نذكر الحروب والانتفاضات التي جرت في عهد معاوية بعد أن

تسنّم عرش الخلافة من عام 41 إلى 60 من الهجرة.

نعم لم تقف انتفاضاتهم بهلاك معاوية، بل استمرّت بعد هلاكه، وعلى طول عهد بني اُميّة، غير انّا نكتفي بما جرى في عهد معاوية وبعده بقليل، ليكون نموذجاً لسائر الثورات التي قاموا بها إلى أواخر العصر الأموي. فكانوا مثلا لقوله سبحانه: ( ألَمْ يَأتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَ بالَ أَمْرِهِمْ

( 156 )

وَ لَهُمْ عَذابٌ اَليِمٌ) (1) .

وقبل ذلك نلفت نظر القارىء إلى هذه الانتفاضات من زاوية اُخرى، فالخوارج وإن قاموا في وجه الطغاة اللئام من بني اُميّة فثاروا عليهم هنا وهناك بصورة عشوائية ومتفرّقة، فأسهروا عيونهم وزعزعوا كيانهم، ولكنّهم أيضاً ذاقوا وبال أمرهم لأنّهم عصوا إمامهم، وقلّبوا الاُمور عليه، وأوجدوا الفوضى في عصره، فصدق فيهم قول الامام وهو يخاطبهم: «أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، وسيفاً قاطعاً، يتّخذها الظالمون فيكم سنّة»(2) .

وهذا الكلام تنّبؤ من الإمام عن مستقبلهم المظلم، ويحقّ له هذا التنّبؤ، كيف وهو باب علم النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، نعم احتمل ابن أبي الحديد أن يكون دعاءً أيضاً وقال: وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم، وهذه الأخبار عن مستقبل حالهم، وقد وقع ذلك، فإنّ الله تعالى سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل، والسيف القاطع، والاثرة من السلطان، ومازال حالهم يضمحل حتى افناهم الله تعالى وافنى جمهورهم.

ثمّ إنّ ابن أبي الحديد ذكر في أخبارهم شيئاً كثيراً وأطنب الكلام في سيف المهلّب بن أبي صفرة وبنيه على الخوارج وانّ نتيجته كانت الحتف القاضي، والموت الزؤوم للخوارج.

إنّ موسوعتنا هذه موسوعة تاريخ العقائد، لا تاريخ الأقوام، ولأجل ذلك ضربنا صفحاً عن نقل جميع الانتفاضات التي أقامها الخوارج في الشهود المختلفة، وفي

أماكن متفرّقة، واكتفينا بماقاموا به في العصر الإموي، وخصّصنا بالذكر خصوص ما يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان زارع هذه

____________________________

1. التغابن 5 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58 .

( 157 )

البذرة، وحاصد نتائجها الدنيوية، وحافر تلك الحفرة والواقع فيها، وطلباً للاكمال نشير إلى الانتفاضات الواقعة بعد عهد معاوية بوجه موجز.

اغتيل الإمام علي _ عليه السَّلام _ بيد أشقى الأوّلين والآخرين على ما وصفه الرسول الأعظم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في حديثه (1) وقضى نحبه فبويع الحسن خليفة بعد أبيه وتمّت له البيعة في رمضان سنة أربعين، وكان معاوية يتحّين الفرص ليسيطر على العراق كما سيطر على مصر ويأخذ بمقاليد الحكم، وقد أعطاه قتل الإمام فرصة لبسط نفوذه على العراق وخلع الحسن عن الحكم، فقدّم أمامه عبدالله بن عامر ليفتح الطريق إلى معاوية، ثمّ غادر هو الشام متوجّهاً إلى العراق.

ولمّا وقف الحسن على خطّة معاوية وانّه بصدد مواجهته بالقوّة العسكرية قدّم كتائب من جيشه وعلى رأسهم كتيبة قيس بن سعد بن عباده، وخرج هو من الكوفة حتى نزل المدائن مستعدّاً لمواجهة معاوية، غير أنّ الحوادث المريرة _ التي ليس المقام مناسباً لذكرها _ خيَّبتْ أمله، فلم يَر بدّا من التنازل عن الحكم و تسليم الأمر إلى معاوية من خلال وثيقة الصلح، وكيف لايكون مضطرّاً إلى التصالح وقد أعرب عن اضطهاده وتخاذل أصحابه ونهب ماله قبل مواجهة العدوّ، فقام خطيباً وقال: «يا أهل العراق انّه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إيّاي وانتهابكم متاعي»(2).

أخذ معاوية بمقاليد الحكم وكان يتبجّح بأنّه أزال جميع الموانع التي

____________________________

1. سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص 158.

2. الطبري: التاريخ 4/122 وقد ذكر الطبري صورة وثيقة الصلح في ذلك المقام

ولكن ما ذكره لايشتمل على جميع بنود الصلح ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

( 158 )

كانت تقف في طريقه لتولّي سدّة الحكم، لكنّه كان غافلا عن أنّ البذرة التي بذرها في صفّين لأجل إيجاد الفرقة في صفوف جيش عليّ _ عليه السَّلام _ سوف تنمو ويأكل من ثمرها وتكون عليه ضدّاً، فإن تسليم الحسن الحكم لمعاوية، ومبايعة أهل العراق له قد أغضب رؤوس الخوارج المختفين في جيش الحسن والمتفرّقين في البلاد، إذ شعروا أنّ هذا التصالح خطر على كيانهم ووجودهم، ولأجل ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم لمحاربة النظام الجديد كما حاربوا النظام السابق، فالخوارج كانوا ينظرون إلى عليّ _ عليه السَّلام _ ومعاوية بمنظار واحد بعد قضية التحكيم وإن كان عليّ _ عليه السَّلام _ في نظرهم إماماً عادلا محقّاً قبل التحكيم .

وإليك بعض حروبهم في عصر معاوية على وجه الإجمال:

1 _ خروج فروة بن نوفل: يقول الطبري: وفي هذه السنة سنة41 خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام عليّ _ عليه السَّلام _ ب_ «شهرزور» على معاوية، فلمّا قدم معاوية العراق قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة فقالت الحرورية الخمسمائة التي كانت اعتزلت ب_«شهرزور» مع فروة بن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن ما لا شكّ فيه، فسيروا إلى معاوية نجاهده، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفه فأرسل اليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لاأمان لكم والله عندي حتى تكّفوا بوائقكم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منّا، أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم، دعونا حتى نقاتله وإن أصبناه كنّا قد كفينا كم عدوّكم،

وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله اخواننا

( 159 )

من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع (1) صاحبهم فروة وكان سيد القوم واستعمل الخوارج عليهم عبدالله بن أبي الحر(2)، رجلا من طيّ، فقاتلوهم، فقتلوا(3) .

وممّا يذكره المؤرّخون من حديث معركة النخيلة: انّ قبيلة اشجع تمكّنت من أخذ فروة بن نوفل من بين أصحابه الخوارج، فولّى الخوارجُ عليهم عبدالله بن ابى الحرباء، فقتل في أثناء المعركة، فولّى الخوارج عليهم حوثرةَ بن وداع بن مسعود الأسدي، فعاد إلى النخيلة، فأرسل اليه معاوية أباه، لعلَّه يردُّه وقال له:

اُخرج إلى ابنك فلعلَّه يرقُّ إذا رآك.

فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال:

ألاأجيئك بأبنك؟ فلعلّك إذا رأيتَه كرهتَ فراقهَ.

فقال حوثرة: إنّي إلى طعنة من يد كافر يرمح القلب فيها ساعة، أشوق منّي إلى ابني .

فرجع أبوه وأخبر معاوية بقوله.

فأرسل معاوية إليهم جنداً فقتلوهم جميعا(4) .

2 _ خروج شبيب بن بجرة: كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّاً، فلمّا دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب المتقرّب وقال: أنا و ابن ملجم قتلنا عليّاً، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع،

____________________________

1. اسم قبيلة من قبائل الكوفة، والمراد أنّ القبيلة التي كانت تحمي معاوية أخذت فروة بن نوفل رئيس الخوارج.

2. وفي الكامل لابن الاثير (عبدالله بن أبي الهوساء) 3/305 _ 306 .

3. الطبري: التاريخ 4/126 .

4. عمر ابو النضر: الخوارج في الإسلام 31 .

( 160 )

فقال: لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنّه ببابي لأهلكنّكم، أخْرِجوه من بلدكم، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله، فلمّا ولي المغيرة بن شعبة الكوفة، خرج عليه بالطفّ قريب الكوفة، فبعث

إليه المغيرة خيلا عليها خالد بن أرفطة، وقيل معقل بن قيس، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه (1) .

هذه عبرة خاطفة عن ثورات الخوارج في الكوفة، قبل أن يولّى المغيرة بن شعبة من قبل معاوية، وبعدما تولّى هو الكوفة كانت لهم ثورات أخمدها المغيرة بدهائه وسيفه وإليكها مجملة:

الخوارج والمغيرة بن شعبة والي معاوية في الكوفة:

غادر معاوية الكوفة إلى الشام واستعمل عبدالله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له: استعملت عبدالله على الكوفة، وأباه على مصر، فتكون أميراً بين نابي الأسد، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، ولمّا بلغ عمرو ما قاله المغيرة، دخل على معاوية فقال: استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتّقيك، فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.

فلقى المغيرة عمرو، فقال عمرو: أنت المشير على أميرالمؤمنين بما أشرت به في عبدالله؟ قال: نعم. قال: هذه بتلك(2) وكان المغيرة يمثّل

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل 3/206 .

2. الطبري: التاريخ 4/127. ابن الاثير: الكامل 3/206. هؤلاء هم الصحابة العدول الذين يؤخذ عنهم الدين والفتوى!!.

( 161 )

سياسة معاوية مع الخوارج فيقاتلهم تارة ويعفو عنهم اُخرى، يقول الطبري: بعث معاوية المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة، فأحبّ العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفتّش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتى فيقال له: إنّ فلاناً يرى رأي الشيعة، وإنّ فلاناً يرى رأي الخوارج، فكان يقول: قضى الله أن لا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده في ماكانوا فيه يختلفون، فأمنه الناس(1).وإليك بعض مواجهاته مع الخوارج.

3 _ خروج معين الخارجي: بلغ المغيرة أنّ معين بن عبدالله يريد الخروج فأرسل إليه وعنده جماعة فاُخذ وحبس، وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره

أمره، فكتب إليه: إنْ شهد أنّي خليفة فخلّ سبيله، فأحضره المغيرة وقال له: أتشهد أنّ معاوية خليفة و أنّه أمير المؤمنين؟ فقال: أشهد أنّ الله عزّوجلّ حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ الله يبعث من في القبور، فأمر به فقتل(2) .

4 _ خروج أبي مريم مولى بني الحرث بن كعب: ثم خرج أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب ومعه امرأتان قطام وكحيلة، وكان أوّل من أخرج معه النساء، فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أديه، فردّه أبو مريم بأنّه قد قاتل النساء مع رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ومع المسلمين بالشام، وسأردّهما، فردّهما، فوجّه إليه المغيرة جابر البجلي، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه ب_ «بادوريا»(3) .

5 _ خروج أبي ليلى: وكان أبو ليلى رجلا أسود طويلا، فأخذ بعضادتي

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/132 .

2. ابن الاثير: الكامل 3/206 .

3. ابن الاثير: الكامل 3/206 _ 207 .

( 162 )

باب المسجد بالكوفة وفيه عدّة من الأشراف، وحكم بصوت عال، فلم يعرض له أحد، فخرج وتبعه ثلاثون رجلا من الموالي، فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين(1).

6 _ خروج المستورد: إنّ الخوارج في أيّام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر، 1_ المستورد بن علفة التيمي 2_ حيان بن ظبيان السلمي 3_ معاذ بن جوين الطائي، فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولّون عليهم، فبايعوا المستورد لأنّه أسنّ الثلاثة واستعدّوا للخروج في غرّة هلال شعبان سنة 43 (2) .

ثمّ إنّ قبيصة بن الدمون أتى المغيرة وكان على شرطته، فأخبر أنّ الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيّان بن ظبيان، وقد اتّعدوا أن يخرجوا إليك في

غرة شعبان، فقال المغيرة: سِرْ بالشرطة حتّى تحيط بدار حيّان بن ظبيان فأتني به، وهم لايرون إلاّ أنّه أمير تلك الخوارج، فسار قبيصة بالشرطة وفي كثير من الناس، فلم يشعر حيّان بن ظبيان إلاّ والرجال معه في داره نصف النهار واذا معه معاذ بن جوين و نحو من عشرين رجلا من أصحابهما، فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة، فقال لهم المغيرة: ما حملكم على ما أردتم من شقّ عصا المسلمين، قالوا له: أمّا اجتماعنا في هذا المنزل فإنّ حيّان بن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده في منزله، فنقرأ القرآن عليه، قال: فاذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحواً من سنة(3) .

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل: 3/ 207 .

2. الطبري: التاريخ 4/133 _ 134 .

3. الطبري: التاريخ 4/138. ابن الاثير: الكامل 3/210 _ 212 .

( 163 )

وأمّا المستورد، فقد ذكر الطبري في تاريخه (1) وابن الأثير في كامله (2) ثورته على وجه التفصيل و نحن نذكر ملخّصها حسب ما قام به الدكتور نايف معروف في كتابه «الخوارج في العصر الأموي»: وأمّا المستورد، فإنّه نزل داراً في الحيرة بعيداً عن أعين الحرّاس. ولكن لمّا أخذت الخوارج تفد عليه، وانكشف أمره، أمر أصحابه بالرحيل عنها، فتحوّلوا إلى دار سليم بن مخدوج العبدي، في بني سلمة من عبد القيس، وكان صهراً للمستورد لايرى رأيه في الخروج. ولمّا شاع خبرتحرّك الخوارج، أدرك المغيرة خطورة الأمر، فجمع رؤساء القبائل و خطبهم فقال: فليكفين كلّ امرىء من الرؤساء قومه، وإلاّ فو الذي لا إله غيره لأتحولنّ عمّا كنتم تعرفون إلى ما تنكرون، وعمّا تحبّون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلاّ نفسه، وقد اُعذر من أنذر.

أخذ زعماء القبائل انذار المغيرة

موضع جدّ واهتمام، فعادوا إلى قبائلهم وبادروا في البحث عن مثيري الفتنة في صفوفهم، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبدالقيس ، فحذّرهم من إيواء هؤلاء المارقة، فتراجع كثيرون عن اللحاق بالخوارج.

ولمّا علم المستورد بتهديد المغيرة لرؤساء القبائل، وتجنباً لاحراج أصهاره، أمر أصحابه بالرحيل، فخرجوا عن ديار عبدالقيس، وساروا إلى الصراة ومنها إلى «بهرسير» وعزموا على دخول المدينة العتيقة التي كانت بها منازل كسرى فردّهم عنها عاملها سماك بن عبيد الأزدي العبسي. ثم حاول أن يردّهم عن خروجهم، ويأخذ لهم الأمان، فأبي المستورد، وعبر «جراجرايا» ومضى بأصحابه إلى أرض جوخى، حتى بلغ المذار، ونزلوا

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/138 _ 161 .

2. ابن الأثير: الكامل 3/212 _ 217 .

( 164 )

هناك.

فبعث إليهم المغيرة جيشاً، قوامه ثلاثة آلاف رجل من نقاوة الشيعة، على رأسهم معقل بن قيس الرياحي التميمي الشيعي، فأرسل معقل في أثرهم أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة من الفرسان، فلحقهم حتى أدركهم في أرض المذار. وحينئذاك استشار أصحابه في قتالهم أو انتظار قدوم معقل عليه، فاختلف أصحابه بين مؤيّد ومعارض. وأخيراً تنحّى جانباً. ثمّ تقدم معقل في سبعمائة من فرسانه والتقى الخوارج فانهزم كثيرون من أصحابه ولم يثبت سوى معقل وأبي الرواغ في نحو مائتين من الفرسان. ووصلت مؤخّرة الجيش وتوافقوا للقتال. وفي تلك الأثناء جاءت الخوارج الأخبار بأنّ شريك بن الأعور قد أقبل في ثلاثة آلاف من أهل البصرة، فاقترح المستورد على أصحابه أن ينحازوا ثانية، عن أرض البصرة وأن يعودوا إلى أرض الكوفة، لأن البصريين لايحاربون خارج دائرتهم، فانسحبوا من مواقعهم وتسلّلوا إلى أرض الكوفة حتى بلغوا جراجرايا، وقد أصاب حدسُهم، فإنّ البصريين رفضوا اللحاق بهم، فمضى الخوارج في طريقهم وعبروا دجلة ونزلوا في ارض

بهرسير. وهناك بالقرب من ساباط كان اللقاء الحاسم فاشتدّ القتال بين الفريقين، وكادت الدائرة تدور على أهل الكوفة لولا ثبات معقل في عدد من فرسانه، ونجدة أبي الرواغ الذي كان أبعده المستورد عن ساحة المعركة بحيلة حربية، أمّا المستورد، فإنّه نادى معقلا ودعاه للمبارزة، فحاول أصحابه منعه من ذلك، فأبى وخرج إليه معقل، فاختلفا ضربتين، فقتل كل واحد منهما صاحبه. وكان قد أوصى بالامارة من بعده إلى عمرو بن محرز ابن شهاب التميمي، الذي أخذ الراية بعد مقتله و حمل على الخوارج

( 165 )

فقتلوهم ولم ينج منهم إلاّ بضعة رجال فرّوا من أرض المعركة (1) .

7 _ خروج الموالي لصالح الخوارج: إنّ الموالي في العصر الأموي كانوا تحت الضغط يحقّرون بأنّهم غير عرب، فلأجل ذلك لاعجب إذا رأينا صلة بينهم وبين الخوارج فإنّهم وإن كانوا لايتبنّون مبادىء الخوارج ولكن كانوا يلتقون معهم بعدائهم للحكومة الأموية، ولأجل ذلك نجد أنّ عصابة من الموالي خرجت من الكوفة فبعث إليهم المغيرة رجلا من بجيلة، فقاتلهم وقضى عليها، وهؤلاء أوّل خارجة خرج فيها الموالي (2) .

8 _ خروج حيان بن ظبيان السلمي: وفي سنة خمسين توفّي المغيرة بن شعبة، وهو ابن سبعين، وقد سجن كثيراً من الخوارج وقد أفرج عنهم بعد موته، ولمّا ولي على الكوفة عبدالرحمن بن عبدالله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن اُمّ الحكم، اُخت معاوية بن أبي سفيان عادوا للخروج. يقول الطبري: إنّ حيان بن ظبيان السلمي، جمع إليه أصحابه، فدعاهم إلى الجهاد، وأدعم رأيه معاذ بن جوين الطائي، وبايع القوم حيان بن ظبيان، ثم اجتمعوا في منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي، فقال لهم حيان: عباد الله أشيروا برأيكم أين تأمروني أن

أخرج؟ فقال له معاذ: إنّي أرى أن تسير بنا إلى «حلوان» فلم يقبله حيان، فقال له: عدوّك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، ورأى الخروج إلى جانب الكوفة، ولم يرض به أصحابه، فقال لهم معاذ بن جوين: سيروا بنا فلننزل ب_«انقيا» فخرجوا فبُعِثَ إليهم جيش فقتلوا جميعاً، وذلك في عام تسعة و خمسين .

ويقول الطبري: وفي هذه السنة اشتدّ عبيدالله بن زياد على الخوارج

____________________________

1. د _ نايف معروف:الخوارج في العصر الأموي 118 _ 119 .

2. اليعقوبي: التاريخ 2/221 .

( 166 )

وقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة اُخرى، وممّن قتل منهم صبراً، عروة بن ادية أخو أبي بلال مرداس بن ادية(1).

الخوارج في البصرة:

لم تكن الكوفة وضواحيها هي المركز الوحيد لحركة الخوارج وثوراتهم في أوائل العصر الأموي، فقد كانت البصرة مثل الكوفة مركزاً لنشاطهم وخروجهم.

فقد خرج حمران بن أبان على البصرة في عام 41 فبعث معاوية بسر بن أرطاة فقتله وأخمد الثورة، ثم عزله معاوية واستعمل مكانه عبدالله بن عامر فخرج في عصره سهم بن غالب الهجيني في سبعين رجلا، فخرج إليه ابن عامر ففرّق شملهم حتّى اضطرّوا إلى الأمان.

ولمّا ولّى معاوية زياداً على البصرة في سنة 45، فوجدها تعج من الخوارج، وكانت لهم انتفاضات واحدة بعد اُخرى ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم (2) ونذكر هنا أهمّها على وجه الاجمال:

9 _ خروج الخطيم الباهلي وسهم بن غالب الهجيني: خرج سهم إلى الأهواز فأحدث وحكم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه.

وأمّا الخطيم فسيّره إلى البحرين، ثمّ أذن له فقدم، ولمّا أخلّ بما أمره به زياد أمر بقتله واُلقي في عشيرته (باهلة) (3) .

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/231 .

2.

الطبري: التاريخ 4/172 .

3. الطبري: التاريخ 4/172. ابن الاثير: الكامل 3/225 .

( 167 )

10 _ خروج قريب بن مرة وزحّاف الطائي: خرج هذان الرجلان في أمارة زياد بالبصرة فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية: اُنج بنفسك، فنادوه (قريب وزحاف و من معهما): لسنا حرورية، نحن الشرط، فوقف فقتلوه. ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا.

حتّى مرّا على بني علي بن سود من الأزد وكانوا مائة فرموهم رمياً شديداً فصاحوا: يا بني علي، البُقْيا، لارماء بيننا، قال رجل من بني علي :

لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذةً في غلس الظلام

ففرّ عنهم الخوارج، إلى أن واجهوا بنو طاحية من بني سود، وقبائل من مزينة وغيرها، ووقع الحرب، فقتل الخوارج عن آخرهم، وقتل قريب وزحاف وقد كان عمل هؤلاء منفِّراً على حدّ، تبرّأ عنهم بعض الخوارج، ونقل ابن أبي الحديد عن أبي بلال مرداس بن اُدَيَّة انّه قال: قريب، لاقرّبه الله، وزحاف لاعفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة _ يريد اعتراضهما الناس _. ونسب الطبري هذا القول إلى سعيد بن جبير(1) .

وقال الجزري: واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم، وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً، وخطب زياد على المنبر وقال: والله لتكفّنّني هؤلاء، أو لأبدأنَّ بكم، والله لإن اُفِلتَ منهم رجل، لاتأخذون العام من عطياتكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم(2) .

11_ خروج زياد بن خراش العجلي: خرج زياد بن خراش العجلي في

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/176 _ 177. ابن أبي الحديد : الشرح 4/135. المبرد: الكامل 2/180 .

2. ابن الاثير: الكامل في التاريخ 3/229.

( 168 )

ثلاثمائة فارس

فأتى أرض مسكن من السواد فسيَّر إليه زياد خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره فقتلوهم، وقد صاروا إلى مائة (1) .

12_ خروج معاذ الطائي: وخرج على زياد أيضاً رجل من طي يقال له معاذ، فأتى نهر عبدالرحمن بن اُمّ الحكم في ثلاثين رجلا في سنة 51، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه، وقيل بل حلّ لواءه واستأمن(2) .

13 _ خروج طواف بن غلاق: توفّي زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان سنة 53، ثمّ إنّ معاوية ولّى ابنه عبيدالله بن زياد على البصرة عام 55 فكانت سيرته مع الخوارج نفس سيرة أبيه، فاشتدّ عليهم وقتل منهم جماعة كثيرة، فقد بلغه أنّ قوماً من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه «جدار» فيتحدّثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم ابن زياد فحبسهم، ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلّي سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقهم، فكان ممّن قتل طواف، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم اخوانكم؟ قالوا: اُكْرِهْنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالايمان، وندم طواف وأصحابه، فقال طواف: أما من توبة؟ فكانوا يبكون وعرضوا على أولياء من قتلوا، الدية، فأبوا، وعرضوا عليهم القود، فأبوا.

ثم لقى طواف، ابن ثور السدوسي، فقال له: أماترى لنا من توبة؟ فقال: ما أجد لك إلاّ آية في كتاب الله عزّوجلّ: ( ثُمّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِنْ بَعْدِ مافُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا اِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيِمٌ) (3) .

فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه في سنة

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل في التاريخ 3/244 .

2. ابن الاثير: الكامل في التاريخ 3/244 .

3. النحل: 110.

( 169 )

ثمان و خمسين، وكانوا سبعين رجلا من بني عبدالقيس بالبصرة، فسعى

بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد فبلغ ذلك طوافاً، فعجّلوا الخروج فخرجوا من ليلتهم، فقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء، فندب ابن زياد الشرط البخارية، فقاتلوهم فانهزم الشرط حتّى دخلوا البصرة وذلك يوم عيد الفطر وكثّرهم الناس فقاتلوا فقتلوا، وبقى طواف في ستة نفر و عطش فرسه فأقحمه الماء فرماه البخارية بالنشاب حتّى قتلوه وصلبوه ثمّ دفنه أهله (1) .

14 _ خروج عروة بن اديّة: إنّ عبيدالله بن زياد خرج في رهان له، فلمّا جلس ينتظر الخيل، اجتمع الناس وفيهم عروة بن اُدية، فأقبل على ابن زياد فقال: خمس كن في الاُمم قبلنا، فقد صرن فينا(اَتَبْنونَ بِكُلِّ رِيع آيَةٌ تَعْبَثُونَ* وتَتَّخِذُونَ مَصانعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَ إذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارين)(2) .

وخصلتين اُخريين لم يحفظهما جرير (الراوي)، فلمّا قال ذلك ظنّ ابن زياد انّه لم يجتر على ذلك إلاّ ومعه جماعة من أصحابه، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة ما صنعت، تعلمنّ والله ليقتلنك، فتوارى فطلبه ابن زياد، فأتى الكوفة، فأخذ بها، فقدم به على ابن زياد، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال: اَرى اَنَّك اَفْسدتَ دنياي واَفسدتُ آخرتك، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها(3) .

15 _ خروج مرداس به اُديَّة: قال الطبري: حبس ابن زياد فيمن حبس مرداس بن ادية، فكان السجَّان يرى عبادته و اجتهاده، وكان يأذن له في الليل فينصرف فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، ثمّ إنّه اُفرج عنه بشفاعة

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل 3/254 .

2. الشعراء: 128 _ 130 .

3. الطبري: التاريخ 4/231 _ 232. ابن الاثير: الكامل 3/255 .

( 170 )

السجّان (1) .

يقول المبرّد: كان مرداس قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب _

صلوات الله عليه _ وأنكر التحكيم، وشهد النهر، ونجا فيمن نجا، وبعد ما خرج من حبس ابن زياد عزم الخروج، فقال لأصحابه: إنّه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل، والله إنّ الصبر على هذا لعظيم، وإنّ تجريد السيف واخافة السبيل لعظيم، ولكنّا ننتبذ عنهم ولانجرّد سيفاً ولانقاتل إلاّ من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا، فلمّا مضى بأصحابه لقى عبدالله بن رباح الأنصاري، وكان له صديقاً فقال له: أين تريد؟ قال: اُريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة، فقال له: أعلم بكم أحد؟ قال: لا. قال: فارجع، قال: أو تخاف عليّ مكروهاً؟ قال: نعم وأن يؤتى بك، قال: لا تخف فإنّي لا اُجرّد سيفاً ولا اُخيف أحداً ولا اُقاتل إلاّ من قاتلني، ثم مضى حتى نزل «آسك» وهي ما بين رامهرمز وارجان، فمرّ به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحطّ ذلك المال، وأخذ منه عطاءه واعطيات أصحابه، وردّ الباقي على الرسل وقال: قولوا لصاحبكم: إنّما قبضنا اعطياتنا، فقال بعض أصحابه فعلام ندع الباقي؟ فقال: إنّهم يقسمون هذا الفيء، كما يقيمون الصلاة فلانقاتلهم .

كل ذلك دليل على عدم تطرّفه واعتداله وانّه أحسّ بعقله أو بدينه أن مآل التطرّف هو الموت والزوال .

وممّا يدل على اعتداله _ خلافاً لمن سبق عليه _ أنَّ رجلا من أصحاب ابن زياد، قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا ب_ «آسك»

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/232 .

( 171 )

فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا، وصاح بنا أبوبلال: أقاصدون لقتالنا أنتم؟ وكنت أنا و أخي قد دخلنا زربا(1)، فوقف أخي ببابه وقال: السّلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السّلام، فقال

لأخي: أجئتم لقتالنا؟ فقال له: لا إنّما نريد خراسان، قال: فبلغوا من لقيكم انّا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروّع أحداً ولكن هرباً من الظلم ولسنا نقاتل إلاّ من يقاتلنا، ولانأخذ من الفيء إلاّ اعطياتنا، ثمّ قال: أنَدِب إلينا أحد؟ قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي. قال: فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبوبلال: حسبنا الله ونعم الوكيل .

فلمّا سار إليهم أسلم، صاح به أبو بلال: اتّق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالا، ولا نَحْتَجِن فيئاً، فما الذي تريد؟ قال: اُريد أن أردّكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذاً يقتلنا، قال: وإن قتلكم؟ قال: تشركه في دمائنا، قال: إنّي ادين بأنّه محقّ وأنّكم مبطلون، فصاح بن حريث بن جحل (من أصحاب أبي بلال): أهو محق وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم، ويقتل بالظِنَّة، ويخص بالفيء، ويجور في الحكم؟ أما علمت أنّه قتل بابن سُعادَ، أربعة براء؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد وكان معبد أحد الخوارج قد كاد يأخذه فانهزم هو وأصحابه من غير قتال، فلمّا ورد أسلم على ابن زياد، غضب عليه غضباً شديداً، قال: ويلك أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟.... وكان إذا خرج إلى السوق، أومرّ بصبيان، صاحوا به: أبو بلال وراءك، وربّما صاحوا به: يا مَعْبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفّوا النّاس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم:

____________________________

1. الزرب: جمع الزرب و هو مسيل الماء، حظيرة المواشي وعرين الأسد.

( 172 )

أألفا مؤمن فيما زعمتم * ويهزمهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم * ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك * على الفئة الكثيرة ينصرونا

ثم

ندب لهم عبدالله بن زياد الناس واختار عباد بن أخضر، فوجّهه في أربعة آلاف وكان التقاؤهم في يوم الجمعة فناداه أبو بلال: اخرج إليّ يا عباد فإنّي اُريد أن اُحاورك، فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي؟ قال: آخذ بأقفائكم فأردَّكم إلى الأمير عبيدالله بن زياد، قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن ترجع، فإنّا لانخيف سبيلا ولا نحارب إلاّ من حاربنا، ولا نجبي إلاّ ما حمينا، فقال له عباد: الأمر ما قلت لك، فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبّار عنيد؟ قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بدّ.

وقدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان يريد الحجّ فلمّا رأى الجمعين، قال: ماهذا؟ قالوا: الشراة فحمل عليهم، فاُخِذَ القعقاع أسيراً، فَأُتي به أبو بلال، فقال: ما أنت؟ قال: لست من أعدائك، وأنّما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه... .

فلم يزل القوم يجتلدون، حتى جاء وقت الصّلاة يوم الجمعة، فناداهم أبوبلال: يا قوم هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلّي و تصلّوا، قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصّلاة، فأسرع عباد ومن معه، والحروريّة مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصّلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعاً، وأتى برأس أبي بلال (1) .

هذا أبو بلال وهذه مرونته واعتداله، فعدّ الاباضية مبدأ الاعتدال ليس بقوي، بل الحق أنّه مبدأ للطريق الذي سلكه عبدالله بن اباض، ولأجل ذلك نرى

____________________________

1. المبرد: الكامل 2/186. الطبري: التاريخ 4/232. ابن الاثير: الكامل 3/256 .

( 173 )

لمّا خرج قريب وزحاف الطائي فاعترضا الناس فقتلا شيخاً ناسكاً إلى آخر مامرّ في خروجهم، انّه لمّا بلغ أعمالهم أبا بلال اعترض عليهم،

فقال: قريب لا قرّبه الله، وزحاف لا عَفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة (يريد اعتراضهما الناس) .

مخطّط زياد لاستئصال الخوارج:

كان لزياد بن أبيه اُسلوباً في استئصال الخوارج وهو يتلخّص في أمرين:

1 _ إذا وقف على خارجي في قبيلة وثب على جميعهم، وقد خطب يوماً وقال: ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم يا معشر الأزد لولا أنّكم أطفأتم هذه النائرة لقلت إنّكم أرّثتموها (1). فكانت القبائل إذا أحسّت بخارجيّ فيهم شدّتهم وأتت بهم زياداً.

2 _ خرجت طائفة من الخوارج وأخرجوا معهم امرأة، فظفربها فقتلها، ثم عرّاها، فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكنّ إذا دعين إلى الخروج قلن: لولا التعرية لسارعنا.

كان الحافز لتلك الثورات والانتفاضات _ التي كانت تتضمّن التضحية بالنفس والنفيس _ هو الاعتقاد الجدّي، بأنّ الحكومات القائمة، حكومات كافرة، اُسّست باسم الإسلام ولكن انحرفت عن الخط الصحيح له، فالأمويّون باعتبار اشاعة الظلم و الفساد بينهم، خرجوا عن ربقة الإسلام، ودخلوا في الكفر، وهم كافرون، كما أنّ المؤيّدين لهم مثلهم أيضاً كفرة، فالخلافات والحكومات كلّها كافرة، والدار دار كفر، ويجب عليهم جهاد الكفّار (2) .

____________________________

1. أرّث: أوقد نار الفتنة .

2. يعلم ذلك من خطب أمرائهم ورؤسائهم .

( 174 )

كان هذا هو الحافز لتلك الثورات والانتفاضات الفاشلة، فلو وجدنا في صحيفة حياة الخوارج نقطة بيضاء فهذه النقطة المشعّة التي اعترف بها الإمام عليّ عند توصيفهم بقوله، «لا تقتلوا الخوارج من بعدي، فإنّه ليس من طلب الحق فأخطاه كمن طلب الباطل فأصابه» (1) .

فإنّهم كانوا يرون باُمّ أعينهم، كيف شاع الفساد، ودبّ العيث بين الحكّام، فركبت اغيلمة بني اُميّة على رقاب الناس، واستأثروا بالفيء، فكان ذلك هو السبب لقيام لفيف منهم ضدّ الحكومات، وأما مسألة التحكيم التي كانت

هي المستمسك الأوّل للمخالفة فكأنها صارت منسية أو تناساها القوم، فكانوا يبّررون قيامهم بأنّهم بصدد بسط العدل والقسط وازالة الظلم والجور عن المجتمع وإعادة الصلاح والفلاح إلى الساحة الاسلامية .

ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم، لأنّهم راهنوا في الساحة السياسية على جوادين خاسرين.

أحدهما: الاعتماد على الأساليب الاجرامية للنيل بالهدف، وكأنّهم كانوا ينتحلون مبدأ «الغايات تبرّر الوسائل» .

الثاني: المظاهرة بالعداء لعليّ وأهل بيته .

أمّا الأوّل: فكانوا يستعرضون الناس ويفّتشون عن عقائدهم، ثم يقتلون الأبرياء، بحجّة أنّهم لم يكفّروا عثمان وعليّاً، أو غيرهما ممّن كانوا يخالفونهم، وهذا هو الذي صار سبباً لرغبة الناس عنهم، وعدم ايوائهم بل طردهم والتعاون مع الحكومات ضدّهم في بعض الموارد، إذ كيف يصحّ لمسلم أن يشهر سيفه، ويعترض الطريق، ويفّتش عن العقائد التي لاصلة لها بالإسلام الذي جاء به النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، ولا الإسلام معقود بها، ولا هي حد الكفر

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 61 .

( 175 )

والإسلام، فاتّخاذ هذه الأساليب الشريرة، التي تعرّفت عليها في بعض الانتفاضات، صار سبباً لخسرانهم وخيبتهم وإن كان بعض الفرق بريئاً منها، لكن الكلّ أخذ بجرم الجزء، والجار بذنب الجار .

وقد خلّفت هذه الأعمال الاجرامية آثار سيّئة فصار لفظ «الحرورية» مساوياً لسفك الدم و قطع الطريق، وكان الناس يتوسّلون للاخافة بهذا اللفظ ويقولون: حروري!! مكان الحرامي!!

وأمّا الثاني: فلأنّ المظاهرة ضدّ عليَّ، ونصب عدائه و أهل بيته ليس بأمرهيّن، وكيف لا يكون كذلك، وقد عجنت دماء ونفوس المسلمين بحبّهم فهم كانوا يتلون قول الله سبحانه في الذكر الحكيم: ( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ اَجراً إلاّ المَوَدَةَ في القُرْبى )(1). فهل يمكن لجماعة تتظاهر بكفر عليّ وأولاده، وتنصب عدائهم، ان يكون

لهم رصيد شعبي؟ كلاّ، ولا، فلأجل ذلك خسروا في انتفاضاتهم، حتى بوجه الطغاة .

تعرب انتفاضاتهم عن أنّ الحكومة الأموية كانت تستخدم شيعة العراق في بعض الأحيان لقتال الخوارج، فكأنّها كانت تضرب عصفورين بحجر واحد، فإنّ الطائفتين كانا من أعداء الحكومة الأموية، فضرب أحدهما بالاُخرى كان متنفّساً لها(2).

ومع الاعتراف ببراعتهم في النقد والاعتراض، وتملّكهم القدرة على التنظيم و التخطيط، لكن كانت انتفاضاتهم المتفرّقة والمبعثرة في الرقعة الإسلامية، كانت أشبه بالثورات العشوائية، إذ لم تكن هناك قيادة موحّدة تنبثق منها الثورات، وتستثمر هذا الجمهور لتحقيق النصر النهائي، فالحجر الأساس

____________________________

1. الشورى: 23 .

2. لا حظ خروج فروة بن نوفل في تاريخ الطبري 4/126 .

( 176 )

في نجاح الثورة و الانتفاضة وإن طالت مدّتها، هو وجود قيادة موحّدة سرّية، ينبعث منها الأمر والنهي، وقد كان القوم يفقدون ذلك الأمر المهمّ .

هذه نبذة خاطفة عن انتفاضات هؤلاء في عصر معاوية، وأمّا ما قاموا به في عصر عبدالله بن الزبير، وخلافة عبدالملك، وخلافة هشام بن عبدالملك، إلى أواخر العهد الأموي، فحدّث عنه ولاحرج، فهي مليئة بالانتفاضات والمعارك الدموية المريرة بين فترة واُخرى، ومن أراد الاحاطة بها فليرجع إلى مظانّها في كتب التاريخ .

إلاّ أنّا نشير إلى بعض الانتفاضات التي قام بها بعض رؤسائهم بعد عصر معاوية كنافع بن الأزرق ونجدة بن عامر الحنفي، وغيرهم ممّن صاروا من رؤساء المذهب، وأصحاب المنهج بين الخوارج، فإنّ هؤلاء وإن كانوا قادة عسكريين إلاّ أنّهم كانوا أيضاً مرشدين لأتباعهم، ولهم آراؤهم في المذهب، وندرس كلّ ذلك ببيان فرقهم الكثيرة في الفصل القادم. وبذلك بيّنا الظروف التي كانت سبباً لنشوء المذاهب في هذه الفرقة .

***

( 177 )

الفصل التاسع ألقاب الخوارج وفرقهم

الفصل التاسع ألقاب الخوارج وفرقهم

( 178 )

( 179 )

للخوارج ألقاب عديدة فمن ألقابهم «الخوارج» لخروجهم على عليّ بن أبي طالب، و«المحكِّمة»، لكون شعارهم: «لا حكم إلاّ لله»، و«الحرورية» لنزولهم بحروراء في أوّل أمرهم، و«الشُراة» لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بِعْناها بالجنّة، و«المارقة» لأنّهم مرقوا من الدين كما يَمْرق السهم من الرميّة _ حسب توصيف الرسول لهم _ وخرجوا منه، والفرقة الباقية اليوم أعني الاباضية يفسّرون الخروج بالخروج عن الدين ويخصّون اللقب بالطوائف المنحرفة الذين خرجوا في عصر الأمويين، وكانوا يعترضون الطريق ويقتلون الأبرياء من غير جرم وسيوافيك أنّ التخصيص بلاوجه .

وأمّا فرقهم، فقد ذكر البغدادي لهم عشرين فرقة، بل أزيد، وهذه أسماؤهم:

1 _ المحكّمة 2 _ الأزارقة 3 _ النجدات 4 _ الصفرية 5 _ العجاردة، المفترقة إلى: 6 _ الخازنية 7 _ الشعيبية 8 _ المعلومية 9 _ المجهولية 10 _ أصحاب طاعة لايراد الله تعالى بها 11 _ والصلتية 12 _ الاخنبسية 13 _ الشبيبية 14 _ الشيبانية 15 _ المعبدية 16 _ الرّشيدية

( 180 )

17 _ المكرمية 18 _ الحمزية 19 _ الشمراخية 20 _ الإبراهيمية 21 _ الواقفية 22 _ الاباضية(1) .

ولا يخفى أنّ الفرق حسب ما ذكرها تزيد على عشرين، ولو لم تعد العجاردة فرقة مستقلّة باعتبار أنّها مقسّمةً لأقسام كثيرة يكون عدد الفرق «21» فرقة.

ثمّ قال البغدادي: «الاباضية» منهم افترقت فرقاً، معظمها فريقان «حفصية» و«حارثية»، وقال: فأمّا «اليزيدية» من الاباضية، و«الميمونية» من العجاردة، فهما فرقتان من غلاة الكفر الخارجين عن فرق الاُمّة .

وأمّا الأشعري فقد ذكر لهم خمس عشرة فرقة ثم ذكر الفرق المتشعّبة منها وهي فرق كثيرة (2).

وقد ذكر المقريزي في خططه للقوم ستاً وعشرين فرقة(3) .

وذكر الشهرستاني لهم ثمانية فرق،

وإليك أسماؤها:

1 _ المحكّمة الاُولى 2 _ الأزارقة 3 _ النجدات 4 _ البيهسية 5 _ العجاردة 6 _ الثعالبة 7 _ الاباضية 8 _ الصفرّية(4) .

ولكن الحق، إنّ اُصول الفرق قليلة جدّاً، وقد ذكر الأشعري أنّ اُصول أربعة وهي: الأزارقة، النجدية، الاباضية، والصفرية، والأصناف الاُخرى تفرّعوا من الصفرية (5).

ويظهر من المبرّد في كامله، أنّ اُصول الفرق هي ثلاثة:

____________________________

1. البغدادي: الفّرق بين الفرق 72 .

2. الأشعري: المقالات 1/86 _ 131 .

3. تقي الدين المقريزي: الخطط 2/254 _ 255 .

4. الشهرستاني: الملل و النحل 1/114 _ 138 .

5. الأشعري: المقالات: 1 / 101 .

( 181 )

الأزارقة، الاباضية، البيهسية، وأمّا الصفرية والنجدية فكانوا يقولون بقول ابن أباض(1) .

ولعلّ ما ذكره الأشعري في بيان اُصول فرقهم أقرب، كما يظهر من دراسة مذهبهم ونحن نذكر الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري، ونحيل بيان سائر الفرق إلى كتب المقالات والفرق، خصوصاً المقالات للأشعري، والفَرق بين الفِرق للبغدادي، والملل و النحل للشهرستاني، وانّا ضربنا الصفح عن بيان فرقهم عامّة لأنّهم قد هلكوا ولم يبق منهم على أديم الأرض سوى فرقة واحدة هي الاباضية وأقاويلها أقرب إلى أقاويل سائر المسلمين. ولأجل ذلك نرى أنّ أبا بيهس يصف نافعاً بأنّه غلى، ويصف عبد الله بن اباض بأنّه قصَّر، وسوف يظهر غلوّ الأوّل وتقصير الثاني حسب تعبير أبي بيهس، وسيوافيك نصّه في محلّه.

والعجب أنّ هذه الفرق ظهرت في زمان واحد، فصار للقوم أئمّة أربعة، كلّ يدعو إلى نفسه .

وكانت الخوارج على رأي واحد إلى عصر ابن الزبير وبعد افتراقهم عنه حصل هناك اختلاف بين الأزارقة والنجدية كما ستعرف وصارت فرقتين ذاتي أمامين، ولم يكن لهم إلى عهد عبدالله بن الزبير إلاّ اُصول بسيطة وهي:

1 _

اكفار مرتكب الكبيرة.

2 _ انكار مبدأ التحكيم .

3 _ تكفير عثمان وعليّ ومعاوية وطلحة والزبير ومن سار على دربهم ورضى بأعمال عثمان وتحكيم عليّ، على هذه الاُصول نشأوا إلى عهد ابن الزبير.

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/214 .

( 182 )

قال الكعبي: إنّ الذي يجمع الخوارج إكفار عليّ وعثمان و الحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضى بتحكيم الحكمين، والخروج على الإمام الجائر وإكفار من ارتكب الذنوب (1) .

وقال الأشعري: أجمعت الخوارج على إكفار عليّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ لأنّه حكّم، وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا. وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفرٌ إلاّ النجدات، فإنّها لاتقول بذلك، وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلاّ النجدات(2) .

وما ذكره من الاستثناء دليل على أن أكثر هذه الاُصول برزت بينهم في العصر الزبيري وما بعده، لا في عهد الإمام علي ولا في عهد معاوية.

إذا وقفت على ذلك فلنشرع في بيان الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري ونترك بيان عداها إلى الكتب المعدّة لذلك.

***

____________________________

1. البغدادي: الفّرق بين الفِرق 1/73 نقلا عن الكعبي.

2. الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/86 .

( 183 )

الفرقة الاُولى:

الازارقة

أتباع نافع بن الأززق المقتول سنة 65:

لمّا هلك معاوية، تنّفس أهل الكوفة الصعداء، فاجتمعت شيعتهم على تسليم مقاليد الخلافة للحسين _ عليه السَّلام _ فبايعوه وكاتبوه، واستقدموه حتى يتسلّم الأمر، فلمّا غادر الحسين المدينة و مكّة، متوجّهاً إلى العراق خذلته الشيعة وقصّروا في نصرته، فلمّا بلغهم قتل الحسين واستشهاده، قام أهل المدينة بخلع يزيد عن الخلافة وأخرجوا واليه مروان بن الحكم عن المدينة، ثمّ إنّ عبدالله بن الزبير استغلَّ الظروف، فدعا إلى البيعة لنفسه من داخل البيت الحرام، وكانت نتيجة ذلك أن طرد عمّال

يزيد من أرض الحجاز، فخضعت المنطقة كلّها لعبدالله بن الزبير، ثمّ إنّ يزيد بن معاوية لمّا وقف على خطورة الموقف بعث بأشقى عُمّالِه وأغلظهم «مسلم بن عقْبَة» إلى المدينة فلمّا

( 184 )

ورد مدينة الرسول، استباح أموالهم ونفوسهم وأعراضهم ثلاثة أيام، فقتل في ذلك آلافاً من الأبرياء ونهبت الأموال واستبيحت الأعراض إلى درجة لم يذكر التاريخ إلى يومه مثيلا لها، ثمّ توجّه مسلم إلى مكّة للسيطرة عليها، فلم يصل إليها حيّاً. ومات في أثناء الطريق، فتولّى القيادة بعده الحصين بن النمير السكوني، وحاصر مكّة، وفي أثناء المحاصرة ورد نعي يزيد في ربيع الآخر عام 64، فاضطرّ الحصين إلى العودة إلى الشام، ولمّا هلك يزيد، قام بأعباء الخلافة معاوية بن يزيد، ولكّنه مات بعد أن خلع نفسه عن الخلافة، فرأى البيت الأموي خطورة الموقف، فأجمعوا على البيعة لمروان بن الحكم، وانتقل الملك من البيت السفياني إلى البيت المرواني عام 65، وكان ابن الزبير مستولياً على الحجاز عامّة وفي ضمن ذلك، الحرمان الشريفان .

استغلال الخوارج الظروف الحَرِجَة:

وقد استغلّت الخوارج تلك الظروف الحرجة بعدما لاقوا من عبيدالله بن زياد مالاقوا وقرّروا الانظمام لعبدالله بن الزبير لمحاربة الشاميين:

قال الطبري: لمّا ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال ماركب، وقد كان قبل ذلك لايكف عنهم ولايستبقيهم، غير أنّه بعد ما قتل أبا بلال، تجرّد لاستئصالهم وهلاكهم واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزبير بمكة... فقال نافع بن الأزرق للخوارج: إنّ الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم فيه الجهاد، واحتجّ عليكم بالبيان، وقد جرّدَ فيكم السيوف أهلُ الظلم، واُولوا العدى والغشم، وهذا من قد ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأتي البيت، ونلقي هذا الرجل فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو،

وإن كان على غير رأينا، دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في اُمورنا، فخرجوا حتى قدموا على

( 185 )

عبدالله بن الزبير، فسرّ بمقدمهم ونبَّأهم أنّه على رأيهم، وأعطاهم الرضا من غير توقّف ولا تفتيش، فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام عن مكّة .

ثمّ إنّ القوم لقى بعضهم بعضاً فقالوا: إنّ الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لاتدرون لعلّه ليس على رأيكم، إنّما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي: يالثارات عثمان، وسلوه عن عثمان، فإن برئ منه كان وليّكم، وإن أبى كان عدوّكم. فمشوا له فقالوا له: أيّها الإنسان إنّا قاتلنا معك ولم نفتّش عن رأيك، أمنّا أنت أم من عدوّنا فأخبرنا: ما مقالتك في عثمان؟

فنظر فإذا من حوله من أصحابه قليل، فقال لهم: إنّكم أتيتموني، فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إليّ العشيّة، حتى اعلمكم من ذلك الذي تريدون، فانصرفوا، وجاءت الخوارج وقد أقام أصحابه حوله وعليهم السلاح ، وقامت جماعة منهم عظيمة على رأسه، بأيديهم الأعمدة، فقال ابن الأزرق لأصحابه: خشى الرجل غائلتكم وقد ازمع بخلافكم، واستعدّ لكم ماترون. فدنا منه ابن الأزرق فقال له: يا ابن الزبير اتّق الله ربّك وابغض الخائن المستأثر، وعادِ أوّل من سنّ الضلالة وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنّك إن تفعل ذلك، ترضي ربّك، فتنج من العذاب الأليم نفسك، فإن تركت ذلك، فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم وأذهبوا في الحياة الدنيا طيّباتهم.

ثمّ أمر ابن الأزرق عبيدة بن هلال أن يتكلّم عنهم بما يريدون، فقال: إنّ الناس استخلفوا عثمان بن عفان فحمى الحمى، فآثر القربى، واستعمل الفتى، ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزّق الكتاب، وحقَّر المسلم، وضرب منكري

(

186 )

الجور، وآوى طريد الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وضرب السابقين بالفضل وسيّرهم وحرمهم، ثم أخذ في الله الذي آفاءه عليهم فقسّمه بين فسّاق قريش، ومُجّان العرب، فصارت إليه طائفة من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته، لايبالون في الله لومة لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه براء، فما تقول أنت يا ابن الزبير؟

وروى المبرّد في الكامل: ان ابن الأزرق سأل ابن الزبير في الغداة الذي جاء إليه وقال: ما تقول في الشيخين؟ قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً، وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؟

وما تقول في الذي بعده، الذي حكّم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولانادم؟

وما تقول في أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّاً وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بِعَرَض من أعراض الدنيا و أخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة، فإن أنت كما نقول فلك الزلفة عندالله .

ثمّ إنّ ابن الزبير ترك التقية وأصحر بالعقيدة بما يخالف عليه الخوارج في حق عثمان وحق أبيه، فلمّا سمع ذلك الخوارج تفرّقوا عنه(1) .

فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبدالله بن صفار السعدي من بني صريم، وعبدالله بن اباض أيضاً من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز، عبدالله وعبيدالله والزبير من بني سليط، حتى أتوا البصرة.

وانطلق أبو طالوت وعبدالله بن ثور(أبوفديك) وعطية بن الأسود

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/436 _ 438. المبرد: الكامل: 2/203 _ 208 .

( 187 )

اليشكري إلى اليمامة فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم

أجمعوا بعد ذلك على إمامة نجدة بن عامر الحنفي وذلك في سنة 64(1) .

وقال الشهرستاني: كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكّة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرّقا عنه، فذهب نافع إلى البصرة ثم الأهواز، وذهب نجدة إلى اليمامة. قال نافع: التقيّة لاتحلّ، والقعود عن القتال كفر، فخالفه نجدة، وقال بجواز التقية متمسّكاً بقوله تعالى: (إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاة)(2). وبقوله تعالى: ( وَ قالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ اِيمانَهُ)(3) وقال: القعود جائز والجهاد إذا أمكنه أفضل. قال الله تعالى:( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً)(4) .(5)

ولمّا أظهر نافع أراء شاذّة عن الكتاب والسنّة والفطرة الإنسانية، فارقته جماعة كانوا معه، منهم «أبو فديك» وعطية الحنفي وراشد الطويل، وتوجّهوا شطر اليمامة، فأخبروا نجدة باحداثه وبدعه. فكتب إليه نجدة بكتاب نَقِمَ عليه احداثه واستدلّ بآيات واضحة المعنى، وأجاب نافع بكتاب وأوّل ما استدلّ به زميله من الآيات، وكان هو هذا انشقاقاً عظيماً بين الخوارج، ويعرب عن وحشيّة الأزارقة، وجمود قلبهم، ونزع الرحمة منهم، فكأنّهم جمادات متحرّكة شريرة سجّلوا لأنفسهم في التاريخ أكبر العار، وأفظع الأعمال إلى حدّ تبّرأ عنهم، سائر الفرق وليس ذلك ببعيد، فهؤلاء أتباع المحكّمة الاُولى الذين ذبحوا عبدالله بن خباب وبقروا بطن زوجته المقرب المتم، تلمس حدّ الشقاء

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/438 .

2. آل عمران: 28 .

3. غافر: 28 .

4. النساء: 95 .

5. الشهرستاني: الملل و النحل 1/125 .

( 188 )

من كتاب نجدة إلى نافع ومن اجابة الثاني.

قال المبرّد: إنّ أصحاب «نجدة» رأوا أنّ نافعاً قد كفَّر القعدة ورأى الاستعراض وقتل الأطفال، انصرفوا مع نجدة، فلمّا صار نجدة باليمامة كتب إلى نافع.

كتاب نجدة إلى نافع:

أمّا بعد: فإنّ

عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كلأخ البّر _ تعاضد قوي المسلمين، و تصنع للأخرق منهم _ لا تأخذك في الله لومة لائم، ولاترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت و أصحابك. أو ما تذكّر قولك: لولا انّي أعلم أنّ للإمام العادل أجر رعيّته، ماتولَّيتُ أمر رجلين من المسلمين. فلمّا شريت نفسك في طاعة ربّك ابتغاء مرضاته، وأصبت من الحق فصّه (1)، وركبت مُرّه، تجرّد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأةً منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك وأغواك، فُغُوِيْتَ، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه، من قعدة المسلمين وضَعَفَتهم، قال الله عزّوجلّ، وقوله الحق، ووعده الصدق:( لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِيْنَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَ رَسُولِهِ) (2): ثمّ سمّاهم تعالى أحسن الأسماء فقال: ( ما عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل) (3) ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عن قتلهم، وقال الله جلّ ثناؤه: (وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى)(4)، وقال سبحانه في القعدة خيراً، فقال:

____________________________

1. فصّه: كنهه .

2. التوبة: 91.

3. التوبة: 91.

4. الاسراء: 15 .

( 189 )

( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً)(1) فتفضيله المجاهدين على القاعدين لايدفع منزلة من هو دون المجاهدين، أو ماسمعت قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَر)(2) فجعلهم من المؤمنين وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ثمّ إنّك لاتؤدّي أمانةً إلى من خالفك، والله تعالى قد أمر أن تودّي الأمانات إلى أهلها، فاتّق الله في نفسك، واتّق يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فإنّ الله بالمرصاد، وحكمه

العدل، وقوله الفصل، والسَّلام.

اجابة نافع عن كتاب نجدة:

أمّا بعد: أتاني كتابك تعظني فيه، وتذكّرني وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنتُ عليه من الحق، و ماكنتُ اُوثره من الصواب،وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

وعبت على مادِنْتُ، من إكفار القعدة وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة من المخالفين، وساُفسّرلك لِمَ ذلك إن شاء الله....

أمّا هؤلاء القعدة، فليسوا كمن ذكرت ممّن كان على عهد رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ لأنّهم كانوا بمكّة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتّصال بالمسلمين طريقاً، وهؤلاء قد تفقّهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم، قالوا: ( كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ)(3). فقال: ( ألَمْ

____________________________

1. النساء: 95 .

2. النساء: 95.

3. النساء: 97 .

( 190 )

تَكُنْ اَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(1) وقال سبحانه: ( فَرِحَ الُْمخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَ كَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ)(2) وقال: ( وَ جاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرابِ لِيُؤذَنَ لَهُمْ)(3) فخبّر بتعذيرهم، وأنّهم كذبوا الله ورسوله، ثمّ قال: ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أليِمٌ)(4) فانظر إلى أسمائهم وسماتهم .

وأمّا الأطفال، فإنّ نوحاً نبيّ الله، كان أعلم بالله منّي ومنك، وقد قال: ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكافِرينَ دَيَّاراً* إنَّكَ اِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلاّ فاجِراً كَفَاراً)(5) فسمّاهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح، ولاتقوله في قومنا، والله تعالى يقول: ( اَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ اُولئِكُمْ اَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فىِ الزُّبُرِ)(6) وهؤلاء كمشركي العرب، لايقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلاّ السيف، والإسلام.

وأمّا استحلال أمانات من

خالفنا فإنّ الله تعالى أحلّ لنا أموالهم، كما أحلّ دماءهم لنا، فدماؤهم حلال طلق(7) وأموالهم فيء للمسلمين، فاتّق الله وراجع نفسك، فإنّه لا عذر لك الاّ بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنّا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا، والسلام على من أقرّ بالحق و عمل به (8) .

____________________________

1. النساء:97 .

2. التوبة: 81 .

3. التوبة: 90 .

4. التوبة 90 .

5. نوح: 26 _ 27 .

6. القمر: 43 .

7. يقال: حلال طلق،أي حلال طيّب.

8. المبرد: الكامل 2/210 _ 212، ونقلهما ابن أبي الحديد في الشرح لاحظ 4/137 _ 139 .

( 191 )

هذا هو نافع بن الأزرق، وهذا غلو منهجه وتطرّفه الفكري، حيث يجوّز استعراض الناس والتفتيش عن عقائدهم وقتل الأطفال إلى غير ذلك.

وأمّا خروجه فقد بسط الكلام فيه المؤرّخون(1) على وجه لايسعنا نقله وإنّما نكتفي بما لخّصه البغدادي.

قال البغدادي: ثمّ الأزارقة بعد اجتماعها على البدع التي حكيناها عنهم بايعوا نافع بن الأزرق و سمّوه أمير المؤمنين، وانضمّ إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفاً، واستولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس و كرمان وجبوا خراجها.

رسالة نافع إلى محكّمة البصرة(2):

وكتب إلى من بالبصرة من المحكِّمة: أمّا بعد فإنّ الله اصطفى لكم الدين فلاتموتنّ إلاّ وانتم مسلمون، إنّكم لتعلمون أنّ الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفّار، ترون الظلم ليلا ونهاراً، وقد ندبكم الله عزّوجلّ إلى الجهاد، فقال: ( وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّة)(3) ولم يجعل لكم في التخلّف عذراً في حال من الأحوال فقال: (انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالا)(4) وإنّما عذر الضعفاء والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون، ومن كانت اقامته لعلّة، ثم فضّل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: ( لا يَسْتَوِى القَاعِدُونَ مِنَ المُمؤْمِنِينَ غَيْرُ

اُولِى الضَّرَرِ وَ الُمجاهِدُونَ فِى سَبِيلِ الله)(5)، فلا تغتّروا وتطمئنوا إلى الدنيا، فإنّها غرّارة

____________________________

1. ذكر ابن أبي الحديد مفصّل حروب الأزارقة في شرحه، لاحظ 4/136 _ 278 .

2. المبرّد: الكامل 2/213 .

3. التوبة: 36 .

4. التوبة: 41 .

5. النساء: 95 .

( 192 )

مكّارة، لذّتها نافذة، ونعيمها بائد، حُفَّتْ بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حَبْرةً(1) وأضمرت عبرة، فليس آكلُ منها أكلةً تَسرّه، ولا شاربُ منها شربةً تونقه (2) إلاّ دنابها درجةً إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنّما جعلها الله دار المتزوّد منها، إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فليس يرضى بها حازم داراً ولا حليم قراراً، فاتّقوا الله وتزوّدوا، فإنّ خير الزاد التقوى، والسلام على من اتّبع الهدى.

قال المبرّد:لمّا ورد كتابه عليهم وفي القوم يومئذ أبوبيهس هيصم بن جابر الضبعّي، وعبدالله بن اباض المري، فأقبل أبوبيهس على ابن أباض فقال: إنّ نافعاً غلا فكفر، وانّك قصّرت فكفرت تزعم أنّ من خالفنا ليس بمشرك، وانّما كفّار النعم، لتمسّكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول، تزعم أنّ مناكحهم ومواريثهم والاقامة فيهم حلّ طلق، ثم أدلى أبوبيهس برأيه وسيوافيك في محلِّه .

ويظهر من هذا الكتاب والكتاب الذي كتبه إلى عبدالله بن الزبير(3): إنّ نافع بن الأزرق كان من المتطرّفين بين الخوارج، ولم نجد في تاريخ الخوارج أشدّ تطرّفاً منه.

ثمّ إنّ عامل البصرة يومئذ عبدالله بن الحارث الخزاعي من قبل عبدالله بن الزبير، فأخرج عبدالله بن الحارث جيشاً مع مسلم بن عبس بن كريز بن حبيب بن عبد شمس لحرب الأزارقة، فاقتتل الفريقان بدولاب الأهواز، فقتل مسلم بن عبس وأكثر أصحابه، فخرج إلى حربهم من البصرة عمربن عبيدالله بن معمر التميمي في ألفي فارس، فهزمته الأزارقة، فخرج إليهم حارثة بن بدر الغداني

____________________________

1. الحبرة: النعمة

.

2. تونقه: تعجبه .

3. المبرّد: الكامل 2/212 .

( 193 )

في ثلاثة آلاف من جند البصرة، فهزمتهم الأزارقة، فكتب عبدالله بن الزبير من مكّة إلى المهلّب بن أبي صفرة(1) و هو يومئذ بخراسان يأمره بحرب الأزارقة وولاّه ذلك، فرجع المهلّب إلى البصرة، وانتخب من جندها عشرة آلاف، وانضمّ إليه قومه من الأزد فصار في عشرين ألفاً، وخرج وقاتل الأزارقة وهزمهم عن دولاب الأهواز إلى الأهواز، ومات نافع ابن الأزرق في تلك الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده عبيدالله بن مأمون التميمي، وقاتلهم المهلَّب بعد ذلك بالأهواز فقتل عبدالله بن مأمون في تلك الواقعة، وقتل أيضاً أخوه عثمان بن مأمون مع ثلاثمائة من أشدّ الأزارقة، وانهزم الباقون منهم إلى أيدج وبايعوا قطريّ بن الفجاءة(2) وسمّوه أمير المؤمنين، وقاتلهم المهلّب بعد ذلك حروباً سجالا(3)، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس، وجعلوها دار هجرتهم، وثبت المهلَّب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة، بعضها في أيام عبدالله بن الزبير، وباقيها في زمان خلافة عبدالملك بن مروان وولاية الحجّاج على العراق، وقرّر الحجّاج المهلَّب على حرب الأزارقة، فدامت

____________________________

1. هو أبوسعيد: المهلب بن أبي صفرة _ واسم أبي صفرة ظالم بن سراق، الأزدي، من أزد العتيك. كان المهلّب من أشجع الناس. وهو الذي حمى البصرة من الخوارج حتى سمّاها الناس بصرة المهلّب. ولاّه عبدالله بن الزبير خراسان في سنة 65، فحارب الأزارقة وأفنى منهم عدداً كثيراً، ثمّ ولّي قتالهم في عهد عبدالملك ابن مروان، وفي شهر ذي الحجة من سنة 82 مات (المعارف 399، العبر: 1/72 _ 75 _ 77 _ 88 _ 92 _ 95) .

2. هو أبو نعامة: قطري بن الفجاءة، أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك

ابن عمرو بن تميم، خرج في أيام عبدالله بن الزبير وبقي عشرين سنة يسلّم عليه بالخلافة، وفي أيام عبدالملك بن مروان وجّه إليه الحجاج جيشاً بعد جيش، وكان آخرها بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبي، فقتله _ ويقال: عثرت به فرسه فمات _ وأتى الحجاج برأسه، وذلك في سنة 79 (المعارف 411، العبر: 1/90).

3. تقول «كانت الحرب بين الفريقين سجالا» تعني أنّ النصر يكون لهذا الفريق مرّة ولذلك مرّة اُخرى، وأصل السجال جمع سجل و هو الدلو.

( 194 )

الحرب في تلك السنين بين المهلّب وبين الأزارقة وفرّوافيما بين فارس والأهواز، إلى أن وقع الخلاف بين الأزارقة ففارق عبد ربّه الكبير قطرياً وصار إلى واد بجيرفت كرمان في سبعة آلاف رجل، وفارقه عبد ربّه الصغير في اربعة آلاف، وصار إلى ناحية اُخرى من كرمان، وبقي قطري في بضعة عشر ألف رجل بأرض فارس، وقاتله المهلّب بها، وهزمه إلى أرض كرمان و تبعه وقاتله بأرض كرمان وهزمه منها إلى الري، ثم قاتل عبد ربّه الكبير فقتله، وبعث بابنه يزيدبن المهلّب إلى عبد ربّه الصغير فأتى عليه و على أصحابه، وبعث الحجّاج سفيان ابن الأبرد الكلبي في جيش كثيف إلى قطري بعد أن انحاز من الري إلى طبرستان فقتلوه بها، وأنفذوا برأسه إلى الحجّاج وكان عبيدة بن هلال اليشكري(1) قد فارق قطريّاً وانحاز إلى قومس، فتبعه سفيان بن الأبرد وحاصره في حصن قومس إلى أن قتله وقتل أتباعه، وطهّر الله بذلك الأرض من الأزارقة، والحمدلله على ذلك(2) .

وفي الختام نقول: يظهر من كتبه ورسائله أنّ الرجل كان حافظاً للقرآن، ومقرئاً له، ويؤيّد ذلك ما نقله السيوطي أنّ نافع بن الأزرق لمّا رأى عبدالله بن عباس جالساً بفناء الكعبة، وقد

اكتنفه الناس ويسألونه عن تفسير القرآن، فقال لنجدة بن عويمر الحروري: قم بنا إلى هذا الذي يجتري على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله، فتفسّرها لنا وتأتينا بمصادقه من كلام العرب، فإنّ الله تعالى أنزل القرآن بكتاب عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عمّا بدالكم، فقال نافع: أخبرني عن قول

____________________________

1. عبيدة بن هلال: أحد بني يشكر بن بكر بن وائل .

2. الطبري: التاريخ 4/476. والجزري: الكامل 3/349. ابن عبد ربه: العقد الفريد1/95 _ 121 .

( 195 )

الله تعالى:( عن الَيمينِ وَ عَنِ الشّمالِ عِزِين)(1).

قال: العزون حلق الرقاق، فقال: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:

فجاءوا يهرعون إليه حتى * يكونوا حول منبره عزينا

ثم سألاه عن أشياء كثيرة عن لغات القرآن الغريبة، ففسّرها مستشهداً بالشعر الجاهلي، وربّما تبلغ الأسئلة والأجوبة إلى مائتين، ولو صحّت تلك الرواية لدلّت على صلة السائلين بالقرآن صلة وثيقة، كما تدلّ على نبوغ ابن عباس في الأدب العربي وإلمامه بشعر العرب الجاهلي حيث استشهد على كل لغة فسّرها بشعر عنهم، فجاءت الأسئلة والأجوبة في غاية الاتقان (2) .

إنّ ابن الأرزق كان يتعلّم من ابن عباس ما يجهله من مفاهيم القرآن، نقل عكرمة عن ابن عباس انّه بينما كان يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس تفتي الناس في النملة و القملة؟ صف لي إلهك الذي تعبد، فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله، وكان الحسين بن عليّ جالساً ناحية فقال: إليّ يا ابن الأزرق، قال ابن الأزرق: لست إيّاك أسأل، قال ابن عباس: يا ابن الأزرق، إنّه من أهل

بيت النبوّة وهم ورثة العلم، فأقبل نافع نحو الحسين، فقال له الحسين: يا نافع إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الالتباس، سائلا ناكباً عن المنهاج، ظاعناً بالاعوجاج، ضالاّ عن السبيل، قائلا غير الجميل.

يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه و اُعرّفه بما عرّف به نفسه: لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب غير ملتصق، وبعيد غير منقص،

____________________________

1. المعارج: 27 .

2. السيوطي الاتقان 1/382 _ 416 ط دار ابن كثير دمشق بيروت، تحقيق الدكتور مصطفى .

( 196 )

يوحّد ولا يتبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال.

فبكى ابن الأزرق، وقال: يا حسين ما أحسن كلامك؟ قال له الحسين: بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر وعليّ؟ قال ابن الأزرق: أما والله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منارالإسلام ونجوم الأحكام. فقال له الحسين: إنّي سائلك عن مسألة. قال: اسأل، فسأله عن هذه الآية: ( وَ أمّا الْجِدارَ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ)(1) .

يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق: أبوهما. قال الحسين: فأبوهما خير أم رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال ابن الأزرق: قد أنبأنا الله تعالى أنّكم قوم خصمون (2) .

آراء الأزارقة وعقائدهم:

إنّ للأزارقة أهواء متطرّفة وبدعاً فظيعة وقد تشترك في بعضها مع سائر الفرق:

1 _ قولهم: إنّ مخالفيهم من هذه الاُمّة مشركون، وكانت المحكّمة الاُولى يقولون: إنّهم كفرة لامشركون.

2 _ قولهم: إنّ القعدة _ ممّن كان على رأيهم _ عن الهجرة إليهم مشركون.

3 _ اوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادّعى أنّه منهم: أن يدفع إليه أسيراً من مخالفيهم ويأمره بقتله، فإن قتله صدَّقوه في

دعواه أنّه منهم، وإن لم

____________________________

1. الكهف: 82 .

2. ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق. قسم حياة الإمام الحسين: 158. بتحقيق محمد باقر المحمودي، والمجلسي: بحار الأنوار 4/297 (ذيل الحديث يحتاج إلى توضيح) .

( 197 )

يقتله قالوا: هذا منافق مشرك، وقتلوه.

4 _ اباحة قتل أطفال المخالفين ونسائهم، والمقصود: المسلمون، وزعموا أنّ الأطفال مشركون، وقطعوا بأنّ أطفال مخالفيهم مخلّدون في النار مع آبائهم.

5 _ اسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، واسقاط حدّ القذف عمّن قذف المحصنين من الرجال(1) مع وجوب الحدّ على قاذف المحصنات من النساء .

6 _ إنّ التقيّة غير جائزة في قول ولا عمل .

7 - تجويزهم أن يبعث الله نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته، أو كان كافراً قبل البعثة .

8 _ اجتمعت الأزارقة على أنّ من ارتكب الكبيرة كفر كفر ملّة، خرج به عن الاسلام جملة، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار، واستدلّوا بكفر ابليس وقالوا:ما ارتكب إلاّ كبيرة، حيث اُمر بالسجود لآدم _ عليه السَّلام _ فامتنع، وإلاّ فهو عارف بوحدانيّة الله تعالى(2) .

9 _ إنّ دار مخالفيهم دار كفر، وقالوا: إنّ مخالفيهم مشركون فلا يلزمنا اداء أماناتهم إليهم، وسيوافيك تحليل عقائدهم في فصل خاص.

***

____________________________

1. بحجّة أنّه سبحانه قال: ( والّذين يَرْمُونَ الُمحَصَنات) (النور: 4) ولم يقل: والذين يرمون المحصنين.

2. البغدادي: الفَرق بين الفرِق: 83 ، الشهرستاني: الملل والنحل 1/121 _ 123 .

( 199 )

الفرقة الثانية:

النجديَّة

وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي، ومن الغريب أنّه كان للخوارج إمامان في وقت واحد، إمام في البصرة وهو نافع بن الأزرق، وإمام في اليمامة وأطرافها وهو نجدة بن عامر، وذلك انّه لمّا أظهر نافع آراءه المستهجنة الشاذّة كالبراءة من القعدة حتّى سمّاهم

مشركين، واستحلّ قتل أطفال مخالفيه ونسائهم، تبرّأ منه عدّة من الخوارج، منهم أبو فديك، وعطية الحنفي، وراشد الطويل، ومقلاص، وأيّوب الأزرق، فذهبوا إلى اليمامة، فاستقبلهم نجدة بن عامر في جند من الخوارج يريدون اللحوق بعسكر نافع، فأخبروهم باحداث نافع وردّوهم إلى اليمامة، وبايعوا بها نجدة بن عامر، وكفّروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم، وأكفروا من قال بإمامة نافع، وأقاموا على إمامة نجدة إلى أن اختلفوا عليه في اُمور نقموها منه.

( 200 )

ثمّ الذين اختلفوا عليه بعد ما اجتمعوا حوله صاروا ثلاث فرق:

1 _ فرقة صارت مع عطيّة بن الأسود الحنفي ففارقهم إلى سجستان، وتبعهم خوارج سجستان، ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت: عطويّة .

2 _ فرقة صارت مع أبي فديك وهم الذين قتلو نجدة .

3 _ وفرقة عذروا نجدة في ما أحدثه من البدع وأقاموا على إمامته.

والذين خالفوه نقموا عليه الاُمور التالية:

الف _ إنّه بعث جيشاً في غزو البّر وجيشاً في غزو البحر، ففضّل الذين بعثهم في البّر على الذين بعثهم في البحر في الرزق والعطاء.

ب _ بعث جيشاً فأغاروا على مدينة الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وأصابوا منها جارية من بنات عثمان، فكتب إليه عبدالملك في شأنها، فاشتراها نجدة من الذي كانت في يديه، وردّها إلى عبدالملك بن مروان، فقالوا له: إنّك رددت جارية لنا على عدوّنا.

ج _ عذر أهل الخطأ في الاجتهاد إذا كان سببه الجهل وذلك يعود إلى الحادثة التالية:

بعث ابنه المضرج مع جند من عسكره إلى القطيف، فأغاروا عليها، وسبوا منها النساء والذرّية وقوَّموا النساء على أنفسهم، فنكحوهنّ قبل اخراج الخمس من الغنيمة، وقالوا: إن دخلت النساء في قسمنا فهو مرادنا، وإن زادت قيمتهنّ

على نصيبنا من الغنيمة غرمنا الزيادة من أموالنا، فلمّا رجعوا إلى «نجدة» وسألوه عمّا فعلوا من وطء النساء، ومن أكل طعام الغنيمة قبل اخراج الخمس منها، وقبل قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين، قال لهم: لم يكن لكم ذلك، فقالوا: لم نعلم أنّ ذلك لا يحلّ لنا، فعذَّرهم بالجهالة. ثم قال: إنّ الدين

( 201 )

أمران:

أحدهما: معرفة الله تعالى، ومعرفة رسله _ عليهم الصلاة والسلام _ ، وتحريم دماء المسلمين _ يعنون موافقيهم _ والاقرار بما جاء من عند الله جملة، فهذا واجب على الجميع، والجهل به لايعذر فيه.

والثاني: ما سوى ذلك، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليه الحجّة في الحلال والحرام.

قالوا: ومن جوّز العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام قبل قيام الحجّة عليه فهو كافر.

د _ تولّى أصحاب الحدود من موافقيه وقال: لعلّ الله يعذّبهم بذنوبهم في غير نار جهنّم ويدخلهم الجنّة، وزعم أنّ من خالفه في دينه يدخل النار.

ه_ _ أسقط حدّ الخمر(1) .

و _ من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة، وأصرّ عليها فهو مشرك، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصرّ عليه فهو مسلم، إذا كان من موافقيه على دينه.

ولهذه البدع، استتابه أكثر أتباعه وقالوا: اُخرج إلى المسجد، وتب من احداثك في الدين، ففعل ذلك.

ثمّ إنّ قوماً منهم ندموا على استتابته، وانضمّوا إلى العاذرين له، وقالوا له: أنت الإمام ولك الإجتهاد ولم يكن لنا أن نستتيبك، فتب من توبتك، واستتب الذين استتابوك وإلاّ نابذناك، ففعل ذلك، فافترق عليه أصحابه، وخلعه أكثرهم، وقالوا له: اختر لنا إماماً، فاختار «أبافديك». وصار «راشد الطويل»

____________________________

1. هذا ما يقوله البغدادي، ويقول الشهرستاني: غلظ على الناس من حد الخمر تغليظاً شديداً، والظاهر صحّة الثاني لكون نجدة من

الخوارج .

( 202 )

(أحد رؤساء الخوارج) مع «أبي فديك» يداً واحدة، فلمّا استولى أبو فديك على اليمامة علم أنّ أصحاب نجدة إذا عادوا من غزواتهم أعادوا نجدة إلى الإمارة فطلب نجدة ليقتله فاختفى نجدة في دار بعض عاذريه، ينتظر رجوع عساكره الذين كان قد فرّقهم في سواحل الشام و نواحي اليمن، ونادى منادي «أبي فديك»: من دلّنا على «نجدة» فله عشرة آلاف درهم، وأي مملوك دلَّنا عليه فهو حر، فدلّت عليه أمة، فأنفذ أبوفديك «راشد الطويل» في عسكر إليه فكبسوه وحملوا رأسه إلى «أبي فديك» .

ولما قُتِلَ نجدة فصارت النجدات بعده ثلاث فرق:

1 _ فرقة اكفرته وصارت إلى أبي فديك، كراشد الطويل، وأبي بيهس، وأبي الشمراخ وأتباعهم.

2 _ فرقة عذَّرته فيما فعل، وهم النجدات.

3 _ وفرقة من النجدات هاجروا من اليمامة، وكانوا بناحية البصرة شكوا فيما حكي من احداث نجدة وتوقّفوا في أمره وقالوا: لاندري هل أحدث تلك الاحداث أم لا؟ فلانبرأ منه إلاّ باليقين.

وبقى أبوفديك بعد قتل نجدة إلى أن بعث إليه عبدالملك بن مروان، عمربن عبيدالله بن معمر التميمي في جند فقتلوا أبا فديك، وبعثوا برأسه إلى عبدالملك بن مروان، فهذه قصة النجدات (1) .

وبالامعان فيما نقلنا عنه من الآراء يظهر مذهب النجدية، وأنّهم كانوا أخف وطأة من الأزارقة وتتلخّص الأفكار التي امتازوا بها عن غيرهم من فرق الخوارج في الاُمور التالية:

____________________________

1. البغدادي: الفَرق بين الفِرق 87 _ 90 ; الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/89 ; الشهرستاني: الملل و النحل 1/122 _ 125 .

( 203 )

1 _ التقيّة جائزة (1).

2 _ تعذير قَعَدة المسلمين وضَعَفَتهم.

3 _ تحريم قتل الأطفال .

4 _ لزوم رد أمانة المخالف(2) .

5 _ لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنّما

عليهم أن يتناصحوا فيما بينهم، فإن هم رأوا أنّ ذلك لايتم إلاّ بإمام يحملهم عليه فأقاموه، جاز(3) .

6 _ تولّي أصحاب الحدود والجنايات من موافقيه.

7 _ من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة وأصرّ عليها فهو مشرك (ولعلّه في حقّ مخالفيهم) ومن زنى، وسرق، وشرب الخمر غير مصرّ عليه فهو مسلم، إذا كان من موافقيه على دينه(4) .

هذه آراؤهم وسوف نرجع إلى دراسة هذه الموضوعات في فصل خاص.

وأخيراً نعيد ما ذكرناه: انقسمت النجدية بعد «نجدة» إلى ثلاث فرق هم: النجدية والفديكية، والعطوية (5) .

وهذا يدل على أنّ كثيراً من الفرق كانت فرقاً سياسية، لادينية.

____________________________

1. ولو صحّ ذلك كما هو صريح كتاب نجدة لايصحّ ما نسب إليهم الأشعري في مقالاته من أنّهم استحلّوا دماء أهل المقام وأموالهم في دار التقيّة وبرأوا ممّن حرمّها، الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/91 .

2. لاحظ في هذا الاُصول الأربعة كتاب نجدة إلى نافع تجد فيه تلك الآراء.

3. الشهرستاني: الملل والنحل 1/124 .

4. الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/91 .

5. الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/92 .

( 204 )

( 205 )

الفرقة الثالثة:

البيهسية

البيهسية من الخوارج ينسبون إلى أبي بيهس و اسمه هيصم بن جابر وهي فرقة مستقلّة، لاصلة لها بالإبراهيمية والميمونية، وإنّما تدخّلت في الخلاف الذي حدث بين تلك الفرقتين، والفرقتان من الاباضية كما سنبيّن:

قد وقفت عند الكلام في الأزارقة على أنّ أبابيهس هيصم بن جابر الضبعي وعبدالله بن اباض كانا في وقت واحد، وكان لنافع قيادة روحية مثلما كان لعبدالله بن اباض أو أقوى، وإنّما خرج أبوبيهس بمنهج عندما ظهر له غلوّ نافع و تقصير عبدالله بن اباض، حيث إنّ نافع غلا في البراءة من المسلمين وجوّز استعراضهم والتفتيش عن عقائدهم واستحلّ أماناتهم وقتل

أطفالهم .

بينما عبدالله بن اباض قد قصّر (أي في التطرّف) حيث إنّ المخالفين عندهم كفّار ولكن كفّار في النعم كما عدّ سبحانه وتعالى تارك الحج مع

( 206 )

الاستطاعة كافراً وقال: ( وَلِلّه عَلَى النّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ اِلَيْهِ سَبِيلا وِ مِنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العالمين)(1) وجوّز مناكحهم ومواريثهم والاقامة في بلدهم.

عند ذلك أدلى أبو بيهس بأوّل رأيه حيث اعتبر أنّ هناك إفراطاً وتفريطاً والحق الوسط، يقول: إنّ أعداءنا كأعداء رسول الله، تحلّ لنا الاقامة فيهم، خلافاً لنافع كما فعل المسلمون خلال اقامتهم بمكة وأحكام المسلمين تجري عليهم، وزعم أنّ مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنّهم منافقون يظهرون الإسلام، وانّ حكمهم عند الله حكم المشركين.

قال المبرّد: فصارت الخوارج في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل:

1 _ قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال.

2 _ قول أبي بيهس الذي ذكرناه.

3 _ وقول عبدالله بن اباض وهو أقرب الأقوال إلى السنّة من أقاويل الضلال (2).

ثمّ إنّ البيهسية انقسمت إلى فرق :

1 _ العوفية.

2 _ أصحاب التفسير.

3 _ أصحاب السؤال، وهم أصحاب شبيب النجراني .

ولنذكر المشتركات بين هاتيك الفرق، ثمّ نذكر المميّزات، أمّا الاُولى فقال أبو بيهس: لا يسلم أحد حتّى يقرّ بمعرفة الله، ومعرفة رسوله، ومعرفة ما جاء به محمّد جملة، والولاية لأولياء الله سبحانه، والبراءة من أعداء الله وما

____________________________

1. آل عمران: 97 .

2. المبرّد: الكامل 2/214 وأضاف انّ الصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن اباض .

( 207 )

حرّم الله سبحانه ممّا فيه الوعيد ، فلا يسع الإنسان إلاّ علمه ومعرفته بعينه، وتفسيره .

ومنه ما ينبغي أن يعرفه باسمه ولايبالي أن لايعرف تفسيره و عينه حتى يبتلى به، وعليه أن يقف عند ما لا

يعلم، ولا يأتي شيئاً إلاّ بعلم.

وفي مقابل البيهسية من قال: قد يسلم الإنسان بمعرفة وظيفة الدين، وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عبده و رسوله، والاقرار بما جاء من عندالله جملة(1)، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله وإن لم يعرف ما سوى ذلك فهو مسلم.

ثمّ إنّه مسلم حتى يبتلى بالعمل، فمن واقع شيئاً من الحرام، ممّا جاء فيه الوعيد، وهولايعلم أنّه حرام، فقد كفر، ومن ترك شيئاً من كبير ما افترضه الله سبحانه عليه وهو لا يعلم فقد كفر، فإن حضر أحد من أوليائه مواقعة من واقع الحرام وهو لا يدري أحلال أم حرام، أو اشتبه عليه، وقف فيه، فلم يتولّه ولم يبرأ منه حتى يعرف أحلال ركب أم حرام؟ .

قالت البيهسية: الناس مشركون بجهل الدين(2)، مشركون بمواقعة الذنوب، وإن كان ذنب لم يحكم الله فيه حكماً مغلظاً ولم يوقفنا على تغليظه فهو مغفور، ولا يجوز أن يكون أخفى أحكامه عنّا في ذنوبنا، ولو جاز ذلك جاز في الشرك (3) .

وقالوا: التائب في موضع الحدود، وفي موضع القصاص، والمقرّ على

____________________________

1. الفرق بين الفرقتين: هو أنّ البيهسية التزموا بالمعرفة جملة، وهؤلاء اكتفوا بالاقرار جملة، والفرق بينهما واضح، فإنّ المعرفة تستلزم المعرفة التفصيلية دون الاقرار .

2. ذلك لازم الأصل الأوّل من اشتراط تحقّق الإسلام بمعرفة ما جاء به محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ .

3. يريد أنّ المعاصي الكبيرة لا تكون خفيّة علينا، ولو جاز خفاؤها لجاز خفاء حكم الشرك.

( 208 )

نفسه يلزمه الشرك إذا أقرّ من ذلك بشيء وهو كافر، لأنّه لايحكم بشيء من الحدود والقصاص إلاّ على كل كافر يشهد عليه بالكفر

عندالله(1) .

هذه هي الأحكام المشتركة بين جميع فرق البيهسية ولب الجميع عبارة عن أمرين:

1 _ لزوم معرفة ما جاء به النبي على وجه التفصيل .

2 _ إنّ مرتكب الكبائر مشرك خصوصاً فيما إذا كان في موضع الحد.

نعم هناك فِرق من البيهسية اختصّوا ببعض الأحكام، نذكر منها ما يلي:

الف _ العوفية: وهم فرقتان: فرقة تقول: من رجع من دار هجرتهم ومن الجهاد إلى حال القعود نبرأ منهم.

وفرقة تقول: لا نبرأ منهم، لأنّهم رجعوا إلى أمر كان حلالا لهم. وكلا الفريقين من العوفية يقولون: إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم و الشاهد.

والبيهسية يبرأون، منهم وهم جميعاً يتولّون أبا بيهس، وقالت العوفية: السكر كفر، ولا يشهدون أنّه كفر حتى يأتي معه غيره كترك الصلاة، وما أشبه ذلك، لأنّهم إنّما يعلمون أنّ الشارب سكر إذا ضمّ إلى سكره غيره ممّا يدلّ على أنّه سكران (2) .

ب _ أصحاب التفسير: كان صاحب بدعتهم رجل يقال له الحكم بن مروان من أهل الكوفة، زعم أنّه من شهد على المسلمين لم تجز شهادتهم إلاّ بتفسير الشهادة كيف هي. قال: ولو أنّ أربعة شهدوا على رجل منهم بالزنا لم تجز شهادتهم حتى يشهدوا كيف هو، وهكذا قالوا في سائر الحدود، فبرأت

____________________________

1. وهذا مبني على كون ارتكاب الكبائر كفراً.

2. إنّ العلم بالسكر يعلم بأدنى شيء ولا يتوقّف على ترك الصلاة .

( 209 )

منهم البيهسية على ذلك وسمّوهم أصحاب التفسير.

ج _ أصحاب السؤال: وهم الذين زعموا أنّ الرجل يكون مسلماً إذا شهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عبده و رسوله، وتولّى أولياء الله وتبرّأ من أعدائه، وأقرّ بما جاء من عندالله جملة، وإن

لم يعلم سائر ما افترض الله عليه ممّا سوى ذلك، أفرض هوأم لا؟ فهو مسلم حتى يبتلى بالعمل به (فيسأل)(1) .

وقالوا: في أطفال المؤمنين: إنّهم مؤمنون أطفالا وبالغين، حتى يكفروا، وإنّ أطفال الكفّار كفّار، أطفالا وبالغين حتى يؤمنوا.

وقالوا بقول المعتزلة في القدر (أي كون الأفعال منسوبةً إلى الإنسان دونه سبحانه).

هذه هي البيهسية وهذه الفرق المتشعّبة عنها.

وهاهنا آراء تنسب إلى بعض البيهسيين ولم يعرف قائلها.

منها قول بعض البيهسية: من واقع زنا، لم يُشهد عليه بالكفر حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية، إلاّ أنّهم قالوا: نقف فيهم ولا نسمّيهم مؤمنين ولاكافرين .

منها قول بعضهم: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وإنّ الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، ولا يصلّى إلاّ خلف من يعرف، وقالوا: بقتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلال القتل والسبي على كل حال.

____________________________

1. قد عرفت أنّ القدر المشترك بين البيهسية هو لزوم معرفة ما جاء به محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ تفصيلا، ولكن أصحاب السؤال اكتفوا بالاقرار الإجمالي، فعدّهم من البيهسية موضع تأمّل، وإن عدّه منهم الأشعري في مقالاته.

ثمّ إنّ الفرق بينهم وبين الفرقة المخالفة للبيهسية التي أوعزنا إليها في صدر البحث هو أنّهم يحكمون بالكفر إذا ابتلى بالعمل وهو لا يعلم أنّه حرام، وهذا بخلاف أصحاب السؤال فهم لا يحكمون بكفره بل يحكمون عليه بالسؤال .

( 210 )

منها: السكر من كل شراب، حلال موضوع عمّن سكرمنه، وكل ما كان في السكر من ترك الصلاة أوشتم الله سبحانه موضوع فيه، لاحدّ فيه، ولا حكم، ولا يكفّر أهله بشيء من ذلك ماداموا في سكرهم، وقالوا: إنّ الشراب حلال الأصل، ولم يأت فيه شيء من التحريم لا في

قليله ولا في اكثار أو سكر(1).

وأمّا تدخّل أبي بيهس في الخلاف الذي حدث بين الإبراهيمية والميمونية فحاصله أنّ رجلا من الاباضية يعرف بإبراهيم، دعا قوماً من أهل مذهبه إلى داره، وأمر جارية له كانت على مذهبه بشيء، فأبطأت عليه فحلف ليبيعنّها في الأعراب، فقال له رجل منهم اسمه ميمون: كيف تبيع جارية مؤمنة إلى الكفرة؟ فقال له إبراهيم: إنّ الله تعالى قد أحلّ البيع وقد مضى أصحابنا وهم يستحلّون ذلك، فتبرّأ منه ميمون وتوقّف آخرون منهم في ذلك وكتبوا بذلك إلى علمائهم، فأجابوهم بأنّ بيعها حلال، وبأنّه يستتاب ميمون، ويستتاب من توقّف في إبراهيم، فصاروا في هذا ثلاث فرق: أبراهيمية، وميمونية، وواقفة.

ثمّ إنّ البيهسية قالوا: إنّ ميموناً كفر بأن حرّم الأمة في دار التقية من كفّار قومنا، وكفرت الواقفة بأن لم يعرفوا كفر ميمون وصواب أبراهيم، وكفر إبراهيم بأن لم يبرأ من الواقفة(2) .

وأمّا مصير أبي بيهس، فقد طلبه الحجاج أيّام الوليد فهرب إلى المدينة فطلبه بها عثمان بن حيّان المزني فظفربه وحبسه، وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله، ففعل ذلك به (3) .

***

____________________________

1. الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/113 _ 118، والشهرستاني: الملل والنحل 1/125 _ 127 .

2. البغدادي: الفرّق بين الفرِق 107 _ 108 .

3. الشهرستاني: الملل و النحل 1/125 .

( 211 )

الفرقة الرابعة:

الصفرية

اختلفت كلمة أصحاب المقالات في مؤسّس هذه الفرقة، فنرى أنّ المبرّد يعرّفهم بأنّهم أصحاب ابن صفار، وانّهم إنّما سمّوا بصفرة لصفرة عَلَتْهم ويستشهد على ذلك بقول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج وصار مرجئاً.

فارقتُ نجدة والذين تزرّقوا * وابن الزبير وشيعة الكذّاب

والصفر الآذان (1) الذين تخيّروا * ديناً بلاثقة ولا بكتاب

بينما الأشعري والشهرستاني

ينسبانها إلى زياد بن أصفر(2) .

____________________________

1. قال المبرّد: خفف الهمزة من الاذان ولولاه لانكسر الشعر.(المبرّد: الكامل 2/214) .

2. الأشعري: مقالات الإسلاميين 101، والشهرستاني: الملل والنحل 1/137 .

( 212 )

ولكن يقول المقريزي: إنّهم أتباع زياد بن الأصفر ويضيف، ربّما يقال: إنّهم أتباع النعمان بن الصفر، وقيل: بل نسبوا إلى عبدالله بن صفار، ويقال لهم أيضاً: الزيادية...ويقال لهم أيضاً: النُكّار من أجل أنّهم ينقصون نصف علي وثلث عثمان وسدس عائشة(1) .

وعل كل تقدير فهم كالأباضية أقرب الفرق إلى المسلمين:

1 _ يخالفون الأزارقة في عذاب الأطفال، فإنّهم لا يجيزون ذلك ولا يكفّرونهم ولايخلّدونهم في النار.

2 _ لم يكفّروا القعدة عن القتال _ والمراد قعدة الخوارج _ .

3 _ لم يسقطوا الرجم .

4 _ التقية جائزة في القول دون العمل عندهم.

5 _ وأمّا إطلاق الكافر و المشرك على مرتكبي الكبائر، فقد قالوا فيه بالتفصيل الآتي:

ماكان من الأعمال عليه حدّ واقع فلا يتعدّى بأهله، الاسمُ الذي لزمه به الحدّ كالزنا والسرقة، والقذف، فيسمّى زانياً سارقاً، قاذقاً، لا كافراً مشركاً.

وماكان من الكبائر ممّا ليس فيه حدّ لعظم قدره مثل ترك الصلاة والفرار من الزحف، فإنّه يكفّر بذلك.

6 _ ونقل عن الضحّاك منهم انّه جوّز تزويج المسلمات من كفّار قومهم (يريد سائر المسلمين) في دار التقيّة دون دار العلانية .

7 _ ونقل عن زياد بن الأصفر انّ الزكاة سهم واحد في دار التقيّة(2) .

____________________________

1. المقريزي: الخطط 2/354، والنكّار جمع ناكر.

2. يريد أنّه لا يجب صرف الزكاة على الأصناف الثمانية الواردة في آية الصدقات، لعدم بسط اليد في دار التقيّة بل تصرف في مورد واحد.

( 213 )

8 _ ويحكى عنه أنّه قال: نحن مؤمنون عند أنفسنا ولاندري أنّنا خرجنا من الإيمان عند الله!

9

_ الكفر كفران، كفر بانكار النعمة، وكفر بانكار الربوبية.

10 _ البراءة براءتان: براءة من أهل الحدود، سنّة، وبراءة من أهل الجحود، فريضة(1) .

وعلى ما ذكره الشهرستاني فهم لايرون ارتكاب الكبيرة موجباً للشرك والكفر إلاّ فيما إذا لم يرد فيه حدّ كترك الصلاة .

لكن الظاهر ممّا نقله البغدادي في الفرق انّ بين الصفرية قولين آخرين:

الف _ إنّ صاحب كل ذنب مشرك، كما قالت الأزارقة.

ب _ إنّ صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحدّه(2).

وكل الصفرية بل جميع فرق الخوارج حتى الاباضية الذين يتحرّجون من تسميتهم خوارج، يقولون بموالاة عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير واتباعهما من المحكّمة الاُولى .

ويقولون بإمامة أبي بلال مرداس، الخارج بعد المحكّمة الاُولى، وبإمامة عمران بن حطان السدوسي بعد أبي بلال.

أمّا أبو بلال فقد مرّت ترجمته وأنّه خرج في أيّام يزيد بن معاوية بناحية البصرة، فبعث إليه عبيدالله بن زياد، عبّاد بن أخضر التميمي، فقتله مع أتباعه.

وأمّا الثاني فهو من شعراء الخوارج وخطبائهم، مات سنة 84، وبلغ من خبثه في بغض علي _ عليه السَّلام _ أنّه رثا عبدالرحمن بن ملجم وقال في ضربه

____________________________

1. الشهرستاني: الملل و النحل 1/137. البغدادي: الفَرق بين الفِرق 90. الأشعري: المقالات 101 .

2. البغدادي: الفَرق بين الفِرق 91 .

( 214 )

عليّاً:

يا ضربة من منيب ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوماً فأحسبه * أوفى الربية عند الله ميزانا

قال عبدالقاهر (البغدادي): وقد اجبناه عن شعره هذا بقولنا:

يا ضربة من كفور ما استفاد بها * إلاّ الجزاء بما يصليه نيرانا

إنّى لألعنه ديناً، وألعن من * يرجو له أبداً عفواً وغفرانا

ذاك الشقي لأشقى الناس كلّهم * أخفّهم عند ربّ الناس ميزانا(1)

اُصول

الفرق للخوارج:

هذه هي اُصول فرق الخوارج المتطرّفين وأمّا سائر الفرق فكلّها مشتقّة منها بسبب اختلاف غير هامّ في التخطيط والتطبيق، لا في المبدأ والأصل، وأمّا الاباضية، فلم يكونوا بهذا التطرّف، ولأجل ذلك أسماهم سائر الفرق باسم «القعدة» لأنّهم قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.

يقول «الدكتور رجب محمّد»: قد تطّورت الأحوال في جماعة المحكّمة الذين ظلّوا على عدائهم وصدامهم مع الدوله الأموية إلى الانقسام إلى فرق ثلاث: هي الأزارقة، والنجدات، والبيهسية منذ عام 64، واُضيفت إليها الفرقة الرابعة وهي الفرقة المعروفة باسم الصفرية منذ عام 75، واتّفقت هذه الفرق الأربع فيما بينهم على آراء، وكفّر بعضهم بعضاً، واصطدموا بالدولة الأموية مرّات عديدة، وتصدّت لهم قوات الخلافة وأخضعت شوكتهم وقضت على زعمائهم، وكان ذلك على يد المهلّب بن أبي صفرة المعاني وعلى يد قومه من

____________________________

1. البغدادي: الفَرق بين الفِرق 93 .

( 215 )

الأزد العمانيين، وعندما حاول بعض زعمائهم اللجوء إلى عمان، تصدّى لهم العمانيون وقاتلوهم وقتلوهم (1).

وعلى كل تقدير فالفرقة الباقية من الخوارج تلعن الفرق الأربع وتتبرّأ منها، وإليك نصّ بعضهم في هذا الشأن:

لقد حرص ابن اباض في رسالته إلى عبدالملك بن مروان أن يقرّر رأيه بصراحة في ابن الأزرق... فذكر فيها قوله:

«أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وصنيعه وأتباعه. لقد كان حين خرج على الإسلام فيما ظهر لنا، ولكنّه أحدث وارتدّ وكفر بعد اسلامه فنبرأ إلى الله منهم» (2) .

وقد عرض القلهاتي بالتحليل لآراء الأزارقة:

«الأزارقة إمامهم أبو راشد نافع بن الأزرق، وهو أوّل من خالف اعتقاد أهل الاستقامة، وشقّ عصى المسلمين، وفرّق جماعتهم، وانتحل الهجرة، وسبى أهل القبلة، وغنم أموالهم، وسبى ذراريهم، وسنَّ تشريك أهل القبلة، وتبّرأ من القاعد ولو كان

عارفاً لأمره تابعاً لمذهبه، واستحلّ اعتراض الناس بالسيف، وحرّم مناكحتهم وذبائحهم وموارثتهم، وابتدع اعتقادات فاسدة وآراء حائدة خالف فيها المسلمين أهل الاستقامة في الدين» (3) .

وقد تعرَّض كذلك لسائر فرق الخوارج الاُخرى فقال:

«وجميع أصناف الخوارج _ غير أهل الاستقامة (الأباضية) _ اجتمعوا

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم (استاذ التاريخ بجامعة القاهرة وجامعة السلطان قابوس): الاباضية في مصر و المغرب: 14 .

2. البرادي: الجواهر المنتقاة (رسالة ابن اباض) 156 _ 167. ويأتي نصّ الرسالة في محلّها.

3. القلهاتي: الكشف والبيان 2/423 .

( 216 )

على تشريك أهل القبلة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، و منهم من يستحل قتل السريرة والعلانية، واعتراض الناس بالسيف على غير دعوة، ومنهم من يستحلّ قتل السريرة، وهم مختلفون فيما بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، ويغنم بعضهم مال بعض، ويبرأ بعضهم من بعض، وانتحلوا الهجرة، وحرّموا موارثتهم، ومناكحتهم، وأكل ذبائحهم» (1) .

الخوارج قد شوّهوا محاسن الدين :

إنّ الخوارج قد شوّهُوا محاسنَ الدين الإسلامي تشويهاً غريباً، فإنَّ هذا الاغراق في التأويل و الاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله، وهم في تعمّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ولا دعا إليه القرآن، وأمّا التقوى التي كانوا يَظْهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء، والصلاح، الذي كانوا يتزينون به في الظاهر، كان ظاهر التأويل بادئ الزخرفة، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلوّ في الدين، غلّواً أخرجهم منه، ومجاوزة الحدِّ، تُوقع في الضد(2).

***

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 215 _ 216 .

2. عمر ابو النضر: الخوارج في الاسلام: 111 .

( 217 )

الفرقة الخامسة:

الاباظية

أتباع عبدالله بن اباض(1) م 86

وصفت الاباضية في كلام غير

واحد بأنّهم أقرب الناس إلى أهل السنّة(2) وأنّهم هم الفرقة المعتدلة من الخوارج، ولأجل هذا اُتيح لهم البقاء إلى يومنا هذا، فهم متفرّقون في عمان وزنجبار وشمال أفريقيا، فإذا كان البحث في سائر الفرق بحثاً في طوائف أبادهم الدهر وصاروا خبراً لِكانَ، فالبحث عن الاباضية بحث عن فرقة موجودة من الخوارج ويعتبر مذهبهم، المذهب الرسمي في عُمان، وقد ذكرنا في بداية الكتاب النشاط الثقافي التي تقوم به وزارة الأوقاف عندهم. فنبحث أوّلا عمّا يقول عنهم أصحاب المقالات والتاريخ، ثم نرجع إلى

____________________________

1. إنّ اباضية عمان يقرأونه _ بالفتح _ خلافاً لاباضية شمال أفريقيا فيقرأونه _ بالكسر_ وعلى كل تقدير واباض _ بضم الهمزة _ فهي قرية أو واحة باليمامة.

2. المبرّد: الكامل 2/214 .

( 218 )

كتبهم المنتشرة في هذه الأيام لغاية التعريف بهم.

الاباضية في كتب المقالات والتاريخ :

عبدالله بن اباض المقاعسي المرّي التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس، رأس الاباضية وإليه نسبتهم، وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبدالملك بن مروان، وكان ممّن خرج إلى مكّة لمنع حرم الله من مسلم بن عقبة المرّي(1) عامل يزيد بن معاوية.

اتّفق عبدالله بن اباض مع نافع و أصحابه على أن يسألا عبدالله بن الزبير عن رأيه في عثمان، لأنّ الخوارج يومذاك كانوا ملتفِّين حول عبدالله بن الزبير، فلمّا سألوه وجدوه، مخالفاً للعقيدة فتفرّقوا من حوله، وذهبت طائفة من الخوارج إلى اليمامة وعدّة اُخرى إلى البصرة، منهم ابن الأزرق وعبدالله بن اباض وعبدالله بن الصفار(2) .

ثمّ إنّ ابن الأزرق خرج على ثلاثمائة رجل عند وثوب الناس بعبيدالله بن زياد، وتخلّف عنه عبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض ورجال معهما على رأيه، وكتب إليهما ما ألقاه لأصحابه في خطابته

وهو:

«إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصَّركم ما عمى عنه غيركم. ألستم تعلمون أنّكم إنّما خرجتم تطلبون شريعته وأمره، فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنّما تتّبعون سننه و أثره؟ فقالوا: بلى، فقال: أليس حكمكم في وليّكم حكم النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في وليّه، وحكمكم في وعدوّكم حكم النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في عدوّه، عدوّكم اليوم عدوّالله وعدوّ

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/438 .

2. الطبري: التاريخ 4/438 .

( 219 )

النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ كما أنّ عدوّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يومئذ هو عدوّ الله وعدوّكم اليوم؟ فقالوا: نعم، قال: فقد أنزل الله تبارك و تعالى:( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وِرَسُولِهِ اِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ) وقال: (لا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ) فقد حرّم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، واجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم، وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم و مواريثهم. قد احتجّ الله علينا بمعرفة هذا، وحقّ علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولانكتم ما أنزل الله، والله عزّوجلّ يقول:( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ وِ الهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيِّنّاهُ لِلنّاسِ فِى الكِتابِ اُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ)(1) .

فبعث بالكتاب إلى عبدالله بن صفار وعبدالله بن اباض، فأتيا به، فقرأه عبدالله بن صفار، فأخذه، فوضعه خلفه فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرّقوا ويختلفوا، فقال له عبدالله بن اباض: مالك لله أبوك؟ أيّ شي أصبت؟ أن قد اُصيب اخواننا؟ أو اُسر بعضُهم؟ فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله، أيّ رأي رأى. صدق نافع بن الأزرق (لكن) لوكان القوم مشركين، كان أصوب الناس رأياً وحكماً فيما يشير

به، وكانت سيرته كسيرة النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في المشركين .

ولكنّه قد كذب وكذبنا فيما يقول: إنّ القوم كفّار بالنعم والأحكام، وهم براء من الشرك، ولايحلّ لنا إلاّ دماؤهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام (2) .

ثمّ إنّ المبرّد نقل كتاب ابن الأزرق إليهما بغير هذه الصورة، والنقلان

____________________________

1. البقرة: 159 .

2. الطبري: التاريخ 4/438 _ 440 .

( 220 )

متّفقان في المادة، وأضاف أنّ الكتاب ورد إلى أبي بيهس وعبدالله بن اباض، فأقبل أبوبيهس على ابن اباض فقال: إنّ نافعاً غلا فكفر وانّك قصّرت فكفرت(1).

هذا هو عبدالله بن اباض، وهذه زمالته مع نافع بن الأزرق وهذا فراقه له في مسألة تكفير المسلمين كفر ملّة ودين، وهذه اباحته دماء المسلمين (بعد اتمام الحجّة) ولأجل هذه المرونة بين الاباضية، يقول المبرّد: إنّ قول عبدالله بن اباض أقرب الأقاويل إلى أهل السنّة من أقاويل الضلال.

أوهام حول مؤسّس المذهب:

ثمّ إنّ هناك أوهاماً حول الرجل في كتب الفِرق والتواريخ:

1 _ خرج ابن اباض في أيام مروان بن محمّد (2) وهذا وهم فقد مات قبل أيام مروان بأربعين عاماً.

2 _ وقال الزبيدي: كان مبدأ ظهوره في خلافة مروان الحمار(3).

3 _ وقال المقريزي: إنّه من غلاة المحكّمة وانّه خرج في أيام مروان، ثمّ قال: ويقال: إنّ نسبة الاباضية إلى اباض _ بضم الهمزة _ وهي قرية باليمامة نزل بها نجدة بن عامر(4) .

وكلا الأمرين يدلاّن على أنّه ظهر بين سنتي 127 _ 132، أيام حكم مروان وهو لايتّفق مع ما عليه الاباضية على أنّ وفاته كانت في أيام عبدالملك بن مروان .

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/213 _ 214 وقد مرّ _ كتاب ابن الأزرق _ إليهما عند البحث

عن البيهسية، فلاحظ.

2. نقله خير الدين الزركلي في الاعلام 4/184، عن هامش الأغاني: 330 من المجلد السابع .

3. الزبيدي: تاج العروس، مادة ابض .

4. المقريزي: الخطط 2/355 .

( 221 )

وقال الشهرستاني: عبدالله بن اباض الذي خرج في أيام مروان بن محمّد (1) .

ولعلّ وجه اشتباههم هو: وقوع فتنة الاباضية في أواخر حكومة مروان بن محمّد، وكان في رأس الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحق وكان اباضياً.

قال ابن العماد: وفي سنة 130 كانت فتنة الاباضية وهم المنسوبون إلى عبدالله بن اباض. قال: مخالفونا من أهل القبلة كفّار، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي (طالب الحق)، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبدالعزيز بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فقتل عبدالعزيز ومن معه من أهل المدينة، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم: تخرمة بن سليمان الوالبي، روى عن عبدالله بن جعفر وجماعة، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبدالملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً، ثمّ سار إلى تبالة _ وراء مكّة بستّ مراحل _ فقتل داعيتهم الكندي(2) .

ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي: انّ عبدالله لم يمت حتى ترك قوله أجمع، ورجع إلى الاعتزال (3)، والرجل توفّي ولم يكن للاعتزال أي أثر، فإنّ رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام 80 .

ثمّ إنّ الاباضية انقسمت إلى فرق خرجوا عن الاعتدال والمرونة ومالوا

____________________________

1. الشهرستاني: الملل و النحل 1/134 .

2. ابن عماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/177 .

3. ابن نشوان الحميري: الحور العين 173 .

(

222 )

إلى التطرّف والشدّة، ولكن جمهور الاباضية على الاعتدال. يقول الأشعري:

وجمهور الاباضية يتولّى المحكّمة كلّها إلاّ من خرج، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار، وليسوا بمشركين، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، حرام ماوارء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر، إلاّ من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به، وزعموا أنّ الدار _ يعنون دار مخالفيهم _ دار توحيد إلاّ عسكر السلطان، فإنّه دار كفر _ يعني عندهم _ .

وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وحرّموا الاستعراض إذا خرجوا، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم، فبرأت الخوارج منهم على ذلك، وقالوا: إنّ كل طاعة إيمان ودين، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمؤمنين(1).

وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه، يقول: افترقت الاباضية فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة _ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة _ براء من الشرك والإيمان، وانّهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية، وصحّحوا مناكحتهم، والتوارث منهم، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله، لايدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض، والذي استحلّوه الخيل والسلاح، فأمّا الذهب والفضة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة .

ثمّ افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق: الحفصية، والحارثية، واليزيدية، وأصحاب طاعة لايراد الله بها.

____________________________

1. الأشعري: مقالات الإسلاميين 104 _ 105 .

( 223 )

ثم قال: واليزيدية، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (1) .

ولأجل تصريح عبدالله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم، نعم بعض الفرق منهم

خرجوا عن الاعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقياً .

هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلاّ في مسألة التحكيم، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (2) . ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم .

الاباضية في كتب اعلامهم:

قد تعرّفت على المذهب الاباضي وترجمة مؤسّسه على ما في كتب الفرق والتاريخ، غير أنّ كُتّاب الاباضية في العصر الحاضر وماقبله يتحرّجون من أن يُعَدُّوا من فرق الخوارج، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل بيد مؤسّسه عبدالله بن اباض وجابر بن زيد العماني، فكأنّ الأوّل قائداً مخطّطاً والثاني قائداً دينياً، وانّ الخوارج هم المتطرّفون كالأزارقة الذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين ويستبيحون أموالهم ويستحيون

____________________________

1. البغدادي: الفَرق بين الفِرق: 103، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضية تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات 102 _ 111، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.

2. الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/21 _ 28 .

( 224 )

نسائهم ويقتلون أولادهم، وأمّا غيرهم الذين لايعتنقون هذا المبدأ وماشابه فليسوا من الخوارج .

وقد بذلت الاباضية في هذه العصور الأخيرة جهوداً في تنزيههم عن كونهم من هذه الطائفة وانّ المقصود منه غيرهم، وإليك بعض نصوصهم وتحليلاتهم:

هل الاباضية من الخوارج؟:

1 _ قد عمد البعض من الخوارج بعد وقعة النهروان إلى سلوك طريق لايتّفق مع الاُصول الصحيحة للشريعة الغّراء وأحد ثوا في الإسلام حدثاً كبيراً بما استحلّوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لايذهبون مذهبهم، وتفرّق هؤلاء الخارجون إلى فرق عديدة

كان منها الأزارقة والنجدات والصفرية... وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخوارج، ويعني وصفهم بذلك أنّهم خارجون عن الدين ومارقون بما استحلّوا من المحرّمات وما خالفوا فيه من الأحكام الصحيحة للإسلام .

أمّا الاباضية _ وهم عرفوا بجماعة المسلمين أهل الحقّ والاستقامة _ فهم لايرون رأي هؤلاء الخوارج بل يرونهم مارقين خارجين عن الدين، ورغم أنّهم يوالون المحكّمة الاُولى _ وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي _ إلاّ أنّهم لم يوافقوا الأزارقة و من والاهم من بعده بل تبّرأوا منهم ولم يذهبوا مذهبهم .

وعلى ذلك فالخوارج هم غير الاباضية ولايمكن اعتبار الاباضية احدى فرقهم، وإلاّ فكيف نجمع بين النقيضين في صعيد واحد، وكيف نصف من يتمسّك بصحيح الإسلام، ولايكفّر أصحاب القبلة، ولايستحلّ دماء المسلمين ولا أموالهم إلاّ دفعاً لبغي أو ردّاً لعدوان؟....كيف نصف هؤلاء بأنّهم من

( 225 )

الخوارج الذين أبوا إلاّ مفارقة الجماعة والخروج عليهم واستعراض المسلمين بالسيف، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حقّها، وذهابهم إلى تكفير هؤلاء، وإذا كانت الاباضية قد والوا المحكّمة الاُولى إلاّ أنّ ولاءهم لم يكن لمن خرج من بعد ذلك على الدين، وكان سلوكهم مروقاً وعصياناً (1) .

2 _ الاباضية لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلاّ انكار الحكومة بين علي ومعاوية، وأمّا استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد، والحكم بكفرهم كفرَ شرك، فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية، وبه استباحوا حمى المسلمين ولمّا كان مخالفونا لايتورّعون، ولايكلِّفون أنفسهم مؤونة البحث عن الحق، ليقفوا عنده، خلطوا بين الاباضية الذين لايستبيحون قطرة من دم موحّد بالتوحيد الذي معه، وبين ما استحلّوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعاً لآبائهم، مع أنّ الفرق كبير جداً كالفرق بين المستحل والمحرّم .

ثمّ قال: إنّ تسمية

الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر، وإنّما هي انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ، المنكرين للتحكيم والراضين به، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا اللفظ بعد ثبوت الأمر لمعاوية والاستقرار ولم يفرّقوا في ذلك بين المتطرف وغيره (2).

3 _ إنّ الاباضية رغم اعتدالهم من الناحية المذهبية والفقهية إلاّ أنّهم كانوا في عداء سياسي مع دولة بني اُمية ودولة بني العباس لأنّهم كانوا يقولون بأنّ الإمامة أو الخلافة حق لأيّ مسلم صالح، فلا تكون قاصرة على قريش، ولا على بطونها المختلفة من الأمويين أو العباسيين أو العلويين، ولمّا كان هذا الموقف

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 212 .

2. أبو إسحاق السالمي: تحفة الأعيان : هامش الجزء الأوّل كما في الإمام جابر بن زيد العماني .

( 226 )

السياسي للاباضية يلتقي من الناحية النظرية ومن الناحية الفكرية البحتة مع الخوارج: الأزارقة والنجدات والصفرية، فقد عممّ كُتاب الفرق القول ووضعوا الاباضية ضمن هؤلاء الخوارج واعتبروهم فرقة رابعة من فرقهم، والاباضية أنفسهم كما هو موجود في كتبهم القديمة والحديثة يتبرّأون من هؤلاء الخوارج كل البراءة بل ويقاتلونهم بأشدّ قتال.

إنّ المذهب الاباضي لم يعرف بهذا الاسم إلاّ منذ الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة حينما غلب على أصحابه هذا الاسم واشتهروا به، وانّما أصحابه قبل ذلك يعرفون باسم جماعة القعدة وهو اسم له دلالته السياسية، وقد أطلقه عليهم جماعات الخوارج من الأزارقة وغيرهم احتقاراً لهم ورفضاً لمبدئهم: ذاك في القعود، فقد وضع هؤلاء القعدة لأنفسهم مبدأ المسالمة وعدم اشتهار السيف في وجه اخوانهم من المسلمين، وأجازوا لأنفسهم البقاء تحت حكم الجبابرة، وقالوا بعدم جواز قتل أطفال مخالفيهم ولا قتل نسائهم ولا

استحلال أموالهم وأخذوا يعملون على نشر مبادئهم السياسية في سرّيّة وكتمان، ودخلوا في مرحلة كتمان طويلة امتدّت منذ أن تأسّس المذهب على يد جابر بن زيد في أواخر القرن الأوّل للهجرة حتى هاجر معظم علماء المذهب وآخر أئمة الكتمان أبو سفيان محبوب بن الرحيل إلى عمان في أواخر القرن الثاني للهجرة(1) .

4 _ إنّ مذهب الاباضية لم يعرف بهذا الاسم في المصادر الاباضية إلاّ في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة وقد قبلت الاباضية بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ لأنّه غلب عليهم بمرور الزمن وصار علماً يلتفّون حوله، وإنّما يطلقون على أنفسهم قبل ذلك اسم «جماعة المسلمين» أو «أهل الدعوة» أو «أهل الاستقامة» وقد سمّاهم أعداؤهم من الخوارج المتطرّفين باسم «القعدة»

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 54 _ 56 .

( 227 )

احتقاراً لهم، لأنّهم طبقاً لوجهة نظر هؤلاء الخوارج، قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.

وكان هؤلاء القعدة قد رأوا القعود عن الحرب، وعن رفع السيف ضد اخوانهم المسلمين عقب موقعة النهروان التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب وجماعة المحكّمة الذين عارضوه لقبوله التحكيم، وقالوا: «لاحكم إلاّ لله» واشتهروا باسم «المحكّمة» أو «الشراة» أو «الحرورية» وأطلق عليهم خصومهم من أرباب الدولة الأمويّة اسم الخوارج (1).

5 _ إنّ الصفريّة اتّخذت الخروج بالسيف على الدولة وسيلة لتحقيق أهدافهم، فإنّ الصفريّة في بلاد المغرب اتّبعوا هذا الاسلوب في هذه المنطقة النائية، ولذلك رفعوا لواء الثورة ضدّ بني اُميّة منذ عام 122 .

وقد أظهر هؤلاء الصفرية من تطرّف شديد في معاملتهم لخصومهم سواء كانوا من العرب أم من البرير، فكانوا يستحلّون سبي النساء، ويستحلّون الأموال، يسفكون الدماء، وكانوا في حركتهم في

بلاد المغرب أقسى على الناس من حركة الأزارقة في بلاد المشرق، وقد وصل تطرّف البرير الصفرية إلى غايته عندما داهموا القيروان في عام 139، واحتلّوها وفعلوا بأهلها وبمساجدها ما تقشعرّ له الأبدان على يد قبيلة«ورفجومة» التي كان أهلها من غلاة الصفرية .

ثمّ بعد فترات تنقّلت قيادة البربر من الصفرية إلى الاباضية بعد أن ضاق البربر بعنف الصفرية وتطّرفهم المقيت، فضعف أمر الصفرية منذ ذلك الحين وذاب أغلبهم في الاباضية (2) .

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 12 _ 13 .

2. نفس المصدر: 53 .

( 228 )

6 _ المذهب الاباضي يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذهب أهل السنّة، ولايختلف معها إلاّ في مسائل قليلة، اختلاف مذاهب السنّة فيما بينها، فلا يخلو منها مذهب لايخالف غيره في قليل أو كثير من المسائل، وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسسّه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، بل انّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب، في انّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظهم إلاّ من التابعين، كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره، ليست إلاّ أحاديث وردت عند البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة (1).

7 _ اطلاق لفظ الخوارج على الاباضية من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصّب السياسي أوّلا ثمّ عن المذهبي ثانياً، لمّا ظهر غلاة المذاهب وقد

خلطوا بين الاباضية والأزارقة والصفرية والنجدية.

إنّ لاطلاق الخوارج على الاباضية سببين:

الف _ اشتراكهم مع سائر الخوارج في انكار التحكيم، فصار ذلك سبباً للجمع بين كل منكر للتحكيم في صعيد واحد.

ب _ إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر وإنّما انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة، ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب علىّ المنكرين للتحكيم والراضين به، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا الأمر بعد ثبوت الأمر لمعاوية، فإنّ

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر و المغرب: 60 .

( 229 )

الأمويين أطلقوا هذه التسمية على كل من يعارض ملكهم العضوض(1) ولم يفرّقوا بين الاباضية وبين سواهم من متطرّفي الخوارج(2) .

8 _ إنّ ابن اباض تبّرأ من الأزارقة في الرسالة التي كتبها إلى عبدالملك وجاء فيها: أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وضيعه وأبقاعه، لأنّه خرج عن مبادئ الإسلام فيما ظهر لنا و أحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم(3) .

نَظُرنا في الموضوع:

هذه كلمات القوم وهي تعبّر عن كونهم مصرّين على أنّهم ليسوا بخوارج ومن سمّاهم بذلك فقد ظلمهم، وبما أنّ الخوارج لم يكونوا ذوي سمعة حسنة، وكان المسلمون يتبرّأون من عقائدهم وأعمالهم، صار هذا هو الحافز لعلماء الاباضية على السعي البالغ من اخراج أنفسهم عن صفوفهم، وانّهم فرقة مستقلّة لاصلة لهم بالخوارج إلاّكونهم مشتركين في أصل واحد وهو انكار التحكيم .

ولعلّ القارىء، يتعجّب من الاطناب والافاضة في المقام وماهذا إلاّ لأجل اراءة منطق القوم فيما يتبنّونه لئلاّنبخس حقوقهم، فإنّهم كما عرفت يتّهمون المخالفين بعدم التورع في البحث وعدم تكليف الأنفس مؤونة الفحص عن الحق، ولكنّها غير لاصقة بنا، فإنّا كلّفنا أنفسنا مؤونة البحث ويشهد بذلك نقل كلماتهم، ومع هذا كل ما ذكروه

أشبه بالخطابة، وذلك:

____________________________

1. لازم ذلك أن يسمّوا الشيعة أيضاً باسم الخوارج .

2. صالح بن أحمد الصوافي، الإمام جابر بن زيد العماني: 213 _ 214، والكاتب غفل عن القريض المعروف في شأن أبي بلال المنتصر كما سيوافيك، وكانت الحادثة سنة 60 قبل فتنة الأزارقة .

3. الإمام جابر بن زيد العماني: 224، ونقلا عن الجواهر المنتقاة للبرادي: 156 _ 167 .

( 230 )

أوّلا: إنّ هذه الكلمات تحكي أنّ الاباضية أوّل من خطّ خطّ الاعتدال ومشى على ضوئه، واكتفى بالعزلة والقعود ولم يحارب الناس، ولم يعترضهم، ولكنّه في غير محلّه إذ لو صحّ كلّ ذلك في عبدالله بن اباض فراسم هذا الخط هو أبو بلال مرداس بن جدير، فإنّه أوّل من ندّد بعمل الخوارج في اعتراضهم الناس و نهب أموالهم، وكان ينادي بأعلى صوته بأنّه لا يحارب الاّ من حاربه ولايروّع أحداً ولا...ولا...فعلى ذلك يجب أن يقال: إنّ مبدىء هذه الكفرة هو أبوبلال المقتول عام«60» وقد كان أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب _ صلوات الله عليه _ وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا(1) .

ثانياً: إنّ الحجر الأساس لفرقة الخوارج هو التطّرف والخروج عن الاعتدال، وإن كان للتطرّف مدارج ومراحل، فالقوم من بدو الخروج على علي وانكار التحكيم عليه بعدما فرضوه عليه، كانو متطرّفين، لا يحترمون دماً ولاعرضاً. إنّ تخصيص التطرّف بالأزارقة، والنجدات، والصفرية بزعم أنّهم هم الذين كانوا يستعرضون المسلمين، ويستحلّون دماءهم، ويكفّرون أهل القبلة، كلام فارغ عن الحجّة، بل الحجة على خلافه، فإنّ المحكّمة الاُولى وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي أيضاً كانوا من المتطرّفين، ويظهر ذلك من خطب هذا الراسبي وكلماته التي ألقاها في الحروراء، وقد نقلنا بعض كلماته في

الفصل السادس، وإليك لقطات منها:

قال مخاطباً إخوانه عند الشخوص من الحروراء إلى النهروان: فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضرّة(2) .

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/183 ومرّ تفصيله.

2. مرّ المصدر في الفصل السادس .

( 231 )

ماذا يريد من قوله: الظالم أهلها، وهل يريد بلدة الكوفة وأهلها الملتفّين حول الإمام علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ ؟ والحال انّ الآية نزلت في حق المشركين قال سبحانه:( وِمالَكُمْ لاتُقاتِلُونَ فِى سَبِيِلِ اللهِ وِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجال وَالنِّساءِ وَ الوِلْدانِ الّذيِنَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نصِيراً)(1).

إنّ المحكّمة الاُولى هم الذين بقروا بطن زوجة عبدالله بن خباب بن الأرت، ذلك التابعي العظيم، ولم يكتفوا بذلك، فذبحوا زوجها كما يذبح الكبش، بعدما أعطوه الأمان، وهم الذين قتلوا ثلاث نسوة من طي، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية، كل ذلك ارتكبوه بعد ما انتقلوا من الحروراء إلى النهروان، ولمّا بلغ عليّاً هذه الجنايات المروِّعة عمد إلى مقاتلتهم بعد ما أتمّ الحجّة عليهم .

وأيّ دليل على تطرّفهم أتقن من توصيف الإمام إيّاهم بقوله: «سيوفكم على عواتقكم، تضعونها مواضع البُرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب»(2) .

أبعد هذا يصحّ للاُستاذ صالح بن أحمد الصوافي تخصيص التطرّف بالخوارج الذين جاءوا بعدهم.

هذا هو شبيب، مساعد ابن ملجم في قتل علي، دخل على معاوية في الكوفة بعد قتل عليّ، ولمّا وقف معاوية على أنّه فيها، بعث إلى الأشجع لأن يخرجه من الكوفة، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله.(3)

____________________________

1. النساء 75 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة

127 .

3. ابن الأثير: الكامل 3/206 .

( 232 )

وهذا هو قريب بن مرّة وزحاف الطائي قد خرجا في امارة زياد بن أبيه فاعترضا الناس، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: «الحرورية»!!!

انج بنفسك، فنادوه (قريب وزحاف ومن معهما): لسنا حرورية، نحن الشرط، فوقف فقتلوه، ثمّ جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا حتى مرّا على بني علي بن سود من الأزد، وكانوا رماة فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا! لارماء بيننا. قال رجل من بني علي:

لاشيء للقوم سوى السهام * مشحوذة في غلس الظلام

ففرّ عنهم الخوارج إلى ان واجهوا بنو طاحية من بني سود، وقبائل من مزينة وغيرها، ووقعت الحرب فقتل الخوارج عن آخرهم، وقتل قريب وزحاف(1) .

ما ذكرنا نماذج من استعراضهم للناس وقتلهم الأبرياء، قبل قيام ابن الأزرق بالدعوة، فإنّ ماذكرنا يرجع إلى عهد علي وما بعده بقليل، وأمّا فتنة الأزارقة والنجدات فهي راجعة إلى عصر ابنه يزيد بن معاوية فهي من حوادث بعد الستين.

ثالثاً: إنّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلاوجه، فقد اُطلق هذا اللفظ في عصر عليّ على هؤلاء أي على عبدالله بن وهب الراسبي وذي الخويصرة ومن قتل معهما في وقعة النهروان:

هذا هو الإمام علي بن أبي طالب _ بعد ما خرج من قتال الخوارج في ضفة النهر مرفوع الرأس _ قال: لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطاه

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/180 .

( 233 )

كمن طلب الباطل فأدركه(1). فلو كانت هذه الكلمة لعلي كما هوالمقطوع لكان دليلا على أنّ القوم في بدء نشوئهم كانوا مسمّين بهذا الاسم، وإن

كان لغيره فالظاهر أنّ ذلك الغير هو الموالي للخوارج بقرينة مدحهم في ذيل الجملة، فكان شاهداً على أنّ القوم كانوا مسمّين بهذا الاسم منذ البداية.

ويظهر ممّا نظمه نفس الخوارج من الأشعار أنّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية أي قبل الستين وقبل أنّ يتسنّم الأزارقة والنجدات منصّة القيادة يقول عيسى بن فاتك من بني تميم تأييداً لموقف أبي بلال مرداس به ادية الذي قتل عام 60 في أبيات :

أألفا مؤمن فيما زعمتم * ويهزمهم بآسك أربعونا؟

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم * ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شكّ * على الفئة الكثيرة ينصرونا(2)

ويُستنتج من ذلك الأمرين: أنّ الخوارج اُطلق يوم اُطلق على من خرج عن طاعة أمير المؤمنين وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوائلهم ومن بعدهم.

رابعاً: لاشك إنّ المحكّمة الاُولى كانوا يبغضون عليّاً ويكفّرونه، وتشهد بذلك كلماتهم و أشعارهم خصوصاً في مفاوضاتهم مع عليّ، وقد تضافرت الروايات أنّ حبّه آية الإيمان وبغضه آية النفاق، ولايمكن لعالم ملّم بالأحاديث انكار ذلك .

هذا هو مسلم روى في صحيحه عن زر بن حبيش قال: قال عليّ: والذي

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .

2. المبرّد: الكامل 2/186، ابن سلاّم (م273) بدء الاسلام وشرائع الدين: 111، مرّت قصة أبي بلال .

( 234 )

خلق الجنّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الاُميّ إليّ لايحبّني إلاّ مؤمن ولايبغضني إلاّ منافق(1) .

وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن زرّ بن حبيش، عن علي قال: عهد النبي إليّ أنّه لايحبّك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق (2) .

ورواه النسائي في خصائصه بعدّة طرق(3) .

ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخه بأسانيد تربو على 18 طريقاً(4) .

وعلى ضوء ذلك فهؤلاء محكومون بالنفاق والخلود في النار،

فيشملهم قول النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في شأن ذي الخويصرة الذي كان في الرعيل الأوّل من المحكّمة: فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة (5) .

روى المبرّد في الكامل أنّ عليّاً(رضي الله عنه) وجّه إلى رسول الله مذهّبة من اليمن فقسّمت أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن جالس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري، وربعاً لعلقمة بن علاثة الكلابي، فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتئُ الجبهة فقال: لقد رأيت قسمة مااُريد بها وجه الله، فغضب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ حتى تورّد خداه، ثم قال: أيأمنني الله عزّوجلّ على أهل الأرض ولاتأمنوني؟ فقام إليه عمر فقال: أقتله يا رسول الله؟ فقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إنّه سيكون من

____________________________

1. مسلم: الصحيح 1، كتاب الايمان 60 .

2. أحمد بن حنبل: المسند 1/127. الحديث 948، وفضائل الصحابة 2/563، ونقله في كتابه الأخير في غير واحد من المواضع، لاحظ الأحاديث 979، 1059، 1086، 1146 .

3. الحافظ أبو عبدالرحمان النسائي: الخصائص 187 .

4. ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 2/190 _ 199 .

5. ابن هشام: السيرة النبوية 4/496. ابن الأثير: الكامل 2/164 .

( 235 )

ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلاترى، شيئاً، وتنظر في الرصاف فلاترى شيئاً، وتتمارى في الفوق(1) .

إنّ المحكّمة الاُولى كفّروا من طهّره الله سبحانه في كتابه وقال: (إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبُ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَ يُطَهَركُمْ تَطْهِيراً)(2) وقد اصفقت الاُمّة إلاّ الشواذ من الخوارج كعكرمة على نزول

الآية في حقّ العترة الطاهرة، هذا هو مسلم يروي في صحيحة عن عائشة، قالت: خرج النبي غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود وجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(3) .

وروى إمام الحنابلة في مسنده نزول الآية في شأن الخمسة الطاهرة، فمن أراد فليرجع إلى مظانّه(4) .

إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حقّ أهل البيت .

أفيصحّ لنا الحكم باسلام من يكفّر ويبغض ويقاتل من طهّره الله في نصّ كتابه، ومحكم ذكره؟

ولأجل ذلك فالمحكّمة الاُولى محكومون بالكفر والنفاق وإن افترضنا أنّهم اكتفوا بانكار التحكيم فقط، ولم يستعرضوا المسلمين بالسيف ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال ولاكفّروا المسلمين .

وفي كلمات أئمّة أهل بيت اشارة إلى هذا النوع .

____________________________

1. المبرّد: الكامل 2/142 .

2. الأحزاب: 33 .

3. مسلم: الصحيح 7/130 .

4. أحمد بن حنبل: المسند: 4/107 و 6/292، 296 و 323 .

( 236 )

كان عبدالله بن نافع بن الأزرق يقول: لو عرفت أنّ بين قطريها أحداً تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنّ عليّاً _ عليه السَّلام _ قتل أهل النهروان وهو غير ظالم، لرحلتها إليه، فقيل له: إئت ولده محمّد الباقر _ عليه السَّلام _ فأتاه فسأله، فقال بعد كلام: الحمد لله الذي أكرمنا بنوبّته، واختصّنا بولايته، يامعشر أولاد المهاجرين و الأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين، فليقم وليحدّث، فقاموا ونشروا من مناقبه فلمّا انتهوا إلى قوله: لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله، سأله أبو جعفر عن صحّته فقال: هو حقّ لاشكّ فيه، ولكن عليّاً أحدث الكفر بعد.

فقال أبو جعفر

_ عليه السَّلام _ : أخبرني عن الله أحبّ علي بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان، أم لم يعلم، إن قلت: لا، كفرت، فقال: قد علم، فقال: فأحبّه على أن يعمل بطاعته أم على أن يعمل بمعصيته؟ قال: على أن يعمل بطاعته، فقال أبو جعفر: قم مخصوماً، فقام عبدالله بن نافع ابن الأزرق وهو يقول: حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، اللهُ يَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه (1) .

روى الشريف المرتضى عن الشيخ المفيد: أحبّ الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبدالله بن يزيد الاباضيّ(2) وجلس بحيث يسمع كلامهما ولايرى القوم شخصه، وكان بالحضرة يحيى بن خالد، فقال يحيى لعبدالله بن يزيد: سل أبا محمّد _ يعني هشاماً_ عن شيء، فقال هشام: لا مسألة للخوارج علينا، فقال

____________________________

1. ابن شهر آشوب: مناقب آل آبي طالب: 2/289 كما في البحار 10/158 .

2. ترجمه ابن حجر في لسان الميزان 3 / 387 بقوله: عبدالله بن يزيد الفزاري الكوفي المتكلّم، ذكره ابن حزم في النحل: انّ الاباضية من الخوارج أخذوا مذهبهم عنه .

( 237 )

عبدالله بن يزيد، وكيف ذلك؟ فقال هشام: لأنّكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله، ثمّ فارقتمونا في عداوته والبراءة منه، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا، ودعواكم غير مقبولة علينا، إذ الاختلاف لايقابل الاتّفاق، وشهادة الخصم لخصمه، مقبولةٌ، وشهادته عليه مردودة.

قال يحيى بن خالد: لقد قرَّبت قطعه يا أبامحمّد، ولكن جاره شيئاً، فإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يحبّ ذلك، قال: فقال هشام: أنا أفعل ذلك، غير أنّ الكلام ربّما

انتهى إلى حدّ يغمض ويدق على الأفهام، فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه، فإن أحبّ الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا، إن خرجت عن الطريق ردَّني إليه، وإن جار في حكمه شهد عليه، فقال عبدالله بن يزيد: لقد دعا أبومحمّد إلى الإنصاف، فقال هشام: فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من أصحابي، أو من أصحابك، أو مخالفاً للملّة أو لنا جمعياً؟ قال عبدالله بن يزيد: اختر من شئت فقد رضيت به، قال هشام: أمّا أنا فأرى أنّه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبيّة لي، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم عليَّ، وإن كان مخالفاً لنا جميعاً لم يكن مأموناً عليّ ولا عليك، ولكن يكون رجلا من أصحابي، ورجلا من أصحابك، فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحقّ ومحض الحكم بالعدل، فقال عبدالله بن يزيد: فقد أنصفت يا أبامحمّد، وكنت أنتظر هذا منك.

فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له: قد قطعته أيّها الوزير، ودمّرت (1) على مذاهبه كلّها بأهون سعي، ولم يبق معه شيء، واستغنيت عن مناظرته، قال: فحرّك الرشيد الستر، فأصغى يحيى بن خالد فقال له: هذا متكلّم الشيعة وافق

____________________________

1. دمّر عليه: هجم عليه هجوم الشر. دمّر عليه: أهلكه .

( 238 )

الرجل موافقة لم تتضمّن مناظرة، ثمّ ادّعى عليه أنّه قد قطّعه وأفسد عليه مذهبه، فمره أن يبيّن عن صحّة ما ادّعاه على الرجل، فقال يحيى بن خالد لهشام: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحّة ما ادّعيت على هذا الرجل، قال: فقال هشام رحمه الله: إنّ هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ حتّى كان من أمر

الحكمين ماكان، فأكفروه بالتحكيم وضلّلوه بذلك، وهم الّذين اضطرّوه إليه، والآن فقد حكّم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختاراً غير مضطرّ رجلين مختلفين في مذهبهما: أحدهما يكفّره، والآخر يعدّله، فإن كان مصيباً في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب، وإن كان مخطئاً كافراً فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليّاً _ عليه السَّلام _ قال: فاستحسن ذلك الرشيد و أمر بصلته وجائزته(1) .

إنّ عداء القوم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين كانت ظاهرة في كتب أوائلهم، هذا هو محمّد بن سعيد الكدمي أحد علماء المذهب الاباضي بعمان، حتى لُقّب بإمام المذهب في القرن الرابع الهجري يذكر عليّاً في كتابه ويقول:

«إنّ علي بن أبي طالب استخلف على الناس، ونقض عهد الله وحكم في الدار غير حكم كتاب الله، وقتل المسلمين وسار بالجور في أهل رعيّته، فعلى الذي قد صحّت منه سعادة عليّ بن أبي طالب أن يتولّى لله علي بن أبي طالب على سفكه لدماء المسلمين وعلى تحكيمه في الدماء غير حكم كتاب الله، وسيرته القبيحة، لا يحلّ له الشك في ولايته، وعليه أن يبرأ لله من باطله ومن سفك دمه إن قدر على ذلك، وليس له أن ينكر على المسلمين

____________________________

1. الشريف المرتضى: الفصول المختارة 1/26 .

( 239 )

البراءة منه» (1) .

وهذا هو ابن سلاّم الاباضي المتوفّى بعد عام 273 يقول: «وحكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله، وحكّموا الحكمين في أمر قضاه الله، واختلفت الاُمّة وتفرّقت الكلمة، وصار الناس شيعتين مفترقتين، وظهر أهل الباطل من أصحاب معاوية على أهل الحق، فاختفى المسلمون بالحقّ الذي تمسّكوا به فاختلفت عليهم كلمة المختلفين، يقتلونهم على دين الله الحنيف والملّة الصادقة ( مِلَّةَ

إبْراهيِمَ حَنيِفاً وَ ما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ )(2). يبصّرون الناس دينهم في السرّ ويصبرون في الله على الأذى والقتل، واحتقروا ذلك في ذات الله» (3) .

ياليت ابن سلاّم يشير إلى الذين حكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله، إلى الذين فرضوا التحكيم على الإمام المفترض طاعته في أمر قضاه الله. أو ليس هؤلاء أشياخه وأولياءه الذين كانوا مقنّعين في الحديد يدعون إمامهم باسم عليّ لابإمرة المؤمنين، ويقولون: «أجب القوم إلى كتاب الله وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان» .

إنّ الكاتب نسى أو تناسى الجرائم المريرة التي ارتكبتها المحكّمة الاُولى حين تنقّلهم من حروراء إلى النهروان. فكان الأولى له التنويه بذلك، لكّنه شطب على هذه الحقائق التاريخية بقلم عريض، وإلى الله المشتكى .

يقول بعض فقهائهم في مسألة «الولاية والبراءة» .

فإن قالوا: فما تقولون في علي بن أبي طالب؟ قلنا له: إنّ علي بن أبي طالب مع المسلمين في منزلة البراءة .

____________________________

1. الكدمي _ محمّد بن سعيد: المعتبر 2/41 .

2. البقرة: 135 .

3. ابن سلام الاباضي: بدء الاسلام وشرائع الدين 106 .

( 240 )

فإن قال: من أين وجبت عليه البراءة وقد كان إماماً للمسلمين وهو ابن عم رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وختنه (1)، مع فضائله المشهورة وقتاله بين يدي النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ المشركين؟

قلنا له: أوجبنا عليه البراءة من وجوه شتّى، أحدها أنّه ترك الحرب التي أمر الله بها للفئة الباغية قبل أن تفئ إلى الله، و أحدها تحكيم الحكمين في دماء المسلمين وفيما لم يأذن الله به المضلّين الذين كان النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يحذّرهما ويخوّفهما أصحابه.

وأحدهما بقتله أهل النهروان وهم الأفضلون من أصحاب النبي

_ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وهم الأربعة آلاف رجل من خيار الصحابة رحمهم الله. والأخبار بذلك تطول ويضيق بها الكتاب ويتّسع بها الجواب ولم نعدّ كتابنا هذا لشرح جميع أخبارهم، وإنّما أردنا أن نلوّح لكم ونذكر بعض الذي كان من أحداثهم، لتكونوا من ذلك على علم ومعرفة لتعلموا ضلال من ضلّ وخالف وشغب عليكم وبالله التوفيق.

فإن قالوا: فما تقولون في طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام؟ قلنا له: إنّهما عند المسلمين بمنزلة البراءة.

فإن قال: من أين وجبت عليهما البراءة؟ قلنا له: بخروجهما على علي بن أبي طالب والمسلمين وطلبهما بدم عثمان بن عفان بإرادتهما إزالة علي بن أبي طالب عن إمامته، وقالا: حتى يكون الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم إماماً غيره، بعد رضائهما به وبيعتهما له وأعطيا صفقة أيديهما (2) على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى قتال من خرج يطلب بدم

____________________________

1. الختن: الصهر، زوج الابنة، والجمع: أختان .

2. صفقة الأيدي تعني توكيد البيعة .

( 241 )

عثمان بن عفان .

فإن قال: فما تقولون في الحسن والحسين ابني علي؟ قلنا له: هما في منزلة البراءة، فإن قال: من أين أوجبتم عليهما البراءة وهما ابنا فاطمة ابنة رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟! قلنا له: أوجبنا عليهما البراءة بتسليمهما الإمامة لمعاوية بن أبي سفيان وليس قرابتهما من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ تغني عنهما من الله، لأنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال في بعض ما أوصى به قرابته: يا فاطمة بنت رسول الله، ويا بني هاشم، اعملوا لما بعد الموت، فإنّي ليس أغني عنكم شيئاً، أو نحو ذلك من الخطاب. فلو كانت القرابة

من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ تغني عن العمل لم يقل ذلك لهم النبي. فهذا نقض لقول من يقول: إنّ القرابة من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ مغفور لها. وقد وجدنا الله يهدّد نبيه بقوله: (وَ لِوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ* لاََخَذْنا مِنْهُ بِالَْيمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حاجِزِينَ)(1). فقد بطل ما خاصمت به أيّها الخصم واحتججت به من قبل القرابة للنبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ (2) .

إنّ الخوارج في مصطلح القوم مفهوم سياسي وفي الوقت نفسه مفهوم ديني، فيراد من الأوّل خروجهم عن طاعة الإمام المفترض طاعته، ويحكم عليهم بما يحكم على البغاة، ويراد من الثاني خروجهم من الدين والملّة، وصيرورتهم كفّاراً.

وعلى كلا المفهومين، فالمحكّمة الاُولى خوارج، حيث خرجوا عن

____________________________

1. الحاقة: 44 _ 47 .

2. السير والجوابات لبعض فقهاء الاباضية: تحقيق الاستاذة الدكتورة «سيدة إسماعيل كاشف، استاذة التاريخ الاسلامي في كلية البنات جامعة عين شمس; القاهرة ط 1410 ه_ _ 1989 م، ص 375 _ 377.

( 242 )

طاعة الإمام وبقوا عليه في أثناء المعركة، وخارجون عن الدين حيث أبغضوا من بغضه نفاق وكفر وحبّه دين وإيمان.

وقال عمر أبوالنظر:

وتعاليم الخوارج منذ ظهورهم مزيج من السياسة والدين، فشعارهم «الحكم لله» شي يمتزج بالدين والسياسة معاً، فلا يصحّ والحالة هذه أن يقال: إنّ دعوتَهم هذه كانت دينيّة محضة أو سياسية محضة، وظلت دعوتهم بسيطة حتى خلافة عبدالملك بن مروان حيث خرجوا فيها كثيراً عن التعاليم الجديدة، وذهبوا يتأوّلون الأحكام الدينية تأويلا فيه كثير من الاغراق و التعقيد، فقالوا: إنّ العمل بأوامر الدين من الايمان، فمن اعتقد التوحيد والرسالة وارتكب

الكبائر فهو كافر(1) .

هذا ما يرجع إلى المحكّمة الاُولى ومن جاء بعدهم من الأوائل المنتمين إلى الاباضية .

وأمّا اباضية اليوم المنتشرة في عمان والمغرب العربي أعني ليبيا والجزائر وتونس وكذلك مصر، فلم يظهر لنا من كتبهم المنتشرة اليوم إلاّ تخطئة التحكيم وتصويب المحكّمة الاُولى من دون نصب عداء للوصيّ أو بذاءة في اللسان بالنسبة إليه _ إلا ما نقلناه أخيراً _ فلايمكن الحكم في حقّهم إلاّ بالمقدار الذي ظهر لنا ولكن لايمكن الوثوق به لأنّ للقوم في الدين مسالك أربعة، منها مسلك الكتمان كما سيوافيك توضيحه عند البحث عن التقّية، فإنّ القوم من أصحابها ومجوّزيها والعاملين بها طيلة قرون، وفي ظلّها عاشوا ومهّدت لهم الطريق، وقامت لهم دول في عمان، وفي أقصى المغرب العربي .

____________________________

1. عمر أبو النضر: الخوارج في الإسلام 102 .

( 243 )

نظرية اُخرى في مفهوم الخوارج :

المتبادر من الخوارج لدى المسلمين هو المحكّمة الاُولى الذين ثاروا على عليّ في ثنايا حرب صفّين وخرجوا عن الطاعة بوجه وعن الدين بوجه آخر، غير أنّ بعض الاباضيين في العصر الحاضر يفسّره بالخروج عن الدين ويصّر على أنّ المراد منه هو أصحاب الردّة بعد وفاة رسول الله أو الثورات الاُخرى التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام علي _ عليه السَّلام _ (1) .

قال علي يحيى معمر:

«كان الأمويّون والشيعة يحاولون بكل ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب لقب الخوارج _ بعد أن فسّر بالخروج من الدين _ بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في اصرار وشدّة بالمبادىء العادلة في الخلافة، وكان الشيعة يحاولون بما اُوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي، كما كان غير هم من الطامعين فيها، يشترط لها الهاشمية أو القرشية أو العروبة، حسب المصلحة السياسية

لأصحاب الآراء في ذلك الحين، وكلّ هذه الاّتجاهات تجتمع على محاربة الاّتجاه الذي اتجه إليه أتباع عبدالله بن وهب الراسبي. ذلك الاّتجاه العادل الذي يرى أن ّ المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. ( إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُم). «لا فضل لِعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى» .

يلاحظ عليه:

أنّ النبيّ الأكرم لم يتكلّم عن الخوارج بوصف كلّي وإنّما عيّن إمامهم وأشار إلى قائدهم، وقد رواه المحدّثون في صحاحهم ومسانيدهم وأطبق على نقله الفريقان، فلا يمكن لمحدّث واع انكاره، ولا التشكيك في صحّة أسانيده، فما ظنّك بحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد بن حنبل وغيرهم،

____________________________

1. علي يحيى معمر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 27 .

( 244 )

ولأجل ايقاف القارىء على نصّ الرواية نذكرها عن تلك المصادر ونشير إلى محلّها:

1 _ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: بينا النبي يقسّم ذات يوم قسماً، فقال ذو الخويصرة _ رجل من بني تميم _: يا رسول الله أعدل. قال: ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر: إئذن لي فلأضرب عنقه؟ قال: لا إنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يمرقون من الدين كمروق السهم من الرميّة ينظر إلى نصله (1) فلايوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيّه (2) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه (3) فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فرقة من الناس آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر(4). قال أبو سعيد: أشهد لسمعته عن النبي وأشهد أنّي كنت مع عليّ حين قاتلهم فالتمس في القتلى فأتى به على النعت الذي نعت النبي

(5) .

ورواه بنصّه بلا تفاوت مسلم في صحيحه (6) .

2 _ روى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله، قال: كان رسول الله بالجعرانه، وهو يقسّم التبر و الغنائم، وهو في حجر بلال، فقال رجل: أعدل يا محمّد، فإنّك لم تعدل، فقال: ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم اعدل؟ فقال عمر: دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال رسول الله: إنّ هذا في

____________________________

1. هي عصية تلوى فوق مدخل النصل .

2. هو القدح في عود السهم .

3. جمع القُذّة وهي ريش السهم .

4. تضطرب وتتحرك.

5. البخاري: الصحيح 8/70 رقم الحديث 186 من باب ما جاء في قول الرجل ويلك.

6. مسلم: الصحيح 3/112 طبعة محمّد على صبيح .

( 245 )

أصحاب أو اصيحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة(1) .

والرسول وإن لم يسمّ الرجل أو لم يجيء اسمه في الرواية، ولكن علم المقصود منه بفضل الروايتين السابقتين.

3 _ روى أحمد بن حنبل في مسنده بالنصّ الذي رواه البخاري ومسلم بتفاوت طفيف في آخره، حيث جاء فيه: رجل أسود في إحدى يديه أو قال إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس فنزلت فيهم:(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ...)ثم نقل ما ذكره أبوسعيد من سماعه عن رسول الله و مشاهدته في عصر عليّ(2) .

كيف يفسّر حديث ذي الخويصرة بأصحاب الردّة، فقد أشار النبيّ الأكرم إليه، وقال: «سيخرج من ضئضىء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين...» ولم يكن هو من أصحاب الردّة، بل كان من المحكّمة الاُولى. كيف يفسرّ هذا المفهوم بالثورات التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام عليّ _ عليه السَّلام _

مع أنّ النبي الأكرم قال: أنت يا علي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ولم يقاتل الإمام بعد أصحاب الجمل (الناكثين) وأصحاب معاوية (القاسطين) إلاّ المحكّمة الاُولى.

أظنّ انّ هذه الاستدلالات الواهية أشبه بتمسّك الغريق بالطحلب، فالأولى على علماء الاباضية المفكّرين، والعائشين في عصر ظهرت البواطن، وطلعت الحقائق، وانقشع غمام الجهل عن سماء المعرفة، أن يعرضوا عقائدهم على الكتاب والسنّة، وعلى المقاييس الصحيحة من الاجماع و

____________________________

1. أبو عبدالله بن ماجة (207 _ 275 ه_): السنن 1/171 الباب 12، باب في ذكر الخوارج .

2. أحمد بن حنبل: المسند 3/56. وسيوافيك مجموع ما رواه اهل السنّة عن النبي والصحابة والتابعين في آخر الكتاب فانتظر .

( 246 )

العقل، فلربّما عادوا إلى الطريق المهيع، وتنكّبوا عن سبيل الغواية، فلهم أن يعملوا بما وصل إليهم من الكتاب والسنّة في ضوء الاجتهاد الصحيح، ويجدّدوا النظر في مسألة التحكيم كما لهم أن يجدّدوا النظر في حق المحكّمة، وربّما اختاروا طريقاً واضحاً لاتعصّب فيه ولا تساهل .

( وَ لَوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ واَشدٌّ تثبيتاً)

***

الفصل العاشر عقائد الاباضية واُصولهم الثمانية

الفصل العاشر عقائد الاباضية واُصولهم الثمانية

( 248 )

( 249 )

إنّ الاباضية تشترك مع سائر فرق الخوارج في أمرين بلاشك ولاشبهة، ولا يمكن لأحد منهم انكاره .

1 _ تخطئة التحكيم .

2 _ عدم اشتراط القرشية في الإمام .

وفي ظل الأصل الأوّل يوالون المحكِّمة الاُولى كعبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي وغيرهما، ولأجل الأصل الثاني، اعترفوا بإمامة عبدالله بن وهب الراسبي ومن جاء بعده من المحكِّمة .

ثمّ إنّ لهم اُصولا خاصّة يتميّزون بها عن أهل السنّة (الأشاعرة) وإن كانوا يلتقون فيها مع غيرهم، فتجب علينا دراسة تلك الاُصول التي يعتقدون بها، وربّما يكون بعضها

أصلا لامعاً ورصيناً يدعمه الكتاب والعقل .

1 _ صفات الله ليست زائدة على ذاته:

إذا كانت الأشاعرة قائلة بأنّ صفات الله تعالى غير ذاته، وكان المنسوب إلى الماتريدية من أهل السنّة انّ الصفات ليست شيئاً غير الذات، فهي ليست

( 250 )

صفات قائمة بذاتها ولا منفكّة عن الذات فليس لها كينونة مستقلّة عن الذات، فهذا هو ما يقوله الاباضية في الصفات أيضاً، وربّما يلتقي الاباضية والماتريدية في هذه المسألة حتى في التعبير واختيار الكلمات(1) .

إنّ البحث عن الصفات من أهم المسائل الكلامية، فقد طال النقاش فيها قروناً، وأوّل من أصحر بالحقيقة، وصوّر التوحيد بأعلى مظاهره هو الإمام أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ فنفى زيادة صفاته على ذاته، وإنّه عين ذاته، لا بمعنى نفي صفاته، تعالى عنه علوّاً كبيراً، بل بمعنى أنّ الذات بلغت من الكمال والعلو مرتبة صارت نفس العلم، والقدرة، والحياة، وليس هناك صفات قديمة وراء الذات حتى يناقض التوحيد ويكون هناك قدماء كثيرة وراء الذات، وكون العلم والقدرة والحياة فينا اُموراً قائمة بالمادة أو بالموضوع، لايكون دليلا على كونها كذلك في جميع المراتب، إذكما أنّ من العلم ممكناً، فكذا منه واجباً، فلولم يكن الممكن قائماً بالذات، فلايكون دليلا على كونه كذلك عند ما كان واجباً، والحكم بالتوحيد وانّه لاواجب سواه، يجرّنا إلى القول بعينية صفاته مع ذاته، وقد أوضحنا الحال فيها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة، ولايبعد أن يتأثّر الخوارج في هذه المسألة بالمعتزلة كما أنّ المعتزلة اخذت هذا الأصل من خطب الإمام أميرالمؤمنين وكلماته، بل لايبعد أن يكون الجميع قد أخذوا من الإمام أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ .

والعجب انّ هذه النقطة من النقاط الوضّاءة في عقائد

الاباضية، مع أنّهم لايركّزون على ذلك الأصل خوفاً من مخالفة الأشاعرة، وطفقوا يبحثون بين الكتب الإسلامية حتى يجدوا موافقاً لهم من أهل السنّة حتى استبان لهم أنّ الماتريدية من أهل السنّة يوافقونهم .

____________________________

1. علي يحيى معمر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/295 .

( 251 )

إنّ الرجل الواعي الطالب للحقيقة لا يخاف من لومة لائم، ولا من مخالفة فئة، فكان على الاباضية أن يرفعوا علم المخالفة في هذه المسألة، وفي مسألة الرؤية، وخلق القرآن، ويندّدوا بالمخالفين سواء أكانوا من السنّة أو غيرهم، فالحق أحق أن يتّبع، كيف يصحّ لموحّد أن يقيس الواجب بالممكن فيصوّر له ذاتاً وصفة قائمة بها، ويحكم بالتعدّد ويخرج في النتيجة بالقدماء الثمانية ثمّ يدّعي التوحيد ويخطّىء النصارى القائلين بالتثليث.

ثمّ إنّ من يرى أنّ مرجع عينية الصفات إلى نفي حقائقها عن ذاته، (كما عليه الزنادقة) رأي باطل صدر ممّن لاقدم له في المباحث العقلية، وليس له مصدر إلاّ قياس الممكن بالواجب، فإذا رأى أنّ القول بالعينيّة ينتج نفيها في الممكنات، عاد يخطّىء القائل بالعينيّة في الواجب بأن معناها نفي حقائقها عن ذاته سبحانه .

2 _ امتناع رؤية الله سبحانه في الآخرة: إنّ امتناع رؤية الله سبحانه من الاُصول التي استقاها الوعاة من المسلمين من القرآن الكريم وخطب سيّد الموحّدين أميرالمؤمنين _ عليه السَّلام _ إذ قال عزّ من قائل: ( لا تُدْرِكَهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)(1).

وهذا الأصل أيضاً من الاُصول اللامعة في عقائد الاباضية، والأسف انّ الكُتّاب المتأخّرين منهم يُقلِّلون من أهمية هذا الأصل، توخّياً لتقريب عقائدهم من أهل السنّة. حتى أنّ علي يحيى معمَّر يُعَنْوِنُ المسألةَ بقوله: هل رؤية الباري جلّ وعلا في الآخرة ممكنة؟ والعنوان يحكي عن

وجود ترّدد وشك في نفس الكاتب، ولا أقل يطرح المسألة على شكل غير قطعي وعلى خوف ووجل،

____________________________

1. الأنعام: 103 .

( 252 )

وليس كتابه كتاباً دراسياً يطلب فيه طرح المسائل على وجه السؤال والاستفهام.

ثمّ إنّه يكتب: قد كان في الرؤية طرفان متطرّفان ووسط معتدل هوكان اللقاء بين المذهبين، وذلك إنّ طرف الاثبات يبالغ حتى يصل به التطرّف إلى حدّ التشبيه والتمثيل والتحديد، وطرف النفي يبالغ حتّى يصل به التطرّف إلى حد نفي حصول كمال العلم، وبينهما يقف أصحاب التحقيق في الجوانب المتقاربة التي تلتقي في المعنى الواحد لقاءً كاملا أو لقاءً متقارباً، وهذه الصورة تتمثّل فيما ذهب إليه بعض علماء أهل السنّة من أنّ الرؤية معناها حصول كمال العلم بالله تبارك وتعالى، وعبَّر عنها آخرون منهم بأنّ الرؤية تقع بحاسّة سادسة هي كمال العلم، واختلفت تعابير الكثير منهم ولكنّها تتلاقى في النهاية على نفي كامل الصورة التي يتخيّلها الإنسان لصورة راء ومرئىّ وما تستلزمه من حدود وتشبيه، وتتّفق في النهاية على الابتعاد عمّا يشعر بأيّ تشبيه في أيّ مراتبه، وبالمحدودية في أيِّ أشكالها، وليس لنا أن نخوض فيه بغير القدر التي جاءت به النصوص .

والمعتدلون من الاباضية لايمنعون أن يكون معنى الرؤية هو كمال العلم به تعالى ويمنعون الرؤية بالصورة المتخّيلة عند الناس(1) .

عزب عن الكاتب انّ محلّ النزاع من القرن الأوّل إلى القرون المتأخّرة ليس إلاّ الرؤية بالأبصار لابحاسّة سادسة سمّاها كمال العلم، فإنّ القائلين بالرؤية يستندون إلى ما رواه البخاري وأمثاله من أنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «إنّكم ترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر غير متضامّين»، فليس للمحقّق الكلامي إلاّ موافقة هذا الأصل أو طرده من الرأس، فاللجوء

إلى الرؤية بحاسّة سادسة بمعنى كمال العلم تفسير بأمر بائن وخروج عن محطّ البحث .

____________________________

1. علي يحيى معمِّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291 _ 292 .

( 253 )

وأظن وظن الألمعي يقين انّ الكاتب توخّياً لإيجاد القرب بين الاباضية وأهل السنّة تنازل إلى حدّ غير مطلوب، ولم يقم بالدفاع عن مذهبه بحماس.

نعم قد أحسن في المقام صالح بن أحمد الصوافي، فقد طرح المسألة بشكل رصين، ودفع شبهة القائلين في المقام،ترى أنّه قام بتفسير قوله سبحانه:( وُجُوهٌ يَوْمَئذ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(1)، الذي هو من أهم أدلّة القائلين بالرؤية، فقال:

«أوّلا: النظر في اللغة غير الرؤية، ولذا يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، ولايصحّ أن يقال رأيته فلم أره، واطلاقه على الرؤية مجاز، لايصحّ إلاّ لقرينة، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز خلاف الظاهر .

ثانياً: إنّ سياق الآية دال على انتظار رحمة الله تعالى بدليل أنّه عطف عليها قوله: ( وَ وَجُوهٌ يَوْمَئِذ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بَها فاقِرَةُ )(2) فلو فسّر النظر في الآية بالرؤية لارتفعت المناسبة بين الجملتين ولتداعى بناؤها واختلّ نظمها، إذ لامناسبة بين عيون رائية ربّها ووجوه باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة(3) .

ثالثاً: إنّ النظر في الآية انتظار ما لهم عند الله من الثواب، ومنه قول الشاعر:

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى * فإنّ غداً لناظره قريب

وقول الآخر:

كلّ الخلائق ينظرون سجاله * نظر الحجيج إلى طلوع هلال

____________________________

1. القيامة: 22 _ 23 .

2. القيامة: 24 _ 25 .

3. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 238 وقد أوضحنا هذا الوجه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة (لاحظ ص 202 _ 208) .

( 254 )

وقول الآخر:

وكنّا ناظريك بكل فجّ * كما للغيث

ينتظر الغماما

وقال امرؤ القيس:

وقد نظرتكم أعشى بخامسة * للورد طال بها حبّي وتبساسي(1)

***

3 _ القرآن حادث غير قديم:

إنّ المترقّب من الأباضية الذين رفضوا القشرية، وخضعوا للعقل، أن يكون موقفهم في خلق القرآن موقف العدلية ويصرّحوا بأنّ القرآن مخلوق لله سبحانه وحادث بعد أن لم يكن، لكونه حادثاً ومخلوقاً لله سبحانه غير أنّ الظاهر من بعض كتّابهم أنّهم يتحرّجون من التصريح بخلق القرآن وإن كانوا بعداء عن القول بكونه قديماً غير مخلوق. وننقل في المقام نصّين من كتّابهم، حتى تلمس الحقيقة .

1 _ يقول الدكتور رجب: وبالنسبة لمشكلة خلق القرآن نراهم يقفون أمام هذا القول الذي فرضه المأمون على العالم الإسلامي فرضاً بتأثير من المعتزلة، ممّا أدّى إلى تمزيق وحدة الاُمّة الفكرية، وإلى اضطهاد كثير من العلماء والفقهاء، ولذلك توقّف العمانيون عن القول بخلق القرآن، وقالوا في صراحة واضحة في واحد من أهمّ كتبهم الفقهية: «لا يلزم الناس معرفة هذه المسألة» وكتب أبو عبدالله القلهاتي الذي عاش في القرن الرابع للهجرة _ العاشر للميلاد _ أكثر من عشرين صفحة في مناقشة القول بخلق القرآن والردّ على من قال بذلك، كما كتب أحمد بن نظر العماني الذي عاش في القرن الخامس للهجرة

____________________________

1. المصدر نفسه، وقد اغرق نزعاً في التحقيق في اثبات القول الحق وتنزيهه، والتبساس: هو الشوق الشديد.

( 255 )

_ الحادي عشر للميلاد_ في كتابه دعائم الإسلام خمسة وسبعين بيتاً من الشعر، فندّد القول بهذه المسألة واستنكرها كل الاستنكار. وفي العصر الحديث نجد الشيخ نورالدين السالمي يعبّر عن هذا الموقف قائلا: «إنّ الأشياخ توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن وأمروا بالشدة على من أطلق القول في هذه المسألة، حتى لايفتتن الناس في دينهم» (1).

ترى في هذا الكلام

التناقض، فبينما ينقل عن بعضهم الرد على من قال بخلق القرآن ينقل عن الأشياخ انّهم توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن، وأمروا بالشدّة على من أطلق القول في هذه المسألة .

لاشكّ إنّ القرآن ليس بمخلوق أي ليس بمختلق للبشر كما قال سبحانه حاكياً عن بعض المشركين: ( إنْ هذا إلاّ قَوْلُ البَشَرِ)(2) ولكنّه مخلوق لله سبحانه، إذ لايتجاور كون القرآن فعله، وفعله كلّه حادث غير قديم، وإلاّ يلزم تعدّد القدماء وأما علمه سبحانه بما في القرآن من المضامين والمعارف والحوادث فلاشك إنّه قديم، وهو غير كلامه .

فاللائق بمن يصف نفسه بأنّه أهل تقييد لاتقليد أن يصرّح بموقفه في مسألة خلق القرآن، اللّهم إلاّ إذا كان موجباً للفتنة أو كانت عقول الناس بعيدة عن درك الحقيقة، فحينئذ الأولى عدم البحث والطرح .

ونؤكّد من جديد أنّ القول بعدم قِدم القرآن هو من الاُصول الوضّاءة في عقائد الاباضية، وهم في الاعتقاد بها عيال على المعتزلة، فاللائق بالكاتب الواعي أن يجهر بالحق ويحدّد محل النزاع، وياللأسف انّ بعضهم _ مثل الكاتب السابق _ بدل أن يخرج من المسألة مرفوع الرأس، ويحقّقها على ضوء

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الأباضية في مصر والمغرب: 70 _ 71 .

2. المدثر: 25 .

( 256 )

القرآن والعقل، طفق يطلب من يقول بكون القرآن مخلوقاً من بين أهل السنّة .

2 _ يقول علي يحيى معمّر: إنّ من علماء أهل السنّة من يقول دون تحرّج أو احتراز:«القرآن مخلوق» فقد ذكر الخطيب البغدادي من طرق متعدّدة عن أبي يوسف انّ أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق، أمّا أبو منصور الماتريدي، فقد كان يقول: إنّه محدث، ولم يحفظ عنه أنّ قال: مخلوق، وقد كان أبو النضر العماني من أئمّة

الاباضية يقول: إنّ القرآن غير مخلوق، وأنكر انكاراً شديداً على من يقول بخلق القرآن، وذهب القطب من أئمّة الاباضية انّ هذه المسألة ليست من الاُصول، وقال أبو إسحاق طفيش: إنّ الخلاف فيها لفظي، وهذا القدر كاف للدلالة على اللقاء بين المذهبين، ويكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع: هي أنّ الله تبارك و تعالى سميع بصير متكلّم وانّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله(1) .

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ناش من توخّي ايجاد اللقاء بين المذهبين: الأشاعرة والاباضية، فلأجل ذلك ذهب ليجد من أهل السنة من يقول بأنّ القرآن مخلوق، ومن أئمّة الاباضية من يقول: بأنّ القرآن غير مخلوق، وهذا يعرب عن أنّه لم يتّخذ الكاتب في هذا الموقف رأياً حاسماً أوليس للأباضية فيه رأي جازم، مع أنّ المنقول منهم كونه حادثاً أو غير قديم أو مخلوقاً بمعنى أنّه أنزله الله سبحانه وأوجده من العدم .

فكان من الواجب على الكاتب أن يدافع عقيدته وعقيدة طائفته ويطرحها بوضوح ويذبَّ عنها ذبّاً علميّاً تحقيقياً متحرّياً للواقع.

ثمّ إنّ ما ذكره في ذيل كلامه من أنّه «يكفي أن يلتقي المسلمون على أنّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله». وإن كان كلاماً صحيحاً،

____________________________

1. علي يحيى معمرّ: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291 .

( 257 )

إذ ليس الاعتقاد بالحدوث والقدم في القرآن من الأصول العقائدية التي يناط بها الإسلام و الكفر، غير أنّه لو كان هذا هو الأصل الثابت في جميع المواقف فليضرب هذا الكاتب الاباضي صفحاً على الأصول التي اتّخذها اُصولا لمذهبه كمسألة التحكيم وولاء المحكّمة الاُولى، أو ليس ذلك أوفق بالتقريب و توحيد الاُمّة وجعلهم صفّاً واحداً في مقابل الأعداء؟

إنّ البحث عن التحكيم و

المحكّمة وخلق القرآن وعدمه ومايأتي من الاُصول الاُخرى للاباضية من خلود الفاسق في النار وعدمه، وكونه كافراً كفر النعمة، بحوث علمية يختصّ فهمها بالمحقّقين والوعاة من علماء الإسلام، فالتحيّز إلى هذه الاُصول وجعلها محاور للحقّ والباطل والإسلام والكفر، لايدعمه الكتاب ولا يوافقه العقل، فليكن شعار الجميع ما سمحت به قريحة شاعر الأهرام:

إنّا لتجمعنا العقيدة أمّة * ويُضمّنا دين الهدى أتباعا

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا * مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

والحق إنّ الخوارج بالمعنى العام الذي يعمّ الاباضية لم يكن يوم ظهورها إلاّ حزباً سياسيّاً يهدف إلى تخطئة مسألة التحكيم مع عزل علي عن الحكومة والدعوة إلى بيعة رئيس المحكّمة الاُولى عبدالله بن وهب، ولم يكن لهم يومذاك أي شأن في المسائل العقائدية الماضية، ولمّا قضى عليٌ نحبه واستولت الطغمة الغاشمة من الأمويين و المروانيين على منصَّة الحكم، صار الخوارج يكافحون الحكومات، ويصارخون في وجوههم للقضاء عليهم ولم يكن لهم في هذه الأيّام أيضاً إلاّ هذا الأصل، غير أنّ مرور الزمن وتلاقي الخوارج مع المعتزلة وغيرهم من الطوائف الإسلامية، ألجأهم إلى أن يّتخذوا في بعض المسائل موقفاً فكريّاً، فعند ذلك أصبحوا جمعيّة دينية وفرقة كلامية بعد ما كانوا حزباً سياسياً بحتاً

( 258 )

فتلاقوا في هذه المسائل مع المعتزلة بل تأثّروا بهم كما هو الحال في المسألة التالية، فقد تأثرت الاباضية فيها عن المعتزلة وخالفوا الشيعة وغيرهم من الطوائف الإسلامية.

4 _ الشفاعة: دخول الجنّة بسرعة:

إنّ مرتكبي الكبيرة عند الاباضية إذا ماتوا بلا توبة، محكومون بالخلود في النار، فلأجل هذا الموقف المسبَّق في هذه المسألة فسّروا الشفاعة بدخول المؤمنين الجنّة بسرعة، وفي الحقيقة خَصُّوها بغير المذنبين من الاُمّة، وهذا التفسير يوافق ما عليه المعتزلة من أنّ الغاية من

الشفاعة هو رفع الدرجة لامغفرة الذنوب .

إنّ الشفاعة أمر مسلّم عند جميع المسلمين غير أنّهم اختلفوا في تفسيرها، وهؤلاء كالمعتزلة ذهبوا إلى أنّ شفاعة النبيّ بل شفاعة جميع الشفعاء لاتنال أهل الكبائر متمسّكاً بقوله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «ليست الشفاعة لأهل الكبائر من اُمّتي» .

يقول السالبي في كتابه شرح أنوار العقول: «فإن قيل: المؤمنون مستوجبون للجنّة بأعمالهم فلا معنى للشفاعة، فالجواب أنّ الشفاعة لهم هي طلب تنقلهم من المحشر، ودخولهم الجنّة بسرعة»(1) .

يلاحظ عليه: أنّ الشفاعة مسألة قرآنية، وفي الوقت نفسه مسألة روائية وحديثية، فلا يجوز لمسلم الإدلاء برأي إلاّ بعد الرجوع إلى المصدرين الرئيسيّين مجرّداً عن كل رأي، وأمّا تفسيرها على ضوء الرأي المسبق فهو من قبيل التفسير بالرأي الذي حذَّر عنه النبي في الحديث المتواتر عنه و قال: «من

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 256، نقلا عن مشارق أنوار العقول: 294 .

( 259 )

فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النار»(1) .

إنّ مسألة الشفاعة ليست مسألة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين اُمم العالم من قبل، وخاصّة بين الوثنيين واليهود، فلو ذكرها القرآن فإنّما يذكرها بالمفهوم الرائج عندهم، لا بمفهوم مغاير، فلو أمضاها، فإنّما أمضاها بهذا المفهوم، ولو هذّبها من الخرافات وحدّدها في اطار خاص فإنّما هذّب ذلك المفهوم وحدّده، ومن المعلوم أنّ الشفاعة عندهم إنّما هو لغفران الذنوب لالرفع الدرجة أو سرعة التنقّل إلى الجنّة، ولأجل ذلك كانوا يرجون لصلتهم بالأنبياء حطَّ ذنوبهم، وغفران آثامهم، وكان المتطرّفون منهم يرتكبون الذنوب تعويلا على الشفاعة.

وفي هذا الموقف وردّاً على ذلك التطرّف الباعث للجرأة، يقول سبحانه:( مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِاِذْنِهِ )(2)

ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المقترنة بالخرافة:( وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضَى)(3) .

ومن تدبّر في الآيات الواردة حول الشفاعة أيجاباً وسلباً، يقف على أنّ الإسلام قَبِلَ الشفاعة بنفس المفهوم الرائج بين الاُمم، لكن حدّدها بشروط وجعل لها إطاراً خاصّاً، وعلى ضوء ذلك فتفسير الشفاعة بدخول الجنّة بسرعة، نبع من العقيدة بخلود العصاة في النار إذا ماتوا بلاتوبة، فلأجل ذلك إلتجأوا إلى تفسير الشفاعة بغير المعنى المعروف .

نعم يجب إلفات نظر القارىء إلى أمر هامّ:

إنّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما

____________________________

1. حديث متّفق عليه. رواه الفريقان .

2. البقرة: 255 .

3. الأنبياء: 28 .

( 260 )

تقطع الأواصر الروحية بالشفيع فمثل هذا الشخص لاينال الشفاعة، ولايرضى الرب بشفاعة الشفيع في حقّه، وقد أوضحنا حقيقة الشفاعة وشروطها في موسوعتنا التفسيرية، وقمنا بالذّبّ عن الاشكالات التي تثار حولها من جانب المعتزلة أو بعض المفكّرين الجدد(1) .

5 _ مرتكب الكبيرة كافر نعمة لاكافر ملّة:

اتّفقت الخوارج حتى الاباضية على أنّ ارتكاب الكبيرة موجب للكفر، ولكن المتطرّفين يرونه خروجاً عن الملّة، ودخولا في الكفر والشرك، ولكن الاباضية لاعتدالهم، يرونه كفر النعمة، فالمسلم الفاسق كافر عندهم لكن كفر النعمة، ولأجل التعرّف على حقيقة مرامهم نأتي بنص بعض كُتّابِهم، وإن كان طويلا مفصّلا:

يقول علي يحيى معمّر:

«يحسب كثير ممّن لا علم له أنّ الاباضية ممّن يتّفقون مع الخوارج في تكفير العصاة كفر شرك، ولايعرفون أنّ الاباضية يطلقون كلمة الكفر على عصاة الموحّدين الذين ينتهكون حرمات الله، ويقصدون بذلك كفر النعمة، أخذاً من الآيات الكريمة التي أطلقتها في أمثال هذه المواضيع و استناداً إلى أحاديث الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ :

( وِلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ

سَبِيلا وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِيْنَ)(2) .

( لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ اُمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي

____________________________

1. لا حظ: مفاهيم القرآن 4/156 _ 279 .

2. آل عمران: 97 .

( 261 )

غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(1) .

( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِروُنَ)(2).

سأل الأقرع بن حابس رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «الحج علينا كل عام يا رسول الله؟ فقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : لو قلت نعم لوجب، ولو وجب لما قدرتم عليه، ولو لم تفعلوا لكفرتم، وقال: من ترك الصلاة كفر، وقال: ليس بين العبد والكفر إلاّ تركه الصلاة، وقال: ألا لاترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقال: الرشا في الحكم كفر».

وخلاصة البحث انّ الأباضية عندما يطلقون كلمة الكفر على أحد من أهل التوحيد فهم يقصدون كفر النعمة، وهو ما يطلق عليه غيرهم كلمة الفسوق و العصيان، والمعنى الذي يطلق عليه الاباضية كفر النعمة ويطلق عليه المعتزلة (3) الفسوق، ويطلق عليه غيرهم النفاق أو العصيان فهو معنى واحد.

والسبب الذي دعا الاباضية إلى اطلاقهم هذه الكلمة على العصاة بدلا من كلمة النفاق أو الفسوق أمران:

أوّلهما: إنّها الكلمة التي أطلقها الكتاب الكريم والسنّة القويمة عليهم في كثير من المواضيع والمناسبات .

ثانيهما: إنّ لكلمة النفاق أثراً خاصّاً في تاريخ الإسلام، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله، آمنوا ظاهراً، ولكن قلوبهم لم تطمئن بالإيمان، فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم، ويفضح بعضهم، ويتوعّدهم بالعذاب الأليم

____________________________

1. النمل: 40 .

2. المائدة: 44 .

3. اطلاق الفاسق على مرتكب الكبيرة غير مختصّ بالمعتزلة، بل الأشاعرة والإمامية في ذلك أيضاً سواء، بل الفرقتان

الاخيرتان أولى بهذا الاصطلاح من المعتزلة، لأنه عندهما مؤمن، لا كافر ولا مشرك بخلاف المعتزلة فإنّه عندهم لاكافر ولا مؤمن بل منزلة بين المنزلتين.

( 262 )

في الدنيا والآخرة حتى اشتهروا بهذا الاسم وعرفوا به، قال الله تعالى:

( المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بالمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنْ عَنِ المَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ)(1) حتى صارت هذه الكلمة تشبه أن تكون علماً لهم فإذا اطلقت انصرفت إليهم .

والنقاش في هذا الموضوع نقاش لغويّ والاختلافات لفظي، والنتيجة انّ من يصرّ على معصية الله يلاقي نفس الجزاء الذي يلاقيه من يكفر بالله، أمّا معاملة المسلمين لمن يفسق عن أمر الله، أو ينافق في دين الله، أو يكفر بنعمة الله، فإنّها معاملة للعاصي المنتهك الذي تجب محاولة ارشاده إلى وجوب الاستمساك بدينه ورجوعه إلى أوامر ربّه، واقلاعه عن محادة الله ورسوله، فإن أصرّ واستكبر وتغلّب عليه الشيطان، بُرِئ منه (2) .

يلاحظ عليه أوّلا: انّ المحكّمة الاُولى كانوا لايريدون من الكفر إلاّ الخروج عن الدين، وكانوا يقولون للإمام أميرالمؤمنين: تب من كفرك، وكان يجيبهم: أبعد ايماني بالله، وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين (3) .

فلمّا أحسّ عبدالله بن اباض أو من قبله بتطرّف هذه الفكرة عاد بتأويله إلى كفر النعمة تحرّزاً عن ردّ فعل للنظرية الاُولى.

ثانياً: لو فرضنا إنّ القرآن الكريم استعمل الكفر في كفر النعمة أو استعمله الحديث في حق تارك الصلاة، ولكن هذا الاستعمال طفيف جدّاً، فقد ورد لفظ الكفر ومشتقّاته في القرآن قريباً من 450 مرّة واُريد في أغلبها كفر الملّة

____________________________

1. التوبة: 67.

2. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحقلة الاُولى 89

_ 92 .

3. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58 .

( 263 )

والخروج عن الدين، ولو استعمل في كفر النعمة فانّما استعمل مورد أو موردين، هذا من جانب، ومن جانب آخر انّ لفظ الكفر والكافر يعطيان مفهوماً خاصّاً يهزّ القلوب ويروّعها، إذ لايقصد منه إلاّ الخروج عن الدين فاستعمال ذلك في كلّ معصية كبيرة، يقلّل من شدّة خطره ويُصغّر أمره العظيم. والأثر الخاص الذي ادّعاه لكلمة النفاق، موجود في كلمة الكفر بوجه أشدّ. فلو عدلوا عن إعماله، فليعدلوا عن اطلاق كلمة الكفر لأجله والكلمتان مشتركتان في أثر السيّىء.

أوليس الأولى للاباضية أن ينتهجوا نهج جميع المسلمين فيختاروا لفظاً غيره في مورد ركوب الكبيرة؟

وقد تنبّه لما ذكرناه الكاتب الاباضي حيث علّق على ماينسب إلى الاباضية: «المخالفون كفّار نعمة لا كفّار في الاعتقاد» قوله: لا شكّ انّ أيّ مسلم إذا قيل له: «إنّ الاباضية يعتبرونك غير مسلم، ويرونك كافراً» يتملّكه الغضب ويعتبرهم فرقة ضالّة ظالمة تستحقّ اللعن، ولن ينتظر منك أن تشرح له الفرق بين معاني الكفر(1) .

ولكن اللوم متوجّه عليه وعلى أسلافه لا لأصحاب المقالات فإنّهم استعملوا لفظ الكفر في حق المخالفين غير أنّ المتطرّفين فسّروه بالكفر في الاعتقاد وغيرهم فسّروه بكفر النعمة مستشهدين بأنّه ورد لفظ الكفر في مورد المرتكبين للكبائر، ونقلوا عن الرسول الأعظم أنّه قال: الرشوة في الحكم كفر، وقوله من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه فيما يقال فقد كفر بما اُنزل على محمّد(2) .

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/103 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 123 .

( 264 )

6 _ الخروج على الإمام الجائر:

يقول أبو الحسن الأشعري: «والاباضية لاترى اعتراض الناس بالسيف لكنّهم يرون ازالة أئمّة الجور ومنعهم من

أن يكونوا أئمّة بأيّ شيء قدروا عليه بالسيف أو بغيره»(1) .

وربّما ينسب إليهم أمر غير صحيح، وهوأنّ «الاباضية لايرون وجوب اقامة الخلافة» (2) .

إنّ وجوب الخروج على الإمام الجائر أصل يدعمه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة أئمّة أهل البيت إذا كانت هناك قدرة ومنعة، وهذا الأصل الذي ذهبت إليه الاباضية بل الخوارج عامّة، هو الأصل العام في منهجهم، ولكن نرى أنّ بعض الكتّاب الجدد من الاباضية الذين يريدون ايجاد اللقاء بينهم وبين أهل السنّة يطرحون هذا الأصل بصورة ضئيلة.

يقول علي يحيى معمر: إنّ الاباضية يرون أنّه لابدّ للاُمّة المسلمة من اقامة دولة ونصب حاكم يتولّى تصريف شؤونها، فإذا ابتليت الاُمّة بأن كان حاكمها ظالماً، فإنّ الاباضية لايرون وجوب الخروج عليه لاسيّما إذا خيف أن يؤدّي ذلك إلى فتنة وفساد أو أن يترتّب على الخروج ضرر أكبر ممّا هم فيه، ثم يقول: إذا كانت الدولة القائمة جائرة وكان في امكان الاُمّة المسلمة تغييرها بدولة عادلة دون احداث فتن أكبر تضّر بالمسلمين فإنّهم ينبغي(3) لهم تغييرها. أمّا إذ كان ذلك لايتسنّى إلاّ بفتن واضرار فإنّ البقاء مع الدولة الجائرة ومناصرتها في حفظ الثغور ومحاربة أعداء الاسلام، وحفظ

____________________________

1. الأشعري: مقالات الإسلاميين: 189 .

2. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية: 2 / 53 _ 54 .

3. إنّ الرجل لتوخّي المماشاة مع أهل السنّة يعّبر عن مذهبه بلفظ لايوافقه، بل عليه أن يقول مكان «ينبغي» «يجب» .

( 265 )

الحقوق، والقيام بما هو من مصالح المسلمين واعزاز كلمتهم، أوكد وأوجب(1) .

إنّ ما ذكره لاتدعمه سيرة الأباضية في القرون الاُولى ويكفي في ذلك ما ذكره المؤرّخون في حق أبي يحيى عبدالله بن يحيى طالب الحق، قالوا: إنّه كتب إلى عبيدة بن مسلم

بن أبي كريمة وإلى غيره من الاباضية بالبصرة يشاورهم بالخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألاّ تقيم إلاّ يوماً واحداً فافعل، فأشخص إليه عبيدةُ بن مسلم أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت، فحثّوه على الخروج، وأتوه بكتب أصحابه، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الامارة إلى آخر ما سيوافيك بيانه من حروبه مع المروانيين وتسلّطه على مكّة والمدينة .

وأظنّ انّ ما يكتبه علي يحيى معمّر في هذا الكتاب وفي كتاب «الاباضية في موكب التاريخ» دعايات و شعارات لصالح التقارب بين الاباضية وسائر الفرق خصوصاً أهل السنّة، ولأجل ذلك يريد أن يطرح اُصول الاباضية بصورة خفيفة حتى يتجاوب مع شعور أهل السنّة، تلك الأكثرية الساحقة، وأوضح دليل على أنّهم يرون الخروج واجباً مع القدرة والمنعة بلا اكتراث، إنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ويرون أنفسهم اخلافهم والسائرين على دربهم، وهم قد خرجوا على عليٍّ بزعم أنّه خرج بالتحكيم عن سواء السبيل .

وأظنّ انّ هذا الأصل أصل لامع في عقيدة الخوارج والاباضية بشرطها وشروطها، وأنّ التخفيض عن قوّة هذا الأصل دعاية بحتة .

والعجب أنّه يعترف بهذا الأصل في موضع آخر من كتابه ويقول: إنّ الثورة على الضلم والفساد والرشوة ومايتبع ذلك من البلايا والمحن، إنّما هو المنهج الذي جاء به الإسلام ودعا إليه المسلمين، ودعا المسلمون إليه، وقاموا

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 2 / 53 _ 54 .

( 266 )

به في مختلف أدوار التاريخ، ولم تسكت الألسنة الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، ولم تكفّ الأيدي الثائرة في أيّ فترة من فترات الحكم المنحرف....وقد استشهد في هذا السبيل عدد من أفذاذ الرجال، ويكفي أن أذكر الأمثلة لاُولئك الثائرين على الانحراف و الفساد:

شهيد كربلاء الإمام الحسين سبط رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وعبدالله بن الزبير نجل ذات النطاقين، وسعيد بن جبير، وزيد بن علي بن الحسين، وكلّ واحد من هؤلاء يمثّل ثورة عارمة من الاُمّة المسلمة على الحكم الظالم، والخروج عليه ومدافعته حتى الاستشهاد(1) .

7 _ التولّي والتبرّي والوقوف:

قد اتّخذ الاباضيون «التولّي» و«التبرّي» نحلة ولهما أصل في الكتاب والسنّة وهما ممّا يعتنقه كل مسلم اجمالا، ولكن التفسير الاباضي لهذين المفهومين يختلف تماماً مع تفسير الجمهور، وإليك بيانه بنقل نصوصهم من كتبهم:

«أصل الولاية، الموافقة في الدين، فكل من وافقك في الدين فهو وليّك، سواء علمت بموافقته أو جهلتها، أو برئتَ منه بالظاهر، لحدث عرفته منه وهو قد تاب ورجع عنه، فالملائكة عليهم السلام أولياؤنا لأنّهم موافقوننا في أصل الامتثال، وكذلك أهل الطاعة من الاُمم السالفة، فإنّه وإن اختلفت الأوامر بالنظر لاختلاف الشرائع، فالدين عندالله الإسلام أي الانقياد لأحكامه مطلقاً .

فاعلم انّ ممّا يدين به المسلمون وهو لازم لهم، الولاية لأولياء الله والحب لهم، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم. فولاية من اتّصف بالإيمان فرض

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/183 .

( 267 )

واجب، ثبت وجوبه بأدّلة قطعية، وأمّا البراءة فهي مثل الولاية فتجب البراءة من الفاسقين مطلقاً سواء كانوا من المشركين أو كانوا أهل كفر نعمة، فالبراءة منهم واجب بنصّ الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة .

ثمّ إنّهم ذكروا للولاية والبراءة أقساماً نوردها فيما يلي:

1 _ أن يرد الكتاب بما يوجب ولاية أحد، أو البراءة منه، كالأنبياء المذكورين بأسمائهم في الولاية وكأبليس في البراءة .

2 _ ما نطق فيه رسول من رسل الله انّ فلاناً من أهل السعادة، أو من أهل الشقاء، بشرط أن

يسمع السامع من لسان الرسول ذلك الكلام حين نطقه.

3 _ ولاية الجملة وبراءة الجملة، وصورتها أن يعتقد المكلّف ولاية أهل طاعة الله من الأوّلين والآخرين إنسهم وجنِّهم وملائكتِهم، وأن يعتقد البراء من جميع أهل معصية الله من الأوّلين والآخرين إنسِهِم وجنِّهم إلى يوم الدين.

وهذا القسم هو الذي يعبّر عنه بعقيدة الإنسان لأنّه لابدّ لكل مكلّف أن يعتقده ديناً.

4 _ نعم يجب الوقوف فيمن لم يعلم فيه موجب الولاية ولا البراءة لقوله تعالى: ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)، وقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «المؤمن وقّاف، والمنافق وثّاب (2) .

قال أبو سعيد الكدمي: واعملوا رحمنا الله وإيّاكم: انّ الولاية والبراءة فريضتان وقد نطق بذلك القرآن وأكّدته السنّة، ونسخته آثار الأئمّة الذين هم

____________________________

1. الاسراء: 36 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 258 _ 263 بتلخيص، وكان عليه أن يذكر قسماً خامساً وهو تولّي شخص معيّن لكونه مطيعاً والتبرّي منه لكونه عاصياً إذا لمسنا شخصيّاً منهما الطاعة أو العصيان، ولعلّه لم يذكره لكونه مستفاداً من القسم الاوّل.

( 268 )

حجّة الله في دينه، فمن ذلك قوله تعالى: ( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذ قالُوا لِقَوْ مِهِمْ إنّا بُرَءَ ؤُاْ مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بدَا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغْضاءُ أَبَداً حتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ)(1) .

ويقول أيضاً: لايجوز له أن يتولّى أحداً من علماء أهل الخلاف ولامن أفضلهم، ولو جهل أمرهم، ولو ظنّ أنّهم أهل الحقّ وأهل الفضل، ماجاز أن يتولّى أحداً منهم بدين(2) .

ويقول أيضاً: البراءة حكم من أعظم أحكام الإسلام (3) .

ويقول: واعلموا انّه ممّا يلزم

المسلمون ويدينون به: الولاية لأولياء الله والحبّ لهم، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم، ومن أحبَّ عبداً في الله فكأنّما أحبّ الله، وذلك من أشرف أعمال البّر (4) .

وقد حرّر هذه المسألة أحد المعاصرين من علماء الاباضية وقال:

ولاية الجملة وبراءتها فريضتان بالكتاب والسنّة والاجماع على كلّ مكلّف عند بلوغه إن قامت عليه الحجّة، وأمّا ولاية الأشخاص وبراءتها فواجبتان قياساً عليهما.

إنّ محبّة المؤمن الموفي بدينه، الحريص على واجباته، المبتعد عن المحارم، المتخلِّق بأخلاق الإسلام، المتّبع لهدى محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وجبت محبّته على المؤمنين، وأُعلِنَت ولايته بين المسلمين، وطلبت له المغفرة والرحمة من ربّ العالمين .

فإذا نزغ أحدهم من الشيطان نزغ، ولم يستعذ بالله من الشيطان، فأقدم على المعصية ولم يُسارع إلى التوبة، انفصم هذا الرباط الذي يربطه

____________________________

1. أبوسعيد الكدمي: المعتبر 2/134. والآية من سورة الممتحنة: 4 .

2. المصدر نفسه 1/95 .

3. المصدر نفسه: 1 / 135 .

4. المصدر نفسه: 1 / 137 .

( 269 )

بالمؤمنين، وتهدَّمَتْ هذه الاُخوّة التي قامت على الدين حتى يجدّد ايمانه بربّه، ويستغفرالله من ذنبه، ويصل حبال قلبه بفاطر السموات و الأرض، فإذا فعل ذلك، رجعت منزلته بين اخوانه كما كانت، وعزَّتْ نفسه بينهم بعد أن هانت (ولِلِّهِ العِزّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلمُؤْمِنِينَ).

إنّ المسلم الذي يعلن بين الملأ قول «لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله»، ثمّ يجترئ على أوامر الله فيتخلّى عن واجباته، أو يقدم على ارتكاب المحظورات... لايحقّ أن يكرم بالتساوي مع الصادقين ولا يمكن أن تشمله المحّبة في الدين، بل يجب أن يجد الغلظة من المؤمنين وأن يسمع التقريع والتوبيخ، وأن يُطْلب الابتعاد عنه، وأن يُعْلَنَ البراءة منه، ويُقلَّلَ التعامل معه حتى تضيق عليه الأرض

بما رحبت، ولايجد ملجأ من الله إلاّ إليه، فأمّا أن يشرح الله صدره للإسلام، وأن يفتح قلبه للإيمان وأن يسخّر أعضاءه للعبادة، وأن يباعد بينه و بين المعصية فيتوب ممّا ارتكب ويعود إلى حظيرة الإسلام بالعمل الصالح، والجهاد المتواصل، جهاد النفس و الهوى، فترتبط أواصره حينئذ بأواصر الناس، ويصبح بعد الهداية و التوفيق أخاً في الله .

وأمّا أن يرتكس إلى الشيطان، ويصّر على العصيان، ويبتعد عن محاسبة النفس، ويستمرّ في الغواية والضلال، وحينئذ لايمكن لأولياء الله أن يحبّوا عدوّالله، ولا أن يرضوا عمّن جاهره بالمعصية، وانّ القلوب المؤمنة لتستحي أن تّتجه إلى المليك الديّان لتطلب منه الرحمة والغفران، لعبيد الشهوات و أغوياء الشيطان .

إنّ العصاة الذين يصرّون على ما فعلوا ويجاهرون الله والناس بما ارتكبوا، انفصلوا بكبريائهم عن ربّهم، وابتعدوا عن محّبة إخوانهم، وحادوا الله ورسوله.

( 270 )

( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادً اللهَ وَ رَسُولَهُ....)(1). ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلئِكَ فِى الأذَلِيْنَ)(2). ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(3).

إنّ المجتمع الاسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم، ثم يسكتون عنه، فيدعونه فيهم محبوباً قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير إن كانت المعصية ممّا يتحلّل منه بالتكفير .

إنّ هذه القضيّة من القضايا التي يكاد ينفرد بها الاباضية(4) عن غيرهم من الفرق الإسلامية فلم يساووا بين مؤمن تقيّ وعاص شقيّ في المعاملة، وقالوا: يجب على المجتمع المسلم أن يُعْلِنَ كلمة الحق في كلّ فرد من أفراده، وأن يتولّى تهذيب الناشزين، وتقويم المنحرفين وتربية المتذرّعين بالوسائل التي شرعها الإسلام للتربية الجماعية من أمر بمعروف و نهي عن منكر، واعراض عمّن

يتولّى عن الله.

وليس من الحق أبداً أن نتغاضى عن اُولئك الذين يرتكبون المعاصي، ونضعهم في صفّ واحد مع المؤمنين الموفين، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته، وأن نعالِنَه بالعداوة، مادام منحرفاً عن سبيل الله، وأن لانساوي في المعاملة بينه و بين الموفي، وأن لانعطيه من المحبّة وطلب المغفرة، وحسن التعامل، مانعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية، ويرجع إليه في كلّ كبيرة وصغيرة، ويقف عند حدوده التي رسمها لايتخطّاها، ( وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ

____________________________

1. المجادلة: 22 .

2. المجادلة: 20 .

3. المجادلة: 5 .

4. ستعرف ضعفه و انّه ممّا أصفقت عليه الاُمّة الإسلامية اجمالا، نعم انفردت الاباضية بالغلظة والشدّة في المسألة.

( 271 )

غِلْظَة)، والاباضية لايخرجون العصاة من الملّة ولايحكمون عليهم بالشرك، ولكن يوجبون البراءة منهم و بغضهم و اعلان ذلك لهم حتى يقلعوا عن معصيتهم ويتوبوا إلى ربّهم (1) .

هذا عصارة ماذكروه في هذه المسألة، أي الولاية والبراءة والوقوف .

يلاحظ عليه: لاأظنّ أنّ من أحاط بالكتاب والسنّة أو ألمَّ بهما أن ينكر وجوب التولّي والتبرّي فإن المصدرين الأساسيّين مملوءان بالأمر بتولّي الرسول، والمؤمنين، والتبرّي من المشركين وأهل الكتاب والعصاة، وإليك رشحة من ذلك فيكفي فيه قوله سبحانه:( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ)(2) و قوله عزّوجلّ: ( وَالمُؤْمِنُونَ وَ المُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض)(3) وقوله عزّوجلّ: ( فَإن لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ فِي الدَّينِ وَ مَواليِكُمْ)(4) وقوله عزّوجلّ:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ ولَو كانُواْ آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُم أَوْ إخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رضُوا عَنْهُ أُوْلِئكَ حِزْبُ الله ألا

إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ).(5)

وأمّا السنّة فيكفي في ذلك الأحاديث التالية:

قال علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ : من ترك انكار المنكر بقبله و لسانه

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحقلة الاُولى 83 _ 87 .

2. آل عمران: 28 .

3. التوبة: 71 .

4. الأحزاب: 5 .

5. المجادلة: 22 .

( 272 )

فهو ميّت بين الأحياء (1) .

وقال _ عليه السَّلام _ : أمَرَنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهَّرة(2).

وقال _ عليه السَّلام _ : أدنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة.

وعن الإمام جعفرالصادق _ عليه السَّلام _ : حسب المؤمن غيرة إذا رأى منكراً أن يَعْلَم الله عزّوجلّ من قلبه انكاراً.(3)

إنّ الحب والبغض من الظواهر والحالات النفسية، ولهما آثار على الأعضاء والجوارح في حياة الإنسان، فلقاء أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة من آثار تلك الظاهرة، هذا كلّه ممّا لااشكال فيه.

إنّما الكلام في موضع آخر يجب إلفات النظر إليه وهو أنّ التبرّي من عصاة المسلمين ليس شيئاً مطلوباً بالذات، وإنّما الغاية منه ارجاع العاصي إلى حظيرة الطاعة، وإلحاقه بأصفياء الاُمّة، وعلى ذلك فهو من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيدور وجوبه مدار وجود شرائطهما: منها كون التبرّي مؤثّراً في كبح جماح العاصي وتماديه في الغي، ولأجل ذلك جوّز الإسلام غيبة المتجاهر بالفسق وربّما أوجب الوقيعة في أهل البدع، واكثارالوقيعة فيهم، وقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «أربعة ليس غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه، والإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، والمتفكّهون بالاُمّهات، والخارج من الجماعة الطاعن على أمّتي، الشاهر عليها بسيفه» (4).

وقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «لاغيبة لثلاث: سلطان جائر،

وفاسق معلن،

____________________________

1. الحرّ العاملي: وسائل الشيعة 11/404 .

2. المصدر نفسه: 11 / 409 .

3. المصدر نفسه: 11 / 413 .

4. حسين النوري: المستدرك، الجزء 9، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2 .

( 273 )

وصاحب بدعة»(1) .

فعلى ذلك فوجوب التبرّي رهن شروط نشير إليها:

1 _ أن يحتمل كون التبرّي مؤثّراً في ارجاعه عن المعصية كما عرفت، وإلاّ فلايجب كما هو الحال في جميع مراتب الأمر بالمعروف .

2 _ إن لايكون اظهار التبرّي موجباً لتماديه في الغي، وانكبابه على الإثم، فإنّ إيجاب التبرّي في ذلك ينتج نقيض المطلوب .

3 _ يكفي في التبرّي، الاعراب عمّا في ضمير المتبرّي من كونه كارهاً لعمله، بلا حاجة إلى اعمال الغلظة والشدّة كما في كلام القائل.

ثمّ الآيات والروايات الدالّة على التبرّي واردة في حقّ الكفّار والعصاة المتمادين في الغي، لامن عصى مرّة واحدة ويبدو أنّه سوف يرجع ويستغفر.

وأمّا ما ذكره القائل في كيفية التبرّي فليس عليه دليل بل الدليل على خلافه، لأنّ المعاملة مع العصاة على النحو الذي ذكره القائل لم يكن رائجاً في عصر الرسول، إلاّ في حقّ العتاة المتمادين في الغي، أو المتخلّفين عن الزحف، وقد ورد في حقّهم قوله سبحانه: ( وَ علَى الثَّلاثّةِ الَّذِينَ خُلَّفُوا حَتّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لامَلْجَأ مِنَ اللهِ إلاّ اِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا اِنَّ اللهِ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ)(2).ترى أنّ الغلظة والشدّة كانت في حقّ هؤلاء الثلاثة الذين تخلّفوا عن الجهاد في الوقت الذي كان الرسول في أشدّ حاجة إلى المجاهد الصادق، فنزل الوحي بالضغط وايجاد الضيق عليهم حتى يصلوا إلى مرتبة تضيق عليهم أرض المدينة بما رحبت.

وأمّا المعاملة لكلّ عاص ولو

مرّة واحدة بهذا النحو والضغط عليه حتى

____________________________

1. حسين النوري: المستدرك، الجزء 9، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1 .

2. التوبة: 118 .

( 274 )

تضيق عليه الأرض، فهو بعيد عن سماحة الإسلام، كيف وقد قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتّبعوا سبيله: ( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شىْء رَحْمَةً )(1) وقال سبحانه:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ اِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ اِلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ )(2) وقال سبحانه: ( قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ اِلاّ الضّالُّونَ)(3) وقال سبحانه:( قُلْ يا عِبادِىَ الَّذِينَ اَسْرَفُوا عَلى اَنْفُسِهِمْ لا تَقنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِ نَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعاً اِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيِمُ)(4) .

فأين هذه الوعود ودعوة العصاة إلى حظيرة الغفران والنهي عن اليأس من روح الله ممّا جاء في كلام هذا القائل؟ فالاباضية وإن كانوا غير متطرّفين في مسلكهم لكن في التبرّي عن العاصي في جميع الأحوال والظروف على النحو الذي سمعت نوع تطرّف كما لايخفى.

على أنّ هذا النحو من التبرّي الوارد في كلام القائل يناسب العيشة القبلية، والاجتماعات الصغيرة، ولايتمشّى أبداً مع الاجتماعات الكبيرة التي تضم الفسّاق، إلى العدول في جميع الأندية والمجالس كما لايخفى.

اكمال:

ثمّ إنّه لو ثبت كون رجل عدوّاً من أعداء الله لارتكابه الكبائر أو لإرتداده عن الدين، فليس لآحاد الاُمّة القيام بإجراء الحدّ عليه، وإنّما واجب الآحاد هو التبرّي منه، ومن فعله، روحاً وجسداً، وأمّا إجراء الحدّ عليه فإنّما هو على

____________________________

1. غافر: 7 .

2. يوسف: 87 .

3. الحجر: 56 .

4. الزمر: 53 .

( 275 )

القويّ المطاع في الاُمّة وهو الحاكم الإسلامي، ولأجل ذلك ينقسم الأمر بالمعروف الى قسمين: قسم يُعَدُّ واجباً فردّياً، يقوم به آحاد

الاُمّة، وقسم يعدّ رسالة اجتماعية تقوم به القوّة التنفيذية في الدولة الاسلامية، وهنا كلمة قيّمة للإمام الصادق _ عليه السَّلام _ نذكرها:

سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الاُمّة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولم؟ قال: إنّما هو على القويّ المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لاعلى الضعيف الذي لايهتدي سبيلا إلى أيٍّ، مِنْ أيّ؟ يقول من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك من كتاب الله عزّوجلّ قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّة يَدْعُونَ اِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) فهذا خاصّ غير عام.(1)

8 _ آراء الاباضية في الصحابة:

قد طرحنا مسألة عدالة الصحابة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد أهل الحديث، والمعروف بين كتّاب الفرق انّ الاباضية يحبّون الشيخين ويبغضون الصهرين، غير أنّ كتّاب الاباضية في هذا العصر ينكرون هذه النسبة ويقولون إنّ الدعاية التي سلّطها المغرضون على الاباضية نبذتهم بهذه الفرية، وذهب علي يحيى معمّر في نقد النسبة وتزييفها إلى نقل الكلمات التي فيها الثناء البالغ على الصهرين، ينقل عن أبي حفص عمرو بن عيسى قوله:

وعلى الهادي صلاة نشرها * عنبرٌ ماخبّ ساع ورمل

وسلام يتوالى وعلى * آله والصحب ما الغيث هطل

سيما الصديق والفاروق والجامع * القرآن والشهم البطل

____________________________

1. الحر العاملي: وسائل الشيعة 11/400. والآية من سورة آل عمران: 104.

( 276 )

وينقل عن ديوان البدر التلاتي مايلي:

بنت الرسول زوجها وابناها * أهل لبيت قد فشى سناها

رضى إلاله يطلب التلاتي * لهم جميعاً ولمن عناها(1)

نحن نرحّب بهذا الود الذي أمر الله سبحانه به في كتابه بالنسبة إلى العترة الطاهرة إذ قال: ( قُلْ لااَسْأَلُكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)(2) .

ولكن لايمكننا التجاهل بأنّهم يحبّون المحكّمة الاُولى، ويعتبرونهم أئمّة، وهم

قُتلوا بسيف علي، وهل يمكن الجمع بين الحبّين والودّين؟ قد قال الله سبحانه: ( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِىْ جَوْفِهِ)(3) وهل يجتمع حبّ علي وودّه وحبّ من كان يكفّر عليّاً ويطلب منه التوبة؟ كيف وهؤلاء هم الذين قلّبوا له ظهر المجنَ وضعّفوا أركان حكومته الراشدة.

نرى أنّ الاباضية يعدّون عمران بن حطان من القعدة، وهو إمام لهم بعد أبي بلال، وهو القائل في حق عبدالرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي، شقيق عاقر ناقة ثمود، قوله:

ياضربة من تقي ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّى لأذكره يوماً فأحسبه * أوفى البريّة عندالله ميزانا(4)

ومع هذا السعي لكتمان الحقيقة فالظاهر أن للشهرة حقيقة: أمّا حبّهما للشيخين فليس مجال شك وأمّا بغضهما للصهرين فقد وقفت في الفصل التاسع على نظر قدمائهم في حق الإمام علي _ عليه السَّلام _ وإليك نظرهم في حق عثمان، ليعلم

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/50 .

2. الشورى: 23 .

3. الاحزاب: 4 .

4. مرّ مصدر البيتين .

( 277 )

مدى صحّة النسبة:

فإن قال: فما قولكم في عثمان بن عفان؟ قلنا له: في منزلة البراءة عند المسلمين .

فإن قال: من أين وجبت البراءة من عثمان بن عفان وقد تقدمت ولايته وصحّت عقدة إمامته مع فضائله المعروفة في الإسلام، وفي تزويج النبي له _ عليه السَّلام _ بابنتيه واحدة بعد واحدة؟ قلنا: إن الولاية والبراءة هما فرضان في كتاب الله لا عذر للعباد في جهلهما، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحكم وندين له في عباده بما يظهر لنا في اُمورهم ولم يكلّفنا علم الغيب. ثم وجدنا أصحاب النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قد قدّموا عثمان إماماً لهم

بعد عمر بن الخطاب _ رحمه الله _ ، ثم قصدوا إليه فقتلوه على ما استحقّ عندهم من الأحداث التي زايل بها الحق وسبيله، فمن قال إنّ عثمان قتل مظلوماً كان قد أوجب على أصحاب النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ البراءة بقتلهم لعثمان بن عفان وألزام البراءة من علي بن أبي طالب لأنّه وضعه المسلمون بعد عثمان إماماً لهم.

وعلى الإمام إقامة الحدود و لم يغيّر ذلك علي بن أبي طالب ولم ينكره ولم يقم الحد على من قتل عثمان، وحارب من طلب بدمه و هو طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام، ولو لم يكن مستحقاً للقتل وأنّه مظلوم لكان علي قد كفر لقتاله لمن طلب بدم عثمان بن عفّان. فلما قاتل علي والمسلمون من طلب بدم عثمان وصوّبوا من قتله وأقرّهم علي بين يديه وكانوا أعوانه و أنصاره، كان دليلا على أنّهم محقّون في قتله لأنّ إجماعهم على ذلك حجّة لغيرهم ودليل. وأمّا قولك زوّجه النبي بابنتيه واحدة بعد واحدة فإنا لاننكر ذلك ولايكون عثمان مستوجباً للولاية بتزويج النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ له بابنتيه. ولو كان عقد النبي له بالنكاح موجباً للرجل المشرك الذي كان النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _

( 278 )

قد زوّجه بابنته زينب قبل التحريم بين المسلمين والمشركين مع قوله الله تبارك وتعالى:(إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)(1)، فهذا مبطل لاحتجاجك علينا بتزويج النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ له بابنتيه.

وأمّا قولك: إنّه كانت له فضائل في الإسلام متقدّمة، فإن الأعمال بالخواتم في الآخرة، لابالفضائل الاُولى(2).

وعلى كل تقدير فما يذكره هذا الكاتب وغيره هو الحق الذي يجب أن تمشي عليه

الاباضية في حياتهم الدينية ويجب علينا احترام الصحابة وودّهم على الموازين التي وردت في الكتاب والسنّة، ولا أظنّ مسلماً على أديم الأرض يبغض الصحابي بما هو صحابي أو بما أنّه رأى النبي أو بما أنّ له صلة به، ولو كان هناك استنكار فانّما لبعض الصحابة أمثال المغيرة بن شعبة وبسر بن أرطاة، وعمرو بن العاص، وسمرة بن جندب لما قاموا به من سفك الدماء البريئة والظلم في الأحكام، والطلب الحث بلذائذ الدنيا، كيف لايصحّ التبرّي منهم؟ وقد قال عمرو بن العاص لمعاوية عندما دعاه للمشاركة في الحرب ضدّ علي أبياتاً أوّلها:

معاوية لا اعطيك ديني ولم أنل * به منك دنياً فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة * أخذتَ بها شيخاً يضرّ وينفع (3)

***

____________________________

1. النساء: 48 و 116 .

2. السير و الجوابات لعلماء وأئمة عمان 1/374 _ 375 طبع وزارة التراث القومي والثقافة، تحقيق سيدة إسماعيل كاشف.

3. الطبري: التاريخ 3/558. اليعقوبي: التاريخ 2/175 طبع النجف الاشرف .

( 279 )

الفتاوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة

المذهب الاباضي يدّعي أنّه يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذاهب أهل السنّة، ولا يختلف معها إلاّ في مسائل قليلة اختلاف مذاهب السنّة نفسها في ما بينها.

وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسّسه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنابلة، بل أنّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب في أنّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظمهم إلاّ من التابعين .

كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من

الاباضية كالربيع بن حبيب و غيره، ليست إلاّ أحاديث وردت عن البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة.

( 280 )

إنّ الاباضية لا يعترفون بالتقليد فيما يأخذون أو يدّعون حتى لفقهائهم أنفسهم، والمشهور عنهم أنّهم يقولون: إنّهم رجال تقييد لاتقليد، أي أنّهم يتقيّدن بالكتاب والسنّة، وبما تقيّد والتزم به السلف الصالح، ولايقلّدون أصحاب المذاهب أو أصحاب الأقوال إلاّ إذا كانت أقوالهم موافقة للكتاب والسنّة (1) .

إنّ المذهب الاباضي كما وصفه الكاتب يستند إلى الأدلّة الشرعية والعقلية، فالعقل عندهم حجّة كالكتاب والسنّة، وليس ذلك أمراً خفيّاً على من سبر كتبهم العقائدية والفقهية، وقد كان ذلك معروفاً عنهم في القرون الاُولى حتى بين مخالفيهم على وجه قالوا: باغناء العقل عن السمع في أوّل التكليف. يقول المفيد شيخ الشيعة في القرن الرابع:

«اتفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع وأنّه غير منفك عن سمع ينبّه الغافل على كيفيّة الاستدلال، وأنّه لابدّ في أوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع و التوقّف، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوّل التكليف»(2).

وهذا النحو من الاعتماد على العقل يعد نوع مغالاة في القول بحجيّته إلاّ في مورد لزوم إصل المعرفة، لاستقلاله عليه دفعاً للضرر المحتمل وغيره ما حرّر

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب وعلاقتهم بأباضية عمان والبصرة: 58 _ 61 .

2. الشيخ المفيد (336 _ 413 ه_): أوائل المقالات 11 _ 12 .

( 281 )

في محلّه (1)

إنّ القول بحجّية العقل لايعني منها

إلاّ حجّيته في موارد يستقلّ بحكمها العقل على وجه اللزوم والقطع كالملازمات العقليّة، مستقلّة كانت أو غير مستقلّة، والأوّل كاستقلاله بالبراءة عن أيّ تكليف فيما إذا لم يرد من الشارع فيه بيان، ولزوم الفحص عن بيّنة مدّعي النبوّة، والنظر في دعواه وبرهانه، والثاني كالمسائل المعروفة بباب «الملازمات العقلّية» في اُصول الفقه، كادّعاء الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو نقيضه (الضد العام) إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه، ولا يحتجّ به الاّ فيما إذا لم يرد من الشرع حكم في مورده، وإلاّ فلا يقام له وزن، ولأجل الغلوّا الموجود في كلماتهم التي ترتبط بالعقل نجد لهم فتاوى فقهية لاتوافق الكتاب و السنّة، وقد أعطوا للعقل العاطفي فيها قيمة أكثر ممّا أعطوه للكتاب والسنّة، فقدّموا حكم العقل الظنّي على الحكم الشرعي القطعي، وإليك نماذج:

1 _ قد بلغت السماحة وحب السلام لدى الاباضية أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لاينبغي لأحد أن يفضّل أيّ فئة منهما على الاُخرى، حتى لاتحدث فتنة، وفي ذلك قال أحد شيوخهم من المغاربة: «إنّه إذا وقعت الفتنة بين فئتين من المؤمنين فالأحبّ إليّ أن يصطلحوا، فإن لم يفعلوا فالأحبّ إليّ أن لاتغلب فئة فئة، فإنّ من أحبّ أن تغلب أحدهما الاُخرى فقد دخل في الفتنة ولزمه ما لزمه أهل تلك، وكان سيفه يقطر دماً، والسلامة عندي أن يكونا في البراءة سواء، لايرجّح احدى الطائفتين، فإنّه متى رجّح اُثم»(2).

____________________________

1. لا حظ محاظراتنا في الالهيات بقلم الشيخ حسن مكّي العاملي 1/24 .

2. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 61، نقلا عن الدرجيني: طبقات المشايخ بالمغرب 2/491 .

( 282 )

لاشك انّ هذه الفتوى صدرت

عن عاطفة القائل وكونه محبّاً للوئام والسلام، لكنّها عاطفة في غير محلّها وربّما تتم لصالح الظالمين والفئات الباغية، والذكر الحكيم يصرّح بخلافه وانّه يجب مقاتلة الباغي إن لم يرجع إلى أمر الله، قال سبحانه:(وَ إنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلَى الاُخْرَى فَقاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِاللهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)(1) .

وعلى ضوء ما ذكره القائل، فالواجب على المسلمين في الفتنة التي أثارها طلحة والزبير في خلافة علي _ عليه السَّلام _ أو الفتنة التي أثارها ابن أبي سفيان بعد حرب الجمل، أن لاتفضّل أي فئة على الاُخرى حتى لاتحدث فتنة، وهذا النوع من حبّ الصلح والسلام أشبه بالخضوع لعاطفة عشواء ولو كان في ذلك ركوب الباطل.

2 - اتّفقت الاُمّة الإسلامية على أنّ الزنا بمجرّده لاينشر الحرمة بين الفاعلين إلاّ في موارد خاصّة كما إذا كانت الزانية مزوّجة، ويسمى في مصطلح الفقه« الزنا بذات الاحصان» وروت عائشة: أنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال الحرام، لا يحرّم الحلال.

ومع ذلك فقد جاءت الاباضية بفتوى شاذّة حسبها أنّها صيانة لكرامة المرأة حتى أنّ بعض المتأخّرين منهم صاغها في قالب اجتماعي حسب أنّه ينطلي على أصحاب الفقه، قال:

«لقد كانت بيئة الحياة في الاُمّة المسلمة لا تبيح للمرأة أن تخلى برجل أجنبي ولا تبيح لرجل أن يختلي بامرأة اجنبية عنه، وذلك خوفاً من الفتنة، لأنّ الدوافع الجنسية قد تتغلّب على النفس عند الرجل أو عند المرأة وهما مختليان،

____________________________

1. الحجرات: 9 .

( 283 )

فيصلان إلى المحذور، ويقع السوء الذي منه يحذران. ولقد درس الاباضية هذه المشكلة منذ خير القرون وانتهوا فيها إلى رأيهم الذي

ينفردون به فيما أعرف، فحرّموا الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الذي يحارب الفاحشة .

روت اُمّ المؤمنين عائشة _ رضى الله عنها_ عن رسول الله أنّه قال: «أيّما رجل زنا بامرأة ثم تزوّجها فهما زانيان إلى يوم القيامة»(1) .

يلاحظ عليه أوّلا: انّ الخضوع للعاطفة والتمسّك بهذه الذرائع إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة دليل من الشرع وإلاّ فيضرب بها عرض الجدار، وإن نبع عن مبدأ عقلي!!! أو عاطفي، فإذا كان الكتاب والسنّة واجماع الاُمّة حاكماً بجواز التزويج فلايسوغ لنا التمسّك بهذه الوجوه، ويكفي في ذلك اطلاق قوله سبحانه:( وَ أَُحِلَّ لَكُمْ ماوَرآءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتْغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِين)(2)، نعم عن بعض الفقهاء اشتراط الجواز بالتوبة، وعلى كلّ تقدير فليس في الاُمّة من يحرّم إلاّ الحسن البصري، وقوله شاذّ مخالف للكتاب واتّفاق الاُمّة.

قال الشيخ الطوسي: إذا زنى بامراة جاز له نكاحها فيما بعد، وبه قال عامّة أهل العلم، وقال الحسن البصري:لايجوز، وقال قتادة ومحمّد (وفي نسخة أحمد): إن تابا جاز وإلاّ لم يجز، وروي ذلك في أخبارنا(3) .

وقال ابن قدامة: «وإذا زنت المرأة لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلاّ بشرطين:

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 111 _ 112.

2. النساء: 24.

3. الشيخ الطوسي: الخلاف ج 2، كتاب النكاح، المسألة 71 ص 378 .

( 284 )

1 _ انقضاء العدّة.

2 _ التوبة: وإذا وجد الشرطان حلّ نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر أهل العلم، منهم: أبوبكر وعمر و ابنه و ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة والزهري والثوري والشافعي و ابن المنذر و أصحاب الرأي، وروي عن ابن مسعود

والبّراء بن عازب وعائشة: انّها لاتحلّ للزاني بحال، ويحتمل انّهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة أو قبل استبرائها فيكون كقولنا، فأمّا تحريمها على الاطلاق فلايصحّ لقول الله تعالى: ( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِاَمْوالِكُمْ...)، لأنّها محلّلة لغير الزاني فحلّت له كغيرها(1) .

ثانياً: إنّ صيانة كرامة المرأة إنّما هو في تجويز الزواج لافي التحريم لأنّ الزواج _ بعد الإثم _ يغطّي الفاحشة التي صدرت منهما عن جهالة، ويصير الفاعلان في المجتمع الإسلامي كزوجين شرعيّين يتعامل الناس معهما معاملة صحيحة وواقعية، وأمّا إذا أفتينا بحرمة الزواج، فالمرأة المخدوعة المحكومة بحكم العاطفة ربّما تلتحق بالغانيات إذا انتشر أمرها وظهر سرّها، ورغب عنها كلّ شابّ غيور.

3 _ «قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الاستجداء والمسألة، واعتمد الاباضية تلك الأحاديث الشريفة فمنعوا المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال، فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حرم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح»(2) .

لاشك انّ السؤال و الاستجداء حرام شرعاً ومكروه في بعض الموارد،

____________________________

1. عبد الله بن قدامة: المغني 7 / 64 _ 65 .

2. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 116 .

( 285 )

غير أنّ الافتاء بتحريم الزكاة بحجّة صيانة ماء وجه السائل فتوى على خلاف الكتاب والسنّة، ولو كان ذلك موجباً للتحريم لصدر فيه نصّ عن رسول الله لكثرة الابتلاءبها .

أضف إلى ذلك انّه سبحانه يأمر باعطاء السائل وعدم نهره، يقول سبحانه:

( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَ الَمحْرُومِ)(1).

وقال سبحانه:

( وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(2) .

وقال سبحانه:

( وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَسَاكِينَ وَ ابْنَ

السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ)(3)، والآية مطلقة تعم مورد الزكاة وغيره لولم نقل بورودها فيها.

***

____________________________

1. المعارج: 24 _ 25 .

2. الضحى: 10 .

3. البقرة: 177 .

( 286 )

( 287 )

خاتمة المطاف

قد تعرّفت في ماسبق على عقائد الاباضية وخصائصهم وقد اخترنا منها أموراً ثمانية بقي هنا أمرٌ يطيب لنا أن نلفت نظر القارىء إليه:

أ _ إنّ الاباضية لتجويزهم التقيّة جعلوا مسالك الدين أربعة تنتهي في المرحلة الرابعة إلى الكتمان المساوق للتقيّة، فقالوا: مسالك الدين أربعة:

1 _ الظهور 2 - الدفاع 3 _ الشراء 4 _ الكتمان.

إنّ للاباضية لجنة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي تسمّى ب_ «العزّابة» ولأجل ايقاف القارىء على خصوصيّات وصلاحيّات هذه اللجنة وشؤونها نأتي بنصّ كتابهم، فإليك البيان:

مسالك الدين عند الباضية:

إنّ المجتمع الإسلامي إمّا أن يكون ظاهراً على أعدائه، حرّاً في أراضيه، مستقّلا بأحكامه، عاملا بكتاب الله وسنّة رسوله، منفّذاً لأحكام الدين، لايخضع

( 288 )

لأجنبيّ بوجه من الوجوه، ولايستبدّ به حاكم، ولا يطغى عليه ذو سلطان، فهذه الحالة هي حالة الظهور، وهي أكمل الحالات للمجتمع المسلم، و عليها يجب أن تكون الاُمّة، لأنّها المنزلة التي ارتضاها الله للمؤمنين (وَ لِلَّهِ العِزَّة وَ لِرَسولِهِ وِ للمؤمِنينَ). فإذا انحدر المسلمون عن هذا المقام، وتضاءلوا عن هذا الشرف، ونزلوا عن هذه المرتبة التي رفعهم إليها الإيمان بالله، والثقة فيه، فيجب أن لايهادنوا الظلم، وأن لايستكينوا للطغيان، وأن لايسمحوا للأيدي العابثة، أن تعبث بمقدّرات الاُمّة، فتنتهك حرماتهم، وتحول دون اُمور دينهم، وتتحكّم في أعمالهم وعباداتهم، وتتصرّف في أموالهم بغير التشريع الذي وضعه عالم الغيب والشهادة، والهدى الذي تركه محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ لأبناء الإسلام .

إذا

انحدرت الاُمّة إلى هذه الوهدة، فيسيطر عليها عدوّ أجنبي، أو تخلّى _ من أولته الاُمّة ثقتها، وأسلمته مقاليدها، ووضعت بين يديه رعايتها _ عن الأمانة، وحاد بها عن الطريق، وخان الله ورسوله والمسلمين فيما وضع بين يديه، وجب حينئذ أن يقف المسلمون في طريق تلك الدولة الباغية، يأمرونها بالمعروف، وينهونها عن المنكر، ويلزمونها أن تسلك بهم طريق الصواب، فإذا اعتزّت بالإثم، واستمرأن طعم الظلم، واستكبرت أن تخضع لأمرالله، وأن ترجع إلى سبيل الله، فحينئذ يأتي القسم الثاني من التنظيم الإسلامي وهو الدفاع، والدفاع في مسالك الدين يرادف ما يعبّر عنه في العصر الحاضر بالثورة...الثورة على الاستعمار الأجنبي، أو الثورة على الاستعمار الداخلي: كالثورة على الظلم، والثورة على الاقطاع، والثورة على الفساد، والثورة على الانحراف عن دين الله في كلّ مظاهره وأشكاله. والزعيم الذي يقود هذه الثورة يسمّى «إمام الدفاع» وله على الاُمّة الثائرة حق الطاعة والامتثال، مادامت

( 289 )

الثورة قائمة، فاذا استقرّت الاُمور، ورجعت إلى الهدوء والاستقرار، أصبح واحداً من أفراد الاُمّة، له حقوقهم، وعليه واجباتهم، ورجوع الاُمور إلى نصابها يكون بأحد أمرين: إمّا نجاح الثورة، وإمّا فشلها، ونجاحها يكون بأحد أمرين: إمّا استجابة الدولة لمطالب الاُمّة، ورجوعها إلى أحكام الله، وفي هذه الحالة ينتهي عمل الثورة إلى هذا الحد. وإمّا الإطاحة بالنظام الفاسد، وقلب الحكم الظالم، وتغييره إلى نظام إسلامي، يتمشّى مع التشريع الذي جاء به كتاب الله الكريم، وعندئذ أيضاً لايكون لزعيم الثورة أو أمير الدفاع، أيّ حق في الحكم، إلاّ إذا اختارته الاُمّة، لشروط توفّرت فيه بعد الهدوء والاجتماع و التفكير والمفاضلة، حسب الشروط المتبعة في اختيار أمير للمؤمنين.

فإذا ضعف المسلمون حتى عن هذا الموقف، وأصبحوا لايستجيبون لداعي الثورة، ويفضّلون طريق السلامة،

ويركنون إلى الدعة والاستراحة، جاء المسلك الثالث من مسالك الدين، وهو الشراء: فحق لقلّة منهم إذا بلغوا أربعين شخصاً أن يعلنوا الثورة على الفساد، وبما أنّ هذه الثورة التي يقوم بها عدد قليل، لايتوقّع لها النجاح في كفاحها ضدّ دولة ظالمة مسلّحة، واُمّة مسالمة راضية بالذل، فإن هذا التنظيم يشبه أن يكون شغباً على دولة ظالمة حتى لاتطمئنّ إلى تنفيذ خططها الجائرة، وقد لاتكون لها نتائج غير هذا القلق الذي يخيّم على الظالمين، والتوجّس والخوف الذي يسود أعمالهم وحركاتهم، ولذلك فقد اشترط لهذا التنظيم، شروط قاسية لايقبلها إلاّ الفدائيّون، الذين وهبوا حياتهم لحياة الاُمّة، وذلك أنّه لايحلّ لهم بعد أن ينخرطوا في هذه المؤسّسة، أن يعودوا إلى بلادهم، أو يستقرّوا في أمكنتهم، أو يتخلّوا عن رسالتهم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى النجاح أو القتل، والقتل أقرب الأمرين إليهم، وعندما تضطرّ الظروف أحدهم إلى منزله لشأن من شؤون تمديد الثورة،

( 290 )

كالتزوّد، فإنّه يعتبر في منزله غريباً مسافراً يقصر الصلاة. ولكنّه عندما يكون في شعف الجبال، أو بطون الأدوية، يقطع المواصلات على الطغاة، أو يهدم الجسور التي تمرّبها القطر الظالمة، أو يقتلع اُسس القلاع التي تجمع ذخيرة الجبابرة، حينئذ يعتبر في منزله وبين أهله، وهم في كلّ ذلك لايحلّ لهم أن يروّعوا الآمنين، أو أن يسيئوا إلى المسالمين. إنّه تنظيم رائع للفدائية في الإسلام عندما يتحكّم الظلم، ويستعلي عبيد الشيطان، وتعطّل أحكام الله بأحكام الإنسان، يقول أبو إسحاق: «الشراء من أخص أوصاف الاباضية».

فإذا رضيت الاُمّة بالذل، واستسلمت للظلم، وجرى عليها حكم الطغاة، ولم يقم فيها من يثور لكرامة الإسلام المهدرة، ولالشرف الرسالة التي أعزّت الإنسانية، وتغلّب حبّ الدعة على كلّ فرد، وركن الجميع إلى الراحة، فلم

تتكوّن حتى الفدائية التي تقضّ مضاجع الظالمين، وتذكّرهم أنّ حكمهم لن يقر، وأنّ كراسيهم لن تستقر، وأنّ المقاومة لاتزال هي أمل المؤمنين، وانّهم سوف يحاسبون أمام الله، والاُمّة حساباً عسيراً.

إذا ضعفت الاُمّة حتى عن هذه المرتبة، أصبحت تحت التنظيم الأخير، تنظيم الكتمان. وعندئذ يجب أن يبتعد المؤمنون عن مساعدة الظالمين بتولّي الوظائف الظالمة ، وأن تتولّى شؤونهم جمعيات تبثّ فيهم هداية الله، وتملأ قلوبهم بالإيمان بالله، وتنشر فيهم المعرفة والثقافة الاسلامية التي تبصّرهم بدين الله، فلاتكون علاقتهم بالظالمين إلاّ في أيسر طريق، وأضيق مجال، فيما يتعلّق بجباية الأموال المفروضة عليهم للحاكمين، وهي الجمعيّات، أو ما يسمّى في التنظيم الاباضي «بحلقة العزّابة»(1) .

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 93 _ 96 .

( 291 )

العزّابة:

تعريف العزّابة: العزّابة هيئة محدودة العدد، تمثّل خيرة أهل البلد علماً وصلاحاً، وهذه الهيئة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي، الشؤون الدينية، والشؤون التعليمية، والشؤون الاجتماعية، والشؤون السياسية. وهي في زمن الظهور والدفاع تمثّل مجلس الشورى للإمام أو عامله ومن ينوب عنه. أمّا في زمني الشراء أو الكتمان فهي تمثّل الإمام وتقوم بعمله.

تختار هيئة العزّابة من بينها شيخاً يسمّى «شيخ العزّابة» يكون أعلمهم وأكثرهم كفاءة، ولايشترط فيه أن يكون أكبر هم سنّاً، والشيخ يرأس الهيئة في جلساتها، ويمثّلها في جميع أعمالها، ويتكلّم باسمها، وينفّذ قراراتها، ويتولّى الاشراف المباشر على جميع شؤون البلد أو الاُمّة، ويجب أن تعرض عليه جميع المشاكل والأحداث، وحكمه بعد قرار الهيئة نافذ في جميع الأحكام.

اشتقاق كلمة العزّابة: اشتقّت هذه الكلمة من العزوب أو العزابة، وهي تعني العزالة، والغربة، والتصوّف والتهجّد، والانقطاع في رؤوس الجبال، ويقصد بها في هذا الاستعمال الانقطاع إلى خدمة المصلحة العامة،

والاعراض عن حظوظ النفس، والبعد عن مشاغل الحياة، من أهل ومال وولد، فإنّ العزّابي لايعطي لهؤلاء من جهده ووقته إلاّ القليل، أمّا أعظم طاقته فيجب أن يصرفها لله في خدمة المسلمين، دون مقابل يتقاضاه على عمله، أو أجر يرجوه منهم، لأنّ أجره وحسابه على الله.

معنى كلمة الحلقة: كلمة الحلقة استعمال ثان يقصد به هيئة العزّابة، فهي مرادفة لها، وقد اُخذت هذه الكلمة من التحليق، وهو الاستدارة، وذلك انّ العزّابة في اجتماعاتهم الرسمية يجلسون على هيئة حلقة أو دائرة، وهو أنسب وضع لتبادل الآراء، ودارسة وجهات النظر المختلفة.

( 292 )

كما أنّ الجلوس على هذا الوضع أفضل حال عند الدراسة، أو تلاوة القرآن الكريم، والاّتجاه إلى الله بالدعاء .

مقرّ العزّابة: المقرّ الرسمي للعزّابة يكون في المسجد، ولذلك فلزام أن يكون في جانب من جوانب المسجد بيت خاص بالعزّابة، ويستحسن أن يكون بعيداً عن مجالس الناس، حتى لاتسمع المداولات التي تجري فيه، وهذا البيت الخاص بهم لايجوز لغيرهم الدخول إليه مطلقاً، ويتحتّم على الجدد منهم أن يقوموا بتنظيفه ومراقبته وفرشه وملاحظة جميع مايلزمه، وفيه تحفظ وثائقهم فلايطّلع عليها أحد غيرهم. وجميع المداولات والمناقشات والمباحث التي تجري داخله تعتبر سرّيّة، لايجوز اخراجها وافشاؤها لأيّ سبب من الأسباب، ماعدا القرارات التي تّتخذ للتنفيذ فيتولّى الشيخ اعلانها، وقد ينوب عنه أحد الأعضاء الآخرين، ولايجوز للعزّابة أن يناقشوا أي موضوع في غيرمقرّهم الرسمي، وبعد أن ينتهوا إلى قرار في أي موضوع يحق لهم أن ينتقلوا إلى مكان آخر لتنفيذ ذلك القرار، إذا كان تنفيذه يقتضي منهم الانتقال، وإذا أصدروا أمراً في شأن من الشؤون الاجتماعية للبلد، كتحديد المهور، أو تحديد الأسعار، أوبدء العمل في المواسم الزراعية، أو ما شاكل ذلك، فلم يستجب

الجمهور لقرارهم، اعتصموا في مقرّهم، ولزموا المسجد دون أن يقوموا بأعمالهم المعتادة، وامتنعوا من دخول الأسواق والبلد، حتى يستجيب الناس للحكم، ويقوموا بتنفيذ الأمر، ولم تحدث مثل هذه الحالة عند الاباضية في ليبيا، إلاّ عدداً قليلا من المرّات، استجاب فيها الناس لأمر العزّابة بأسرع مايمكن، بل لقد كان الناس يسارعون حين يسمعون بمثل هذا الموقف من العزّابة، فيقنعون بعضهم، ويبلّغون موافقتهم إلى المجلس قبل حضور وقت الصلاة الثانية، فتسيرالاُمور في معتادها.

( 293 )

عدد أعضاء الحلقة: يتراوح عدد أعضاء الحلقة بين عشرة أعضاء وستة عشر عضواً، يوزّع عليهم العمل كما يأتي:

1 _ شيخ العزّابة: ويكون أعلم القوم، وأقواهم شخصية، وأقدرهم على حلّ المشاكل.

2 _ المستشارون: ويكون عددهم أربعة لايزيدون ولاينقصون، ويلزمون الشيخ، ولايقطع أمراً دون موافقتهم.

3 _ الإمام: شخص واحد، يقوم بصلاة الجماعة، ويجوز أن يكون أحد الأربعة المستشارين.

4 _ المؤذّن: وهو شخص واحد مسؤول عن تحرّي أوقات الصلاة، والقيام بمهمّة الأذان، ويصحّ أن يكون أحد الأربعة المستشارين.

5 _ وكلاء الأوقاف: يخصّص عضوان للاشراف على الأوقاف، وعلى ميزانيّة الحلقة، وضبط الواردات والصادرات، وطريقة اصلاح وتنمية الأوقاف، ويشترط في هذين العضوين بالاضافة إلى الشروط العامّة لأعضاء الحلقة، أن لايكونا من الأغنياء المكثرين، ولامن الفقراء المعوزين، ولكن من متوسّطي الحال المستورين.

6 _ المعلّمون: يخصّص ثلاثة أعضاء أو أكثر أو أقلّ حسب الحاجة، للاشراف على التربية والتعليم، وتنظيم الدراسة، ومراقبة التلاميذ في المحاضر، وهي دور التعليم، أو في الأقسام الداخلية، وما إلى ذلك من شؤون التعليم .

7 _ حقوق الموتى: يخصّص أربعة أعضاء أو خمسة للاشراف على حقوق الموتى، فيتولّون الاشراف على غسلهم، وتجهيزهم، والصّلاة عليهم، ودفنهم ومراقبة تنفيذ وصاياهم، وتقسيم تركاتهم حسب الفرائض في أحكام

( 294 )

الإسلام.

وإذا

توفّي شخص وهو في براءة المسلمين بأن مات على معصية، فإنّ هؤلاء العزّابة لايقومون بحقوقه، لأنّ العاصي لاحقّ له على المؤمنين، ولكنّهم يسمحون لمن شاء من غير أعضاء الحلقة أن يقوم بتلك الحقوق، ذلك أنّ القيام باُمور الميّت فرض على الكفاية، إذا قام به البعض أجزى عن الباقين.

شروط العضوية: يشترط في أعضاء العزّابة عدّة شروط، منها:

1 _ أن يكون حافظاً لكتاب الله.

2 _ أن يمرّ بمراحل الدراسة مرحلة مرحلة، ويستوفي الدراسة فيها.

3 _ أن يكون محافظاً على الزّي الرسمي للطلبة عندما كان في الدراسة، وللزّي الرسمي للعزّابة عندما يدخل الحلقة .

4 _ أن يكون أديباً كيّساً فطناً، ذا لباقة ومهارة في تصريف الاُمور.

5 _ أن يكون محبّاً للدراسة راغباً فيها، مواصلا للتعلّم والتعليم.

6 _ أن لاتكون له مشاغل دنيوية كثيرة تحمله على كثرة التردّد على الأسواق، والاختلاط بالعامّة والسَوَقة، اختلاطاً يزري بمقامه، ويذهب بهيبته .

7 _ أن يغسل جسده بماء ويغسل قلبه بماء و سدر، وهذه عبارة اصطلاحية، يقصد منها أن يكون الإنسان نظيف اليد، والبطن، والعين من أموال الناس، وأن يكون نظيف القلب من جميع أمراض القلوب، أي أن يكون طاهر الباطن والظاهر.

وقد شرح أبو عمار عبد الكافي هذه العبارة، بقوله: «أمّا الجسد فيغسله من الدنس في الناس، وأمّا القلب فيغسله من الغش والتكّبر وما أشبه ذلك ممّا يوجب حبط العمل» والعبارة كماترى في غاية الدقّة، وهي تحتمل أكثر ممّا أشرت إليه وأشار إليه العلاّمة أبو عمار فتأمّلها، فكلّما تأمّلتها وجدت فيها

( 295 )

معنى جديداً....

ولقد شدّد المشايخ في تنظيف المؤمن لقلبه، لأنّ أدران القلوب أشدّ قذارة من أدران الأبدان، ولذلك أوجبوا عليه أن يغسل جسده بالماء، وأن يغسل قلبه بماء وسدر، وهي كناية تفيد

الحرص الشديد على نظافة الباطن أكثر من نظافة الظاهر، فإنّ من طهرت سريرته حسنت سيرته، واستقامت اُموره، وكثرت محاسبته لنفسه، ورعايته لسلوكه، وفي ذلك النجاح .

واجبات الحلقة: على هيئة العزّابة واجبات أكيدة هي مسؤولة عنها باعتبارها هيئة، وتتلخّص هذه الواجبات فيما يلي:

1 _ الاشراف على التعليم وتهيئة الوسائل لذلك، وتيسير السبل أمام جميع الأطفال لينالوا قسطاً من الدراسة، ويتعلّموا جزءاً من القرآن الكريم وما يعرفون به اُمور دينهم، وهذا أقل ما يمكن أن يتاح للطفل، فإذا كانت اُسرة الطفل فقيرة بحيث لاتستغني عن مجهوده الضعيف، أو ليس لها ما تموّنه به أوقات الدراسة، وجب أن تقدّم له مساعدة، وذلك بالانفاق عليه.

2 _ مراعاة الحالة الاجتماعية للناس، وتيسير سبل الحياة للفقير والضعيف وايجاد العمل للجميع، وذلك بمطالبة الأغنياء وأصحاب اليسار أن يستعينوا بالفقراء في انجاز أعمالهم مقابل اُجور، كثيراً ما يعيّنها أعضاء العزّابة .

3 _ حلّ المشاكل التي تنجم بين الناس، والفصل في قضاياهم، والحكم بينهم في خصوماتهم وايصال الحقوق إلى أصحابها .

4 _ الاشراف على أوقاف المساجد، وعلى ميزانية الحلقة أو ضبط الصادر والوارد، وانفاق جميع ذلك في وجوهه، والعمل على تنمية الأوقاف الثابتة، واصلاحها، واستغلالها أحسن استغلال.

5 _ حفظ الأسواق ومراقبتها من أن تقع فيها معاملات لايبيحها الشرع، أو

( 296 )

أن ترد إليها أموال مسترابة أو مشبوهة.

6 _ تنظيم الحراسة البلدية على أموال الناس من زراعة وماشية حتى لاتصل إليها أيدي الغارة والسرقة والاضرار .

7 _ الحكم على العصاة والمجرمين وتأديبهم، واعلان البراءة منهم، وقطع التعامل معهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله .

8 _ القيام بالعلاقات الخارجية وتنظيمها، سواء كانت علاقات حرب أو سلام.

هذه بعض المهام التي تناط بمجلس العزّابة باعتباره هيئة مسؤولة عن

المجتمع أمام الله وأمام الناس، وعلى الهيئة أن توزّع الأعمال على الأعضاء حسب الكفاءة والمقدرة، والذي يقوم بذلك إنّما هو الشيخ بعد اتّفاق الحلقة.

أين تنشأ حلق العزّابة: تنشأ حلق العزّابة في كل بلد أو قرية، وحلقة العزّابة هم الذين يشرفون على اُمور البلد أو القرية الخاصّة، فإذا كان هنالك أمر هام، أو حدث أكبر من مستوى القرية أو البلد رفع إلى المجلس الأعلى للعزّابة الذي يرأسه الشيخ الأكبر، أو حاكم الجبل حسبما كان في جبل نفوسة، وذلك كمسائل ايقاع الحدود، وما يتعلّق بالأمن العام، وما إلى ذلك من المشاكل التي تكون أكبر من المستوى المحلّي للقرية، والهيئة الكبرى للعزّابة أو الهيئة العامة لهم هي الهيئة التي يرأسها الشيخ الأكبر، ولابدّ أن يكون شيخاً للعزّابة في بلده ويقوم مقام الإمام في أزمنة الكتمان، أمّا أعضاء العزّابة الذين يكونون معه فهم المستشارون، ويكونون من شيوخ حلق العزّابة في بلدانهم. ومقرّهم هو مركز البلاد وعاصمتها، ولهم مع الشيخ اجتماعات دورية، مرة في كلّ ثلاثة أشهر، ومتى دعت الحاجة. وأحكام هذا المجلس نافذة على جميع البلاد، وكل الحلق خاضع مادّياً وأدبيّاً لهذا المجلس، ويعتبر السلطة الحقيقية للمجتمع

( 297 )

الاباضي، أمّا بقية الحلق فهي مساعدة له، منفّذة لأعماله، ويجب على الشيخ الأكبر للعزّابة ان يكون مقر حكمه في مركز البلاد، فإذا اختار السكن في غير ذلك المكان فعليه أن يباشر الأحكام في مركز الحكم لا في محل السكن كما كان يفعل أبو هارون موسى بن هارون، وأبو عبدالله بن جلداسن اللالوتي، وأبو يحيى الارّجاني، وغيرهم.

إنّ شيخ العزّابة في المجتمع الاباضي يمثّل سلطة الإمام العادل، ويقوم بجميع مهامه في النطاق الذي تسمح به ظروف الحياة في زمن كل واحد منهم. وهو

مقيّد بمجلس الشورى الذي لايحق له أن يصدر رأياً قبل موافقته، اللّهمّ إلاّ في الأحكام الثابتة في الدين الإسلامي، وله أن يستعين بشخص يقوم له مقام المفتي، والقصد من هذا المفتي هو تحرير نصوص الحكم المستمدّة من الشرع الشريف، أو المساعدة على ترجيح الأقوال في المسائل الخلافية التي تتعدّد فيها وجهات أنظار الفقهاء. وليس المقصود من وجود المفتي أن يبصر الشيخ باحكام لا يعرفها، لأنّ شيخ العزّابة يشترط فيه أن يكون من أعلم المشايخ، إذا لم يكن أعلمهم.

وفي الاجتماعات الدورية التي تعقد في ثلاثة أشهر، أو في ستّة أشهر، يحضر ممثّلون عن جميع حلق العزّابة، ويستعرضون ما لديهم من مشاكل، ويدرسون معاً وضع المجتمع، ويتّخذون في ذلك القرارات اللازمة، يرسمون خطط السير في المستقبل، على أنّه يحق لكل حلقة أن تتّصل بالمجلس الأعلى وتدعوه للانعقاد إذا كانت هنالك أسباب تدعو إلى ذلك، كما أنّ لها الحق أن تعرض مشاكلها الخاصة على الشيخ الأكبر، وتقتبس منه الرأي والنصيحة.

ويمثّل كلّ حلقة من حلق العزّابة شيخها وبعض مستشاريه، إلاّ في أحوال الضرورة التي يتعذّر فيها عليه أن يقوم بهذه المهمّة.

( 298 )

اختيار أعضاء الحلقة: يراعى في اختيار العزّابة بالاضافة إلى الشروط التي يجب أن تتوفّر في كل شخص أن يكونوا ممثّلين للقبائل أو الجهات التي يشتمل عليها البلد، ولايشترط تساوي العدد، كما أنّه إذا لم يوجد في قبيلة ما ، من تتوفّر فيه الشروط الشخصية اُخذ من غيرها، وعندما يحتاج العزّابة إلى اضافة عضو جديد إلى الحلقة يأخذونه عن أحد طريقين:

إمّا أن يطلبوا من القبيلة التي يراد أخذ العضو منها أن ترشّح عدداً ممّن تتوفّر فيهم شروط العضوية والكفاءات المطلوبة مع الشهرة بالصلاح، والتقوى، والعفاف، والنزاهة، وحب الخير،

والايثار، والتضحية، والعمل للصالح العام، فتختار الهيئة واحداً منهم، وإمّا أن يطلبوا إلى منظمة «إيرْوان» أن يقدّموا إليهم واحداً ممّن يملأ ذلك الفراغ .

حين يتعيّن العضو لأن يشغل مركزاً في العزّابة، يدعى إلى مقرّهم الرسمي ويتولّى الشيخ تعريفه بالسيرة التي يجب عليه أن يسيرها، وبالأدب الذي يلتزمه، ويؤكّد عليه أن يعرف انّ من أوكد الواجبات عليه أن يحافظ على آداب الإسلام، ويتخلّق بأخلاقه الحميدة، من الاستقامة والنزاهة، والعفّة، والانقطاع إلى خدمة الاُمّة، والتزام المسجد، والاعراض عن حظوظ الدنيا إلاّ بمقدار الضرورة، والاجتهاد في العبادة، والتواضع للمؤمنين، والغلظة على العصاة والمجرمين، وأن يكون قدوة حسنة للناس في قوله وفي عمله، وأن يتحرّى في رزقه التحرّي الكامل، ويختار له أن يكون مجال احترافه الزراعة، لأنّ التجارة تسبّب له احتكاكاً مباشراً بالناس، فيغلب أن لايسلم منها بالحق أو بالباطل، وهم يلخّصون هذا الموقف في عبارة مشهورة متداولة هي:

«أن لايكون في مسجده، أو حقله أو بيته» وبعد أن يعرّف بجميع ما يترتّب عليه من حقوق وواجبات، وما يلقى عليه من مهام ومسؤوليات، يطلب

( 299 )

إليه أن يعلن عن قبوله أو رفضه، فإذا أعلن قبوله _ وهذا ما يحدث فعلا _ اُسندت إليه المهامّ العملية، كأن يقوم بالتدريس أو وكالة المسجد، أو الاشتراك في الاشراف على حقوق الموتى، ثمّ اعلم انّه يعتبر أصغر العزّابة، ولو كان أكبر من بعضهم سنّاً، وعليه أن يتولّى خدمتهم، ويطلب إلى سلفه _ أي العزّابي الذي كان أصغرهم قبل هذا العضو الجديد_ أن يبقى معه ثلاثة أيّام، يدرّبه فيها على آداب خدمة العزّابة، لأنّه يعتبر رئيسه المباشر، وعندما يجلس العزّابة يتحتّم أن يكون مجلسه بعده... وترتيب مجالس العزّابة ضروري، فلايجوز للمتأخّر أن يسبق المتقدّم، والعزّابي

يعتبر رئيساً في أي مكان يوجد فيه، وله وحده حق افتتاح الكلام في المجالس العامّة، وكذلك اختتامه، وادارة المناقشات، وما إلى ذلك، فلايجوز لتلميذ أو عامي أن يتولّى شيئاً من ذلك إلاّ بإذنه.

عقوبة العزّابي:

المطلوب من العزّابي أن يكون قدوة ومثلا للاستقامة، ولذلك فإنّ ما يعتبر من غير أخطاء صغيرة يعتبر منه أخطاء كبيرة يجب عليه الاحتراس منها، والابتعاد عنها، وهذا حتى في مكارم الأخلاق، ومعاملة الناس، فإذا قدّر عليه فأخطأ، نظر مجلس العزّابة في موضوعه:

فإن كان الخطأ كبيراً يتّصل بمعصية الله، ويسىء إلى سمعة العزّابة، أو يلحق إهانة بالمسجد أو استخفافاً بالحق، أو ما أشبه ذلك، وجب عليهم أن يحكموا عليه بالبراءة على الأشهاد، كما يقع بالنسبة لغيره من الناس، ولايرفع عنه حكم البراءة حتى يتوب علناً، وليس له بعد ذلك حق الرجوع إلى مجلس العزّابة أبداً، فإنّ من اُخرج من هذا المجلس بطريق البراءة لايحق له دخوله مرّة

( 300 )

ثانية، وإن تاب ونصحت توبته، ويبقى كسائر المسلمين له حقوقهم وعليه واجباتهم.

أمّا إذا كان الخطأ صغيراً لايقتضي التوبة، فإنّهم يعقدون له مجلس تأديب سرّي، وقد يحكمون عليه بالابعاد عن مجلس العزّابة لمدة طويلة أو قصيرة حسب الخطأ الذي ارتكبه، وستروا عليه ذلك عن الناس.

وبسبب هذا الحكم كان العزّابة من أشد المحافظين على الإسلام وآدابه، وقد لخّص أحد المشايخ هذه السيرة في عبارة لطيفة فقال: «إنّ متولّي الناس مثل اللبن يغّيره أي شيء يقع عليه» .

كيف تكون نظام العزّابة:

في أواخر القرن الثالث الهجري وقعت حادثتان كبيرتان، وكان لهما أثر كبير على الاباضية، في ليبيا و تونس والجزائر:

الاُولى: الحرب الطاحنة بين الأغالبة والاباضية في قصر مانو، وقد تلقّى فيها الاباضية ضربة عنيفة من يد الطاغية أحمد بن

الأغلب.

أمّا الثانية: فهي تغّلب الشيعة على الدولة الرستمية في الجزائر، وقضائهم على هذه الدولة.

وإذا كانت كلتا الدولتين الأغلبية والشيعية لاتتبعان أحكام الإسلام، ولاتعملان بها، فقد فكّر علماء الاباضية في جعل نظام يسيرون عليه، يحفظون به أحكام الله في مواطنهم، ويسيّرون به الاُمّة في الوجهة الصالحة، دون أن يلتجئوا إلى اعلان دولة جديدة، أو يتعلّقوا بدولة ظالمة مستبدّة.

فاهتدوا إلى وضع هذا النظام، وقد كان في أوّل الأمر عرفاً يسير عليه الناس، حتى جاء الإمام الكبير أبو عبدالله محمد بن بكر في أواخر القرن الرابع،

( 301 )

فحرّره على شكل قانون يشتمل على مواد، ثمّ طبّقه تطبيقاً كاملا في مواطن الاباضية، في ليبيا، ثمّ في تونس، ثمّ في الجزائر، حيث لايزال يطبّق بدقّة، وعلى هذا الأساس اعتبر المؤرّخون أنّ الإمام أبا عبدالله هو واضع نظام العزّابة، والحق أنّه يعتبر واضعاً لهذا النظام، فلولاه لما وصل إلينا على تلك الطريقة المنسّقة، وقد جاء بعد أبي عبدالله عدد من العلماء الكبار عنوا بدراسة هذا النظام عناية خاصّة، وأضافوا إليه بعض المواد، وأطلق عليه بعضهم لفظ «سيرة العزّابة» ومن العلماء الذين عنوا به، وكتبوا عنه: أبو زكريا يحيى بن بكر، وأبو عمّار عبدالكافي، وأبو الربيع سليمان بن يخلف المزاتي، وقد حرص المتأخّرون منهم أن يضيفوا إليه جملا في آداب العالم والمتعلّم، وآداب حلقة العزّابة وما يجب أن تتنزّه عنه.

والذي يدرس هذا النظام كما شرحه اُولئك الأئمّة الأعلام يخرج بقانون فذّ لنظم التربية والتعليم من جهة، وللسيرة الصالحة التي يجب أن يسير عليها المسلمون، فتحفظ عليهم خلقهم ودينهم، عندما تسيطر عليهم دول البغي والعدوان.

هذا ملخّص يسير مختصر عن نظام العزّابة الذي بقى يسير به الاباضية في المغرب الإسلامي مُدّة طويلة .

وقد ارتفع

حكم العزّابة من مواطن الاباضية، في ليبيا وتونس في القرن الأخير، ومنذ ارتفع نظام العزّابة في هذه المواطن تسرّب الفساد إلى المجتمع، ولن يستطيع الاباضية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من دين وخلق واستقامة مالم يعودوا إلى الاستمساك بدين الله واللياذ به، وانّ المسلمين جميعاً ما اُصيبوا به إلاّ لانحرافهم عن دين الله، وخروجهم عن منهاجه.

ولن يصلح آخر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها.

***

( 302 )

نصيحة للاباضية

أظن أنّ العالم الاباضي إذا قرأ فصول هذا الجزء لايرمينا بالبخس لحقّه، والتجاهل لمذهبه، والتساهل في نقل عقائده بعدم الرجوع إلى المصادر الأصيلة لهم، كما اتّهم به غيرنا من كتّاب المقالات (1) .

وذلك لأنّا كما رجعنا إلى كتب المخالفين رجعنا إلى مصادرهم أيضاً، ولنا هنا موقف خاص و هو موقف الناصح الشفيق لاخوانه في الدين، لايريد من القاء هذا النصح سوى وجه الله _ تبارك و تعالى _ ودعم وحدة الاُمّة وقطع جذور الاختلاف بقدر الامكان.

إنّ كتّاب الاباضية اليوم وأمس خرجوا بهذه النتيجة أنّه لافرق بينهم وبين جميع فرق المسلمين إلاّ في أمرين:

1 _ تخطئة التحكيم.

2 _ نفي لزوم القرشيّة في الإمام.

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/19 _ 20 .

( 303 )

وأمّا سائرالاُصول التي يعتقدون بها فهم يلتقون فيها مع بعض الفرق الإسلامية، مثلا يلتقون في القول بعدم زيادة صفاته على ذاته، وامتناع رؤية الله سبحانه في الآخرة، وتنزيهه سبحانه عن وصمة التشبيه بتأويل الصفات الخبرية تأويلا تؤيّده قواعد الأدب والمحاورة وحدوث القرآن، ففي هذه الاُصول يلتقون مع المعتزلة والشيعة الإمامية، وفي تفسير الشفاعة بمعنى ترفيع الدرجة، أو سرعة الدخول إلى الجنّة وخلود أهل المعاصي في النار يلتقون مع المعتزلة، وفي تفسير

القدر و كون أفعال الانسان مخلوقة لله سبحانه فهو خالق و العبد كاسب يلتقون مع الأشاعرة (1) .

إذا سلّمنا أنّ هذه الاُصول من عقائدهم وسلّمنا أنّ ما كتبه كتّاب الفرق ورموهم به فرية بلامرية، نرى أنّ من الواجب أن تقوم الطائفة الاباضية بالاُمور التالية حتى يدعم الوئام ويملأ الفراغ وتصبح الاُمّة يداً واحدة، وهي:

1 _ إنّ الإيمان بصحّة كل ما يكتبونه عن منهجهم ويفسّرون به عقائدهم مشكلٌ جدّاً لما وافاك من أنّ لهم في تبيين الدين مسالك أربعة ومن بين تلك المسالك: «الكتمان والسر» فعندئذ انّه من المحتمل أن تكون كل هذه المناشير مستقاة من هذا المبدأ وأنّها دعايات برّرتها التقيّة، وسوّغتها المصالح الزمنيّة.

فلأجل استقطاب قلوب الناس، حان حين الشطب على هذه المسالك في تبيين الدين، خصوصاً انّ القوم يعيشون في عصر الحريّة، وعندئذ لامبرّر لهم للتقّية لأنّ التقيّة شأن من يخفي عقيدته من مخالفه، ويخاف من ابداء موقفه من الهجوم والقتل والضرب، وأنتم بحمدالله أيّها الاباضيّون ملتقون مع الفرق الإسلامية في جميع المسائل إلاّ مسألتين غير هامّتين، فأجهروا بالحقيقة واشطبوا على هذه المسالك واتّخذوا مسلكاً واحداً .

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/289 _ 297 .

( 304 )

2 _ إذا كان الحدّ الفاصل بينكم وبين سائر المسلمين هو الأمران المذكوران، فمن الجدير شطب القلم على هذين الأمرين ايضاً: أمّا مسألة القرشية فلو كان شرطاً فإنّما هو شرط في الخلافة الإسلامية والإمامة الدينية، وأين المسلمون من هذه المنى؟ وأين هم به من إقامة صرح الإمامة، وهم يعيشون في سحيق القومية البغيضة النامية في أقوام المسلمين، والعجب انّ الشيخ علي يحيى معمّر قد تنّبه بما ذكرنا، وقال:

«والآن قد ألغت الحياة بعض تلك الاعتبارات التي

أدخلتها السياسة على الموضوع، واتّضح للناس جميعاً انّ الصراع الذي وقع بسبب اشتراط الوصية، أو الهاشمية أو القرشية، أو العروبة أو اعتبار الإمام معصوماً، أو لايجوز اسقاطه ولو كان منحرفاً، كل هذه الجوانب التي كان الخلاف بسببها بين فرق الاُمّة ثبت اليوم أنه صراع على تفصيلات لاتدخل في أصل الموضوع» (1).

إنّ فيما ذكره و إن كان إغراقاً حيث انّ البحث عن الوصاية ليس بالمرتبة التي تخيّلها، لأنّه كان يجب على المسلمين بعد رحلة النبي أن يبحثوا عن كيفيّة الاستخلاف وانّه هل هو أوصى برجل أو أدلى الأمر إلى الاُمّة، ولكن وراء ذلك كلّه مشاغبات حدثت بين المسلمين، لاتمت إلى الإسلام بصلة، فإذا كان شرط القرشية وعدمها هذا فما هو المبرّر لجعله أصلا دينياً.

أما مسألة التحكيم، فقد عرفت الحقّ فيه، ولكنّه ليس أصلا من اُصول الدين يناط به الإسلام و الإيمان وقد عاش المسلمون في عصر النبي وبعده إلى أواسط خلافة الإمام علي _ عليه السَّلام _ ولم تكن هذه المسألة مطروحة. أفهل يصحّ أن نتّخذه شعاراً وأصلا أصيلا من الاُصول كالتوحيد، والنبوّة، والمعاد، وما جاء به النبي في مجال المعاش والحياة؟

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/150 .

( 305 )

إنّ مسألة التحكيم مسألة تاريخية اختلف فيها الناس من حيث التصويب والتخطئة، فإذا لم تكن الإمامة عند أهل السنّة، أصلا من الاُصول فكيف يكون فرعه اصلا منها؟ وأقصى ما عند أهل السنّة قوله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وهو لايدل على أزيد من لزوم معرفة الإمام الحي، فالاعتقاد بوصف فعل الإمام (صحّة التحكيم وعدمه) الذي مضى قبل أربعة عشر قرناً لايكون أصلا

من الاُصول حتى تلزم الاُمّة بالاعتقاد بأحد الطرفين. نعم إنّ ذلك لايمنع عن طرح الموضوع على بساط البحث بين العلماء وبين المدارس والصفوف العلمية من دون أن يكون تحيّز كل فئة في المسألة سبباً للتفرقة.

3 _ إنّ الاباضية يثنون على المحكّمة الاُولى كعبدالله بن وهب، وحرقوص بن زهير السعدي، وزيد بن الحصين الطائي، ومن لفّ لفّهم من المحكِّمة الاُولى ولايذكرون عنهم شيئاً سوى أنّهم خالفوا التحكيم، وانّ عليّاً حكَّم الرجال في موضوع له حكم في الكتاب والسنّة وهو قتال أهل البغي...

يذكرون ذلك ويطرون عليهم ولايذكرون من عملهم الإجرامى شيئاً وهو أنّ هؤلاء هم الذين فرضوا التحكيم على الإمام، وانّ زيد بن الحصين الطائي جاء مع زهاء عشرين ألف رجل مقّنعين في الحديد ونادوا الإمام باسمه لابإمرة المؤمنين، وقالوا له: لابد من الموافقة على وضع الحرب، وإلاّ نقتلك كما قتلنا عثمان، فاضطرّ الإمام إلى التنازل والموافقة بعد ما خالفهم واحتجّ عليهم بأنّ رفع المصاحف خدعة ومكيدة، وانّه يعرف هؤلاء وانّهم كانوا شرّ أطفال فصاروا شرّ رجال .

هذا هو زيد بن الحصين الطائي فهو بعد فترة قصيرة أصبح مخالفاً للتحكيم إلى حدّ كان هو المرشَّح الأوّل للخوارج في قضية سوق المحكّمة إلى النهروان،

( 306 )

ولمّا امتنع من قبول القيادة اقترح على حرقوص بن الزهير السعدي، ثمّ على غيره فقبل القيادة في النهاية عبدالله بن وهب الراسبي(1).

فكيف يتولّون جماعة متسرّعين في القضاء تسمّونهم أئمّة وشهداء ولاتذكرون من عملهم الاجرامي شيئاً؟! شهد الله انّي لم أر كلمةً في كتبهم تذكر عملهم الإجرامي في أمر التحكيم.

4 - إنّ الاباضية وصلت في ضوء الاجتهاد المطلق مرتبة جديرة بالذكر وآية ذلك انّهم التقوا في مسألة الرؤية، وعينيّة الصفات، وحدوث القرآن، وتفسير الصفات

الخبرية، مع أهل الوعي والعقل والتفكير من المسلمين، ولاشكّ إنّهم وصلوا إلى هذه الاُصول بعد موت عبدالله بن اباض، وجابر بن زيد، ومسلم بن أبي كريمة، والربيع بن حبيب، لأنّ هذه الاُصول إنّما صفت وتنوّرت وتلألأت بفضل البحوث الجبّارة من أهل الفكر و التحقيق و من فضل ماورث علماء أهل البيت من خطب الإمام أمير المؤمنين علي _ عليه السَّلام _ حتى صقلوها ببراهينهم الجليّة، فإذا كان هذا حال مذهبهم فلأي مبرّر يسندون مذهبهم إلى واحد من التابعين كعبدالله بن اباض وجابر بن زيد وتلاميذه؟ مع أنّهم لم يكونوا بالنسبة إلى هذه المسائل في حلّ ولامرتحل.

أضف إلى ذلك أنّ الرجلين كانا من التابعين أخذوا عن الصحابة وبلغوا إلى ما بلغوا من العلم، ولكن بين علماء الاُمّة من كان أعلم منهما أعني اُستاذه ابن عباس، ذلك البحر الموّاج _ حسب تعابير القوم _، بل وبينهم الإمامان الحسن و الحسين، وباقر العلوم، وجعفر الصادق(عليهم السلام) وغيرهم فلوكان هناك ملزم للانتساب، فالانتساب إلى الأعلم والأتقى ومن نصّ الكتاب على وجوب ودّه، أولى وألزم، فإن كان هذا الانتماء غير ممكن فالانتماء إلى

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4/5 .

( 307 )

جميع الصحابة والتابعين بلا رفع واحد و خفض آخر، أولى وأحق .

5 _ إذا كان الكتاب و السنّة هما المصدران الرئيسيان لدى المسلمين ولديكم فنحن نحبّذ لكم دراسة حال حياة الإمام علي _ عليه السَّلام _ ومناقبه الواردة في السنّة النبوية، ولعلّكم عند ذلك سترجعون عن ولاء المحكّمة الاُولى، وتخطّئون منهجهم وأعمالهم.

هذه أمنيتي واُمنية كل ناصح مشفق، عسى الله أن يجمع كلمة المسلمين ويلمَّ شعثهم، ويجعلهم يداً واحدة قبال المعتدين والمستعمرين، والله رؤوف رحيم.

***

الفصل الحادي عشر مؤسس المذهب الاباضي

الفصل الحادي عشر مؤسس المذهب الاباضي ودعاته

في العصور

الاُولى

( 310 )

( 311 )

قد تعرّفت على عقائد الاباضية وشيئاً من اُصولهم وفقههم وسيرتهم والمسالك الأربعة عندهم، فحان التعرّف على أئمّتهم و دعاتهم في القرون الاُولى، خصوصاً أنّ الاباضية هي الفرقة الوحيدة الباقية من الخوارج المنتشرة في مناطق مختلفة أعني عمان، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، المغرب وزنجبار.

1 _ عبدالله بن اباض، مؤسّس المذهب:

هو عبدالله بن اباض المقاعسي، المري، التميمي _ من بني مرّة _ ابن عبيد ابن مقاعس من دعاة الاباضية بل هو مؤسّس المذهب.

قد اشتهرت هذه الفرقة بالاباضية من أوّل يوم، وهذا يدل على أنّه كان لعبدالله بن اباض دور في نشوء هذه الفرقة وازدهارها، وإن كانت الفرقة يطلقون على أنفسهم أسماء اُخرى يشترك فيها سائر المسلمين كأهل الإسلام وأهل الحق أو جماعة المسلمين، وغير ذلك، غير أنّ هذه الأسماء لم تكن وافية بالتعرّف عليهم بل كان المعرّف لهم عنوانين: 1 _ القعدة 2 _ الاباضية.

كل ذلك يشرف الإنسان على الاطمئنان بأنّ لابن اباض تأثيراً هامّاً في

( 312 )

نشوء هذه الفرقة، وإليك البيان:

ظهور خط الاعتدال بعد مقتل الإمام:

قد عرفت أنّ عليّاً _ عليه السَّلام _ قد قضى على الخوارج الذين كانوا يثيرون الشغب، ويستعرضون الناس بالسيف، فلمّا مضى علي _ عليه السَّلام _ وضع معاوية بن أبي سفيان السيف في الخوارج واستأصل شأفتهم لما كانوا يرتكبون من الأعمال الإجرامية التي عبّر عنها علي _ عليه السَّلام _ في خطبة له: «كلاّ والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء. كلّما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين»(1) .

وقال _ عليه السَّلام _ مخطاباً لهم:

«أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، وسيفاً قاطعاً، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة»(2) .

ففي هذه الظروف القاسية وجد

بينهم رجل يملك شيئاً من العقل ورأى أنّ تلك الأعمال الإجراميّة تسقطهم عن العيون ولا تُبْلِغُهم إلى الهدف، وهو «أبو بلال مرداس بن حدير» ونقطة البداية في دعوة أبي بلال كانت هي انكار مسلك العنف وما يذهبون إليه من قتل المخالفين واستعراض الناس، فأمر أتباعه أن لايُجرِّدوا سلاحاً، ولايقاتلوا مسلماً إلاّ إذا تعرّضوا لعدوان، أو واجهوا قتالا، فكان عليهم حمل السلاح دفاعاً عن النفس، وينقل البلاذري عنه قوله: «إنّ تجريد السيف واخافة السبيل لأمر عظيم، ولكنّا نشذّ عنهم ولانجرّد سيفاً

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .

2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 58 .

( 313 )

ولا نقاتل إلاّ من قاتلنا»(1) .

ويؤيّد الكاتب انّ خط الاعتدال، ظهر بعد مقتل الإمام علي _ عليه السَّلام _ بقوله:

«إنّ هذا المسلك (التطرّف) منهم، دعا بعض من كانوا يوازرونهم، إلى مخالفتهم، والافتراق عنهم، بل وتوجيه شديد النقد عليهم،...هذا البعض _ الذي تشدّد بعد أن كانوا لهم مؤيّدين _ بدا لهم رأي غير الذي ارتأوه جميعاً ورأوا أنّ عليّاً وإن أخطأ في قبول التحكيم، وإن لم ينزل عند طلبهم عليه التوبة ممّا فعل، وكذلك سائر أهل القبلة الذين مازالوا على الشهادتين، إنّما هم مسلمون لايجوز قتالهم، ولاسبي نسائهم، وليست أموالهم غنيمة، وانّ قتالهم لايكون إلاّ في حالة بغي وعدوان منهم، فهنا يجب القتال بمقدار مايلزم لدفع العدوان وردّ البغي (2) .

ويقول: إنّ المحكّمة بعد واقعة النهروان افتقدوا وحدة الصف، وشاعت فيهم الفرقة، وساد الاضطراب، ممّا دفع بعضهم إلى الغلو في التطرّف، وتنكُّبِ الطريق السوي، ووجد بينهم من استنكره ولم يجد بداً من الافتراق عن هؤلاء الذين عرفوا بالخوارج، إيماناً منهم بأنّ طريق الاستعراض بالسيف، ليس هو طريق الإسلام، وقد كان على رأس هؤلاء

- الذين عرفوا بالقعدة _ أبو بلال مرداس ومن خلفه من الدعاة الذين عرفوا فيما بعد بالاباضية(3).

وقد تأثّرت عدّة من الخوارج بهذه الفكرة واستفحلت دعوة أبي بلال، وظهرت معالمها، غير أنّ بني اُميّة لم يكونوا يرضون بوجود قدرة ماثلة أمامهم،

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 138 وما نقله عن البلاذري مذكور في الأنساب 5/94 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 105 و 131 _ 132 .

3. نفس المصدر .

( 314 )

فلأجل ذلك استعمل ابن زياد (والي البصرة) بعد موت أبيه زياد بن أبيه، الشدّة والقسوة على جميع المحكِّمة متطرّفيهم ومعتدليهم، فقتل أبابلال مرداس بن حدير في منطقة نائية عن البصرة(1)كما قتل أخاه عروة بن ادية(2) في البصرة فقطّع أيديه ثمّ صلبه.

ففي البصرة اتّبع عمّال الأمويين سياسة البطش والتعذيب والنفي والقتل ضدّ معارضيهم بصفة عامّة، ولم يستثنوا من هذه السياسة جماعة القعدة، ورغم انّ هذه الجماعة لم تأخذ بأسلوب الخوارج في التطرّف والعدوان، وترويع الآمنين، ورفع السيف في وجه الدولة، إلاّ أنّ عمّال بني اُميّة في بلاد العراق، شدّدوا عليها خوفاً من دعوتها التي كانت تستسري بين الناس، وتحاشياً للشرّ قبل وقوعه، وقمعاً للنفاق قبل أن ينجم.

وازاء هذا الإضطهاد لجأت القعدة إلى السرَّية والكتمان، وظلّوا على هذا الأمر(إلاّ في فترة ثورة ابن الزبير) حتى جاء عصر الحجاج بن يوسف الذي قام بدوره في اضطهاة من ينكشف لديه أمره(3) .

وبعد ما ثار عبدالله بن الزبير على عمّال يزيد، ودانت له الحجاز والعراق، فعند ذلك اجتمعت الخوارج وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وعبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض، فزعموا أنّه ربّما يوجد عنده أُمنيتهم، ولكن بعدما وقفوا على عقائده في

حق عثمان وأصحاب الجمل تفرّقوا عنه، وغادروا مكّة المكرّمة فمنهم من ذهب إلى البصرة ومنهم من ذهب إلى حضرموت.

وفي هذه اللحظة الحسّاسة بدأ الخلاف بين ابن الأزرق وعبدالله بن اباض

____________________________

1. قتل أوائل خلافة «يزيد» في منطقة «آسك» قريبة من الأهواز عام 60 .

2. وهو الذي سلّ السيف على الأشعث بعد عقد التحكيم كما عرفت تفصيله.

3. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 32 _ 33 .

( 315 )

فاختار الاُوّل الخروج وسلّ السيف، وقتل المخالفين وسبي النساء وأنكر الثاني هذا التطرّف، كل ذلك حوالي عام 64 إلى 65 من الهجرة، فقتل الأوّل بسبب تطرّفه في ناحية الأهواز وبقي الثاني يعيش في ظل الاعتدال والتقيّة.

كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان في تلك الفترة رجلا كاملا لايقلّ عمره عن عمر الدعاة الذين يقودون اُمّة ويتأمّرون عليهم، ولعلّه كان في تلك الأيام من أبناء الأربعين لو لم يكن أكثر، فعلى ذلك نخرج بهذه النتيجة انّه كان من مواليد سنة 24 من الهجرة فيكون أصغر بسنتين من جابر بن زيد على رواية أو ستّ سنوات على رواية اُخرى .

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه يخاطب عبدالملك بن مروان في رسالة إليه بقوله: «فلا تسأل عن معاوية ولاعن عمله ولا عن صنعته غير انّا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس، ولا نعلم أحداً اترك للقسمة التي قسم الله، ولالحكم حكمه الله، ولا أسفك لدم حرام منه»(1) .

كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان رجلا كاملا وداعياً قويّاً إلى خط الاعتدال وكان هو الناطق باسم هذه الجماعة، فنسب المذهب إليه لأجل ذلك ،فكونه هو المؤسّس للمذهب أو الداعي القوي إلى خط الاعتدال الذي

أسّسه أبو بلال هو الأقوى بالنظر إلى النصوص التاريخية، والناظر إلى رسالته التي كتبها إلى عبدالملك بن مروان يجده مناظراً قويّاً ينقض دليل خصمه بحجّة أقوى من حجّته، ونذكر منه نموذجاً:

احتجّ عبدالملك على صلاح معاوية بقوله: «إنّ الله قام معه وعجّل نصره وبلّج حجّته وأظهره على عدوّه بالطلب لدم عثمان....» فأجابه في ذلك

____________________________

1. الحارثي: العقود الفضية: 122 كما في «الإمام جابر بن زيد» وسيوافيك نصّ الرسالة برمّتها عن مصدر آخر.

( 316 )

عبدالله بن اباض بقوله: «فإن كنت تعتبر الدين من قبل الدولة والغلبة في الدنيا فإنّنا لانعتبره من قبل ذلك، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون (1) وظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين ويُعلي الكافرين...فلا تعتبر الدين من قبل الدولة...».

ولو كان هو الكاتب لتلك الرسالة(2) ولم تكن مملاة عليه لدّل على احاطته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كل ذلك يؤيّد انّه هو المؤسّس الثاني للمذهب بعد انطماس خط أبي بلال. وبما أنّ في تلك الرسالة احتجاجات على الطغمة الأمويّة، وفي الوقت نفسه، تعكس الأحوال السائدة في تلك الأيّام، نأتي بنصّها في آخر هذا الفصل و هي من المواثيق التاريخية.

هذا ما وقفنا عليه بعد الغور في التاريخ .

رأى آخر في المؤسّس :

هناك رأي آخر هو أنّ المؤسّس هو جابر بن زيد التابعي، تلميذ ابن عبّاس وغيره كما سيوافيك، وأنّ عبدالله بن اباض كان ناطقاً عن الجماعة التي كان يرأسها ويقودها ذلك التابعي سرّاً وخفاء .

يقول علي يحيى معمّر:

«وبعد وفاة جابر بن زيد ظهر عبدالله بن اباض بأجلى مظاهر الغيرة الدينية ولقّن أصحابه مبدأ الإقدام في تقرير الحق، وقمع أهل الجور والظلم،

____________________________

1. لعلّه اشارة إلى قوله سبحانه في حقّ بني اسرائيل قال: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ

يُهِلْكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) _ الاعراف 129 _ .

2. قد نقل البرّادي في كتاب الجواهر المنتقاة رسالة ابن اباض في 156 _ 167 والكتاب مطبوع بمصر طبعة حجرية، كما نقلها مؤلف السير والجوابات لبعض أئمة الاباضيّة .

( 317 )

المنحرفين عن جادة الصواب، حتى ظهرت هذه الفرقة الناجية المحقة الصادقة في أدوارها الوجودية في حالتي الكتمان والظهور»(1) .

وقال أيضاً: «فقد كان يحضر مجلس جابر بن زيد عدد من الطلاب كقتادة، وأيّوب، وابن دينار، وحيّان الأعرج، وأبي المنذر تميم بن حويص، ومنهم من يأخذ عنه أكثر ممّا يأخذ من غيره، أو يكاد يختصّ بمجلسه، كأبي عبيدة بن مسلم، وضمام، وأبي نوح الدهان، والربيع بن حبيب، وعبدالله بن اباض، ومن هؤلاء الطلاب من كان يشتغل أثناء التحصيل وبعده بالشؤون العامة، ومنهم من اشتغل بالمسائل السياسية ومطارحاتها مع حكّام الدولة الأموية في ميدان الكلمة دون استعمال السيف كعبدالله بن اباض، ومنهم من جلس للتدريس وأخذ مكان الإمام كأبي عبيدة أبي نوح الدهان وقام بنفس الدور وتخصّص فيه (2).

إنّ ما ذكره بصورة أمر قاطع غير ثابت في التاريخ، كيف وأغلب الظن انّ عبدالله بن اباض مات قبل جابر وانّه كان يقود أمر القعدة في حياة جابر، وإن كانت الأقوال في زمان حياته مختلفة، فمن قائل إنّه مات عام 80 إلى آخر إنّه مات قرابة 86 ، إلى ثالث بأنّه مات سنه 100 بالمغرب ودفن في جبل نفوسه، كما أنّه اختلفت الأقوال في حق جابر وأكثر الأقوال إنّه مات عام 94، ذكر بعض المؤرّخين انّه مات عام 104، فكيف يمكن أن يكون عبدالله هو القائم بالأمر بعد وفاة جابر؟

ويظهر تقدّم قيادة عبدالله بن اباض على جابر،

من الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: قال: إنّ القعدة أو جماعة المسلمين هم الذين انظمّوا إلى جابر بن

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 151 .

2. الاباضية بين الفرق الاسلاميّة 2/135 _ 136 .

( 318 )

زيد، وانضووا تحت قيادته بعد أن انتهى دور عبدالله بن اباض، فبعد أن رأوا مدى القوَّة التي ينعم بها هذا الفقيد الأزدي بسبب مساندة الأزد له، لدرجة انّ الحجّاج المشهور بالبطش والعنف لم يجرأ على قتله عندما عرف صلته بالاباضية واكتفى بنفيه إلى بلدة عمان ولم يلبث أن عاد منها إلى البصرة مرّة اُخرى، ولم يتعرّض له الحجاج في كثير أو قليل(1) .

ويقول في موضع آخر: ولمّا أحسّ الحجاج بنشاط جابر بن زيد الذي تولّى أمر جماعة القعدة بعد عبدالله بن اباض، ألقى به في السجن ثم نفاه إلى عمان، ولمّا عاد منها، ألقى به في السجن مرّة ثانية، كما سجن قيادات القعدة الآخرين(2) .

وهناك نظرية ثالثة وهي أنّ الرجلين كانا متعاصرين، غير أنّ المصلحة الزمنية كانت توجب اختفاء جابر وظهور عبدالله بن اباض في الساحة. يقول الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: «لقد آثرت الجماعة أن يظل أمر جابر مستوراً ولعلّ مرجع ذلك مارأوه من عظم الخسارة فيما لو اشتهر أمر جابر وأخذوه بالشدّة، فإنّ ذلك يفقد الجماعة عقلها المدبّر وزعيمها الحقيقي، ولقد بالغ جابر في التخفّي حتى قدّم سواه للتحدّث باسم الجماعة ومُناظرة خصومه، وكان عبدالله بن اباض أحد اُولئك الذين تحدَّثوا كثيراً باسمهم حتى لقد ظن انّه الزعيم الحقيقي للجماعة فنسبها الآخرون إليه، وعرفوها بأنّها جماعة الاباضية مع أنّ عبدالله بن اباض لم يكن إلاّ واحداً من أفرادها قدّمه زعيمها _ جابر بن زيد _ للتحدّث

عنهم ومناظرة خصومهم»(3) .

____________________________

1. الاباضية في مصر والمغرب: 200 .

2. الاباضية في مصر و المغرب: 33.

3. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني 153 .

( 319 )

يلاحظ عليه: أنّه مجرد استحسان وتحليل حدسي لم يقترن بدليل، وقد عرفت اقتران الرجلين في الولادة والوفاة وظهور عبدالله بن اباض في الدعوة أيّام يزيد بن معاوية، ولم يكن يومذاك اسم من جابر ولاخبر.

ثمّ إنّ الكاتب لمّا رأى أنّ المذهب منتم إلى ابن اباض طيلة قرون، حاول أن يصحّح وجه النسبة إليه وإنّه كان فرداً واحداً من القعدة، وذلك بوجهين:

1 _ إنّ هذه الجماعة لم تطلق على نفسها اسم الاباضية بل كانوا يسمّون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين.

2 _ إنّ تسمية الاباضية إنّما أطلقها على هذه الجماعة مخالفوهم في فترات تالية، وربّما كان الأمويّون كما يرى البعض هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم نسبة إلى عبدالله بن اباض لأنّ الأخير كان من علمائهم وشجعانهم والمناظر باسمهم، كما أنّ الأمويّين لايريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى لايجذبوا إليه الأنظار، ولايبدو في حياة جابر المشرقة، فتميل إليهم النفوس، فنسبوهم إلى عبدالله بن اباض وهو أقلّ منزلة من جابر في العلم و إن كان لايقلّ عنه في التقوى والورع والصلاح (1).

ولا يخفى ضعف الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ الهدف من التسمية هو التعرّف على المسمّى، ومن المعلوم أنّ اللفظين المذكورين لفظان عامّان لايكونان مشيرين إليه.

وأمّا الثاني: فمجرّد حدس لادليل عليه ، ولم يكن جابر بن زيد من المشاهير والأعلام بين العلماء والمحدّثين حتى تكون التسمية باسمه موجباً للانجذاب، بشهادة انّه ليس لجابر روايات وافرة في الصحاح والمسانيد.

____________________________

1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد 161 _ 162

نقلا عن تاريخ المغرب الكبير، لمحمّد علي دبوز 2/298 .

( 320 )

ولعلّ القول الحق ما يذكره الصوافي في آخر كلامه ويقول: إنّ جماعة الاباضية كانت حريصة على التخفّي والتسترّ ولم تبد كجماعة خارجة، وكان أوّل ظهور لها عندما راح عبدالله بن اباض يتحدّث باسمها ويبعث برسائل إلى الأمير الأموي عبدالله بن مروان، فكان من الطبيعي أن تنسب هذه الجماعة إلى من أبدى للخليفة نفسه على أنّه صاحب الرأي والكلمة (1) .

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت كون جابر بن زيد من الاباضية، وسيوافيك انّه كان يصلّي خلف الحجاج ويأخذ جوائزه.

2 _ جابر بن زيد العماني الأزدي:

وهو الشخصية الثانية التي تتبنّاها الاباضية زعيماً ومؤسّساً لمذهبهم وقد أَطروه في كتبهم، وقد تعرّفت على الاختلاف في ميلاده ووفاته، فهو من رجال النصف الثاني من القرن الأوّل، وقد طلع نجمه في هذه الفترة، وهو عماني عاش في العراق وأمضى أكثر عمره في البصرة احدى عواصم العراق العلمية، وإليك كلمات أهل الرجال في حقّه.

1 - قال أبو حاتم الرازي: جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي روى عن ابن عباس والحكم بن عمرو وابن عمر، روى عنه عمرو بن دينار وقتادة وعمرو بن هرم. سمعت أبي يقول ذلك.

وعن عطاء انّ ابن عباس قال : لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله عزّوجلّ، وقال عكرمة: كان ابن عباس يقول: هو أحد العلماء، و عن تميم بن حدير عن الرباب قال: سألت ابن عباس عن شيء، فقال: تسألونني وفيكم ابن زيد؟

____________________________

1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي، الإمام جابر بن زيد: 162 _ 163 .

( 321 )

وعن أبي هلال، عن داود، عن عذرة قال: دخلت

على جابر بن زيد، فقلت: إنّ هؤلاء القوم ينتحلونك _ يعني الاباضية _ ، قال: أبرأ إلى الله عزّوجلّ من ذلك، وعن يحيى بن معين يقول: أبو الشعثاء جابر بن زيد روى عنه قتادة، بصري، ثقة. وقال أبو زرعة: إنّه بصري أزدي، ثقة(1).

2 _ وقال أبو زكريا النووي بمثل ما قاله الرازي وأضاف: قال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي والبخاري: توفّي سنة ثلاث و تسعين، وقال محمّد بن سعد: سنة ثلاث ومائة، وقال الهيثم: سنة أربع ومائة (2) .

3 _ وقال ابن حجر العسقلاني بمثل ما قالا، وأضاف: وقال العجلي: تابعي ثقة، وفي تاريخ البخاري عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: جابر! إنّك من فقهاء أهل البصرة، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيهاً، ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله ، وفي كتاب الزهد لأحمد: لمّا مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق.

وقال اياس بن معاوية: أدركت الناس ومالهم مفت غير جابر بن زيد.

وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد.

وفي الضعفاء للساجي: عن يحيى بن معين: كان جابر اباضياً، وعن عكرمة: صفرياً، وأغرب الأصيلي فقال: هو رجل من أهل البصرة لايعرف، انفرد عن ابن عباس بحديث: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» ولايعرف هذا الحديث بالمدينة(3).

____________________________

1. أبو حاتم الرازي: الجرح والتعديل 2/494، رقم 2032 .

2. أبو زكريا النووي (ت 676)، تهذيب الأسماء واللغات 1/142، رقم 98 .

3. تهذيب التهذيب 2/34 ،رقم 61 .

( 322 )

4 _ وقال أيضاً: جابر بن زيد، أبو الشعثاء الأزدي الجوفي (1) _ بفتح الجيم وسكون الواو

بعدها فاء _ البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة 93، ويقال: ومائة (2) .

ولم يذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ولا ابن حجر في لسانه، وقال الأوّل في سير أعلام النبلاء: روى جابر عن ابن عباس، قال: آخى النبي بين الزبير وابن مسعود. وفي موضع آخر منه روى قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد يحدّث عن ابن عباس قال: تقطع الصلاة الحائض(3) .

هذا ما وقفت عليه في كتب الرجال من أحوال الرجل، وقد قامت الاباضية في العصور الأخيرة بترجمته ترجمة وافية، وقد اطروه وإليك نبذاً من كلماتهم في حقّه:

كلمات الاباضية في حقّ جابر:

هذه نصوص علماء الرجال من أهل السنّة ولاعتب علينا أن نشير إلى كلمات اتباع الرجل وإن طال بنا المقام.

1 _ لم يكن جابر بن زيد ممّن عرف عنهم الميل إلى التمرّد أو الثورة، فلم يُعرف عنه أنّه كان ضمن الذين خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب، أو اعتزلوه أو تمرّدوا عليه، إذ أنّه ولد في عمان في الفترة ما بين عامي 18 و 22 ه_ ، ثمّ رحل إلى البصرة يطلب العلم، وهو شاب في زمن لا نعرفه، ولايمكن تحديده، وغلب انّه رحل إليها بعد سنّ العشرين حيث كان شابّاً يستطيع تحمّل مشقّة

____________________________

1. ينسب إلى درب الجوف وهي محلّة بالبصرة.

2. ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب 1/122، رقم 5 .

3. الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/490 و 10/252 .

( 323 )

السفر و الترحال. والمعروف أنّ التحكيم الذي أدّى إلى انفصال جزء من جيش علي عنه، وقيامهم بمعارضته والخروج عليه، كان في رمضان من عام 37، وحدثت معركة النهروان التي أكّدت هذا الانفصال وكرّسته في عام 38 ه_ .

وعلى ذلك فإنّ جابر بن

زيد امّا أنّه لم يكن موجوداً في البصرة عند وقوع هذه الأحداث، أو انّه كان موجوداً، ولكنّه لم يشارك فيها على أي نحو من الأنحاء، لأنّ كتب التاريخ السنّية والشيعية والاباضية لم يرد فيها ذكر لأي شيء يتعلّق به، أو حتى مجرّد ذكر اسمه في تلك الفترة، ولم يسمع أحد شيئاً عن جابر بن زيد إلاّ بعد انتهاء هذه الأحداث لحوالي أربعين عاماً عندما أتى الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق والياً عليه من قبل عبدالملك بن مروان في عام 75 (1).

2 _ إنّ مؤسّس مذهب الاباضي لم يكن ممّن شهدوا حرب الجمل او صفّين أو النهروان، ولم يكن ضمن هؤلاء الذين رفعوا السيف في وجه الدولة أو حاربوها من الخوارج وغيرهم، بل كان يأتلف معها، فقد كان يأخذ عطاءه من الحجاج بن يوسف الثقفي، كما كان يأخذ جائرته ويحضر مجلسه ويصلّي خلفه.

ولذلك كان من مبادئ الاباضية بعد جابر، جواز الصلاة خلف أهل القبلة كلّهم، وخلف الجبابرة في أي بلد غلب عليه الجبابرة، ويجيزون الغزو معهم أيضاً، كما كانوا يأخذون بأحكامهم، ولايرون في ذلك بأساً طالما أنّ أحكامهم كانت موافقة للحقّ والعدل، وكانوا يستحسنون أفعالهم إذا جاءت على هذه الصفة.

من ذلك: ما حدث عندما عرض على عبدالملك بن مروان أمر رجل

____________________________

1. الدكتور رجب محمّد عبدالحليم: الاباضية في المصر والمغرب: 15 .

( 324 )

تزوّج من امرأة أبيه ظنّاً منه انّها تجوز له، فأمر عبدالملك بقتله على جهله فيما لايجوز الجهل به، وقال: لاجهل في الإسلام ولاتجاهل، فاستحسن جابر بن زيد هذا العمل من عبدالملك وقال عنه: إنّه أحسن وأجاد. وما ذاك إلاّ لما تميّز به هذا الفقيه الكبير، تميّز مذهبه من صفة التسامح والاعتدال، ولما قام

عليه هذا المذهب من اُسس واُصول (1).

3 - إنّ جابراً كان يصلّي الجمعة في المسجد الجامع في البصرة خلف عبيدالله بن زياد، وكان يقول لهم: إنّها صلاة جامعة وسنّة متّبعة.

وذكروا: انّه كان يتناول من الحجاج عطاء مقداره ستمائة أو سبعمائة درهم ويصلّي خلفه، وعرض عليه الحجاج أن يولّيه القضاء ولكن جابراً رفض هذا العرض(2) .

4 _ إنّ العلم مثله مثل طائر باض في المدينة المنّورة، وفرّخ بالبصرة، وطار إلى عمان (3).

يريد انّه فرّخ بالبصرة بيد جابر، ولمّا مات جابر انتقل العلم إلى عمان و ذلك قبيل نهاية القرن الثاني للهجرة حيث قامت الإمامة الاباضية في عمان عام 177، وصارت هذه البلاد حجر الزاوية ومركز الثقل السياسي بالنسبة إلى المذهب و الدعوة.

5 _ إنّ جابر بن زيد الأزدي من أهل البصرة، يروي عن عبدالله بن عباس، وقد لقي جابر بن زيد عائشة اُمّ المؤمنين وسألها عن بعض مسائل، فلمّا خرج عنها قالت: لقد سألني عن مسائل لم يسألني عنها مخلوق قط، وإنّما توفّي

____________________________

1. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 57 _ 58 .

2. الدكتور رجب محمد عبدالحليم: الاباضية في مصر والمغرب: 16 _ 19 _ 32 .

3. يكرّرون هذا التعبير في غير واحد من كتبهم وهو من المغالاة في القول .

( 325 )

جابر _ رضى الله عنه _ سنة ثلاث سنين ومائة (1).

6 _ اشتهر انّه لايماكس في ثلاث: في كراء إلى مكّة، وفي عبد يشترى ليعتق، وفي شاة التضحية، وكان يقول: لانماكس في شيء نتقرّب إليه.

روي أنّه رأى أحد الحجبة يصلّي فوق الكعبة، فنادى: يا من يصلّي فوق الكعبة لاقبلة لك(2) .

7 - إنّ جابراً أحد المؤلّفين في الإسلام وقد كان لديوانه رنّة،

وكان موضع تنافس بين دور الكتب الإسلامية، واستطاعت مكتبة بغداد أن تحصل عليه و أن تبخل به عن غيرها من المكتبات.

يقول علي يحيى معمر:

كان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوّة، ولأخذ مؤلّفه عن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، وكانت له قيمة اُخرى أثرية وهي أنّه أوّل كتاب ضخم اُلّف في الإسلام.

وإنّه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما اُحرقت تلك المكتبة العظيمة. وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنّه من المؤلم المُرّ أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا، فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم بسبب الجهل والحقد وطلب الرفعة عند الناس، وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي والديني لاُمّة مسلمة لايستقيم حاضرها إلاّ على القواعد المتينة التي ابتنى عليها ماضيها، ولن يصلح حاضر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها(3) .

____________________________

1. ابن سلام الاباضي: بدء الاسلام وشرائع الدين: 108 .

2. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 148.

3. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 150 .

( 326 )

8 _ إنّ جابراً أخذ عن عبدالله بن مسعود وجابر بن عبدالله وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وقال: كان جابر بن زيد يلتقي باُمّ المؤمنين عائشة ويأخذ عنها العلم ويسألها عن سنّة الرسول، وقد سألها يوماً عن جماع النبي وكيف كان يفعل، وانّ جبينها يتصبّب عرقاً وتقول عائشة: سل يا بُنيّ، ثم قالت له ممّن أنت؟ قال: من أهل المشرق من بلد يقال لها عُمَان.

ولمّا كان هذا السؤال بظاهره بمعزل عن الوقار علّق عليه صاحب «تحفة الأعيان» بقوله: المراد انّه سألها عن مقدّمات الجماع التي يجوز السؤال عنها

حرصاً منه _ رضى الله عنه _ على نقل السنّة وجمعها كي يكون المسلم مقتدياً برسول الله في كل أعماله دقيقها وجليلها.

يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ السؤال لما نفع هذا التعليق وأمثاله ممّا حشدها مؤلّف الكتاب وهو يعرب عن سذاجة الرجل و عدم عرفانه بموضع السؤال والمسؤول، والعجب انّ جواب اُمّ المؤمنين لم يذكر في هذه الكتب ولم تصل السنّة إلى أيديهم، ولعلّ تكذيب أصل القضية أولى من توجيهها.

وهناك ملاحظة حول حياة جابر وهو أنّ صلاته خلف الحجاج تبرّرها التقية، وأمّا أخذ الجوائز الذي هو بمعنى دعم ولايته واضفاء المشروعية عليها، فهل تبرّره التقيّة؟ أو كان من واجبه التخلّي عنها كما تخلّى عن قبول القضاء؟

إنّ ما جاء في هذه الكلمات من كون الرجل اباضياً مدعماً لمبدئه قاصر عن افادة الاطمئنان و الاذعان، فإنّ التقيّة أمر مشترك بين الاباضية وغيرهم، فالذي يوجب تقدير الرجل بل تقدير تلك الطائفة، انّهم يملكون الشجاعة الأدبية في الاجهار بجواز التقية والسلوك عليها في حياتهم، بينما يفقدها غيرهم من فرق أهل السنّة، فهم يعملون بالتقية في حياتهم السياسية والاجتماعية ولكن لايجاهرون بجوازها لو لم يكونوا مجاهرين بحرمتها!

( 327 )

فقه جابر بن زيد:

قد قام «يحيى محمّد بكوش» بجمع أقوال وآراء جابر من بطون الكتب، وهو يقول في مقدّمة الكتاب: «فقد وجدت في بطون الكتب أقوالا عديدة للإمام جابر بن زيد سواء ذلك في كتب الاباضية أو في غيرها، من كتب المذاهب الاُخرى، ثمّ رجعت إلى كتب الحديث فالتقيت برواياته منبثّة من هنا وهناك فانقدحت في ذهني فكرة أجمع ما يتيسّر لي جمعه وضمّه في مجموعة اُخرجها للناس...وفي أثناء بحثي ظهر للاُستاذ الصوافي كتاب يتناول هذا الجانب فاطّلعت عليه واستفدت منه كما اطّلعت

أثناء ذلك على كتاب للاُستاذ «عوض خليفات» الذي درس نشأة الحركة الاباضية في المشرق فاستفدت منه أيضاً...وقد قسّمت الكتاب إلى أبواب بلغت أحد عشر باباً، وكل باب يشتمل على مسائل متفرّفة قد لايجمع بينها سوى أنّها تنسب إلى ذلك الباب، وإليك فهرس الأبواب:

1 _ في حياة الإمام جابر بن زيد، فيه 13 مسألة.

2 _ في مسائل القرآن وعلومه، فيه 41 مسألة .

3 _ في الطهارات، فيه 19 مسألة .

4 _ في الصلاة، فيه 44 مسألة.

5 _ في الزكاة، فيه 12 مسألة.

6 _ في مسائل الصوم، فيه 18 مسألة .

7 _ في مسائل الحج، فيه 30 مسألة.

8 _ في مسائل النكاح والطلاق، فيه 61 مسألة .

9 _ في المعاملات، فيه 21 مسألة.

10 _ في الأقضية والأحكام، فيه 15 مسألة.

( 328 )

11 - في الزكاة والأطعمة والكفّارات والنذور والوصايا والمواريث، فيه 31 مسألة (1) .

ثمّ إنّ الكتاب خرج في 728 صفحة، وربّما يتخيّل القارىء في بادىء النظر أنّ أكثر ما جاء فيها يرجع إلى آراء جابر وأقواله وأفكاره، ولكنّه بعد ما سبر الكتاب سرعان ما يرجع ويقف انّ مجموع ما روي عنه في تلك الأبواب _ لو جمع في محل واحد _ لايتجاوز عن عشر صفحات، ولكن المؤلّف اتّخذ طريقة المقارنة الفقهية وطلب لآراء المذاهب دليلها، فجاء الكتاب كتاباً ضخماً في الفقه، هو لايمت إلى جابر بصلة إلاّ قليلا.

هذا وقد بسط المؤلّف الكلام في ترجمة جابر في الباب الأوّل، ومن أراد التبسّط فليرجع إليه.

3 _ أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت حوالي 158 ه_) :

هذا هو الشخصية الثالثة لفرقة الاباضية وله ترجمة في كتب الرجال والتاريخ كما له ترجمة مفصّلة في كتب الاباضية، ونذكر ما وقفنا

عليه في القسم الأوّل ثمّ نردفه بكلمات الاباضية.

قال الحافظ الرازي: «مسلم بن أبي كريمة روى عن علي _ رضي الله عنه _ ، روى عنه...(كذا)، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول (2) .

ولو كان المقصود من العنوان هو المترجم فيروي عن علي _ عليه السَّلام _ بواسطة أو واسطتين كما لا يخفى.

وعنونه ابن حبّان في الثقات، واكتفى بنقل اسمه فقط وقال: مسلم بن

____________________________

1. يحيى محمّد بكوش: فقه الإمام جابر بن زيد: 7 _ 8 وفهرس الكتاب .

2. الرازي: الجرح والتعديل 8/193 برقم 845 .

( 329 )

أبي كريمة (1) .

وقال ابن الجوزي: مسلم بن أبي كريمة، قال الرازي: مجهول(2) .

ولم أجد له ترجمة في الكتب الرجالية، وأمّا كلمات الاباضية في حقّه، فإليك بيانها:

يقول علي يحيى معمّر: أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158 ه_ ، وقد أدرك من أدركه جابر بن زيد، فروايته عن جابر رواية تابعي عن تابعي. وقد روى أبو عبيدة أيضاً عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة اُمّ المؤمنين (3) _ رضى الله عنها _ وروايته هذه عنهم موجودة في هذا المسند الصحيح (4) وهي رواية تابعي عن تابعي .

شيوخه:

أخذ أبو عبيدة العلم عمّن لقيه من الصحابة وعن الجابرين: جابر بن عبدالله وجابر بن زيد، وعن ضمار السعيدي وجعفر السماك وغيرهم.

تلاميذه :

وحمل العلم عن أبي عبيدة خلق كثير، منهم الربيع بن حبيب الفراهيدي صاحب المسند، وفيهم: حملة العلم إلى المغرب و هم: أبو الخطاب

____________________________

1. محمد بن حبّان بن أحمد التميمي البستي: الثقات 5/354 و 401 .

2. عبدالرحمان بن الجوزي: كتاب الضعفاء و المتروكين

3/118 دار الكتب العلمية، بيروت 1406، ولاحظ بدء الاسلام: 26، 99، 110، 114، ولسان الميزان 6/32 .

3. سماعه عن اُمّ المؤمنين عائشة و أبي هريرة بعيد جداً إلاّ أن يكون الرجل من المعمّرين .

4. اشارة الى مسند الربيع بن حبيب، والصحيح أن يقال: الجامع الصحيح، كما سيوافيك .

( 330 )

المعافري، وعبدالرحمن بن رستم وعاصم السدراتي، وإسماعيل بن درار العذامسي، وأبو داود القبلي النفراوي، وكان الإمام أبو الخطاب المعافري قد جاء من اليمن فرافق الأربعة من أهل المغرب فخرج معهم إلى بلادهم، فنصّبوه عليهم بأمر شيخهم أبي عبيدة. وبأمره نُصّب الإمام عبدالله بن يحيى الكندي في أرض اليمن، وجمعت إمارته اليمن والحجاز، وأقام حملة العلم عنده خمس سنين فلمّا أرادوا الوداع سأله إسماعيل بن درار عن ثلاثمائة مسألة من مسائل الأحكام. فقال له أبو عبيدة: «أتريد أن تكون قاضياً مع ابن درار؟ قال: أرايت ان ابتليت بذلك» (1).

وقد روي عنه أنّه قال: من لم يكن له اُستاذ من الصحابة فليس هو على شيء من الدين، وقد منَّ الله علينا بعبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن سلاّم(2) .

4 _ أبو عمرو ربيع بن حبيب الفراهيدي:

إنّ الربيع من أئمّة الاباضية وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة (3) ونكتفي في المقام بما ذكره الاُستاذ التنوخي في مقدّمته على شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب:

«ومن يمن الطالع عن الحديث أن يكون الربيعان: الربيع بن صبيح والربيع بن حبيب في طليعة ركب الجامعين للحديث، والمصنفّين فيه، ومن

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/166 _ 167 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني، وقد ترجم

له ترجمة مفصّلة وذكر مواقفه في تنظيم الدعوة ومجالها، والانتهاز من مواسم الحج لنشر المذهب واعمال السياسة السرّية والأخذ بالتقيّة، فمن أراد فليرجع إليه (169 _ 175) .

3. له ترجمة في بدء الاسلام 110، والاعلام 3/13 .

( 331 )

الأسف أن لاندري شيئاً عن مصير مسند ابن صبيح وعسى أن يهتم بذلك الباحثون عن نفائس المخطوطات، ومن لطف الباري أن أبقى لنا مسند الربيع بن حبيب، ثمّ من نعمه عليّ أن وفّقني لإعادة نشره مع شرح علاّمة عمان عبدالله بن حميد السالمي ولم يطّلع على المسند وشرحه في علماء مصر والشام والعراق إلاّ قليل.

الثلاثيات:

قد ذكر أئمّة الحديث أنّ رتب الصحيح تتفاوت تفاوت الأوصاف المقتضية للصحيح، وانّ المرتبة العلياما اطلق عليه بعض رجال الحديث أنّه أصح الأسانيد الثلاثية كسند الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وسند مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو قول البخاري لأنّ هذه الأسانيد قصيرة السند و قريبة الاتصال بالينبوع المحمّدي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ .

ويشبه هذه الثلاثة الذهبية سلسلة مسند الربيع بن حبيب وثلاثياته... أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، ورجال هذه السلسلة الربيعية من أوثق الرجال وأحفظهم و أصدقهم، لم يشب أحاديثها شائبة انكار ولا ارسال ولاانقطاع ولااعضال.

ولمزايا هذه الثلاثيات اهتمّ كثير من أئمّة الحديث بتأليف الثلاثيات .

1 _ ثلاثيات الإمام أحمد المطبوعة أخيراً بدمشق سنة 1380 ه_ ، وشرحها في جزأين الإمام محمّد السفاريني، وعدد ثلاثياته خمسة وستون ومائة حديث.

2 _ ثلاثيات البخاري وهي في صحيحه ثنان و عشرون حديثاً.

( 332 )

3 _ ثلاثيات الدارمي وهي خمسة عشر حديثاً وقعت في مسنده

بسنده.

4 _ ثلاثيات الربيع بن حبيب الأزدي، وأحاديثها في مسنده، ورجال سلسلتها الثلاثية هم أبو عبيدة التميمي، وجابر بن زيد الأزدي، والبحر عبدالله بن عباس _ شيخ جابر _ ، وغيره من الصحابة .

وقد طبع هذا المسند القديم مع شرحه للإمام عبدالله السالمي في أربعة مجلدات طبع اثنان منها في مصر والثالث بدمشق، ولقد سبرته ولمست أنّ الرجل كان يملك شيئاً من الانصاف، فلابأس بالاشارة إلى بعض خصوصياته.

انطباعات عن الجامع الصحيح:

هذا الجامع: مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري رتّبه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني وطبع في أربعة أجزاء تبلغ عدد صفحاته 302 صفحة، طبع بدمشق سنة 1388 ه_ بتقديم عبدالله بن حميد السالمي وأشرف على طبعه محمود غيران.

أكثير المؤلّف في هذا المسند الروايات عن ضمام بن السائب البصري العثماني عن جابر.

ثمّ عن أبي عبيدة (مسلم بن أبي كريمة).

ثمّ عن أبي نوح (صالح بن نوح).

ثمّ عن سائر مشايخه .

وأكثر الروايات في الكتاب موقوفات تنتهي إلى الصحابة الاّ قليل منها مسند إلى النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وممّا يشهد على كون الرجل موضوعياً أنّه نقل الروايات عن علي بن أبي طالب _ عليه السَّلام _ وإليك رواياته عنه:

( 333 )

«الباب (9) ما روى عن علي بن أبي طالب»:

«في التعظيم لله عزّوجلّ ونفي التشبيه له سبحانه عن الأشباه»

قال الربيع: بلغني عن أبي مسعود، عن عثمان بن عبدالرحمن المدني، عن أبي إسحاق والشعبي قال: كان علي بن أبي طالب يقول في تمجيد الله عزّوجلّ: الحيُّ القائمُ الواحدُ الدائمُ فكَّاك المقادِمِ ورزّاقُ البهائم، القائمُ بغير منصبة، الدائم بغير غاية، الخالق بغير كلفة، فأعرَفُ العباد به الذي بالحدود لايصفُهُ ولا بما يوجد في الخلق يتوهّمه، لاتدركه

الأبصار وهو يدك الأبصار .

«الباب (10) خطبة علي»:

قال الربيع: وأخبرنا أبان قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل، عن الحارث الهمداني قال: بلغ عليّاً أنّ قوماً من أهل عسكره شبّهوا الله وأفرطوا، قال: فخطب علي الناس فحمدالله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أيّها الناس اتّقوا هذا العارقة(1) فقالوا: يا أمير المؤمنين وما العارقة؟ قال: الذين يشبّهون الله بأنفسهم، فقالوا: وكيف يشبّهون الله بأنفسهم؟ قال: يضاهئون بذلك قول الذين كفروا من أهل الكتاب إذ قالوا: خلق الله آدم على صورته، سبحانه وتعالى عمّا يقولون، سبحانه وتعالى عمّا يشركون، بل هو الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والارادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لامنازع له في شيء، ولاكفؤ له يعادله، ولاضد له ينازعه، ولاسميّ له يشبهه، ولامثل له يشاكله، ولاتبدو له الاُمور، ولاتجري عليه الأحوال، ولا تنزل به الأحداث، وهو يجري الأحوال وينزّل الأحداث على المخلوقين، لايبلغ الواصفون كنه حقيقته ولايخطر على القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في

____________________________

1. وفي نسخة الفارقة.

( 334 )

الخلق شبيه ولا له في الأشياء نظير، لاتدركه العلماء بألبابها ولاأهل التفكير بتدبيرها وتفكيرها إلا بالتحقيق إيماناً بالغيب لأنّه لايوصف بشيء من صفات المخلوقين و هو الواحد الذي لاكفؤله (وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وَ أَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبيِرُ).

«الباب (11) قصة اليهودي مع علي بن أبي طالب»:

قال: وأخبرنا إسماعيل بن يحيى قال: حدثنا سفيان(1) عن الضحّاك قال: جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب فقال: ياعلي متى كان ربّنا؟ فقال علي إنّما يقال متى كان لشيء لم يكن فكان، وهو كائن بلاكينونة، كائن بلاكيفية، ولم يزل بلاكيف، ليس له قبل وهو قبل القبل، بلاغاية ولامنتهى

غاية تنتهي إليها غايته انقطعت الغايات عنده وهو غاية الغايات.

«الباب (12) قصة القصاب مع علي بن أبي طالب»:

أخبرنا أبو قبيصة، عن عبدالغفار الواسطيّ، عن عطاء: انّ علي بن أبي طالب مرّ بقصّاب يقول: لاوالذي احتجب بسبع سموات لاأزيدُك شيئاً، قال: فضرب علي بيده على كتفه فقال: يا لحّام إنّ الله لايحتجب عن خلقه ولكن(2) حجب خلقه عنه، فقال: اُكفّر عن يميني؟ فقال: لا، لأنّك إنّما حلفت بغيرالله(3) .

____________________________

1. خ سنان.

2. خ ولكّنه .

3. قوله: انّما حلفت بغير الله، هذا منه اعتبار بظاهر اللفظ انكاراً لما سمع وتغليظاً على القائل، وإلاّ فإنّ الحالف انّما قصد الحلف بالله عزّوجلّ وإن أخطأ في وصفه والله أعلم .

( 335 )

وقال علي بن أبي طالب لمّا وجّه رسله إلى معاوية بن أبي سفيان: صلّوا في رحالكم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة فإنّ الله لايتقبّل إلا من المتّقين.

قال: وحدثني موسى بن جبير، عن عبدالمجيد والفضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عيينة، عن علي بن أبي طالب قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ اَحْسَنُوا الحُسْنى وَ زِيادَة) .

قال: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب(1) .

5 _ أبو يحيى عبدالله بن يحيى الكندي (طالب الحق):

كان عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن(2) .

إنّ عبدالله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت، وكتب إلى ابى عبيدة مسلم بن أبي كريمة وإلى غيرهم من الاباضية بالبصرة، يشاورهم بالخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فافعل، وأشخص إليه ابو عبيدة، أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من

الاباضية فقدموا عليه حضرموت، فحثّوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار العمارة وعلى حضرموت، إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، فأخذوه فحبسوه يوماً ثم أطلقوه، فأتى صنعاء وأقام عبدالله بن يحيى بحضرموت، وكثر جمعهم، وسمّوه «طالب الحق»، ثمّ استولى على صنعاء فأخذ الضحّاك بن الزمل وإبراهيم بن

____________________________

1. مسند ربيع بن حبيب: ص 217 _ 219 و ص 205 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 176، نقلا عن الحارثي: العقود الفضية: 187 .

( 336 )

جبلة بن مخرمة فحبسهما، وجمع الخزائن والأموال فأحرزها ثمّ أرسل إلى الضحّاك وإبراهيم فأرسلهما، وقال لهما: حبستكما خوفاً عليكما من العامة وليس عليكما مكروه فأقيما إن شئتما أو أشخصا، فخرجا.

فلمّا استولى عبدالله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإجابة من دعا إليهما. الإسلام ديننا، ومحمّد نبيّنا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا. رضينا بالحلال حلالا لانبغي به بدلا، ولانشتري به ثمناً قليلا، وحرّمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا، ولاحول ولا قوّة إلاّ بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شرب الخمر، فهو كافر، ومن شكّ في أنّه كافر، فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بيّنات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أنّ الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم، وندعوا إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد، واداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله. كلّ ذلك كان في سنة ثمان و عشرين ومائة (1).

ثمّ إنّه استولى على مكّة ثم المدينة وذلك في الوقت الذي بدأت ثورة بني العباس في خراسان، فكانت الدولة المركزية المروانية مشغولة

باخماد الثورة، فانتهز طالب الحق الفرصة وبسط سيطرته على الحجاز كلّه، ولكن في سنة ثلاثين ومائة جهزّ مروان بن محمّد جيشاً مع عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي فلقى الخوارج بوادي القرى فقتل بلج بن عقبة، وفرّ أبو حمزة في بقيّتهم إلى مكة، فلحقهم عبدالملك فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج، وصار عبدالملك في جيش مروان من أهل الشام يريد

____________________________

1. أبو الفرج الاصبهاني: الأغاني 23/224 _ 256، وقد بسط الكلام في خبر عبدالله بن يحيى وخروجه ومقتله .

( 337 )

اليمن. وخرج عبدالله بن يحيى الكندي الخارجي من صنعاء فالتقوا بناحية الطائف وأرض جرس فكانت بينهم حرب عظيمة قتل فيها عبدالله بن يحيى وأكثر من كان معه من الاباضية، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

يقول المسعودي: فأكثرها اباضية إلى هذا الوقت وهو سنة 332 ه_ ولا فرق بينهم وبين من بعمان من الخوارج في هذا المذهب(1) .

أئمّة الاباضية في القرون الاُولى:

قد تعرّفت على الشخصيات البارزة للاباضية في القرن الأوّل وبداية القرن الثاني، غير أنّ أئمّتهم وشخصياتهم لاتحصر فيما ذكرنا، ونحن نأتي بقائمة أسمائهم فمن أراد التوسّع فليرجع إلى تراجمهم في الكتب المعدّة، فقد ذكروا أنّ لهم وراء من ذكرنا ترجمتهم، أئمّة بالأسماء التالية:

القرن الأوّل:

1 _ جعفر بن السماك العبدي .

2 _ أبوسفيان قنبر.

3 _ الصحار العبدي.

القرن الثاني:

4 _ صمّام بن السائب .

5 _ أبو نوح صالح الدهان.

____________________________

1. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/242 طبع دار الأندلس. الطبري: التاريخ 6/41 و 7/394 _ 400. وابن الأثير: الكامل 5/351 دار صادر.

( 338 )

6 _ الجلندي بن مسعود العماني .

7 _ أبو الخطاب عبد الأعلى المعافري .

8 _ هلال بن عطية الخراساني .

9

_ أبو سنيان محبوب بن الرحيل .

10 _ أبو صفره عبدالملك بن صفره.

11 _ عبدالرحمن بن رستم .

12 _ محمّد بن يائس.

13 _ أبو الحسن الأيدلاتي .

القرن الثالث:

14 _ أفلح بن عبدالوهاب .

15 _ عبدالخالق القزاني.

16 _ محكم الهواري.

17 _ المهتا بن جيفر.

18 _ موسى بن علي.

19 _ أبو عيسى الخراساني.

20 _ محمّد بن محبوب .

21 _ محمّد بن عباد.

22 _ الصلت بن مالك .

23 _ أبو اليقظان بن أفلح .

24 _ أبو منصور الياس .

25 _ عمروص بن فهد .

( 339 )

26 _ هود بن محكم.

القرن الرابع:

27 _ أبو الخضر يعلى بن أيّوب.

28 _ أبو القاسم يزيد بن مخلد.

29 _ أبو هارون موسى بن هارون(1).

إنّ الكاتب المعاصر علي يحيى معمّر، ترجم جابر بن زيد و أبا عبيدة مسلم في الجزء الأوّل من كتابه «الاباضية في موكب التاريخ» تحت عنوان الاباضية في قيادة الاُمّة 145 _ 155، ثمّ خصّ الجزء الثاني بترجمة أئمّتهم وذكر كثيراً منهم القاطنين في «ليبيا» بعد البحث عن «دخول المذهب الاباضي الى ليبيا» ومن اراد الوقوف فليرجع الى هذا الجزء 21 _ 197 .

دول الاباضية:

قد قام باسم الاباضية عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلامية:

1 _ دولة في عمان استقلّت عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفّاح سنة 132، ولاتزال إلى اليوم.

2 _ دولة في ليبيا سنة 140 ولم تعمّر طويلا فقد انتهت بعد نحو ثلاث سنوات.

3 _ دولة قامت في الجزائر سنة 160، وقد بقيت إلى حوالي 190، ثمّ قضت عليها الدولة العبيدية.

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية: 1 / 27 _ 28 .

( 340 )

4 _ دولة قامت في الأندلس ولا سيّما في

جزيرتي «ميورقة» و «مينورقة»، و«ليس لدينا من أخبارهم الكثير وقد انتهت يوم انتهت الأندلس وأطفأ التعصّب الغربي شعلة الإسلام في تلك الديار»(1) .

هذه الاباضية، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدمّنا إليك صورة موجزة من تاريخهم، ونشوئهم وحروبهم وشخصياتهم وعقائدهم، وقد جرّدنا أنفسنا عن كل نزعة نفسانية تعرقلنا عن الوصول إلى الحق، والله وراء القصد.

وقد حان لنا انجاز الوعد الذي سبق منّا، وهو نشر ما كتبه «عبدالله بن اباض» إلى عبدالملك بن مروان، وإليك نصُّه:

رسالة عبدالله بن أباض

إلى عبدالملك بن مروان

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله بن أباض إلى عبدالملك بن مروان: سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الذي الا إله إلاّ هو و اُصويك بتقوى الله فإنّ العاقبة للتقوى والمرد إلى الله، واعلم أنّه إنّما يتقّبل الله من المتّقين .

أمّا بعد، جاءني كتابك مع سنان بن عاصم، وإنّك كتبت إليَّ أن أكتب إليك بكتاب، فكبت به إليك، فمنه ما تعرف ومنه ماتنكره، زعمت أنّما عرفت منه ما ذكرت به من كتاب الله وحضضت عليه من طاعة الله، واتّباع أمره، وسنّة نبيّه، وأمّا الذي أنكرت منه فهو عندالله غير منكر. وأمّا ما ذكرت من عثمان والذي عرضت به من شأن الأئمّة وأنّ الله ليس ينكر عليه أحد شهادته في كتابه بما أنزله على رسوله أنّه من لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الظالمون

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/92 _ 93 .

( 341 )

والكافرون والفاسقون (1). وانّي لم أكن أذكر لك شيئاً من شأن عثمان و الأئمّة إلاّ والله يعلمه أنّه الحق، وسأنزع لك من ذلك البيّنة من كتاب الله الذي أنزله على رسوله، وسأكتب إليك في الذي كتبت به، وأخبرك من خبر عثمان والذي

طعنّا عليه فيه، وأبيّن شأنه والذي أتى عثمان.

لقد كان كما ذكرت من قدم في الإسلام وعمل به ولكنّ الله لم يجر العباد من الفتنة والردّة عن الإسلام، وإنّ الله بعث محمّداً بالحق _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وأنزل الكتاب فيه بيّنات كل شيء يحكم بين الناس فيما اختلفوا ( هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ)(2). فأحلّ الله في كتابه حلالا وحرّم حراماً وفرض فيه حكماً وفصّل فيه قضاءه وبيّن حدوده فقال: ( تِلْكَ حُدودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها)(3). وقال:( وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ)(4). وقسم ربّنا قسماً وليس لعباده فيه الخيرة، ثمّ أمر نبيّه باتّباع كتابه، فقال للنبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : ( وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبُكَ)(5). وقال: (فَإِذَا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )(6). فعمل محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بأمر ربّه ومعه عثمان ومن شاء الله من أصحابه لايرون رسول الله يتعدّى من قبله شيئاً، ولايبدّل فريضة، ولايستحلّ شيئاً حرّمه الله، ولايحرّم شيئاً أحلّه الله، ولايحكم بين الناس إلاّ بما

____________________________

1. قال الله تعالى في سورة المائدة 44 _ 45 و 47. ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ).( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون). ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَاُولئكَ هم الفاسِقُونَ).

2. الأعراف: 52، ويوسف 111 .

3. البقرة: 187 .

4. البقرة: 229 .

5. الأحزاب: 2 .

6. القيامة: 18 _ 19 .

( 342 )

أنزل الله، فكان يقول: ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبَّي عَذَابَ يَوْم عَظيِم)(1). فسّر _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ما شاء الله تابعاً

لما أمر الله، يتبع ما جاء من الله، والمؤمنون معه يعلّمهم وينظرون إلى عمله حتى توفّاه الله عليه الصلاة والسلام وهم عنه راضون، فنسأل الله سبيله وعملا بسنّته. ثم أورث الله عباده الكتاب الذي جاء به محمّد وهداه ولايهتدي من اهتدى من الناس إلاّ باتّباعه ولايضّل من ضلّ من الناس إلاّ بتركه.

ثمّ قام من بعده أبو بكر على الناس فأخذ بكتاب الله وسنّة نبّيه ولم يفارقه أحد من المسلمين في حكم حكمه، ولاقسم قسّمه حتى فارق الدنيا وأهل الإسلام عنه راضون وله مجامعون.

ثمّ قام من بعده عمر بن الخطاب قوّياً في الأمر، شديداً على أهل النفاق، يهتدي بمن كان قبله من المؤمنين، يحكم بكتاب الله، وابتلاه الله بفتوح من الدنيا ما لم يبتل به صاحباه، وفارق الدنيا و الدين ظاهر وكلمة الإسلام جامعة وشهادتهم قائمة، والمؤمنون شهداء الله في الأرض. وكذلك قال الله: (جَعَلْنَا كُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(2). ثمّ أشار المؤمنون فولّوا عثمان، فعمل ماشاء الله بما يعرف أهل الإسلام حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله. ثمّ أحدث اُموراً لم يعمل به صاحباه قبله، وعهد الناس يومئذ قريب بنبيّهم حديث. فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث عثمان أتوه فكلّموه وذكّروه بكتاب الله وسنّة من كان قبله من المؤمنين.

وقال الله: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ الُْمجرِمِيْنَ

____________________________

1. الأنعام: 15، ويونس: 15 .

2. البقرة: 143 .

( 343 )

مُنْتَقِمُونَ)(1). فسفَّه أن ذكّروه بآيات الله وأخذهم بالجبروت، وضرب منهم من شاء الله وسجن ونفاهم في أطراف الأرض من شاء الله منهم نفياً أن ذكّروه بكتاب الله وسنّة نبيّه ومن

كان قبله من المؤمنين، وقال الله: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِىَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)(2).

وإنّي اُبيّن لك يا عبدالملك بن مروان الذي أنكر المؤمنون على عثمان وفارقناه عليه فيما استحلّ من المعاصي عسى أن تكون جاهلا عنه غافلا وأنت على دينه وهواه !! لايحملنّك يا عبدالملك هوى عثمان أن تجحد بآيات الله وتكذّب بها!!! فإنّ عثمان لايغني عنك من الله شيئاً، فالله، الله يا عبدالملك بن مروان قبل التناوش من مكان بعيد، وقبل أن يكون لزاماً، وأجل مسمّى!! وإنّه كان ممّا طعن المؤمنون عليه وفارقوه وفارقناه فيه، فإنّ الله قال: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِها اُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوها إلاّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزىٌ وَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ)(3). فكان عثمان أوّل من منع مساجد الله أن يقضى فيها بكتاب الله. وممّا نقمناه عليه وفارقناه عليه أنّ الله قال لمحمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ( لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ وَ العَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِم مِنْ شَىْء وَ ما مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ)(4).

فكان أوّل (5) هذه الاُمّة طردهم ونفاهم، فكان ممّن نفاهم من أهل المدينة

____________________________

1. السجدة: 22.

2. الكهف: 57 .

3. البقرة: 114 .

4. الأنعام: 52 .

5. في نسخة «خيار» .

( 344 )

أبوذَرّ الغفاري، ومسلم الجهني، ونافع بن الحطام (1)، ونفى من أهل الكوفة كعب بن أبي الحلمة، وأبي الرحل الوجاج، و جندب بن زهير(2)، وجندب هو الذي قتل الساحر الذي كان يلعب به الوليد بن عقبة(3)، ونفى عمرو بن زرارة، وزيد بن صوحان

(4)، وأسود بن ذريح، ويزيد بن قيس الهمداني، وكردوس بن الحضرمي، في ناس كثير من أهل الكوفة.

ونفى من أهل البصرة عامر بن عبدالله القشري، ومذعور العبدي ولا أستطيع لك عددهم من المؤمنين.

وممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عقبة على المؤمنين، وكان يلعب بالسحرة ويصلّي بالناس سكران، فاسق في دين الله، أمّره من أجل قرابته، على المؤمنين المهاجرين و الأنصار، وإنّما عهدهم حديث بعهدالله ورسوله والمؤمنين.

وممّا نقمنا عليه إمارته قرابته على عبادالله وجعل المال دولة بين الأغنياء، وقال الله: ( كَيْ لاَ يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ) (5). وبدّل كلام الله وبدَّل القول واتّبع الهوى.

____________________________

1. ورد الاسم أيضاً: «نافع بن الحطامي».

2. جندب بن زهير الأزدي: ذكر الطبري أنّه قتل في صفّين وهو يحارب مع عليّ بن أبي طالب.

3. الوليد بن عقبة، أخ عثمان بن عفان لاُمّه، وروي أنّه وهو أمير على الكوفة، صلّى بالناس الصبح وهو سكران، ثمّ قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم، فلمّا بلغ عثمان ذلك لم يسرع إلى إقامة الحدّ عليه، بل أخّر ذلك. (انظر: ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ج 1 ص 36).

4. زيد بن صوحان: قتل شهيداً يوم الجمل .

5. الحشر: 7 .

( 345 )

وممّا نقمنا عليه أنّه انطلق إلى الأرض ليحميها لنفسه ولأهله(1) حمى حتى منع قطر السماء والرزق الذي أنزله الله لعباده، لأنفسهم وأنعامهم. وقد قال الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالا قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون* وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةَ)(2).

وممّا نقمنا عليه أنّه أوّل من تعدّى في الصدقات وقد قال الله: ( إنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ المَساكِينَ وَ العامِلِينَ

عَلَيْهَا وَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الغَارِمينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السِّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(3). وقال الله: ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَ لامُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاَ مُبيناً)(4).

وأحدث عثمان منه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _ رحمة الله عليه _ ، وانتقص أصحاب بدر ألّفاً من عطائهم، وكنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله، وقال الله: ( وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْها فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِهَا جِباهُهُمْ

____________________________

1. يقال حمى فلان الأرض يحميها حمى حتى لايقرب. والحمى موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وقال الإمام الشافعي في تفسير قوله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ «لا حمى إلاّ لله ولرسوله»: كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصّته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله، فنهى النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. (انظر: دكتور حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي ج 1 هامش صفحة 273) .

2. يونس: 59 _ 60 .

3. التوبة: 60 .

4. الأحزاب: 36 .

( 346 )

وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(1) .

وممّا نقمنا عليه أنّه كان يضمّ كلّ ضالّة إلى إبله ولايرّدها ولايعرّفها، وكان يأخذ من الإبل والغنم ممّن وجد ما

عنده من الناس وإن كانوا قد أسلموا عليها(2)، وكان لهم في حكم الله أنّ لهم ما أسلموا عليه. وقال الله: ( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلاتَعْثُوْا فِى الأرضِ مُفسدِينَ)(3). وقال: ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراض مِنْكُمْ ولاتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيِه ناراً وَ كانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(4) .

وممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس الله لنفسه ويعطيها أقاربه ويجعل منهم عمّالا على أصحابه وكان ذلك تبديلا لفرائض الله، وفرض الله الخمس لله ولرسوله: ( وَلِذِي القُرْبَى وَ اليَتَامَى وَ المسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَ مَا أنْزَلْنا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)(5).

وممّا نقمنا عليه أنّه منع أهل البحرين وأهل عُمان أن يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع طعام الإمارة، وكان ذلك تحريماً لما أحلّ الله: ( وَ اَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا)(6).

فلو أردنا أن نخبر بكثير من مظالم عثمان لم نحصها إلاّ ما شاء الله، وكل ما عددت عليكم من عمل عثمان يُكفّر الرجل أن يعمل ببعض هذا.

____________________________

1. التوبة: 34 _ 35 .

2. أسلموا عليها: تصالحوا عليها.

3. هود: 85 .

4. النساء: 29 _ 30.

5. الأنفال: 41.

6. البقرة: 275 .

( 347 )

وكان من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل الله وخالف سنّة نبي الله والخليفتين الصالحين أبي بكر و عمر وقد قال الله: ( وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصيِرَاً)(1).

وقال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ

الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون).(2)، ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(3)، ( وَ مَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرَاً)(4)، وقال: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ)(5)، وقال: (وَ لاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُون)(6) .

وقال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)، والفاسقون (7) والكافرون(8)وقال: ( ألا لَعَنةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين).

وقال: ( ومَنْ يَلعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً). وقال: ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ). وقال: ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ)(9). فكل هذه الآيات تشهد على عثمان، وإنّما شهدنا بما شهدت هذه الآيات: ( اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنَزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ المَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفَى بِاللهِ

____________________________

1. النساء: 115 .

2. المائدة 45.

3. هود: 18 .

4. النساء: 52 .

5. البقرة: 124.

6. هود: 113.

7. وفي سورة المائدة: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ) آية 47 .

8. وفي سورة المائدة: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ) آية 44 .

9. يونس 33 .

( 348 )

شَهِيداً).(1)

وقال: ( فَوَرَبِّ السَّماءِ وَ الأرضِ إنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(2) .

فلمّا رأى المؤمنون الذي نزل به عثمان من معصية الله، والمؤمنون شهداء الله ناظرون أعمال الناس، وكذلك قال الله:( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إلَى عالِمِ الغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون)(3) .

و ترك خصومة الخصمين في الحق والباطل ودفع ما وعد الله من الفتن، وقال الله: ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِهِمْ فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ)(4).

فعلم المؤمنون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس، فساروا إلى عثمان من أطراف الأرض، واجتمعوا في ملأ من المهاجرين والأنصار وعامّة أزواج النبي_ عليه الصلاة والسلام _ فأتوه فذكّروه الله وأخبروه الذي أتى من معاصي الله، فزعم أنّه يعرف الذي يقولون، وأنّه يتوب إلى الله منه و يراجع الحق فيقبلوا منه الذي اتّقاهم به من اعتراف الذنب والتوبة والرجوع إلى أمر الله، فجامعوه وقبلوا منه، وكان حقّاً على أهل الإسلام إذا اتّقوا بالحق أن يقبلوه ويجامعوه ما استقام على الحق. فلمّا تفرّق الناس على ما اتّقاهم به من الحق نكث عن الذي عاهدهم عليه وعاد فيما تاب منه، فكتب في أدبارهم أن تقطع أيدهم و أرجلهم من خلاف. فلمّا ظهر المؤمنون على كتابه ونكثه على العهد الذي عاهدهم عليه رجعوا فقتلوه بحكم الله، وقال الله: (وَ إنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ

____________________________

1. النساء: 166 .

2. الذاريات: 23.

3. التوبة: 105 .

4. العنكبوت: 1 _ 3 .

( 349 )

مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(1). فجامع أهل الاسلام ما شاءالله، وعمل بالحق، وقد يعمل الإنسان بالاسلام زماناً ثم يرتد عنه. وقال الله: ( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أمْلَى لَهُمْ)(2).

فلمّا استحلّ معصية الله وترك سنّة من كان قبله من المؤمنين، علم المؤمنون أنّ الجهاد في سبيل الله أولى، وأنّ الطاعة في مجاهدة عثمان على أحكامه. فهذا من خبر عثمان والذي فارقناه فيه، ونطعن عليه اليوم، وطعن عليه المؤمنون قبلنا، وذكرت أنّه كان مع رسول الله وختنه(3)، فقد كان عليّ بن أبي طالب أقرب

إلى رسول الله وأحبّ إليه منه، وكان ختنه ومن أهل الإسلام. وأنت تشهد عليه بذلك وأنا بعد على ذلك، فكيف تكون قرابته من محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ نجاةً إذا ترك الحق وضلّ كفراً(4) .

واعلم، إنّما علامة كفر هذه الاُمّة كفرها الحكم بغير ما أنزل الله، ذلك بأنّ الله قال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكَافِرُون)(5) .فلا أصدق من الله قيلا، وقال: (فَبِأيِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ)(6).

____________________________

1. التوبة: 12 .

2. محمّد: 25 .

3. الختن: زوج الابنة. الجمع أختان .

4. قال سبحانه لنبيّه: ( لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الزمر / 65، ولكن الكلام في وقوع الشرط. إنّ الإمام لم يشرك، ولم يضل أبداً. إنّما ترك الحق اُولئِكَ الذين ألجأوه إلى إجابة دعوة الشاميين، وحذّروه من مواصلة الحرب وقد كان الامام على أعتاب النصر، وقد بلغوا في اللجاج والعناد إلى حدّ لم يمهلوا القائد لقواته _ الأشتر _ عدوة فرس أو فواق ناقة، فلاحظ .

5. المائدة: 44 .

6. الجاثية: 6.

( 350 )

فلا يغرّنّك يا عبدالملك بن مروان، عثمان عن نفسك، ولاتسند دينك إلى الرجال يتمنّون ويريدون ويستدرجون من حيث لايعلمون ،فإنّ أملك الأعمال بخواتمها، وكتاب الله جديد ينطق بالحق أجارنا الله باتباعه أن نضل او نبغي(1) فاعتصم بحبل الله يا عبدالملك واعتصم بالله، وإنّه من يعتصم بالله يهده صراطاً مستقيماً. وهو حبل الله الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به ولايتفرّقوا. وليس حبل الله الرجال من أيّهم حَسُنَ ينهبون ويطعنون، فاُذكّرك الله لما أن تدبّرت القرآن فإنّه حق. وقال الله:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أقْفالُها)(2).فكّن تابعاً لما جاء من الله تهتدي، وبه تخاصم من خاصمك من

الناس، وإليه تدعو وبه تحتجّ، فإنّه من يكن القرآن حجّته يوم القيامة به يخاصم من خاصمه ويفلح في الدنيا والآخرة. فإنّ الناس فقد اختصموا( إنَّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(3) فتعمل لما بعد الموت ولايغرّنّك بالله الغرور.

وأَمّا قولك في شأن معاوية بن أبي سفيان أنّ الله قام معه وعجّل نصره وأفلح حجّه وأظهره على عدوّه بطلب دم عثمان، فإن يكن يعتبر الدين من قبل الدولة أن يظهر الناس بعضهم على بعض في الدنيا فإنّا لانعتبر الدين بالدولة، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون، وقد ظهر الكفّار على المسلمين ليبتلي المسلمين بذلك ويعلى الكافرين(4). وقال:( وَ تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَ لُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الكافِرِين)(5).

____________________________

1. وفي نسخة: «أن نبغي أو نضل».

2. محمّد: 24.

3. الزمر: 31.

4. وفي نسخة «ويملأ الكافرين».

5. آل عمران 140 _ 141 .

( 351 )

فإن كان الدين إذا ظهر الناس بعضهم على بعض فقد سمعت الذي أصاب المشركون من يوم اُحُد، وقد ظهر الذين قتلوا ابن عفان عليه وعلى شيعته يوم الدار(1) وظهر أيضاً عليّ، على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (2)، وظهر المختار على ابن زياد(3)، وأصحابه وهم شيعتهم، وظهر معصب الخبيث على المختار(4) وظهر ابن السجف على أخنس بن دلجة وأصحابه، وظهر أهل الشام على أهل المدينة(5)، وظهر ابن الزبير على أهل الشام بمكة يوم استفتحوا منها ما حرّم الله عليكم وهم شيعتكم.

فإن كان هؤلاء على الدين فلايعتبر الدين من قبل الدولة، فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ويعطي الله رجالا ملكاً في الدنيا، فقد أعطى فرعون ملكاً وظهر في الأرض، وقد

أعطى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وقد أعطى فرعون ما سمعت.

ثمّ إنّما اشترى معاوية (6)الإمارة من الحسن بن علي، ثمّ لم يف له بالذي

____________________________

1. اقتحم الثوار على عثمان بن عفان داره، بعد أن نشب القتال بينهم وبين من تصّدى للدفاع عنه وذلك في الثامن عشر من ذي الحجّة سنة 35 ه_ وقتلوه وعرف ذلك اليوم ب_ «يوم الدار» .

2. يشير إلى انتصار الإمام علي بن أبي طالب في وقعة الجمل، التي دارت بينه و بين عائشة وطلحة والزبير وذلك في جمادى الآخرة سنة 36 ه_ .

3. أرسل المختار بن أبي عبيدة الثقفي، جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيدالله بن زياد عامل الأمويين. وسار إبراهيم بن الأشتر حين لقى ابن زياد ومن معه من أهل الشام على نهر الخازر(نهر بين اربيل و الموصل ويصب في دجلة) فدارت الدائرة على ابن زياد وقتل هووكثير من أهل الشام وحمل رأسه إلى المختار.

4. هزم المختار وقتل في الكوفة سنة67 ه_ في الحرب التي دارت بينه و بين مصعب بن الزبير .

5. حاضر مسلم بن عقبة المري، المدينة المنورة، من ناحية الحرة وفتحها وأباحها، وذلك في أثناء حكم يزيد بن معاوية.

6. تعبير خاطئ والصحيح: تصالح الإمام مع معاوية بعد ما أتمّ الحجّة على الاُمّة.

( 352 )

عاهده عليه، وقال: ( وُ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا اِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُم فِيهَ تَخْتَلِفُونَ )(1).

فلا تسأل

عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً(2) أترك للقسمة التي قسمها اللّه، ولا لحكم حكمه الله، ولاأسفك لدم حرام منه، فلو لم يصب من الدماء إلاّ دم ابن سمية(3) لكان في ذلك ما يكفّره.

ثمّ استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله وقال الله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ الله لا يَهدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ)(4). فلم يخف عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس، فاتّق الله يا عبدالملك ولاتخادع من نفسك في معاوية!! فقد بلغنا أنّ أهل البيت يطعنون على معاوية ويزيد وعملهما وما رأى من خبر معاوية من بعدهما، فالذي طعنّا عليهما وعليه وفارقناه عليه، فإنّ منهم فتنة كمن يكون يتولّى عثمان ومن بعده. فإنّا نشهد الله والملائكة أنّا منهم

____________________________

1. النحل: 91 _ 92 .

2. كتب في المخطوطة: «شيئاً لأحد» .

3. يشير إلى ما عمله معاوية بن أبي سفيان في سنة 45 ه_ حين ردّ اعتبار زياد بن سمية في نسبه فأحبّ أن يجعله أخاه وأتى بشهود شهدوا بأنّه ابن أبي سفيان، وهذا ما يعبّر عنه بالاستلحاق. وأصبح زياد يعرف باسم زياد بن أبي سفيان بعد أن كان يعرف باسم زياد بن سمية أو زياد بن أبيه. وقد دفع معاوية إلى ذلك الاعتبارات السياسية، ومنذ أن اعترف معاوية بن أبي سفيان بزياد أخاً له وابناً غير شرعي لأبيه، تفانى زياد في خدمة البيت الأموي.

4. القصص: 50 .

( 353 )

براء ولهم أعداء، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه

إذا متنا، ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عندالله.

وكتبت إليّ تحذّرني الغلو في الدين، وإنّي أعوذ بالله من الغلو في الدين، وساُبيّن لك ماالغلو في الدين إذا جهلته، فإنّه ما كان يقال على الله غير الحق ويعمل بغير كتابه الذي بيّن لنا وسنّة نبيه الذي بيّن لنا، اتباعك قوماً قد ضلّوا وأضلّوا عن سواء السبيل. فذلك عثمان والأئمّة من بعدهم وأنت على طاعتهم وتجامعهم على معصية الله، والله يقول: ( يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ)(1). فهذا سبيل أهل الغلو في الدين فليس من دعا إلى الله وإلى كتابه ورضى بحكمه، وغضب لله حين عصي أمره، وأخذ بحكمه حين ضيع وتركت سنّة نبيّه.

وكتبت إليّ تعرض على الخوارج، تزعم أنّهم يغلون في دينهم ويفارقون أهل الإسلام، وتزعم أنّهم يتّبعون غير سبيل المؤمنين، وإنّني اُبيّن لك سبليهم، إنّهم أصحاب عثمان، والذي أنكروا عليه ما أحدث من تغيير السنّة، فارقوه حين أحدث وترك حكم الله، وفارقوه حين عصى ربّه، وهم أصحاب عليّ بن أبي طالب حين حكّم عمرو بن العاص (2) وترك حكم الله، فأنكروه عليه وفارقوه فيه وأبوا أن يقرّوا لحكم البشر دون حكم كتاب الله، فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة وأشدّ مفارقة. كانوا يتولّون في دينهم وسنّتهم رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وأبا بكر وعمر بن الخطاب، ويدعون إلى سبيلهم ويرضون بسنّتهم على ذلك، كانوا يخرجون وإليه يدعون وعليه يفارقون. وقد علم من عرفهم من الناس ورأى عملهم أنّهم كانوا أحسن الناس

____________________________

1. النساء: 171 .

2. لم يحكّم عمروبن العاص، وإنّما حكّم القرآن كما تشهد على ذلك وثيقة التحيكم.فلاحظ.

( 354 )

عملا وأشدّ قتالا في سبيل

الله. وقال الله: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ)(1).

فهذا خبر الخوارج، نشهد الله والملائكة انّا لمن عاداهم أعداء وانّا لمن والاهم أولياء، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، على ذلك نعيش ماعشنا، ونموت على ذلك إذا متنا، غير أنّا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا على الإسلام فيما ظهر لنا، ولكنّهم ارتدّوا عنه وكفروا بعد إيمانهم(2) فنبرأ إلى الله منهم.

أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك، وأجتهد في النصيحة، وإنّي اُبيّن لك إن كنت تعلم و أفضل ما كتبت إليك به، وذكّرتني بالله أن اُبيّن لك فإنّي قد بيّنت لك بجهد نفسي، وأخبرتك خبر الاُمّة، وكان حقَّاً عليّ أن أنصح لك واُبيّن لك ما قد علمت. إنّ الله يقول:( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ اُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَ أصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أنا التَّوَّابُ الرَّحيمُ) (3). فإنَّ الله لم يتَّخذني عبداً وأن أكفر بربّي، ولااُخادع الناس بشيء ليس في نفسي، واُخالف إلى ما أنهى عنه، فأمري علانية غير سرّ، أدعو إلى كتاب الله وليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ويرضوا بحكمه ويتوبوا إلى ربّهم ويراجعوا كتاب الله، ولئن أدعوكم إلى كتاب الله ليحكم بيني وبينكم في الذي اختلفوا فيه، ونحرّم ما حرّم الله، ونحكم بما حكم الله، ونبرأ ممّن برىء اللهُ منه ورسوله، ونتولّى من يتولّاه الله، ونطيع من أحلّ لنا طاعة في كتابه، ونعصي

____________________________

1. التوبة: 123 .

2. يشيرهنا إلى تبرّئ الاباضية من نافع بن الأزرق والأزارقة وذلك

لغلوّهم وتطرّفهم في الدين.

3. البقرة: 159 _ 160 .

( 355 )

من أمر الله بمعصيته. أن نطيعه فهذا الذي أدركنا عليه نبيّنا _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ . وإنّ هذه الاُمّة لم تحرّم حراماً ولم تسفك دماءً إلاّ حين تركوا كتاب ربّهم الذي أمرهم أن يعتصموا به، ويأمنوا عليه، وانّهم لايزالون مفترقين مختلفين حتى يراجعوا كتاب الله وسنّة نبيّه، وينتصحوا كتاب الله على أنفسهم، ويحكّموه إلى ما اختلفوا فيه. فإنّ الله يقول: ( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيِه مِنْ شَيء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ أُنيبُ)(1). وإنّ هذا هو السبيل الواضح لايشبّه به شيء من السبل، وهو الذي هدى الله به من كان قبلنا، محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ والخليفتين الصالحين من بعده، فلايضلّ من اتّبعه ولايهتدي من تركه، وقال:( وَ أَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوهُ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2). فاحذر أن تفرّق بك السبل عن سبيله، ويزّين لك الضلالة باتّباعك هواك فيما جمعت إليه الرجال، فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، إنّما هي الأهواء والدين. إنّما يتبع الناس في الدنيا والآخرة إمامين، إمام هدى، وإمام ضلالة. أمّا إمام الهدى فهو يحكم بما أنزل الله ويقسم بقسمه ويتبع كتاب الله، وهم الذين قال الله: ( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(3) وهؤلاء أولياء المؤمنين الذين أمرالله بطاعتهم، ونهى عن معصيتهم. وأمّا إمام الضلالة فهو الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقسم بغير ما قسم الله، ويتبع هواه بغير سنّة من الله فذلك كفر كما سمّى الله، ونهى عن طاعتهم وأمر بجهادهم، وقال: (

فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَ جاهِدَهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيرا)(4).

____________________________

1. الشورى: 10 .

2. الأنعام: 153 .

3. السجدة: 24.

4. الفرقان: 52.

( 356 )

فإنّه حقّ أنزله بالحق وينطق به، وليس بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون. ولا يضربن الذكر عنك صفحاً،ولاتشكّنّ في كتاب الله، ولا حول ولاقوّة إلاّ بالله، فإنّه من لم ينفعه كتاب الله، لم ينفعه غيره.

كتبت إليّ أن أكتب إليك بمرجوع كتابك، فإنّي قد كتبت إليك، وأنا اُذكّرك بالله العظيم إنّ استطعت بالله لمّا قرأت كتابي ثمّ تدبّر فيه وأنت فارغ ثم تدبّره، فقد كتبت إليك بجواب كتابك وبيّنت لك ما علمت ونصحت لك. فإنّي اُذكّرك بالله العظيم لمّا قرأت كتابي وتدبّرته، واكتب إليّ إن استطعت بجواب كتابي إذا كتبت إليك، إنّما أتنازع فيه أنا وأنت، انزع عليه بيّنة من كتاب الله اُصدّق فيه قولك، فلاتعرض لي بالدنيا فإنّه لارغبة لي في الدنيا، وليست من حاجتي، ولكن لتكن نصحتك لي في الدين، ولما بعد الموت، فإنّ ذلك أفضل النصيحة، فإنّ الله قادر أن يجمع بيننا وبينك على الطاعة، فإنّه لاخير لمن لم يكن على طاعة الله. وبالله التوفيق وفيه الرضى، والسلام عليه، والحمد لله، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله وسلّم تسليماً(1) .

***

____________________________

1. السير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان 2/325 _ 345 تحقيق الاُستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، ط وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان، والجواهر المنتقاة 156 _ 162، وازالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء 86 _ 101 .

الفصل الثاني عشر في عقائد فرق الخوارج

الفصل الثاني عشر في عقائد فرق الخوارج ومخطّطاتهم في الحياة

( 358 )

( 359 )

ظهرت الخوارج في الساحة الإسلامية بصورة تيار سياسي لايتبنّون إلاّ تطبيق الحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة في أمر البغاة(الشاميين) وكان الجميع يحملون

شعار«لاحكم إلاّ لله» يريدون بذلك انّ حكم الله في حق البغاة هو القتال، لاتحكيم الرجال، ولم يكن لهم يومذاك منهج كلامي، ولمّا قضى عليّ _ عليه السَّلام _ نحبه، ركّز الخوارج جهدهم على مكافحة الحكّام الظالمين كمعاوية وآله، ومروان بن الحكم وأولاده، وقد حفظ التاريخ انتفاضاتهم في وجه خلفاء بني اُميّة وعمّالهم كما تعرّفت على لفيف منها.

فلا عجب عندئذ إذا رأينا أنّ خارجياً يقتفي أصحاب الحديث في العقائد، أو يتبنّى عقيدة المعتزلة في غير مورد من الاُصول وما هذا إلاّ لأنّ القوم في القرنين الأوّلين كانوا مقاتلين، قبل أن يكونوا أصحاب فكر، وكانوا ثوّاراً في وجه الحكومات، قبل أن يكونوا فرقة دينية تتبنّى اُصولا عقائدية، والامعان في المبدأ الذي اتّخذوه كحجر زاوية (تخطئة التحكيم) أو الاُسس التي تبنّوها في العهد الاموي، أي بعد استيلاء معاوية على الحكم، إلى عهد عبدالملك بن مروان (ت 75) إلى آخر الدولة المروانية (132 ه_) يعرب عن أنّ

( 360 )

القوم لم يكن لهم يوم ذاك فكر كلامي ولا فقهي، وأنّ الغاية من تبنّي الاُسس المذكورة في هذا الفصل (تكفير مرتكبي الكبيرة وحرمة مناكحتهم ولزوم الخروج على الطغاة و...) إنّما هو تمهيد لأساليب توصلهم إلى القضاء على الخلفاء وحكّام الجور، والاستيلاء على منصَّة الحكم. ولذلك لم يورثوا سوى الشغب والثورة والأخذ بزمام الحكم.

نعم الفرقة الباقية منهم _ كالاباضية _ لمّا استشعروا أنّه لايصحّ بفريق سياسي أن يعيش بلا مبدأ كلامي أو فقهي، تداولوا بعض الموضوعات الكلامية والفقهية بالبحث والتمحيص. ويبدو من خلال الرجوع إلى آثار تلك الفرقة أنّ أكثر ما يتبنّونه في مجال العقائد إنّما هو نتاج متأخّر لم يفكّر به مؤسّس الفرقة كعبدالله بن اباض ولاالتابعي الآخر كجابر بن زيد،

وأكثر ماورثوا من الأوّل شجاعته الروحية، وصراحته في بيان الحقائق، ومن الثاني أحاديث موقوفة، نقلها جابر عن عدّة من الصحابة، وأين هذا من منهج كلامي منسجم، وفقه واسع يتكفّل بيان تكاليف العباد في الحياة في عامّة المجالات. وهذا يؤيّد أنّ الخوارج _ ظهرت يوم ظهرت _ كفرقة سياسية ثم آلت إلى فرقة دينية.

ونحن نمّر في هذا الفصل على عقائدهم واُسسهم التي تعرّفت على سماتها والغايات المتوخّاة منها.

***

( 361 )

1 _ حكم التحكيم في حرب صفّين

إنّ تخطئة التحكيم هو الحجر الأساس لقاطبة الخوارج، وقد اتّخذوه شعاراً أيّام حياة الامام علي _ عليه السَّلام _ وبعده، والخوارج كلّهم، المتطرّف منهم و غيره، أصفقوا على أنّ قبول التحكيم في حرب صفّين كان أمراً مخالفاً للكتاب، وما كان لعلي _ عليه السَّلام _ أن يُحكِّم الرجال في موضوع ورد فيه حكم إلهي في مصدرين رئيسيين _ أعني الكتاب والسنّة _ ، وبما أنّا ألمحنا إلى الموضوع وأوضحنا حاله في الفصل الثالث تحت عنوان «تحليل لكارثة التحكيم» فنحيل القارئ الكريم إلى ذاك الفصل وقد ذكرنا هناك وجوهاً مختلفة يحتملها ذلك الشعار، إلاّ أنّ الإمعان في كتب القوم يعرب عن أنّهم لايهدفون منه إلاّ احد الوجهين:

( 362 )

الف _ تحكيم الرجال فيما نزل فيه حكم الله، كفر(1) .

ب _ لا إمرة إلاّ لله تبارك وتعالى.

أمّا الأوّل فيشترك فيه جميع فرقهم، وأمّا الثاني فإنّما يعود إلى بعض فرقهم كما سنذكر، وبما أنّه اعتمد على الوجه الأوّل جميع مفكّريهم ومشايخهم، وبالغ القوم في توضيحه وتنقيحه وتثبيته، فنأتي في المقام ببعض نصوصهم ثمّ نقوم بتحليله حتى يتبيّن الحق بأجلى مظاهره.

التحكيم والتدخّل في موضوع له حكم سماوي:

إنّ للكاتب المعاصر: علي يحيى معمّر، مؤلف كتاب «الاباضية

في موكب التاريخ» بياناً مفصّلا حول الموضوع وقد بذل جهده في اثبات أنّ التحكيم كان تدخّلا في موضوع فيه حكم الله، وهو مواصلة الحرب والقتال ومكافحة أهل البغي، وأنّ ايقاف القتال وإدلاء الأمر إلى الحكمين كان مخالفاً للتشريع السماوي، يقول:

«بايع المسلمون علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وكان أوّل من بايع طلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، ولكن ماكادت تتّم البيعة، حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة ،وقد استظهروا باُمّ المؤمنين عائشة، ووقف الخليفة في وجه الثائرين موقفاً حازماً صلباً، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين ذهب فيمن ذهب فيها

____________________________

1. هذا هو الوجه الأوّل من بين الوجوه المذكورة في الفصل الثالث وَوَعدنا هناك القارىء أن نرجع إلى تفصيله وتحليله وما نذكره هنا إنجاز له.

( 363 )

طلحة والزبير، ورجع بقيّة الثائرين إلى حظيرة الإمامة والاُمّة.

لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة، ويعود إلى البلاد الهدوء والاستقرار، ويَعْرفَ معاوية أنّ الثورة فشلت، وأنّه معزول عن ولاية الشام لامحالة، حتّى أعلن الثورة في الشام و هو حينئذ عامل من عمّال الخليفة، وأظهر أنّه يطالب بدم عثمان وقد استعدّ أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة كما أطفأ الثورة التي سبقتها و جهّز جيشه القوي وسار به نحو الشام حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف ب_ «صفّين»، وبدأت المعركة ثم استمرّ القتال حتى ظهرت طلائع النصر وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة، ولم يبق للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلاّ لحظات عبّر عنها الأشتر «بفواق الناقة»، إلتجأ الثائرون إلى الحيلة والخدعة، ولجأوا إلى المكر والمكيدة ورفعوا المصاحف وهم يصيحون يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.

طلب الثائرون هدنة، ودعوا الخليفة

الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين، وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة، وعرفوا القصد من هذه الهدنة، ولكّنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم، ويوالي حربه ضد الثائرين، حتّى يتحققّ النصر، وقد تحقّقت بشائره، ويُلقي البغاةُ أسلحتَهم، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه، وبغوا عليه _ بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك _ استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة وأكثرهم موعود من معاوية أو من عمروبن العاص، ورضى بالتحكيم وَ قَبِلَ الهدنة وأمر بايِقاف القتال في الحال.

وهكذا انتهت هذه الثورة إلى هذا الموقف المائع الذي جعل حقّ عليّ في الخلافة، يتساوى مع حقّ معاوية، وجعل نصيب البغاة الثائرين من الثواب، يساوي نصيب جيش الاُمّة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمّت بالشورى

( 364 )

وانعقدت بالبيعة.

وتداعى الذين فطنوا إلى خدعة الهدنة من أصحاب عليّ وحذَّروه من قبولها، وأخبروه أنّ قبولها يعني الشكّ في خلافته، والتنازل عنها، وكانوا مصرّين انّ الخلافة الشرعية حقّ لايتطرّق إليه الشكّ، ولايجوز فيها الرجوع ولا تقبل فيها المساومة.

وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه، والماكرين من عدوّه، وأن يشكّ في نفسه والحقّ الذي بيده، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون، ويساوي بينه و بين أحد عمّاله، في قضية أخذ فيها عهداً من الاُمّة وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً، ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.

حين فعل عليّ ذلك، تداعى اُولئك الذين لم يرتضوا التحكيم وحذّروا عليّاً من قبوله، وهم يرون أنّ معاوية باغ لاحقّ له، وأنّ بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة، ورضاؤه بالتحكيم جبراً، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة، وليس لأحد عليهم ميثاق، تداعوا إلى أن يعتزلوا جيش عليّ، وركنوا

إلى موقع يسمّى حروراء، فانعزلوا فيه ينتظرون تجدّد الحوادث، واتّجاه الاُمّة في قضية الخلافة، وقد جرت الاُمور بأسرع ممّا يتوقّع لها، فما بلغ الموعد الذي حدّده الطرفان لانتهاء الهدنة، حتى اجتمع الناس وأعلن أبو موسى الأشعري مندوب علي، عزلَ عليّ عن الخلافة وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.

كان هؤلاء المحايدون ينظرون إلى معاوية نظرتهم إلى باغ، يحاول أن يفرض نفسه بالمكر والحيلة، ولذلك فهم لايقيمون أيّ وزن لدعوى عزله، فهو لم يتولّ أمر الخلافة إلى ذلك الحين، لابالإكراه، ولابالشورى، فلامعنى لعزله من منصب ليس هو فيه، كما لايقيمون أيّ وزن لتولية عمروبن العاص له، لأنّ

( 365 )

عمراً لم يفوّضه المسلمون في تولية أميرالمؤمنين، أمّا نظرتهم إلى علي فقد كانوا يتوقّعون أن يتّفق الحكمان على إقراره في الحكم، وحينئذ ترجع إلى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحّدوا صفوفهم، تحت طاعته، ما قام فيهم بكتاب الله، ولكنّ المندوب الذي اختاره علي ليمثّله في هذه القضية الظالمة، أعلن أنّه عزل عليّاً عن أمر المسلمين، وأنّ الأمر أصبح للشورى والاختيار، وتأيّد موقف هؤلاء المحايدين وانضمّ إليهم عدد آخر ممّن كانوا يقفون إلى جانب عليّ حتى ذلك الحين، وبحثوا الأمر فيما بينهم على أساس أنّ المسلمين أصبحوا دون خليفة.

فهذا معاوية باغ ظالم لايمكن أن يتولّى أمر المسلمين، وهذا عليّ عزله المندوب الذي اختاره للتحكيم، واذن فليختاروا، واختاروا عبدالله بن وهب الراسبي، فبايعوه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم» (1).

غيري جنى وأنا المعاقبُ فيكم!:

لم أجد عنواناً يعرب عن مظلوميّة الإمام أمير المؤمنين في مسألة التحكيم الذي فرضه عليه الخوارج، ثم جاءوا يطالبونه بالجريمة،

أحسن من هذا المصراع، وبما أنّا فرضنا على أنفسنا في بدء الكتاب ألاّ نقضي على قوم بماكتبه غيرهم في حقّهم، فقد نقلنا هذا الكلام بتفصيله والإمعان في أوّله وثناياه وآخره يدل على أنّ الكاتب أخذ موقفاً مسبقاً في مسألة التحكيم، فأخذ من التاريخ فقرات متناثرة تلائم موقفه، وترك كل ما يخالفه.وإليك تحليل ماذكره.

1 _ كان من واجبه _ قبل كلّ شيء _ التعريف بالذين فرضوا التحكيم على

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 21 _ 34.

( 366 )

عليّ _ عليه السَّلام _ وأجبروه على قبوله، فمن هم الذين أجبروه على التحكيم وعلى التنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون، وبالتالي ساووا بينه وبين أحد عمّاله؟ فإنّ التعرّف عليهم أساس القضاء الحق فيما رسمه الكاتب وحررّه. الذين فرضوا التحكيم على علي _ عليه السَّلام _ لم يكونوا إلاّ رؤوس المحكّمة الاُولى الذين اتّخذهم الكاتب أئمّة وأولياء، فإنّ الإمام علي _ عليه السَّلام _ ، فوجىء بمجئ زهاء عشرين ألفاً، مقنّعين في الحديد، شاكين سيوفَهم، وقد اسودّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ، فنادون باسمه، لابإمرة المؤمنين، وقالوا: يا عليّ أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيِتَ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم، فقال الإمام لهم: ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولايَسَعُني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله، فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا إليه فيما أمرهم، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكّني قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون

(1).

إنّ حرقوص بن زهير السعدي الذي يُعدّ من الطبقة العليا للمحكّمة الاُولى وكان مرشَّحاً للبيعة في بيت عبدالله بن وهب الراسبي قبله، كان من المصرّين على قبول التحكيم، لكنّه رجع عن رأيه وتاب عن كفره بزعمه، ولمّا دخل على عليّ _ عليه السَّلام _ ومعه زرعة بن برج الطائي، فقال له: اُخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، فعاتبه الإمام وقال: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كُتِبَ بيننا وبينهم كتاب...(2).

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 560 _ 564 وغيرها.

2. الطبري: التاريخ 4/53 .

( 367 )

وقد وصل اصرار القوم إلى حدّ هدّدوا حياة الإمام بأنّهم يقضون عليها كما قضوا على حياة عثمان، فلم يجد الإمام بُدّاً من قبول التحكيم، وقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ فرضوا التحكيم على الإمام أوّلا، ثمّ فرضوا عليه صيغة الحكم، ولم يرضوا بمن كان هوى علي _ عليه السَّلام _ معه، وقد كان الإمام يصرّ على بعث عبدالله بن عباس أو الأشتر، ولكنّهم ما رضوا إلاّ بأبي موسى الأشعري الذي كان يَكنّ عداء عليّ في خُلْده لمّا عزله من ولايته.

أبعد هذا يصحّ للكاتب أن يقول«ولكنّه _ الإمام _ بدلَ أن يقف موقفه الحازم ويوالي حربه ضد الثائرين حتى يتحقّق النصر، وقد تحقّقت بشائره، ويُلْقي البغاةُ أسلحتهم، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة... بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك، استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصحية طلاّب الخدعة...».

إنّ رؤوس الخوارج هم الذين كانوا يشكِّلون دعاة الهزيمة، وطلاّب الخدعة، فلوكان التحكيم جناية فهم أولى بأن يجتنوا ثماره، ويحملوا أوزاره، لا الإمام الذي أعطى لهم نصحة الخالص، ونبّههم على أنّها خديعة، ظاهره الصلاح وباطنه الفساد و... أو ليس عاراً على جماعة، فرضوا على إمامهم

التحكيم، وإدلاءالأمر إلى الحكمين وكتابة ميثاق بين الطرفين، أن يجيئوا شاهرين سيوفهم، يطلبون منه نقض الميثاق ورفض العهد الذي كان عنه مسؤولا، وكأنَّ الخلافة آلة طّيعة بأيديهم يلعبون بها كيف شاءوا.

هؤلاء لم يقدّروا عليّاً، ولاعرفوا مكانته وصموده في طريق العهد والميثاق، فما دام الحكمان لم يخرجا عن الطريق المستقيم، لاينقضُ قوله وعهده، وإن بلغ ما بلغ، وإن شهرت الخوارج سيوفهم عليه وعلى الخُلَّص من جيشه.

2 _ إنّ عليّاً لم يستجب لدعاة الهزيمة ولم يأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة،

( 368 )

إلا بعد ما تحقّق عجزه عن القيام بمواصلة الحرب، وتطبيق حكم الله على البغاة _ أعني معاوية وأتباعه _... لاشكّ انّ حكم الله في حق البغاة هو قتالهم إلى أن يرجعوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه، وبغوا عليه، إلاّ أنّ التكليف فرع القدرة وهي فرع طاعة الجيش لرأي قائده الحازم الباسل، الذي عرفه التاريخ بالبطولة والبسالة والصمود والوقوف في وجه الظالمين، ولكن يا للأسف انّ أغلبية الجيش انخَدَعُوا بخدعة معاوية، وأخذوا بمخالفته على حسب ما عرفت، وعندئذ لاتثريب على الإمام أن يُسلِّم الأمر إلى الحكمين ويقف عن القتال قائلا: (لاَيُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وسْعَهَا)، (ولايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ ما آتاها) ويقول: «لقد كنت أمس أميراً ،فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً، فأصبحت اليوم منهيّاً»(1) .

إنّ بعض الكُتّاب الجدد من الاباضية يصرّح بأنّ عليّاً قَبِلَ التحكيم مضطرّاً ويقول: «إنّ هذه الخدعة لم تكن لتجوز على علي بن أبي طالب، وقد أدركها وأدرك حقيقة ماوراءها من الوهلة الاُولى، وأعلن على الفور رفضه لها وعدم قبوله للتحكيم. إنّ علي بن أبي طالب إنّما قبل التحكيم مضطرّاً ورضي به مكرهاً ازاء ضغط من ضعف أفراد جماعته، ومن نهضوا بينهم يدعون

إلى قبول التحكيم، وانّ الدعوة التي دعا بها معاوية أحدثت أثرها في خداع الجند، كما أنّها كانت نكأة لبعض من ضعفت أنفسهم للجهر بها والدعوة إلى الكفّ عن القتال، وازاء ذلك كلّه لم يكن في وسع عليّ إلاّ أن يرضى بالتحكيم وإن لم يقتنع به ولم تخف نتائجه»(2).

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة قسم الخطب، الخطبة 208 .

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 100 .

( 369 )

وقال علي يحيى معمّر:

«كان التحكيم خدعة سياسية يراد بها تفريغ جيش أمير المؤمنين علي _ عليه السَّلام _ وانّه أولّ من أوائل من تفطّنوا للمكيدة، ولم يقبل التحكيم إلاّ مكرهاً، وأنّه أنكره بشدّة وأبان لجيشه - الذي عمل فيه الطابور الخامس عمله _ عواقب تلك المكيدة وأنّه لم يقبل التحكيم إلاّ مضطرّاً عندما وجد جيشه معرّضاً للتفرّق والتمزّق وربّما للتناحر، وكان على رأي الامام علي _ عليه السَّلام _ وعلى رأي أصحابه في اعتبار التحكيم مكيدة لاينبغي قبولها، أكثر أئمة المسلمين منهم الإمامان العظيمان الحسن البصري ومالك بن أنس حسب ما أورده المبّرد في كامله وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بل أستطيع أن أزعم أنّنا اليوم وفي هذا العصر_ وقد مضى على تلك الأحداث ثلاثة عشر قرناً ونصف _ عندما نقرأ أخبارها نشعر بالأسف والحسرة، لأنّ تلك الخدعة الجريئة قد انطلت على أكثرّية جيش عليّ حتى اضطرّ للاستجابة لها، رغم معرفته القصد منها وتقديره لنتائجها وعلمه علم اليقين أنّ القصد من تلك العملية لم يكن مراعاة للمصلحة العامّة ولانظراً لخير الاُمّة، ولاتحكّماً للكتاب في شيء جهل فيه حكم الكتاب» (1) .

وقال أيضاً: «واختلف أصحاب علي اختلافاً شديداً بين موافق على الطلب، ومعارض له، واضطرّ الإمام

إلى الموافقة نزولا عند رأي الأغلبية وإن كان رأيه هو خلاف ذلك» (2) .

نحن نسأل الكاتبين عن مسألة التحكيم المفروض على عليّ من جانب جيشه، فقد اعترفا بأنّ الإمام قبله بعدما عرفه، دفعاً للتفرقة والتخرّق، بل

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/190 _ 191 .

2. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/166 .

( 370 )

للتناحر وانّه لولا قبوله لثاروا على الإمام وقضوا على حياته، وعندئذ يصبح ابن أبي سفيان مالكاً لأزمّة الاُمور ومتسنّماً على عرش الخلافة من دون منازع، ويصير الطريق لبسط سلطته وسيطرته مُعَبَّداً ومذلّلا بأيدي خصمائه وأعدائه _ أعني الّذين قبلوا التحكيم وفرضوه على إمامه_ .

وأين ذلك الفرض من فرض قبول التحكيم حتى يرجع الطرفان إلى كتاب الله فيما اختلفا فيه.... وإن كان حكم الكتاب في ذلك واضحاً _ والخصم وأنصاره الأغبياء كانوا يتخيّلون أنّهم جاهلون بحكمه فيجب أن يرجع إليه بحكمين من الطرفين.

فإذا كان هذا موقف عليّ والمسلمين فلم يكن بُدّ من قبول التحكيم دفعاً للأفسد بالفاسد وهو ليس شيئاً خفيّاً على الكاتبين، وعند ذلك فلماذا يؤاخذان عليّاً بقبول التحكيم وعدّه ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار.

إذا كان قبول التحكيم عن اكراه واضطرار، وقد قال سبحانه: ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيِمٌ)(1) أفيصحّ للمغفّلين الّذين انتبهوا عن غفلتهم، وضيّعوا الفرص الذهبيّة للقضاء على الطغمة الأموية، أن يصرّوا على عليّ بالتوبة والاستغفار وإلاّ فبالانعزال والخروج عن تحت رايته بعد ما أخبر سبحانه أنّه غفور رحيم لكلّ مضطّر ارتكب عملا لاعادياً ولاباغياً؟

أفيصحّ لهؤلاء وفي رأسهم المحكِّمة الاُولى الذين كانوا أداة طيّعة _ بلاوعي _ بيد رأس الطابور الخامس الأشعث بن قيس، أن يحتفلوا في الكوفة ويختاروا لأنفسهم

أميراً وخليفة، ويتّهموا عليّاً بأنّه عزل نفسه عن الخلافة، ثمّ يخرجوا عن الكوفة وينزلوا ضفة النهر مُرْهبين ومرعبين ونار الفتنة بعد لم تطفأ والعدّو الغاشم _ معاوية بن أبي سفيان _ على اُهْبَة الهجوم وبسط السيطرة

____________________________

1. الأنعام: 145 .

( 371 )

والقضاء على الخلافة الشرعية.

إنّ النصوص التاريخية تضافرت على أنّ عليّاً أتمّ عليهم الحجّة قبل نشوب نار الحرب، وقد كان رؤساء المحكّمة أعني عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي ومن في رتبتهما من المحكّمة، يسمعون كلام عليّ وهو يخاطبهم بأنّهم هم الذين فرضوا على عليّ التحكيم، فلمّا ندموا طلبوا منه نقض العهد والميثاق المحرّم بنص الذكر الحكيم، وقد ذكرنا نص علي عند عرض التاريخ.

يقول صالح بن أحمد الصوافي: إنّ علي بن أبي طالب قد مضى بنفسه إلى اُولئك الخارجين عنه وقال لهم: من زعيمكم؟! قالوا: ابن الكواء. قال علي: فما أخرجكم عنّا؟ قال: حكومتكم يوم صفّين. قال: أنشدكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله، قلت لكم: إنّي أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إنّي صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال. اُمْضُوا على حقّكم وصدقكم، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدة، فرددّتم عَلَيّ، وقلتم: لا، بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم به بما في القرآن. وإن أبيا فنحن من حكمهما براء، قالوا له: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجل في الدماء؟.... فقال: إنّا لم نُحكِّم الرجال، إنّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن هو

خط مسطور بين دفّتين لاينطق، إنّما يتكلّم به الرجل...قالوا: فخبرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعلّ الله _ عزّوجلّ _ يصلح في هذه الهدنة هذه الاُمّة...ادخلوا مصركم، رحمكم الله...

( 372 )

قالوا: صدقت، قد كنّا كما ذكرت... وفعلنا ما وصفت، ولكن ذلك كان منّا خلاف القرآن، فقد تبنا إلى الله عزّوجلّ منه، فتب كما تبنا، نبايعك، وإلاّ فنحن مخالفين. فقال علي: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى يجيء المال، ويسمن الكراع، ثمّ نخرج إلى عدوّنا ولسنا نأخذ بقولهم وقد كذبوا...(1).

فهذا الكلام سواء اُلقي في الحروراء أو في ضفة النهر يعرب عن أنّ الأكثرية السّاحقة من الخارجين عن طاعة علي _ لولا كلّهم _ كانوا هم الذين فرضوا التحكيم على عليّ _ عليه السَّلام _ وألجأوه إلى الرضوخ لمكيدتهم، فماذا يطلبون من عليّ بعد ذلك؟

3 _ إنّ ابن أبي سفيان قام لأجل أخذ الثأر من قتلة عثمان ولم يبايع عليّاً بحجّة أنّه كان يحمي الخارجين على عثمان، والثائرين عليه، وكان الإمام يصّر عليه أن يدخل أوّلا فيما دخل فيه المسلمون، ثم يعرض المسألة عليه(2) وبما أنّ معاوية اتّخذ جانباً سلبيّاً في هذا الموضع، قام الإمام بتأديب الباغي، وارجاعه إلى صفوف المسلمين وانتهى الأمر إلى نشوب الحرب بين الطرفين، ولجوء معاوية إلى الخدعة والمكر، وتحكيم الرجلين في الموضوع الذي اختلف فيه الفريقان، فلم تكن الغاية من اتفاقية الصلح إلاّ تحكيم الكتاب في الموضوع الذي تنازع فيه الطرفان، وأمّا عزل الإمام عن الخلافة ونصب معاوية مكانه فلم يكن في صلاحية الحكمين وإنّما دخلا في موضوع لم يُفَوَّض إليهما أمره. فرأيهما فيها بالعزل والنصب رأي ساقط.

4 _ إنّ الإمام لمّا رأى لجاج العدو وعناده

في صياغة اتفاقية الصلح حيث لم يرض به إلاّ بمحو لقب إمرة المؤمنين عن جنب اسمه، رضى بذلك اقتداءً

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 110 _ 111 .

2. الرضي: نهج البلاغة، قسم الرسائل برقم 64 .

( 373 )

بالنبيّ الأكرم في صلح الحديبية حيث رضى أن يكتب اسمه ويمحى لفظ رسول الله، ولم يسمع لقول الأحنف حيث قال: «لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لاتمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها» (1) ولكنّه _ عليه السَّلام _ لم يَرَ بدّاً من القبول ورضى بالمحو تحت ضعظ الأشعث والمنخدعين من جيشه، والمقنّعين في الحديد.

وبذلك تقف على قيمة قوله: «وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة في جيشه، والماكرين من عدوّه أن يشكّ في نفسه، والحق الذي بيده، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون، ليساوى بينه وبين أحد عمّاله في قضيّة أخذ فيها عهداً من الاُمّة، وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله» .

إن فرض التحكيم على علي وقبوله ومحو لقبه، تحت ضغط قسم كبير من جيشه، لايعني شكّه في نفسه والحق الذي بيده، والتنازل الاختياري عن الشرف الذي أولاه المسلمون، بل يعني فسح المجال للتفكّر والتدبر فيما كان يدّعيه معاوية على الإمام من تقدّم أخذ الثأر على البيعة، حتى يقضيا الحكمان فيه برأي بات، ولو دلّ محو اللقب على الشك في الإمرة، فهل يظنّ الكاتب أنّ رسول الله شكّ في رسالته عندما رضى بمحو لقبه عن جنب اسمه؟ نعم توّهم ذلك بعض أصحابه وتصوّر أنّ ذلك يساوي اعطاء الدنية في أمر الدين(2) ولكن

رسول الله استقبل الحادث بصدر رحب، وقبل الصلح على النحو الذي كان المشركون يطلوبونه، وقد أثبت مرور الزمان صواب رأيه في الصلح، وأنّه كان

____________________________

1. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين: 582 .

2. لاحظ السيرة النبوية لابن هشام 3/331 .

( 374 )

لصالح المسلمين كما هو المحقّق في السيرة النبوية.

والحاصل: لم يكن قبول التحكيم والموافقة على الهدنة لغاية عزل الإمام نفسه عن الخلافة وإدلاء الأمر إلى الحكمين حتى يُخْتار للاُمّة الإسلامية خليفة بل كانت الغاية من قبوله هو فسح المجال للحكمين حتّى يقضوا في ضوء الكتاب والسنّة في حقّ الباغي الوارد في الكتاب العزير(1)وفيما يدّعيه ابن أبي سفيان في حقّ علي، حيث كان يقول لايبايع الاّ بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان كما صرّح به في بعض رسائله إلى الإمام، يقول الإمام:

«وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله، وأمّا تلك التي تريد فإنّها خدعة الصبي عن اللبن في أوّل الفصال».

وقد جاء في رسالة معاوية إلى الإمام قوله: «وادفع إليّ قتلة عثمان، فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك والمحدقون بك» (2).

فإنّ ابن أبي سفيان كان يطلب في الظاهر قتلة عثمان، ولكنّه في الباطن كان يمهدّ الطريق إلى الخلافة، وربّما كان قانعاً لأن يقرّه الإمام على الشام(3).

وبذلك ظهر بطلان قوله: «إنّ بيعة الإمام قد انفسخت بموافقته على الهدنة، ورضاؤه بالتحكيم جبراً، فلم يبق لأحد في عنقه بيعته» فإنّه تفسير لموقف الإمام بما يتجاوب هوى الكاتب، فإنّ الإمام لم يخلع نفسه عن الخلافة أبداً ولا تردّد في كونه الخليفة الشرعي والقانوني للاُمّة، ولو صحّ ما ذكره الكاتب وأنّ الإمام خلع نفسه عن الخلافة بمرأى ومسمع من جيشه وجيش عدوّه، لما

____________________________

1. الحجرات: 9.

2.

ابن أبي الحديد، شرح النهج 17 / 253.

3. المصدر نفسه، ومرّ تفصيله.

( 375 )

قام أبو موسى بخلعه عن الخلافة، إذ لامعنى لخلع المخلوع لاسيمّا من خلع نفسه واعترف به.

ولو كان قبول التحكيم ملازماً للخلع عن الإمامة فلماذا كتب الإمام _ عندما وصل إليه نبأ الحكمين وخيانتهما في مورد الوكالة _ إلى زعماء الخوارج: زيد بن حصين وعبد الله بن وهب الراسبي ومن معهما من الناس وقال: أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما، قد خالفا كتاب الله واتّبعا هواهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة ولم يُنفَّذا للقرآن حكماً، فبرأ الله ورسوله منهما والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا فإنّا صائرون إلى عدوّنا و عدوّكم، ونحن على الأمر الّذي كنّا عليه(1).

الحقّ إنّ من قرأ تاريخ مأساة التحكيم يقف على مدى الضغط الوارد عليه من جانب أصدقائه الحمقاء، ثم يرجع ويترحّم على الإمام ويبكي عليه ببكاء عال ويقول: «رحم الله الإمام عاش بين عدوّ غادر، وصديق انوك».

5 _ والعجب العجاب أن يصبح عبدالله بن وهب الراسبي الخليفة الشرعي والقانوني للمسلمين فيجب على الاُمّة في جميع الأقطار و الأصقاع، إطاعة أمره، بحجة أن نفراً من الخوارج اجتمعوا في منزله فبايعوه، ولعلّ عدد المبايعين لا يتجاوز عن عدد الأصابع أو يزيد بقليل(2).

إنّ البيعة الشرعيّة وانعقاد الإمامة لواحد من المسلمين رهن شروط وصلاحيات، ذكرها المعنّيون من علماء علم الكلام في كتبهم، ولم يذكر أحد أنّه إذا بايع عدّة من المسلمين شخصاً في صقع من الأصقاع يجب على عامّتهم الاعتراف بإمامته وخلافته.

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4 / 57.

2. نفس المصدر.

( 376 )

إنّ معنى ذلك انّه يجوز لاّحاد من المسلمين في البدو والقرى، أن يختاروا رجلاً فيبايعوه على الخلافة وإن

كان المبايعون بُعَداء عن العاصمة الإسلامية الّتي فيها أهل الحل و العقد.

لو صحّ أنّ الإمام خلع نفسه _ ولن يصحّ حتى ولو صحّت الأحلام _ فالواجب على المسلمين طرح الخلافة في شورى إسلامية عالميّة تضمّ إليها أكابر العلماء والفقهاء، وأهل الحل و العقد من المهاجرين والأنصار، و من اتّبعهما بإحسان، حتى يختاروا لأنفسهم إماماً، لاطرحها في بيت مسدود ليس فيه إلاّ اُناس خرجوا على إمامهم الّذي تمّت البيعة له في مثل تلك الشورى، لأنّ تصحيح ذلك بمعنى تصحيح الفوضى في صفوف المسلمين، وشقّ عصاهم، وفصم عراهم، وغير ذلك ممّا لايخفى على القارئ الكريم بطلانه.

6 _ والعجب انّ الكاتب نقض ما كتبه هنا بما ذكره في الحلقة الثالثة من ذلك الكتاب، فإذا وصف الإمام في المقام، بأنّه استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة، فقد صرّح في المقام الآخر بأنّ الإمام «عرف أنّها احدى المكائد الّتي تفطّن إليها ذهن عمرو بن العاص، وأصرَّ هو و أصحابه على الجهاد، وكان الإمام والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية» وإن كنت في شكٍّ ممّا نقلناه عنه فاقرأ نصّه:

خالف معاوية بن أبي سفيان اجماع الاُمّة و أشعل نار الفتنة وجهّز جيشاً لمحاربة الخليفة الشرعي الّذي اختاره المسلمون، و قابله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بما يقابل به خليفة شرعي فئة باغية، فجهّز جيشاً من أبطال الإسلام وقاده بنفسه، و التقى الجيشان في صفّين، وابتدأ القتال وعرف معاوية أنّه إذا لم يكن يلجأ إلى الحيلة فإنّه سوف يخسر القضية في

( 377 )

أقرب ممّا يتوقّع، ومهّد لذلك بتكوين طابور خامس في جيش علي ثم دعا إلى التحكيم.

وعرف علي وعرف أصحابه

مقصد معاوية من التحكيم، وأنّها احدى المكائد الّتي تفتق عنها ذهن عمرو بن العاص، ولذلك قال علي: إنّما قاتلناهم بكتاب الله، وأصرّ هو و أصحابه على الجهاد، ولكن الطابور الخامس الّذي كان يقوده أكبر صنايع معاوية: الأشعث بن قيس، كان قد عمل في الجيش، ومالت الأغلبية إلى قبول التحكيم، وحينما كان علي والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية الّتي لجأ إليها الفريق الباغي، لخّص أحد أصحابه موقفهم هذا في هذه الكلمة المشهورة «لاحكم إلاّ لله» وكانوا يصيحون بها في جوانب الجيش و يرددها أنصار علي في كل موقف وكان علي يستمع إليها راضياً بها وهو يناقش الناس ويدعوهم إلى التمسّك بمضمون هذه الكلمة وعدم الانخداع بحيل معاوية لأنّ قضيتهم واضحة وقد حكم فيها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات...

وشاءت إرادة المولى سبحانه وتعالى _ لحكمة يعلمها _ أن لاتستجيب الإغلبية لعلي وأن تميل أكثريّة الجيش إلى دعاة الهزيمة، وأن يتغلّب الأشعث ابن قيس صنيعة معاوية على المناضلين من أجل الحق، فيجد الإمام نفسه مضطرّاً إلى التخلّي، وترك الصفوة من أصحابه ليحافظ على الأغلبية ويسير معها، فرضى بالتحكيم مرغماً، وإذا هذه اللحظة الّتي رضى علي فيها بالتحكيم، وموافقة الأغلبية، كانت كلمة «لاحكم إلاّلله» تعبيراً عن موقفه و شعاراً لمبدئه بل انها تعبير وشعار لكّل مؤمن يحكّم كتاب الله فيما شجر بينه خلاف وبين

( 378 )

الناس(1).

7 _ إنّ التعبير عن الخروج على الإمام المفترض طاعته ب_«الخلافة»، كما أنّ التعبير عن التمرّد والشغب ب_«تشكيل الدولة» مصادرة على المطلوب والمشي على الدعوى المسبقة بلا برهان، فيطيب لي أن أذكر نصّ الكاتب الّذي يصوَّر أنَّه كان للخوارج دولة

بعد رفض التحكيم. قال:

«أصبحت الاُمّة الإسلامية منقسمة إلى ثلاث دول: دولة أسّسها معاوية وإن لم يبايعه عليها أحد إلى ذلك الحين، ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين، عاد فاستمسك بالبيعة الاُولى (2) دون أن يعترف بعزل أبي موسى الأشعري له مندوبه في قضيّة التحكيم، و دولة يرأسها عبد الله بن وهب الراسبي بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي، عند قبول التحكيم، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة، ومع كلّ فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة وفيهم بعض المشهود لهم بالجنّة .

على أنّ هناك فريقاً رابعاً اعتزلوا هذا النقاش الّذي وقع بين المسلمين وبعدوا عن قضية الخلافة فلم يطلبوها لأنفسهم، ولم يؤيّدوا واحداً من طالبيها، و من هذا الفريق السادة سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر، و محمّد بن مسلمة الأنصاري واُسامة بن زيد»(3).

إنّ الكاتب ادّعى لابن وهب مقاماً ليس له أثر في التاريخ ولا في كلمات الخوارج حتى في نفس المجلس الّذي بايعوه، فإنّ البيعة لم تكن إلاّ لأن يكون

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الثالثة: 283 _ 283.

2. فأي معنى للاستمساك بالبيعة الاُولى إذا خلع نفسه بمرأى ومنظر من الناس ياترى، أو ليس هذا دليلاً على أنّ الإمام لم يخلع نفسه في وجدان الكاتب؟

3. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الأولى: 24.

( 379 )

الرجل أميراً للجهاد وقائداً عسكرياً في القتال لاخليفة شرعية يملأ الفراغ الحاصل من العزل المزعوم، والشاهد على ذلك انّ حمزة بن سنان الأسدي أوّل من اقترح هذه الفكرة وقال: «فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم

من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها...».

ولمّا قبلها عبد الله بن وهب، قال: أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت(1).

8 _ لم يكن محاربة الإمام للخوارج وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي إلاّ لأجل أعمالهم إلارهابيّة الّتي بلغت الإمام، فقال بعض المخلصين له: على ما ندع هؤلاء يخلّفوننا في أموالنا و عيالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام، فقبل علي، فنادى بالرحيل.

كان من المظنون جداً أن يقوم عبد الله بن وهب الراسبي بسبي النساء وقتل الذراري، إذا رأوا أنّ العاصمة الإسلامية (الكوفة) خالية من زعيمها وجيشها خصوصاً انّ علياً و مواليه كانوا عندهم مشركين كافرين تحلّ أموالهم وتجوز إراقة دمائهم وسبي نسائهم، فلأجل ذلك قلع الإمام عين الفتنة قبل أن يبادر بمحاربة عدوّ الله في الشام.

كلّ ذلك يدلّ على بطلان قول الكاتب «بعد أن جمع الإمام علي جيشه ومن بقي تحت طاعته من الجند، فكّر في اعادة الكّرة على معاوية واخماد ثورته ومحاولة اخضاعه من جديد، ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبدالله ابن وهب الراسبي هذا الخليفة الجديد الّذي وصل إلى منصب الخلافة عن طريق البيعة، وهو الطريق الشرعي للخلافة. واقتنع علي بصواب هذا الرأي و عدل عن محاربة معاوية إلى محاربة عبد الله بن وهب، وكان أتباع عبدالله

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4 / 55.

( 380 )

يعتقدون أنّ إمامهم هو الإمام الحق وانّ كّلاً من علي _ بعد التحكيم والعزل _ ومعاوية، ثائران يجب عليهما الرجوع إلى حظيرة الإمامة»(1).

9 _ روايات شاذة في أمر التحكيم:

الف _ اعتمد الدكتور صالح الصوافي في تحليله مسألة التحكيم على رواية شاذّة ذكرها ابن

قتيبة في تاريخ الخلفاء وقال: «لمّا لم يبق إلاّ الكتاب، قال الأحنف بن قيس لعلي: يا أمير المؤمنين انّ أبا موسى رجل يماني وقومه مع معاوية فابعثني معه فو الله لا يُحِلّ لك عقدة إلاّعقدت لك أشدّ منها، فإن قلت انّي لست من أصحاب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلّم _ فابعث ابن عباس وابعثني معه، فقال علي: إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا: ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه والله بالغ أمره»(2).

إنّ هذه الرواية شاذّة غير معروفة وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ عليّاً كان يصرّ على بعث ابن عباس أو الاشتر و لم يكن له أيّ هوى مع أبي موسى الأشعري، لما كان يستشف منه أنّ هواه مع غيره وكيف لا وهو الّذي خذل الناس عن مساعدة الإمام القائم يوم كان واليا على الكوفة، وتقاعد عن نصرته، ولم ينفّر الناس إلى ساحة قتال الناكثين بل دعاهم إلى البقاء في منازلهم بحجّة أنّها فتنة، القاعد فيها خير من القائم(3).

كيف يعتمد على تلك الرواية الشاذّة مع أنّ ابن قتيبة، نقل خلافها في موضع آخر عند البحث عن ظهور المحكّمة، ونقلها الدكتور أيضاً في كتابه،

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى: 24 _ 25.

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 99 نقلاً عن الإمامة والسياسة: 114.

3. الطبري: التاريخ 3 / 497.

( 381 )

قال: اتّضحت معالم المسألة واضحة، و بدا لكل ذي عينين أنّ التحكيم لم يكن سوى خديعة لم يبغ من طلبها سوى العدول عن الطريق السوي، وصحّ كل ما توقّعه علي بن أبي طالب حتى حقّ له أن يقول وقد وقع ما وقع: «أما أنّي قد أخبرتكم

أنّ هذا يكون بالأمس، و جهدت أن تبعثوا غير أبي موسى فأبيتم عَلَيّ»(1).

أفيصحّ بعد هذا، قوله إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا: ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه؟! مع أنّه لم يرده أبداً وإنّما فرض عليه من فرض.

ب _ إنّ الكّتاب الجدد لمّا واجهوا أنّ التحكيم سيّئة من سيّئات المحكّمة واّنّهم هم المسؤولون عن عواقبه الوبيلة، عمدوا إلى الروايات الشاذّة ومخالقات أعداء الإمام. قالوا: إنّ عليّاً ظلّ يكاتب معاوية سرّاً من دون المسلمين، فكتب إلى معاوية: من عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: لو أعلم أنّك أمير المؤمنين لم اُقاتلك، فامح اسم أمير المؤمنين، ففعل علي ذلك فبلغ ذلك المسلمين، فقالوا له: يا علي ما حملك أن تخلع نفسك من اسم سمّاك به المسلمون؟ ألست أمير المؤمنين ومعاوية أمير المخالفين؟ فتب عمّا صنعت...، ثمّ إنّهم يذكرون أنّه بعد أن تاب عدل عن توبته و أمضى الحكومة أي التحكيم(2).

إنّ ما ذكره من المكاتبة السرّية ليس له مسحة من الحقّ ولا لمسة من الصدق ولا يوجد في كتب القصاصين فضلاً عن التواريخ والسير، وما ذكره ليس إلاّ قصة التحكيم الّذي شهد عليه الطرفان على وجه التفصيل، والإمام امتنع عن

____________________________

1. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 102 نقلاً عن الإمامة و السياسة لابن قتيبة 119.

2. صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 112 نقلاً عن القلهاتي: الكشف والبيان: 2 / 237.

( 382 )

محو إمرة المؤمنين عن نفسه، وقد أمضى مليّاً من النهار، وهو يدفع ذلك الاقتراح غير أنّ المحكّمة والطابور الخامس الذين فرضوا على عليّ نفس التحكيم، فرضوا عليه صيغته أيضاً، ولم يكن شيئاً خفيّاً من الناس بل كان على مشهد منهم،

وقد ذكر الإمام ما جرى على النبي الاكرم في صلح الحديبية وأنّه سيبتلى بما اُبتلي به رسول الله، وأمّا قصة التوبة فقد مضى الكلام فيها.

ج _ رووا عن علي _ عليه السلام _ أنّه بعد ما قتل الخوارج جعل يمرّ عليهم وهو يستغفر لهم و يقول: بئس ما صنعنا قتلنا خيارنا وفقهاءنا... فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين قتلنا المشركين. قال: من الشرك فرّوا. قال: أمن المنافقين؟ قال إنّ المنافقين لايذكرون الله إلاّ قليلاً و هؤلاء يذكرون الله كثيراً(1).

إنّ ما ذكره اّنما هو من مخاريق الخوارج، حاولوا أن يبرّروا أعمال أسلافهم فالقوم كانوا بغاة على الإمام المفترض طاعته، ومَنْ حبّه إيمان وبغضه كفر(2) والقوم لم يكونوا مشركين ولا منافقين، ولكن كانوا بغاة، ولم يكونوا خيار القوم ولا فقهاءهم بل كانوا من أهل البادية الذين تسيطر عليهم السذاجة ويغترّون بالظواهر من دون التعمّق في البواطن. وأسوأ من ذلك ما نقله في ذيل كلامه ونحن نطهر قلمنا عن ذكره والردّ عليه، فلم يكن الإمام نادماً من عمله لأنّه حقّق ما تنبّأ به النبي الأكرم في حقّه وأنّه سيقاتل الناكثين والقاسطين و المارقين (3) وآية ذلك انّه كانت للخوارج انتفاضات بعد وقعة النهروان، فلم يزل علي _ عليه السلام _ يبعث السرايا لإطفاء فتنتهم، و اخماد ثائرتهم إلى أن اُغتيل

____________________________

1. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد: 125، نقلاً عن القلهاتي في الكشف والبيان: 2 / 252 _ 254.

2. مرَ مصدره.

3. مرّ مصدره.

( 383 )

بيد أشقاهم شقيق عاقر ناقة ثمود (1).

10 _ لا إمرة إلاّ لله:

هذا هو الوجه الثاني لتفسير شعارهم «لاحكم إلاّ لله» ولكن الخوارج رفضوه عملاً واختاروا عبد الله بن وهب خليفة لهم

إلاّ أنّه كانت توجد بين المتطرّفين منهم تلك النظرية. يقول الكاتب المعاصر علي يحيى معمر:

«انعزل معارضوا التحكيم إلى جانب، واستمسكوا بموفقهم الّذي كانت تعبرّ عنه هذه الكلمة أصدق تعبير، ونشأ عن هذا الموقف موقف آخر متطرّف كل التطرّف، فإنّ الكلمة حينما اطلقت وقصد منها أنّه لا يجوز للناس أن يحكِّموا فيما نزل فيه حكم الله، وذلك ما فهمه الإمام علي ورضى به، وفهمه المعارضون وعملوا به».

ولكن اُناساً من المتطرّفين فيما بعد زعموا أنّه لا حاجة إلى الإمارة وأنّه لا داعي لأن يكون للمسلمين حكومة وحملوا كلمة «لاحكم إلاّ لله» هذا المقصد الهدّام، وهذا التطرّف هو ما سخطته الاُمّة وردّته عنهم، وتولى الإمام علي شرحه باسهاب وايضاح لايبقى بعده اشكال.

قال الإمام علي وهو يردّ على اُولئك المتطرّفين الذين خرجوا بكلمة «لاحكم إلاّ لله» عن معناها الّذي وضعت له: «كلمة حق يراد بها الباطل، نعم لاحكم إلاّ لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله، و انّه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في امرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر، يبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع بها الفيء، ويقاتل العدو، وتؤمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من

____________________________

1. مرّ مصدره.

( 384 )

القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر»(1).

الخوارج أنصار عليّ وشيعته؟!

إنّ الخوارج يعدّون أنفسهم شيعة الإمام علي _ عليه السلام _ وأنصاره وانّهم كانوا سواعده القويّة في قتال الناكثين والقاسطين، و انّهم هم الذين أعاروا جَماجمَهم لعليّ في القتالين ثم يشكون عليّاً بأنّه ما أنصف في حقّ أنصاره وأعوانه، حيث قتلهم وهم براء من الذنب.

وممّن صبّ الشكوى في قالب الشعر، هو أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم الرواحي يقول في قصيدة له:

ارقتَ دماء المؤمنين

بريئة * لهن بزيزاء(2) الحراء(3)خرير(4)

عليّاً أمير المؤمنين بقيّة! * كأنّ دماء المؤمنين خمور

سمعناك تنفي شركهم و نفاقهم * فأنت على أيّ الذنوب نكير؟!

وما الناس إلاّ مؤمن أو منافق * ومنهم جحود بالإله كفور

وقد قلت ما فيهم نفاق ولا بهم * جحود و هذا الحكم منك شهير

فهل أوجب الإيمان سفك دمائهم ؟ * وأنت بأحكام الدماء بصير!

تركتَهم جزر السباع، عليهم * لفايف من إيمانهم و ستور

مصاحفهم مصبوغة بدمائهم * عليهن من كتب السهام سطور

وكنتَ حفياً يا بن عمّ محمّد * بحفظ دماء مالهن خطير

____________________________

1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الثالثة: 284.

2. الزيزاء: الاكمة الصغيرة.

3. الحراء: الحرّة: أرض ذات حجارة سود كأنها اُحرقت بالنار.

4. صوت الماء.

( 385 )

وكنتَ حفياً أن يكونوا بقيّة * لنصرك حيث الدائرات تدور

أما و الّذي لاحكم من فوق حكمه * على خلقه ورد به و صدور

تنادي: أعيروني الجماجم كرّة * فقد قدموها و الوطيس سعير

لَقِدْماً أعاروك الجماجم خشّعاً * عليهنّ من قرع الصفاح فتور

فقصعتها إذ حَكَّمت حكم ربّها * فما بقَّيْتَ عارية و معير(1)

والحقّ إنّ هذه الأبيات تثير العواطف العمياء ضدّ الإمام، ويتخيّل صاحبها أنّ الإمام قد جحد حقّهم و تساهل، و لكنّه إذا رجع إلى غضون التاريخ، سرعان ما يرجع عن قضائه و يلوم نفسه على التسرّع، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما ذكرناه من تاريخهم و أعمالهم الإجرامية حين التحكّيم وبعده، وهنا نشير إلى نكات:

1 _ إنّ قوله: سمعناك تنفي شركهم ونفاقهم يشير إلى ما رواه عن علي أنّه قال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين قتلنا المشركين. قال: من الشرك فرّوا. قال: أمن المنافقين؟ قال إنّ المنافقين لايذكرون الله إلاّ قليلاً وهؤلاء يذكرون الله

كثيراً(2).

يلاحظ عليه أوّلاً: انّ المروي عن علي _ عليه السلام _ في حقّ هؤلاء هو ما ذكره الطبري بقوله: بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين من غرّهم؟ قال: الشيطان، وأنفس بالسوء أمّارة، غرّتهم بالأماني، وزيّنت لهم المعاصي ونّبأتهم أنّهم ظاهرون(3).

____________________________

1. صالح بن اُحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 127 _ 128.

2. الدكتور صالح بن أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 125، نقلاً عن القلهاتي في الكشف والبيان: 2 / 251 _ 254.

3. الطبري 4 / 66.

( 386 )

ثانياً: نفترض صحّة الحديث ولكن القوم كانوا عصاة وبغاة، خارجين على الإمام المفترض عليهم طاعته، والعصاة عندكم كفّار، وعندنا فسّاق ولا حرمة للكافر، والفاسق يقتل في ظروف خاصّة، خصوصاً إذا بغى على الإمام الّذي أصفقت الاُمّة على إمامته وخلافته، قال سبحانه: (وَ إِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلَى الاُخْرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)(1).

فقد برّر سفك دمائهم بغيهم و خروجهم على الإمام المفترض طاعته، و على ضوء ذلك فلا معنى لقوله: «فهل أوجب الإيمان سفك دمائهم؟...».

2 _ إنّ الشاعر في قوله: تركتهم جزر السباع...» يشير إلى أنّ الإمام قتلهم ثمّ تركهم مثل من تفتكه السباع وتتركه، ولكن التاريخ يشهد على خلافه. يقول الطبري:

«طلب عديّ بن حاتم ابنه طرفة فوجده فدفنه، ثمّ قال: الحمد لله الّذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك، و دفن رجال من الناس قتلاهم...»

بل الإمام قام بعطف إنساني قدير. يقول الطبري:

«و طلب من به رمق منهم فوجدوهم أربعمائة رجل، فأمر بهم عليّ فدفعوا إلى عشائرهم، وقالوا: احملوهم معكم، فداووهم، فإذا برأوا

فوافوا بهم الكوفة، وخذوا ما في عسكرهم من شيء، قال: وأمّا السلاح والدواب وما شهدوا عليه الحرب فقسّمه بين المسلمين، وأمّا المتاع و العبيد و الإماء فإنّه حين قدم ردّه على أهله»(2).

____________________________

1. الحجرات: 9.

2. الطبري: التاريخ 4 / 66.

( 387 )

3 _ يشير الشاعر بقوله: «تنادي اعيروني الجماجم كرّة _ فقد قدّموها والوطيس سعير» إلى ما خدموا عليّاً _ عليه السلام _ في الجمل وفي صفّين قبل رفع المصاحف وهو صادق في هذا العزو و النسبة، ولكنّهم يا للأسف بخلوا بها في الموقف الحاسم الّذي كان بينه وبين النصر خطوة، وذلك عندما رفع أهل الشام المصاحف. قال الإمام: «عباد الله، إنّي أحق من اجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط و حبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالاً، و صحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال و شرّ رجال. إنّها كلمة حق يرادبها باطل. انّهم و الله ما رفعوها انّهم يعرفونها و يعملون بها، و لكنّها الخديعة والوهن و المكيدة. أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعة، ولم يبق إلآ أن يقطع دابر الذين ظلموا» فجاء زهاء عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لابإمرة المؤمنين: يا علي، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، و إلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم فقال لهم: ويحكم، أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه،

وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي انّما اُقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. قالوا: فابعث إلى الأشترليأتيك وقد كان الأشتر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله...

وقد بلغ بخلهم وضنتهم باعارة جماجمهم إلى حد طلب منهم الأشتر أن

( 388 )

يمهلوه فواقَ ناقة أو عدوة الفرس فما أمهلوه. قال لهم: امهلوني فواقاً فإنّي قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: فامهلوني عدوة الفرس، فإنّي قد طمعت في النصر، قالوا: اذن ندخل معك في خطيئتك. قال: وحدثوني عنكم _ وقد قتل أماثلكم وبقي أرذالكم(1).

فالحقّ إنّ الخوارج كانوا أنصار عليّ في البداية وإلى أثناء حرب صفّين ثمّ انقلبوا.

وممّا يندي الجبين انّ زيد بن حصين الطائي قد قدم إلى عليّ و معه عصابة من القرّاء فنادوه كما عرفت(2) لا بإمرة المؤمنين بل باسمه وفرضوا عليه قبول التحكيم، وهو بعد أيّام قلائل كان المرشّح الأوّل في أخذ البيعة لواحد من المحكّمة في الحروراء، يقول الطبري:

قال حمزة بن سنان الأسدي: إنّ الرأي ما رأيتم، فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم من عماد وسنان، وراية تحفّون بها وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، و عرضوها على حرقوص بن الزهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها...(3)

فالرجل ذو طبيعة متسرّعة في القضاء، فيوماً يفرض التحكيم على علي ويوماً آخر يستنكر التحكيم و يُرشَّح لقيادة الثورة على علي لأجل قبول التحكيم!!

4 _ قد جادت قريحة العلاّمة الفقيه الشيخ محمود البغدادي

_ دامت معاليه _ بقصيدة ضافية فنّد فيها ما جاء في الأبيات السابقة نقتطف منها مايلي:

____________________________

1 . ابن مزاحم: وقعة صفّين 499.

2. ابن مزاحم: وقعة صفّين 499.

3. تاريخ الطبري: 4 / 55 .

( 389 )

تراءت (1)فقلتُ الشمسُ حيثُ تنيرُ * ففي القلب منها لوعةٌ و سعيرُ

ولستَ ترى في الخلق مثلَ عقيدة * جمالاً يرد الطرفَ و هو حسيرُ

ادافع عنها من أراد مساءةً * واقمع من قد صدَّ و هو جَسورُ

وليس محبّاً من يُخلّي عداتَه * تشنُّ على أحبابه وتُغير

أَمثْل ُ عليّ في عدالةِ حكمه * يُردُّ... و عشّاقُ الجمالِ حضور

عليٌّ عليٌّ بابُ علمِ محمّد * و ذاك حديث كالبدور شهير

أ إنْ زار بالجيش العرمرم ثُلَّة * يُعَبْ زائر أوْ يُمدَحنَّ مَزورُ

وقد فارقوه بعد نصر مؤَزَّر * ولم يُلفَ منهم بعد ذاك ظهير

وقِدماً أعاروه الجماجم خُشّعاً * و ماكلُّ من وافى الحروب يعير

وهل ينفع النصر القديم إذا امّحى * بحقد، و فارت بالعداء قدور

همُ قد أثاروا الحرب حين تنكّبوا * سلاحاً كثيفاً والسلاحُ يثير

و هم مرقوا كالسهم من دين أحمد * و ذلك أمرٌ ما عليه ستورُ

لَعَمري لَنعمَ الصحْبُ كانوا لصاحب * ولكنّما الدنيا الفتون غرور

إذا هُمُ بعد الحبّ لُدّاً تأَلّبوا * و دارت رحاهم و الزمانُ يدور

أ إِنْ رفع القرآنُ خدعةَ خادع * أُجيب صغيرٌ واسْتُضِلَّ كبيرُ

فقال علي لا تجيبوه للتي * أراد فدعوى من دعاكمُ زور

أ إن قد حملتم حملة حيدريّة * و رفرف لي نصر و قام بشير؟!

يُرِدْكُمُ للإذلال بعد تعزّز * وهل عزّة كالنصر حين يمور

أعيروني لله الجماجم ساعة * فإنّ عدوّي حين ذاك فَرور

ألا تمهلوني _ يا رفاقَ مسيرة _ * فُواقَ انتصار و الفواقُ يسير؟

إذا كنتُ بالأحكام أبصرَ باصر *

دعوني و ما قد أرتاي و أُشير

____________________________

1. ضمير التأنيث يرجع إلى العقيدة المعلومة من سياق القصيدة.

( 390 )

ولا خيرَ في نسك بغير بصيرة * وأجدر من خاض الحروب بصير

فقالوا أجبهم للّتي قد دعوا لها * فَثمَّ كتابٌ حاكم و أمير

وإلاّ تجبهم يا عليُّ فإنّنا * عداةٌ اشداءٌ عليك نسور

و ساروا إلى أرض الحروراء واَغْتَدوا * لحرب عليّ والزمان غَدور

فقال لهم هيّا أنيبوا إلى الهدى * وهيّا معي نحو العداة فسيروا

أطيعوني ما كنت التبيع لأحمد * فإن أنا لم اتبع خُطاه فثوروا

فقالوا له أنت الكَفورُ فتُبْ وثُبْ * فما قادنا نحو الجهاد كفور

وحجّوني بالقرآن إنْ كنُتُم على * مقاطع حقّ فالحقيقةُ نور

ولمّا تنادوا للقتال تقدّموا * كآساد خفان لهنّ زئير

فأَرداهُم صُنْو النبي محمّد * بلا ندم والعزمُ منه مريم

فياعجبا كيف ابن وهب (1) يثيرها * ولم تختصر و الرأي منه أسير

وكان قؤولاً: خمّروا الرأي تُفلحوا * فأكرم آراء الرجال خمير(2)

فإن له في عتبة بن ربيعة * مشابه حال تلتقي و تجور(3)

الاّ أنّها الأَقدارُ إنْ حانَ حينها * يُغلَّب فِكِّيرٌ (4)بها و خطيرُ

ويا ربَّ علم مثل جهل مركب * قليلٌ به الإنسان و هو كثير

ويا ربَّ علم يُحمَدُ الجهلُ عندَهُ * و تُعزى له تمجِيدَةٌ وشُكورُ

***

____________________________

1. المراد: عبد الله بن وهب الراسبي رأس المحكّمة.

2. اشارة إلى ما اثر عنه: دعوا الرأي حتى يختمر فلا خير في الرأي الفطير.

3. تميل.

4. فكّير: كثر التفكير. خطير: عظيم الشأن.

( 391 )

2 _ حكم مرتكب الكبيرة من الجهات الثلاث

إنّ أوّل مسألة _ بعد الإمامة _ أثارت ضجّة كبرى بين المسلمين وفرّقتهم إلى فرقتين بل إلى فرق: مسألة حكم مرتكب الكبيرة، فقد وقع البحث فيها في جهات ثلاث:

الجهة الاُولى: هل مرتكب الكبيرة مؤمن

أو مشرك؟

الجهة الثانية: هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر؟

الجهة الثالثة: هل مرتكب الكبيرة محكوم بالخلود في النار أو لا؟

و أساس المسألة هو أنّ العمل هل هو جزء من الإيمان أو لا؟: فعلى الأوّل فإذا أخلَّ بحكم من أحكام الإسلام كما إذا ارتكب الحرام أو ترك الواجب لا جاحداً لحرمته أو وجوبه، بل لغلبة هواه على عقله، يخرج عن دائرة الإيمان، و على الثاني يبقى مؤمناً و يوصف بالفسق و الخروج عن الطاعة، ولأجل ايضاح المقام نشير إلى الآراء المختلفة في هذا الباب:

ذهبت الأزارقة إلى أنّ مرتكب المعاصي مشرك فضلاً عن كونه كافراً من

( 392 )

غير فرق بين الكبيرة والصغيرة، وذهبت النجدية إلى أنّ مرتكب الكبيرة مشرك، وأمّا الصغائر فلا، فهاتان الطائفتان من متطرّفة الخوارج، تتّفقان في كون ارتكاب الكبائر موجباً للشرك و الكفر، ويختلفان في الصغائر، فتراها الأزارقة مثل الكبائر دون النجدية.

و ذهبت الاباضية إلى كون الارتكاب كفراً لاشركاً، و الكفر عندهم أعم، من كفر الجحود و كفر النعم، فمرتكبها من المؤمنين كافر كفر النعمة لاكفر الجحود.

و ذهبت المعتزلة إلى أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر فضلاً عن كونه مشركاً. نعم اتّفقت المعتزلة و الخوارج على كونه مخلَّداً في النار إذا مات غير تائب، وذهبت الإمامية والأشاعرة و أهل الحديث إلى كون مرتكب الكبيرة مؤمناً فاسقاً غير مخلّد في النار.

هذه هي الأقوال و الاّراء البارزة في المقام، ولنركّز البحث في الجهات الثلاثة ونجعل الجميع مسألة واحدة، فإنّ كلّ واحدة، وجه لعملة واحدة، وإن كان للعملة الرائجة وجهان:

الجهة الاُولى _ هل مرتكب المعاصي مشرك ؟

قد عرفت أنّ الأزارقة ذهبت إلى أنّ المعاصي كلّها شرك و مرتكبها مشرك(1) ولأجل تحليل هذا القول

نذكر ما هو حدّ الشرك و محقّقه، فنقول: لو افترضنا أنّ مرتكب الكبيرة كافر، لا يصحّ لنا توصيفه بالشرك، فإنّ للشرك معنىً محدّداً لا ينطبق على مرتكب الكبيرة إلاّ في ظروف خاصّة و هي خارجة عن موضوع البحث، وتوضيح ذلك بوجهين:

____________________________

1. صالح أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 252.

( 393 )

1 _ إنّه سبحانه قسّم الكافر إلى مشرك و غيره و قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَ المُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الَبَيِّنَةُ)(1) وقال سبحانه: (لَتَجِدَنَّ اَشَدَّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُو اليَهُودَ وَالَّذِينَ اَشْرَكُوا)(2) كلّ ذلك يدلّ على أنّ للمشرك معنىً محدداً لاينطبق على الكافرين من أهل الكتاب فضلاً على المسلم المعتقد بكل ما جاء به الرسول، إذا ارتكب كبيرة لا لاستهانة بالدين بل لغلبة الهوى على العقل، فكيف يمكن أن نعدّ كلّ كافر مشركاً، فضلاً أن نعدّ المسلم المرتكب للكبيرة مشركاً؟

ثمّ لو افترضنا صحّة كون أهل الكتاب مشركين في الحقيقة و في الواقع، كما هو غير بعيد لقوله سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالّوا إِنَّ اللهَ ثاِلثُ ثَلاثَة وَ ما مِنْ إِله إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ)(3) ولكنّه اصطلاح ثانوي لايكون منافياً لما جرى عليه القرآن من عدّ أهل الكتاب في مقابل المشركين.

و يظهر ذلك من الروايات الواردة حول الرياء فإنّ المرائي، قد وصف بالشرك، ولكنّه شرك خفي لاصلة له بالشرك المصطلح في القرآن الكريم.

روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر الباقر قال: سئل رسول الله عن تفسير قوله الله عزّوجل: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ اَحَدَاً)(4) فقال من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك _ إلى أن قال _ ومن عمل عملاً ممّا أمر الله

به مراءاة الناس، فهو مشرك، ولا يقبل الله عمل مراء(5).

____________________________

1. البينة: 1.

2. المائدة: 82 .

3. المائدة: 73.

4. الكهف: 110.

5. الحر العاملي: وسائل الشيعة 1، الباب الحادي عشر من أبواب مقدمات العبادات 13 _ 50.

( 394 )

ولكن ذلك مصطلح آخر، أو استعارة له للمورد لتأكيد الأمر لما عرفت من أنّ المشرك في القرآن الكريم يطلق على غير المعتنقين لاحدى الشرائع السماوية، من غير فرق بين اليهود والنصارى و غيرهم.

2 _ إنّ الشرك عبارة عن تصوّر ندٍّ وثان لله سبحانه في ذاته أو صفاته أو أفعاله، قال سبحانه: (فَلا تَجْعَلُوا لله اَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(1) وقال سبحانه: (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله)(2) وقال تعالى: (وَ جَعَلُوا لله أنْدَاداً لِيُضلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ)(3) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تشرح لنا حقيقة الشرك و خصوصياته(4).

ولأجل تصوّر الندِّ و المثل لله سبحانه في الذات أو الصفات أو الأفعال، كانوا يعبدون الأصنام بحكم انّها أنداد لله تبارك و تعالى، فكانوا يساوونها بالله تعالى في العقيدة و العبادة، قال تعالى: (تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالِ مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ)(5).

فعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا توصيف إنسان بالشرك و عدّه من المشركين إلاّ إذا اعتقد بندٍّ لله تبارك و تعالى و لو في مرحلة من المراحل، ولأجل هذه العقيدة كان المشركون يفرّون من كلمة (لا إله إلاّ الله) لكونها على جانب النقيض من عقيدتهم، قال سبحانه: (إنَّهُمْ كَانوا اِذا قيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إلاَّ الله يَسْتَكْبْرُونَ * وَ يَقُولُونَ أئِنَا لَتارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِر مَجْنُون)(6).

____________________________

1. البقرة: 22.

2. البقرة: 165.

3. إبراهيم: 30.

4. لاحظ: سورة سبأ / 33، الزمر / 8 ، فصلّت / 9.

5. الشعراء: 97

_ 98.

6. الصافّات 35 _ 36.

( 395 )

وقال تعالى: (وَ اِذَا ذُكِر الله وَحْدَهْ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بالآخِرَةِ وَ اِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنَ دُوِنِهِ اِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(1) وقال تعالى: (ذلِكُمْ بِأنَّهُ اِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنوا فَالحُكْمُ للهِ العَلِىِّ الكَبِير)(2).

فهذه الآيات تحدّد حقيقة الشرك و تُعرِّف المشرك بمضامينها، فهل يمكن توصيف المسلم المؤمن الموحّد، بالشرك مع أنّه لم يتّخذ أي ندٍّ و مثل في مجال الذات و الصفات و الأفعال، ولم يعبد غيره، وإنّما وحّده في الذات، والصفات، والأفعال، و في مقام القيام بوظائف العبوديّة لم يعبد إلاّ الله سبحانه. نعم غلبت عليه _ أحياناً _ شقوته، وسيطرت عليه نفسه الأمّارة فركب الحرام مع وجل و خوف.

وبذلك ظهر أنّ الكفر أعم من الشرك، فمن لم يتّخذ ندّاً و مثلاً لله سبحانه، و لكنّه كفر برسله و كتبه و ما نزّل الله سبحانه، فهو كافر لامشرك، و أوضح منه من آمن بالله ولم يكفر بشيء ممّا أنزله و أرسله غير أنّه صار مقهوراً فارتكب شيئاً حرّمه الله أو ترك فريضة أوجبها الله سبحانه.

فاتضح بذلك بطلان قول الأزارقة من أنّ المعاصي كلّها شرك كبطلان قول النجدية بأنّ الكبائر كلّها شرك وأمّا الصغائر فلا، إذ لاينطبق معيار الشرك على مجرّد ارتكاب المعصية، صغيرة كانت أو كبيرة.

أدلّة الأزارقة على أنّ المعاصي شرك:

استدلّت الأزارقة على أنّ المعاصي كلّها شرك بآيات و المهم فيها آيتان وإليك البيان:

____________________________

1. الزمر: 45.

2. غافر: 12.

( 396 )

1 _ (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ظَلّ ضَلالاًبَعِيداً)(1).

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر الاّية انّ المشرك ممّن «ضلّ ضلالاً بعيداً»، فلو فرضنا أنّ مرتكب الكبيرة من مصاديق تلك الضبابطة فلا تدلّ الآية على أنّه

مشرك لأنّ ظاهر الآية أنّ المشرك من مصاديق «فَقَدْ ضل ضَلالاً بعيداً» لا أنّ «كلّ من ضلّ ضلالاً بعيداً فهو مشرك» إذ من المحتمل أن تكون الضابطة أعم من الشرك، فمثل الآية مثل قولنا: «كل جوز مدوّر لا أنَّ كل مدوّر جوز».

أضف إلى ذلك: انّ مرتكب الكبيرة إذا كان موحّداً مؤمناً بما أنزل الله تعالى، ليس من جزئيات قوله: «ضلّ ضلالاً بعيداً» لأنّ القرآن إنّما يستعمله في المشرك والكافر الجاحد، لا المؤمن المعتقد الّذي غلبه هواه، و يعلم ذلك بالتتبع في موارد وروده في الذكر الحكيم.

قال سبحانه (وَ وَيْلٌ للْكافِرِينَ مِنْ عَذَاب شَديد * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيا عَلَى الاّخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجَاً اُولئكَ فِي ضَلال بَعِيد)(2).

وقال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمَاد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَيَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْء ذَلكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ)(3).

وقال تعالى: (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَالا يَضُرُّهُ وَ مَالاَ يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ)(4)

وقال تعالى: (بَلِ الَّذينَ لايُؤْمِنُونَ بالآخِرِة فِي العَذَابِ و الضَّلال البَعِيدِ)(5).

____________________________

1. النساء: 116.

2. إبراهيم: 2 _ 3.

3. إبراهيم: 18.

4. الحج: 12.

5. سبأ: 8 .

( 397 )

و قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلال بَعِيد)(1).

و قال (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إلهاً آخر... وَلكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيِد)(2).

فظهر من ذلك أنّ الضلال البعيد مفهوم ينطبق على الجاحد مشركاً كان أم كافراً غير مشرك، ولا ينطبق على المؤمن بكل ما أنزل الله غير أنَّه غلب عليه هواه فركب الكبيرة.

2 _ قال سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَ إنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إنْ أَطَعْتُمُوهَمْ إنَّكُمْ لمُشْرِكُونَ)(3).

قالوا: إنّ معنى الآية انّكم

إن أطعتموهم بأكل الميتة فأنتم أيضاً مشركون.

يلاحظ عليه: أنّ المراد هو الإطاعة في استحلال الميتة لا في أكلها، ولا شك انّ المستحلّ لما حرّم الله مشرك و ذلك لما قرّرنا في محلّه انّ التقنين والتشريع من فعله سبحانه و ليس في عالم التشريع مشرّع سواه، فالمستحلُّ للميتة يصوّر ندّاً لله سبحانه، لا في الذات و الصفات بل في الأفعال و يشرك الغير معه في اعطاء فعله لغيره.

ويوضحه قوله سبحانه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أرْباباً مِن دُون اللهِ وَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)(4) فقد ورد في تفسيره انّهم ما صلّوا ولا صاموا للأحبار والرهبان، بل أطاعوهم في تحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال(5).

* * *

____________________________

1. الشورى: 18.

2. ق: 26 _ 27.

3. الأنعام: 121.

4. التوبة: 31.

5. الطبرسي: مجمع البيان 3 / 23.

( 398 )

الجهة الثانية _ هل مرتكب المعاصي مؤمن أو كافر؟:

قد عرفت أنّ الأزارقة و النجدية قالوا إنّ المعاصي شرك، و خالفهم الاباضية، فوصفوها بالكفر، و مرتكبها بالكافر، و يقع الكلام في الجهة الثانية في هذا الجانب، و قبل الخوض في تحليل دلائلهم نذكر ما هو حقيقة الإيمان و الكفر، فنقول:

إنّ حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي، والقلب هو مرتكز لوائه، و أمّا العمل فهو من مظاهره لامن مقوّماته و يظهر ذلك من غير واحد من الآيات. قال سبحانه:

(أُولِئِك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ)(1)، و قال سبحانه: (وَلمّا يَدْخُلِ الإيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(2)، و قال تعالى: (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ)(3).

وتؤكّد آيات الطبع و الختم على أنّ محلّ الإيمان هو القلب، قال سبحانه: (اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أبْصَارِهِمْ وَ أُلئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ)(4)، وقال سبحانه (وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَى بَصَرِهَ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ

اللهِ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ)(5) والختم على السمع و البصر لكونهما من أدوات المعرفة الّتي يستخدمها القلب.

نعم كون القلب مركزاً للإيمان و خروج العمل عن كونه عنصراً مقوّماً للإيمان، لايعني أنّ التصديق القلبي يكفي في نجاة الإنسان في الحياة الأُخروية بل يعني أنّه يكفي في خروج الإنسان عن زمرة الكافرين _ الذين لهم خصائص

____________________________

1. المجادلة: 22.

2. الحجرات: 14.

3. النحل: 106.

4. النحل: 108.

5. الجاثية: 23.

( 399 )

وأحكام _ التصديق القلبي، فيحرم دمه وماله و تحلّ ذبيحته و تصحّ مناكحته إلى غير ذلك من الأحكام الّتي تترتّب على التصديق القلبي إذا أظهره بلسانه أو وقف عليه الغير بطريق من الطرق، و أمّا كون ذلك موجباً للنجاة يوم الحساب فلا، فإنّ للنجاة في الحياة الاُخروية شرائط اُخرى تكفّل ببيانها الذكر الحكيم و السنّة الكريمة.

وبذلك يفترق عن قول المرجئة الذين اكتفوا بالتصديق القلبي أو اللساني واستغنوا عن العمل، وبعبارة اُخرى قدَّموا الإيمان و أخَّروا العمل، فهذه الطائفة من أكثر الطوائف خطراً على الإسلام و أهله، لأنّهم بإذاعة هذا التفكير بين الشباب، يدعونهم إلى الإباحية و التجرّد عن الأخلاق و المثل الاسلامية، ويعتقدون أنّ الوعيد خاص بالكفّار دون المؤمنين، فالجحيم و نارها و لهيبها لهم دون المسلمين، ومعنى هذا أنّه يكفي في النجاة الإيمان المجرّد عن العمل، وأيّ خطر أعظم من ذلك؟

و على ضوء ذلك يظهر المراد ممّا رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلّم _: بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، و اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحج و صوم رمضان(1) فإنّ المراد من الإسلام، ليس هو الإسلام المقابل للإيمان في قوله سبحانه:

(قَألتِ الأعرابُ آمَنَّا قُل لَمْ تَؤْمِنوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُل الإيمانّ فِي قُلُوبِكُمْ)(2) ولا الإسلام و الإيمان بأقل درجاتهما الّذي له أحكام خاصّة، بل الإيمان المنجي لصاحبه من العذاب الأليم. وهذا لايضر بما قلنا من أنّ مقوّم الإيمان، هو العقيدة القلبية. وإليه ينظر ما روي عن الإمام الصادق من

____________________________

1. البخاري: الصحيح 1 / 14 كتاب الإيمان.

2. الحجرات: 14.

( 400 )

أنّ الإسلام يحقن به الدم و تؤدّى به الأمانة، و يستحلّ به الفرج، والثواب على الإيمان(1).

و بالجملة انّ كون التصديق القلبي مقياساً للإيمان غير القول بأنَ التصديق القولي أو القلبي المجرّدين عن العمل كاف للنجاة، ولأجل ذلك تركّز الآيات على العمل بعد الإيمان و تقول: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ)(2) وقال تعالى: (وَ مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤمِنٌ)(3) و قال تعالى: (يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(4) فلو كان العمل عنصراً مقوّماً لحقيقة الإيمان فما معنى الامر بالتقوى بعد فرض الإيمان لأنّه يكون أشبه بطلب الأمر الموجود و تحصيل الحاصل.

أدلّة الخوارج على أنّ ارتكاب المعاصي كفر:

هناك آيات تتمسّك بها الخوارج على أنّ العمل عنصر مقوّم لحقيقة الإيمان حّتى المرتبة الضعيفة، نشير إلى بعضها:

1 _ (وَ لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ)(5) فسمّى سبحانه تارك الحج كافراً.

يلاحظ عليه: أنّ المراد كفر النعمة، حيث إنّ ترك فريضة الحج مع الاستطاعة كفران لنعمته سبحانه وقد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم إذ قال

____________________________

1. البرقي: المحاسن 1 / 285.

2. البيّنة: 7.

3. طه: 112.

4. التوبة: 119.

5. آل عمران: 97.

( 401 )

سبحانه: (وَ إذْ تَأَذَّنَ رَبُّكمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ

لاَزِيدَنَّكمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(1).

على أنّه يحتمل أن يكون المراد من توصيف تارك الحج بالكفر، هو كونه كافراً لجحد وجوبه، فيرجع الأمر إلى جحد الرسالة و يؤيّده صدر الآية (وَ لِلّهِ عَلّى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ) فأنبأ عن اللزوم ثمّ قال: (وَ مَنْ كَفَرَ) بلزوم ذلك و من المعلوم أنّ من أنكر لزومه فهو كافر.

2 _ (فَلا وَ رَبِّكَ لايُؤْمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسّلِّمُوا تَسْلِيماً)(2) قيل: إنّه سبحانه أقسم بنفسه انّهم لايؤمنون إلاّ بتحكيم النبي و التسليم بحكمه، و عدم وجدان الحرج في قضائه، والتحكيم غير التصديق بل هو عمل خارجي (3).

يلاحظ عليه: أنّ الآية وردت في شأن المنافقين، فإنّهم كانوا يتركون النبي و يرجعون في دعاويهم إلى الأحبار، و هم مع ذلك يدّعون الإيمان بالنبي و الإذعان والتسليم له _ صلّى الله عليه وآله وسلّم _ فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتى يُرى أثر الإيمان في حياتهم، و هو تحكيم النبي، في المرافعات و المنازعات و التسليم المحض أمام قضائه، و عدم احساسهم بالحرج، و هذا هو الظاهر من الآية، لا أن التحكيم بما أنّه عمل، جزء من الإيمان و هذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّاً لرجل فيقال له: إن كنت صادقاً فيجب أن يرى أثر الحبُ في حياتك، فاعمل له كذا وكذا.

3 _ (إنَّهُ لاييْأسُ مِن رَوْحِ اللهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ)(4) بادّعاء أن الفاسق بفسقه

____________________________

1. إبراهيم: 7.

2. النساء: 65.

3. ابن حزم الظاهري: الفصل 3 / 195.

4. يوسف: 87 .

( 402 )

واصراره عليه، آيس من روح الله فكان كافراً.

والجواب: انّ المدعى ممنوع: فإنّ فسّاق المؤمنين ليسوا بآيسين بل يرجون رحمة ربّهم

بالتوبة أو الشفاعة، أضف إليه: المراد من «الروح» هذا، الفرج بعد الشدّة، ومثل هذا اليأس من الكبائر الموبقة، ولكنّه لا يوجب كفراً، وذلك لأنّ النهي في الآية نهي تشريعي و معناه أنّ اليأس من روح الله شأن الكافر دون المؤمن، نظير قوله سبحانه: (وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أن يَقْتُلَ مَؤْمِناً إلاّ خَطَأً)(1) أي ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ عن خطأ خارجاً عن اختياره لا أنّ المؤمن لايقتل المؤمن عمداً أبداً، و على ضوء ذلك فلو حصل اليأس من مؤمن فهو ركب الكبيرة الموبقة، و مع ذلك فليس بكافر.

4 _ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون)(2).

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه وصف من لم يحكم بما أنزل الله بأوصاف ثلاثة:

أ _ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون)(3).

ب _ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ)(4).

ج _ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ(5).

والآيتان الأوّليتان نزلتا في حق اليهود، كما هو لائح من صدريهما.

والآية الثالثة في مورد النصارى و مع ذلك لايكون المورد مخصّصاً للآيات بهما و المقصود هو أنّ من لم يحكم بما أنزل الله سواء أكان من أهل الكتاب أو غيرهم، فهو ظالم و فاسق و كافر، أمّا كونه ظالماً، فلأنّه تعدّى عن

____________________________

1. النساء: 92.

2. المائدة: 44.

3. المائدة: 44.

4. المائدة: 45.

5. المائدة: 47.

( 403 )

الحقّ، فترك حكم الله، و حكم بحكم الجاهلية، فإنّ الحكم حكمان امّا إلهّي وامّا جاهلي، فإذا ترك الأوّل يكون من قبيل الثاني، قال سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ)(1).

و أما كونه فاسقاً، فإنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله، يقال: فسقت التمرة: إذا خرجت قشرتها، فالحاكم

بغير ما أنزل الله خرج عن طاعة الله.

وأمّا كونه كافراً، فلأنّ الآية حسب شأن نزولها وردت في قوم ينكرون الرجم في توراتهم، و لأجله يحكمون بغير ما أنزل الله، فيكون هذا قرينة على أنّ الكفر لأجل انكار ما أنزل الله في الكتب السماوية، وإلى ذلك ينظر ما نقله الرازي عن بعضهم: انّ قوله (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله) إنّما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أمّا مَن عرف بقلبه كونه حكم الله، وأقرّ به بلسانه، إلاّ أنّه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى و لكنّه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية(2).

وعلى ضوء ذلك فالآية تختصّ بالجاحد لحكم الله الوارد في كتابه، المستلزم لانكار رسوله الّذي أتى به في الكتاب.

5 _(فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَ_هَا إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(3).

وجه الاستدلال، انّ الآية تحصر الداخل في النار في الكافر، حيث يقول: (إلاّ الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ تَوَلَّى) فبما أنّ المسلمين اتّفقوا على دخول الفاسق في النار، يلزم أن يكون الفاسق كافراً.

يلاحظ عليه: أنّ الآية تحصر الخلود في النار و المقيم فيها في المكذّب

____________________________

1. المائدة: 50.

2. الرازي: مفاتيح الغيب 3 / 421.

3. اللّيل: 14 _ 16.

( 404 )

المتولّي لامجرّد الداخل فيها و تقول: (لا يصلاها إلاّ الأشقى * الَذِي كذّب وتولّى)وذلك لأن قوله (لاَيَصْلاها)، من قوله صلى الرجل النار، يصلاها أي لزمها(1) وهي عبارة اُخرى عن الخلود في النار فالآية لاتدل إلاّ على أنّ الخلود في النار من خصائص الكافر المكذّب المتولّي وأمّا المؤمن الفاسق فخارج عن حدود و دلالة الآية.

هذا و ربّما يستدلّ بالآية على قول المرجئة القائلة بالنار للكافرين دون المؤمنين، وذلك لأنّه سبحانه يقول: لا

يدخل النار إلاّ الكافر، والمؤمن الفاسق ليس كافراً، وأجاب عنه القاضي المعتزلي على ما نقل عنه: بأنّ (ناراً) نكرة في سياق الاثبات، و إنّما تعمّ النكرة في سياق النفي نحو قولك: ما في الدار رجل، و غير ممتنع أن تكون في الآخرة نار مخصوصة لايصلاها إلاّ الذين كذبوا و تولّوا ويكون للفسّاق نار اُخرى غيرها(2).

وأوضحه الطبرسي في مجمعه و قال: إنّه سبحانه نكّر النار المذكورة ولم يُعرّفْها، فالمراد بذلك انّ ناراً من جملة النيران لايصلاها إلاّ من هذه حاله، والنيران درجات على ما بينّه سبحانه في سورة النساء (3)، فمن أين عرف أنّ غير هذه النار لايصلاها قوم آخرون(4).

و لكن الاستدلال و الجواب مبنيان على أنّ «الصلي» بمعنى الدخول و لكنه غير صحيح لما عرفت من أنّه الدخول الملازم للبقاء.

أضف إلى ذلك: انّه لودلّ على أنّ النار مختصّة بالكافرين يلزم منه الاغراء بالمعاصي لأنّه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدّق بالله و رسوله ولم يكذّب

____________________________

1. يقال صلى فلاناً النار: أدخله إيّاها و أثواه فيها.

2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 8 / 115.

3. النساء: 145: (إِنَّ الْمُنَ_فِقِينَ فِي الدَّرَكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً).

4. الطبرسي: مجمع البيان 5 / 502.

( 405 )

ولم يتولّ: أي معصية اقدمتَ عليها فلن يضرّك. و هذا هو الاغراء الّذي لايصدر من الحكيم.

على أنّه سبحانه يقول بعدها(وَ سَيُجَنَّبُها الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)(1) و يحصر المجنّب عن النار في الأتقى، و معلوم أنّ الفاسق ليس بأتقى لأنّ «أتقى» مبالغة في التقوى و من يرتكب عظائم الكبائر لايوصف بأنّه أتقى .

6 _ (إِنَّ جَهَنَّمَ لَم_ُحيطَةٌ بِالْكَ_فِرِينَ)(2).

قالوا: و الفاسق تحيط به جهنّم فوجب أن يكون كافراً.

يلاحظ عليه: أنّه من

غرائب الاستدلالات، فإنّه لم يقل سبحانه: و انّ جهنّم لاتحيط إلاّ بالكافرين، حتّى يلزم أن يكون الفاسق من أقسام الكافر، باعتبار كونها محيطة به أيضاً ولا يلزم من كونها محيطة بقوم، ألاّ تحيط بقوم سواهم.

7 _ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَ_نِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ )(3).

وجه الاستدلال: انّ الفاسق لايجوز أن يكون ممّن ابيضّت وجوههم، فوجب أن يكون ممّن اسودّت و إذا دخل فيه يكون كافراً لقوله: (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

يلاحظ عليه: أنّ الآية تخبر عن وجود صنفين: صنف تبيضّ وجوههم، وصنف تسودّ وجوههم، فالاوّل من سمات المؤمن الّذي لم يخالط إيمانه بإثم، والثاني من سمات الكافر الّذي لم يؤمن بالله أو صفاته أو أفعاله، في النبوّة

____________________________

1. الليل: 17 _ 18.

2. التوبة: 49.

3. آل عمران: 106.

( 406 )

والخاتميّة. و أمّا انّه ليس هنا صنف ثالث و يحشرون بغير هاتين السمتين، فلا تدلّ الآية عليه، والمؤمن الّذي ركب الكبيرة هو من هذا القسم الثالث الّذي لم تتكفّل الآية ببيان حكمه.

والحاصل انّ الآية تبحث عن المؤمن الخاص، و الكافر المطلق، وتذكر سماتهما وحالاتهما، و أمّا القسم الثالث فهو خارج عن تقسيم الآية و لعلّ له سمة و علامة اُخرى غير بياض الوجه و سواده لم تذكرها الآية.

قال الطبرسي: استدلّت الخوارج بذلك على أنّ من ليس بمؤمن فلابد أن يكون كافراً فإنّ الله سبحانه قسّم الوجوه إلى هذين القسمين.

ولا تعلّق لهم به، لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين، وجوه المؤمنين (غير العاصين) و وجوه الكفّار، ولم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة، فيجوز أن يكون لها صفة اُخرى بأن يكون عليها غبرة لاتغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو

لون آخر(1).

8 _ (فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَ_هُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيْء مِّن سِدْر قَلِيل * ذَلِ_كَ جَزَيْنَ_هُم بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَ_زِي إِلاَّ الْكَفُورَ )(2).

والفاسق لابد أن يجازى، فوجب أن يكون كفوراً.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من قوله (وَ هَلْ نُجزِي) ليس مطلق المجازاة، بل مجازاة الاستئصال، والآية وردت في قصة أهل سبأ و هم استؤصلوا بالعقوبة، فالمجازاة المقترنة بالاستئصال من خصائص الكفّار، لاكل مجازاة.

____________________________

1. الطبرسي: مجمع البيان 5 / 441.

2. سبأ: 16 _ 17.

( 407 )

9 _ (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَ_نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )(1).

وفسّر الغاوون في آية اُخرى بالمشركين قال سبحانه (إِنَّمَا سُلْطَ_نُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ )(2).

وعلى ضوء هذا فمرتكب الكبائر من الغاوين لأجل سلطة الشيطان عليه و هو حسب تعبير الآية الثانية من المشركين فينتج أنّ مرتكب الكبيرة مشرك

يلاحظ عليه: أنّ الآية فسّرت الغاوين بصنفين: صنف يتولّونه، و صنف به مشركون، ومرتكب الكبيرة داخل في الصنف الأوّل لافي الصنف الثاني.

10 _ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَي_هُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)(3).

وجه الدّلالة انّه سبحانه جعل الفاسق مكذّباً.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على تفسير الفاسق بالمعنى الرائج في أعصارنا أي المؤمن بالله و صفاته و رسالاته المرتكب لكبيرة، و هو غير صحيح إذ ليس كل فاسق بهذا المعنى مكذّباً، فتعيّن أن يكون المراد من الفاسق في الآية من خرج عن الطاعة بتكذيبه، ومن المعلوم أنّ مثله كافر، قال سبحانه (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ )(4) وبالجملة: المقصود من الفاسق في الآية من عصى عن طريق التكذيب الّذي يساوق

الكفر، لا من فسق _ و هو مؤمن بقلبه ولسانه _ بالخروج عن الطاعة لارتكابه المعاصي.

____________________________

1. الحجر: 42.

2. النحل: 100.

3. السجدة: 20.

4. السجدة: 18.

( 408 )

11 _ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )(1).

وجه الدلالة انّ من لم يكن مؤمنا فهو كافر، والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافراً .

يلاحظ عليه: أنّ الفاسق، أي المسلم المعتقد بالله سبحانه ورسله وكتبه، المرتكب لبعض المحّرمات، مؤمن ليس بكافر، فقوله: الفاسق ليس بمؤمن، ممنوع، فإنّ الفاسق على قسمين، قسم يخرج عن طاعة الله سبحانه بالتكذيب والانكار، وقسم يؤمن به، ولكن لا يقوم في مقام العمل ببعض الوظائف، فالأوّل كافر دون الثاني.

وأمّا الشارح ابن أبي الحديد فبما أنّه من المعتزلة، و مرتكب الكبيرة عندهم لامؤمن ولا كافر بل في منزلة بين المنزلتين، أجاب بأنّ (من) هاهنا للتبعيض وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث (ولعلّ هنا من ليس بمؤمن ولاكافر)(2) وهو كماترى ،لأنّ الآية في مقام الحصر.

12 _ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُون فَإِنَّهُمْ لاَيُكَذِّبُونَكَ وَلَ_كِنَّ الظَّ_لِمِينَ بَ_اَيَ_تِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(3).

وجه الدلالة انّ مرتكب الكبائر ظالم، والظالم بحكم الآية جاحد والجاحد كافر، وإلى ذلك يرجع استدلالهم حيث يقولون:

____________________________

1. التغابن: 2.

2. ابن أبي الحديد: شرح النهج 8 / 118.

3. الأنعام: 33.

( 409 )

13 _ الفاسق ظالم لغيره، أو لنفسه، وكلّ ظالم كافر، قال تعالى:

(أَن لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّ_لِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُوَنَها عِوَجاً وَهُم بِالاَْخِرَةِ كَ_فِرُونَ) (الأعراف / 44 _ 45) (1).

يلاحظ عليه: أنّ الكبرى ممنوعة و هي انّ كل ظالم جاحد بآيات الله كما استظهره المستدل من الآية الاُولى أو أن كلّ ظالم كافر كما استظهره من الآية الثانية، وذلك لأنّ المراد من الظالمين في

كلتا الآيتين ليس هو مطلق الظالم ولو بمجرّد ارتكاب الكبيرة فقط، بل المراد هو المكذّب بلقاء الآخرة.

أمّا الآية الاُولى: فيشهد على ذلك سياق الآية: قبلها وبعدها حيث جاء في الآية المتقدّمة قوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللهِ...) وجاء في الآية المتأخّرة عنها: (وَ لَقَدْ كُذِّبت رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ).

وأمّا الآية الثانية: فذيلها شاهد على أنّ المراد هو الجاحد بالآخرة.

أضف إلى ذلك: انّه كيف يمكن أن يعدّ كل ظالم و لو ظلم نفسه كافراً؟

هذا هو نبيّنا آدم يقول: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَأ أنفُسَنَا)(2) وقال تعالى حكاية عن موسى: (إنّى ظَلَمْتُ نَفْسِي)(3) وقال حكاية عن يونس:(إنِّي كُنتُ مِنَ الظَالِمِينَ)(4).

14 _ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَ_بَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَ_لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَ_بِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)(5)... إلى قوله (إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ)(6) والفاسق لايؤتى كتابه بيمينه بل يؤتى بشماله، إذ لا ثالث فيدخل تحت قوله (إِنَّهُ كَانَ

____________________________

1. صالح أحمد الصوافي: الإمام جابر بن زيد العماني: 253.

2. الأعراف: 23.

3. القصص: 16.

4. الأنبياء: 87 .

5. الحاقة: 25 _ 26.

6. الحاقّة: 33.

( 410 )

لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) الّذي هو وصف عامّ لكل من اُوتي كتابه بشماله، ولو أردنا صوغ الاستدلال في قالب علمي نقول: مرتكب الكبيرة يؤتى كتابه بشماله، و كلّ من كان كذلك فهو ممّن لا يؤمن بالله العظيم، فينتج: انّ مرتكب الكبيرة ممّن لا يؤمن بالله العظيم.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الموصول في قوله: (و أمّا من...) كل من يؤتى كتابه بشماله سواء كان جاحداً أو غير جاحد ليشمل المسلم المؤمن المرتكب للكبيرة، ولكن المراد منه القسم الخاص من هذه الطائفة أعني الجاحد بالله العظيم، أي من لم يوحّد الله سبحانه في دار التكليف،

والدليل على ذلك هو التعليل الوارد في الآية الاُخرى أعني قوله: (إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) فذيل الآية قرينة على اختصاص الموصول مع صلته، بالجاحد، لا المؤمن المذعن بكل الشرائع، لوضوح انّه ليس كل مرتكب الكبيرة غير مؤمن بالله العظيم وليس ارتكاب الكبيرة دليلاً على عدم الإيمان به لقضاء الضرورة على بطلانه.

ويؤيّد ذلك انّه علّل دفع الكتاب إلى الظهر في بعض الآيات الّذي هو بمنزلة دفعه إلى شماله بأنّه كان غير مؤمن بالآخرة قال سبحانه: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَ_بَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً...إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ)(1) ومعنى قوله «لن يحور» إنّه لا يرجع إلى الحياة في الآخرة.

15 _ (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَ_ئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَ_لِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَ_لِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَ_تِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ)(2).

____________________________

1. الانشقاق: 10 _ 11 و 14.

2. المؤمنون: 102 _ 105.

( 411 )

وجه الاستدلال انّ الفاسق ممّن خفّت موازينه، و من خفّت موازينه فهو مكذّب حسب ظاهر الآية، و المكذّب كافر بالاتّفاق.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الموصول في قوله «ومن خفَّت موازينه» ليس كل من خفّت موازينه سواء كان مكذّباً بآيات الله أم مصدّقاً بها حتى يعمّ المؤمن الفاسق، بل المراد هو القسم الخاص أعني الذين خفّت موازينهم لأجل التكذيب، لالأجل أمر آخر، أعني ارتكاب الكبيرة مع التصديق، و يوضّح هذا الجواب،ما ذكرناه في الآية المتقدّمة، فلاحظ(1).

16 _ (وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْفَ_سِقُونَ )(2).

يلاحظ عليه: أنّ الآية، دليل على أنّ كل كافر فاسق، ولا تدلّ على العكس كما هو واضح.

ثم إنّ الإمام علي _ عليه السَّلام _ ردّ على

قول الخوارج بأنّ المسلم بارتكاب المعصية يصير كافراً بكلام منه موضع الحاجة:

قال مخاطباً الخوارج: «فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ، فلم تُضَلِّون عامّة امّة محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، بِضَلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم أنّ رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ رجم الزاني المحصن، ثمّ صلّى عليه، ثم ورّثه أهله، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع السارق، وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بذنوبهم، وأقام حقّ الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من

____________________________

1. راجع الآية 9 _ 11 من سورة القارعة.

2. النور: 55.

( 412 )

بين أهله»(1).

و حاصل كلام الإمام: انّه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلّى عليه رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ولا ورّثه من المسلم، ولا مكّنه من نكاح المسلمات، ولا قسَّم عليه من الفيء ولأ خرجه عن لفظ الإسلام(2).

إلى هنا تمّ البحث عن كون مرتكب الكبيرة مؤمناً أو كافراً، فحان الآن البحث عن الجهة الثالثة و هي: انّ مرتكب الكبيرة هل هو مخلّد في النار _ إن لم يتب _ أو أنّه يخرج منها بعد دخوله فيها وإنّما التأبيد للكافرين؟

* * *

الجهة الثالثة _ صاحب الكبيرة و خلوده في النار:

ذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختصّ بالكافر دون المسلم وإن أثم وركب الكبيرة، وذهبت الخوارج و المعتزلة د إلى خلوده في النار إذامات بلا توبة. وبما أنّ المقام مختصّ بدراسة أدلّة الخوارج في ا لمسألة،

نكتفي ببيان أدلّتهم وأمّا ما استدلّ به جمهور المسلمين على عدم الخلود فيطلب من محلّه. فنقول: استدلّوا بآيات:

1 _ قوله سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَ_لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )(3) ولا شكّ انّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض وإرتكاب المعاصي.

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضم إليه

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 127.

2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 8 / 113 _ 114.

3. النساء: 14.

( 413 )

التعدّي عن حدود الله، و من المحتمل جدّاً أن يكون المراد من التعدّي، رفض أحكامه سبحانه و عدم قبولها.

بل يمكن أن يقال: إنّ قوله (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ)ظاهر في تعدّي جميع حدود الله و هذه صفة الكفّار، فالآية خاصّة بهم لا بمرتكب الكبيرة. وأمّا المؤمن الفاسق فإنّما يتعدّى بعض الحدود.

2 _ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَ_لِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )(1) فعدّ قاتل المؤمن من المخلّدين في النار من غير فرق بين أن يكون القاتل مسلماً أو كافراً.

يلاحظ عليه: أنّ الآية ناظرة إلى القاتل المستحل قتل المؤمن أو قتله لأجل ايمانه و مثله كافر و يدلّ عليه ما قبلها، قال سبحانه: (سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيْهَا فَإِنْ لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَ__ِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَ_ناً مُّبِيناً )(2).

ثمّ يقول: (وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً إلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة...)(3).

ثمّ يقول: (وَ مَن يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ...) فالآية حسب السياق تختصّ بالمستحلّ الكافر، خصوصاً بالنظر إلى قوله (وَ مَا كَانَ

لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً) والنفي وإن كان نفياً تشريعياً (ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ) لاتكوينّياً(لايصدر من المؤمن قتل المؤمن) ولكّنه يصحّ أن يقع قرينة

____________________________

1. النساء: 93.

2. النساء: 91.

3. السناء: 92.

( 414 )

على اختصاص الآية الثالثة بالكافر.

3 _ (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَ_طَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فأُوْلَ_ئِكَ أَصْحَ_بُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَ_لِدُونَ )(1).

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع للحكم بالخلود ليس مطلق من كسب السيّئة، بل من اكتسب السيّئة و أحاطت به خطيئته، والمسلم المؤمن مهما كان عاصياً لاتحيط به خطيئته، فإنّ في قلبه نقاطاً بيضاء يشع منها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه وكتبه.

4 _ ( إِنَّ الْم_ُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَ_لِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَ_هُمْ وَلَ_كِن كَانُواْ هُمُ الظَّ_لِمِينَ)(2). بحجّة أنّ المجرم أعم من الكافر و المؤمن الفاسق، وقد حكم عليه على وجه الاطلاق، بالخلود في النار.

يلاحظ عليه: أنّ الآية واردة في حقّ الكفّار بشهادة سياقها، قال سبحانه قبل هذه الآية: (الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِ_َايَ_تِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ثم يقول (إِنَّ الْم_ُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَ_لِدُون) فبحكم المقابلة مع قوله (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمقصود من المجرمين هو الكفّار.

هذه هي الآيات استدلّت بها الخوارج ثمّ المعتزلة على تأبيد صاحب الكبيرة في النار .

فلنكتف بهذا المقدار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا الكلاميّة(3).

____________________________

1. البقرة: 81.

2. الزخرف: 74 _ 76.

3. محاضرات الاستاذ العلاّمة جعفر السبحاني بقلم الشيخ حسن محمد مكي: الالهيات 2 / 910 _ 912.

( 415 )

المخالفون عند الخوارج:

إنّ الخوارج يعدّون جميع المسلمين كفاراً، لارتكابهم الكبائر و لا أقل لتصويبهم مبداً التحكيم، و أكثرهم على أنّ الكفر كفر الملّة، أي الخروج عن الدين إلاّ القليل

منهم، كالاباضية فإنّهم يعدّونه كفراً لنعمه مثلما مرّ في قوله سبحانه في مورد الحجّ: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِين)(1).

فإذا كانت سائر الفرق محكومة بالكفر، فتكون دارهم دار الكفر، لا دار الإسلام وقد أوجبت بعض الفرق منهم (كالأزارقة) لزوم الهجرة عنها، للمعتنقين لمبادئ الخوارج. و على كلّ تقديره فهذه المسألة من شعب المسألة الثانية و هي أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، أو كافر، ولمّا ذهبت الخوارج إلى كونه كافراً فيكون جميع المسلمين المخالفين لهم في المبادئ، كفّاراً.

و بما أنّك عرفت أنّ مقوّم الإيمان عنصر قلبي، فلا يضرّ ارتكاب الكبيرة بالايمان، لا بمعنى أنّ الإيمان القلبي و إن لم يقترن بالعمل موجب للنجاة في الآخرة، بل بمعنى أنّه يكفي في خروج الانسان من عداد الكافرين والدخول في عداد المسلمين: الإيمان القلبي بوحدانية الله سبحانه، وكتبه، ورسله، ولهذا الإيمان آثار في الدنيا و الآخرة، وكان النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يكتفي بالحكم في ايمان الرجل باظهار الشهادتين و هناك روايات متواترة بل متضافرة تدل على ذلك.

قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ لعلي _ عليه السَّلام _ : «قاتل أهل خيبر حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم، إلاّ بحقّها و حسابهم على الله»(2).

____________________________

1. آل عمران: 97.

2. مسلم: الصحيح 7 / 121، ابن عساكر: ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222، النسائي: خصائص أمير المؤمنين: 57.

( 416 )

روى الشافعي في كتاب الأم عن ابي هريرة: أن رسول الله قال: «لا أزال اُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوا: لا إله إلاّ

الله فقد عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله».

ثم قال: فأعلم رسول الله انّ فرض الله أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلاّ الله، فاذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها يعني بما يحكم الله عليهم فيها، و حسابهم على الله بصدقهم و كذبهم و سرائرهم، الله العالم بسرائرهم، المتولّي الحكم عليهم، دون أنبيائه و حكّام خلقه، وبذلك مضت أحكام رسول الله فيما بين العباد من الحدود و جميع الحقوق، و أعلمهم أنّ جميع أحكامه على ما يظهرون، وأنّ الله يدين بالسرائر(1).

نعم ورد في بعض الروايات، اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحجّ و صوم رمضان: روى البخاري عن عبد الله بن عمر: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلاّ الله، و أنّ محمّداً رسول الله واقام الصلاة، و ايتاء الزكاة، والحجّ، و صوم رمضان»(2) ولكنّها من مظاهر العلم بالإيمان لامن مقوّماته لأنّ إيمان الانسان يتوقّف على مظهر له في حياته، و الواجبات الواردة فيها مظاهر لهذا الإيمان.

الإيمان يزيد و ينقص:

ثم إنّه مع القول بأنّ العنصر المقوّم للايمان هو الاعتقاد القلبي _ نقول: الإيمان يزيد و ينقص في كلا الجانبين: العقيدة، و العمل، أمّا من جانب العقيدة: فأين إيمان الأولياء و الأنبياء بالله و رسله من إيمان سائر الناس، وأمّا

____________________________

1. الشافعي: الأم: 6 / 4 انظر موسوعة الإمام الشافعي : 7 / 241.

2. البخاري: الصحيح 1، كتاب الإيمان: 9.

( 417 )

من جانب العمل، فأين إيمان من لايعصي الله سبحانه طرفة عين بل لايخطر بباله العصيان، من المؤمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.

نعم لاننكر انّه ربّما يؤدّي ترك الفرائض، و

ركوب المعاصي، مدّة طويلة إلى الالحاد و الانكار و التكذيب و الجحد قال سبحانه: (ثُمَّ كَانَ عَ_قِبَةَ الَّذِينَ أَسَ_ئُواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِئَايَ_تِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ)(1).

إنّ وزان «العقيدة و العمل الصالح» وزان الجذور و السيقان في الشجرة فكما أنّ تقوية الجذور مؤثّرة في قوّة السيقان، و كمال الشجرة وجود ثمرتها، فكذلك تهذيب السيقان و رعايتها بقطع الزوائد عنها و تشذيبها، و تعرّضها لنور الشمس، مؤثّرة في قوّة الجذور، إنّها علاقة تبادليّة بين العمل و العقيدة كالعلاقة التبادليّة بين الجذور و السيقان.

أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الإيمان في العمل، و هكذا الحال بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد، فإنّ الّذي ينطلق في ميدان الشهوة بلاقيد، ويمضي في اشباع غرائزه إلى أبعد الحدود، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره و اعتقاداته الدينية و قيمه الروحية.

إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين لأنّها تمنعه عن المضي في سبيله و التمادي في عصيانه، و هكذا يتحرّر عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً و ينسلخ منها و ينبذها وراءه ظهرياً.

و قد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

و بهذا يعتبر الفصل بين العمل، والكفر، بين العقيدة و السلوك، نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.

____________________________

1. الروم: 10.

( 418 )

ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى افساد الأجواء الاجتماعية بهدف افساد الأخلاق والسلوك تمهيداً لتغيير الأفكار والقضاء على المعتقدات(1).

* * *

____________________________

1. محاضرات الاستاذ جعفر السبحاني بقلم جعفر الهادي: الله خالق الكون 636 _ 637.

( 419 )

3 _ في الخروج على الحاكم الجائر

اتّفقت الخروج على لزوم الخوارج على الحاكم الجائر، و جعلوه فرعاً من الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر،

بشرط القدرة و المنعة عليه، و يظهر ذلك من خطبهم و رسائلهم أوان قيامهم، و هذا عبد الله بن وهب الراسبي عندما غارد مع جماعته الحروريّة، متواجّهاً إلى النهروان، خطب قومه و قال «أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، و ينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا _ الّتي الرضا بها و الركون إليها و الإيثار إيّاها عناء وتبار_ آثر عندهم من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، والقول بالحقّ، إلى أن قال: فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكِرين لهذه البدع».

و قال حرقوص بن زهير: «إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل، و إنّ الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها و بهجتها إلى المقام بها، و لا تُلفتنكم عن طلب

( 420 )

الحق وإنكار الظلم، فإنّ الله مع الَّذين اتّقَوْا و الّذين هم محسنون»(1).

و هذا نافع بن الأزرق يقول لأصحابه عند خروجه: «إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم، بصّركم عمّا عمي عنه غيركم، ألستم تعلمون أنّما خرجتم تطلبون شريعته و أمره، فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، و إنّما تتبعون سننه و أثره...»(2). إلى غير ذلك من كتب القوم و رسائلهم و خطبهم الّتي يرون فيها الخروج على الإمام غير العادل واجباً.

أقول: الكلام في الإمام الجائر يقع في مقامين:

الأوّل: في لزوم إطاعته و عدمه.

الثاني: في وجوب الخروج عليه وعدمه.

أمّا الأول: لاشكّ أنّ إطاعة الإمام العادل من صميم الدين فلا يشكّ في وجوب إطاعته اثنان، إنّما الكلام في إطاعة الحاكم الجائر، فقد ذهب أهل السنّة إلى وجوب طاعته مطلقاً سواء أمر بالمعروف أو أمر بالمنكر، أو في خصوص ما لم يأمر بالمعصية، ولكلٍّ من القولين

قائل ونذكر بعض كلماتهم في المقام:

1 _ قال أحمد بن حنبل في رسالة ألّفها لبيان عقائد أهل السنة: «السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر، ومَنْ ولي الخلافة، فأجمع الناس و رضوا به، و من غلبهم بالسيف، ويُسمّى أمير المؤمنين» (3).

2 _ و قال الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي (م _ 321) في رسالته المسمّاة بيان السنّة و الجماعة، المشهورة بالعقيدة الطحاوية: «و نرى الصلاة

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4 / 54 _ 55.

2. الطبري: التاريخ 4 / 439.

3. أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية 2 / 322 نقلاً عن إحدى رسائل إمام الحنابلة، و كلامه مطلق يعم ما إذا أمر بالطاعة أو بالمعصية.

( 421 )

خلف كل برّ و فاجر من أهل القبلة.. إلى أن قال: ولا ننزع يداً من طاعتهم، و نرى طاعتهم من طاعات الله عزّوجلّ فريضة علينا مالم يأمروا بمعصية»(1).

3 _ و قال أبو اليُسر محمّد بن عبد الكريم البزدوي: «الإمام إذا جار أو فسق لاينعزل عند أصحاب أبي حنيفة و أجمعهم، و هو المذهب المروي»(2).

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي وقفت على بعضها في الجزء الأوّل _ من هذه الموسوعة _ عند البحث عن طاعة السلطان الجائر و هي بين مطلق و مقيّد فيما إذا لم يأمر بمعصية.

وهذه النظرية حيكت على طبق الروايات الواردة في الصحاح والمسانيد، و إليك بعضها:

أ _ روى مسلم في صحيحه: بسنده عن حذيفة بن اليمان قال: قلت: «يا رسول الله، إنّا كنّا بشرٍّ فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال: نعم قلت: هل وارء ذلك الشرّ خير؟ قال: نعم قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمّة لايهتدون

بهداي ولا يستنّون بسنّتي و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع و تطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع»(3).

ب _ روى أيضاً عن سلمة بن يزيد الجعفي، أنّه سأل رسول الله، فقال: «يا نبيّ الله، أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم و يمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثمّ سأله فأعرض عنه، ثمّ سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه

____________________________

1. أبو جعفر الطحاوي: شرح العقيدة الطحاوية 110 طبع دمشق.

2. الإمام البزدوي (إمام الفرقة الماتريدية): اُصول الدين 190 طبع القاهرة.

3. مسلم: الصحيح 3 / 1476، كتاب الإمارة، الباب 13، الحديث 1847.

( 422 )

الأشعث بن قيس و قال: «اسمعوا و أطيعوا، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم»(1).

و في رواية اُخرى فيه: «فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «اسمعوا و أطيعوا، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم»(2).

ج _ و روى عن عبادة بن الصامت «قال: دعانا رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و اثره علينا و أن لاننازع الأمر أهله. قال: «إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»(3).

تحليل هذه النظرية:

إنّ هذه النظرية لايصدّقها الكتاب العزيز و لا السنّة النبويّة ولا سيرة أئمّة المسلمين، كيف يجوز إطاعة أمر الجائر مطلقاً، أو فيما إذا لم يأمر بمعصيته، و قال سبحانه: (وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْم_ُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ)(4) وقد

نقل سبحانه اعتذار بعض أهل النار بقوله: (وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَْ)(5) وقد تضافر عن رسول الله أنّه قال: «لا طاعة

____________________________

1. مسلم الصحيح 3 / 1474، كتاب الامارة، الباب 12، الحديث 1846.

2. مسلم: الصحيح 3 / 1475، كتاب الامارة، الباب 12، ذيل حديث 1846.

3. مسلم الصحيح 3 / 1470، كتاب الامارة، الباب 8 ذيل حديث 1840 (الرقم 42). ولاحظ في الوقوف على سائر الروايات في هذا المجال كتاب دراسات في فقه الدورة الإسلامية 1 / 580 _ 587 فإنّه بلغ النهاية في جمع الروايات و الكلمات الصادرة عن الفقهاء في المقام.

4. الشعراء: 151 _ 152.

5. الأحزاب: 67.

( 423 )

لمخلوق في معصية الخالق»(1).

و روى الإمام الرضا عن آبائه قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «من أرضى سلطاناً بما أسخط الله خرج عن دين الله»(2).

و روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر أنّه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ و كره إلاّ أن يؤمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة»(3).

إلى غير ذلك من الروايات الناهية عن إطاعة الإمام الجائر مطلقاً أو فيما يأمر بمعصية. و الإمعان فيها و في غيرها يعرب عن حرمة الاطاعة مطلقاً، كيف و روى المتّقي الهندي في كنز العمّال عن أَنس قال: «لا طاعة لمن لم يطع الله»(4) نعم كل ما ذكرنا من حرمة الطاعة، مشروط بالقدرة و المنعة، وإلاّ ففيه كلام آخر ليس المقام محل تفصيله.

و أمّا السيرة فتظهر حالها عند الكلام في المقام الثاني:

الثاني: في لزوم الخروج على الحاكم الجائر:

1 _ ذهب أكثر أهل السنّة إلى حرمة الخروج، وهذا هو إمام الحنابلة يقول في رسالته السابقة: «و الغزو ماض

مع الاُمراء إلى يوم القيامة، البرّ و الفاجر، وإقامة الحدود إلى الأئمة، وليس لأحد أن يطعن عليهم و ينازعهم»(5).

2 _ و قال الشيخ أبو جعفر الطحاوي: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولا

____________________________

1. الحر العاملي: الوسائل 11، الباب الحادي عشر من أبواب الأمر بالمعروف 7، و نقله الرضي في نهج البلاغة قسم الحكمة برقم 165.

2. المصدر نفسه برقم 9.

3. مسلم: الصحيح 3، كتاب الامارة، الباب الثامن، الحديث 1839.

4. المتقي الهندي: كنز العمال 6 / 67، الباب 1 من كتاب الامارة، الحديث 14872.

5. تقدم مصدره.

( 424 )

ولاة أمرنا و إن جاروا»(1).

3 _ و قال الإمام الأشعري عند بيان عقيدة أهل السنّة: «و يرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح و أن لايخرجوا عليهم بالسيف»(2).

4 _ وقال الإمام البزدوي: «إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة، ولا يجوز الخروج عليه لأنّ في الخروج إثارة الفتن و الفساد في العالم »(3).

5 _ و قال الباقلاني بعدما ذكر فسق الإمام و ظلمه بغصب الأموال، و ضرب الأبشار، و تناول النفوس المحرّمة، و تضييع الحقوق، و تعطيل الحدود: «لاينخلع بهذه الامور ولا يجب الخروج عليه، بل يجب و عظه و تخويفه، و ترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله»(4).

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي فيما ذكرنا غنىً عنها.

نعم هناك شخصيات لامعة أصحروا بالحقيقة و جاءوا بكلام حاسم، وإليك بعض من ذهب إلى وجوب الخروج على الحاكم الجائر:

1 _ قال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن: «كان مذهب أبي حنيفة مشهوراً في قتال الظلمة وأئمّة الجور، ولذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف _ يعني قتال الظلمة _ فلم نحتمله، وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمرله فبالسيف على ما روي عن النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ .

وسأله إبراهيم الصائغ و كان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار

____________________________

1. أشرنا إلى مصدره.

2. أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين 323.

3. الامام البزدوي: اُصول الدين 190.

4. الباقلاني: التمهيد 186 طبع القاهرة.

( 425 )

ونسّاكهم عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقال: هو فرض، وحدّثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف و نهاه عن المنكر فقتل»(1).

2 _ و قال ابن حزم: «والواجب إن وقع شيء من الجور و إن قلّ، أن يكلّم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع و راجع الحقّ وأذعن للقود من البشرة أو من الاعضاء، و لإقامة حدّ الزنا و القذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه، و هو إمام كما كان، لا يحلّ خلعه. فإن امتنع من انفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع، وجب خلعه و اقامة غيره ممّن يقوم بالحقّ، لقوله تعالى: (تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوُاْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدوَ نِ) ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع» (2).

3 _ و قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح قول أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _ : «لا تقاتلوا الخوارج بعدي» قال:

«و عند أصحابنا انّ الخروج على أئمّة الجور واجب، و عند أصحابنا أيضاً انّ الفاسق المتغلّب بغير شبهة يعتمد عليها، لايجوز أن يُنْصَر على من يخرح عليه ممّن ينتمي إلى الدين، و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، بل يجب أن ينصر الخارجون

عليه، وإن كانوا ضالّين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنّهم أعدل منه و أقرب إلى الحقّ، و لاريب في تلّزم الخوارج بالدين، كما لاريب في أنّ معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك»(3).

____________________________

1. الجصّاص: أحكام القرآن 1 / 81 .

2. ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل و الاهواء و النحل 4 / 175.

3. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5 / 78.

( 426 )

4 _ و قال إمام الحرمين: «إنّ الامام إذا جار، وظهر ظلمه و غيّه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعة فلأهل الحل و العقد، التواطؤ على ردعه و لو بشهر السلاح ونصب الحروب»(1).

إذا و قفت على هذه النقول، فالحقّ هو وجوب الخروج على الحاكم الجائر إذا كان في ركوبه منصّةَ الحكم خطراً على الإسلام و المسلمين.

و يكفي في ذلك ما ورد حول الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإنّ الخروج على السلطان الجائر من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به إلاّ أصحاب القدرة و المنعة، الذين لديهم امكانية الكفاح المسلّح .

وأمّا الروايات فيكفي في ذلك ما نذكر:

1 _ روى الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال، إنّي سمعت علياً _ عليه السَّلام _ يقول _ يوم لقينا أهل الشام _: «أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدواناً يُعمل به و منكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد اُجر، و هو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين» (2).

2 _ و في مسند أحمد عن رسول الله _ صلّى الله

عليه وآله وسلم _ يقول: «إنّ الله عزّوجلّ لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة و العامّة»(3).

____________________________

1. التفتازاني: شرح المقاصد 2 / 272 نقلاً عن امام الحرمين.

2. الحر العاملي: الوسائل 11 / 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و...، الحديث 8 ، و رواه أيضاً في نهج البلاغة: فيض 1262، عبدة 3 / 243، صالح 541، الحكمة 373.

3. أحمد المسند 4 / 192.

( 427 )

والقدرة، فمنطق القوة يستعان به إذا لم تثمر المراتب السابقة، وفي بعض الروايات إلماعات إليه، و هي بين كونها نقيّة السند و ضعيفته، و لكن المجموع يفيد اليقين بالمقصود.

3 _ قال أبو جعفر الباقر _ عليه السَّلام _ : «فانكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم»(1).

4 _ إنّ الحسين خطب أصحابه و أصحاب الحرّ، فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

«أيّها الناس إنّ رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحّلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان، فلم يُغَيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن، و أظهرو الفساد و عطّلوا الحدود، و استأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر»(2).

5 _ روى الصدوق باسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد _ عليه السَّلام _ قال: قال أمير المؤمنين _ عليه السَّلام _

: «إنّ الله لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة، استوجب الفريقان العقوبة من الله _ عزّ وجلّ _» قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم يُضّرَّ إلاّ عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامة». و قال جعفر بن محمّد _ عليه السَّلام _ : «و ذلك انّه يذلّ

____________________________

1. الحرّ العاملي: الوسائل 11 / 403، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف 1.

2. الطبري: التاريخ 4 / 304.

( 428 )

بعمله دين الله و يقتدي به اهل عداوة الله»(1).

و فيما ذكرنا من الروايات كفاية.

أمّا السيرة فحدّث عنها ولا حرج، ففي ثورة الإمام الطاهر الحسين سيّد الشهداء، و ثورة أهل المدينة على زيد الطاغية، و ثورة أهل البيت في فترات خاصة، كفاية لطالب الحق و كلّها تؤيّد نظرية لزوم الخروج على الحاكم الجائر بشروط خاصة مبيّنة في الفقه.

و نكتفي في المقام بما ذكره صاحب المنار قال:

«و من المسائل المجمع عليها قولاً و اعتقاداً: «إنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنّما الطاعة في المعروف»، و إنّ الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتدّ عن الإسلام واجب، وإنّ اباحة المجمع على تحريمه كالزنا و السكر واستباحة ابطال الحدود و شرع مالم يأذن به الله، كفر وردّة، وانّه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطله، وجب على كلّ مسلم نصر الاُولى ما استطاع، و انّه إذا بغت طائفة من المسلمين على اُخرى، وجرّدت عليها السيف، و تعذّر الصلح بينهما، فالواجب على المسلمين قتال الباغية

المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله.

و ما ورد في الصبر على أئمّة الجور إلاّ إذا كفروا، معارض بنصوص اُخرى، والمراد به اتّقاء الفتنة و تفريق الكلمة المجتمعة، وأقواها حديث: «و أن لاتنازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحا». قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية. و مثله كثير. و ظاهر الحديث انّ منازعة الامام الحق في إمامته ننزعها منه لا يجب إلاّ إذا كفر كفراً ظاهرا و كذا عمّاله و ولاته.

و أمّا الظلم و المعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء امامته و طاعته في

____________________________

1. الحرّ العاملي: الوسائل 11 / 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي و...، الحديث 1.

( 429 )

المعروف دون المنكر، وإلاّ خلع و نصب غيره.

و من هذا الباب خروج الحسين سبط رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ على امام الجور و البغي، الّذي وليَّ أمر المسلمين بالقوّة والمكر: يزيد بن معاوية خذله الله، وخذل من انتصر له من الكرامية و النواصب الذين لايزالون يستحبون عبادة الملوك و الظالمين، على مجاهدتهم لإقامة العدل و الدين. وقد صار رأي الاُمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدّين المفسدين. وقد خرجت الاُمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه و خلعته بفتوى من شيخ الإسلام» (1).

* * *

____________________________

1. السيد محمّد رشيد رضا: تفسير المنار 6 / 367، وياليت صاحب المنار (ت 1354) يمشي على هذا الخطّ إلى آخر عمره والقصة ذو شجون، و من أراد التفصيل فليرجع إلى المناظرات الّتي دارت بينه و بين السيد محسن الأمين (ت 1371) فقد أماط الستر عن حياته و تلوّنه فيها، ولاحظ أيضاً كشف الارتياب 64 _ 77.

( 430 )

(

431 )

4 _ التقية قولاً و عملاً

ذهبت الأزارقة إلى حرمة التقيّة في القول و العمل، بينما ذهبت النجدية إلى جوازها(1) وربّما تنسب حرمة التقيّة إلى جميع الخوارج وإن اُكره المؤمن و خاف القتل(2).

يلاحظ عليه: أنّ التقيّة تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى خمسة، فمنها واجب، و منها حرام، فإنّها تجب لحفظ النفوس، و الأعراض، و الأموال الطائلة، كما إنّها تحرم إذا ترتّبت عليها مفسدة أعظم كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال الآتية.

قال الشيخ المفيد: التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد يجوز في حال دون حال للخوف على المال، و لضروب من الاستصلاح.

____________________________

1. لاحظ فصل عقائد الخوارج و آرائهم.

2. الامام عبده: المنار 3 / 280، بقلم تلميذه السيد محمّد رشيد رضا، و ما ذكره إنّما هو مذهب الأزارقة لا النجدية و ستعرف أنّ التقيّة من تعاليم الاباضية وكانت هي السبب في بقائهم.

( 432 )

و أقول: إنّها قد تجب أحياناً و يكون فرضاً، و تجوز أحياناً من غير وجوب، و تكون في وقت أفضل من تركها، و يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً و معفوّاً عنه، متفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.

و أقول: إنّها جائزة في الأقوال كلّها عند الضرورة، و ربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح و ليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يُعْلَم أو يُغْلَب انّه استفساد في الدين، و هذا مذهب يخرج عن اُصول أهل العدل و أهل الامامة خاصّة دون المعتزلة و الزيدية و الخوارج و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث(1).

و يكفي في جواز ذلك:

1 _ قوله سبحانه: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَ_فِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءْ إِلاَّ أَنْ

تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَ_ةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)(2).

فقوله: ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ) استثناء من أهم الأحوال، أي أنّ ترك موالاة الكافرين حتم على المؤمنين في كلّ حال، إلاّ في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

والاستثناء منقطع، فإنّ التقرّب من الغير خوفاً، بإظهار آثار التولّي، ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية، ليس من التولّي في شيء، لأنّ الخوف

____________________________

1. الشيخ المفيد: أوئل المقالات 96 _ 97. قوله «و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث» يعرب عن أنّ غير المعتزلة من أهل السنّة كانوا معروفين في عصر الشيخ (326 _ 413) بأصحاب الحديث، وأمّا تسمية طائفة منهم بالأشاعرة فإنّما حدث بعد ذلك العصر.

2. آل عمران: 28.

( 433 )

والحب أمران قلبيّان و متنافيان أثراً في القلب، فكيف يمكن اجتماعهما، فاستثناء الاّتقاء استثناء منقطع.

2 _ قوله سبحانه: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَ_نِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالاِْيمَ_نِ * وَلَ_كِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1) فترى انّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراة الكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئنّاً بالايمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف حراماً، فلماذا رخّصه الإسلام و أباحه، وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في جماعة اُكرهوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه «ياسر» واُمّه «سميّة»، و قتل أبو عمّار و اُمّه، و أعطاهم عمّار بلسانه، ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله، فقال قوم: كفر عمّار، فقال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «كّلا، إنّ عمّاراً مُلِئ ايماناً من

قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وجاء عمّار إلى رسول الله و هو يبكي، فقال: «ماوراءك»؟ فقال: «شرّ يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، و ذكرت آلهتم بخير». فجعل رسول الله يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا فعدلهم بما قلت» فنزلت الآية(2).

وبذلك يظهر، أنّ تحريم التقيّة على وجه الاطلاق اجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ الآية تصرّح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مُكْرَهاً و قاية لنفسه من الهلاك، لاشارحاً بالكفر صدراً، ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة، لا يكون كافراً، بل يعذر.

3 _ (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَ_نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَ_تِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَ_ذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً

____________________________

1. النحل: 106.

2. الطبرسي: مجمع البيان 3 / 388 و نقله غير واحد من المفسرين.

( 434 )

يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(1) ويقول أيضاً: (وَجَآءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَ_مُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّ_صِحِينَ )(2).

نعم لوجوب التقيّة أو جوازها شروط و أحكام ذكرها العلماء في كتبهم الفقهية و لأجل ذلك حرّموا التقيّة في موارد، كقتل المؤمن تقيّة، أو ارتكاب محرّم يوجب الفساد الكثير، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من عظماء الشيعة و أكابرهم رفضوا التقيّة في بعض الأحايين و تهيّأ وللشنق على حبال الجور، والصلب على أخشاب الظلم. وكلّ من استعمل التقيّة أو رفضها، له الحسنى، وكلّ عمل بوظيفته الّتي عيّنتها ظروفه.

إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين تركوا التقيّة و قدَّموا نفوسهم المقدَّسة قرابين للحقّ، و منهم شهداء «مرج العذراء» و قائدهم الصحابّي العظيم الّذي

أنهكته العبادة و الورع، حجر بن عدي الكندي، الّذي كان من قادة الجيوش الاسلامية الفاتحة للشام.

و منهم ميثم التمّار، و رشيد الهجري، و عبد الله بن يقطر الذين شَنَقهم ابن زياد في كناسة الكوفة، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ، ونطحوا صخرة الباطل، بل وجدوا العمل بالتقيّة حراماً، ولو سكتوا وعملوا بها وأصبح دين الإسلام دينَ معاوية و يزيد و زياد و ابن زياد، دينَ المكر، ودينَ الغدر، ودينَ النفاق، ودينَ الخداع، دين كل رذيلة، و أين هو من دين الإسلام الحقّ، الّذي هو دين كل فضيلة، اُولئك هم أضاحي الإسلام و قرابين الحق.

____________________________

1. غافر: 28.

2. القصص: 20.

( 435 )

و فوق اُولئك، امام الشيعة، أبو الشهداء الحسين و أصحابه الذين هم سادة الشهداء و قادة أهل الإباء.

وبذلك ظهر أنّ ايجاب التقيّة على الاطلاق و تحريمها كذلك، بين الافراط والتفريط. والقول الفصل هو تقسيم التقيّة إلى الواجب والحرام، أو إلى الجائز _ بالمعنى الأعم _ والحرام.

و بما أنّ الشيعة اشتهرت بالتقيّة بين سائر الفرق، و ربّما تُزرى بها و تُتَّهم بالنفاق فقد أشبعنا الكلام فيها، و بيّنا، الفرق بين التقيّة و النفاق في أبحاثنا الكلامية(1).

و هناك كلمة للعلاّمة المحقّق السيد الشهرستاني نأتي بها هنا:

قال: المراد من التقيّة إخفاء امر ديني لخوف الضرر من إظهاره، و التقيّة بهذا المعنى، شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية، إلاّ أنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقيّة أكثر من غيرها، لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّ اُمّة اُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأمويّة كلِّه، و في عهد العباسيين على طوله و في أكثر أيام الدولة العثمانية ولأجله استشعروا شعار التقيّة أكثر من أيّ قوم، ولمّا

كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في اُصول الدين، و في كثير من المسائل الفقهية، و تستجلب المخالفة (بالطبع) رقابة و حزازة في النفوس، و قد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه، أو اخراج الأعزّ منهما الأذلّ كما يتلوه علينا التاريخ و تصدّقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت تضطرّ في أكثر الأحيان إلى الكتمان لصيانة النفس و النفيس، والمحافظة على الوداد و الاُخوّة مع سائر اخوانهم المسلمين،

____________________________

1. لاحظ الإلهيّات 2 / 925 _ 933 بقلم حسن محمد مكي العاملي .

( 436 )

لئلاّ تنشق عصا الطاعة، و لكيلا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسّعوا الخلاف بين الاُمّة المحمّدية(1).

* * *

____________________________

1. محمّد علي الشهرستاني (ت 1386): تعاليق أوائل المقالات 96 نقلاً عن مجلّة المرشد 252 _ 256.

( 437 )

5 _ ما تجب معرفته بالتفصيل

إنّ هذه المسألة تفترق عن المسألة الثانية أعني تحديد حقيقة الإيمان و انّ العمل هل هو مقوّم لأقلّ مراتب الإيمان أو لا (وجه الفرق)؟ انّ روح البحث في المقام عن تحديد ما تجب معرفته في مجالي العقيدة و الشريعة، بخلاف المسألة السابقة فإنّ موضوعه تحديد مفهوم الإيمان و انّه هل هو متقوّم بالعقيدة فقط، أو مركّب منها و من العمل؟ فالمسألتان مختلفتان جوهراً فنقول:

الإسلام عقيدة و شريعة، و المطلوب من الاُولى، المعرفة ثم الالتزام القلبي، كما انّ المطلوب من الثانية المعرفة ثم الالتزام العملي، و هذا ممّا لم يختلف فيه اثنان، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في تحديد المقدار الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام القلبي ،كما وقع الخلاف في المقدار الأدنى الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام العملي، و نحن نبحث عن

كلا الأمرين.

( 438 )

الأمر الأول: ما تجب معرفته في مجال العقيدة:

الّذي يظهر من الطائفة البيهسيّة من الخوارج، لزوم معرفة جميع العقائد الاسلامية تفصيلاً و انّه لولا هذه المعرفة لما دخل الانسان في عداد المسلمين، قالوا: لاُيسلِم أحد حتى يُقر بمعرفة الله، و بمعرفة رسوله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و بمعرفة ما جاء به محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ جملة، و الولاية لأولياء الله سبحانه، والبراءة من أعداء الله _ جلّ وعلا _ و ما حرّم الله سبحانه ممّا جاء فيه الوعيد فلا يسع الانسان إلاّ علمه و معرفته بعينه وتفصيله(1).

ويظهر هذا القول من بعض علمائنا الامامية. قال العلاّمة الحلّي: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله و صفاته الثبوتية و ما يصحّ عليه و ما يمتنع عنه و النبوّة و الامامة و المعاد بالدليل لا بالتقليد(2).

وفي الوقت نفسه هناك من قال منهم بكفاية الاقرار (الا المعرفة) بما جاء من عند الله جملة(3).

و يظهر هذا القول من الاباضية، قال محمّد بن سعد الكدمي _ وهو من علماء الاباضية في القرن الرابع _: «اعلموا أنّ الجملة الّتي دعا إليها محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وكذلك من دعا إلى دين الله بعد موت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، ممّا لايسع الناس جهله، و هو الاقرار بالله، انّه واحد، و انّه ليس كمثله شيء، وانّ محمّداً عبده و رسوله، وانّ جميع ماجاء

____________________________

1. يراجع الفصل التاسع: الفرقة الثالثة: البيهسية.

2. العلاّمة الحلي: الباب الحادي عشر 2.

3. لاحظ عقائد الفرقة البيهسية المنسوبة لأبي بيهس في هذا الفصل و يحتمل أن يكون المراد من «جملة» هو الاعتقاد الاجمالي بما جاء

به الرسول فلا يدل على لزوم المعرفة التفصيلية و لكن يخالفه ذيله الصريح في لزومها.

( 439 )

به محمّد عن الله فهو الحق، فهذا الّذي لايسع جهله في حال من الاحوال(1).

و أضاف البعض الآخر من الاباضية تبعاً لأهل الحديث ثم الأشاعرة، الإيمان بالقدر خيره وشرّه (فيجب معرفتهما) قال ابن سلام: الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث و اليوم الآخر و الموت و القدر خيره و شرّه من الله عزّوجلّ(2).

ولأجل وجود التطرّف في القول الأوّل قال شيخنا المرتضى الأنصاري عند البحث عن حجّية الظن في اُصول الدين:

«لقد ذكر العلامة (قدس سره) في الباب الحادي عشر في ما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد و النبوّة و الامامة و المعاد اُموراً لا دليل على وجوبها مطلقاً، مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعقاب الدائم و هو في غاية الاشكال»(3).

و لأجل تحقيق الحال نبحث عن الموضوع على وجه الايجاز فنقول: إنّ المسائل الاُصولية الّتي لا يطلب فيها أوّلاً و بالذات إلاّ الاعتقاد، على قسمين:

الأوّل: ما وجب على المكلّف الاعتقاد و التدّين به غير مشروط بحصول العلم، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات ذلك الواجب المطلق فيجب تحصيل مقدّمته (المعرفة).

الثاني: ما يجب الاعتقاد و الالتزام إذا اتّفق حصول العلم به، و هذا كبعض تفاصيل المعارف الاسلامية الراجعة إلى المبدأ والمعاد.

أمّا القسم الأوّل: أعني ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ولأجل كون وجوبه غير

____________________________

1. أبو سعيد الكدمي: المعتبر 1 / 145 من منشورات وزارة التراث القومي و الثقافة لسلطنة عمان.

2. ابن سلام (ت 273): بدء الإسلام و شرائع الدين 60.

3. مرتضى الأنصاري: الرسائل 170.

( 440 )

مشروط بشيء يجب

تحصيل مقدّمته. فهذا لا يتجاوز عن الاعتقاد بالشهادتين: بشهادة أن لا إله إلاّ الله و شهادة أنّ محمّداً رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و هذه الشهادة تتضمّن الاعتقاد الاجمالي بصحّة كلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة.

والدليل على كفاية ذلك مايلي:

إنّ النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ كان يقبل إسلام من أقرَّ بالشهادتين لفظاً حاكياً عن الاعتقاد به، و هذا يدلّ على أنّه يكفي في دخول الانسان في عداد المسلمين، الاقرار بهما و لا تجب معرفة تفاصيل المعارف و العقائد.

قال أبو جعفر الباقر _ عليه السَّلام _ :

إنّ الله عزّوجل بعث محمّداً _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و هو بمكة عشر سنين(1) ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا اله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إلاّ أدخله الله الجنة باقراره و هو إيمان التصديق(2).

فهذا الاستدلال يعطي أنّ حقيقة الإيمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر، الموجب للخلود في النار، لم تتغّير بعد إنتشار الشريعة، و بعد هجرة النبيّ إلى المدينة المنوّرة.

نعم ظهرت في الشريعة اُمور صارت ضرورية الثبوت من النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فيعتبر في تحقّق الإسلام عدم انكارها (لا لزوم التصديق بها تفصيلاً) و لكن هذا لا يوجب التغيّر في ما يقوم الإيمان به، فإنّ المقصود انّه لا يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد و التصديق

____________________________

1. يريد الدعوة العلنية فإنّها كانت عشر سنين و كانت في السنين الثلاثة الاُولى سرّية.

2. الكليني: الكافي 2 / 29 برقم 1510.

( 441 )

بالنبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _

و انّه كان رسولاً صادقاً فيها يبلّغ، ولا تلزم معرفة تفاصيل ذلك و إلاّ لزم أحد الأمرين:

1 _ أن لا يكون من آمن بمكة من أهل الجنّة لعدم إيمانهم.

2 _ أن تكون حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة تختلف عن صدر الإسلام و كلا الأمرين كما ترى.

نعم لمّا كان الاعتقاد بالمعاد و الحياة الآخرة بمثل البُنْية التحتية للدعوة الاسلامية بل لجميع الشرائع السماوية على وجه لا تتّصف الدعوة بالالهية بدون الاعتقاد بها. لابدّ من الاعتقاد بها في إطار الشهادتين فإنّه ينطوي في طيّاتهما يوم بعث النبيّ الأكرم بالهداية.

و يؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في ذلك المجال وإليك نصّه:

قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يوم خيبر: لاُعطينّ غداً هذه الراية رجلاً يحبّ الله و رسوله يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الامارة إلاّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن اُدعى لها، قال: فدعا رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ علي بن أبي طالب فأعطاه إيّاها و قال:

امش و لا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئاً ثم وقف و لم يلتفت و صرخ: يا رسول الله على ماذا اُقاتل الناس؟

قال _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها، و حسابهم على الله(1).

فإذا كان الاقرار بالشهادتين كافياً في توصيف المقر مسلماً و مؤمناً، فيدل

____________________________

1. مسلم: الصحيح 7 / 121، ابن عساكر: ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222، النسائي: خصائص أمير المؤمنين 57.

( 442 )

بالملازمة على عدم لزوم معرفة ما

سواهما.

و يوضّح ذلك أيضاً ما رواه الامام الرضا _ عليه السَّلام _ عن آبائه عن علي _ عليه السَّلام _ : قال النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله ن فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم و أموالهم(1).

و روى أبو هريرة: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوا لا الاّ الله عصموامنّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله (2). و الاستدلال بالروايتين حسب مامرّ في غيرهما من الدلالة الالتزامية على عدم لزوم معرفة غيرهما.

وأمّا معرفة ما عدا ذلك من المعارف فلم يدلّ دليل على وجوب معرفتها بل الأصل المحكم عدم الوجوب إلاّ مادلّ الدليل الثانوي على وجوبه(3).

هذا كلّه في المعارف الّتي تجب معرفتها بلا قيد، ولأجل ذلك يجب تحصيل معرفتها.

أمّا القسم الثاني: أعني ما يجب الاعتقاد به لو وصل العلم به، فهذا كمعرفة صفات الربّ و أوصافه و المعرفة التفصيلية للمعاد و الحياة الاُخروية، كلّ ذلك يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم و المعرفة و لكن لا يكون ذلك دليلاً على اعتباره في الإسلام أو الإيمان بأدنى مراتبه.

____________________________

1. المجلسي: البحار 68 / 242.

2. المجلسي: البحار 68 / 242 نقله عن مشكاة المصابيح في التعليقة.

3. كمعرفة الامام الّتي دلّت الأدلّة على وجوب معرفته. نعم إنّ ما رواه البخاري: الصحيح: 1 / 14 كتاب الإيمان عن النبي الأكرم من بناء الإسلام على خمس و أضاف بعد الشهادتين: اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج، و صوم شهر رمضان، فهو خارج عن موضوع البحث و داخل في البحث الآتي:

«ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة».

( 443 )

ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة:

هذا كلّه في مجال العقيدة و أمّا مجال الشريعة فتجب معرفة ما يبتلى به المكلّف في حياته من الأحكام الفرعية.

فالحق، التفصيل بين ما تعم البلوى بها و غيره، أمّا الأوّل فتجب معرفة أحكامه فلا يجوز للمكلّف الدخول في العمل مع الظن بالابتلاء بما لايعلم حكمه كأحكام الخلل، الشائع وقوعه في الصلاة. و أمّا الثاني أعني ما لا يتّفق الابتلاء به إلاّ نادراً فلا يجب تعلّم حكمه قبل الابتلاء للوثوق بعدم الابتلاء به غالباً و على ذلك جرت السيرة بين المسلمين مضافاً إلى أنّ إيجاب معرفة جميع الأحكام تفصيلاً ممّا يوجب العسر و الحرج و يوجد الفوضى في الحياة.

و هذا هو الظاهر أيضاً من بعض علماء الاباضية: قال: إذا لزمه شيء من ذلك ممّا يفوت مثل الصلاة، و الصوم، أو ممّا يفوت وقته من جميع الفرائض اللازمة له، ممّا يفوت وقته ويبطل و حضر وقته و وجب العمل به، فمعنى انّه قيل إنّ عليه طلب العلم، من جميع ما جهل من ذلك(1).

فما ورد في الشريعة الاسلامية من الحق الأكيد على تحصيل العلم كآية أهل الذكر (النحل: 46). و الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم و التفقّه كلّها منصرفه إلى الموارد المبتلى بها، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه(2).

* * *

____________________________

1. أبو سعيد الكدمي: المعتبر1 / 70 .

2. لاحظ الرسائل للشيخ مرتضى الأنصاري 400 آخر مبحث الاشتغال.

( 444 )

( 445 )

6 _ حكم الدار

وصف الدار بكونها دار اسلام أو إيمان، أو داركفر، هو من جهة لحوق بعض الأحكام الشرعية بالمقيمين فيها، مثل جواز المناكحة و التوارث إذ لم يعرف حاله، و الصلاة خلفه أو

عليه إذا مات، و الدفن في مقابر المسلمين، و موالاته و معاداته، إلى غير ذلك من الأحكام، و قد اختلفت الآراء في الأمر الّذي يصير سبباً لوصف الدار بكونها دار إسلام أو كفر.

منهم من اعتبر الكثرة، فإذا كان الأكثر من أهل الدار على دين الإسلام فهي دار إسلام و إلاّ فدار كفر.

و منهم من اعتبر مع الكثرة، الغلبة أيضاً، بأن يكون غالبين قاهرين على الاُمور.

و منهم من اعتبر زوال التقية، فمتى لم يكن أهل الدار في تقيّة من السلطان في اظهار شعائر الدين فهي دار إسلام.

و منهم (كثير من الزيدية و المعتزلة) ذهب إلى أنّ المناط في ذلك، بما

( 446 )

يظهر في الدار و يوجد المقيم بها من الحال، فإذا كانت الدار بحيث يظهر فيها الشهادتان ظهوراً، لايمكن المقام فيها إلاّ بإظهارهما أو الكون في ذمّة و جوار من مظهرهما، ولا يتمكّن المقيم من اظهار خصلة من خصال الكفر فهي دار إسلام، و إن لم تكن الدار بهذا الوصف الّذي ذكرناه فهي دار كفر. ولا اعتبار عندهم مع ذلك بما يكون عليه أهلها من المذاهب المختلفة بعد تحقّق ما ذكرناه(1).

و قال شيخنا المفيد: إنّ الحكم في الدار على الأغلب فيها، و كلّ موضع غلب فيه الكفر فهو دار كفر، وكلّ موضع غلب فيه الإيمان فهو دار إيمان، وكلّ موضع غلب فيه الإسلام فهو دار إسلام، قال الله تعالى في وصف الجنّة: (وَ لَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِين)(2) وإن كان فيها أطفال و مجانين(3).

وقال في وصف النار: (سَاُريكُمْ دَارَ الفَاسِقِين)(4) و إن كان فيها ملائكة الله مطيعون. فحكم على كلتا الدارين حكم الأغلب فيها(5).

هذه هي الأقوال الدارجة في حكم الدار، و المعروف عن الخوارج رأيان:

1 _ كلّ بلد

ظهر فيه الحكم بغير ما أنزل الله فهو دار كفر.

2 _ إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعيّة، الغائب منهم و الشاهد(6).

و في الرأي الثاني تطرّف واضح، إذ كيف يكون كفر الإمام سبباً لكفر الرعيّة، أما سمعوا قول الله سبحانه: (ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى)(7). وكان يقول

____________________________

1. العلاّمة الزنجاني: التعليقة على أوائل المقالات 70.

2. النحل: 30.

3. فيه و ما بعده تأمّل واضح.

4. الأعراف: 145.

5. المفيد: أوائل المقالات 70 _ 71.

6. لاحظ ماذكرناه في حقّ البيهسيّة.

7. النجم: 38.

( 447 )

علي _ عليه السَّلام _ في هذا الشأن مخاطباً الخوارج: فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأت، وضللت، فلم تُضلِّلون عامّة اُمّة محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بضلالي و تأخذونهم بخطئي، و تكفّرونهم بذنوبي (1).

* * *

____________________________

1. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 127.

( 449 )

7 _ في حكم الزاني المحصن

قد عرفت أنّ الأزارقة لاتقول برجم الزاني إذا كان محصناً بحجّة أنّه ليس في ظاهر القرآن، و لا في السنّة المتواترة، و لكن المسألة من المسائل الفقهية، و اتّفق الفقهاء، على رجم الزاني المحصن بلا فرق بين الرجل و المرأة، و إنّما اختلفوا من جهة اُخرى.

1 _ قال داود و أهل الظاهر عليهما الجلد والرجم من غير فرق بين الشابِّ والشيخ، والشابّة و الشيخة، و هو احدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، كما في «المغني» لابن قدامة.

2 _ قالت الإمامية _ بالتفصيل و هو أنّه _: إذا كان المحصن شيخاً أو شيخة فعليهما الجلد و الرجم، وإن كانا شابّين فعليهما الرجم بلا جلد.

3 _ قال فقهاء أهل السنّة: ليس عليهما إلاّ الرجم دون الجلد، و به قال بعض الامامية(1).

____________________________

1. الشيخ الطوسي: الخلاف ج 3، كتاب الحدود، المسألة

1 و 2، ابن قدامة: المغني 9 / 5 كتاب الحدود.

( 450 )

ولسنا بصدد تحقيق المسألة من حيث السعة و الضيق و إنّما نبحث عن ثبوت الرجم في الإسلام على وجه الاجمال، و ذلك لثبوته بفعل النبي و الخلفاء و الصحابة، أمّا النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فقد زنى ماعز فرجمه رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ، و رجم العامرية، كما رجم يهوديين زنيا (1)، و روي عن عمر، أنّه قال: «إنّ الله بعث محمّداً _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها و عقلتها و وعيتها، و رجم رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و رجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال و النساء إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف و قد قرأ بها «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالاً من الله و الله عزيز حكيم»(2).

نحن لا نوافق الخليفة على كون آية الرجم من كتاب الله العزيز، فكيف يمكن لنا أن نعدّ كلاماً تعلو عليه الصناعة البشرية _ و قد سرق جزءاً من الذكر الحكيم الوارد في حد السرقة و ركّبه مع كلامه فعاد كلاماً مغسولاً عن الفصاحة _ من كلام الله العزيز، لكنّا نوافق الخليفة على ثبوت الرجم في الإسلام، هذا هو الامام علي بن أبي طالب جلد سراجة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة و قال: جلدتها بكتاب الله، و رجمتها بسنّة رسول الله.

وأمّا

قوله سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة)(3).

____________________________

1. لاحظ تفسير قوله سبحانه: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَي_ةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) _ المائدة: 43 _ .

2. ابن قدامة: المغني 9 / 4.

3. النور: 2.

( 451 )

فلا ينافي ثبوت الرجم مع الجلد في بعض الموارد، فإنّه لاينفي غير الجلد من سائر العقوبات، هذا إذا قلنا بثبوت الجلد و الرجم مطلقاً على المحصن، و أمّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ و الشيخة، و أخرجنا الشاب والشابة، فتكون السنّة مخصصّاً لاّية الجلد، فإنّ عموم القرآن يخصّص بالدليل القطعي، و ليس هذا نسخاً بل تخصيصاً، وكم من فرق بين التخصيص و النسخ يقف عليه المعنّيون بعلم الاُصول.

وأمّا الخوارج فقالوا بالجلد دون الرجم و احتجّوا بالوجهين التاليين:

1 _ قوله سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة) قالوا: لايجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع و اليقين لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها.

2 _ إنّ هذا يفضي إلى نسخ الكتاب و السنّة و هو غير جائز(1).

يلاحظ على كلا الوجهين: أمّا الأوّل: فلأنّ القول بالرجم مضافاً إلى الجلد لايستلزم ترك كتاب الله، لأنّ اثبات الشيء أي الجلد لايكون دليلاً على نفي غيره، فأيّ مانع من أن تكون العقوبة في مطلق الزنا هي الجلد، و في خصوص المحصن، الجلد مع الرجم؟

هذا إذا قلنا بجلد المحصن مطلقاً، و أمّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ والشيخة، و قلنا بكفاية الرجم في غير الشاب و الشابّة، فأقصى ما يلزم تخصيص الكتاب بالسنّة القطعية و هو ليس بأمر شاذ، كيف لايكون كذلك و قد اشتهر «و ما من عام إلاّ و قد خصّ».

أمّا الثاني: فلأنّه خلط بين نسخ حكم الكتاب و تخصيصه، و الفرق بينهما واضح لايخفى.

____________________________

1. ابن

قدامة: المغني 9 / 4.

( 452 )

هذا وقد نقل ابن قدامة: انّ رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم و قالوا: ليس في كتاب الله إلاّ الجلد، و قالوا: الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون الصلاة، و الصلاة أوكد. فقال لهم عمر: وأنتم لا تأخذون إلاّ بما في كتاب الله؟ قالوا: نعم، قال: فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات و عدد أركانها، و ركعاتها، و مواقيتها، أين تجدونه في كتاب الله تعالى؟ و أخبروني عمّا تجب الزكاة فيه و مقاديرها و نُصُبها؟ فقالوا: انظرنا، فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئاً ممّا سألهم عنه في القرآن، فقالوا: لم نجده في القرآن. قال: فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا: لأنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فعله، و فعله المسلمون بعده، فقال لهم: فكذلك الرجم و قضاء الصوم فإنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ رجم و رجم خلفاؤه بعده والمسلمون، وأمر النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ بقضاء الصوم دون الصلاة، و فعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه(1).

* * *

____________________________

1. ابن قدامة: المغنى 9 / 5.

( 453 )

خاتمة المطاف

إلى هنا قد تعرّفت على عقائد الخوارج معتدليهم و متطرّفيهم، غير أنّ هناك مسائل فقهيّة ثلاث نطرحها في المقام:

1 _ حكم أولاد المشركين.

2 _ حكم تزويج المشركات.

3 _ حكم تزويج الكافرة غير المشركة.

و لعل القارئ الكريم يتعجّب من طرح هذه المسائل في الموسوعة التاريخية للعقائد قائلاً بأنّ البحث عن مثل هذه الموضوعات من واجبات الفقيه لا مؤرّخ العقائد، ولكنّه يزول تعجبّه إذا وقف على أنّ الخوارج المتطرّفين، يزعمون أنّ مخالفيهم من المسلمين مشركون أو كافرون، لا رتكاب الكبيرة من

المعاصي، وبما أنّ للمشرك و الكافر الواقعيين أحكاماً خاصّة في الفقه الإسلامي من حيث صيانة الدماء وإراقتها و جواز تزويجهم و حرمته، فهؤلاء كانوا يرتّبون على المسلمين و أولادهم، أحكام المشركين و الكافرين و أولادهم، فيبيحون

( 454 )

قتل أولاد المخالفين، و يحرّمون مناكحتهم بحجّة أنّهم مشركون، فناسب البحث عن هذه الأحكام الكليّة مع غضّ النظر عن عدم الموضوع في المقام لأنّ أهل القبلة والقرآن كلّهم موحدون لامشركون، مؤمنون لاكافرون، إلاّ من قام الدليل على شركه و كفره كالغلاة والنواصب.

و بما أنّ الأزارقة و أمثالهم أخطأوا في حكم المسألة حتى في مواردها الواقعيّة فجوزوا قتل أولاد المشركين و حرّموا انكاح الكافر غير المشرك، فلأجل ايقاف القارئ على مظان خطأهم في هذه المسائل نوالي البحث فيها واحدة بعد اُخرى و نقول:

1 _ أولاد المشركين:

إنّ الأصل الرصين في الدماء هو الحرمة، و لزوم صيانتها من الاراقة، فالانسان _ على وجه الاطلاق _ هو خليفة الله في أرضه يحرم دمه و عرضه و ماله للغير، فلا يجوز التعدّي على شيء منها إلاّ بدليل، ولأجل ذلك يقول سبحانه حاكياً عن نبيّه موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةَ بِغَيْرِ نَفْس لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً)(1) وقال سبحانه: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَ_سِرِينَ)(2) وقال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَ_دَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم)(3) و قال سبحانه: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَ_دَكُم مِنْ إِمْلَ_ق نَحْنُ نَرْزُقُكُ_مْ وَإِيَّاهُمْ)(4) و قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)(5) و: (مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ

____________________________

1. الكهف: 74.

2. المائدة: 30.

3. الأنعام: 140.

4. الأنعام 151.

5. الأنعام: 151.

( 455 )

النَّاسَ جَمِيعاً)(1)، إلى غير ذلك من الاّيات الناصّة على أنّ الأصل القويم والمرجع،

في الدماء هو الحرمة، فلا يجوز قتل الانسان على الاطلاق إلاّ بمسوّغ شرعي ورد النص بجواز قتله في الذكر الحكيم والسنّة النبوية.

و على ضوء ذلك فالاسلام حرّم دم المسلم، و دم الذمّي، و الكافر المهادن، و من يمتُّ إليهم بصلة، فإنّ أولادهم و إن كانوا غير محكومين بشيء من التكاليف إلاّ أنّ الولد يتبع الوالدين في الأحكام، و هذا ممّا لايختلف فيه اثنان من الفقهاء.

وأمّا الكافر الحربي فهو مهدور الدم لا دم أطفاله و ذراريه، إلاّ في مواضع خاصّة.

قال ابن قدامة: إنّ من اُسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب: النساء و الصبيان، فلا يجوز قتلهم و يصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي، لأنّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ نهى عن قتل النساء، والولدان، (متّفق عليه) و كان _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يسترقّهم إذا سباهم(2).

هذا فقيه أهل السنّة، و أمّا الشيعة، فقال الشيخ الطوسي: الآدميون على ثلاثة أضرب: نساء و ذريّة و مشكل و بالغ غير مشكل، فأمّا النساء و الذرية فإنّهم يصيرون مماليك بنفس السبي(3).

و قال المحقّق الحلي: الطرف الرابع في الاُسارى و هم ذكور و اناث، فالاناث يملكن بالسبي و لو كانت الحرب قائمة، وكذا الذراري(4).

____________________________

1. المائدة: 32.

2. ابن قدامة الحنبلي: المغني 10 / 400.

3. الطوسي: المبسوط 2 / 19.

4. المحقق: شرائع الإسلام 1 / 317.

( 456 )

إلى غير ذلك من الفتاوى المستفيضة من فقهاء الإسلام، وهم يتبعون في ذلك، النصوص الواردة عن النبي و خلفائه.

روى الكليني عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله قال: كان رسول الله إذا أراد أن يبعث سريّة، دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله و بالله وفي سبيل الله

و على ملّة رسول الله، لاتغلوا، و لا تُمثِّلوا و لا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأة، و لا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضظرّوا إليها(1).

وقد تضافرت الروايات عن أئمة الشيعة في ذلك.

روى البيهقي بسنده عن ابن عمر: أجلى رسول الله بني النضير، وأقرّ قريظة ومنَّ عليهم حتّى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم، و قسم نساءهم، و أولادهم، و أموالهم بين المسلمين، إلاّ بعضهم لحقوا برسول الله فآمنهم وأسلموا(2).

و روى أيضاً النافع أنّ عبد الله بن عمر أخبره أنّ أمرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله مقتولة، فانكر رسول الله قتل النساء والصبيان(3).

هذا هو حكم الإسلام في صبيان الكفّار و المشركين و نسائهم، فهلم معي ندرس فتوى الأزارقة في نساء الكفّار و أولادهم فقد استحلّ زعيمهم قتل الأطفال... قائلاً: إنّ نوحاً نبيّ الله كان أعلم بأحكام الله قال: (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَ_فِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً)(4) فسمّاهم بالكفّار و هم أطفال، و قبل أن يولدوا، فكيف ذلك في قوم

____________________________

1. الحر العاملي: الوسائل 11، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

2. البيهقي: السنن 6 / 323، كتاب قسم الفي والغنيمة.

3. المصدر نفسه: 9 / 77 كتاب السير.

4. نوح: 26 _ 27 .

( 457 )

ولا في قومنا؟ والله تعالى يقول: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَ_ئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ)(1)وهؤلاء كمشركي العرب، لا يقبل منهم جزية و ليس بيننا و بينهم إلاّ السيف أو الإسلام(2).

عزب عن المسكين، أوّلاً: إنّ تسميتهم بالكفّار ليس باعتبار أنّهم في حال كونهم معدومين كفّاراً فإنّ ذلك باطل بالاتّفاق، إذ كيف يوصف الشيء المعدوم بوصف من الأوصاف الوجودية، بل

المراد انّ الأبناء بعد خروجهم إلى عالم الوجود سيصيرون كفّاراً لنشوئهم في أحضان آبائهم الكافرين و أمّهاتهم الكافرات، فللوراثة و البيئة تأثيرهما في الأولاد، فلا يلدون في المستقبل إلاّ اُناساً يصيرون كفّاراً نظير توصيف الأشجار بالمثمرة في فصل الشتاء، والمراد: المثمرة في فصل الثمر.

و ثانياً: إنّ الذراري و النساء و إن كانت محكومات بالكفر و لكن علمت أنّ النبيّ الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ حرّم دماءهم وانّما سوّغ سبيهم و استرقاقهم، فليس كلّ كافر يجوز قتله. فما ذكره من الاستدلال أوهن من بيت العنكبوت.

و ثالثاً: إنّ كلّ ذلك في حق المشركين و الكّفار الحقيقيين، فما معنى تسرية هذه الأحكام إلى أهل القبلة و المسلمين الذين يشهدون بتوحيده و رسالة نبيّه و يقيمون الصّلاة و يعطون الزكاة و يصومون شهر رمضان و يحجّون البيت. أفيصحّ لنا تسمية هؤلاء كفّاراً، بحجّة ارتكابهم معصية كبيرة؟!

____________________________

1. القمر: 43.

2. لاحظ رسالة ابن الأزرق في جواب رسالة نجدة بن عامر، وقد مرّت في الفصل التاسع.

( 458 )

2 _ في نكاح المشركات:

قد تعرّفت على أنّ الخوارج يعدّون مخالفيهم مشركين و كافرين، فعلى قول الأزارقة جماهير المسلمين رجالاً و نساءً مشركون و مشركات، و على قول غيرهم فهم كافرون و كافرات، فحكم تزويج حرائرهم حكم تزويج الوثنيات و الكتابيات، ولأجل ذلك نذكر بعض كلماتهم ثم نعرض المسألة على الكتاب والسنّة.

كتب ابن الأزرق إلى عبد الله بن صفار و عبد الله بن اباص كتاباً جاء فيه:

و قال تعالى (لاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَ_تِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) فقد حرّم الله ولايتهم و المقام بين أظهرهم واجازة شهادتهم و أكل ذبائحهم و قبول علم الدين عنهم و مناكحتهم و مواريثهم(1).

و قد تقدّم في بيان عقائد الصفريه

أنّه نقل عن الضحاك الّذي هو منهم أنّه جوّز تزويج المسلمات من كفّار قومهم في دار التقيّة دون دار العلانية. و يريد من المسلمات: الحرائر من الخوارج. ومن «كفّار قومهم»: رجال سائر الفرق الاسلامية.

و يظهر من الخلاف الّذي حدث بين الابراهيمية و الميمونية أنّه يجوز بيع الجارية المؤمنة (الخارجية) من الكفرة أي المسلمون من سائر الفرق.

هذا ما وقفنا عليه من كلماتهم و نبحث عن المسألة بكلتي صورتيها:

الاُولى _ نكاح المشركة:

اتّفق علماء الإسلام على تحريم تزويج المشركات. قال ابن رشد: «و اتّفقوا على أنّه لايجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى: (وَلاَ تُمْسِكُواْ

____________________________

1. الطبري: التاريخ 4 / 438 _ 440.

( 459 )

بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)(1) واختلفوا في نكاحها بالملك»(2).

و قال الشيخ الطوسي في المبسوط: «الضرب الثاني، الذين لاكتاب لهم ولا شبهة كتاب، و هم عبدة أوثان فلا يحلّ نكاحهم و لا أكل ذبائحهم و لا يقرّون على أديانهم ببذل الجزية و لا يعاملون بغير السيف أو الإسلام بلا خلاف»(3).

هذا كلّه حول المشركات، فلو صحّ كون جماهير المسلمات من الفرق الاسلامية مشركات عند الأزارقة، لصحّ ما قال و لكنّه لم يصح _ وإن صحّت الأحلام _ لما عرفت أنّ للشرك حدّاً منطقياً في القرآن الكريم، و ابن الأزرق و أتباعه و إن كانوا قرّاء و لكنّه لم يتجاوز القرآن _ حسب تنصيص النبي الأكرم _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ عن تراقيهم ولم يصل إلى دماغهم و مراكز أفكارهم، فكيف يصحّ تسمية من ارتكب الكبيرة مشركاً و لو صحّ لما و جد في أديم الأرض مسلماً إلاّ إذا كان معصوماً.

3 _ نكاح الكافرة غير المشركة:

اختلف كلمة فقهاء الإسلام في نكاح الكافرة غير المشركة و يراد منها الكتابية لأنّها

كافرة غير مشركة، قال ابن رشد: اتّفقوا على أنّه يجوز أن ينكح الكتابية الحرّة(4).

هذا مالدى السنّة و أمّا ما لدى الشيعة فالمشهور عدم الجواز دواماً. قال الشيخ الطوسي: عند المحصّلين من أصحابنا لايحلّ أكل ذبائح أهل الكتاب

____________________________

1. الممتحنة: 10، و الأولى أن يستدل بآية صريحة أعني قوله سبحانه:(وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَ_تِ حَتَّى يُؤْمِنَّ...)_ البقرة: 221 _ .

2. ابن رشد: بداية المجتهد 2 / 43.

3. الطوسي: المبسوط 4 / 210.

4. ابن رشد: بداية المجتهد 2 / 43.

( 460 )

كاليهود و النصارى، و لا تزوّج حرائرهم، بل يقرّون على أديانهم إذا بذلوا الجزية، وفيه خلاف بين أصحابنا، و قال جميع الفقهاء (أهل السنّة): يجوز أكل ذبائحهم و نكاح حرائرهم(1).

و قال في الخلاف: المحصّلون من أصحابنا يقولون لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام، لا اليهود، و لا النصارى، و قال قوم من أصحاب الحديث من أصحابنا: يجوز ذلك، و أجاز جميع الفقهاء التزويج بالكتابيات و هو المروي عن عمر و عثمان و طلحة و حذيفة، و جابر، و روي أنّ عمّاراً نكح نصرانية، و نكح حذيفة يهودية، و روي عن ابن عمر كراهة ذلك و إليه ذهب الشافعي(2).

قال ابن قدامة: ليس بين أهل العلم _ بحمد الله _ اختلاف في حلّ حرائر نساء أهل الكتاب، و ممّن روى عنه ذلك، عمر و عثمان و طلحة و حذيفة و سلمان و جابر و غيرهم(3).

و على ضوء ذلك انّ فقهاء أهل السنّة ذهبوا إلى الجواز، وأمّا الشيعة فهم بين مانع و مجوّز، و نحن نعرض المسألة على الكتاب.

استدلّ المانع بآيات:

1 _ قال تعالى : (وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَ_تِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُّشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا

وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَ_ئِكَ يَدْعُونَ إِلى الْنَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَ_تِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(4).

____________________________

1. الطوسي: المبسوط 4 / 210.

2. الطوسي: الخلاف 2 / 282، المسألة 84 من كتاب النكاح، و قد نسب إلى فقهاء الشيعة أقوال اُخرى ذكرناها في محاضراتنا الفقهية في النكاح، لاحظ: الحلّي، مختلف الشيعة: 82.

3. ابن قدامة: المغني 5 / 52.

4. البقرة: 221.

( 461 )

2 _ قال تعالى : (وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُْمحْصَنَ_تِ الْمُؤْمِنَ_تِ فَمِن مَّا مَ_لَكَتْ أَيمَ_نُكُمِ مِّنْ فَتَيَ_تِ_كُمُ الْ_مُؤْمِنَ_تِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَ_نِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1).

استدّل بالآية على المنع بوجهين:

أ _ إنّ الآية تأمر من لم يجد ما يتزوّج به الحرائر المؤمنات من المهر و النفقة، أن ينكح الإماء المؤمنات فإنّ مهور الإماء أقلّ و معونتهنّ أخف عادة، فلو جاز نكاح الكافرة في هذه الحالة لزم جواز نكاح الأمة المؤمنة مع الحرّة الكافرة، و لم يقل به أحد، لأنّه من قبيل الجمع بين الحرّة و الأمة.

ب _ إنّ التوصيف بالمؤمنات في قوله: (مِّنْ فَتَيَ_تِ_كُمُ الْ_مُؤْمِنَ_تِ) يقتضي أن لا يجوز نكاح الفتيات الكافرات مع انتفاء الطول، و ليس إلاّ لامتناع نكاحهنّ مطلقاً، للاجماع على انتفاء الخصوصية بهذا الوجه(2).

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ أقصى ما يستفاد من الآية على القول بمفهوم الوصف أنّه لا يجوز عند عدم الطول، نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة، و أمّا عدم جواز تزويج الحرّة الكافرة مع الطول أو عدمه، فلا تدلّ عليه الآية، لأنّ المفهوم ينفي الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف لا عن موضوع آخر، والموضوع للجواز هو ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فمقتضى المفهوم عدم جواز

نكاح الأمة الكافرة في هذه الحال، و أمّا الحرّة الكافرة، فهو خارج عن موضوع البحث نفياً و اثباتاً.

و يلاحظ على الوجه الثاني: أنّ التوصيف بالمؤمنات يقتضي أن لايجوز نكاح الكافرة من الاماء مع انتفاء الطول و لكن لم يعلم انّ وجه حرمتها هو امتناع

____________________________

1. النساء: 25.

2. الشيخ محمّد حسن النجفي: جواهر الكلام 3 / 28.

( 462 )

نكاحها مطلقاً، سواء كانت أمة أم حرّة، و من أين يدعى الاجماع على انتفاء خصوصية في الأمة؟ إذ من الممكن أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة دون الكافرة الحرّة فيجوز نكاحها حتى مع التمكّن من الأمة المسلمة.

3 _ قال تعالى: (لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَ نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَ_ئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِْيمَ_نَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ)(1).

يلاحظ عليه: أنّ الآية واردة في حقّ الضعفاء من المسلمين، و لا صلة لها بالكفرة، فهؤلاء كانوا يوالون اليهود و يفشون إليهم أسرار المؤمنين، و يجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي وأصحابه، ففي هذه الظروف نزل قوله سبحانه: (لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)أي لا تجتمع موالاة الكفّار مع الإيمان، اي موالاتهم بما هم كفّار، وأمّا حبّهم لأجل اُمور اُخرى فلاصلة له بالآية، و لا يتزوّج المسلم من الكافرة لأجل موالاة الكافرة، بل لأجل دفع الشهوة أو تعبئة وسائل الحياة.

و أضعف منه الا ستدلال بقوله سبحانه:

4 _ قال تعالى : (لاَ يَسْتَوِي أَصْحَ_بُ النَّارِ وَأَصْحَ_بُ الْجَنَّةِ أَصْحَ_بُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ)(2)إذ لاصلة بين الآية و موضوع البحث فإنّها تنفي كون المؤمن و الكافر عند الله سيّان، وأمّا عدم جواز المعاملة و

المناكحة فلا تدلّ عليه .

5 _ استدلَّ أيضاً: انّ أهل الكتاب مشركون لقوله سبحانه: (وَقَالَتِ

____________________________

1. المجادلة: 22.

2. الحشر: 20.

( 463 )

الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَ_رَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)(1) حيث جعلوا الإبن المزعوم شريكاً للأب في الالوهية، و قال سبحانه: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَ_ثَة)(2).

و قال: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_نَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ_هاً وَ حِداً لاَّ إِلَ_هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَ_نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(3) فهذه الآيات تثبت الصغرى، أي كونهم مشركين، وأمّا ما يدلّ على الكبرى أي عدم جواز نكاح المشركات، فقد مرّ في كلام المانع.

يلاحظ عليه أنّ هنا أمرين:

أ _ كون النصارى و اليهود مشركين في عقيدتهم، و هذا لاكلام فيه.

ب _ كون المشرك الوارد في قوله (وَلا تَنْكحُوا المُشْرِكات) عامّاً يعمّ الوثنّيين و غيرهم، و لكنّ هذا غير ثابت فإنّ عنوان المشرك في القرآن يختصّ بغير أهل الكتاب بشهادة المقابلة في كثير من الآيات بينهم وبين أهل الكتاب، وإليك بعضها:

(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَ_بِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِّنْ رَبِّكُمْ)(4)، وقد عرفت تحقيق ذلك عند البحث عن حدّ الشرك و الإيمان، فلانعيد(5).

فهذه الآية و غيرها تثبت أنّ الشرك المتّخذ موضوعاً لكثير من الأحكام

____________________________

1. التوبة: 30.

2. المائدة: 73.

3. التوبة: 31.

4. البقرة: 105.

5. لاحظ الآيات: آل عمران 186. المائدة 82 و غيرهما أيضاً.

( 464 )

لايشمل أهل الكتاب في مصطلح القرآن و إن كانوا مشركين حسب الواقع، فالكلام في سعة موضوع الحكم (تحريم نكاح المشركات) وضيقه حسب اصطلاح القرآن.

6 _ قال تعالى : (يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْم_ُؤْمِنَ_تُ مُهَ_جِرَ ت فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَ_نِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَ_ت فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ

لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَ لِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(1).

وجه الاستدلال انّ الكوافر جمع كافرة، و العصمة المنع، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج و عصمته، و يكون اطلاقها دليلاً على حرمة عقد الكافرة مشركة أو ذمية.

يلاحظ عليه: أنّ الآية ظاهرة في الوثنية بشهادة سياق الآيات، و سبب نزولها فإنّها نزلت بعد التصالح في الحديبية حيث تصالح رسول الله أن يردّ كل من أتى من قريش إلى جانب المسلمين من دون عكس، و بعد ما ختم الكتاب جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية و قد أسلمت، فأقبل زوجها في طلبها و كان كافراً، فنزلت الآية، فكان رسول الله يردّ من جاءه من قريش من الرجال، ولا يردّ من جاءته من النساء قائلاً بأنّ التصالح لايشمل إلاّ الرجال.

على أنّ ظاهر الآية هو المنع من الاقامة مع الزوجة الكافرة و هذا لايتمّ في الذمّية لصحّة نكاحهنّ استدامة إذا أسلم أحد الزوجين، اجماعاً و إن لم نقل بالصحّة ابتداء، و هذا قرينة على انصراف الآية عن الذمّية إلى الوثنية، و بذلك يظهر ضعف ما أفاده الطبرسي حيث ادّعى دلالة الآية على عدم جواز العقد

____________________________

1. الممتحنة: 10.

( 465 )

على الكافرة مطلقاً، بحجّة أنّ الآية عامّ و ليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن، لأنّ المعتبر عموم اللفظ، لاالسبب(1).

إلى هنا تمّ ما يمكن الاستدلال به من الآيات على تحريم نكاح الكافرات، وإليك ما استدلّ به القائل بالجواز من الذكر الحكيم أعني قوله سبحانه: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَ_تُ وَطَعَامُ

الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَ_بَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَ_تُ مِنَ الْمُؤْمِنَ_تِ وَالُْمحْصَنَ_تُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكَتِ_بَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَ_فِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَان)(2).

الآية صريحة في جواز نكاح المحصنات من أهل الكتاب، والمتيقّن منها هو الذمّية أو من هو في حكمها كالمهادنة، لا الحربية.

و حمل الآية على النكاح الموقّت بقرينة ورود لفظ «الاُجور» في الآية مكان «المهور» ليس بتام لأنّها وردت في غير موضع من القرآن، و اُريد منه المهر في النكاح الدائم. قال سبحانه في تزويج الاماء عند عدم الطول: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3) و قال تعالى و هو يخاطب النبي: (إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَ جَكَ الَّ_تِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)(4) ومن المعلوم أنّ المراد هو التزويج الدائم إذ لم يكن بين أزواج النبي من تزوّج بها متعة. نعم المراد من قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَ__اَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(5) هو النكاح الموقّت، بقرينة قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) مضافاً إلى الروايات المتضافرة في المقام.

و ربّما يحتمل كون الآية منسوخة لما ورد من النهي في آيتي البقرة

____________________________

1. الطبرسي: مجمع البيان 5 / 274.

2. المائدة: 5.

3. النساء: 25.

4. الأحزاب: 50.

5. النساء: 24.

( 466 )

و الممتحنة، و لكن قد عرفت عدم دلالة الآيتين على مورد البحث فضلاً عن كونهما ناسختين.

على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول الله، فهي تنسخ ما قبلها، و لا تُنسخ، روى العياشي عن علي قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله بآخره، و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء(1).

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى المسألة من القرآن الكريم، و أمّا البحث عنها من جانب

السنّة فهو موكول إلى محلّه، و قد أوضحنا الكلام فيها في مسفوراتنا الفقهية.

هذا آخر الكلام في عقائد الخوارج و اُصولهم. بقى الكلام في التعرّف على شخصيّاتهم في العصور الأولى و هذا ما يوافيك في البحث الآتي الّذي عقدناه بعنوان «خاتمة المطاف».

* * *

____________________________

1. الحويزي: نور الثقلين 1 / 483.

( 467 )

خاتمة المطاف:

رجال الخوارج في العصور الاُولى

قد تعرّفت فيما سبق على الشخصيات البارزة للاباضيّة، ولا بد من التطرّق إلى رجال الخوارج من غيرهم، و نذكر في المقام المعروفين منهم، و إن كان الحكم بكونهم من الخوارج يحتاج الى تتبّع وافر، فإنّ الشهرة في المقام لاتفيد إلاّ الظن. و ربّما يكون رميهم بأنّهم منهم صدر من غير أهله تعنّتاً و حقداً، و على كل تقدير فقد ذكر ابن ابي الحديد لفيفاً ممّن كان يرى رأي الخوارج، و نذكر بعض ما ذكر(1):

1 _ عكرمة البربري (ت / 105):

و صفه الذهبي بقوله «أحد أوعية العلم، تُكلّم فيه لرأيه لالحفظه، فاتّهم

____________________________

1. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5 / 76.

( 468 )

برأي الخوارج، وقد وثّقه جماعة و اعتمده البخاري، و أمّا مسلم فتجنّبه و روى له قليلاً مقروناً بغيره، و أعرض عنه مالك، و تحايده إلاّ في حديث أو حديثين. و عن عمرو بن دينار، قال: رُفع إلى جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، فجعل جابر بن زيد يقول: هذا مولى ابن عباس، هذا البحر فَسَلوه. و قد وصفه شهر بن حوشب و جابر بن زيد بأنّه حبر هذه الاُمة و أعلم الناس، و مع ذلك فقد ضعّفه يحيى بن سعيد الأنصاري و أيّوب و ذكرا عكرمة، فقال يحيى: كذّاب، و قال أيّوب، لم يكن بكذّاب. و عن زيد

بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت على علي بن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش، فقلت له: ألا تتّق الله، فقال: إنّ هذا الخبيث يَكذِب على أبي. و قال محمّد بن سيرين عن عكرمة، فقال: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنّة و لكنّه كذّاب. و قال ابن أبي ذئب: رأيت عكرمة، و كان غير ثقة. و قال محمّد بن سعد: كان عكرمة كثير العلم و الحديث، بحراً من البحور، و ليس يُحتَجّ بحديثه، و يتكلّم الناس فيه.

هذه أقوال الناس في حقّه، وإليك قول نفسه في حقّه:

قال: كان ابن عباس يضع في رجلي الكَبْلَ على تعليم القرآن و الفقه، و قال: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت اُفتي بالباب و ابن عباس في الدار.

و هذا قوله في حقّ نفسه، و لا يحتجّ بقول الإنسان في حقّه إذا كان مدحاً، و يؤيّد كون الرجل خارجيّاً ما رواه خالد ابن أبي عمران قال: كنّا بالمغرب و عندنا عكرمة في وقت الموسم فقال: وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً، و عن يقعوب الحضرمي عن جدّه قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلاّ كافر، قال: وكان يرى رأي الاباضيّة. و عن يحيى بن بكير قال: قدم عكرمة مصر و هو يريد المغرب، قال: فالخوارج

( 469 )

الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

قال ابن المديني: كان يرى رأي نجدة الحروري. و قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج. قال: وادّعى على بن عباس أنّه كان يرى رأي الخوارج.

و عن خالد بن نزار: حدثنا عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح: انّ عكرمة كان اباضياً، و عن

أبي طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم الناس، ولكنّه كان يرى رأي الصفريّة، ولم يدع موضعاً إلا خرج إليه: خراسان و الشام و اليمن و مصر و إفريقيا، كان يأتي الاُمراء فيطلب جوائزهم، وأتى الجَنَدَ إلى طاوس، فأعطاه ناقةً.

و قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه متولّي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده. و روى سليمان بن معبد السّنجي قال: مات عكرمة وكُثير عَزَّة في يوم، فشهد الناس جنازة كُثير، و تركوا جنازة عكرمة. و قال عبد العزيز الدراوردي: مات عكرمة و كثير عَزَّة في يوم، فما شهدهما إلاّ سُودان المدينة. و عن إسماعيل بن أبي اُويس، عن مالك، عن أبيه، قال: اُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس و كثير عزّة بعد العصر، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما. و قال جماعة: مات سنة خمس و مائة، و قال الهيثم و غيره: سنة ست، و قال جماعة: سنة سبع و مائة. و عن ابن المسيب أنّه قال لمولاه بُرْد: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. و يروى ذلك عن ابن عمر قاله لنافع(1).

وقد روي شيء كثير منه في التفاسير و هي مليئة بأقواله، و يظهر ممّا نقل عنه أنّه يرى الحلف بالطلاق باطلاً، روى الذهبي عن عاصم الأحول، عن عكرمة

____________________________

1. الذهبي: ميزان الاعتدال 3 / 93 _ 97 برقم 5714.

( 470 )

في رجل قال لغلامه: إن لم اجلدك مائة سوط فامرأتي طالق. قال: لايجلد غلامه و لاتطّلق امرأته، هذه من خطوات الشيطان(1).

و ترجمه أبو حاتم الرازي في الجرح و التعديل بذكر نقول مختلفة عنه(2).

و قد ترجمه ابن حجر العسقلاني

في تهذيب التهذيب مفصّلاً، و ذكر أيضاً الأقوال المتضاربة في حقّه (3). و ممّا قال فيه، قال علي بن المديني: كان عكرمة يرى رأي نجدة، و قال يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة، و قال عطاء: كان اباضياً، و قال الجوزجاني: قلت لأحمد: عكرمة كان اباضياً؟ فقال: يقال إنّه كان صفريّاً. و قال خلاد بن سليمان، عن خالد بن أبي عمران: دخل علينا عكرمة أفريقيا وقت الموسم فقال: وددت أنّي اليوم بالموسم بيدي حربة أضرب بها يميناً و شمالاً. قال: فمن يومئذ رفضه أهل أفريقيا، و قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج وزعم أنّ مولاه كان كذلك، و قال أبو خلف الخزاز عن يحيى البكّاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتّق الله ويحك يا نافع، و لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس(4).

2 _ قطري بن الفجاءة (ت / 78):

أبو نعامة: قطري بن الفجاءة، واسمه جعونة، المازني الخارجي، خرج

____________________________

1. الذهبي: ميزان الاعتدال 3 / 97 برقم 5714، اشارة إلى قوله تعالى (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الْشَّيْطَانِ) _ البقرة: 208 _ .

2. أبو حاتم الرازي: الجرح و التعديل 7 / 6 _ 11 .

3. ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 7 / 234 _ 242 برقم 476، و لكنّه لم يترجمه في لسان الميزان مع وروده في الميزان للذهبي كما عرفت.

4. المصدر نفسه: 7 / 237.

( 471 )

في زمن مصعب بن الزبير لمّا ولي العراق نيابة عن أخيه: عبد الله بن الزبير، و كانت ولاية مصعب في سنة ست و ستين للهجرة، قيل: بقى قطري عشرين سنة يقاتِل و يسلم عليه بالخلافة و هو

يستظهر عليهم. و لم يزل إلى أن توجّه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي فظهر عليه و قتله في سنة ثمان و سبعين للهجرة.

و هو معدود في جملة الخطباء العرب المشهورين بالبلاغة و الفصاحة(1).

نقل الجاحظ خطبة واحدة منه، و التأمّل فيها يعرب أنّه كان منطيقاً ذلق اللسان، قال فيها: أمّا بعد فإنّي اُحذّركم الدنيا، فإنّها حلوة خضرة، حُفَّت بالشهوات، و راقت بالقليل، و تحبّبت بالعاجلة، و حُلِيتْ بالآمال، و تزيّنت بالغرور، لاتدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرّارة، خوَّانة غدّارة(2).

روي أنّ الحجاج قال لأخيه: لأقتلنّك، فقال: لم ذلك؟ قال: لخروج أخيك، قال فإنّ معي كتاب أمير المؤمنين (يريد عبد الملك) أن لا تأخذني بذنب أخي، قال: هاته، قال: فمعي ما هو أوكد منه، قال: ما هو؟ قال: كتاب الله عزّوجل يقول: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(3) فعجب منه و خلّى سبيله(4).

و ترجمه خير الدين الزركلي في الأعلام(5) و يظهر فيما نقله من تاريخ الطبري أنّه توفّي سنة 77 ه_. و الله العالم.

3 _ عمران بن حطّان السدوسي البصري (ت / 84):

عمران بن حطّان السدوسي البصري الخارجي، روى عن عائشة، و عنه

____________________________

1. ابن خلكان: و فيات الأعيان 4 / 94 _ 95.

2. الجاحظ: البيان والتبيين 2 / 112.

3. الأنعام: 164.

4. ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 94 _ 95.

5. الاعلام: 5 / 200.

( 472 )

صالح بن سَرج، لايتابع على حديثه، قاله العقيلي، قال: و كان خارجياً. روى موسى بن إسماعيل عن عمرو بن العلاء ولقيه جرز، حدثنا صالح بن سرج، عن عمران بن حطّان، عن عائشة في حساب القاضي العادل. قلت كان الأولى أن يلحق الضعف في هذا الحديث بصالح أو بمن بعده، فإنّ عمران صدوق في

نفسه، قد روى عنه يحيى بن ابي كثير، و قتادة، و محارب بن دثار. و قال العجلي: تابعي ثقة. و قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء، أصحّ حديثاً من الخوارج، فذكر عمران بن حطان و أبا حسان الأعرج. و قال قتادة كان لاّيتهم في الحديث. و روى يعقوب بن شيبة أنّه بلغه أنّ عمران بن حطّان كانت له بنت عم كانت ترى رأي الخوارج فتزوّجها ليردّها عن ذلك فصرفته الى مذهبها. وكان عمران من نظراء جرير و الفرزدق في الشعر، و هو القائل:

حتى متى تُسقى النفوس بكأسها * ريب المنون وأنت لاه ترتع

الأبيات.

مات سنة أربع و ثمانين (1).

و ترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب و قال: ذكر أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل عن محمّد بن بشر العبدي الموصلي قال: لم يمت عمران بن حطّان حتى رجع عن رأي الخوارج انتهى، هذا أحسن ما يعتذر به عن تخريج البخاري له، و أمّا قول من قال: إنّه خرج ما حمل عنه قبل أن يرى ما رأى ففيه نظر، لأنّه اخرج له من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، و يحيى إنّما سمع منه في حال هربه من الحجاج و كان الحجاج يطلبه ليقتله من أجل المذهب، و قصته في هربه مشهورة. و قال العقيلي: عمران بن حطّان لايتابع و كان يرى رأي الخوارج يحدّث عن عائشة و لم يتبّين سماعه منها.

____________________________

1. الذهبي: ميزان الاعتدال 3 / 235 _ 236 برقم 6277.

( 473 )

و قال ابن حبّان في الثقات: كان يميل إلى مذهب الشراة. و قال ابن البرقي: كان حرورياً. و قال الدارقطني: متروك لسوء اعتقاده و خبث مذهبه. و قال المبرد في الكامل: كان رأس

القعد من الصفرية و فقيههم و خطيبهم و شاعرهم، و القعدة: الخوارج، كانوا لايرون بالحرب بل ينكرون امراء الجور حسب الطاقة و يدعون إلى رأيهم و يزيّنون مع ذلك الخروج و يحسّنونه. لكن ذكر أبو الفرج الاصبهاني انّه إنّما صار قعدياً لما عجز عن الحرب والله أعلم، قلت: وكان من المعروفين في مذهب الخوارج، و كان قبل ذلك مشهوراً بطلب العلم و الحديث ثم ابتلي، و أنشد له من شعره:

لا يعجز الموت شيء دون خالقه * و الموت يفني إذا ما ناله الأجل

و كل كرب أمام الموت منقشع * و الكرب و الموت ممّا بعده جلل(1)

و في الأغاني إنّما صار ابن حطّان من القعدية لأنّ عمره طال وكبر و عجز عن الحرب و حضورها، فاقتصر على الدعوة و التحريض بلسانه، و كان أوّلاً مشمّراً بطلب العلم والحديث ثمّ بلي بذلك المذهب، وقد أدرك صدراً من الصحابة و روى عنهم و روى عنه أصحاب الحديث. وله شعر في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي _ لعنه الله _ قاتل أمير المؤمنين و قائد الغر المحجّلين زوج البتول و صهر الرسول _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ :

لله در المرادي الّذي سفكت * كفّاه مهجة شر الخلق إنسانا

أمسى عشية غشاه بضربته * معطى مناه من الآثام عريانا

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه * أوفى البريّة عند الله ميزانا

____________________________

1. ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 8 / 113 _ 114 برقم 223. راجع الاصابة 3 / 178.

( 474 )

و قد أجابه عنها السيد الحميري الشيعي و هي:

قل لابن ملجم والأقدار غالبة * هدّمت و يلك للإسلام أركانا

قتلت

أفضل من يمشي على قدم * و أوّل الناس إسلاماً وإيمانا

و أعلم الناس بالإيمان ثمّ بما * سنّ الرسول لنا شرعاً و تبيانا

صهر الرسول و مولاه و ناصره * أضحت مناقبه نوراً و برهانا

الابيات(1).

و قد ناضله أصحاب الولاء لآل الرسول باشعار كثيرة مضت بعضها فلا حظ .

و في الختام: من أراد التبسّط في ترجمة الرجال فليرجع إلى «الخوارج في العصر الأموي» للدكتور نايف معروف فقد ذكر قسماً كثيراً من أشعاره و حياته قبل أن يلحق بالخوارج فلاحظ.

4 _ الطرماح بن حكيم (ت 125):

الطرماح بن حكيم الطائيّ الخارجي. و صفه الجاحظ في البيان و التبيين أنّه كان خارجيّاً من الصفرية، ولد ونشأ في الشام، و انتقل إلى الكوفة، فكان معلّماً فيها. و اتصل بخالد بن عبد الله القصري فكان يكرمه و يستجيد شعره، و كان هجّاءً، معاصراً للكميت صديقاً له لايكادان يفترقان، و ذكر شيخنا في الذريعة أنّ المرزباني عمل كتاباً باسم «أخبار الطرمّاح» كما عمل كتاباً آخر باسم «أخبار ابي تمام»(2).

____________________________

1. البغدادي: خزانة الأدب 2 / 436 _ 437.

2. الزركلي: الأعلام 3 / 225، و آغا بزرك الطهراني: الذريعة 1 / 238 برقم 1764.

( 475 )

5 _ الضحّاك بن قيس:

الضحاك بن قيس مذكور في التاريخ بما أنّه قائد عسكري قد دوّخ الدولة الأموية في عصره، ولم يوصف بشيء من العلم والشعر والأدب سوى القيادة، و قد نقل ابن الأثير حروبه مع الأمويين و إليك خلاصة ما ذكره في تاريخه على نحو يوقفه على ترجمة الرجل على نحو الاجمال:

أرسل مروان بن محمد _ آخر الخلفاء الأمويين _ جيشاً لحرب الضحاك سنة سبع و عشرين و مائة، فالتقوا بالنخيلة فاقتتلوا قتالاً شديداً و انتصر الضحاك عليهم، و

دخل ضحاك الكوفة مستولياً عليها(1).

ثم سار الضحاك من الكوفة إلى واسط يريد حرب فلول المنهزمين، و كانوا قد استعدّوا لحربه، فتحاربوا شعبان و شهر رمضان و شوال و القتال بينهم متواصل.

ثمّ اصطلحوا و ذهب الضحاك إلى الكوفة(2)، و كاتب أهل الموصل ليقدم عليهم ليمكّنوه منها فسار بجماعة من جنوده بعد عشرين شهراً حتى انتهى إليها ففتح أهل البلد، فدخلها الضحاك و قتل الوالي عليها من قبل مروان و عدّة يسيرة كانوا معه و ذلك بعد أن حاربوه.

و بلغ مروان خبره و هو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله و هو خليفته في الجزيرة، يأمره أن يسير إلى نصيبين في من معه يمنع الضحاك من توسّط الجزيرة، فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، و سار الضحّاك و معه ما يزيد على مائة ألف. و وجّه قائدين من قواده إلى السرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف، فقاتله بها، فوجّه إليهم مروان من أبعدهم عن

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل 5 / 332 _ 336.

2. ابن الاثير: الكامل 5 / 349.

( 476 )

السرقة.

و سار مروان إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفر قوتا من اعمال ماردين فقاتله يومه أجمع، فلمّا كان عند المساء ترجّل الضحاك و معه من ذوي الثبات والبصائر نحو من ستّة آلاف، ولم يعلم أكثر أهل عسكره بما كان، فأحدقت بهم خيول مروان و ألحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة.

و انصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى معسكرهم و لم يعلموا بقتل الضحاك و لم يعلم به مروان يضاً، و جاء بعض من عاينه من أصحابه فبكوا وناحوا عليه، و جاء قائد من قواده إلى مروان فأخبره بقتله

فأرسل معه النيران و الشمع، فطافوا عليه فوجدوه قتيلاً و في وجهه و رأسه أكثر من عشرين ضربة فكّبروا فعرف عسكر الضحاك انّهم قد علموا بقتله.

و بعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها(1).

6 _ معمر بن المثنى (110 _ 213):

أبو عبيدة، التيمي(2) البصري، يصفه الخطيب في تاريخه بالنحويّ العلاّمة، يقال: إنّه ولد سنة 110 في الليلة الّتي ولد فيها الحسن البصري، و نقل عن الجاحظ أنّه قال: لم يكن في الأرض خارجي و لاجماعيّ أعلم بجميع العلوم منه(3).

قال ابن قتيية: كان الغريب(4) أغلب عليه و اخبار العرب و أيّامها، وكان

____________________________

1. ابن الاثير: الكامل 5 / 349.

2. كان تيميّاً بالولاء.

3. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 13 / 252 برقم 7210.

4. المراد غريب اللغة أو غريب القرآن و الحديث.

( 477 )

مع معرفته ربّما لايقم البيت إذا أنشده، حتى يكسره، و كان يخطأ إذا قرأ القرآن الكريم نظراً، و كان يبغض العرب، و ألّف في مثالبها كتباً، و كان يرى رأي الخوارج(1).

و نقل ابن خلكان عن بعضهم: أنّ هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة 188، و قرأ عليه بها أشياءً من كتبه، و أسند الحديث إلى هشام بن عروة و غيره و روى عنه علي بن المغيرة الأثرم، و أبو عبيد القاسم بن سلام، و أبو عثمان المازني، و أبو حاتم السجستاني و عمر بن شبة و غيرهم.

و لأجل إلمام القارئ على نموذج من تفسيره نأتي بما يلي:

سأله رجل عن قوله سبحانه: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَ_هَا فِتْنَةً لِّلظَّ_لِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَ_طِينِ * فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ )(2).

سأله عن

قوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَ_طِينِ) و قال: إنّما يقع الوعد و الايعاد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف فأجاب: إنّما كلّم الله العرب على قدر كلامهم. أما سمعت قول أمرئ القيس:

أيقتلني و المشرفّي مُضاجعي * و مسنونة زرقٌ كأنياب أغوال

و هم لم يروا الغول قطّ، و لكنّه لمّا كان أمر الغول يهولهم، أو عدوا به.

ثم يقول: و أزمعت منذ ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا و أشباهه و لما يحتاج إليه من علمه، ولمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الّذي سمّيته المجاز(3).

____________________________

1. ابن قتيية: المعارف 243.

2. الصافات: 62 _ 66.

3. ابن خلكان: و فيات الاعيان 5 / 236 تحقيق الدكتور احسان عباس. ولا حظ: مجاز القرآن لأبي عبيدة ج2.

( 478 )

و قد ذكر ابن خلّكان أنّه لم يزل يصنّف حتّى مات، و تصانيفه تقارب مائتي تصنيف،، فمنها كتاب «مجاز القرآن الكريم» و كتاب «غريب القرآن» و كتاب «معاني القرآن» و كتاب «غريب الحديث»...(1) و يبدو من فهرس تصانيفه أن أكثرها يدور بين اللغة و الشعر و التاريخ و ما يشابهها، و الّذي أثار عواطف الاُمّة العربية ضدّه أنّه ألّف كتاب «لصوص العرب» و كتاب «فضائل الفرس»، و من المعلوم أنّ العصبية العمياء لاتحبّ كلا التأليفين.

يقول ابن خلكان: لمّا جمع كتاب المثالب، و لعلّ مراده هو «لصوص العرب»، قال له رجلٌ مطعون النسب: بلغني أنّك عبت العرب جميعها، فقال: «و ما يضّرك، أنت من ذلك بريء»! يعني أنّه ليس منهم، و يذكر ابن خلكان أيضاً: أنّه لايقبل أحد من الحكّام شهادته لأنه كان يتّهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي: دخلت أنا و أبو عبيدة يوماً المسجد فإذا على الاسطوانة الّتي يجلس إليها أبو

عبيدة مكتوب على نحو من سبعة أذرع.

صلّى الإله على لوط و شيعته * أبا عبيدة قل بالله آمينا

فقال لي: يا أصمعي! امحُ هذا، فركبت على ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال: أثقلتني و قطعت ظهري، فقلت له: قد بقي الطاء. فقال: هي شرّ حروف هذا البيت!(2).

أقول: إنّ الأصمعي كان ممّن ينصب العداء على عليّ، و أبا عبيدة كان من الخوارج، و الجنس إلى الجنس يميل «والمرء على دين خليله و قرينه» و قال سبحانه حاكياً عن المجرمين (يَ_وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً)(3) و قال

____________________________

1. ابن خلكان: و فيات الاعيان 5 / 238 تحقيق الدكتور احسان عباس.

2. المصدر نفسه: 242.

3. الفرقان: 28.

( 479 )

سبحانه: (الاَْخِلاَّ ءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْم_ُتَّقِينَ)(1)، و مع ذلك كلّه فيحتمل أن تكون القصّة مختلقة من جانب الأعداء لأنّهم كانوا يرون أمثال أبي عبيدة من المبتدعة الذين تجوز مباهتتهم إبعاداً للناس عن ضلالهم.

مجاز القرآن لأبي عبيدة:

لم يصل إلينا من كتب أبي عبيدة مع كثرتها غير كتاب مجاز القرآن، و قد عرفت أنّ ابن خلّكان ذكر له أسماء كتب ثلاثة حول القرآن و زاد ابن النديم كتاب «اعراب القرآن» و هل ألّف أبو عبيدة كتباً بهذه الأسماء أو هي أسماء متعدّدة و المسمّى واحدٌ؟ فقد رجّح محقّق كتاب مجاز القرآن الثاني و قال: «و الّذي نظنّه أن ليس هناك لأبي عبيدة غير كتاب المجاز»، و أنّ هذه الأسماء اُخذت من الموضوعات الّتي تناولها «المجاز» فهو يتكلّم في معاني القرآن، و يفسّر غريبه، و في أثناء هذا يعرض لاعرابه، و يشرح أوجه تعبيره، و ذلك ما عبّر عنه أبو عبيدة بمجاز القرآن، فكلّ سمّى الكتاب بحسب أوضح الجوانب الّتي

تولّى الكتاب تناولها، و لفتت نظره أكثر من غيرها، ولعلّ ابن النديم لم ير الكتاب، و سمع هذه الأسماء من أشخاص متعدّدين فذكر لأبي عبيدة في موضوع القرآن هذه الكتب المختلفة الأسماء.

ثمّ إنّ التأليف في غريب القرآن كثير، و ربّما يعبّر عن بعضه بمعاني القرآن، كما هو الحال في كتاب الفرّاء، و ربما يعبّر عنه بمجازات القرآن كما هو الحال في تأليف الشريف الرضي، و أمّا الفرق بين كتاب أبي عبيدة و كتاب الرضيّ و قد اشتهر الأوّل بمجاز القرآن، و الثاني بمجازات القرآن، هو أنّ الأوّل يستعمل لفظ المجاز بمعنى مفهوم الكلمة و الآية، بخلاف الثاني فإنّه يستعمله في الجامع بين

____________________________

1. الزخرف: 67.

( 480 )

المجاز اللغويّ و الكناية و الاستعارة، و لكل مزية، و على كلّ تقدير فأثر أبي عبيدة أثر متقن مفيد جدّاً، و قد قام بتحقيقه الدكتور محمّد فؤاد سزگين في جزئين، و قد طبع للمرّة الثانية في سنة 1401 ه_ .

و قد اختلفت الأقوال في تاريخ و فاته، فنقل الخطيب عن بعضهم أنّه مات سنة 209 ه_ ، و عن آخر سنة 211 ه_ ، و عن ثالث 210 ه_ و قيل سنة 213، و الله العالم.

و لنكتف بما ذكر من رجال الخوارج في العصور الأولى و قد تعرّفت على عدّة من رجالهم في ثنايا الكتاب لاسيّما القادة العسكريين.

بقيت هنا كلمة و هي أن نعطف نظر القارئ إلى ما روي عن النبي الأكرم في حقّ المحكّمة الاُولى و أثر في حقّهم عن الصحابة و التابعين لهم باحسان، و قد جميعها إمام الحنابلة أحمد بن حنبل و رواه عنه ابنه عبد الله في كتاب «السنّة»(1) واليك متونها مع أسانيدها:

بما أنّ الاباضية لايرون

أنفسهم خوارج و نحن أيضاً نربئ بهم عن كونهم منهم على الشروط الّتي قدّمناها في الكتاب، فلا أراهم متضايقين من هذه الآثار الّتي لو تدّبر فيها القارئ يراها من قسم المتواتر المعنوي و لا يحقّ لأحد أن يشكّ في ما يهدف إليه جمعها:

المأثور حول الخوارج:

1 _ حدثني أبي، حدثنا وكيع جرير بن حازم و أبو عمرو بن العلاء، عن ابن سيرين سمعاه عن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيّه» قال عبيدة: قلت لعلي:

____________________________

1. عبد الله بن أحمد بن حنبل: السنّة 267 _ 286.

( 481 )

أنت سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة.

2 _ حدثني أبو محمّد بن عبد الرحيم البزار، قال: و أنا شبابة أخبرني أبو عمرو بن العلاء، حدثنا ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، قال: و الله لولا أن تبطروا لحدّثتكم على لسان نبيّكم، الذين يقتلونهم علامتهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد، قال: فقلت: أنت سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: نعم سمعته من النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ غير مرّة و لا مرّتين و لا ثلاث و لا أربع.

3 _ حدثني عبيدالله بن عمر القواريري، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة، قال ذكر علي أهل النهروان فقال: فيهم رجل مودن اليد أو مثدون

اليد، أو مخدج اليد، لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال قلت: أنت سمعته منه؟ قال: أي وربّ الكعبة.

4 _ حدثني إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، حدثنا وكيع، حدثنا جرير بن حازم، عن أبن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : (إنّه سيخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الذين يقتلونهم على لسان نبيّه، قال عبيدة: قمت إلى علي فقلت: أنت سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة. قال وكيع: مودن اليد: ناقص اليد، و المخدج: ضامره، و مثدون اليد: فيها شعرات زائدة.

5 _ حدثني أبي و أبو خيثمة قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم،

( 482 )

حدثنا أيّوب، عن محمّد، عن عبيدة، عن علي قال: ذكر الخوارج فقال: فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد، لولا أن تبطروا لحدّثتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد، قلت: أنت سمعته من محمّد _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة.

6 _ حدثني أبي، حدثني وكيع، حدثنا جرير بن حازم وأبو عمرو بن العلاء سمعاه من ابن سيرين، فذكر الحديث إلاّ أنّه قال: مثدون.

7 _ حدثني سويد بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب، عن محمّد، عن عبيدة، عن علي قال: لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما أعدّالله لمن قتلهم، فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو

مخدج اليد، قال عبيدة: أنت سمعتها من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة ثلاثاً.

8 _ حدثني محمّد بن أبي بكر بن علي المقدمي، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب و هشام، عن محمّد، عن عبيدة: انّ عليّاً ذكر أهل النهروان فقال: فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمّد، فقلت لعلي: أنت سمعته؟ قال: أي وربّ الكعبة.

9 _ حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن علي قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يكون في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، قتالهم حقّ على كل مسلم».

10 _ حدثني أبي، حدثنا محمّد بن أبي عدي أبو عمرو دكين من الرجال ما أشبهه بالشيوخ، عن ابن عون، عن محمّد قال: قال عبيدة: لا اُحدّثك إلاّما

( 483 )

سمعته منه، قال محمّد: فحلف لي عبيدة ثلاث مرار و حلف له علي قال: لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد. قلت أنت سمعته منه؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة، أي ورب الكعبة، فيهم رجل مخدج اليد أو مثدون اليد، قال: قال محمّد: فطلب ذاك الرجل فوجدوه في القتلى رجل عند أحد منكبيه كهيئة الثدي عليه شعرات.

11 _ حدثني محمّد بن أبي بكر المقدمي: قال حماد بن يحيى _ يعني الأبح _ قال: حدثنا ابن عون، عن محمّد، عن عبيدة، قال: لمّا قتل علي أهل النهروان،

قال: التمسوا في القتلى رجلاً مخدج اليد، فالتمسوه فوجدوه في حفرة تحت القتلى فاستخرجوه، فأقبل علي على أصحابه، فقال: لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما وعد الله من يقتل هؤلاء على لسان محمّد، قلت: أنت سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: أي وربّ الكعبة، أي وربّ الكعبة ثلاث مرات.

12 _ حدثني أبي، حدثنا محمّد بن أبي عدي، عن سليمان، عن التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: انّ النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ذكر قوماً يكونون في اُمّته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق و هم شرّ الخلق أو من شرّ الخلق يقتلهم أذى الطائفتين من الحق، قال: فضرب لهم النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ مثلاً أو قال قولاً: الرجل يرمي الرميّة أو الغرض فينظر في الفصل فلا يرى بصيرة، و ينظر في النضي فلا يرى بصيرة، و ينظر في الفوق فلا يرى بصيرة قال: قال أبو سعيد: و أنتم قتلتموهم يا أهل العراق.

13 _ حدثني أبو معمّر الهذلي إسماعيل بن إبراهيم بن معمّر الهروي، حدثنا عبد الله بن إدريس، انا عاصم بن كليب، عن أبيه، قال كنت جالساً عن علي إذ جاء رجل عليه ثياب السفر فاستأذن على علي و هو يكلّم الناس فشغل

( 484 )

عنه، فأقبلنا فسألناه من أين قدمت؟ ما خبرك؟ قال: خرجت معتمراً فلقيت عائشة، فقالت ما هؤلاء الذين خرجوا من بلادكم يسمّون حروراً؟ قال: قلت: خرجوا من أرضنا إلى مكان يسمّى حروراء به يدعون، قالت طوبى لمن قتلهم، أما و الله لوشاء ابن أبي طالب لخبرهم خبرهم، قال: فأهلّ علي و كّبر ثمّ أهلّ وكّبر ثم أهل

وكّبر، فقال لي: إني دخلت على رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وعنده عائشة فقال لي «كيف أنت و قوم كذا وكذا» قال عبد الله بن ادريس: وصف صفتهم، قلت: الله و رسوله أعلم، قال: «قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فيهم رجل مخدج اليد كأنّ يده ثدي حبشيّة، أنشدكم الله هل أخبرتكم أنّه فيهم فاتيتموني فأخبرتموني أنّه ليس فيهم، فحلفت بالله لكم إنّه فيهم، فأتيتموني تسحبونه كما نعت لكم؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: فأهلّ علي و كّبر.

14 _ حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمّد بن فضيل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: كنت جالساً عن علي و هو في بعض أمر الناس إذ جاء رجل عليه ثياب السفر، ثمّ قال علي: كنت عند رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وليس عنده إلا عائشة فقال: «ياعلي» كيف، مرتين أو ثلاثة، فذكر الحديث بطوله.

15 _ حدثني زهير بن حرب أبو خيثمة، حدثنا القاسم بن مالك المزني، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال:كنت جالساً عند علي فقال: إنّي دخلت على رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ وليس عنده أحد إلاّ عائشة، فقال: «يا ابن أبي طالب كيف أنت و قوم كذا وكذا» قال: قلت: الله و رسوله أعلم، قال: «قوم يخرجون من المشرق يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فيهم رجل مخدج اليد كأنّ يده ثدي حبشية».

( 485 )

16 _ حدثني علي بن حكيم الأودي، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، قال: خطبنا

علي، فقال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يخرج في آخر الزمان شباب أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرّية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فمن لقيهم فليقتلهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».

17 _ حدثني أبي و أبو خيثمة قالا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة قال: قال علي: ما حدّثتكم عن رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ حديثاً فلأن أخرّ من السماء أحب إليّ من أن أكذب عليه و إذا حدّثتك عن غيره فإنّما أنا محارب و الحرب خدعة سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البريّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة».

18 _ حدّثني محمّد بن عبد الله بن نمير الهمداني، حدثنا يعلى و وكيع، عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن علي، قال: إذا حدّثتكم عن رسول الله حديثاً، سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان قوم أحداث الاسنان»، فذكر الحديث.

19 _ حدّثني أبو كامل الجحدري فضيل بن الحسين بن كامل، حدثنا إبراهيم بن حميد الكوفي الرواسي بالبصرة جاء إلى عبادان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة قال: علي: إذا حدّثتكم فيما بيني و بينكم فإنّ الحرب خدعة، و إذا حدّثتكم عن رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فإنّي و الله لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي

بي الريح في مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإنّي سمعته يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث

( 486 )

الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البريّة ثم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فمن لقيهم فليقتلهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة.

20 _ حدثني أبو كريب محمّد بن العلاء الهمداني، حدثنا إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي إسحاق عن أبي قيس الأودي، عن سويد بن غفلة، عن علي عن النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: «يخرج في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة قتالهم حقّ على كلّ مسلم».

21 _ حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن علي قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يكون في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، قتالهم حقّ على كلّ مسلم».

22 _ حدّثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش: قال أبي و عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة قال: قال علي: إذا حدّثتكم عن رسول الله حديثاً فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه و إذا حدّثتكم فيما بيني و بينكم فإنّ الحرب خدعة، سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء»، و قال عبد الرحمن في آخر حديثه: أسفاه الأحلام، فذكر الحديث بطوله إلى آخره.

23 _ حدثنا أحمد بن جميل أبو يوسف، حدثنا

يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب قال: لمّا خرجت الخوارج بالنهروان قام علي في أصحابه فقال: إنّ هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام، و أغاروا في سرح الناس، و هم أقرب العدو

( 487 )

إليكم و إن تسيروا إلى عدوّكم فأنا أخاف أن يخلفكم هؤلاء في أعقابكم أنّي سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: يخرج خارجة من اُمّتي ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، و لا قرآنكم إلى قرآنهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنّه لهم و هو عليهم، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمّية، و آية ذلك إنّ فيهم رجلاً له عضد و ليس له ذراع عليها مثل حلمة الثدي عليها شعرات بيض، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم مالهم على لسان نبيّهم، لاتّكلوا عن العمل فسيروا على اسم الله و الله إنّي لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، قال: فما زال أبو سليمان يسيّرنا منازل على منزلاً منزلاً حتى قال: أخذنا على قنطرة الديزجان، قال فلمّا التقينا قام فيهم أميرهم عبد الله بن وهب الراسبي قال: إنّي اُذكّركم بالله الاّ القيتم رماحكم و أشرعتم السيوف و حملتم حملة رجل واحد لا تناشدوا كما تناشدتم يوم حروراء فترجعوا، قال: فحملوا علينا حلمة رجل واحد فشجرهم الناس برماحهم فقتلوا بعضهم قريباً من بعض و لم يقتل من الناس يومئذ إلاّ رجلان، فقال علي: التمسوا هذا الرجل، قال فالتمسوه فلم يجدوه، قال: فقام علي وأنّا لنرى على وجهه كآبة حتى أتى كبكبة منهم قد ركب بعضهم بعضاً، فأمر بهم

ففرجوا يميناً و شمالاً فوجدوه ممّا يلي الأرض فقال: الله أكبر، صدق الله و بلّغ رسوله، فقام إليه عبيدة السلمان فاستحلفه ثلاثة ايمان: أنت سمعت هذا الحديث من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ و كل ذلك يحلف له علي.

24 _ حدثني محمّد بن عبيد بن محمّد المحاربي بالكوفة، حدثنا أبو مالك الختلي عمرو بن هاشم، عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثني عمرو بن قيس، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش أنّه سمع علياً يقول: أنا فقأت عين الفتنة، و لولا أنا ما قوتل أهل النهر و لا أهل الجمل، و لولا أنّي أخشى أن

( 488 )

تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيّكم لمن قاتلهم مبصراً لضلالتهم عارفاً للهدى الّذي نحن فيه.

25 _ حدّثني أبي، حدّثنا أسود بن عامر، حدّثنا حماد بن سلمة، عن معاوية بن قرة، قال: هلكت الخوارج و الأهواء.

26 _ حدّثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب قال: لمّا كان يوم النهر لعن علي الخوارج، فلم يبرحوا حتى شجروا بالرماح، فقتلوا جميعاً، فقال علي: ما كذّبت و لا كذّبت اُطلبوا ذا الثدية، قال: فطلبوه فلم يجدوه، فقال علي: ما كذبت و لا كذّبت اطلبوه، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى، فإذا رجل على ثديه مثل سبلة السنور، قال: فكبّر علي و أعجبه ذلك و الناس. و قال أبو معاوية مرة: وكّبر علي و كّبر الناس.

27 _ حدّثني عباد بن زياد بن موسى الأسدي، حدثنا شريك، عن محمّد بن قيس، عن أبي موسى شيخ لهم شهد مع علي قال: قال علي يوم النهر: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم

يجدوه، فجعل يعرق جبينه و يقول: و الله ما كذبت و لا كّذبت، قال: فوجد فاستخرج من ساقية من تحت قتلى فسجد سجدة الشكر.

28 _ حدّثني أبي، حدّثنا القاسم بن الوليد الهمداني، حدّثنا إسرائيل، حدّثنا إبراهيم _ يعني ابن عبد الأعلى _ عن طارق بن زياد قال: خرجنا مع علي إلى الخوارج فقتلهم، ثم قال: انظروا فإنّ نبي الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: سيخرج قوم يتكلّمون بالحق ولا يجوز حلقهم، يخرجون من الحق كما يخرج السهم من الرميّة، سيماهم انّ منهم رجلاً أسود مخدج اليد، في يده شعرات سود، إن كان هو فقد قتلتم شرّ الناس، و إن لم يكن هو فقد قتلتم خير الناس، فبكينا، ثمّ قال: اطلبوا، فوجدنا المخدج فخررنا سجوداً و خرّ علي معنا

( 489 )

ساجداً غير أنّه قال: يتكلّمون بكلمة الحقّ.

29 _ حدّثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا عبد الرحمن بن العريان الحارثي، حدثنا الأزرق بن قيس، عن رجل من عبد القيس قال: شهدت علياً يوم قتل أهل النهروان قال: قال علي حين قتلوا: عليَّ بذي الثدية أو المخدوج، ذكر شيئاً من ذلك لا أحفظه قال: فطلبوه فإذا هم بحبشي مثل البعير في منكبه مثل ثدي المرأة عليه. قال عبد الرحمن: أراه شعراً و لو تخرج روح انسان من الفرح لخرج روح علي يومئذ، قال: صدق الله و رسوله من حدّثني من الناس أنّه رآه قبل مصرعه هذا فإنّه كذّاب.

30 _ حدّثني علي بن حكيم الأودي، حدّثنا شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن زيد بن وهب، قال قدم علي على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقاله له الجعد بن بعجة، فقال له:

أتّق الله يا علي فإنّك ميّت، فقال علي: بل مقتول قتلاً ضربة على هذا يخضّب هذه _ يعني لحيته من رأسه _ عهد معهود و قضاء مقضي و قد خاب من افترى، و عاتبه في لباسه، فقال: مالكم و للباسي هو أبعد من الكبر و أجدر أن يقتدي بي المسلم.

31 _ حدّثني أبي حدثنا يزيد بن هارون، أنا هشام عن محمّد، عن عبيدة، قال: قال علي لأهل النهر: فيهم رجل مثدون اليد، أو مخدج اليد، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما قضى الله على لسان نبيّه لمن قتلهم، قال عبيدة: فقلت لعلي: أنت سمعته؟ قال: نعم وربّ الكعبة، يحلف عليها ثلاثاً.

32 _ حدّثني أبي، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عاصم الأحول، عن عون بن عبد الله، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج اُكلّمهم فقلت لهم: هل تدرون ما علامتكم في وليّكم الّتي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم و كان بها ولّيكم، و ما علامتكم في عدوّكم الّتي إذا لقيكم بها خاف عندكم و كان بها

( 490 )

عدوّكم؟ قالوا: ما ندري ما تقول؟ قلت: فإنّ علامتكم عند وليّكم الّتي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم و كان بها وليكم أن يقول: أنا نصراني أو يهودي أو مجوسي، و علامتكم عند عدوّكم الّتي إذا لقيكم بها خاف بها عندكم و كان بها عدوّكم أن يقول: أنا مسلم.

33 _ حدثني وهب بن بقية الواسطي، حدثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة، قال: قال أبو جحيفة: إنّ عليّاً حين فرغ من الحرورية قال: إنّ فيهم رجلاً مخدج اليد ليس على عضده عظم، في عضده حلمة كحلمة الثدي عليها شعرات

طوال عقف، فالتمس فلم يوجد، ثمّ التمس فلم يوجد، قال: و أنا فيمن يلتمس فما رأيت عليّاً جزع قط أشدّ من جزعه يومئذ، قالوا: ما نجده يا أمير المؤمنين. قال: ما اسم هذا المكان؟ قالوا: النهروان. قال كذبتم انّه فيهم فالتمسوه، قال: فثورنا القتلى فلم نجده، فعدنا إليه فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجده، فسأل عن المكان، فاُخبر، فقال: صدق الله و رسوله و كذبتم انّه لفيهم فالتمسوه، فالتمسناه فوجدناه في ساقية فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم عليها حلمة كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف.

34 _ حدّثني أبي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني أبو عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال خرجت أنا و تليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص و هو يطوف بالبيت معلّقاً نعله بيده فسألته: هل حضرت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ حين كلّمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، أقبل رجل من بني تميم يقال له ذي الخويصرة فوقف على رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ و هو يعظ الناس، فقال: يا محمّد قد رأيت ما

( 491 )

صنعت في هذا اليوم. فقال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «و كيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت. قال: فغضب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ثمّ قال: «ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: «لا، دعوه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون

في الدين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة، فينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القدح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم».

35 _ حدّثني أبي، حدثني يعقوب، حدثنا ابي، عن ابن إسحاق، قال: و حدثني محمّد بن علي بن الحسين ابو جعفر مثل حديث أبي عبيدة و سمّاه ذا الخويصرة.

36 _ حدّثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن ابن أبي إسحاق، عن رجل: انّ عائشة لمّا بلغها قتل المخدج، قالت: لقد قتل شيطان جان الردهة. قال و قال سعد ابن أبي وقاص: لقد قتل جان الردهة.

37 _ حدثني أبو الربيع الزهراني سليمان بن داود، حدثنا داود العطار المكّي، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، قال: خرج ابن عمر من المدينة يريد الحج، فقيل له: إنّ الحرورية قد خرجت، فقال: أشهدكم أنّي قد جعلتها عمرة، فلمّا انتهى إلى البيداء، قال: أشهدكم أنّي قد كنت جعلتها عمرة و أنّي قد أضفت إليها حجّة.

38 _ حدّثني ابي، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا حرام بن إسماعيل العامري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن يسير بن عمرو، قال: دخلت على سهل بن حنيف بالمدينة فقلت: حدثني بما سمعت من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ في الحرورية، فقال: اُحدّثك ما سمعت من رسول الله في الحرورية لا أزيدك عليه: سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _

( 492 )

يذكر قوماً يخرجون من هاهنا: و أشار بيده نحو العراق _ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، قال: قلت: هل ذكر لهم علامة؟ قال: هذا ما سمعته لا أزيدك .

39 _ حدّثني

أبي، حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد _ يعني ابن سلمة _ حدّثني سعيد ابن جمهان، قال: كانت الخوارج تدعوني حتى كدت أن أدخل معهم، فرأت اُخت بلال في النوم أنّ أبا بلال كلب أسود عيناه تذرفان، فقالت: بابي أنت يا أبا بلال ما شأنك أراك هكذا؟ قال: جعلنا بعدكم كلاب النار، و كان أبو بلال من رؤوس الخوارج.

40 _ حدّثني أبي، حدّثنا يحيى بن أبي زائدة، عن عكرمة بن عمار، حدّثني عاصم بن شميخ الغيلاني، قال: رأيت أبا سعيد الخدري يصلّي عند الزوال و هو معتمد على جريدة إذا قام اعتمد عليها و إذا ركع أسندها إلى الحائط و إذا سجد اعتمد عليها.

41 _ حدّثنا هدبة بن خالد الأزدي، حدّثنا ديلم أبو غالب، عن ميمون الكردي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: تمرق مارقة من فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق.

42 _ حدّثني أبي حدّثنا وكيع، حدّثنا عكرمة بن عمّار، عن عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إذا حلف باليمين قال: «و الّذي نفس أبي القاسم بيده ليخرجنّ قوم تحقّرون أعمالكم عند أعمالهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة» قالوا: فهل من علامة يعرفون بها؟ قال: «فيهم رجل ذو ثدية محلقي رؤوسهم» قال أبو سعيد: فحدّثني عشرون أو بضع و عشرون من

( 493 )

أصحاب النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : أنّ علياً ولي قتلهم، قال فرأيت أبا سعيد بعد ما كّبر و يداه ترتعشان يقول: إنّ قتالهم أجلّ عندي

من قتال عدّتهم من الترك.

43 _ حدّثني أبي، حدّثنا إسحاق بن يوسف _ يعني الأزرق _ عن الأعمش، عن ابن أبي أوفى، قال: سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «الخوارج هم كلاب النار».

44 _ حدّثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، انا معمر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد _ أو قال: سمعت انا سعيد الخدري يحدّث _ أنّه سمع رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما في الدين واحدة، تمرق بينهما مارقة، يقتلهما أولاهما بالحق».

45 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثني سويد بن عبيد العجلي، عن أبي مؤمن الواثلي، قال: شهدت عليّاً حين فرغ من قتالهم، قال: انظروا فإنّ فيهم رجلاً مخدج اليد، فطلبوه فلم يجدوه، فقال علي: ما كذبت ولا كذّبت، قال: فقام علي فأخرجه من تحت ساقية، فخّر علي ساجداً.

46 _ حدّثني أبي حدّثنا وكيع، حدّثنا بسام، عن أبي الطفيل، قال: سأل ابن الكواء عليّاً(رضي الله عنه) عن الأخسرين أعمالاً، قال: منهم أهل حروراء.

47 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع حدّثنا حسن _ يعني ابن صالح _ عن أبي نعامة الأسدي، عن خال له، قال: سمعت ابن عمر يقول: إنّ نجدة و أصحابه عرضوا لعيرلنا و لوكنت فيهم لجاهدتهم.

48 _ حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرزاق، انا معمر، عن أيوب، عن نافع: أخبرني ابن عمر أنّ نجدة لاقاه فحلّ شرج سيفه فأشرجته، ثمَ مرّ به فحلّه أيضاً

( 494 )

فأشرجته، ثم مرّ به الثالثة، فقال: من أشرج هذا كأنّه ليس في أنفسكم ما في أنفسنا؟

49 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا عثمان الشحام أبو سلمة،

حدّثني مسلم ابن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «سيخرج قوم أحدّاء أشدّاء، ذلقة ألسنتهم بالقرآن، يقرأونه لايجاوز تراقيهم، إذ ليقتموهم فاقتلوهم، فإنّه يؤجر قاتلهم».

50 _ حدّثني أبي، حدّثنا بهز و عفّان قالا: حدّثنا حماد _ يعني ابن سلمة _ حدّثني سعيد بن جمهان، قال: كنّا مع عبد الله بن أبي أوفى نقاتل الخوارج و قد لحق غلام لابن أبي أوفى بالخوارج فناديناه يا فيروز هذا ابن أبي أوفى فقال: نعم الرجل لو هاجر، قال: ما يقول عدوّ الله؟ قال: يقول: نعم الرجل لو هاجر، فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال بهز في حديثه، يردّدها ثلاثاً: سمعت رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ (يقول): «طوبى لمن قتلهم»، و قال عفان و يونس: «لمن قتلهم و قتلوه» ثلاثاً.

51 _ حدّثني أبي، حدّثنا روح بن عبادة، حدّثني عثمان الشحّام، حدّثنا مسلم بن أبي بكرة: و سألته هل سمعت في الخوارج شيئاً، فقال: سمعت والدي أبا بكرة يقول عن نبي الله: «ألا انّه سيخرج من اُمّتي أقوام أشدّاء أحدّاء، ذليقة ألسنتهم بالقرآن لا يجاوز تراقيهم، ألا فإذا رأيتموهم ثمّ إذا رأيتموهم فأنيموهم فالمأجور قاتلهم.

52 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن زياد بن طارق، قال: رأيت عليّاً حين أخرج المخدج _ على يده ثلاث شعرات _ خرّساجداً، قال عبد الله بن طارق بن زياد: و لكن كذا قال وكيع.

( 495 )

53 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن محمّد بن قيس الهمداني، عن شيخ لهم يكّنى أبا موسى

قال: رايت علياً سجد حين اُتي بالمخدج.

54 _ حدّثني أبي، حدّثنا يزيد بن هارون، انا حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: الّذي يقتله الخوارج له عشرة أنور، فضّل ثمانية أنور على غيره من الشهداء.

55 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدثنا ابن أبي خالد، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: ذكر عنده الخوارج قال: هم قد زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.

56 _ حدّثني أبي، حدّثنا حماد بن مسعدة، عن يزيد _ يعني ابن أبي عبيد _ قال: لمّا ظهر نجدة الحروري أخذ صدقات، قيل لسلمة: ألا تباعد منهم؟ قال: فقال: و الله لا اُبايعه و لا أتبعه أبداً، قال: و دفع صدقته إليهم.

57 _ حدّثني أبي، حدّثنا عفان، حدّثنا جويرية بن أسماء، قال: زعم نافع أنّ ابن عمر كان يرى قتال الحرورية حقّاً واجباً على المسلمين.

58 _ حدّثني أبي، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا عبيدالله، عن نافع: انّ ابن عمر أراد أن نقاتل نجدة حين أتى المدينة يغير على ذراريهم، فقيل له: إنّ الناس لا يبايعونك على هذا، قال: فتركه.

59 _ حدّثني أبي، حدّثنا محبوب بن الحسن، حدّثنا خالد _ يعني الحذّاء _ عن أبي اياس معاوية بن قرّة، قال: خرج حروري محكّم، فخرج إليه ناس من أصحاب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ من مزينة بأسيافهم منهم عائذ بن عمرو.

60 _ حدّثني أبي، حدّثنا عفان، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا خالد الحذاء، عن معاوية بن قرّة: خرج محكّم في زمان أصحاب

( 496 )

رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ فخرجوا عليه بالسيف رهط من أصحاب رسول الله _ صلّى الله عليه

وآله وسلم _ منهم عائذ بن عمرو.

61 _ حدّثني أبي، حدّثنا عفان، حدّثنا سلام أبو المنذر، عن عاصم بن بهدلة قال: خرج خارجي بالكوفة، فقيل: يا أبا وائل هذا خارجي خرج فقتل، فقال: و الله ما أعزّ هذا لله من دين و لا دفع عن مظلوم، هذا و أبيك الخير.

62 _ حدّثني أبي، حدّثنا أبو كامل مظفر بن مدرك، حدّثنا حماد بن سملة، عن الأزرق بن قيس، قال: كنّا بالأهواز نقاتل الخوارج و فينا أبو برزة الأسلمي فجاء إلى نهر فتوضّأ ثمّ قام يصلّي.

63 _ حدّثني أبي، حدّثنا يزيد بن هارون، انا ابن إسحاق، عن أبي الزبير، عن أبي العباس مولى بني الديل، عن عبد الله بن عمرو، قال: ذكر عند رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قوم يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً، فقال: «تلك ضراوة في الإسلام و شرّه و لكلّ شرّه فترة، فمن كانت فترته إلى الاقتصاد فلاوم(1) ما هو و من كانت فترته إلى غير ذلك فاُولئك هم الهالكون».

64 _ حدّثني أبي، حدّثنا هشيم، انا حصين، عن مصعب بن سعد، عن سعد في قوله:(يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً )(2) قال: قلت له: أهم الخوارج؟ قال: لا، و لكنّهم أصحاب الصوامع، و الخوارج الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.

65 _ حدّثني أبي، حدّثنا هشيم، انا العوام، حدّثنا أبو غالب، عن أبي أمامة: زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. قال: هم الخوارج.

66 _ حدّثني أبي، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حصين _ و كان صاحب شرطة علي _ قال: قال علي: قاتلهم الله أي حديث

____________________________

1. كذا في الأصل، و في أصل آخر: فلا ذم، و لعلّه: لازم.

2. الكهف: 104.

( 497 )

شانوا، يعني

الخوارج.

67 _ حدّثني أبي، حدثنا ابن نمير، انا عبيدالله، عن نافع، قال: لمّا سمع ابن عمر بنجدة قد أقبل و أنّه يريد المدينة و أنّه يسبي السباء و يقتل الولدان، قال: إذاً لا ندعه و ذاك، وهمّ بقتاله و حرّض الناس، فقيل له: إنّ الناس لا يقاتلون معك و تخاف أن تترك فتقتل، فتركه.

68 _ حدّثني أبي، حدّثنا أبو بكر بن عياش، قال: سمعت أبا إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: خرج خوارج فخرج إليهم، فقتلوه.

69 _ حدّثني أبي، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، أخبرني عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس: انّ عليّاً أخرجه إلى الخوارج فكلّمهم، ففرّق بينهم، فقالت الخوارج: بل هم قوم خصمون.

70 _ حدّثني أبي، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدء، أخبرني عاصم الأحول، عن عون بن عبدالله: انّ عمر بن عبد العزيز أخرجه إلى الخوارج فكلّمهم.

71 _ حدّثني أبي، حدّثنا يزيد _ يعني ابن هارون _، انا هشام بن حسان، حدّثني أبو الوضي القيسي، قال كنت في أصحاب علي لمّا فرغ من أهل النهر، قال: اطلبوا فيهم ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه، فأتوه فقالوا: لم نجده. قال: اطلبوه فإنّه فيهم. قال فطلبوه فوجدوه فاُتي به فإنّي لأنظر إليه وله في أحد منكبيه مثل ثدي المرأة ليس له يد غيرها عليها شعرات.

72 _ حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي اُمامة: أنّه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال أبو اُمامة: كلاب النار _ ثلاثاً _ شر قتيل تحت أديم السماء، خير قتل من قتلوه، ثمّ

( 498 )

قرأ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)(1) قلت لأبي اُمامة: أنت سمعته من رسول الله _

صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: لو لم أسمعه إلاّ مرّتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستّاً أو سبعاً ما حدّثتكم به.

73 _ حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، قال: سمعت أبا غالب يقول: لمّا اُتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق، جاء أبو اُمامة فلمّا رآهم دمعت عينه، قال: كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار _ ثلاث مرّات _ هؤلاء شرّ قتلى قتلوا تحت أديم السماء، و خير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، قلت: فما شأنك دمعت عينك؟ قال: رحمة لهم لأنّهم كانوا من أهل الإسلام قلت: أبرأيك قلت هم كلاب النار أو شيئاً سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: إنّي إذاً لجري بل سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثة، قال: فعدّ مراراً قال ثمّ تلا هذه الآية (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) حتى بلغ (هُمْ فِيها خَالِدُونَ) ثم ذكر الحديث إلى آخره.

74 _ حدّثني أبو خيثمة، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي غالب سمع أبا اُمامة قال: خرجت معه فرأى رؤوساً من هؤلاء الخوارج على درج دمشق، فقال كلاب النار، كلاب النار، شرّ قتلى، و خير قتلى من قتلوه، فقلت: يا أبا اُمامة سمعت هذا من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: نعم غير مرّة.

75 _ حدّثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدّثنا عمّار بن يونس الحنفي، حدّثنا عكرمة بن عمّار، حدثنا شداد بن عبد الله، قال: وقف أبو اُمامة و أنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب مسجد حمص أو دمشق،

فقال لهم: كلاب النار _ مرّتين أو ثلاثاً _ شرّ قتلى تظل السماء، و خير قتلى من قتلوهم

____________________________

1. آل عمران: 106.

( 499 )

_ و دمعت عينا أبي اُمامة _ قال رجل: أرأيت قولك لهؤلاء القوم شرّ قتلى تظلّ السماء، و خير قتلى قتلوهم، أشيء من قبل رأيك أو شيء سمعته من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: من قبل رأيي إنّي إذاً لجري لولم أسمعه من رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ إلاّ مرّة أو مرّتين _ حتى عدّ سبع مرار _ ما حدّثتكم، فقال له رجل: رأيتك دمعت عيناك؟ فقال: رحمة رحمتهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثمّ قرأ هذه الآية: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَ_تُ وَأُوْلَ__ِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)(1)الآية.

76 _ حدّثنا أبي، حدّثنا أنس بن عياض و هو أبو ضمرة المديني، قال: سمعت صفوان بن سليم يقول: دخل أبو اُمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس حروراء قد نصبت فقال: كلاب النار _ ثلاثاً _ شرّ قتلى تحت ظلّ السماء من خير قتلى من قتلوه، ثمّ بكى، فقام إليه رجل فقال: يا أبا اُمامة هذا الّذي تقول من رأيك أو سمعته؟ فقال: إنّي إذا لجري كيف أقول هذا عن رأيي و لكن قد سمعته غير مرّة و لا مرّتين. قال: فما يبكيك؟ قال أبكي لخروجهم من الإسلام هؤلاء الذين تفرّقوا و اتّخذوا دينهم شيعاً.

77 _ حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيل _ يعني ابن علية _ انا سليمان التيمي، حدّثنا أنس بن مالك، قال: ذكر لي أنّ نبي الله قال: إنّ فيكم قوماً يعبدون و يدينون حتّى يعجبوا

الناس وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة.

78 _ حدّثني أبي، حدّثنا إبراهيم بن خالد، حدّثنا رباح، عن معمّر، عن قتادة عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «يكون

____________________________

1. آل عمران: 105 _ 106.

( 500 )

في اُمتي اختلاف و فرقة يخرجون فيهم قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، سيماهم الحلق و التسبيت، فإذا رأيتموهم فأنيموهم» _ قوله التسبيت يعني استئصال الشعر _ .

79 _ حدّثني أبو بشر بكر بن خلف ختن أبي عبد الرحمن المقرئ و سأله محمّد بن غيلان، عن هذا الحديث بمكّة قال: حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمّر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «يكون في آخر اُمّتي قوم يقرأون القرآن لايجاز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ».

80 _ حدّثني أبي حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: «و يلك و من يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أتأذن لي أن أضرب عنقه، فقال النبي _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «دعه فإنّ له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته، و صيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثمّ ينظر في نصيبه فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر في نصله فلا يوجد فيه

شيء، و قد سبق الفرث و الدم، آيتهم رجل أسود في إحدى يديه أو قال احدى ثدييه كثدي المرأة، و مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس، فنزلت فيهم: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَ_تِ)الآية (1) قال أبو سعيد: فأشهد أنّي سمعت هذامن رسول الله، و أشهد أنّ عليّاً حين قتلهم و أنا معه جيئ بالرجل على النعت الّذي نعت رسول الله.

____________________________

1. التوبة: 58.

( 501 )

81 _ حدّثني أفطر بن حماد بن واقد، حدّثنا مهدي بن ميمون، عن محمّد بن سيرين، عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ قال: «ليخرج قوم بالمشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ثمّ لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فوقه» قال: قيل: ما سيماهم؟ قال: «سيماهم الحلق أو التسبيت».

82 _ حدّثني نصر بن علي، حدّثنا غسار بن مضر حدّثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : «تمرق مارقة من هذه الاُمّة مروق السهم من الرميّة، انّ الرجل ليرمي رميّته فينفذها سهمه فتنطلق الرميّة حائطة، قال: فيتحرك هنيهة ثم يقع فيه فيتبع سهمه فينظر في النصل فلا يجد بيّنة قال: فيحدّث نفسه لئن كنت أصبت لأجدنّ بيّنة في القذذ و الفوقتين، قال: فينظر في القذذ و الفوقتين فلا يجد بيّنة، قال: فلا يعلقون من الإسلام إلاّ كما يعلق ذلك السهم من رميّته، قال: و لا يعودون فيه، ثم يقرأون كتاب الله لا يعدو تراقيهم، قال: يحتقر أو يزدري عمله عند عملهم، سيماهم التحليق، هم

شرّ الخلق و الخليقة _ مرّتين _ يتولّى قتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق _ يعني أصحاب النهروان _ فقال أبو سعيد: الحمد لله الّذي ولّى قتلهم أهل العراق.

83 _ حدّثني أبي، حدّثنا هشام بن القاسم، حدّثنا حشرج بن نباتة العبسي، حدّثني سعيد ين جمهان، قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى و هو محجوب البصر فسلّمت عليه، فقال لي: من أنت؟ قال: قلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة. قال لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة.

( 502 )

84 _ حدّثنا رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وسلم _ : أنّهم كلاب النار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلّها؟ قال: لا، بل الخوارج كلّها.

و آخر دعوانا

أن الحمد لله ربّ العالمين

* * *

الجزء السادس (يتناول تاريخ الشيعة )

اشاره

الملل والنحل الجزء السادس (يتناول تاريخ الشيعة نشأتهم، عقائدهم، فرهم وشخصيّاتهم)

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه وآله

وعلى رواة سنته وحملة أحاديثه وحفظة كلمه

( 5 )

الحمد للّه الّذي علا بحوله، ودنى بطوله، والصلاة والسلام على سيّد رُسله وخاتم أنبيائه، الّذي بعثه لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، صلاة دائمة مادام الفرقدان، وكرّ الجديدان .

أمّا بعد: فهذا هو الجزء السادس من موسوعتنا في دراسة تاريخ المذاهب الإسلامية وقد درسنا الفِرَق المشهورة، ولم تبق إلاّ الشيعة بفرقها الثلاث المنتشرة في العالم: الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية.

نسأل اللّه سبحانه أن يوقّفنا في دراسة مذهب الشيعة، الّذين جنى عليهم كثير من المؤرخين و كُتّاب المقالات و الفرق، و كتبوا عنهم أشياءً كثيرة هم برآء منها. ولم يرجعوا عند البحث عن عقائد هذه الفرقة إلى مؤلّفاتهم وكتبهم وآثارهم، وإنّما اعتمدوا على أفواه الرجال ونقلة الأخبار، فصاروا كحاطب ليل يجمع في حزمته كلّ رطب ويابس، والحقّ كما يقول بعض الأساتذة: «إنّه تطوّر كلّ شيء إلاّ الكتابة عن الشيعة، ولكلّ بداية نهاية إلاّ الافتراء على الشيعة، ولكلّ حكم مصدره ودليله إلاّ الأحكام على الشيعة»(1) .

____________________________

1 . عبداللّه بن سبأ 1 / 9 (مقدمة الطبعة الثالثة بقلم الاُستاذ المغفور له محمّد جواد مغنية) .

( 6 )

ونشكر القرّاء الكرام الذين شجّعونا برسائلهم على مواصلة بحث ودراسة هذه المواضيع الهامّة في تاريخ اُمّتنا المجيدة، ونتقدّم بالشكر إلى العلماء الذين يقدّمون لنا النقد البنّاء، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.

قم _ جعفر السبحاني

28 شعبان المعظم 1412 ه_

الشيعة لغةً و اصطلاحاً

الشيعة لغةً و اصطلاحاً

الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال

سبحانه: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ)(1) وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم)(2) فالشيعة هم الجماعة التابعة لرئيس لهم .

وأمّا اصطلاحاً فلها إطلاقات عديدة بملاكات مختلفة:

1- الشيعة: من أحبّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبىّ الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم قال عزّوجلّ: (قُلْ لا أسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِى القُربَى)(3) والشيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين إلاّ النواصب، بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

____________________________

1 . القصص / 15 .

2 . الصافّات / 83 _ 84 .

3 . الشورى / 23 .

( 8 )

يا أهلَ بيتِ رسولَ اللّهَ حبُّكُمُ * فَرضٌ من اللّهِ في القرآن أنْزلهُ

كَفاكُمُ من عَظيم الشّأن أنّكمُ * من لم يُصلِّ عليكم لا صلاة لَهُ(1)

وأمّا النواصب فهم الذين نصبوا لعلي وأهل بيته العداء وتلقّوه فريضة دينية وأعانهم على ذلك مرتزقة أصحاب البلاط، وترجع جذور هذه الفكرة إلى معاوية حيث سنّ سبّ علىّ على المنابر وتبعه أولاده وعشيرته إلى أواخر الدولة الأموية، وكتب ابن أبي سفيان إلى عمّاله في جميع الآفاق: «اُنظروا إلى من اُقيمت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه» ثمّ كتب نسخة اُخرى إلى عمّاله وشدّد الأمر فيها وقال: «من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به و اهدموا داره» .

وعلى هذا المنشور قام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يَلعَنون عليّاً ويبرأون منه و يقعون فيه وفي أهل بيته...(2) .

2- من يفضّل عليّاً على عثمان أو على الخلفاء عامّة مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء وإنّما يقدّم لاستفاضة مناقبه وفضائله

عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم وهي تُلزم الإنسان الاعتقاد بأنّه أفضل الصحابة، وعلى ذلك معتزلة بغداد وقليل من أهل الحديث، وعلى ذلك الاصطلاح جرى أكثر من كتب في الرجال والتراجم والمقالات حيث يصفون قليلاً من الصحابة وكثير أمن التابعين بأنّه يتشيّع أو أنّه شيعي، وربّما يعدّونه من أسباب الجرح وكأنّ حبّ أهل البيت عمل اجرامي أو أنّ تقدّم الخلفاء على عليّ أصل من اُصول الدين لا يجوز تجاوزه، مع أنّ الإمامة من الفروع عند أهل السنّة فكيف درجات الخلفاء ورتبهم .

وربّما يختلط الأمر على من ليس له إلمام بالاصطلاح، فلا يفرّق بينهما،

____________________________

1 . الصواعق 148 ط 1385 الطبعة الثانية .

2 . وسيوافيك مصدره وبيان عداء ابن أبي سفيان للإمام وعترته وشيعته .

( 9 )

وأكثر من يستعمل هذا الاصطلاح هو الذهبي في «ميزان الاعتدال» و «سير أعلام النبلاء» فيصف بعض التابعين و المحدّثين بالتشيّع ملمّحاً بذلك إلى ضعفهم، وقد رُمي أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري بالتشيّع كمعتزلة بغداد، والمقصود تفضيلهم عليّاً على سائر الخلفاء لا أنّه الإمام المنصوص بالخلافة .

3- الشيعة: من يشايع عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول و أئمّة الناس بعده، نصبهم لهذاالمقام بأمر من اللّه سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيّاتهم، والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنها في المقام، وقد اشتهر بأنّ عليّاً هو الوصي حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم(1) وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة...»(2) .

ومجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كل من

قال: انّ قيادة الاُمة لعلي بعد الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأنّه يقوم مقامه في كل ما يمت إليه سوى النبوة ونزول الوحي عليه. كل ذلك بتنصيص من الرسول، وعلى ذلك فالمقوّم للتشيّع وركنه الركين هو القول بالوصاية والقيادة بجميع شؤونها للإمام _ عليه السلام _ فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع ولا يدور عليه اطلاق الشيعة .

____________________________

1 . خطب الإمام أبو محمّد: الحسن السبط حين قتل أميرالمؤمنين خطبته الغرّاء فقال: أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي أخرجه الحاكم في مستدركه 1 / 172، وقد ذكر ابن أبي الحديد أشعاراً وأراجيز تضمّن توصيف الإمام بالوصاية عن الصحابة والتابعين، لاحظ شرح النهج 1 / 143 _ 150 باب ما ورد في وصاية علىّ من الشعر .

2 . نهج البلاغة، الخطبة الثانية .

( 10 )

لا شك أنّ للشيعة عقائد وآراء في مجاري الأصول والفروع وربّما يشاركون غيرهم فيها وربّما يخالفونهم، ولكنّها ليست من سماتهم وأعرافهم وإنّما هي اُصول وأحكام دعاهم الدليل إلى تبنّيها من الكتاب والسنّة والعقل .

مثلا إنّ الشيعة تقول باتّحاد الصفات الذاتية للّه سبحانه معها، وكونه سبحانه غير مرئي في الدارين، وأنّ كلامه مخلوق له، و أنّه لا يكلّف ما لا يطاق، وأنّ حقيقة الأمر في أفعال العباد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وأنّ الأنبياء معصومون إلى غير ذلك من الآراء، ولكنّها آراء كلامية للشيعة لا أنّها المقوّم للتشيّع بحيث لو خالف فيها رجل منهم، ولكنّه قال بالوصاية لعلي وبالقدرة لعترته، لخرج عن اطار التشيّع واُصوله.

إنّ التشيّع بهذا المعنى عبارة عن الاعتقاد باستمرار القيادة الإسلامية في قالب الوصاية لعلي وعترته، والشيعة تدّعي أنّ

هذه الفكرة غرست بيد النبي في أيّام حياته، وتبنّاها لفيف من المهاجرين في عصره، وبقوا عليها بعد حياته واقتدى بهم لفيف من التابعين لهم بإحسان وتواصل الاعتقاد به من تلك العصور إلى زماننا الحاضر، وهذا هو الّذي تدّعيه الشيعة وعليه بُني صرح التشيّع ونحن في غنى عن الاتيان بنصوص أعلامهم وأكابرهم في المقام الّتي تدل على أنّ الوصاية للإمام بعد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فالأولى طرح الموضوع على بساط البحث وعرضه على المرتكزات العقلية، ولأجل تسليط الضوء على المسائل المهمة نبحث عن الجهات التالية وكل واحدة منها في فصل خاص بها:

1- في تبيين متطلّبات الظروف في عصر النبي، فهل كانت تقتضي أن تكون صيغة الحكم هي التنصيص أو كانت تقتضي تفويض الأمر إلى اختيار الاُمّة لتنتخب الحاكم والقائد عليها؟

2- ما هو المرتكز في الأذهان في عصر الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وبعده في أمر القيادة؟

( 11 )

3- ما هو مقتضى الكتاب والسنّة في القيادة بعد الرسول؟

4- ما هو السر في مخالفة الجمهور لنصّ الرسول وتصريحه؟

5- مبدأ التشيّع وتاريخه ورواد التشيّع في عصر الرسول والصحابة والتابعين.

6- افتراضات وهميّة حول تاريخ الشيعة .

7- صيغة الحكومة الإسلامية عند أهل السنّة .

8- نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع .

9- الشيعة في عصر الدولتين الأموية والعبّاسية.

10- عقائد الشيعة الامامية الاثنا عشرية .

11- أئمّة الشيعة الاثنا عشر ونبذة عن حياتهم .

12- دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وتطوير العلوم .

13- دول الشيعة وبلدانهم عبر التاريخ .

14- مصادر علوم الشيعة .

فالذي نعتقد أنّ تحليل هذه الجهات يكشف الواقع للمحقّق ولا يُبقي له شكاً في أصالة التشيّع وأنّه استمرار للإسلام عبر الحقب والأعوام .

( 12 )

( 13 )

الفصل الأول بيان متطلبات الظروف في عصر

الفصل الأول بيان متطلبات الظروف في عصر الرسول

في مجال القيادة الإسلامية

( 14 )

( 15 )

لاشك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الاُمّة من شؤون النبي الأكرم مادام على قيد الحياة، ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفرق في صيغتها بعد الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الاُمّة .

الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي والّذي ينصّ على خليفة الرسول هو اللّه سبحانه عن طريقه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك ولكل من الاتّجاهين دلائل وبراهين، و المقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه؟ فدراستها تُسلّط الضوء على البحث الثالث و هو وجود النص من الرسول وعدمه، وإليك بيان ذلك:

إنّ الظروف السياسية الّتي كانت سائدة في المنطقة كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك، لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثُلاثي، الروم، الفرس، المنافقين، وخطرهم يتمثّل بشنّ هجوم مفاجىء كاسح أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين .

فمصالح الاُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر

( 16 )

الخارجي والداخلي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها، وبذلك يخسر الذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

أمّا العدوّ الأوّل فقد كان الامبراطورية الرومانية الّتي كانت تشكّل إحدى أضلاع الخطر المثلّث الّذي كان يحيط بالكيان

الإسلامي ويهدّده من الخارج .

وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على الدوام، حتّى انّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى .

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم «جعفر الطيار» و «زيد بن حارثة» و «عبداللّه بن رواحة» .

ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش .

من هنا خرج رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في السنة التاسعة للهجرة (غزوة تبوك) على رأس جيش كبير جدّاً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للاُمّة الإسلامية هيبتها من جديد .

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، فأعدّ قبيل ارتحاله جيشاً كبيراً من المسلمين. وأمّر عليهم «اُسامة بن زيد» وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام والحضور في تلك الجبهة.

( 17 )

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الّذي كان يهدّد الكيان الإسلامي، فكان الامبراطورية الايرانية (الفارسية) وقد بلغ غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور إيران، «خسرو پرويز» على تمزيق رسالة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وتوجيه الاهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعميله في

اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو يقتله إن امتنع.

و«خسرو» هذا و إن قتل زمن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إلاّ أنّ استقلال اليمن _ الّتي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلا من الزمن _ لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوّة الجديدة (القوّة الإسلامية) لهم .

والخطر الثالث وهو الأعظم (لأنّ القلعة الحصينة لا تهزم إلاّ من داخلها) كان هو خطر حزب النفاق الّذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل، إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخَطِر يقول في نفسه: إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ورحيله، وبذلك يستريح الجميع(1) .

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الأمّة الإسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليّاً _ عليه السلام _ وعرض عليه أن يبايعه ضدّ عُيِّن في السقيفة، ليستطيع بذلك

____________________________

1 . الطور / 30 .

( 18 )

شطر الاُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن حينها من الصيد في الماء العكر .

ولكنّ الإمام عليّاً _ عليه السلام _ أدرك بذكائه المفرط نوايا أبي سفيان الخبيثة فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

«واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً. لاحاجه لنا

في نصيحتك» ومع أنّ الإمام ردّه خائباً لكنّه استمرّ في فتنته لشقّ عصا الاُمّة فأخذ يتردّد في أزقّة المدينة منادياً:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ولا سيما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم وليس لها إلاّ أبو حسن علي(1)

ولقد بلغ دور المنافقين الهدّام في الشدة بحيث تعرّض القرآن الكريم لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمّد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقون، والحشر .

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصحّ أن يترك رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ اُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المعطيات الاجتماعية توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام _ بتعيين قائد للاُمّة _ ظهور أىّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، ويضمّن بذلك استمرار وبقاء الاُمّة الإسلامية وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

____________________________

1 . الكامل 2 / 325، العقد الفريد 2 / 249 .

( 19 )

إنّ تحصين الاُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة والحيلولة دون مطالبة كل فريق الزعامة لنفسه دون غيره وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن متحقّقاً إلاّ بتعيين قائد للاُمّة وعدم ترك الاُمور للأقدار .

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد الرسول» ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اُخرى طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف كما ستوافيك نصوصها.

***

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك في سالف الأيّام وأوردته في بعض محاضراتي الكلامية(1) وقفت على تقرير للمحقّق الشهيد السيد الصدر المغفور له فقد بيّن

متطلّبات الظروف في تقديمه على كتاب تاريخ الشيعة للدكتور عبداللّه فياض بنحو آخر وهو تقرير رصين نقتطف منه ما يلي:

كان النبي الأكرم يدرك منذ فترة أنّ أجله قد دنى وأعلن ذلك بوضوح في حجّة الوداع ولم يفاجئه الموت مفاجأة، وهذا يعني أنّه كان يملك فرصة كافية للتفكير في مستقبل الدعوة، وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنّه كانت أمام النبي ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.

الطريق الأوّل: أن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبياً ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الاُمّة وتوجيهها فترة حياته ويترك مستقبلها للظروف والصدف، وهذه السلبية لا يمكن افتراضها في النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لأنّها انّما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه .

____________________________

1 . الإلهيات 2 / 554 _ 584، لولدنا الفاضل الروحاني الشيخ حسن مكّي العاملي _ حفظه اللّه _ .

( 20 )

1- «الاعتقاد بأنّ هذه السلبية والاهمال لا تؤثّر على مستقبل الدعوة، وأنّ الاُمّة قادرة على التصرّف بالشكل الّذي يحمي الدعوة، ويضمن عدم الانحراف».

وهذا الاعتقاد لا مبرّر له من الواقع اطلاقاً، لأنّ الدعوة الإسلامية بما أنّها كانت تغييراً انقلابياً في بدايته، تستهدف بناء اُمّة، واستئصال كل جذور الجاهلية منها، تتعرّض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها، وتركها دون أي تخطيط. فهناك الأخطار تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط سابق، فإنّ الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة، فسوف تواجه الاُمّة لأوّل مرّة، مسؤولية التصرّف بدون قائدها، تجاه مشاكل الدعوة وهي لا تملك أي مفهوم مسبق بهذا الصدد. وسوف يتطلّب منها الموقف تصرّفاً سريعاً آنيّاً بالرغم من خطورة المشكلة، لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر .

فلم تكن إذن خطورة الموقف

بعد وفاة النبي شيئاً يمكن أن يخفى على أي قائد مُمارس للعمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء .

2- الّذي يمكن أن يفسّر سلبية القائد تجاه مستقبل الدعوة ومسيرها بعد وفاته، أنّه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبية لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ ذلك الخطر، لأنّه ينظر إلى الدعوة نظرة مصلحيّة فلا يهمّه إلاّ أن يحافظ عليها مادام حيّاً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها ولا يعني بحماية مستقبلها بعد وفاته.

وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي حتّى لولم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة، وافترضناه قائداً للقائد الرسول، في اخلاصه لدعوته، وتفانيه فيها، وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته، وكل تاريخه يبرهن على ذلك.

الطريق الثاني: أن يخطّط الرسول القائد لمستقبل الدعوة بعد وفاته ويتّخذ

( 21 )

موقفاً إيجابياً فيجعل القيمومة على الدعوة ممثّلة على أساس نظام الشورى الّذي يضم مجموع المهاجرين والأنصار، فهذا الجيل الممثّل للأُمّة هو الّذي سيكون قاعدة للحكم ومحوراً لقيادة الدعوة في خط نُمُوّها. وفيما يلي ما يرد تلك الفكرة:

1- لو كان النبي قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً ايجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة، واسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام، لكان من أبده الأشياء الّتي يتطلّبها هذا الموقف الايجابي، أن يقوم الرسول القائد بعملية توعية للاُمّة والدعاة، على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله واعطائه طابعاً دينياً مقدّساً، واعداد المجتمع الإسلامي اعداداً فكريّاً وروحيّاً لتقبّل هذا النظام، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسياً على أساس الشورى وانّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبليّة وعشائريّة تتحكّم فيها القوّة والثروة

وعامل الوراثة إلى حدّ كبير.

ونستطيع بسهولة أن نُدرك أنّ النبيّ لم يمارس عمليّة التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية لأنّ هذه العملية لو كانت قد اُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وفي ذهنية الاُمّة وعلى أقل تقدير في ذهنية الجيل الطبيعي منها، الّذي يضمّ المهاجرين والأنصار بوصفه، وهو المكلّف بتطبيق نظام الشورى، مع أنّنا لانجد في الأحاديث المأثورة عن النبي أىّ صورة تشريعية محدّدة عن نظام الشورى، وأمّا ذهنية الاُمّة أو ذهنية الجيل الطبيعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذلك القبيل .

ثمّ إنّه ( _ رحمه الله _ ) استشهد بفعل الخليفة الأوّل حيث لم يمارس نظام الشورى في حال حياته وقام بتنصيب عمر مكانه، كما فعل ذلك أيضاً الخليفة الثاني في نطاق

( 22 )

خاص فجعله محصوراً في ستّة أشخاص، وسيوافيك تفصيل ذلك في الفصل الثاني .

الطريق الثالث: وهو الطريق الوحيد الّذي بقى منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولا على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبىّ. وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً فيختار بأمر من اللّه سبحانه وتعالى شخصاً يرشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة، فيعدّه اعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً تتمثّل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية، وليواصل بعده (بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار)، قيادة الاُمّة وبناءها عقائدياً وتقريبها باستمرار نحو المستوى الّذي يؤهّلها لتحمّل المسؤوليات القيادية .

وهكذا نجد أنّ هذا هو الطريق الوحيد الّذي كان بالامكان أن يضمن سلامة مستقبل الدعوة وصيانة الحكم من الانحراف في خط نموّها وهكذا كان(1) .

وعلى ذلك فالقول بالتشيّع عبارة عن

القول بوجود ضمان لاستمرار الدعوة بتعيين الوصىّ من جانب الرسول بأمر من اللّه، وقد عرفت أنّ طبيعة الظروف في عصر الرسول كانت تقتضي ذلك على الوجه الكلّي، أي كان يتطلّب تعيين القائد وأن لا يترك الأمر إلى الاُمّة، وعدم اهماله وتركه للصدف، وستعرف في الفصل الثالث أنّه قد صدّق الخبرُ الخبرَ، وأنّ الرسول قد قام بتلك الوظيفة الّتي تضمن استمرار الدعوة وسلك هذا الطريق سلوكاً واضحاً .

* * *

وهناك بيان ثالث يعطي نفس ما أعطاه الوجهان وهو دراسة طبيعة الحكم من زاوية طروء الفراغ الهائل بعد رحلة الرسول فيما يمت إلى صلب الدين وهداية الاُمّة إلى الحق والحقيقة:

____________________________

1 . مقدّمة تاريخ الامامية 5 / 16 بتلخيص .

( 23 )

لقد درسنا متطلّبات الظروف ومقتضيات عصر النبي في مجال القيادة وإدارة دفّة الحكم ووصلنا إلى أنّ مصالح المسلمين كانت تكمن في تعيين القائد دفعاً للأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين بوفاة النبىّ، ومفاجأة الاُمّة بفراغ مكانه القيادي.

ويمكن لنا دراسة طبيعة الحكم من زاوية اُخرى وهي ملاحظة الفراغات الهائلة الحاصلة بعد رحلة القائد، لا من جهة القيادة السياسية والاجتماعية، بل في جانب حاجة الاُمّة إلى قائد رسالي يسد تلك الفراغات المعنوية فيما يمت إلى صلب الدين وأمر هداية الاُمّة في مجال تفسير الكتاب وشرح مقاصده أوّلا، وتبيين ما لم يبيّنه الرسول في مجال الأحكام ثانياً، وصيانة الدين الحنيف من محاولات التحريف ثالثاً فالاُمّة تواجه وتفاجىء هذه الفراغات الثلاثة، فمن الّذي يسدّها، فهل الاُمّة جميعاً أو المهاجرون والأنصار أو أهل الحل والعقد؟ والجواب: لا، لأن المفروض _ كما سيأتي _ قصورهم عن ملء الفراغ، فما هو الحل لهذا المشكل؟ وهذا هو الّذي يستهدفه هذا البحث. فنقول:

إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤولياته

على تلقّي الوحي الإلهي وابلاغ الآيات النازلة عليه بل كانت تتجاوز عن ذلك كثيراً فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه بالاضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف:

1- كان النبي الأكرم يفسّر الكتاب العزيز ويشرح مقاصده ويبيّن أهدافه ويكشف رموزه وأسراره.

2- وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الاسلامىّ عن طريق القرآن الكريم وسنَّته.

3- وكان يصون الدين من التحريف والدس، فكان وجوده مدار الحق وتميزه عن الباطل، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدس والترحيف إلى دينه.

( 24 )

ولا شك أنّ موت النبىّ وفقدانه سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة فيجب اعداد قائد له القابلية والصلاحية في سد تلك الفراغات، ولا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع بما كان يتمتّع به الرسول عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي، فيكون وعاء علم النبي ومخزن أسراره، ومودع حكمته، حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.

ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنوية لاتحصل لشخص بطريق عادي ولا بالتربية البشرية المتعارفة، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص وتربية إلهية خاصّة هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن للاُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.

كل ذلك يثبت نظرية التنصيص وأنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من اللّه سبحانه، أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات الّتي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول. وإليك تفاصيل هذه المفراغات، ونكتفي في كل مورد بموجز القول:

1- القرآن الكريم والابهامات الطارئة:

إنّ اللّه سبحانه يصف القرآن بأنّه نزل إلى النبىّ ليبيّن للناس ما نزل إليهم فيقول: (وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِنّاسَ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ)(1) وقال: (وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ

لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ)(2) فقد وصف النبي في هاتين الآيتين بأنّه مبيّن بما في الكتاب لا قارئ فقط، فكم فرق بين أن يقول: «لتقرأ

____________________________

1 . النحل / 44 .

2 . النحل / 64 .

( 25 )

للناس» وبين: (لتبيّن لهم) .

إنّ هذه الآيات تكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى ورغم أنّه منزّه عن مشابهة كتب الألغاز والطلاسم، يحتاج إلى مبيّن ومفسّر بسببين:

1- وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته .

2- غياب القرائن الحالية الّتي كانت الآيات محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومة للمخاطبين في ذلك الوقت .

وقد كان النبىّ بنفسه يقوم بتفسير القرآن الكريم وتبيين مجمله وتقييد مطلقه وما أشبه ذلك. وكانت القرائن الحالية معلومة وواضحة لدى الأصحاب. ولمّا ارتحل النبىّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى وحصل الفصل الطويل بينه وبين أمّته، حدث هناك فراغ هائل في تفسير القرآن فلاترى آية من الآيات إلاّ وفي تفسيرها آراء متضاربة إلى حدّ اختلفوا في تفسير الآيات الّتي تتعلّق بأعمالهم اليومية:

1- قال سبحانه في آية الوضوء: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ اَيْدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَاَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبِيْنِ)(1) وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية وصارت الاُمّة إلى قولين: فمن عاطف لفظ «أَرجلكم» على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح، ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل .

ومن المعلوم أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأىّ الرأيين هو الصحيح؟

2- لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:

____________________________

1 . المائدة / 6 .

( 26 )

(وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(1) وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضعه: فمن قائل إنّ القطع من

اُصول الأصابع دون الكف وترك الابهام كما عليه الإمامية، وجماعة من السلف. ومن قائل إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكف والذراع كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. ومن قائل إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(2) .

3- سئل أبوبكر عن الكلالة في قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الكَلالَةِ إنَ امْرُؤاٌْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)(3) فقال: إنّي سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر قال: إنّي لأستحيي اللّهَ أن أردّ شيئاً قاله أبوبكر.

4- أمر اللّه سبحانه الورثة باعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه: (وَ إنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِد مِنْهُمَا السُّدُسُ)(4) وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه باعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:(إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَمْ

____________________________

1 . المائدة / 38 .

2 . راجع الخلاف للطوسي (كتاب السرقة) 184. أحكام القرآن للجصاص 421: روي عن أبي هريرة انّ رسول اللّه قطع يد سارق من الكوع. ونقل ابن قدامة الخلاف إذا سرق ثانياً: فعن عطاء وربيعة وداود أنّه تقطع يده اليسرى، وعن الآخرين: تقطع رجله اليسرى. المغني 10 / 264 _ 265 .

3 . النساء / 176 .

4 . النساء / 12 .

( 27 )

يَكُن لَهَا وَلَدٌ فَإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ)(1) .

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ لا شك انّه لم يكن ثمّة ابهام في مورد هاتين الآيتين، بل حدث الابهام في ذلك فيما بعد

.

ألا يدل هذا على ضرورة من يخلف النبي حتّى يرفع الستار عن وجه الحقّ بما عنده من علوم مستودعة .

2- الرسالة الإسلامية والحوادث المستجدّة:

إنّ اتّساع رقعة الدولة الإسلامية ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة جعلهم أمام موضوعات مستجدّة ومسائل مستحدثة، لم تكن معهودة ولا معروفة في عهد النبي الأكرم الّذي لم تكن فيه الدولة الإسلامية قد توسّعت كما توسّعت بعد وفاته، والتحاقه بالرفيق الأعلى .

وكان من الأمر المشكل أن يتحدّث النبي عن أحكام موضوعات لم يعرف المسلمون شيئاً من ماهياتها وتفصيلاتها، ولم يشاهدوا لها نظيراً في حياتهم، ولأجل ذلك كانوا يجهلون أحكام الموضوعات المستجدّة من دون أن يجدوا لها حلولا وأجوبة، هذا من جانب .

ومن جانب آخر أنّ الأحاديث الّتي رواها الصحابة والتابعون عن النبي الأكرم في مجال الأحكام لاتتجاوز عن خمسمائة حديث(2) حتّى قال الإمام الرازي: إنّ المنصوص حكمه من الموضوعات قليل جدّاً(3) ولنذكر للموضوع نماذج:

____________________________

1 . النساء / 176 .

2 . الوحي المحمدي 212 الطبعة السادسة .

3 . المنار 5 / 189 .

( 28 )

1- شغلت مسألة العول بال الصحابة فترة من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول الّتي واجهها جهاز الحكم، ويعني منه قصور التركة عن سهام ذوي الفروض. مثال ذلك: إذا ترك الميّت زوجة وأبوين وبنتين، ولمّا كان سهم الزوجة _ حسب نص القرآن _ الثمن وفرض الأبوين الثلث، وفرض البنتين الثلثين، والتركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين، فلمّا عرضت المسألة على عمر ابن الخطاب قال: واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن اُقسّم المال عليكم بالحصص، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة(1) .

رجل طلّق امرأته قبل

الإسلام مرّتين وفي الإسلام مرّة فهل تحرم عليه أو لا؟ فقال عمر بن الخطاب للسائل: لا آمرك ولا أنهاك، وقال عبدالرحمان بن عمر: ولكنّي آمرك ليس طلاقك قبل الإسلام بشيء(2) .

2- إنّ الجيل المعاصر للرسول لم يكن يملك تصوّرات واضحة محدّدة حتّى في مجال القضايا الدينية الّتي كان يمارسها النبي مئات المرّات وعلى مرأى ومسمع من الصحابة ونذكر على سبيل المثال لذلك، الصلاة على الميّت، فإنّها عبادة، كان النبي قد مارسها عادة مئات المرّات وأدّاها في مشهد عام من المشيّعين والمصلّين وبالرغم من ذلك يبدو أنّ الصحابة كانوا لا يجدون ضرورة لضبط صورة هذه العبادة مادام النبي يؤدّيها وماداموا يتابعون فيها النبي فصلا بعد فصل، ولهذا وقع الاختلاف بينهم بعد وفاة النبي في عدد التكبيرات في صلاة الميّت، فقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قال: قبض رسول اللّه والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _

____________________________

1 . أحكام القرآن للجصاص 2 / 109، مستدرك الحاكم 4 / 340 .

2 . كنز العمال 5 / 161 .

( 29 )

يكبّر سبعاً، وآخر يقول: سمعت رسول اللّه يكبّر خمساً، وآخر يقول: سمعت رسول اللّه يكبّر أربعاً، فاختلفوا في ذلك حتّى قبض أبوبكر، فلمّا ولّى عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك شقّ عليه جدّاً فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول اللّه، فقال: إنّكم معاشر أصحاب رسول اللّه متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه فانظروا أمراً تجتمعون عليه، فكأنّما أيقظهم، فقالوا: نعم ما رأيت يا أميرالمؤمنين الخ(1).

فقد لمس الخليفة أنّ الكتاب والسنّة النبوية غير وافيين بالحاجات الفقهية ولهذا كان

يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

فهذه تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولا في الكتاب والسنّة أو فيما تلقّوه من النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولذلك كانوا يحاولون استنباط قواعد ومقاييس لاتستند على أىّ دليل، فهل يصحّ هذا؟ مع أنّه سبحانه يصرّح بأنه أكمل دينه، وأتمّ نعمته فكيف يجتمع هذا الفراغ الفقهي في المسائل المستجدّة مع الإكمال؟

____________________________

1 . عمدة القارىء 4 / 129، ولاحظ مقدمة السيد الصدر على كتاب تاريخ الإمامية، للدكتور عبداللّه فيّاض .

( 30 )

3- المسلمون وصيانة الدين من التحريف:

إنّ أبرز ما كان يتمتّع به المسلمون في عصر الرسول هو صيانة الدين من الدسّ والتحريف وهو الخطر الّذي تعرّضت له جميع المذاهب السالفة، قال سبحانه: (مِنَ الَّذِيَنَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكِلِمَ عَن مَواضِعِه)(1) .

إنّ الاُمّة الإسلامية قد وصلت عند رحلة الرسول بفضل جهود صاحب الدعوة إلى درجة مرموقة من الوعي حفظت كتابها عن محاولات الزيادة والنقصان، نرى أنّ الصحابي الجليل أُبي بن كعب له موقف عظيم من عثمان في كيفيّة كتابة آية الكنز أعني قوله: (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الفِضَّةَ وَ لاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم)(2) فإنّ عثمان اراد اثبات الآية في المصحف بلا واو فقال أُبي: «لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي»، فألحقوها(3) .

ومع هذه المقدرة لم تستطع حفظ مفاهيمه وصيانة دينها عن الدس والتحريف فتفرّقت إلى مشبّهة، تتخيّل أنّ لربّها أعضاءً كأعضاء الإنسان، إلى جبري يرى الإنسان مسيّراً لامخيّراً، ويصوّر بعث الأنبياء أمراً لاجدوى فيه، إلى مرجئة لا ترى للعمل قيمة وتعطي للإيمان تمام القيمة، إلى ناصبىّ ينصب العداء للعترة الطاهرة، إلى إلى...، حتّى تفرّقت اُمّة

النبي الأكرم كتفرّق الاُمم السالفة، وهذا دليل واضح على أنّ الاُمّة الإسلامية ما بلغت يومذاك في الكفاءة والمقدرة العلمية إلى المستوى الّذي يؤهّلها لحفظ الإسلام أصله ولبّه، وقد مرّ في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة أنّ الوضّاعين والدجّالين من الأحبار والرهبان، والمغترّين بهم

____________________________

1 . النساء / 46 .

2 . التوبة / 34 .

3 . الدر المنثور 3 / 232 .

( 31 )

دسّوا بين المسلمين أحاديث موضوعة واسرائيليات ومسيحيات ومجوسيات كثيرة، ولقد عرفت الموضوعات الهائلة في عصر البخاري وشيوخه وتلاميذه، حتّى أنّه أخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث (1).

جاء في مسند أحمد ثلاثون ألف حديث وقد انتخبها من سبعمائة وخمسين ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث.(2) .

نحن نفترض أنّ متوسّط عدد الكلمات في الحديث عشرون كلمة فيكون مجموع ما صدر عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عشرين مليون كلمة في هذه الفترة القصيرة أي العشرة أعوام بالاضافة إلى ما كان لديه من أعمال ووظائف، وحروب وغزوات، واتفاقيات مع شيوخ القبائل، وارتياد إلى الأرياف، وتسيير دفّة الحكم، فهل كان بإمكانه أن يتكلّم بهذا العدد من الكلمات، سبحان اللّه، ما أجرأهم على البهتان! ولو رجعت أنت إلى قائمة الموضوعات والمقلوبات الّتي عرضناها لك في الجزء الأوّل(3)لجزمت بعدم كفاءة الاُمّة لصيانة الدين من الدس والتحريف.

هذه هي الفراغات الحاصلة بعد وفاة النبي الأكرم، فمقتضى الحكمة وتجسيد اكمال الدين الّذي جاء به الكتاب الكريم في قوله: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)(4) أن تعالج هذه المشاكل أي تفسير الكتاب العزيز برفع الستار والابهامات الطارئة على مفاهيمه، والإجابة على المسائل المستجدّة، والدفاع عن حمى الشريعة ولاتحل عقدة المشكلة ولا

____________________________

1 . الهدى الساري،

مقدمة فتح الباري 54 .

2 . طبقات الذهبي 9 / 17 .

3 . الجزء الأوّل من هذه الموسوعة / 74 .

4 . المائدة / 3 .

( 32 )

تسدّ تلك الفراغات إلاّ بإمام تمتّع بتربية إلهية، وإعداد غيبي، ولا تصل إليه الاُمة إلاّ بتعيين الرسول أو بتعيين من عيّنه كما في الأئمة الباقين، فعندئذ يتجسّد قوله سبحانه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً) وإلاّ لبقيت تلك الفراغات الهائلة وجرّت على الاُمّة الويل والويلات كما جرّتها _ وللأسف _ لأجل اعراض الاُمّة عن الإمام المنصوب .

هذا هو الّذي نفهمه من معنى الإمام وهو ميزان الحق والباطل وأنّه يرجع إليه في التعرّف على الصحيح والزائف.

وأمّا إذا كان الرجل على حدّ يقول: ولّيتكم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني وإن زِغْت فقوّموني فلا يصلح أن يكون إماماً بل يكون مأموماً فتصبح الرعية إماماً، والامام ماموما، ونعم ما يقول الشاعر الشيعي ابن حماد العبدي:

وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماماً إن أقام على الهدى أطعنا وإن ضلّ الهداية قوَّمنا

فقلنا إذا أنتم إمام إمامكم بحمد من الرحمن تُهْتم وما تُهْنا

ولكنّنا اخترنا الّذي اختار ربّنا لنا يوم خم ما اعتدينا ولا جُرنا

وهناك كلمة قيّمة للفيلسوف ابن سينا تشير إلى فائدة تنصيب الإمام فيقول: «ثمّ إنّ هذا الشخص الّذي هو النبي ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كل وقت، فإنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً(1) _ إلى أن قال _ والاستخلاف بالنص أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب(2)والتشاغب

____________________________

1 . اشارة إلى

سدّ الفراغات الحاصلة بعد وفاته .

2 . اشارة إلى أنّ مصالح الإسلام تكمن في النص .

( 33 )

والاختلاف»(1) .

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة: انّ مصالح الإسلام والمسلمين كانت تكمن في تعيين الإمام، لا تفويض الأمر إلى الأمّة، وترك الأمر للظروف والصدف لترسيه على أي شاطىء تختاره .

____________________________

1 . الشفاء 2 (الفن الثالث عشر من الالهيات الفصل الثالث والخامس) 558 _ 564 طبع ايران .

الفصل الثاني ماهو المرتكز في أمر القيادة في

الفصل الثاني ماهو المرتكز في أمر القيادة في

ذهن الرسول والاُمّة

( 36 )

( 37 )

قد عرفت أنّ مقتضيات الظروف ومتطلّباتها كانت تستدعي تعيين الإمام من جانب الرسول، كما أنّ كمال الدين في أبعاده الثلاثة المختلفة المذكورة آنفاً تستدعي ذلك أيضاً، فهلمّ معي ندخل في الموضوع الثاني الّذي ألمحنا إليه في بداية البحث ضمن الاُمور الّتي لا مناص للمحقّق إلاّ دراستها، وهو تبيين المرتكز في الأذهان في أمر الزعامة يوم بعث الرسول وبعده.

إنّ النصوص التاريخية تشهد بأنّ الرسول الأكرم خيّب آمال الطامحين في تولّي الخلافة من بعده وقال بأنّه بيداللّه، يعني لابيدي ولا بيد الناس، ويكفي في ذلك ما نتلوه:

1- لمّا عرض الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نفسه على بني عامر في موسم الحج ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم: «أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟» فقال النبي: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء»(1) .

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام 2 / 424 فلو كان الأمر ملقىً على عاتق الاُمّة فما معنى كون الأمر إلى اللّه؟

( 38 )

ولم يكن ذلك الأمر مختصّاً بالنبي الأكرم، بل الامعان في تاريخ أصحابه والخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبي يدلّ

على أنّهم انتهجوا أيضاً نهج تنصيب الخليفة، لا تفويض أمره إلى الاُمّة. فلو أغمضنا النظر عن خلافة أبي بكر وما جرى حولها من لغط وشغب، وضرب وشتم وارعاب وارهاب وغير ذلك من الاُمور الّتي تجعلها بعيدة كل البعد عن الشورى والانتخاب النزيه، فلنا في انتخاب الخليفتين الآخرين دليل واضح على أنّ المتصوّر من الخلافة عندهم هو تعيين الخليفة شخصاً لا تفويض أمر انتخابه للظروف والاُمّة .

2- قال ابن قتيبة: دعا أبوبكر عثمان بن عفّان فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها و أوّل عهده بالآخر داخلا فيها، انّي أستخلف علكيم عمر بن الخطاب...(1) .

ويظهر من ابن الأثير في كامله أنّه غشي على الخليفة أثناء الاملاء وانّما أكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه، ثم أفاق أبوبكر فقال: اقرأ علىّ، فقرأ عليه فكبّر أبوبكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي(2).

فهل يمكن للخليفة أن يلتفت إلى الخطر الكامن في ترك الاُمّة دون خليفة، ولا يلتفت إليه النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

3- وأمّا استخلاف عثمان، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ عمر طلب ستة أشخاص من أصحاب النبي وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيداللّه، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقّاص،

____________________________

1 . الامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 18 طبع مصر .

2 . الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 292، الطبقات الكبرى 3 / 200 طبع بيروت .

( 39 )

وعبدالرحمان بن عوف، وكان طلحة غائباً.

فقال: يا معشر المهاجرين الأوّلين، انّي نظرت في أمر الناس فلم

أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاوروا ثلاثة أيّام فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرّقوا في اليوم الثالث حتّى تستخلفوا(1). حتّى قال لصهيب: «صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما... وإن رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس»(2) .

وهناك كلمات صدرت من الصحابة في ثنايا خلافة الخلفاء وبعدهم تعرب عن أنّ الرأي السائد والمرتكز في أذهانهم هو تعيين الخليفة وانّ مسألة نظام الشورى شعار رفعه معاوية مقابل علي _ عليه السلام _ على الرغم من أنّه استخلف عندما مات، ولم يعتدّ بمنطقه وإنّما جرّده سلاحاً على علىّ، وإن كنت في ريب من هذا الأمر نتلو عليك كلماتهم الّتي صدرت عفواً وارتجالا عند موت الخليفة وارتحاله:

4- نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحسّ بالموت قال لابنه عبداللّه: اذهب إلى عائشة وأقرأها منّي السلام، واستأذن منها أن اُقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر، فأتاها عبداللّه بن عمر فأعلمها... فقالت: نعم وكرامة. ثمّ قالت: يا بنىّ أبلغ عمر سلامي فقل له: لا تدع اُمّة محمّد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم

____________________________

1 . الامامة و السياسة 1 / 23 .

2 . الكامل لابن الأثير 3 / 35 .

( 40 )

بعدك هملا، فإنّي أخشى عليهم الفتنة(1) فأتى عبداللّه (إلى أبيه) فأعلمه(2) .

5- نقل الحافظ أبو نعيم الاصفهاني المتوفّى عام 430 انّ عبداللّه

بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال: إنّي سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك، وزعموا أنّك غير مستخلف، وأنّه لو كان لك راعي إبل _ أو راعي غنم _ ثم جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيع، فرعاية الناس أشد(3) .

6- قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدّة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر فأتاه و خلا به فكلّمه بكلام وقال: إنّي كرهت أن أدع اُمّة محمّد بعدي كالضأن لاراعي لها(4) .

هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد، أو اتّفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدّمين من أعلام التاريخ و كتّاب السيرة وعلماء المسلمين، وسيوافيك الكلام في استخلاف الصحابة بعضهم لبعض.

ولو دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الأصل الّذي كان يعتقد به جميع الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة كان هو التنصيص والتعيين وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

____________________________

1 . وهل يمكن أن تلتفت اُمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ !

2 . الامامة و السياسة للدينوري 1 / 32 .

3 . حلية الأولياء 1 / 44 .

4 . الامامة والسياسة 1 / 168 طبع مصر.

( 41 )

الفصل الثالث ماهو مقتضى الكتاب والسنّة

الفصل الثالث ماهو مقتضى الكتاب والسنّة

في صيغة الخلافة بعد الرسول

( 42 )

( 43 )

إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول هو التنصيص لا التفويض إلى الاُمّة ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف، فنقدّم الكلام في السنّة فإنّها صريحة في التعيين وأمّا الكتاب فسيأتي

البحث عنه.

فنقول: إنّ سيرة النبي الأكرم ونصوصه في مواقف مختلفة تثبت بوضوح أنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ غرس النواة الاُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها، ويكفينا مؤونة ذلك، الموسوعات الحديثية في المناقب والفضائل والمؤلّفات الكلامية في أمر الولاية، ونحن نكتفي بالقليل من الكثير .

1- التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة:

بُعث الرسول الأكرم لهداية الناس وإخراجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرّ إلى الخير، ومن الشقاء إلى السعادة، و كانت الظروف المحدقة به قاسية جدّاً، لأنّه بعث في اُمّة عريقة في الوثنية، ويخاطبهم سبحانه: (لِتُنْذِرَ قَوْماً

( 44 )

ما أُنذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)(1)، فأخذ بالدعوة سرّاً ونشر دينه خفاءً سنوات عديدة إلى أن نزل قوله سبحانه: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(2) فعند ذلك أمر الرسول علي بن أبي طالب وهو شاب يافع يتراوح عمره بين (13 سنة إلى 15) أمره رسول اللّه أن يعد طعاماً ولبناً ثم دعا (45) رجلا من سُراة بني هاشم ووجوههم، وبعد أن فرغوا من الطعام قال رسول اللّه: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، واللّه لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وانّها الجنّة أبداً والنار أبداً _ ثم قال: - يا بني عبدالمطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، انّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، وقد أمرني اللّه عزّوجل أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي

و وصيّي وخليفتي فيكم» .

ولمّا بلغ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إلى هذا الموضع وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم، قام علي _ عليه السلام _ فجأة وقال: أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه، فقال له رسول اللّه: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة، ففي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته ويقوم علي ويعلن استعداده لمؤازرة النبي ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتّى إذا كان في المرّة الثالثة، أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين وقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(3) .

____________________________

1 . يس / 6 .

2 . الشعراء / 214 .

3 . مسند أحمد 1 / 111، تاريخ الطبري 2 / 62 _ 63، تاريخ الكامل 2 / 40 _ 41، إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة يقف عليها من سبر كتب السيرة _ عند سرد حوادث بدء الدعوة _ وكتب التفسير في تفسير الآية الآنفة في سورة الشعراء .

( 45 )

نحن لا نُريد أن نحوم حول الرواية ونعرض عن الإشارة إلى ماجنى عليها بعض المؤرّخين والكتّاب الجدد(1) ولكن نذكر نكتة أنّ النبي أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان، وما القيادة بعد النبي إلاّ استمرار لوظائف النبوّة، وإن كانت النبوّة مختومة ولكن الوظائف والمسؤوليات كانتا مستمرّتين.

2- حديث المنزلة:

روى أصحاب السير والحديث أنّ رسول اللّه خرج إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي: «أخرج معك»؟ فقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «لا»، فبكى علي فقال له رسول اللّه: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ

أنّه لا نبىّ بعدي، انّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي»، أخرجه البخاري في صحيحه(2) والاستثناء يدل على ثبوت ما لهارون من المناصب لعلي سوى النبوّة سيأتي توضيحه.

وروى مسلم في صحيحه انّ إمام الفئة الباغية قال لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسب أبا تراب فقال: امّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إلىّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه بعد ما شكى إليه علي بقوله: «يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان»: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه

____________________________

1 . كالدكتور محمد حسين هيكل في حياة النبي، لاحظ محاضراتنا في سيرة النبي وقد طبعت باسم (سيّد المرسلين 1 / 394 _ 397) .

2 . صحيح البخاري 5 باب فضائل أصحاب النبي باب مناقب علي 24 وغيره .

( 46 )

لا نبوّة بعدي» .

وسمعته يقول يوم خيبر: «لاُعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله» قال: فتطاولنا لها، فقال: «ادعوا لي عليّاً، فاُتي به أرمد العين، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح عليه.

ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْ نَدْعُ أبْناءَنا وَ أبْناءَكُمْ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي»(1) .

3- حديث الغدير:

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر وجيل، ولسنا بصدد اثبات تواتره وذكر مصادره فقد قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة، وانّما الهدف ايقاف القارىء على نصوص الخلافة في حقّ علي حتّى يقف على أنّ النبي الأعظم هو الباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى علي بالامامة والوصاية، وعلى أنّ مسألة

التشيّع قد نشأت قبل رحلته، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر وقد اعترف بصحّة سنده، يقول: إنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خطب بغدير خم تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس أنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلاّ نصف عمر الّذي يليه من قبله، وانّي لأظن أنّي يوشك أن اُدعى فاُجيب وانّي مسؤول وانّكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيراً، فقال: «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ ناره حقّ وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق بعد الموت وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ

____________________________

1 . صحيح مسلم 6 باب فضائل علي 120 _ 121 طبعة محمّد عليّ صبيح .

( 47 )

اللّه يبعث من في القبور؟» قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: «اللّهمّ اشهد» ثمّ قال: «يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا _ يعني عليّاً _ مولاه اللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه» ثمّ قال: «يا أيّها الناس انّي فرطكم وانّكم واردون علىّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصري إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة وانّي سائلكم حين تردون علىّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّوجلّ سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا علىّ الحوض»(1).

وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول _ صلى الله عليه وآله وسلم

_ بواد يقال له وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير، قال: «فخطبنا وظُلِّل لرسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال: «ألستم تعلمون، أو لستم تشهدون، أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»(2) .

وأخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صحّحها على شرط الشيخين قال: لمّا رجع رسول اللّه من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، فقال: «إنّي دعيت فأجبت، قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما،

____________________________

1 . الصواعق 43 _ 44، وأخرجه من طريق الطبراني وغيره، وحكم بصحّته.

2 . مسند الامام أحمد 4 / 372، وأخرجه الامام أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين، لاحظ الجزء الرابع الصفحة 281 .

( 48 )

فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض _ ثمّ قال: _ إنّ اللّه عزّوجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن _ ثمّ أخذ بيد علي فقال: _ من كنت مولاه فهذا وليّه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه...»(1) .

وأخرجه النسائي في خصائصه عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع النبي من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثمّ قال: «كأنّي دعيت فأجبت، وانّي تارك فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وأهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض _ ثمّ قال: _ إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن _ ثمّ أخذ بيد علي فقال: _ من كنت وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ

وال من والاه وعاد من عاداه» قال أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ فقال: وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه باُذنه(2) .

إنّ سؤال أبي الطفيل يعرب عن حقيقة مرّة، وهو أنّه يرى التنافي بين مضمون الحديث وعمل الاُمّة، فإنّ الحديث نصٌّ على ولايته وخلافته والاُمّة صرفتها عن علي، فلأجل ذاك عاد يتعجّب ويسأل، وليس التعجّب مختصّاً به، فهذا هو الكميت يصرّح به في هاشمياته ويقول:

ويوم الدوح دوح غدير خم أبان له الخلافة لو اُطيعا

ولكن الرجال تبايعوها فلم أر مثلها خطراً مبيعا

ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً ولم أر مثله حقّاً اُضيعا(3)

____________________________

1 . المستدرك 3 / 109، مع أنّ الذهبي في تعليقته على المستدرك يعلّق على مواضع من تصحيحات الحاكم صرّح في هذا المقام بصحّة الحديث .

2 . الخصائص العلوية 21 .

3 . الهاشميات طبعت غير مرّة وشرحها غير واحد من اُدباء العصر كالرافعي المصريّ، والأستاذ محمد شاكر الخياط وقد دبَّ إليها الدس والتحريف، لاحظ الغدير 2 / 181 .

( 49 )

ولو أردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته من الصحابة والتابعين والعلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد، وقد قام بحمداللّه أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود(1) .

والمهم هو دلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعلي بعد الرسول، ويكفي في ذلك التدبّر في الاُمور التالية:

1- إنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال في خطبته: «أنا أولى بهم من أنفسهم _ ثمّ قال: _ فمن كنت مولاه» وهذا قرينة لفظية على أنّ المراد من المولى هو الأولى، فالمعنى أنّ اللّه أولى بي من نفسي، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن كنت أولى

به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه. وهذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام.

2- ذيل الحديث وهو قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» وفي بعض الطرق «وانصر من نصره واخذل من خذله» فإنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لمّا نصّبه إماماً على الاُمّة بعده، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده وفيهم من يحقد عليه، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء، فعاد يدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله، ليتمّ أمر الخلافة، ولِيُعْلم الناس أنّ موالاته موالاة للّه وأنّ عداءه عداؤه، والحاصل أنّ هذا الدعاء لا يناسب إلاّ من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.

3- إنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أصدر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، ثمّ قال: إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا

____________________________

1 . العبقات للسيد مير حامد حسين (ت 1306)، والغدير للعلامة الفذ عبدالحسين الأميني (ت 1390)، وكلاهما من حسنات الدهر .

( 50 )

أولى بهم من أنفسهم، فقال: «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» .

4- إنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ذكر قبل بيان الولاية قوله: «كأنّي دعيت فأجبت» أو ما يقرب من ذلك، وهو يعرب أنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لم يبق من عمره إلاّ قليل يحاذر أن يدركه الأجل، فأراد سد الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب علىّ إماماً وقائداً من بعده .

هذه القرائن وغيرها الموجودة في كلامه، توجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد

العظيم ليس إلاّ إكمال الدين واتمام النعمة من خلال ما أعلن عنه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ انّ علياً قائد وإمام الاُمّة، ومن أراد التوسع في الاطلاع على هذه القرائن فليرجع إلى الأثر القيّم الغدير(1).

لا يشك من درس مضمون حديث الغدير وما حوله من القرائن يقف على أنّ المراد منه هو نصب علي للامامة والخلافة وهذا هو الّذي فهمه الحضّار من المهاجرين والأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين ممّن يُحتجّ بقوله في اللغة، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجال الأدب إلى العصر الحاضر، وهذا هو حسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسول اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله:

وقال له قم يا علي فانّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا(2)

حتّى انّ عمرو بن العاص الّذي لا يخفى عداؤه لعلي على أحد يقول في قصيدته الّتي أرسلها إلى معاوية شاكياً إيّاه:

وكم قد سمعنا من المصطفى وصايا مخصّصة في علي

____________________________

1 . الغدير 1 / 370، وقد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هو المراد من الحديث .

2 . رواة غير واحد من حفاظ الفريقين لاحظ الغدير 2 / 35 _ 37 .

( 51 )

وفي يوم خم رقى منبراً * وبلّغ والصحب لم ترحل

فأمنحه إمرة المؤمنين * من اللّه مستخلف المنحل

وفي كفّه كفّه معلناً * ينادي بأمر العزيز العلي

وقال: فمن كنت مولى له * علي له اليوم نعم الولي(1)

شبهتان واهيتان:

وقد توالى فهم الاُدباء والعلماء على ذلك في طيّات القرون عبر النظم والنثر.

غير أنّ هناك لفيفاً من الناس ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها، أبدى شبهتين ضعيفتين نذكرهما على وجه الإجمال:

الشبهة الاُولى:

إنّ المولى يراد به

معان مختلفة فمنها،المحبّ والناصر، فمن أين علم أنّ المراد بها المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف؟

يلاحظ عليه: أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو: الأولى. قال سبحانه: (فَالْيَوْمَ لا يُؤخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُم النَّارُ هِي مَوْلاكُمْ وَبِئسَ المَصير)(2) وقد فسّره غير واحد من المفسّرين بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم، غير أنّ الّذي يجب التركيز عليه هو أنّ الاُولى هو المعنى الوحيد للمولى

____________________________

1 . والقصيدة تربو على 66 بيتا، نقل قسماً منها ابن أبي الحديد في شرحه 10 / 56 _ 57 ونقلها برمتها الأميني في الغدير 2 / 115 _ 117 .

2 . الحديد / 15 .

( 52 )

وانّ كلّما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته، فقد ذكروا له من المعاني سبعة وعشرين معنى، خلطوا فيها المتعلّق بالمعنى، ومورد الاستعمال بالموضوع له، فقد قيل إنّ من معانيه الرب، والعم، والمعتق، والعبد، والمالك، والتابع، والمحب، والناصر وكلّها متعلّقات للمعنى، وليس له إلاّ معنى واحد وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة.

1- فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم، خلق العالمين كما شاءت حكمته يتصرّف فيه بمشيئته.

2- والعم أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والعطف عليه وهو القائم مقام والده الّذي كان أولى به.

3- و«المعتِق» أولى بالتفضّل على من أعتقه، كما أنّ المعتق أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه .

4- والمالك أولى بالتصرّف في ماله وكلاءة مماليكه .

5- والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه .

6- والمحب والناصر أولى بالدفاع عمّن أحبّه أو التزم بنصرته.

فإذن ليس للمولى إلاّ معنى

واحد، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في الموارد المختلفة .

الشبهة الثانية:

المراد أنّه أولى بالإمامة مآلا وإلاّ كان هو الإمام مع وجود النبي ولا تعرض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمة

( 53 )

الثلاثة عليه(1).

وهذه الشبهة من الوهن بمكان، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة، وهو يستلزم أن لا تعم ولايته جميع الناس والحضّار، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة، مع أنّ الشيخين _ حينما سمعا قول رسول اللّه _ قالا له: بخ بخ لك يا علي، أمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(2) .

حصيلة البحث:

إنّ من سبر غضون السير والتواريخ يقف على أنّ النبي الأكرم لم يبرح يدعو الناس إلى علي بالتصريح تارة، والاشارة اُخرى من بدء الدعوة إلى ختامها. فتارة يعرّفة بأنّه خليفته ووصيّه ووزيره، واُخرى بأنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى، وأنّ له كل المناصب الثابتة لهارون إلاّ منصب واحد وهو النبوّة، والدليل على ذلك هو الاستثناء «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» وقد كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في النبوّة قال سبحانه: (وَ أَخِى هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنِّى لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنا أَنتَُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ)(3) وقال سبحانه حاكياً عن موسى: (وَاجْعَل لِى وَزيراً مِنْ أَهْلِى * هَارُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ

____________________________

1 . الصواعق المحرقة 44 .

2 . مسند أحمد 4 / 281 .

3 . القصص / 34 _ 35 .

( 54

)

بِنا بَصيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)(1).

وثالثة ينصبه قائداً وإماماً في هواء حار وارض جافة في محتشد عظيم مبتدئاً كلامه بما يرجع إلى اُصول الدين من أخذ الشهادة من الناس على ولاية اللّه و ولاية الرسول ثم يأخذ بيد علي وهو على المنبر محرّكاً شعور الحاضرين وليشد القلوب نحو علي ويقول: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» .

ودلالة هذه الأحاديث على خلافة من عيّنه الرسول على وجه لا ينكره إلاّ مكابر ولا يردّه إلاّ معاند، وكفانا في الموضوع ما ألّفه أصحابنا حول هذه الأحاديث الثلاثة .

* * *

مرجعية أهل البيت الفكرية بعد الرسول:

دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في علي وعترته، وهناك أحاديث متوفّرة تسوقنا إلى مرجعيتهم الفكرية وأنّهم الأئمة والأوصياء بعد الرسول وأنّه لابدّ للمسلم أن يرجع إليهم في دينه، ويأخذ عنهم اُصوله وفروعه، وأنّ النبي الأكرم جعلهم المغزع بعده، والعترة والكتاب توأمان لايفترقان، وإليك بعض ما ورد عن الرسول في المقام:

4- حديث الثقلين:

إنّ النبي الأكرم أيقظ الغافلين وبيّن مرجع الاُمّة بعد رحلته بهتافه الدوي وقال: «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي

____________________________

1 . طه / 29 _ 36 .

( 55 )

أهل بيتي»(1) .

وقال: «إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2) .

وقال: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(3) .

وقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّي تارك فيكم

الثقلين: كتاب اللّه وأهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(4) .

وقال: «إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(5) .

وقال في منصرفه من حجّة الوداع ونزوله غدير خم: «كأنّي دعيت فاجبت، انّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(6) .

____________________________

1 . كنز العمال 1 / 44، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

2 . كنز العمال 1 / 44، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم .

3 . مسند أحمد 5 / 182، 189 .

4 . المستدرك للحاكم 3 / 148 .

5 . مسند أحمد 3 / 17 _ 26، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري .

6 . المستدرك للحاكم 3 / 109، أخرجه من حديث زيد بن أرقم .

( 56 )

5- حديث السفينة:

إنّ النبي الأكرم يشبّه أهل بيته بسفينة نوح ويقول: «ألا انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق»(1). وفي حديث آخر يقول: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له»(2) وفي حديث ثالث: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس»(3) .

ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج اللّه ولفيف من أهل بيته، وقد فهمه ابن حجر وقال: يحتمل أنّ

المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون، _ وقال في مقام آخر _ انّه قيل لرسول اللّه: «ما بقاء الناس بعدهم؟» قال: «بقاء الحمار إذا كسر صلبه»(4).

والمراد من تشبيههم _ عليهم السلام _ بسفينة نوح: أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه واُصوله عن أئمّتهم الميامين نجا من عذاب اللّه، ومن تخلّف عنهم كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا غرق في الحميم.

والوجه في تشبيههم بباب حطة هو أنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله، والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة، وقد جعل انقياد

____________________________

1 . مستدرك الحاكم بسنده إلى أبي ذر 3 / 151 .

2 . الأربعون حديثاً للنبهاني 216، نقله عن الطبراني في الأوسط .

3 . مستدرك الحاكم بسنده إلى ابن عباس 3 / 149 .

4 . الصواعق لابن حجر (الباب الحادي عشر): 91، 142 .

( 57 )

هذه الاُمّة لأهل بيت نبيّها وأتباعهم، مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة.

ثمّ إنّ ابن حجر قد أوضح حقيقة التشبيه في كلامه وقال: «ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم، وهلك في مفاوز الطغيان _ إلى أن قال: _ وبباب حطة _ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة _ انّ اللّه جعل دخول ذلك الباب الّذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الاُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها»(1)

.

وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق .

***

الائمّة الاثنا عشر في حديث الرسول:

إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول، وإن لم تذكر أسماءهم، ولكنّها تذكر سماتهم وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر رواها أصحاب الصحاح والمسانيد نذكرها إكمالا للبحث، وهي على وجه لا ينطبق إلاّ على من عيّنهم الرسول ووصفهم بالخلافة والزعامة، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة. والإمعان فيها يرشد القارىء إلى الحق، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطىء الأمان والحقيقة.

____________________________

1 . لاحظ الصواعق (الباب الحادى عشر): 91، وقد علّق سيّدنا الإمام شرف الدين على كلام ابن حجر وقال: قل لي لماذا لم يأخذ بهدي أئمّتهم في شيء من فروع الدين و عقائده، ولا شيء من اُصول الفقه وقواعده، ولا شيء من علوم السنّة والكتاب، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب فلماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، وأهلكها في مفاوز الطغيان (المراجعات 25) .

( 58 )

ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً وإليك البيان:

الائمة الاثنا عشر:

1- روى البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه يقول: «يكون اثنا عشر أميرا» فقال كلمة لم اسمعها، فقال أبي: أنّه قال: «كلّهم من قريش»(1) .

2- روى مسلم عنه أيضاً قال: دخلت مع أبي على النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» قال ثمّ تكلّم بكلام خفي علىّ، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش» .

3- و روى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً

ماوليهم اثنا عشر رجلا» ثمّ تكلّم النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بكلمة خفيت علىّ فسألت أبي: ماذا قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟فقال: «كلّهم من قريش» .

4- وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلاّ أنّه لم يذكر: «لا يزال أمر الناس ماضياً».

5- و روى مسلم عنه أيضاً يقول: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلّهم من قريش»(2) .

____________________________

1 . صحيح البخاري 9 / 101، كتاب الأحكام، الباب 51 (باب الاستخلاف) .

2 . صحيح مسلم 6 / 3 .

( 59 )

6- وروى مسلم عنه ايضاً قال: انطلقت إلى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ومعي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» فقال كلمة صمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟، قال: «كلّهم من قريش» .

7- وروى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(1) .

8- روى أبو داود عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر» فكبّر الناس وضجّوا، ثمّ قال كلمة، خفيت، قلت لأبي: يا أبه ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش»(2).

9- روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً» ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الّذي يليني، فقال: قال: «كلّهم

من قريش» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن جابر، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر(3) .

10- روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي يقول: «يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر خليفة» ورواه عن 34 طريقاً(4) .

11- روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمّي عند النبي فقال: «لا يزال أمر اُمّتي

____________________________

1 . صحيح مسلم 6 / 3 _ 4 .

2 . صحيح أبي داود 2، كتاب المهدي 207 (طبع مصر) وروى أيضاً نحوه بطريقين آخرين .

3 . صحيح الترمذي 2 / 45 (طبع عام 1342) .

4 . مسند أحمد 5 / 86 _ 108 .

( 60 )

صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة» ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمّي _ وكان أمامي _ : ما قال يا عم؟ قال: قال: «كلّهم من قريش»(1) .

ونحن نكتفي في حديث «الأئمة الاثنا عشر» بالأحاديث الاثنا عشر ولا نتجاوز عنها تيمّناً وتبرّكاً، ورواه كثير من أعلام الاُمّة في مجامعهم الحديثية والتاريخية.

1- رواه أحمد بسنده عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبداللّه بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمان هم سألتم رسول اللّه كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال عبداللّه بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللّه فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل(2) .

3- وقال المتّقي الهندي في منتخب كنز العمّال: يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل، وأخرجه عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك(3) .

____________________________

1

. المستدرك على الصحيحين (كتاب معرفة الصحابة) 3 / 617 _ 618 (طبع الهند) .

2 مسند أحمد 1 / 398 .

3 . منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد 5 / 312 .

( 61 )

4- قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود، انّه سئل كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول اللّه فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل»(1) .

5- قال ابن حجر في الصواعق: أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة انّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(2) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمة بعد النبي الأكرم اثنا عشر، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم، غير أنّ المهم هو تعيين مصاديقها والاشارة إلى أعيانها وأشخاصها، ولا تعلم إلاّ بوجود السمات الواردة في هذه الأحاديث فيهم، وأمّا السمات الواردة فيها فإليك مختصرها:

1- لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة .

2- لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً .

3- لا يزال الدين قائماً .

4- لا يزال أمر اُمّتي صالحاً .

5- لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً .

6- حتّى يمضي فيهم اثنا عشر .

7- ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش .

8- عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل .

وهذه السمات والخصوصيات لا توجد مجتمعة إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين، وتلك الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم

____________________________

1 . تاريخ الخلفاء 10 .

2 . الصواعق 189 ط تخريج عبدالوهاب وعبد اللطيف .

( 62 )

خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، وسيوافيك

تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة .

فالأئمّة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين، أوّلهم علي أميرالمؤمنين، وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المثل العليا في سماء الاخلاق وفي القمّة والذروة في العلم والاحاطة بالقرآن والسنّة، وانّه سبحانه بهم حفظ دينه عن التحريف وبهم اعتزّ الدين .

وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق: «كلّهم تجتمع عليهم الاُمّة» على فرض الصّحة، فالمراد تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم، و _ على فرض الابهام _ لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث .

هلمّ معي نقرأ ماذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث، فكيف يفسّرها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرم؟ وإليك نقل كلامهم:

1- إنّ قوله اثنا عشر اشارة إلى عدد خلفاء بني اُميّة وأوّل بني اُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدتهم اثنا عشر ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير لكونهم صحابة، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أو لأنّه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبداللّه بن الزبير، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبدالملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبدالعزيز ثم يزيد بن عبدالملك ثم هشام بن عبدالملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمّد(1) .

____________________________

1 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 212 ط دار المعرفة. وفي المصدر: عدتهم ثلاثة عشر .

( 63 )

يلاحظ عليه: إذا كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الأخبار بذلك. ثمّ كيف يقول انّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما

عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح فيقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً»، أو «أمر اُمّتي صالحاً» والعجب انّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الاُولى وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية بين قتل ونهب وتدمير.

2- «إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي» وهذا من أغرب التفاسير لأنّها ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرم ولأجل تبادر ذلك سأل الناس عبداللّه بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الاُمّة(1) .

3- ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض انّ المراد الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس وهم أبوبكر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، وعبدالملك، وأولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وعمر بن عبدالعزيز بين سليمان ويزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبدالملك(2) .

ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الّذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق

____________________________

1 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 213 ومثله ما نقله أيضاً: اثنا عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة .

2 . المصدر نفسه ولاحظ تاريخ الخلفاء 11 .

( 64 )

وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها.

وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك وكفى في مساويه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى(1) .

كيف اعتزّ

الدين بالوليد بن يزيد بن عبدالملك المنتهك لحرمات اللّه الّذي حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فخرج (فَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلّ جَبّار عَنِيد) فألقاه ورماه بالسهام وقال:

تهددني بجبّار عنيد * فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ماجئت ربّك يوم حشر * فقل يا رب مزّفتي الوليد

ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الّذي اسودّت صفحاته بسبب أفعالهم الشنيعة.

إنّ للكاتب القدير السيد محمّد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال: والّذي يستفاد من هذه الروايات:

1- أنّ عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش .

2- أنّ هؤلاء الاُمراء معيّنون بالنص كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: (وَ لَقَد أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً)(2) .

3- أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي أو حتّى تقوم الساعة كما هو مقتضى رواية مسلم «انّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة» وأصرح من ذلك روايته الاُخرى في نفس الباب: «لا يزال هذا الأمر في قريش

____________________________

1 . تاريخ الخلفاء 250 و غيره.

2 . المائدة / 12 .

( 65 )

ما بقى من الناس اثنان».

إذا صحّت هذه الاستفاده فهي لا تلتئم إلاّ مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض .

وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة _ بالاستحقاق _ لا بالسلطة الظاهرية لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه، وهي في حدود السلطة

التشريعية لا التكوينية، لأنّ هذا النوع من السلطة هو الّذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلّينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولاّها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم _ أمويين وعباسيين _ باتّفاق المسلمين .

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة فلا يحتمل أن يكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها .

والسيوطي _ بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة _ خرج برأي غريب وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز في بني اُمية وكذلك الظاهر لما اوتيه من العدل، وبقي الاثنان منتظران، أحدهما المهدي لأنّه من أهل بيت محمّد ولم يُبيّن

( 66 )

المنتظر الثاني، ورحم اللّه من قال في السيوطي: انّه حاطب ليل» .

* * *

يستفاد من حديث الثقلين اُمور مهمة لو اهتمّت بها الاُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت واستغنت عن غيرهم، وهاهي:

1- إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم إشارة إلى أنّ عندهم علم القرآن وفهمه علماً لائقاً بشأنه .

2- إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر .

3- يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم .

4-

إنّ العترة لا تفارق الكتاب، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة .

أفيصحّ بعد هذه التصريحات والاشارات ترك العترة والأخذ بقول غيرهم؟

مقتضى الكتاب في صيغة القيادة بعد الرسول:

قد تعرّفت على مقتضى السنّة النبوية في مجال القيادة بعد الرسول، وكلّها تدل على أنّ الرسول قام بتعيين الوصي بعده، وعيّن خليفة المسلمين تعييناً شخصياً، وقد كرّر وأكّد ذلك في مواقف متعدّدة _ حتّى لا يبقى شكّ _ وحاول تأكيد الأمر في آخر ساعة من حياته الشريفة عن طريق الكتابة، ولكن حال بعضهم دون تحقق اُمنية الرسول، فلم يكتب شيئاً، وأمرهم بالخروج عن مجلسه، ونردف ذلك البحث بما وعدناه سابقاً من تبيين مقتضى الكتاب في مسألة الخلافة، وقد نزلت آيات أوضحها آية الولاية في سورة المائدة، فنحن نأتي بها مع ما يتقدّمها حتّى تتّضح دلالتها: (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُم أَولِيَاءُ بَعْض وَ مَن يَتَوَلَّهُم مَنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمينَ*

( 67 )

فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأَتِىَ بِالْفَتْحِ أوْ أَمْر مِنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى المُؤمِنيِنَ أَعِزَّة عَلى الكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ

وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ )(1)، وموضع الاستدلال هو الآيتان الأخيرتان.

وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها:

روى المفسّرون عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلا أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملىّ الوفي، وعلي راكع يشير بيده للسائل: اخلع الخاتم من يدي. فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل ب_ (إنَّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضايعا * وما المدح في ذات الإله بضايع

فأنت الّذي أعطيت إذ أنت راكع * فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد * ويا خير شار ثم يا خير بايع

____________________________

1 . المائدة / 51 _ 56 .

( 68 )

فأنزل فيك اللّه خير ولاية * وبيّنها في محكمات الشرايع(1)

وإليك تفصيل الآية حرفياً:

1- الولي والمولى والأولى بمعنى واحد، قال رسول اللّه: «أيّما امرأة نكحت بغير اذن وليّها فنكاحها باطل...»(2) وقال: «يا علي أنت ولي كل مؤمن من بعدي»(3) ولو اُطلق على الناصر والمحب فهو كاطلاق المولى عليهما، وقد عرفت أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأولى، فلو أُطلق على الناصر والمحب فلأجل أنّ المحب أولى بالدفاع عن محبوبه والتزامه بنصرته، والصديق أولى بحماية صديقه، فتفسير الولي بالمحب والناصر والصديق من باب خلط المتعلّق بالمفهوم .

2- لو كان المراد من الولي هو الناصر وما أشبهه يلزم الاكتفاء بقوله (إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا) من دون حاجة إلى التقييد بإيتاء الزكاة حال الركوع .

3- لو كان الولي بمعنى الناصر أو المحب يلزم وحدة الولي والمولّى عليه في قوله: (والّذين آمنوا) وما هذا إلاّ

لأنّ كل مؤمن ناصر لأخيه المؤمن ومحبّ له(4). مع أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أولياء ثلاثة: 1- اللّه، 2- رسوله، 3- المؤمنون بالشروط الثلاثة، وأنّ هناك مولى عليه، وهو غير الثلاثة ولا يتحقّق

____________________________

1 . رواه الطبري في تفسيره 6 / 186 والجصاص في أحكام القرآن 2 / 446 والسيوطي في الدر المنثور 2 / 293 وغيرهم .

2 . مسند أحمد 6 / 66 روتها عائشة عن النبي الأكرم .

3 . مسند أحمد 4 / 437، مستدرك الحاكم 3 / 111 .

4 . اللّهمّ إلاّ أن يقول القائل انّ المؤمنين الموصوفين بالأوصاف الثلاثة أولياء المؤمنين غير الموصوفين بها وهو كماترى تفسير ساقط .

( 69 )

ذلك المعنى إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شؤون المولّى عليه، فهؤلاء الثلاثة أولياء وغيرهم مولّى عليهم .

4- فإذا كانت الحال كذلك فلماذا أفرد الولي ولم يجمعه؟ والجواب عنه واضح، وهو أنّه أفرده لإفادة أنّ الولاية للّه على طريق الأصالة وللرسول والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل إنّما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع.

5- إنّ قوله (الّذين يقيمون) بدل من (الذين آمنوا) كما أنّ الواو في قوله (وهم راكعون)للحال، وهو حال من قوله (يؤتون الزكاة) معنى ذلك انّهم يؤتونها حال ركوعهم في الصلاة .

6- إذا كان المراد من قوله: (الّذين آمنوا) هو الإمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ فلماذا جيىء بلفظ الجماعة؟ والجواب: جيىء بها ليرغّب الناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقّد الفقراء حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروا إلى

الفراغ منها(1) .

وهناك وجه آخر، وهو أنّه أتى بلفظ الجمع دون المفرد لأجل أنّ شانئي علي وأعداء بني هاشم، وسائر المنافقين من أهل الحسد والحقد، لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد، إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في تمويه، ولا ملتمس في التضليل، فيكون منهم _ بسبب يأسهم _ حينئذ ما تُخشى عواقبه على الإسلام، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاء من معرّتهم، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعدّدة وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً

____________________________

1 . الكشاف 1 / 648 طبع مصر الحلبي .

( 70 )

حتّى أكمل اللّه الدين وأتمّ النعمة، جرياً منه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم(1) .

وهناك وجه ثالث أشار إليه الشيخ الطبرسي في تفسير الآية، وهو أنّ النكتة في اطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين، تفخيمه و تعظيمه، وذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (2) .

7- إنّما ذكر من صفات الولي من الذين آمنوا إقامة الصلاة، وايتاء الزكاة، لأنّهما ركنان عظيمان للإسلام ووظيفتان رئيسيتان للقائد، وهو أن يقيم الصلاة (لا أن يصلّي وحده) ويؤتي الزكاة .

وعلى كل تقدير فتقييد الولي من المؤمنين بالاُوصاف الثلاثة، وتقييد إيتاء الزكاة بحال الركوع يجعل الكلّي مخصّصاً في فرد واحد، وهو مثل قولك: «رأيت رجلا سلّم علىّ أمس قبل كل أحد» وهو وإن كان كلّياً قابلاً للانطباق على كثيرين قبل التطبيق، لكنّه بعده ينحصر في فرد .

ثمّ إنّ إمام المشكّكين فخر الدين الرازي استشكل على الاستدلال بالآية بوجوه رديئة ساقطة نذكر بعضها ونترك الباقي صيانة

للوقت عن الضياع، ولعلّه لأجل هذه التشكيكات لمّا دنا أجله أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الاصفهاني وصيّة في الحادي والعشرين من محرّم سنة 606، وجاء في الوصيّة قوله: فاعلموا أنّي كنت رجلا محبّاً للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمّيته وكيفيته،

____________________________

1 . المراجعات 146 .

2 . مجمع البيان 2 / 211 .

( 71 )

سواء أكان حقّاً أو باطلا أو غثّاً أو سميناً...(1).

ألف _ إنّ المراد من الولي في الآية ليس هو المتصرّف، بل المراد الناصر والمحب، بشهادة ما قبلها وما بعدها، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنّه تعالى قال: (يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء) وليس المراد لاتتّخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرّفين في أرواحكم وأموالكم، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم. بل المراد لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم، ثمّ لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَ الكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ)_ المائدة/57_(2).

حاصل التشكيك هو أنّ الولي في الآية المتقدّمة والمتأخّرة بمعنى المحب والناصر فلو فسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك .

والجواب أنّ الولي في الآية المتقدّمة عليها والمتأخّرة عنها، وفي نفسها بمعنى واحد ليس له في جميع المقامات إلاّ معنى واحد وهو الأولى، غير أنّه يختلف متعلّق الولاية جوهراً أوّلا وسعة وضيقاً ثانياً، حسب اختلاف موصوفها ومن قامت به الولاية. فلو كان الولي هو اللّه والرسول فيكون متعلّق الولاية هو النفس والنفيس، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكيف بأموالهم، فهما أولى بالتصرّف في كل مايمت إلى المؤمنين .

ولو كان الولي من الأب والجد،

يكون المتعلّق شؤون الصغير ومصالحه ،

____________________________

1 . دائرة المعارف لفريد وجدي 4 / 148 .

2 . مفاتيح الغيب 12 / 28 .

( 72 )

من حفظ نفسه وعرضه وماله. فيكون أولى بالتصرّف من الصغير في أمواله وشؤونه، ومنها تزويجه بالغير .

ولو كان الموصوف رئيس القبيلة، حيث كان الرائج في عهد الجاهلية، عقد ولاء الدفاع بين القبيلتين، فيكون هو أولى بالدفاع عن المنتمي في النوائب والنوازل، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة حسب الموصوف.

وبذلك يظهر أنّ المراد من الأولياء في قوله (لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء) هو الأولى لما ستعرف من أنّها نزلت في حق (عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبىّ) واليهود، وكان بينهما وبين اليهود عقد ولاء الدفاع فكان كل من الطرفين وليّاً للآخر، أي أولى بالدفاع والذب عن المولى عليه من غيره. قال المفسّرون: نزلت في حق عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبي بعد غزوة بدر، حيث لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: آمنوا قبل أن يُصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن ضيف (اليهودي): أغرّكم أن اصبتم رهطاً من قريش لاعلم لهم بالقتال، أما لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدان لقتالنا، فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه إنّ لي أولياء من اليهود، كثير عددهم قويّة أنفسهم، شديدة شوكتهم، وانّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلاّ اللّه ورسوله. فقال عبداللّه بن اُبي: لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود، لأنّي أخاف الدوائر فلابد لي منهم. فقال رسول اللّه: «يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه» قال: اذن اقبل،

وأنزل اللّه الآية(1) .

فقد اتّخذ الرجلان اليهود أولياء ليتفرّع عليه النصرة والذبّ كما أنّه سبحانه

____________________________

1 . مجمع البيان 2 / 206 وغيره .

( 73 )

جعل الأب والجد أولياء ليتفرّع عليه حفظ شؤون المولى عليه، وعلى ضوء ذلك فالولي في جميع المقامات بمعنى واحد، والاختلاف انّما هو فيما يتفرّع على الولاية، لا أنّه تارة بمعنى الأولى وثانياً بمعنى الناصر وثالثاً بمعنى المحب .

ب _ والّذي يرشدك على أنّ الولي في قوله سبحانه: (يا أيّها الّذين آمنوا لا تتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء) ليس بمعنى الحب والمحبّة كما احتمله الرازي، انّه ورد نظير هذا النص في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَ مَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(1) وليس الولي بمعنى المحبوب. وذلك لأنّ حب الآباء والاخوان أمر فطري، فطرالناس عليه من غير فرق بين الكافر والمسلم، ولو كان المراد من التولّي هو الحب يلزم النهي عن أمر جبلّيّ ولأجل ذلك لا محيص عن تفسيره باتخاذهم أولياء على غرار اتخاذ الرسول والإمام أولياء، بأن تكون ولايتهم على أعناق المؤمنين، كما أنّه ليس أيضاً بمعنى النصرة لجواز طلب النصرة من الكافر وهذا هو القرآن يجعل شيئاً من الزكاة للمؤلّفة قلوبهم .

ج - إنّ قوله (ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم) يحكي عن أنّ التولّي على وجه يلحق المتولّي باليهود والنصارى، وهو لا ينطبق على مجرّد الحب وطلب النصرة والحبّ لا لأجل كونهم كافرين، بل لأسباب اُخرى من حسن الجوار وغيره .

د _ إنّه سبحانه يندّد ببعض المؤمنين بقوله: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه...)وهذا يعرب عن أنّ التولّي كان على وجه ينتهي إلى ارتداد المتولّي

.

____________________________

1 . التوبة / 23 .

( 74 )

أفبعد هذه القرائن يصحّ للرازي أن يفسّر التولّي في هذه الآيات بالحب والنصرة. على أنّ تفسير ولاية اللّه والرسول بالحبّ والنصرة تفسير بأمر واضح لا يحتاج إلى زيادة تأكيد .

هذه هي الشبهة المهمّة في كلامه، وأمّا باقي الشبهات، فليس بشيء ذي بال.

مثلا يقول: لو نزلت الآية في حق علي، يجب أن يكون نافذ التصرّف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال(1) .

والجواب: انّ هذا المقام كان ثابتاً لعلي كثبوته للّه سبحانه والرسول، غير أنّه لا يقوم بتطبيقه على صعيد الحياة إلاّ عند الحاجة، وهو عند ارتحال الرسول ومفارقته الاُمّة، وهذا هو المفهوم من تعيين ولي العهد عند الاُمم .

وأنت إذا قارنت الآية وما ورد حولها من شأن النزول، وما نزل في حق علي من الآيات التي تعرّف طهارته من الذنب(2)، وكون حبّهم ومودّتهم أجراً للرسالة(3)، وانّه نفس النبي الأكرم(4)، انّ بيته من أفضل البيوت الّتي قال في حقّها سبحانه: (فِي بُيُوت أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ) _ النور / 36 _ (5) لوقفت على أنّ الذكر الحكيم يواكب السنّة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في مجال القيادة

____________________________

1 . مفاتيح الغيب 12 / 28 .

2 . اشارة إلى نزول قوله سبحانه: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في حق علي وأهل بيته _ الأحزاب / 33 _ .

3 . اشارة إلى قوله سبحانه: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى) _ الشورى / 23 _ .

4 . إشارة إلى قوله سبحانه في أمر المباهلة مع نصارى نجران: (فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا

وأنفسكم) _ آل عمران / 61 _ .

5 . إشارة إلى ما رواه السيوطي في الدر المنثور من قول أبي بكر للنبىّ بعد نزول الآية: قال يا رسول اللّه أهذا البيت منها _ أي بيت علي وفاطمة _؟ قال: هم من أفاضلها 5 / 50 .

( 75 )

والخلافة وأنّه سبحانه ألقى مقاليد الزعامة إلى الإمام أميرالمؤمنين، وبذلك أخرج الاُمّة من التنازع والاحتكاك بعد الرسول الأعظم .

ونحن نكتفي من البرهنة على خلافة الإمام بهذه الآية، وهناك آيات استدلّ بها الأصحاب على ولاية الإمام، ونفي ولاية الغير، أوضحنا مداليلها في مؤلفاتنا الكلامية، فمن أراد فليرجع(1) .

____________________________

1 . الإلهيات 2 / 618 _ 632 .

الفصل الرابع ما هو السرّ

الفصل الرابع ما هو السرّ

في مخالفة الجمهور نص الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _

( 78 )

( 79 )

لقد ظهرت الحقيقة بأجلى صورها وثبت أنّ الرسول لم يرحل عن أُمّته إلاّ بعد أن نصّب علياً للخلافة والقيادة، ولكن هناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه لو كان الحق كما نطقت به النصوص كتاباً وسنّة، فلماذا أعرض الجمهور عن ما اُمروا أن يتمسّكوا به؟ وهذه هي الشبهة المهمّة في الباب وهذا هو السؤال الّذي ترك العقول متحيرة تبحث عن جواب مقنع، وقد اعتمد على ذلك بعض المنصفين من أهل السنّة في ردّه لمذهب أهل البيت _ عليهم السلام _ ، فقال: اُنظر إلى جمهور أهل القبلة والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فإذا هم مع أهل البيت على خلاف ما توجبه ظواهر تلك الأدلّة، فانا اُؤامر منّي نفسين، نفساً تنزع إلى متابعة الأدلّة واُخرى تفزع إلى الأكثرية من أهل القبلة(1) .

والاجابة عن الشبهة سهلة لمن راجع التاريخ وسيرة الصحابة في عصر الرسول

وبعده. فإنّ القرآن الكريم رغم أمره باتباع الرسول وعدم التقدّم عليه(2)، ورغم أمره

____________________________

1 . من كلام شيخ الأزهر الشيخ سيلم البشري في رسالته إلى السيد شرف الدين، لاحظ المراجعات ص 25، رقم المراجعة 11 .

2 . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتُقَدِّمُوا بَيْنؤ يَدَىِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) _ الحجرات / 1 _ .

( 80 )

بالتسليم له وأنّ الايمان رهنه(1)، ورغم أنّه يندّد ببعض المسلمين الذين كانوا يتمنّون طاعة الرسول لهم في بعض المواقف وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطيعُكُم فِى كَثِير مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(2). رغم كل ذلك نشاهد رجالا يقفون أمام النبي في غير واحد من المواقف ويخالفونه بعنف وقوّة ويقدّمون الاجتهاد والمصالح الشخصية على أوامر الرسول في مواطن كثيرة، وإليك نزراً يسيراً منها وبالالمام بها تسهل عليك الاجابة عن السرّ في مخالفة عدّة من الأصحاب لأمر النبي في مسألة الوصاية والقيادة:

1- اختلافهم مع النبي في الأنفاق والاُسرى:

انتصر المسلمون في غزوة بدر وجمع غير واحد من المسلمين ما في معسكر العدو فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا ،وقال الذين يقاتلون العدوّ ويطلبونه: واللّه لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى اصبتم ما أصبتم، وقال الذين يحرسون رسول اللّه: ما أنتم بأحقّ به منّا واللّه لقد رأينا أن نقتل العدوّ إن منحنا اللّه كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منّا. فنزل قوله سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للّهِ و الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ) _ الأنفال / 1 _ (3) .

وأمّا اختلافهم في الأسرى فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (مَا كَانَ

لِنَبِىٍّ أنْ

____________________________

1 . (فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوْا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) _ النساء / 65 _ .

2 . الحجرات / 7 .

3 . السيرة النبوية لابن هشام 1 / 641 _ 662 .

( 81 )

يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللّهُ عِزِيزٌ حَكِيمٌ * لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظيمٌ)(1). نحن نضرب الصفح عمّا ذكره المفسّرون حول الآية من القصص غير أنّ قوله سبحانه (لولا كتاب...) يعرب عن أنّهم اختلفوا إلى حدّ كانوا مستحقّين لنزول العذاب لولا سبق كتاب من اللّه، ومن الجرأة ما يظهر عن بعض المفسّرين(2) من أنّ العتاب يعم النبي أيضاً مع أنّ نبىّ العظمة أجلّ من أن يشاركهم في العتاب فضلا عن العقاب وحاشا ساحة الحق أن يهدّد نبيّه بعذاب عظيم وقد عصمه من المعاصي، والعذاب العظيم لا ينزل إلاّ على عمل اجرامي كبير، ونحن لا نفسّر الآية ولا نريد أن نخوض في خصوصيّات القصة ويكفينا أنّها تكشف عن تباعد المؤمنين على النبىّ في مسألة الأسرى إلى حدّ استحقّوا هذا التنديد .

2- مخالفتهم الأمر الرسول في اُحد:

ورد رسول اللّه اُحد حين بلغه أنّ أباسفيان يريد شنّ هجوم على المدينة، واستقبل الرسول المدينة وجعل جبل عينين عن يساره، ونصب خمسين رجلا نبّالا على جبل عينين وأمَّر عليهم عبداللّه بن جبير وقال له: «انضح الخيل عنّا بالنبل، لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا تؤتين من قبلك».

ولمّا صار الانتصار حليف المسلمين وأخذ العدو بالانسحاب عن ساحة القتال مولّياً نحو مكّة، خالف الرماة أمر الرسول وأخلوا مكانهم

طمعاً في الغنائم، فكلّما نصحهم أميرهم بالبقاء وعدم ترك العينين خالفوه .

____________________________

1 . الأنفال / 67 _ 68 .

2 . لاحظ الأقوال في الميزان 9 / 137 .

( 82 )

ولمّا رأى العدو المنهزم أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة، وكان جبل العينين يقع على ضفتين يتخلّلهما معبر، فاستغل العدو الفرصة فأدار خالد بن الوليد من معه من وراء المسلمين، فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة منهم، فوضع السيوف فيهم فقتل منهم لفيفاً إلى أن تحوّل النصر إلى هزيمة، وكان ذلك نتيجة مخالفة المسلمين لوصيّة الرسول، وتقديماً للاجتهاد على النص، والرأي الخاطئ على الدليل، وكم له من نظير في حياة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وبعد وفاته .

3- مخالفتهم في صلح الحديبية:

دخلت السنة الثالثة للهجزة واشتاق النبي إلى زيارة بيت اللّه فأعدّ العدّة للعمرة ومعه جمع من أصحابه وليس معهم من السلاح إلاّ سلاح المسافر فلمّا وصلوا إلى أرض الحديبية، منعوا من مواصلة السير، فبعد تبادل الرسل بينه وبين رؤساء قريش اصطلحوا على وثيقة ذكرها أصحاب السيرة في كتبهم. فكانت نتيجة تلك الوثيقة رجوع النبي إلى المدينة ومجيئه في العام القابل للزيارة، وقد ذكر فيها شروط للصلح اثارت حفيظة بعض المسلمين، حتّى أنّ عمر بن الخطاب وثب فأتى أبابكر فقال: «أليس برسول اللّه؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلان نعطى الدنيّة في ديننا»(1) .

فقد زعم الرجل أنّ البنود الواردة في صلح النبي تعني اعطاء الدنية في الدين، حتّى أنّ النبي أخبرهم حين الشخوص من المدينة أنّ اللّه سبحانه أراه في المنام أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فلمّا انصرفوا ولم يدخلوا مكّة،

قالوا: ما حلقنا ولا

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام 2 / 316 _ 317 .

( 83 )

قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل اللّه سبحانه قوله: (لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الَحَرَامَ إِنَّ شَاءَ اللّهُ آمِنين)(1) .

ولو أراد المتتبّع أن يتعمّق في السيرو التفاسير يجد أنّ مخالفة القوم للرسول لم تكن مختصّة بموضوع دون موضوع، فكان تقديم الاجتهاد على النص شيئاً رائجاً عندهم ولنكتف في المقام بالمخالفتين الأخيرتين أيّام مرض وفاته.

4- مخالفتهم في تجهيز جيش اُسامة:

اتّفق المؤرّخون على أنّ النبي الأكرم أمر بتجهيز جيش اُسامة فقال: «جهّزوا جيش اُسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه» فقال قوم: «يجب علينا امتثال أمره» واُسامة قد برز من المدينة، وقال قوم: «قد اشتدّ مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه، فنصبر حتّى ننظر أي شيء يكون من أمره»(2) .

هذا ما يذكره الشهرستاني ملخّصاً، وذكره المؤرّخون على وجه التفصيل، فقال الطبري في أحداث سنة إحدى عشرة: «وضرب على الناس بعثاً وأمّر عليهم اُسامة بن زيد، وأمره أن يوطىء من آبل الزيت من مشارف الشام الأرض بالأردن، فقال المنافقون في ذلك، وردّ عليهم النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّه لخليق لها أي حقيق بالامارة وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل، وإن كان لخليقاً لها» فطار الأخبار بتحلل السير بالنبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (3) .

ويقول أيضاً: «لقد ضرب بعث اُسامة، فلم يستتبّ لوجع رسول اللّه وقد أكثر

____________________________

1 . الفتح / 27 .

2 . الملل والنحل للشهرستاني 1 / 29 _ 30 (تحقيق محمّد بن فتح اللّه بدران) .

3 . تاريخ الطبري 2 / 429 .

( 84 )

المنافقون في تأمير اُسامة، فخرج النبي _ صلى

الله عليه وآله وسلم _ على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك وقال: «وقد بلغني أنّ أقواماً يقولون في أمارة أُسامة، ولعمري لئن قالوا في أمارته لقد قالوا في أمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقاً للامارة وأنّه لخليق لها بعد اُسامة» وقال: «لعن اللّه الذين يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد»(1) فضرب بالجرف وأنشأ الناس في العسكر، ونجم طليحة وتمهّل الناس وثقل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فلم يستتم الأمر ينظرون أوّلهم آخرهم حتّى توفّى اللّه نبيّه»(2) .

وقد ذكر القصة ابن سعد في طبقاته(3)، والحلبي في سيرته(4)، ومن أراد التوسّع فليرجع إليهما.

5- مخالفتهم النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في احضار القلم والدواة:

عن ابن عباس قال: «لمّا اشتدّ بالنبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» قال عمر: إنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وبين كتابه(5) .

____________________________

1 . لا يخفى أنّه لاصلة لهذه الجملة لما قبل القصة وما بعده ولعلّه تحريف لما نقلناه عن الشهرستاني من أنه لعن المتخلّفين فبدّله الراوي بهذا .

2 . تاريخ الطبري 2 / 430 .

3 . الطبقات 2 / 189 _ 190 .

4 . السيرة 3 / 227 _ 228 .

5 . صحيح البخاري 1 باب كتابة العلم 30، الطبقات الكبرى 2 / 242 وجاء فيه: فقال بعض

من كان عنده انّ نبي اللّه ليهجر .

( 85 )

إنّ الراوي نقل الرواية بالمعنى كي يخفف من شدة الصدمة التي تحصل فيما لو نقل الرواية بألفاظها والشاهد على ما نقول أنّ البخاري نفسه روى الرواية بشكل آخر أيضاً، فروى عن ابن عباس إنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت: ياابن عباس ما يوم الخميس؟ قال: اشتدّ برسول اللّه وجعه فقال: «ائتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً» فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له؟ أهجر، استفهموه، فقال: «ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه» فأمرهم بثلاث قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» و الثالثة خير إمّا أن سكت عنها وإمّا أن قالها فنسيتها»(1) .

ولعلّ الثالثة الّتي نسيها الراوي هو الّذي كان أراد النبي أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ولكن ذكره شفاهاً عوض كتابته، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه .

ولعلّ النبي أراد أن يكتب في مرضه تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين وتشهد بذلك وحدة لفظهما، حيث جاء في الثاني: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي».

وقد فهم الخليفة ما يريده رسول الإسلام وحدّث به بعد مدة من الزمن لابن عباس فقال له يوماً: يا عبداللّه إنّ عليك دماء البدن إن كتمتها، هل بقي في نفس علي شيء من الخلافة؟ قال ابن عباس: قلت: نعم، قال: أو يزعم أنّ رسول اللّه نصّ عليه؟ قلت: نعم، فقال عمر: لقد كان من رسول اللّه في أمره ذروة من قول لا تثبت حجّة، ولا تقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره

وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه

____________________________

1 . صحيح البخاري 4 باب اخراج اليهود من جزيرة العرب 99 .

( 86 )

فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام، فعلم رسول اللّه انّي علمت ما في نفسه فأمسك(1) .

والعجب أنّ أحمد أمين مع ما يكن على الشيعة من عداء وقسوه يعترف بما ذكرنا بصراحة .

أراد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في مرضه الّذي مات فيه أن يعيّن من يلي الأمر بعده ففي الصححين: البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه لمّا اصفرّ قال: هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر: إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع(2) وعندكم القرآن. حسبنا كتاب اللّه فاختلف القوم واختصموا فمنهم من قال: قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من قال القول ما قاله عمر فلمّا أكثروا اللغو(3) والاختلاف عنده _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: قوموا فقاموا. وترك الأمر خصوصاً لمن جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتّى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين(4) .

هذه نماذج من مخالفة القوم لصريح النصوص الصادرة عن النبي الأكرم، وكل ذلك يعرب عن فقدانهم روح التسليم للنبي ولأحكامه، فلم يكونوا ملتزمين بما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم من النصوص، نعم، ربّما يوجد بينهم من كان أطوع

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 3 / 17، وكأنَّ الرجل كان أشفق على الإسلام من رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

2 . وفي موضع آخر في صحيح البخاري: أنّه قال «إنّ الرجل ليهجر» .

3 . والصحيح: اللغط .

4 . أحمد أمين يوم الإسلام: 41 .

( 87 )

للنبي من

الظل لذي الظل، ولكن المتنفّذين لم يكونوا متعبّدين بالنصوص فضلا عن تعبّدهم بالاشارات والرموز، وربّما كانوا يقابلون النبي بكلمات عنيفة يقابل بها من هو أقل منه شأناً.

وياليت انّهم اكتفوا في مجال المخالفة للنصوص أثناء حياته، ولكنّهم خالفوها بعد وفاته أكثر ممّا خالفوها أيّام حياته، يقف على ذلك من سبر التاريخ وسيرة الخلفاء في غير واحد من المجالات .

ولقد حاول الشهرستاني في ملله ونحله(1)، والسيد الشريف في شرح المواقف(2) تحديد بدء الخلاف بين المسلمين بأيّام مرض النبي عندما كان طريح فراشه. ولكن ذلك التحديد من حسن ظنّهما بالصحابة وأنّهم كلّهم عدول، غير أنّك عرفت أنّ تاريخ الخلاف يرجع إلى بدايات الهجرة، وقد اكتفينا بموارد خمسة وضربنا الصفح عن ذكر موارد اُخرى .

هذا كلّه يرجع إلى مخالفتهم الرسول فيما يامر وينهى أيّام حياته، وأمّا مخالفتهم لنصوص الرسول بعد رحلته فحدّث عنها ولا حرج .

1- التصرّف في أذان الفجر:

أخرج الإمام مالك في موطئه: انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح، فوجده نائماً فقال: الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح .

وقال الزرقاني في تعليقته على هذه الكلمة من شرحه للموطأ ما هذا لفظه: هذا

____________________________

1 . الملل و النحل 1 / 29، ولاحظ التبصير في الدين للاسفرائيني 19 .

2 . شرح المواقف 8 / 372 .

( 88 )

البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنّفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنّه قال لمؤذّنه: إذا بلغت حىّ على الفلاح في الفجر فقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم(1) .

2- الحيلولة بين فاطمة وميراثها:

استفاضت الآيات باطلاقاتها تارة ونصوصها تارة اُخرى على أنّ أولاد الأنبياء يرثون آباءهم

كسائر الناس أمّا الاطلاقات فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ)(2) وأمّا النصوص فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ)(3) وقال سبحانه ناقلا عن زكريا: (فَهَبْ لِى مِن لَدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)(4) .

إنّ طلب زكريا من اللّه سبحانه أن يهبه ولداً وأن يجعله رضيّاً لأوضح دليل على أنّ المراد من الوراثة، والوراثة في المال لا النبوّة، لبداهة أنّ الإنسان لا يكون نبيّاً إلاّ أن يكون رضيّاً، على أنّ لفظ الوراثة وما يشتق منه ظاهر في الوراثة في المال ولا يستعمل في غيره إلاّ توسّعاً ومجازاً ومع ذلك فقد خالفت القيادة بعد رسول اللّه هذا النص وحرّمت فاطمة من ميراث أبيها بحجّة أنّه سمع من النبي قوله: نحن الأنبياء لا نورث، مع أنّه لو صحّ هذا الحديث لكان على النبي أن يذكره لورّاثه حتّى لا يقعوا في الخطأ ولا يطلبوا شيئاً ليس لهم، فهل أنّ النبي أهمل هذا البيان اللازم وذكره لغير

____________________________

1 . الموطأ باب ما جاء من النداء في الصلاة الحديث 8، والموطأ مع شرح الزرقاني 1 / 150 طبع مصر .

2 . النساء / 11 .

3 . النمل / 16 .

4 . مريم / 5 _ 6 .

( 89 )

وارثه؟

روى البخاري عن عائشة: انّ فاطمة _ عليها السلام _ بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبوبكر: «إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال»، وإنّي واللّه

لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها الّتي كان عليها في عهد رسول اللّه، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه» فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر، فهجرته، فلم تكلّمه حتّى توفّيت، وعاشت بعد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلا، فلم يؤذِن بها أبابكر، وصلّى عليها(1) .

وقال ابن قتيبة: قال عمر لأبي بكر (رضى اللّه عنهما): انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقاجميعاً فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم ترد السلام، فتكلّم أبوبكر وقال: يا حبيبة رسول اللّه، واللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ إلىّ من قرابتي، وانّك لأحبّ إلىّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا ابقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنَعْك حقّك وميراثك من رسول، إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللّه يقول: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة»(2) .

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ الرسول الأعظم وكذا كل من يتولّى الحكومة الإسلامية تكون له ملكيتين: ملكية شخصية تتعلّق بنفسه ويتصرّف فيها بما أنّها ماله الشخصي، وملكية تتعلّق بمقام الرسالة ويتصرّف فيها بما أنّه رسول وممثّل

____________________________

1 . صحيح البخاري 5 باب غزوة خيبر 139 .

2 . الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 13 .

( 90 )

الدولة الإلهية، والقسم الثاني من الملكيتين لا تورث بل تنتقل إلى من يمارس المسؤولية بعده. ونحن نربأ بفاطمة أن تطالب أبابكر بالأموال الّتي تعد من شؤون الدولة الإسلامية وانّما جاءت لتطلب ما كان ملكاً خاصّاً لأبيها، بما أنّه أحد الناس والمسلمين،

يملك ما شاء باحدى الطرق الشرعية ويرثه أولاده بعده .

ثانياً: أنّ ما يرويه البخاري عن الخليفة أنّه قال: «وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها الّتي كان عليها» واقع في غير محلّه لأن حبيبة رسول اللّه لم تطلب منه صدقات أبيها حتّى تجاب بأنّ الصدقة لا تغيّر ولا تتبدّل و إنّما سألته أن يدفع لها ما ملكه رسول اللّه ونحله لبنته أعني فدك أيّام حياته عندما نزل قوله سبحانه: (وَ آتِ ذَالقُرْبى حَقَّهُ وَ المِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)(1) .

نحن نفترض أنّ الرسول قال: لا نورث ما تركناه صدقة، ولكن من المحتمل جدّاً، أنّ الفعل «لا نورث» فعل معلوم لا مجهول ومعناه نحن معاشر الأنبياء لا نورث الأشياء الّتي تركناها صدقة، فيكون لفظة ما مفعولا للفعل المبني على الفاعل وعند ذلك لاصلة للحديث بكل ما يتركه النبي حتّى أمواله الشخصية والمقصود النهائي هو أنّ الصدقة لا تورث كالزكاة وأمثالها.

3- النهي عن متعة الحج:

قال سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّع بِالعُمْرَةِ اِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ(2) فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّام فِى الحَجِّ وَ سَبْعَة إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ

____________________________

1 . الاسراء / 26 .

2 . أي فعليه ما يتسيّر من الهدي، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وهي يوم السابع من ذي الحجّة وتنتهي بيوم عرفة، والتمتّع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكّة ومن يجري مجراهم في القرب إليها.

( 91 )

لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ)(1) .

إنّ صفة التمتّع بالعمرة إلى الحج عبارة عن الاحرام في أشهر الحج من احدى المواقيت، ثم الدخول إلى مكّة للطواف بالبيت والصلاة بعده، والسعي بين الصفا والمروة ثم التقصير وعندئذ

يحلّ له كل ما كان محرماً عليه، فيقيم على هذه الحالة حتّى ينشأ في تلك السنة احراماً آخر للحج ويخرج إلى عرفات ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام، إلى آخر الأعمال، هذا هو التمتّع بالعمرة إلى الحج، وانّما اُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع وقال سبحانه: (فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ)لما فيه من المتعة واللذّة باباحة محرمات الاحرام في المدّة المتخلّلة بين الاحرامين من غير فرق بين محرَّم وآخرَ حتّى مسِّ النساء .

هذا هو الّذي شرّعه القرآن وخالفه بعض أصحاب السلطة، روى مالك عن سعد بن أبي وقّاص والضّحّاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه عزّوجلّ، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإنّ عمر قد نهى عن ذلك ،فقال سعد: قد صنعها رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وصنعناها معه(2) .

روى أحمد بن حنبل عن أبي موسى: انّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك بعدك، حتّى لقيه بعد فسأله، فقال عمر _ رضي الله عنه _ : قد علمت أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهن معرسين في الاراك ثمّ يروحون بالحج

____________________________

1 . البقرة / 196 .

2 . موطأ مالك 235 باب ما جاء في التمتّع برقم 767 .

( 92 )

تقطر رؤوسهم(1) .

وروى أيضاً عن طريق آخر عنه: انّ عمر _ رضي الله عنه _ قال: هي سنّة رسول اللّه _ يعني المتعة _ ولكن أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك، ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً(2) .

وقد استفاض القول عن الخليفة انّه قال: متعتان كانتا

على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما(3) .

قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء في أنّ التمتّع جائز وأنّ الإفراد جائز، وأنّ القِران جائز لأنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ رضي كلاّ ولم ينكره في حجّته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم... احتجّ من فضّل التمتّع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه _ يعني متعة الحج _ وأمرنا بها رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول اللّه حتّى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء(4) .

4- اسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول :

ورد النص في الذكر الحكيم على أنّ لذي القربى سهم من الخمس قال سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِن شَىْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ للرَّسُولِ وَ لِذِى

____________________________

1 . مسند أحمد 1 / 49 - 50 .

2 . مسند أحمد 1 / 49 _ 50 .

3 . تفسير الامام الرازي 5 / 167 وفسّر الآية بالتمتّع بمحظورات الاحرام، وشرح التجريد للمحقّق القوشجي (وهو من أئمة الأشاعرة): وقد عدّه من اجتهاد الخليفة. نعم هو من اجتهاده مقابل النص .

4 . الجامع لأحكام القرآن 2 / 388 .

( 93 )

القُرْبَى وَ اليَتَامَى وَ المَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُم آمَنْتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ)(1). وقد أجمع أهل القبلة على أنّ الرسول كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر. وأنّه لم يعهد تغيير ذلك حتّى دعاه اللّه إليه. غير أنّ أصحاب السلطة

بعد الرسول أسقطوا سهم بني هاشم من الخمس، وجعلوهم كغيرهم من يتامى النساء و مساكينهم وأبناء السبيل منهم، وقد عرفت في المخالفة الثالثة أنّ فاطمة _ عليها السلام _ طلبت من أبي بكر ما بقى من خمس خيبر .

ويشهد بذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنّه كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذي القربى، وعن اليتيم متى ينقضي يتمه، وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة، وعن قتل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عباس: انّك كتبت إلىّ تسأل عن سهم ذي القربى لمن هو؟ وانّا كنّا نراها لقرابة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأبى ذلك علينا قومنا. وعن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ قال: إذا احتلم...(2) .

هذا وقد نقل القرطبي أقوالا في كيفيّة تقسيم الخمس، وهي بين من يأخذ بنص الآية ويجعل سهماً لذي القربى ومن يجتهد أمام النص. ونقلها صاحب المنار في تفسيره(3) .

5- قطع سهم المؤلّفة قلوبهم:

قال سبحانه: (إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَ المَسَاكِينِ و العَامِلينَ عَلَيْهَا

____________________________

1 . الأنفال / 41 .

2 . مسند أحمد 1 / 248 .

3 . تفسير القرطبي 8 / 10، المنار 10 / 17 _ 18 .

( 94 )

والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِى الرِّقَابِ وَ الغَارِمينَ وَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ)(1)، الآية صريحة في أنّ لكلّ واحد من الأصناف المذكورة سهم ودلّت كتب السيرة والفقه على أنّ الرسول يعطي سهم المؤلّفة قلوبهم، فيؤلّف بذلك قلوبهم، وهذه سيرته المستمرّة معهم، لكن لمّا ولّي ابوبكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم جرياً على عادتهم مع رسول اللّه فكتب أبوبكر لهم بذلك، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطّه عليه فمزّقه وقال: لا

حاجة لنا بكم، فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا له: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: بل هو إن شاء اللّه تعالى، وأمضى ما فعله عمر(2) .

فاستمرّ الأمر على ذلك بعدهم، وأقصى ما عند المحقّقين من تبرير عمل الخليفة ما ذكره الدواليبي في كتابه اُصول الفقه وقال: ولعلّ اجتهاد عمر _ رضي الله عنه _ في قطع العطاء الّذي جعله القرآن الكريم للمؤلّفة قلوبهم كان في مقدّمة الأحكام الّتي قال بها عمر تبعاً لتغيير المصلحة بتغير الأزمان رغم أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غير منسوخ(3) .

وما ذكره الاُستاذ يعارض ذيله صدره، فما معنى أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غيرمنسوخ، فإذا كان غير منسوخ فما معنى الاجتهاد في مقابل النص، لأنّ معنى ذلك ابطال القرآن في فترة خاصة، ولو صحّ لأصحاب السلطة هذا النمط من العمل لما بقي من الإسلام أثر، فالنص لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا تتقيّد اطلاقاته ولا عموماته بالمصالح المرسلة .

____________________________

1 . التوبة / 60 .

2 . الجوهرة النيرة 1 / 164 وهي في الفقه الحنفي ونقله في المنار 10 / 576 .

3 . اُصول الفقه للدواليبي: 239 .

( 95 )

نعم يجوز على القول بعدم لزوم الاستيعاب في تقسيم الزكاة، دفعها إلى صنف دون صنف، لكنّه إنّما يجوز مؤقّتاً لا دائماً، غير أنّ الخليفة قام بقطع سهم المؤلّفة قلوبهم من رأس، وهذا هو الّذي فهمه أبو حنيفة، والشافعي(1) بحجّة أنّ اللّه أعزّ الإسلام وهو اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا الأمر. ولا نريد من الاجتهاد في مقابل النص إلاّ هذا .

هذه نماذج خمسة من مخالفتهم للنصوص والعمل وفق

اجتهادات ذوقية، غير أنّ أصحاب السلطة قدّموها على النصوص بقوة وحماس، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النصوص كانت أداة طيّعة للتغيير حسب الأهواء والميول الشخصية سواء أكانوا مقصّرين في هذا التأويل أم قاصرين .

والهدف ايقاف القارىء على أن مخالفة النصوص لأصحاب النفوذ لم يكن أمراً عسيراً أو شيئاً نادراً .

وبذلك تبيّن أنّ إعراضهم عن أدلّة تنصيب الإمام للخلافة، لم يكن أمراً عجيباً، وذلك لجريان سيرة الصحابة على تقديم المصالح المزعومة على النصوص وبذلك يقطع العذر على من زعم أنّه لو كان في مسألة الخلافة وامامة الامام أميرالمؤمنين، نصّ، لما خالفه الصحابة العدول وتلقّوه بالقبول. فيقال أوما أمرهم النبىّ، بإحضار القلم والدواة، فحالوا بينه وبين منيته، أو ماحثهم على تجهيز جيش اُسامة ولعن المتخلّفين عنه، ولكنّهم اثّاقلوا إلى الأرض أو ما.. أوما...

وهناك كلمة لابن ابي الحديد، وهو يقارن بين سياستي علي وعمر و سياستي علي ومعاوية وإليك نصّه .

اعلم انّ السائس لا يتمكّن من السياسة البالغة إلاّ إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى

____________________________

1 . المنار 10 / 576 .

( 96 )

فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته، سواء أوافق الشريعة أم لم يوافقها، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه، وإلاّ فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله .

وأميرالمؤمنين _ عليه السلام _ كان مقيّداً بقيود الشريعة، مدفوعاً إلى اتّباعها، ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير، إذا لم يكن للشرع موافقا، فلم تكن قاعدته في خلافته، قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول ضارّين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين إليه ما هو منزّه عنه، ولكنّه كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان، والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص

عمومات النص بالآراء وبالاستنباط، من اُصول، تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النص، ويكيد خصمه، ويأمر اُمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدّب بالدرّة والسوط من يغلب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التأديب. كل ذلك بقوّة اجتهاده وما يؤدّيه إليه نظره. ولم يكن أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعدّاها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبّق اُمور الدنيا على الدين ويسوق الكل مساقاً واحداً، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة(1) .

وقال الجاحظ: وربّما رايت بعض من يظن بنفسه العقل والتحسين والفهم والتمييز، وهو من العامة وهو يظن أنّه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غوراً، وأصحّ فكراً، وأجود رؤية وأبعد غاية، وأدق مسلكاً، وليس الأمر كذلك، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه، والمكان الّذي دخل عليه الخطأ من قبله .

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 10 / 572 .

( 97 )

كان علي _ عليه السلام _ لا يستعمل في حربه، إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة، كما يستعمل الكتاب والسنّة(1) .

وفي حياة الخليفة عشرات الشواهد على اجتهاده تجاه النص، وأي اجتهاد تجاهه أظهر وأولى من منع تدوين الحديث وكتابته الّذي هو المصدر الثاني الرئيسي للمسلمين بعد الذكر الحكيم، وقد بلغت السنّة من الكمال مكانة حتّى صار لفظ السنّي شعاراً لجمهور المسلمين .

ولعلّ في قوله سبحانه: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بِيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ واتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم)(2). إشارة إلى بعض هذه الاُمور، ومعنى الآية: لا تقولوا حتّى يقول، ولا تأمروا حتّى يأمر، ولا تفتوا حتّى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتّى يقطع، بالتالي: لا تقولوا خلاف الكتاب

والسنّة فانّه تقدُّم على اللّه و رسوله.

فإذا كان هذا حال الخليفة وعمله طيلة حياته، فلا عجب أن يجتهد أمام نصوص الولاية والخلافة ويسدل عليها الستار، ولا يلتفت إليها ويندفع إلى تتبع مظان المصالح المزعومة في مجال الخلافة بعد عصر الرسول، وفي ما ذكرنا من مظان الاجتهاد أمام النص كفاية لطالب الحق .

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 10 / 578، نقلا عن أبي عثمان الجاحظ .

2 . الحجرات / 1 .

الفصل الخامس مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه

الفصل الخامس مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه

( 100 )

( 101 )

زعم غير واحد من الكُتّاب القدامى والجُدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلامية، من إفرازات الصراعات السياسية وذهب بعض آخر إلى القول انّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الاسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الاُمّة الإسلامية باعتباره قطاعاً تكوَّن على مرّ الزمن لأحداث وتطوّرات سياسية أو اجتماعية فكرية أدّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير ثمّ اتّسع ذلك الجزء بالتدريج .

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارىء، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسية أو فكرية كما سيوافيك، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع ولد منذ عهد النبىّ الأكرم لما تسرّعوا في ابداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام و مبدئه. وأنّ النبىّ الأكرم هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام من أوّل يوم اُمر بالصدع واظهار الحقيقة، إلى ان لبّى دعوة ربّه .

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبىّ بعد وفاته

عن طريق من نصبه

( 102 )

إماماً للناس، وقائداً للاُمّة حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبىّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كان التشيّع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصي، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام والنصوص الواردة عن رسوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

وقد عرفت في الفصل الثالث نصوصاً متوفرة في وصاية الامام أميرالمؤمنين، فتاريخ صدورها عن النبىّ هو نفس تاريخ التشيّع، والشيعة هم المسلمون المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في الأجيال اللاحقة، هم الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة ولم يُغيِّروه ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَىِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ)(1) ففزعوا في الاُصول والفروع إلى علي وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الاُخرى الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة حيث تركوا النصوص، وأخذوا بالمصالح .

إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الامام عن لسان النبىّ الأكرم ترفع اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة، وانّ النبىّ الأكرم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شكّ من هذا الأمر فسأتلوا عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام .

1- أخرج ابن مردويه عن عائشة، قالت: قلت يا رسول اللّه من أكرم الخلق على اللّه؟ قال: «يا عائشة، أما تقرأين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

____________________________

1 . الحجرات / 1 .

( 103 )

اُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البريَّة) _ البيّنة

/ 7 _ »(1) .

2- أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبداللّه قال: كنّا عند النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأقبل علي فقال النبي: «والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة،ونزلت (إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة) فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البريّة(2) .

3- أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: علىّ خير البريّة(3) .

4- وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لمّا نزلت (إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة) قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين» .

5- أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال لي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «ألم تسمع قول اللّه: (إنّ الّذين آمنوا وعلموا الصالحات اُولئك هم خير البريّة) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين»(4) .

6- روى ابن حجر في صواعقه عن اُمّ سلمة: كانت ليلتي، وكان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عندي فأتته فاطمة فتبعها علي(رحمهما الله) فقال النبي: يا علي أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنّة (5).

7- روى ابن الأثير في نهايته: قال النبي مخاطباً عليّاً: يا علي إنّك ستقدم على

____________________________

1 . الدر المنثور للسيوطي 6 / 589 .

2 . الدر المنثور للسيوطي 6 / 589 .

3 . الدر المنثور للسيوطي 6 / 589 .

4 . الدر المنثور للسيوطي 6 / 589 .

5 . الصواعق: 161 طبع مكتبة القاهرة .

( 104 )

اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوُّك غضابا مقمحين، ثم جمع

يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير: الإقماح: رفع الرأس وغض البصر(1) .

8- روى الزمخشري في ربيعه: انّ رسول اللّه قال: «يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه تعالى، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم، فترى أين يؤمر بنا»(2) .

9- روى أحمد في المناقب: انّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لعلي: «أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّيتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا»(3).

10- روى الطبراني: انّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لعلي: «أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّياتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا»(4).

11- أخرج الديلمي: «يا علي إنّ اللّه قد غفر لك ولذرّيتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر انّك الأنزع البطين»(5) .

12- أخرج الديلمي عن النبي انّه قال: «أنت وشيعتك تردون الحوض روّاء مرويين، بيضة وجوهكم وانّ عدوّك يردون الحوض ظماء مقمحين»(6) .

13- روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه:

____________________________

1 . النهاية مادة قمح 4 / 106، ورواه ابن حجر في الصواعق 154 .

2 . ربيع الأبرار .

3 . الصواعق 161 .

4 . الصواعق 161 .

5 . الصواعق 161 .

6 . الصواعق 161 .

( 105 )

«يدخلون من اُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم _ ثمّ التفت إلى علي فقال: _ هم شيعتك وأنت إمامهم»(1) .

14- روى المغازلي عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور فلمّا بصر به، قال له: يا سليمان تصدَّر، قال: أنا صدر حيث جلست _ إلى أن قال في حديثه: _ حدّثني رسول اللّه قال: «أتاني جبرئيل _ عليه

السلام _ آنفاً فقال: تختّموا بالعقيق، فإنّه أوّل حجر شهد للّه بالوحدانيّة، ولي بالنبوّة، ولعلي بالوصيّة، ولولده بالامامة، ولشيعته بالجنّة»(2) .

15- وروى أيضاً بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «يا علي تختّم باليمين تكن من المقرّبين، قال: يا رسول اللّه ومن المقرّبون؟ قال: جبرئيل وميكائيل، قال: فبما أتختّم يا رسول اللّه؟ قال: بالعقيق الأحمر، فإنّه جبل أقرّ للّه بالوحدانية، ولي بالنبوّة،ولك بالوصية، ولولدك بالإمامة، ولمحبّيك بالجنّة، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس»(3) .

16- روى ابن حجر: انّه مرّ علي على جمع فأسرعوا إليه قياماً، فقال: هؤلاء ما لي لا ارى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا» فأمسكوا حياءً، فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم

____________________________

1 . مناقب المغازلي 293 .

2 . مناقب المغازلي 281، ورواه السيد البحراني في غاية المرام عنه، وأنت إذا تدبّرت في الآيات الدالّة على سريان العلم والشعور في عامّة الموجودات مثل قوله: (وَ إنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ) _ البقرة / 74 _ تستطيع أن تُصَدِّقَ ما جاء في الحديث من شهادة العقيق بوحدانية اللّه .

3 . علل الشرائع 158 طبع النجف .

( 106 )

فقال: «شيعتنا هم العارفون باللّه، العاملون بأمر اللّه»(1) .

17- روى الصدوق (306 _ 381 ه_): انّ ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة...»(2) .

وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة...، تعرب عن كون علي _ عليه السلام _ متميّزاً بين أصحاب النبي بأن له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبي وبعدها.

فبعد

هذه النصوص لا يصحّ لباحث أن يلتجىء إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته ويعتقد بإمامته ووصايته ويظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات نشير إلى بعضها.

1- روى المسعودي في حوادث وفاة النبي: انّ الإمام عليّاً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر(3) .

2- قال الامام عند تنديده بأعمال طلحة والزبير: «إنّ أتباع طلحة والزبير في البصرة قتلوا شيعتي وعمّالي»(4) .

____________________________

1 . الصواعق 154 .

2 . علل الشرايع 156 طبع النجف .

3 . الوصية للمسعودي 121 طبع النجف .

4 . وقعة صفين 7 طبع مصر .

( 107 )

3- روى أبو مخنف عن الحجاج: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرونا هلاك معاوية فحمدنا اللّه عليه فقال: إنّ معاوية قد هلك وانّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه(1) .

4- وقال محمّد بن أحمد بن خالد البرقي (ت 274 ه_): إنّ أصحاب علي ينقسمون إلى الأصحاب ثمّ الأصفياء ثمّ الأولياء، ثم شرطة الخميس... ومن الأصفياء سلمان الفارسي، والمقداد، وأبوذر، وعمّار، وأبو ليلى، و شبير، و أبو سنان، و أبو عمرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو برزة، و جابر بن عبداللّه، والبراء بن عازب، وطرفة الأزدي(2) .

5- وقال النوبختي (ت 313 ه_): إنّ أوّل الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب، المسمّون شيعة علي في زمان النبي وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(3) .

6- وقال أبو الحسن الأشعري: وانّما قيل لهم الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول اللّه(4)

.

7- ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّة(5) .

8- وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول اللّه

____________________________

1 . مقتل الامام الحسين لأبي مخنف: تحقيق حسن الغفاري 15 ولاحظ 16 .

2 . الرجال للبرقي: (طبع طهران) / 3، ولاحظ فهرست ابن النديم 263 (طبع القاهرة) وعبارته قريبة من عبارة البرقي.

3 . فرق الشيعة 15 .

4 . مقالات الاسلاميين 1 / 65 طبع مصر .

5 . الملل والنحل 1 / 131 .

( 108 )

وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده، فهو شيعىّ، وإن خالفهم في ماعدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون. فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّا(1) .

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تعرب عن أنّ لفيفاً من الاُمّة في حياة الرسول وبعده إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعلي وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الاُمّة عليه .

«إنّ الامام وإن تسامح وتساهل في أخذ حقّه تبعاً لمصالح عظيمة مكنونة في مثل هذا التصرّف الحكيم، لكن أخذت فكرة استخلاف النبي علياً طريقها في النفوس والقلوب، وتضاعف عدد المتشيعين له على مرور الأيام، ورجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب، واحتشدت في أذهانهم صور عن مواقف النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تلك المواقف الّتي كان يصرح فيها باستخلاف علي من بعده تارة، ويلمّح فيها اُخرى، فالتفّوا حول علي _ عليه السلام _ وأصبحوا من الدعاة الأوفياء له في جميع المراحل الّتي مرّبها، وما زال التشيّع ينمو وينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة، يدخلها مع الإسلام جنباً إلى جنب، واستحكم أمره في السنين الّتي

استولى فيها علىّ الحكم، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه، ووجد الناس من سيرته وزهده وحكمته ما أكدّ لهم صحّة تلك المرويات، وأنّه هو المختار لقيادة الاُمّة وحماية القرآن ونشر تعاليمه ومبادئه»(2) .

والعنصر المقوّم لإطلاق عبارة الشيعة هو مشايعة علي بعد النبي الأكرم في الزعامة والوصاية أوّلا، وفي الفعل والترك ثانياً، ومع هذا لا يصحّ لأي كاتب

____________________________

1 . الفصل في الملل والنحل 2 / 113 طبع بغداد .

2 . الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28 _ 29 .

( 109 )

افتراض علّة اجتماعية أو سياسية أو كلامية لتكوّن هذه الفرقة .

ولأجل أن نتعرّف على شيعة علي من الصحابة نأتي باسماء رُوّاد الشيعة على وجه الاجمال ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتب حولهم من المؤلّفات، وسنأتي بأسماء تلك الكتب في آخر البحث:

روّاد التشيّع في عصر النبي:

إنّ الاحالة للتعرّف على روّاد التشيّع إلى الكتب المؤلّفة في ذلك المضمار لا تخلو من عسر وغموض، فلأجل ذلك نأتي باسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

1- عبداللّه بن عباس، 2- الفضل بن العباس، 3- عبيداللّه بن العباس، 4- قثم بن العباس، 5- عبدالرحمان بن العباس، 6- تمام بن العباس، 7- عقيل بن ابي طالب، 8- أبوسفيان بن الحرث بن عبدالمطلب، 9- نوفل بن الحرث، 10- عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب، 11- عون بن جعفر، 12- محمد بن جعفر، 13- ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلب، 14- الطفيل بن الحرث، 15- المغيرة بن نوفل بن الحارث، 16- عبداللّه بن الحرث بن نوفل، 17- عبداللّه بن أبي سفيان بن الحرث، 18- العباس بن ربيعة بن الحرث، 19- العباس بن عتبة بن ابي لهب، 20- عبدالمطلب بن ربيعة بن الحرث، 21- جعفر بن أبي سفيان

بن الحرث .

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:

22- سلمان المحمّدي، 23- المقداد بن الأسود الكندي، 24- أبوذر الغفاري، 25- عمّار بن ياسر، 26- حذيفة بن اليمان، 27- خزيمة بن ثابت، 28- أبو أيوب الأنصاري مضيّف النبي، 29- أبو الهيثم مالك بن التيهان،

( 110 )

30- اُبي بن كعب(1)، 31- سعد بن عبادة، 32- قيس بن سعد بن عبادة، 33- عدي بن حاتم، 34- عبادة بن الصامت، 35- بلال بن رباح الحبشيّ، 36- أبو رافع مولى رسول اللّه، 37- هاشم بن عتبة، 38- عثمان بن حنيف، 39- سهل بن حنيف، 40- حكيم بن جبلة العبدي، 41- خالد بن سعيد بن العاص، 42- ابن الحصيب الأسلمي، 43- هند بن أبي هالة التيميمي، 44- جعدة بن هبيرة، 45- حجر بن عدي الكندي، 46- عمرو بن الحمق الخزاعي، 47- جابر ابن عبداللّه الأنصاري، 48- محمّد بن الخليفة أبي بكر، 49- أبان بن سعيد بن العاصي، 50- زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسمون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في الرجال ولكن بعين مفتوحة وبصيرة نافذة.

وفي الختام نذكر ما ذكره محمّد كرد علي في كتابة «خطط الشام» قال: عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن ابي طالب والموالاة له، ومثل أبي سعيد الخدري الّذي يقول: اُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولمّا سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، قيل: فما الواحدة الّتي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي

طالب، قيل له: وانّها لمفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن، ومثل أبي ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان،

____________________________

1 . نقل سيّدنا شرف الدين عن تاريخ ابن شحنة انّه ممّن تخلّف عن بيعة السقيفة مع علي _ عليه السلام _ .

( 111 )

وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيّوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس ابن سعد بن عبادة(1) .

الكتب المؤلّفة حول روّاد التشيّع:

إنّ لفيفاً من أصحابنا الإمامية قاموا بافراد كتاب أو رسالة حول روّاد التشيّع ونذكر في المقام ما وقفنا عليه .

1- صدر الدين السيّد علي المدني الحسيني الشيرازي، صاحب كتاب سلافة العصر في أعيان أهل العصر، وأنوار الربيع في علم البديع، وطراز اللغة. توفّي عام (1120)، أفرد تاليفاً في ذلك المجال أسماه ب_ «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية»، فخصَّ الطبقة الاُولى بالصحابة الشيعة، وخصَّص الباب الأوّل لبني هاشم من الصحابة، والباب الثاني في غيرهم منهم. وجاء في الباب الأوّل بترجمة (23) صحابيّاً من بني هاشم لم يفارقوا عليّاً قط، كما جاء في الباب الثاني بترجمة (46) صحابيّاً(2) .

2- ذكر الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه «أصل الشيعة واُصولها» أسماء جماعة من الصحابة الذين كانوا يشايعون عليّاً في حلِّه وترحاله وقال معلّقاً على قول أحمد أمين الكاتب المصري «والحق إنّ التشيّع كان مأوى يرجع إليه كل من أراد هدم الإسلام»: ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفا أن لا تتعكّر، ونيران البغضاء أن لا تتسعّر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله» لعرّفناه من الّذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الالحاد والزندقة،

____________________________

1 . خطط الشام 5 / 251 .

2 . الدرجات الرفيعة 79 _ 452 طبع النجف

.

( 112 )

ومن الّذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة، ولكنّا نريد أن نسال ذلك الكاتب أىّ طبقة من طبقات الشيعة أرادت هدم الإسلام؟ هل الطبقة الاُولى وهم أعيان صحابة النبي وأبرارهم كسلمان المحمّدي أو الفارسي، وأبي ذر، والمقداد، وعمّار، وخزيمة ذى الشهادتين، وابن التيهان، وحذيفة بن اليمان والزبير، والفضل بن العباس وأخيه الحبر عبداللّه، وهاشم بن عتبة المرقال، وأبي أيّوب الأنصاري وأبان وأخيه خالد بن سعيد بن العاص، واُبي بن كعب سيد القرّاء، وأنس بن الحرث بن نبيه، الّذي سمع النبي يقول: «إنّ ابني الحسين _ عليه السلام _ يقتل في ارض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس وقتل مع الحسين. راجع الاصابة والاستيعاب وهما من أوثق ما ألّف علماء السنّة في تراجم الصحابة، ولو أردت أن أعدّ عليك الشيعة من الصحابة واثبات تشيّعهم من نفس كتب السنّة لأحوجني ذلك إلى افراد كتاب ضخم(1) .

3- قام الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين (1290 - 1377) بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء، وقال: وإليك اكمالا للبحث بعض ما يحضرني من أسماء الشيعة من أصحاب رسول اللّه لتعلم أنّ بهم اقتدينا وبهديهم اهتدينا، وسأفرد لهم إن وفق اللّه كتاباً يوضح للناس تشيّعهم ويحتوي على تفاصيل شؤونهم، ولعلّ بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب فيكون لي الشرف إذ خدمته بذكر أسماء بعضهم في هذا الباب وهي على ترتيب حروف الهجاء، ثم ابتدأ بأبي رافع القبطي مولى رسول اللّه، وختمهم بيزيد بن حوثرة الأنصاري ولم يشير من حياتهم إلى شىء، وإنّما ألقى ذلك على الأمل أو على من يسبقه من بعض أهل النشاط .

____________________________

1 .

أصل الشيعة واُصولها 53 _ 54 مطبعة العرفان .

( 113 )

وقد ذكر السيد شرف الدين من أسمائهم مايربو على مائتين(1) .

4- قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي «حفظه اللّه» بذكر أسماء روّاد التشيّع في عصر الرسول في كتابه المطبوع «هويّة التشيّع» فجاء باسم مائة وثلاثين من خُلِّص أصحاب الإمام من الصحابة الكرام، يقول بعد ما يذكر تنويه النبي باستخلاف علي في غير واحد من المواقف: ولا يمكن أن تمر هذه المواقف والكثير الكثير من أمثالها من دون أن تشد الناس لعلي، ودون أن تدفعهم للتعرّف على هذا الإنسان الّذي هو وصي النبي، ثمّ لابدّ للمسلمين من اطاعة الأوامر الّتي وردت في النصوص، والالتفات حول من وردت فيه، ذلك معنى التشيّع الّذي نقول انّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هو الّذي بذر بذرته، وقد أينعت في حياته وعرف جماعة بالتشيّع لعلي والالتفات حوله، وللتدليل على ذلك سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل من الصحابة الذين عرفوا بتشيّعهم للإمام علي(2) .

5- آخرهم وليس أخيرهم كاتب هذه السطور حيث قام مجيباً دعوة السيد شرف الدين فألّف كتاباً في ذلك المجال في عدّة أجزاء، نشر منه جزءان، وانتهينا في الجزء الثاني من ترجمة أبي ذر (جندب بن جناده) ذلك الصحابي العظيم، والكتاب باللغة الفارسية ونقله إلى العربية الشيخ المحقّق البارع جعفر الهادي وطبع ونشر .

ومن أراد أن يقف على روّاد التشيّع في كتب الرجال لأهل السنّة فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية:

____________________________

1 . الفصول المهمّة في تأليف الاُمّة 179 _ 190 .

2 . هوية التشيّع 34 .

( 114 )

1- الاستيعاب لأبي عمرو (ت 456).

2- اُسد الغابة للجزري (606) .

3- الاصابة لابن حجر (852) .

إلى غير ذلك

من اُمّهات كتب الرجال .

( 115 )

الفصل السادس افتراضات وهمية حول تاريخ

الفصل السادس افتراضات وهمية حول تاريخ الشيعة

( 116 )

( 117 )

قد تعرّفت على تاريخ التشيّع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنية وانّما هو وجه آخر للاسلام وهما وجهان لعملة واحدة; إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرخين وكُتّاب المقالات ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارىء على المجتمع الاسلامي، فأخذوا يُفتّشون عن مبدئه ومصدره، وأشد تلك الظنون عدوانية ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين والمتأخرين، هو كونه وليد عبداللّه بن سبأ ذلك الرجل اليهودي، الذي _ بزعمهم _ طاف الشرق والغرب، وأفسد الاُمور على الخلفاء والمسلمين وألّب الصحابة والتابعين على عثمان، فقتل في عقر داره، ثم دعا إلى علي بالإمامة والوصاية، وإلى النبي بالرجعة، وكوَّن مذهباً بإسم الشيعة، فهو صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالاسلام وبما أنّ للموضوع أهمية خاصة لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي على ذكر كل تلك الإدعاءات واحدة بعد الاُخرى، مع رعاية التسلسل الزمني .

( 118 )

( 119 )

الافتراض الأول:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وسوف نتطرّق إليها في فصل خاص عند البحث عمّا تنعقد به الامامة لدى السنّة والشيعة، ولكن نذكر هنا موجز ما ذكره الطبري وغيره الّذي صار سنداً لمن تخيّل أنّ الشيّع تكوّن في ذلك اليوم .

قال الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبابكر فاتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبوبكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء _ إلى أن قال _ فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّا. ثم

قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: واللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلّطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه، وقال ايضاً: وتخلّف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايَع علي، فبلغ ذلك أبابكر وعمر فقالا: خذوا سيف الزبير...(1) .

____________________________

1 . تاريخ الطبري 2 / 443 _ 444 .

( 120 )

وقال اليعقوبي: ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم، العباس بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب...(1) .

يلاحظ على تلك النظرية: انّ هذه النصوص تدل على أنّ فكرة التشيّع لعلىّ كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت علي الّذي أوصاهم النبي به طيلة حياته، إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على علي في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب. فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبي، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث .

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً ولمّا جاء قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم الاثنان(2) وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أما لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغدا .

وروى الزبير بن بكار في الموفقيات: انّ عامة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر .

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: انّ سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم

أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: انّه لمّا بويع أبوبكر واستقرّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار

____________________________

1 . تاريخ اليعقوبي 2 / 103 طبع النجف .

2 . ابن قتيبة: الامامة والسياسة 12 .

( 121 )

على بيعته ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الامام علي ولكنّه لم يوافقهم(1).

ومن المستحيل عادةً اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء في يوم واحد، بل يعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق علىّ وعترته في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفة ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى علي انّما هو لأجل مشايعتهم لعلي زمن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وما هذا إلاّ اخلاص ووفاء منهم للنبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو أين هو من تكوّن التشيّع يوم السقيفة .

ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق: انّه بعد ما استتبّ الأمر لأبي بكر اعترض عليه (لفيف) من الصحابة في مسجد النبي وكلّ يذكر وصايا النبي في حق علي بالوصاية من بعده، وسيوافيك نصوصهم في فصل مأساة السقيفة على وجه موجز .

____________________________

1 . ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 6 / 43 _ 44 .

( 123 )

الافتراض الثاني:

التشيّع صنيع عبداللّه بن سبأ

«إنّ يهودياً باسم عبداللّه بن سبأ المكنّى بابن الأمة السوداء في _ صنعاء _ أظهر الإسلام في عصر عثمان و اندّس بين المسلمين، وأخذ ينتقل في حواضرهم وعواصم بلادهم: الشام، والكوفة، والبصرة، ومصر، مبشّراً بأنّ للنبي الأكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة، وأنّ عليّاً هو وصي محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كما كان لكل نبي وصي، وأنّ عليّاً خاتم الأوصياء كما كان

محمّداً خاتم الأنبياء، وأنّ عثمان غاصب حق هذا الوصي وظالمه، فيجب مناهضته لارجاع الحق إلى أهله» .

«إنّ عبداللّه بن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته، وأشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الاُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر، وعمار بن ياسر، و محمد بن حذيفة، و عبدالرحمان بن عديس، و محمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الاُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات

( 124 )

من المسلمين بتحريض السبأيين، وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره، حتّى قتل فيها، كل ذلك كان بقيادة السبأيين ومباشرتهم».

إنّ المسلمين بعدما بايعوا عليّاً، ونكث طلحة والزبير بيعته، وخرجا إلى البصرة رأى السبأيون أنّ رؤَساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلا وقرّروا أن يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم، وانّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبأيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة ففزع الجيشان وفزع رؤسائهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم.

إلى هنا انتهت قصة السبأية، ولا يذكر منهم شيء بعد ذلك في التواريخ هذا هو الّذي يذكره الطبري في تاريخه، ويقول:

فيما كتب به إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي قال: كان عبداللّه بن سبأ

يهوديّاً من أهل صنعاء اُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول اضلالهم فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة، ثمّ الكوفة، ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب فمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال اللّه عزّوجلّ: (إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ اِلى مَعاد)(1)، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فَقُبِل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها، ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي،

____________________________

1 . القصص / 85 .

( 125 )

وكان علي وصي محمّد. ثم قال: محمّد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك: من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ووثب على وصي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وتناول أمر الاُمّة ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه، وابدأوا باللعن على اُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اُولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون... إلى

آخر ما يذكره الطبري في المقام، وفي أحداث السنوات التالية إلى سنة 36 الّتي وقعت فيها حرب الجمل. ولا يأتي بعد بشيء عن السبأية(1) .

ثمّ إنّك قد تعرّفت على كبار السبأية وأنّهم كانوا من أكابر الصحابة والتابعين، كأبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن أبي حذيفة، الذين عرفهم المسلمون بالزهد والتقى والصدق والصفا، وأمّا عبدالرحمان بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر(2) .

____________________________

1 . الطبري 3 / 378 .

2 . اُسد الغابة 3 / 309 قال: وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها وكان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفان _ رضى اللّه عنه _ لمّا قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر...

( 126 )

وأمّا محمّد بن أبي بكر، فاُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية تزوّجها أبوبكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه، وشهد معه حرب الجمل، كما شهد صفّين، ثم ولي مصر عن علي، إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها(1) .

وأمّا صعصعة بن صوحان العبدي، أسلم على عهد رسول اللّه، كان خطيباً فصيحاً شهد صفّين مع علي. ولمّا استشهد علي، واستولى معاوية على العراق، نفاه إلى البحرين ومات فيها(2) .

وأمّا الأشتر، فهو مالك بن الحرث النخعي، وهو من ثقات التابعين، شهد وقعة اليرموك، صحب عليّاً في الجمل وصفّين، ولاّه على مصر سنة (38) ثم وصل إلى القلزم، دسّ إليه معاوية عميلا له، فتوفّي بالسم(3) .

هذا هو الّذي يذكره الطبري وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة راهنة، وبنوا

عليه مابنوا من الأفكار والآراء فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون والأجيال، وإليك من ذكرها مغمض العينين:

____________________________

1 . كان أحد من توثّب على عثمان حتّى قتل ثم انضمّ إلى علي: اُسد الغابة 4 / 324، والاستيعاب 3 / 328، والجرح والتعديل 7 / 301 .

2 . اُسد الغابة 3 / 320 قال: تقدم نسبه في أخيه زيد وكان صعصعة مسلماً على عهد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولم يره وصغر عن ذلك وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس وكان فصيحاً بليغاً لسناً ديّناً فاضلا يعد في أصحاب علي _ رضي اللّه عنه _ وشهد معه حروبه .

3 . ملك العرب، أحد الأشراف والأبطال: الطبقات الكبرى 6 / 213، الاصابة 3 / 459، سير أعلام النبلاء 4 / 34 .

( 127 )

1- ابن الأثير (ت 630)، فقد أورد القصّة منبثة بين حوادث (30 _ 36) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الأول(1) .

2- ابن كثير الشامي (ت 774) فقد ذكر القصّة في تاريخه «البداية والنهاية» وأسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل، إلى تاريخ الطبري، وقال: هذا ملخّص ما ذكر أبو جعفر بن جرير(2) .

3- ابن خلدون (ت 808)، في تاريخه «المبتدأ والخبر» أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري(3) .

وأمّا المتأخّرون، وأخصّ الكتّاب الجدد فإنّهم يذكرون القصّة، فنذكر منهم مايلي:

4- محمّد رشيد رضا، منشىء مجلة المنار (ت 1354)، ذكره في كتابه

____________________________

1 . لاحظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه: فابتدأت بالتاريخ الكبير الّذي صنّفه الامام أبو جعفر الطبري

إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها لاحظ 1 / 3 طبع دار صادر .

2 . البداية والنهاية 7 / 246 طبع دار الفكر بيروت .

3 . تاريخ ابن خلدون يقول: «وبعث (عثمان) إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، واُسامة بن زيد إلى البصرة، وعبداللّه بن عمر إلى الشام و عمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامّهم إلاّ عماراً فانّه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه، منهم عبداللّه بن سبأ ويعرف بابن السوداء كان يهوديّاً وهاجر أيّام عثمان فلم يحسن اسلامه واُخرج من البصرة... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر 2 / 139، وقال 166: هذا أمر الجمل ملخّص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء .

( 128 )

«السنّة والشيعة» وقال: وكان مبتدع اُصوله (التشيّع) يهودي اسمه عبداللّه بن سبأ، أظهر الإسلام خداعا، ودعا إلى الغلوّ في علي كرم اللّه وجهه، لأجل تفريق هذه الاُمّة، وافساد دينها ودنياها عليها، ثمّ سرد القصّة وقال: ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلا يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح(1) .

5- أحمد أمين (ت 1372)، وهو الّذي استبطل عبداللّه بن سبأ في كتابه «فجر الإسلام وقال: إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان، وحاول أن يُفسد على المسلمين دينهم وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة، وقد طاف في بلاد كثيرة، في الحجاز، والبصرة، والكوفة، والشام، ومصر، ثمّ ذكر أنّ

أباذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن. وقد كان لكتاب «فجر الإسلام» عام انتشاره (1952 م) دويّ واسع النطاق في الأوساط الإسلامية، فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء «أصل الشيعة واُصولها» ردّاً عليه، كما ردّ عليه العلاّمة الشيخ عبداللّه السبيتي بكتاب أسماه «تحت راية الحق» .

6- فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف (ت 1370) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن ابي طالب(2) .

7- حسن إبراهيم حسن، وذكره في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي) وقد ذكر في اُخريات خلافة عثمان قوله: «فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملائمة ومهيّئاً لقبول دعوة (عبداللّه بن سبأ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حد «وقد أذكى نيران هذه

____________________________

1 . السنّة والشيعة 4 _ 6 _ 45 _ 49 _ 103 .

2 . دائرة المعارف 6 / 637 .

( 129 )

الثورة صحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى _ وكان من كبار أئمّة الحديث _ وهو أبوذر الغفاري الّذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبداللّه بن سبأ، وكان يهديّاً فأسلم، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية، فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر... الخ(1) .

هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج، فقد اتبعوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية الّتي تؤلّف لغايات خاصّة، فم أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال، فإنّه

_ دام ظلّه _ حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً(2) .

نظر المحقّق في الموضوع

1- إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة، على وجه لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن، إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان، و استطاع أن يُغري كبار الصحابة والتابعين، ويخدعهم ويطوف بين البلاد واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة ويؤلِّبهم على الخلافة الإسلامية، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم باحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب .

إنّ هذه القصّة تمس كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم اُمّة

____________________________

1 . تاريخ الإسلام السياسي 347 .

2 . عبداللّه بن سبأ1 / 46 _ 50، وكتابه هذا من أنفس الكتب وحسنات الزمان .

( 130 )

ساذجة يغترّون بفكر يهودي وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون .

2- إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر حتّى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه(1). إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمّالها يغضّون الطرف عمّن يُؤلِّب الصحابة والتابعين على اخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويلات على كيانهم. وهذا شيء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية .

يقول العلاّمة الأميني: لو كان ابن سبأ بلغ هذا

المبلغ من إلقاح الفتن، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاهانة، والزج إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الاعدام المريح للاُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني: (إِنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتِّلُوا أَوْ يُصَلِّبُواْ أو تُقَطِّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِن خِلاف أوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2)

____________________________

1 . الاستيعاب 2 / 422 .

2 . المائدة / 33 .

( 131 )

فهّلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الأبرار من اُمّة محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ففعل بهم ما فعل(1) .

وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير، ليقفوا على الأسباب المؤدّية إلّى قتل الخليفة حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة، فنحتوا فروضاً وهمّية سببت قتل الخليفة وأودت به .

وفي حق هؤلاء يقول الكاتب المعاصر:

«وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حال أو ظرف، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على أيام عثمان، ويحصرون أحداث عصر بل عصور، بإرادةِ فرد يطوّفُ في الأمصار والأقطار ويؤلّبُ الناس على خليفة ودولة!

إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنّما كانت دولةً مثاليَّة، وأنَّ الأمويّين والولاة والأرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُلَ العدالة الاجتماعية والإخاء البشري في أرض

العرب. غير أنّ رجلا فرداً هو عبداللّه بن سبأ أفسدَ على الأمويين والولاة والأرستقراطيين صلاحَهم وبرّهم إذ جعل يطوف الأمصارَ والأقطارَ مؤلِّبا على عثمان واُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين. ولولا هذا الرجل الفرد وطوافُه في الأمصار والأقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء .

وفي مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع واعتداءٌ على الخَلق ومسايرةٌ ضئيلة الشأن لبعض الآراء، يلفّ ذلك جميعاً منطقٌ ساذج وحجَّةٌ مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك: فيه تضليلٌ عن حقائق اساسية في بناء التاريخ، إذ يحاول صاحب هذا المسعى الفاشل أنْ يحصر أحداثَ عصر بكامله، بل عصور كثيرة، بإرادة فرد يطوف

____________________________

1 . الغدير 9 / 219 _ 220 .

( 132 )

في الأمصار ويؤلِّب الناسَ على دولة فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!

أمّا طبيعة الحكم وسياسة الحاكم وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني، وطغيان الأثرة على ذوي السلطان، واستبداد الولاة بالأرزاق، وحمل بني اُميَّة على الأعناق، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما، أمّا هذه الاُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار وإثارتها على الاُسرة الاُمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها، في نظر هؤلاء! بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبداللّه بن سبأ الّذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة ويلقي بينهم الشر.

أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق، من يعلّلون الحوادث العامة الكبرى، المتصلة اتّصالا وثيقاً بطبيعة الجماعة واُسس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، بارادة فرد من عامة

الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والنساء في هذا المجتمع السليم .

أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلا صبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الأمصار وأحدثوه(1) .

3- إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم:

أ: السري: إنّ السري الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

____________________________

1 . الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 4 / 894 _ 896 وللكلام صلة من أراد فليرجع إليه .

( 133 )

1- السرىّ بن إسماعيل الهمداني الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ(1) .

2- السرىّ بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام (258) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات، لا يحل الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث وضعه السري(2) فالاسم مشترك بين كذّابين لايهمّنا تعيين أحدهما. واحتمال كونه السري بن يحيى الثقة غير صحيح، لأنّه توفّي عام (167) مع أنّ الطبري من مواليد عام (234) فالفرق بينهما (57) عاماً، فلا مناص أن يكون السري، أحد الرجلين الكذابين .

ب _ شعيب، والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف، وقال الذهبي: راوية، كتب سيف عنه: فيه جهالة(3) .

ت _ سيف بن عمر، قال ابن حبان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات، وقال: قالوا: إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم: اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي: عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن

الدار قطني: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف، وقال السيوطي: وضّاع، وذكر حديثاً من طريق السري بن

____________________________

1 . قال يحيى القطان: استبان لي كذبه في مجلس واحد، وقال النسائي: متروك، وقال غيره: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه لاحظ ميزان الاعتدال 2 / 117 .

2 . تاريخ الخطيب 993، ميزان الاعتدال 2 / 117، لسان الميزان 3 / 12 .

3 . ميزان الاعتدال 2 / 275، لسان الميزان 3 / 145 .

( 134 )

يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدّهم سيف(1) .

ج _ فإذا كان هذا حال السند، فكيف نعتمد في تحليل تكوّن طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكّل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها، فالاعتماد عليها خداع وضلال .

4- عبداللّه بن سبأ، اُسطورة تاريخية:

إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول، بأنّ مثل عبداللّه بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال وأمثال هؤلاء الرجال والأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون، فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين: الأموية والعباسية، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو، اتسع المجال للوضع وراج سوق الخيال وجعلت القصص والأمثال كي تأنس بها ربات الحجال، وأبناء الترف والنعمة(2) .

هذا هو الّذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر، فذهبوا إلى أنّ عبداللّه بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب

المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل اُسطورة تاريخية استبطلها أعداء الشيعة نكاية بالشيعة، ولا بأس في الوقوف على كلامه حيث قال:

____________________________

1 . ميزان الاعتدال 1 / 438، تهذيب التهذيب 4 / 295، اللئالي المصنوعة 1 / 157 - 199 _ 429 .

2 . أصل الشيعة واُصولها 73 .

( 135 )

وأكبر الظن أنّ عبداللّه بن سبأ هذا _ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً _ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبداللّه بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان، وولاته من ناحية، وليشنّعوا على علي وشيعته من ناحية اُخرى، فيردّوا بعض اُمور الشيعة إلى يهودي اسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت اُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثمّ اُتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حيث قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها اُمور لاتستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التاريخ، وإنما الشيء الواضح الّذي ليس فيه شك هو أنّ ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الراي، وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة، فالمستمسكون بنصوص

القرآن وسنّة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يروون اُموراً تطرأ، ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاُمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، وفيها الطموح، وفيها الاثرة، وفيها الأمل البعيد، وفيها الهمّ الّذي لا يعرب حدّاً يقف عنده، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على

( 136 )

المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذا الأُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد اُخرى لم تفتح، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فمالهم لا يستبقون إلى الفتح؟ ومالهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة. ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ واي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ واي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الاُخرى من العرب؟ وفي أن تمتلىء قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشاً بعظائم الاُمور، ويؤثر بني اُميّة بأعظم هذه العظائم من الاُمور خطراً وأجلّها شأناً.

والشيء الّذي ليس فيه شك هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد وسعيداً على

الكوفة بعد أن عزل سعداً، وولّى عبداللّه بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى. وجمع الشام كلّها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولّى عبداللّه بن أبي سرح مصر، بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لاُمّه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى اُميّة بن عبد شمس .

كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان

( 137 )

بتولية من ولّى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والاُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور (1) .

إنّ الجهات الّتي استنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاُمور التالية:

1- إنّ كل المؤرّخين الثقات لم يشيروا إلى قصّة عبداللّه بن سبأ، كابن سعد في طبقاته، والبلاذري في فتوحاته.

2- إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر، وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وضّاع .

3- إنّ الاُمور التي اُسندت إلى عبداللّه بن سبأ، تسلتزم معجزات خارقة لفرد عادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبداللّه بن سبأ، وسخّرهم لمآربه، وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض، في منتهى البلاهة والسخف .

4- عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وغيرهم .

5- قصة الاحراق، إحراق علي إيّاه وتعيين

السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة، ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.

6- عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في واقعة صفّين وفي حرب النهروان .

____________________________

1 . الفتنة الكبرى 134 لاحظ الغدير أيضاً 9 / 220 _ 221 .

( 138 )

وقد انتهى الدكتور بهذه الاُمور إلى القول: بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج(1) .

وقد تبعه غير واحد من المستشرقين، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإمامة(2) .

إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيد مرتضى العسكري _ دام ظلّه _ فألّف كتابه «عبداللّه بن سبأ» ودرس الموضوع دراسة عميقة، وهو الكتاب الّذي يحلّل التاريخ على أساس العلم، وقد أدى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنيه: «إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر، الّذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين واضعاف قوّتهم»(3) .

ولنفترض أنّ للرجل حقيقة وليس اُسطورة تاريخية لكن لا شك أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث الّتي جرت في عهد عثمان، ليحدت فتنة وليزيدها اشتعالا، وليؤلّب الناس على عثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين

____________________________

1 . طه حسين: الفتنة الكبرى: فصل ابن سبأ، وقد لخّص ما ذكرنا من الاُمور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه «هوية التشيّع» 146 .

2 . نظرية الإمامة لأحمد محمود صبحي

37 .

3 . عبداللّه بن سبأ 1 / 11، والكتاب يقع في جزأين وصل فيهما إلى النتيجة الّتي تقدّمت، وقد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل .

( 139 )

طائفة كبيرة من المسلمين(1) .

إلى هنا تبيّن أنّ تحليل تكوّن الشيعة عن هذا الطريق تحليل خيالي خادع، وسراب لا ماء ويتّضح الحق إنّا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلمائهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ .

1- قال الكشي، وهو من علماء القرن الرابع: عبداللّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة وانّ عليّاً هو اللّه فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا(2) .

2- قال الشيخ الطوسي (385 _ 460) في رجاله في باب أصحاب أميرالمؤمنين: عبداللّه بن سبأ الّذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(3) .

3- وقال العلاّمة الحلّي (648 _ 726): غال ملعون، حرقه أميرالمؤمنين بالنار، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبي، لعنه اللّه(4) .

4- وقال ابن داود (647 _ 707): عبداللّه بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(5) .

5- وذكر الشيخ حسن (ت 1011) في التحرير الطاووسي: غال ملعون حرقه أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ بالنار(6) .

ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حق الرجل، فعليه أن يرجع

____________________________

1 . نظرية الامامة 37 .

2 . رجال الكشي 98 برقم 48 .

3 . رجال الطوسي: باب أصحاب علي برقم 76 / 51 .

4 . الخلاصة للعلاّمة: القسم الثاني الباب الثاني: عبداللّه 236 .

5 . رجال ابن داود: القسم الثاني 254 برقم 278 .

6 . التحرير الطاووسي 173 برقم 234 .

( 140 )

إلى رجال الكشي فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حق علي، وأمّا ما نقله عنه سيف بن

عمر فليس منه أثر في تلك الروايات، فأقصى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو اُحرق، والقول بذلك لا يضر بشي، وأمّا ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير .

وأخيراً فلنفترض أنّ كل ما ساقوه في القصة صحيح ولكن السؤال الّذي نطرحه هو أنّه لا ملازمة بين التصديق بها وبين أنّ ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة فإنّ التشيّع حدث في عصر النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ واعتنقته اُمّة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين، وأمّا ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه فإنّه يعبّر عن موقف فردي وتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب ومن تبعه، فقد أدخل نفسه دار البوار، وأين هؤلاء من الذين لا يخالفون اللّه ورسوله واُولي الأمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أنملة كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الأشتر وصعصعة وأخيه وعمر بن الحمق ممّن يستدر بهم الغمام و تنزل بهم البركات .

إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلنرجع إلى تحليل النظرية الثالثة .

( 141 )

الافتراض الثالث:

التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة

وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الاسلامي، وهؤلاء كالباحثين السابقين اعتقدوا أنّ التشيّع ظاهرة حدثت بعد النبي الأكرم، فأخذوا يفتِّشون عن علّتها وسبب حدوثها حتّى انتهوا إلى أنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة، والترديد بين الأمرين لأجل أنّ لهم في المقام رأيين .

1- انّ التشيع من مخترعات الفرس، اخترعوه لأغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس، ولكنّهم لمّا أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.

2- انّ التشيع عربي المبدأ، وإنّ لفيفاً من

العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه صبغه فارسية لم يكن له ذلك من قبل .

وهذان الرأيان هما اللذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت، وإليك التفصيل.

أمّا الاُولى: فقد اخترعها المستشرق دوزي وحاصله أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية لأنّ العرب كانت تدين بالحرية، والفرس تدين بالملك، والوراثة،

( 142 )

ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولدا، قالوا علي أولى بالخلافة من بعده .

وحاصله: انّ الإنسجام الفكري بين الفرس والشيعة أعني كون الخلافة أمراً وراثياً، دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس .

يلاحظ عليه:

أولا: انّ التشيّع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم وهو الّذي سمّى أتباع علي بالشيعة، وكانوا متواجدين في عصر النبي وبعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس سوى سلمان، في الإسلام .

إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع .

وكان لأبي الحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ أيام خلافته ثلاثة حروب، حرب الجمل، وصفين، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية، فقد انضمّ إلى جيشه زرافات من قريش والاُوس والخزرج، ومن قبائل مذحج، وهمدان، وطي، وكندة، وتميم، ومضر، وكان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر، و هاشم المرقال، مالك الأشتر، صعصعة بن صوحان وأخوه زيد، قيس بن سعد بن عبادة، عبداللّه بن عباس، محمّد بن أبي بكر، حجر بن عدي، عدي بن حاتم، وأضرابهم، وبهذا الجند وباُولئك الزعماء فتح أميرالمؤمنين البصرة وحارب القاسطين معاوية وجنوده يوم صفين، وبهم قضى على المارقين .

فأين الفرس في ذلك الجيش واُولئك القواد

كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الأساس للتشيّع. ثمّ لم يعتنق الفرس التشيّع دون غيرهم، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من غير العرب .

( 143 )

شهادة المستشرقين على أنّ التشيّع عربي المبدأ:

إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم:

1- قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع لقدمه على دخول الفرس في الإسلام وقال: والّذي أرى كما يدلّنا التاريخ أنّ التشيّع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام ولكن بمعنى ساذج، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإسلام وحيث انّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيّع(1) وسيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه .

2- قال المستشرق: «فلهوزن»: كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء العرب(2) .

3- وقال المستشرق «جولد تسيهر»: «إنّ من الخطأ القول بانّ التشيّع في منشئه ومراحل نموه يمثّل الأثر التعديلي الّذي أحدثته أفكار الاُمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحثة(3) .

4- يقول المستشرق «آدم متز»: إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها

____________________________

1 . فجر الإسلام 176 .

2 . الخوارج والشيعة 113 .

3 . العقيدة والشريعة 204 .

( 144 )

عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان، وهجر وصعدة، أمّا

إيران فكانت كلّها سنّة، ما عدا قم وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها أنّه نبىّ مرسل(1) .

هذه الكلمات من هؤلاء الذين يفقدون الاخلاص غالباً في قضائهم، أوضح شاهد على أنّهم لم يجدوا لهذه النظرية أي مصدر صحيح .

5- يقول الشيخ أبو زهرة: إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيع مخلوقاً لهم، ويضيف: وأمّا فارس وخراسان وماوراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها الكثير من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولا، ثم العباسيين ثانياً وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها(2) .

6- قال السيد الأمين: إنّ الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلاّ القليل وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية(3) .

وثانياً: انّ التاريخ يدلّنا إلى أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا، بالصبغة السنّية، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه ويقول:

كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف، وكانوا خدمه وخاصته، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسية مع رستم، ولمّا قتل وانهزم

____________________________

1 . آدم متز: الحضارة الإسلامية 102 .

2 . الامام جعفر الصادق 545 .

3 . أعيان الشيعة 1 / 33 ط الخامسة .

( 145 )

المجوس اعتزلوا، وقالوا: ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا فقال سعد: ما لهؤلاء، فأتاهم المغيرة ابن شعبة فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد فأخبره فأمنهم، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد،

وشهدوا فتح جلولاء، ثم تحولوا، فنزلوا الكوفة مع المسلمين(1) .

لم يكن اسلامهم يوم ذاك، إلاّ كاسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: انّ اسلامهم يوم ذاك كان اسلاماً شيعياً.

وثالثاً: إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الّذي كان يمشي في سائر الشعوب ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم و كاشان، فبذروا بذرة التشيّع وكان ذلك في أواخر القرن الأول مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني أي من سنة 17 وهذا يعني أنّه قد انقضى عشرات الأعوام ولم يكن عندهم أثر من التشيّع. هذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان ويقول:

«قم، مدينة تذكر مع قاشان، وهي مدينة مستحدثة اسلامية لا اثر للأعاجم فيها، وأوّل من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجّاج بن يوسف سنة 83، وذلك أنّ عبدالرحمان بن محمد بن الأشعث بن قيس، كان أمير سجستان من جهة الحجاج، ثم خرج عليه وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماة التابعين من العراقيين، فلمّا انهزم ابن الاشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملته إخوة يقال لهم عبداللّه، والأحوص، وعبدالرحمان، وإسحاق، ونُعَيم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وقعوا إلى ناحية قم، وكان هناك سبع قرى

____________________________

1 . البلاذري: فتوح البلدان 279 .

( 146 )

اسم احداهما «كمندان» فنزل هؤلاء الاخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولّوا عليها، وانتقلوا إليها واستوطنوها، واجتمع عليهم بنوعمّهم وصارت السبع قرى، سبع محال بها، وسميت باسم احداها، «كمندان» فأسقطوا بعض حروفها، فسميت بتعريبهم قماً وكان متقدم هؤلاء الاخوة عبد الله بن سعد، وكان له والد قد ربى بالكوفة،

فانتقل منها إلى قم، وكان إمامياً فهو الّذي نقل التشيّع إلى أهلها، فلا يوجد بها سنّي قط»(1) .

هذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت فانّ الفرس وإن كانوا لا يعرفون معنى الإنتخاب والحرية، ولكن كانت العرب أيضاً مثلهم، فانّ العربي الّذي كان يعيش في البادية عيشة فردية كان يحب الحرية ويمارسها، وأمّا العربي الّذي يعيش عيشة قبلية، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام اُمورهم وشؤونهم، فما معنى الحرية بعد هذا، وإذا مات شيخ القبيلة، يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر .

تحليل النظرية الثانية:

إنّ هذه النظرية وإن كانت تتعرف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام وهذا هو الّذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين ك_ «فلهاوزن»، يقول الثاني إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الايرانيين، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الايرانيين فليست تلك الملاءمة دليلا عليه، بل الروايات التاريخية تقول

____________________________

1 . معجم البلدان 4 / 396، مادة قم، ويقول في مراصد الاطلاع بأنّ أهل قم وكاشان كلهم شيعة إمامية ولاحظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه .

( 147 )

بعكس ذلك، إذ تقول انّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أولاًّ في الأوساط العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.

ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية، وكانت حلقة الإرتباط هي الإسلام ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعاً جديداً من الدين(1) .

أقول: إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعليّ لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى

آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت علي _ عليه السلام _ هذا هو الّذي يصرح به الدكتور أحمد أمين ويقول: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.

يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس، بل وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثة، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت اُموراً وراثية حتّى أنّ النبي الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لم يغيّرها بل أنّه أمضاها ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة لمّا كانت السدانة منصباً لهم أيام الجاهلية، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب، فعلى ذلك يجب أن نقول، انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسانية وحميرية وأخيراً عربية، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية؟!

____________________________

1 . الخوارج والشيعة 169 .

( 148 )

إنّ النبوة والوصاية من الاُمور الوراثية في الشرائع السماوية، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوة والامامة في بيوتات خاصة، فكان يتوارث نبي نبيّاً، ووصي وصيّاً، يقول سبحانه:

(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً وإبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ والكِتابَ)(1).

(وإِذِ ابْتَلَى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ)(2) .

(أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبراهيمَ الكِتَابَ

والحِكْمَةَ وآتَيناهُم مُلْكاً عَظِيماً)(3) .

فلماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات الّتي تصرّح بأنّ الوصاية بين الأنبياء كانت أمراً وراثياً؟ وانّ هذه سنّة اللّه في الاُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه (لا ينال عهدى الظالمين)فسمّى الامامة عهد اللّه لا عهد الناس .

ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأً وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد عليهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين، نعم كانت الري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة: إنّ أكثر أهل الفارس إلى الأن من الشيعة وأنّ الشيعة، الأولين كانوا من أهل فارس(4) .

أمّا غلبة التشيّع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد، إنّما الكلام كونهم

____________________________

1 . الحديد / 26 .

2 . البقرة / 124 .

3 . النساء / 54 .

4 . تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 41 ط دار الفكر العربي .

( 149 )

كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام، وكأنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران، وها نحن ننقل كلام «أحسن التقاسيم» لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن، هل كان هو التشيّع أم التسنّن يقول:

«اقليم خراسان للمعتزلة والشيعة، والغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلاّ في كورة الشاش فانّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبداللّه السرخسي، واقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلاّ أنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل _ لعلّه يريد أردبيل _ مذهب أبي حنيفة وبالجبال، أمّا بالري فمذاهبهم مختلفة، والغلبة فيهم للحنفية، وبالري حنابلة كثيرة، وأهل قم شيعة والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري، واقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة، أكثر أهل الأهواز ورامهرمز والدورق حنابلة، ونصف أهل الأهواز شيعة، وفيه من أصحاب أبي حنيفة كثير،

وبالأهواز مالكيون، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث، وأهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذان _ أي يقولون: حي على خير العمل _ ويثنون في الاقامة _ أي يقولون: اللّه أكبر مرتين، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه مرتين أيضاً وهكذا _ ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة(1) .

ذكر ابن بطوطة «كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الامامية يسمّى جمال الدين بن مطهر _ يعني العلامة الحلي (648 _ 726) _ فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت باسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزيّن له مذاهب الروافض وفضله على غيره... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان واصفهان وكرمان

____________________________

1 . أحسن التقاسيم لشمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي / 119 (ألفه عام 375) .

( 150 )

وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أوّل بلاد وصل إليها الأمر بغداد وشيراز واصفهان، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الازج يقولون لاسمعاً ولا طاعة، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّر الخطبة وهكذا فعل أهل شيراز وأهل اصفهان(1) .

وقال القاضي عياض في مقدمة _ ترتيب المدارك _ وهو يحكي انتشار مذهب مالك: وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولا بيحيى بن يحيى التميمي، وعبداللّه بن المبارك، وقتيبة بن سعيد، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان، وتفشّى بقزوين وماولاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي(2) .

قال «بروكلمان»: إنّ

شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على «الوند» توجّه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، من السنّة(3) .

هذه النصوص تعطينا أنّ السنّة كانت هي المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس، فكيف يمكن أن يقال: إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيّع.

هذا هو ابن الأثير يؤكّد على أنْ أهل طوس كانوا سنَّة إلى عصر محمود بن سبكتكين، قال: إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الّذي فيه قبر

____________________________

1 . رحلة ابن بطوطة 219 _ 220 .

2 . ترتيب المدارك 1 / 53 .

3 . تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 140 .

( 151 )

علي بن موسى الرضا وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم ابنه عن ذلك، وكان سبب فعله ذلك أنّه رأي في المنام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وهو يقول: إلى متى هذا؟ فعلم أنّه يريد أمر المشهد يأمر بعمارته(1) .

ويؤيّد ذلك ما رواه البيهقي: انّ المأمون العباسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية، فقال له يحيى بن أكثم: يا أميرالمؤمنين! العامة لا تتحمّل هذا ولا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرة(2).

فقد بان ممّا ذكر أمران:

1- انّ التشيع ليس فارسي المبدأ، وانّما هو حجازي المولد، والمنشأ اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرس _ سوى سلمان المحمدي _ وانّ الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب وانّهم اعتنقوا الإسلام _ لا التشيّع _ مثل اعتناق سائر الاُمم وبقوا عليه قروناً وكان التشيّع بينهم قليلا _ إلى أن ظهر بينهم، في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية عام

905.

2- انّ كون الامامة منحصرة في علي وأولاده، ليس صبغة عارضة على التشيّع، بل هو جوهر التشيّع وحقيقته ولولاه، فقد التشيّع روحه وجوهره، فجعل الولاء لآل البيت أو تفضيل علي، على سائر الخلفاء أصله وجوهره، وجعل الامامة في علي ونسله أمراً عرضياً فكر خاطئ ليس له دليل .

قال المفيد: الشيعة من دان بوجوب الامامة ووجودها في كل زمان وأوجب

____________________________

1 . ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 139 .

2 . البيهقي: المحاسن والمساوئ 1 / 108 .

( 152 )

النص الجلي والعصمة والكمال لكلّ امام ثم حصر الامامة في ولد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ وساقها إلى الرضا علي بن موسى _ عليهما السلام _ .(1)

____________________________

1 . اوائل المقالات / 7 .

( 153 )

الافتراض الرابع:

الشيعة ويوم الجمل

إنّ الشيعة تكوّنت يوم الجمل لما ذكر ابن النديم: انّ عليّاً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر اللّه جلّ اسمه وتسمّى من اتّبعه على ذلك الشيعة. وكان يقول: شيعتي وسمّاهم _ عليه السلام _ الأصفياء، الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب(1) .

وعلى ذلك جرى المستشرق «فلهوزن» حيث يقول: بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين: حزب علي، وحزب معاوية، والحزب يطلق عليه في العربية اسم «الشيعة» فكانت شيعة علىّ في مقابل شيعة معاوية، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الاسلام كلّها... أصبح استعمال لفظ «شيعة» مقصوراً على أتباع علي(2) .

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ابن النديم نفس ما ذكره البرقي قبله بقول(3) في رجاله وإليك نصّه .

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 263 طبع القاهرة .

2 . الخوارج والشيعة 146 (ترجمة عبدالرحمان بدوي، طبع القاهرة) .

3 . توفّي البرقي عام (274) أو (280) وألّف ابن النديم كتابه

عام (377) وتوفّي عام (378) .

( 154 )

أصحاب أميرالمؤمنين:

من أصحاب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الأصحاب، ثم الأصفياء، ثم الأولياء، ثم شرطة الخميس:

من الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ : سلمان الفارسي، المقداد، أبوذر، عمار، أبوليلى، شبير، أبو سنان، أبو عمرة، _ أبو سعيد الخدري (عربي أنصاري) _ أبو برزة، جابر بن عبداللّه، البراء بن عازب (أنصاري)، عرفة الأزدي، وكان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ دعا له فقال: اللّهمّ بارك (له) في صفقته .

وأصحاب أميرالمؤمنين، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستّة آلاف رجل، وقال علي بن الحكم (أصحاب) أميرالمؤمنين الذين قال لهم: تشرّطوا انّما اُشارطكم على الجنّة ولست اُشارطكم على ذهب وفضّة انّ نبيّنا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لأصحابه فيما مضى: تشرّطوا فانّي لست اُشارطكم، إلاّ على الجنّة(1) .

ترى أنّه عدّ من أصحاب الامام رجالا ماتوا، قبل أيام خلافته كسلمان، وأبوذر والمقداد، وكلّهم كانوا شيعة الامام، فكيف يكون التشيّع وليد يوم الجمل والظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم .

وعلى كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص في وجود التشيّع في عصر الرسول وبعده وقبل أن تشب نار الحرب في البصرة، دليل على وهن هذا الرأي _ على تسليم دلالة كلام ابن النديم - بل كان ذلك اليوم يوم ظهور التشيّع .

فانّ الامام وشيعته بعد خروج الحق عن محوره، واستتباب الأمر لأبي بكر، رأوا أنّ مصالح الإسلام والمسلمين تكمن في السكوت ومماشاة القوم، بينما كان نداء

____________________________

1 . البرقي: الرجال 3 .

( 155 )

التشيّع يعلو بين آونة واُخرى من جانب المجاهرين بالحقيقة، كأبي ذر الغفاري وغيره، ولكن كانت القاعدة الغالبة هو إدلاء

الأمر للمتقمّصين بالخلافة والاشتغال برفع مشاكلهم العلمية، ولكن عندما تمّ الأمر للامام علي، ورجع الحق إلى محلّه اهتزّت الشيعة فرحاً، وارتفع كابوس الضغط عنهم، واستنشقوا نسيم الحرية _ وإن كانت أياماً قصيرة _ ففي تلك الأحايين ظهرت المعارضة بين المتشيّعين وغيرهم .

( 156 )

( 157 )

الافتراض الخامس:

الشيعة ويوم صفين

إنّ بعض المستشرقين(1) زعم أنّ الشيعة تكوّنت يوم افترق جيش علي في مسألة التحكيم إلى فرقتين فلمّا دخل علي الكوفة وفارقته الحرورية وثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت .

إنّ رمي الشيعة بالتكوّن يوم صفين اعتماداً على هذه العبارة باطل وانّما ذهب إليه ذلك المستشرق لأنّه افترض لتكوّن الشيعة، تاريخاً مفصولا عن تاريخ الإسلام فأخذ يتمسّك بهذه العبارة، مع أنّ تعبير الطبري، أعني قوله: وثبت إليه الشيعة(2) دليل على سبق وجودهم على ذلك .

نعم كانت للشيعة بعد تولّي الإمام الخلافة الحرية حيث ارتفع الضغط فالتفّ حوله مواليه من الصحابة والتابعين، نعم لم يكن كل من في جيشه من الشيعة بالمعنى المصطلح، وإنّما كانوا يقتدون به لأجل مبايعته .

____________________________

1 . تاريخ الامامية للدكتور عبداللّه فياض 37 .

2 . تاريخ الطبري 4 / 46 طبع مصر .

( 158 )

( 159 )

الافتراض السادس:

الشيعة والبويهيون

تلقّى آل بويه مقاليد الحكم والسلطة من عام 320 _ 447، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران كفارس وكرمان وبلاد الجبل وهمدان وإصفهان والري، وقد اُقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليه عام 420 وقد ذكر المؤرّخون خصوصاً ابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم شيئاً كثيراً من أحوالهم، وخدماتهم، وافساحهم المجال للعلماء من غير فرق بين

طائفة واُخرى. وقد أفرد المستشرق «استانلي لين بول» كتاباً في حياتهم ترجم باسم طبقات سلاطين الإسلام .

يقول ابن الأثير وكان عضد الدولة عاقلا، فاضلا، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأي، محبّاً للفضائل وأهلها، باذلا في مواضع العطاء... إلى أن قال: وكان محبّاً للعلوم وأهلها، مقرّباً للعلماء، محسناً إليهم، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل. فقصده العلماء من كل بلد وصنّفوا له الكتب ومنها الايضاح في النحو، والحجّة في القراءات، والمكلى في

( 160 )

الطب، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك(1). وهذا يدل أنّهم كانوا محبّين للعلم ومروّجين له من غير فرق بين كون العالم من الشيعة أو السنّة. وكان في عصرهم يغلب التسنّن على أكثر البلاد ومع ذلك لم يحاربوا التسنّن خلافاً لملوك السنّة، فكلّما كانت لهم السلطة والقوّة استأثرت الشيعة، ولو وقعت في أيّامهم حوادث بين الشيعة والسنّة في الطرق كان التحرّش فيها من طرف السنّة، ومن الحوادث المؤلمة في نهاية حكمهم بعد دخول طغرل بك مدينة دار السلام (بغداد) عام 447، إحراق مكتبة الشيخ الطوسي وكرسيّه الّذي كان يجلس عليه للتدريس(2). نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم واستنشقوا نسيم الحرية بعد أن تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصاً في عهد المتوكّل ومن بعده. غير أنّ تكوّن مذهب الشيعة في أيّامهم شيئاً وكونهم مروّجين ومعاضدين له شيء آخر، والمسكين لم يفرّق بينهما .

____________________________

1 . الكامل في التاريخ 9 / 19 _ 21 طبع دار صادر .

2 . لاحظ المنتظم: لابن الجوزي 16 / 108 الطبعة الحديثة بيروت .

( 161 )

الافتراض السابع:

الشيعة والمغول

لمّا اُقصي آل بويه عن الحكم في العراق وإيران، لم تقم للشيعة دولة قويّة ذات حول وطول

بعدهم، وعاد الضغط على أتباع أهل البيت إلى أن استولى «هولاكو» على ايران وقضى على الخلافة العباسيّة عام (665) فأعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب أهل البيت وعلى ذلك نهج أولاده، ثمّ أسلم من ملوك المغول أربعة ثالثهم محمّد خدابنده، ورابعهم سعيد بن محمد خدابنده. فأمّا الأوّل منهما فقد كان حنفياً ولمّا وفد عليه نظام الدين عبدالملك الشافعي جعله قاضي القضاة في المملكة وكان يناظر الحنفية في محضر السلطان فيفحمهم، ولمّا ظهرت له الغلبة حسن للسلطان المذهب الشافعي فعدل إليه، ولمّا كثرت المناظرات بين نظام الدين وعلماء الحنفية، وكان ينسب كل منهم إلى مذهب الآخر ما لا تستحسنه العقول، ظهر عليه الملل والضجر، وقد ورد إليه في هذا الآونة السيد تاج الاوي مع جماعة من الشيعة وقعت بينه وبين نظام الدين محاضرات بمحضره، ثم بعد آونة حضر عنده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بمناسبة خاصّة يذكرها التاريخ، فأمر قاضي القضاة بمناظرته، وأعدّ لهم مجلساً حافلا للعلماء وأهل الفضل، فوقعت المناظرة بينهم في المسائل العقائدية والفقهية، فظهرت غلبة العالم الشيعي، فأظهر السلطان

( 162 )

التشيّع من حينه، وصارت تلك المناظرة سبباً لانتشار التشيّع(1) وقد استنشقت الشيعة في عصر المغوليين على وجه الاطلاق عطر الحرية ونسيمها، فازدحمت المراكز العلمية بعلمائهم ومفكّريهم، كنصير الدين الطوسي والمحقّق الحلّي.

وازدهرت بيوتات الشيعة كبيت آل طاووس وآل سعيد وغيرهما. وقد كان للشيعة كيان ونشاط في عصرهم أعادوا مجدهم في عصر البويهيين .

____________________________

1 . لاحظ منتخب التواريخ لمعين الدين النطزي المؤلف عام 816 _ 817 طبع عام 1336 .

( 163 )

الافتراض الثامن:

الشيعة والصفوية

والكلام في هذه الأسرة هو الكلام في البويهيين والمغوليين .

إنّ الصفويين اُسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام

(735) ولمّا انقرضت دولة المغول، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة شيعية وغير شيعية إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين، الشاه إسماعيل عام (905) واستلم مقاليد الحكم وسيطر على بلاد فارس والطرق، واستمرّ في الحكم إلى عام (930)، ثمّ ورثه اولاده إلى أن اُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على ايران عام (1135) فكان الصفويون خير الملوك لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم، ولهم آثار خالدة إلى الآن في ايران والعراق، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لاتكوّنه .

هذه هي الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم، وكلّها كانت اُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطىء وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجتمع الاسلامي بعد عهد النبي، سامحهم اللّه وغفر اللّه لنا ولهم .

( 164 )

زلّة لاتستقال:

إنّ الدكتور عبداللّه فياض زعم أنّ التشيّع بمعنى مولاة علي نضج في مراحل ثلاث:

1- التشيّع الروحي، يقول: إنّ التشيع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي وتمّت قبل تولّيه الخلافة، ثم ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أوبدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.

2- التشيّع السياسي، ويريد من التشيّع السياسي، كون علي أحق بالإمامة لا لأجل النص بل لأجل مناقبه وفضائله، ويقول: إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره _ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية (يريد النص) _ في سقيفة بني ساعدة، حين أسنَدَ حقَ علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير، والعباس، وغيرهما، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان .

3- ظهوره بصورة فرقة، فإنّما كان ذلك

بعد فاجعة كربلاء سنة (61) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقة دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال: إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان، ثمّ تشعّبوا(1) وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق «فلهوزن» قال: تمكّن الشيعة أوّلا في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كلّه، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم(2) .

____________________________

1 . أحسن التقاسيم 38 طبع ليدن 1906 .

2 . تاريخ الإمامية 38 _ 47 .

( 165 )

يلاحظ عليه، أوّلا: انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليتين وانّ الاُولى منهما كانت في عصر النبي وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال: كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسياً(1) .

وثانياً: إنّ ماذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كمايدلّ على أنّ عليّاً القائد الروحي، يدل بوضوح على أنّه القائد السياسي، وقد نقل الكاتب جل النصوص، فمعنى التفكيك بينهما هو أنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها، ولو صحّ اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصحّ اسناده إلى سلمان، وأبي ذر، وعمّار، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ .

وبما أنّ النبي كان هو القائد المحنَّك للمسلمين لم تك هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى علي في القضايا والأحكام الفقهية، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وانّ وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب .

وثالثاً: إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام

السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية، فانّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى علي،ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.

روى الصدوق عن زيد بن وهب انّه قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر في تقدّمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار، فمن المهاجرين خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، واُبىّ بن كعب،

____________________________

1 . تاريخ الإمامية 45 .

( 166 )

وعمّار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبداللّه بن مسعود، وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار زيد بن ثابت، وذو الشهادتين، وابن حنيف وأبو أيّوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان. وبعدما صعد أبو بكر على المنبر قال خالد ابن سعيد: يا أبابكر اتّق اللّه... ثم استدلّ على تقدم علي بما ذكره النبي فقال: معاشر المهاجرين والأنصار، اُوصيكم بوصية فاحفظوها، وانّي مؤدّ إليكم أمراً فاقبلوه على أنّ عليّاً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم _ إلى آخر ما ذكره _ ثمّ قام أبو ذر وقال: يا معاشر المهاجرين والأنصار... طرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما أوعز إليكم، ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في حجاجهم على أبي بكر بالأحاديث الّتي سمعوها من النبي الأكرم(1) وهذا يعرب أنّ التشيّع السياسي _ الّذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال _ بعد الرحلة، كان مستفاداً من نصوص النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

رابعاً: ماذا يريد من الفرقة وانّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الامام الحسين فهل يريد الفرقة الكلامية الّتي تبتنى على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاُخرى، فهذا لم يكن منه أثراً إلى أواسط العقد

الثالث من الهجرة، ولم يكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتّى تأخذ شيعة علي بجانب والآخرون بجانب آخر، بل كان المسلمون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول، ولم يكن يومذاك أىّ اختلاف إلاّ مسألة القيادة، فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين .

وإن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية علي روحيّاً وسياسياً وانّه أحق بالقيادة على جميع الموازين، فكانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها .

____________________________

1 . الخصال 461 طبع مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للامام أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ .

( 167 )

نعم إنّ احتكاك المسلمين مع الأجانب واستيراد آرائهم وعقائدهم في المسائل الكلامية والدينية أوجد فروعاً كلامية، وبما أنّ الشيعة حسب حديث الثقلين رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل .

الآن حصحص الحق وأسفر الصبح لذي عينين فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه. وتبنّاه منذ بعثة النبي الأكرم لفائف من الصحابة والتابعين وامتدّ ذلك حسب الأجيال والقرون وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون، وشعراء مجاهرون، وعباقرة في الحديث، والفقه والتفسير والفلسفة والكلام واللغة والأدب، وشاركوا جميع المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية بجوانبها المختلفة، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في الفصل العاشر باذن اللّه .

وبذلك يظهر وهن ما ذهب إليه الدكتور عبدالعزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل علىّ(1) .

هذه الفروض

الوهمية تبتنى على أساس باطل وهو أنّ التشيّع بجميع أو بعض أبعاده أمر طارىء على الإسلام والاُمّة، فراحوا يتبنّون الفروض الذهنيّة .

____________________________

1 . لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع 18 .

( 168 )

( 169 )

الفصل السابع صيغة الحكومة عند أهل السنّة

الفصل السابع صيغة الحكومة عند أهل السنّة

( 170 )

( 171 )

قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه، في أمرين:

الأوّل: فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها، سوى تلقّي الوحي الإلهي، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبىّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول... فلا نبيّ ولا رسول بعده، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته، وقد عرفت قسماً منها، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلاّ لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبىّ، من غير فرق بين الاجتماعية منها والعلمية، وسد الفراغات الهائلة.

ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وقسمة الفيء بين

( 172 )

المسلمين، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم(1) .

ولأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور، وقطع كيد الاُعداء، وتسهيل الحياة للاُمّة

فعلى ذلك، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه(2) .

وهذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الّذي نذكره في الأمر التالي .

الثاني: انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول، وأمّا الامام عند أهل السنّة، فقد فوّض أمر انتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل، والّذي يظهر من مجموع كلامهم، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى، واختيار أهل الحل والعقد أوّلا، وبتعيين الامام السابق ثانياً، وبالغلبة ثالثاً(3) .

قال الماوردي: الامامة تنعقد بوجهين:

أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد .

والثاني: بعهد الامام من قبل(4) .

____________________________

1 . قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانية 15 _ 16 .

2 . التمهيد للباقلاني (ت 403 ه_) 181 .

3 . الماوردي: الأحكام السلطانية 6 والتفتازاني: شرح مقاصد الطالبين في علم اُصول عقائد الدين 272 طبع مصر .

4 . الأحكام السلطانية 4 .

( 173 )

وقال العضدي: إنّها تثبت بالنص من الرسول، وفي الامام السابق بالاجماع، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل(1) .

ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى، فقالت طائفة: لا تنعقد الامامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّاً.

وقالت طائفة: اقل ما تنعقد به منهم خمسة، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة الجرّاح، واسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة .

وقال آخرون: تنعقد بثلاثة، يتولاّها

أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين .

وقالت طائفة اُخرى: تنعقد بواحد، لأنّ العباس قال لعلي: امدد يدك اُبايعك، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ(2) .

إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر، حيث إنّ النبىّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته، فيترك الاُمّة في حيرة.

وقد وقف على ذلك، الكاتب المصري الخضري، قال: لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه، اللّهمّ تلك الأوامر العامة الّتي تتناول

____________________________

1 . شرح المواقف 3 / 265 .

2 . الأحكام السلطانية 4 .

( 174 )

الخلافة وغيرها، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى: (وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ)(1) .

وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة، إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام(2) .

إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها الّتي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجملات الواردة في نص الكتاب.

«كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ القيادة السياسية للدولة الإسلامية الّتي أسّسها، وثبّت عناصرها، ومرتكزاتها، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة

كما زعموا، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارح. أيهمل القيادة والرئاسة للدولة، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع، والمطامح، والأهواء، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض؟ فتعود بذلك بعد موته، الجاهلية، وعبادة الطواغيت، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب، ومشقّات، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين .

____________________________

1 . الشورى / 38 .

2 . محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية 2 / 161 .

( 175 )

حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحي من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الإنسانية بمجالاتها الواسعة، ولم يهمل حتّى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتّى آداب التبوّل والتبرّز، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية، ورأسها المفكر وقلبها النابض، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم _ الامامة و الخلافة - والملك والسلطان - وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين، واتمام النعمة، والرضى بالاسلام قال تعالى: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ و أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) _ المائدة / 3 _ (1) .

لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة، حتّى لاتتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي اثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين

الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلا شكله إلى نظر الاُمّة، حتّى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل والخصوصيات الراجعة إلى الشورى، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها، فلا يصحّ للشارع أن يترك بيانها، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها، إلاّ عن طريق الشرع، وهي:

1- من هم المشاركون في الشورى، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم، أو المختلط منهم؟

____________________________

1 . الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم 102 _ 103 طبع عمان 1405 .

( 176 )

2- من هم الذين يختارون أهل الشورى؟

3- لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة الّتي ترتبط بنظام الشورى المجمل، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلاّ رجماً بالغيب .

ثم إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذ لا يعرف الإنسان من هم أهل الحل والعقد، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحل والعقد؟ ما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلا، وأهل الحل والعقد ثانياً، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية .

قال الدكتور طه حسين: لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك، وما يدعون، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف

.

وقال الخطيب: إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين(1) .

كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين .

____________________________

1 . الخلافة والامامة للخطيب عبدالكريم 271 .

( 177 )

آيتان حول الشورى:

إنّ القائلين بكون صيغة الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هو الشورى، استدلّوا بأمرين:

1- الآيتان الواردتان حول الشورى .

2- انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى .

ونحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية، وإليك الآية الاُولى وتحليلها:

1- (فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واستَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1) .

إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الّذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمة، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحاكم الاسلامي الّذي تمّت سلطته، مستبدّاً في أعماله، وأمّا أنّ الامام، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه، والّذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبىّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير .

والحاصل: انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلا وأخذ التصميم النهائي ثانياً، وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره .

وأمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين: (وأمْرُهُمْ

____________________________

1 . آل عمران / 159 .

( 178 )

شُورى بَيْنَهُمْ)(1) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية،

من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذا المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.

وبعبارة اُخرى: انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه إلى الولي يكون من الأمور المربوطة باللّه ورسوله، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين .

أضف إلى ذلك أنّه لو كان أساس الحكم في الإسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا .

ولأجل عدم وجود أىّ ايضاح من قبل النبىّ حول النظام المذكور، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

يقول: «ينظر بعضهم إليه على انّه (أي تعيين الامام بالشورى) نواة صالحة لأوّل تجربة، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال الّتي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث، إذ لم يكن من المستطاع _ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها، فرداً فرداً _ فيمن يخلف النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة

____________________________

1 . الشورى / 38 .

( 179 )

للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم الّتي جربتها الاُمم»(1) .

ومعنى ذلك أنّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري

في حياة الاُمّة، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الّذي به يناط بقاء الإسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق .

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى:

هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك اي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة الّتي لا تليق بمجلس كهذا .

كما أنّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالا للاُمّة .

وأمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الّذي عيّن اعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطبق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية .

وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.

____________________________

1 . الخلافة والامامة: عبدالكريم الخطيب 272 .

( 180 )

1- السقيفة وخلافة أبي بكر:

توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي، وانّ رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه _ صلى الله

عليه وآله وسلم _ مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس: إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه .

وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقبّله وقال: بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والّذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً(1). ثم خرج فقال: على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال: (إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ)وقال: (وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً و سَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ) فتشنّج الناس. فقال عمر: واللّه ما هو إلاّ أن

____________________________

1 . أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت، ويقبّله ويتبرّك به، ويقول بأبيه واُمّه له .

( 181 )

سمعت أبابكر تلاها فدهشت حتّى وقعت إلى الأرض، وعرفت أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قد مات(1) .

نقاش مع الخليفة:

هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ، يتفطّن للاجابة عنها وهي:

1- انّ موت النبي الأكرم _ صلى الله

عليه وآله وسلم _ لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة والوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال(2) .

وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه .

فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة (لساناً لا قلباً) هدفاً سياسيّاً يخبّىء فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة؟

2- هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر؟

____________________________

1 . السيرة النبوية: ابن هشام 655، الطبقات الكبرى 2 / 268 _ 269 .

2 . البخاري: الصحيح، كتاب العلم 1 / 22 و ح 2 / 14 .

( 182 )

3- نرى أنّ عم النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ العباس، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر .

4- انّه مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟

5-

كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه (إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون) وقوله سبحانه: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل)وغيرهما؟

هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً، تجاه المسائل المصيرية .

مأساة السقيفة:

كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص .

( 183 )

فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة .

ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصارترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا بمثل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً .

ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب

من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية(1)

فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات الله وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ)(2).

وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث:

1- ورع يحجزه عن معاصي اللّه .

2- وحلم يملك به غضبه .

3- وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم(3) .

____________________________

1 . لاحظ: في الوقوف على احتجاج الطائفتين، السيرة النبوية لابن هشام 2 / 659، والطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 269 وتاريخ الطبري 2 / 442 _ 446 .

2 . الحج / 41 .

3 . الكافي للكليني 1 / 407 .

( 184 )

وقال الامام علي: «أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل»(1) .

وقال _ صلوات اللّه عليه _ أيضاً عندما قال قائل كلام «إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي(2) .

وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي _ عليهما السلام _ فما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب، الدائن بدين الحق، القائم بالقسط، الحابس نفسه على ذات اللّه(3) .

وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُون)(4) .

ما سمعت من الكلمات، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر

منهم من الضرب والسباب، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه الجميع لأخذ كرة الخلافة بأىّ طريق حص وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة .

هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال: «واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلاّ

____________________________

1 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 173 .

2 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 172 .

3 . روضة الواعظين 206 .

4 . الأنبياء / 105 .

( 185 )

حطّمت أنفه بالسف، أنا جُذيلها المحكّك (أصل الشجرة) وعُذيقها المرجَّب (النخلة المشتملة بالتمر) أنا أبو شبل في عرينة الأسد، يعزى إلىّ الأسد»(1) .

وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار واقرارها لغيرهم .

وها هو آخر (وهو سعد بن عبادة) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: «أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي»(2) .

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله: «إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم»(3) .

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الّذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: «اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة» وقد قام عمر على رأسه ويقول: «لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك»(4) .

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: «واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو لخفضت منه

شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة»(5) .

وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تلك المشاجرة بقوله: «كثر اللغط

____________________________

1 . شرح ابن أبي الحديد 2 / 16 .

2 . الغدير 7 / 76 .

3 . الامامة والسياسة 1 / 11، تاريخ الطبري 3 / 210 .

4 . مسند أحمد 1 / 56، تاريخ الطبري 3 / 210، وغيرهما .

5 . تاريخ الطبري 3 / 210، السيرة الحلبية 3 / 387 .

( 186 )

وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف، فقلت: ابسط يديك يا أبابكر، فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة»(1) .

إنّ الشورى الإسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية، لا تنعقد إلاّ بدارسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر، ونزاهة في الكلام، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأيه بدليل وبرهان، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتّى يصل من خلالها المسلمون إلى الأمثل فالأمثل في موضوع القيادة، وأمّا المجلس الّذي تسل فيه السيوف على المخالف، ويداس المقابل بالأقدام، فهذا أشبه بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة، بل أشبه...

هذا حال السقيفة وأمّا ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلاّ وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له .

ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالا بالبيعة، بعث أبوبكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة، ليتهدّدوا اللائذين به، الممتنعين عن مبايعته، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، وأتى عمر إلى بيت فاطمة

وهو يقول: واللّه لنحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية: «يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»(2) .

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام 2 / 660 .

2 . تاريخ الطبري 3 / 210، الامامة و السياسة لابن قتيبة 1 / 13 .

( 187 )

ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الامام من بيته، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش، وسيق سوقاً عنيفاً، وقالوا له: بايع، فيقول: «إن أنا لم أفعل فمه؟»

فيقال: واللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، فقال علي: «إذن تقتلون عبداللّه وأخا رسول اللّه»(1).

ولم يكن الضغط منحصراً في علي، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايع علي، فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر فيكسر(2) .

هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى الّتي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين(3) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه(4) .

وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت، وأنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ اللّه قد وقى شرّها، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فانّه لا بيعة له(5) .

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 13 .

2 . تاريخ الطبري 3 / 199، الامامة والسياسة 1 / 11 .

3 . سيأتي

مصدره .

4 . سيأتي مصدره .

5 . السيرة النبوية 2 / 658، تاريخ الطبري 2 / 446 .

( 188 )

الخلفاء وتناسي الشورى:

قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء هلمّ معي ندرس خلافة غيره، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أىّ مشورة ولا أىّ استفتاء شعبي، ولا أىّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرين .

روى المؤرّخون: انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان، فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا، نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب...(1) .

والإنسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ، يقف على قيمة ما ذكره الامام، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر، فقال: «احلب يا عمر حلباً لك شطره، اُشدد له اليوم أمره، ليردّه عليك غداً، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع»(2) فواللّه، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد، كما عرفت .

وهذا عمر بن الخطّاب، فبعدما جرح ودنا أجله قال: سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمان ابن عوف، وكان طلحة غائباً .

فقال: يا معشر المهاجرين الأوّلين، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلاّ فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى

____________________________

1 . الامامة والسياسية لابن قتيبة 18، الكامل في التاريخ 2 / 425 .

2 . الامامة والسياسة 23، الكامل 3 / 35

.

( 189 )

تستخلفوا أحدكم.

ثم قال لصهيب: «صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسف...وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس»(1) .

«فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي _ عليه السلام _ بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.

ولمّا رأى الزبير أنّ علياً قد ضعف، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته، وهي صفية بنت عبدالمطلب وأبو طالب خاله .

وقال سعد بن أبي وقاص: أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبدالرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له .

فلما لم يبق إلاّ الثلاثة: علي وعثمان وعبدالرحمان ولكل واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري: بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبدالرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها

____________________________

1 . تاريخ الطبري 3 / 294 .

( 190 )

حرمان علي.

فقال عبدالرحمان

لعلي وعثمان: أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد، فقال عبدالرحمان: اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما، فامسكا فبدأ بعلي _ عليه السلام _ وقال له: اُبايُعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان فعرض عليه ذلك، فقال: نعم فعاد إلى علي _ عليه السلام _ فأعاد قوله، وفعل ذلك عبدالرحمان ثلاثاً، فلمّا راى أنّ علياً غير راجع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فيقال: إنّ عليّاً _ عليه السلام _ قال له: واللّه ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر «منشم» .

قيل: ففسد ذلك بين عثمان وعبدالرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتّى مات عبدالرحمان(1) .

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟:

إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقَّ الخليفة باب الشورى

____________________________

1 . الطبري: التاريخ 3، الجزري: الكامل 3 وشرح ابن أبي الحديد 1 / 188، و«منشم» اسم امرأة عطّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم، لاحظ الصحاح للجوهري .

( 191 )

حتّى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أميرالمؤمنين علي بن أبي

طالب _ عليه السلام _ حيث قال لعمّه العباس: عُدل بالأمر عنّي يا عم قال: وما عيبك، قال: قرن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا، فكونوا مع عبدالرحمان بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه (عبدالرحمان بن عوف) وعبدالرحمان صهر عثمان لا يختلفان (1) .

وقال ابن عباس: الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان(2) .

وقد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية:

1- إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة، ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده .فأدخل في الشورى رجالا يسيرون على الخط الّذي رسمه الخليفة في نفسه .

وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبداللّه الأنصاري، وأبي أيوب مضيّفه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد .

2- انتخب رجالا لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن

____________________________

1 . شرح النهج 1 / 191 .

2 . شرح النهج 1 / 189 .

( 192 )

الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي _ عليه السلام _ واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء علىّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيداللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحرافه عنه. فلأجل ذلك

وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي .

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبدالرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته .

وعبدالرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه .

على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الّذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه .

3- انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبدالرحمان بن عوف (وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع .

وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل أفسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهلّين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان .

( 193 )

إنّ الامام أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى، فقال في بعض خطبه:

«فياللّه والشورى، متى اعتراض الريب فيّ مع الأوّل حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا.

وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن»(1) .

هذا كلام علي في أواخر أيامه .فقد اعترض هو ايضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبدالرحمان قال: أيّها الناس أشيروا علىّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر: إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد: صدق عمّار، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا، فقال عبداللّه بن أبي سرح: إن اردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، وقال عبداللّه بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له: متى كنت تنصح الإسلام؟!

فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال: أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد: يا عبدالرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبدالرحمان على علي _ عليه السلام _ العمل بسيرة الشيخين .

فقال: بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال: نعم، فقال علي _ عليه السلام _ ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما

____________________________

1 . نهج البلاغة، قسم الخطب / الخطبة 3 .

( 194 )

تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلاّ ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن(1) .

وبهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.

إجابة عن سؤال:

إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الإسلام فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان

على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك للّه رضاً(2) .

نقول: إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبىّ هو نظام الشورى، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام، وما صدَّر به الامام رسالته، أعني قوله: «انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان» تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم _ أعني معاوية _، على قاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي علىّ والطاعة لهم، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى الّتي تمّت بها، أو بادّعائها خلافة الخلفاء، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها .

____________________________

1 . شرح النهج: لابن أبي الحديد 1 / 193 _ 194 .

2 . الامامة والسياسة 23، ونهج البلاغة قسم الرسائل، برقم 45 .

( 195 )

والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبىّ وعشيرته، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول، وضحّوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه، فانظر ماذاترى قاتل اللّه الأنانية، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.

( 196 )

( 197 )

الفصل الثامن نصوص الخلافة والركون إلى الأمر

الفصل الثامن نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع

( 198 )

( 199 )

دلّت نصوص الخلافة الماضية، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب للمسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية، غير أنّ رجالا بعد النبىّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبىّ نداء ربّه، وانثالوا على أبي بكر، وبعده على عمر وعثمان، إلى أن عاد الحق إلى نصابه، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي، فيقع في الحيرة والتعجّب، فيقول: لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى، فلماذا أعرض عنها المسلمون؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع، ولم ينبس فيه ببنت شفة؟ وهذا هو الّذي نجيب عنه في المقام، فنقول:

إنّ المهم هو بيان السرّ الّذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار، أو في الحقيقة _ إعراض الرؤوس منهم عن النص، وانثيال غيرهم إليهم، فليس هذا أمراً عجبا، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص، واجتهدوا تجهاها كما تقدّم البحث عن موارده _ . وإليك تشريح ما هو المهم:

( 200 )

إنّ الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وأنّه تعبير آخر عن غصب حقّه، يقف عليه كل من قرأ مأساة السقيفة في كتب التاريخ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، والسيرة النبوّية لابن هشام، ولا العقد الفريد، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع، غير انّ التكليف حسب القدرة، _ وبعدها _ في

ظلّ المصالح العامّة، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ .

1- هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة، وما فيه من مآسي، يقول: إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول: «أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه» فقيل له: بايع، فقال: «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبىّ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له علي: «احلب حلباً لك شطره، وشُدَّ له اليوم، يردده عليك غداً _ ثمّ قال: _ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه» فقال أبوبكر: فإن لم تبايع فلا اُكرهك، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه: ياابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلاعا، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء،

( 201 )

فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه: «اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون

أهله عن مقامه في الناس، وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارىء لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المتطّلع لأمر الرعيّة، الدافع عنهم الاُمور السيّئة، القاسم بينهم بالسويّة، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا»(1) .

فأىّ بيان أروع من هذا البيان، وأىّ بلاغ أصرح منه، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية: «1- ما كان فينا القارىء لكتاب اللّه، 2- الفقيه في دين اللّه، 3- العالم بسنن رسول اللّه، 4- المتطلّع لأمر الرعيّة، 5- الدافع عنهم الاُمور السيّئة، 6- القاسم بينهم بالسويّة» ومعنى ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات .

2- لمّا انتهت إلى أميرالمؤمنين انباء السقيفة قال _ عليه السلام _ : «ما قالت الأنصار؟» قالوا: قالت منّا أمير ومنكم أمير، فقال: «فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟» قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟! فقال _ عليه السلام _ : «لو كانت الامامة فيهم، لم تكن الوصيّة بهم _ ثم قال: _ فماذا قالت قريش؟» قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، فقال _ عليه السلام _ : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة»(2).

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 11 _ 12 .

2 . نهج البلاغة، الخطبة 67 .

( 202 )

وروى الرضي في المقام شعراً للإمام:

فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب(1)

3- الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر، بل

استمرّ على بيان الحق باساليب مختلفة منها إحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة 23، قال عمر بن واثلة: كنت على الباب يوم الشورى مع علي _ عليه السلام _ في البيت، فسمعته يقول: «لأحتنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك - ثمّ قال: _ أنشدكم اللّه، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا... _ إلى أن قال: _ «فأنشدكم باللّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟» قالوا: اللّهمّ لا(2) .

4- كما ناشد يوم الرحبة سنة 35، روى الأصبغ قال: نشد علي الناس في الرحبة: «من سمع النبي يوم غدير خم ما قال، إلاّ قام ولا يقوم إلاّ من سمع رسول اللّه» يقول: فقام بضعة عشر رجلا، فيهم أبو أيّوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبداللّه بن ثابت الأنصاري... فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول: «ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأعن من أعانه»(3) .

ولم تكن المناشدة، منحصرة بهذين الموردين، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجته الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير، وبعده

____________________________

1 . نهج البلاغة (قسم الحكم) برقم 190 .

2 . الصواعق لابن حجر 75، المناقب للخوارزمي 135 برقم 152 طبع النشر الاسلامي .

3 . اُسد الغابة 3 / 307 و 5 / 205.

( 203 )

الحسنان السبطان، وعبداللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر، حتّى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية(1) .

وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا

رضاه، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته، ويتّح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية الّتي ألقاها في آخر خلافته .

وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة، ولم يكن يومذاك أىّ منعة وقدرة للإمام، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة: «فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه»(2) .

ولو افترضنا وجود القدرة، لكن مصالح الإسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح، أمّا الأوّل فيقول: «أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزراع بغير أرضه .

فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت، يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيَّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىِّ

____________________________

1 . راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير 1 / 159 _ 213 .

2 . نهج البلاغة، الخطبة 3 .

( 204 )

البعيدة»(1) .

وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون، وهو إشارة إلى الوصيّة الّتي خصّ بها _ عليه السلام _ وأنّه كان من

جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (2) .

وقد أوضح ما ذكره مجملا في هذه الخطبة الّتي ألقاها بعد وفاة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بخطبته الّتي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبىّ، فقال _ عليه السلام _ : «إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلمّا مضى _ عليه السلام _ ، تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللّه ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن أهل بيته، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل

____________________________

1 . نهج البلاغة، الخطبة 5 .

2 . شرح نهج البلاغة 1 / 215 .

( 205 )

وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»(1) .

ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبداللّه بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز اُريد الطرق في أوّل إمارة علي _ عليه السلام _ فمررت بمكّة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه، إذ نودي: الصلاة جامعة; فاجتمع الناس وخرج علي _ عليه السلام _

متقلّداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمداللّه وصلّى على رسوله، ثم قال: أمّا بعد، فلمّا قبض اللّه نبيّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قلنا: نحن أهله وورثته، وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقّنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا _ إلى أن قال: _ وأيم اللّه، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً»(2) .

كان الامام _ عليه السلام _ يرى أنّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الإسلام إلى الأخطار المهلكة .

روى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال:

ما كنت أحِسب أنّ الأمر منصرف * عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟

وأقرب الناس عهداً بالنبىّ وَ من * جبريل عون له في الغسل والكفن

____________________________

1 . نهج البلاغة، قسم الكتب 62 .

2 . شرح نهج البلاغة 1 / 307، والكلمتان متقاربتان .

( 206 )

ما فيه ما فيهم لا يمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الّذي ردّهم عنه فنعلمه؟ * ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن!

قال الزبير: فبعث إليه علي فنهاه، أمراً لا يعود وقال: لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره .

فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه

لحفظ الوئام والسلام بين المسلمين وانّه لولا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه .

«ولو لا مراعاة علىّ للأوضاع والظروف الّتي احاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه، لحدثت تطوّرات في تاريخ الإسلام لانستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة، ولكنّه أدرك ذلك، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام»(1) .

كان الامام ينظر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الإسلام، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الإسلام وإحياء الجاهلية، فلم ير بدّأ من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى المدينة، وتعليم القرآن للفيف من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، والادلاء بالرأي الحق عند المشاورة، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته، إلى عام 35 الّذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الإسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به، وكان

____________________________

1 . الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28 .

( 207 )

الخليفة الثاني متنبّئاً به، فقال له: لئن وليتها (الخلافة) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره .

تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن:

كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، إلى أن قُتِل عثمان و انثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين: لا يصلح للخلافة إلاّ علي. فقال لهم: «دعوني والتمسوا غيري»

.

روى الطبري نقلا عن محمّد بن الحنفية: كنت مع أبي، حين قتل عثمان فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللّه، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال: «لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا» فقالوا: «واللّه ما نحن فاعلين حتّى نبايعك» فقال: «ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين»، قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبداللّه بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلاّ المسجد. فلمّا دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس(1) .

وفي رواية اُخرى: غشى الناس عليّاً، فقالوا: نبايعك، فقدترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: ننشدك اللّه، ألا ترى ما نرى، ألا ترى الإسلام ، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف اللّه،

____________________________

1 . تاريخ الطبري 3 / 450 .

( 208 )

فقال: «قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فانّما أنا كأحدكم، إلاّ أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم»(1) .

هذا ما يذكره الطبري، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول: «فتداكّوا علىَّ، تداكّ الإبل الهيم يوم وِرْدِها، وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتّى ظننت أنّهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض ولديَّ»(2) .

وفي خطبة اُخرى: «فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إِلىَّ، ينثالون علىّ من كل جانب حتّى لقد

وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(3) .

ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا، مثلما شهدته في ذلك الزمان، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار، والتابعون لهم بإحسان على المبايعة، ولم يتخلّف إلاّ قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول: بايعت الأنصار علياً إلاّ نفراً يسيراً، منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمّد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبداللّه بن حسن: كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية، فقال: أمّا حسّان، فكان شاعراً لايبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن

____________________________

1 . تاريخ الطبري 3 / 456 .

2 . نهج البلاغة، الخطبة 53، تداكوا: ازدحموا، والهيم: العطاش، يوم وردها: يوم شربها، والمثاني: الحبال.

3 . نهج البلاغة، الخطبة 3، عُرْف الضبع: ما كثر على عنقها من الشعر، يضرب به المثل الكثرة، ينثالون: يتتابعون، شقّ عطفاي: خدش جانباه من الاصطكاك .

( 209 )

ثابت فولاّه عثمان الديوان وبيت المال، فلمّا حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار اللّه - مرتين _ فقال أبو أيوب: ما تنصره إلاّ إنّه كثر لك من العضدان(1) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة «مُزِينة» وترك ما أخذ منهم له (2) .

قام الامام بواجبه، وهمَّ بالاصلاح، وحوله حُسّاد حاقدون، وأعداء يترقّبون الفرص، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد، وهو يصف ذلك بقوله: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت اُخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَ

لا فَسَاداً وَ العَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ)(3)بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حَلِيَتْ الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبْرجها. أما و الّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة(4) ظالم، ولا سغب(5) مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنيا كم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز»(6) .

فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث، فالناكثون هم أصحاب الجمل، الذين لم يجدوا عند الامام إلاّ الحقّ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع

____________________________

1 . العضاد: كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها .

2 . تاريخ الطبري 3 / 452 .

3 . القصص / 83 .

4 . الكظّة: البِطْنَة (ما يعتري الآكل عند امتلائه بالطعام) والمراد: استئثار الظالم بالحقوق .

5 . السغب: شدة الجوع .

6 . نهج البلاغة، الخطبة 3 .

( 210 )

أنّهم هم المحرّضون على قتله، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار، حتّى نزلوا البصرة، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلاّ الحرب فدارت الدوائر على الناكثين، فقتل رؤوس الفتنة، واُرسلت اُمّ المومنين إلى المدينة بتكريم واحترام.

ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد، فقام ابن آكلة الأكباد، الطليق ابن الطليق الّذي خَذَلَ عثمان، ولم ينصره، ثم انتحل دمه وطلب ثأره، فجمع حوله الهمج والرعاع، وتحالف مع عمرو بن العاص الّذي عزله عثمان عن ولاية مصر، فألّب عليه كل راع رآه في البادية، وساومه معاوية على ولاية مصر،

فقابلهم الامام في أرض صفين، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لولا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح، وانطلت الحيلة على عسكر الامام، وقالوا له: أجب القوم، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة، فطلب منهم المهلة فما أجابوه، قل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال حتّى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس، فما وافقوه، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة، وكانت نهاية الأمر، عزل مندوب الامام (أبو موسى الأشعري) خليفة المسلمين، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان .

ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي، ندموا على ذلك، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين، فخرجوا عن طاعة علي، وعن جيشه، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتّى بعد ما دعاهم الامام لا عادة الحرب على

( 211 )

معاوية، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره، كما هم تابوا من كفرهم، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين، ولم يكتفوا بذلك، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء، ويسفكون الدماء فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين، فلم يجد الامام بدّا من قتالهم، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً، لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود، يصومون النهار ويقومون الليل، وفي الوقت نفسه هم المارقون، المعاندون للّه ورسوله، وفي حقّهم يقول الامام:

«إنّي فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها(1)، واشتدّ

كلبها(2)»(3) .

هذه حياة الامام على وجه الاجمال، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبىّ منذ صباه في موطنه ومهجره، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلاّ غزوة تبوك، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه .

ومع الأزمات الّتي خلفت عثمان وعمّاله، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس «استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة الّتي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب، التجسيد الكامل للشريعة الإسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف، وثبّت للاسلام دعائمه، وأعاد إلى النفوس

____________________________

1 . الغيهب: الظلمة، وموجها: شمولها وامتدادها .

2 . الكلب _ محركة _ داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء .

3 . نهج البلاغة، الخطبة 93 .

( 212 )

المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الإسلامية الخالدة»(1) .

قام الامام بالخلافة، وتقلّدها بعد مقتل عثمان، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً، وأوّل ما قام به، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة، وملكوا العقارات والمواشي، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث، وقاسط، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب، والانتقام، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شأفتهم في الحروب والغزوات، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول، بل حتّى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالا ولكنّه _ ياللأسف _ أخذ بها والمجتمع مثقّل

بالأزمات والانحرافات .

إغارة معاوية على البلاد الآمنة:

هذا ابن أبي سفيان، لمّا رأى انّ الأمصار الإسلامية ما عدا الشام في طاعة الامام، جمع حوله الأشقياء والبغاة، يغيرون على البلاد الآمنة، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد .

1- فأرسل سفيان بن عوف الغامدي، وقال: إنّي موجّهك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات، حتّى تمر بهيت(2) فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها، وامض، حتّى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتّى توغل المدائن، فكأنّك غرت على الكوفة، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق

____________________________

1 . الزيدية نظرية وتطبيق 19 .

2 . هيت: بلد على الفرات فوق الأنبار .

( 213 )

ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك، وأخرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال _ أي سلبها _ شبيهة بالقتل، وهو أوجع للقلب»(1) .

ولمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل، خطب خطبته المعروفة وقال:

«فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع اللّه الحصينة، وجنّته الوثيقة _ إلى أن قال: _ وهذا أخو غامد، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا اُريق لهم دم، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا»(2) .

2- هذا بسر بن أرطاة،

بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي _ عليه السلام _ ، فقتل خلقاً كثيراً، وقتل فيمن قتل ابني عبيداللّه بن العباس بن عبدالمطلب، وكانا غلامين صغيرين، فقالت اُمّهما ترثيهما:

يا من أحسّ بابنىّ اللذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف(3)

وقد خطب الامام بعد ما بلغه النبأ بقوله: «اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرّقكم

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 2 / 85 .

2 . نهج البلاغة، الخطبة 27 .

3 . شرح نهج البلاغة 1 / 340، تشظّا: تفرّق شظايا، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 2 / 13 .

( 214 )

عن حقّكم، وبمعصيتكم إمامكم بالحق، وطاعتهم إمامهم بالباطل، وبأَدائهم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم، وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب، لخشيت أن يذهب بعلاقته»(1).

3- دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وقال له: سر حتّى تمر بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي، فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا، فأغر عليها، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها، ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف .

فاقبل الضحاك، فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب، حتّى مرّ بالثعلبية(2)، فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي، وهو ابن أخي عبداللّه بن مسعود، صاحب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة(3) .وقتل معه ناساً من أصحابه(4) .

4- ولم يكتف معاوية بهذه

الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد: كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّا كاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف، وقال له: سر حتّى تمرّ بالمدينة، فاطرد الناس، وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا، فمن لم يكن دخل في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم، واخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك

____________________________

1 . نهج البلاغة، الخطبة 25 .

2 . الثعلبية: من منازل طريق مكّة إلى الكوفة .

3 . بالضم ثم السكون: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف .

4 . شرح نهج البلاغة 2 / 116 _ 117 .

( 215 )

ولا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة، فشتم أهلها وتهدّهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيرة، منها دار زرارة بن حرون، ودار عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (1) .

وقال المسعودي: قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا(2) .

وكانت هذه العصابات الاجرامية، تأتي إلى العراق فقتل وتحرق وتدمّر، إلى آخر حياة الامام، الّذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها، يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الّذي نطرحه في الفصل

التالي:

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 2 / 10، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.

2 . مروج الذهب 3 / 31 طبعة 1948 .

الفصل التاسع الشيعة في العصرين الأموي

الفصل التاسع الشيعة في العصرين الأموي والعباسي

( 218 )

( 219 )

لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، وهو يصلّي في محراب عبادته، فلمّا بلغ عائشة قتل علي، فرحت وقالت:

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالاباب المسافر

ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجلٌ من مراد، فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه نعي ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت أبي سلمة: أتقولين هذا لعلي؟ فقالت: إنّي أنسى، فإذا نسيت فذكّروني...!!(1) .

ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال: إنّ الأسد الّذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد:

قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل(2)

فلمّا مات الامام، خطب الحسن في مسجد الكوفة، وقال: «ألا انّه قد مضى، في هذه الليلة، رجل لم يدركه الأوّلون، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل

____________________________

1 . الكامل لابن الاثير 3 / 394 طبع دار صادر .

2 . ناسخ التواريخ، القسم المختص بحياة الامام 692 .

( 220 )

وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة الّتي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله»(1) .

ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو

يتجهّز للمسير قُتل _ عليه السلام _ . وبايع هؤلاء ولده الحسن، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية(2) .

وهل وفى هؤلاء للحسن _ عليه السلام _ وكانوا صادقين في بيعتهم؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً، إلى غير ذلك من الأسباب الّتي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه، قام وخطب: إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء

____________________________

1 . تاريخ اليعقوبي 2 / 213 .

2 . الكامل 3 / 404 طبع دار صادر .

( 221 )

منها له(1) .

فعند ذلك فسح المجال لمعاوية في قتل الشيعة واستئصالهم، تحت كل حجر ومدر. وجاءت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الّذي نستعرضه في هذا الفصل على وجه الاجمال، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء

التشيّع في هذه العصور المظلمة، كان معجزة من معاجز اللّه سبحانه كما يقف على أنّ الصمود والكفاح والرد على الظلمة وأعوانهم، كان شعار الشيعة منذ عصر الامام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية :

1- رسالة الامام الحسين إلى معاوية:

«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ اللّه تعالى، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردن حرباً ولا خلافاً وانّي لأخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة جرأة على اللّه واستخفافاً بعهده. أولست بقاتل عمرو بن الحمق الّذي اخلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل .

____________________________

1 . الارشاد للشيخ المفيد 191 .

( 222 )

أو لست المدعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ انّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل؟

سبحان اللّه يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الاُمّة، وليسوا منك، أو لست قاتل الحضرمي الّذي كتب إليك في حقه زياد أنّه على دين علي كرم اللّه وجهه، ودين علي هو دين ابن عمّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _

الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا منَّةً عليكم، وقلت فيما قلت: لا تردن هذه الاُمّة في فتنة وانّي لا أعلم لها فتنة أعظم من امارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد. وانّي واللّه ما أعرف فضلا من جهادك، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى فكدني أكدك، تكدني يا معاوية ما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وانّي لأرجو أنّ لا تضر إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك فكدني ما بدالك، واتّق اللّه يا معاوية! واعلم انّ للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، واعلم أنّ اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشرب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام»(1) .

هذه رسالة أبي الشهداء، الحسين بن علي _ عليهما السلام _ ، وتكفيك بياناً

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 164، جمهرة الرسائل 2 / 67 ورواه الكشي في رجاله 48 _ 51، والمجلسي في البحار 44 / 212 _ 214 .

( 223 )

وبلاغاً لما جنت به يدا معاوية وعماله على شيعة أبيه، من فتك وقتل ذريع، للأبرياء وصحابة النبي الأكرم ونردفها بكلام حفيده الامام محمّد الباقر _ عليه السلام _ ، قال لبعض أصحابه:

إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش، واحد بعد

واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود، حتّى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه، ونهب عسكره، وعولجت خلاخيل اُمّهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل. ثمّ بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه .

ثمّ لم نزل _ أهل البيت _ نُستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن _ عليه السلام _ ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيداللّه بن زياد قاتل الحسين _ عليه السلام _ ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة علي، وحتّى صار الرجل الّذي يذكر بالخير _ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً _ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل

( 224 )

بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع(1) .

ولعلّ في رسالة الامام أبي الشهداء،

وما قاله حفيده الامام الباقر _ عليه السلام _ غنى وكفاية لمن اراد أن يعرف الأمر عن كثب ويقف على مظالم الامويين في حق شيعة الامام، غير أنّه ايضاحاً لحقيقة نؤكّد ذلك بكلام غيرهما لتتم الحجّة على الجميع .

كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها، طلبه وأخافه، فأتى الحسن بن علي مستجيراً به، فوثب زياد عى أخيه وولده وامرأته، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: «من الحسن بن علي إلى زياد، أمّا بعد: فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله، وحبست أهله وعياله، فإذا أتاك كتابي هذا، فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، وشفّعني فيه فقد أجرته» فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلىّ في فاسق آويتَه إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك، وأيم اللّه لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنّ أحبَّ لحم إلىَّ أن آكل منه، اللحم الّذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه، وإن قتلته لم

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 11 / 43 _ 44 .

( 225 )

أقتله إلاّ لحبّه أباك الفاسق، والسلام(1) .

«كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصر يحرّضهم على لعن علىّ أو البراءة منه، فملأ منهم المسجد والرحبة، فمن أبي ذلك عرضه على السيف»(2)، وفي

المنتظم لابن الجوزي: إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم، فجمعهم حتّى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي، وعلم أنّهم سيمتنعون، فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم(3) .

بيان معاوية إلى عماله:

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل ابي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء، في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي _ عليه السلام _ فاستعمل عليها زياد بن سميّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام علي _ عليه السلام _ ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق:

____________________________

1 . شرح ابن أبي الحديد 16 / 194 .

2 . مروج الذهب 3 / 26 .

3 . المنتظم 5 / 263 طبع بيروت .

( 226 )

ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته .

ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء القطائع،

ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيىء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفعه. فلبثوا بذلك حينا .

ثمّ كتب إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه .

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره .

( 227 )

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتّى انّ الرجل من شيعة علي _ عليه السلام _ ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم

الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون، والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الاخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها .

وذكر ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي _ عليه السلام _ فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض .

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين _ عليه السلام _ ، وولّي عبدالملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي _ عليه السلام _ وعيبه، والطعن فيه، والشنان له حتّى أنّ انساناً وقف للحجّاج _ ويقال أنّه جدّ الأصمعي عبدالملك بن قريب _ فصاح به: أيّها الأمير أنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وانّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج .

فتضاحك له الحجّاج، وقال: للطف ما توسّلت به، قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه _ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم _ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في

( 228 )

فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم(1) .

فمن أراد أن يقف على الضغط الشديد الّذي تعرض له الشيعة في عصر الامويّين فليقرأ حياة الصحابة والتابعين الذين قُتلوا بسيف عمّال

معاوية وآل مروان، وهؤلاء الأبطال:

1- حجر بن عدي الّذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (51) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة، وانّه يجتمع عليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه .

يقول المسعودي:

«في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي _ وهو أول من قتل صبراً في الإسلام _ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول _ ولا عقب له من غيرها _ :

ترفَّع أيّها القمر المنير * لعلّك ان ترى حجراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب * ليقتله كذا زعم الأمير

ويصلبه على بابي دمشق * وتأكل من محاسنه النسور

فقتله مع أصحابه في مرج العذراء(2) .

2- عمرو بن الحمق ذلك الصحابي العظيم الّذي وصفه الامام الحسين سيّد

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 11 / 44 _ 46 .

2 . مروج الذهب 3 / 3 _ 4، سير أعلام النبلاء 3 / 462 _ 466 برقم 95 .

( 229 )

الشهداء بأنّه: أبلت وجهه العبادة. قتله بعد ما أعطاه الأمان(1) .

3- مالك الأشتر ملك العرب، أحد الأشراف والأبطال كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية قتله بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله(2) .

4- رشيد الهجري كان من تلاميذ الامام وخواصّه عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى، فقطع يديه ورجليه ولسانه، وصلبه خنقاً في عنقه(3) .

5- جويرية بن مهر العبدي أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة(4) .

6- قنبر مولى أميرالمؤمنين إذ قال الحجّاج لبعض جلاوزته: اُحبّ أن اُصيب رجلا من أصحاب أبي تراب، فقالوا: ما نعلم أحداً كان أطول

صحبة له من مولاه قنبر، فبعث في طلبه، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال له: إبرأ من دين علي، فقال له: هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟

قال: إنّي قاتلك فاختر أىّ قتلة أحبّ إليك، قال: أخبرني أميرالمؤمنين: انّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة(5) .

7- كميل وهو من خيار الشيعة وخاصّة أميرالمؤمنين طلبه الحجّاج فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي، فاستسلم للحجّاج، فلمّا رآه قال له: كنت اُحبُّ أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل: لا تبرق ولا ترعد، فواللّه ما بقي من عمري

____________________________

1 . سير أعلام النبلاء 4 / 34 _ 35 برقم 6 .

2 . شذرات الذهب 1 / 91 .

3 . شرح نهج البلاغة 2 / 294 _ 295 .

4 . شرح نهج البلاغة 2 / 290 _ 291 .

5 . رجال الكشي 68 _ 69 برقم 21، الشيعة والحاكمون 95 .

( 230 )

إلاّ مثل الغبار، فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّوجلّ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أميرالمؤمنين انّك قاتلي، فقال الحجّاج: الحجّة عليك إذن، فقال: ذلك إن كان القضاء لك، قال: بلى، اضربوا عنقه(1) .

8- سعيد بن جبير التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة وكان يصلّي خلف الامام زين العابدين فلمّا رآه الحجّاج قال له: أنت شقي بن كسير، فقال: اُمّي أعرف بإسمي منك، ثم بعد رد وبدل أمر الحجّاج بقتله، فقال سعيد: وجّهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج: شدّوه إلى غير القبلة، فقال: أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه، فقال:

كبوه على وجهه، قال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اُخرى، ثم ضربت عنقه(2) .

وسيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام (122) عند الكلام عن فرق الزيدية فتربّص حتّى حين .

هذه صورة مصغّرة من جنايات البيت الأموي وقد جئنا بها كنموذج يوقفك على كثير وذكرناه لتقف على انّ بقاء التشيّع مع هذه المجازر أشبه بالمعجزة .

الشيعة في خلافة العباسيّين :

دار الزمان على بني اُميّة، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم، أثناء خلافتهم إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار) (فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُللّهِ رَبِّ العالَمِينَ)(3) وولي الأمر العباسيون، وكان الأمر في القتل

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 149، الشيعة والحاكمون 96 .

2 . سير أعلام النبلاء 4 / 321 - 328، الجرح والتعديل 4 / 9 برقم 29 .

3 . الأنعام / 45 .

( 231 )

والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر:

واللّه ما فعلت اُميّة فيهم * معشار ما فعلت بنو العباس

1- وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة (132) ومات سنة (136)، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح»: «إنّ أصل الدعوة كان لآل علي، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس، لذلك كان السفّاح، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي: ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم، فيقدّمون

لهم الجوائز، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي و ينفون عنهم حقّ الخلافة، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة»(1) .

2- ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال: إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه، يلتفت إلى الواعظ ويقول: عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه، أطرق المنصور كالمنكسر، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً، قال لواعظه:

____________________________

1 . أبو العباس السفاح 48، كما في الشيعة والحاكمون 139 .

( 232 )

عظني!!(1) .

فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الّذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.

وأمّا ما جرى منه على العلويّين، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله: يقول المسعودي: جمع المنصور أبناء الحسن، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وحملهم في محامل مشكوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار واُشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدّت عليهم الرائحة، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا(2) .

وقال ابن الأثير: دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني، وكان أخاً لأبناء الحسن من

اُمّهم، فأمر بشقّ ثيابه، حتّى بانت عورته، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً، فأصاب سوط منها وجهه فقال: ويحك اكفف عن وجهي، فقال المنصور للجلاّد: الرأس الرأس، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه، ثم قتله _ ثم ذكر _ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصفر، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً، ثمّ أمر به، فبنى عليه اسطوانة، وهو حي، فمات فيها(3) .

____________________________

1 . العقد الفريد 1 / 41 .

2 . مروج الذهب 3 / 310 طبع 1948 .

3 . الكامل 4 / 375 .

( 233 )

3- ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور، وبقى في الحكم من سنة (158) إلى سنة (169) وكفى في ظلمه للعلويّين، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسجنه فدسّ إليه السّم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه .

4- ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكفى في ظلمه - بالرغم من قصر أيّامه _ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني: انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتل المنصور اباها واخوتها وعمومتها وزوجها علي بن الحسن، ثم قتل الهادي حفيد المنصور، ابنها الحسين، وكانت تلبس المسوح على جسدها، لا تجعل بينها وبينه شيئاً حتّى لحقت باللّه عزّوجلّ(1) .

5- ثم تولّى بعده الرشيد سنة (170) ومات (193) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح، قال: إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبداللّه بن الحسن، بنى عليه اسطوانة وهو حي، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً

من جدّه المنصور (2) الكاظم فنذكره في الفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة .

6- ثمّ جاء بعده ابنه الأمين، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا، يقول أبو الفرج: كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون، حتّى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث .

7- وتولّى الحكم بعده المأمون، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 285 طبع النجف .

2 . مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف، وروى في مقتله أمراً آخر .

( 234 )

أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه، ثم دسّ السم للإمام الرضا، وسيوافيك تفصيله .

8- مات المأمون سنة (218) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّمن السجن .

9- ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا _ عليه السلام _ ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون .

10- وولى الحكم بعد الواثق، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده على آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال: كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيىء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كرب(1) قبر الحسين وعفّى آثاره، ووضع على سائر

الطرق، مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلاّ أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة .

وقال: بعث برجل من أصحابه (يقال له «الديزج» وكان يهودياً فأسلم) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله، فمضى ذلك، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح، بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلاّ أخذوه ووجّهوا به إليه .

وقال: حدثني محمّد بن الحسين الأشناني: بعد عهدي بالزيارة في تلك

____________________________

1 . الكرب: إثارة الأرض للزرع .

( 235 )

الأيّام خوفاً، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين، نكمن النهار ونسير الليل حتّى أتينا نواحي الغاضريّة، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتّى أتينا القبر فخفى علينا فجعلننا نشمّه (نتسمه) ونتحرّى جهته حتّى أتيناه، وقد قلع الصندوق الّذي كان حواليه واُحرق واُجري الماء عليه، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه... فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتّى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه .

وقال: واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء، وإنّ قلّ إلاّ أنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه

بينهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه(1) .

وولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه _ كما عرفت _ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا .

وأوّل ما أحدثه أنّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له _ عند الموادعة _ : يا علي: إنّي اُوجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم _ يعني آل أبي طالب _، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أميرالمؤمنين _ أيّده اللّه _ فيهم، إن شاء اللّه. قال: إذاً تسعد

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 395 _ 396 .

( 236 )

بذلك عندي (1) .

وقام بعده المستعين بالأمر، فنقص كلّما غزله المنتصر من البرّ والإحسان، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين، قال أبو الفرج: وكان _ رضي الله عنه _ رجلا فارساً شجاعاً شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبداللّه بن طاهر، فقال: أيّها الأمير، قد جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّى به .

واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه .

قال أبو الفرج: وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه .

هذا قليل من كثير

من المجازر الدامية، الّتي قام بها بنو العباس وأتو بجرائهم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر:

تاللّه إن كانت بنو اُميّة قد أتت * قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا * في قتله فتتّبعوه رميما

ومن أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين (الاموية والعباسية) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث الّتي نظمها رجال مؤمنون مخلصون، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ:

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 636 .

( 237 )

1- تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 ه_ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت _ عليهم السلام _ ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا، فبكى وبكت معه النسوة.

أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا _ رضي الله عنه _ :

مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات

قال دعبل: ثمّ قرأت باقي القصيدة، فلمّا انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة واقع * يقوم على اسم اللّه والبركات

بكى الرضا بكاءً شديداً. ومن هذه القصيدة قوله:

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ما حكمه بالزور والشبهات

تراث بلا قربى وملك بلا هدى * وحكم بلا شورى بغير هدات

وفيه أيضاً قوله:

لآل الرسول بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر * وحمزة والسجّاد ذي الثفنات

ديار عفاها جور كل منابذ * ولم تعف للايّام والسنوات

ودار لعبداللّه والفضل صنوه * سليل رسول اللّه ذي الدعوات

منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسنات

منازل وحي اللّه معدن علمه * سبيل رشاد واضح الطرقات

منازل وحي اللّه ينزل حولها * على

أحمد الروحات والغدوات

إلى أن قال:

ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا * ودار زياد أصبحت عمرات

( 238 )

وآل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهم * وآل زياد غُلّظِ القصرات

وآل رسول اللّه تُدْمى نحورهم * وآل زياد زيّنوا الحجلات

وفيها أيضاً:

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا * وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلات(1)

2- ميميّة الأمير أبي فراس الحمداني (320 _ 357 ه_)، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة، وعليها مسحة البلاغة، ورونق الجزالة، وجودة السرد، وقوّة الحجّة، وفخامة المعنى، أنشدها ناظمها لمّأ وقف على قصيدة ابن سكره العباسي الّتي مستهلّها:

بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقض الدر وضع من وضعه

فقال الأمير في جوابه ميميّته المعروفة وهي:

الحق مهتضم والدين مخترم * وفيء آل رسول اللّه مقتسم

إلى أن قال:

يا للرجال أما للّه منتصر * من الطغاة؟ أما للّه منتقم؟

بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم!(2)

3- جيميّة ابن الرومي الّتي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد، وهي:

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على هذه القصيدة: المناقب لابن شهر آشوب 2 / 394، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري 194، وكشف الغمة للاربلي 3 / 112 _ 117، وقد ذكرها أكثر المؤرخين .

2 . نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها، لاحظ 3 / 399 _ 402 .

( 239 )

أمامك فانظر أىّ نهجيك تنهج * طريقان شتّى مستقيم وأعوج

ألا أىّ هذا الناس طال ضريركم * بآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجوا

أكلّ أوان للنبي محمّد * قتيل زكىّ بالدماء مضرّج(1)

«واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة، وطيب النجار، ضلّ

عنها حقّها، وجاهدت في سبيل اللّه حقَّ الجهاد من الاعصار، ثم لم تظفر من جهادها المرير إلاّ بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلاّ العبرات، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم، وصافحوا الموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام .

وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال، وصبّوا عليها صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلاّ ولا ذمّة ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، حتّى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال، في فظاعة النكال، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروى وخبراً يتناقل، وقصصاً يقص، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه»(2) .

كانت الشيعة حليف الضغط والكبت، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 639 _ 646 .

2 . مقدمة مقاتل الطالبيين، بقلم السيد أحمد صفر: الصفحة ى _ ك، طبع دار المعرفة .

( 240 )

الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الإسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّا، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة .

هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة

ورد بغداد سنة 447 وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة الّتي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة 381 على مثال بيت الحكمة الّذي بناه هارون الرشيد، وكانت مهمّة للغاية وقد جمع فيه هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف اهل الهند والصين والروم، كما قاله محمد كرد علي، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين(1) .

قال ياقوت الحموي: وبها كانت خزانة الكتب الّتي أوقفها الوزير أبونصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة(2) .

وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير(3) .

وحيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب، أخذ العلماء يهدون إليه

____________________________

1 . خطط الشام 3 / 185 .

2 . معجم البلدان 2 / 342 .

3 . الكامل في التاريخ 10 / 3 .

( 241 )

مؤلّفاتهم، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد، وقد احترقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال كرخ عند مجيىء طغرل بيك وتوسّعت الفتنة حتّى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الّذي كان يجلس عليه للكلام .

وقال ابن الجوزي في حوادث سنة 448:

وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ثمّ قال في حوادث سنة 449: وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة في الكرخ، واُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس إليه للكلام، واُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه

ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فاُحرق الجميع(1) .

وأنت إذا سبرت غضون التأريخ المؤلّف في عصور الاموييّن والعباسيّين ومن بعدهم _ مع أنّه قد لعبت به الهوى ودسّ فيها أشياء وأشياء _ تقف على أنّ بقاء الشيعة إلى العصر الحاضر من المعاجز والكرامات وخوارق العادات، وكيف وانّ تاريخهم هو الذبح، والقتل، والقمع، والاستئصال، والسحق، وإلابادة، قد تضافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات، ومعاهد وكلّيّات، وبلدان وحضارات، وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة، وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيّون، ويشكلون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم، إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ

____________________________

1 . المنتظم 8 / 173 _ 179، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر الّتي أومأ هو إليها في الهامش، لاحظ الصفحة ه_ _ و ومن المقدمة .

( 242 )

و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه: (إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفروا بَأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(1) .

ولا يفوتنّك انّ ثوراتهم المتعاقبة أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج، لكن ثوراتهم لم تكن عنصريّة أو قوميّة أو طلباً للرئاسة، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع، والدعوة إلى اعلاء كلمة اللّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين .

____________________________

1 . الأنفال / 65 .

الفصل العاشر في عقائد الشيعة الإمامية

الفصل العاشر في عقائد الشيعة الإمامية

( 244 )

( 245 )

إنّ المناهج الكلامية الّتي فرّقت المسلمين إلى مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري، واستمرّت في القرون التالية، نجمت عنها فرق اسلامية كالمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والحشوية، والأشعرية، والكرامية بفرقهم المتشعّبة، فأكثر الفرق الإسلامية أو جميعها نتاج البحث والمذاكرة بالاضافة إلى الإحتكاك الفكري بين المسلمين والاُمم الاُخرى الّتي حملت إليهم مسائل وموضوعات جديدة، فلا تجد لأكثرها أو جميعها تأريخاً متّصلا بزمن النبىّ الأكرم، ويقف على صدق ما ذكرنا من سبر أجزاء كتابنا هذا .

مثلا الخوارج _ مضافاً إلى أنّها كانت فرقة سياسيّة نجمت عام 37 من الهجرة أثناء حرب صفين _ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني .

والمرجئة ظهرت على الأوساط الإسلاميّة عند اختلاف الناس في الخليفتين عثمان وعلي، ثمّ تطوّرت إلى معنى آخر وكانت حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان و تأخير العمل .

والجهمية نتيجة أفكار «جهم بن صفوان» المتوفّى سنة 128، والمعتزلة تستمد من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى عام 130، وهكذا القدريّة

( 246 )

والكراميّة والظاهريّة والأشعريّة كلّها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلا بالنبىّ الأكرم .

وأمّا عقائد الشيعة الإماميّة، فليست حصيلة الاحتكاك بالثقافات الأجنبيّة ولا ما أنتجبته البحوث الكلاميّة طوال القرون، وإنّما هي عقائد مأخوذة من الذكر الحكيم أوّلا، والسنّة النبويّة ثانياً، وخطب الامام علي وكلمات العترة الطاهرة المأخوذة من النبىّ الأكرم ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين .

وهذا لا يعني أنّ الشيعة تتعبّد بالنصوص في اُوصلها من دون تحليل وتفكير، بل يعني أنّ اُصول العقائد الواردة في المصادر المذكورة، أخذها علماؤهم منها، وحرّروها بأوضح الوجوه، ودعموها بالبرهنة، نعم

لا يعتمدون في مجال العقيدة على آحاد الروايات بل يشترط فيها أن تكون متواترة، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم واليقين، إذ ليس المطلوب في باب الاعتقاد مجرّد العمل، بل المطلوب هو الاذعان والإيمان ولا يحصل بآحاد الروايات .

وهنا نكتة جديرة بالتنبية، وهي أنّ قوام التشيّع عبارة عن الاعتقاد بأنّ الإمام عليّاً منصوص عليه بالوصاية على لسان النبىّ الأكرم، وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الوحيد بعد الذكر الحكيم. هذا هو العنصر المقوّم للتشيّع وأمّا سائر الاُصول فإنّها عقائد اسلامية لا تتّصل بالتشيّع دون غيرهم .

وها نحن نذكر قصاصات من عقائد الشيعة الامامية، الواردة في أحاديث أئمّتهم تارة، وكلمات علمائهم الأقدمين ثانياً، حتّى يقف القارئ على جذور تلك العقائد وأنّها مأخوذة عن أئمّتهم الطاهرين، وفي مقدّمتهم خطب الامام علي _ عليه السلام _ .

( 247 )

1- ما كتبه الامام الرضا _ عليه السلام _ للمأمون في محض الإسلام:

روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون علي بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب _ عليه السلام _ له: «إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قديراً، قديماً، قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلا لا يجور، وانّه خالق كلّ شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا كفو له، وانّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.

وانّ محمّداً عبده و رسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبىّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته، وانّ جميع ما جاء به

محمّد بن عبداللّه هو الحقّ المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللّه، وأنبيائه، وحججه، والتصديق بكتابه، الصادق العزيز الّذي (لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيم حَميد)(1) وانّه المهيمن على الكتب كلّها، وانّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه واخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله .

وانّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه، أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه، والّذي كان منه بمنزلة هارون من موسى: علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ أميرالمؤمنين، وإمام

____________________________

1 . فصّلت / 42 .

( 248 )

المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وأفضل الوصيّين ووارث علم النبيّين والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن علي باقر علم النبيّين، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ الحجّة القائم المنتظر _ صلوات اللّه عليهم أجمعين _ .

أشهد لهم بالوصيّة والإمامة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان، وانّهم العروة الوثقى، وأئمّة الهدى، والحجّة على أهل الدنيا، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وانّ كل من خالفهم ضال، مضل، باطل، تارك للحقّ والهدى، وانّهم المعبّرون عن القرآن، والناطقون عن الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالبيان، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وانّ من دينهم الورع، والفقه، والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد، واداء الأمانة إلى البر

والفاجر، وطول السجود وصيام النهار وقيام الليل واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن العزاء وكرم الصحبة(1) .

ثمّ ذكر الامام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر .

* * *

2- عرض السيّد عبدالعظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي:

روى الصدوق عن عبدالعظيم الحسني(2) قال: دخلت على سيدي علي بن

محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ فلمّأ بَصُرَبي، قال لي: «مرحباً بك يا أباالقاسم أنت وليّنا حقّا» قال: فقلت له: ياابن رسول اللّه إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً ثبتّ عليه حتّى ألقى اللّه عزّوجلّ. فقال: «هاتها أبا القاسم» .

فقلت: إنّي أقول: إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج من الحدّين: حدّ الابطال، وحدّ التشبيه، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور، وخالق الاعراض والجواهر، وربِّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وانّ محمّداً عبده

____________________________

1 . عيون أخبار الرضا 2 / 121 _ 122 .

2 . عبدالعظيم بن عبداللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ من أصحاب الإمام الهادي، قال النجاشي: له كتاب خطب أميرالمؤمنين ورد الري هارباً من السلطان وسكن سربا في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي، فكان يعبداللّه في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله، فكان يخرج مستتراً، فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر _ عليه السلام

_ فلم يزل يأوى إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمّد _ عليهم السلام _ حتّى عرفه اكثرهم رجال النجاشي 2 / 65 _ 66، ومات عبدالعظيم بالري وقبره مزار. يزوره الناس. وذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري تحت رقم 1 و 20. وذكره أيضاً عمدة الطالب 94 .

( 249 )

ورسوله خاتم النبيّين، فلا نبىّ بعده إلى يوم القيامة، وأقول: إنّ الامام والخليفة وولىّ الأمر بعده أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ أنت يا مولاي .

فقال _ عليه السلام _ : «ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟ قال: لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل

( 250 )

ذكره باسمه حتّى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا.

قال: فقلت: أقررت وأقول: إنّ وليّهم ولىّ اللّه، وعدوّهم عدوّ اللّه، وطاعتهم طاعة اللّه، ومعصيتهم معصية اللّه، وأقول: إنّ المعاد حقّ، والمساءلة في القبر حقّ، وانّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والميزان حقّ، وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللّه يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمّد _ عليه السلام _ : يا أبا القاسم: «هذا واللّه دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة»(1) .

وقد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين، أحدهما قولي، والآخر امضائي، وقد أخذوا

عقائدهم عن آبائهم الطاهرين .

* * *

3- رسالة الصدوق «306 _ 381» في عقائد الإمامية:

إنّ لمشايخنا الإمامية قصاصات في بيان عقائد الشيعة ومعارفهم، ونختار في المقام رسائل موجزة، من المتقدّمين :

صنّف الشيخ الصدوق (306 _ 381) رسالة موجزة في عقائد الإمامية، قال: اعلم انّ اعتقادنا في التوحيد، أنّ اللّه تعالى واحد، أحد، ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيّوماً، عزيزاً قدّوساً، عالماً قادراً، غنيّاً، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض _ إلى أن قال: _ وأنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدّين، حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه،

____________________________

1 . التوحيد: باب التوحيد والتشبيه 81 رقم الحديث 37 .

( 251 )

وأنّه تعالى شىء لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفواً أحد، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا صاحبة، ولا مثل ولا نظير ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا الأوهام وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير، خالق كل شيء لا إله إلاّ هو، له الخلق والأمر تبارك اللّه ربّ العالمين .

ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس... ثمّ إنّه قدّس اللّه سرّه ذكر الصفات الخبرية في الكتاب العزيز وفسّرها، وبيّن حدّاً خاصّاً لصفات الذات وصفات الأفعال، وما هو معتقد الإماميّة في أفعال العباد، وانّه بين الجبر والتفويض، كما ذكر عقائدهم في القضاء والقدر، والفطرة والاستطاعة إلى

غير ذلك من المباحث الهامّة، الّتي تشكّل العمود الفقري للمعارف الإلهية. حتّى انّه قال:

اعتقادنا أنّ القرآن الّذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس 114 سورة، وعندنا أنّ الضحى والانشراح سورة واحدة، كما أنّ الإيلاف والفيل سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب... إلى آخر الرسالة(1) .

ثمّ إنّ الشيخ المفيد (336 _ 413) قد شرح تلك الرسالة بكتاب أسماه شرح عقائد الصدوق، أو تصحيح الاعتقاد ناقش فيها اُستاذه الصدوق في بعض المواضع التي

____________________________

1 . لاحظ رسالة الصدوق في الاعتقادات، وقد طبعت غير مرّة، وعليها شروح وتعاليق العلماء منهم العلاّمة المجلسي .

( 252 )

استند فيها الصدوق على روايات غير جامعة للشرائط في باب العقائد(1) .

4_ ما أملاه هو أيضاً على جماعة في المجلس الثالث والتسعون، وجاء فيه: واجتمع في هذا اليوم إلى الشيخ الفقيه أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أهل مجلسه والمشايخ، فسألوه أن يملي عليهم وصف دين الإماميّة على الإيجاز والاختصار، فقال: دين الإماميّة هو الإقرار بتوحيد اللّه تعالى ذكره ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عمّا لا يليق، والإقرار بأنبياء اللّه ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأنّ محمّداً هو سيّد الأنبياء والمرسلين، وانّه أفضل منهم ومن جميع الملائكة المقرّبين، وأنّه خاتم النبيّين فلا نبىّ بعده... إلى آخر ما ذكر(2) .

* * *

5- جمل العلم والعمل للسيّد الشريف المرتضى «355 _ 436»:

ألّف السيّد الشريف المرتضى رسالة موجزة في العقائد أسماها جمل العلم والعمل. وفيه عقائد الشيعة على وجه الإيجاز نذكر خصوص ما يرجع إلى التوحيد فعلى القارئ الكريم مطالعة

نفس الرسالة ونقتطف ما يلي:

بيان ما يجب اعتقاده في أبواب التوحيد:

الأجسام محدَثة لأنّها لم تسبق الحوادث، فلها حكمها في الحدوث، ولابدّلها من محدث، لحاجة كل محدَث في حدوثه إلى محدِث كالصناعة والكتابة.

ولابدّ من كونه (تعالى) قادراً لتعذّر الفعل على من لم يكن قادراً وتيسّره على

____________________________

1 . طبع الكتاب مع كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد في تبريز عام 1371 .

2 . الأمالي للشيخ الصدوق _ أملاه يوم الجمعة الثاني عشر من شعبان سنة 368 _ لاحظ 509 طبع بيروت .

( 253 )

من كان كذلك .

ولابدّ من كون محدثها عالماً لأنّ الإحكام ظاهر في كثير من العالم، والمحكم لا يقع إلاّ من عالم .

ولابدّ من كونه موجوداً، لأنّ له تعلّقاً من حيث كان قادراً عالماً، وهذا الضرب من التعلّق لا يصحّ إلاّ مع الوجود .

ويجب كونه قديماً، لانتهاء الحوادث إليه .

ويجب كونه حيّاً، وإلاّ لم يصحّ كونه قادراً، عالماً، فضلا عن وجوبه.

ويجب أن يكون مدرِكاً إذا وجدت المدرَكات، لاقتضاء كونه حيّاً.

ذلك، وواجب كونه سميعاً بصيراً، لأنّه ممّن يجب أن يدرك المدركات إذا وجدت، وهذه فائدة قولنا سميع بصير .

ومن صفاته _ وإن كانتا عن علّة _ كونه تعالى مريداً وكارهاً لأنّه تعالى، قد أمر وأخبر ونهى، ولا يكون الأمر والخبر، أمراً ولا خبراً إلاّ بالإرادة. والنهي لا يكون نهياً إلاّ بالكراهة .

ولا يجوز أن يستحق هاتين الصفتين لنفسه، لوجوب كونه مريداً، كارهاً للشيء الواحد، على الوجه الواحد .

ولا لعلّة قديمة، لما سنبطل به الصفات القديمة .

ولا لعلّة محدثة في غير حي لافتقار الإرادة إلى تنبيه. ولا لعلّة موجودة في حي، لوجوب رجوع حكمها إلى ذلك الحي. فلم يبق إلاّ أن توجد لا في محل .

ولا يجوز أن

يكون له في نفسه صفة زائدة على ما ذكرناه لأنّه لا حكم لها معقول .

وإثبات ما لا حكم له معقول من الصفات، يفضي إلى الجهالات .

ويجب أن يكون قادراً فيما لم يزل، لأنّه لو تجدّد له ذلك لم يكن إلاّ لقدرة

( 254 )

محدثة، ولا يمكن اسناد احداثها إلاّ إليه، فيؤدّي إلى تعلّق كونه قادراً بكونه محدثاً، وكونه محدثاً بكونه قادراً. وثبوت كونه قادراً فيما لم يزل، يقتضي أن يكون فيما لم يزل حيّاً موجوداً.

ويجب أن يكون عالماً فيما لم يزل لأنّ تجدّد كونه عالماً، يقتضي أن يكون بحدوث علم، والعلم لا يقع إلاّ ممّن هو عالم .

ووجوب هذه الصفات، لم تدل على أنّها نفسيّة، وادّعاء وجوبها لمعان قديمة، تبطل صفات النفس. ولأنّ الاشتراك في القدم، يوجب التماثل والمشاركة في سائر الصفات. ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات لإسنادها إلى النفس .

ويجب كونه تعالى غنيّاً غير محتاج، لأنّ الحاجة تقتضي أن يكون ممّن ينتفع ويستضر وتؤدّي إلى كونه جسماً .

لا يجوز كونه تعالى (متّصفاً)(1) بصفة الجواهر والأجسام والاعراض لقدمه وحدوث هذه أجمع، ولأنّه فاعل الأجسام. والجسم يتعذّر عليه فعل الجسم.

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية لأنّه كان يجب مع ارتفاع الموانع وصحّة أبصارنا أن تراه .

ولمثل ذلك يعلم أنّه لا يدرك بسائر الحواس .

ويجب أن يكون تعالى واحداً لا ثاني له في القدم، لأنّ إثبات ثان يؤدّي إلى إثبات ذاتين لاحكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة ويؤدّي أيضاً إلى تعذّر الفعل على القادر من غير جهة منع معقول. وإذا بطل قديم ثان بطل قول الثنوية

____________________________

1 . أضفناها من عندنا لاقتضاء السياق .

( 255 )

والنصارى والمجوس... إلى آخرها(1) .

6- البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان للكراجكي

«ت 449»:

كتب الإمام أبو الفتح الشيخ محمّد بن علي الكراجكي الطرابلسي رسالة موجزة في عقائد الإمامية وأسماها «البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان» .

قال: سألت يا أخي أسعدك اللّه بألطافه، وأيّدك باحسانه واسعافه، أن اثبت لك جملا من اعتقادات الشيعة المؤمنين، وفصولا في المذهب يكون عليها بناء المسترشدين لتذاكر نفسك بها، وتجعلها عدّة لطالبها، وأنا أختصر لك القول واُجمله، واُقرّب الذكر واُسهّله وأورده على سنن الفتيا في المقالة، من غير حجّة ولا دلالة، وما توفيقي إلاّ باللّه .

في توحيده سبحانه:

إعلم أنّ الواجب على المكلّف: أن يعتقد حدوث العالم بأسره، وانّه لم يكن شيئاً قبل وجوده، ويعتقد أنّ اللّه تعالى هو محدِث جميعه، من أجسامه، واعراضه، إلاّ أفعال العباد الواقعة منهم، فانّهم محدثوها دونه سبحانه .

ويعتقد أنّ اللّه قديم وحده، لا قديم سواه، وأنّه موجود لم يزل، وباق لا يزال، وانّه شيء لا كالأشياء. لا شبيه الموجودات، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات وانّ له صفات يستحقّها لنفسه لا لمعان غيره، وهي كونه حيّاً، عالماً،

____________________________

1 . جمل العلم والعمل قسم العقائد، الطبعة الثانية تحقيق رشيد الصفار، طبعة النجف طالع الرسالة بأجمعها، نعم رأيه في اعجاز القرآن من القول بالصرف رأي شخصي له ولا يمثّل رأي جمهور الامامية وفيها وراء النصوص، آراء كلامية .

( 256 )

قديماً، باقياً، لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدّها، يعلم الكائنات قبل كونها، ولا يخفى عليه شيء منها .

في عدله سبحانه:

وانّ له صفات أفعال، لا يصحّ اضافتها إليه في الحقيقة، إلاّ بعد فعله، وهي ما وصف به نفسه من أنّه خالق، ورازق، ومعط، وراحم، ومالك، ومتكلّم، ونحو ذلك. وانّ له صفات مجازات وهي ما وصف به نفسه، من أنّه يريد،

ويكره، ويرضى، ويغضب. فارادته لفعل هي الفعل المراد بعينه، وارادته لفعل غيره هي الأمر بذلك الفعل، وليس تسميتها بالارادة حقيقة، وانّما هو على مجاز اللغة، وغضبه هو وجود عقابه، ورضاه هو وجود ثوابه، وانّه لا يفتقر إلى مكان، ولا يدرك بشيء من الحواس .

وانّه منزّه من القبائح، لا يظلم الناس وإن كان قادراً على الظلم، لأنّه عالم بقبحه، غني عن فعله، قوله صدق، ووعده حق، لا يكلّف خلقه على ما لا يستطاع، ولا يحرمهم صلاحاً لهم فيه الانتفاع، ولا يأمر بما لا يريد، ولا ينهى عمّا يريد. وانّه خلق الخلق لمصلحتهم، وكلّفهم لأجل منازل منفعتهم، وأزاح في التكليف عللهم، وفعل أصلح الأشياء بهم. وأنّه أقدرهم قبل التكليف، وأوجد لهم العقل والتمييز .

وانّ القدرة تصلح أن يفعل بها وضده بدلا منه. وانّ الحق الّذي يجب معرفته، يدرك بشيئين، وهما العقل والسمع، وانّ التكليف العقلي لا ينفك عن التكليف السمعي. وانّ اللّه تعالى قد أوجد (للناس) في كل زمان مسمعاً (لهم) من أنبيائه، وحججه بينه وبين الخلق، ينبّههم على طريق الاستدلال في العقليات ويفقّههم على ما لا يعلمونه إلاّ به من السمعيات. وانّ جميع حجج اللّه تعالى محيطون

( 257 )

علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد. وانّهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار. وانّ اللّه فضّلهم على خلقه، وجعلهم خلفاءه القائمين بحقّه. وانّه أظهر على أيديهم المعجزات، تصديقاً لهم فيما ادّعوه من الأنباء والاخبار. وانّهم _ مع ذلك _ بأجمعهم عباد مخلوقون، بشر مكلّفون، يأكلون ويشربون، ويتناسلون، ويحيون بإحيائه، ويموتون بإماتته، تجوز عليهم الآلام المعترضات فمنهم من قتل، ومنهم من مات، لا يقدرون على خلق، ولا رزق، ولا يعلمون الغيب إلاّ ما أعلمهم إله الخلق. وانّ أقوالهم

صدق، وجميع ما أتوا به حق .

في النبوة العامّة والخاصّة:

وانّ أفضل الأنبياء اُولوا العزم، وهم خمسة: نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وانّ محمّداً بن عبداللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أفضل الأنبياء أجمعين، وخير الأوّلين والآخرين. وانّه خاتم النبيين وانّ آباءه من آدم _ عليه السلام _ إلى عبداللّه بن عبدالمطلب _ رضوان اللّه عليهم _ كانوا جميعاً مؤمنين، وموحّدين للّه تعالى عارفين، وكذلك أبوطالب _ رضوان اللّه عليه _ .

ويعتقد أنّ اللّه سبحانه شرّف نبيّنا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بباهر الآيات، وقاهر المعجزات، فسبّح في كفّه الحصاء، ونبع من بين أصابعه الماء، وغير ذلك ممّا قد تضمّنته الأنباء، وأجمع على صحّته العلماء، وأتى بالقرآن المبين، الّذي بهر به السامعين، وعجز من الاتيان بمثله سائر الملحدين .

وانّ القرآن كلام ربّ العالمين، وأنّه محدث ليس بقديم. ويجب أن يعتقد أنّ جميع ما فيه من الآيات الّذي يتضمّن ظاهرها تشبيه اللّه تعالى بخلقه، وأنّه يجبرهم على طاعته أو معصيته، أو يضل بعضهم عن طريق هدايته، فإنّ ذلك كلّه لا يجوز حمله على ظاهرها، وانّ له تأويلا، يلائم ما تشهد به العقول ممّا قدّمنا ذكره في

( 258 )

صفات اللّه تعالى، وصفات أنبيائه .

فإن عرف المكلّف تأويل هذه الآيات فحسن، وإلاّ أجزأ أن يعتقد في الجملة أنّها متشابهات، وأنّ لها تأويلا ملائماً، يشهد بما تشهد به العقول والآيات المحكمات، وفي القرآن المحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ والخاص والعام .

ويجب عليه أن يقر بملائكة اللّه أجمعين، وأنّ منهم جبرئيل وميكائيل، وأنّهما من الملائكة الكرام، كالأنبياء بين الأنام، وأنّ جبرئيل هو الروح الأمين، الّذي نزل بالقرآن على

قلب محمّد خاتم النبيين، وهو الّذي كان يأتيه بالوحي من ربّ العالمين .

ويجب الاقرار بأنّ شريعة الإسلام التي أتى بها محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء المتقدّمين .

وأنّه يجب التمسّك بها والعمل بما تضمّنته من فرائضها، وأنّ ذلك دين اللّه الثابت الباقي إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، لا حلال إلاّ ما أحلّت، ولا حرام إلاّ ما حرّمت، ولا فرض إلاّ ما فرضت، ولا عبادة إلاّ ما أوجبت.

وانّ من انصرف عن الاسم، وتمسّك بغيره، كافر ضال، مخلّد في النار، ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع .

وانّ من أظهر الاقرار بالشهادتين كان مسلماً، ومن صدّق بقلبه، ولم يشك في فرض أتى به محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان مؤمناً.

ومن الشرائط الواجبة للإيمان، العمل بالفرائض اللازمة، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن .

وقوله تعالى:

( 259 )

(إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام)(1) .

إنّما أراد به الإسلام الصحيح التام، الّذي يكون المسلم فيه عارفاً، مؤمناً، عالماً بالواجبات طائعاً .

في الإمامة والخلافة:

ويجب أن يعتقد أنّ حجج اللّه تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه، وحفظة شرعه، وأئمّة اُمّته، اثنا عشر أهل بيته، أوّلهم أخوه وابن عمّه، وصهره بعل فاطمة الزهراء ابنته، ووصيّه على اُمّته: علي بن ابي طالب أميرالمؤمنين، ثمّ الحسن بن علي الزكي، ثمّ الحسين بن علي الشهيد، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن علي باقر العلوم، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن علي التقي، ثمّ علي بن محمّد المنتجب، ثمّ الحسن بن علي الهادي، ثمّ الخلف الصالح بن الحسن المهدي

_ صلوات اللّه عليهم أجمعين _ .

لا إمامة بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إلاّ لهم _ عليهم السلام _ ولا يجوز الاقتداء في الدين إلاّ بهم، ولا أخذ معالم الدين إلاّ عنهم .

وأنّهم في كمال العلم والعصمة من الآثار نظير الأنبياء _ عليهم السلام _ .

وأنّهم أفضل الخلق بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

وأنّ إمامتهم منصوص عليها من قبل اللّه على اليقين والبيان .

وأنّه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات، وأعلمهم كثيراً من الغائبات، والاُمور المستقبلات، ولم يعطهم من ذلك إلاّ ما قارن وجهاً يعلمه من اللطف

____________________________

1 . آل عمران / 19 .

( 260 )

والصلاح.

وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام، ولا يحيطون بالعلم بكل ما علمه اللّه تعالى .

والآيات الّتي تظهر على أيديهم هي فعل اللّه دونهم، أكرمهم بها، ولا صنع لهم فيها .

وأنّهم بشر محدثون، وعباد مصنوعون، لا يخلقون، ولا يرزقون، ويأكلون ويشربون، وتكون لهم الأزواج، وتنالهم الآلام والاعلال، ويستضامون، يخافون فيتقون، وأنّ منهم من قتل، ومنهم من قبض.

وأنّ إمام هذا الزمان هو المهدي ابن الحسن الهادي، وأنّه الحجّة على العالمين، وخاتم الأئمّة الطاهرين، لا إمامة لأحد بعد إمامته، ولا دولة بعد دولته، وأنّه غائب عن رعيته، غيبة اضطرار وخوف من أهل الضلال، وللمعلوم عند اللّه تعالى في ذلك الصلاح .

ويجوز أن يعرّف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس، وأنّ اللّه عزّوجلّ سيظهره وقت مشيئته، ويجعل له الأعوان والأصحاب، فيمهّد الدين به، (و) يطهّر الأرض على يديه، ويهلك أهل الضلال، ويقيم عمود الإسلام ويصير الدين كلّه للّه .

وأنّ اللّه عزّوجلّ يظهر على يديه عند ظهوره، الأعلام، وتأتيه المعجزات بخرق العادات، ويحيي له بعض الأموات،

فإذا (أ) قام في الناس المدّة المعلومة عند اللّه سبحانه قبضه إليه، ثم لا يمتد بعده الزمان، ولا تتّصل الأيام حتّى تكون شرائط الساعة، واماتة من بقى من الناس، ثم يكون المعاد بعد ذلك .

ويعتقد أنّ أفضل الأئمّة _ عليهم السلام _ أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، وأنّه لا يجوز أن يسمّى بأميرالمؤمنين أحد سواه .

وأنّ بقيّة الأئمّة _ صلوات اللّه عليهم _، يقال لهم: الأئمة، والخلفاء،

( 261 )

والأوصياء، والحجج، وإن كانوا في الحقيقة اُمراء المؤمنين، فإنّهم لم يمنعوا من هذا الاسم لأجل معناه، لأنّه حاصل لهم على الاستحقاق، وإنّما منعوا من لفظه، حشمة لأمير المؤمنين _ عليه السلام _ .

وأنّ أفضل الأئمّة بعد أميرالمؤمنين، ولده الحسن، ثمّ الحسين، وأفضل الباقين بعد الحسين، إمام الزمان المهدي _ صلوات اللّه عليه _ ثمّ بقية الأئمّة بعده على ما جاء به الأثر وثبت في النظر .

وأنّ المهدي _ عليه السلام _ هو الّذي قال فيه رسول اللّه:

«لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل اللّه تعالى ذلك اليوم، حتّى يظهر فيه رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلا، وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً»(1) .

فاسمه يواطئ اسم رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وكنيته تواطئ كنيته، غير أنّ النهي قد ورد عن اللفظ، فلا يجوز أن يتجاوز في القول أنّه المهدي، والمنتظر، والقائم بالحق، والخلف الصالح، وإمام الزمان، وحجة اللّه على الخلق .

ويجب أن يعتقد أنّ اللّه فرض معرفة الأئمّة _ عليهم السلام _ بأجمعهم، وطاعتهم، وموالاتهم والاقتداء بهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم... وأنّه لا يتم الايمان إلاّ بموالاة أولياء اللّه، ومعاداة أعدائه، وأنّ أعداء الأئمّة _ عليهم السلام _

____________________________

1 . روى هذا

الحديث وأمثاله ابن خلدون في المقدّمة في الفصل الثاني والخمسين عن الترمذي، وأبي داود باختلاف بعض ألفاظه، وروى حوالي اثنين وثلاثين حديثاً، وقال في ص 311 من المقدّمة:

«إنّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهدي، منهم: الترمذي، وأبوداود، والبزار، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، واسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد الخدري، واُمّ حبيبة، واُمّ سلمة، وثوبان، وقرّة بن اياس، وعلي الهلالي» .

( 262 )

كفّار ملحدون في النار، وإن أظهروا الإسلام، فمن عرف اللّه ورسوله والأئمّة الاثني عشر وتولاّهم وتبرّأ من أعدائهم فهو مؤمن، ومن أنكرهم أو تولّى أعداءهم فهو ضال هالك لا ينفعه عمل ولا اجتهاد، ولا تقبل له طاعة ولا تصحّ له حسنات...(1) .

في التوبة والحشر والنشر:

ويعتقد أنّ اللّه يزيد وينقص إذا شاء في الأرزاق والآجال .

وأنّه لم يرزق العبد إلاّ ما كان حلالا طيّباً.

ويعتقد أنّ باب التوبة مفتوح لمن طلبها، وهي الندم على ما مضى من المعصية، والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها .

وأنّ التوبة ماحية لما قبلها من المعصية الّتي تاب العبد منها .

وتجوز التوبة من زلّة، إذا كان التائب منها مقيماً على زلّة غيرها لا تشبهها، ويكون له الأجر على التوبة، وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلّة .

وأنّ اللّه يقبل التوبة بفضله وكرمه، وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد، وانّما علم بالسمع دون غيره .

ويجب أن يعتقد أنّ اللّه سبحانه، يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد .

وأنّ المحاسبة حق والقصاص، وكذلك الجنّة والنار والعقاب .

وأنّ مرتكبي المعاصي من العارفين باللّه ورسوله، والأئمّة الطاهرين، المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها، المسوّفين التوبة منها، عصاة فسّاق،

وأنّ ذلك

____________________________

1 . مكان النقاط كلمات غير واضحة .

( 263 )

لا يسلبهم اسم الايمان كما لم يسلبهم اسم الاسلام(1) .

وأنّهم يستحقّون العقاب على معاصيهم، والثواب على معرفتهم باللّه تعالى، ورسوله، والأئمّة من بعده _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

وما بعد ذلك من طاعتهم، وأمرهم مردود إلى خالقهم، وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته، قال اللّه سبحانه:

(وَ آخَرُون مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبَهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)(2) .

وأنّ عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها اللّه تعالى، لا تكون مؤبّدة، ولها آخِر، يكون بعده دخولهم الجنّة وليسوا من جملة من توجه إليهم الوعيد بالتخليد. والعفو من اللّه تعالى يرجى للعصاة المؤمنين .

وقد غلطت المعتزلة فسمّت من يرجو العفو مرجئاً، وانّما يجب أن يسمّى راجياً، ولا طريق إلى القطع على العفو، وانّما هو الرجاء فقط .

ويعتقد أنّ لرسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والأئمّة من بعده _ عليهم السلام _ شفاعة مقبولة يوم القيامة، ترجى للمؤمنين من مرتكبي الآثام .

ولا يجوز أن يقطع الإنسان على أنّه مشفوع فيه على كل حال، ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال، وانّما يجب أن يكون المؤمن واقفاً بين الخوف والرجاء .

ويعتقد أنّ المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين، يؤمر بهم يوم

____________________________

1 . صرّح بهذا المفيد اُستاذ المؤلّف في كتابه أوائل المقالات ص 48 ونسبه إلى اتّفاق الإمامية، أمّا الخوارج فتسمّي مرتكب الكبيرة مشركاً وكافراً، والحسن البصري اُستاذ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، سمّاهم منافقين، وأمّا واصل بن عطاء فوضعهم في منزلة بين منزلتين، وقال إنّهم فسّاق ليسوا بمؤمنين، ولا كفّار، ولا منافقين.

2 . التوبة / 106 .

( 264 )

القيامة إلى

الجنّة بغير حساب.

وأنّ جميع الكفار والمشركين، ومن لم تصحّ له الاُصول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب، وانّما يحاسب من خلط عملا صالحاً وآخر سيّئاً، وهم العارفون العصاة .

وأنّ أنبياء اللّه تعالى وحججه _ عليهم السلام _ هم في القيامة المسؤولون للحساب باذن اللّه تعالى، وأنّ حجّة أهل كل زمان يتولّى أمر رعيته الذين كانوا في وقته.

وأنّ سيّدنا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والأئمّة الاثنا عشر من بعده _ عليهم السلام _ هم أصحاب الأعراف وهم الذين لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ويدخل النار من أنكرهم وأنكروه .

وأنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يحاسب أهل وقته وعصره، وكذلك كل إمام بعده .

وأنّ المهدي _ عليه السلام _ هو المواقف لأهل زمانه، والمسائل للذين في وقته .

وأنّ الموازين (الّتي) توضع في القيامة، هي اقامة العدل في الحساب، والانصاف في الحكم والمجازاة، وليست في الحقيقة موازين بكفات وخيوط كما يظن العوام .

وأنّ الصراط المستقيم في الدنيا دين محمّد وآل محمّد _ عليه وعليهم السلام _، وهو في الآخرة طريق الجنان .

وأنّ الأطفال والمجانين والبله من الناس، يتفضّل عليهم في القيامة، بأن تكمل عقولهم، ويدخلون الجنان .

وأنّ نعيم أهل الجنّة متصل أبداً بغير نفاد، وأنّ عذاب المشركين والكفّار

( 265 )

متّصل في النار بغير نفاد .

ويجب أن يؤخذ معالم الدين في الغيبة من أدلّة العقل، وكتاب اللّه عزّوجلّ، والأخبار المتواترة عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وعن الأئمّة _ عليهم السلام _ (1) وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية، واجماعها حجّة .

فأمّا عند ظهور الإمام _ عليه السلام _ فإنّه المفزع عند

المشكلات، وهو المنبّه على العقليات، والمعرّف بالسمعيات، كما كان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

ولا يجوز استخراج الأحكام في السمعيات بقياس ولا اجتهاد(2) .

فأمّا العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد، ويجب على العاقل مع هذا كلّه ألاّ يقنع بالتقليد في الاعتقاد وأن يسلك طر يق التأمل والاعتبار، ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقل من نظره لنفسه في دنياه، فإنّه في اُمور الدنيا يحتاط ويحترز، ويفكّر ويتأمّل، ويعتبر بذهنه، ويستدل بعقله، فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال، فالغرر في أمر الدين أعظم من الغرر في أمر الدنيا .

____________________________

1 . ما ذكره هو رأي جماعة من علماء الإمامية، كالشريف المرتضى، وابن زهرة، وابن البراج، والطبرسي، وابن إدريس وغيرهم، فقد ذهب هؤلاء إلى عدم اعتبار الخبر الواحد إذا لم يكن مقطوع الصدور عن المعصوم وخصّوا اعتباره بما إذا كان قطعي الصدور، سواء أكان محتفّاً بقرينة عقلية أو نقلية اُخرى، فالمهم لدى هؤلاء في اعتبار الخبر أن يفضي إلى العلم، ولو كان ذلك لاجماع أو شاهد عقلي، بل صرّح المفيد في أوائل المقالات بأنّه لا يجب العمل بخبر الواحد .

أمّا المشهور بين الإمامية بل المجمع عليه بين المتأخّرين منهم فاعتبار الخبر الواحد لقيام الدليل على حجّيته، ولكل من الفريقين أدلّة على دعواه مذكورة في كتب الاُصول .

2 . المراد بالاجتهاد هنا ليس هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، وانّما المراد به الاعتماد على الرأي والاستحسان والقياس، من دون الرجوع إلى القواعد والاُصول الّتي ثبتت حجّيتها شرعاً .

( 266 )

فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلاّ ما صحّ عنده حقّه، ولا يسلم في السمعيات إلاّ لمن ثبت له صدقه .

نسأل اللّه حسن التوفيق

برحمته، وألاّ يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته.

قد اثبتُّ لك يا أخي _ أيّدك اللّه _ ما سألت، اقتصرت وما أطلت .

والّذي ذكرت أصل لما تركت، والحمدللّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وسلّم(1) .

* * *

7- العقائد الجعفرية تأليف الشيخ الطوسي «385 _ 460»:

الشيخ الطوسي، هو شيخ الطائفة على الاطلاق تلميذ المفيد والمرتضى وقد ورد بغداد عام 408 وحضر في أندية دروس اُستاذه المفيد، فلمّا لبّى الاُستاذ دعوة ربّه حضر لدى المرتضى إلى أن اشتغل بالتدريس والافتاء في عصره وبعده، وله رسائل وكتب كلامية مفعمة بالتحقيق، نأتي في المقام بموجز ما دوّنه في عقائد الشيعة في خمسين مسألة .

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدللّه ربّ العالمين .

والصلواة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وآله المعصومين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وجعل كل واحد منهم على الخلق بعد الرسول أميراً .

قال الإمام شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد الطوسي:

____________________________

1 . أدرج المصنف الرسالة في كتابه القيم: كنز الفوائد لاحظ 240 - 252 .

( 267 )

«المسألة 1» معرفة اللّه واجبة على كل مكلّف، بدليل أنّه منعم، فيجب معرفته .

«المسألة 2» اللّه تعالى موجود، بدليل أنّه صنع العالم، وأعطاه الوجود، وكل من كان كذلك فهو موجود.

«المسألة 3» اللّه تعالى واجب الوجود لذاته، بمعنى أنّه لا يفتقر في وجوده إلى غيره، ولا يجوز عليه العدم، بدليل أنّه لوكان ممكناً لا فتقر إلى صانع، كافتقار هذا العالم، وذلك محال على المنعم المعبود.

«المسألة 4» اللّه تعالى قديم أزلي، بمعنى أنّ وجوده لم يسبقه العدم. باق أبدي، بمعنى أنّ وجوده لن يلحقه العدم .

«المسألة 5» اللّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه إن شاء أن يفعل فعل، وإن شاء أن يترك ترك، بدليل أنّه صنع العالم

في وقت دون آخر.

«المسألة 6» اللّه تعالى قادر على كل مقدور، وعالم بكل معلوم، بدليل أنّ نسبة جميع المقدورات والمعلومات إلى ذاته المقدّسة المنزّهة على السوية، فاختصاص قدرته تعالى وعلمه ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وهو محال.

«المسألة 7» اللّه تعالى عالم، بمعنى أنّ الأشياء منكشفة واضحة له، حاضرة عنده غير غائبة عنه، بدليل أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة، وكل من فعل ذلك فهو عالم بالضرورة .

«المسألة 8» اللّه تعالى يدرك لا بجارحة، بل معنى أنّه يعلم ما يدرك بالحواس، لأنّه منزّه عن الجسم ولوازمه، بدليل قول تعالى: (لا تُدْرِكُهُ

( 268 )

الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ)(1) فمعنى قوله تعالى: (إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير)(2) انّه عالم بالمسموعات لا باُذن، وبالمبصرات لابعين.

«المسألة 9» اللّه تعالى حي، بمعنى أنّه يصحّ منه أن يقدر ويعلم. بدليل أنّه ثبتت له القدرة والعلم وكل من ثبتت له ذلك فهو حي بالضرورة .

«المسألة 10» اللّه تعالى متكلّم لا بجارحة، بل معنى أنّه أوجد الكلام في جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، لإيصال عظمته إلى الخلق، بدليل قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللّهُ موسى تَكْلِيماً)(3)ولأنّه قادر، فالكلام ممكن .

«المسألة 11» اللّه تعالى صادق، بمعنى انّه لا يقول إلاّ الحق الواقع، بدليل أنّ كل كذب قبيح، واللّه تعالى منزّه عن القبيح .

«المسألة 12» اللّه تعالى مريد، بمعنى أنّه رجّح الفعل إذا علم المصلحة (يعني أنّه غير مضطر وأنّ ارادته غير واقعة تحت ارادة اُخرى، بل هي الارادة العليا الّتي إن رأى صلاحاً فعل، وإن رأى فساداً لم يفعل، باختيار منه تعالى) بدليل أنّه ترك ايجاد بعض الموجودات في وقت دون وقت، مع علمه وقدرته _ على كل حال _ بالسوية. ولأنّه

نهى وهو يدل على الكراهة .

«المسألة 13» انّه تعالى واحد، بمعنى انّه لا شريك له في الالوهية، بدليل قوله (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد)(4) ولأنّه لو كان له شريك لوقع التمانع، ففسد النظام، كما قال: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا)(5) .

____________________________

1 . الأنعام / 103 .

2 . الإسراء / 1، غافر / 56 .

3 . النساء / 164 .

4 . الإخلاص / 1 .

5 . الأنبياء / 22 .

( 269 )

«المسألة 14» اللّه تعالى غير مركّب من شيء، بدليل أنّه لو كان مركّباً لكان مفتقراً إلى الأجزاء، والمفتقر ممكن .

«المسألة 15» اللّه تعالى ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر، بدليل أنّه لو كان أحد هذه الأشياء لكان ممكناً مفتقراً إلى صانع، وهو محال.

«المسألة 16» اللّه تعالى ليس بمرئي بحاسة البصر في الدنيا والآخرة، بدليل انّه تعالى مجرّد، ولأنّ كل مرئي لابد أن يكون له الجسم والجهة، واللّه تعالى منزّه عنهما ولأنّه تعالى قال: (لَنْ تَرَانِى)(1)وقال: (لا تُدْرِكُهُ الأَبصارُ)(2) .

«المسألة 17» اللّه تعالى ليس محلاّ للحوادث، وإلاّ لكان حادثاً، وحدوثه محال.

«المسألة 18» اللّه تعالى لا يتّصف بالحلول، بدليل أنّه يلزم قيام الواجب بالممكن وذلك محال .

«المسألة 19» اللّه تعالى لا يتّحد بغيره، لأنّ الاتّحاد صيرورة الشيء واحداً من غير زياده ونقصان، وذلك محال، واللّه لا يتّصف بالمحال .

«المسألة 20» اللّه تعالى منفي عنه المعاني والصفات الزائدة، بمعنى أنّه ليس عالماً بالعلم، ولا قادراً بالقدرة (بل علم كلّه، وقدرة كلّها)، بدليل أنّه لوكان كذلك لزم كونه محلاّ للحوادث لو كانت حادثة، وتعدّد القدماء لو كانت قديمة، وهما محالان، وأيضاً لزم افتقار الواجب إلى صفاته المغايرة له، فيصير ممكناً وهو ممتنع .

«المسألة 21» اللّه تعالى غني، بمعنى

أنّه غير محتاج إلى ما عداه،

____________________________

1 . الأعراف / 143 .

2 . الأنعام / 103 .

( 270 )

والدليل عليه أنّه واجب الوجود لذاته، فلا يكون مفتقراً .

«المسألة 22» اللّه تعالى ليس في جهة، ولا مكان، بدليل أنّ كل ما في الجهة والمكان مفتقر إليهما،وأيضاً قد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، فلا يكون في المكان والجهة .

«المسألة 23» اللّه تعالى ليس له ولد، ولا صاحبة، بدليل أنّه قد ثبت عدم افتقاره إلى غيره، ولأنّ كل ما سواه تعالى ممكن، فكيف يصير الممكن واجباً بالذات، ولقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ)(1) و (مَثَلَ عِيسى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب)(2) .

«المسألة 24» اللّه تعالى عدل حكيم، بمعنى أنّه لا يفعل قبيحاً ولا يخل بالواجب بدليل أنّ فعل القبيح قبيح، والاخلال بالواجب نقص عليه، فاللّه تعالى منزّه عن كل قبيح واخلال بالواجب .

«المسألة 25» الرضا بالقضاء والقدر واجب، وكل ما كان أو يكون فهو بالقضاء والقدر ولا يلزم بهما الجبر والظلم، لأنّ القدر والقضاء هاهنا بمعنى العلم والبيان، والمعنى أنّه تعالى يعلم كل ما هو (كائن أو يكون)(3) .

«المسألة 26» كل ما فعله اللّه تعالى فهو أصلح، وإلاّ لزم العبث، وليس تعالى بعابث، لقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً)(4) .

«المسألة 27» اللّطف على اللّه واجب، لأنّه خلق الخلق، وجعل فيهم الشهوة، فلو لم يفعل اللطف لزم الاغراء، وذلك قبيح، (واللّه لا يفعل القبيح)

____________________________

1 . الشورى / 11 .

2 . آل عمران/ 59 .

3 . الاضافة منّا لإكمال العبارة .

4 . المؤمنون / 115 .

( 271 )

فاللطف هو نصب الأدلّة، واكمال العقل، وارسال الرسل في زمانهم، وبعد انقطاعهم ابقاء الإمام، لئلاّ ينقطع خيط غرضه .

«المسألة 28»

نبيّنا «محمّد بن عبداللّه بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف» رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حقاً صدقاً. بدليل أنّه ادّعى النبوّة، وأظهر المعجزات على يده، فثبت أنّه رسول حقّاً، وأكبر المعجزات «القرآن الحميد» والفرقان المجيد الفارق بين الحق والباطل، باق إلى يوم القيامة، حجّة على كافّة النسمة .

ووجه كونه معجزاً: فرط فصاحته وبلاغته، بحيث ما تمكّن أحد من أهل الفصاحة والبلاغة حيث تحدّوا به، أن يأتوا ولو بسورة صغيرة، أو آية تامّة مثله.

«المسألة 29» كان نبيّنا نبياً على نفسه قبل البعثة، وبعده رسولا إلى كافّة النسمة لأنّه قال «كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين» وإلاّ لزم تفضيل المفضول، وهو قبيح .

«المسألة 30» جميع الأنبياء كانوامعصومين، مطهّرين عن العيوب والذنوب كلّها، وعن السهو والنسيان في الأفعال والأقوال، من أوّل الأعمار إلى اللحد، بدليل أنّهم لو فعلوا المعصية أو يطرأ عليهم السهو لسقط محلّهم من القلوب، فارتفع الوثوق والاعتماد على أقوالهم وأفعالهم، فتبطل فائدة النبوّة، فما ورد في الكتاب (القرآن) فيهم فهو واجب التأويل .

«المسألة 31» يجب أن يكون الأنبياء أعلم وأفضل أهل زمانهم، لأنّ تفضيل المفضول قبيح .

«المسألة 32» نبيّنا خاتم النبيين والمرسلين، بمعنى أنّه لانبي بعده إلى يوم القيامة، يقول تعالى: (ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُول اللّهِ

( 272 )

وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(1) .

«المسألة 33» نبيّنا أشرف الأنبياء والمرسلين، لأنّه ثبتت نبوّته، وأخبر بأفضليته فهو أفضل، لمّا قال لفاطمة _ عليها السلام _ : «أبوك خير الأنبياء، وبعلك خير الأوصياء، وأنت سيدة نساء العالمين، وولدك الحسن والحسين _ عليهما السلام _ سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما»(2) .

«المسألة 34» معراج الرسول بالجسم العنصري علانية، غير منام، حق، والأخبار

عليه بالتواتر ناطقة، صريحة، فمنكره خارج عن الإسلام وأنّه مر بالأفلاك من أبوابها من دون حاجة إلى الخرق والالتيام، وهذه الشبهة الواهية مدفوعة مسطورة بمحالها .

«المسألة 35» دين نبيّنا ناسخ للأديان السابقة، لأنّ المصالح تتبدل حسب الزمان والأشخاص كما تتبدّل المعاجلات لمريض بحسب تبدل المزاج والمرض .

«المسألة 36» الإمام بعد نبيّنا علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ بدليل قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «يا علي أنت أخي ووارث علمي وأنت الخليفة من بعدي، وأنت قاضي ديني، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لانبي بعدي»(3). وقوله: «سلّموا على علي بإمرة المؤمنين، واسمعوا له وأطيعوا له، وتَعَلّموا منه ولا تُعَلّموه»(4)، وقوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من

____________________________

1 . الأحزاب / 40 .

2 . راجع ينابيع المودّة 434 _ 436 .

3 . راجع صحيح مسلم 7 / 120 _ 121، باب فضائل علي _ عليه السلام _ ، وصحيح البخاري 5 / 19 باب مناقب علي _ عليه السلام _ و 6/ 3 باب غزوة تبوك، ومسند أحمد 1 / 174 _ 177 و 3 / 32، و 6 / 369 .

4 . راجع البحار 37 / 290 _ 340 .

( 273 )

عاداه»(1) .

«المسألة 37» الأئمّة بعد علي _ عليهم السلام _ أحد عشر من ذرّيته، الأوّل منهم ولده الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ الخلف الحجّة القائم المهدي الهادي بن الحسن صاحب

الزمان فكلّهم أئمّة الناس واحد بعد واحد، حقّاً، بدليل أنّ كل إمام منهم نصّ على من بعده نصّاً متواتراً بالخلافة، وقوله: «الحسين إمام، ابن إمام، أخو الامام، ابو الأئمّة التسعة، تاسعهم قائمهم، يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً» .

«المسألة 38» يجب أن يكون الأئمّة معصومين مطهّرين من الذنوب كلّها، صغيرة وكبيرة، عمداً وسهواً، ومن السهو في الأفعال والأقوال، بدليل أنّهم لو فعلوا المعصية لسقط محلهم من القلوب، وارتفع الوثوق، وكيف يهدون بالضالّين المضلّين، ولا معصوم غير الأئمّة الاثني عشر اجماعاً، فثبت إمامتهم .

«المسألة 39» يجب أن يكون الأئمّة أفضل وأعلم، ولو لم يكونوا كذلك للزم تفضيل المفضول، أو الترجيح بلا مرجح، ولا يحصل الانقياد به، وذلك قبيح عقلا ونقلا، وفضل أئمّتنا وعلمهم مشهور، بل أفضليتهم أظهر من الشمس وأبين من الأمس .

«المسألة 40» يجب أن نعتقد أنّ آباء نبيّنا وأئمّتنا مسلمون أبداً، بل أكثرهم كانوا أوصياء، فالأخبار عند أهل البيت على إسلام أبي طالب مقطوعة

____________________________

1 . راجع مسند أحمد 1 / 84 _ 152 و 4 / 281 و 370 و 372 و 5 / 366 _ 419، سنن الترمذي 5 / 633 .

( 274 )

وسيرته أدلّة عليه، ومثله مؤمن آل فرعون .

«المسألة 41» الإمام المهدي المنتظر محمّد بن الحسن قد تولّد في زمان أبيه، وهو غائب حي باق إلى بقاء الدنيا، لأنّ كل زمان لابد فيه من إمام معصوم، لما انعقد عليه اجماع الاُمّة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة ظاهرة مشهورة، أو خافية مستورة، ولأنّ اللطف في كل زمان واجب، والإمام لطف، فوجوده واجب .

«المسألة 42» لا استبعاد في طول عمره، لأنّ غيره من الاُمم السابقة قد عاش ثلاثة آلاف

سنة فصاعداً، كشعيب ونوح ولقمان وخضر وعيسى _ عليهم السلام _ وابليس والدجّال، ولأنّ الأمر ممكن، واللّه قادر على جميع الممكنات .

«المسألة 43» غيبة المهدي لا تكون من قبل نفسه، لأنّه معصوم، فلا يخل بواجب، ولا من قبل اللّه تعالى، لأنّه عدل حكيم فلا يفعل القبيح، لأنّ الإخفاء عن الأنظار وحرمان العباد عن الافادات قبيحان. فغيبته لكثرة العدو والكافر، ولقلّة الناصر .

«المسألة 44» لابد من ظهور المهدي، بدليل قول النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «لو لم يبق من الدنيا إلاّ ساعة واحدة لطوّل اللّه تلك الساعة حتّى يخرج رجل من ذرّيتي، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1). ويجب على كل مخلوق متابعته .

«المسألة 45» في غيبة الامام فائدة، كما تنير الشمس تحت السحاب، والمشكاة من وراء الحجاب .

____________________________

1 . راجع سنن أبي داود 4 / 106 _ 107، كنز العمال 14 / 264 _ 267 .

( 275 )

«المسألة 46» يرجع نبيّنا وأئمّتنا المعصومون في زمان المهدي مع جماعة من الاُمم السابقة واللاحقة، لاظهار دولتهم وحقهم، وبه قطعت المتواترات من الروايات والآيات لقوله تعالى: (وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ اُمَّة فَوْجاً)(1) فالاعتقاد به واجب .

«المسألة 47» إنّ اللّه يعيد الأجسام الفانية كما هي في الدنيا، ليوصل كل حق إلى المستحقين، وذلك أمر ممكن، والأنبياء أخبروا به، لا سيّما القرآن المجيد مشحون به ولا مجال للتأويل، فالاعتقاد بالمعاد الجسماني واجب .

«المسألة 48» كل ما أخبر به النبي أو الإمام فاعتقاده واجب، كاخبارهم عن نبوّة الأنبياء السابقين، والكتب المنزلة، ووجود الملائكة، وأحوال القبر وعذابه، وثوابه وسؤال منكر ونكير، والاحياء فيه، وأحوال القيامة وأهوالها، والنشور، والحساب والميزان، والصراط، وانطاق

الجوارح، ووجود الجنّة والنار والحوض الّذي يسقي منه أميرالمؤمنين العطاشى يوم القيامة، وشفاعة النبي والأئمّة لأهل الكبائر من محبيه إلى غير ذلك، بدليل أنّه أخبر بذلك المعصومون .

«المسألة 49» التوبة _ وهي الندم على القبيح في الماضي، والترك في الحال، والعزم على عدم المعاودة إليه في الاستقبال _ واجبة، لدلالة السمع على وجوبها، ولأنّ دفع الضرر واجب عقلا .

«المسألة 50» الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجبان، بشرط تجويز التأثير والأمن من الضرر(2).

* * *

____________________________

1 . النمل / 83. أصل الرجعة اجماعىّ والكيفية الواردة في المتن ليست كذلك .

2 . طبعت الرسالة مع جواهر الفقه للقاضي ابن البراج وفي ضمن الرسائل العشر للشيخ الطوسي _ قدس سره _ .

( 276 )

ماهو الهدف من نقل هذه الرسائل:

1- إنّ هذه الرسائل لدليل واضح على أنّ جلّ عقائد الشيعة، مأخوذة من الكتاب والسنّة وكلمات أئمّتهم، وأنّ الشيعة كانت في أواخر القرن الثاني ذات عقائد منتظمة ومستوعبة لجميع ما يرتبط بالمعارف الإلهية فترى أنّ ما كتبه الإمام الرضا، وما عرضه السيد عبدالعظيم الحسني على الإمام الهادي، هو السائد في هذه الرسائل .

2- يوجد في ثنايا هذه الرسائل آراء خاصّة لمؤلّفيها، ربّما يقع فيها النقاش والجدال والخلاف مع غيرهم من علماء الشيعة، فليس كل ما جاء فيها عقيدة لجميع علماء الشيعة ومؤلّفيهم ولكن المجموع من حيث المجموع تمثّل عقائد الشيعة في مجال صفاته سبحانه وأفعاله، وما يرجع إلى النبوّة والإمامة، والحياة الأخروية، خصوصاً فيما يرجع إلى الاعتقاد بمقامات الأئمّة وصفاتهم. فمن يريد أن يتعرّف على عقائد الشيعة فليرجع إليها بدل الرجوع إلى الكتب المؤلّفة من قبل أعدائهم وخصمائهم .

3- إنّ الإمعان في الاُصول الّتي جاءت في هذه الكتب والرسائل يعرب عن

موافقة الشيعة في أكثر المسائل العقائدية لعامّة المسلمين. وربّما يختلفون عنهم في اُصول تختص بمجال الإمامة والقيادة بعد الرسول. وبما أنّ الأشاعرة والمعتزلة كانتا تمثّلان جمهور المسلمين في العصور المتقدّمة. نذكر في المقام الفوارق الجوهرية بين الشيعة والمعتزلة أوّلا، وبين الشيعة و الأشاعرة ثانياً، ثمّ نكمل البحث عن الفوارق الموجودة بينهم وبين سائر الفرق الإسلامية .

الفوارق بين الشيعة والمعتزلة:

إنّ هناك فوارق بين الطائفتين ربّما أشبعنا الكلام فيها في الجزء الرابع من هذه

( 277 )

الموسوعة، وذكرنا بأنّ من يتّهم الشيعة بأنّهم أخذوا عقائدهم من المعتزلة فهو خاطىء، فنشير في المقام إلى هذه الفوارق على وجه الاجمال، وإن كانت بين الطائفتين اُصول مشتركة ربّما تقف عليها عند بيان الفوارق بين الشيعة والأشاعرة.

1- الشفاعة: أجمع المسلمون كافّة على ثبوت أصل الشفاعة وأنّها تقبل من الرسول الأكرم واختلفوا في تعيين المشفَّع، فقالت الإمامية والأشاعرة: إنّ النبي يشفع لأهل الكبائر باسقاط العقاب عنهم أو باخراجهم من النار، وقالت المعتزلة، لا يشفع إلاّ للمطيعين، المستحقّين للثواب وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.

2- مرتكب الكبيرة: عند الامامية والأشاعرة مؤمن فاسق، وقالت المعتزلة: بل منزلة بين المنزلتين .

3- الجنّة والنار: قالت الإمامية والأشاعرة انّهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة على أنّهما غير موجودتين .

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اتّفق المسلمون على وجوبهما، فقالت الإمامية والأشاعرة: يجبان سمعاً، ولولا النص لم يكن دليل على الوجوب، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا بوجوبهما عقلا .

5- الأحباط: اتّفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الاحباط، وقالوا: لكل عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي ولا المعاصي بالطاعات، والاحباط يختص بذنوب خاصة كالشرك وما يتلوه، بخلاف المعتزلة حيث قالوا: إنّ المعصية المتأخّرة تسقط الثواب المتقدم، فمن عبَدَ اللّه

طول عمره ثمّ كذب فهو كمن لم يعبد اللّه أبداً .

6- الشرع والعقل: غالت المعتزلة في تمسّكهم بالعقل وغال أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص وخالفهما الإمامية والأشاعرة، فأعطوا للعقل سهماً فيما

( 278 )

له مجال القضاء نعم أعطت الإمامية للعقل مجالا أوسع ممّا أعطته الأشاعرة. وسيوافيك تفصيله عند ذكر اختلاف الإمامية مع الأشاعرة .

7- اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّه ولا يجب عقلا اسقاطها للعقاب. وقالت المعتزلة: إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب .

8- اتفقت الإمامية على أنّ الأنبياء افضل من الملائكة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك .

9- اتفقت الإمامية على أنّ الإنسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه، بل هو في ذلك المجال بين أمرين، بين الجبر والتفويض، وأجمعت المعتزلة على التفويض .

10- اتفقت الامامية والأشاعرة أنّه لابد في أوّل التكليف وابتدائه من رسول، وخالفت المعتزلة وزعموا أنّ العقول تعمل بمجردها عن السمع(1) .

هذه هي الاُصول الّتي خالفت الإمامية فيها المعتزلة ووافقت الأشاعرة، وهناك اُصول اُخرى تجد فيها موافقة الإمامية للمعتزلة ومخالفتها للأشاعرة، وإليك بعضها:

الفوارق بين الإمامية والأشاعرة:

هناك اُصول خالفت الإمامية فيها، الأشاعرة، مخالفة بالدليل والبرهان وتبعاً لأئمّتهم، ونذكر المهم منها:

1- اتّحاد الصفات الذاتية مع الذات: إنّ للّه سبحانه صفاتاً ذاتية كالعلم

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على هذه الاُصول الّتي خالفت الامامية والأشاعرة فيها المعتزلة الجزء الرابع من هذه الموسوعة ص 180 تجد فيه الفوارق الاُخر لم نذكرها اختصاراً .

( 279 )

والقدرة فهي عند الأشاعرة صفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها، وهي عند الإمامية والمعتزلة متّحدة مع الذات. وقد ذكرنا مضاعفات القول بالزيادة في الجزء الثاني من هذه الموسوعة .

2- الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنّة، كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها،

فالشيعة الإمامية يؤوّلونها تأويلا مقبولا، لاتأويلا مرفوضاً، أي تأخذ بالمفهوم التصديقي للجملة، لا بالمفهوم التصوّري للمفردات، فيقولون إنّ معنى (بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء)(1) معناه: أنّه بريء من البخل، بل هو باذل وسخي، وقادر على البذل. وأمّا الاشاعرة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوّري ويقولون إنّ للّه سبحانه يدين غير أنّهم يتهرّبون عن التجسيم والتشبيه بقولهم: بلا كيف، وقد أوضحنا مضاعفات هذا القول عند البحث عن عقائدهم في الجزء الثاني .

3- أفعال العباد عند الامامية صادرة من نفس العباد، صدوراً حقيقياً بلا مجاز أو توسّع، فالإنسان هو الضارب، هو الآكل، هو القاتل، هو المصلّي، هو القارئ وهكذا، وقد قلنا: إنّ استعمال كلمة «الخلق» في أفعال الإنسان، استعمال غير صحيح فلا يقال: خلقت الأكل والضرب والصوم والصلاوة، وإنّما يقال: فعلتها فالصحيح أن يقال: إنّ الإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مكتسبة من اللّه، وانّ قدرته المكتسبة هي المؤثّرة باذن من اللّه سبحانه .

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه، فليس للإنسان فيها صنع ولا دور، وليس لقدرته أي تأثير في تحقّق الفعل، وأقصى ما عندهم أنّ إرادة الإنسان للعقل تقارن ايجاد اللّه سبحانه فعله في عالم التكوين والوجود .

____________________________

1 . المائدة / 64 .

( 280 )

ولمّا رأى الشيخ الأشعري وأتباعه أنّ ذلك عبارة عن نفس القول بالجبر، واقصاء الإنسان عن أفعاله، وبالتالي براءته من مسؤوليتها، ابتدعوا نظرية الكسب المعقدة فقالوا: إنّ اللّه هو الخالق والإنسان هو الكاسب، وقد ذكرنا أنّ نظرية الكسب من الألغاز الّتي لم يفهمها مخترعوها .

4- إنّ الاستطاعة في الإنسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة، وتتقدّم عليه اُخرى. فلو اُريد من القدرة العلّة التامّة فهي مقارنة، ولو اُريد العلّة الناقصة فهي

متقدّمة خلافاً للأشاعرة، فقد قالوا بالتقارن مطلقاً .

5- رؤية اللّه بالأبصار في الآخرة، فهي مستحيلة عند الإمامية والمعتزلة، ممكنة عند الاشاعرة.

6- كلامه سبحانه عند الامامية هو فعله، فهو حادث لا قديم، وهذا خلافاً للأشاعرة: فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات .

7- التحسين والتقبيح العقليان، ذهبت الامامية إلى أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، بمعنى أنّ نفس الفعل من أي فاعل صدر، سواء أكان الفاعل قديماً أو حادثاً، واجباً أو ممكناً، يتّصف بأحدهما فيرى مقابلة الإحسان بالإحسان أمراً حسناً، ومقابلته بالاساءة أمراً قبيحاً، ويتلقّاه حكماً مطلقاً سائداً على مرّ الحقب والأزمان، لا يغيّره شيء، وهذا خلافاً للأشاعرة، فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح وبذلك خالفوا الامامية والمعتزلة في الفروع المترتّبة عليه(1) .

هذه هي الاُصول التي تخالف الامامية فيها الأشاعرة وربّما توافقهم المعتزلة في جميعها أو أكثرها. كل ذلك يثبت أنّ للشيعة الامامية منهجاً كلامياً خاصّاً نابعاً من

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على هذه الاُصول المترتّبة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين الجزء الثاني من هذه الموسوعة 289 _ 292 .

( 281 )

الكتاب والسنّة، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة من عصر الفضل بن شاذان (ت 260) إلى عصر شيخنا الطوسي (385 _ 460) ومن بعده بقليل، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متزّناً واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض، وعلى تلك الاُصول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية، فألّف الشيخ الحلبي (374 _ 447) «تقريب المعارف» والشيخ سديد الدين الحمصي (ت 600) كتابه «المنقذ من التقليد» وتوالى بعدهم

التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي (597 _ 672) ومعاصره ابن ميثم البحراني (ت 589) وتلميذه العلاّمة الحلّي (648 _ 726) وهكذا... كل ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا اُصول العقائد، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية، اُعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك_ «الشافي»(1) و«الذخيرة»(2) يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية كما أنّ الناظر في كتب العلاّمة الحلّي المختلفة ك_ «كشف المراد»(3) و«نهاية المرام»(4) وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون، فبلغت غايتها القصوى .

وقد توالى التأليف في عقائد الشيعة واُصولهم من العصور الاُولى إلى يومنا هذا، ولا يحصيها إلاّ محصي قطرات المطر وذرّات الرمال .

____________________________

1 . المطبوع في بيروت في أربعة أجزاء .

2 . المطبوع في ايران في جزأين .

3 . الكتاب الدراسي في الجامعات الشيعية .

4 . مخطوط نحتفظ منها بنسخة وهي في يد التحقيق .

( 282 )

هذا وانّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الاُصول طائفة من الطوائف الإسلامية ووافقوا طوائف اُخرى، ولكن هناك اُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات .

أفما آن للمسلمين أن يتّحدوا في ظلال هذه الاُصول المؤلّفة لقلوبهم، ويتظلّلوا بظلالها، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى، ويكون شعارهم: انّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، وأن لا يصغوا إلى النعرات المفرّقة، المفترية على الشيعة وأئمّتهم، وليكن شعارنا في التأليف: التحقيق والتاكّد من عقائد الآخرين، ثمّ التدوين .

الفوارق بين الشيعة وسائر الفرق:

إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين، فهلّم معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف

الّتي صيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين، وأكثرها يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرم، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال:

( 283 )

المسألة الأُولى:

وجوب تنصيب الإمام على اللّه سبحانه

اتّفقت الاُمّة الإسلامية على وجوب نصب الامام، سوى العجاردة من الخوارج، ومعهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (237)(1) فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام، إمّا على اللّه سبحانه كما عليه الشيعة، وإمّا على الاُمّة كما عليه غيرهم، فوجوب نصب الامام لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك .

وليس المراد من وجوبه على اللّه سبحانه، هو إصدار الحكم من العباد على اللّه سبحانه، حتّى يقال (إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ)(2) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة، أنّ العقل

____________________________

1 . ادّعت العجاردة بأنّ الواجب على الاُمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإماتة الباطل، ومع قيام الاُمّة بهذا الواجب لا يبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد، أمّا إذا اختلفت الاُمّة ولم تتعاون على نشر العدل واحقاق الحق فيجب عليها تعيين من يقوم بهذه المهمات، وعلى ذلك فالإمامة لا تجب بالشرع ولا بالعقل، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً، وقد تعرّفت على عقيدة الخوارج في الموضوع في الجزء الخامس من هذه الموسوعة .

2 . يوسف / 40 .

( 284 )

حسب التعرّف على صفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه، وإلاّ فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على اللّه سبحانه .

ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على اللّه أو على الاُمّة، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والامامة عن رسول اللّه. فمن ينظر إلى الامام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلاّ تأمين الطرق والسبل، وتوفير الأرزاق، واجراء

الحدود، والجهاد في سبيل اللّه، إلى غيرذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول باشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الاُمّة، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلاّ الكفاءة والمقدرة على تدبير الاُمور وهذا ما يمكن أن تقوم به الاُمّة الإسلامية، وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى) فمن المعلوم إنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلاّ إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبي في علمه بالاُصول والفروع، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الاُمّة إلاّ عن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلاّ بتربية غيبيّة.

فقد ظهر من ذلك انّ كون القيادة الإسلامية بعد النبي بيداللّه أو بيد الاُمّة، أو انّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة .

فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الاُمّة بأحد الطرق، قال في حقه: «لا ينخلع الامام بفسقه وظلمه بغصب الاُموال وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب

( 285 )

وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء ممّا يدعوا إليه من معاصي اللّه»(1) .

فمن قال: بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء، تنتخبه الاُمّة الإسلامية قال في حقه: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة اُمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة اللّه فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما»(2).

وقد درج على هذه

الفكرة متكلّمو السنّة ومحدّثوهم، حتّى قال التفتازاني: «ولا ينعزل الامام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى، والجور (الظلم على عباد اللّه) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كتب الشافعية: انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الامام، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة، لما له من الشوكة، بخلاف القاضي»(3).

ومن فسّر الامامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي، فلا مناص له عن القول: بوجوب نصبه على اللّه سبحانه .

____________________________

1 . التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403): 181 .

2 . العقيدة الطحاوية 379 _ 387 .

3 . شرح العقائد النسفية: وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي (ت 573) والشرح لسعد الدين التفتازاني (ت 791): 185 _ 186، ولاحظ في هذا المجال مقالات الاسلاميين للأشعري: 323، واُصول الدين لمحمّد بن عبدالكريم البزدوي إمام الماتريدية: 190 .

( 286 )

وقد استدلّت الامامية على وجوب نصب الامام على اللّه سبحانه: بأنّ وجود الامام الّذي اختاره اللّه سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الاُمّة في مجالي العقيدة والشريعة، كما تترك جدالا ونزاعاً عنيفاً بين الاُمّة في تعيين الامام. فالواجب على اللّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم في علمه بالعقيدة والشريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول، ولمّ شعث الاُمّة، وجمعهم على خط واحد .

والعجب انّ

المعتزلة ممّن تقول: بوجوب اللطف والأصلح على اللّه سبحانه، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته، والّذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على علىّ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللّه سبحانه .

ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من اللّه سبحانه، قام بتطبيق القاعدة، ونصب إماماً للاُمّة، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى، وبذلك حسم مادة النزاع، وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنّه _ وللأسف _ تناست الاُمّة وصية الرسول وأمره، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب، وقامت بينهم المعارك والحروب الّتي اُريقت فيها الدماء واستبيحت الأعراض، وتبدّلت المفاهيم، واختلفت القيم، ومازال ولم تزل معاناة الاُمّة من هذا الانشقاق، وأصبح التقريب فضلا عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين، نسأل اللّه سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الاُمّة ومصلحيهم في المستقبل .

( 287 )

المسألة الثانية:

عصمة الإمام

تفرّدت الامامية من بين الفرق الإسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ، مع اتّفاق غيرم على عدمه .

قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرة إلاّ ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرة إلاّ ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب، هذه هي عقيدة الامامية في الامامة، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا: إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول، وحافظ للشرع،

وقائم بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذب، لا يحصل الغرض من إمامته .

( 288 )

حقيقة العصمة:

العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل، وإلاّ لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلَّب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبداً.

وليست العصمة شيئاً ابتدعتها الشيعة، وإنّما دلَّهم عليهما في حق العترة الطاهرة، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه: (إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرِكُمْ تَطْهِيراً)(1) وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول: «علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار»(2) ومن دار معه الحق كيفما دار، محال أن يعصي أو أن يخطأ، وقول الرسول في حق العترة: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا»(3) فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب، لا يخالف أحدهما الآخر، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول .

وليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة، وسيوافيك بعض دلائلهم .

نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا

____________________________

1 . الأحزاب / 33 .

2 . حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه 14 / 321 والهيثمي في مجمعه 7 / 236 وغيرهما.

3 . حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده 2 / 114 وغيرهم .

( 289 )

على تقديس الحاكم، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية، ولا أعرف أحداً من

العرب قال ذلك في حدود اطلاعي، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتّى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب الّتي تسرَّبت إلى الشيعة(1) .

هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الّذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي الّتي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة، فهل هذه الفكرة تسرّبت إلى أهل السنّة من اليهود .

لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب، بل فرية واضحة .

إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة _ بعد الرسول _ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل، وتعمير البلاد واجراء الحدود، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبىّ ولا يوحى إليه، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي، فلا محيص له عن الالتزام بها، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلاّ أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه .

____________________________

1 . الدكتور نبيه حجاب: مظاهر الشعوبية في الأدب العربي 492، كما في هوية التشيع 166 .

( 290 )

الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبىّ:

استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.

الأوّل: انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة

النبي الأكرم، فلا مناص من لزوم عصمته، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية الّتي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع، ولا يحصل ذلك إلاّ بالوثوق بقوله، والاطمئنان بصحة كلامه، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان، والمعصية والخلاف، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، وضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه، وهذا نفس الدليل الّذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء، والامام وإن لم يكن رسولا ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما .

نعم لو كنت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وغزو العدو و الانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك، لكفى فيه كونه رجلا عادلا قائماً بالوظائف الدينية، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبىّ، فكون الامام عادلا قائماً بالوظائف الدينية، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام .

فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره .

كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات الّتي كان يلقيها أعداء الإسلام .

وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير .

وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل .

فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلاّ بوجود انسان مثالي تقوم

( 291 )

بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان(1) .

الثاني: قوله سبحانه: (أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ)(2) .

والاستدلال مبني على دعامتين:

1- إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، إي في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية .

2- إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (ولا

يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر)(3) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اُولي الأمر .

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب اطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتّصف أولي الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية، لما صحّ الأمر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحَّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة، اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة .

وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الامام والرازي في تفسيره، ويطيب لي

____________________________

1 . هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات 2 / 528 _ 539 .

2 . النساء / 59 .

3 . الزمر / 7 .

( 292 )

أن أذكر نصَّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته قال:

إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً

عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ اُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً(1) .

ولمّا وقف الرازي على تمامية دلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، وهي لا توافق مذهبه في الامامة حاول أن يؤول الآية بما يوافقه مع أنّ الواجب على أمثاله، أن يتعرّف على «اُولي الأمر» الّذي استظهر من الآية كونهم معصومين، ولكنّه زلّت قدمه، ولم يستغل هذه الفكرة، ولم يستثمرها، فأخذ يتهرّب من نتائج الفكرة بالقول بأنّا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فاذا كان الأمر كذلك فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الاُمّة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الاُمّة .

يلاحظ عليه: بأنّه إذا دلّت الآية على عصمة اُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وادّعاء العجز، هروب من الحقيقة فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبىّ وعصر نزول الآية، فبالتعرّف عليهم، يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد

____________________________

1 . مفاتيح الغيب 10 / 144 .

( 293 )

أخرى، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة اُولي الأمر، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم بلسان النبي الأكرم .

إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه باطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه .

ثمّ إنّ تفسير «اُولي الأمر» بأهل الحل والعقد، تفسير للغامض _ حسب نظر الرازي _ بالأغمض إذ هو ليس بأوضح من الأول، فهل المراد منهم: العساكر والضباط، أو العلماء والمحدّثون، أو الحكام والسياسيون أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شيء، ولم يخالفهم لفيف

من المسلمين .

إذا كانت العصمة ثابتة للاُمّة عند الرازي كما علمت، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الاُمّة كالقراء والفقهاء والمحدّثين، هذا هو ابن تيمية يقول في ردّه على الشيعة عند قولهم : انّ وجود الامام المعصوم لابدّ منه بعد موت النبي يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة، يقول: إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الامام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي، وذلك لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال(1) .

يلاحظ عليه: كيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير، و الحديث والأثر، والحكم والفتوى، والعقيدة والنظر، ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول القائل بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الإسلامية .

____________________________

1 . ابن تيمية: منهاج السنّة كما في نظرية الامامية 120 .

( 294 )

الثالث: قوله سبحانه: (وإذِ ابْتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّى جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتى قالَ لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ)(1) .

والاستدلال بالآية على عصمة الامام، يتوقّف على تحديد مفهوم الامامة الواردة في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في اُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبياً ورسولا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الامامة في

المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه:(أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ و آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً)(2) .

فالإمامة الّتي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة، وراء النبوّة والرسالة، وانّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. واللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:

1- يقول سبحانه _ حاكياً قول يوسف _ عليه السلام _ : (رَبِّ قَدْ اَتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ)(3) ومن المعلوم أنّ الملك الّذي منّ به

____________________________

1 . البقرة / 124 .

2 . النساء / 54 .

3 . يوسف / 101 .

( 295 )

سبحانه على عبده يوسف، ليس النبوّة، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. فقوله: (وعلمتني من تأويل الأحاديث) اشارة إلى نبوّته، والملك اشارة إلى سلطته وقدرته .

2- ويقول سبحانه في داود _ عليه السلام _ : (وَ آتاهُ اللّهُ المُلْكَ وَ الحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشآءُ)(1)ويقول سبحانه: (وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ)(2) .

3- ويحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال: (وَهَبْ لِى مُلْكاً لا يَنْبَغِى لأحَد مِنْ بَعْدِى إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ)(3) .

فملاحظة هذه الآيات يفسر لنا حقيقة الامامة، وذلك بفضل الاُمور التالية:

أ _ إنّ إبراهيم طلب المامة لذريته، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب _ إنّ مجموعة من ذرّيته، كيوسف وداود وسليمان، نالوا _ وراء النبوّة والرسالة _ منصب الحكومة والقيادة .

ج _ إنّه سبحانه أعطى آل ابراهيم الكتاب، والحكمة، والملك العظيم .

فمن ضم هذه الاُمور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: انّ

ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع، وهذه هي حقيقة الامامة، غير أنّها ربّما تجتمع مع المقامين الاُخريين، كما في الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ

____________________________

1 . البقرة / 251 .

2 . ص / 20 .

3 . ص / 35 .

( 296 )

بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشآءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَليمٌ)(1) .

والامامة الّتي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم، تتّحد واقعيتها مع هذه الامامة .

ما هو المراد من الظالم:

قد تعرّفت على المقصود من جعل الخليل اماماً إماماً للناس، وانّ المراد هو القيادة الإلهية، وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الّذي ليس له من الإمامة سهم، فنقول:

لمّا خلع سبحانه ثوب الامامة على خليله، ونصبه للناس، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً، اُجيب بأنّ الامامة منصب إلهي، لا يناله الظالمون، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السويّ، والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب .

إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه، والناقض لقوانينه وحدوده، على شفا جرف هار، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصحّ في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً، نافذ القول، مشروع التصرّف. وعلى ذلك، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو

لاذ إلى وثن، وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلا عمّا هو شرك وكفر، ينادى من فوق العرش في حقه: (لا ينال عهدي الظالمين) من غير فرق بين صلاح حالهم بعد تلك الفترة، أو البقاء على ما كانوا عليه .

____________________________

1 . البقرة / 247 .

( 297 )

نعم اعترض «الجصاص» على هذا الاستدلال وقال: «إنّ الآية إنّما تشمل من كام مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة، وزالت تلك الصفة، زال الحكم. ألاترى أنّ قوله: (وَ لا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(1) إنّا ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى: (وَ لا يَنال عَهدِى الظّالِمينَ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه، لأنّه في هذه الحاله لا يسمّى ظالماً، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً»(2) .

يلاحظ عليه: أنّ قوله «الحكم يدور مدار وجود الموضوع» ليس ضابطاً كلياً، بل الأحكام على قسمين، قسم كذلك، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما، ولحظة خاصة، وإن انتفى بعد الاتّصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو: «في سائمة الغنم زكاة» من قبيل القسم الأوّل، وأمّا قوله: «الزاني يحد»، و «السارق يقطع» فالمراد منه انّ الإنسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان، وتاب السارق والزاني، ومثله: «المستطيع يجب عليه الحج» فالحكم ثابت، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور .

وعلى ذلك فالمدعى أنّ «الظالمين» في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية والمستطيع واُمّهات نسائكم في الآيات الراجعة إليهم .

نعم المهم في المقام، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني، وأنّ التلبّس بالظلم ولو آناً ما، يسلب عن الإنسان صلاحية الامامة،

وإن تاب من ذنبه، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:

1- من كان طيلة عمره ظالماً .

____________________________

1 . هود / 113 .

2 . تفسير آيات الأحكام 1 / 72 .

( 298 )

2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.

3- من كان ظالماً في بداية عمره، وتائباً في آخره .

4- من كان طاهراً في بداية عمره، وظالماً في آخره .

عند ذلك يجب أن نقف عن أنّ إبراهيم _ عليه السلام _ ، الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته أىّ قسم منها أراد؟

حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل، والرابع من ذريته، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها .

بقي القسمان الآخران، الثاني والثالث، وقد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث، أعني من كان ظالماً في بداية عمره، وكان تائباً حين التصدي .

فإذا خرج هذا القسم، بقي القسم الثاني، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره، ولم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده أي انحراف عن جادة الحق، ومجاوزة للصراط السوي. وهو يساوي المعصوم .

العصمة في القول والراي:

إنّ الأئمة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلا، وعن الخطأ والزلة في القول ثانياً وما ذلك إلاّ لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلا وتأويلا، ولا شيء من سنّة رسول اللّه قولا وفعلا وتقريراً و كفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلا وعلماً. ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد

جدّهم الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

( 299 )

وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب و السنّة وفهموها عن رسول اللّه تماماً(1) كما أخذها ووعاها رسول اللّه عن جبرائيل، وكما وعاها جبرائيل عن اللّه، ولا فرق أبداً في شيء إلاّ بالواسطة، وقال الشاعر الإمامي في هذا المعنى:

إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهبا * ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك * وأحمد والمروى عن كعب أحبار

و وال اُناساً نقلهم وحديثهم * روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

أخذ علىّ عن النبيّ، وأخذ الحسنان عن أبيهما، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام، ولم ترو أصحاب السير والتواريخ أنّ أحداً من الأئمّة الإثنا عشر أخذ عن صحابي أو تابعي، فقد أخذ الناس العلم عنهم، ولم يأخذوه عن أحد، وقال الامام الباقر _ عليه السلام _ : لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم .(2)

____________________________

1 . أو الهاماً غيبياً لأنّهم محدّثون، كما أنّ مريم كانت محدّثة، وفي صحيح البخاري: عن أبي هريرة قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان كان من اُمتي منهم أحد فعمر. صحيح البخاري 2 / 194 باب مناقب عمر بن الخطاب .

2 . محمّد جواد مغنية: الشيعة والتشيّع 44 .

( 300 )

( 301 )

المسألة الثالثة:

الإمام المنتظر

إنّ الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين، إلاّ من أصمّه اللّه، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله

واصحابه، بظهور المهدي في آخر الزمان لا زالة الجهل والظلم، ونشر اعلام العلم والعدل، واعلاء كلمة الحق واظهار الدين كلّه، ولو كره المشركون، وهو باذن اللّه ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير اللّه، ويبطل القوانين الكافرة الّتي سنّتها الأهواء، ويقطع أوامر التعصبات القومية والعنصرية، ويميت أسباب العداء والبغضاء الّتي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة واضطراب الكلمة، واشتعال نيران الفتن والمنازعات، ويحقق اللّه بظهوره وعده الّذي وعد به المؤمنين بقوله:

(وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ

( 302 )

وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ)(1) .

وقال سبحانه (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادىَ الصَّالِحُونَ) (2) هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأكرم: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا» .

ولو وجد هناك خلاف بين أكثر السنّة والشيعة، فالاختلاف في ولادته، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان، والشيعة بفضل هذه الروايات، تذهب إلى أنّه ولد في «سرّ من رأى» عام 255، وغاب بأمر اللّه سبحانه سنة وفاة والده، عام 260، وهو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه، وسوف يظهره اللّه سبحانه ليحقق عدله .

وهذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب

التالية لمحقّقي السنّة ومحدّيثهم:

1- «صفة المهدي» للحافظ أبي نعيم الاصفهاني .

2- «البيان في أخبار صاحب الزمان» للكنجي الشافعي .

3- «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» لمّلا علي المتقي .

4- «العرف الوردي في أخبار المهدي» للحافظ السيوطي .

____________________________

1 . النور / 55 .

2 . الأنبياء / 105 .

( 303 )

5- «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» لابن حجر .

6- «عقد الدرر في أخبار الامام المنتظر» للشيخ جمال الدين الدمشقي .

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى «منتخب الأثر في الامام الثاني عشر» للعلاّمة الصافي _ دام ظلّه - .

ولم ير أحد الضعف في أخبار الامام المهدي، إلاّ ابن خلدون في مقدّمته، وقد فنّد مقالته محمّد صديق برسالة أسماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون» وقد كتب أخيراً الدكتور عبدالباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه «بين يدي الساعة» فيقول في تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي:

«إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راوأو راويين، انّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة، وأكثر من صاحب كتاب صحيح .

فلماذا نرد كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين _ والعياذ باللّه _ نتيجة تطرق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي، أو حول حاجة العالم إليه، وإنّما الخلاف حول من هو، حسني أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان، أو موجود الآن ،خفى وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين، فليس لهم اعتبار .

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث، والّذي أجده، إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند، واتّصاله وعدم

اتّصاله ، ودرجة رواته، ومن خرّجوه، ومن قالوا فيه .

وإذا نظرنا إلى ظهور المهدي، نظرة مجرّدة، فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها

( 304 )

وتصديقها، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة، والأحاديث المتعددة، ورواتها مسلمون مؤتمنون، والكتب الّتي نقلتها إلينا كتب قيمة، والترمذي من رجال التخريج والحكم، بالاضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها، ما يصحّ أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم، كحديث جابر في مسلم الّذي فيه: «فيقول أميرهم (أي لعيسى): تعال صلّ بنا»(1)، وحديث أبي هريرة في البخاري، وفيه: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم»(2)، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير، وهذا الامام هو المهدي .

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف رضي اللّه عنهم، لما يعارضوا هذا القول، بل جاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لا ثبات هذه العقيدة عند المسلمين»(3).

____________________________

1 . صحيح مسلم 1 (باب نزول عيسى) 59 .

2 . صحيح البخاري 14 / 334 .

3 . بين يدي الساعة للدكتور عبدالباقي 123 _ 125 .

( 305 )

المسألة الرابعة:

القول بالبداء

إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الامامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم انّ النسخ والبداء صنوان، غير أنّ الأوّل في التشريع والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به، كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء وصار القول بهذه الاُمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الانكار خصوصاً في مسألة البداء ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللّه لتوقّفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جد: لو اُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والأنحياز لتجلّى الحق بأجلى مظاهره، ولا عترفوا

بصحة مقالة الشيعة، غير أنّ تلك اُمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء، فأجبته باجمال ما أُفصّله في هذا المقام، فتعجّب عن اتقان معناه، غير أنّه زعم أنّ ما

( 306 )

ذكرته نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية الامامية في البداء فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الاُمّة محمّد بن النعمان المفيد (336 _ 413) فقرأهما بدقة، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الّذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً .

ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات:

الأولى: اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها، ومستقبلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء، ولا العلم بعد الجهل، بل الأشياء دقيقها وجليلها، حاضرة لديه ويدل عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت _ مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلها _ أمّا الكتاب:

فقوله سبحانه: (اِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيهِ شَىءٌ فِى الاَرْضِ وَ لا فِى السَّماءِ)(1) .

وقوله تعالى (وَ مَا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْ شَىء فِى الاَرْضِ وَ لا فِى السَّماءِ)(2) .

وقوله سبحانه: (إنْ تُبْدُوا شيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَاِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيماً)(3) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره، ماديّه و مجرّده، والأشياء كلها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ويكفي في ذلك قوله سبحانه:(مَا اَصابَ مِنْ مُصيبَة فِى الاَرْضِ وَ لا فِى اَنْفُسِكُمْ اِلاّ فِى كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا اِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسيرٌ)(4) .

____________________________

1 . آل عمران /

5 .

2 . إبراهيم / 38 .

3 . الأحزاب / 54 .

4 . الحديد / 22 .

( 307 )

وقوله سبحانه: (وَ مَا مِنْ دَابَّة فِى الاَرْضِ اِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتاب مُبين)(1) .

وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها:

قال الامام موسى الكاظم _ عليه السلام _ : «لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(2) .

وقال الامام علي _ عليه السلام _ : «كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة»(3) .

وقال _ عليه السلام _ : «لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذّرّ في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفىّ طرف الأحداق»(4) .

إلى غير ذلك من الروايات(5) الّتي تدل على احاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده، وانّه لا يخفى عليه شيء ابداً .

وقال الصادق _ عليه السلام _ في تفسير قوله: (يمحوا اللّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ اُمّ الكتاب):

«فكل أمر يريده اللّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل. وقال: من زعم أنّ اللّه عزّوجلّ يبدو له من

____________________________

1 . هود / 6 .

2 . الكافي ج 1، باب صفات الذات، الحديث 4 .

3 . نهج البلاغة، الخطبة 105 .

4 . نهج البلاغة، الخطبة 173، طبعة عبده .

5 . لاحظ في العثور على الروايات حول علمه سبحانه، البحار 4 / 121 والكافي 1 / 111 .

( 308 )

شيء لم يعلمه أمس، فابرأ وامنه»(1) إلى غير ذلك من الروايات الّتي تدل على

إحاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده وانّه لا يخفى عليه شيء أبداً .

وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير، وانّه تقدّست أسماؤه، أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل، لاستلزامه كون ذاته محلاّ للتغير والتدبل، والمستلزم للتركيب والحدوث، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه .

فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة _ عليهم السلام _ تشهد على علمه الّذي لا يشوبه جهل، وعلى سعته لكل شيء قبل الخلق وبعده، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل .

وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة، أو التزلّف إلى حكّام الوقت الحاقدين لهم أو التعصّب المقيت .

وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والاثبات حيث يقول: قالت الرافضة: البداء جائز على اللّه تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسّكوا فيه بقوله (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت): ثم قال: إنّ هذا باطل لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك، كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلا(2) .

وما حكاه الرازي عن «الرافضة» كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة وإنّما سمعه

____________________________

1 . البحار 4 / 111 باب البداء، الحديث 30، والبرهان 2 / 300 حديث 21 .

2 . تفسير الرازي 4 / 216 تفسير سورة الرعد .

( 309 )

عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة، وقد قبله من دون امعان ودقّة، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه (بلدة

ري) كانت مزدحم الشيعة ومركزهم وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي، علاّمة زمانه في الاُصولين معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد»(1) ولو كان الفخر الرازي رجلا منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة، ولما تهاجم عليهم بسباب مقذع، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره .

وليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال بل سبقه البلخي (ت 319) في هذه النسبة(2)، ونقله الشيخ الأشعري (260 _ 324) في مقالات الاسلاميين(3) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية(4) .

* * *

الثانية: كما دلّت الآيات والأحاديث(5) على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والايجاد، والتدبير والتربية، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم من الصدقة والاحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين، والاستغفار والتوبة وشكر النعمة واداء حقّها إلى غير ذلك من الاُمور الّتي تغيّر المصير وتبدّل القضاء وتفرّج الهموم والغموم وتزيد في الأرزاق، والأمطار، والأعمار

____________________________

1 . الطهراني آغا بزرگ: الثقات العيون في سادس القرون 295 وطبع الكتاب أخيراً .

2 . الطوسي: التبيان 1 / 13 .

3 . مقالات الاسلاميين 107 .

4 . فرق الشيعة 76 نقله عن سليمان بن جرير الّذي كفّره أهل السنّة أيضاً لتكفيره عثمان فهل يصحّ الاعتماد على قول مثله .

5 . البحار 4 / 104 الحديث 17 وغيره .

( 310 )

والآجال كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير، وسوء الخلق، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والطيش، وعدم الانابة، وكفران النعمة وماشابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من اكثار الهموم، والقلق، ونقصان الأرزاق، والأمطار، والأعمار، والآجال، وما شاكلها .

فليس للانسان مصير واحد، ومقدر فارد،

يصيبه على وجه القطع والبت، ويناله، شاء أو لم يشأ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها، وبالايمان والتقوى، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن (لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة) انكاره إلاّ من كان مؤمناً بالقلب، ومنكراً باللسان .

ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات. منها:

قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِاَمْوال وَ بَنينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَ يَجْعَلْ لَكُم اَنْهاراً)(1) .

ترى أنّه _ عليه السلام _ ، يجعل الاستغفار، علّة مؤثرة، في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار إلى غير ذلك. وأمّا بيان كيفية تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية، فيطلب عن محلّه .

وقوله سبحانه: (اِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ)(2) .

وقوله تعالى: (ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى

____________________________

1 . نوح / 10 _ 12 .

2 . الرعد / 11 .

( 311 )

يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِم) .(1)

وقوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .(2)

وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).(3)

وقوله تعالى: (وَ إذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).(4)

وقوله سبحانه: (وَنُوحاً إِذْ نَادى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ).(5)

وقال تعالى: (وَ أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنَّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَ اَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مَن ضُرٍّ).(6)

وقال سبحانه: (وَ مَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ

أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(6)

وقال تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ اِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاةِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَأنبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِن يَقْطِين).(7)

وقال تعالى: (فَاستَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِى المُؤْمِنِينَ).(8)

وقال سبحانه: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا

____________________________

1 . الأنفال 53 .

2 . الأعراف 96 .

3 . الطلاق 2 _ 3 .

4 . إبراهيم 7 .

5 و 6 _ الأنبياء 76 و 83 _ 84 .

6 . الأنفال 33 .

7 . الصافات 143 _ 146 .

8 . الأنبياء 88 .

( 312 )

آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَيوةِ الدُّنْيا وَ متَّعْناهُمْ إِلى حِين)(1) .

وهذه الآيات بالاضافة إلى كثير من الأحاديث الّتي سيوافيك بيان نزر منها تعرب على أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير القدر، وتبديل القضاء وليس هناك مقدر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل .

وأمّا الأحاديث الّتي تدل على هذا المطلب فكثيرة جدّاً، مبعثرة في كتب الحديث تحت عناوين مختلفة من قبيل الصدقة، والاستغفار، والدعاء، وصلة الرحم، وما أشبه ذلك، وسنذكر فيما يلي نموذجاً من الأحاديث لكل من الاُمور الآنفة .

الف _ الصدقة وأثرها في دفع البلاء:

روى الصدوق في الخصال عن أنس: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «أكثر من صدقة السر، فإنّها تطفىء غضب الرب جلّ جلاله» .

وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه، قال: قال رسول اللّه: «باكروا بالصدقة فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء» .

وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر _

عليه السلام _ قال: قال أميرالمؤمنين: «أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللّه... وصدقة السر، فإنّها تذهب الخطيئة وتطفىء غضب الرب، وصنائع المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان» .

وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق _ عليه السلام _ : قال: «الصدقة

____________________________

1 . يونس / 98، وقد استشهد الامام أمير المؤمنين ببعض هذه الآيات عند الاستسقاء، فقال: «إنّ اللّه يَبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات...» نهج البلاغة، الخطبة 143 .

( 313 )

باليد تدفع ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء» .

إلى غير ذلك من الروايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي في كتاب الزكاة والصدقة(1) .

ب _ أثر الاستغفار في الرزق:

روى الصدوق في الخصال عن أميرالمؤمنين قال: «الاستغفار يزيد في الرزق». وروى أيضاً فيها عن أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ : «أكثروا الاستغفار، تجلبوا الرزق»(2) .

ج _ الدعاء وآثاره :

روى الحميري في قرب الاسناد عن الصادق _ عليه السلام _ : «انّ الدعاء يرد القضاء وانّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق» .

وروى أيضاً عنه _ عليه السلام _ : قال رسول اللّه: «داووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» .

وروى الصدوق عن أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ : «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء»(3) .

____________________________

1 . بحارالأنوار: الجزء 93 الباب 21، الأحاديث 4 _ 7 _ 9 _ 26 (وروى هناك أحاديث اُخرى) .

2 . المصدر نفسه كتاب الذكر والدعاء باب الاستغفار وفضله وأنواعه، الحديث 4 _ 17 (وروى أحاديث حول الاستغفار من الفريقين) .

3 . البحار الجزء 93 كتاب الذكر والدعاء، أبواب الدعاء. الباب 16 _ الحديث 2 _ 3 _ 5 (وروى أحاديث من الفريقين) .

( 314 )

وقد عقد

الكليني في الكافي باباً أسماه «انّ الدعاء يرد البلاء والقضاء» ومن جملة أحاديث هذا الباب عن حماد بن عثمان قال: سمعته يقول: «انّ الدعاء يردّ القضاء ينقضه كما ينقض السلك وقد اُبرم إبراماً»(1).

وروى عن أبي الحسن موسى _ عليه السلام _ : «عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء للّه والطلب إلى اللّه يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبق إلاّ امضاؤه فإذا دعى اللّه عزّوجلّ وسئل، صرف البلاء صرفة»(2) .

وأخرج الحاكم عن ابن عباس _ رضي الله عنه _ ، قال: لا ينفع الحذر عن القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر .

قال: وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال: ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسع اللّه له في معيشته: «يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه، يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي، فامح حرماني ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فإنّك تقول في كتابك الّذي أنزلت: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب)(3) .

وروى أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (يسأله من في

____________________________

1 . الكافي ج 2 باب انّ الدعاء يرد القضاء ص 469 الحديث 1 .

2 . المصدر نفسه ص 470 الحديث 8 .

3 . السيوطي، الدر المنثور 4 / 66 .

( 315 )

السموات) ما يقرب من هذا، فلاحظ(1) .

د _ أثر صلة الرحم:

روى الكليني عن أبي الحسن الرضا

قال: «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقى من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ويفعل اللّه ما يشاء»(2) .

روى أيضاً عن أبي جعفر قال: «صلة الأرحام تزكي الأعمال ونمني الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسىء في الآجال»(3) .

وروى أهل السنة نظير هذه الروايات فنكتفي بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن علي _ رضي الله عنه _ : انّه سأل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن هذه الآية (يَمْحُوا اللّه)؟ فقال له: «لأقرّن عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين اُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، وتقي مصارع السوء» .

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فإنّ لها تأثيراً ضد اثر الأعمال الحسنة .

ويدل على ذلك من الآيات قوله سبحانه:

(و ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَ الخَوْفِ بِمَا كانُوا

____________________________

1 . الدر المنثور 6 / 143 .

2 . الكافي ج 2، باب صلة الرحم، الحديث 3 .

3 . المصدر نفسه، الحديث 4 ولاحظ البحار ج 4 باب البداء، الحديث 66 .

( 316 )

يَصْنَعُونَ)(1) .

وقال سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(2) .

وقال سبحانه: (وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ)(3) .

وأمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولا حرج فنكتفي بما عن أميرالمؤمنين أنّه قال في خطبة: «أعوذ باللّه من الذنوب الّتي تعجّل الفناء» فقام إليه عبداللّه بن

الكواء اليشكر ى، فقال: يا أميرالمؤمنين أو تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال: «نعم، ويلك قطيعة الرحم». وقال أيضاً: «إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار»(4) .

وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال، روايات يطول الكلام بنقلها. فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيها ست خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة أمّا الّتي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق(5) .

أيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا _ عليه السلام _ انّه قال: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو لتستعملن عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم»(6) وعن أمير المؤمنين _ عليه السلام _ :

____________________________

1 . النحل / 112 .

2 . الأنفال / 53 .

3 . الأعراف / 130 .

4 . الكافي ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب قطيعة الرحم، الحديث 7 _ 8 .

5 . سفينة البحار 1 / 560 مادة (زنا) .

6 . الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 الحديث 4 .

( 317 )

«إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات»(1) وورد: «لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(2) إلى غير ذلك من درر الكلمات الّتي نقلت عن معدنها .

* * *

فقد تحصل ممّا ذكرنا:

أوّلا:إنّ علمه سبحانه يعم كل الأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها .

وثانياً: إنّه سبحانه كل يوم هو في شأن .

وثالثاً: إنّ لأفعال العباد، تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها، ونزول الرحمة والبركة، أو

العقاب والنقمة .

إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاث فاعلم أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين:

1- البداء في مقام الثبوت: أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة .

2- البداء في مقام الاثبات: أي الاخبار عن تحقق الشيء علماً بالمقتضى مع خفاء المانع .

____________________________

1 . الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 الحديث 7 .

2 . المصدر نفسه، الحديث 18 .

( 318 )

( 319 )

البداء في مقام الثبوت والاثبات

حقيقة البداء هو انّه سبحانه (على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير، والاحياء والاماتة، والتوسيع والتقدير في الرزق، والتعمير والتنقيص إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والإنسان) هو القائم دائماً بالأمر، والتدبير، وهو القيوم على كل شيء، وكل يوم في شأن وليست يداه مغلولتان، بل يداه مبسوطتان (في كل شيء) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وارادته النافذة فهو المتجلّي في كل زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا كالخالقية والرازقية والاحياء والامامة إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى .

ومن شعب هذا الأمر، هو أنّه سبحانه: يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما، وينزل الرحمة والبركة، كما ينزل البلاء والنقمة، حسب مشيئته الحكيمة، النافذة، ولا تصدر عنه الاُمور جزافاً واعتباطاً بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ثم يُمحى فيكتب من السعداء أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال .

( 320 )

وبالجملة: فالبداء في عالم الثبوت يضاد مزعمة اليهود والنصارى المشار إليها في قوله سبحانه: (وَ قَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ

كَيْفَ يَشَاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً)(1)، وقد رد سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح .

ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان، يزيد في الخلق ما يشاء، وفي العمر، وينقص منه، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه: (الحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ السَّماواتِ والأَرْضِ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلٍّ شَيء قَدِيرٌ)(2) وقال سبحانه: (وَ مَا تُحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمِّرُ مِن مُعَمِّر وَ لا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)(3) .

وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى، ممّا يشترك فيه كل المسلمين، على مذاهبهم المختلفة من دون اختصاص بالشيعة، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كل يوم هو في شأن، وانّه جلّ وعلا. يبدئ ويعيد، ويحيي ويميت، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله .

وكما أنّه سبحانه: يداه مبسوطتان، كذلك العبد مختار، في أفعاله لا مسيّر، وحرفي تصرفاته(4) لا مجبور، له أن يغيّر مصيره ومقدّره بحسن فعله، وجودة عمله ،

____________________________

1 . المائدة / 64 .

2 . فاطر / 1 .

3 . فاطر / 11 .

4 . لا يخفى أنّ المقصود من أفعال الإنسان الّتي نثبت اختياره فيها هي الأفعال الّتي تتعلق بها التكاليف لا الأفعال القهرية الّتي تصدر من جهازه الهضمي مثلا .

( 321 )

ويخرج اسمه من الأشقياء، ويدخله في السعداء، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله .

فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين، فيحيي ويميت، كذلك يمحو مصير العبد، ويغيّره حسب ما يغيّر العبد

بنفسه (فعله وعمله) لقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(1)، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرّ مختار، قادر على تغيير القضاء، وتبديل القدر، بحسن فعله أو سوئه، كما دلّت عليه الآيات والروايات .

وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه، هو أيضا من قدره وقضائه وسننه الّتي لا تبديل لها ولا تغيير، فاللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر، فلم يقدره ولم يقضه به على وجه القطع والبت، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل، بل قضى به على وجه خاص وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه، ما لم يغيّر العبد حاله، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه، كما لا يخفى .

وهذا (البداء في الثبوت) أولى بالتسمية بالمحو والاثبات، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللّه سبحانه، يتصرّف فيه حسب مشيئته، ولا دخل لارادة الإنسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح .

____________________________

1 . الرعد / 11 .

( 322 )

البداء في الذكر الحكيم:

هذا الأصل _ الّذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود، من سيادة القدر على كل شيء حتّى إرادته سبحانه _ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه (يَمحوا اللّه ما يشاءُ ويُثبت وعِنده اُمُّ الكِتاب)(1) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها، نقل كلمات المحققين

من المفسرين، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح، مما أصفقت عليه الأُمّة.

1- روى الطبري (310 ه_ ) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء _ إن كتب عليهم _ إلى السعادة مثلا، كان عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ يقول وهو يطوف بالكعبة: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُمّ الكتاب .

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود، وابن عباسن وشقيق وأبي وائل(2) .

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه: (يمحوا اللّه ما يشاء) بما يُنزِّلُ على الأنبياء، ويُثبت ما يشاء مما ينزل على الأنبياء قال: وعنده اُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدِّل (3) .

2- قال الزمخشري (528 ه_ ): (يمحوا اللّه ما يشاء) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ(3) .

____________________________

1 . الرعد / 39 .

2 . الطبري: التفسير (جامع البيان) الجزء 13 / 112 _ 114 .

3 . الزمخشري: الكشاف: 2 / 169 .

( 323 )

3- ذكر الطبرسي (548 _ 471 ه_ ) لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال: «الربع أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روى ذلك) عن عمربن الخطاب، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة: واُمّ الكتاب أصل الكتاب الّذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات .

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: «اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء...»(1) .

4- قال الرازي (608 ه_

) إنّ في هذه الآية قولين:

القول الأوّل: إنّها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا: إنّ اللّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

والقول الثاني: إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض .

ثم قال: فإن قال قائل: ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى، المحو والإثبات؟

قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لا يمحو إلاّ ما سبق في علمه وقضائه محوه(2) .

5- قال القرطبي (671 ه_ ) _ بعد نقل القولين وإنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها _ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والإجتهاد، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحّ فالقول به يجب أن يوقف عنده، وإلاّ فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر _ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللّه

____________________________

1 . الطبري مجمع البيان 6 / 398 .

2 . الرازي: 10 / 64 _ 65 .

( 324 )

ابن مسعود ثم قال: روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «مَن سرَّه أن يبسط له في رزقِه ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه» .(1)

6- قال ابن كثير (774 ه_ ) بعد نقل قسم من الروايات: ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها

ما يشاء، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء، ولا يزيد في العمر إلاّ البر» ثم نقل عن ابن عباس: الكتاب كتابان، فكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء، وعنده اُمّ الكتاب(2) .

7- روى السيوطي (911 ه_ ) عن ابن عباس في تفسير الآية: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللّه، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة فهو الّذي يمحو، والّذي يثبت الرجل يعمل بمعصية اللّه تعالى وقد سبق له خير حتّى يموت وهو في طاعة اللّه سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين(3) .

8- ذكر الآلوسي (1270 ه_) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علىّ _ كرم اللّه وجهه _ أنّه سأل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن قوله تعالى: (يمحوا اللّه ما يشاء...) الآية فقال: له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولا قرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبر الوالدين واصطناع المعروف، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء، ثم قال: دفع الإشكال عن استلزام ذلك، بتغيّر علم اللّه سبحانه ومن شاء فليرجع(4) .

9- قال صديق حسن خان (1307 ه_ ) في تفسير الآية: وظاهر النظم

____________________________

1 . القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 5 / 329 .

2 . ابن كثير: التفسير 2 / 520 .

3 . السيوطي: الدر المنثور 4 / 660 لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي .

4

. الآلوسي: روح المعاني 13 / 111 .

( 325 )

القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا .

لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود و ابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم...(1) .

10- قال القاسمي (1332 ه_ ): تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت) فقالوا: إنّها عامَّة في كل شيء كما _ يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا _ يمحو اللّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر(2) .

11- قال المراغي في تفسير الآية: وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال(3) .

وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل وأنّ للّه سبحانه لوحين: لوح المحو والإثبات ولوح «اُمّ الكتاب» والّذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول، وإنّ القول بسيادة القدر، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ لِلَّذِينَ كَفروا مِنَ النّار)(4) .

____________________________

1 . صديق حسن خان: فتح البيان 5 / 171 .

2 . القاسمي: محاسن 9 / 372 .

3 . المراغي: التفسير 5 / 155 _ 156 .

4 . سورة «ص» الآية 27

.

( 326 )

الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء:

الاعتقاد بالمحو والاثبات، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه، فتشريع البداء، مثل تشريع قبول التوبة، والشفاعة، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر. كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة، حتّى لا ييأسوا من روح اللّه ولا يتولّوا بتصوّر أنّهم من الأشقياء وأهل النار تقديراً، فلا فائدة في السعي والعمل، فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء «وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية» وتاب، وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى، يخرج من سلك الأشقياء، ويدخل في صنف السعداء، وبالعكس وهكذا كل ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر، والشقاء يمكن تغييره بالدعاء، والصدقة وصلة الرحم، وإكرام الوالدين، وغير ذلك، فالكل لأجل بث الأمل في قلب الإنسان، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة .

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا الّتي اتفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا به) .

وأمّا اليهود _ خذلهم اللّه _ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم، ولأجل ذلك قالوا: يد الّه مغلولة عن القبض والبسط، والأخذ والاعطاء، وبعبارة اُخرى عندهم انّ للانسان مصيراً واحداً لا يمكن تغيره ولا تبديله وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر .

ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان .

( 327 )

وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم

ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق _ عليهما السلام _ ): «ما عبداللّه عزّوجلّ بشيء مثل البداء»(1) .

وما عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه _ عليه السلام _ : «ما عظّم اللّه عزّوجلّ بمثل البداء»(2) .

إذ لولا الاقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف اللّه حق المعرفة، ويتجلّى سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنّه مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدره، ولا محو ما أثبته .

ومن الروايات في هذا المعنى ما روي عن الصادق _ عليه السلام _ أنّه قال: «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه»(3) .

وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء مثل الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة، والانابة إلى الصلاح والهداية .

البداء في مقام الاثبات:

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو، وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر، منها: ما لا يقبل التغيير ومنها ما يقبل ذلك .

أمّا الأوّل: فهو المعبّر عنه ب_ «اللوح المحفوظ» تارة و ب_ «اُمّ الكتاب» اُخرى قال سبحانه: (بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْح مَحْفُوظ)(4) وقوله تعالى:

____________________________

1 . البحار 4 / 107 باب البداء، الحديث 19 _ 20 .

2 . التوحيد للصدوق باب البداء، الحديث 2 .

3 . الكافي 1 / 115، والتوحيد للصدوق، باب البداء، الحديث 7 .

4 . البروج 21 _ 22 .

( 328 )

(وَ إِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ)(1) وقال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِى الاَرْضِ وَ لا فِى أَنفُسِكُمْ إلاّ فِى كِتاب

مِن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)(2) فاللوح المحفوظ واُمّ الكتاب وذلك الكتاب الّذي كتب فيه ما يصيب الإنسان من مصائب ممّا لا يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة، ولأجل ذلك لو أمكن الإنسان أن يتّصل به، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف .

وأمّا الثاني: فهو لوح المحو والاثبات الّذي أشار إليه سبحانه، بقوله (يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ) (3) فالأحكام الثابتة فيه، أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها وربّما يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته، ولكنّه ربّما يمحى ويكتب فيه الصّحة لفقدان شرط التقدير الأول أو طرؤ مانع من تأثير المقتضي .

فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه (الّذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع) يمكن تقدير وجوده، ولكنّه بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته الّتي منها الشرائط وعدم الموانع، يقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه، وتحقّق موانعه .

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّه ربّما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والاثبات، فيقف على المقتضى من دون أن يقف على شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوع شيء

____________________________

1 . الزخرف / 4 .

2 . الحديد / 22 .

3 . الرعد / 39 .

( 329 )

ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه وذلك هو البداء في عالم الاثبات وإن شئت قلت: إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت، ولم يرد في الأخبار من هذاالقسم من البداء

إلاّ موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم .

تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم:

1- قال سبحانه: (فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى المَنَامِ أَنَّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرينَ)(1) .

أخبر إبراهيم _ عليه السلام _ ولده إسماعيل _ عليه السلام _ بأنّه رأى في المنام أنّهُ يذبحه ورؤيا الأنبياء (كما ورد في الحديث) من أقسام الوحي(2)، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة، وهي أمر اللّه إبراهيم بذبح ولده، وقد تحقّق ذلك الأمر، أي أمر اللّه سبحانه به .

ولكن قوله: (اِنِّى أرى فِى المَنامِ أنِّى اَذْبحك) يكشف عن أمرين:

الف: الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق .

ب: الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وانّ إبراهيم سيمتثل ذلك، والحال أنّه لم يتحقق لفقدان شرطه، وهو عدم النسخ ويحكي عن كلا الأمرين قوله: (و فَدَيناهُ بِذَبح عظيم) .

وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه بأنه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من

____________________________

1 . الصافات / 101 _ 102 .

2 . السيوطي: الدر المنثور 5 / 280 .

( 330 )

الملاحم والمغيبات، ثمّ لم يتحقّق، وما هذا إلاّ لأجل أنّه وقف على المقتضي، فأخبر بالمقتضى، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات .

2- أخبر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام(1) ولكن العذاب لم يصبهم، فما هذا إلاّ لأنّ النبي، وقف على المقتضي ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة نصوحاً

رافعة للعذاب، وإليه يشير قوله سبحانه:(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينِ)(2) .

3- أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، كما روي عن ابن عباس حيث قال: إنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر الّتي زاده اللّه(3) .

وإليه يشير قوله سبحانه: (وَ وَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَارونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى و أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ)(4) .

فلا شك أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطّلع على نسخه وانّ التوقيت سيزيد ولا مصدر لعلمه إلاّ الاتصال بلوح المحو والاثبات .

____________________________

1 . الطبرسي: مجمع البيان 3 / 135 .

2 . يونس / 98 .

3 . الطبرسي: مجمع البيان 2 / 115 .

4 . الأعراف / 142 .

( 331 )

هذه جملة الأخبار الّتي تحدث بها الذكر الحكيم ولكنّها لم تحقق، فلا محيص لتفسيرها إلاّ القول بوقوفهم على المقتضي دون العلّة التامة، فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء، والمراد أنّه بدا من اللّه لنبيّه وللناس ما خفى عليهم، على غرر قوله سبحانه: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتْسِبُونَ)(1) فالبداء إذا نسب إلى اللّه سبحانه فهو بداء منه، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم، وبعبارة اُخرى، البداء من اللّه هو اظهار ما خفى على الناس، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفى لهم، وهذا هو الحق القراح الّذي لا يرتاب فيه أحد .

وأمّا ما ورد في الروايات،

فهو بين خمسة أو أزيد بقليل:

1- إنّ المسيح _ عليه السلام _ مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه. فقال: يجلبون اليوم ويبكون غداً، فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنَّ الّتي أخبرتنا أمس انّها ميّتة لم تمت. فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى، انّه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة، عاضّ على ذنبه، فقال _ عليه السلام _ : بما صنعت، صرف عنك هذا(2) .

2- روى الكليني عن الامام الصادق _ عليه السلام _ : إنّه مرّ يهودي بالنبي فقال: السام عليك. فقال النبىّ عليك. فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت فقال:

____________________________

1 . الزمر / 47 .

2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 94 .

( 332 )

الموت عليك. فقال النبىّ: وكذلك رددت. ثمّ قال النبىّ: إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول اللّه: ضعه، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملا إلاّ حطبي هذا حملته فجئت ومعي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه: بها دفع اللّه عنه، قال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان(1) .

ولا يمكن لأحد تفسير مضامين الآيات الماضية

وهذين الحديثين إلاّ عن طريق البداء بالمعنى الّذي تعرّفت عليه، وهو اتّصال النبي بلوح المحو والاثبات والوقوف على المقتضي والاخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامة .

3- عرض اللّه عزّوجلّ على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم، فمرّ بآدم اسم داود النبي _ عليه السلام _ فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري يا رب إنّي أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال اللّه: نعم يا آدم، فقال آدم: فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة، فأثبت اللّه عزّوجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة(2) .

ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً، ثمّ محاه بدعاء نبيه، وهذا هو المراد من قوله سبحانه: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب) فلو أخبر نبي اللّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره، لأنّه وقف على الاثبات الأوّل ولم يقف على محوه .

____________________________

1 . المجلسي: بحارالانوار 4 / 121 .

2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 95 _ 102 .

( 333 )

4- أخبر اللّه نبياً بأنّ يخبر ملكاً بأنّه تعالى متوفّيه إلى كذا وكذا، فأخبره بذلك ولمّا دعا الملك وقال: ربّ أجلّني حتّى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى ذلك النبي أن ائت فلاناً الملك واخبره انّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة(1) .

5- روى عمرو بن الحمق، قال: دخلت على أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو إنّي مفارقكم، ثمّ قال: سنة السبعين فيها بلاء _ قالها ثلاثاً _ فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني واُغمي عليه، فبكت اُمّ كلثوم فأفاق... فقلت: بأبي أنت واُمّي

قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)(2) .

هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الاثبات وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا، ولو عثر المتتبع على مورد، فهو نظير ما سبق من الموارد، والتحليل في الجميع واحد .

إذا وقفت على ذلك تعرفت قيمة ما ذكره الرازي في ختام محصّله، وقال: إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم، لا يظهر معهما أحد عليهم .

الأوّل: القول بالبداء، فاذا قال: إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا لله فيه(3) .

____________________________

1 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 121 (وفي رواية اُخرى أنّ ذلك النبي هو حزقيل، البحار 4 / 112 وذكر مثله في قضية شعيا ص 113 .

2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 119، برقم 60 .

3 . الرازي: نقد المحصل 421، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي، والأمثر الثاني هو التقية كما ستعرف .

( 334 )

إنّ الّذي نقله أئمة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات فليس فيها ما يدعم ذلك، فقد نقلوا قصة رسول اللّه مع اليهودي وقصة المسيح مع العروس، كما نقلوا قصة عمر داود وعمر الملك، فهل ورد فيها ما أشار إليه الرازي؟

وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد فإنّ الامام ذيّل كلامه بالآية قائلا: بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظان المحو والاثبات. أفيصح لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة «بأنّهم وضعوا قاعدتين وأنّهم كلّما يقولون سيكون لهم قوّة ثم لا يكون، قالوا بدا لله تعالى فيه»؟

.

وقد سبق الرازي في هذا الزعم، أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه(1) ثمّ إنّ اكمال البحث يتوقّف على ذكر اُمور :

الأمر الأوّل:

إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم بان تدل قرائن على صحة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني، كما هو واضح لمن قرأ قصة يونس وإبراهيم الخليل فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحة خبر يونس كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت على صحة اخبار الخيل، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلاّن على صحة اخبار النبي الأعظم .

كل ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعلمه الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات .

____________________________

1. الطوسي: التبيان 1 / 13 _ 14، طبع النجف، وقد عرفت بعض المتشدقين بهذه الكلمة الكاذبة .

( 335 )

وبالجملة يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدل على صحة اخبار النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولا يكون البداء على وجه يعد دليلا على كذبه، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره .

الأمر الثاني:

إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية الّتي تعدّ شعاراً للشريعة فإذا أخبر المسيح بمجيئ نبي اسمه أحمد أو أخبر النبي بكونه خاتماً للرسل أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلا ونظير ذلك، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً، لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة، وموجب لضلال العباد، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الاُصولية، لما

وجب لأحد أن يقتفي النبي المبشر به، ولا يوالي الوصي المنصوص ولا يتلقى دين الإسلام خاتماً ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً بحجة أنّه يمكن أن يقع فيها البداء، ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والاُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس. وهذا ما يستحيل على اللّه سبحانه وانّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة، كما هو الحال في الأخبار الماضية .

الأمر الثالث:

إنّ اطلاق البداء في هذه الموارد، إنّما هو بالمعنى الّذي عرفت، وانّ حقيقته بداء من اللّه للناس واظهار منه ولو قيل بدا لله، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز، والقرآن مليء به، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال: (وَمَكَرُوا

( 336 )

وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ) (1) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للّه. فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم .

ولكن الشيعة تبعت النبي الأكرم في هذا المصطلح وهو أوّل من استعمل تلك اللفظة في حقّه سبحانه، روى البخاري في كتاب النبوّة «قصة بدء الخليفة» وفيها هذه اللفظة التي يستوحش منها أهل السنّة، روى أبو هريرة:

انّه سمع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: إنّ ثلاثة في بني إسرائيل ابرص وأقرع واعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذّرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فاُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أىّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر _ هو شك في ذلك انّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر _ فاُعطي ناقة

عشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها .

وأتى الأقرع فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب، اُعطي شعراً حسناً، قال: فأيّي المال أحبّ إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها .

وأتى الأعمى فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: يرد اللّه إلىّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأىّ المال أحبّ إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم .

____________________________

1 . آل عمران / 54، وهنا آيات اُخرى يستدل بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية .

( 337 )

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً اتبلّغ عليه في سفري فقال له: إنّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس. فقيراً فأعطاك اللّه؟ فأجابه: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت .

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه، ثمّ بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلَّغ بها في سفري فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت، فواللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه، فقال: امسك

مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك(1) .

* * *

هذه حقيقة البداء، وهذا هو مفهومه في الثبوت والاثبات، قد دعمه الذكر الحكيم والسنَّة النبوية فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضلال .

____________________________

1 . البخاري: الصحيح 4 / 172، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني اسرائيل .

( 339 )

المسألة الخامسة :

التقيّة

التقية من المفاهيم القرآنية الّتي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد الّتي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه وعرضه وماله، أو نفس من يمتُ إليه بصلة وعرضَه ومالَه، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل(1) ولاذبها عمّار عندما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل(2) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرف عليها، مفهوماً وغايةً ودليلا وحدّاً، حتّى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

إنّ التقية، إسم ل_ «إتّقى يتّقي» (3) والتاء بدل من الواو وأصله من الوقاية،

____________________________

1 . القصص / 20 .

2 . النحل / 106 .

3 . قال ابن الأثير في النهاية 5 / 217: وأصل اتقى: أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي _ عليه السلام _ : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ السان العرب مادة «وقى» .

( 340 )

ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه، لأنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ .

مفهومها:

إذا كانت التقية هي اتخاذ

الوقاية من الشرِّ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو: إظهار الكفر وإبطال الإيمان، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها، فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الإيمان والكفر، فإنّ النفاق ضدها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق .

نعم: من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، وبه صوَّر التقية _ الواردة في الكتاب والسنّة _ من فروعه، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فإنّه يُعرَّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى: (إذَا جَاءَكَ المَنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المَنافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(1) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس، والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: (قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(2) .

____________________________

1 . المنافقون / 1 .

2 . الأعراف / 28 .

( 341 )

غايتها:

الغاية من التقية: هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الارهاب، والتشريد والنفي، والقتل والتنكيل، ومصادرة الأموال، وسلب الحقوق الحقة، فلا يكون لصاحب العقيدة الّذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يُحدِث

اللّه أمراً .

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلي بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار .

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الّذي لا حول له ولا قوة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الّذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم .

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصور أو يصوِّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلا أو عمداً دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فاين ما ذكرناه من هذا الّذي يذكره، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذا الجموع المستضعفة من

( 342 )

المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلاّ أنّ السيف والنطع سالح لا تترد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها .

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية الّتي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة امتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة .

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة .

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ

التقية غطاءً، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل، ولا تُنهب داره وماله، إلى أن يُحدث اللّه أمراً، من قبيل عطف المبائن على مثله .

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها، فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ، فصادروا أموالهم وأراضيهم، ومساكنهم، ومساجدهم، ومدارسهم،وأحرقوا مكتباتهم، وقتلوا كثيراً منهم قتلا ذريعاً ووحشياً، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشىء من التظاهر بالمرونة، واخفاء المراسم الدينية، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً، وما هذا إالاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة الّتي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر

( 343 )

فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شيء عقلُه ولبُّه، وتدعوه إليه فطرته، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم _ شيعياً كان أم سنيّاً _ وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة .

دليلها في القرآن والسنّة:

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة(1)

سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:

الآية الأُولى:

قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهِ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ

عَظِيمٌ)(2) .

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنبّاً عن الإطالة والاسهاب، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة:

1- قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سمية، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الفكر ولم ينالا من النبىّ، وأعطاهم

____________________________

1 . غافر / 28 و 45، والقصص / 20 وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث .

2 . النحل / 106) .

( 344 )

عمّار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال الرسول: كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت(1) .

2- وقال الزمخشري روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمّار بن يسار وأبواه: ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب .

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً...(2) .

3- وقال الحافظ ابن ماجة: «والايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(3).

4- وقال القرطبي قال الحسن: التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة _ ثمّ قال: _ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن

كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي(4) .

5- قال الخازن: «التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللّه

____________________________

1 . الطبرسي: مجمع البيان 3 / 388 .

2 . الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل 2 / 430 .

3 . ابن ماجة: السنن 1 / 53، شرح حديث رقم 150 .

4 . القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4 / 57 .

( 345 )

تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ثمّ هذه التقية رخصة»(1) .

6- قال الخطيب الشربيني: «(إلاّ من أُكره) أي على التلفّظ به (وقلبه مطمئنّ بالإيمان) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب»(2) .

7- وقال إسماعيل حقي: «(إلاّ من أُكره) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه... لأنّ الكفر اعتقاد، والاكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: «ولكن المكره على الكفر باللسان،، (وقلبه مطمئنّ بالإيمان) لا تتغير عقيدته، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه، هو التصديق بالقلب»(3) .

الآية الثانية:

قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤمِنُونَ الْكَافِررنَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤمِنينَ وَ مَن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءِ اِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللّهِ الْمَصيرُ)(4) .

وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:

1- قال الطبري: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) : قال أبو العالية: التقية باللسان، وليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) قال: التقية باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه (وقلبه مطمئنّ

____________________________

1 . تفسير الخازن: 1 /

277 .

2 . الخطيب الشربيني: السراج المنير .

3 . إسماعيل حقي: تفسير روح البيان 5 / 84 .

4 . آل عمران / 28 .

( 346 )

بالإيمان) فلا اثم عليه، إنّما التقية باللسان(1) .

2- وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع(2) .

3- قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) : المسألة الرابعة: اعلم: إنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها:

أ: إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه، وحاله، فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافة وأن يعرض في كل ما يقول، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب .

ب: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة: لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «من قتل دون ماله فهو شهيد»(3) .

4- وقال النسفي: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) إلاّ تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، أي الاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة(4) .

5- وقال الآلوسي: وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

____________________________

1 . الطبري: جامع البيان 3 / 153 .

2 . الزمخشري: الكشاف 1 / 422 .

3 . مفاتيح الغيب 8 / 13 .

4 . النسفي: التفسير بهامش تفسير الخازن 1 /

277 .

( 347 )

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان:

الأوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر والمسلم .

الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال والمتاع والملك والامارة(1) .

6- وقال جمال الدين القاسمي: ومن هذه الآية: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (ايثار الحق على الخلق)(2) .

7- وفسر المراغي قوله تعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) بقوله: أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية «إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت .

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس، أو العرض، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان،

____________________________

1 . الآلوسي: روح المعاني 3 / 121 .

2 . جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل 4 / 82 .

( 348 )

لا يكون كافراً يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية:

(مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ

مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان)(1) .

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالا إلاّ أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الّذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القارئ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها .

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز، والباطنية كلّهم، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية .

الآية الثالثة: قوله سبحانه:

(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَ إِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(2) .

وكانت عاقبة أمره أن: (فَوَقَاهُ اللّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)(3) .

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبىّ اللّه من الموت: (قَالَ

____________________________

1 . تفسير المراغي 3 / 136 .

2 . غافر / 28 .

3 . غافر / 45 .

( 349 )

يَا مُوسَى اِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(1) .

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوه الكافر .

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة:

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية فقط، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الّذي

يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجه على من يُتقى منه لا على المتقي، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها، لم يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، ولساد الوئام مكان النزاع .

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به، وإليك نصوص بعضهم:

1- يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي _ رضي الله عنه _ : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، وقوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «من قتل دون ما له فهو شهيد»(2)

____________________________

1 . القصص _ 20 .

2 . الرازي: مفاتيح الغيب 8: 13 في تفسير الآية .

( 350 )

2- ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين _ مع قلتهم _ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، واجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، ولا

برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم(1) .

3- وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة الفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم، في وجوههم وبذل المال لهم، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة»(2) .

إنّ الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية الّتي لأجلها يتقيهم السنّي، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لالقصور في الشيعي، بل في أخيه الّذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الّذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق _ الّتي استنبطت من

____________________________

1 . جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4 / 82 .

2 . مصطفى المراغي: التفسير 3 / 136 .

( 351 )

الكتاب والسنّة _ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع

من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، ورفض للملاك الّذي شُرعت لأجليه التقية، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم .

والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (7 / 195 _ 206) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم ،ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة .

الظروف العصبية الّتي مرت بها الشيعة:

الّذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون _ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين _ أي ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة

( 352 )

طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم

ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة الّتي هي أغلى عنده من نفسه وماله .

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا كيفما كانوا، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:

بيان معاوية إلى عماله:

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي _ عليه السلام _ فاستعمل عليها زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي _ عليه السلام _ ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة .

ثمّ كتب إلى عامه نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة

( 353 )

أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء

أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي _ عليه السلام _ ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيُلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ويحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه .

وأضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي _ عليهما السلام _ فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض .

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين _ عليه السلام _ ، وولي عبدالملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي _ عليه السلام _ وعيبه، والعطن فيه، والشنآن له، حتّى إنّ إنساناً وقف للحجاج _ ويقال إنّه جد الأصعمي عبدالملك بن قريب _ فصاح به: أيّها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسموني علياً، وإنّي فقير وبائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسلتَ به، قد وليتك موضع كذا(1).

ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع، بل العجب العجاب أن

____________________________

1 . شرح نهج البلاغة 11 / 44 _ 46 .

( 354 )

تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة، وأقامت دولا وشيدت حضارات وبرز منها الكثير

من العلماء والمفكرين .

فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرية الّتي سمح بها الإسلام لأبنائه، وليعذوه في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون _ وذاك هو العجيب _ أنّ الخروج على الإمام علي _ عليه السلام _ غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة، وإنّ إثارة الفتن في صفّين _ الّتي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين _ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى، حسب قوّة الضغط وضآلته، فشتان بين عصر المأمون الّذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكل الّذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة .

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، وقد اختاره معلماً لوالديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت: واللّه إنّ قنبر خادم علي _ عليه السلام _ خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع

( 355 )

وأربعين ومائتين، وقيل ثلاث وأربعين، وكان عمره ثمانية وخمسين

سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك!!(1) .

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته الّتي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:

اكلّ أوان للنبيّ محمّد * قتيل زكيّ بالدماء مضرّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم * لبلواكم عمّا قليل مفرّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم * تضيء مصابيح السماء فتسرّجُ(2)

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!

قال العلاّمة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، ولما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ماتختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك،

____________________________

1 . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 33. الذهبي: سير أعلام النبلاء 12 / 16 .

2 . ديوان ابن الرومي 2 / 243 .

( 356 )

تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية .

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى، متبعة في ذلك سيرة

الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني ودين آبائي»، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (1) .

روي عن صادق آل البيت _ عليهم السلام _ في الأثر الصحيح:

«التقية ديني ودين آبائي» و: «من لا تقية له لا دين له» وكذلك هي.

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت _ عليهم السلام _ دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّا لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول .

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا .

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم .

وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف

____________________________

1 . غافر / 28، النحل / 106 .

( 357 )

الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة(1) .

حدّها:

قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها، ودليلها، بقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول:

عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصحّ الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون، إذ من المحتمل

جداً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة، ويكرره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة الّتي يتحامل بها على الشيعة .

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت _ يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير، إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً .

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشىء عن عدم معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم

____________________________

1 . مجلة المرشد 3 / 252، 253، ولاحظ: تعليقة أوائل المقالات ص 96 .

( 358 )

دولة تحميهم، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلاّ في موارد خاصة .

إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه، إلاّ أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية _ إلاّ في حدود ضيقة _ تنحصر في مستوى الفتاوى ولم تترجم إلاّ قليلا على المستوى العملي، بل كانوا

عملياً من أكثر الناس تضحية، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين، والحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات من غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوارتهم المتتالية .

التقية المحرّمة:

إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً .

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية

( 359 )

مثلا محرّمة، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين .

إنّ للإمام الخميني _ قدس سره _ كلاماً في المقام ننقله بنصه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال _ قدس سره _ : تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات الّتي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والمشاهد المشرفة، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات،

ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطررار ولا الاكراه .

وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز»(1) .

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلا، فإنّ جواز التقية في مثله، تمسّكاً بحكومة دليل الرفع(2) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلا عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها

____________________________

1 . الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6 .

2 . قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» .

( 360 )

لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة(1) .

وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقة والواقعية للتقية، وخرجنا بالنتائج التالية:

1- إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر، حيث أمره _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالعودة

إذا عادوا .

2- إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة .

3- إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية .

4- إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف، الّذي يريد السوء والبطش بأخيه .

5- إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر .

6- إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة .

____________________________

1 . الإمام الخميني: الرسائل: 171 _ 178 .

( 361 )

وفي الختام نقول:

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الّذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الّذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله، وأقصى ما يصحّ في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري .

نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي الّتي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لاخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم، رأيه ونظره، وجهده وطاقته .

إنّ الشيعة يقتفون أثر الأئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة، ويرون رأيهم، لأنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين اللذين

أمر الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالتمسك بهما في مجال العقيدة والشريعة، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد، وهي حجّة على الجميع .

نسأل اللّه سبحانه: أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض، ويوحّد صفوفهم، ويؤلّف بين قلوبهم، ويجمع شملهم، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير .

( 362 )

( 363 )

المسألة السادسة:

الرجعة

إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة، فكأنّ من قال بها، رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا انّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطاب فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبىّ الأكرم بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ ايدي وأرجل أقوام...

عن أبي هريرة قال: لمّا توفّي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قام عمر بن الخطاب، فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون انّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ توفّي، وانّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ واللّه ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قدمات، واللّه ليرجعنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال و أرجلهم زعموا انّ

( 364 )

رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مات(1) .

ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابد أن يحمل على أنّ النبي ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر

عنه الخليفة، ولو أراد من نفي موته أنّه ما زال حياً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتفقوا على موته، ولم يكن موت النبي أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة .

إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضاد اُصول الإسلام، وليس فيه انكار لأىّ حكم ضروري، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا ينفي بعثهم يوم القيامة، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية، نظير:

1- إحياء جماعة من بني إسرائيل(2) .

2- إحياء قتيل بني إسرائيل(3) .

3- موت اُلوف من الناس وبعثهم من جديد(4) .

4- بعث عزير بعد مائة عام من موته(5) .

5- إحياء الموتى على يد عيسى _ عليه السلام _ (6) .

فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالاً، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام 4 / 305 .

2 . البقرة / 55 _ 56 .

3 . البقرة / 72 _ 73 .

4 . البقرة / 243 .

5 . البقرة / 259 .

6 . آل عمران / 49 .

( 365 )

ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الاطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟

إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كل رجوع إلى الدنيا تناسخاً وانّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الانسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير انساناً مرّة اُخرى وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية، أو دخول روح في

بدن آخر، إنساناً كان أو حيواناً؟!

اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً، غير انّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الّذي فارقه عند الموت لا يعد تناسخا، وانّما هو إحياء للموتى،الّذي كان معجزة من معاجز المسيح.

كل ذلك يدل على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع وانّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلاّ فنذره في سنبله، والحال انّ بعض الآيات والروايات تدل على أنّه سيتحقّق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الاجمال، وأمّا من هم؟. وفي أي وقت يرجعون؟. ولأىّ غرض يعودون إلى الدنيا؟ فليس هنا مقام بيانها، انّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث، وإليك الآيات .

قال سبحانه:

(و إذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنونَ * وَ يَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ

( 366 )

يُوزَعُونَ)(1) .

لا يشك من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها، في أنّ الآية الاُولى تتعلّق بالحوادث الّتي تقع قبل يوم القيامة، وعليه تكون الآية الثانية مكمّلة لها، وتدل على حشر فوج من كل جماعة قبل يوم القيامة، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض، يقول سبحانه (وَ يَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ و تَرى الأرضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحدا)(2) .

أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة؟

وهذه الآية تعرب عن الرجعة الّتي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن

الكريم وجاء التفصيل في السنّة .

وقد سأل المأمون العباسي الامام الرضا _ عليه السلام _ عن الرجعة، فأجابه بقوله: إنّها حقّ قد كانت في الاُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : يكون في هذه الاُمّة كل ما كان في الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة(3) .

وأمّا من هم الراجعون؟ وما هو الهدف من إحيائهم؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع، واجمال الجواب عن الأوّل أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين .

وقال المفيد ناقلا عن أئمّة أهل البيت: إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم، من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع

____________________________

1 . النمل / 82 _ 83 .

2 . الكهف / 47 .

3 . بحارالأنوار 53 / 59 الحديث 45 .

( 367 )

لهم إلى يوم المآب(1) .

وقال أيضاً في المسائل السروية: والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين(2) .

وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى، قال: إنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي _ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف _ قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم .

ذكر نكات:

1- إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة، ولكنّ التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة، بين أكثر الشيعة، ولكن لم ينكر ركناً من أركان التشيّع، ولأجل ذلك نرى انّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الاُمور دون رجوع أعيان الأشخاص،

والباعث لهم على هذا التأويل هوعجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالا، ولكن المحقّقين من الامامية، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللّه على كل مقدور، أجابوا عن الشبه الواردة عليها، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله: واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف .

____________________________

1 . الشيخ المفيد: تصحيح الاعتقاد 40 .

2 . الشيخ المفيد: تصحيح الاعتقاد 40 .

( 368 )

ويشير إلى الاختلاف، تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل الّتي وردت عليه من الرىّ ومنها حقيقة الرجعة، فأجاب بأنّ الّذي تذهب إليه الشيعة الإمامية بأنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته، وقوماً من أعدائه، وأنّ من الشيعة، تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم، من دون رجوع الأشخاص واحياء الأموات(1) .

2- كيف يجتمع اعادة الظالمين مع قوله سبحانه: (و حَرامٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(2) فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً، وحشر لفيف من الظالمين، يخالفها .

والاجابة عن السؤال واضحة، فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين اُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة، فالآية تنفي رجوع لفيف من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف .

3- إنّ الظاهر من قوله تعالى: (حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أعْمَلَ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِن ورائِهمْ بَرْزَخٌ اِلى يَومِ يُبْعَثُونَ)(3) هو نفي الرجوع

إلى الدنيا بعد مجيئ الموت لأي أحد .

والاجابة عنها واضحة. انّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع وهذا لا ينافي رجوع البعض

____________________________

1 . بحارالانوار 53 / 138 .

2 . الأنبياء / 95 .

3 . المؤمنون / 100 _ 101 .

( 369 )

استثناءً ولمصالح عليا، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار .

أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا _ على القول بالرجعة _ إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلا على نفي النوع الأوّل منه .

( 371 )

المسألة السابعة:

زواج المتعة

وممّا يشنّع به على الشيعة: قولهم بجواز نكاح المتعة، ويعدّون القول بتشريعه أو بعدم نسخه مخالفاً للكتاب والسنّة. والمسألة فرعية فقهية لا يناسب البحث عنها في كتب تاريخ العقائد، غير أنّه لما كانت من شعائر فقه الشيعة، آثرنا أن نبحث عنها في اطار الكتاب والسنّة على وجه الاجمال حتّى يقف القارئ على أنّ القول باصل تشريعها وعدم نسخها، ممّا يثبته الكتاب والسنّة. وانّ القول بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. وسيوافيك انّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها وانّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين .

وقد أبدى بنظيره في متعة الحج في زمن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (1) .

____________________________

1 . لاحظ الفصل الرابع من هذا الجزء، المورد الثالث من الموارد الّتي اجتهدوا فيها مقابل النص .

( 372 )

وأمّا زواج المتعة:

وهو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية، بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها إذا لم تكن يائسة أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما(1) .

وولد المتعة ذكراً كان أو اُنثى يلحق بالأب ولا يُدعى إلاّ به، وله من الارث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الاُم وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والاُمّهات وكذا المعمومات الواردة في الاخوة والأخوات والأعمام والعمّات .

وبالجملة: المتمتّع بها زوجة حقيقة وولدها ولد حقيقة ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلاّ انّه لا توارث هنا ما بين الزوجين ولا قسم ولا نفقه لها. كما انّ له العزل عنها وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الاحكام لا في الماهية والماهية واحدة غير انّ أحدهما مؤقت والآخر دائم. وانّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ .

وقد أجمع أهل القبلة على انّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام ولا يشك أحد في أصل مشروعيّته وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته .

والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: (وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاُختَينِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللّه كانَ غَفُوراً رَحيماً * والُمحصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيكُمْ وَ اُحِلَّ لَكُمْ

____________________________

1 . لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الامامية في ذلك المجال .

( 373 )

ماوَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأموالِكُمْ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ

فَاَتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ فريضةً ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً)(1) .

والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه:

1- الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه:

إنّ هذه السورة _ سورة النساء _ تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (و إنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِى اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثَلاثَ و رُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً...)(2) .

وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: (وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنيئاً مَريئا)(3) .

وأمّا نكاح الاماء فقد جاء في قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللّهُ أعْلَمُ بِإيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وَ اَتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنات غَيْرَ مُسافِحات ولا مُتَّخِذاتِ أخْدان...)(4) .

____________________________

1 . النساء / 23 _ 24 .

2 . النساء / 3 .

3 . النساء / 4 .

4 . النساء / 25 .

( 374 )

فقوله سبحانه: (فمن ما ملكت أيمانكم) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الّذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: (إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ...)(1) .

وقوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير. فالى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة وهو الّذي جاء في الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: (فما استمتعتم) على الزواج الدائم وحمل قوله: (فآتوهنّ اُجورهنّ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، وحمله على وجوب

الصداق كله بالدخول، خلاف المتبادر على أنّه يجب الكل بالعقد والطلاق قبله منصِّف. فالناظر في السورة يرى انّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً .

2- تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع:

إنّ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنَّ) يناسب نكاح المتعة الّذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكل إلاّ بالمس .

3- تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها:

ذكرت اُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس وأبي بن كعب وعبداللّه بن مسعود وجابر بن عبداللّه الأنصاري

____________________________

1 . المؤمنون / 6 .

( 375 )

وحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن جبير إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل .

وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين: امام الحنابلة في مسنده(1) وأبو جعفر الطبري في تفسيره(2) وأبوبكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن(3) وأبوبكر البيهقي في السنن الكبرى(4) ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف(5) وأبوبكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن(6) وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب(7)، إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا ولا نطيل الكلام بذكرهم .

وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يثقون به. فبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة .

ونزيد بياناً بقوله سبحانه: (واُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بَأمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحين) .

إنّ قوله سبحانه: (أن تبتغوا) مفعول له لفعل مقدّر، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا

يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: (تبتغوا) فيعلم من القرينة وهو النساء أي تطلبوا النساء، أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء

____________________________

1 . مسند أحمد 4 / 436 .

2 . تفسير الطبري 5 / 9 .

3 . أحكام القرآن 2 / 178 .

4 . السنن الكبرى 7 / 205 .

5 . الكشاف 1 / 360 .

6 . جامع أحكام القرآن 5 / 13 .

7 . مفاتيح الغيب 3 / 267 .

( 376 )

من طريق الحلال لا الحرام.

وقوله سبحانه: (محصنين) وهو من الاحصان بمعنى العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه: (غير مسافحين) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ السائل، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء (وآتوهنّ اُجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات) أي عفائف غير زانيات .

ومعنى الآية: انّ اللّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ماوراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا. وهذا المناط موجود في جميع الأقسام: النكاح الدائم، والمؤقت والزواج بأمة الغير، المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الاّية 25 .

هذا هو الّذي يفهمه كلّ إنسان من ظواهر الآيات غير انّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنّ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبّق معنى الآية على العقد الدائم وذكر في المورد شبهات نشير إليها .

الشبهة الأولى: إنّ الهدف في تشريع النكاح هو تكوين الاُسرة وإيجاد النسل وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الّذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه .

يجاب عنها بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه. وما ذكر انّما

هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، ضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض. كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم .

( 377 )

ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والارضاع والحضانة .

ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة الّتي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين الذين يتزوّجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك، وإلاّ فقد أفتى بغير دليل ولا برهان فيتعيّن الأوّل. فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى انّ المدّة مذكورة في الأول دون الثاني؟

يقول صاحب المنار: إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون انّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الّذي يشترط فيه التوقيت(1) .

أقول: نحن نفترض انّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ، فهو صحيح بلا اشكال .

الشبهة الثانية: إنّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّوجلّ في صفة المؤمنين: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون * إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ العادُون)(2).

والمراد من الآية أن

من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحلّه اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم، والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي

____________________________

1 . المنار 5 / 17 .

2 . المؤمنون / 5 _ 7 .

( 378 )

عليها بالمعروف .

يلاحظ عليه: انّها دعوى بلا دليل، فانّها زوجة ولها أحكام وعدم وجود النفقة وعدم وجود القسم، لا يخرجانها عن الزوجيّة فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسم. ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين يترتّب عليها أحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام .

الشبهة الثالثة: إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة، بل يكون قصده مسافحة، فإن كان هناك نوع ما من احصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمَنِ الزنا، فإنّه لا يكون فيه شيء ما من احصان المرأة الّتي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل:

كرة حُذِفْت بصوالجة * فتلقّفها رجل رجل(1)

يلاحظ عليه: انّه من أين وقف على انّ الاحصان في النكاح المؤقّت، يختص بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكل واحد من الطرفين يُحْصن نفسه من هذا الطريق، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والّذي يصون الفتاة عن البغي أحد الاُمور الثلاثة:

1- النكاح الدائم .

2- النكاح المؤقّت بالشروط الماضية .

3- كبت الشهوة الجنسية .

فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة الذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر

____________________________

1 . المنار 5 / 13 .

( 379 )

شاق لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء، وهم قليلون، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني، فيحصنان

نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة .

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيّه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع فلابد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية، حلولا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه :

ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنع كرامتهم ودينهم عن التنقل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم، فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه، فلم يبق طريق إلاّ ما ذكره الإمام علي بن أبي طالب، حيث قال: «لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية» .

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية الّتي ينسبها الرجل(1) وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة، الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع، وانّه لو كان هناك نهي أو نسخ فانّما هو بعد التشريع والعمل .

الشبهة الرابعة: إنّ الآية منسوخة بالسنّة، واختلفوا في زمن نسخه إلى أقوال شتّى:

1- اُبيحت ثم نهي عنها عام خيبر .

____________________________

1 . لاحظ كتابه: السنّة والشيعة 65 _ 66 .

( 380 )

2- ما اُحلّت إلاّ في عمرة القضاء .

3- كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح .

4- اُبيحت عام أوطاس ثم نهي عنها(1) .

وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، على

انّ نسخ القرآن بأخبار الاحاد ممنوع جدّاً، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال: «انّ اللّه أنزل المتعة وما نسخها بآية اُخرى وأمرنا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطاب .

إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وانّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من اللّه عزّوجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر:

متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء، بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهنّ، واُحرّمهنّ، واُعاقب عليهنّ: متعة النساء ومتعة الحج وحىّ على خير العمل(2) .

وقد تقدم في الفصل الرابع بعض الكلام في ذلك أن ابن عباس قال لبعض المناظرين الذين كانوا يحتجون بنهي أبي بكر وعمر: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول اللّه، وتقولون: قال أبوبكر وعمر، حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالاباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول اللّه أحقّ أن

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال: مسائل فقهية 63 _ 64، الغدير 6 / 225، أصل الشيعة واُصولها 171، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن .

2 . مفاتيح الغيب 10 / 52 _ 53، شرح التجريد للقوشجي 484 طبع ايران .

( 381 )

يتّبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة. لبعض المصالح المزعومة الّتي عبّر عنها في غير واحد

من كلماته في المقام وفي متعة الحجّ، وقال:... ورؤوسنا تقطر ماءً(1) .

المنكرون للتحريم:

إنّ هناك لفيفاً من الصحابة والتابعين أنكروا التحريم بحماس:

1- علي أميرالمؤمنين، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال: لولا أنّ عمر نهى عن المتعة مازنى إلاّ شقىّ(2) .

2- عبداللّه بن عمر، أخرج الامام أحمد من حديث عبداللّه بن عمر، قال: قد سئل عن متعة النساء واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه زانين ولا مسافحين، ثم قال: واللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول: ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر(3) .

3- عبداللّه بن مسعود، روى البخاري عن عبداللّه بن مسعود، قال: كنّا نغزو مع رسول اللّه وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الممُعْتَدِينَ) (4)(5) .

____________________________

1 . المفيد: الارشاد 93 طبع النجف .

2 . الطبري التفسير 5 / 9 .

3 . مسند أحمد 2 / 95 .

4 . صحيح البخاري، كتاب النكاح 7 / 4، الباب 8، الحديث 3 .

5 . المائدة / 87 .

( 382 )

4- عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء(1) .

أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاءعن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وعملنا بها مع رسول اللّه، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبىّ حتّى مات(2) .

5- وقد عمد المأمون الخليفة العباسي،

أن يعلن بتحليل المتعة، ولكنّه خوفاً من الفتنة توقّف عن الاعلان قال ابن خلّكان، نقلا عن محمّد بن منصور: قال: كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وعلى عهد أبي بكر _ رضي الله عنه _ وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأبوبكر _ رضي الله عنه _ ؟! فأوما أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال: رجل يقول من عمر بن الخطاب نكلّمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: مالي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غم يا أميرالمؤمنين لما حديث في الإسلام قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللّه عزّوجلّ، وحديث

____________________________

1 . صحيح البخاري 6 / 27، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة قول (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ).

2 . مسند أحمد. لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين 70 .

( 383 )

رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال اللّه تعالى: (قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنون) إلى قوله: (و الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(1).

يا أميرالمؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي، الزوجة الّتي عند اللّه ترث وتورث

وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين(2) .

عزب عن ابن أكثم _ وهو كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت _ . أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه (إلاّ على أزواجكم) وأمّا عدم الوراثة، فهو تخصيص في الحكم، وهو لا ينافي ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد، فيلحق قطعاً ونفي اللحوق ناش إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به .

وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الاُمّة على تحليلها عصر الرسول والخليفة الأوّل، افحسب ابن أكثم انّ الرسول حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.

كبرت كلمة تخرج من أفواهم:

وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية .

روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يامر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع

____________________________

1 . المؤمنون / 1 _ 7.

2 . ابن خلكان: وفيات الأعيان 6 / 149 _ 150 .

( 384 )

رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فلمّا قام عمر قال: إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء فأتمّوا الحجّ والعمرة وابتّوا نكاح هذه النساء فلئِن اُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة(1) .

وروى الامام أحمد في مسنده عن ابي نضرة: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول اللّه ومع أبي بكر فلمّا ولّى عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن

هو القرآن، وإنّ رسول اللّه هو الرسول، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه إحداهما متعة الحج والاُخرى متعة النساء(2) .

وهذه المأثورات تعرب أولا: عن أنّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة ولم تكن محرّمة إلى زمان تولي عمر الأمر فنهى ومنع .

وثانياً: انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة، ومن المعلوم انّ اجتهاده _ لو صحّت تسميته بالإجتهاد _ حجّة على نفسه لا على غيره .

وفي الختام نقول:

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى القول أنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وانّ المتمتَّع بها لا عدّة لها، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها .

وقد خفي الواقع على هؤلاء، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من

____________________________

1 . مسلم: الصحيح 4 / 130 باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمد علي صبيح .

2 . أحمد: المسند 1 / 52 .

( 385 )

جميع الموانع، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوراث، والانفاق وسائر الحقوق المادية وانّ عليها أن تعتد بعد إنتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار(1) .

____________________________

1 . الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46 .

( 386 )

( 387 )

المسألة الثامنة:

مسح الأرجل في الوضوء

اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فذهب الأئمة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، وقالت الشيعة الامامية انّه المسح، وقال داود

بن علي والناصر للحق من الزيدية يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره: ونقل عن الحسن البصري انّه مخيّر بينهما(1) .

وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسالة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره، وفي حضره وسفره ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً، فجعل أوضح المسائل أبهمها .

إنّ الذكر الحكيم تكفّل لبيان المسألة وما أبقى فيها ابهاماً واعضالا، وكان الحاضرون في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً. إمّا المسح أو الغسل ،

____________________________

1 . الطبري: التفسير 6 / 86 ومفاتيح الغيب 11 / 162 والمنار 6 / 228 .

( 388 )

ولم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على الأجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل .

وليس فيها شيء أوثق من كتاب اللّه فعلينا دراسة ما جاء فيه، قال سبحانه: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بَرؤوسِكُمْ وَ أرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْن)(1) وقد اختلف القرّاء في قراءة (وأرجلكم إلى الكعبين) فمنهم من قرأ بالخفض، ومنهم من قرأ بالكسر. ومن البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ، فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً واعضالا، ويجعل الآية لغزاً، والقرآن كتاب الهداية والارشاد، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان، خصوصاً فيما يتعلّق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين، ولا تقاس بالمعارف والعقائد الّتي يختصّ الامعان فيها بالأمثل فالأمثل. وعلى كل تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الامام الرازي في

تفسيره، ننقل كلامه بتلخيص:

قال: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله (وأرجلكم) وهما:

الأوّل: قرأ ابن كثير و حمزة وأبو عمرو وعاصم _ في رواية أبوبكر عنه _ بالجرّ .

الثاني: قرأ نافع وابن عامر وعاصم _ في رواية حفص عنه _ بالنصب .

أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس، فكذلك في الأرجل .

____________________________

1 . المائدة / 6 .

( 389 )

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار؟ كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب» وقوله: «كَبيرُ اُناس في بِجاد مَزَمِّل» .

قيل: هذا باطل من وجوه:

1- إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الّذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه .

2- إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: «جُحرُضَبٍّ خَرِب» فإنّ «الخَرِب» لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل .

3- إنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب .

وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ «برؤوسكم» في قوله (فامسحوا برؤوسكم) في محل النصب(1) بامسحوا لأنّه المفعول به ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجر عطفاً على الظاهر .

ونزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برؤوسكم ولا يجوز العطف على ظاهر «أيديكم» لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد، فضلا عن الجملة، هذا هو الّذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم، ولا يسوغ لمسلم أن

يعدل عن القرآن إلى غيره فإذا كان هو المهيمن

____________________________

1 . يقال ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر:

معاوي انّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

لاحظ: المغني لابن هشام: الباب الرابع .

( 390 )

على جميع الكتب السماوية فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون(1) مع كونها متضاربة في المقام، فلو ورد فيها الأمر بالغسل، فقد جاء فيها الأمر بالمسح. رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال:

1- ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.

2- كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. ولمّا خطب الحجّاج وقال: ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقبيهما، قال أنس: صدق اللّه وكذب الحجّاج، قال اللّه (واسمحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وكان أنس إذامسح قدميه بلّهما .

3- عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل وانّما نزل فيهما المسح .

4- الشعبي قال: نزل جبرائيل بالمسح وقال: ألاترى انّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحاً .

5- عامر: اُمر أن يمسح في التيمّم ما اُمر أن يغسل بالوضوء واُبطل ما اُمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان. وقيل له: إنّ اُناسا يقولون: إنّ جبرائيل نزل بغسل الرجلين فقال: نزل جبرائيل بالمسح .

6- قتادة: في تفسير الآية: افترض اللّه غسلتين ومسحتين .

7- الأعمش: قرأ «وأرجلكم» مخفوضة اللام .

8- علقمة: قرأ «أرجلكم» مخفوضة اللام .

9- الضحاك: قرأ «وأرجلكم» بالكسر .

____________________________

1 . لاحظ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة: فصل «علل تكوّن المذاهب وأسبابه» .

( 391 )

10- مجاهد: مثل ما تقدّم(1) .

وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان: ابن عباس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجر الصريح

في تقديم المسح على الغسل، وجمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة، ولماذا، أعرض عنهم الأئمّة الأربعة؟

أنا لا أدري .

إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت وهم يُسندون المسح إلى النبي الأكرم ويحكون وضوءه به قال أبوجعفر الباقر _ عليه السلام _ : ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه وقدميه. وفي رواية اُخرى ثمّ

مسح ببقيّة مابقى في يديه، رأسه ورجليه ولم يعدهما في الاناء(2) .

وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الامامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان وقال السيّد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة:

انّ الوضوء غسلتان عندنا ومسحتان والكتاب معنا

فالغسل للوجه ولليدين والمسح للرأس وللرجلين

وبعد وضوح دلالة الآية، واجماع أئمّة أهل البيت على المسح، لا يبقى مجال للاستدلال على الغسل، وإليك ما ذكروا من وجوه باطلة .

1- انّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه ويكون غسل

____________________________

1 . الطبري: التفسير 6 / 82 _ 83 .

2 . الحرّ العاملي: الوسائل 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9 و 10 .

( 392 )

الأرجل يقوم مقام مسحها(1) .

يلاحظ عليه: أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، وليس شيء أوثق من كتاب اللّه فلو دلّ على لزوم المسح، لا يبقى مجال لترجيحه على روايات الغسل، والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات، والمعارض منها للكتاب لا يقام لها وزن .

وأعجب من ذلك قوله: إنّ الغسل مشتمل على المسح، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، والمسح إمرار اليد على الممسوح(2).

وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفاً وشرعاً ولو

حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل، لا الاكتفاء بالغسل .

2- ما روي عن علي أنّه كان يقضي بين الناس فقال «وأرجلكم» هذا من المقدّم والمؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم» .

يلاحظ عليه: أنّ أئمّة أهل البيت كالباقر والصادق _ عليهما السلام _ أدرى بما في البيت وهم اتّفقوا على المسح وهل يمكن الاتّفاق على المسح، مع اعتقاد كبيرهم بالغسل. وما روي موضوع عن لسان الامام ليثيروا الشك بين أتباعه وشيعته. ولا نعلّق على احتمال التقديم والتأخير شيئاً، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الّذي يطلب فيه الوضوح، إذ هي المرجع للقروي والبدوي،وللحاضر عصر النزول، والغائب عنه، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد، ثمّ إنّه

____________________________

1 . الرازي: مفاتيح الغيب 11 / 162 .

2 . قال سبحانه حاكياً عن سليمان: (رُدّوها عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والأعْناق) _ ص / 33 _ أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد وأعناقها .

( 393 )

أىّ ضرورة اقتضت هذا التقديم والتأخير، مع أنّه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب، وانّ غسل الأرجل بعد مسح الرأس، فكان من الممكن أن يُذكر فعله ويقال «فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين». كل ذلك يعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص وما عليه أئمة أهل البيت من الاتّفاق على المسح .

3- ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال: تخلّف عنّا رسول اللّه في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، وجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» _ مرتين

أو ثلاث _ (1) .

يلاحظ عليه: أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالته على غسل الرجلين فإنّها صريحة في أنّ الصحابة كانوا يمسحون، وهذا دليل على أنّ المعروف عندهم هو المسح. وما ذكره البخاري من أنّ الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، وهو حجّة عليه لا على غيره، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتّى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبىّ المسح؟! على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات، فقد روي أنّ قوماً من أجلاف العرب، كانوا يبولون وهم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سبباً لذلك الوعيد(2) ويؤيّد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم: بوّال على عقبيه، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب .

____________________________

1 . صحيح البخاري ج 1 كتاب العلم ص 18 باب من رفع صوته، الحديث 1 .

2 . مجمع البيان 2 / 167 .

( 394 )

4- روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حية، قال: رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال: أردت أن اُريكم طهور نبيّكم(1) .

يلاحظ عليه: أنّ أبا حية مجهول لا يعرف، ونقله عنه أبوإسحاق الّذي شاخ ونسى واختلط وترك الناس روايته(2) أضف إليه انّه يعارض ما رواه عنه أهل بيته، وأئمّة أهل بيته، خصوصاً من لازمه في حياته وهو ابن عباس كما مرّ .

5- قال صاحب المنار: وأقوى الحجج اللفظية على الامامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين وهذا لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل .

يلاحظ عليه:

أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره، لكن نسأله: لماذا لا تحصل تلك الغاية إلاّ باستيعابهما بالماء؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد، والاختبار سهل، فها نحن من الذين يمسحون الأرجل إلى العظمين الناتئين بنداوة اليد ولا نرى في العمل اعضالا وعسراً .

6- الامامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم، فلو صحّ هذا لقال إلى الكعاب كما قال في اليدين إلى المرافق(3) .

يلاحظ عليه: إنّ المشهور بين الامامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم الّتي هي معقد الشراك، وهناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق والقدم وذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل وعلى كل تقدير، يصح

____________________________

1 . سنن ابن ماجة 1 / 170 باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الأوّل .

2 . لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة 170 وميزان الاعتدال للذهبي 4 / 519، برقم 10138 و ص 489 باب «أبو إسحاق» .

3 . المنار 6 / 234 .

( 395 )

اطلاق الكعبين، وإن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل، فيكون المعنى «فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم» إذ لا شك أن كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه .

أضف إلى ذلك انّه لو صحّ التفسير بما ذكره يجب أن يوسع الممسوح ويحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل، وكأنّه تخيّل أن المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق إليهما وتجفّ اليد قبل الوصول إليهما .

ولعمري انّ هذه اجتهادات واهية، وتخرّصات لاقيمة لها في مقابل الذكر الحكيم .

7 - آخر ما عند صاحب المنار في

توجيه غسل الأرجل هو التمسّك بالمصالح، حيث قال: لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة، بل هو خلاف حكمة الوضوء، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الّذي عليه غبار أو وسخ، يزيده وساخة، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة .

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النص، فلا شك انّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار اصبع أو اصبعين حتّى قال الشافعي: إذا مسح الرجل باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن كفه، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك، وهناك كلمة قيّمة للامام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها، فقال: نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم، ولم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب اللّه عزّوجلّ، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء،

( 396 )

فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح عليها عملا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه(1) ولعلّ غسل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ رجليه _ المدعى في أخبار الغسل _ انّما كان من هذا الباب ولعلّه كان من باب التبرّد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء واللّه أعلم(2)

.

____________________________

1 . ولذاترى حفاة الشيعة والعمال منهم كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة، إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّأوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة .

2 . مسائل فقهيه 82 .

( 397 )

المسألة التاسعة:

عقيدة الشيعة الإماميّة في الصحابة

صحابة النبي الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هم الذين رأوا النبىّ الأكرم وتشرّفوا بكرامة الصحبة وبذل لفيف منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام حتّى ضرب بجرانه واتّسع نطاقه. فشادوا بنيانه، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب، فلولا بريق سيوفهم، وقوّة سواعدهم، وخوضهم عباب المنايا، لما قام للدين عمود، ولا اخضرّ له عود.

إنّ الكتاب والسنّة هما المصدران الرئيسيان عند المسلمين جميعاً، والشيعة خاصة، ولا يجوز لمسلم أن يحكم بأمر شرعيّ إلاّ بالرجوع إليهما. ولا يخالفهما إلاّ منافق أو تاجر بالدين .

والكتاب والسنّة يثنيان على الصحابة، ومن تلى آيات الذكر الحكيم حول

( 398 )

المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان(1) يغبط هؤلاء ويتمنّى من صميم قلبه أن يكون أحدهم. ويدرك شأنهم، ومن استمع للآيات النازلة في المبايعين تحت الشجرة(2) أو أصحاب سورة الفتح(3)فاضت عيناه دموعاً من الشوق إلى هؤلاء الذين ركبوا الطريق، ومضوا، وتعاقدوا على المنيّة .

فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً. (سبحانك هذا بهتان عظيم) .

وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبي ضئيلة الفائدة أو يتهمه بعدم النجاح في هداية قومة وارشاد اُمّته وانّه لم يؤمن به إلاّ شرذمة قليلة لا يتجاوزون عدد الأصابع وانّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالايمان، أو مرتدّ على أدباره القهقرى بعد رحلة النبىّ

الأكرم .

كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول: انّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور (23) عاماً من الدعوة إلاّ ثلاثة أو سبعة أو عشرة. وأي شيعي واع ادّعى ذلك؟ ومتى قال؟ وأين ذكره؟ إن هو إلاّ جزء من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة أثارها الأمويّون في أعصارهم، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق الوحدة الإسلامية وفصم عرى الاخوّة. وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه ب_ «صورتان متعارضتان». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد اُخرى يجتره صنائع الوهابية في المنطقة.

نعم وردت روايات في ذلك ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة ولا تتّخذ مقياساً

____________________________

1 . التوبة: 100: (والذين اتبعوهم بإحسان...) .

2 . الفتح: 18: (لقد رضى اللّه عن المؤمنين...) .

3 . الفتح: 29: (محمّد رسول اللّه والذين معه...) .

( 399 )

لها لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد، وستوافيك دراسة متنها وسندها .

إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته، وفاطمة بنت أسد، وبحمزة والعباس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث «شهيد بدر» وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم، وانتهاءً بعلي _ عليه السلام _ وأولاده وبناته وزوجته سيّدة نساء العالمين .

أمّا الذين استشهدوا في عهد النبىّ الأكرم فهم يتجاوزون المئات ولا يشك أىّ مسلم في أنّهم كانوا من المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم، وضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الايمان والتوحيد والتضحية، بالغالي والرخيص، خدمة للمبدأ والعقيدة. ابتداءً من ياسر وزوجته سميّة أوّل شهيد وشهيدة في الإسلام وكان الرسول يقول لهم

وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب: «صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة»(1) مروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة إلى شهداء بدر واُحد، وقد استشهد في معركة اُحد سبعون صحابياً دفنهم النبىّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وصلّى عليهم وكان يزورهم ويسلّم عليهم، ثم شهداء سائر المعارك والغزوات حتّى قال النبىّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق: اهتزّالعرش لموته، وشهداء بئر معونة ويتراوح عدد الشهداء بين 40 حسب رواية أنس بن مالك أو 70 حسب رواية غيره، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلاّء الذين: (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

____________________________

1 . السيرة النبوية لابن هشام 1 / 320 طبعة الحلبي .

( 400 )

قضى نَحْبَهُ و مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبديلا)(1)، (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللّهُ وَ نِعْمَ الوَكيلُ)(2)، (للفُقَراءِ المُهاجرينَ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و أمْوالِهُمْ يِبتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً و يَنْصُرُونَ اللّهَ و رسولَهُ... * و الَّذِينَ تَبَوّءو الدّارَ والإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيهِمْ ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجةً مِمّا اُوتوا ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)(3) .

أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبىّ في دعوته، وانّه اجتمع حوله رجال صالحون ومخلصون فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبىّ الأكرم في دعوته وتهالكه في هداية اُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة، هو ما جاء في كلام الإمام أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ :

«أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟

أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ اوّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتّبعوه»(4) .

وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه، فقد وصف أصحاب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يوم صفّين، يوم فرض عليه الصلح بقوله:

____________________________

1 . الأحزاب / 23 .

2 . آل عمران/ 173 .

3 . الحشر / 8 _ 9 .

4 . نهج البلاغة، الخطبة 182 .

( 401 )

«ولقد كنّا مع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان انفسهما أيّهما يسقي صاحبه كاس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا، ومرّة لعدوّنا منّا، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للايمان عود»(1) .

هذه كلمة الامام قائد الشيعة وامامهم أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبي أو يفسقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والالحاد أو الارتداد، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ويصنّفهم اصنافا ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم؟ كلاًّ ولا، وهذا هو الامام علي بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبىّ ويقول: اللّهمّ وأصحاب محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خاصّة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء احسن في نصره،

وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبّته، يرجون تجارة لن تبور في مودّته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم، اللّهمّ واوصل التابعين

____________________________

1 . نهج البلاغة، الخطبة 56 .

( 402 )

لهم باحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا...(1) .

فإذا كان الحال كذلك، واتّفق الشيعي والسنّي على اطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟

إنّ موضع الخلاف ليس إلاّ في نقطة واحدة وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كل من رأى النبيّ وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم اُدرج في كفنه، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك، محتجّين بما نسب إلى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. ولو تليت عليهم التواريخ المتضافرة يقولون بما ذكره الحسن البصري: اولئك الذين طهّر اللّه سيوفنا عن دمائهم فلنطهّر ألسنتنا عن أعراضهم. ولا أظن أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال.

وقد تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة بل يلبسونهم ثوب العصمة، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ

من القدح برسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فنفي العصمة عن النبىّ واتهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلا يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلاّ فالقتل..

فإذا كان هذا هو محلّ النزاع أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى مؤمن وفاسق ومثالي وعادي، إلى زاهد ومتوغّل في حبّ الدنيا، إلى عالم بالشريعة وعامل بها وجاهل لا يعرف منها إلاّ شيئاً طفيفاً، فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة مجرّدين عن كل رأي مسبق لا النزول على العاطفة الّتي تحمل المسلم

____________________________

1 . الصحيفة السجادية: الدعاء 4 .

( 403 )

على الحكم بنزاهة الصحابة كلّهم، ورفض ما خلّفته الحوافز .

ولأجل اماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر اُموراً:

الصحابة في القرآن الكريم:

1- إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى اصناف مختلفة، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين، والمبايعين تحت الشجرة، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم،وأصحاب الفتح، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً اُخرى يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية:

1- المنافقون المعروفون(1) .

2- المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبىّ(2) .

3- ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب(3) .

4- السمّاعون لأهل الفتنة(4) .

5- المجموعة الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً(5) .

6- المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر(6) .

____________________________

1 . المنافقون / 1 .

2 . التوبة / 101 .

3 . الأحزاب/ 11 .

4 . التوبة / 45 _ 47 .

5 . التوبة / 102 .

6 . آل عمران / 154 .

( 404 )

7- الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا

فعلهم(1) .

8- المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم(2) .

9- المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم(3) .

10- المولّون أمام الكفّار(4) .

هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة، تعرب عن أنّ صحابة النبىّ الأكرم لم يكونوا على نمط واحد، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها، فيجب اخضاعهم لميزان العدالة الّذي توزن به أفعال جميع الناس، وعندئذ يتحقّق انّ الصحبة لا تعطي لصحابها منقبة إلاّ إذا كان أهلا لها، ومع ذلك فكيف يمكن رمي الجميع بسهم واحد واعطاء الدرجة الواحدة للجميع، وهذا هو رأي الشيعة فيهم، وهو نفس النتيجة الّتي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم .

2- إنّ الآيات الّتي تناولت المهاجرين والأنصار، وغيرهم بالمدح والثناء، لا تدلّ على أزيد من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلا للفضل والفضيلة ولكن الاُمور انّما تعتبر بخواتيمها، فيحكم عليهم _ بعد نزول الآيات _ بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح انّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته، فحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ الحكم بذلك، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم لأنّه ناظر إلى أحوالهم في

____________________________

1 . الحجرات / 6، السجدة / 18 .

2 . الحجرات / 14 .

3 . التوبة / 60 .

4 . الأنفال / 15 _ 16 .

( 405 )

ظروف خاصّة، لافي جميع فصول حياتهم، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم وأنّ اللّه رضي عنهم، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم، فكم من مؤمن زلّ قدمه في الحياة،

فعاد منافقاً، أو مرتدّاً، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلا إلهياً، وبالجملة فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب ايمانه بالظلم والعيث والفساد، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشيء سوى ما أمر اللّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال: (رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ)(1) .

3- ومن سوء الحظ انّ شرذمة قليلة من الصحابة، زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين، وتبيين مواقفهم، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين، ولعلّ عدد المنحرفين (غير المنافقين) لا يتجاوز العشرة إلاّ بقليل .

أفيسوغ في ميزان النصفة رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح .

وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالاعراض عنه إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف، فلو كان الحق ترك التكلّم فيهم واعذارهم بالاجتهاد، فلماذا وصف النبي الأكرم بعضهم بالارتداد، كما رواه

____________________________

1 . الحشر / 10 .

( 406 )

البخاري وغيره(1) .

وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبي أسوة، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري، فالأوّل هو المتعيّن، ويضرب بالثاني عرض الجدار .

الردّة بعد وفاة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ :

بقيت هنا كلمة وهي: إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه _ صلى

الله عليه وآله وسلم _ إلاّ ثلاثة. إذ لو صحّ ما ذكر، وجب الالتزام بأنّ النبىّ الأكرم لم ينجح في دعوته ولم تتخرّج من مدرسته إلاّ قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.

والاجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً. فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات. وهي بين ضعيف لا يعرج عليه، وموثق _ حسب اصطلاح علماء الامامية في تصنيف الأحاديث _ وصحيح قابلين للتأويل، ولا يدلان على الارتداد عن الدين، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر .

أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم أبناء نصير قال: حدثنا محمّد بن عثمان عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر _ عليه السلام _ قال: كان الناس أهل الردّة بعد النبي إلاّ ثلاثة...(2) .

وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سنده وهو من المجاهيل .

وما رواه أيضاً عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي

____________________________

1 . صحيح البخاري 5 / 118 _ 119 في تفسير سورة النور .

2 . رجال الكشي 12 الحديث 1 .

( 407 )

قال: قال أبو جعفر _ عليه السلام _ : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة نفر: سلمان و أبوذر والمقداد(1).

وكفى في ضعفها انّ الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري فلا يصحّ أن يروي عن علي بن الحكم سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عمير المتوفّى عام 217 أو كان المراد الزبيري الّذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا _ عليه السلام _ المتوفّى عام 203 .

وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال: حدثني محمّد بن عيسى ومحمّد ابن مسعود قال: حدثنا

جبرئيل بن أحمد. قال: حدثنا محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن محمّد بن البشير عمّن حدثه قال: ما بقى أحد إلاّ وقد جال جولة إلاّ المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد(2) .

والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد فانّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.

وأمّا الروايات الباقية فالموثق عبارة عمّا ورد في سنده علي بن الحسن بن فضال والثلاثة الباقية صحيحة ومن أراد الوقوف على اسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي(3) .

ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها .

1- كيف يمكن أن يقال انّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه ولم يبق إلاّ ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا انّ جماعة من

____________________________

1 . رجال الكشي 16 الحديث 13 .

2 . رجال الكشي 16 الحديث 11 .

3 . رجال الكشي 13 الحديث 3 _ 4 _ 6 و 7 .

( 408 )

بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة. ولم يتركوا بيت الامام إلاّ بعد التهديد والوعيد واضرام النار أمام البيت. وهذا يدل على انّه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وإليك نص التاريخ. قال ابن قتيبة:

«إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير ابن العوام _ رضي الله عنه _ ...(1) .

وقال في موضع آخر: إنّ أبابكر _ رضي الله عنه _ تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي _ كرم اللّه وجهه _ فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار

علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والّذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لاُحرقنّها على من فيها، فقيل به: يا ابا حفص انّ فيها فاطمة فقال: وإن...(2) .

وقال الطبري: قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: واللّه لاُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه(3) .

وقال ابن واضح الاخباري: وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبدالمطلب، والفضل ابن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب واُبي بن كعب. فأرسل أبوبكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 10 _ 12 .

2 . الامامة والسياسة 1 / 10 _ 12 .

3 . تاريخ الطبري 2 / 442 .

( 409 )

ابن شعبة فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبدالمطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً...(1) .

كل ذلك يشهد على انّه كان هناك اُمّة بقوا على ما كانوا عليه، في عصر الرسول الأعظم، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير ما كان الحق يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلاّ القليل .

2- كيف يمكن أن يقال ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة مع أنّ الصدوق _ رضي الله عنه _ ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار وهم خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، واُبي ابن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبوذر الغفاري،

وسلمان الفارسي، وعبداللّه بن مسعود، وبريدة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو أيّوب الأنصاري، وأبو هيثم ابن التيهان وغيره .

ثمّ ذكر اعتارضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد (2).

3- إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الامام يورث الشك في صحّتها ففي بعضها «إلاّ ثلاثة» وفي البعض الآخر إلاّ سبعة وفي ثالث «إلاّ ستة» فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الايمان غير أنّه على كل تقدير يوهن الرواية .

4- كيف يمكن انكار ايمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علو شأنهم كأمثال بلال الحبشي، وحجر بن عدي، واويس القرني، ومالك بن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد، وعباس بن عبدالمطلب

____________________________

1 . تاريخ اليعقوبي 2 / 124 .

2 . الخصال: الشيخ الصدوق أبواب الاثنى عشر 461 _ 465 .

( 410 )

وابنه حبر الاُمّة وعشرات من أمثالهم، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي، أضف إلى ذلك انّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خط الامام ولم يتخلّفوا عنه وانّما غمدوا سيوفهم اقتداءً بالامام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته(1) .

واقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو انّه ليس المراد من الارتداد، الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية وانّما المراد عدم الوفاء بالعهد. الّذي اُخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم. ويؤيّد ذلك:

ما رواه وهب بن حفص عن ابي بصير عن أبي جعفر: جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم _ بعدما بويع أبوبكر _ إلى علي وقالوا له: أنت والله أميرالمؤمنين، أنت واللّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هلمّ يدك

لنبايعك فواللّه لنموتنّ قدامك. فقال علي _ عليه السلام _ : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً علىّ محلّقين. فحلق أميرالمؤمنين وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبوذر ولم يحلق غيرهم(2).

وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الامام _ عليه السلام _ لأخذ الحق المغتصب فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه .

وممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية الّتي جاء فيها انّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد، فهي وإن كانت ضعيفة السند، لكن فيها اشعار على ذلك لأنّ وصف قلب المقداد اشارة إلى ارادته القوية وثباته في سبيل استرداد الخلافة .

وظنّي انّ هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتفانياً في الاخلاص غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم وما روي عن

____________________________

1 . نهج البلاغة، قسم الرسائل برقم 62 .

2 . لاحظ الرجال للكشي 14 الحديث 7 من هذا الباب .

( 411 )

أميرالمؤمنين وحفيده سيد الساجدين، من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. وهناك كلمة قيّمة للعلاّمة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال:

وقالت الشيعة حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتّم الحكم بها بمجرّد الصحبة وهي لقاء النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مؤمناً به ومات على الإسلام. وانّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته، لزمنا له من التعظيم والتوقير، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللّه ما هو أهله، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته، أمثال مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة وبعض بني اُمية وأعوانهم، ومن جهلنا حاله

في العدالة توقّفنا في قبول روايته .

وممّا يمكن أنّ يذكر في المقام انّ النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف انسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الاصابة عن أبي زرعة الرازي: «وقيل مات _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي» ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر، والاصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والايمان به، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً، ومنهم المؤلّفة قلوبهم، وما كانت هذه الاُمّة إلاّ كغيرها من الاُمم الّتي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم وقد صحّ عنه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: «لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتّى لو دخل أحدهم

( 412 )

جحر ضب لدخلتموه». ولو منعت رؤية النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الّذي حصل من جماعة منهم كعبداللّه بن جحش، وعبيداللّه بن خطل، وربيعة بن اُمية بن خلف والأشعث بن قيس(1) وغيرهم. هذا مع ما شوهد من صدور اُمور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة كالخروج على أئمّة العدل، وشق عصا المسلمين، وقتل النفوس المحترمة، وسلب الأموال المعصومة، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم، والقاح الفتن والرغبة في الدنيا، والتزاحم على الامارة والرئاسة وغير ذلك ممّا

تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين. وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وكلّهم من الصحابة(2) .

وحصيلة البحث: انّ موضع الاختلاف، ومصبّ النزاع ليس إلاّ كون عدالة الصحابة قضية كلية، أو جزئيّة، فالسنّة على الاُولى والشيعة على الثانية وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول أو عدم حجية رواياتهم على وجه الاطلاق فانّها تهم اموية ناصبية، اتّهم بها شيعة آل محمّد وهم برآء منها. ونعم الحكم اللّه. فالشيعة يعطون لكل ذي حقّ حقّه، فيأخذون معالم دينهم عن ثقاة الصحابة، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة .

إنّ هناك رجالا من السلف لا يجوز حبّهم ولا يصحّ الترحّم عليهم _ حسب الموازين الشرعية _ ، منهم:

____________________________

1 . الثلاثة الأوّلون ارتدّوا وماتوا على الردّة، والأشعث ارتدّ فاُتي به إلى أبي بكر _ رضي الله عنه _ أسيراً فعاد إلى الإسلام وزوّجه اُخته، وكانت عوراء فأولدها محمّداً أحد قتلة الحسين _ عليه السلام _ .

2 . الأمين: أعيان الشيعة 1 / 113 _ 114 .

( 413 )

1- معاوية بن أبي سفيان ويكفي في حقّه ما ذكره الجاحظ في رسائله:

قال في رسالته في بني اُميه والآثام الّتي اقترفوها: استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الّذي سمّوه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الّذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويا، والخلافة غصباً قيصريا، ثمّ مازالت معاصيه من جنس ما حكيناه، وعلى منازل

ما رتّبناه، حتّى ردّ قضية رسول اللّه ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا(1)، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار .

أو ليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيئ واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة، وسواء جحد الكتاب، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره، وإلاّ أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد(2) .

وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه فانّ له صحبة وسبّ معاوية بدعة، ومن بغضه فقد خالف السنّة، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة(3) .

2- عمرو بن العاص الّذي ألَّب على عثمان وسُرّ بقتله، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه من كان من أشدّ المدافعين عنه، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء

____________________________

1 . إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان .

2 . أي ردّ السنّة مثل ردّ الكتاب إذا بلغت السنّة في الشهرة، شهرة الكتاب .

3 . الجاحظ: رسائل الجاحظ 294 طبع مصر .

( 414 )

عنه وتعجيل قتله. كل ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضا، والعجب أنّ الرسول تنبّأ بذلك وصرح بأنّهما لا يجتمعان إلاّ على غدر(1) .

3- يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الّذي ولّي ثلاث سنين بعده، فقتل في الاُولى الحسين، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم، وفي الثالثة رمى الكعبة(2) وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى:

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل

4- مروان بن الحكم الّذي كان من أشدّ الناس

بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر: ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم(3). روى الحاكم أنّ عبدالرحمان بن عوف _ رضي الله عنه _ قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ اُتي به النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، فاُدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: هو وزغ بن الوزغ، الملعون بن المعلون(4) .

5- الوليد بن عقبة شارب الخمر، والزائد في الفريضة(5) .

6- عبداللّه سعد بن أبي سرح الّذي أهدر النبىّ دمه(6) .

7- الوليد بن يزيد بن عبدالملك الّذي يخاطب كتاب اللّه العزيز بعد أن ألقاه

____________________________

1 . ابن حجر: تطهير الجنان 102، المطبوع على هامش الصواعق المحرقة .

2 . ابن الجوزي: تذكرة الخواص، فصل يزيد بن معاوية 257 .

3 . ابن حجر: الصواعق المحرقة .

4 . الحاكم: المستدرك 4 / 479 .

5 . البلاذري: الانساب 5 / 33 وأحمد بن حنبل: المسند 1 / 144 .

6 . الطبري: التاريخ، الجزء 3 / 295، فصل: ذكر الخبر عن فتح .

( 415 )

ورماه بالسهام بقوله:

تهدّدني بجبّار عنيد * فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ماجئت ربّك يوم حشر * فقل يا ربّ مزّقني الوليد(1)

هؤلاء وأضرابهم، هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللّه به عليهم. أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم .

ويقول السيوطي: إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطا، راود أخاه سليمان عن نفسه ونكح زوجات أبيه(2) .

إلى غير ذلك من رجال العيث والفساد، أفيصح في ميزان العدل والنصفة مؤاخذة الشيعة لأجل رفض هؤلاء الفسقة. الخارجين عن ولاية اللّه ودينه .

____________________________

1 . ابن الأثير: الكامل في التأريخ 5 / 107 .

2 . جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء

97 .

( 416 )

( 417 )

المسألة العاشرة:

الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته

السجدة في الصلاة وغيرها، من مظاهر العبودية أمام المسجود له، ومن أركان الصلاة وفي بعض المأثورات «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فمهما أتى بالتذلّل والخضوع كان أوقع وافضل في العبودية، فالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى أبين لبيان العبودية والتصاغر، من السجود على الحصر والبواري، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة، وإن كان الكل سجوداً، لكن العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره .

والامامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما اُنْبِت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس. ولا يرون الجسود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبىّ الأكرم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر _ في ثنايا البحث _ أن الالتزام بالسجود على الأرض أو

( 418 )

ما أنْبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة وانّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة، ولأجل توضيح المقام نقدم اُموراً:

1- اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه:

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرّتين، ولم يختلفوا في المسجود له فإنّه هو اللّه سبحانه الّذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها(1) وشعار كل مسلم قوله سبحانه: (لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ)(2) وانّما اختلفوا في شروط المسجود عليه _ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه _ فالشيعة الامامية على أنّه يشترط أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. و خالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب

وإليك نقل الآراء .

قال الشيخ الطوسي(3) وهو يبيّن آراء الفقهاء: لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك _ إلى أن قال _ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي _ عليه الصلاة والسلام _ وابن عمرو عبادة بن الصامت، ومالك،وأحمد بن حنبل،

____________________________

1 . إشارة إلى قوله سبحانه: (ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وكَرْهاً وضلالُهُم بِالغُدُوِّ وَ الآصالِ) _ الرعد / 15 _ .

2 . فصّلت / 37 .

3 . من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد 385 توفّي عام 460 من تلاميذ الشيخ المفيد 336 _ 413، والسيد الشريف المرتضى 355 _ 436_ رضي الله عنهم _ .

( 419 )

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب الّتي عليه، أجزأه، وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري(1) .

وقال العلاّمة الحلّي(2) _ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه _ : لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع، وأطبق الجمهور على الجواز .

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمّتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين نكتفي بالنزر القليل:

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللّه _ عليه السلام _ : أخبرني وعمّا يجوز السجود عليه، عمّا لا يجوز؟

قال: السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اُكل أو لبس. فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال: لأنّ السجود خضوع للّه عزّوجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّوجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها(3) .

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام،

____________________________

1 . الخلاف 1 / 357 _ 358 كتاب الصلاة، المسألة 112 _ 113 .

2 . الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي 648 _ 726 وهو اُستاذ الشيعة في قرن السابع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة .

3 . الوسائل 3 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن انّ الغاية من السجود الّتي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما فلاحظ .

( 420 )

يدعم نظرية الشيعة وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتّضح انّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك .

2- الفرق بين المسجود له والمسجود عليه:

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، بدعة، ويتخيّل الحجر المسجود عليه، وثناً، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي، وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لاعتب على الشيعة إذا

قصر فهم المخالف، ولم يفرّق بين الأمرين وزعم المسجود عليه، مسجوداً له، وقاس أمر الموحّد، بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحّد الّذي يريد أن يصلّي في أظهار العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للّه سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر، والرمال والحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا: أين التراب وربّ الأرباب .

3- السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده:

إنّ النبىّ الأكرم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّههم ثمّ السجود

( 421 )

عليها، وقد شكى بعضهم رسول اللّه من شدّة الحر، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن ورد الرخصة بالسجود على الخمر والحصر فوسع الأمر للمسلمين لكن في اطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان لا غير:

1- ما كان الواجب فيها على المسلمين، السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أية رخصة .

2- المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر، تسهيلا للأمر، ورفعاً للحرج والمشقّة ولم تكن هناك أية مرحلة اُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه أهل السنّة وإليك البيان:

المرحلة الاُولى: السجود على الأرض:

1- روى الفريقان عن النبىّ الأكرم أنّه

قال: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1) .

والمتبادر من الحديث انّ كل جزء من الأرض مسجد وطهور يُسْجد عليه ويُقْصَد للتيمّم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارة والتيمّم اُخرى.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه، فانّه إذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة، فما ذكر

____________________________

1 . صحيح البخاري 1 / 91 كتاب التيمّم الحديث 2 وسنن البيهقي 2 / 433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن .

( 422 )

معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين ل_ «جعلت» والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين كونه مسجداً وكونه طهوراً، وهذا هو الّذي فهمه الجصاص وقال: إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الّذي جعله طهوراً(1) .

ومثله غيره من شرّاح الحديث .

تبريد الحصى للسجود عليها:

2- عن جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال: كنت اُصلّي مع النبىّ الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الاُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد عليها من شدّة الحر(2) .

وعلّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود(3). ونقول: ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلا جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه .

3- روى أنس قال: كنّا مع رسول اللّه في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده

فإذا برد وضعه وسجد عليه(4) .

4- عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه شدة الرمضاء في جباهنا

____________________________

1 . احكام القرآن للجصاص 2 / 389 نشر بيروت .

2 . مسند أحمد 3 / 327 من حديث جابر وسنن البيهقي 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحرّ .

3 . سنن البيهقي 2 / 105 .

4 . السنن الكبرى 2 / 106 .

( 423 )

وأكفّنا فلم يشكنا(1) .

5- قال ابن الاثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم(2) .

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط حتّى انّ الرسول لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة وهو _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مس جباههم الأرض، وإن آذتهم شدة الحر .

والّذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض وعن اصرار النبىّ الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصله ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات .

الأمر بالتتريب:

6- عن خالد الجهني قال: رأى النبىّ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: ترّب وجهك يا صهيب(3) .

7- والظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كل تقدير، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على

____________________________

1 . سنن البيهقي 2 / 105 باب الكشف عن الجبهة .

2 . ابن الأثير: النهاية 2 / 497 مادة «شكى» .

3

. المتقي الهندي: كنز العمال 7 / 465 برقم 19810 .

( 424 )

الحصى لما دل من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

8- روت اُمّ سلمة _ رضي الله عنها _ رأى النبي غلاماً لنا يقال له «افلح» ينفخ إذا سجد، يا افلح ترّب(1) .

9- وفي رواية: يا رباح ترّب وجهك(2) .

10- روى أبو صالح قال: دخلت على اُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت اُمّ سلمة: ابن أخي؟! لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لغلام له يقال له يسار _ ونفخ _ : ترّب وجهك للّه (3) .

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة:

11- روي أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته(4) .

12- روي عن علي أميرالمؤمنين أنّه قال: إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة(5) .

13- روى صالح بن حيوان السبائي أنّ رسول اللّه رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه عن جبهته(6) .

14- عن عياض بن عبداللّه القرشي: رأى رسول اللّه رجلا يسجد على كور

____________________________

1 . المتقي الهندي: كنز العمال 7 / 459 برقم 19776 .

2 . المصدر نفسه برقم 19777 .

3 . المتقي الهندي كنز العمال 7 / 465، برقم 19810 ومسند أحمد 6 / 301 .

4 . الطبقات الكبرى 1 / 151 كما في السجود على الأرض 41 .

5 . منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند 3 / 194 .

6 . البيهقي: السنن الكبرى 2 / 105 .

( 425 )

عمامته فأومأ بيده: ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته(1)

.

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي بالتتريب، وحسر العمامة عن الجبهة .

المرحلة الثانية: الترخيص في السجود على الخمر والحصر:

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه وإن صعب الأمر واشتدّ الحر لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبىّ _ بايحاء من اللّه سبحانه إليه _ السجود على ما أنبتت الأرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحر والبرد وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة، وإليك تلك النصوص :

1- عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يصلّي على الخمرة(2) .

2- عن ابن عباس: كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة وفي لفظ: وكان النبيّ يصلّي على الخمرة(3) .

3- عن عائشة: كان النبيّ يصلّي على الخمرة(4).

____________________________

1 . البيهقي: السنن الكبرى 2 / 105 .

2 . أبو نعيم الاصفهاني: ذكر أخبار اصبهان 2 / 141 .

3 . مسند أحمد 1/ 269 _ 303 _ 309 و 358 .

4 . مسند أحمد 6 / 179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد: ناوليني الخمرة .

( 426 )

4- عن اُمّ سلمة: كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة(1) .

5- عن ميمونة: ورسول اللّه يصلّي على خمرته فإذا أصابني طرف ثوبه(2) .

6- عن اُمّ سليم قالت: وكان يصلّي الخمرة(3) .

7- عن عبداللّه بن عمر: كان رسول اللّه يصلّي على الخمر(4) .

السجود على الثياب لعذر:

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ولو كان

هناك مرحلة ثالثة فانّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحر والأذى ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة وإليك ما ورد في هذا المقام .

1-عن أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه .

2- وفي صحيح البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض، بسط ثوبه .

3- وفي لفظ ثالث: كنّا إذا صلّينا مع النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _

____________________________

1 . مسند أحمد 6 / 302 .

2 . مسند أحمد 6 / 331 _ 335 .

3 . مسند أحمد 6 / 377 .

4 . مسند أحمد 2 / 92 _ 98 .

( 427 )

فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر مكان السجود(1) .

وهذه الرواية الّتي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نص في اختصاص الجواز على حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات وإليك بعض ما روي في هذا المجال .

1- عبداللّه بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله

وسلم _ يصلّي على كور عمامته(2) .

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال:

قال الشيخ: «وأمّا ما روي في ذلك عن النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبىّ(3) .

وقد روي عن ابن راشد: قال: رايت مكحولا يسجد على عمامته فقلت: لِمَ تسجد عليها؟ قال: أتّقي البرد على أسناني(4) .

2- ما روي عن أنس: كنّا نصلّي مع النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فيسجد

____________________________

1 . صحيح البخاري 1 / 101، صحيح مسلم 2 / 109، مسند أحمد 1 / 100، السنن الكبرى 2 / 106.

2 . كنز العمال 8 / 130 برقم 22238 .

3 . البيهقي: السنن 2 / 106 .

4 . المصنف لعبد الرزاق 1 / 400 كما في سيرتنا وسنّتنا، والسجدة على التربة 93 .

( 428 )

أحدنا على ثوبه(1) .

والرواية محمول على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: كنّانصلّي مع النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في شدة الحرّ فاذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه(2) .

ويؤيّده ما رواه النسائي: كنّا إذا صلينا خلف النبىّ بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ(3) .

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلاّ على أنّ النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ صلّى على الفرو. وأمّا انّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه .

3-

عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللّه يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة(4) .

والرواية مع كونها ضعيفه بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ولعلّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين .

حصيلة البحث:

إنّ الناظر في الروايات يجد أنّه مرّ على المسلمين مرحلتان أو مراحل ثلاثة ففي المرحلة الاُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يُرخَّص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض وليست وراء هاتين

____________________________

1 . البيهقي السنن الكبرى 2 / 106، باب من بسط ثوباً فسجد عليه .

2 . البخاري 2 / 64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود .

3 . ابن الأثير: الجامع للاُصول 5 / 468 برقم 3660 .

4 . أبو داود: السنن / باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331 .

( 429 )

المرحلتين، مرحلة اُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً، فمحمولة على الضرورة أو لا دلالة لها على السجود عليها بل غايتها الصلاة عليها .

فاللازم على فقهاء أهل السنّة إعادة النظر في هذه المسألة حتّى يحيوا السنّة ويميتوا البدعة. فانّ الرائج في بلادهم هو افتراش المساجد بالسجاد، والسجود عليها. كما أنّ السائد هو السجود على كل شيء. من البسط المنسوجة من الصوف والوبر، والحرير، وطرف الثوب فانّ هذا العمل حسب مامرّ من الروايات بدعة حدثت بعد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وكانت السنّة

غيرهما فلا عتب على الشيعة إذا ما تمسّكوا بالسنّة ولم يسجدوا الاّ على الأرض وما أنبتته تبعاً للسنن النبوية والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت .

ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة:

بقي هنا سؤال يطرحه اخواننا أهل السنّة يقولون ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء انّ الشيعة يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة ولكن المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، والسجود لها وعلى أي تقدير فالاجابة عنها واضحة فانّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها من أي أرض اُخذت، من اي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك سواء .

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل إلتزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطّات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الركاب ومنازل

( 430 )

الغرباء، أنّى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة .

فاي مانع من أن يحتاط المسلم في دينه، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ الّتي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها:

المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومواطن الابل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها(1) .

وهذه

القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها(2) .

إلى هنا تبيّن انّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره عسى أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليه .

وأمّا السر في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فانّما هو من

____________________________

1 . العلامة الأميني: سيرتنا وسنّتنا 158 _ 159 .

2 . أبوبكر بن أبي شيبة: المصنف 1 / 400 كما في السجدة على التربة 93 .

( 431 )

جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد .

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب(1) .

وقال العلامة الأميني: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، وأقراصاً نسجد عليها

كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلّم السنّة بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو خروج من حكم العقل والاعتبار .

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال

____________________________

1 . الأرض والتربة الحسينية 24 .

( 432 )

المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم(1) .

هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم .

1- المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 1295 _ 1373 في كتابه الأرض والتربة الحسينية .

2- العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير 1320 _ 1390 فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا .

3-السجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي _ دام عزّه _ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق .

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم .

____________________________

1 . سيرتنا

وسنّتنا 166 _ 167 طبع النجف الأشرف .

الفصل الحادي عشر في الأئمّة الإثني عشر

الفصل الحادي عشر في الأئمّة الإثني عشر

( 434 )

( 435 )

إنّ الشيعة الامامية هي الفرقة المعروفة بالإثني عشرية. فهم يعتقدون باثني عشر إماماً من بني هاشم وقد نصّ الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على إمامتهم وقيادتهم واحداً بعد الآخر كما نصّ كل إمام على إمامة من بعده نصّاً يخلو من الابهام .

وقد عرفت فيما مضى أنّه تضافر عن الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنّه يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وذكرنا هناك أن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة «وإذا كان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هو الشجرة وهم أغصانها، والدوحة وهم أفنانها، ومنبع العلم وهم عيبته، ومعدن الحكم وهم خزائنه، وشارع الدين وهم حفظته وصاحب الكتاب وهم حملته»(1) فيلزم علينا معرفتهم، كيف وهم احد الثقلين اللَّذِين تركهما الرسول، قدوة للاُمّة ونوراً على جبين الدهر .

ونحن نعرض في هذا الفصل، موجزاً عن أحوالهم وحياتهم حتّى يكون القارئ ملمّاً بهم عن كثب. ونعيد كلمتنا بأن الغرض هو الالمام والايجاز بل الاشارة والالماح لا التفصيل والتطويل. وإلاّ فإنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين

____________________________

1 . اقتباس ممّا ذكره أمين الاسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى 3 .

( 436 )

موسوعة كبيرة. وقد قام بذلك شطر كبير من علماء الإسلام ونحن نستضيئ من أنوار كلامهم فنقول:

( 437 )

الامام الأوّل:

الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _

إنّ الامام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف ولقد قام

لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه وخطبه وقصار كلماته. وسياسته وحروبه مع النكاثين والقاسطين، فالأولى لنا الاكتفاء بهذا المقدار واحالة القارئ إلى تلك الموسوعات بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول:

هو أميرالمؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم إيماناً، وأوفاهم بعهداللّه، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر اللّه، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الايمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات اللّه، خليفة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة ومُطهِّرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي

( 438 )

(جامع الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 .

كل من هذه الجمل الخمس عشر، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة(1) .

وكفى في حقّه ما قاله رسول اللّه:

«عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب»(2) .

وقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «من سرّه أن يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي، فليوال علياً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي»(3) .

وقال الامام أحمد: ما لأحمد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي _ رضي الله عنه _ (4) .

وقال الامام الرازي: من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه، فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه(5) .

ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، لقول النبي: «اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار»(6) .

وقال شبلي شميّل: «الامام علىّ بن أبي طالب، عظيم العظماء، مسخة مفردة،

____________________________

1 . راجع مسند أحمد 1 / 331، 5 / 182

_ 189، حلية الأولياء 1 / 62 _ 68، ولاحظ الغدير 2 / 33 .

2 . الخطيب البغدادي التاريخ 4 / 40 .

3 . أبو نعيم: حلية الأولياء 1 / 86 .

4 . ابن الجوزي الحنبلي: مناقب أحمد 163 .

5 و 6 الرازي: التفسير 1 / 207 .

( 439 )

لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً»(1) .

وقال جورج جرداق: «وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله، وقلبه، ولسانه وذي فقاره» (2) .

فصول حياته الخمسة:

إنّ الامام _ عليه السلام _ ولد في الكعبة بعد مضي ثلاثين عاماً من واقعة الفيل وفي الحقيقة ولد بعشر سنين قبل البعثة وتوفّي في العام الأربعين من الهجرة فيكون عمره الشريف ثلاثة وستين عاما.

فلو أردنا أن نقسم حياته إلى فصول نجد أنّ هناك فصولا خمسة تشكّل مجموع حياته _ عليه السلام _ .

1- حياته قبل البعثة وهي لا تتجاوز عن عشر سنين، وقد تكفّله النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهو حين ذاك لا يتجاوز عمره عن أربعة أو خمسة سنين وجاء به إلى داره وعاش في بيته، وقد لازمه طيلة تلك الأعوام حتّى الأيام التي كان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يعتكف فيها في غار حراء كما هو المحقق في التاريخ .

2- حياته بعد البعثة وقبل هجرة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إلى المدينة المنوّرة، ولقد هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهي لا تزيد على ثلاثة عشر عاماً .

3- حياته بعد الهجرة وقبل وفاة النبي الأكرم وهي عشر سنوات حافلة بالجهاد والتضحيات .

4-

حياته بعد رحلة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقبل الخلافة وتبلغ

____________________________

1 و 2 . الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 37 - 49 .

( 440 )

25 سنة ولقد قدّم خدمات ثقافية عظيمة للاُمّة خلالها. ولم تكن خالية عن الحوادث المريرة .

5- حياته بعد الخلافة إلى شهادته في محراب مسجد الكوفة، وهي حافلة بحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين. ولقد أخذ بمقاليد الخلافة بعد أن صارت أموية. وبعد أن سلّط عثمان بني اُميّة، على العباد والبلاد وسادت عبادة الدينار والدرهم وملأ حبّ الدنيا قلوب كثير من الناس فسعى _ عليه السلام _ في اخراج الاُمّة من هذه الأزمة وارجاعهم إلى ما كانوا عليه في عصر النبي الأكرم. ولقى في طريق اُمنيته ما لقى إلى أستشهد في محراب عبادته لشدّة عدله .

فسلام اللّه عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّا .

وقد كتب حول حياة الإمام ما لا تعد ولا تحصى من الكتب والرسائل والموسوعات، فلا محيص، عن احالة القرّاء إليها غير انّا نشير هنا إلى بعض خصائصه.

بعض خصائصه:

يطيب لي أن اُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة، فنقول: إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد:

1- السابق إلى الإسلام .

2- ولد في الكعبة .

3- تربّى منذ صغره في حجر رسول اللّه .

4- مؤاخاته مع النبي .

5- إنّ النبي حمله حتّى طرح الأصنام من الكعبة .

6- إنّ ذرّية رسول اللّه منه .

7- إنّ النبي تفل في عينيه يوم خيبر، ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ .

( 441 )

8- إنّ حبّه إيمان، وبغضه نفاق .

9- إنّ النبىّ باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب

.

10- بلّغ سورة براءة عن النبي .

11- إنّ النبىّ خصّه يوم الغدير بالولاية .

12- انّه القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني» .

13- إنّ النبي خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه .

14- إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ(1) .

____________________________

1 . وقد استخرج هذه الخصائص الكاتب القدير محمّد جواد مغنية في كتابه: الشيعة والتشيّع 234 .

( 442 )

( 443 )

الامام الثاني

أبو محمد الحسن بن علي _ عليه السلام _

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر وأوّل السبطين وسيّد شباب أهل الجنّة، ريحانة رسول اللّه، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء اُمّه فاطمة بنت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ سيّدة نساء العالمين .

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة وهو أوّل أولاد علي وفاطمة _ عليهما السلام _ .

نسب كان عليه من شمس الضحى نور ومن فلق الصباح عمودا

وروي عن أنس بن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من الحسن بن علي _ عليهما السلام _ .(1)

____________________________

1 . الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي (ت 855): 151 _ 152، وأعيان الشيعة 1 / 562 .

( 444 )

فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعلي: سمِّه فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فجاء النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فاُخرج إليه فقال: اللّهمّ إنّي اُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم. وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

أشهر ألقابه: التقي والزكي والسبط .

أمّا علمه فيكفي انّه كان يجلس في مسجد رسول اللّه _

صلى الله عليه وآله وسلم _ ويجتمع الناس حوله فيتكلّم ما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الامام أبوالحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسير الوسيط: أنّ رجلا دخل إلى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدِّث عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والناس حوله مجتمعون فجاء إليه الرجل قال: أخبرني عن شاهد ومشهود: فقال: نعم، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة. فتجاوزه إلى آخر غيره يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود قال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأمّا المشهود يوم النحر. قال: فتجاوزهما إلى ثالث، غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدِّث في المسجد فسأله عن شاهد ومشهود فقال: نعم أمّا الشاهد فرسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته عزّوجلّ يقول: (يا أيُّها النَّبِىُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً)(1) وقال تعالى: (ذلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النّاسُ و ذلكَ يَومٌ مَشْهُودٌ)(2). فسأل عن الأوّل فقالوا ابن عباس، وسأل عن الثاني فقالوا ابن عمر، وسال عن الثالث فقالوا الحسن بن علي بن أبي طالب _ عليهما السلام _ (3) .

وأمّا زهده فيكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنّه قال _ عليه السلام _ :

____________________________

1 . الأحزاب / 45 .

2 . هود / 103 .

3 . الفصول المهمة: 155 .

( 445 )

إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته فمشى عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة على قدميه. وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته أيضاً أنّه _ عليه السلام _ خرج من ماله مرّتين، وقاسم اللّه تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به. وكان

_ عليه السلام _ من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها، عارفاً بغرورها وآفاتها، وكثيراً ما كان _ عليه السلام _ يتمثّل بهذا البيت شعرا:

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها * إنّ غتراراً بظلّ زائل حَمَقُ(1)

وأمّا حلمه فقد روى ابن خلكان عن ابن عائشة انّ رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة _ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام _ فرأيت رجلا راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: أنا ابنه. قلت: فعل بك وبأبيك _ اسبهما، فلمّا انقضى كلامي _ قال لي: أحسبك غريباً؟ قلت: أجل، قال: مل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آتيناك أو إلى حاجة عاوناك قال: فانصرفت عنه وما على الأرض أحب إلىّ منه، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلاّ شكرته وخزيت نفسي(2) .

وأمّا إمامته. فيكفي في ذلك ما صرّح به النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا...

روت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ حين أوصى إلى ابنه الحسن _ عليه السلام _ وأشهد على وصيته الحسين

____________________________

1 . الفصول المهمة: لابن الصباغ المالكي 156 .

2 . وفيات الأعيان: ابن خلكان 2 / 68 .

( 446 )

_ عليه السلام _ ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته؟ ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له: يا بني إنّه أمرني رسول اللّه _

صلى الله عليه وآله وسلم _ أن اُوصي إليك، وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليّ ودفع إلى كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرت الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين، ثمّ أقبل على ابنه الحسين _ عليه السلام _ فقال: وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن علي فاقرئه من رسول اللّه ومنّي السلام(1) .

روى أبو الفرج الاصفهاني انّه خطب الحسن بن علي بعد وفاة أميرالمؤمنين علي _ عليه السلام _ وقال: قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه، ولقد توفّي هذه الليلة الّتي عرج فيها بعيسى بن مريم ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى وما خلف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله .

ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه .

ثم قال: أيّها الناس من عرفني، فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللّه عزّوجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم

____________________________

1 . إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الطبرسي 207 _ 208 ومن أراد الوقوف على نصوص إمامته فعليه أن يرجع إلى الكافي 1 / 297 واثبات الهداة 2 / 543 _

568 فقد نقل: خمسة نصوص في المقام.

( 447 )

الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين افترض اللّه مودتهم في كتابه إذ يقول: (و مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً)(1) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت .

قال أبو مخنف عن رجاله:

ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة فبايعوه(2) .

وقال المفيد: كانت بيعته يوم الجمعة 21 من شهر رمضان سنة 40(3) .

ونقل عن أبي الفرج انّه نزل عن المنبر فرتّب العمّال وأمّر الاُمراء ونظر في الاُمور، وأنفذ عبداللّه بن العباس إلى البصرة وأوّل شيء أحدثه انّه زاد في المقاتلة مائة مائة. وقدكان علي أبوه فعل ذلك يوم الجمل وهو فعله يوم الاستخلاف فتبعه الخلفاء بعد ذلك(4) .

قال المفيد: فلمّا بلغ معاوية وفاة أميرالمؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسَّ رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور، فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام في الكوفة فاُخرج واُمر بضرب عنقه. وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه(5) .

____________________________

1 . الشورى / 23 .

2 . مقاتل الطالبيين 52 .

3 . الإرشاد للمفيد 188 .

4 . في رحاب أئمّة أهل البيت للأمين العاملي 15 وما نقله عن أبي الفرج ليس موجوداً في النسخة المطبوعة المحققة على يد السيد أحمد صفر ولعلّه سقط من نسخته .

5 . مقاتل الطالبيين: 52، الارشاد: للمفيد 188 _ 189 .

( 448 )

ثمّ إنّه استمرّت المراسلات(1) بين الحسن ومعاوية وانجرّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية. فعقدا صلحاً وإليك صورته .

بسم اللّه الرحمن

الرحيم

هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا وعلى معاوية بذلك عهد اللّه وميثاقه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين غايلة ولا لأحد من أهل بيت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ،غائلة سوء سرّاً وجهراً ولا يخيف أحداً في اُفق من الآفاق شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى باللّه شهيدا(2) .

ولمّا تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون. ألا وانّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمىّ هاتين لا أفي به(3) .

____________________________

1 . ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مقاتل الطالبيين 53 إلى 72 وبالامعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل، يتضح سرّ صلح الامام وتنازله عن الخلافة فلم يطاع إلاّ أنّه أتمّ الحجة عليهم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين .

2 . الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي 163 .

3 . المفيد: الارشاد 191 طبع النجف .

( 449 )

شهادته:انصرف الحسن _ رضي الله عنه _ إلى المدينة فأقام بها، وأراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي فدسّ إليه السم فمات

منه.

أرسل معاوية إلى إبنة الأشعث: إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن ابن علي وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمّت الحسن فسوغها المال ولم يزوّجها منه(1) .

فلمّا دنى موته أوصى لأخيه الحسين _ عليه السلام _ وقال: إذا قضيت نحبي غسّلني وكفنّي واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك باللّه اُقسم عليك أن لا تهرق في أمري محجمة دم.

فلمّا حملوه إلى روضة رسول اللّه لم يشك مروان ومن معه من بني اُميّة انّهم سيدفنونه عند جدّه رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فتجمّعوا له ولبسوا السلاح ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: مالي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا اُحب وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجاء هي خير من دعة، ايدفن عثمان في اقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبىّ وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبين اُمية. ولأجل وصيّة الحسن مضوا به إلى البقيع ودفنوه عند جدته فاطمة بنت أسد(2) .

توفّي الحسن وله من العمر 47 وكانت سنة وفاته سنة 50 من الهجرة النبوية.

والعجب انّ مروان بن الحكم حمل سريره إلى البقيع فقال له الحسين: أتحمل سريره أما واللّه لقد كنت تجرّعه الغيظ فقال مروان: إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 73 .

2 . كشف الغمة 1 / 209 ومقاتل الطالبيين 74 _ 75 .

( 450 )

حلمه الجبال(1) .

هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع إلى جوانب حياته خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تحف

العقول(2) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته .

ولمّا بلغ معاوية موت الحسن _ عليه السلام _ سجد و سجد من حوله وكبّر وكبّروا معه، ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبدالبر في الاستيعاب وغيرهما.

فقال بعض الشعراء:

أصبح اليوم ابن هند شامتا * ظاهر النخوة إذ مات الحسن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى * تكُ في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به * كل حيّ للمنايا مرتهن(3)

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 46 .

2 . الحرّاني، حسن بن شعبة: تحف العقول 225 _ 236 .

3 . في رحاب أئمّة أهل البيت 43 .

( 451 )

الإمام الثالث:

الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهما السلام _ سيّد الشهداء

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر، وثاني السبطين، وأحد سيدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي المصطفى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، وسيد الشهداء، واُمّه فاطمة بنت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة 3 أو 4 من الهجرة ولمّا ولد جيئ به إلى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فاستبشر به، وأذّن في اُذنه اليمنى واقام في اليسرى، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسينا. وعقَّ عنه بكبش وأمر أن يحلق رأسه ويتصدّق بوزن شعره فضّة. كما فعلت بأخيه الحسن فامتثلت اُمّه ما أمرها .

( 452 )

ولقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة وقيل يوم السبت. أدرك من حياة النبىّ الأكرم 5 أو 6 سنوات وعاش مع أبيه 36 سنة. ومع أخيه 46 سنة .

إنّ حياة الامام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالحوادث،

والاشارة فضلا عن الاحاطة إلى كل ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد، فقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون حول النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه، وحول علمه ومناظراته، حول خطبه وكتبه وقصار كلمه، حول فصاحته وبلاغته، حول مكارم أخلاقه وكرمه وجوده، وزهده وعبادته، ورأفته بالفقراء والمساكين، حول أصحابه والرواة عنه، والجيل الّذي تربّى على يديه. كل ذلك ألّف حوله رسائل ومؤلّفات وموسوعات .

غير أنّ للحسين _ عليه السلام _ وراء ذلك، خصيصة اُخرى، وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الّذي عُرِفَ به، وصار شعاراً له بل مدرسة سياسية دينية، واُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون، ولم يزل منهجه يُؤثر في ضمير الاُمة ووعيها ويحرّك العقول المتفتّحة، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

وها نحن نقدم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيارات الالحادية والانهيار الخلقي .

إباؤه للضيم ومعاندة الجور:

لمّا توفّي أخوه الحسن في العام الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون لاُمور الناس مع الحسين _ عليه السلام _ ولقد كتب مروان

( 453 )

ابن الحكم وهو عامل معاوية على المدينة أنّ رجالا من أهل العراق و وجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي وأنّه لا يأمن وثوبه، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا .

ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذه نصّها: أمّا بعد: فقد انتهت إلىّ اُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر اللّه أنّ من أعطى اللّه عهده و ميثاقه لجدير بالوفاء وأنّ أحقَّ الناس

بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك الّتي أنزلك اللّه لها...(1) .

ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن علي كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده، نقتبس منه مايلي .

«ألست قاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين، العابدين، الذين ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في اللّه لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدوانا من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، جرأة على اللّه واستخفافاً بعهده.

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه العبد الصالح الّذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال .

أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : الوالد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنّة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تعمّداً وتبعت هواك بغير

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 163 .

( 454 )

هدى من اللّه، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويُسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك.

أولست صاحب الحضرميّين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم على دين علي _ صلوات اللّه عليه _ فكتبت إليه أن اُقتل كل من كان على دين علىّ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الّذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الّذي أنت فيه ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء

والصيف(1) .

هذا هو الحسين وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله الّتي ضبطها التاريخ .

رفضه البيعة ليزيد:

لمّا توفّي معاوية في منتصف رجب سنة 60 كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين _ عليه السلام _ بالبيعة له فأنفذ الوليد إلى الحسين _ عليه السلام _ فاستدعاه فعرف الحسين ما أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم لحمل السلاح وقال: اجلسوا على الباب فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا علىّ وصار _ عليه السلام _ إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين _ عليه السلام _ ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية فقال الحسين _ عليه السلام _ : فنصبح ونرى في ذلك، فقال الوليد: انصرف على اسم اللّه تعالى، فقال مروان: واللّه لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا تقدر منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه

____________________________

1 . الامامة والسياسة 1 / 164 وبحارالأنوار 44 / 213 .

( 455 )

فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه فوثب عند ذلك الحسين _ عليه السلام _ وقال: أنت يابن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت واللّه وأثمت فخرج(1) .

وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبداللّه إنّي لك ناصحّ فأطعني ترشد وتسدّد، فقال: وما ذاك قل أسمع، فقال: إنّي أرشدك لبيعة يزيد فانّها خير لك في دينك وفي دنياك، فاسترجع الحسين وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد، ثمّ قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد. ويزيد

رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللا، ولا ألومك فانّك اللعين الّذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ومن لعنه رسول اللّه، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد. إليك عنّي يا عدوّ اللّه. فإنّا أهل بيت رسول اللّه الحق فينا ينطق على ألسنتنا.

وقد سمعت جدّي رسول اللّه يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء. فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما اُمروا فابتلاهم بابنه يزيد(2) .

ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكة. ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلا طالبيين منه مغادرته مكة إلى الكوفة وهذا نموذج من رسائلهم .

«فقد اخضرّت الجنّات، وأينعت الثمار فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة» .

ولمّا جاءت رسائل أهل الكوفة تترى كتب إليهم الحسين: انّه قد اجتمع رأي

____________________________

1 . الشيخ المفيد: الارشاد 200 طبع النجف .

2 . الخوارزمي: مقتل الحسين 1 / 184 _ 185 .

( 456 )

ملائكم وذووا الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت علىّ به رسلكم وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه فلعمري ما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللّه(1) .

خرج الامام من مكة متوجّها إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله فقطع المنازل حتّى نزل بمقربة من الكوفة وعند ذاك استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيداللّه بن زياد لاستقدامه مقبوضاً إلى الكوفة، فعند ذلك قام الامام وخطب أصحابه وأصحاب الحر بقوله: أيّها الناس! إنّ

رسول اللّه قال: من راى سلطاناً جائراً مستحلاّ حرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله، ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيري(2) .

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق:

إنّ الدافع الظاهري لهجرته إلى العراق، وإن كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الامام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سر مجيئه إلى العراق فقال: ما أتتني إلاّ رسل القوم ورسائلهم(3) ولكن هذا الدافع كان أمراً ظاهرياً وكان وراء ذلك سرّ آخر لهجرته

____________________________

1 . الارشاد 204 .

2 . الطبري: التاريخ ج 4، حوادث سنة 61، ص 304، وأمّا ما جرى على الامام وأهل بيته حتّى نزل أرض كربلا فراجع المقاتل .

3 . الارشاد 224 _ 225 .

( 457 )

يكتشفه من قرأ وتمعّن في حياته منذ ولادته إلى شهادته وعند ذلك سيتّخذ موقفاً آخرا. وهو أنّه ما هاجر من الحجاز إلى العراق إلاّ وقد وطّن نفسه للشهادة والتضحية لأجل بقاء الإسلام واصلاح أمر الاُمّة وفضح أعدائهما.

إنّ الدافع الحقيقي للامام إلى الثورة والتضحية بالنفس والنفيس هو شعوره الديني بأنّ السلطة وسياستها العامة لاتلتزم بالمبادئ الدينية وانّها بيد من يشرب الخمر ويلعب بالكلاب ويمارس الفسق والفجور ليله ونهاره، فلو دامت السلطة على هذه الحال لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه ولأجل ذلك لمّا طلب مروان بن الحكم مبايعة الامام ليزيد، قال: فعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد كما عرفت .

إنّ رسول اللّه

_ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلحت اُمّتي وإذا فسدا فسدت اُمّتي، قيل: يا رسول اللّه ومن هما؟ فقال: الفقهاء والاُمراء(1)، فإذا كان صلاح الاُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها فقيادة مثل يزيد لا يزيد الأمر إلاّ عيثاً وفسادا .

إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى فلم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من اللّه سبحانه ولا بشورى من الاُمّة وقد وقف على ذلك أعلامهم، ولأجل ذلك كتبوا إلى الحسين _ عليه السلام _ في رسالة جاء فيها: أمّا بعد فالحمدللّه الّذي قسم عدوّك الجبّار العنيد الّذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها و استبقى شرارها(2) .

ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حق الاُمّة بل سبقه والده معاوية إليه

____________________________

1 . القمي: سفينة البحار 2 / 30 مادة أمر .

2 . الجزري الكامل 2 / 266 _ 267 والأرشاد 203 .

( 458 )

كما أشار إليه الامام في كتابه إليه وقال:

«فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر، من عيان الاُمور، وقد سلك مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحق»(1) .

هذا ونظائره المذكورة في التاريخ دفع الحسين إلى الثورة، وتقديم نفسه وأهل بيته إلى المجزرة مع العلم بأنّه لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهريا ولا يغلب على العدو بالسيف والقوة، لكن كان يقف على أنّ شجرة الإسلام ستنمو بدمه الطاهر، وأنّ مصباحه سيتوقّد بدماء أهل بيته وأصحابه، وأنّ الاُمّة ستتّخذ من تلك الثورة دروساً وعبراً حتّى قيام الساعة. وإليك ما يدل على أنّ الإمام خاض المعركة مع العلم

بأنه سيقتل ويستشهد .

كان المعروف منذ ولادة الامام الحسين _ عليه السلام _ انّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ووصيّه لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة وإليك بعض ما يدل على ذلك ممّا يرجع إلى زمان خروجه .

1- روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الّذي استشهد في كربلاء أنّه قال: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين _ عليه السلام _ (2) .

2- إن أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج

____________________________

1 . نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم 65 .

2 . الاصابة 1 / 81، برقم 266 .

( 459 )

إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الامام _ عليه السلام _ وأهل بيته ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصروا عليه عدم الخروج ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد بن الحنفية، وابن عمّه ابن عباس، ونساء بني عبدالمطلب ومع ذلك اعتذر لهم الامام وأفصح عن عزمه على الخروج(1) .

3- لمّا عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال: الحمدللّه وماشاء اللّه ولا قوّة إلاّ باللّه خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيِّر لي مصرع أنا اُلا قيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه. ويوفينا اُجور الصابرين

لن تشذ عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّبهم عينه، وينجز لهم وعده ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطناً على لقاءاللّه نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللّه(2) .

4- لمّا بلغ عبدالله بن عمر ما عزم عليه الحسين _ عليه السلام _ دخل عليه فلامه في المسير ولمّا رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك اللّه من قتيل(3) .

5- لمّا خرج الحسين _ عليه السلام _ في مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يابن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ما أعجلك عن الموسم قال: لو لم أعجل لأخذْتُ أخذاً فأخبرني يا فرزدق عمّا وراءك فقال: تركت الناس بالعراق،

____________________________

1 . لاحظ المحاورات الّتي جرت بين الامام وهؤلاء في الارشاد 201 _ 202 طبع النجف ومقاتل الطالبيين 109، اللهوف 20 طبع بغداد .

2 . اللهوف 41 طبع بغداد .

3 . تذكرة الخواص 217 _ 218 .

( 460 )

قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني اُمية. فاتّق اللّه في نفسك(1) .

6- لمّا أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللّه بن يقطر. قال لأصحابه: لقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس معه زمام، فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالا حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة نفر يسير ممّن انضمّوا إليه «ومع ذلك فلمّا أصبح سار نحو الكوفة فقال له شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوزان: أين تريد؟ فقال له الحسين _ عليه السلام _ : الكوفة، فقال الشيخ: أنشدك لمّا انصرفت فواللّه ما تَقْدِمُ

إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف فقال له الحسين: ليس يخفى علىّ الرأي وأنّ اللّه تعالى لا يغلب على أمره(2) .

وفي نفس النص دلالة على أنّ الامام كان يتفرّس ما كان يتفرسه غيره وانّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة التي كان المولى سبحانه كتبها إيّاه لأجل احياء الدين وهتك الأعداء، وايقاظ الاُمة من سباتها حتّى يضحّوا في طريق الدين بكل غال ورخيص .

إلى غير ذلك من الشواهد والقرائن المتواترة، الدالة على أنّه كان من الواضح أنّ الامام لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهرياً ومع ذلك واصل طريقه إلى أن لقى عدوّه وضحّى بنفسه وأهل بيته، كل ذلك لأجل ايقاظ ضمير الاُمّة، وفضح أعداء الإسلام ولقد أفصح عن هدفه عندما طلب منه الحر بن يزيد ترك المخاصمة وقال: فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقْتَلنَّ فقال له الحسين: أبالموت تخوّفني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوفه ابن عمّه .

____________________________

1 . الارشاد 218، نفس المهموم 91 .

2 . الارشاد 223 .

( 461 )

سأمضي فما في الموت عار على الفتى * إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وإن عشت لم اَنْدُم، وإن مِتُّ لَمْ اُلم * كفى بك ذلاّ أن تعيش وترغما(1)

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين _ عليه السلام _ أثر كبير في ايقاظ شعور الاُمّة وتشجيعهم على الثورة ضدّ الحكومة الاموية الّتي اصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الاموية بعد

زمان .

ولقد أجاد من قال لولا نهضة الحسين _ عليه السلام _ وأصحابه _ رضي الله عنه _ يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا اخضرّ له عود، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامة إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين _ عليه السلام _ وأصحابه _ رضي الله عنه _ (2)على ذلك الموقف، يقال فيه انّ الإسلام محمّدي الحدوث حسيني البقاء والخلود .

وكيف يجوز لأبي الشهداء السكوت تجاه تسلّم يزيد مقاليد الخلافة وهو يقول: وعلى الإسلام السلام إذ بليت الاُمة براع مثل يزيد. ويزيد هو الّذي أنشد، حين حضر رأس الحسين بين يديه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا قتيل بدر فاعتدل

فأهلّوا واستهلّوا فرحا * ثمّ قالوا: يا يزيد لاتشل

____________________________

1 . المفيد: الارشاد 225 والطبري في تاريخه 5 / 204 .

2 . جنة المأوى 208 للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء .

( 462 )

لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر به جاء ولا وحي نزل(1)

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث الّتي واجهها في المسير إلى أن نزل بأرض كربلا، واستشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصاً، ظمآناً وعطشاناً، لهو خارج عن موضوع البحث وقد ألّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام اللّه عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا .

____________________________

1 . البيتان الأوّلان لابن الزبعرى، والثلاثة الأخيرة ليزيد لاحظ تذكرة الخواص 235 .

( 463 )

الإمام الرابع:

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ زين العابدين

هو

رابع أئمّة أهل البيت الطاهر. المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذو الثفنات. ولد في المدينة سنة 38 أو 37 وتوفّي بها عام 95 أو 94 يوم السبت 12 من محرّم .

قال ابن خلكان: هو أحد الأئمّة الإثني عشر ومن سادات التابعين، قال الزهري: ما رايت قرشياً أفضل منه، وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر، ولمّا توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة الّتي فيها قبر العباس _ رضي الله عنه _ (1) .

ومن أراد الاطّلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم ،

____________________________

1 . وفيات الأعيان 3 / 267 _ 269 .

( 464 )

والحلم، والصفح، ومقابلة الاساءة بالاحسان، والشجاعة، وقوّة القلب، وثبات الجنان، والجرأة، والكرم والسخاء، وكثرة الصدقات، وعتق العبيد، والفصاحة والبلاغة، والورع والتقوى والعبادة وتربية صفوة جليلة من الأعلام وايصالهم إلى القمّة في العلم والعمل من الذين يُسْتَدر بهم الغمام وكثرة البرّ باُمه والرفق بالحيوان وهيبته وعظمته في أعين الناس وغير ذلك فعليه الرجوع إلى الموسوعات .

ونكتفي باُمور:

1- إيصاء الحسين إليه في أمر الامامة .

2- زهده وعبادته ومواساته للفقراء .

3- هيبته وعظمته .

4- ما تركه من الثروة العلمية من الأدعية والمناجاة .

أمّا إيصاء الحسين له، فقد تكفّل لذكره كتب الحديث والعقائد، وأخص بالذكر، الكافي للكليني(1) وإثبات الهداة للحر العاملي(2) .

وأمّا هيبته ومكانته في القلوب، فاستمع ما يلي:

لمّا حجّ هشام بن عبدالملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه، وجاء علي بن الحسين _ عليهما السلام _ فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتّى استلم فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه (مع أنّه كان يعرفه انّه علي بن الحسين _ عليهما السلام _ ) فسمعه

الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته الّتي منها هذه الأبيات .

____________________________

1 . الكافي 303 .

2 . إثبات الهداة 3 / 1 _ 5 .

( 465 )

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إنْ عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم

إلى آخر القصيدة الّتي حفظتها الاُمّة وشطرها جماعة من الشعراء وقد ثقل ذلك هشاماً فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة. فقال معترضاً على عمل هشام:

أيحبسني بين المدينة والتي * إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيد * وعيناً له حولاء باد عيوبها

فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين _ عليهما السلام _ عشرة آلاف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به، فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ للّه، فقال له علي _ عليه السلام _ : قد راى اللّه مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه وأقسم عليه فقبلها .

أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من اللّه فغني عن البيان كان علي بن الحسين إذا توضّأ اصفّر لونه فيقال: ما هذا الّذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: أتدرون بين يدي مَنْ اُريد أن أقف .

ومن كلماته: أنّ قوماً عبدوا اللّه رياضة فتلك عبادة العبيد، وأنّ قوماً عبدوه رغبة، فتلك عبادة

التجار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار .

وكان إذا أتاه سائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة .

( 466 )

وكان ينحل فلمّا مات وجدوه يعول مائة من أهل بيت المدينة. وفي رواية لا يدرون من يأتيهم بالرزق لأنّه يبعث به إليهم في الليل فلمّا مات علي فقدوه، وفي رواية كان يحمل جراب الخُبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول: صدقة السر تطفئ الرب، وفي رواية كان أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتّى مات علي بن الحسين _ عليه السلام _ (1) .

وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلا أورع من فلان _ وسمّى رجلا _ فقال له سعيد: أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رايت أورع منه.

وقال الزهري: لم أر هاشمياً أفضل من علي بن الحسين _ عليه السلام _ .

وقال أبو حازم كذلك أيضاً: ما رأيت هاشمياً افضل من علي بن الحسين .

وقال طاووس: رأيت علي بن الحسين _ عليهما السلام _ ساجداً في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول، فاصغيت إليه فسمعته يقول: عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك، فواللّه ما دعوت بهنّ في كرب إلاّ كشف عنّي .

وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فإذا أصبح سقط مغشياً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجا فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم علي: مهلا كفّوا، ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل فالقى إليه علي خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من

أولاد الرسل(2).

____________________________

1 . تذكرة الخواص 294 .

2 . كشف الغمّة 2 / 292 _ 293 .

( 467 )

الثروة العلمية للامام:

أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته الّتي رواها المحدثون باسنادهم المتضافرة، المعروفة بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم فهي زبور آل محمّد، ومن الخسارة الفادحة، أنّ اخواننا أهل السنّة إلاّ النادر القليل منهم غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

وفصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلو مضامينها وما فيها من أنواع التذلل للّه تعالى والثناء عليه، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه، أقوى شاهد على صحّة نسبتها إليه _ عليه السلام _ وانّ هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، إلى زين العابدين(1) .

وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلاّمة الشيخ الطنطاوي (ت 1358) صاحب التفسير المعروف فكتب في جواب رسالته «ومن الشقاء إنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق»(2) .

والمعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاُولى التي تتضمّن على أحد وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من اللّه سبحانه وهي تعلّم الإنسان كيف يلجأ إلى ربّه في الشدائد والمهمات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له وكيف يحمد ويشكر له غير أنّ لفيفا من العلماء استدركوا عليها فجمعوا

____________________________

1 . في رحاب أئمّة أهل البيت 3 / 414 .

2 . مقدمة الصحيفة بقلم العلامة المرعشي _ قدس سره _ 28 .

( 468 )

من شوارد أدعيته صحائف خمس أخيرتها

ما جمعه العلاّمة السيد محسن الأمين العاملي _ رضي الله عنه _ .

ولقد قام العلاّمة الحجة السيد محمّد باقر الأبطحي _ دام ظله _ بجمع جميع أدعية الامام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد وقال في مقدمته:

وحرىّ بنا القول انّ أدعيته _ عليه السلام _ كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الامام _ عليه السلام _ في ذلك الظرف العصب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته _ إلى جانب روحها التعبّدية - محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة فهو _ عليه السلام _ صاحب مدرسة إلهية، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد اللّه ويقدّسه،وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع إليه، واُخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البر بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد والولد، والأهل، والأصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي كل ذلك باسلوب تعليمي رائع وبليغ .

وصفوة القول انّها كانت اسلوبا مبتكراً في إيصال الفكر الاسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى، والأفئدة الّتي تهوي إليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحق علمية تربوية نموذجية من الطراز الأوّل، لاُسس بناها الامام السجاد _ عليه السلام _ مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين(1) .

____________________________

1 . الصحيفة السجادية الجامعة 13 .

( 469 )

رسالة الحقوق:

إنّ للامام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق أوردها الصدوق في خصاله(1)بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول(2) مرسلا، وبين النقلين اختلاف بالزيادة والنقيصة وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، فيذكر الامام فيها حقوق اللّه سبحانه على الإنسان

وحقوق نفسه عليه وحقوق أعضائه من اللسان والسمع، والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدى...

يبلغ خمسين حقّا، آخرها حق الذمّة.

روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث عنه أوردها الشيخ الحر العاملي في جامعه «وسائل الشيعة» كما أنّ له _ عليه السلام _ حكماً في مختلف أبواب الفقه، جمعها الشيخ الحسن الحراني في تحفه(3) فلاحظ .

الراوون عنه:

ذكر الشيخ في رجاله الرواة عنه _ عليه السلام _ : ورتّبها على حروف المعجم فبلغ 175، شخصاً(4)وهم بين صحابي وتابعي _ رضى الله عنهم _ .

قال ابن شهر آشوب: ومن رجاله من الصحابة جابر بن عبداللّه الأنصاري، وعامر بن واثلة الكناني وسعد بن المسيب بن حزن، وسعيد بن جهان الكناني مولى اُم هاني... ومن التابعين أبو محمّد سعيد بن جبير مولى بني أسد، ومحمّد

____________________________

1 . الخصال 564 _ 570 في أبواب الخمسين .

2 . تحف العقول 184 _ 195 .

3 . تحف العقول 180 _ 205 .

4 . الشيخ الطوسي الرجال 81 _ 102 .

( 470 )

ابن جبير بن مطعم، وأبو خالد الكابلي، والقاسم بن عوف، وإسماعيل بن عبداللّه بن جعفر، وإبراهيم والحسن ابنا محمّد بن الحنفية، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو يحيى الأسدي وأبو حازم الأعرج وسلمة بن دينار المدني الاقرن القاص .

ومن أصحابه أبو حمزة الثمالي بقي إلى أيام موسى بن جعفر، وفرات بن أحنف بقي إلى زمان الصادق وجابر بن محمّد بن أبي بكر، وأيوب بن الحسن، وعلي بن رافع، وحميد بن موسى الكوفي، وأبان بن تغلب، وأبو الفضل سدير ابن حكيم بن صهيب الصيرفي، وقيس بن رمانة، وعبداللّه البرقي...(1) .

قال الشيخ أبو زهرة: «في بيت الامام زين العابدين نشأ

زيد وتكوّنت ميوله، ومنازعه في الحياة، واتّجاهاته وكان زين العابدين فقيهاً كما كان محدثاً، وكان له شبه بجدّه علي بن أبي طالب في قدرته على الاحاطة بالمسائل الفقهية من كل جوانبها والتفريع عليها، وكان إذا راى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه، وقال: مرحباً بكم أنتم ودائع العلم، ويوشك _ إذ أنتم صغار قوم _ أن تكونوا كبار قوم آخرين، وإذا جاءه طالب علم، رحّب به وقال: أنت وصيّة رسول اللّه إنّ طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرض إلى السابعة(2) .

يقول الكاتب محمّد جواد مغنيه: «وكان يحسن إلى من يسئ إليه، من ذلك أنّ هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة وكان يتعمّد الإساءة إلى الامام وأهل بيته، ولمّا عزله الوليد، أمر أن يوقف للناس: في الطريق العام ليقتصوا منه،

____________________________

1 . المناقب 4 / 174 طبع قم .

2 . المقرّم: الامام زيد 31 .

( 471 )

وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الامام السجاد، ولكن الامام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه، وذهب إليه بنفسه، وقال له: لا بأس عليك منّا، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها(1) .

____________________________

1 . محمّد جواد مغنيه: الشيعة والتشيّع 244 .

( 472 )

( 473 )

الامام الخامس:

أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين _ عليهم السلام _ الباقر

هو خامس أئمّة أهل البيت، الطاهر، المعروف بالباقر، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب: لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه(1) وقال ابن حجر: سمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض أي شقّها، وإثارة مخبآتها، ومكامنها. فكذلك هو أظهر من مخبآت

كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه(2)

____________________________

1 . لسان العرب 4 / 74 .

2 . الصواعق المحرقة 201 .

( 474 )

قال ابن خلكان: أبو جعفر محمّد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الامامية وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً وانّما قيل له الباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لأهل التُّقى * وخير من لبّى على الأجبل(1)

ولد بالمدينة غرة رجب سنة 57 وقيل 56 وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة 114 وعمره الشريف 57 سنة. عاش مع جدّه الحسين _ عليه السلام _ 4 سنين ومع أبيه _ عليه السلام _ بعد جدّه _ عليه السلام _ تسعاً وثلاثين سنة وكانت مدة إمامته _ عليه السلام _ 18 سنة(2) .

وأمّا النصوص الدالّة على إمامته من أبيه وأجداده الّتي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني وغيره(3) .

قال ابن سعد: محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من المدينة كان عالماً عابداً ثقة وروى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره .

قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة: لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوماً فقلت له: أراد اللّه المعاصي؟ فقال: أفيعصى قهراً؟ قال أبو حنيفة: فما رأيت جوابا أفحم منه .

وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلا جليلا في زمانه .

وذكر المدائني: عن جابر بن عبداللّه انّه أتى أبا جعفر محمّد

بن علي إلى

____________________________

1 . وفيات الأعيان 4 / 1074 .

2 . إعلام الورى بأعلام الهدى 264 _ 265 .

3 . الكافي 1 / 305 _ 306، اثبات الهداة 3 / 33 _ 35 .

( 475 )

الكتاب وهو صغير فقال له: رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد، اسمه محمّد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام .

وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة قوله: انّ النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لجابر: وإن لاقيته فاعلم انّ بقاءك في الدنيا قليل فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال: هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام وفضيلة شهد له بها الخاص والعام(1) .

وقال عبداللّه بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر لقد رايت الحكم عنده كأنّه متعلّم(2) .

وقال المفيد: لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين _ عليهما السلام _ في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ (3) .

وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الأخبار واُنشدت في مدائحه الأشعار...(4) .

قال ابن حجر: صفا قلبه، وزكاه علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة

____________________________

1 . تذكرة الخواص لابن الجوزي 302 _

303، الفصول المهمّة 215 _ 216 .

2 . كشف الغمة 2 / 329.

3 . الارشاد 261 .

4 . الفصول المهمّة 210 نقله عن ارشاد الشيخ المفيد: 261 _ 262 .

( 476 )

الواصفين وله كلمات كثرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة(1).

وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولا حرج فقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج(2) .

قال الشيخ المفيد في الارشاد: وجاءت الأخبار: انّ نافع بن الأزرق(3) جاء إلى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر في عرض كلامه: قل لهذه المارقة بم استحللتم فراق أميرالمؤمنين، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى اللّه بنصرته، فسيقولون له أنّه حكم في دين اللّه فقل لهم قد حكّم اللّه تعالى في شريعة نبيّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ رجلين من خلقه فقال: (فَابَعثوا حَكَماً مِن أهلِهِ و حَكَماً مِن أهلِها إن يُرِيدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَينَهُما)(4). وحكّم رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه اللّه. أو ما علمتم انّ أميرالمؤمنين انّما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه، واشترط رد ما خالف القرآن في أحكام الرجال وقال حين قالوا له حكّمت على نفسك من حكم عليك، فقال: ما حكّمت مخلوقاً وانّما حكّمت كتاب اللّه فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن، واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان؟ فقال: نافع بن الأزرق هذا واللّه كلام ما مرّ بسمعي قط ولا خطر منّي ببال وهو الحق إن شاء اللّه(5) .

____________________________

1 . الصواعق المحرقة 301 .

2 . الاحتجاج 2 / 54 _

69 طبع النجف .

3 . ولعلّ المناظر هو عبداللّه بن نافع بن الأزرق، لأنّ نافع قتل عام 65 من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبداللّه بن نافع فلاحظ المناقب 4 / 201 .

4 . النساء / 35 .

5 . الارشاد: 265.

( 477 )

الراوون عنه:

وقد روى بعض الصحابة وأكثر التابعين _ عليه السلام _ وقد نهلوا من معين علمه، وقدجمع الشيخ الطوسي أسماء من روى عنه من العلماء والحفّاظ مبتدئاً بإبراهيم بن مناف الأسدي ومنتهيا بحبابة الوالبية بلغ عددهم 466 شخصاً.

وقال ابن شهر آشوب بعد نقل كلام المفيد: فمن الصحابة نحو جابر بن عبداللّه الأنصاري ومن التابعين جابر بن يزيد الجعفي، وكيسان السختياني صاحب العوفية. ومن الفقهاء نحو ابن مبارك، والزهري، والأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن منذر النهري. ومن المصنّفين نحو الطبري والبلاذري...(1) .

ثمّ إنّ الشيعة الامامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البار جعفر الصادق وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية وأمّا ما روي عنه في الحكم والمواعظ فقد نقلها أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه(2) .

ثمّ إنّ الامام محمّد الباقر توفّي عام 114 ودفن في جنب قبر أبيه في البقيع ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات .

____________________________

1 . المناقب 4 / 195 ومن المعلوم أنّ المقصود هو الأعم ممّن روى عن الإمام مباشرة أو مع الواسطة ولاحظ حلية الأولياء 3 / 198 .

2 . حلية الأولياء 3 / 180 _ 235 وفي بعض ما نقل عنه تأمّل ونظر. والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول 284 _

300 .

( 478 )

( 479 )

الامام السادس:

جعفر بن محمّد _ عليهما السلام _ الصادق

هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت الطاهر _ رضي الله عنه _ أجمعين ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام 80 وتوفّي عام 148 ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه علىّ زين العابدين وعمّ جدّه الحسن بن علي _ رضى اللّه عنهم أجمعين _ فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه(1).

وقال محمّد بن طلحة: هو من عظماء أهل البيت وساداتهم وذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القران الكريم،

____________________________

1 . وفيات الأعيان 1 / 327 رقم الترجمة 31 .

( 480 )

ويستخرج من بحره، جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليه نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا، والاقتداء بهداه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة. نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم. مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج، ومالك بن أنس،والثوري، وابن عيينة، وأبي حنيفة، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني(1) وغيرهم وعدّوا أخذهم عنه منقبه شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها.

وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويُحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر حتّى انّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى، صارت الأحكام الّتي لا تدرك عللها، والعلوم الّتي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف إليها وتروى عنه(2) .

وقال ابن الصباغ المالكي: كان جعفر الصادق _ عليه السلام _ من بين اخوته، خليفة أبيه، ووصيّه والقائم بالامامة من بعده، برزعلى جماعة بالفضل، وكان أنبههم

ذكراً، وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في البلدان، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث .

وروى عنه جماعة. من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وأبو عيينة، وأبو حنيفة، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم(3) .

____________________________

1 . وفي الأصل أيّوب السختياني والصحيح ما ذكرناه.

2 . كشف الغمة 2 / 368 .

3 . الفصول المهمة 222 .

( 481 )

إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها، كلّها تعرب عن اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللّه عزّوجلّ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها(1) .

إنّ الامام قام بهداية الاُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الامام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه، وعلوم آبائه ما سارت إليه الركبان وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل(2) وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده .

إنّ الامام _ عليه السلام _ قام بالتحديث عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بعد الغفلة الّتي استمرّت إلى عام 143(3) وقد اختلط الصحيح بالضعيف وتسرّب إلى السنّة الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات بالاضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي. وبالامام عرفوا الصحيح من

الزائف، والحقيقة من الباطل فأخذوا عنه الحكم والأحاديث النبويّة ولو نهلت الاُمّة من مناهل علمه وتركوا الروايات الّتي رواها الوضّاعون والكذّابون. لما ابتلت الاُمة بمصائب الحديث الّتي تركها الرواة على جبين الدهر وترى كثيراً من هذه المصائب في الصحاح والمسانيد

____________________________

1 . لاحظ الكافي 1 / 306 _ 307 وإثبات الهداة للحر العاملي 5 / 322 _ 330 .

2 . الارشاد 270 والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 247 .

3 . تاريخ الخلفاء للسيوطي، خلافة المنصور الدوانيقي فقد حدّد تاريخ التدوين بسنة 143 .

( 482 )

خصوصاً في صحيح البخاري .

والعجب انّ الامام البخاري، احتجّ بمثل مروان بن الحكم، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق _ عليه السلام _ .

أمّا الأوّل فهو الوزغ ابن الوزع، اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الّذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه ومع ذلك لم نجد رواية للبخاري عن الامام الصادق ونعم ما قال القائل:

قضية أشبه بالمرزئة * هذا البخاري إمام الفئة

بالصادق الصدّيق ما احتجّ في * صحيحه واحتجّ بالمرجئة

ومثل عمران بن حطان أو * مروان وابن المرأة المخطئة

مشكلة ذات عوار إلى * حيرة أرباب النهى ملجئة

انّ الامام الصادق المجتبى * بفضله الآي أتت منبئة

أجلّ من في عصره رتبة * لم يقترف في عمره سيّئة

قلامة من ظفر ابهامه * تعدل من مثل... مئة(1)

إنّ للامام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام الّتي تتجاوز عشرات الالآف، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشفين من الصوفية ضبط المحققون كثيراً منها وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الامام _ عليه

السلام _ أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روي عنه أبان بن تغلب 30 ألف حديث .

حتّى انّ الحسن بن علي الوشاء قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة)

____________________________

1 . النصايح الكافية لمن يتولى معاوية، كما في أعيان الشيعة 1 / 667 .

( 483 )

تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد. (كان _ عليه السلام _ يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ)(1) .

وأمّا ما اثر عنه في المعارف والعقائد فحدّث عنه ولا حرج ولا يسعنا نقل حتّى القليل منه ومن اراد فليرجع إلى مظانّه(2) .

وأمّا حكمه وقصار كلمه. فلاحظ تحف العقول. وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الي النجاشي، والي الأهواز، ومنها رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال، ومنها ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر إلى غير ذلك من الرسائل الّتي رسمها بخطّه(3) .

ولمّا توفّي الامام شيّعه عامّة الناس في المدينة وحمل إلى البقيع وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله:

أقول وقد راحوا به يحملونه * على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى * ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه * ترابا وأولى كان فوق المفارق

فسلام اللّه عليه يوم يولد ويوم مات ويوم يبعث حيا .

____________________________

1 . الرجال للنجاشي 139 برقم 79 .

2 . الاحتجاج 2 / 69 _ 155 والتوحيد للصدوق وقد بسطها على أبواب مختلفة .

3 . ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه 1 / 668 .

( 484 )

( 485 )

الإمام

السابع:

أبوالحسن موسى بن جعفر _ عليهما السلام _ الكاظم

سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7 صفر سنة 128 واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام 183 ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.

يعرف بالعبد الصالح، وبالكاظم، والصابر، والأمين .

هو الإمام الكبير القدر والأوحد الحجة الحبر، الساهر ليله قائما، القاطع نهاره صائما، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما.

قال الشيخ المفيد: هو الإمام بعد أبيه، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي

( 486 )

عهده والإمام القائم من بعده(1) .

إنّ الكلام في خلقه، وحلمه، وكظمه الغيظ، وفي مناقبه وفضائله، وفي تواضعه ومكارم أخلاقه، وكرمه وسخائه، وشدّة خوفه من اللّه سبحانه، وكثرة صدقاته، وأخباره مع الرشيد وأخيراً في القاء القبض عليه من قبله، وحبسه في ظُلم السجون قرابة سبع سنين واستشهاده، يحتاج إلى تأليف مفرد قام به المحققون ونحن نترك البحث في جميع ذلك ونشير إلى بعض الجوانب خصوصاً في ما يتعلق بعلمه والذين تخرّجوا على يده من الشيعة والسنّة حتّى يقف القارئ على انّه إمام الكل.

1- روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال: حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ زائراً وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر ولمّا انتهى إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول اللّه يابن عمّي _ افتخاراً على من حوله _ ، فدنى موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبة، فتغيّر وجه الرشيد وقال: هذا الفخريا أبا الحسن حقّاً(2) .

2- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول

لموسى بن جعفر: خذ فدكاً _ وهو يمتنع عليه _ ، فلمّا ألحّ عليه قال: ما آخذها إلاّ بحدودها قال: وما حدودها؟ قال: الحد الأوّل عدن _ فتغيّر وجه الرشيد _ قال: والحد الثاني؟ قال: بسمرقند _ فأربد وجهه _ قال: والحد الثالث؟ قال: أفريقيا قال: والحد الرابع؟ قال: سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون: فلم يبق لنا شيء فتحوّل من

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي 1 / 307 _ 311، إثبات الهداة 3 / 156 _ 170 فقد نقل في الأخير 60 نصّاً على إمامته.

2 . وفيات الأعيان 5 / 309 .

( 487 )

مجلسي فقال موسى: قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره(1).

3- كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيرا. فيقول: اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب، ويكرّر ذلك، وكان من دعائه _ عليه السلام _ : عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو(2) .

4- في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة: قال أبو حنيفة: حججت في ايام أبي عبداللّه الصادق _ عليه السلام _ فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت: يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال: على رسلك.

ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط، ثمّ قال: توقَّ شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية المساجد، وقارعة الطريق، وتوار خلف جدار، وشل ثوبك ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حيث شئت، فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له: ما اسمك؟ فقال: أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟ فقال: إنّ السيّئات لاتخلو من احدى ثلاث: إمّا أن تكون من اللّه وليست من العبد فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي

____________________________

1 . الزمخشري: ربيع الأبرار، كما في أعيان الشيعة 2 / 8 .

2 . المفيد: الارشاد 296 .

( 488 )

للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته، قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألق أبا عبداللّه واستغنيت بما سمعت. ورواه ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وقال: فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث: فقلت: ذرّية بعضها من بعض(1) .

5- روى أبو الفرج الاصفهاني: حدثنا يحيى بن الحسن قال: كان موسى من جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكان صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار، فكانت صرار موسى مثلا.

وقال: إنّ رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: لا، ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في

مزرعة له فتواطأها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا.

فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائة درهم، قال: فكم ترجو أن تربح؟ قال: لا أدري، قال: إنّما سألتك كم ترجو. قال: مائة اُخرى. قال: فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له فقام فقبّل رأسه، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته .

وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له. فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله: أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟(2) .

____________________________

1 . تحف العقول 303، المناقب لابن شهر آشوب 4 / 314 .

2 . مقاتل الطالبيين 499 _ 500، تاريخ بغداد 13 / 28 .

( 489 )

6- حكي انّ الرشيد سأله يوماً: كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه؟ فقال الكاظم _ عليه السلام _ : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بِسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم: (ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ * وَ زَكريّا وَ يَحْيى وَ عِيسى و إلْياسَ...) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين: قال اللّه عزّوجلّ: (فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ جاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسَنا وأنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ...) ولم يدع _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء(1) .

7- أمّا علمه

واحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه(2) .

وقد ذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم مائتين واثنين وستين شخصاً وقام الزميل المتتبّع الشيخ العطاردي بجمع اسماء من رووا عنه الأحاديث في مجالات شتّى فبلغ ستمائة وثمانية وثلاثين رجلا وأسماه بمسند الامام موسى الكاظم فجاء جميع ذلك في أجزاء ثلاثة .

ولقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّه استشهد مسموماً في سجن السندي ابن شاهك بأمر من الرشيد وكان الخليفة يخاف من أن ينتشر خبر شهادته في بغداد

____________________________

1 . الفصول المهمة 238، والآيتان من سورتي الأنعام 84 وآل عمران 61 .

2 . المفيد: الارشاد 298 .

( 490 )

ولأجل ذلك لمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره حتّى يشهدوا على أنّه مات بأجله، واُخرج ووضع على الجسر ببغداد فنودي هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه فجعل الناس يتفسّرون في وجهه وهوميّت(1) .

وأمّا الكلام في شهادته وأخباره ممّا يطول بنا الكلام إذا أردناه ذكره فليرجع إلى محلها .

ومن أحسن كلماته ما وصّى به هشام بن الحكم(2) .

____________________________

1 . مقاتل الطالبيين 504 .

2 . لاحظ الكافي 1 / 13 _ 20 وتحف العقول 283 _ 297 .

( 491 )

الإمام الثامن:

علي بن موسى بن جعفر _ عليهم السلام _ الرضا

هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر _ عليهما السلام _ وقد اجتمع أهل البيت في عصره على علمه وورعه وكفاءته لنصب الإمامة مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه

على إمامته(1) .

ولد في المدينة سنة 148 واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 وله يومئذ 55 سنة وكانت مدّة إمامته بعد أبيه 20 سنة(2) .

قال الواقدي: علي بن موسى سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو

____________________________

1 . لاحظ للوقوف على النصوص: الكافي 1 / 311 _ 319 والارشاد 304 _ 305 واثبات الهداة 3 / 228، وروي فيه 68 نصاً على إمامته .

2 . الارشاد 304 .

( 492 )

من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة(1) .

قال الشيخ كمال الدين بن طلحة: ومن أمعن نظره وفكره، وجده في الحقيقة وارثهما (المراد علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين _ عليهم السلام _ ) نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانته، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتّى أدخله الخليفة المأمون، محل مهجته، وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، وكانت مناقبه علية، وصفاته ثنية، ونفسه الشريفة زكية هاشمية، وارومته النبوية كريمة(2) .

وقد عاش الامام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازداد التشكيك في الاُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود، وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث .

وفي تلك الأزمة اُتيحت له _ عليه السلام _ الفرصة للمناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء(3) .

ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي:

دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا _ عليه السلام _ فقال: روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام

بين نبيَّين، فقسم لموسى _ عليه السلام _ الكلام ولمحمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الرؤية. فقال أبو الحسن _ عليه السلام _ فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس: انّه (لا تدركه الأبصار) و (لا يحيطون به علما)و (ليس

____________________________

1 . تذكرة الخواص ابن الجوزي 315 .

2 . الفصول المهمة 243 نقلا عن مطالب السؤول .

3 . لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج 2 / 170 _ 237 طبع النجف .

( 493 )

كمثله شي) أليس محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ قال: بلى. قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول: (لا تدركه الأبصار) و (ولا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شي).

ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني واُحطت به علما، وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عنداللّه بشي ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فانّه يقول: (ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى) فقال أبو الحسن _ عليه السلام _ إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال:(ما كذب الفؤاذُ ما رأى) يقول: ما كذب فؤاد محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى) فآيات اللّه غير اللّه. وقال(لا يُحيطون بِهِ عِلْما) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب الروايات؟ فقال أبو الحسن: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علما، ولاتدركه الأبصار،

وليس كمثله شيء(1) .

انتشر علم الامام وفضله فأخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه وفي الاُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل، فكانت تأتي الأخبار المرعبة إلى مركز الخلافة العباسية بمرو. فحاول المأمون الرشيد القاء القبض على الامام من خلال لعبة سياسية لقتل الثورة في مهدها، فأنفذ رجالا إلى المدينة حتّى يحملوا الطالبيين وفيهم علي بن موسى الرضا _ عليه السلام _ إلى مرو. فساروا بالامام عن طريق البصرة حتّى وصلوا به إلى مرو. فأنزلوه داراً وأكرموه .

واجتمع المأمون معه في مجلس ليس فيه غيرهما وقال له: إنّي اُريد أن أخلع

____________________________

1 . الاحتجاج للطبرسي 2 / 184، البحراني: البرهان 4 / 228 .

( 494 )

نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا _ عليه السلام _ هذا الأمر وقال له: اُعيذك باللّه يا أميرالمؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد، فرد عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي فرد عليه الرضا اباءً شديداً، ثمّ استدعاه إليه ثانياً وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم وقال له: إنّي قد رايت أن اُقلّدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك فقال له الرضا _ عليه السلام _ : اللّه اللّه يا أميرالمؤمنين انّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه قال له: فانّي موليك العهد من بعدي فقال له: اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين فقال له المأمون كلاما فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه: انّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ وشرط في من خالف منهم أن يضرب عنقه ولابد من قبولك

ما اُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه فقال له الرضا _ عليه السلام _ : فإنّي اُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على انّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا اقضي ولا اُولي ولا أعزل ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه (1) .

بعد قبول علي بن موسى الرضا _ عليهما السلام _ بولاية العهد قامَ بين يديه الخطباء والشعراء فخفقت الألوية على رأسه وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل ابن علي الخزاعي فلمّا دخل عليه قال: قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فأمره بالجلوس حتّى خف مجلسه ثم قال له: هاتها. فأنشد قصيدته المعروفة:

ذكرت محل الربع من عرفات * فأجريت دمع العين على الوجنات

____________________________

1 . الارشاد للمفيد 310 .

( 495 )

وقد خانني صبري وهاجت صبابتي * رسوم ديار اقفرت وعرات

مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات

حتّى أتى على آخرها. فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا _ عليه السلام _ فدخل إلى حجرته وأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه فردّها دعبل وقال: واللّه ما لهذا جئت وانّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون وانّي لفي غنى فإن رأيت أن تعطيني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرة(1) .

كان الامام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعند ذلك أحسَّ المأمون أنّ اعطاءه ولاية العهد ربّما يؤدّي إلى الاطاحة بخلافته، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا _ عليه السلام _ : إنّك قد

علمت ما كان بيني وبينك ما كان من الشروط في دخول الأمر فاعفني في الصلاة بالناس فقال له المأمون: إنَّما اُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك، ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك حتّى ألحّ عليه المأمون. فارسل إليه الرضا: إن أعفيتني فهو أحبّ إلىّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأميرالمؤمنين _ عليه السلام _ فقال له المأمون: اُخرج كيف شئت وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا قال: فعقد الناس لأبي الحسن _ عليه السلام _ في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ

____________________________

1 . ابن الصباغ: الفصول المهمة 246 والمفيد: الارشاد 316 وللقصة صلة ومن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين .

( 496 )

شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه افعلوا ما فعلت فمشى قليلا ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه، فلمّا رآه الجند والقواد سقطوا كلّهم عن الدواب إلى الأرض ثمّ كبّر وكبر الناس فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوه فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل فتن به الناس، وخفنا كلّنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع فرجع الرضا _ عليه السلام _ واختلف أمر الناس في ذلك اليوم(1) .

وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات:

ذكروا بطلعتك النبي فهللوا * لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتّى انتهيت إلى المصلى لابساً * نور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع * للّه لا

يزهى ولا يتكبر(2)

إنّ هذا وأمثاله وبالأخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون. لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا وبالتالي سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين _ كل ذلك _ دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في التاريخ .

ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس انّه كان ينشد الشعر في كل جليل وطفيف ولم يمدح الامام فاعتذر عنه بالأبيات التالية.

قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً * في فنون من الكلام النبيه

لك من جوهر الكلام بديع * يثمر الدر في يدي مجتنيه

فعلام تركت مدح ابن موسى * والخصال الّتي تجمّعن فيه

____________________________

1 . المفيد: الارشاد 312 .

2 . أعيان الشيعة 2 / 21 _ 22 .

( 497 )

قلت لا أستطيع مدح إمام * كان جبرئيل خادماً لأبيه

ولمّا لم يقبل هذا العذر منه أنشد قصيدة مطوّلة فيها مايلي:

مطهّرون نقيّات جيوبهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر

اللّه لمّا برأ خلقاً فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيّها البشر

فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاء به السور(1)

وأمّا من روى عن الرضا _ عليه السلام _ فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله(2)والسيد الأمين في أعيانه أسماء من رووا عنه. وقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عنه من الأحاديث والخطب والمواعظ والمناظرات وأسماه مسند الامام الرضا _ عليه السلام _ ورتّب أسماء الراوين عنه حسب حروف المعجم فجاء 312 رجلا.

فسلام اللّه عليه يوم ولد، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

____________________________

1 . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 270 .

2

. رجال الشيخ 366 _ 397 ذكر فيه 315 رجلا .

( 499 )

الإمام التاسع:

محمّد بن علي بن موسى _ عليهم السلام _ الجواد

هو من أئمّة أهل البيت، تاسع الأئمّة عند الشيعة، ولد عام 195. ورث الشرف من آبائه وأجداده، واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا _ عليه السلام _ عام 203 واستشهد ببغداد عام 220. أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة(1) .

لمّا توفّي الرضا _ عليه السلام _ كان الامام الجواد في المدينة وقام بأمر الامامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين غير انّ المأمون قد مارس معه نفس السياسة الّتي مارسها مع أبيه _ عليه السلام _ خلافاً لأسلافه من العباسيين،

____________________________

1 . الكافي 1 / 320 _ 323، اثبات الهداة 3 / 321 _ 328 .

( 500 )

حيث انّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضا للخلفاء، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أئمة أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم إلى الامام الحادي عشر كما ستعرف .

ولمّا جيئ بالامام الجواد إلى مركز الخلافة، شغف به المأمون، لما راى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته اُم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره، ونكتفي في المقام بذكر أمرين:

1- لمّا توفّي الامام الرضا

_ عليه السلام _ وقدم المأمون بغداد. اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد وعمره آنذاك تسع سنين. فلمّا قرب منه الخليفة فقال له: يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعا: يا أميرالمؤمنين فرّ أصحابي فرقا والظن بك حسن انّه لا يفر منك من لا ذنب له، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي. فأعجب المأمون كلامه. وحسن صورته قال: ما اسمك يا غلام؟ قال: محمّد بن علي الرضا _ عليه السلام _ فترحّم على أبيه(1) .

2- لمّا أراد المأمون تزويج ابنته اُم الفضل من الامام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له: ننشدك اللّه أن تقيم على هذا الأمر الّذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا _ عليه السلام _ فانّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرا، قد ملّكناه اللّه وينزع عنّا

____________________________

1 . الفصول المهمة 266 .

( 501 )

به عزّا. قد ألبسناه اللّه وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفى الله المهم من ذلك، وأضافوا: انّه صبي لا معرفة له فامهلة حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماترى.

قال المأمون: ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى والهامه. ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوا ابا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله، قالوا: رضينا فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يساله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك، واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه وأمر المأمون

أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر _ عليه السلام _ فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال: إستأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال: سل إن شئت .

فقال: ما تقول جعلت فداك في مُحْرم قتل صيدا؟ فقال أبو جعفر _ عليه السلام _ : في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبدا؟ صغيراً كان أو كبيرا؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادما؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ قال لأبي جعفر _ عليه السلام _ : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك

( 502 )

اُم الفضل ابنتي(1) .

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده فقال أبو جعفر _ عليه السلام _ : إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، فإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ،

وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة، فان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر...(2) .

رجوع الجواد إلى المدينة:

ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن اقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي

____________________________

1 . الارشاد 319 _ 321 وإعلام الورى 352 وللقصّة صلة فراجع .

2 . المفيد: الارشاد 322 .

( 503 )

مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدمه إلى بغداد سنة 220(1) وتوفّي في بغداد آخر ذي القعدة من تلك السنة وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش .

وأمّا الرواة عنه فقد ذكرهم ابن شهر آشوب في مناقبه فقال: من ثقاته أيوب ابن نوح بن دراج الكوفي، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمّد بن الحسين أبي الخطاب الكوفي .

ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمّد بن أحمد المحمودي،

وأبو يحيى الجرجاني، وأبوالقاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمّد بن هارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيمن المراغي، وأبو علي بن بلال وعبداللّه بن محمّد الحضيني، ومحمّد بن الحسن بن شمعون البصري وقال في موضع آخر: وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمّد بن منده بن مهربذ في كتابه(2).

هذا فقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عن الامام الجواد _ عليه السلام _ أسماه «مسند الامام الجواد» وقد ذكر أسماء الرواة عنه من

____________________________

1 . وفي الارشاد 326 وفي إعلام الهدى 304: وكان سبب ورود الامام إلى بغداد وإشخاص المعتصم له من المدينة فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة 225... ثمّ يقول: وكان له يوم قبض 25 سنة .

ولا يخفى انّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة 225 يكون له يوم وفاته 30 سنة من العمر لأنّه ولد عام 195 .

2 . ابن شهر آشوب: المناقب 4 / 258 .

( 504 )

المحدّثين والفقهاء الذين يربو عددهم على 121 شخصا. شكر اللّه مساعيه.

وسلام اللّه على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسم ويوم يبعث حيّا.

( 505 )

الامام العاشر:

أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا _ عليهم السلام _ الهادي

الامام علي الهادي، هو الامام العاشر، والنور الزاهر، ولد عام 212 ه_ وتوفّي بسامراء سنة 254 ه_ وهو من بيت الرسالة والامامة ومقر الوصاية والخلافة، وثمرّة من شجرة النبوّة، قام بأمر الامامة بعد والده الامام الجواد، وقد عاصر خلافة المعتصم فالواثق، فالمتوكل فالمنتصر، والمستعين، والمعتز،وله مع هؤلاء قضايا لا يقتضي

المقام ذكر البعض فكيف الكل .

قال ابن شهر آشوب: كان أطيب الناس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمَت، عَلتْه هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء(1).

____________________________

1 . مناقب آل أبي طالب 4 / 401 طبع قم.

( 506 )

وقال عماد الدين الحنبلي: كان فقيهاً إماماً متعبّداً(1) .

وقال المفيد: تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالامامة، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة(2) .

وقدتضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا، فمن اراد فليرجع إلى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك(3) .

وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الّذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها، وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين وأشدّهم عداءً لعلىّ فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك، وميل الناس إليه، فخاف منه، فدعى يحيى بن هرثمة، وقال: إذهب إلى المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

قال يحيى: فذهبت إلى المدينة. فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على علي الهادي، وقامت الدنيا على ساق، لأنّه كان مُحْسِنا اليهم، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى: فجعلت اُسكِّنهم وأحْلِف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه، وانّه لا بأس عليه، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته، فلمّا قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن

____________________________

1 . شذرات الذهب 2 / 128 في حوادث سنة 254 .

2 . الارشاد 327 .

3 . الكليني،

الكافي 1 / 323 _ 325، الشيخ الحر العاملي: اثبات الهداة 3 / 355 _ 358 .

( 507 )

إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه، والمتوكل مَنْ تَعْلَم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له: واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل، ثمّ صرت به إلى «سرّ من راى»، فبدأت ب_ «وصيف» التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه، وأنزله معه سامراء(1) .

ومع انّ الامام كان يعيش في نفس البلد الّذي يسكن فيه المتوكل، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب، وشي إلى المتوكل بعلي بن محمّد أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم وأنّه عازم بالوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهاجموا داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن، فحمل على حاله تلك، إلى المتوكل، قالوا للمتوكل: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشراب فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكل، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس الّتي كانت في يده، فقال: واللّه ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني، فأعفاه، فقال له: أنشدني شعراً، فقال علي: أنا قليل الرواية للشعر، فقال: لابد، فأنشده وهو جالس عنده:

باتوا على

قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنلزوا بعد عزّ من معاقلهم * واُسْكِنُوا حُفراً يابئس ما نزلوا

____________________________

1 . سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص 322 .

( 508 )

ناداهم صارخ من بعد دفنهم * أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه الّتي كانت منعّمة * من دونها تضرب الأستار واللكل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل(1)

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكِلوا

فبكى المتوكّل حتّى بلّتً لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثمّ ردّه إلى منزله مكرماً(2) .

آثاره العلمية :

روى الحفّاظ والرواة عن الامام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم وبثّها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة على أبواب مختلفة، وممّا نلفت إليه النظر انّ للإمام رسائل .

1 _ رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه (3) .

2- أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله، وهذه أيضا أوردها في تحف العقول .

3- قطعة من أحكام الدين، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب .

ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الامام نأتي بنموذج من تفسيره:

____________________________

1 . ربما يروى «ينتقل» .

2 . المسعودي: مروج الذهب 4 / 11 .

3 . تحف العقول 338 _ 352 .

( 509 )

قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الايمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الامام الهادي يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: يضرب حتّى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك فكتب إليه يسأله عن

العلّة، فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم(فَلمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعْهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ)(1)، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات(2) .

وفاته:

توفّي أبوالحسن _ عليه السلام _ في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمّد وجعفر وابنته عايشة، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة(3) .

وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة، تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري. فمن أراد فليراجع .

____________________________

1 . غافر / 84 _ 85 .

2 . ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 4 / 403 _ 405 .

3 . الإرشاد 327 .

( 510 )

الرواة عن الامام الهادي:

ذكر ابن شهر آشوب في المناقب مشاهير الرواة عنه(1)، وذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم 185 شخصاً(2) ثمّ إنّ الشيخ المعاصر العطاردي قام بجمع ما روي عنه في مجالات شتى فأسماه «مسند الإمام الهادي» شكر اللّه سعيه .

____________________________

1 . المناقب 4 / 402 .

2 . رجال الشيخ الطوسي 409 _ 427 .

( 511 )

الإمام الحادي عشر:

أبو محمّد الحسن بن علي الهادي _ عليهما السلام _ العسكري

أبو محمّد: الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد، أحد أئمّة أهل البيت، والإمام الحادي عشر، الملقّب بالعسكري ولد عام 232(1)، وقال الخطيب في تاريخه(2) وابن الجوزي في تذكرته(3) أنّه ولد عام 231، وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة 236،

وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل، وبرز تقدّمه

____________________________

1 . الكليني: الكافي 1 / 503 .

2 . الخطيب: تاريخ بغداد 7 / 366 .

3 . سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص 322 .

( 512 )

على كافة أهل العصر، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة(1) روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين ما يربو على 150 شخصاً(2) وتوفّي عام 260، ودفن في داره الّتي دفن فيها أبوه بسامراء .

وخلّف إبنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت، وشدّة طلب السلطة، واجتهادها في البحث عن أمره ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما .

وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ويراد به سرّ من رأى الّذي بناها المعتصم، وانتقل إليها بعسكره، وأمّا نسبة الإمام لأنّ المتوكّل أشخص اباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها(3) .

وقال السبط ابن الجوزي: كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز .

ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزىّ في كتابه المسمّى بتحريم الخمر ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى ابائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول: اشهد باللّه لقد سمعت محمّداً رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: أشهد باللّه لقد سمعت جبرائيل يقول: أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول: أشهد باللّه لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهد باللّه على اللوح المحفوظ انّه قال: سمعت اللّه يقول: «شارب

الخمر كعابد الوثن»(4) .

____________________________

1 . المفيد: الارشاد 335 .

2 . العطاردي: مسند الامام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه.

3 . ابن خلكان: وفيات الأعيان 2 / 94 .

4 . تذكرة الخواص 324 .

( 513 )

إنّ الإمام أسند الحديث إلى النبيّ الأكرم ولعلّ السبط ابن الجوزي زعم انّه مختص بهذا المورد، ولكن الحقيقة غير ذلك، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلها عن النبىّ الأكرم، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل إليهم عن النبىّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن طريق آبائهم وأجدادهم، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصية وهو في قياسه خاطئ، فهم منذ نعومة أظفار هم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبية لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا جابر الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ : إذا حدّثني بحديث فأسنده لك؟ فقال: حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى، فكل ما اُحدثك بهذا الإسناد. ثمّ قال: لحديث واحد تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها(1) .

وروى حفص ابن البختري، قال: قلت لأبي عبداللّه الصادق _ عليه السلام _ : أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك؟ فقال: ما سمعته منّي فاروه عن أبي،

وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (2) .

فأئمة المسلمين على حد قول القائل:

____________________________

1 . الحر العاملي: وسائل الشيعة ج 18، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي الحديث 67 .

2 . المصدر نفسه، الحديث 86 .

( 514 )

ووال اناسا نقلهم وحديثهم * روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الامام الباقر _ عليه السلام _ سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت، فقال لهما: شرقّا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ أشياء خرج من عندنا أهل البيت.

رغم أنّ الخلفاء وضعوا الامام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات نذكر أسماء الرواة عنه:

قال ابن شهرآشوب: من ثقاته علي بن جعفر، وأبو هاشم، داود بن القاسم الجعفري وقد أدرك خمسة من الأئمّة _ عليهم السلام _ وداود بن أبي يزيد النيسابوري، ومحمّد بن علي بن بلال، وعبداللّه بن جعفر الحميري القمّي، وأبو عمر عثمان ابن سعيد العمري، وإسحاق بن ربيع الكوفي، وأبو القاسم جابر بن اليزيد الفارسي، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري و...(1) .

ثمّ إنّ الكلام في أخلاقه وأطواره، ومناقبه وفضائله، وكرمه وسخائه، وهيبته، وعظمته، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة. وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماؤنا الأبرابر بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه :

1- لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً ويساراً وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا، ولكن الامام _ عليه السلام _ يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه

وأقربها للطبع، فقال: كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا سحر مبين تقوّله.

____________________________

1 . المناقب 4 / 423 .

( 515 )

فقال اللّه: (الم ذلِك الكتابُ) (فقل) يا محمّد، هذا الكتاب الّذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها «الف»، «لام»، «ميم» وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن انّه لا يقدرون عليه بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرا) _ الإسراء / 88 _ (1) .

وقد روي هذا المعنى عن أبيه الامام الهادي _ عليه السلام _ (2) .

2- كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون: إنّكم تقولون في صلواتكم: (اهدِنا الصِّراط المُسْتقيم) أولستم فيه؟

فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال: «أدم لنا توفيقك الّذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا» .

ثمّ فسّر الصراط بقوله: الصراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الّذي هو مستقيم، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة(3) .

وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الامام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة اُموراً هم عنها براء، ولأجل ذلك يركّز الامام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير .

____________________________

1 . الصدوق: معاني الأخبار 24، والحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب .

2 . الكليني: الكافي ج 1

كتاب العقل والجهل الحديث 20 / 24 _ 25 .

3 . الصدوق: معاني الأخبار 33 .

( 516 )

3- ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه: (صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن، وإن كان كل هذا نعمة من اللّه، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله: (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضّالِّين) هو نعمة التوفيق والهداية .

ولأجل ذلك نرى انّ الامام يفسّر الأنعام بقوله: «قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ: (وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّقينَ والشُّهَداءِ والصّالِحينَ و حَسُنَ اُولئِكَ رفيقاً) ثمّ قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة»(1) .

4- لقد تفشّت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء، قبل أن تخلق استلهاماً من بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ)(2) فقال: هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. إنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون، فنظر إلىَّ شزرا، وقال:

«تعالى اللّه الجبّار العالِم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه»(3) .

____________________________

1 . الصدوق: معاني الأخبار 36 .

2 . الرعد / 39 .

3 . المسعودي: اثبات الوصية 241 .

( 517 )

حصيلة البحث:

هؤلاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمة المسلمين جميعاً، وكيف لا يكونون كذلك وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الاُمّة على التمسّك بهما وقال: إنّي تارك فيكم الثقلين

كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً(1) .

ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين وإنّما استعانوا في تفسيره باُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقون غبارهم، نظراء مجاهد بن جبر (ت 104) وعكرمة البربري (ت 104) وطاووس بن كيسان اليماني (ت 106) وعطاء بن أبي رباح (ت 114) ومحمّد بن كعب القرظي (ت 118) إلى غير ذلك من اُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت _ صلوات الّه عليهم _...

فالإسلام عقيدة وشريعة، فالنجاة عن الضلال _ حسب مفاد حديث الثقلين هو الرجوع إليهما وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلاّ فلا قيمة له _ أمّا الصحابة والتابعون، فلا يعتد برأيهم إلاّ إذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلاّ إشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته .

____________________________

1 . رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة، (لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث،ترى اسنادها موصولة إلى النبىّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

( 518 )

( 519 )

الإمام الثاني عشر:

الخلف الصالح

المهدي صاحب الزمان (عجل اللّه تعالى فرجه)

هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة، الخلف الصالح، ولد عليه السلام بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه اللّه الحكم صبيّا كما حدث ليحيى قال سبحانه: (يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا)(1)وجعله إماماً وهو

طفل، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه: (إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَ جَعَلنِى نَبِّيا)(2) وقد تواتر النص عليه من النبيّ الأكرم وآبائه

____________________________

1 . مريم / 12 .

2 . مريم: 30 .

( 520 )

الكرام .

اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم، والجور، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون، فهو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة الّتي سنّتها الأهواء، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية، ويمحي أسباب العداء، والبغضاء الّتي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة، وافتراق الكلمة، ويحقق به سبحانه بظهوره، وعده الّذي وعد به المؤمنين بقوله:

1- (وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْركُونَ بِى شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون)(1) .

2- (وَ نُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ)(2) .

3- (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ)(3).

ويأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة «لا إله إلاّ اللّه» بكرة وعشيا .

____________________________

1 . النور / 55 .

2 . القصص / 5 .

3 . الأنبياء / 105 .

( 521 )

1- روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : ولو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا(1) .

2- أخرج

أبو داود عن عبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: لا تنقضي الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي(2) .

3- أخرج أبو داود عن اُمّ سلمة _ رضى الله عنها _ قالت: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة(3) .

4- أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي(4) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة الّتي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه يقول الدكتور عبدالباقي: إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين انّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريبا، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح(5) .

هذا هو المهدي الّذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه، وانّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الامام الثاني عشر الّذي ولد بسامراء عام 255 ه_ واختفى بعد وفاة أبيه عام 260 ه_ ، وقد تضافرت

____________________________

1 . مسند أحمد 1 / 99، 3 / 17 _ 70 .

2 . جامع الاُصول 11 / 48 برقم 7810 .

3 . المصدر نفسه برقم 7812 .

4 . المصدر نفسه برقم 7810 .

5 . الدكتور عبدالباقي: بين يدي الساعة 123 .

( 522 )

عليه النصوص من آبائه، على وجه ماترك شكّاً ولا شبهة(1) ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري .

نعم كثير منهم قالوا بأنّه سيولد في آخر الزمان، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، فمن

رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق، وأنّ المولود للامام العسكري هو المهدي الموعود .

وممّن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود :

1- كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل رسول». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في «مرآة الجنان» في حوادث سنة 650. قال بعد سرد اسمه ونسبه: «المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر، فأمّا مولده فبسرّ من رأى، وأمّا نسبه أبا فأبوه الحسن الخالص» ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود، والترمذي، ومسلم والبخاري وغيرهم ثمّ اعترض بأنّها لا تدل على أنّه محمّد بن الحسن العسكري وأجاب بأنّ الرسول لمّا وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجودة في محمّد بن الحسن العسكري علمنا أنّه هو المهدي .

2- أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه: «البيان في اخبار صاحب الزمان» و «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب».

3- نور الدين علي بن محمّد بن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة الأئمّة .

____________________________

1 . اقرأ هذه النصوص في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق 306 _ 381 ترى فيه النصوص المتضافرة على أنّ المهدى الموعود هو ولد الامام أبو محمّد الحسن العسكري وانّ له غيبة .

( 523 )

4- الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بالسبط ابن الجوزي «في تذكرة الخواص».

إلى غير ذلك من علماء وحفّاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاه إلى ثلاثة عشر، ثمّ قال: والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون وفيما ذكرناه منهم كفاية ومن أراد الاستقصاء

فليرجع إلى كتابنا «البرهان إلى وجود صاحب الزمان» و رسالة «كشف الأستار» للشيخ حسين النوري(1) .

وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً حتّى أنّ دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته الّتي أنشدها لعلي بن موسى الرضا _ عليه السلام _ فقال:

خروج إمام لا محالة قائم يقوم على اسم اللّه والبركات

يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات

ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا _ عليه السلام _ بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه، فقال له: يا خزاعىّ نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم؟، فقلت: لا يا مولاي، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد، ويملأها عدلا كما ملئت جوراً، فقال: يا دعبل، الامام بعدي محمّد ابني (الجواد) وبعد محمّد ابنه علي (الهادي) وبعد علي ابنه الحسن (العسكري) وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا، وأمّا متى؟ فاخبار عن الوقت، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن

____________________________

1 . أعيان الشيعة 2 / 64 _ 75 .

( 524 )

آبائه عن علي _ عليه السلام _ إنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قيل له: يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ هو. ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة(1) .

ثمّ إنّ للمهدي _ عجّل اللّه تعالى فرجه _ غيبتين صغرى وكبرى، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة

بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام 329 ه_ ، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في اُمور شتّى .

وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الاُولى إلى أن يقوم بإذن اللّه تعالى .

وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتّى بعد الكبرى، فحدّث عنه ولا حرج فقد اُلف في ذلك كتب أحسنها وأجملها: كمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي .

ثمّ إنّ حول الامام المهدي أسئله وشبهات ربّما يتجاوز العشرة، وقد ذكرها المحقّقون من علماء الإمامية في كتبهم وأجابوا عنها بوضوح(2) .

____________________________

1 . الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة 2 / 372 .

2 . لاحظ محاضراتنا: الإلهيات: بقلم الشيخ الفاضل حسن مكّي 2 / 641 _ 653 وفي كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لشيخنا: لطف الله الصافي _ دام ظله _ غنى وكفاية لطالب الحق .

الفصل الثاني عشر دور الشيعة في بناء الحضارة

الفصل الثاني عشر دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية

وازدهار العلوم

( 526 )

( 527 )

الحضارة تقابل البداوة، وتطلق على الاقامة في الحضر وهي الكلمة الدارجة في أيّامنا هذه على ألسن الخطباء وقلم الكتّاب وكلمة التمدّن هي الّتي كانت رائجة سابقاً .

ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب (الأرض) حضارات متعدّدة، لكلٍّ ميزاتها وخصائصها الّتي ضبطها التاريخ، وأفصحت عنها الاكتشافات الأثرية.

ومن مشاهير هذه الحضارات: الحضارة الصينية _ المصرية _ البابلية _ اليونانية الرومانية _ الفارسية _ وأخيراً الحضارة الغريبة ولكل انطباعاتها الخاصة .

وأمّا الحضارة الإسلامية فهي الّتي تتوسّط بين الحضارة الأخيرة (الغربية) وما تقدّمها. وهي أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً

بالعلم والفلسفة والأدب والفنون. وهي الأساس الوطيد الّذي قامت عليه حركة النهضة الاوربية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتب لبيان ما قدّمته الحضارة الإسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة .

وليست الحضارة الإسلامية حضارة عربية ابتدعتها العرب، بمواهبها وتجاربها بل حضارة الشعوب الإسلامية من عرب و فرس وترك وغيرهم من القوميات، الذين ذابوا في الإسلام ونسوا قومياتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية. وكلّما

( 528 )

تُستخدم الحضارة العربية يراد منها الحضارة الإسلامية. التي انبثقت بطلوع فجر الإسلام في الجزيرة العربية وانتشرت بانتشاره بسرعة عجيبة فخفقت راياتها في بقاع واسعة من العالم فامتدّت من حدود الصين شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا .

إنّ الحضارة الحقيقة تتميّز بانعدام الهمجية والفوضى الاجتماعية، وباستغلال الموارد الطبيعية والمواهب البشرية إلى أقصى الحدود. كما تتميز بتقدّم العلوم وازدهار الآداب والفنون، وسموّ المطامح الإنسانية وحلول التنظيم الاجتماعي .

إنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة:

1- الموارد الاقتصادية .

2- النظم السياسية .

3- التقاليد الخلقية .

4- متابعة العلوم والفنون .

وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق لأنّه إذا ما أمن الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التطلّع وعوامل الابداع والانشاء وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها(1) .

وما ذكره ذلك العالم الباحث من اُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الإلهية والمادّية. وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الاُسس الدينية فمن أهم أركانها توعية الإنسان في ظلال الاعتقاد باللّه سبحانه واليوم الآخر. حتّى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني. فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية

____________________________

1 . ويل دورانت: قصة الحضارة 1 / 3 .

( 529 )

لا إنسانية، وتمدّن مادّي وليس بالهي .

إنّ

مؤسّس الحضارة الإسلامية هو النبىّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق ومتابعة العلوم والفنون، واستغلال الموارد الطبيعية وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة.

ولا يشك في ذلك من قرأ تاريخ الإسلام وتاريخ النبيّ الأكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الإسلام بما قبلها .

ثمّ إنّ المسلمين شيدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط الّتي رسمها النبىّ الأكرم من خلال القرآن والسنّة فأصبح لهم قوّة اقتصادية، ونظم سياسية، وتقاليد دينية وخلقية وأصبحت العلوم والفنون تتطوّر وتتقدم. وقد قاموا بترجمة كتب اليونانيين والفرس وغيرهم إلى لغتهم فصارت الحضارة الإسلامية مزدهرة. بفضل هذه العلوم وتطويرها. فصارت المكتبات عامرة بآلاف الكتب المتنوّعة .

انّ لكلّ حضارة طابعاً خاصاً. فلبعضها طابع اقتصادي ولاُخرى طابع عسكري، ولثالث طابع فنّي معماري وهكذا، ولكن الحضارة الإسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات فلم تترك ميزة دون اُخرى .

والّذي يطيب لنا في هذا الفصل، ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة خصوصاً فيما يرجع إلى الركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون، وأمّا الأركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا الفصل وذلك:

لأنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالاُمور التالية:

1- التنمية الزراعية بأنواعها المختلفة من الحبوب والفاكهة وغيرهما.

( 530 )

2- استخراج المعادن الذهبية، والفضّية، والأحجار، النفيسة الكريمة، كالفيروز، والعقيق، والزمرّد واللؤلؤ والمرجان.

3- إحداث القنوات المائية وبناء السدود. وتقسيم الماء، ومحاربة طغيانه.

4- تربية الحيوانات الأليفة وصيد السمك والطيور.

5- صناعة الألبسة والأقمشة والستور والسجاد .

6- صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم .

7- ايجاد المواصلات البرّية والبحريّة، وتنظيم حركة الملاحة، ومحاربة قطاع

الطرق واللصوص في البحر والبر .

8- العناية الفائقة بالتجارة وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة، إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي، فلا يصحّ ابعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون اُخرى فإنّ الإنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي، ينساق إلى ذلك .

وأمّا النظم السياسية فقد نضجت في الدولتين الاموية والعباسية في حقول شتى: الادارة والعسكرية البرية منها والبحرية، فقد قامت كل دولة في مصر الخلفاء بواجبها من غير فرق بين الدول الشيعية منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالسامانية والسلاجقة والغزاونة وهكذا .

وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة من صميم الإسلام ومأخوذة من الكتاب والسنّة وأمّا التقاليد القومية لقد افسح الإسلام لها المجال إذا لم تكن معارضة لمبادئ الشريعة والمثل الأخلاقية الإسلامية .

فلأجل ذلك نركز على الركن الرابع من هذه الأركان الأربعة للحضارة، وهو متابعة العلوم والفنون فهي الطابع الأساسي للحضارة الإسلامية وبها تتميّز عن ما تقدّم عليها وعن ما تأخّر عنها، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن أي ازدهار

( 531 )

العلوم والفنون ليظهر أنّهم كانوا في الطليعة وكان لهم الدور الأساسي .

إنّ الحضارة الإسلامية تستمد من الكتاب والسنّة فكل من قدّم خدمة للقرآن لفظاً ومعنى، صورة ومادة فقد شارك في بناء الحضارة الإسلامية ومثله السنّة وإليك البيان .

1- قدماء الشيعة وعلم النحو:

إنّ دراسة القرآن بين الاُمة ونشر مفاهيمه، يتوقّف على معرفة العلوم الّتي تعد مفتاحاً له إذ لولا تلك العلوم لكانت الدراسة ممتنعة، ونشرها في ربوع العالم غير ميسور، جدّاً. بل لولا هذه العلوم ونضجها لحرم جميع المسلمين حتّى العرب منهم من الاستفادة من القرآن الكريم. لأنّ الفتوحات فرضت على المجتمع العربي الاختلاط مع بقية القوميات وسبَّب ذلك

خطراً على بقاء اللغة العربية وكان العرب عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على النحو الّذي في القرآن إلاّ من خالطهم من الموالي والمتعرّبين، ولكن اللحن لم يكثر إلاّ بعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق فشارع اللحن في قراءة القرآن فمست الحاجة الشديدة إلى ضبط قواعد اللغة(1) .

فقام أبو الأسود الدؤلي بوضع قواعد نحوية بأمر الامام أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ فأبو الأسود إمّا واضع علم النحو أو مدوّنه وكان من سادات التابعين، صاحب عليّاً وشهد معه صفين. ثمّ أقام في البصرة. يقول الشيخ أبو الحسن سلامة الشامي النحوي: إنّ علياًدخل عليه أبوالأسود يوماً. قال: فرأيته مفكّراً، فقلت له: مالي أراك مفكّراً يا أميرالمؤمنين؟ قال: إنّي سمعت من بعض الناس لحناً وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب. فقلت: إن فعلت ذلك أحييت

____________________________

1 . جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 1 / 219 .

( 532 )

أقواماً من الهلاك فألقى إليّ صحيفة فيها: الكلام كلّه إسم وفعل وحرف. فالإسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس بإسم ولا فعل وجعل يزيد على ذلك زيادات قال: واستأذنته أن اصنع في النحو ما صنع فأذِن وأتيته به فزاد فيه ونقص، وفي رواية أنّه ألقى إليه الصحيفة وقال له: انح نحو هذه فلهذا سمّي النحو نحوا(1) .

ومن المعلوم انّ هذه القواعد لم تكن تسد الحاجة الملحّة. ولكن أبا الأسود قام باكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب من المرفوع والاسم من الفعل بعلامات نسمّيها الاعراب فالروايات مجمعة على أنّ أبا الأسود (وهو شيعي المذهب توفّي سنة 69) إمّا مدوّن علم النحو أو واضعه وأضحى ما دوَّنه مصدراً لهذا العلم في العصور الّلاحقة

وهناك كلام لابن النديم دونك لفظه. يقول:

قال محمّد بن إسحاق: زعم أكثر العلماء أنّ النحو اُخذ عن أبي الأسود الدؤلي وأنّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ .

ثمّ نقل عن الطبري وقال: انّما سمّي النحو نحواً لأنّ أبا الأسود الدؤلي قال لعلي _ عليه السلام _ وقد ألقى عليه شيئاً من اُصول النحو قال أبو الأسود: واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع، فسمّي ذلك نحواً(2) .

2- وإذا كان أبو الأسود الدؤلي واضعاً للنحو فالخليل بن أحمد الفراهيدي هو المنقّح له والباسط له. قال أبوبكر محمّد بن الحسن الزبيدي: والخليل بن أحمد، أوحد العصر، وفريد الدهر، وجهبذ الاُمة واُستاذ أهل الفطنة الّذي لم ير نظيره ولا

____________________________

1 . حسن الصدر: تأسيس الشيعة 51 ولقد بلغ الغاية في ذلك المجال فنقل كلمات المؤرّخين في ما قام به الأمام وتلميذه في تأسيس علم النحو .

2 . ابن النديم: الفهرست 66 وللكلام صلة من أراد فليرجع إلى المصدر .

( 533 )

عرف في الدنيا عديلة، وهو الّذي بسط النحو ومدّ اطنابه وسبب علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج فيه، حتّى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى ابعد غايته...

وسيوافيك انّ الخليل من أصحاب الامام الصادق ومن شيعته .

ثمّ إنّ علماء الفريقين شاركوا في نضج هذا العلم وايصاله إلى القمة .

وليس للمصنف بخس حق طائفة لمصالح اُخرى ولكن لمّا كان الهدف هو بيان دور الشيعة في تطوير العلوم وتتبّعها نذكر من خدم علم النحو من قدماء الشيعة فقط منهم.

1- عطاء بن أبي الأسود: قال الشيخ الطوسي في باب أصحاب الحسين بن علي: ومنهم ابن أبي الأسود الدؤلي. وقال الحافظ السيوطي في الطبقات: عطاء، استاذ الأصمعي وأبو عبيدة(1)

.

2- أبو جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي الكوفي: قال السيوطي: هو أوّل من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو وسمّاه الفيصل وهو اُستاذ الكسائي والفرّاء(2) .

قال النجاشي: روى هو وأبوه عن أبي جعفر وأبي عبداللّه _ عليهما السلام _ وله كتاب الوقف والابتداء، وكتاب الهمز، وكتاب اعراب القرآن(3) .

3- حمران بن أعين أخو زرارة بن أعين: كان نحوياً إماماً فيه، عالماً بالحديث واللغة والقرآن، أخذ النحو والقراءة عن (ابن) أبي الأسود، وأخذ عنه الفراء وحمزة أحد السبعة وأخذ الحديث عن الامام السجاد والباقر والصادق. وآل أعين بيت كبير بالكوفة من أجلّ بيوت الشيعة ولأبي غالب الزراري

____________________________

1 . تأسيس الشيعة 65 .

2 . تأسيس الشيعة 67 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 200 برقم 884 .

( 534 )

رسالة في ترجمة آل أعين قال: كان حمران من أكابر مشايخ الشيعة وكان عالماً بالنحو واللغة(1) .

4- أبو عثمان المازني: بكر بن محمّد: قال النجاشي: كان سيد أهل العلم بالنحو والعربية واللغة ومقدمته بذلك مشهورة، وكان من علماء الإمامية، قد تأدّب على يد إسماعيل بن ميثم(2) له في الأدب كتاب التصريف، كتاب ما يلحن فيه العامة، التعليق. مات سنة 248 (3) .

5- ابن السكيت: يعقوب بن إسحاق السكيت: كان مقدّماً عند أبي جعفر (الجواد) وأبي الحسن (الهادي) _ عليهما السلام _ وكانا يختصّانه. وله عن أبي جعفر _ عليه السلام _ رواية ومسائل، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه، وأمره مشهور، وكان وجيهاً في علم العربية واللغة، ثقة، مصدّقاً، لا يطعن عليه. وله كتب: إصلاح المنطق، كتاب الألفاظ، كتاب ما اتّفق لفظه واختلف معناه، كتاب الأضداد، كتاب المذكّر والمؤنّث، كتاب المقصور والممدود،و...(4) .

وسبب قتله: انّ المتوكل سأله يوماً

وهو يعلّم ابنيه وقال: يا يعقوب أيّهما أحبّ إليك، ابناي هذان، أم الحسن والحسين؟ فأجابه: «انّ قنبراً خادم علي خير منك ومن ابنيك» فأمر المتوكّل فسلّوا لسانه من قفاه فمات، وقد خلّف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر(5) واستشهد سنة 244 .

____________________________

1 . أبو غالب: رسالة في آل أعين 2 _ 3 بتلخيص .

2 . وهو من أئمّة المتكلّمين في الشيعة .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 272 برقم 277 وذكره ابن النديم في أخبار النحويين واللغويين 90 والخطيب البغدادي في تاريخ مدينة بغداد ج 7 برقم 3529 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 425 برقم 1215 .

5 . جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 1 / 424 وترجمه ابن خلكان: في وفياته، وياقوت في طبقات الادباء وغيرهما .

( 535 )

6- ابن حمدون: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون: قال النجاشي: الكاتب النديم، شيخ أهل اللغة ووجههم. اُستاذ أبي العباس(1) وكان خصيصاً بسيدنا أبي محمّد العسكري وأبي الحسن قبله. له كتب ثمّ ذكر كتبه(2) .

7- أبو إسحاق النحوي: ثعلبة بن ميمون: قال النجاشي: كان وجهاً في أصحابنا، قارئاً، فقيهاً، نحويّاً، لغويّاً، راوية، وكان حسن العمل، كثير العبادة والزهد، روى عن الصادق والكاظم(3). وبما أنّ الامام الكاظم توفّي عام مائة وثلاث وثمانين، فهو من أهل المائة الثانية .

8- قتيبة النحوي، الجعفي، الكوفي: قال النجاشي: المؤدب المقري، ثقة، عين، روى عن الصادق(4) وذكره السيوطي في بغية الوعاة ووصفه في تأسيس الشيعة بأنّه إمام أهل النحو واللغة(5).

9- إبراهيم بن أبي البلاد: قال النجاشي: كان ثقة، قارئاً، أديباً، روى عن الصادق والكاظم _ عليهما السلام _ (6) .

10- محمّد بن سلمة اليشكري: قال النجاشي: جليل

من أصحابنا الكوفيين، عظيم القدر، فقيه، قارئ، لغوي، راوية، خرج إلى البادية، ولقى العرب وأخذ

____________________________

1 . يريد ثعلب (200 _ 291 م) .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 237 برقم 228 .

3 . النجاشي الرجال 1 / 294 برقم 300 وذكره ابن حجر في لسان الميزان ج 2 برقم 332 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 185 برقم 867 .

5 . تأسيس الشيعة 76 .

6 . النجاشي: الرجال 1 / 102 برقم 31 .

( 536 )

عنهم، وأخذ عنه: يعقوب بن السكيت، ثمّ ذكر كتبه(1) وبما أنّه شيخ ابن السكيت فهو أهل المائة الثانية وأوائل الثالثة .

11- أبو عبداللّه النحوي: الحسين بن أحمد بن خالويه، سكن حلب ومات بها، وكان عارفاً بمذهبنا، مع علمه بعلوم العربية، واللغة، والشعر، وله كتب ومن كتبه: مستحسن القراءات والشواذ، كتاب في اللغة(2). ووصفه السيوطي في الطبقات إنّه إمام اللغة والعربية، وغيرهما من العلوم الأدبية، دفن ببغداد سنة 314 ه_ .

12- أبو القاسم التنوخي: قال الشيخ رشيد الدين ابن شهر آشوب: انّه من جملة الشعراء المجاهرين بالشعر في مدح أهل البيت، وقال ياقوت: كان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة والعروض قدوة، وكان يحفظ من اللغة والنحو شيئاً عظيما(3) .

ما ذكرناه نماذج من أئمّة اللغة من الشيعة الامامية في القرون الاُولى، وأمّا من وليهم من الأئمّة فحدّث عنهم ولا حرج، فإنّ ذكر أسمائهم ونبذ من حياتهم يدفعنا إلى تأليف مفرد، وقد كفانا في ذلك ما كتبه السيد الصدر في هذا المجال، فقد بلغ النهاية، وقد ذكر أئمّة النحو من الشيعة إلى القرن السابع(4) فبلغ 140 إماماً واُستاذاً ومؤلّفاً في الأدب العربي ولا سيما النحو وبينهم شخصيات بارزة كالشريف المرتضى (ت 436

ه_) والشريف الرضي وابن الشجرىّ الّذي يقول في حقه السيوطي: كان أوحد زمانه، وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب توفّي 542 .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 218 برقم 897 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 188 برقم 159 .

3 . تأسيس الشيعة 91 .

4 . لاحظ تأسيس الشيعة 39 _ 137 .

( 537 )

ونجم الأئمّة الرضي الاستر آبادي، إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة .

2- قدماء الشيعة وعلم الصرف:

إنّ أوّل من دوّن الصرف أبو عثمان المازني وكان قبل ذلك مندرجاً في علم النحو، كما ذكره في كشف الظنون، وشرحه أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفّي في 392 ه_(1) وأبسط كتاب في الصرف، ما كتبه نجم الأئمة أعني محمّد بن الحسن الاسترآبادي الغروي، له شرح الشافية في الصرف، كما له شرح الكافية في النحو وكلا كتابيه جليل الخطر محمود الأثر، قد جمع بين الدلائل والمباني، قال في كشف الظنون: للكافية شروح أعظمها شرح الشيخ رضيّ الدين محمّد بن الحسن الطوسي الاستر آبادي النحوي قال السيوطي: لم يؤلّف عليها، بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً فتداوله الناس واعتمدوا عليه وله فيه أبحاث كثيرة ومذاهب ينفرد بها فرغ من تأليفه سنة 683 .

أقول: فرغ من شرح الكافية سنة 686 في النجف الأشرف، كما هو مذكور في آخر الكتاب .

ولنكتف بهذا المقدار في مساهمة الشيعة، مع غيرهم في بناء الأدب العربي وتجديد قواعده وارسائها في مجالي النحو والصرف، وفيما ذكرنا غنى وكفاية .

3- قدماء الشيعة وعلم اللغة:

ونريد بعلم اللغة، الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث اُصولها، واشتقاقها، ومعناها وهو يطلب لنفسه تأليف معاجم لغوية إمّا في موضوعات خاصّة كالخيل

____________________________

1 . كشف الظنون 1

/ 249 مادة «كافية» .

( 538 )

والشاة والوحوش والإنسان فقد اُلّف حولهما كتب تحتوي كلّ منها أسماء الحيوانات وأعضائها، ومن الإنسان أعضائه وأسماؤه. أو موضوعات عامة وأوّل من ألّف في القسم الثاني هو:

1- أبو عبدالرحمان الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي: سيد أهل الأدب، هو أوّل من ضبط اللغة وأوّل من استخرج علم العروض إلى الوجود، فهو أسبق العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم فألّف كتابه «العين» جمع فيه ما كان معروفاً في أيّامه من ألفاظ اللغة وأحكامها، وقواعدها، ورتّب ذلك على حروف الهجاء، لكنّه رتّب الحروف حسب مخارجها من الحلق، فاللسان، فالأسنان، فالشفتين، وبدأ بحرف العين وختمها بحروف العلّة «واى» وسُمِّي الكتاب بأوّل لفظ من ألفاظه(1) .

وكان الكتاب مخطوطاً عزيز النسخة، لكنّه رأى النور أخيراً وطبع محقّقاً. لم يشك أحد من علمائنا أنّ الخليل كان شيعيّاً وعن المرزباني أنّه ولد عام مائة من الهجرة وتوفي سنة 170 أو 175 وقال ابن قانع أنه توفّي سنة 160(2) قد ألّف كتاباً في الإمامة، أورده بتمامه محمّد بن جعفر المراغي في كتابه واستدرك عليه ما لم يذكره وأسماه «الخليلي» قال النجاشي محمّد بن جعفر بن محمّد: أبو الفتح الهمداني الوادعي المعروف ب_ «المراغي» كان يتعاطى الكلام، له كتاب مختار الأخبار، كتاب الخليلي في الامامة، وكتاب ذكر المجاز من القرآن(3) .

قال العلاّمة في الخلاصة: كان خليل بن أحمد أفضل الناس في الأدب

____________________________

1 . آداب اللغة العربية 427 _ 428 .

2 . المامقاني: تنقيح المقال 1 / 403 برقم 3739 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 318 برقم 1054 .

( 539 )

وقوله حجّة فيه واخترع علم العروض، وفضله أشهر من أن يذكر وكان إماميّ المذهب(1) .

وقال

ابن داود: الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب فضله وزهده أشهر من أن يخفى، كان إماميّ المذهب(2) .

2- أبان بن تغلب بن رباح الجُرَيري: من أصحاب الباقر والصادق، قال النجاشي: كان قارئاً من وجوه القرّاء، فقيهاً، لغوياً، سمع من العرب وحكى عنهم(3) وقال ياقوت: ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفّي الامامية. وقال: هو ثقة جليل القدر عظيم المنزلة وقال: كان قارئاً، فقيهاً، لُغويّاً، نبيهاً ثبتا(4) .

3- ابن حمدون النديم: شيخ أهل اللغة ووجههم واُستاذ أبي العباس ثعلب(5) .

4- أبوبكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي: الأديب اللغوي، صاحب الجمهرة في اللغة مات هو وأبو هاشم الجبّائي في يوم واحد فقال الناس: مات علم اللغة والكلام. ألّف كتاب «جمهرة اللغة» على منوال «العين» واختصره الصاحب وسمّاه «جوهرة الجمهرة»(6) .

5- الصاحب بن عباد: عظيم الشأن، جليل القدر في العلم والأدب، وألّف الصدوق (306 _ 381) كتابه عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ لأجله، ومن كتبه في اللغة: «المحيط» عشر مجلدات وقد عرفت تلخيص الجوهرة. وأمّا تشيّعه فحدّث

____________________________

1 . العلامة الحلّي: الخلاصة، القسم الأول 67 .

2 . ابن داود الحلّي: الرجال، القسم الأول 88 برقم 574 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 73 برقم 6 .

4 . ياقوت: معجم الاُدباء 1 / 107 .

5 . الطوسي: الفهرست 11 / 56 .

6 . الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2 / 195 .

( 540 )

عنه ولا حرج .

وكم له من قصائد في مدح أهل البيت نذكر منها ما يلي:

ألم تعلموا انّ الوصي هو الذي * أتى الزكاة وكان في المحراب

ألم تعلموا انّ الوصي هو الذي * حكم الغدير له على الأصحاب(1)ولنكتف بهذا المقدار فانّ المقصود اراءة نماذج من

كبار القدماء الذين شاركوا المسلمين في تأسيس العلوم العربية وتطويرها وأمّا التفصيل فيرجع إلى محالّه(2) .

4- قدماء الشيعة وعلم العروض:

إذا كانت الشيعة هي الّتي ابتكرت علم النحو بهداية من باب علم النبي الأكرم _ عليه السلام _ ولحسن الحظ أنّها المبتكرة أيضاً لعلم العروض واستخراجه إلى الوجود وإليك المؤسّسين والمؤلّفين فيه بوجه موجز .

1- الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري قال ابن خلّكان: هو الّذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً(3) .

2- كافي الكفاة الصاحب بن عباد الطائر الصيت، له كتاب الاقناع في

____________________________

1 . الغدير 4 / 66 وله قصائد اُخرى مذكورة فيه .

2 . لاحظ تأسيس الشيعة للسيد الصدر فقد ترجم فيه 24 شخصاً كلّهم من أقطاب علم اللغة وللمناقشة في بعض ما ذكره وان كان مجالا لكنّه لا ينقص عن عظم الجهد الّذي بذله في طريق منشوده .

3 . وفيات الأعيان 2 / 244 برقم 220 .

( 541 )

العروض(1) وقد توإلى التأليف بعده إلى عصرنا هذا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المعاجم حول مصنّفات الشيعة .

ومن أبرز ما اُلّف في العروض أخيراً أثران:

أحدهما: للسيد الشريف هبة الدين الشهرستاني 1301 _ 1386 أسماه: رواشح الفيوض في علم العروض وقد طبع في طهران 1324 .

ثانيهما: منظومة رصينة قيّمة قلّما رأى الدهر مثلها للشيخ مصطفى التبريزي (1298 _ 1338) شرحها العلاّمة أبو المجد الشيخ محمّد رضا الاصفهاني (1286 _ 1362) وأسماها «اداء المفروض في شرح ارجوزة العروض» وإليك مستهلّها:

الحمدللّه على اسباغ ما * أولى لنا من فضله وأنعما

وخصّنا منه بواف وافر * من بحر جوده المديد الزاخر

صلّى على نبيّنا المختار * ما عاقب الليل على النهار

وآله معادن

الرسالة * بهم يداوي علل الجهالة

خذها ودع عنك رموز الرامزة * كعادة تجلى عليك بارزة

تجمع كل ظاهر وخاف * في علمي العروض والقوافي(2)

ولنكتف بهذا المقدار والمقصود عرض موجز من مشاطرتهم غيرهم في تتبّع العلوم وتطويرها .

____________________________

1 . كشف الظنون 1 / 132 .

2 . نحتفط منها بنسخة بخط السيد الامام الخميني _ قدس سره _ وفرغ من نسخها عام 1346 .

( 542 )

5- قدماء الشيعة وطرائف الشعر:

لا نريد من الشعر في المقام، الألفاظ المسبوكة، والكلمات المنضَّدة على أحد الأوزان الشعرية. وانّما نريد منه ما يحتوي على المضامين العالية، في الحياة ويبث روح الجهاد في الإنسان أو الّذي يشتمل على حجاج في الدين أو تبليغ للحق. وعلى مثل هذا الشعر بنيت الحضارة الإنسانية وهو مقياس ثقافة الاُمّة ورقيّها وله خلود عبر القرون لا تطمسه الدهور والأيّام .

فلو نرى في الذكر الحكيم، تنديداً بالشعراء لقوله عزّوجلّ: (والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون)(1)فانّما يريد بها الشعراء المأجورين الذين يتغافرون بالأباطيل فيجعلون من الشعر تجارة، ويصنعون من الظالم مظلوماً، ومن المظلوم ظالماً ولأجل ذلك قال سبحانه: (ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِى كُلِّ واد يَهيمُونَ * وأنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)(2) .

فإذا كان المراد من الشعراء هذه الطائفة المثلى، الذين لا يقصدون بشعرهم وأدبهم وطرائفهم إلاّ ترويج الحق ودعمه ونشره في الملاء، فنرى في الشيعة طبقة راقية منهم في القرون الاُولى وكان أئمة أهل البيت يقدّرون جهودهم ويرحبّون بهم بكل حفاوة كما نطق به التاريخ في حقّ الفرزدق وميميته وهاشميات الكميت، وعينية الحميري وتائية دعبل، لقد حظوا جميعاً بتقدير واحترام الأئمة وصار عملهم في هذا المجال اسوة الشيعة .

وإليك أسماء قليل من شعراء الشيعة مع ذكر ابيات من شعرهم الخالد .

____________________________

1 . الشعراء /

224 .

2 . الشعراء / 225 _ 226 .

( 543 )

1- قيس بن سعد بن عبادة:

وهو سيد الخزرج، الصحابي الجليل، كان زعيماً مطاعاً، كريماً ممدوحاً، وكان من شيعة علي _ عليه السلام _ بعثه علي أميراً على مصر سنة 36 وهو وأبوه وأهل بيته من الذين لم يبايعوا ابابكر وقالوا لا نبايع إلاّ عليّاً(1) .

ومن أشعاره الّتي أنشدها بين يدي أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ :

قلتُ لمّا بغى العدو علينا * حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا الّذي فتح البصر * ة بالأمس والحديث الطويل

يوم قال النبي من كنت مولا * ه فهذا مولاه خطب جليل

انّما قاله النبي على الاُمّة * حتم ما فيه قال وقيل(2)

2- الكميت (60 _ 126):

وهو الكميت بن زيد شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيّامها من شعراء مضر. وكان معروفاً بالتشيّع لبني هاشم مشهوراً بذلك وقد حظى بتقدير الأئمة لا صحاره بالحق، ولجهاده في سبيله، وهاشمياته المقدّرة ب_ 578 بيتاً أخلد ذكراه في التاريخ وهي مشتملة على ميمية وبائية ورائية وغيرها .

وإليك أبياتاً من عينيته:

ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو اُطيعا

ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطراً مبيعا

____________________________

1 . الطبري: التاريخ 3 / 462 .

2 . المفيد: الفصول المختارة 87، الكراجكي: كنز الفوائد 234، سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص 20 .

( 544 )

إلى أن قال:

أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا * وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه * بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لنبي اُميّة حيث حلّوا * وإن خفت المهنَّد والقطيعا

ولقد طبع ديوان الكميت غير مرة وشرحه الاُستاذ محمّد شاكر الخياط والاُستاذ الرافعي(1) .

3- السيد الحميري (ت 173):

أبو هاشم إسماعيل بن محمّد الملقّب بالسيد، الشاعر المعروف، ومن

المكثرين المجيدين، ومن الثلاثة الذين عدّوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم «السيّد» و«بشار» و «أبو العتاهية» وكان متفانياً في حبّ العترة الطاهرة فلم يكن يرى لمناوئيهم حرمة وقدراً وكان يشدّد النكير عليهم في كل موقف ويهجوهم بألسنة حداد في كل حول طول .

ومن قصائده المعروفة، عينيته وقد شرحها عدة من الأدباء ومستهلّلها:

لاُم عمرو باللوى مربَع * طامسة أعلامها بلقعُ

تروع عنها الطير وحشيَّة * والوحشُ من خيفته تفزعُ(2)

4- دعبل الخزاعي (ت 246):

أبو علي دعبل بن علي الخزاعي وهو من بيت علم وفضل وأدب، يرجع نسبه

____________________________

1 . إقرأ حياة الكميت في الغدير 2 / 180 _ 212 .

2 . إقرأ ترجمة السيد في الغدير 2 / 213 _ 289 .

( 545 )

إلى بديل بن ورقاء الخزاعي الّذي دعا في حقّه النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

قال النجاشي: أبو علي الشاعر المشهور في أصحابنا، صنّف كتاب طبقات الشعراء ومن أراد التوغّل في حياته وسيرته، فليقرأ النواحي الأربعة من حياته:

1- تهالكه في ولائه لأهل البيت _ عليهم السلام _ .

2- نبوغه في الشعر والأدب والتاريخ وتآليفه .

3- روايته للحديث والرواة عنه ومن يروي عنهم .

4- سيرته مع الخلفاء ثم ملحه ونوادره وثم ولادته ووفاته(1) .

وإليك نزراً من تائيته المعروفة:

تجاوبن بالأرنان والزفراتِ * نوائح عجم اللفظ والنطقات

إلى أن يقول:

هم نقضوا عهد الكتاب و * فرضه ومحكمه بالزور والشبهات

ولم تك إلاّ محنة قد كشفتهم * بدعوى ضلال من هن وهنات

تراث بلا قربى وملك بلا هوى * وحكم بلا شورى بغير هدات

5- أبو فراس (320 _ 357):

أبو فراس الحرث ابن أبي العلاء قال الثعالبي: كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلا وكرماً ونبلا ومجداً وبلاغة وبراعة وفروسية

وشجاعة وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة(2) .

____________________________

1 . لاحظ حياته في الغدير 2 / 369 _ 368 .

2 . يتيمة الدهر 270 .

( 546 )

وتبعه في اطرائه والثناء عليه ابن عساكر.

ومن قصائده المعروفة الميمية. الّتي مستهلّها .

الحق مهتضم والدين مخترم * وفي آل رسول اللّه مقتسم

والناس عندك لا ناس فيحفظهم * سوم الرعاة ولا شاء ولا نعم

إلى أن قال:

باللرجال أما لله منتصر * من الطغاة أما لله منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم

إلى أن قال:

ابلغ لديك بني العباس مالكة * لا يدَّعوا ملكها ملاّكها العجم

أىّ المفاخر أمست في منازلكم * وغيركم آمر فيها ومحتكم

أنّى يزيدكم في مفخر علم * وفي الخلاف عليكم يخفق العلم

يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم * لمعشر بَيْعهم يوم الهياج دم(1)

ويطيب لي في المقام أن اُشير إلى أسماء بعض من أنجبتهم مدرسة أهل البيت في حلبة الشعر والأدب في القرن الرابع والخامس من اناس معدودين في القمّة فعلى القارئ الكريم أن يطالع عن حياتهم ويقرأ دواوينهم .

1- ابن الحجاج البغدادي المتوفّى 321 صاحب القصيدة المعروفة:

يا صاحب القبّة البيضاء على النجف * من زار قبرك واستشفى لديك شفي

2- الشريف الرضي 357 _ 406 الغني عن كل تعريف وبيان .

3- الشريف المرتضى 355 _ 436 وهو كأخيه أشهر من أن يعرّف .

4- مهيار الديلمي المتوفّى 448 الّذي هو في الرعيل الأوّل من شعراء القرن

____________________________

1 . الغدير 3 / 399 _ 401 .

( 547 )

الرابع وله غديريات كثيرة منها:

هل بعد مفترق الأظغان مجتمع * أم هل زمان بهم قد فات يرتجع

هذا عرض موجز لبعض الشعراء البارزين من الشيعة وفيه كفاية لمن أراد الاجمال

وأمّا من أراد التوسّع فليرجع إلى الكتب التالية:

1- الأدب في ظلّ التشيّع للشيخ عبداللّه نعمة .

2- تأسيس الشيعة: للسيّد حسن الصدر. الفصل السادس .

3- الغدير للعلاّمة الأميني بأجزائه الأحد عشر .

6- قدماء الشيعة وعلم التفسير:

إنّ القرآن هوالمصدر الرئيسي للمسلمين في مجالي العقيدة والشريعة، وهو المعجزة الخالدة للنبي الأكرم، وقد قام المسلمون بأروع الخدمات لهذا الكتاب الإلهي على وجه لا تجد له مثيلا بين أصحاب الشرائع السابقة، حتّى أسّسوا لفهم كتابهم علوماً قد بقي في ظلّها القرآن مفهوماً للأجيال، كما قاموا بتفسيره وتبيين مقاصده بصور شتى، لا يسع المقام لذكرها. فأدّوا واجبهم تجاه كتاب اللّه العزيز _ شكر اللّه مساعيهم _ من غير فرق بين الشيعة والسنّة .

إنّ مدرسة الشيعة منذ أن ارتحل النبيّ الأكرم إلى يومنا هذا، أنتجت تفاسيراً على أصعدة مختلفة، وخدمت الذكر الحكيم بصور شتّى، فأتى بوجه موجز، لما اُلّف في القرون الإسلامية الاُولى .

إنّ أئمّة أهل البيت _ بعد الرسول الأكرم _ هم المفسّرون للقرآن الكريم حيث فسّروا القرآن، بالعلوم الّتي نحلهم الرسول بأقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم الّتي لا تشذّ عن قول الرسول وفعله وحجته، ومن الظلم الفادح أن نذكر الصحابة والتابعين في عداد المفسّرين ولا نعترف بحقوق أئمّة أهل البيت إلاّ شيئاً لا يذكر.

( 548 )

هذا هو الدكتور محمّد حسين الذهبي، جعل عليّاً _ وهو الوصي وباب علم النبي _ في الطبقة الثالثة من حيث نقل الرواية عنه، وجعل تلميذه ابن عباس في الدرجة الاُولى(1) ولم يذكر عن بقية الأئمّة شيئاً مع ما نقل عنهم في مجال التفسير من الروايات الوافرة .

ارتحل النبيّ الأكرم وعكف المسلمون على دراسة القرآن وأوّل ما فوجئوا به، هو قصور باع لفيف منهم عن فهم بعض ألفاظ

القران. والقرآن وإن نزل بلغة الحجاز، لكن يوجد فيه ألفاظ غير رائجة فيها وربّما كانت رائجة بين القبائل الاُخرى، وهذا النوع من الألفاظ ما سمّوه «غريب القرآن» وقد سأل ابن الأرزق _ رأس الخوارج _ ابن عباس عن شيء كثير من غريب القرآن وأجاب عنه مستشهداً بشعر العرب الأقحاح وقد جمعها السيوطي في اتقانه(2) .

وبما أنّ تفسير غريب القرآن كان الخطوة الاُولى لتفسيره، ألّف أصحابنا في أبان التدوين كتباً في ذلك المضمار، نذكر قليلا من كثير .

1- غريب القرآن: لأبان بن تغلب بن رباح البكري (ت 141)(3) .

2- غريب القرآن: لمحمّد بن السائب الكلبي من أصحاب الامام الصادق _ عليه السلام _ (4) .

3- غريب القرآن: لأبي روق، عطية بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي، قال ابن عقدة: كان ممّن يقول بولاية أهل البيت(5) .

____________________________

1 . الذهبي: التفسير والمفسّرون 1 / 89 _ 90 .

2 . السيوطي: الاتقان 4 / 55 _ 88 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 73 برقم 6 .

4 . النجاشي: الرجال 1 / 78 برقم 6 .

5 . ابن النديم: الفهرست 57، النجاشي: الرجال 1 / 78 .

( 549 )

4- غريب القرآن: لعبد الرحمان بن محمّد الأزدي الكوفي، جمع فيه ما ورد في الكتب الثلاثة المتقدّمة(1) .

5- غريب القرآن: للشيخ ابن جعفر أحمد بن محمّد الطبري الآملي الوزير الشيعي المتوفّى عام 313 (2) .

وقد توالى التأليف حول غريب القرآن في القرون الماضية، فبلغ العشرات أخيرها _ لا آخرها _ ما ألّفه السيد محمّد مهدي الخرسان في جزأين(3) .

مجازات القرآن:

إذا كان الهدف من هذه الكتب بيان معاني مفرداته وألفاظه، هناك لون آخر من التفسير يهدف لبيان مقاصده ومعانيه إذا كانت الآية مشتملة

على المجاز والكناية والاستعارة. ونأتي بنماذج قليلة ممّا اُلّف في ذلك المجال بيد أعلام الشيعة:

1 _ مجاز القرآن: لشيخ النحاة الفراء يحيى بن زياد الكوفي المتوفّى عام 207، وقد طبع أخيراً في جزأين (4).

2- مجاز القرآن: لمحمّد بن جعفر أبو الفتح الهمداني. قال النجاشي: له كتاب «ذكر المجاز من القرآن»(5) .

3- مجازات القرآن: للشريف الرضي المسمّى بتلخيص البيان في مجازات القرآن، وهو أحسن ما اُلّف في هذا الباب وهو مطبوع .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 78 .

2 . ابن النديم: الفهرست 58 .

3 . الطهراني آغا بزرگ: الذريعة 16 / 50 برقم 208 .

4 . الطهراني آغا بزرگ: الذريعة 16 / 50 برقم 208 .

5 . النجاشي: الرجال 2 / 319 برقم 1054 .

( 550 )

التفسير بصور متنوّعة:

وهناك لون آخر من التفسير، يندفع المفسّر إلى توضيح قسم من الآيات تجمعها صلة خاصة كالمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، وآيات الاحكام، وقصص الأنبياء، وأمثال القرآن، وأقسامه ،والآيات الواردة في مغازي النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والنازلة في حق العترة الطاهرة _ عليهم السلام _ إلى غيرها من الموضوعات الّتي لا تعم جميع آيات القرآن، بل تختص بموضوع واحد.

فقد خدمت الشيعة كتاب اللّه العزيز بهذه الأنواع من التفاسير، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى المعاجم، وأخص بالذكر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة .

الشيعة والتفسير الموضوعي

إنّ نزول القرآن نجوماً وتوزّع الآيات الراجعة إلى موضوع واحد، في سور متعدّدة، يطلب لنفسه نمطاً آخر، غير النمط المعروف بالتفسير الترتيبي، فإنّ النمط الثاني، يتّجه إلى تفسير القرآن سورة بعد سورة، وآية بعد آية، وأمّا النمط الأوّل فيحاول فيه المفسّر إيراد الآيات الواردة في موضوع خاص، في مجال

البحث، وتفسير الجميع جملة واحدة وفي محل واحد .

فيستمدّ المفسّر من المعاجم المؤلّفة حول القرآن، ومن غيرها في الوقوف على الآيات الواردة، مثلا في خلق السماء والأرض، أو الإنسان أو أفعاله وحياته الاُخروية، فيفسّر المجموع مرة واحدة، ويرفع ابهام آية، بآية اُخرى، ويخرج بنتيجة واحدة وهذا النوع من التفسير وإن لم يهتم به القدماء واكتفوا منه بتفسير بعض الموضوعات كآيات الاحكام، والناسخ والمنسوخ، إلاّ أنّ المتأخّرين منهم، بذلوا جهدهم في طريقه، ولعلّ العلاّمة المجلسي (1037 _ 1110) أوّل من فتح

( 551 )

هذا الباب على مصراعيه في موسوعته «بحارالأنوار»، حيث يورد في أوّل كل باب الآيات الواردة حوله ثمّ يفسّرها اجمالا، وبعد الفراغ منها، ينتقل إلى الأحاديث الّتي لها صلة بالباب .

وقد قام كاتب هذه السطور بتفسير الآيات النازلة حول العقائد والمعارف وخرج منه حتّى الآن سبعة أجزاء وانتشر باسم «مفاهيم القرآن» ولقي اقبالا واسعا، أسأله سبحانه أن يوفّقني لا تمامه .

الشيعة والتفسير الترتيبي:

قد تعرّفت على أنّ المنهج الراسخ بين القدماء وأكثر المتأخّرين هو التفسير الترتيبي، وقد قام فضلاء الشيعة من صحابة الامام علي والتابعين له إلى العصر الحاضر، بهذا النمط من التفسير إمّا بتفسير جميع سوره، أو بعضها والغالب على التفاسير المعروفة في القرون الثلاثة الاُولى، هو التفسير بالأثر، ولكن انقلب النمط إلى التفسير العلمي والتحليلي من أواخر القرن الرابع. فأوّل من ألف من الشيعة على هذا المنهاج هو الشريف الرّضي (357 _ 406) مؤلّف كتاب «حقائق التأويل» في عشرين جزءاً(1) ثمّ جاء بعده أخوه الشريف المرتضى فسلك مسلكه في أماليه المعروفة بالدرر والغرر. ثمّ توالى التأليف على هذا المنهاج من عصر الشيخ الأكبر الطوسي (385 _ 460) مؤلّف «التبيان في تفسير القرآن» في عشرة

أجزاء كبار، إلى عصر هذا .

فقد قامت الشيعة في كل قرن بتأليف عشرات التفاسير وفق أساليب متنوّعة،

____________________________

1 . وللأسف لم توجد منه نسخة كاملة في عصرنا الحاضر إلاّ الجزء الخامس وهو يكشف عن عظمة هذا السفر ويدل على جلالة المؤلّف .

( 552 )

ولغات متعدّدة. لا يحصيها إلاّ المتوغّل في المعاجم ورفوف المكتبات.

ولقد فهرسنا على وجه موجز أسماء مشاهير المفسّرين من الشيعة وأعلامهم في 14 قرناً، وفصلنا كل قرن عن القرن الآخر واكتفينا بالمعروفين، لأنّ ذكر غيرهم عسير ومحوج إلى تأليف حافل. فبلغ عددهم 122 مفسّرا. ومن أراد الالمام بذلك فعليه الرجوع إلى المقدمة الّتي قدّمناها لتفسير التبيان للشيخ الطوسي ولأجل ذلك نطوي الكلام في المقام .

7- قدماء الشيعة وعلم الحديث:

إنّ السنّة هو المصدر الثاني للثقافة الإسلامية بجميع مجالاتها ولم يكن شيء أوجب بعد كتابة القرآن وتدوينه وصيانته من نقص وزيادة، من كتابة حديث الرسول وتدوينه وصيانته من الدس والدجل وقد أمر به الرسول غير مرة، روى الامام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه انّه قال للنبي: يا رسول اللّه أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم. قلت: في الرضا والسخط؟ قال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : نعم فانّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلاّ حقّا(1) .

إنّ اللّه سبحانه أمر بكتابة الدَّين حفظاً له، واحتياطاً عليه واشفاقاً من دخول الريب فيه فالعلم الّذي حفظه أصعب من حفظ الدَّين أحرى بأن يكتب ويحفظ من دخول الريب والشك فيه(2) .

فإذا كان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لا ينطق عن الهوى وانّما ينطق عن

____________________________

1 . مسند أحمد 2 / 207 .

2 . الخطيب البغدادي: تقييد العلم 70 .

(

553 )

الوحي الّذي يوحى إليه(1) فيجب حفظ كلمه وأفعاله وتقريره. حتّى تصدر الاُمة عنها ويستغني المسلم عن المقاييس الظنّية والاستنباطات الذوقية .

وبالرغم من وضوح الأمر وانّه كان من واجب ووظيفة المسلمين الاهتمام بدراسة سنّة النبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وتدوينها. حالت الخلافة دون ذلك فأصبحت كتابة السنّة جريمة لا تغتفر حتّى انّ الخليفة الثاني قال لأبي ذرّ وعبداللّه بن مسعود وأبي الدرداء: «ما هذا الحديث الّذي تفشون عن محمّد؟»(2) .

ولقد أضحى عمل الخليفة سنّة فاتّبعه عثمان ومشى على خطاه معاوية، فأصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية وعُدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها .

إنّ الرزيّة الكبرى هي المنع عن التحدّث بحديث رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وكتابته وتدوينه، وفسح المجال في نفس الوقت للرهبان والأحبار للتحدّث بما عندهم من صحيح وباطل، ولقد أذن عمر لتميم الداري النصراني الّذي استسلم في عام 9 من الهجرة أن يقص(3) .

ولمّا تسنّم عمر بن عبدالعزيز منصب الخلافة، أدرك ضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة، أن يقوم بتدوين الحديث قائلا: إنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّا(4) .

ومع ذلك فلم يقدر ابن حزم على القيام بما أمر به الخليفة. لأنّ رواسب الحظر

____________________________

1 . اقتباس عن قوله سبحانه: (ما ضَلَّ صاحبُكُم وما غوى * وما ينطقُ عن الهوى * إنً هو إلاّ وحيٌ يُوحى) _ النجم / 2 _ 4 .

2 . كنز العمال 10 / 293 برقم 29479. وفيه: ما هذه الأحاديث الّتي قد أفشيتم عن رسول اللّه الآفاق؟

3 . كنز العمال 10 / 281 .

4 . صحيح البخاري 1 / 27 .

( 554 )

السابق المؤكد من قبل الخلفاء،

حالت دون اُمنيته إلى أن زالت دولة الاُمويين وجاءت دولة العباسيين. فقام المسلمون بتدوين الحديث في عصر أبي جعفر المنصور سنة 143. وأنت تعلم أنّ الخسارة الّتي لحقت بالتراث الاسلامي من منع تدوين السنّة لا تجبر بتدوينه بعد مضي قرن ونيّف، وبعد موت الصحابة وكثير من التابعين الذين رأوا النور وسمعوا منه الحديث. ولم يحدثوا ما سمعوه إلاّ سرّاً ومن ظهر القلب إلى مثله .

أضف إلى ذلك أنّ الأحبار والرهبان والمأجورين للبلاط الأموي نشروا كل كذب وافتراء بين المسلمين .

اهتمام الشيعة بتدوين الحديث:

قام الامام أميرالمؤمنين علي _ عليه السلام _ بتأليف عدة كتب في زمان النبي، فقد أملى رسول اللّه كثيراً من الأحكام عليه وكتبها الامام واشتهر بكتاب علي وقد روى عنه البخاري في صحيحه في باب «كتابة الحديث»(1) وباب «أثم من تبرّأ من مواليه»(2) وقد تبعه ثلّة من الصحابة الذين كانوا شيعة الامام وإليك أسماء من اهتمّ بتدوين الآثار وما له صلة بالدين وإن لم يكن حديث الرسول .

1- قام أبو رافع صحابي الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بتدوين كتاب السنن والأحكام والقضايا(3).

2- قام الصحابي الكبير سلمان الفارسي المتوفى سنة 34 بتأليف كتاب حديث

____________________________

1 . صحيح البخاري 1 / 27 كتاب العلم .

2 . صحيح البخاري 8 كتاب الفرائص الباب 20 ص 154 .

3 . النجاشي: الرجال 64 برقم 1 .

( 555 )

الجاثليق الرومي الّذي بعثه ملك الروم بعد وفاة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال الشيخ الطوسي: روى سلمان حديث الجاثليق الّذي بعثه ملك الروم بعد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (1) .

3- وألّف الصحابي الورع أبو ذر الغفاري المتوفّى سنة 32 كتاب الخطبة

يشرح فيها الاُمور بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ (2) .

هذا ما يرجع إلى الصحابة من الشيعة وأمّا الشيعة من غير الصحابة أعني التابعين وتابعي التابعين منهم، فقد قام لفيف منهم بتدوين السنّة إلى عصر الغيبة الكبرى، قد تكفّل بذكرهم وتآليفهم معاجم الرجال قديماً وحديثاً وإليك عرضاً موجزاً من محدّثي الشيعة وموّلّفيهم في القرن الأوّل وبداية الثاني .

الطبقة الاُولى:

1- الأصبغ بن نباتة المجاشعي، كان من خاصة أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ روى عنه _ عليه السلام _ عهد الأشتر، ووصيته إلى ابنه محمّد(3) .

2- عبيداللّه بن أبي رافع، المدني، مولى النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، كان كاتب أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ ، له كتاب قضايا أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ وتسمية من شهد مع أميرالمؤمنين الجمل وصفين والنهروان(4) .

3- ربيعة بن سميع، له كتاب في زكاة النعم عن أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ (5).

____________________________

1 . الطوسي: الفهرست 8 .

2 . الطوسي: الفهرست 54 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 70 برقم 4 .

4 . الطوسي: الفهرست 107 .

5 . النجاشي: الرجال 1 / 67 برقم 2 .

( 556 )

4- سليم بن قيس الهلالي: أبو صادق، له كتاب وهو مطبوع باسم كتاب سليم بن قيس .

5- علي بن أبي رافع، قال النجاشي: ولابن أبي رافع كتاب آخر، وهو علي بن أبي رافع، تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة من أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ ، وكان كاتباً له، حفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء، والصلاة، وسائر الأبواب(1) .

6- عبيداللّه بن الحر الجعفي، الفارس، الفاتك، الشاعر، له نسخة يرويها عن أميرالمؤمنين _ عليه السلام

_ (2) .

7- زيد بن وهب الجهني، له كتاب خطب أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها(3) .

الطبقة الثانية:

1- الامام السجاد زين العابدين _ عليه السلام _ ، له الصحيفة الكاملة، المشتهرة بزبور آل محمّد _ عليهم السلام _ .

2- جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبداللّه، المتوفّى سنة 128، له كتب (4) .

3- زياد بن المنذر، الضعيف، كان مستقيماً ثم انحرف، له أصل ،

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 65 برقم 1 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 71 برقم 5 .

3 . الطوسي: الفهرست 72 .

4 . النجاشي: الرجال 1 / 313 برقم 330 .

( 557 )

وله كتاب التفسير(1) .

4- لوط بن يحيى بن سعيد، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، له كتب كثيرة، أورده الشيخ في رجاله(2) في أصحاب الحسن والصادق _ عليهما السلام _ .

5- جارود بن منذر الثقة، أورده الشيخ في أصحاب الحسن والباقر والصادق _ عليهم السلام _ ، له كتب(3) .

الطبقة الثالثة:

وهم من أصحاب السجاد والباقر _ عليهما السلام _ :

1- برد الاسكاف، من أصحاب السجاد والصادقين _ عليهم السلام _ ، له كتاب(4) .

2- ثابت بن دينار، أبو حمزة الثمالي الأزدي، الثقة، المتوفّى سنة 150 روى عنهم _ عليهم السلام _ ، له كتاب، وله النوادر والزهد، وله تفسير القرآن(5) .

3- ثابت بن هرمز، الفارسي، أبو المقدم العجلي، مولاهم الكوفي، روى نسخة عن علي بن الحسين _ عليهما السلام _ (6) .

4- بسام بن عبداللّه، الصيرفي، مولى بني أسد، أبو عبداللّه، روى عن

____________________________

1 . الطوسي: الفهرست 72 .

2 . الطوسي: الرجال 279 من أصحاب الصادق _ عليه السلام _ ولاحظ تعليقة المحقق .

3 .

الطوسي: الرجال 112 في أصحاب الباقر _ عليه السلام _ .

4 . النجاشي: الرجال 1 / 284 برقم 289 .

5 . النجاشي: الرجال 1 / 289 برقم 294 .

6 . النجاشي: الرجال 1 / 292 برقم 296 .

( 558 )

أبي جعفر وأبي عبداللّه _ عليهما السلام _ ، له كتاب(1) .

5- محمّد بن قيس البجلي، له كتاب قضايا أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ (2) .

6- حجر بن زائدة الحضرمي، روى عن الباقر والصادق _ عليهما السلام _ ، له كتاب(3) .

7- زكريا بن عبداللّه الفياض، له كتاب(4) .

8- ثوير بن أبي فاختة «أبو جهم الكوفي»، واسم أبي فاختة: سعيد بن علاقة(5) .

9- الحسين بن ثور بن أبي فاختة سعيد بن حمران، له كتاب نوادر(6) .

10- عبدالمؤمن بن القاسم بن قيس، الأنصاري، المتوفّى سنة 147، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب السجّاد والصادقين _ عليهم السلام _ ، له كتاب(7) .

ولقد خصّص أبو عمرو الكشّي باباً للمحدّثين المتقدّمين من الشيعة وجعله في صدر رجاله، وتبعه النجاشي في رجاله فخصّ الطبقة الاُولى بباب ثمّ أورد أسماء الرواة على حسب الأحرف الهجائية .

ولقد أجاد الشيخ الطوسي في التعرّف على طبقات الشيعة بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إلى عصره فذكر الأئمّة الاثني عشر، وذكر أصحاب كل إمام

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 282 برقم 286 .

2 . الطوسي: الفهرست 131 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 347 برقم 382 .

4 . النجاشي: الرجال 1 / 391 برقم 452 .

5 . النجاشي: الرجال 1 / 295 برقم 301 .

6 . النجاشي: الرجال 1 / 166 برقم 124 .

7 . النجاشي: الرجال 2 / 168 برقم

653 .

( 559 )

وفق الترتيب الزمني، ثمّ ذكر باباً آخر باسم من لم يرهم ولكن روى عنهم بالواسطة.

وأحسن كتاب ألّف في هذا المجال هو ما ألّفه اُستاذنا الجليل السيد النحرير المحقق البروجردي الّذي أخرج رجال الشيعة في 34 طبقة، من عصر الصحابة إلى زمانه (1292 _ 1380) فهذا الكتاب يكشف عن سبق الشيعة في نظم الحديث وتدوينه، وأنّهم لم يقيموا لمنع الخلفاء وزناً ولا قيمة. وبذلك حفظوا نصوص النبي الأكرم وأهل بيته وقدّموها إلى المجتمع الاسلامي، فعلى جميع علماء المسلمين أن يتمسّكوا بهذا الحبل الّذي هو أحد الثقلين .

هذا عرض موجز لمحدّثي الشيعة إلى عصر السجاد والباقر _ عليهما السلام _ وأمّا الطبقات الاُخرى فيأتي الكلام في فصل قدماء الشيعة والفقه لأنّهم تجاوزوا عن التحديث إلى درجة الاجتهاد .

8- قدماء الشيعة والفقه الاسلامي:

إنّ الفقه الشيعي هو الشجرة الطيّبة، الراسخة الجذور، المتّصلة الاُسس بالنبوّة، امتازت بالسعة والشمولية، والعمق، والدقّة، والقدرة على مسايرة العصور المختلفة، والمستجدّات من دون أن تتخطّى عن الحدود المرسومة في الكتاب والسنّة .

إنّ الفقه الامامي يعتمد في الدرجة الاُولى على القرآن الكريم ثمّ على السنّة المحمدية المنقولة عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن طريق العترة الطاهرة _ عليهم السلام _ أو الثقات من أصحابه والتابعين لهم باحسان .

وكما يعتمد الفقه الشيعي على الكتاب والسنّة كذلك يتّخذ من العقل مصدراً في المجال الّذي له الحق في ابداء الرأي. كأبواب الملازمات العقلية أو قبح التكليف بلا بيان أو لزوم البراءة اليقينية عند الاشتغال اليقيني .

( 560 )

ولا يكتفي بذلك بل يستفيد من الاجماع في الاستنباط ولكن الاجماع المفيد هو الكاشف عن وجود النص في المسألة أو موافقة الامام المعصوم مع المجمعين

في عصر الحضور .

إنّ الشيعة الامامية قدّمت في ظلّ هذه الاُسس الأربعة فقهاً يتناسب مع المستجدّات، جامعاً لما تحتاج إليه الاُمّة ولم يقفل باب الاجتهاد، منذ رحلة النبي إلى يومنا هذا. بل فتح بابه طيلة القرون فأنتج عبر العصور فقهاءً عظاماً، وموسوعات كبارا. لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلا وإليك عرضاً موجزاً لمشاهير فقهائهم والايعاز إلى بعض كتبهم في القرون الأولى .

فقهاء الشيعة في القرنين الأوّلين:

تخرّجت من مدرسة أهل البيت وعلى أيدي أئمة الهدى عدة من الفقهاء العظام لا يستهان بهم فبلغوا الذروة في الاجتهاد كزرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم الطائفي، وبريد بن معاوية، والفضيل بن يسار، وكلّهم من أفاضل خريجي مدرسة أبي جعفر الباقر وولده الصادق _ عليهما السلام _ . فأجمعت العصابة على تصديق هؤلاء وانقادت لهم في الفقه والفقاهة .

ويليهم في الفضل لفيف آخر، هم أحداث خريجي مدرسة أبي عبداللّه الصادق نظراء جميل بن دراج، وعبداللّه بن مسكان، وعبداللّه بن بكير، وحماد بن عثمان، وحماد بن عيسى، وأبان بن عثمان .

وهناك ثلة اُخرى يعدّون من تلاميذ مدرسة الامام موسى الكاظم وابنه أبي الحسن الرضا _ عليهما السلام _ نظراء يونس بن عبدالرحمان، ومحمّد بن أبي عمير، وعبداللّه بن المغيرة، والحسن بن محبوب، والحسين بن علي بن فضال، وفضالة

( 561 )

ابن أيوب(1) .

أكثر هؤلاء من فقهاء أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث .

هؤلاء أعلام الشيعة في الفقه والحديث في القرنين الأوّلين وكلّهم خريجو مدرسة أهل البيت _ عليهم السلام _ ولقد خلّفوا آثاراً علمية باسم الأصل، والكتاب، والنوادر، والجامع، والمسائل وعناوين اُخرى.

أصحاب الجوامع الفقهية في القرن الثالث:

لم تزل تنجب مدرسة أهل البيت _ عليهم السلام _ في القرن الثالث فقهاءاً كباراً ألّفوا

جوامع فقهية. نشير إلى بعضهم:

1- يونس بن عبدالرحمان، ولقد وصفه ابن النديم في فهرسته بعلاّمة زمانه، له جوامع الآثار والجامع الكبير، وكتاب الشرائع.

2- صفوان بن يحيى البجلي، الّذي كان أوثق أهل زمانه وصنّف 30 كتابا.

3 و 4 _ الحسن والحسين ابنا سعيد بن حماد الأهوازي، صنّفا الكتب الثلاثين.

5- أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، المتوفّى 274 صاحب كتاب المحاسن وغيره.

6- محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمّي، صاحب نوادر الحكمة المتوفّى حوالي 293. صاحب الجامع المعروف .

7- أحمد بن محمّد أبي نصر البزنطي، المتوفّى 221، صاحب الجامع

____________________________

1 . أبو عمرو الكشي: الرجال 206 _ 222 _ 466، وراجع رجال النجاشي في ترجمتهم وذكر آثارهم ومنزلتهم في الفقه .

( 562 )

المعروف .

فقهاء الشيعة في القرن الرابع:

هؤلاء هم فقهاء الشيعة في القرن الثالث ويليهم عدة اُخرى في القرن الرابع نذكر أسماءهم على وجه الاجمال:

1- الحسن بن علي بن أبي عقيل شيخ الشيعة وفقيهها صاحب كتاب المتمسك بحبل آل الرسول .

2- علي بن الحسين بن بابويه، المتوفّى 329، صاحب كتاب الشرائع .

3- محمّد بن الحسن بن الوليد القمي، جليل القدر، شيخ القميين وفقيههم ومتقدّمهم مات سنة 343 ولقد بلغ في الوثاقة والدقة على حد يسكن إليها الشيخ الصدوق في تصحيحاته وتضعيفاته .

4- جعفر بن محمّد بن قولويه. اُستاذ الشيخ الصدوق مؤلّف كامل الزيارات، يقول النجاشي: إنّه من ثقات أصحابنا وأجلاّئهم في الفقه والحديث. توفّي عام 369.

5- محمّد بن علي بن الحسين الصدوق 306 _ 381، مؤلّف من لا يحضره الفقيه والمقنع والهداية .

6- محمّد بن أحمد بن الجنيد المعروف بالاسكافي، المتوفّي سنة 385 .

قال النجاشي: وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنّف فأكثر، ثمّ ذكر فهرس كتبه ومنها

كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة. وكتاب الأحمدي للفقه المحمّدي .

مشاهير الفقهاء في القرن الخامس:

وفي القرن الخامس نبغ فقهاء كبار، احتفل الفقه الشيعي بل الاسلامي

( 563 )

بأسمائهم وآرائهم كالشيخ المفيد 336 _ 413 والسيد المرتضى 355 _ 436 والشيخ الكراجكي 449 والشيخ الطوسي 385 _ 460 وسلاّر الديلمي مؤلف المراسم، وابن البراج 401 _ 489 مؤلف المهذب، وغيرهم الذين ملأت أسماؤهم كتب التراجم والرجال، ومن أراد الوقوف على حياتهم وكتبهم فعليه بالرجوع إلى الموسوعات الرجالية وأخص بالذكر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة .

هذا عرض موجز لمشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية على المستوى الفقهي. وبعين اللّه انّ علماء الشيعة قاموا بهذه الجهود في ظروف قاسية ورهيبة، وكانت الحكومات ومرتزقة البلاط تطاردهم وتسجنهم وتقتلهم ومع ذلك نرى هذا الانتاج العلمي الهائل في مجال الفقه. ولو وقف عليها علماء الإسلام لا ندهشوا من سعة الفكر، وعمق النظر، وغزارة الانتاج .

هذا هو الشيخ الطوسي الّذي ألّف المبسوط في الفقه المقارن في 8 أجزاء في زمن كانت نار الحرب مشتعلة على الشيعة ولقد أحرقت داره، ومكتبته في كرخ بغداد فالتجأ سرّاً إلى النجف الأشرف تاركاً بلده الّذي عاش فيه قرابة نصف قرن، وأين هؤلاء من الفقهاء الذين تنعّموا بالهدوء والاستقرار، واستقبلتهم السلطات الحاكمة بصدر رحب، واُجيزوا بازاء شعر أو كتيب أو رسالة صغيرة بالهبات والعطايا .

9- قدماء الشيعة وعلم اُصول الفقه:

إنّ السنّة النبوية بعد القرآن الكريم هي المصدر للتشريع، وقد سبق أنّ الخلاقة _ بعد رحلة الرسول _ حالت دون تحديث ما تركه بين الاُمة، وكتابته وتدوينه. فلم تدوّن السنّة إلى عصر أبي جعفر المنصور إلاّ صحائف غير منظّمة ولا مرتّبة إلى أن

( 564 )

شرع علماء الإسلام في التدوين سنة

53(1) .

إنّ الحيلولة بين السنّة وتدوينها ونشرها أدّت إلى نتائج سلبية عظيمة منها قصور ما وصل إلى الفقهاء في ذلك العصر صحيحاً من الرسول، عن تلبية متطلّباتهم في مجال الأحكام. حتّى اشتهر عن امام الحنفية أنّه لم يثبت عنده من أحاديث الرسول في مجال التشريع إلاّ سبعة عشر حديثا .

نحن لا نوافق مع ما حكي عن النعمان ولكن نؤكّد على شيء آخر، وهو أنّ ما ورد في مجموع الصحاح والمسانيد والسنن الأعم من الصحيح والضعيف في مجال الأحكام الشرعية، لا يتجاوز 500 حديثاً، قال السيد محمّد رشيد رضا: إنّ أحاديث الأحكام الاُصول لا تتجاوز 500 حديثاً تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر(2).

ويقول أيضاً في تفسيره: يقولون انّ مصدر القوانين، الاُمة، ونحن نقول بذلك، في غير المنصوص في الكتاب والسنّة. كما قرّره الامام الرازي والمنصوص قليل جدّاً(3) .

وما ذكره من قضية الامداد، يوحي إلى الموقوفات عن الصحابة من دون أن يثبت صدورها عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فهذه الموقوفات تعرب عن اجتهادات الصحابة في المسألة. ومن المعلوم انّ قول الصحابي لا يكون حجّة إلاّ إذا نسبه إلى الرسول .

هذا وأنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفّى 852 جمع كل ما ورد في

____________________________

1 . جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء 261 .

2 . الوحي المحمّدي، الطبعة السادسة 212، نعم أنهاه ابن حجر في كتابه «بلوغ المرام» إلى 1596 لكن كثيراً منها لا يتضمّن حكماً شرعياً وانّما هي أحاديث أخلاقية وغيرها فلاحظ .

3 . المنار 5 / 189 .

( 565 )

مجال التشريع في كتاب أسماه بلوغ المرام من أدلّة الأحكام(1) وهو كتاب صغير جدّاً .

إنّ افتقاد النص في مجال التشريع الّذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة

الرسول، هو الّذي دعاهم إلى التفحّص عن حلول لهذه الأزمة حتّى تسد حاجاتهم الفقهية فعكفوا على المقاييس الظنية الّتي ما أنزل اللّه بها من سلطان كالقياس، والاستقراء، والاستحسان، وسد الذرائع، وسنّة الخلفاء، أو سنّة الصحابة، أو رأي أهل المدينة إلى غير ذلك من القواعد وأسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية، وقد جاء ذلك نواة لتأسيس علم اُصول الفقه بصورة مختصرة نمت ونضجت في الأجيال .

وأمّا الشيعة حيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول بعد وفاته لوجود باب علم النبي، علي _ عليه السلام _ والأئمة المعصومين بين ظهرانيهم فلم تكن هناك أية حاجة للعمل بتلك المقاييس وبالتالي لم يكن هناك أي دافع للاتّجاه نحو اُصول الفقه .

نعم لمّا كان الإسلام ديناً عالمياً والنبىّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خاتم الأنبياء، والاُصول والسنن مهما كثرت لا يمكن أن تلبّي بحرفيتها حاجات المسلمين إلى يوم القيامة، انبرى أئمّة أهل البيت إلى املاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص أو اجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات الّتي يواجه بها الفقيه. وتلك الاُصول هي الّتي تشكّل أساساً لعلم اُصول الفقه ولقد جمعها عدّة من الأعلام في كتاب خاص أفضلها الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة للشيخ المحدث الحر العاملي المتوفّي 1104 .

فلو تأخّرت الشيعة في تدوين مسائل اُصول الفقه فانّما لأجل ذاك الغنى الذي

____________________________

1 . بلوغ المرام من أدلة الأحكام، طبع مصر تحقيق محمّد حامد الفقي .

( 566 )

عرفت، ومع ذلك نرى انّ لفيفاً من صحابة الأئمّة درسوا بعض مسائل اُصول الفقه نظير:

1- هشام بن الحكم المتوفّى سنة 199، صنّف كتاب الألفاظ(1) .

2- يونس بن عبدالرحمان، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله. وهو مبحث تعارض الحديثين(2)

.

3- إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت 237 _ 311 .

قال النجاشي: كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وذكر مصنّفاته وعدّ منها كتاب الخصوص والعموم(3) وذكره ابن النديم في فهرسته وعدّ من مصنّفاته كتاب ابطال القياس. وكتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي(4) .

4- أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من علماء القرن الثالث له كتاب الخصوص والعموم والخبر الواحد والعمل به(5) .

5- أبو منصور صرام النيشابوري من علماء القرن الثالث وأوائل الرابع له ابطال القياس(6) .

6- محمّد بن أحمد بن داود بن علي المتوفّى عام 368 قال النجاشي: شيخ

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 398 برقم 1165 وهو مردد بين كونه كتاب لغة أو أدب، أو كونه باحثاً عن الألفاظ الّتي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام لكون الأمر للوجوب والمرّة والتكرار أو الفورية والتأخير إلى غير ذلك .

2 . الطوسي: الفهرست 211 برقم 810 والنجاشي 2 / 420 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 121 برقم 67 .

4 . ابن النديم: الفهرست 265 طبع مطبعة الاستقامة القاهرة .

5 . النجاشي: الرجال 1 / 180 _ 181 برقم 146 .

6 . الطوسي: الفهرست قسم الكنى 381 برقم 588 .

( 567 )

هذه الطائفة وعالمها له كتاب الحديثين المختلفين(1) .

7- محمّد بن أحمد بن الجنيد المتوفّى سنة 381 له كتاب كشف التمويه والالتباس في ابطال القياس(2) .

والطابع السائد على هذه الكتب هو دراسة بعض المسائل الاُصولية كحجّية خبر الواحد، أو حل مشكلة اختلاف الحديثين أو نقد بعض الأساليب الرائجة في تلك الأجيال في استنباط الأحكام، كالقياس وغيره ولا يصحّ عدّها كتباً اُصوليّة بالمعنى المصطلح، نعم يمكن عدّها مرحلة اُولى، ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية

.

وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت، بالسعة والشمول، بادخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم اُصول الفقه وأوّل من فتح هذا الباب على وجه الشيعة بمصراعيه:

معلم الاُمّة الشيخ المفيد (336 _ 413) فألّف رسالة في هذا المضمار وأدرجها تلميذه العلاّمة الكراجكي في كتابه كنز الفوائد(3) .

وألّف بعده تلميذه الجليل علم الهدى المعروف بالسيد المرتضى كتابه القيم الذريعة إلى اُصول الشريعة طبع في جزأين، وقد رأيت منهانسخة مخطوطة في مدينة قزوين جاء فيها تاريخ فراغ المؤلّف منه عام 400 .

الشيخ الطوسي: (385 _ 460) ألّف عدّة اُصول وطبع مرات، وعن طريق هذه الكتب، انتشرت آراء الشيعة في علم الاُصول .

ثمّ دخلت المرحلة الثالثة فقد اُلّف فيها كتب منها:

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 305 برقم 1046 .

2 . النجاشي: الرجال 2 / 304 برقم 1048 .

3 . كنز الفوائد 2 / 15 _ 30 طبع بيروت .

( 568 )

1- التقريب في اُصول الفقه للشيخ أبي ليلى المعروف بسلاّر بن عبدالعزيز الديلمي صاحب المراسم توفّي عام 448 .

2- غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع تأليف أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة المعروف بابن زهرة المتوفّى عام 585 .

3- المصادر تاليف الشيخ سديد الدين الحمصي المتوفّى حدود سنة 600 .

هذه هي المراحل الثلاثة إلتي مرّ بها علم الاُصول، وقد تلتها مراحل اُخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشر ذروتها وقمّتها وبلغ أعلى مراحل كمالها، ويتّضح ذلك من ملاحظة ما اُلّف من عصر الاُستاذ الأكبر المحقق البهبهاني (1118 _ 1206) إلى يومنا، فقد راج التحقيق في المسائل الاُصولية من عصره إلى عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (1212 _ 1281) وعصر تلميذه الشيخ محمّد كاظم الخراساني (1255 _ 1329)

ففي هذه الفترة: أي القرون الثلاثة، اُلّف مئات الكتب والرسائل في ذاك المجال، ولا اُغالي إذا قلت: انّه لم تبلغ طائفة من الطوائف الإسلامية تلك الدرجة الّتي وصلت إليها الشيعة في علمي الفقه والاُصول من جانب كثرة الانتاج والاستيعاب ودقه النظر، شكر اللّه مساعيهم.

10- قدماء الشيعة وعلم المغازي والسير:

مغازي النبىّ الأكرم جزء من تاريخ حياته وسيرته، والرسول قدوة واُسوة وفعله كقوله حجّة بلا اشكال وقد وضع بعضهم كتباً في فقه السيرة(1) فكان على المسلمين ضبط دقيقها وجليلها، وقد قاموا بذلك لولا أنّ الخلافة حالت دون الاُمنية. ولكن قيض اللّه سبحانه، رجالا في الشيعة في ذلك المجال ضبطوا سيرة الرسول

____________________________

1 . كزاد المعاد لابن القيم، وفقه السيرة للشيخ الغزالي المعاصر .

( 569 )

ومغازيه:

1- منهم محمّد بن إسحاق بن يسار (ت 151): عدّه الشيخ الطوسي في رجاله(1) من أصحاب الإمام الصادق. ولأجل ولائه لأهل بيت النبوّة وصفه ابن حجر في التقريب «بأنّه امام المغازي، صدوق،يدلس ورمي بالتشيّع والقدر»(2) وفي مختصر الذهبي: انّه كان صدوقاً من بحور العلم، وعن تاريخ اليافعي عن شعبة بن الحجاج انّه قال: محمّد بن إسحاق أميرالمؤمنين في الحديث، وعن الشافعي: من اراد أن يتبحّر في المغازي فهو عيال محمّد بن إسحاق(3) .

لمّا كان المترجم شيعياً مجاهراً في ولائه لأهل البيت عمد ابن هشام (ت 212) بتلخيص كتابه على أساس حذف ما لا يلائم نزعته فحذف أكثر ما له صلة بفضائل الامام علي وأهل بيته .

فعلى الشيعة الغيارى التفحّص في مكتبات العالم وفهارسها، حتّى يعثروا على نسخة الاُم، وينشروا هذا الكنز الدفين، وقد أذعن بعض المستشرقين انّه عثر على الأصل ونشره باسم سيرة ابن إسحاق، لكنّه جزء من السيرة لا كلّها .

ومن حسن الحظ

انّ سيرة ابن إسحاق وإن لم تكن موجودة بصورتها لكنّها موجودة بمادتها فقد بثّها الطبرسي (470 _ 548) في أجزاء مجمع البيان، وابن الجوزي (1595) في المنتظم، وابن كثير في تاريخه وغيرهم، فعلى المحققين العظام، استخراج مادة السيرة عن هذه الكتب، وملخّصها المعروف بالسيرة النبوية لابن هشام .

____________________________

1 . الطوسي: الرجال 181 .

2 . ابن حجر: التقريب 2 / 144 برقم 40 .

3 . المامقاني: تنقيح المقال 3 / 79 برقم 1038 .

( 570 )

2- نعم سبق ابن إسحاق، عبيداللّه بن أبي رافع من أصحاب الامام أميرالمؤمنين، فقد عمل كتاباً أسماه تسمية من شهد مع أميرالمؤمنين، الجمل وصفين والنهروان من الصحابة، ذكره الشيخ في الفهرس(1) لكنّه في مغازي الوصيّ لا النبيّ .

3- كما ألّف جابر الجعفي (ت 128) كتباً في ذلك المجال: قال النجاشي: جابر عربي قديم. ثمّ ذكر نسبه وعدّ من كتبه: كتاب الجمل وكتاب صفّين، وكتاب نهروان، وكتاب مقتل أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ وكتاب مقتل الحسين(2) .

4- وألّف في ذلك المجال: أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي الّذي ربّما يسكن البصرة وقد أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنّى (110 _ 209) وأبو عبداللّه بن القاسم بن سلام (157 _ 224) وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام، له كتاب حسن يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردة(3) .

وقد جمع فيه أخبار ابتداء أمر النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من مبعثه ومغازيه ووفاته وأخبار يوم السقيفة وارتداد بعض القبائل .

5- ومن مشاهير هذا الفن من الشيعة أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، روى عن جعفر بن محمّد _ عليهما السلام _ . وصنّف كتباً: منها

كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردة، كتاب فتوح الإسلام...(4) .

6- ومن أعلامه، نصر بن مزاحم (212) ألّف كتباً كثيرة في ذلك

____________________________

1 . الطوسي: الفهرست 202 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 313 برقم 330 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 80 برقم 7 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 384 برقم 1149 .

( 571 )

المجال(1) .

7- هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (206) أعلم علماء النسب والسير والآثار، ذكره النجاشي وقال: الناسب، العالم بالأيام، المشهور بالفضل والعلم وكان يختص بمذهبنا ثمّ ذكر كتبه(2) .

هذا عرض موجز لمن شارك المسلمين من قدماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تدوين السيرة والمغازي والمقاتل والتاريخ، وأمّا المتأخرون فسل عنهم ولا حرج، وراجع المعاجم: كأعيان الشيعة للسيد الأمين العاملي، والذريعة لشيخنا المجيز الطهراني .

11- قدماء الشيعة وعلم الرجال:

اهتمّ علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال، نذكر المؤلّفين الأوائل:

1- عبداللّه بن جبلة الكناني (219) قال النجاشي: وبيت جبلة مشهور بالكوفة وكان واقفاً، وكان فقيهاً ثقة مشهوراً. له كتب، منها كتاب الرجال...(3) .

2- علي بن الحسن بن فضال كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث، من أصحاب الامام الهادي والعسكري له كتب منها كتاب الرجال(4) .

وهذا المعروف بابن فضال الصغير، وأبوه الحسن هو ابن فضال الكبير وكلاهما فطحيان .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 191 _ 192 برقم 873 .

2 . النجاشي: الرجال 2 / 399 برقم 1167 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 13 برقم 561 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 82 برقم 674 .

( 572 )

3- الحسن بن محبوب السراد (150 _ 224) الراوي عن ستين رجلا، من أصحاب الصادق له كتاب «المشيخة» وكتاب «معرفة رواة

الأخبار»(1) .

4- أبو عمرو الكشي البصير بالأخبار والرجال، تلميذ الشيخ العياشي، وكتابه المعروف ب_ «معرفة الرجال» هو الّذي لخّصه الشيخ الطوسي وأسماه ب_ «اختيار معرفة الرجال» وهو الموجود في الاعصار الأخيرة .

5- الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (372 _ 450) من نقّاد هذا الفن ومن أجلاّئه وأعيانه حاز قصب السبق في ميدان علم الرجال، له كتاب فهرس مصنفي الشيعة المعروف برجال النجاشي وقد طبع أخيراً محقّقاً في مؤسستنا «الامام الصادق _ عليه السلام _ » .

6- والشيخ الطوسي (385 _ 460) الغني عن التعريف عمل كتابين أحدهما الفهرست والآخر الرجال ويعدّان من اُمّهات الكتب الرجالية، وتوالى التأليف في علم الرجال وأخيه علم الدراية إلى عصرنا هذا، وقد أنهى الشيخ الطهراني المؤلّفين من الشيعة في علم الرجال فبلغ قرابة خمسمائة مؤلّف شكر اللّه مساعي الجميع .

هذا عرض موجز من مشاركة علماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تأسيس العلوم واكمالها وتطويرها، وأنت إذا وقفت على جهودهم الجبّارة في القرون الاُولى وما بعدها إلى عصرنا الحاضر، تقف على طائفة كبيرة من عمالقة العلم وجهابذة الفضل، كرسوا حياتهم الثمينة في ارساء صرح الحضارة الإسلامية ورفع قواعدها فأخلدوا لأنفسهم صحائف بيضاء ولصالح اُمّتهم حضارة انسانية، كل ذلك في ظروف قاسية وسلطات شديدة الكلب، وأضغان محتدمة، إلاّ في فترات

____________________________

1 . الطوسي: الفهرست 71، برقم 162، ابن شهرآشوب: معالم العلماء 333 برقم 182، الطهراني: مصفى المقال 128 .

( 573 )

يسيرة .

12- قدماء الشيعة والعلوم العقلية:

جاء الإسلام ليحرّر عقل الإنسان وتفكيره من الأغلال المتراكمة الموروثة الّتي خلقتها له الأجيال الماضية وهو يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمّل والتفكير، ويخاطب القلب والضمير بما حوله من الأدلّة الناطقة، ويكفيك أنّ الذكر الحكيم

استعمل مادة «العقل» بمختلف صورها 47 مرة، و «التفكّر» 18 مرة و«اللب» 16 مرّة، و «التدبّر» 4 مرات و «النهى» مرتين. فبذلك نهى عن التقليد وحثّ على التعقّل ببيانات مختلفة .

فتارة فتح عيون الإنسان إلى الكائنات لما فيها من دلائل ناطقة على وجوده سبحانه وصفاته .قال سبحانه: (أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقاً أمِ السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها * وأغْطَشَ لَيْلَها وَ أخْرَجَ ضُحاها * والأرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها * أخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها * وَ الجِبالَ أرْساها * متاعاً لَكُمْ و لأنْعامِكُمْ)(1) .

واُخرى دعاه إلى التفكير والاستدلال المنطقي، فقال سبحانه: (أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيء أمْ هُمُ الخالِقُونَ * أمْ خَلَقُوا السَّمواتِ والأرْضَ بَلْ لا يوقِنُونَ)(2) .

فعالج المشاكل العلمية والفلسفية تارة بالدعوة إلى النظر في الكون نظرة فاحصة، واُخرى بالحثِّ عى التفكير في المعارف باسلوب منطقي وبرهاني، وبذلك أيقظ عقول المسلمين وبعثهم إلى اعمال الحس والتعقّل وأعطى لكلّ قدره

____________________________

1 . النازعات / 27 _ 33 .

2 . الطور / 35 _ 36 .

( 574 )

وقيمته غير أنّ المسلمين سوى قليل منهم تنكّبوا عن هذا الطريق، خصوصاً في ما يرجع إلى المعارف العليا، فصاروا بين مشبّه ومعطّل، فالبسطاء منهم بنوا عقائدهم على الجمود بالمفردات الواردة في الكتاب والسنّة، وبذلك استغنوا عن أىّ تعقّل وتفكّر، إلى أن بلغت جرأتهم إلى حدّ قال بعضهم في الخالق: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك(1)، فهؤلاء هم المجسّمة والمشبّهة ،وأمّا غيرهم فاختاروا تعطيل العقول عن التفكّر في اللّه سبحانه، فقالوا: اُعطينا العقل لاقامة العبودية لا لادراك الربوبيّة، فمن شغل ما اُعطي لاقامة العبودية بادراك الربوبية فاتته العبودية، ولم يدرك الربوبية(2) .

فالأكثرية الساحقة في القرون الاُولى كانوا بين مشبّه

ومعطّل، غير أنّه سبحانه شملت عنايته اُمّة من المسلمين رفضوا التشبيه والتعطيل، وسلكوا طريقاً ثالثاً، وقالوا بأنه يمكن للانسان التعرّف على ما وراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال عن طريقين:

1- النظرة الفاحصة إلى عالم الوجود وجمال الطبيعة كما وردت في القرآن الكريم.

2- ترتيب الأقيسة المنطقية للوصول إلى الحقائق العليا، وهذا هو الخط الّذي رسمه القرآن الكريم، ومشى على هذا الخط أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ من أوّلهم إلى آخرهم.ترى ذلك في كلام الامام علي _ عليه السلام _ بوضوح، في أحاديثه وخطبه، ورسائله وكلمه ولا يمكن لنا نقل معشار منه، ونكتفي بحديث واحد .

____________________________

1 . الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 105 ط دار المعرفة لبنان .

2 . علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجة في بيان المحجة 33 .

( 575 )

سأله سائل: هل يقدر ربّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغّر الدنيا أو يُكبّر البيضة؟ فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والّذي سألتني لا يكون(1).

إنّ خطب الامام _ عليه السلام _ ورسائله وقصار حكمه صار هو الحجر الأساس لكلام الشيعة وآرائهم في العقائد والمعارف، ولم يقف نشاط الشيعة في ذلك المجال، بل جاءت الأئمة بعد الامام، ففتحوا عقول شيعتهم بالدعوة إلى التدبّر والتفكّر في المعارف، حتّى تربّى في مدرستهم عمالقة الفكر من عصر سيد الساجدين إلى عصر الامام العسكري، تجد أسماءهم وتآليفهم وافكارهم في المعاجم وكتب الرجال، وقد نبغ في عصر أئمة أهل البيت مفكّرون بارزون افادوا الأجيال من بعدهم، نأتي بأسماء البارزين بعد استفحال علم الكلام في أوائل القرن الثاني .

متكلّموا الشيعة في القرن الثاني:

1- زرارة بن أعين بن سُنسُن: مولى (بني عبداللّه بن عمرو السمين

بن اسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان)، أبوالحسن. شيخ أصحابنا في زمانه، ومتقدّمهم، وكان قارئاً، فقيهاً، متكلّماً، شاعراً، أديباً، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين، صادقاً في ما يرويه.

قال أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه: رأيت له كتاباً في الاستطاعة والجبر(2) وقال ابن النديم: وزرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثا

____________________________

1 . الصدوق: التوحيد 130 باب «القدرة» برقم 9 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 397 برقم 461، الطوسي الفهرست برقم 314، الكشي: الرجال برقم 62، الذهبي: ميزان الاعتدال 2 برقم 2853 .

( 576 )

ومعرفة بالكلام والتشيّع(1) وهو من الشخصيات البارزة للشيعة الّتي اجتمعت العصابة على تصديقهم، وهو غنيّ عن التعريف والتوصيف .

2- محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي: مولى الأحول «أبو جعفر»، كوفي، صيرفي يلقب ب_ «مؤمن الطاق» و «صاحب الطاق»، ويلقّبه المخالفون ب_ «شيطان الطاق»... وكان دكانه في طاق المحامل، بالكوفة، فيرجع إليه في النقد فيردّ ردّاً فيخرج كما يقول، فيقال «شيطان الطاق». أمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر، فاشهر وقد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا. وله كتاب «افعل لا تفعل» رأيته عند أحمد بن الحسين بن عبيداللّه رحمه اللّه، كتاب حسن كبير، وقد أدخل فيه بعض المتأخرين أحاديث تدل فيه على فساد، ويذكر تباين أقاويل الصحابة. وله كتاب «الاحتجاج في إمامة أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ » وكتاب كلامه على الخوارج، وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة...(2)فقد توفي الامام الصادق عام 148، وأبو حنيفة عام 150، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني .

وقال ابن النديم وكان متكلّماً حاذقاً وله من الكتب كتاب الامامة، كتاب المعرفة، كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب في

أمر طلحة والزبير وعائشة(3) .

3- هشام بن الحكم: قال ابن النديم: هو من متكلّمي الشيعة الإمامية وبطانتهم، وممّن دعا له الصادق _ عليه السلام _ ، فقال: أقول لك ما قال رسول اللّه لحسان: لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وهو الّذي فتق الكلام في

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 323 .

2 . النجاشي: الرجال 2 / 203 برقم 887، الطوسي: الرجال أصحاب الكاظم برقم 18 والفهرست للطوسي برقم 594، الكشي: الرجال برقم 77 .

3 . ابن النديم: الفهرست 264 وأيضاً 258 .

( 577 )

الإمامة وهذّب المذهب وسهّل طريق الحجاج فيه، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب(1) .

يقول الشهرستاني: وهذا هشام بن الحكم، صاحب غور في الاُصول، لا ينبغي أن يغفل عن الزاماته على المعتزلة، فانّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنّه ألزم الغلاة...(2) .

وقال النجاشي: هشام بن الحكم أبو محمّد مولى كندة، وكان ينزل بني شيبان بالكوفة، انتقل إلى بغداد سنة 199، ويقال انّ في هذه السنة مات. له كتاب يرويه جماعة. ثم ذكر أسماء كتبه على النحو التالي:

1- علل التحريم، 2- الفرائض، 3- الإمامة، 4- الدلالة على حدوث الأجسام، 5- الرد على الزنادقة، 6- الرد على أصحاب الاثنين، 7- التوحيد، 8- الرد على هشام الجواليقي، 9- الرد على أصحاب الطبائع، 10- الشيخ والغلام في التوحيد، 11- التدبير في الإمامة، 12- الميزان، 13- إمامة المفضول، 14- الوصية والرد على منكريها، 15- الميدان، 16- اختلاف الناس في الإمامة، 17- الجبر والقدر، 18- الحكمين، 19- الرد على المعتزلة وطلحة والزبير، 20- القدر، 21- الألفاظ، 22- الاستطاعة، 23- المعرفة، 24- الثمانية أبواب، 25- على شيطان الطاق، 26- الاخبار،

27- الرد على المعتزلة، 28- الرد على ارسطاطاليس في التوحيد، 29- المجالس في التوحيد، 30- المجالس في الإمامة(3) .

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 257 .

2 . الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 185 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 397 برقم 1165 .

( 578 )

يقول أحمد أمين: أكبر شخصية شيعية في الكلام، وكان جداً قوىّ الحجة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته وقوّة حججه .

إنّ الرجال كان في بداية أمره من تلاميذ أبي الشاكر الديصاني، صاحب النزعة الالحادية في الإسلام ثمّ تبع الجهم بن صفوان، الجبري المتطرّف المقتول بترمذ عام 128 ه_ ، ثم لحق بالإمام الصادق _ عليه السلام _ ودان بمذهب الإمامية، وما تنقل منه من الآراء الّتي لا توافق اُصول الامامية، فانّما هي راجعة إلى العصرين اللذين كان فيهما على النزعة الالحادية أو الجهمية، وأمّا بعد ما لحق بالإمام الصادق _ عليه السلام _ فقد انطبعت عقليته بمعارف أهل البيت إلى حد كبير، حتّى صادر أحد المناضلين عن عقائد الشيعة الامامية(1) .

4- قيس الماصر: أحد أعلام المتكلمين، تعلّم الكلام من علي بن الحسين _ عليه السلام _ روى الكليني انّه أتى شامي إلى أبي عبداللّه الصادق ليناظر أصحابه، فقال _ عليه السلام _ ليونس بن يعقوب: اُنظر من ترى بالباب من المتكلمين...إلى أن قال يونس: فأدخلت زرارة بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام، وأدخلت هشام بن الحكم وهو يحسن الكلام، وأدخلت قيس الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً وقد تعلم الكلام من علي بن الحسين _ عليهما السلام _ (2).

5- عيسى بن روضة، حاجب المنصور: كان متكلّماً، جيّد الكلام، وله

____________________________

1 .

إنّ للعلامة الحجة الشيخ عبداللّه نعمة كتاباً في حياة هشام بن الحكم، فقد أغرق نزعاً في التحقيق وأغنانا عن كل بحث وتنقيب .

2 . الكليني الكافي 1 / 171 .

( 579 )

كتاب في الإمامة. وقد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد، وذكر أنّه رأى الكتاب. وقال بعض أصحابنا رحمهم اللّه: انّه راى هذا الكتاب. وقرأت في بعض الكتب: انّ المنصور لمّا كان بالحيرة، تسمّع على عيسى بن روضة، وكان مولاه، وهو يتكلّم في الإمامة فاُعجب به واستجاد كلامه(1) وبما أنّ المنصور توفّي عام 158، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني .

6- الضحاك، أبو مالك الحضرمي: كوفي، عربي، أدرك أبا عبداللّه _ عليه السلام _ وقال قوم من أصحابنا: روى عنه وقال آخرون: لم يرو عنه. وروى عن أبي الحسن، وكان متكلّماً ثقة ثقة في الحديث. وله كتاب: في التوحيد، رواية علي بن الحسن الطاطري(2) فالرجل من متكلّمي القرن الثاني. وقال ابن النديم: من متكلّمي الشيعة وله مع ابي علي الجبّائي مجلس في الإمامة وتثبيتها بحضرة أبي محمّد القاسم بن محمّد الكوفي وله من الكتب كتاب الإمامة، نقض الإمامة على أبي علي ولم يتمّه(3) .

7- علي بن الحسن بن محمّد الطائي: المعروف ب_ «الطاطري» كان فقيهاً ثقة في حديثه له كتب منها: التوحيد، الامامة، الفطرة، المعرفة، الولاية(4) وغيرها وعدّه ابن النديم من متكلمي الامامية وقال: ومن القدماء: الطاطري وكان شيعياً واسمه... وتنقّل في التشيّع وله من الكتب كتاب الإمامة حسن(5)وبما أنّه من أصحاب الإمام الكاظم فهو من متكلّمي القرن الثاني .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 145 برقم 794 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 451 برقم 544 .

3 . ابن النديم: الفهرست 266 .

4

. النجاشي: الرجال 2 / 77 برقم 665 .

5 . ابن النديم: الفهرست 266 .

( 580 )

8- الحسن بن علي بن يقطين بن موسى: مولى بني هاشم، وقيل مولى بني أسد، كان فقيهاً متكلّماً روى عن أبي الحسن والرضا _ عليهما السلام _ ،وله كتاب مسائل أبي الحسن موسى _ عليه السلام _ (1) وبما أنّ أبا الحسن الأول توفّي عام 183، والثاني توفّي عام 203، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني وأوائل الثالث، وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا(2) وهو الّذي سأل الإمام الرضا _ عليه السلام _ بأنّه لا يقدر على لقائه في كل وقت فعمّن يأخذ معالم دينه؟ فأجاب الامام _ عليه السلام _ خذ عن يونس بن عبدالرحمان(3) .

9- حديد بن حكيم: أبو علي الأزدي المدائني، ثقة، وجه، متكلّم، روى عن ابي عبد الله، وأبي الحسن _ عليهما السلام _ له كتاب يرويه محمّد بن خالد(4) وبما أنّه من تلاميذ الصادق والكاظم _ عليهما السلام _ فالرجل من متكلّمي الشيعة في القرن الثاني .

10- فضال بن الحسن بن فضال: وهو من متكلّمي عصر الصادق _ عليه السلام _ وذكره الطبرسي في احتجاجه ومناظرته مع أبي حنيفة فلاحظ(5) .

وما ذكرناه نماذج من مشاهير المتكلّمين في عصر الصادقين والكاظم، وهناك من لم نذكرهم ولهم مناظرات واحتجاجات احتفلت بهم الكتب التاريخية والكلامية كحمران بن أعين الشيباني، وهشام بن سالم الجواليقي، والسيد الحميري ،والكميت الاسدي(6) .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 148 برقم 9 .

2 . الشيخ الطوسي: الرجال برقم 7 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 421 برقم 1209 .

4 . النجاشي: الرجال 1 / 377 برقم 383،وذكره الخطيب في تاريخه ج 8 برقم

4377.

5 . التستري: قاموس الرجال 4 / 313 .

6 . لاحظ أعيان الشيعة 1 / 134 _ 135 .

( 581 )

متكلّموا الشيعة في القرن الثالث:

1- الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمّد الأزدي النيشابوري: كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني وقيل الرضا _ عليهما السلام _ وكان ثقة، أحد اصحابنا الفقهاء، والمتكلمين، وله جلالة في هذه الطائفة وهو في قدره أشهر من أن نصفه وذكر الكنجي انّه صنّف مائة وثمانين كتابا .

وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري، وقد توفّي عام 260 فهو من متكلّمي القرن الثالث. وقد ذكر النجاشي فهرس كتبه نقتبس منه ما يلي:

كتاب النقض على الاسكافي في تقوية الجسم، كتاب الوعيد، كتاب الرد على أهل التعطيل، كتاب الاستطاعة، كتاب مسائل في العلم، كتاب الاعراض والجواهر، كتاب العلل، كتاب الايمان، كتاب الرد على الثنوية، كتاب اثبات الرجعة، كتاب الرد على الغالية المحمدية، كتاب تبيان اصل الضلالة، كتاب الرد على محمّد بن كرام، كتاب التوحيد في كتب اللّه، كتاب الرد على أحمد بن الحسين، كتاب الرد على الأصم، كتاب في الوعد والوعيد آخر، كتاب الرد على بيان ايمان ابن رباب (الخارجي)، كتاب الرد على الفلاسفة، كتاب محنة الإسلام، كتاب الأربع مسائل في الامامة، كتاب الرد على المنّانية، كتاب الرد على المرجئة، كتاب الرد على القرامطة، كتاب الرد على البائسة، كتاب اللطيف، كتاب القائم عليه السلام، كتاب الإمامة الكبير، كتاب حذو النعل بالنعل، كتاب فضل أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ ، كتاب معرفة الهدى

( 582 )

والضلالة، كتاب التعري والحاصل، كتاب الخصال في الإمامة، كتاب المعيار والموازنة، كتاب الرد على الحشوية، كتاب الرد على الحسن البصري في التفضيل، كتاب النسبة

بين الجبرية والبترية(1) .

2- حكم بن هشام بن الحكم: أبو محمّد، مولى كندة، سكن البصرة، وكان مشهوراً بالكلام، كلّم الناس، وحكي عنه مجالس كثيرة، ذكر بعض أصحابنا أنّه راى له كتاباً في الامامة(2) وقد توفّي والده 200 أو 199، فهو من متكلمي أواخر القرن الثاني، وأوائل القرن الثالث .

3- داود بن أسد بن أعفر: أبو الأحوص البصري _ رحمه الله _ شيخ جليل، فقيه متكلّم من أصحاب الحديث ثقة ثقة، وأبوه من شيوخ أصحاب الحديث الثقات، له كتب منها، كتاب في الإمامة على سائر من خالفه من الاُمم، والآخر مجرد الدلائل والبراهين(3). وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست في باب الكنى وقال: انّه من جملة متكلّمي الإمامية، لقيه الحسن بن موسى النوبختي، وأخذ عنه، واجتمع معه في الحائر على ساكنه السلام، وكان ورد للزيارة(4). فبما أنّه من مشايخ الحسن بن موسى النوبختي المعاصر للجبّائي (ت 303) فهو من متكلّمي القرن الثالث المعاصر.

4- محمّد بن عبداللّه بن مملك الاصبهاني: أصله جرجان، وسكن اصبهان، جليل في أصحابنا، عظيم القدر والمنزلة كان معتزلياً ورجع على يد عبدالرحمان بن أحمد بن جبرويه _ رحمه الله _ . له كتب منها، كتاب الجامع في سائر أبواب الكلام كبير، وكتاب المسائل والجوابات في الإمامة، كتاب مواليد الأئمة

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 168 برقم 838، والطوسي: الرجال برقم 1 و 2 في أصحاب الهادي والعسكري _ عليهما السلام _ ، والكشي: الرجال برقم 416 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 328 برقم 349 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 364 برقم 412 .

4 . الطوسي: الفهرست 221 برقم 875 .

( 583 )

_ عليهم السلام _ ، كتاب مجالسه مع أبي علي الجبّائي

(235 _ 303)(1) .

5- ثبيت بن محمّد، أبو محمّد العسكري: صاحب أبي عيسى الوراق (محمّد بن هارون) متكلّم حاذق، من أصحابنا العسكريين، وكان أيضاً له اطّلاع بالحديث والرواية، والفقه. له كتب، منها:

1- كتاب توليدات بني اُمية في الحديث وذكر الأحاديث الموضوعة .

2- الكتاب الّذي يعزى إلى أبي عيسى الوراق في نقض العثمانية له .

3- كتاب الأسفار .

4- دلائل الأئمة _ عليهم السلام _ (2) .

وبما أنّه من أصحاب أبي عيسى الوراق، وقد توفّي هو في 247، فالرجل من متكلّمي القرن الثالث .

6- إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزومي: أبو محمّد، أحد أصحابنا، ثقة فيما يرويه، قدم العراق، وسمع أصحابنا منه، مثل أيوب بن نوح، والحسن بن معاوية، ومحمّد بن الحسين، وعلي بن الحسن بن فضال، له كتاب التوحيد، كتاب المعرفة، كتاب الإمامة .

وبما أنّ الراوي عنه كعلي بن الحسن بن فضال من أصحاب الهادي والعسكري _ عليهما السلام _ وقد توفّي الامام العسكري عام 260، فهو في رتبة الحسن بن علي بن فضال، الّذي هو من أصحاب الإمام الرضا _ عليه السلام _ فيكون من متكلّمي القرن الثالث(3) .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 297 برقم 1034 .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 293 برقم 298، وثبيت على وزان زبير .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 120 برقم 66 .

( 584 )

7- محمّد بن هارون: أبو عيسى الوراق: له كتاب الإمامة، وكتاب السقيفة، وكتاب الحكم على سورة لم تكن وكتاب اختلاف الشيعة والمقالات. قال ابن حجر: له تصانيف على مذهب المعتزلة، وقال المسعودي له مصنّفات حسان في الإمامة وغيرها وكانت وفاته سنة 247(1) .

8- إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزني: مولى آل

طلحة بن عبيداللّه، «أبو إسحاق»، وكان وجه أصحابنا البصريين في الفقه والكلام والأدب والشعر. والجاحظ يحكي عنه، وقال الجاحظ: «حدثني إبراهيم ابن داحة، عن محمّد بن أبي عمير»(2) .

وبما أنّ اُستاذه ابن أبي عمير توفّي عام 217، والجاحظ، الراوي عنه توفّي عام 255، فهو من متكلّمي القرن الثالث يروي عنه الجاحظ في البيان والتبيين(3) .

9- الشكّال: قال ابن النديم: صاحب هشام بن الحكم وخالفه في اشياء إلاّ في اصل الإمامة وله من الكتب كتاب المعرفة، كتاب في الاستطاعة، كتاب الامامة، كتاب على من أبى وجوب الإمامة بالنص(4) وبما أنّ هشاماً توفّي عام 199، فالرجل من متكلّمي أوائل القرن الثالث.

10- الحسين بن اشكيب: شيخ لنا، ثقة مقدم، ذكره أبو عمرو في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن، صاحب العسكر _ عليه السلام _ ووصفه بأنّه عالم متكلّم مؤلّف للكتب، المقيم بسمرقند وكش. له من الكتب، كتاب الرد على من

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 280 برقم 1017، ابن حجر: لسان الميزان ج 5 برقم 1360، المحقق الداماد: الرواشح السماوية 55 ومر ذكره في ترجمة تثبيت وما في كلام ابن حجر من عده من المعتزلة، ناشئ عن الخلط بين المعتزلة والامامية .

2 . النجاشي: الرجال 1 / 87 برقم 13، و 2 / 205 برقم 888 .

3 . البيان والتبيين 1 / 61 .

4 . ابن النديم: الفهرست 264 .

( 585 )

زعم أنّ النبيّ كان على دين قومه، والرد على الزيدية، وبما أنّه من أصحاب أبي الحسن المتوفى عام 260، فهو من متكلمي القرن الثالث(1) .

وعده الشيخ في رجاله من أصحابه الامام الهادي _ عليه السلام _ (2) .

11- عبدالرحمان بن أحمد بن جبرويه، أبو محمّد العسكري:

متكلّم من أصحابنا، حسن التصنيف، جيّد الكلام، وعلى يده رجع محمّد بن عبداللّه بن مملك الاصبهاني عن مذهب المعتزلة إلى القول بالإمامة، وقد كلّم عباد بن سليمان، ومن كان في طبقته، وقع إلينا من كتبه: كتاب الكامل في الإمامة، كتاب حسن(3) .

وبما أنّ محمّد بن عبداللّه معاصر للجبّائي (235 _ 303) وله مجالس معه(4) فالرجل من متكلّمي القرن الثالث، ولعلّه أدرك أوائل القرن الرابع .

12- علي بن منصور، أبو الحسن: كوفي سكن بغداد، متكلّم، من أصحاب هشام، له كتب، منها كتاب التدبير في التوحيد والإمامة(5). وقال النجاشي في ترجمة هشام بن الحكم: كتاب التدبير في الإمامة، وهو جمع علي بن منصور من كلامه(6) وبما أنّ هشام توفّي عام 199، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني، وأوائل القرن الثالث .

13- علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمّار: أبو الحسن مولى بني أسد، كوفي، سكن البصرة، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا،

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 146 برقم 87 .

2 . الشيخ الطوسي: الرجال برقم 18 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 47 برقم 623 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 297 برقم 1034 .

5 . النجاشي: الرجال 2 / 71 برقم 656 .

6 . النجاشي: الرجال 2 / 397 برقم 1165 .

( 586 )

كلّم أبا الهذيل (135 _ 235) والنظام (160 _ 231) له مجالس وكتب منها كتاب الإمامة، كتاب مجالس هشام بن الحكم وكتاب المتعة(1) .وعدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الرضا برقم 52 فهو من متكلّمي القرن الثاني. وقال ابن النديم: أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم (جده) من أجلّة أصحاب علي _ رضي

الله عنه _ ولعلي من الكتب كتاب الإمامة، كتاب الاستحقاق(2) .

متكلّموا الشيعة في القرن الرابع:

1- الحسن بن علي بن أبي عقيل: أبو محمّد العماني الحذّاء، فقيه متكلّم ثقة، له كتب في الفقه والكلام، منها كتاب المتمسّك بحبل الرسول. قال النجاشي: وقرأت كتابه المسمّى: الكرّ والفرّ، على شيخنا أبي عبداللّه المفيد _ رحمهم الله _ وهو كتاب في الإمامة، مليح الوضع .

وذكره الشيخ في الفهرست والرجال(3)، وبما أنّه من مشايخ أبي القاسم جعفر ابن محمّد المتوفّي عام 368 فالرجل من أعيان القرن الرابع،المعاصر للكليني، المتوفّي عام 329 .

2- إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت: كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالة في الدنيا والدين، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب، صنف كتباً كثيرة، منها كتاب الاستيفاء في الإمامة، التنبيه في الإمامة. قال النجاشي: قرأته على شيخنا أبي عبداللّه (المفيد) _ رحمهم الله _ ،

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 72 برقم 659 .

2 . ابن النديم: الفهرست 263 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 153 برقم 99 ولاحظ فهرست الشيخ رقم 204، ورجاله في باب من لم يرو عنهم برقم 53 .

( 587 )

كتاب الجمل في الإمامة، كتاب الرد على محمّد بن الأزهر في الإمامة، كتاب الرد على اليهود، كتاب في الصفات للرد على أبي العتاهية (130 _ 211) في التوحيد في شعره، كتاب الخصوص والعموم والأسماء والأحكام، كتاب الإنسان والرد على ابن الراوندي، كتاب التوحيدن كتاب الارجاء، كتاب النفي والاثبات، مجالسه مع أبي علي الجبّائي (235 _ 303) بالأهواز، كتاب في استحالة رؤية القديم، كتاب الرد على المجبرة في المخلوق، مجالس ثابت بن أبي قرة (221 _ 288)، كتاب النقض

على عيسى بن أبان في الاجتهاد، نقض مسألة أبي عيسى الوراق في قدم الاجسام، كتاب الإحتجاج لنبوّة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، كتاب حدوث العالم(1) .

وقال ابن النديم أبو سهل: إسماعيل بن علي بن نوبخت من كبار الشيعة وكان أبو الحسن الناشي يقول إنّه اُستاذه وكان فاضلا، عالماً، متكلماً، وله مجالس بحضرة جماعة من المتكلمين... وذكر فهرس كتبه(2) .

3- الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (أخو الصدوق) القمي أبو عبداللّه، ثقة روى عن أبيه اجازة، وله كتب منها:

1- كتاب التوحيد ونفي التشبيه .

2- كتاب عمله للصاحب أبي القاسم بن عباد (326 _ 385) وقد توفّي أخوه عام 381 فهو من أعيان القرن الرابع، وهو وأخوه ولدا بدعوة صاحب الأمر _ عليه السلام _ ، ترجمه ابن حجر في لسان الميزان(3) .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 121 برقم 67 (وهو خال الحسن بن موسى مؤلّف فرق الشيعة) .

2 . ابن النديم: الفهرست 265 .

3 . النجاشي: الرجال 1 / 189 برقم 161، ابن حجر: لسان الميزان 2 / 306 برقم 1260 .

( 588 )

4- محمّد بن بشر الحمدوني «أبو الحسين السوسنجردي»: متكلم جيد الكلام، صحيح الاعتقاد، كان يقول بالوعيد، له كتب، منها كتاب المقنع في الإمامة، كتاب المنقذ في الإمامة(1) وقال ابن النديم: السوسنجردي من غلمان أبي سهل النوبختي. ويكنّى أبا الحسن، ويعرف بالحمدوني منسوباً إلى آل حمدون، وله من الكتب كتاب الانقاذ في الامامة(2) وقال ابن حجر: كان زاهداً ورعاً متكلماً، على مذهب الإمامية وله مصنّفات في نصرة مذهبه(3) .

5- يحيى أبو محمّد العلوي من بني زبارة: علوي، سيد، متكلّم، فقيه، من أهل نيشابور. قال الشيخ الطوسي:

جليل القدر، عظيم الرياسة، متكلّم، حاذق، زاهد، ورع، لقيت جماعة ممّن لقوه وقرأوا عليه، له كتاب ابطال القياس، وكتاب في التوحيد(4)، وعلى هذا فالرجل في درجة شيخ مشايخ الطوسي، فهو من متكلّمي القرن الرابع .

6- محمّد بن القاسم، أبوبكر، بغدادي: متكلم عاصر بن همام، له كتاب في الغيبة، كلام(5). وابن همام هو محمّد بن أبي بكر بن سهيل الكاتب الاسكافي الّذي ترجم له النجاشي في رجاله برقم 1033 وذكره الخطيب في تاريخه 3 / 365 وقال أحد شيوخ الشيعة، ولد عام 258 وتوفّي عام 338 وعلى هذا فالمترجم من متكلّمي أوائل القرن الرابع .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 298 برقم 1037 .

2 . ابن حجر: لسان الميزان 5 / 93 برقم 304 .

3 . ابن النديم: الفهرست 266 .

4 . النجاشي: الرجال 2 / 413 برقم 1192، وقد جاءت ترجمته أيضاً برقم 1195، الشيخ الطوسي: الفهرست برقم 803 .

5 . النجاشي: الرجال 2 / 298 برقم 1036 .

( 589 )

7- محمّد بن عبدالملك بن محمّد التبان: يكنّى أبا عبداللّه، كان معتزلياً، ثمّ أظهر الانتقال، ولم يكن ساكنا، له كتاب في تكليف من علم اللّه انّه يكفر، وله كتاب في المعدوم، ومات لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 419(1) .

8- محمّد بن عبدالرحمان بن قبة الرازي أبو جعفر: متكلّم، عظيم القدر حسن العقيدة، قوي في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصّر وانتقل، له كتب في الكلام، وقد سمع الحديث، وأخذ عنه ابن بطة وذكره في فهرسته الّذي يذكر فيه من سمع منه فقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة.

له كتاب الانصاف في الامامة، وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي (ت 319)، وكتاب الرد

على الزيدية، وكتاب الرد على ابي علي الجبائي، المسالة المفردة في الامامة .

قال النجاشي: سمعت أبا الحسين السوسنجردي _ رحمه الله _ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين، وله كتاب في الإمامة معروف به، وقد كان حج على قدميه خمسين حجة يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا _ عليه السلام _ بطوس فسلمت عليه وكان عارفاً بي ومعي كتاب أبي جعفر بن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف، فوقف عليه، ونقضه بالمسترشد في الإمامة فعدت إلى الري، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بالمستثبت في الامامة، فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بنقض المستثبت، فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات _ رحمه الله _ (2).

وقال ابن النديم: أبو جعفر بن محمّد بن قبة من متكلّمي الشيعة وحذّاقهم

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 2 / 333 برقم 1070 .

2 . النجاشي: الرجال 2 / 288 برقم 1024 .

( 590 )

وله من الكتب: كتاب الانصاف في الإمامة، كتاب الإمامة(1) .

وقال العلاّمة: وكان حاذقاً شيخ الإمامية في عصره(2) .

9- علي بن وصيف، أبوالحسن الناشي: (271 _ 365) الشاعر المتكلّم، ذكر شيخنا _ رضي الله عنه _ انّ له كتاباً في الإمامة(3). قال الطوسي: وكان شاعراً مجوداً في أهل البيت _ عليهم السلام _ ومتكلّماً بارعاً وله كتب(4). قال ابن خلكان: من الشعراء المحبين وله في أهل البيت قصائد كثيرة، وكان متكلماً بارعاً، أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت المتكلم، وكان من كبار الشيعة، وله تصانيف كثيرة، وقال ابن كثير: إنّه كان متكلّماً، بارعاً من كبار الشيعة(5)، فهو من متكلمي القرن الرابع .

10- الحسن بن موسى، ابو محمّد النوبختي: شيخنا المبرز على

نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها، له على الأوائل كتب كثيرة، منها:

1- كتاب الآراء والديانات، يقول النجاشي: كتاب كبير حسن يحتوي على علوم كثيرة قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبداللّه (المفيد) _ رحمه الله _ .

2- كتاب فرق الشيعة .

3- كتاب الرد على فرق الشيعة ما خلا الإمامية .

4- كتاب الجامع في الإمامة .

5- كتاب الموضع في حروب أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ .

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 262 .

2 . العلامة: الخلاصة _ القسم الأول _ 143 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 105 برقم 707 .

4 . الطوسي: الفهرست 233 طبع ليدن .

5 . المامقاني: تنقيح المقال 2 / 313 برقم 8549 .

( 591 )

6- كتاب التوحيد الكبير .

7- كتاب التوحيد الصغير .

8- كتاب الخصوص والعموم .

9- كتاب الأرزاق والآجال والأسعار .

10- كتاب كبير في الجزء .

11- مختصر الكلام في الجزء .

12- كتاب الرد على المنجّمين .

13- كتاب الفرد على أبي علي الجبّائي في ردّه على المنجّمين .

14- كتاب النكت على ابن الراوندي .

15- كتاب الرد على من أكثر المنازلة .

16- كتاب الرد على أبي الهذيل العلاّف في أنّ نعيم أهل الجنة منقطع .

17- كتاب الإنسان غير هذه الجملة .

18- كتاب الرد على الواقفة .

19- كتاب الرد على أهل المنطق .

20- كتاب الرد على ثابت بن قرة .

21- الرد على يحيى بن أصفح .

22- جواباته لأبي جعفر بن قبة .

23- جوابات اُخر لأبي جعفر .

24- شرح مجالسه مع أبي عبداللّه بن مملك .

25- حجج طبيعية مستخرجة من كتاب أرسطاطاليس في الرد على من زعم أنّ الفلك حي ناطق .

26- كتاب في المرايا وجهة الرؤية فيها .

( 592 )

27- كتاب في خبر الواحد

والعمل به .

28- كتاب في الاستطاعة على مذهب هشام وكان يقول به .

29- كتاب في الرد على من قال بالرؤية للباري عزّوجلّ .

30- كتاب الاعتبار والتمييز والانتصار .

31- كتاب النقض على أبي الهذيل في المعرفة .

32- كتاب الرد على أهل التعجيز، وهو نقض كتاب أبي عيسى الوراق .

33- كتاب الحجج في الإمامة .

34- كتاب النقض على جعفر بن حرب (177 _ 236) في الإمامة .

35- مجالسه مع أبي القاسم البلخي (ت 319) .

36- كتاب التنزيه وذكر متشابه القرآن .

37- الرد على أصحاب المنزلة بين المنزلتين في الوعيد .

38- الرد على أصحاب التناسخ .

39- الرد على المجسّمة .

40- الرد على الغلاة .

41- مسائله للجبّائي في مسائل شتّى(1) .

والرجل من أكابر متكلّمي الشيعة، عاصر الجبّائي (ت 303) والبلخي (ت 319) وأبو جعفر بن قبة المتوفّى قبل البلخي فهو من أعيان متكلّمي الشيعة في أواخر القرن الثالث، وأوائل القرن الرابع .

وقال ابن النديم: أبو محمّد الحسن بن موسى بن اُخت أبي سهل بن نوبخت،

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 179 برقم 146 ترجمه ابن حجر في لسان الميزان 2 / 258 برقم 1075 وترجمة هبه الدين الشهرستاني في مقدمة فرق الشيعة .

( 593 )

متكلّم، فيلسوف كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة، مثل أبي عثمان الدمشقي، وإسحاق وثابت وغيرهم وكانت المعتزلة تدّعيه، والشيعة تدّعيه ولكنّه إلى حيّز الشيعة ما هو (كذا) لأنّ آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده _ عليهم السلام _ في الظاهر، فلذلك ذكرناه في هذا الموضع... وله مصنفات وتأليفات في الكلام والفلسفة وغيرها ثمّ ذكر فهرس كتبه ولم يذكر إلاّ القليل من الكثير(1).

إنّ بيت نوبخت من أرفع البيوتات الشيعية خرج منه فلاسفة كبار، متكلّمون

عظام، وقد آثرنا الاقتصار ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المؤلّفة حول هذا البيت .

هؤلاء أعلام الشيعة ومتكلّموهم في القرون الأربعة فهم الذين ذادوا عن حياض الإسلام والتشيّع ببيانهم وبنانهم أتينا بأسمائهم في المقام ليكونوا كنموذج لما لم نذكره أو لم يحتفل بذكرهم التاريخ فإنّ الإستقصاء يخرجنا إلى تأليف منفرد .

ونختم هذا الفصل بمتكلّم فحل وبارع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات يسيرة أعني اُستاذ الشيعة وشيخ الاُمة الشيخ المفيد (336 _ 414) الّذي أنطق علمه وفضله وورعه وتقاه، لسان كل موافق ومخالف وإليك نموذج ممّا ذكره أصحاب التذكرة وعلماء الرجال في كتبهم على وجه الإيجاز ونركّز على كلمات أهل السنّة ونذكر القليل من كلمات الشيعة في حقه .

1- هذا هو ابن النديم (ت 388) معاصره ويعرّفه في الفهرست بقوله:

«ابن المعلم، أبو عبداللّه، في عصرنا انتهت رياسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطرة، شاهدته

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 265 _ 266 الفن الثاني من المقالة الخامسة .

( 594 )

فرأيته بارعا...(1)

والمعروف انّه ألّف الفهرست عام 377، وتوفّي حوالي 388، وعلى ضوء هذا فالمفيد انتهت إليه رياسة متكلّمي الشيعة وله من العمر ما لا يجاوز الخمسين .

2- وقال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463):

أبو عبداللّه المعروف بابن المعلم، شيخ الرافضة، والمتعلم على مذهبهم، صنّف كتباً كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم(2) .

3- وقال عبدالرحمان ابن الجوزي (ت 597):

شيخ الإمامية وعالمها، صنّف على مذهبه، ومن أصحابه المرتضى، كان لابن المعلم مجلس نظر بداره، بدرب رياح، يحضره كافة العلماء، له منزلة عند اُمراء الأطراف، لميلهم إلى مذهبه(3) .

4- وقال أبو السعادات عبداللّه بن أسعد اليافعي (ت 768):

وفي سنة

ثلاث عشرة وأربعمائة توفّي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد، وابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن ابي طي: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وقال غيره: كان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنّف، وكانت جنازته مشهورة وشيّعه ثمانون الفاً من الرافضة والشيعة(4) .

____________________________

1 . ابن النديم: الفهرست 266 في فصل أخبار متكلّمي الشيعة .

2 . الخطيب البغدادي: 3 / 331 برقم 1799 .

3 . ابن الجوزي: المنتظم 15 / 157 .

4 . اليافعي: مرآة الجنان 3 / 28 طبع الهند .

( 595 )

5- ووصفه أبوالفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774) بقوله:

شيخ الإمامية الروافض، والمصنّف لهم، والمحامي عن حوزتهم، وكان يحضر ملجسه خلق كثير من العلماء وسائر الطوائف(1) .

6- وقال الذهبي (ت 748):

محمّد بن محمّد بن النعمان، الشيخ المفيد، عالم الرافضة، أبو عبداللّه ابن المعلم، صاحب التصانيف البدعية، وهي مائتا مصنف(2) .

عالم الشيعة، وإمام الرافضة وصاحب التصانيف الكثيرة، قال ابن ابي طي في تاريخه _ تاريخ الإمامة _ : هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية(3) .

7- قال ابن حجر (ت 852) بعد نقل ما ذكره الذهبي :

وكان كثير التعقيب والتخشّع والاكباب على العلم، تخرج به جماعة، وبرع في المقالة الإمامية حتّى يقال: له على كل إمام منّة، وكان أبوه معلماً بواسط وما كان المفيد ينام من الليل إلاّ هجعة ثمّ يقوم يصلي أو

يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن(4) .

8- وقال ابن العماد الحنبلي: (ت 1089):

«وفيها توفّي المفيد، ابن المعلم، عالم الشيعة، إمام الرافضة، وصاحب التصانيف الكثيرة، قال ابن أبي طي في تاريخ الإمامية: هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان

____________________________

1 . ابن كثير: البداية والنهاية 11 / 15 .

2 . الذهبي ميزان الاعتدال 4 / 30 .

3 . الذهبي: العبر 2 / 225 .

4 . ابن حجر: لسان الميزان 5 / 368 برقم 1196 .

( 596 )

الإمامية، رئيس الكلام، والفقه والجدل وكان يناظر اهل كل عقيدة مع الجلاله والعظمة في الدولة البويهية»(1) .

هذا بالنسبة للسنّة، وأمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه: الطوسي والنجاشي ونترك الباقي لمترجمي حياته .

1- يقول الشيخ الطوسي (385 _ 460) في الفهرست :

المفيد يكنّى أبا عبداللّه المعروف بابن المعلم، من جملة متكلّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدّماً في العلم، وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار وفهرست كتبه معروف، ولد سنة 338 وتوفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 413، وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق(2) .

2- ويقول تلميذه الآخر، النجاشي (372 _ 450):

شيخنا واُستاذنا _ رضي الله عنه _ فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والوثاقة والعلم ثمّ ذكر تصانيفه(3) .

وهذه الكلم تعرّفنا منزلته الرفيعة وانّه لم يكن يومذاك للشيعة متكلّم أكبر منه، وكفى في ذلك انّه تخرّج على يديه لفيف من متكلّمي الشيعة نظير: السيد المرتضى (355 _ 436) والشيخ الطوسي (385 _ 460) وهما كوكبان في سماء الكلام، وحاميان عظيمان عن

حياض التشيع، ببيانهم وبنانهم .

____________________________

1 . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3 / 199 وفيه مكان الطائفة: الصوفية. وهو لحن .

2 . الشيخ الطوسي: الفهرست برقم 710 .

3 . النجاشي: الرجال 2 / 327 برقم 1068 .

( 597 )

ولنكتف في سرد أسماء أئمة الكلام بهذا المقدار ولنترك الباقي من القرن الخامس إلى عصرنا هذا غير أنّه يطيب لي أن اشير إلى بعض أساتذة الفلسفة منهم .

مشاهير أئمّة الفلسفة بعد القرن الرابع:

1- إذا كان الشيخ المفيد أكبر متكلّم للشيعة ظهر في العراق، فإنّ الشيخ الرئيس ابن سينا (380 _ 424) أكبر فيلسوف اسلامي شيعي ظهر في المشرق، وهو من الذين دفعوا عجلة الفكر والعلم إلى الأمام في خطوات كثيرة وقد طار صيته شرقاً وغرباً، وكتبت عنه دراسات ضافية من المسلمين والمستشرقين ونحن في غنى عن افاضة القول في ترجمة حياته، وآثاره الّتي خلّفها، والتلاميذ الذين تربّوا في مدرسته ولكن نشير إلى كتابين من كتبه لأنّهما كوكبان .

الف _ الشفاء وهو يشتمل على المنطق، والطبيعيات والإلهيات والرياضيات وقد طبع أخيراً في مصر في أجزاء، وبالامعان فيما ذكره في مبحث النبوّة يعلم مذهبه قال: والاستخلاف بالنص أصوب فانّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف(1).

باء _ الاشارات وهو يشتمل على المنطق والطبيعات والإلهيات وهو من أحسن مؤلّفاته وفيه آراؤه النهائية وقد وقع موقع العناية لمن بعده، فشرحه الامام الرازي (543 _ 606) والمحقق الطوسي (597 _ 672) والشرح الثاني، كان محور الدراسة في الحوزات العلمية .

2- نصير الدين الطوسي: الخواجه نصير الدين الطوسي، سلطان المحققين واُستاذ الحكماء والمتكلمين (597 _ 672) وهو أشهر من أن يذكر، شارك في

____________________________

1 . الشفاء قسم الإلهيات 2 / 564 طبع ايران .

(

598 )

جميع العلوم النظرية فاصبح اُستاذاً محقّقاً مؤسّساً أثنى عليه الموافق والمخالف .

3- الشيخ كمال الدين: الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (636 _ 699) الفيلسوف المحقّق، والحكيم المدقّق، قدوة المتكلمين، تظهر جلالة شأنه وسطوع برهانه من الامعان في شرحه لنهج البلاغة في أربعة أجزاء وله «قواعد المرام في الكلام» وكلاهما مطبوعان .

4- العلاّمة الحلّي: شيخ الشيعة جمال الدين المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 _ 728) له الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، وكشف المراد في الكلام، وكتبه في المنطق والكلام والفلسفة تنوف على العشرين .

5- الرازي: قطب الدين الرازي (ت 766)، تلميذ العلاّمة الحلّي واُستاذ الشهيد الأوّل، له شرح المطالع في المنطق والمحاكمات بين العلمين: الرازي ونصير الدين الطوسي.

إلى غير ذلك من أدمغة كبيرة ظهرت في الحوزات الشيعيّة، كالفاضل المقداد (ت 808) مؤلّف نهج المسترشدين في الكلام، والشيخ بهاء الدين العاملي (953 _ 1030)، والسيد محمّد باقر المعروف بالداماد (ت 1040) ،وتلميذه المعروف بصدر المتألّهين مؤلّف الأسفار الأربعة (971 _ 1050) وغيرهم ممّن يتعسّر علينا احصاء أسمائهم فضلا عن تحرير تراجمهم .

هذه لمحة عابرة عن مشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية في مجال العلوم العقلية واقتصر نا على المشاهير منهم إلى أواسط القرن الحادي عشر، وتركنا أسماء الكثيرين. هذا وقد قام المتتبّع المتضلّع الشيخ عبداللّه نعمة بتأليف كتاب حول فلاسفة الشيعة ومتكلّميهم أسماه «فلاسفة الشيعة» وسدّ بذلك بعض الفراع حيّاه اللّه وبيّاه .

ومن حسن الحظ أنّ ركب التفكير والبرهنة والاستدلال لم يقف، بل توالت

( 599 )

إلى عصرنا، فترى في حقول الكلام والفلسفة شخصيات بارزة ومؤلّفات لا تحصى في الكلام والفلسفة والمنطق، وقد عاش كثير من هؤلاء في الظروف السياسية الصارخة بالدم والرعب،

وقد صار ذلك سبباً في اختفاء آثارهم وضياعها، بل وتراكم الأساطير حولها .

وبذلك تقف على قيمة ما ذكره المستشرق «آدم متز» في حق كلام الشيعة: «أمّا من حيث العقيدة والمذهب، فانّ الشيعة هم ورثة المعتزلة، ولابدّ أن يكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لاءم أغراض الشيعة ولم يكن للشيعة في القرن الرابع مذهب كلامي خاص به»(1) .

إنّ الشيعة منذ بكرة أبيهم، كانوا مقتفين أثر أئمتهم، ولم يكونوا ورثة المعتزلة، وانّما أخذت المعتزلة اُصول مذهبهم عن أئمة أهل البيت، كما أوضحنا حاله في الجزء الثالث من هذه الموسوعة، والعجب أنّ الشيعة كانت تناظر المعتزلة من عصر الامام الصادق _ عليه السلام _ إلى عصر المفيد وبعدهم حتّى أنّ الشيخ المفيد وضع كتباً في نقد المعتزلة، كما وضع قبلهم بعض أئمة المتكلمين من الشيعة ردوداً على المعتزلة، فكيف يكون الشيعة ورثة للمعتزلة، نعم وأنّ القائل خلط مسألة الاتّفاق في بعض المسائل بالتبعية والاقتفاء، فالشيعة والمعتزلة تتفقان في بعض الاُصول، لا أنّ أحدهما عيال على الآخر .

13- قدماء الشيعة والعلوم الكونية:

لم يكن اتّجاه الشيعة مختصّاً بالعلوم العقلية كالكلام والفلسفة والمنطق،

____________________________

1 . الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تعريب محمّد عبدالهادي أبو ريدة 1 / 106 الطبعة الثالثة .

( 600 )

بل امتدّ نشاطهم وحركتهم الفكرية إلى العلوم الرياضية، والكونية، فتجد هذا النشاط بارزاً في مؤلّفاتهم طيلة القرون، ونحن نأتي هنا بذكر موجز عن مشاهير علمائهم ومؤلّفاتهم في القرون الاُولى تاركين غيرهم للمعاجم:

1- هشام بن الحكم (ت 199) له آراء في الاعراض كاللون والطعم والرائحة، وقد أخذ منه إبراهيم بن سيار النظام، وحاصل هذا الرأي أنّ الرائحة جزئيات متبخّرة من الأجسام تتأثّر بها الغدد الأنفية وأنّ الأطعمة جزئيات صغيرة

تتأثّر بها الحليمات اللسانية(1) .

2- إنّ بيت بني نوبخت بيت شيعي عريق، فقد قاموا بترجمة الكتب الفارسية إلى العربية وقد خدموا بذلك العلوم الكونية .

قال ابن النديم: آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده، وقال الأفندي في رياض العلماء: بنو نوبخت طائفة من متكلّمي الإمامية منهم .

الف _ أبو الفضل بن نوبخت قال ابن النديم: كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد، وقال ابن القطفي في تاريخ الحكماء: إنّه مذكور مشهور من أئمة المتكلمين وذكر في كتب المتكلمين وكان في زمن هارون الرشيد وولاّه القيام بخزانة كتب الحكمة، وهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني .

ب _ ولده إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت من متكلمي القرن الثالث .

ج _ يعقوب بن اسحاق بن أبي سهل بن نوبخت متقدم في الحكمة والكلام والنجوم(2) .

3- أبو علي أحمد بن محمّد بن يعقوب بن مسكويه، من أعيان الشيعة

____________________________

1 . عبداللّه نعمة: فلاسفة الشيعة 56 .

2 . العاملي: أعيان الشيعة 1 / 135 .

( 601 )

وأعلام فلاسفتهم، صنّف في علوم الأوائل وله تعليقات في المنطق ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة(1) .

4- من أشهر علماء الشيعة واقدمهم الذين برزوا بالكيمياء هو جابر بن حيان، فهو الّذي ظهر في حقل الكيمياء، وهو أوّل من أشار إلى طبقات العين قبل يوحنا بن ماسويه (ت 243) وقبل حنين بن إسحاق (ت 264) وأوّل من أثبت امكان تحويل المعدن الخسيس إلى الذهب والفضة، فلم تقف عبقريته في الكيمياء، عند هذا الحد بل دفعته إلى ابتكار شيء جديد في الكيمياء فأدخل فيها ما سمّاه بعلم الميزان، والمقصود منه معادلة ما في الأجسام والطبائع، وجعل لكل جسم من الأجسام، موازين خاصة(2) وقد اُلّفت حول جابر وعبقريته كتب

كثيرة، فمن أراد فليرجع إليها، وقد اتّفق الكل على أنّه تلميذ الامام الصادق _ عليه السلام _ .

5- الشريف أبوالقاسم علي بن القاسم القصري، وهو من علماء القرن الرابع، ذكره ابن طاووس في فرج المهموم في عداد منجّمي الشيعة(3) .

وهذه نماذج من علماء الشيعة في الطبيعيات والفلكيات، وأمّا المتأخّرون، فحدّث عنهم ولا حرج، وقد أتى بقسم كبير منهم الشيخ عبداللّه نعمة في كتابه «فلاسفة الشيعة» فمن أراد فليرجع، غير أنّا نذكر هنا المحقق الطوسي الّذي له حقّ على الاُمّة جمعاء تقول في حقّه المستشرقة الألمانية:

«وحصل نصير الدين الطوسي على مرصده، فكان معهداً لأبحاث لا مثيل له، وزوّده بالآلات الفلكية الّتي زادت في شهرة المعهد، ورفعت مكانته... ويحكى أنّ

____________________________

1 . محمّد باقر الخونساري: روضات الجنات 1 / 254 .

2 . فلاسفة الشيعة 1 / 57 .

3 . فرج المهموم .

( 602 )

زائراً قصد ابن الفلكي نصير الدين في مرصده في مراغه فلمّا رأى الآلات الفلكية المتنوعّة ذهل، وقد زاد دهشة حين رأى «المحلقة» ذات الخمس حلقات والدوائر من النحاس: اولاها تمثّل خطّ الطول الّذي كان مركّزاً في الأسفل، وثانيتها خطّ الاستواء، وثالثتها الخطّ الاهليلجي، ورابعتها دائرة خطّ الأرض، وخامستها دائرة الانقلاب الصيفي والشتوي، وشاهد أيضاً دائرة السمت الّتي يمكن للمرء بواسطتها أن يُحدّد سمت النجوم، أي الزاوية الناتجة على خطّ اُفقىّ ثابت وخطّ اُفقي آخر صادر عن كوكب في السماء .

وتقول أيضاً: إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد وسوريا وبلاد بابل، وقد استدعى علماء ذوي شهرة طائرة من اسبانيا ودمشق وتفليس والموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت يمكن»(1) .

ويناسب في المقام

ذكر اجمالي عمّا قدموا من الخدمة في مجال الجغرافية وعلم البلدان فنقول:

الجغرافية وتقويم البلدان:

نذكر في المقام، رحّالتين طافا في البلاد الإسلامية وكتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان، وقد صار كتاباهما أساساً للآخرين:

1- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي المتوفّى في أواخر القرن الثالث، فهو أوّل جغرافي بين العرب، وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته

____________________________

1 . السيدة زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب 133 والصحيح أن يسمى: شمس الإسلام...

( 603 )

الخاصة، ومتوخّياً قصد ما أراد من وصف البلد وخصائصها وهو يقول عن نفسه: انّه عنى في عنفوان شبابه، وحدّة ذهنه بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد، لأنّه سافر حديث السن واتّصلت أسفاره ودام تغرّبه، وقد طاف في بلاد المملكة الإسلامية كلّها، فنزل أرمينية وورد خراسان وأقام بمصر والمغرب بل سافر إلى الهند، وكان متى لقى رجلا سأله عن وطنه ومصره وعن زرعه ما هو؟ وساكنيه منهم؟ عرب أو عجم؟ وعن شرب أهله ولباسهم ودياناتهم ومقالاتهم من غير أن يلحقه من ذلك ملال ولا فتور، وقد وصف المملكة الإسلامية مبتدئاً ببغداد وصفاً منظّماً مع اصابة جديرة بالثقة والاعجاب(1) .

2- أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346) فقد ألّف في ذلك المضمار كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» وكتابه الآخر «التاريخ في أخبار الاُمم من العرب والعجم» وكتابه الثالث «التنبيه والاشراف» فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية وتقويم البلدان، وقد جرّه حُبّه للاستطاع إلى بلاد بعيدة، فكتب ما رآه وشاهده .

____________________________

1 . آدم متز: الحضارة الإسلامية 2 / 34 وكتاب اليعقوبي في الجغرافية هو كتاب «البلدان» المنتشر .

( 604 )

( 605 )

الفصل الثالث عشر في بلدان الشيعة وجامعاتهم

الفصل الثالث عشر في بلدان الشيعة وجامعاتهم العلمية

( 606

)

( 607 )

قد عرفت الخطوط العريضة في التشيّع وأنّه ليس شيئاً سوى الإسلام على أساس كون القيادة والخلافة _ بعد رحلة النبي _ لعلي _ عليه السلام _ وأهل بيته، كما تعرّفت على حياة الأئمّة الاثني عشر، وعلى عمالقة الفكر والعلم والفلسفة، والأدب والشعر، من شيعتهم، الذين شاركوا المسلمين في بناء حضارة قامت على العلم، والثقافة.

ولكن _ اكمالا للبحث _ نذكر بلدان الشيعة أوّلا، والجوامع والمعاهد العلمية الّتي أنشأوها ثانياً ودورهم ثالثاً وعددهم رابعاً. حتّى يتم التعرّف عليهم، على القدر المستطاع .

1- بلدان الشيعة:

تتواجد الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة وربّما يعدّ بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها ويكون المذهب السائد عليه هو التشيّع. وإليك أسماء بعضها وهي إيران، والعراق، والحجاز، والشامات، وتركيا، وأفغانستان، والباكستان، والهند، واليمن، ومصر، والامارات المتّحدة العربية، والبحرين، والاحساء، والقطيف، والكويت، ومسقط، وعمان، والتبت، والصين،

( 608 )

وجمهورية آذربايجان، وطاجيكستان والجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي، وماليزيا، وأندونيسيا، وسيلان، وتايلند، وسنغافورة، والأفريقية الشمالية، والصومال، والأرجنتين، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وألبانيا، والولايات المتّحدة، وكندا وغيرها ممّا يعسر عدّها .

ولا بأس بالإيعاز إلى خصوصيات بعض البلدان إذ فيه تسليط لبعض الضوء للتعرّف على ماضي التشيّع وما لاقه أتباعه من العدوان والويلات والمصائب .

التشيّع حجازي المحتد والمولد:

التشيّع حجازي المحتد والمولد، إذ فيه نشأ، وفي تربته غرست شجرته ثمّ نمت وكبرت، فصارت شجرة طيّبة ذات أغصان متّسقة وثمار يانعة. وفيه حثّ النبيّ الأكرم على ولاء الإمام وسمّى أولياءه شيعة، وحدّث بحديث الثقلين وجعل أئمة أهل البيت قرناء الكتاب في العصمة ولزوم الاقتفاء والطاعة، وفيه رقى النبىّ المنبر الّذي صنعوه من رحال الابل وأخذ بيد وصيّه وولي عهده عليّ المرتضى وحمداللّه وأثنى عليه وقال: «ألست أولى

بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقالوا: اللّهمّ بلى، ولمّا أخذ من الجمع المحتشد، الاقرار بأولويته على النفس والنفيس عرّف علياً خليفة عنه وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ونزل من المنبر ثمّ نزلت آيات، وتبودلت التهاني والتحيّات بين الامام والصحابة(1) .

وقد أشار إلى بعض ما ذكر مؤلّف خطط الشام وقال: «إنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ هو الّذي حثّ على ولاء علي وأهل بيته _ عليهم السلام _

____________________________

1 . لاحظ الفصل الثالث من هذا الجزء .

( 609 )

وهو أوّل من سمّى أولياءه بالشيعة وفي عهده ظهر التشيّع وسمّى جماعة بالشيعة(1) .

ولمّا ارتحل النبي الأكرم إلى دار البقاء تناسى اُولوا القوة والمنعة من الصحابة عهد النبي الأكرم فحالوا بين النبي واُمنيته كما حالوا بين اُمّته وإمامها، فتداولوا كرة الخلافة بينهم، وأخذوا بمقاليد الحكم واحداً بعد آخر، والإمام منعزل عن الحكم، لا عمل له إلاّ هداية الاُمّة وارشادها بلسانه وبيانه وقلمه وبنانه .

إنّ الّذي دعا عليّاً إلى السكوت والانحياز، هو مشاهدة ظاهرة الردّة، الطارئة على المجتمع الاسلامي عن طريق مسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة، واصحابهم الهمج الرعاع فكانوا مهتمّين بمحق الإسلام وسحق المسلمين. ويحدّث عنه الامام في رسالته إلى أهل مصر الّتي أرسلها مع مالك الأشتر يقول: «فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم»(2) .

رأى الامام أنّ صيانة الإسلام وردّ عادية الأعداء تتوقّفان على المسالمة والموادعة فألقى حبل الخلافة على غاربها، تقديماً للأهم على المهمّ، وتبعته شيعته صابرين

على مضض الحياة ومرّها .

بقي الامام منعزلا عن الحكم قرابة ربع قرن إلى أن قتل عثمان في عقر داره وانثال الناس إلى دار علي من كلّ جانب مجتمعين حوله كربيضة الغنم، يطلبون منه القيام بالأمر وأخذ مقاليد الحكم، وفيهم شيعته المخلصون الأوفياء، فلم ير بدّاً من

____________________________

1 . محمد كرد علي: خطط الشام 5 / 251 .

2 . الرضي: نهج البلاغة قسم الكتب برقم 62 .

( 610 )

قبول دعوتهم لقيام الحجة بوجود الناصر(1) .

ولمّا نكث الناكثون البيعة، وقادوا حبيسة رسول اللّه «عائشة»، معهم إلى البصرة، ارتحل الإمام بأنصاره وشيعته إلى العراق إلاّ قليلا بقوا في الحجاز لقلع مادة الفساد قبل أن تستفحل، ولمّا قلع عين الفتنة، استوطن الإمام الكوفة واستوطنها معه شيعته وصارت الكوفة عاصمة التشيّع، ومعقله، وفيها نما وأينع وأثمر ومنها انحدر إلى سائر البلدان، بعدما كان الحجاز مهبط التشيّع ومغرسه ومحتده. فكان حجازي المحتد والمغرس عراقي النشوء والنمو. ولم يكن يوم ذاك يتظلّل في ظلال التشيّع، إلاّ عربي صميم، من عدنانيّ وقحطانيّ ولم يكن بينهم فارسىّ المحتدّ ولا بربرىّ الأصل ولا شعوبىّ العقيدة .

ومضت على التشيّع في مغرسه (الحجاز) قرون ومرّت به أجواء قاسية، وظروف رهيبة كادت تقضي على الشيعة _ مع ذلك _ نرى اليوم تواجدهم في مكة والمدينة وحضرموت ونجران، الحدود اليمنية، وقبائل الأطراف رغم العدوانية السائدة في هذه الآونة الأخيرة ضدّهم ورغم سيادة السيف والوحشية الكاسرة فيها، فبنو جهم، وبنو علي، وبعض بني عوف، ونخاولة المدينة والفلاحون في رساتيقاها كلّهم شيعة .

وأمّا المنطقة الشرقية كالاحساء والقطيف والدمّام، فالأكثرية الساحقة فيها هي الشيعة، ولأجل سحق هذه الأكثرية عمدت السلطة الوهابية بزرع السنّة في بلادهم باستيطان بعض القبائل والموظفين فيها واللّه من وراء

القصد .

____________________________

1 . إشار إلى قوله _ عليه السلام _ : «أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر... لأقيت حبلها على غاربها» نهج البلاغة، الخطبة 3 .

( 611 )

التشيّع عراقيّ النشوء والنموّ:

قد عرفت أنّه لمّا غادر الامام المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى العراق واستوطن الكوفة هاجر كثير من شيعته معه واستوطنوا العراق، فصار ذلك أقوى سبب لنشوء التشيّع ونموّه، في العراق ولا سيما في الكوفة، فصارت معقل الشيعة، ولمّا قضى الامام نحبه حاولت السلطة الاموية وعمّالها استئصال التشيّع منها بأبشع صورة مذكورة في التاريخ.

بالرغم من أنّ العراق وأخص منه الكوفة كان علوي النزعة هاشمي الولاء، إلاّ أنّ الحسين، ابن الإمام قتل بسيف الكوفيين، وسقط عطشاناً وحوله أجساد أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه ولكن ذلك لا يدل على انسلاخهم عن التشيّع لأنّ الشيعة يوم ذاك كانوا بين مسجون في زنزانات الامويين، ومرعوب فاقد للتصميم والحميّة وخاذل، ومنتظر لما تؤول إليه الاُمور، وناصر التحق بالحسين في اُحلك الظروف .

هؤلاء هم الشيعة .

وأمّا الذين شاركوا في قتل الحسين فلم يكونوا من الشيعة أبداً بل كانوا أتباع الامويين والمنضوين تحت راياتهم. ولمّا قتل الحسين أثار قتله أعمق الأشجان وأعنف العواطف في الشيعة وبعد اطلاق سراح المسجونين قاموا بجد وحماس بأخذ الثار بقيادة المختار، باكين ليلا ونهاراً على ما أصاب الحسين من مصيبة.

وقد حاول الامويون جعل العراق أموياً، وبذلوا جهودهم، لكن عادت الجهود فاشلة فهو إلى اليوم هاشمي وعلوي وحتّى أنّ دعوة العباسيين نجحت في بداية الأمر في العراق فى ظل طلب ثأر الحسين وأهل بيته وكانت الدعوة للرضا من آل محمّد .

تبلور التشيّع بعد حادثة الطف بقليل واتّسع نطاقه وصار العراق مركزه، وكانت القوافل من

أنحاء العراق وغيرها تؤمّ قبر الحسين _ عليه السلام _ وأصحابه،

( 612 )

فصارت مشاهد أهل البيت فيها معمورة بالزائرين والمجاورين، وكانت المآتم تقام في حواضرها واتّخذت الشيعة مشاهد أئمّتهم، حوزات علمية ومعاهد فكرية، فازدهر العراق بعمالقة الفكر، وأساتذة الفقه وأساطين الكلام، وأعان على نشر التشيّع ونموّه في العراق نشوء دول وإمارات للشيعة في القرن الرابع وما بعده .

يقول الشيخ المظفر: وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وإمارات كسلطنة آل بويه، وامارة بني مزيد في الحلّة والنيل، وبني شاهين في البطائح، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل، ونصيبين، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك امارات عليه إلاّ أنّه لم يصارح به، وكدولة الجلائرية الّتي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قواد المغول وابن اُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده، وكانت بغداد عاصمة ملكه، وكالدولة الصفوية الّتي ناصرت التشيّع ونشرته في البلاد بشتّى الطرق، فكانّما هي دولة دينية تأسّست لنشر مذهب أهل البيت .

وأيّد مذهب التشيّع أيضاً أن انعقدت عدّة وزارات من رجاله فقد استوزر السفاح أوّل ملوك بني العباس: ابا سلمة الخلال الكوفي الهمداني داعية أهل البيت وقتله على التشيّع. واستوزر المنصور: محمّد بن الأشعث الخزاعي. واستوزر المهدي: أبا عبداللّه يعقوب بن داود وحبسه لتشيّعه. واستوزر الرشيد: علي بن يقطين، وجعفر بن الأشعث الخزاعي. والمأمون: الفضل بن سهل ذا الرياستين لجمعه بين القلم والسيف وقتله عند ما أحسّ بميله إلى الرضا _ عليه السلام _ . واستوزر من بعده أخاه الحسن بن سهل. واستوزر المعتزّ والمهتدي: أبا الفضل جعفر بن محمود الاسكافي. واستوزر المقتدى: أبا شجاع ظهر الدين محمّد بن

الحسين الهمداني وعزله لتشيّعه. واستوزر المستظهر: أبا المعالي هبة الدين بن محمّد بن المطلب

( 613 )

وعزله لتشيّعه ثمّ أعاده على أن لا يخرج من مذهب أهل السنّة ثم تغيّر عليه وعزله، واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر: مؤيد الدين محمّد بن عبدالكريم القمي من ذرية المقداد _ رضوان اللّه عليه _ واستوزر المستعصم آخر ملوك بني العباس: أبا طالب محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي وأقرّه هولاكو على الوزارة، ولمّا مات _ رحمه الله _ استوزر: ولده أبا الفضل عز الدين، إلى ما سوى هؤلاء .

وأمّا الإمارات، والقيادات، والكتابة، والخزانة، فما أكثرها، أمثال امارة آل قشتمر، آل أبي فراس الشيباني، وآل دبيس كما أشرنا إليهم، وقيادة طاهر بن الحسين الخزاعي وقيادة أولاده كابنه عبد الله، ومحمّد بن عبداللّه وغيرهما، وتولّيهم امارة هرات، وكان عبداللّه بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان من ثقاة الرواة لأبي عبداللّه الصادق _ عليه السلام _ ، إلى ما يعسر استقصاؤه .

وكفاك برهاناً على أنّ التشيّع كان ضارباً أطنابه على بسيطة العراق، ما كان من نقابة الطالبيين في بغداد، فما أكثر ما كان يتولاّها الشيعة، أمثال الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى، وقد تولّوا المظالم أيضاً، وتولّى الشريف الرضي وأبوه أيضاً امارة الحاج، كما تولاّها ثلاث عشرة حجة حسام الدين أبو فراس جعفر بن أبي فراس الشيباني .

وتولّى آل طاووس نقابه الطالبيين في العراق عامة، تولاها منهم السيدان العلمان رضي الدين وغياث الدين عبدالكريم(1) كما تولّى الأوقاف في العراق

____________________________

1 . اُنظر _ الحوادث الجامعة _ في حوادث عام 661 وما ذكره فيها من تولّي السيد رضي الدين بن طاووس نقابة الطالبيين بالعراق، وذكر أنّ وفاته عام 664، وفي حوادث عام 693 قال:

وفيها توفّي النقيب غياث الدين عبدالكريم بن طاووس .

( 614 )

وغيرها ممّا كان تحت حكم المغول الخواجا نصير الدين الطوسي _ طاب ثراه _، وعندما قبض عليها، أقام ببغداد وتصفّح الأوقاف وأدار أخبار الفقهاء والمدرسين وقرر القواعد في الوقف وأصلحها بعد اختلالها(1) ومن بعده تولاّها ابنه أحمد فخر الدين، ولمّا وليها حذف الحصة الديوانية في الوقوف، ووفرت على أربابها(2) .

ثمّ إنّ شيخنا المظفر _ وهو عراقي المحتد والمنشأ _ عارف بخصوصيات بلده وما جرى على الشيعة فيها طيلة القرون خصوصاً بعد ما نشبت فيها مخالب آل عثمان، خرج بالنتيجة التالية:

«انّ جنوب العراق شيعة خالصة ولو وجد فيه غيرهم فهو نادر وأمّا البلاد الشمالية، فسكّانها على العموم من أهل السنّة إلاّ أنّ الشيعة فيها ليسوا بالقليل، ولو أمنوا الغوائل من اظهار هم لولاء أهل البيت، كما يأمن العدد القليل من أهل السنّة في الجنوب، لعجبت من كثرتهم في تلك البلاد لا سيما في لواء الموصل وكركوك.

وأمّا البلاد الوسطى كالحلّة فهي شيعية خالصة سوى افراد معدودين في نفس القصبة، ولواء بغداد فأكثريته من الشيعة، ومثله لواء ديالى، بعكس لواء الديلم ففيه من الشيعة عدد قليل. وعليه، فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة وفيها شوب من غيرهم، وخمسة سنّة وفيها خليط من الشيعة ولواءان مختلطان يغلب التشيع عليهما، هذا ما يعرفه المستقرئ، لبلاد العراق .

ومن ثمّ لا نحتاج إلى استقراء لجميع بلاد الجنوب أمثال الكوت والعمارة والغرّاف وما سواها من بلاد دجلة، والسماوة والديوانية والناصرية وما سواها من

____________________________

1 . اُنظر تاريخ _ مختصر الدول _ للعبرى 500 و _ الحوادث الجامعة _ في حوادث عام 272 .

2 . اُنظر _ الحوادث الجامعة _ في حوادث عام 683 .

(

615 )

بلاد الفرات(1) .

الشيعة في اليمن:

دخل التشيّع في اليمن منذ أن أسلموا بيد علي _ عليه السلام _ يحدثنا التاريخ انّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بعث خالد بن الوليد إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام فأقام هناك ستة أشهر فلم يجيبوه إلى شيء. فبعث النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ وأمره أن يرجع خالد بن الوليد ومن معه. قال البراء: فلمّأ انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فجمعوا له فصلّى بنا علىّ الفجر، فلمّا فرغ صفّنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فحمداللّه واثنى عليه ثمّ قرأ عليهم كتاب رسول اللّه فأسلمت همدان كلّها في يوم واحد وكتب بذلك إلى رسول اللّه، فلمّا قرأ كتابه خرّ ساجداً ثمّ جلس فقال: السلام على همدان، السلام على همدان ثمّ تتابع أهل اليمن على الاسلام(2) فكان تمسّكهم بعرى الإسلام على يد علي وصار هذا أكبر العوامل لصيرورتهم علويين مذهباً ونزعة. وفي ظل هذه النزعة ضحّوا بأنفسهم ونفيسهم بين يدي علي في حروبه .

أضف إليه أنّهم سمعوا من المصطفى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فضائل إمامهم ومناقبه غير مرّة وهذا ممّا زادهم شوقاً وملأ قلوبهم حبّاً وولاءً له، روى المحدثون: انّ اليمانيين طلبوا من النبي أن يبعث إليهم رجلا يفقّههم في الدين ويعلّمهم السنن ويحكم بينهم بكتاب اللّه، فبعث النبي علياً وضرب على صدره وقال: «اللّهمّ اهد قلبه، وثبّت لسانه». قال الامام _ عليه السلام _ : فما شككت في قضاء بين اثنين حتى

____________________________

1 . محمّد حسين المظفر: تاريخ الشيعة 69 _ 71 و 110 _ 111 .

2 . ابن الأثير: الكامل

2 / 300 في حوادث السنة العاشرة. دار صادر .

( 616 )

الساعة(1) .

بقى بينهم مدّة يفقّههم في الدين، ويقضي بكتاب اللّه، ويحلّ المشاكل القضائية، بما يبهر العقول .

انّ هذا وذاك، والقتل الذريع الّذي ارتكبه عمّال معاوية كبسر بن أرطاة، سبّب اتّجاه اليمانيين نحو صاحب الولاية من يومهم إلى يومنا هذا وقد خامر التشيّع قلوبهم وعقولهم ولأجل وجود أواصر الحبّ والولاء بين اليمانيين والامام علي _ عليه السلام _ ذكرهم علي في شعره وقال:

فلو كنت بوّاباً على باب جنّة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وممّا يدل على فرط حبّهم وولائهم لعلي _ عليه السلام _ ما قاله سيدهم سعيد بن قيس الهمداني _ رضوان اللّه عليه _ في وقعة الجمل:

قل للوصي أقبلتْ قَحْطانُها * فادع بها تكفيكها هَمْدانُها

همُ بنوها وهمُ اخوانها(2)

نعم رحل يحيى بن الحسين الرسي العلوي من العراق إلى اليمن في القرن الثالث ودعا إلى المذهب الزيدي في ظل ولاء أهل البيت وأخذ بمجامع القلوب وانتشرت دعوته فانتموا إلى زيد، فالشيعة إلى اليوم في اليمن زيديّو المذهب يهتفون في الأذان ب_ «حيّ على خير العمل» .

ويوجد هناك شيعة إماميون قليلون .

كانت الحكومة منذ دعوة الرسي العلوي بيد الزيدية وكان آخر حاكم مقتدر زيدي يحكم البلاد هو حميد الدين يحيى المتوكّل على اللّه، ولمّا اغتيل هو وولداه

____________________________

1 . كنز العمال 6 / 158 و 392 باب فضائل علي .

2 . ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 / 144 _ 145 .

( 617 )

الحسن والمحسن، وحفيده الحسين بن الحسن بيد بعض وزرائه عام 1367 ه_ ق في ظل مؤامرة أجنبية، قام مكانه ولده الامام بدر الدين ولم يكن له نصيب من الحكم إلاّ مدّة قليلة حتّى اُزيل

عن الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وبذلك انتهى الحكم الزيدي في اليمن ولكن اليمنيين بقوا على انتمائهم إلى التشيّع. نعم إنّ السلطة الوهابية في هذه الآونة بصدد تصدير التوهّب وفرضها عليها في ظل تزويد الدولة بامكانيات مالية .

واللّه من وراء القصد...

الشيعة في سوريا ولبنان:

ظلّ التشيّع سائداً في الشام وحلب وبعلبك وجبل عامل منذ القرن الأوّل إلى يومنا هذا، ومن المعروف انّ أباذر هو الّذي بذر بذرته، أو غرس شجرته عندما نفاه عثمان من المدينة إلى الشام، وكان يجول في الشام وضواحيه وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من دون أن يخاف قوّة أو سطوة، أو إهانة أو قسوة، وطبع الحال يقتضي أن يبوح بما انطوت عليه جوانحه من الولاء لعلي وأهل بيته، يدعو له على القدر المستطاع، وقد نمت البذرة في ظل التستّر والتقيّة وأمّا اليوم فالشيعة مجاهرون ولهم شأن عند الدولة ولهم مظاهر في الشام وضواحيه، ترى اسم علي والحسين مكتوبين تحت قبّة المسجد الأموي، وفي الجانب الشرقي مسجد خاص باسم راس الحسين وفي نفس البلد قباب مشيّدة لأهل البيت وفي الوقت نفسه لاتجد أثراً لمعاوية(1) ويزيد والحكام الأمويين. إنّ في ذلك لعبرة لاُولي الألباب .

____________________________

1 . نعم في داخل البلد بيت يقال فيه قبر معاوية لا يزوره أحد إلاّ للعبرة، والاطّلاع على ما آل إليه أعمال الامويين من مصير بائس بعد مماتهم.

( 618 )

قويت شوكة التشيّع في سوريا حين ما قامت دولة الحمدانيين في الشام والجزيرة فلسيف الدولة أيدي بيضاء في رفع منارة التشيع، كيف وأبو فراس صاحب القصيدة الميمية هو ابن عمّه الّذي يقول:

الحق مهتضم والدين مخترم * وفيء آل رسول اللّه مقتسم

وأمّا جبل عامل فقد انتشر فيه التشيّع منذ دخل إلى

الشام، وقد خرج منها علماء طبقوا البلاد شهرة وصيتاً أخص منهم بالذكر:

1- محمّد بن مكي المعروف بالشهيد الأول (734 _ 786) وكان إماماً في الفقه ولكنّه صلب بيد الجور، ثمّ رجم، ثمّ اُحرق، بذنب أنّه شيعيّ موال لأهل البيت ولا يفتي بفتوى أئمّة المذاهب الأربعة .

وله كتب فقهية أشهرها اللمعة الدمشقية ألّفها في السجن خلال اسبوع ولم يكن عنده من الكتب الفقهية سوى المختصر النافع للمحقّق الحلّي (600 _ 676) .

2- زين الدين بن علي الجبعي (911 _ 966) صاحب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية والمسالك في شرح الشرائع الّذي يتضمّن مجموع الكتب الفقهية مع ذكر المستند والدليل. وهو قدس اللّه سرّه استشهد قرب شاطئ البحر وفصل رأسه عن جسده واُرسل إلى السلطان. ولا ذنب له إلاّ كذنب الشهيد الأوّل .

ولعمري الحق أنّ هذه المواقف من الحكومات السنّية عبر القرون، تقشعرّ منها الجلود، ويندى منها جبين الإنسانية ويرفضها الدين والعقل فأين الكرامة والحرّية؟ أين السماحة، والرأفة؟

أقول: إذا كان هذا مصير الشيعة مع كونهم سائرين خلف حُجب التقية، فما ظنّك لو لم يتّخذوا من التقيّة ستارا؟

ولقد خرج من جبل عامل وراء هذين الشخصين علماء كبار، فقهاء عظام ولم يزل منار التشيّع مرتفعاً ولواؤه خفّاقاً بهم، ولقد تحمّلوا عبر القرون وخصوصاً في

( 619 )

عهد السلطة العثمانية، المصاعب الجسام والّتي ذكرها التاريخ واقرأ في هذا المجال جرائم أحمد باشا الجزّار، ممثّل الدولة العثمانية في بلاد الشام من (1195 _ 1198). ولقد ألّف الشيخ الحرّ العاملي كتاباً أسماه أمل الآمل في علماء جبل عامل طبع في جزأين واستدرك عليه السيد الجليل حسن الصدر .

بعلبك: إنّ بعلبك تعد من المدن الشيعية العريقة ولقد ظهر بها التشيّع منذ دخل بلاد

الشام وراج في ظلّ الدولة الحمدانية. والعيشة فيها كالعراق، عيشة قبليّة وأهلها معروفون بالبسالة والبطولة والجود والكرم .

الشيعة في مصر:

دخل التشيّع مصر في اليوم الّذي دخل فيه الإسلام ولقد شهد جماعة من شيعة عليّ فتح مصر منهم المقداد بن الأسود الكندي، وأبو ذر الغفاري، وأبو رافع، وأبو أيوب الأنصاري، وزارها عمّار بن ياسر في خلافة عثمان(1) وهؤلاء ما كانوا يبطنون فكرة التشيّع الّتي كانوا يؤمنون بها منذ عهد رسول اللّه .

ولأجل ذلك حين قتل عثمان باجهاز المصريين عليه، بايعوا عليّاً كما بايع أهلها طوعاً ورغبة .

لمّا بعث علي قيس بن سعد أميراً على مصر بايع أهلها طوعاً إلاّ قرية يقال لها خربتاء(2) .

كان هذا نواة لمذهب التشيّع في تلك البلاد وإن تغلّب عليها الأمويون بعد علي، وقتل عمرو بن العاص والي علي محمّد بن أبي بكر. وجعلوا جثّته في جيفة

____________________________

1 . الخطط المقريزية 2 / 74 .

2 . الخطط المقريزية 4 / 149، الجزري: الكامل 3 / 61 حوادث عام 36 .

( 620 )

حمار وأحرقوه بالنار ولكن للحق دولة وللباطل جوله، فهذه الأعمال الاجرامية وما ارتكبه العباسيون من الجرائم صارت سبباً لابتعاد الناس عن السلطات وتعاطفهم مع العلويين، خصوصاً عندما ذهب إليها بعض السادة الحسنيين، إلى أن قامت دولة الفاطميين وبثّوا الدعاة في أفريقيا فاعتنق المصريون التشيّع برغبة وجهروا بحيّ على خير العمل. وتفضيل عليّ على غيره، وكما جهروا بالصلاة على النبي وآله .

لقد قامت في عهد الفاطميين مراسم عاشوراء وعيد الغدير، ولم تزل هذه المراسم إلى يومنا هذا. وكان التشيّع مخيّماً على مصر في عهد الفاطميين وضارباً أطنابه في القرى والبلدان لولا أنّ صلاح الدين يوسف الأيوبي أزال سلطتهم ومذهبهم من مصر بقوّة السيف

والنار .

وهذه الصفحة في تاريخ مصر صفحة مليئة بالأسى والحزن ومع ذلك تتواجد في هذه الأيام الشيعة، وأمّا السنّة فهم علويون روحاً وعاطفة يتفاخرون بالحب والميل لأهل البيت ويعبّرون عن ذلك بزيارتهم للمشاهد المعروفة برأس الحسين ومرقد السيدة زينب والسيدة سكينة .

وبذلك يعلم حال التشيّع بأفريقيا الشمالية فانّ حكومة الفاطميين امتدّت إلى الجزائر ومراكش وتونس وليبيا والسودان، أضف إلى ذلك انّ كثيراً من العلويين ارتحلوا إلى تلك البلاد وأسّسوا دويلات وكان ذلك سبباً لانتشار التشيّع .

الشيعة في إيران:

إنّ التشيّع هو المذهب الساحق في إيران من أوائل القرن العاشر (905) إلى يومنا هذا انّ الدولة الصوفية هم الذين أشاعوا التشيّع في إيران، بعد ملوك المغول فلو كان نجاح الثاني قليلا، كان نجاح الصفوييين كبيراً، فلو بلغ عدد النفوس في إيران الإسلامية قرابة ستين مليوناً، فالأكثرية هم الشيعة، ولا تتجاوز سائر الطوائف عن

( 621 )

أربع ملايين والجميع يعيشون في حرّية وسلام. يلمسها كل من ورد الجمهورية الإسلامية .

إنّ هنا اُموراً لا محيص، عن طرحها وتحليلها لأنّها من المواضع الّتي كثر فيها اللغط وقد أكثر المستشرقون وغيرهم فيها الصخب والهياج وهي:

1- ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الاسلام؟

2- ما هو السبب الحقيقي لجنوحهم إلى آل البيت؟

3- سببان مزعومان: الاصهار، وإرادة هدم الإسلام وإليك تحليل تلك النقاط .

1- ما هو السبب لدخول الفرس في الإسلام

إنّ الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب والعلّة في الجميع واحدة أو متقاربة وحاصلها أنّهم وقفوا على أنّ في هذه الشريعة الغرّاء، من سمات العدل والمساواة، ورفض التمييز العنصري، والنظام الطبقي، وأنّ الناس فيه كأسنان المشط لافضل لعجمي على عربي، ولا لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى، وكانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجّرها رايات

العدل، وكان ذلك هو الدافع المهم للشعوب للدخول في الإسلام والانضواء تحت رايته، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب.

2- ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت:

إنّ السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنّهم شاهدوا أنّ علياً وأهل بيته _ خلافاً للخلفاء عامتهم _ يكافحون فكرة القومية ويطبّقون المساواة فأخذوا يتحنّنون إليهم حيناً بعد حين، وشبراً بعد شبر، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في

( 622 )

قلوب بعضهم، يرثه الأبناء من الآباء وإن لم يكن الحب _ يوم ذاك _ ملازماً للقول بخلافتهم عن الرسول وامامتهم بعده، بل كان حبّاً وودّاً خالصاً لأسباب نفسية لا قيادية، ويدل على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها .

1- روى الفضل بن أبي قرة عن الامام الصادق _ عليه السلام _ قال: أتت الموالي أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ فقالوا: نشكوا إليك هؤلاء العرب. انّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان يعطينا معهم العطايا بالسوية وزوّج سلمان، وبلالا وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء، وقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ فكلّمهم فيهم فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إنّ هؤلاء قد صيّروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوّجون إليكم ولا يزوّجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتَّجروا بارك اللّه لكم، فانّي قد سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: الرزق عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها(1) .

2- روى أبو إسحاق ابراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي في غاراته: عن عباد ابن عبداللّه الأسدي، قال: كنت جالساً يوم الجمعة، وعلي _ عليه

السلام _ يخطب على منبر من آجر، وابن صوحان جالس فجاء الأشعث فقال: يا أميرالمؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك، فغضب، فقال ابن صوحان: ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفي، فقال علي _ عليه السلام _ : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة يقبل أحدهم يتقلب على حشاياه، ويهجِّد قوم لذكر اللّه، فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين؟ والّذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت محمّداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: ليضربنّكم واللّه على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً.

____________________________

1 . الكليني: الكافي 5 / 318 .

( 623 )

قال مغيرة: كان علي _ عليه السلام _ أميل إلى الموالي وألطف بهم، وكان عمر أشدّ تباعداً منهم(1) .

3- روى ابن شهر آشوب: لمّا ورد بِسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء، وأن يجعل الرجال عبيد العرب، وعزم على أن يحملوا العليل والضعيف، والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم، فقال أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ : إنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: أكرموا كريم قوم، وإن خالفوكم، وهؤلاء الفرس حكماء كرماء، فقد ألقوا إلينا بالسلم، ورغبوا في الإسلام وقد أعتقت منهم لوجه اللّه حقّي وحقّ بني هاشم، فقالت المهاجرون والأنصار: وقد وهبنا حقّنا لك يا أخا الرسول اللّه فقال: اللّهمّ فاشهد انّهم قد وهبوا، وقبلت وأعتقت، فقال عمر: سبق إليها علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ ونقض عزمتي في الأعاجم(2) .

4- روى الصدوق عن الامام الصادق، قال: قال رجل له: إنّ الناس يقولون: من لم يكن عربياً صلباً، أو مولى صريحاً، فهو سفلي فقال: وأي شيء المولى الصريح، فقال له الرجل: من ملك أبواه،

فقال: ولم قالوا هذا؟ قال: يقول رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مولى القوم من أنفسهم فقال سبحان اللّه: أما بلغك أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: أنا مولى من لا مولى له، أنا مولى كل مسلم، عربيها وعجميها، فمن والى رسول اللّه أليس يكون من نفس رسول اللّه؟ ثمّ قال: أيّهما أشرف، من كان من نفس رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو من كان

____________________________

1 . الثقفي الغارات 340 طبع بيروت، الحمراء: الموالي، الضياطرة جمع الضياطر: الضخام الذين لا عناد عندهم.

2 . ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 4 / 48 .

( 624 )

من نفس أعرابي جلف بايل على عقبيه؟ ثمّ قال: من دخل في الإسلام رغبة، خير ممن دخل رهبة، ودخل المنافقون رهبة، والموالي دخلوا رغبة(1) .

5- روى الفضل بن شاذان (ت 260) أنّ عمر بن الخطاب نهى عن أن يتزوّج العجم في العرب وقال: لأمنعنّ فروجهنّ إلاّ من الأكفّاء(2) .

6- روى المفيد أنّ سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ دخل مسجد رسول اللّه ذات يوم فعظّموه وقدّموه وصدّروه اجلالا لحقّه، واعظاماً لشيبته واختصاصه بالمصطفى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فدخل عمر فنظر إليه، فقال: من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب؟ فصعد رسول اللّه المنبر وخطب، فقال: إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى، سلمان بحر لا ينزف، وكنز لا ينفذ، سلمان منّا أهل البيت، سلسل يمنح الحكمة ويؤتي البرهان(3) .

7- روى الثقفي في «الغارات» عن مغيرة أنّه قال: كان علي أميل

إلى الموالي وألطف بهم، كان عمر أشد تباعداً منهم(4) .

8- وروى أيضاً: إنّ امرأتين أتتا علياً _ عليه السلام _ عند القسمة، إحداهما من العرب، والاُخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً، وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أميرالمؤمنين! إنّي امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال علي _ عليه السلام _ إنّي لا أجد لبني إسماعيل في هذا

____________________________

1 . الصدوق: معاني الأخبار كما في سفينة البحار 2 مادة ولى .

2 . الايضاح 280 .

3 . المفيد: الاختصاص 341 .

4 . الغارات 46 .

( 625 )

الفيء فضلا على بني إسحاق(1) .

9- روى المفيد عن ربيعة وعمارة وغيرهما: انّ طائفة من أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى معاوية، طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا له: يا أميرالمومنين اعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب، وقريش على الموالي والعجم، ومن يخاف خلافه عليك من الناس، وفراره إلى معاوية، فقال لهم أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللّه ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم(2) .

10- روى المبرد: قال الأشعث بن قيس لعلي بن ابي طالب _ رحمه اللّه _ وأتاه يتخطّى رقاب الناس وعلي على المنبر، فقال: يا أميرالمؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك، قال: فركض على المنبر برجله، فقال صعصعة بن صوحان العبدي: ما لنا ولهذا؟ _ يعني الأشعث _ ليقولن أميرالمؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر، فقال علي: من يعذرني من هذه الضياطرة يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار، ويهجر قوم للذكر، فيأمرني أن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون فأكون

من الجاهلين، والّذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً(3) .

هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجّه الفرس والموالي إلى آل البيت وأنّه لم يكن إلاّ لصمودهم في طريق تحقيق العدل والمساواة، والمكافحة

____________________________

1 . الغارات 341 .

2 . المفيد: المجالس 57 طبع النجف .

3 . الكامل 2 / 53 طبع مصر سنة 1339 ه_ .

( 626 )

ضد العنصرية .

1- هل الاصهار كان سبباً للولاء:

روى الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره: انّ الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فباعوا السبايا وأمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الامام علي: «إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن» فقال الخليفة: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: «يقوّمن ومهما بلغ ثمنهنّ قام به من يختارهنّ «فقوّمن فأخذهنّ» علي فدفع واحدة لعبداللّه بن عمر واُخرى لولده الحسين واُخرى لمحمّد بن أبي بكر، فأولد عبداللّه بن عمر ولده سالماً، وأولد الحسين زين العابدين، وأولد محمّد ولده القاسم، فهؤلاء أولاد خالة واُمّهاتهم بنات يزدجرد(1) .

وقد استند إلى هذه القصة أحمد أمين في فجر الإسلام والدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للاسلام(2) وذهبا إلى أنّ الاصهار صار سبباً لتشيّع الفرس .

نحن لا نقوم حول هذه القصة وأنها هل هي صادقة أو ممّا وضعها أصحاب الأساطير، وكفانا لتكذيب هذه القصة من رأسها ما ألّفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي(3) ولو وقفنا إلى جانب هذه القصة وسلمنا بها نسأل: أيّ صلة بين دخول الفرس في التشيّع ومصاهرة الامام الحسين يزدجرد، فلو كانت تلك علّة فليكن تسنّن

____________________________

1 . ربيع الأبرابر .

2 . التاريخ الإسلام السياسي 2 / 7 .

3 . الامام علي بن الحسين

_ باللغة الفارسية _ .

( 627 )

الفرس لاصهار عبداللّه بن عمرو ومحمّد بن أبي بكر لهم، فانّ الرجلين من أبناء الخليفتين، على أنّ هناك من الخلفاء الاُمويين والعباسيين ينسبون من جانب الاُم إلى البلاط الايراني، والحق أنّ تفسير إنتماء التشيّع وجنوحهم إلى آل البيت على هذا الحدث منطق ضئيل أشبه بمنطق الصبيان .

3- إرادة هدم الإسلام :

دخل الفرس في المذهب الشيعي وتستّر بحب أهل البيت لغاية هدم الإسلام تحت ذلك الغطاء وقد اعتمد عليه أحمد أمين وقال: والحق أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد ادخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته، كل هؤلاء كانوا يتّخذون حبّ أهل البيت ستاراً(1) .

وقد استغلّ الفكرة الكاتب الأمريكي «لو تروب ستودارد» في كتابه «حاضر العالم الاسلامي» الّذي نقله إلى العربية الأمير شكيب أرسلان، وتجد الفكرة أيضاً عند صاحب المنار ومحبّ الدين الخطيب وغيرهم من كتّاب العصر .

وهذا الكلام أشبه بكلام من أعمى اللّه بصره وبصيرته، فإنّ من نظر إلى تاريخ الفرس وجد أنّهم خدموا الإسلام بنفسهم ونفيسهم وأقلامهم وآرائهم من غير فرق بين الشيعي والسنّي، وهؤلاء أصحاب الصحاح فانّ أكثرهم فارسي الأصل والمنشأ فقد نصّ من بينهم على أنّ مسلم بن الحجاج القشيري عربي وما عداه فارسي، وقد كفانا في ذلك كتب الرجال والتراجم. على أنّ المذهب السائد بين الفرس يوم أسلموا، إلى أوائل القرن العاشر، كان هو التسنّن فلو كانت الفرس أسلموا لغاية هدم الاسلام

____________________________

1 . فجر الإسلام: فصل الشيعة .

( 628 )

فقد تستروا بالسنّة لا بالشيعة .

دول الشيعة:

حاول الأمويون القضاء على التشيّع وأراد العباسيّون الوقوف في وجه انتشاره

بعد اليأس عن استئصاله. ولكن نما وازدهر عبر القرون بالرغم من تلك العوائق بل قامت لهم هنا وهناك دول ودويلات نظير:

1- دولة الأدراسة في المغرب 194 _ 305 .

2- دولة العلويين في الديلم 205 _ 304 .

3- دولة البويهيين في العراق وما يتّصل به من بلاد فارس 321 _ 447 .

4- دولة الحمدانيين في سوريا والموصل وكركوك 293 _ 392 .

5- دولة الفاطميين في مصر 296 _ 567 .

6- دولة الصفويين في إيران 905 _ 1133 .

7- دولة الزنديين 1148 _ 1193 .

8- دولة القاجاريين 1200 _ 1344.

أضف إلى ذلك وجود امارات للشيعة في نقاط مختلفة .

إنّ افاضة القول في مؤسّسي هذه الدول وترجمة أحوالهم وما آل إليه مصيرهم يحوجنا إلى تأليف كتاب مستقل في ذلك(1) فنترك المقال في ذلك فعلى القرّاء مراجعة الكتب المؤلفة في هذه المواضيع .

____________________________

1 . ومن أراد الالمام على وجه الايجاز فعليه الرجوع إلى كتاب «الشيعة والتشيّع» للكتاب القدير محمّد جواد مغنية _ رضوان اللّه عليه _ .

( 629 )

الجامعات العلمية للشيعة:

الإسلام دين العلم والمعرفة، دفع الإنسان من حضيض الجهل والاُمّية إلى أعلى مستويات العلم والكمال من خلال تشجيعه على القراءة والكتابة(1)، والتدبّر في آثار الكون ومظاهر الطبيعة ونبذ التقليد في تبنّي العقيدة فأراد للانسان حياة نابضة بالفكر والثقافة.

وقد كانت للشيعة خلال القرون الماضية جامعات وحوزات علمية نشير إلى بعضها اجمالا:

1 _ المدينة المنورة :

إنّ المدينة المنوّرة هي المنطلق العلمي الأوّل، لنشر العلم والثقافة فهي المدرسة الاُولى للمسلمين نشأ فيها عدّة من الأعلام من شيعة أمير المؤمنين وعلى رأسهم ابن عباس حبر الاُمّة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وأبو رافع. الّذي هو من خيار شيعة الامام علي مؤلّف كتاب السنن

والأحكام والقضاء(2) وغيرهم .

جاءت بعدهم طبقة من التابعين تخرّجوا من تلك المدرسة على يد الامام علي بن الحسين زين العابدين _ عليهما السلام _ ولقد روى الكليني عن الامام الصادق أنّه قال: كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمّد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من

____________________________

1 . قال سبحانه: (إقْرَأ بَاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقْ) وهي أوّل سورة نزلت على النبي الأكرم. وأقسم اللّه عزّوجلّ بالقلم وقال سبحانه: ( ن والقلم). وبذلك أوقف المجتمع الانساني، على قيمة وعلو شأنه .

2 . النجاشي: الرجال 64 برقم 1 .

( 630 )

ثقات علي بن الحسين _ عليهما السلام _ (1) .

وازدهرت تلك المدرسة في عصر الامامين الصادق والباقر _ عليهما السلام _ وزخرت بطلاّب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية فكان بيتهما، جامعة إسلامية يزدحم فيها رجال العلم وحملة الحديث، يأتون إليها من كل فجّ عميق، وقد عرفت دور الامامية في بسط العلوم في الفصل الثاني عشر .

2- الكوفة وجامعها الكبير:

قد سبق أنّ الامام أميرالمؤمنين هاجر من المدينة إلى الكوفة واستوطن معه خيار شيعته ومن تربّى على يديه من الصحابة والتابعين .

ولقد أتى ابن سعد في طبقاته الكبرى على ذكر جماعة من التابعين الذين سكنوا الكوفة(2) ولقد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الامام الصادق المدينة المنوّرة إلى الكوفة أيّام أبي العباس السفاح حيث بقى فيها مدّة سنتين .

اغتنم الامام فرصة ذهبيّة أو جدتها الظروف السياسية آنذاك وهي أنّ الحكومة العباسية كانت جديدة العهد وقد سقطت الحكومة الاموية. فلم يكن للعباسيين يومذاك قدرة على الوقوف في وجه الامام لانشغالهم باُمور الدولة. بالاضافة إلى أنّهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلى السلطة وقد نشر زمن اقامته بها علوماً جمّة.

ولمّا انتشر نبأ

وروده الحيرة تقاطرت وفود للارتواء من منهله العذب. وهذا الحسن بن علي بن زياد الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف ويقول:

____________________________

1 . الكليني الكافي، كما في تأسيس الشيعة 299 .

2 . الطبقات الكبرى 6و قسّمهم على تسع طبقات .

( 631 )

أدركت في هذا المسجد _ يعني مسجد الكوفة _ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ويضيف النجاشي: كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب ثم ذكر اسماءها(1) .

وكان من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين نظراء أبان بن تغلب بن رباح الكوفي، ومحمّد بن مسلم الطائفي، وزرارة بن أعين إلى غير ذلك ممّن تكفّل ذكرهم كتب الرجال وقد وقفت على أسماء عدّة منهم سابقاً باسم تلاميذ الامام الباقر والصادق _ عليهما السلام _ .

ولقد ألّف فقهاء الشيعة ومحدّثوهم في هذه الظروف في الكوفة 6600 كتاب ولقد امتاز من بينها 400 كتاب اشتهرت بالأُصول الأربعمائة(2) فهذه الكتب هي الّتي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم كما مرّ آنفا .

ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه بل شملت علوماً اُخرى ولأجل ذلك خرج منها مؤلّفون كبار صنّفوا كتباً كثيرة في علوم مختلفة ومنوّعة كهشام بن محمّد بن السائب الكلبي ألّف أكثر من مائتي كتاب(3) وابن شاذان ألّف 280 كتابا(4) وابن عمير صنّف 194 وابن دول الّذي صنّف 100 كتابا(5) وجابر بن حيان اُستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية إلى غير ذلك من المؤلفين العظام، في كافّة العلوم الإسلامية .

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 137 رقم 79 .

2 . وسائل الشيعة ج 20 الفائدة الرابعة وقد بيّنا الفرق بين الكتاب والأصل في كتابنا «كليات في الرجال» .

3 . الطهراني:

الذريعة 1 / 17 .

4 . المصدر نفسه .

5 . المصدر نفسه .

( 632 )

3- مدرسة قم والري:

دخل الفرس الإسلام وكان أكثرهم على غير مذهب الشيعة نعم كانت قم والري وكاشان وقسم من خراسان مركزاً للشيعة وقد عرفت انّ الاشعريين هاجروا _ خوفاً من الحجاج _ إلى قم وجعلوها موطنهم ومهجرهم، وكانت تلك الهجرة نواة للشيعة في ايران .

كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم والثقافة، ولكن ربّما كانوا يعانون من الضغط العباسي. ففي هذه الفترة إلى حوالي سنة 250 هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي تلميذ يونس بن عبدالرحمان وهو من أصحاب الامام الرضا _ عليه السلام _ إلى قم ونشر فيها حديث الكوفيين فصارت مدرسة قم والري مزدهرة بعد ذاك بالمحدّثين والرواة الكبار. وساعد على ذلك، بسط الدولة البويهية نفوذهم على تلك البلدان ولقد خرج من تلك المدرسة علماء ومحدّثون نظراء:

1- علي بن إبراهيم شيخ الكليني. الّذي كان حيّاً سنة 307(1) .

2- محمّد بن يعقوب الكليني. المتوفّى سنة 329. مؤلّف الكافي في الفروع والاُصول .

3- علي بن الحسين بن بابويه والده الشيخ الصدوق صاحب الشرائع المتوفّى 329.

4- ابن قولويه أبو القاسم جعفر بن محمّد (285 _ 368) من تلامذة الكليني واُستاذ الشيخ المفيد. والّذي يدل على وجود النشاط الفكري في أوائل القرن الثالث ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة أنّه أنفذ الشيخ حسين بن روح _ رضي اللّه تعالى عنه _، النائب الخاص للإمام المنتظر _ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف _ كتاب التأديب إلى فقهاء

____________________________

1 . الطهراني: الذريعة 4 / 302 برقم 1316 .

( 633 )

قم. وقال لهم: اُنظروا ما في هذا الكتاب. وانظروا فيه شيء يخالفكم(1) .

فهذه الرواية وغيرها تعرب عن وجود نشاط فكري

وفقهي في ذينك البلدين في القرن الثالث والرابع، وكفى في فضلها أنّ كتاب «الكافي» وكتاب «من لا يحضره الفقيه» وكتب محمّد بن أحمد بن خالد البرقي ت 274 من ثمار هذه المدرسة العظيمة .

4- مدرسة بغداد:

كانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية عندما كانت بغداد عاصمة الخلافة. ولمّا دبّ الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة بيد البويهيين تنفّس علماء الشيعة في أكثر مناطق العراق فاُسّست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة تفتخر بها الإنسانية ومن نتائجها ظهور أعلام نظير:

1- الشيخ المفيد (336 _ 413) تلك الشخصية الفذّة الّذي اعترف الموافق والمخالف بعلمه، ترجم له اليافعي في مرآة الجنان بقوله: عالم الشيعة وإمام الرافضة، صاحب التصانيف الكثيرة، المعروف بالمفيد، وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان ينازع كل عقيدة بالجلالة والعظمة ومقدّماً في الدولة البويهية وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة، والصوم، خشن اللباس وكان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد وكان شيخاً ربعة، نحيفاً أسمر، عاش ستّاً وسبعين سنة وله أكثر من 200 مصنّف وكان يوم وفاته مشهور وشيّعه 80 ألفاً من الرافضة والشيعة وأراح اللّه منه(2).

____________________________

1 . الطهراني: الذريعة 3 / 210 برقم 775 .

2 . مرآة الجنان 3 / 28 حوادث عام 413 .

( 634 )

2- السيد المرتضى .

3- السيد الرضي وهما كوكبان في سماء العلم والأدب غنيان عن التعريف .

4- الشيخ الطوسي (385 _ 460) وهو شيخ الطائفة ومن أعلام الاُمّة، تربّى على يد شيخه المفيد والسيد المرتضى وله كتاب «التبيان في تفسير القران» و «التهذيب» و «الاستبصار» وهما من المصادر المهمّة عند الشيعة وكانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هذه الأعلام الثلاثة واحد بعد الآخر، وقام

كل منهم بدور كبير في تطوير العلوم وتقدّمها، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين والمحدثين من الشيعة والسنّة .

إلى أن ضعفت سلطة البويهيين، ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد، وأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنّة والشيعة، وأحرق دوراً في الكرخ ولم يكتف بذلك حتّى كبس دار الشيخ الطوسي وأخذ ما وجد من دفاتره وكتبه، وأحرق الكرسي الّذي كان الشيخ يجلس عليه(1) .

6- مدرسة النجف الأشرف:

إنّ هذه الحادثة المؤلمة الّتي أدّت إلى ضياع الثروة العلمية للشيعة وقتل الأبرياء، فدعت الشيخ لمغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الأشرف وتأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أميرالمؤمنين _ عليه السلام _ ، وشاء اللّه تبارك وتعالى أن تكون هذه المدرسة مدرسة كبرى أنجبت خلال ألف سنة من عمرها، عشرات الآلاف من العلماء والفقهاء والمتكلّمين والحكماء .

المعروف أنّ الشيخ هو المؤسّس لتلك الجامعة العلمية المباركة. وهو حق

____________________________

1 . ابن الجوزي: المنتظم حوادث عام 447 _ 449، ج 16 / 8 و 16 ط بيروت .

( 635 )

لا غبار عليه، ومع ذلك يظهر من النجاشي وغيره أنّ الشيخ ورد عليها وكانت غير خالية من النشاط العلمي. يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة: له كتاب عمل السلطان. أجازنا بروايته أبو عبداللّه بن الخمري الشيخ صالح في مشهد مولانا أميرالمؤمنين سنة 400 عنه(1) .

ولقد استغلّ الشيخ تلك الأرضية العلمية وأعانه على ذلك، الهجرة العلمية الواسعة الّتي شملت أكثر الأقطار الشيعية فتقاطرت الوفود إليها، من كل فجّ، فصارت حوزة علمية وكلية جامعة في جوار النبأ العظيم علي أميرالمؤمنين _ من عصر تأسيسها 448 _ إلى يومنا هذا. ولقد مضى على عمرها قرابة 1000 سنة. وهي بحق شجرة طيبة أصلها في

الأرض وفرعها في السماء آتت اُكلها كل حين باذن ربّها .

إنّ لجامعة النجف الأشرف حقوقاً كبرى على الإسلام والمسلمين عبر القرون، فمن أراد الوقوف على تاريخها والبيوتات العلمية الّتي أنجبتها، فعليه الرجوع إلى كتاب «ماضي النجف وحاضرها» في ثلاثة أجزاء(2)، وقد قام الباحث، وهو الشيخ هادي الأميني بتخريج أسماء لفيف من العلماء الذين تخرّجوا من هذه المدرسة الكبرى .

7- مدرسة الحلّة:

في الوقت الّذي كانت جامعة النجف تزدهر وتنجب أفذاذاً، إذ أسّست الشيعية في الحلّة الفيحاء جامعة كبيرة اُخرى كانت تحتفل بكبار العلماء، وتزدهر بالنشاط

____________________________

1 . النجاشي: الرجال 1 / 190 برقم 163 .

2 . تأليف الشيخ جعفر آل محبوبة طبع النجف .

( 636 )

الفكري عقدت فيها ندوات البحث والجدل، وحلقات الدراسة والمدارس والمكاتب، وظهر في هذا الدور فقهاء كان لهم الأثر الكبير في تطوير الفقه الشيعي واُصوله نأتي بأسماء بعضهم:

1- المحقق الحلّي: نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد، من كبار فقهاء الشيعة يصفه تلميذه ابن داود بقوله: الامام العلاّمة واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه وأقواهم بالحجّة وأسرعهم استحضارا(1) توفّي عام 676 ه_ . له من الكتب «شرائع الإسلام» في جزأين، وهو أثر خالد شرحه العلماء وعلّقوا عليه. واختصره في كتاب أسماه «المختصر النافع» وشرحه أيضاً وأسماه «المعتبر في شرح المختصر» .

2- العلامة الحلّي، جمال الدين حسن بن يوسف (648 _ 726 ه_) تخرّج على يد خاله المحقق الحلّي في الفقه، وعلى يد المحقق الطوسي في الفلسفة والرياضيات، وعرف بالنبوغ، وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة، وقد بلغ الفقه الشيعي في عصره القمة، وله موسوعات فيه أجلّها «تذكرة الفقهاء» ولعلّه لم يؤلّف مثله .

3- فخر المحققين، محمّد بن الحسن بن يوسف (682 _ 771

ه_ ) ولد العلاّمة الحلّي، تتلمذ على يد أبيه ونشأ تحت رعايته وعنايته، وألّف والده لفيفاً من كتبه بالتماس منه، وقد تتلمذ عليه امام الفقه الشهيد الأوّل (734 _ 786 ه_ ) .

إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاووس وابن ورام، وابن نما وابن أبي الفوارس الحلّيين، الذين احتلفت بهم مدرسة الحلّة، ولهم على العلم وأهله أيادي بيضاء لا يسعنا ذكر حياتهم .

____________________________

1 . ابن داود: الرجال / القسم الأول 62 برقم 304 .

( 637 )

8- الجامع الأزهر:

امتدّ سلطان الدولة الفاطمية من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً ونافست الدولة الفاطمية الشيعية، خلافة الحكّام العباسيين في بغداد، وكان المعز لدين اللّه أحد الخلفاء الفاطميين بمصر رجلا مثقّفاً ومولعاً بالعلوم والآداب وقد اتّخذ بفضل تدبير قائده العكسري القاهرة عاصمة للدولة الجديدة، وبنى الجامع الأزهر، وعقدت فيه حلقات الدرس، وكان يركز على نشر المذهب الشيعي بين الناس وقد أمر أن يؤذّن في جميع المساجد ب_ «حىّ على خير العمل» ومنع من لبس السواد شعار العباسيين .

إنّ المسلمين عامة وفي طليعتهم المصريين مدينون في ثقافتهم وازدهار علومهم وتقدّمهم في مجال العلم والصنعة للفاطميين وهممهم العالية، فانّ الجامع الأزهر لا يزال مزدهراً من يوم بني إلى يومنا هذا كأعظم الجامعات العلمية(1) وهي كانت جامعة شيعية من بدء تأسيسها إلى قرنين .

وإن شئت أن تقف على صورة صغيرة من خدماتهم الجليلة فاقرأ ما كتبه السيد مير علي: «كان الفاطميون يشجّعون على العلم، ويكرمون العلماء فشيّدوا الكليّات والمكاتب العامة، ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون، والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمراجعة، وعيّنوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حرّاً على نفقة الدولة كما

كان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجّانياً، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم، كالمنطق والرياضيات والفقه والطب، وكان الأساتذة يتشحون بلباس خاص عرف بالخلعة، أو العباءة الجامعية _ كما هي الحال

____________________________

1 . بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية 2 / 108 .

( 638 )

اليوم _ واُرصدت للانفاق على تلك المؤسّسات وعلى أساتذتها، وطلاّبها وموظّفيها أملاك بلغ إيرادها السنوي 43 مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لالقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء(1) .

وقد ألّف غير واحد من المؤرّخين كتباً ورسائل حول الأزهر الشريف ومن أراد التفصيل فليرجع إليه .

مدارس الشيعة في الشامات:

كانت الشيعة تعيش تحت الضغط والارهاب السياسي من قبل الأمويين والعباسيين، ولمّا دبّ الضعف في جهاز الخلافة العباسي وظهرت دول شيعية في العراق خصوصاً دولة الحمدانيين في الموصل وحلب، استطاعت الشيعة أن تجاهر بنشاطها الثقافي، وفي ظل هذه الحرية أسّست مدارس شيعية في جبل عامل، وحلب فقد خرج من مدرسة حلب شخصيات كبيرة كأبناء زهرة وغيرهم.

الذين احتفل تاريخ حلب الشهباء بذكرهم، وأمّا مدرسة جبل عامل فقد كانت تتراوح بين القوة والضعف، إلى أن رجع الشهيد الأوّل من العراق إلى مسقط رأسه تتراوح بين القوة والضعف، إلى أن رجع الشهيد الأوّل من العراق إلى مسقط رأسخ «جزين»، فأخذت تلك المدرسة في نفسها نشاطاً، واسعاً، وقد خرج من تلك المدرسة منذ تلك العهود إلى يومنا هذا مئات من الفقهاء والعلماء لا يحصيها إلاّ اللّه سبحانه، ومن أكبر الشخصيات المنتجبة في هذه المدرسة المحقق الشيخ علي الكركي (ت 940) مؤلّف «جامع المقاصد» وبعده الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني (911 _ 966) الّذي كان منذ صباه تظهر منه ملامح النبوغ والذكاء، وله الأثر الخالد

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» .

____________________________

1 . السيد مير علي: مختصر تاريخ العرب 510 ط 1938 .

( 639 )

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّن أنجبتهم هذه التربة الخصبة بالعلم والأدب.

ولنكتف بهذا المقدار من الاشارة إلى الجامعات الشيعية فانّ الاحصاء يحوجنا إلى بسط في المقال، ويطيب لنا الاشارة إلى أسماء المعاهد الاُخرى مجردة.

جامعات اُخر للشيعة في أقطار العالم:

كانت للشيعة جامعات في أقطار العالم ولم تزل بعضها زاهرة إلى اليوم.

إنّ الشرق الاسلامي كافغانستان والباكستان والهند تزخر بالشيعة ولهم هناك جامعات وكليّات في هرات وبمباي ولكهنو، كما أنّ للشيعة نشاطات ثقافية في آسيا الجنوبية الشرقية كماليزيا وتايلند، ومن أراد الوقوف على الخريجين من هذه المدارس فعليه أن يقرأ تاريخ هذه البلاد خصوصاً بلاد الهند .

فمذ تسنّم الصفويون منصّة الحكم اُسّست في ايران حوزات فقهية، كلامية، فلسفية زاهرة، وقد تخرج منها آلاف من العلماء كجامعة اصفهان، وطهران، وخراسان، وتبريز، وقزوين، وزنجان، وشيراز وأخيراً الجامعة الكبرى للشيعة في قم المحمية بجوار الحضرة الفاطمية الّتي أسّسها رجل العلم والزهد الشيخ عبدالكريم اليزدي (1274 _ 1355) سنة 1340 ه_ ، ولم تزل هذه الجامعة مُشعَّة زاهرة، وقد تقاطرت إليها الأساتذة ووفود الطلاب من نقاط شتّى، من جنسيات مختلفة منذ أوّل يومها ويتجاوز عدد الطلاب فيها في هذه السنين 25000 وفيها مكتبات زاخرة، ومؤسّسات علمية، ومراكز تحقيقية، ومطابع حديثة، وعمالقة الفكر وأساتذة القلم، ومنها تفجّرت الثورة الإسلامية على يد أحد خريجيها الامام الخميني _ قدس سره _ فانبثقت أنوارها على ربوع العالم وأيقظت الاُمّة من سباتها العميق .

( 640 )

عدد الشيعة:

إنّ مراكز الاحصائيات في العالم تخضع لنفوذ أعداء الإسلام خصوصاً الصهاينة، وقد صار ذلك سبباً لعدم وجود احصاء دقيق بأيدينا

عن عدد المسلمين وعامة طوائفهم ومنهم الشيعة. ولكن القرائن تشهد على أنّ الشيعة بطوائفها الثلاث: الإمامية والزيدية والاسماعيلية يشكّلون خمس أو ربع المسلمين، فلو كان عدد المسلمين _ على ما يقولون _ مليار نسمة فالشيعة تبلغ 200 مليون، وأكثرهم عدداً هم الإمامية المعروفة بالاثني عشرية أو الجعفرية .

نسأله سبحانه أن يرفع كلمة التوحيد في ربوع العالم، ويوفّق المسلمين لتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف إنّه على ذلك لقدير .

الفصل الرابع عشر مصادر الاُصول والفروع عند

الفصل الرابع عشر مصادر الاُصول والفروع عند الإماميّة

( 642 )

( 643 )

إنّ بعض المتعصّبين يحاولون التشكيك في انتهاء الشيعة الامامية في مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت وقد نقل هذه المحاولة السيد عبدالحسين شرف الدين في مراجعاته(1) .

ولا شك أنّ هذه المحاولة فاشلة، ولا نحتاج إلى بسط في الجواب وربّما يتّضح استناد مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ ممّا مضى في الفصل الحادي والثاني عشر .

يقول السيد شرف الدين: إنّ الشيعة الامامية في الفروع والاُصول وسائر ما يؤخذ من الكتاب والسنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم، لا يعولون في شيء من ذلك إلاّ عليهم ولا يرجعون فيه إلاّ إليهم، فهم يدينون اللّه تعالى ويتقرّبون إليه بمذهب أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ لا يجدون عنه حولا ولا يرتضون به بدلا. على ذلك مضى سلفهم الصالح في عهد أميرالمؤمنين والحسن والحسين. والأئمّة التسعة من ذريّة الحسين _ عليهم السلام _ إلى زماننا هذا وقد أخذ الفروع والاُصول عن كل واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة وحفّاظهم(2) .

____________________________

1 . راجع المراجعات 109 .

2 . المراجعات 303 المراجعة 110 .

( 644 )

إنّ الشيعة يتّخذون الكتاب مصدراً رئيسياً في العقيدة والتشريع كما

يتّخذون سنّة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مصدراً رئيسياً ثانياً ويعملون بحكم العقل في المجال الّذي له صلاحية القضاء، ويتّخذون من الاجماع دليلا فيما لو كشف عن الدليل الشرعي وهذا ممّا لا شك فيه .

ولكن انّ في الكتاب عمومات ومطلقات وقد خصّصت في السنّة كما أنّ فيه مجملات تطلب لنفسها بياناً من السنّة، والشيعة ترجع إلى أئمّة أهل البيت في هاتيك الموارد لأجل أنّ كلامهم وقولهم هو كلام وقول النبي الأكرم وهناك مسائل مستحدثة واُمور طارئة لا يجد لها الفقيه حلولا في السنّة النبوية. لأنّها طرأت بعد رحلة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقام أئمة أهل البيت بالاجابة عنها من غير فرق بين مجالي الالتزام والعمل .

هذا هو مذهب الامامية وعلى ذلك جرى سلفهم وخلفهم من عصر أميرالمؤمنين إلى يومنا هذا .

إنّ انتماء الشيعة الامامية إلى أئمّة أهل البيت أظهر من الشمس، وقد تعرّفت على الرواة الثقات الذين أخذوا الاُصول والفروع عن الباقر والصادق والكاظم والرضا _ عليهم السلام _ ، كما تعرّفت على الجوامع الّتي دوّنها أصحابهم في تلك العصور وكانت الجوامع مفزعاً للشيعة في عصر الأئمة، حتّى عصر الغيبة لأنّها تحتوي علوم أهل البيت _ عليهم السلام _ .

ولمّا كانت هذه الجوامع غير خالية عن النقص الفنّي في التبويب وغير جامعة لما تركه أئمة أهل البيت من العلوم والمعارف قام المحمدون الثلاثة بتأليف جوامع ثانوية أحسن ترتيباً وتبويباً وأكثر شمولا .

1- محمّد بن يعقوب الكليني ولد في عهد امامة العسكري (254 _ 260) وتوفّي عام 329 فهو أوثق الناس في الحديث وأعرفهم به، صنّف كتاب الكافي

( 645 )

وهذبه في عشرين سنة(1) ولقد حصروا أحاديثه في ستة عشر

الف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا (16199) والصحيح منها باصطلاح المتأخرين خمسة الآف واثنان وسبعون حديثاً، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً، والموثّق مائة حديث وألف حديث وثمانية عشر حديثاً، والقوىّ منها اثنان وثلاثمائة، والضعيف منها أربعمائة وتسعة آلاف وخمسة وثمانون حديثا(2) .

وقال الشهيد في الذكرى: «إنّ ما في الكافي يزيد على ما في مجموع الصحاح الستّة للجمهور وعدّة كتب الكافي اثنان وثلاثون كتاباً»(3) .

وقال في كشف الظنون نقلا عن الحافظ «ابن حجر»: إنّ جميع أحاديث صحيح البخاري بالمكرّر سوى المعلّقات والمتابعات على ما حرّرته وحقّقته سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثاً، والخالص من ذلك بلا تكرير الفا حديث وستمائة وحديثان، وإذا انضمّ إليه المتون المعلّقة المرفوعة وهي مائة وخمسون حديثاً، صار مجموع الخالص ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا .

وروي ايضاً عن مسلم أنّ كتابه أربعة آلاف حديث دون المكررات وبالمكررات سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا .

وقال أبو داود في أوّل سننه: «وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثمانية أحاديث في الصحيح وما يشبهه وما يقاربه»(4) .

2- محمّد بن علي بن الحسين الصدوق (306 _ 381) مؤلّف «من

____________________________

1 . النجاشي: الرجال برقم 1027 .

2 . لؤلوة البحرين للمحدث البحراني وما ذكره عند الجمع ينقص 78 حديثاً فلا حظ .

3 . الذكرى 6 .

4 . كشف الظنون كما في مستدرك الوسائل 3 / 541، لاحظ فتح الباري في شرح أحاديث البخاري 1 / 465 .

( 646 )

لا يحضره الفقيه» وهو الجامع الثاني للشيعة .

إنّ أحاديث كتاب الفقيه لا تتجاوز عن 5963 حديثاً منها ألفان وخمسون حديثاً مرسلا .

3- محمّد بن الحسن الطوسي (385 _ 460) مؤلّف تهذيب الأحكام والاستبصار وعدد أحاديث الأوّل 13590(1) وعدد

أحاديث الثاني 5511 حديثاً كما ذكره المؤلّف في آخر الكتاب .

هذه هي الكتب الأربعة، المصادر المهمة عند الشيعة .

الجوامع الحديثية الأخيرة:

إنّ هناك لفيفاً من العلماء قاموا بجمع روايات الكتب الأربعة وإليك ايعاز إلى أسماء مؤلّفيها .

1- محمّد بن الحسن الحر العاملي توفّي 1104 مؤلّف كتاب تفصيل وسائل الشيعة طبع في عشرين جزءاً في الفروع والأحكام فقط، ولم يجمع ما يرجع إلى الاُصول والعقائد .

2- محمّد بن المرتضى المعروف بالفيض 1091 مؤلّف الوافي في 14 جزء في الفروع والاُصول والسنن والأحكام ولو طبع الكتاب طبعة حديثة لبلغ 30 جزءاً .

3- المجلسي محمّد باقر 1027 _ 1110 مؤلّف بحارالأنوار في 110 أجزاء وهو من أبسط الجوامع وأكثرها شمولا .

وهناك جوامع اُخرى طوينا الكلام عنها فمن أراد فليرجع إلى مظانّها .

____________________________

1 . المستدرك 3 / 756.

( 647 )

هذه هي المصادر الّتي تفزع إليها الشيعة في اُصولها وفروعها أتينا على ذكرها على وجه الاجمال ليكون القارئ على بصيرة .

هذا هو مذهب الشيعة وهؤلاء هم خلفهم وسلفهم، ومبدأ نشوئهم، وهذه آراؤهم وعقائدهم، وهؤلاء أئمتهم، وهذه بلدانهم ودولهم، وعدد نفوسهم، وهذه جامعاتهم وحوزاتهم، فهم اُمّة منتشرة في العالم وبلادهم مفتوحة لكل قاصد، وهذه كتبهم المعبّرة عن تاريخهم وعقائدهم وعقائدهم وكيانهم وشرفهم وهذا تاريخهم المأساوي جزاءً للخدمات الجليلة الّتي قدموها للحضارة الإسلامية بأفكارهم وآرائهم وأقلامهم وكتبهم .

( 648 )

( 649 )

خاتمة المطاف:

بيان لكتّاب المقالات ومؤرخي العقائد

لقد حصحص الحق وبانت الحقيقة لذوي النصفة ونختم الكتاب بذكر اُمور مهمة ربّما مضى البحث عن بعضها في الفصول السابقة وإليك البيان .

الأوّل: إنّ التشيّع لم يكن فكرة سياسية ابتدعتها الأهواء، وطبعته بطابع الدين، ولا عقيدة دينية لاتمتُّ إلى الإسلام بصلة، بل

هو نفس الإسلام في مجالي العقيدة والتشريع، جاء به النبي الأكرم في كتابه وسنّته، وليس التشيّع إلاّ تعبيراً آخر عن الإسلام، في إطار ولاء أهل بيته الطاهرين وتتبّع آثارهم وأقوالهم وآرائهم.

الثاني: إنّ كلّما تدين به الشيعة التزاماً وعملا، له مصدر متسالم على صحّته عند أهل السنّة، وأنّهم لو نظروا إليه بعين الانصاف وطلب الحقيقة، وابتعدوا عن كل رأي مسبق، لوجدوا الفوارق الموجودة بين الطائفتين اُموراً واقعية لها دليل في الكتاب والسنّة، حتّى في الاُمور الّتي يستنكرونها في بدء الأمر، كالقول بالبداء،

( 650 )

وعصمة الامام وميلاد المهدي المنتظر، وحياته فعلا وكون الأئمة محصورين في اثني عشر .

الثالث: إنّ الشيعة ليست من الفرق البائدة الّتي خيّم الظلام عليها، وعلى آثارهم وصارت مستورة تحت أطباق الثرى، حتّى لا يعاب فيه التقوّل والحدس والتخمين، وانّما هي فرقة حيّة منتشرة في العالم ولهم بلاد واسعة، وحكومات قائمة، وجامعات وكليات، ومعاهد وحلقات، ومكتبات غاصة بالكتب، فعلى طالب الحقيقة ومؤرّخ العقائد أن يتّصل بعلمائهم عن كثب أو أن يرجع إلى الكتب المؤلّفة بايدي علمائهم الذين اجتمعت كلمتهم على وثاقته وعلمه ومعرفته ويجتنب عن الرجوع إلى كتب المتطفّلين على موائد العربية من مستشرق حاقد، أو كاتب متحامل، بل يجتنب عن الجروع إلى كتاب عالم من الشيعة إذا لم تجتمع كلمتهم على وثاقته وعلمه أو صحة نظريته، إذ في كل طائفة غال متنكّب عن الصراط، خابط خبطة عشواء، رفض العلماء كتابه وكلامه.

إنّ بين كل طائفة ومنهم الشيعة كاتب غال خلط الغث بالسمين، والصحيح بالزائف، وربّما تكون له مكانة علمية و _ مع ذلك _ لا يصحّ الاستناد إلى مثل ذلك الكاتب ولا إلى كتابه، بل يطرح الشاذ، ويؤخذ بالمجمع عليه أو المشهور بينهم .

إنّ

المستند لرمي التشيّع بالاعتقاد بالتحريف في هذه الأيام هو كتاب «فصل الخطاب» الّذي ألّفه الشيخ المحدّث النوري، وجمع مواده من هنا وهناك من غير تحقيق في السند ولا تحليل في الدلالة، ولكن الاستناد إلى هذا الكتاب ورمي طائفة كبيرة بهذه التهمة الشائنة تقوّل بالباطل، لأنّ علماء الشيعة أنكروا هذا الكتاب

( 651 )

على المؤلّف من أوّل يوم نشره، وأخذوا بالردّ عليه ردّاً عنيفاً(1) ولو كان تأليف ذلك الكتاب دليلا على قول الشيعة بالتحريف فليكن كتاب «الفرقان» الّذي عرّفه أحد الأزهرين المعاصرين دليلا على قول السنّة بها .

الرابع: التعرّف الصحيح على المبادئ الّتي تعتمد عليها كل طائفة في مجال الالتزام القلبي يحصل من خلال السبر في الكتب العقائدية الكلامية المؤلّفة بيد عمالقة الفكر منهم، وأمّا الكتب الحديثية المعتبرة فبما أنّ فيه الصحيح والسقيم، والمشهور والشاذ، والمحكم والمتشابه، فلا يصحّ الاستناد إلى رواية رويت في كتب الحديث في مجال تبيين عقائد الفرقة، فلو وجد في الكافي الّذي هو من أتقن الكتب الحديثية عند الشيعة ما يضاد المشهور بين العلماء، لما صحّ لنا الاعتماد عليه وترك ما ذهب إليه المشهور من علمائهم، فليس معنى كون الكتاب معتبراً انّ جميع ما ورد فيه قابل للالتزام والعمل، وهذا أمر واضح لدى الشيعة عامة، وإن غفل عنه كتاب تاريخ الفرق .

الخامس: إنّ هناك فرقاً بين الجوامع الحديثية عند الشيعة والصحاح عند السنّة، فانّ الاُولى لديهم كتب معتبرة بمعنى أنّها صالحة للرجوع إليها بعد تمحيصها وتمييز الجيّد من الرديء فيها. و على ضوء ذلك لا يكون وجود الحديث فيها دليلا على كون مضمونه حجّة في مفاده. وأمّا الصحاح الستّة عند السنّة فبما أنّ أكثرهم أضفى على الجميع وصف الصحة فللقائل أن يتصوّر أنّ

وجود الحديث فيها دليل على كون مضمونه مذهباً لأهل السنّة .

____________________________

1 . ردّ عليه في حياته وبعده لفيف من العلماء أخص بالذكر العلامة الحجة: الشيخ محمد هادي معرفة بكتاب أسماه صيانة القرآن عن التحريف وقد طبع وانتشر .

( 652 )

السادس: إنّ المطلوب في العقائد، غير المطلوب في الأحكام فالغاية من الثانية هي العمل وإن لم يكن اذعان بصحّته وكونه مطابقاً للواقع، بل يكفي قيام الدليل على جواز تطبيق العمل عليه. بخلاف الاُولى فانّ الغرض المنشود منها هو الاعتقاد والايمان، ومن المعلوم أنّ اليقين رهن مقدّمات مفيدة لليقين ومجرّد وجود خبر حتّى الصحيح في الجوامع الحديثية لا يؤدّي إلى اليقين فلا يمكن أن يحتجّ بها في مجال العقيدة إلاّ إذا كانت مفضية إلى اليقين، والاذعان، والخبر الواحد، وإن صحّ، خال من هذا الشأن .

السابع: عرفت الشيعة بالتقيّة وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض المشاغبين والمغالطين فيقولون: بما أنّ التقيّة من مبادئ التشيّع فلا يصحّ الاعتماد بكل ما يقولون ويكتبون وينشرون إذ من المحتمل جدّاً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرة، ويكرّره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه الردية على الشيعة .

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقيّة انّما هي القضايا الشخصية الجزئية أي عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّ في اظهار العقيدة أو تطبيق العمل عل مذهب إمام من أئمّة أهل البيت احتمال توجّه الضرر، يصير المورد من مواردها ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتّقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الاُمور الكليّة الخارجة عن إطار الخوف فلا يتصوّر فيها التقيّة، والكتب

المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في النوع الثاني إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد، بل لا ملزم للكتابة أصلا فله أن يسكت ولا يكتب شيئا .

( 653 )

فما يدّعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناش عن عدم عرفانهم لحقيقة التقية عند الشيعة .

والحاصل: انّ الشيعة انّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم، ولا قدرة ومنعة تدفع عنهم، وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد خاصة .

إنّ الشيعة منذ أن تعرضوا للضغط، عاشت عندهم التقية على مستوى الفتاوى، ولم تعش على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الامويين، والحكام العباسيين، كحجر بن عدي، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات من غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية(1) .

إنّ القول بالتقية ليس شيئاً مختصّاً بالشيعة، بل يقول به المسلمون جميعاً هذا أبو الهذيل العلاف رئيس المعتزلة يقول: إنّ المكره إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما اُكره عليه فله أن يكذب ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه(2) .

بل يقول به كل مسلم واع، وكل كاتب قدير وناطق مصقع، يعيش في بلاد يسود عليه الاستبداد وسلب الحريات الاجتماعية والسياسية بمختلف اشكاله وصوره .

الثامن: لم يزل أهل السنّة يصفون المسانيد والسنن بالصحاح وربّما يغالون في حق بعض الصحاح كالبخاري بأنّه أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه. أو ليس هذا مغالاة

____________________________

1 . الدكتور أحمد الوائلي: هوية التشيّع 203 .

2 . أبو الحسن الخياط: الانتصار 128 .

( 654 )

في القول؟ وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما نتلوه عليك عن ذلك الكتاب

الّذي هو الأصحّ في زعمهم بعد كتاب اللّه .

1- روي في تفسير سورة الاسراء انّ جبرائيل ليلة اُسري بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين، أحدهما من لبن وآخر من خمر، وخيّره بين شرب واحد منهما(1) .

أفيصح في منطق العقل أن يأتي جبرئيل في تلك الليلة بقدح من الخمر الّتي وصفها رسول اللّه باُمّ الخبائث ووصفه الكتاب العزيز بأنّه من عمل الشيطان؟! ولا يصحّ لمتقوّل أن يفسّرها بخمر الجنّة الّتي لا سكر فيها وهو بعد في الدنيا؟

2- روي عن عائشة أنّها قالت: سحر النبي حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله(2) .

فعلى ذلك لا يحصل أي ثقة بكلام النبي وقوله، ولأجل ذلك نرى انّ الجصاص يقول في حقّ هذه الروايات: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين(3) .

3- وأخرج في صحيحه في كتاب الغسل باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد عن أنس بن مالك قال: كان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار وهنّ إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنّا نتحدّث أنّه اُعطي قوّة ثلاثين(4) .

إنّ النبي الأكرم كان يقضي ليلة بالتهجّد والعبادة، قال سبحانه: (إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَىِ الَّيْلِ أو نِصْفَهُ و ثُلُثَهُ وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)(5)

____________________________

1 . البخاري ج 4 باب صفة إبليس وجنوده .

2 . أحمد بن حنبل: المسند 6 / 5 .

3 . الجصاص: احكام القرآن 1 / 55 .

4 . البخاري: الصحيح 6 / 13 .

5 . المزمّل / 20 .

( 655 )

وما جاء في الرواية انّما يلائم حال الخلفاء الامويين والعباسيين الذين كانت قصورهم تزخر بالجواري

والنساء وحاشا النبي الأكرم الّذي عبداللّه سبحانه حتّى تورّمت قدماه ونزل قوله سبحانه: (طه * ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى إلاّ تَذْكِرَهُ لِمَنْ يَخْشى)(1) .

إنّ الرواية وضعت لتبرير أعمال هؤلاء الذين يعرّفهم الامام في كتابه إلى عامله بالبصرة، عثمان بن حنيف ويقول: «كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها»(2) ولا يهمهم سوى ارضاء البطن والفرج .

4- والعجب أنّه روي عن عائشة خلاف ذلك وأنّه لم يكن للنبي الأكرم الطروقة وقوة النكاح وكثرة الجماع قالت: إنّ رجلا سأل رسول اللّه، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل (لا ينزل منه المني) هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة فقال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل(3) .

حاشا نبيّ العظمة والقداسة أن يتفوّه بحضرة زوجته ما لا يتكلّم به إلاّ الإنسان الماجن، المنهمك في الشهوات البهيمية، واللّه سبحانه يصف حياءه بقوله: (فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسينَ لِحَديث إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيِى مِنْكُمْ واللّهُ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الحَقِّ)(4) .

هذه نماذج من الأحاديث الواردة في أصحّ الكتب عند أهل السنّة، لا أظن أنّ من يملك شيئاً من الدراية يحتمل صحّتها، وهذا يدفع كلّ مسلم واع إلى دراسة هذه الكتب من جديد، وتنزيه الحديث النبوي عن هذه الأباطيل، ولعلّك إذا رجعت إلى

____________________________

1 . طه / 1 _ 2 .

2 . الرضي: نهج البلاغة، قسم الكتب 45 .

3 . مسلم: الصحيح 1 / 186 باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين .

4 . الأحزاب / 53 .

( 656 )

الجزء الأوّل من موسوعتنا في مجال التوحيد والتنزيه تجد هناك أحاديث لا يصدقها العقل ولا النقل .

التاسع: لقد ذكر أبو زهرة سبب نمو المذهب الامامي،

وقال:

«لقد نما هذا المذهب وانتشر لأسباب:

1- إنّ باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، وهذا يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والننفسية .

2- كثرة الأقوال في المذهب _ أي في المسائل الفقهية النظرية _ واتّساع الصدر للاختلاف مادام كل مجتهد يلتزم المنهاج المسنون، ويطلب الغاية الّتي يبتغيها من يريد محص الشرع الاسلامي، خالصاً غير مشوب بأيّة شائبة من هوى .

3- إنّ المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات حيث اوربا وما حولها، وتفريق الأقاليم الّتي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. إنّ هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان، يحمل في سيره، ألوانها وأشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته .

4- كثرة علماء المذهب الذين يتصدّون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفوا على دراسة وعلاج المشاكل على مقتضاه(1) .

العاشر: نجد بعض المشاغبين يتّهمون الشيعة بالقول بالتحريف، بحجة أنّ لدى الشيعة مصحفاً باسم «مصحف فاطمة» واختصاصه بها كاشف عن مغايرته مع المصحف الرائج .

____________________________

1 . أبو زهرة: الامام الصادق، بتلخيص محمّد جواد مغنية في كتابه الشيعة والتشيّع 225 .

( 657 )

إنّ هذا المشاغب، لم يقرأ تاريخ الشيعة ولم يقف على كلمات أئمتهم حول هذا المصحف. وزعم أنّ المصحف بمعنى القرآن، وغفل عن أنّ المقصود منه، هو الكتاب قال سبحانه: (وَ إذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)(1) وقد أملى النبيّ الأكرم في مجالي العقيدة والتشريع والملاحم اُموراً على ابنته وزوجها فجمعت في «صحف مكرمة»، سميت مصحف فاطمة. وهذا هو الامام الصادق حفيد فاطمة الطاهرة وهو من أهل البيت، وهم أدرى بما في البيت، يحدّثنا عن هذا المصحف ويقول: عندنا مصحف

فاطمة أما واللّه ما فيه حرف من القرآن ولكنّه املاء من رسول اللّه .

روى الكليني انّ المنصور سأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة فما أجابه عنها إلاّ الإمام الصادق ولمّا سُئِل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة(2) .

نرى انّ الامام يعبّر عن مصحف فاطمة بكتاب، مشيراً إلى أنّه كتاب لا قرآن يختص به .

فإذا كان الغرض هو التعرّف على الواقع فهذا هو الواقع. وإن كان الهدف هو الشغب فالاُولى بهذه النسبة هي عائشة، روى السيوطي أنّه قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ ابي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: انّ اللّه وملائكته يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلّون في الصفوف الاُولى(3) .

* * *

____________________________

1 . التكوير / 10 .

2 . الكليني الكافي 3 / 507 ط طهران .

3 . الاتقان 2 / 25 .

( 658 )

هذه من الشيعة الامامية وهذا تاريخها المشرق وهؤلاء أئمتها أئمة أهل البيت وهذه عقائدها الوضّاءة، وهؤلاء علماؤها وأبطالها المشاركون في بناء الحضارة الإسلامية وهذه وهذه وهذه .

فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. نسأله سبحانه أن يتفضّل علينا بتوحيد الكلمة كما أولانا بكلمة التوحيد إنّه خير مدعو وخير مجيب وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين .

وآخر دعوانا أن الحمد اللّه رب العالمين .

قم _ مؤسسة الإمام الصادق _ عليه السلام _

جعفر السبحاني

فهرس مصادر الكتاب

فهرس مصادر الكتاب

القرآن الكريم

حرف الألف:

1_ أبو العباس السفاح: محمّد أحمد براق .

2_ الاتقان: جلال الدين السيوطي (849 _ 911 ه_ ) دار ابن كثير، بيروت .

3_ اثبات الهداة: الحر العاملي: محمّد بن الحسن (م 1104 ه_ ) المطبعة العلمية، قم .

4_

اثبات الوصية: المسعودي: علي بن الحسين بن علي (م 345 ه_ ) قم _ 1404 ه_ .

5_ الإثنا عشرية وأهل البيت: محمّد جواد مغنية .

6_ الإحتجاج: أبو منصور: أحمد بن علي الطبرسي (من اعلام القرن السادس)

مؤسسة الأعلمي، بيروت _ 1403 ه_ .

7_ أحسن التقاسيم: شمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي، طبع ليدن _ 1906 م .

8_ الأحكام السلطانية: الماوردي: علي بن محمّد البصري (م 450 ه_ ) دار الكتب العلمية، بيروت .

9_ أحكام القرآن: الجصّاص: أحمد بن علي (م 370 ه_ ) دار الكتب العربي، بيروت _ 1401 ه_ .

( 672 )

10_ أخبار اصبهان: أبو نعيم الاصفهاني: أحمد بن عبداللّه (م 430 ه_ ) انتشارات جهان، طهران.

11_ أخبار النحويين واللغويين: ابن النديم (م 385 ه_ ) .

12_ الاختصاص: الشيخ المفيد: محمد بن محمد بن النعمان (336 _ 413 ه_)

مؤسسه النشر الاسلامي، قم .

13_ الأربعون حديثاً: النبهاني .

14_ الارشاد: المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان (م 413 ه_ ) طبع قم _ 1402 ه_ .

15_ الأرض والتربة الحسينية: الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (م 1373 ه_ ) .

16_ الاستيعاب: أبو عمرو: يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ، دار نهضة مصر، القاهرة .

17_ أسد الغابة: ابن الأثير: علي بن أبي الكرم (م 630 ه_ ) دار احياء التراث العربي بيروت .

18_ الإصابة: ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (م 852 ه_ ) دار احياء التراث العربي، بيروت .

19_ أصل الشيعة واُصولها: الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء (1295 _ 1373 ه_ ) مطبعة العرفان، صيدا _ 1355 ه_ .

20_ اُصول الدين: محمّد بن عبدالكريم البزدوي (421 _ 493 ه_ ) دار احياء الكتب العربية، القاهرة _ 1383 ه_

.

21_ اُصول الفقه: الدواليبي .

22_ اعتقادات الإمامية: الصدوق: محمّد بن بابويه القمي (381 ه_ ) طبعة حجر .

23_ إعلام الورى: الطبرسي: الفضل بن الحسن (471 _ 548 ه_ ) طبع إيران .

24_ أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي (م 1371 ه_ ) دار التعارف، بيروت .

25_ الإلهيات: محمّد مكي العاملي من محاضرات الاُستاذ جعفر السبحاني، الدار الإسلامية، بيروت _ 1410 ه_ .

( 673 )

26_ الأمالي: الصدوق: محمّد بن بابويه القمي (م 381 ه_ ) المكتبة الإسلامية، طهران .

27_ الأمالي: المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان (م 413 ه_ ) قم _ 1404 ه_ .

28_ الامام جعفر الصادق: محمّد أبو زهرة (م 1396 ه_) .

29_ الامام علي صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق، دار الروائع، بيروت.

30_ الامامة والسياسة: ابن قتيبة: عبداللّه بن مسلم الدينوري (م 276 ه_ ) مطبعة مصطفى محمّد، مصر .

31_ الانتصار: ابو الحسين الخياط المعتزلي، تحقيق د. نيبرج، طبع مصر _ 1344 ه_ .

32_ أنساب الأشراف: البلاذري: أحمد بن يحيى (من أعلام القرن الثالث الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت _ 1394 ه_ .

33_ أوائل المقالات: المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان (م 413 ه_ ) مكتبة الحقيقة، تبريز - 1371 ه_ .

34_ الإيضاح: الفضل بن شاذان (م 260 ه_ ) انتشارات جامعة طهران، طهران _ 1404 ه_ .

* حرف الباء:

35_ بحارالأنوار: محمّد باقر المجلسي (م 1110 ه_ ) مؤسسة الوفاء، بيروت _ 1403 ه_ .

36_ البداية والنهاية: ابن كثير: الحافظ أبو الفداء (م 774 ه_ ) دار الفكر، بيروت _ 1402 ه_ .

37_ البرهان في تفسير القرآن: السيد هاشم التوبلي البحراني (م 1107 ه_ ) قم _ 1375 ه_ .

38_ البلدان: اليعقوبي: أحمد بن أبي

يعقوب (من أعلام القرن الثالث) .

39_ بلوغ المرام: ابن حجر العسقلاني (م 852 ه_ ) دار النهضة، مصر .

( 674 )

40_ البيان والتبيين: أبو عثمان: عمرو بن بحر الجاحظ (م 255 ه_ ) دار الفكر للجميع، بيروت _ 1968 م .

41_ بين يدي الساعة: الدكتور عبدالباقي المعاصر .

* حرف التاء:

42_ تاريخ آداب اللغة العربية: جرجي زيدان، دار الهلال، القاهرة _ 1931 م .

43_ تاريخ ابن خلدون: عبدالرحمان بن خلدون (م 808 ه_ ) بيروت _ 1956م.

44_ تاريخ الإسلام السياسي: الدكتور حسن إبراهيم حسن (المعاصر) مصر _ 1935 م .

45_ تاريخ الإمامية: الدكتور عبداللّه فياض، مؤسسة الأعلمي، بيروت - 1395 ه_ .

46_ تاريخ الاُمم والملوك: الطبري: محمّد بن جرير (م 310 ه_ ) مؤسسة الأعلمي بيروت .

47_ تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (م 463 ه_ ) المكتبة السلفية، المدينة المنورة .

48_ تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي (849 _ 911 ه_ ) مطبعة المدني، القاهرة _ 1383 ه_ .

49_ تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان، طبع بيروت _ 1965 م.

50_ تاريخ الشيعة: محمّد حسين المظفر (م 1375 ه_ ) منشورات مكتبة بصيرتي، قم .

51_ تاريخ المذاهب الإسلامية: محمّد أبو زهرة (م 1396 ه_ ) دارالفكر العربي، بيروت .

52_ تاريخ مختصر الدول: ابن العبري: العلامة غريغوريوس الملطي (م 685 ه_ ) مؤسسة منابع الثقافة الإسلامية، قم .

53_ تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب (من علماء القرن الثالث الهجري)

( 675 )

المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف _ 1348 ه_ .

54_ تأسيس الشيعة: السيد حسن الصدر (1272 _ 1354 ه_ )، مطبعة المعارف، بغداد _ 1370 ه_ .

55_ التبيان في تفسير القرآن: الطوسي: محمّد بن الحسن (385 _ 460 ه_ )

دار إحياء التراث العربي، بيروت .

56_ التبصير في الدين: أبو المظفر الاسفرائيني (م 471 ه_ ) بيروت _ 1403 ه_ .

57_ التحرير الطاووسي: الشيخ حسن بن زين الدين العاملي (م 1011 ه_ ) .

58_ تحف العقول: الحرّاني: الحسن بن علي (من أعلام القرن الرابع الهجري) مؤسسة الأعلمي، بيروت _ 1394 ه_ .

59_ تذكرة الخواص: سبط ابن الجوزي (581 _ 654 ه_ ) مؤسسة أهل البيت، بيروت _ 1401 ه_ .

60_ ترتيب المدارك: القاضي عياض، بيروت _ 1976 م .

61_ تصحيح الاعتقاد: المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان (م 413 ه_ ) مكتبة الحقيقة، تبريز _ 1371 ه_ .

62_ تطهير الجنان: ابن حجر الهيتمي (م 974 ه_ ) دار الفكر، بيروت _ 1403 ه_ .

63_ تفسير ابن كثير: إسماعيل الدمشقي (م 774 ه_ ) دار الفكر، بيروت _ 1403ه_ .

64_ تفسير الخازن: الشيخ علاء الدين محمّد البغدادي، طبع القاهرة .

65_ تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): محمّد بن عمر الخطيب (544 _ 606 ه_) دار احياء التراث العربي، بيروت .

66_ تفسير روح البيان: إسماعيل حقّي .

67_ تفسير الطبري (جامع البيان): محمّد بن جرير (م 310 ه_ ) دار المعرفة، بيروت .

68_ تفسير القرطبي (جامع أحكام القرآن): محمّد بن أحمد الأنصاري (م 671 ه_ )

( 676 )

دار احياء التراث العربي، بيروت _ 1405 ه_ .

69_ تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي، دار احياء التراث العربي، بيروت _ 1406 ه_ .

70_ تفسير المنار: محمّد رشيد رضا (م 1354 ه_ ) دار المنار، مصر _ 1373 ه_ .

71_ تفسير النسفي: المطبوع بهامش تفسير الخازن، طبع القاهرة، مصر .

72_ التفسير والمفسرون: الدكتور محمّد حسين الذهبي (م 1396 ه_ ) دار الكتب الحديثة، مصر

_ 1396 ه_ .

73_ تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني (م 852 ه_ )، بيروت _ 1975 م .

74_ تقييد العلم: الخطيب البغدادي (م 463 ه_ ) نشر دار السنّة _ 1974 م .

75_ التمهيد: الباقلاني: محمّد بن الطيب (م 403 ه_ ) القاهرة _ 1366 ه_ .

76_ تنقيح المقال: عبد اللّه المامقاني (1290 _ 1351 ه_ ) النجف الأشرف _ 1350 ه_ .

77_ تهذيب التهذيب: العسقلاني: أحمد بن علي بن حجر (773 _ 852 ه_ ) دار الفكر، بيروت _ 1404 ه_ .

78_ التوحيد: الصدوق: محمّد بن بابويه القمي (306 _ 381 ه_ ) مكتبة الصدوق، طهران .

* حرف الثاء:

79_ الثقات العيون: آغا بزرگ الطهراني (1293 _ 1389 ه_ ) .

* حرف الجيم:

80_ جامع الاُصول: ابن الأثير الجزري: المبارك بن محمّد (544 _ 606 ه_ ) دارالفكر، بيروت _ 1403 ه_ .

( 677 )

81_ الجرح والتعديل: أبو حاتم الرازي (م 327 ه_ ) دار احياء التراث العربي، بيروت _ 1371 ه_ .

82_ جمل العلم والعمل: الشريف المرتضى: علي بن الحسين الموسوي (355 _ 436 ه_ ) .

83_ جنة المأوى: محمّد حسين كاشف الغطاء (م 1373 ه_ ) مكتبة الحقيقة، تبريز 1380 ه_ .

* حرف الحاء:

84_ الحضارة الإسلامية: آدم متز، ترجمة الدكتور عبدالهادي أبو ريدة، مصر _ 1367 ه_ .

85_ حقائق التنزيل: الشريف الرضي (359 _ 404 ه_ ) مؤسسة البعثة، طهران _ 1406 ه_ .

86_ حلية الأولياء: أبو نعيم: أحمد بن عبداللّه الاصبهاني (م 430 ه_ ) دار الكتاب العربي، بيروت _ 1387 ه_ .

87_ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي: عبدالرزاق بن أحمد (م 733 ه_ ) تحقيق الدكتور مصطفى جواد، بغداد _ 1351 ه_

.

* حرف الخاء:

88_ الخصائص العلوية: النسائي: أبو عبدالرحمان: أحمد (م 303 ه_ ) المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف _ 1388 ه_ .

89_ الخصال: الشيخ الصدوق: محمّد بن بابويه (م 381 ه_ ) منشورات دارالنشر الاسلامي، قم _ 1403 ه_ .

90_ خطط الشام: محمّد كرد علي، مصر _ 1963 م .

91_ الخطط المقريزية: تقي الدين المقريزي (م 845 ه_ ) دار صادر، بيروت .

( 678 )

92_ الخلاصة: العلاّمة الحلي (648 _ 726 ه_ ) النجف الأشرف .

93_ الخلاف: الشيخ الطوسي (م 460 ه_ ) دارالكتب العلمية، قم .

94_ الخلافة والإمامة: عبدالكريم الخطيب (م 1396 ه_ ) دار المعرفة، بيروت _ 1395 ه_ .

95_ الخوارج والشيعة: يوليوس فلهوزن، ترجمة الدكتور عبدالرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت .

* حرف الدال:

96_ دائرة المعارف: فريد وجدي، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين _ 1386 ه_ .

97_ الدرجات الرفيعة: صدر الدين السيد علي خان المدني الحسيني (م 1120 ه_)

منشورات المكتبة، الحيدرية، النجف الأشرف _ 1381 ه_ .

98_ الدر المنثور: جلال الدين السيوطي (849 _ 911 ه_ ) دارالفكر، بيروت _ 1403 ه_ .

99_ ديوان ابن الرومي: أبو الحسن علي بن العباس بن جريج (م 283 ه_ ) تحقيق كامل الكيلاني، طبعة مصر 1924 م .

* حرف الذال:

100_ الذخيرة: الشريف المرتضى (355 _ 436 ه_) طبع ايران .

101_ الذريعة: آغا بزرگ الطهراني (م 1389 ه_ ) دارالأضواء، بيروت .

102_ الذكرى: الشهيد الأول: محمّد بن مكي العاملي (733 _ 786 ه_ ) طبعة حجر، إيران .

* حرف الراء:

103_ ربيع الأبرار: الزمخشري: محمود بن عمر (467 _ 538 ه_ ) منشورات

( 679 )

الشريف الرضي، قم _ 1410 ه_ .

104_ الرجال: ابن داود: الحسين بن علي الحلي

(من علماء القرن السابع الهجري) طهران _ 1342 ه_ .

105_ الرجال: البرقي: أحمد بن عبداللّه (274 أو 280 ه_ ) طهران _ 1383 ه_ .

106_ الرجال: الطوسي: محمّد بن الحسن (م 460 ه_) النجف الأشرف _ 1381 ه_.

107_ الرجال: الكشي: أبو عمرو (من علماء القرن الرابع) مؤسسة الأعلمي، كربلاء _ العراق .

108_ الرجال: النجاشي: أحمد بن علي (372 _ 450 ه_ ) بيروت _ 1409 ه_ .

109_ الرحلة (تحفة النظّار في غرائب الأمصار): ابن بطوطة: محمّد بن عبداللّه (م 779 ه_ ) دارالكتب العلمية، بيروت _ 1407 ه_ .

110_ الرسائل: الإمام الخميني (1320 _ 1409 ه_ ) مؤسسة إسماعيليان، قم _ 1385 ه_ .

111_ الرسائل: أبو عثمان عمرو الجاحظ (م 255 ه_ ) طبع مصر .

112_ رسالة في آل أعين: أبو غالب الزراري (م 368 ه_ ) مطبعة ربّاني، اصفهان _ 1399 ه_ .

113_ الرواشح السماوية: المحقق الداماد (م 1401) طبعة حجر، إيران .

114_ روح المعاني: الآلوسي: أبوالفضل: شهاب الدين السيد محمود البغدادي (م 1270 ه_ ) دار إحياء التراث العربي، بيروت.

115_ روضات الجنات: محمّد باقر الخوانساري (م 1313 ه_ ) طهران _ 1390 ه_.

116_ روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري: محمّد بن علي (من علماء القرن السادس الهجري) تبريز _ 1330 ه_ .

* حرف الزاي:

117_ الزيدية نظرية وتطبيق: علي عبدالكريم فضيل، شرف الدين، طبع عمان _ 1405 ه_ .

( 680 )

* حرف السين:

118_ السجدة على التربة .

119_ السجود على الأرض: العلاّمة علي الأحمدي، مؤسسة في طريق الحق، قم .

120_ السراج المنير: الخطيب الشربيني، دار المعرفة، بيروت .

121_ سفينة البحار: الشيخ عباس القمي (1294 _ 1359 ه_ ) طبعة حجر، النجف الأشرف .

122_ السنة والشيعة: محمّد رشيد

رضا (م 1354 ه_ ) .

123_ السنن: ابن ماجة: محمّد بن يزيد القزويني (207 _ 275 ه_ ) داراحياء التراث العربي، بيروت _ 1359 ه_ .

124_ السنن الكبرى: البيهقي: أحمد بن الحسين (م 458 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت 1406 ه_ .

125_ سيد المرسلين: محاضرات جعفر السجاني (مؤلف هذا الكتاب تولد 1347 ه_) بقلم: جعفر الهادي، مؤسسة النشر الاسلامي، قم _ 1412 ه_ .

126_ سير أعلام النبلاء: الذهبي: شمس الدين محمّد بن أحمد (م 848 ه_ ) مؤسسة الرسالة، بيروت _ 1409 ه_ .

127_ السيرة الحلبية: الحلبي: برهان الدين علي بن ابراهيم (م 1044 ه_ ) المكتبة الإسلامية، بيروت .

128_ سيرتنا و سنتنا: العلامة عبدالحسين الأميني (1320 _ 1390 ه_ ) طبع النجف الأشرف .

129_ السيرة النبوية: ابن هشام: عبدالملك بن أيوب الحميري (م 213 أو 218 ه_ ) دارالتراث العربي، بيروت .

* حرف الشين:

130_ الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى (م 436 ه_ ) مؤسسة الصادق،

( 681 )

طهران _ 1410 ه_ .

131_ شذرات الذهب: ابن عماد الحنبلي (1032 _ 1089 ه_ ) دارالفكر، بيروت _ 1399 ه_ .

132_ شرح التجريد: القوشچي: علاء الدين، طبعة حجر، تبريز .

133_ شرح العقائد النسفية: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (م 792 ه_ ) مكتبة المثنى، بغداد .

134_ شرح مقاصد الطالبيين: سعد الدين التفتازاني (م 792 ه_ ) طبع مصر .

135_ شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد (م 655 ه_ ) دار احياء الكتب العربية، القاهرة _ 1378 ه_ .

136_ الشفاء: الشيخ الرئيس ابن سينا (م 428 ه_ ) انتشارات بيدار، إيران .

137_ شمس العرب تسطع على الغرب: المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، الترجمة العربية، دار الآفاق الجديدة، بيروت _ 1410

ه_ .

138_ الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة: هاشم معروف الحسيني (م 1407 ه_ ) دار القلم، بيروت _ 1978 م .

139_ الشيعة والتشيّع: محمّد جواد مغنية، مكتبة المدرسة ودارالكتاب العربي، بيروت .

140_ الشيعة والحاكمون: محمّد جواد مغنية، دار و مكتبة الهلال، بيروت _ 1404 ه_

* حرف الصاد:

141_ الصحيح: أبو داود السجستاني (م 275 ه_ ) دار إحياء التراث العربي، بيروت.

142_ الصحيح: البخاري: محمّد بن اسماعيل (م 256 ه_ ) مكتبة عبدالحميد أحمد حنفي، مصر _ 1314 ه_ .

143_ الصحيح: الترمذي: محمّد بن عيسى بن سورة (209 _ 279 ه_ ) دار إحياء التراث العربي، بيروت .

( 682 )

144_ الصحيح: مسلم بن الحجاج القشيري (م 261 ه_ ) دار احياء التراث العربي، بيروت .

145_ الصحيفة السجادية الجامعة: الإمام زين العابدين علي بن الحسين _ عليه السلام _ مؤسسة الإمام المهدي _ عجل اللّه فرجه الشريف _ قم _ 1411 ه_ .

146_ الصلة بين التصوّف والتشيع: الدكتور كامل مصطفى الشيبي، دار المعارف، مصر _ 1969 م .

147_ الصواعق المحرقة: أحمد بن حجر الهيتمي (م 974 ه_ ) مكتبة القاهرة، مصر _ 1385 ه_ .

* حرف الطاء:

148_ الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد (م 230 ه_ ) دار صادر، بيروت _ 1380 ه_ .

* حرف العين:

149_ عبداللّه سبأ: السيد مرتضى العسكري (المعاصر) النجف الأشرف .

150_ العبر في خبر من غبر: الذهبي: أبو عبداللّه محمّد بن أحمد (673 _ 748 ه_ ) دار الكتب العلمية، بيروت .

151_ عبقات الأنوار: السيد مير حامد حسين الهندي (ت 1306 ه_ ) مؤسسة الامام المهدي _ عجل اللّه فرجه الشريف _ قم _ 1406 ه_ .

152_ العقائد الجعفرية: الطوسي: محمّد بن الحسن (م 460

ه_ ) طبعت على شكل رسالة مع كتاب جواهر الفقه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم _ 1412 ه_ .

153_ العقد الفريد: ابن عبد ربه الاندلسي (246 _ 328 ه_ ) دارالكتب العلمية، بيروت _ 1404 ه_ .

154_ العقيدة والشريعة في الإسلام: المستشرق اجناس جولد تسيهر (1850 _ 1921 م) دارالكتاب العربي، مصر .

155_ العقيدة الطحاوية: أبو جعفر الطحاوي (321 ه_ ) .

( 683 )

156_ علل الشرائع: الشيخ الصدوق (م 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي، بيروت 1408 ه_ .

157_ عمدة الطالب: ابن مهنا: جمال الدين أحمد بن علي (م 828 ه_ ) النجف الاشرف _ 1380 ه_ .

158_ عمدة القارئ: محمود بن أحمد العيني الحنفي، طبع مصر .

159_ عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق (م 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي، بيروت _ 1404 ه_ .

* حرف الغين:

160_ الغارات: ابن هلال الثقفي (م 283 ه_ ) دارالكتاب الإسلامي، قم _ 1411 ه_ .

161_ غاية المرام: السيد هاشم البحراني (م 1107 ه_ ) طبعة حجر، إيران .

162_ الغدير: العلاّمة عبدالحسين أحمد الأميني (1320 _ 1390 ه_ ) دارالكتاب العربي، بيروت _ 1387 ه_ .

* حرف الفاء:

163_ فتح الباري: ابن حجر: شهاب الدين أحمد العسقلاني (م 852 ه_ ) دار احياء التراث العربي، بيروت .

164_ فتح البيان: صديق حسن خان .

165_ الفتنة الكبرى: الدكتور طه حسين، القاهرة _ 1951 م .

166_فتوح البلدان: البلاذري: أبو الحسن (م 279 ه_ ) المكتبة التجارية، مصر _ 1959 م .

167_ فجر الإسلام: أحمد أمين (م 1388 ه_ ) نشر دارالكتاب العربي .

168_ فرج المهوم: علي بن موسى بن طاووس (م 664 ه_ )، النجف الأشرف _ 1368 ه_ .

( 684 )

169_ فرق الشيعة: النوبختي: الحسن

بن موسى (من أعلام القرن الثالث الهجري) دارالأضواء، بيروت _ 1404 ه_ .

170_ الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم الأندلسي (م 456 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت _ 1395 ه_ .

171_ الفصول المختارة: الشيخ المفيد (م 413 ه_ )، مكتبة الداوري، قم _ 1396 ه_ .

172_ الفصول المهمة: ابن الصبّاغ المالكي (م 855 ه_ ) المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف _ 1381 ه_ .

173_ فضائل القرآن: الدارمي .

174_ فلاسفة الشيعة: الشيخ عبداللّه نعمة (المعاصر)، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت .

175_ الفهرست: ابن النديم: محمّد بن اسحاق (296 _ 385 ه_ ) القاهرة _ 1348 ه_ .

176_ الفهرست: محمّد بن الحسن الطوسي (م 460 ه_ ) جامعة مشهد، ايران _ 1351 ه_ .

177_ في رحاب أئمة أهل البيت: السيد محسن الأمين العاملي (م 1371 ه_ ) دار التعارف، بيروت _ 1400 ه_ .

* حرف القاف:

178_ قاموس الرجال: التستري: محمّد تقي (المعاصر) طهران _ 1397 ه_ .

179_ قصة الحضارة: ويل دورانت، دارالجيل، بيروت _ 1408 ه_ .

* حرف الكاف:

180_ الكافي: الكليني: محمّد بن يعقوب (م 329 ه_ ) دارالكتب الإسلامية، طهران _ 1397 ه_ .

181_ الكامل في التاريخ: ابن الأثير الجزري: محمّد بن محمّد (م 630 ه_ )

( 685 )

دارالكتاب العربي، بيروت .

182_ الكشّاف: الزمخشري: محمود بن عمر (م 538 ه_ ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة _ 1367 ه_ .

183_ كشف الظنون: حاج خليفة مصطفى بن عبداللّه (م 1067 ه_ ) طبع استانبول _ 1362 ه_ .

184_ كشف الغمة: الأربلي: علي بن عيسى (م 693 ه_ ) دارالأضواء، بيروت _ 1405 ه_ .

185_ كمال الدين: الشيخ الصدوق (م 381 ه_ ) طهران _ 1405 ه_ .

186_ كنز

العمال: المتقي الهندي (م 975 ه_ ) مؤسسة الرسالة، بيروت _ 1405 ه_ .

187_ كنز الفوائد: الكراجكي: محمّد بن علي بن عثمان (م 449 ه_ ) دارالأضواء، بيروت _ 1405 ه_ .

* حرف اللام:

188_ اللئالي المصنوعة: جلال الدين السيوطي (م 911 ه_ ) دار المعرفة، بيروت _ 1403 ه_ .

189_ لسان العرب: العلامة ابن منظور: محمّد بن مكرم (م 711 ه_ ) قم _ 1405 ه_.

190_ لسان الميزان: العسقلاني: أحمد بن علي بن حجر (م 852 ه_ ) مؤسسة الأعلمي، بيروت .

191_ لؤلؤة البحرين: المحدث البحراني: الشيخ يوسف، النجف الأشرف _ 1386 ه_

* حرف الميم:

192_ ماضي النجف وحاضرها: الشيخ جعفر آل محبوبة (م 377 ه_ ) دارالأضواء، بيروت _ 1406 ه_ .

( 686 )

193_ مجمع البيان: الطبرسي: الفضل بن الحسن (471 _ 548 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت _ 1408 ه_ .

194_ مجمع الزوائد: الهيثمي: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر (735 _ 807 ه_) درالكتاب العربي، بيروت _ 1402 ه_ .

195_ محاسن التأويل: جمال الدين القاسمي (1332 ه_ ) .

196_ المحاسن والمساوئ: البيهقي: أحمد بن الحسين (م 458 ه_ ) مكتبة النهضة، مصر .

197_ محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية: محمّد الخضري، دار احياء الكتب العربية _ 1349 ه_ .

198_ مختصر تاريخ العرب: السيد أمير علي، طبع مصر _ 1938 م .

199_ مرآة الجنان: أبو محمّد، عبداللّه بن أسعد اليافعي (م 768 ه_ ) دائرة المعارف العثمانية، الهند _ 1337 ه_ .

200_ المراجعات: السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي (1290 _ 1377 ه_ ) طبع مصر .

201_ مروج الذهب: المسعودي: علي بن الحسين (م 345 ه_ ) منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت _ 1965 م .

202_ مسائل

فقهية: السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي (م 1377 ه_ ) منظمة الاعلام الإسلامي، طهران _ 1407 ه_ .

203_ المستدرك: الحاكم النيسابوري: محمّد بن عبداللّه (م 405 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت .

204_ مستدرك الوسائل: الشيخ النوري: الحسين بن محمّد تقي (1254 _ 1320 ه_) مؤسسة آل البيت، قم _ 1407 ه_ .

205_ المسند: أحمد بن حنبل (م 241 ه_ ) دارالفكر، بيروت .

206_ مصفى المقال: آغا بزرگ الطهراني (م 1389 ه_ ) دار العلوم، بيروت _

( 687 )

1408 ه_ .

207_ المصنف: أبوبكر بن أبي شيبة .

208_ المصنف: عبدالرزاق، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، 11 مجلداً، دار الكتب السلفية، القاهرة .

209_ مظاهر الشعوبية في الأدب العربي: الدكتور محمّد نبيه حجاب، طبع مصر _ 1961 م .

210_ معالم العلماء: ابن شهر آشوب: محمّد بن علي السروي المازندراني (488 _ 588 ه_ ) النجف الأشرف _ 1380 ه_ .

211_ معاني الأخبار: الصدوق: محمّد بن بابويه القمي (م 381 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت _ 1399 ه_ .

212_ معجم الادباء: الحموي: ياقوت بن عبداللّه (م 262 ه_ ) دارالفكر، بيروت _ 1400 ه_ .

213_ معجم البلدان: الحموي: ياقوت بن عبداللّه (م 262 ه_ ) دار احياء التراث العربي، بيروت _ 1399 ه_ .

214_ المغني: عبداللّه بن قدامة (541 _ 620 ه_ ) مطبعة الإمام، مصر .

215_ مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الاصفهاني (284 _ 356 ه_ ) مؤسسة دار الكتاب، قم .

216_ مقالات الإسلاميين: الأشعري: علي بن اسماعيل (م 324 ه_ ) الطبعة الثالثة 1400 ه_ .

217_ مقتل الامام الحسين: أبو مخنف: لوط بن يحيى الغامدي (م 158 ه_ ) المكتبة العلمية، قم .

218_ الملل والنحل: الشهرستاني: محمّد بن عبدالكريم (479 _ 548

ه_ ) دارالمعرفة، بيروت _ 1402 ه_ .

219_ المناقب: الخوارزمي: أحمد بن محمّد (م 568 ه_ ) مؤسسة النشر الاسلامي، قم _ 1411 ه_ .

( 688 )

220_ مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب: محمّد بن علي السروي المازندراني (488 _ 588 ه_ ) المطبعة العلمية، قم .

221_ مناقب علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ : ابن المغازلي: علي بن محمّد الشافعي الواسطي (م 483 ه_ ) المكتبة الإسلامية، طهران _ 1403 ه_ .

222_ منتخب كنز العمال (هامش مسند أحمد): المتقي الهندي (م 975 ه_ ) دار الفكر .

223_ المنتظم: ابن الجوزي: عبدالرحمان بن علي البغدادي (م 597 ه_ ) حيدرآباد 1357 ه_ وأخيراً في لبنان .

224_ منهاج السنة: أحمد بن تيمية (661 _ 728 ه_ ) طبع مصر .

225_ الموطأ: مالك بن أنس (م 179 ه_ ) دارالآفاق الجديدة، بيروت _ 1403 ه_ .

226_ الميزان في تفسير القرآن: العلاّمة الطباطبائي (1321 _ 1402 ه_ ) مؤسسة الأعلمي، بيروت _ 1403 ه_ .

227_ ميزان الاعتدال: محمّد بن أحمد الذهبي (م 748 ه_ ) دارالمعرفة، بيروت .

* حرف النون:

228_ نظرية الإمامية: أحمد محمود صبحي (المعاصر) دارالمعارف، مصر .

229_ نقد المحصل: فخر الدين الرازي (م 606 ه_ ) .

230_ النهاية: ابن الأثير: مبارك بن محمّد الجزري (م 606 ه_ ) مؤسسة اسماعيليان، قم _ 1405 ه_ .

231_ نهاية المرام: العلاّمة الحلي: الحسن بن يوسف (م 726 ه_ ) مخطوط .

232_ نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي (359 _ 404 ه_ ) بيروت _ 1387 ه_ .

* حرف الهاء:

233_ الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (م 852 ه_ )

( 689 )

دار احياء التراث العربي، بيروت

.

234_ هشام بن الحكم: عبداللّه النعمة، دارالفكر العربي، بيروت _ 1405 ه_ .

235_ هوية التشيع: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (المعاصر) دارالكتبي، بيروت _ 1407 ه_ .

* حرف الواو:

236_ الوحي المحمّدي: محمّد رشيد رضا (م 1354 ه_ ) طبع مصر .

237_ وسائل الشيعة: الحر العاملي: محمّد بن الحسن (1033 _ 1104 ه_ ) دار إحياء التراث العربي، بيروت _ 1403 ه_ .

238_ وفيات الأعيان: ابن خلّكان، أحمد بن أحمد (608 _ 681 ه_ ) منشورات الشريف الرضي، قم 1364 ه_ .

239_ وقعة صفين:نصر بن مزاحم المنقري (م 212 ه_ ) دار احياء الكتب العربية، القاهرة _ 1365 ه_.

* حرف الياء:

240_ يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: أبو منصور: عبدالملك بن اسماعيل الثعالبي النيسابوري (م 429 ه_ ) دارالفكر، بيروت _ 1392 ه_ .

241_ ينابيع المودة: القندوزي: سليمان بن إبراهيم البلخي (م 1294 ه_ ) مطبعة اختر، اسلامبول، 1301 ه_ .

242_ يوم الإسلام: أحمد أمين (م 1388 ه_ ) .

الجزء السابع (الزيدية)

مقدمة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسلام على نبيّه وصفيّه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد: فهذا هو الجزء السابع من موسوعتنا في الملل والنحل نقدّمه إلى القرّاء الكرام راجين منهم النقد والاِصلاح، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.

ونخصّ هذا الجزء ببيان مذهب الزيدية المنتمية إلى الاِمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ ذلك الاِمام الثائر الّذي ضمَّ إلى ثورته العارمة بوجه الظلم والطغيان، التجافيَ عن الدنيا، والزهدَ في صفرها وبيضها، والتهجّد آناء الليل وغياهبه بالصلاة وتلاوة القرآن، وكان فقيهاً في الدين، محدّثاً في الاِسلام، مفسّ_راً للقرآن، ولم يكن له في الفقه منهج كما لم يكن

له في مجال الاَُصول والعقائد مذهب خاص سوى ما عليه العترة الطاهرة _ عليهم السلام _ عامة، من أُصول التوحيد والعدل وبطلان الجبر والتشبيه، وقد نشرت منه آثار في الحديث والتفسير والفقه وسيوافيك تفصيلها.

نعم تأثّر المذهب الزيدي الحاضر بمبادىَ الاعتزال كثيراً كما تأثّر بفقه ببعض المذاهب الاَربعة، وأمّا ما هو السبب لتأثّره بآراء المعتزلة في العقائد،

( 4 )

وتفتّحه مع مدرسة الرأي في الفقه، فيحتاج إلى بسط في الكلام وسنوقفك على جليّة الحال في المستقبل.

وبما أنّ لزيد الشهيد بين الاَُمة الاِسلامية، وعند أئمة العترة الطاهرة مكانة خاصة، ومنزلة كبيرة لم تكن لسائر أئمة الزيدية، من الحسنيّين والحسينيّين الذين شايعوا زيداً في الخروج على الخلفاء، ومارسوا خطّه في الجهاد، _ وكانت مساعي الجميع مشكورة _ لم نجد بدّاً من فتح بابين، يتكفّل أحدهما، لبيان حياة زيد وآثاره وجهاده ونضاله، ويختص الآخر، ببيان حياة أئمة الزيدية والاِيعاز إلى الدول الّتي أسّسوها، والاَُصول التي اختاروها في مجال العقيدة، والمنهج الذي سلكوه في استنباط الاَحكام الشرعية إلى غير ذلك من مباحث جانبيّة، تسلّط الضوء على الموضوع.

ولاَجل إيضاح تاريخ زيد وأتباعه قسمنا الكتاب إلى قسمين:

1_ ما يرجع إلى زيد من ولادته إلى شهادته وذلك في ضمن أربعة عشر فصلاً.

2_ يتكفل ببيان السائرين على دربه وما يمت إليهم بصلة .

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نشير إلى بعض الفرق التي خلقتها السياسة في أوساط الشيعة في عصر الاَئمة الثلاثة: السجّاد والباقر والصادق _ عليهم السلام _ بوجه موجز، مع الاِشارة إلى الفرق الواقعية وإن كانت قليلة.

الموَلف

29 ربيع الثاني 1415

( 5 )

القسم الاَوّل:

وإليك مجمل ما فيه من فصول:

الفصل الاَوّل:فرق الشيعة بين الحقائق والاَوهام.

الفصل الثاني:في حياة زيد في عصر الاَئمّة الثلاثة _ عليهم السلام

_ .

الفصل الثالث: في خطبه، وكلماته، وأشعاره، ومناظراته، وعبادته.

الفصل الرابع: في مشايخ زيد وتلاميذه في الحديث والتفسير.

الفصل الخام_س: الآثار العلمية الباقية عن زيد.

الفصل السادس: دراسة مسند الاِمام زيد سنداً ومضموناً.

الفصل السابع: هل كان زيد معتزلي المبدأ والفكرة.

الفصل الثامن: هل كان زيد أماماً في الاَُصول والعقائد، والفروع والاَحكام.

الفصل التاسع: هل دعا إلى نفسه أو دعا إلى الرضا من العترة.

الفصل العاش__ر: موقف أئمّة أهل البيت من خروج زيد وجهاده.

الفصل الحادي عشر: الخط الثوري المدعَم من قبل أئمّة أهل البيت.

الفصل الثاني عشر: موقف علماء الشيعة من زيد الشهيد.

الفصل الثالث عشر: الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين _ عليه السلام _ .

الفصل الرابع عشر: ثورة زيد كانت استمراراً لثورة الحسين _ عليه السلام _ .

( 6 )

( 7 )

القسم الاَوّل : فهرس إجمالي لفصول القسم

اشاره

القسم الاَوّل : فهرس إجمالي لفصول القسم الأوّل، الأربعة عشر

الفصل الاَوّل فرق الشيعة بين الحقائق والاَوهام

الفصل الاَوّل فرق الشيعة بين الحقائق والاَوهام

إنّ من ثمرات وجود النبي المعصوم بين الاَُمّة هو رأب الصدع بعد ظهوره بينهم، وفصل القول، عند اندلاع النزاع، والقضاء على الفتنة في مهدها، وكان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يلمّ الشمل، ويُزيل الخلاف عند بروزه فلاَجل ذلك كان اختلاف الصحابة في عصره _ صلى الله عليه وآله وسلم _ غير موَثر في تفرق الاَُمّة، لاَنّه صلوات اللّه عليه وآله بحنكته، واعتقاد الاَُمّة بعصمته، كان يأخذ بزمام الاَُمور، ويكسح أسباب الشقاق من جذوره.

فعندما اعترض عليه ذو الخويصرة عند توزيع الغنائم بين المسلمين بقوله: إعدل يامحمّد فإنّك لم تعدل، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن لم أعدل، فمن يعدل» ثم أعاد اللعين وقال: هذه قسمة ما أُريد بها وجه اللّه، فعند ذاك لم يجد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بُدّاً من أن يعرّفه للاَُمّة الاِسلامية وقال: «سيخرج من ضئضىَ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» (1)

____________

(1) مضت اسناد الرواية في: 5|480 _ 502، من هذه الموسوعة

( 8 )

وليست قصة ذي الخويصرة وحيدة في بابها، فقد حدثت حوادث وكوارث في زمانه كادت تفرّق الاَُمّة ولكنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قضى عليها بعلمه وحلمه وحكمته، ولا يقصر حديث الاِفك (1)عن قصة ذي الخويصرة، أو قعود بعض الصحابة عن الخروج مع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في جيش العسرة، أو ما حدث في أيّام مرضه، حيث طلب دواة وقرطاساً حتى يكتب كتاباً لاتضل الاَُمّة بعده، فخالف بعضهم، ووافق البعض الآخر، فقضى النبي _ صلى

الله عليه وآله وسلم _ على الاختلاف وقال: «قوموا عنّي، لا ينبغي عندي التنازع» (2). إلى غير ذلك من حوادث مريرة في عصر الرسالة، فقد استقبلها القائد الكبير برحابة صدر في غزواته وفي إقامته في المدينة.

وقد كانت وحدة الاَُمّة الاِسلامية رهن قائد مطاع معصوم، لا يخضع لموَثرات الهوى، وتكون الاَُمّة مأمورة باتّباعه قال تعالى: "وَما كَانَ لِمُوَْمِنٍ وَلا مُوَْمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا" (الاَحزاب _ 36) .

ولئن تفرقت الاَُمّة إلى فرقتين أو أكثر فإنّما تفرّقوا بعد رحيله، وسرُّ الاختلاف يكمن في تناسي الاَُمّة الاِمام المعصوم الذي نصبه النبي مرجعاً عند الخلاف، غير أنّ المهتمّين بأمر الرسول ونصوصه تعلّقوا به تعلّقاً دينياً ولاَجل ذلك قلّ الاختلاف بينهم أو لم يتحقق إلى عصر الصادقين _ عليهما السلام _ وما يذكر من الفرق في عهدهما، لا صلة لهم بالاِسلام فضلاً عن التشيّع وإنّما كان التفرّق آنذاك ارتداداً عن الاِسلام وخروجاً عن الدين كما سيتضح.

____________

(1) اقرأ تفصيل القصة وتشاجر الحيّين: الاَوس والخزرج في مسجد النبي بحضرته في صحيح البخاري: 5| 119 باب غزوة بني المصطلق، والسيرة النبوية: لابن هشام: 3|312. وذكرها الشهرستاني في الملل والنحل في فصل بدايات الخلاف: 1|21.

(2) لاحظ صحيح البخاري: 1|22، كتاب العلم، و2|14، والملل والنحل: للشهرستاني: 1|22 عند البحث في بدايات الخلاف.

( 9 )

يقول أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي صاحب كتاب الزينة: «كانت طائفة من (1) الشيعة قبل ظهور زيد بن علي مجتمعين على أمر واحد، فلمّا قتل زيد انحازت منهم طائفة إلى جعفر بن محمّد وقالوا بإمامته» (2).

إنّ الشيعة هم الذين شايعوا علياً وولديه الحسن والحسين _ عليهم

السلام _ وكانوا متمسّكين بإمامتهم وقيادتهم ولم يبرز أيُّ اختلاف ديني بينهم إلى زمن الاِمام الصادق _ عليه السلام _ ، لاَنّ الاعتقاد بوجود المعصوم، كان يدفعهم إلى سوَاله ورفع الاِبهام عن الملابسات في وجوه المسألة، وأمّا تاريخ الكيسانية الناجمة في عصر الاِمام السجاد _ عليه السلام _ فسندرسها حسب التاريخ وكلمات أصحاب المقالات.

هذا ما يلمسه الاِنسان من قراءة تاريخ الشيعة، ولكن نرى أنّ أصحاب المقالات يذكرون للشيعة فرقاً كثيرة، وهم بين غلاة وغيرها.

قال الشهرستاني تبعاً لعبد القاهر البغدادي (3): والشيعة خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاةوإسماعيلية (4). ثم ذكر لكل فرقة طوائف كثيرة ولعل الغاية من إكثار الفرق تطبيق حديث الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في انقسام أُمّته إلى ثلاث وسبعين فرقة، عليهم.

ونحن نقف أمام هذا التقسيم وقفة غير طويلة، فنذكر أمرين:

الاَوّل: إنّ الغلاة ليسوا من الشيعة، ولا من المسلمين، وإنّ عدهم من الطوائف الاِسلامية جناية على المسلمين والشيعة، وعلى فرض كونهم فرقاً، فلم يكن لهم أتباع ولم يكتب لهم البقاء إلاّ أياماً قلائل.

____________

(1) كذا في النسخة، ولعل لفظة «من» زائدة أو بيانيّة.

(2) أبو حاتم الرازي: كتاب الزينة: 207.

(3) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق: 21. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

(4) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|147.

( 10 )

الثاني: إنّ الكيسانية لم تكن فرقة نجمت بين الشيعة، وإنّما خلقتها أعداء أئمة أهل البيت، ليستغلّوها ويقضوا بها على تماسك الشيعة ووحدتهم، وأكثر ما يمكن أن يقال في المقام: إنّه كانت هناك شكوك وأوهام عرت بعض البسطاء ثم أُزيلت، فتجلى الصبح لذي عينين، وإليك الكلام في كلا المقامين:

* * *

الغلاة ليسوا من المسلمين:

قد ذكر أصحاب الفرق فرقاً للشيعة باسم الغلاة ومع أنّهم يصرّحون بأنّهم

ليسوا من فرق المسلمين ولكن يذكرونها فرقاً للشيعة ويحملون أوزار الغلاة على الشيعة. والشيعة طائفة من المسلمين فكيف يصح عدّ الغلاة منهم !!.

قال البغدادي: «فأمّا غلاتهم الذين قالوا بإلهية الاَئمة وأباحوا محرّمات الشريعة وأسقطوا وجوب فرائض الشريعة كالبيانية، والمغيرية، والجناحية، والمنصورية، والخطابية، والحلولية، ومن جرى مجراهم فماهم من فرق الاِسلام وإن كانوا منتسبين إليه» (1).

وقال أيضاً: الكلام في ذلك (الفرق الاِسلامية) يدور على اختلاف المتكلمين فيمن يعد من أُمّة الاِسلام وملّته _ إلى أن قال: _ فإن كان على بدعة الباطنية، أو البيانية، أو المغيرية، أو المنصورية، أو الجناحية،أو السبئية، أو الخطابية من الرافضة، أو كان على دين الحلولية أو على دين أصحاب التناسخ أو على دين الميمونية، أو اليزيدية من الخوارج أو على دين الخابطية، أو الحمارية من

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 23_ 24.

( 11 )

القدرية، أو كان ممن يحرّم شيئاً ممن نصّ القرآن على إباحته باسمه، أو أباح ما حرّم القرآن باسمه فليس هو من جملة أُمّة الاِسلام _ إلى أن قال:_ فالفرق المنتسبة إلى الاِسلام في الظاهر مع خروجها عن جملة الاَُمّة، عشرون فرقة هذه ترجمتها:

سبئية، وبيانية، وحربية، ومغيرية، ومنصورية، وجناحية، وخطّابية، وغرابية، ومفوضية، وحلولية، وأصحاب التناسخ، وخابطية، وحمارية، ومقنّعية، ورزامية، ويزيدية، وميمونية، وباطنية، وحلاّجية، وعذافرية، وأصحاب إباحة، وربما انشعبت الفرقة الواحدة من هذه الفرق أصنافاً كثيرة (1).

أقول: إنّ البحث في هذا الفصل في كتب الملل والنحل هو التحدث عن الفرق الاِسلامية ولا تكون الفرقة، إسلامية إلاّ إذا كان المقسم (الاِسلام) موجوداً فيها، فالاِسلام هو الشهادة على توحيده ورسالة نبيّه وحشر الخلق يوم المعاد، والتصديق بما جاء به النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على وجه الاِجمال، فمن أنكر

واحداً من هذه، فليس بمسلم ولا يحمل عقيدة إسلامية، وهذه الفرق التي جاء بها الاَشعري في كتاب مقالات الاِسلاميين وتبعه البغدادي في الفرق بين الفرق ليسوا من الاِسلام ولا الشيعة بشيء وإنّما هي فرق مرتدة عن الاِسلام ولايمكن الحكم عليهم بالاِسلام، فالاَولى حذف هوَلاء المرتدين عن كتب الملل والنحل، والبحث عنهم تاريخياً فقط.

لا شك أنّ هوَلاء تنزلوا من علياء الاِسلام إلى حضيض الكفر وما جرَّتهم إلى ذلك إلاّ مطامع وشهوات استهوتهم إلى هذه المقالات الباطلة ومن حسن الحظ أنّه لم تكتب عليهم حياة معروفة إنّما كانت أيّاماً قلائل قطعت معرّتَهم حمامُهم فلم يبق منهن ذكر إلاّ بين أسطر التاريخ.

على أنّ قسماً منهم قاموا بهذه الدعايات من قبل السياسات الزمنية روماً

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 232.

( 12 )

لتشتيت كلمة الشيعة أو المسلمين، لكن سرعان ما قلب عليهم الدهر ظهر المجنّ لما تمكنت السياسة من الحصول على غاياتها المنشودة فأُخذوا وقتلوا تقتيلاً.

هكذا يعامل مع كل عميل يعمل لصالح المستكبر. على أنّه لم يكن لمنهجهم معتنق قابل للذكر إلاّ شذاذ الآفاق أو ساقة الناس فمن مال إليهم لغاية دنيوية أو لشكوك وأوهام عرت لهم لا يتجاوز عددهم عدد الاَصابع إلاّ شيئاً طفيفاً حتى أصبح الجميع في حديث الاَمس الدابر.

والذي يتحمّل وزر ذكر هوَلاء من الفرق الاِسلامية الشيعية هو الشيخ المتكلّم الجليل الحسن بن موسى النوبختي (1)الشيعي من أعلام القرن الثالث المتوفّى حوالي عام 310ه_ في كتابه «فرق الشيعة» ثم الشيخ الاَشعري (2)في كتابه «مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلّين»، وتبعهما من جاء بعدهما كالبغدادي في «الفرق بين الفرق» (3)والاِسفرائيني في «التبصير » (4)والشهرستاني في «الملل والنحل» (5).

وإنّي لاَضن بالحبر والورق على تسطير عقائد هوَلاء وكفرياتهم الذين قضى عليهم الدهر وشرب،

ولكن لاَجل إيقاف القارىَ على إجمال ما كانوا يعتقدونه نذكر أسماء الفرق مع التعريف الاِجمالي لمبادئهم حتى يقف على صدق ما قلناه.

قال الاَشعري: فمنهم الغالية وإنّما سمّوا الغالية لاَنّ_هم غلوا في علي _ عليه السلام _ وقالوا فيه قولاً عظيماً وهم خمس عشرة فرقة:

____________

(1) الحسن بن موسى النوبختي: فرق الشيعة: 36، وما بعدها.

(2) الاِمام الاَشعري: مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلين: 5، وما بعدها.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 225، وما بعدها.

(4) الاِسفرائيني: التبصير: 123، وما بعدها.

(5) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|150، وما بعدها.

( 13 )

الاَُولى: البيانية:

وهوَلاء يزعمون أنّ أبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية (1)نص على إمامة بيان بن سمعان التميمي ونصبه إماماً، يقولون بأنّ اللّه عزّ وجلّ على صورة الاِنسان وأنّه يهلك كلّه إلاّ وجهه وادّعى «بيان» أنّه يدعو (كوكب) الزهرة فتجيبه وأنّه يفعل ذلك بالاسم الاَعظم فقتله خالد بن عبد اللّه القسري، وقيل: إنّ كثيراً منهم يثبت لبيان بن سمعان، النبوة (2).

وقال النوبختي: فكان «بيان» تبّاناً يتبن التبن في الكوفة وأخذه خالد بن عبد اللّه القسري هو وخمسة عشر رجلاً من أصحابه، فشدّهم بأطنان القصب وصبّ عليهم النفط في مسجد الكوفة وألهب فيهم النار فأفلت منهم رجل فخرج بنفسه ثم التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكرّ راجعاً إلى أن ألقى نفسه في النار فأُحرق معهم (3) .

أقول: إنّ البيانية _ على فرض صحّة وجودها _ مشتقة من القول بإمامة محمد ابن الحنفية بعد شهادة السبط الاَكبر الحسين بن علي سلام اللّه عليهما وانتقال الاِمامة منه إلى ابنه أبي هاشم، فلما مات أبو هاشم اختلفوا في وصيّه إلى أقوال فمن قائل بأنّه ابن أخيه الحسن بن علي بن محمد الحنفية، إلى آخر بأنّه أخوه علي

بن محمد، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن فالاِمامة عندهم في بني الحنفية لاتخرج إلى غيرهم، إلى ثالث أنّه عبد اللّه بن عمرو بن الكنديّ، وأنّ الاِمامة خرجت من بني هاشم وتحرّكت روح أبي هاشم إلى عبد اللّه الكندي، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان ابن سمعان التميمي (4).

____________

(1) كل فرقة تنتمي إلى أبي هاشم فهي من فروع الكيسانية الممسوخة والفرق الثلاث الاَُول: البيانية، الجناحيّة، والحربية، من هذا الصنف.

(2) الاِمام الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 5 _ 6.

(3) النوبختي: فرق الشيعة: 28، طبع بيروت، تحقيق محمد صادق بحر العلوم، ولاحظ الفرق بين الفرق: 236.

(4) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|151 _ 152.

( 14 )

الثانية: الجناحية:

أصحاب عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر ذي الجناحين، يزعمون أنّ عبد اللّه بن معاوية كان يدّعي أنّ العلم ينبت في قلبه كما ينبت الكماة والعشب وأنّ الاَرواح تناسخت وأنّ روح اللّه جلّ اسمه كانت في آدم ثم تناسخت حتى صارت فيه، قال: وزعم أنّه ربّ وأنّه نبي فعبدته شيعته وهم يكفرون بالقيامة ويدعون أنّ الدنيا لاتفنى ويستحلّون الميتة والخمر وغيرهما من المحارم ويتأوّلون قول اللّه عزّ وجلّ: "لَيسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا" (1).

هذا ولم يذكر الاَشعري اشتقاقهم من أي فرقة ولكن جاء به النوبختي، وقال: «فرقة قالت أوصى أبو هاشم عبد اللّه بن محمد الحنفية إلى عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الخارج بالكوفة، وهو يومئذ غلام صغير فدفع الوصية إلى صالح بن مدرك وأمره أن يحفظها حتى يبلغ عبد اللّه بن معاوية فيدفعها إليه فهو الاِمام وهو العالم بكل شيء حتى غلوا فيه وقالوا: إنّ اللّه عزّ وجلّ

نور وهو في عبد اللّه بن معاوية قتله أبو مسلم في حبسه» (2)

الثالثة: الحربية:

هم أصحاب عبد اللّه بن عمر بن حرب، ويسمّون الحربية، يزعمون أنّ روح أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية تحولت فيه وأنّ أبا هاشم نصّ على إمامته (3) . ويرجع جذور هذه الفرق إلى القول بإمامة محمد الحنفية ثم أبي هاشم كما تقدم.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 6.والآية 93 من سورة المائدة.

(2) النوبختي: فرق الشيعة: 32، ولاحظ الفرق بين الفرق: 245.

(3) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 6، لاحظ الفرق بين الفرق: 243.

( 15 )

الرابعة: المغيرية:

هوَلاء أتباع المغيرة بن سعيد العجلي وكان يظهر في بدء أمره موالاة الاِمامية ويزعم أنّ الاِمامة بعد علي والحسن والحسين _ عليهم السلام _ إلى سبط الحسن محمد (المعروف بالنفس الزكية الذي توفي عام 145ه_) وزعم أنّه المهدي المنتظر، ثم إنّه أظهر مقالات فاسدة منها دعواه النبوة، دعواه علمه بالاسم الاَعظم، وزعم أنّه يحيي بها الموتى ويهزم بها الجيوش ومنها إفراطه في التشبيه وذلك أنّه زعم أنّ معبوده رجل من نور وله أعضاء وقلب ينبع من_ه الحكمة _ إلى أن قال: _ وكان المغيرة مع ضلالاته يأمر بانتظار محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي (1).

ويظهر من النوبختي أنّه كان يقول بإمامة الاَئمة إلى أبي جعفر الباقر _ عليهم السلام _ (57 _ 114ه_) فلما ت_وفي أبو جعفر محمد بن علي، دعا المغي_رة إلى إمام__ة محم_د بن عب_د اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم وأظهر ما أظهر فبرئت منه أصحاب أبي عبد اللّه جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ ورفضوه فزعم أنّهم رافضة وأنّه هو الذي سمّاهم بهذا الاسم وقال:

إنّ خالد بن عبد اللّه القسري أخذ المغيرة فسأله عن عقائده فأقر بها ودعا خالداً إليها فاستتابه خالد فأبى أن يرجع عن قوله فقتله وصلبه (2).

الخامسة: المنصورية:

أصحاب أبي منصور، يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين _ عليهم السلام _ أبو منصور وأنّ أبا منصور، قال: آل محمد هم السماء

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 9.

(2) النوبختي: فرق الشيعة: 63، وفيما ذكره تأمل واضح على أنّ خالد بن عبد اللّه القسري من عُمال آل أُمية، فكيف قتل من كان يدعو بالنفس الزكية الذي خرج في أوائل العباسيين وقتل عام 145ه_؟!. إلاّ أن تكون له دعوة خفيّة بعد استشهاد زيد وابنه يحيى عام 126 ه_ .

( 16 )

والشيعة هم الاَرض وأنّه هو الكسف الساقط من بني هاشم تأويلاً لقوله سبحانه: "وإن يَرَوْا كِسفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَركُوم" (الطور _ 44) وقد ذكر الاَشعري عقائدهم الفاسدة التي لا تمت صلة بالديانات الاِلهية (1).

قال البغدادي: وكفرت هذه الطائفة بالقيامة والجنّة والنار وتأوّلوا الجنّة على نعيم الدنيا والنار على محن الناس في الدنيا واستحلّوا مع هذه الضلالة خنق مخالفيهم، واستمرت فتنتهم على عادتهم إلى أن وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في زمانه على عوارت المنصورية فأخذ أبا منصور العجلي وصلبه، وهذه الفرقة كالمتقدمة عليها غير معدودة من فرق الاِسلام لكفرها بالقيامة والجنّة والنار (2) .

السادسة: الخطابية المطلقه:

أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب، يقولون: إنّ الاِمامة في أولاد عليّ إلى أن انتهت إلى جعفر الصادق، ويزعمون أنّ الاَئمة كانوا آلهة، وكان أبو الخطاب يزعم أوّلاً أنّ الاَئمة أنبياء، ثم زعم أنّهم آلهة، وأنّ أولاد الحسن والحسين كانوا أبناء اللّه وأحباءه، وكان يقول: إنّ جعفراً

إله، ولما بلغ ذلك جعفراً _ عليه السلام _ لعنه وطرده. وكان أبو الخطاب يدّعي بعد ذلك، الاِلهية لنفسه وزعم أتباعه أنّ جعفراً إله غير أنّ أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي (3).

وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة، ثم إنّ الذين جاءوا بعد أبي الخطاب انقسموا إلى فرق ذكرها الاَشعري وقد عبر عن موَسس الفرقة بالخطابية المطلقة لتتميز عن الفرق اللاحقة.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 9 _ 10.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق: 243.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 247.

( 17 )

السابعة: الخطابية المعمرية:

يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له «معمر» وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب. قال: واستحلّوا الخمر والزنا واستحلّوا سائر المحرمات ودانوا بترك الصلاة (1) وقد لعنه الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وسيأتيك نصه.

الثامنة: الخطابية البزيعية:

أصحاب بزيع بن موسى يزعمون أن جعفر بن محمد _ عليه السلام _ هو اللّه، وزعموا أن كل ما يحدث في قلوبهم وحي، وأنّ كل موَمن يوحى إليه، وزعموا أنّ منهم من هو خير من جبرئيل وميكائيل وأن أحدهم إذا بلغت عبادته، رفع إلى الملكوت (2) .

التاسعة: الخطابية العميرية:

أصحاب عمير بن بيان العجلي، وهذه الفرقة تكذب من قال منهم: إنّهم لا يموتون ويزعمون أنّهم يموتون ولا يزال خَلَفٌ منهم في الاَرض أئمة أنبياء وعبدوا جعفراً كما عبده اليعمريون وزعموا أنّه ربّهم وقد كانوا ضربوا خيمة في كناسة الكوفة ثم اجتمعوا إلى عبادة جعفر فأخذ يزيد بن عمر بن هبيرة« عمير بن البيان» فقتله في الكناسة وحبس بعضهم (3).

العاشرة: الخطابية المفضلية:

لاَنّ رئيسهم كان صيرفياً يقال له المفضل يقولون بربوبية جعفر كما قال

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 11، الرازي: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين:

87، البغدادي: الفرق بين الفرق: 248.

(2) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 12، النوبختي: فرق الشيعة: 43.

(3) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 12، النوبختي: فرق الشيعة: 44.

( 18 )

غيرهم من أصناف الخطابية وانتحلوا النبوة والرسالة وإنّما خالفوا في البراءة من أبي الخطاب لاَنّ جعفراً أظهر البراءة منه(1).

الحادية عشرة:

من أصناف الغالية يزعمون أنّ روح القدس هو اللّه عزّ وجلّ وكانت في النبي ثم في علي ثم في باقي الاَئمة الاثني عشر، ولم يذكر الاِمام الاَشعري اسم موَسس الفرقة كالفرقة التالية (2).

الثانية عشرة:

يزعمون علياً هو اللّه، ويكذبون النبي ويشتمونه ويقولون: إنّ علياً وجَّه بهِ ليبين أمره فادّعى الاَمر لنفسه (3) .

الثالثة عشرة:

هم أصحاب «الشريعي» يزعمون أنّ اللّه حلَّ في خمسة أشخاص في النبي وفي علي والحسن وفي الحسين وفي فاطمة فهوَلاء آلهة عندهم وليس يطعن أصحاب الشريعي على النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ... (4) .

الرابعة عشرة: السبائية:

أصحاب عبد اللّه بن سبأ، يزعمون أنّ علياً لم يمت وأنّه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملاَ الاَرض عدلاً كما ملئت جورا(5) .

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 13، البغدادي: الفرق بين الفرق: 250.

(2)3_4_5_ الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 14، 15، 16، ولاحظ في الوقوف على عقائد هذه الفرق كتب أصحاب المقالات والملل والنحل، وكأنّ المتأخرين عن الاَشعري عمدوا إلى تحرير ما ذكره، ولانطيل المقام بذكر المصادر.

( 19 )

وقد تعرفت في الجزء السادس على أنّ عبد اللّه بن سبأ على النحو الذي يذكره أصحاب التواريخ والمقالات أُسطورة تاريخية.

الخامسة عشرة: المفوضة:

يزعمون أنّ اللّه عزّ وجلّ وكّل الاَُمور وفوّضها إلى محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأنّه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأنّ اللّه لم يخلق من ذلك شيئاً، ويزعمون أنّ الاَئمة ينسخون الشرائع

ويهبط عليهم الملائكة... (1).

ونحن بدورنا نعلّق على هذه الفرق التي ذكروها فرقاً للشيعة وبالتالي فرقاً للاِسلام بأمرين:

الاَوّل: من المظنون جداً _ أنّ هذه الفرق على فرض التأكد من وجودها في عصورها ممّا صنعتها يد السياسة الاَثيمة لتشويش سمعة الاَئمة الطاهرين _ عليهم السلام _ بين المسلمين ومحق روعتهم، وقد استعانت في ذلك، برجال كانوا غامرين في حبّ التصدر والفخفخة، وجنون العظمة، ولما كانت دعوتهم على خلاف العقل والنقل، والفطرة الاِنسانية، لم يُقم المجتمع الاِسلامي لهم وزناً ولم يعيشوا إلاّ أيّاماً قلائل وقد قامت أئمة أهل البيت بدورهم على إيقاظ الاَُمّة عند استفحال الفساد وتبرّأوا من أصحاب هذه المقالات وعقائدهم. وسيوافيك كلامهم في حقّ هوَلاء الغلاة فانتظر.

الثاني: نحن نعاتب المشايخ: النوبختي والاَشعري والبغدادي والاِسفرائيني، والشهرستاني والرازي وغيرهم من كتّاب تاريخ العقائد، وأصحاب المقالات، حيث نسبوا هوَلاء إلى الشيعة مع تصريحهم بأنّهم غلاة كفار، لايمتّون إلى الاِسلام والمسلمين بصلة، وأقلُّ، كلمة يمكن أن يقال في حقهم إنّ الجنون

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين:16.

( 20 )

والمجون، وحب الجاه والمقام أسفت بهوَلاء إلى هوة المذلة واللعنة ثم الفناء المطلق فليس لاَحد أن يطعن الشيعة بانتماء هوَلاء إليهم، فما أحسن قول القائل:

غيري جنى وأنّا المعاقب فيكم * فكأنّني سبابة المتندِّم

"قُلْ هذِهِ سَبِيلي أدعُوا إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحانَ اللّهِ وَما أنا مِنَ المُشرِكِين" (يوسف _ 108) .

وليس انتماوَهم إلى الشيعة إلاّ كانتماء النصارى القائلين بالتثليث إلى المسيح _ عليه السلام _ وهل يوَخذ البريء بجرم المعتدي؟!. لا واللّه.

موقف الاَئمة من الغلاة:

إنّ موقف أئمة أهل البيت من هوَلاء المرتدّين موقف النبي الاَكرم من مشركي عصره والاَعصار الآتية فقد طردوهم، ولعنوهم وكفّروهم وحذّروا شيعتهم من مكائدهم ومصائدهم، وإليك قسماً من الروايات

الواردة في حقّ سعيد بن المغيرة، وأبي الخطاب، ولفيفاً من رجال العيث والفساد الذين كانوا يتظاهرون بالانتماء إلى أهل البيت _ عليهم السلام _ ولم يكونوا منهم بشيء.

وبما أنّ كتاب الرجال للشيخ الكشي الذي يعد من علماء القرن الرابع أحسن كتاب وضع في مجال التوثيق والجرح على أساس الروايات الواردة عن المعصومين _ عليهم السلام _ في حقّ الرواة، نقتبس الروايات من هذا الكتاب وإن كان لها مصادر أُخرى.

( 21 )

المغيرة بن سعيد في روايات أئمة أهل البيت _ عليهم السلام_:

1 _ روى الكشي عن جعفر بن عيسى وأبي يحيى الواسطي قال: قال أبو الحسن الرضا _ عليه السلام _: «كان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر _ عليه السلام _ فأذاقه اللّه حرّ الحديد».

2 _ أخرج الكشي عن عبد اللّه بن مسكان عمّن حدثه من أصحابنا عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: سمعته يقول: لعن اللّه المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي، فأذاقه اللّه حرّ الحديد. لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه، الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.

3 _ أخرج الكشي عن محمد بن عيسى بن عبيد: أنّ بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدَّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على ردّ الاَحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه _ عليه السلام _ يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسّ في

كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي فاتقوا اللّه ولاتقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فإنّا إذا حدّثنا قلنا قال اللّه عزّ وجلّ وقال رسول اللّه.

4 _ أخرج الكشي عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه _ عليه السلام _ يقول: «كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون في أصحاب أبي، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويُسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة فكل ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك مما دسّه المغيرة في كتبهم».

( 22 )

5 _ أخرج الكشي عن علي بن الحسان عن عمّه عبد الرحمن بن كثير قال: قال أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ يوماً لاَصحابه: «لعن اللّه المغيرة بن سعيد ولعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إنّ المغيرة كذب على أبي فسلبه اللّه الاِيمان وإنّ قوماً كذبوا عليّ، ما لهم، أذاقهم اللّه حرّ الحديد، فو اللّه ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا، مانقدر على ضرّ ولا نفع إن رُحمنا فبرحمته وإن عُذّبنا فبذنوبنا، واللّه مالنا على اللّه من حجّة ولامعَنا من اللّه براءة وإنّا لميتون ومقبورون، ومنشرون، ومبعوثون، وموقوفون، ومسوَولون، ويلهم مالهم، لعنهم اللّه آذوا اللّه وآذوا رسوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في قبره وأمير الموَمنين وفاطمة والحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمد بن علي، وها أنا ذا بين أظهركم، لحم رسول اللّه وجلد رسول اللّه، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع،

وينامون على فرشهم، وأنا خائف ساهر، وَجِل اتقلقل بين الجبال والبراري أبرأ إلى اللّه ممّا قال فيّ الاَجدع البّراد عبد بني أسد أبو الخطاب، لعنه اللّه، واللّه لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب الاّ تقبلوه فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً، استعدى اللّه عليهم وأتبرّأ إلى اللّه منهم أشهدكم إنّي امروَ ولدني رسول اللّه وما معي براءة من اللّه، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذّبني عذاباً شديداً أو أشد عذابه».

6 _ أخرج الكشي عن سلمان الكناني: قال: قال لي أبو جعفر _ عليه السلام _: هل تدري ما مثل المغيرة؟ قال: قلت: لا، قال: مثله مثل بلعم بن باعور، قلت: ومن بلعم قال: الذي قال اللّه عزّ وجلّ: "الّذِي آتَيناهُ آياتِنَا فَانسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوين" (1).

إلى غير ذلك من الروايات التي وردت في ذمّه ونقلها الكشي في رجاله(2)

____________

(1) الاَعراف: 175.

(2) الكشي: الرجال: 194 _ 198.

( 23 )

أبو زينب وأتباعه في روايات أئمة أهل البيت :

قال الكشي في رجاله: محمد بن أبي زينب اسمه مقلاص بن الخطاب البرّاد الاَجدع الاَسدي ويكنّى أبا إسماعيل ويكنّى أيضاً أبا الضبيان:

1 _ أخرج الكشي عن عيسى بن أبي منصور قال: سمعت أبا عبد اللّه _ عليه السلام _ يقول وذكر أبا الخطاب فقال: اللهم العن أبا الخطاب فإنّه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي، اللهم أذقه حرّ الحديد.

2 _ أخرج الكشي عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: سألته قول اللّه عزّ وجلّ "هل أُنَبِّئَكُم على مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطين * تَنَزَّلُ علَى كُلِّ أفّاكٍ أثِيم" (1) قال: هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبيان، والصائد النهدي، والحارس الشامي، وعبد اللّه بن حارث، وحمزة بن

عمار البربري وأبو الخطاب (2).

3 _ أخرج الكشي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: كتب أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ إلى أبي الخطاب بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل، وأنّ الخمر رجل، وأنّ الصراط رجل، وأنّ الصيام رجل، والفواحش رجل، وليس هو كما تقول، أنا أصل الحقّ، وفروع الحقّ طاعة اللّه، وعدوّنا أصل الشر وفروعهم الفواحش، وكيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع»؟

4 _ أخرج الكشي عن الحمادي رفعه إلى أبي عبد اللّه أنّه قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام رجال؟ فقال: «ما كان اللّه عزّ وجلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون».

____________

(1) الشعراء: 221 _ 222.

(2) جرى الاِمام _ عليه السلام _ في تفسير الآية بهوَلاء السبعة، مجرى الجري وتطبيق الكلّ_ي على مصاديقه الكثيرة.

( 24 )

5 _ أخرج الكشي عن سدير عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: كنت جالساً عند أبي عبد اللّه وميسر عنده ونحن في سنة ثمان وثلاثين ومائة فقال ميسر بياع الزطي: جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم، قال: «ومن هم؟» قلت: أبو الخطاب وأصحابه، فكان متكئاً فجلس فرفع اصبعه إلى السماء ثم قال: «على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين فاشهدوا باللّه أنّه كافر، فاسق مشرك وأنّه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً، ثم قال: أما واللّه إنّي لانفس (1)على أجساد أُصيبت معه النار».

6 _ أخرج الكشي عن المفضل بن يزيد قال: قال أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ وذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال لي: «يامفضل لاتقاعدوهم ولاتواكلوهم ولاتشاربوهم ولاتصافحوهم ولاتوارثوهم».

7

_ أخرج الكشي عن مرازم قال: قال أبو عبد اللّه: « قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنّكم فسّاق كفّار مشركون».

8 _ أخرج الكشي عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «يا أبا محمد ابرأ ممن يزعم أنّا أرباب» قلت: برىَ اللّه منه، فقال: «ابرأ ممن زعم أنّا أنبياء» قلت: برىَ اللّه منه.

9 _ أخرج الكشي عن قاسم الصيرفي قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «قوم يزعمون أنّي لهم إمام واللّه ما أنا لهم بإمام، مالهم لعنهم اللّه كلما سترتُ ستراً هتكوه، هتك اللّه ستورهم».

10 _ أخرج الكشي عن الحسن الوشاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: «من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه».

____________

(1) نَفسَ به وعليه: ضنَّ به.

( 25 )

11 _ أخرج الكشي عن زرارة عن أبي جعفر قال: سمعته يقول: «لعن اللّه «بيان التبّان» وأنّ «بياناً» لعنه اللّه يكذب على أبي أشهد أنّ أبي علي بن الحسين كان عبداً صالحاً».

12 _ أخرج الكشي عن أبي يحيى الواسطي قال: قال أبو الحسن الرضا _ عليه السلام _ : «كان بيان يكذب على علي بن الحسين _ عليه السلام _ فأذاقه اللّه حر الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر _ عليه السلام _ فأذاقه اللّه حرّ الحديد.

وكان محمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى فأذاقه اللّه حرّ الحديد.

وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد اللّه فأذاقه اللّه حرّ الحديد والذي يكذب عليّ، محمد بن فرات» قال أبو يحيى: وكان محمد بن فرات من الكتاب فقتله إبراهيم بن شكلة.

13 _ أخرج الكشي عن عبد

اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أصدق البرية لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير الموَمنين _ عليه السلام _ أصدق من برأ اللّه، من بعد رسول اللّه وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد اللّه ابن سبأ لعنه اللّه».

ذكر أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ الحارث الشامي وبيان فقال: كانا يكذبان على علي بن الحسين _ عليه السلام _، ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعاً والسريّ وأبا الخطاب ومعمراً وبشار الاَشعري وحمزة البريري وصائد النهدي فقال: «لعنهم اللّه إنّا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي، كفانا اللّه موَنة كل كذّاب، وأذاقهم اللّه حر الحديد».

( 26 )

14 _ أخرج الكشي عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ فاستأذن عليه رجل حسن الهيئة، فقال: اتق السفلة فما تقارّت في الاَرض حتى خرجت فسألت عنه فوجدته غالياً.

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها الكشي في رجاله

(1)وقد اكتفينا بهذا المقدار وإلاّ فالروايات التي تذم هوَلاء الغلاة الكفّار كثيرة. وقد أشار الاِمام في ثنايا كلامه أنّهم كانوا بصدد تشويه سمعة الاَئمة بالكذب عليهم حيث قال: فيسقط صدقنا بكذبهم علينا عند الناس.

____________

(1) الكشي: الرجال: 290 _ 308.، ولقد قابلنا الاَحاديث مع الطبعة التي حقّقها العلاّمة المصطفويّ، ومع ذلك لا تخلو أيضاً من هفوات.

( 27 )

الكيسانية والاِبهامات المحدقة بها

قد علمت أنّ الغلاة ليسوا من المسلمين ولا من الشيعة ولا يصح عدّهم

من الفرق الاِسلامية، وإنّ هذا الخطأ صدر من النوبختي والاَشعري وجاء الباقون فساروا على سيرتهما. نعم يظهر من كتب الفرق أنّ فرقاً للشيعة برزت إلى حيّز الوجود قبل ثورة زيد بن علي. وفرقاً أُخرى ظهرت بعد ثورته. ولعل القسم الاَوّل منحصر في الكيسانية التي يدعي أصحاب المقالات أنّها ظهرت بعد ثورة الحسين _ عليه السلام _ أيام إمامة ولده زين العابدين _ عليه السلام _، وبدورنا نذكر بع_ض نصوصهم حول الكيسانية. ثم نرجع إلى تحرير المتحصل منها، ولاَجل ذكر النصوص في بدء البحث نستغني عن الاِرجاع إلى المصادر عند التحليل فنقول:

1 _ قال الاَشعري: الكيسانية وهي إحدى عشرة فرقة، وإنّما سمّوا كيسانية لاَنّ المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد ابن الحنفية كان يقال له كيسان، ويقال إنّه مولى لعلي بن أبي طالب _ رضي اللّه عنه _ .

الفرقة الاَُولى من الكيسانية يزعمون أنّ علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ نصّ على إمامة ابنه محمد ابن الحنفية، لاَنّه دفع إليه الراية بالبصرة.

والفرقة الثانية: منهم يزعمون أنّ علي بن أبي طالب نصّ على إمامة ابنه الحسن بن علي وأنّ الحسن بن علي نصّ على إمامة أخيه الحسين بن علي وأنّ الحسين بن علي نصّ على إمامة أخيه محمد بن علي وهو محمد ابن الحنفية.

والفرقة الثالثة: من الكيسانية هي الكربية أصحاب أبي كرب الضرير

( 28 )

يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية حيّ بجبال رضوى، أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه. ومن القائلين بهذا القول كُثَيِّ_ر الشاعر وفي ذلك يقول:

ألاّ إنّ الاَئمة من قريش * ولاة الحقّ أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه * هم الاَسباط

ليس بهم خفاء

فسبط، سبطُ إيمانٍ وبرّ * وسبطٌ غيّبته كربلاء

وسبط لا يذوق الموت حتى * يقود الخيل يَقْدُمها اللواء

تغيّب لا يُرى فيهم زمان * برضوى عنده عسل وماء

الفرقة الرابعة: يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية إنّما جعل بجبال رضوى عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.

والفرقة الخامسة: يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية مات وأنّ الاِمام بعده ابنه أبو هاشم: عبد اللّه بن محمد الحنفية (1).

والفرقة السابعة: قالت إنّ الاِمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية.

والفرقة الثامنة: قالت إنّ أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن، فالاِمامة عندهم في بني الحنفية لاتخرج إلى غيرهم (2).

والفرقة التاسعة: يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبد

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 18 _ 20، وقد سقط من الطبع الفرقة السادسة من الكيسانية ولذلك ابتدأنا بالسابعة، ولما كانت نسخة مقالات الاِسلاميين مشوشة في بيان الفرقة السابعة والثامنة أخذناهما من كتاب الملل والنحل للشهرستاني.

(2) هاتان الفرقتان نقلناهما من الملل والنحل للشهرستاني ثم نتابع النقل من مقالات الاِسلاميين.

( 29 )

اللّه ابن العباس قالوا: وذلك أنّ أبا هاشم مات بأرض الشراة (1)منصرفة من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد، ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس، ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض، ثم رجع بعض هوَلاء عن هذا القول وزعموا أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على العباس بن عبد المطلب ونصبه إماماً، ثمّ نصّ العباس على إمامة ابنه عبد اللّه ونصّ

عبد اللّه على إمامة ابنه علي بن عبد اللّه، ثم ساقوا الاِمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور.

الفرقة العاشرة: يزعمون أنّ أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي وانّه لم يكن له أن يوصي بها إلى عقبه.

الفرقة الحادية عشرة: يزعمون أنَّ الاِمام بعد أبي هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفية وعليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب(2)

وقال النوبختي: وفرقة قالت بإمامة محمد ابن الحنفية، لاَنّه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه فسمّوا الكيسانية، وإنّما سمّوا بذلك لاَنّ المختار ابن أبي عبيدة الثقفي كان رئيسهم وكان يلقب «كيسان» وهو الذي طلب بدم الحسين بن علي صلوات اللّه عليهم وثأره حتى قتل من قتلته وغيرهم من قَ_تَل، وادّعى (المختار) أنّ محمد ابن الحنفية أمره بذلك وأنّه الاِمام بعد أبيه، وإنّما لقّب المختار كيسان لاَنّ صاحب شرطته المكنّى بأبي عمرة كان اسمه كيسان، وكان أفرط في القول والفعل والقتل من المختار جداً، وكان يقول: إنّ محمد ابن الحنفية وصيّ علي بن أبي طالب، وأنّه الاِمام وأنّ المختار قيّمه وعامله ويُكفر من تقدّم

____________

(1) كذا في النسخة المطبوعة والصحيح «السراة» وهي موضع بالشام.

(2)2 _ الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 20 _ 21.

( 30 )

علياً ويُكَّفِر أهل صفين والجمل، وكان يزعم أنّ جبرئيل _ عليه السلام _ يأتي المختار بالوحي من عند اللّه عزّ وجلّ فيخبره ولا يراه. وروى بعضهم أنّه سمِّي بكيسان مولى علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين بن علي _ عليهما السلام _ ودلّه على قتلته، وكان صاحب سرّه وموَامرته والغالب على أمره(1)

وقالت فرقة من الكيسانية إنّ محمد بن الحنفية _ رحمه اللّه تعالى

_ هو المهدي، وهو وصيّ علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ ليس لاَحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولايُشهّر سيفه إلاّ بإذنه، وإنّما خرج الحسن بن علي _ عليهما السلام _ إلى معاوية محارباً له بإذن «محمّد» وأودعه وصالحه بإذنه، وأنّ الحسين إنّما خرج لقتال يزيد بإذنه، ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلاّ وأنّ من خالف محمد ابن الحنفية كافر مشرك وأنّ محمد استعمل المختار بن أبي عبيدة على العراقيين بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين _ عليه السلام _ وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا، وسمّاه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمّون (المختارية) ويدعون (الكيسانية) (2).

معتقدهم :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان:

أحدهما: القول بإمامة محمد ابن الحنفية.

والثانية: القول بالبداء على اللّه عزّ وجلّ، وقالت طائفة منهم بأنّه المهدي المنتظر في الرضوى (3).

____________

(1) النوبختي: فرق الشيعة: 22 _ 24.

(2) النوبختي: فرق الشيعة: 26.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 52.

( 31 )

الاِبهامات حول هذه الفرقة :

قد عرفت كلمات أصحاب المقالات وكتاب العقائد والظاهر منهم ومن غيرهم افتراض فرقة إسلامية شيعية نجمت بعد وقعة الطف (61 _ 67ه_) والتفّت عدّة من الشيعة حول محمد ابن الحنفية واتّخذوه قائداً (في حياة الاِمام زين العابدين _ عليه السلام _) وقد لبّى هو وولده أبو هاشم ووصيه، ولم يكن هناك أي اعتراض واستنكار من رجالات البيت الهاشمي فاستتب الاَمر لابن الحنفية وابنه ومن بعده واستفحل أمرهم إلى عصر أبي جعفر المنصور العباسي، وقد كان العباسيون يستمدون شرعية دولتهم وخلافتهم من انتمائهم إلى تلك الفرقة وكانت لهم أُصول عقائد يتميزون بها عن سائر الفرق.

لكن الاِبهامات التي تحدق بهذه الفرقة من

جوانب شتى يدفع الاِنسان إلى التأكد الكثير من وجود هذه الفرقة الاِسلامية في الساحة وبروزهم إليها باسم الدين وإليك بيانها:

1 _ الاختلاف في المسمّى بكيسان :

إنّ الكيسانية منسوبة إلى «كيسان» وقد اختلفوا في المسمّى به إلى أقوال فمن قائل: إنّه اسم محمد ابن الحنفية، إلى آخر: إنّه اسم مولى لعلي، إلى ثالث: إنّه اسم نفس المختار بن أبي عبيدة الثقفي، إلى رابع: إنّه اسم صاحب شرطته المكنى ب_ «أبي عمرة» وكان اسمه كيسان (1).

2 _ الاختلاف فيمن نصب محمداً الحنفية للاِمامة :

إنّ القائد الذي تنتهي إليه تلك الفرقة هو محمد الحنفية، فقد

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 18، والبغدادي: الفرق بين الفرق: 3و 38، والنوبختي: فرق الشيعة: 22.

( 32 )

اختلفوا في مرشحه للاِمامة إلى قولين: فمن قائل بأنّ المعيِّن، هو الاِمام علي، إلى آخر أنّه الاِمام الحسين وهو الذي نصبه للخلافة.

3 _ الاختلاف في مبدأ قيادته :

كما اختلفوا في الموصي والمعيّن، اختلفوا في مبدأ قيادته، فمن قائل بأنّه الاِمام المنصوب من جانب الاِمام علي وهو الاِمام بعد رحيل والده دون أخويه، إلى آخر بأنّه الاِمام بعد استشهاد الحسين _ عليه السلام _ .

4 _ الاختلاف في كونه حياً أو ميتاً :

اختلفوا في كونه حياً أو ميتاً، فقد نسب إلى جماعة أنّهم قالوا بكونه المهدي المنتظر وأنّه حي بجبال رضوى، يصونه الاَسد والنمر، معه العسل والماء، وفي مقابلهم من قال بموته، وأنّ الاِمامة انتقلت إلى فرد آخر.

5 _ اختلافهم في كونه حيّاً كرامة أو عقوبة :

اختلف القائلون بكونه حياً، فهل هو حي كرامة، بشهادة أنّه يصان بالاَسد والنمر عن اليمين والشمال ويأتيه رزقه غدواً وعشياً إلى وقت خروجه كما قال به كثير الشاعر، أو أنّه حي عقوبة لركونه

إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.

6 _ الاختلاف في الاِمام بعد أبي هاشم :

توفي محمد الحنفية عام ثمانين أو واحد وثمانين وتوفي ابنه أبو هاشم «عبد اللّه ابن محمد الحنفية» سنة ثمان أو تسع وتسعين وعرفه ابن شهر آشوب بأنّه كان ثقة جليلاً من علماء التابعين روى عنه الزهري وأثنى عليه وعمرو بن دينار وغيرهما (1)

وقد اختلفت الاَقوال في وصيه إلى قائل بأنّه أوصى إلى الحسن بن علي بن

____________

(1) المامقاني: تنقيح المقال: 2|212 برقم 7042.

( 33 )

محمد الحنفية، إلى آخر بأنّه أوصى إلى أخيه، علي بن محمد الحنفية، وأنّه أوصى إلى ابنه الحسن، إلى ثالث أنّه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان بن سمعان، إلى خامس أنّه أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن حرب.

7 _ الاختلاف في المعتقد :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان: أحدهما: القول بإمامة محمد ابن الحنفية والثانية: القول بأنّه المهدي المنتظر مضافاً إلى القول بالبداء(1).

أقول: إنّ القول بالبداء ليس من عقائد هذه الطائفة وإنّما هو عقيدة إسلامية جاء بها القرآن الكريم ونصت به السنّة النبوية (2)ولو فسرت على وجه صحيح لعلم أنّ المسلمين بأجمعهم متفقون على القول بها.

وإنّما نشأ النزاع من تفسيره على وجه باطل، أعني: الظهور بعد الخفاء على اللّه تعالى، ولا يقول به أحد من المسلمين، وتفسيره الصحيح قائم بكلمتين: إحداهما يرجع إلى مقام الثبوت، والاَُخرى إلى مقام الاِثبات، أمّا الاَُولى، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالاَعمال الصالحة أو الطالحة، كما كان الحال كذلك في قوم يونس، وأمّا الثانية فهي الاِظهار بعد الاِخفاء، وأمّا علمه سبحانه فلا يتغير ولايتبدل وأوضحنا حقيقتها في الجزء السادس من هذه

الموسوعة (3).

قد نقل في كتب الملل والنحل أنّهم استدلوا على كون محمد ابن الحنفية إماماً بقول علي _ عليه السلام _ له يوم البصرة وقد أقدم بالراية: «أنت ابني حقاً» !

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 52.

(2) الاِمام البخاري: الصحيح: 4|208، كتاب الاَنبياء، باب 51 حديث أبرص وأعمى وأقرع.

(3) بحوث في الملل والنحل: 6|304 _ 327.

( 34 )

وأنت خبير بأنّ أحقّية البنوّة هو كونه شبيه والده في الشجاعة لا أنّه إمام بعده أو بعد السبطين.

كما نقل أنّهم استدلوا على كونه مهدياً غائباً بقول النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _:«لن تنقضي الاَيام والليالي حتى يبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي».

ولكن الاستدلال في غاية الضعف لاَنّ اسم والد محمد هو علي لا عبد اللّه. نعم كان علي صلوات اللّه عليه عبداً للّه وصفيّاً لا علَمياً.

على أنّه لو صحّ الاستدلال فالنفس الزكية، أعني: محمد بن الحسن بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، أولى منه.

واستدلوا أيضاً على أنّ خروج المختار كان بإذنه.

يلاحظ عليه: أنّ الاِذن بالخروج لايدلّ على أنّه ادّعى الاِمامة ودعا الناس إليها، وقد روى الشيخ المفيد أنّه سئل محمد ابن الحنفية عن ظهور المختار وادّعائه أنّ خروجه بأمره فأجاب:

واللّه ما أمرته بذلك لكن لا أُبالي أن يأخذ بثأرنا كل أحد، وما يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا.

فاعتمد السائلون على ذلك وكانوا كثيرين. وقد رحلوا إليه بهذا المعنى بعينه، فنصروا المختار على الطلب بدم الحسين _ عليه السلام _.

وأخيراً نقول إنّ الاِمامة إمّا بالنصّ أو بالبيعة، فإن كان الاَوّل فأين النصّ؟ وإن كانت بالبيعة فأين بايعه أهل الحل والعقد؟

وتوضيح المقال بذكر أمرين:

الاَوّل: أنّ محمد الحنفية وليد البيت العلوي وربيبه

الذي وصفه أمير الموَمنين، بقوله: «إنّ المحامدة تأبى أن يعصى اللّه عزّ وجلّ » قال الراوي، قلت:

( 35 )

ومن المحامدة؟ قال _ عليه السلام _: «محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أمير الموَمنين ابن الحنفية» (1)وكان أعرف الناس بعظم مقام الاِمامة وخطورتها وأنّها لا تصلح إلاّ لمن ثبت في حقّه النص، من صاحب الرسالة أو من بايعه الناس، أو خصوص أهل الحل والعقد ومع ذلك كيف يلبّي دعوة نفر أو نفرين للقيام بأعباء الاِمامة ولم يكن هناك تنصيص ولا بيعة من وجوه المسلمين ولم يكن الرجل من الانتهازيين أو من أبناء البيت الساقط الذين كانوا يدوسون كل الاَُصول الاِسلامية، للحصول على الغايات ويستهويهم النهمة والشره لاختلاس الاَموال أو حيازة جاه.

ونحن نُجلُّ محمد ابن الحنفية عن الرغبة إلى حيازة المقام الذي لا يصلح إلاّ لمن اجتمع لديه الشرط من التنصيص أوّلاً، أو البيعة ثانياً.

والذي يوَيد ذلك أنّه لم تشاهد منه دعوة إلى نفسه، بإلقاء الخطابة والمحاضرة، أو بعث الرسل إلى الاَطراف والاَكناف، أو تصدي أمر، يعد من شوَون الحكومة، ولو كان كذلك لكان له أنصار وأعوان، ولما ألقى عليه القبض، ابن الزبير لغاية أخذ البيعة والتهديد بالاِحراق عند رفضها. كما أنّه كان يتعاطف مع عبد الملك بن مروان _ عملاً بواجبه _ حتى أدركته المنية عام ثمانين أو واحد وثمانين.

الثاني: لو أغمضنا عن ذلك فهل كان هناك جماعة، موَمنون بإمامته وقيادته؟ وأنّ الفراغ الذي حصل، لدى الشيعة بشهادة السبط، مُلىَ ببيعة أهل العراق ولفيف من أهل المدينة ومكة له، أو لا ؟.

والحقّ هو الثاني وأنّ كثير من الشيعة كانوا حيارى في أمر الاِمامة لاَجل الضغط من جانب الحكومة الاَموية

إلاّ الاَخصّاء ولكن كانت الشيعة بأجمعهم

____________

(1) المامقاني: تنقيح المقال: 2|57 برقم 10230، نقلاً عن رجال الكشي.

( 36 )

يتعاطفون مع أهل البيت وعلى مقدمتهم الشخصيتان البارزتان: محمد ابن الحنفية، و علي بن الحسين زين العابدين _ عليه السلام _ من دون أن يتخذ ابن الحنفية إماماً وقدوة للشيعة.

ففي هذه الظروف نهض إنسان غيور، وشجاع مقدام، وسيف بتّار، لاَخذ ثار الاِمام الحسين ألا وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان يحب أهل البيت _ عليهم السلام _ منذ نعومة أظفاره إلى أن ألقى حمامه في طريق أخذ ثارهم، ونال أُمنيته باجتثاث جذور أعدائهم، وسفك دمائهم، فأشفى صدور قلوب الموَمنين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت والهاشميون والهاشميات بأجمعهم.

لقد كان الاتصال الوثيق مع أكابر أهل البيت يوم ذاك رصيداً كبيراً للثائر لغاية التفاف شيعة العراق حول المختار ولولا ذلك لما تمكن من إنهاضهم إلى ميادين القتال. وبما أنّ محمد ابن الحنفية _ رض _ كان كبير العلويين في السن لم يكن له بد من التعاطف معه وكان له مثل ذلك سيد الساجدين، ولاَجل المواصلة والمكاتبة مع العظيمين جلب اهتمام الشيعة لنفسه، وأقام نهضة كبيرة أخذ بها ثأر الحسين _ عليه السلام _ لا بل كانت ناراً أحرقت أُمنيات بني أُمية وأبادت آثارهم واجتثت جذورهم.

ولما كانت ثورته ثقيلة على مناوئي أهل البيت _ عليهم السلام _ أرادوا إسقاطه من أعين الناس فتحاملوا عليه من جانب العقيدة فرموه باختراع المذهب حتى رموه بادّعاء النبوة ونزول الوحي حتى صاغوا له جملاً مضاهية لجمل الكهنة، ونسبوها إليه (1). ولم يكن لهم غاية إلاّ القضاء على نهضته وثورته.

يقول البغدادي: «فلمّا تمت للمختار ولاية الكوفة والجزيرة والعراقين،

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 46.

( 37 )

تكهّن

بعد ذلك وسجع كإسجاع الكهنة، وحكي أيضاً أنّه ادّعى نزول الوحي عليه»(1).

لم يكن المترقّب من البيت الاَموي وحماته الذين شربوا كأس المنون بيد الثائر المتفاني في حب أهل البيت، إلاّ رميه بادّعاء النبوة ونزول الوحي، ولنفترض أنّ الثائر الثقفي لم يكن رجلاً دينياً، ولم ينهض بدافع إلهي، وإنّما ثارت ثورته، بدافع نفسي مادي، ولكنه كان رجلاً عملاقاً وسياسياً عبقرياً، قاد أعظم الثورات التي شاهدها التاريخ في ذلك العصر وامتدت سلطته إلى أرمينيا، وهل مثله _ وهو يحكم باسم الاِسلام والدين، وبتأييد من أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ _ يدّعي النبوة ونزول الوحي ويتكلم بكلام الكهنة مع أنّ التاريخ ضبط خطبه وكلامه حتى نقلها البغدادي (2)كلا، ولا، وما جاء به البغدادي، ليس إلاّ نسبة مفتعلة.

«من يتحقّق في سيرة المختار وحربه للاَمويين ودكه لجيش قائدهم عبيد اللّه ابن زياد، وفي عدائه للزبيريين ابتداء من انتزاع الحكم منهم في أوّل ثورته حتى قتاله لمصعب الذي سيطر على الحكم بعد المختار، _ من يتحقّق في هذا _ يستطع تحليل اتّ_هام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاِسلام وقتل الاِمام الحسين _ عليه السلام _ من أجل مصالحه الشخصية، وأن تنسب له أقاويل مضادة للاِسلام. وكيف لايتهم بالاَُمور السالفة وأضرابها وقد أطبقت على عدائه دولتان، دولة ابن الزبير ودولة الاَمويين؟» (3).

وهناك بعض التساوَلات على صعيد البحث نشير إليها:

الاَوّل: روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر _ عليه السلام _ مناشدة محمد ابن الحنفية لعلي بن الحسين في مسألة الوصاية والاِمامة حتى اتفقا

____________

(1)1 _ البغدادي: الفرق بين الفرق: 45 و 46.

(2)2 _ البغدادي: الفرق بين الفرق: 45 و 46.

(3) محمود البغدادي: النظرية السياسية: 284.

( 38 )

على تحكيم الحجر الاَسود وطلب

الشهادة منه على أحدهما، فانطلقا حتى أتيا الحجر الاَسود، فقال علي بن الحسين لمحمد ابن الحنفية: «إبدأ أنت فابتهل إلى اللّه عزّ وجلّ وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل» فابتهل محمد في الدعاء وسأل اللّه ثم دعا الحجر فلم يجبه، فعند ذلك تقدم علي بن الحسين وقال: «أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الاَنبياء وميثاق الاَوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا مَن الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ ؟» فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه اللّه عزّ وجلّ بلسان عربي مبين فقال: اللّهم إنّ الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، قال فانصرف محمد بن علي وهو يتولّى علي بن الحسين _ عليهما السلام_(1).

لكن الاِجابة عن هذا السوَال واضحة، فإنّا لو افترضنا صحة المضمون، واكتفينا في مثل هذه الواقعة الخطيرة بالخبر الواحد، لنا أن نقول بأنّ المناشدة كانت لاَجل إفهام الآخرين بإمامة علي بن الحسين حتى يوجه نظر الجماهير إلى الاِمام الحقيقي.

إنّ محمد ابن الحنفية أجل من أن لا يعرف شروط الاِمامة وإنّها لم تكن متوفرة في حقّه. إذ لو كانت بالنص فلم يكن هناك نصّ عليه، ولو كانت بالمبايعة والتصفيق بالاَيدي فلم تكن هناك مبايعة. ومع ذلك فهل يحتمل أن يشهد له الحجر بالاِمامة.

الثاني: إذا لم تكن هناك دعوة باسم الكيسانية وإنّما خلقها أعداء المختار لاِسقاطه من أعين الناس فبماذا يفسر ما أنشأه الشاعر كُثَيِّ_ر عزّة.

____________

(1) الكليني: الكافي: 1|348 ح5، كتاب الحجّة.

( 39 )

ألا إنّ الاَئمة من قريش * ولاة حقّ أربعة

سواء

علي والثلاثة من بنيه * هم الاَسباط ليس بهم خفاء (1)

أو ما أنشأه السيد الحميري:

ياشعب رضوى ما لمن بك لا يرى * وبنا إليه من الصبابة أولق

حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى * يابن الرسول وأنت حيٌّ ترزق (2)

والاَجابة عن هذا السوَال واضحة لاَنّا أيضاً نرافق القارىَ في حكاية هذه الاَشعار عن ظهور عقيدة خاصة في حقّ محمد ابن الحنفية، ولكنها لم تكن تتجاوز عن حدوث فتنة دينية أثارت شكوكاً تارة وأوهاماً أُخرى على بعض الناس ولم يمض شيء حتى ذهبت أدراج الرياح، ولاتعد مثل ذلك فرقة إسلامية لها دور على بعض الناس على أنّ شعر السيد لا يثبت هذا المطلب لاَنّه يقول: يا ابن الرسول ولم يكن محمد ابن الحنفية ابناً للرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

الثالث: روي أنّ السيد الحميري كان كيسانياً وله شعر في هذا المذهب ولكنه رجع إلى الحقّ بفضل الاِمام جعفر الصادق _ عليه السلام _ وقال:

تجعفرتُ باسم اللّه واللّه أكبر * وأيقنتُ أنّ اللّه يعفو ويغفر

ودنتُ بدينٍ غير ما كنتُ دايناً * به ونهاني سيد الناس جعفر

فقلت هب أنّي قد تهوّدتُ برهة * وإلاّ فديني دين من يتنصر

فلست بغال ما حييتُ وراجع * إلى ما عليه كنت أخفي وأُضمر

ولا قائل قولاً لكيسان بعدها * وإن عاب جهال مقالي وأكثروا

ولكنه من قد مضى لسبيله * على أحسن الحالات يقضي ويوَثر (3)

____________

1 _ المسعودي : مروج الذهب : 78 _ 79 ، طبعة دار الاندلس .

2 _ المسعودي : مروج الذهب : 78 _ 79 ، طبعة دار الاندلس .

3 _ السيد المرتضى : الفصول المختارة : 598 .

( 40 )

إنّ شعره هذا يحكي عن وقوع شبهة لبعض أولياء

أهل البيت _ عليهم السلام _ فتصوروا المجاز حقيقة، ولكنهم رجعوا إلى شرعة الحقيقة وشربوا من مائها العذب المعين.

وقد اتضح بهذا البحث الضافي على أنّ المذهب الكيساني تحدقه إبهامات وغموض في موَسسه وأتباعه وأهدافه تكاد تدفع الاِنسان إلى أنّه مذهب مختلق من جانب الاَعداء، ملصق بشيعة أهل بيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لغاية تشويش أذهان الشيعة أوّلاً وتحطيم سمعة السيف البّتار المختار بن أبي عبيدة ثانياً.

وهناك كلمة تدعم ما ذكرنا بأحسن وجه وهي أنّ الباعث الوحيد لترويج هذا المسلك هو العباسيون في بداية أمرهم لاَنّهم كانوا يستمدون شرعية خلافتهم من هذا الطريق إذ يدعون أنّ أبا هاشم أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

قال الاَشعري: قالوا إنّ أبا هاشم مات بأرض السراة منصرفاً من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وأوصى محمد بن علي، إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض (1).

فالعباسيون لاَجل إضفاء الشرعية على خلافتهم كانوا يدعمون هذا المذهب ويصوّرونه أمراً واقعياً وصل إليهم من أئمة أهل البيت فمن الحسين _ عليه السلام _ إلى أخيه محمد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس إلى أن وصل إلى المنصور ذلك الحاكم الطاغي قاتل العلويين.

قال ابن خلدون في مقدمته: وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام، أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وأوصى

____________

(1) الاشعري : مقالات الاسلاميين : 21 ، وفي النسخة «الشراة».

( 41 )

محمد إلى ابنه

إبراهيم المعروف بالاِمام، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد اللّه بن الحارثية الملقب بالسفاح، وأوصى هو إلى أخيه عبد اللّه أبي جعفر الملقب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد آخر إلى آخرهم، وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس، وكان منهم: أبو مسلم وسليمان بن كثير وأبو سلمة الخلاّل وغيرهم من شيعة العباسية وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الاَمر يصل إليهم من العباس، لاَنّه كان حياً وقت الوفاة وهم أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة (1).

والجدير بإلفات نظر القارىَ هو قول ابن خلدون: « وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الاَمر يصل إليهم من العباس» فإن ظاهره أنّ العباسيين يعضدون الكيسانية ويروجونها إذ من ذلك الطريق يصلون إلى شرعية حكمهم (2).

وفي الختام نأتي بكلمتين للشيخ المفيد، قال:

1 _ أنّ جميع ما حكيناه من اعتقادات القوم، أمر حادث ألجأ القوم إليه الاضطرار، عند الحيرة، وفراقهم الحقّ، والاَصل المشهور ما حكيناه من قول الجماعة المعروفة بإمامة أبي القاسم _ محمد الحنفية _ بعد أخويه والقطع على حياته وأنّه القائم (وأمّا غير هذا القول فقد حدث بعد زمن، ألجأهم الاضطرار إليه).

2 _ انقرضت الكيساني_ة حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان أحد إلاّ ما يحكى ولا تُعرف صحته، ويقول في مورد آخر: «إنّ الكيسانية في وقتنا هذا لا بقية لهم ولا يوجد عدد منهم، يقطع العذر بنقله، بل لا يوجد أحد منهم يدخل في جملة أهل العلم بل لا نجد أحداً منهم جملة، وإنّما تقع مع الناس الحكاية عنهم خاصة (3) .

____________

(1) ابن خلدون: المقدمة: 1|250، طبع دار الفكر، بيروت.

(2) لاحظ البغدادي: الفرق بين الفرق: 40 _ 41.

(3) الشيخ المفيد: الفصول المختارة: 297 _ 305.

( 42

)

حول سائر فرق الشيعة

قد ذكر أصحاب المقالات للشيعة فرقاً بصورة عامة وللزيدية والاِمامية بصورة خاصة، أمّا فرق الزيدية فسوف نتناولها في مستقبل الكتاب ونثبت أنّ زيداً الثائر لم يكن إماماً في العقائد ولافقيهاً صاحب منهج في الفقه ولم يكن له أي ادّعاء في ذينك المجالين حتى يكون إماماً في أحدهما ويشكل فرقة خاصة باسم الزيدية، نعم بعدما قتل زيد في المعركة وأدّى واجبه تفرّق أصحابه إلى فرق ومذاهب لاتمت بالثائر بصلة، فانتماء الفرق الزيدية إلى اتباع زيد الصق بهم من زيد _ رضي اللّه عنه _ وسيوافيك التفصيل في محله.

إنّما الكلام عن الفرق التي ذكروها فرقاً للاِمامية وقد كبّروها وعدّوها خمس عشرة فرقة وهي:

1 _ الكاملية 2 _ المحمدية 3 _ الباقرية 4 _ الناووسية 5 _ الشمطية 6 _ العماري_ة 7 _ الاِسماعيلي_ة 8 _ المباركية 9 _ الموسوي__ة 10 _ القطعي_ة 11_ الاثنا عشرية 12 _ الهشامية 13 _ الزرارية 14 _ اليونسية 15 _ الشيطانية (1).

وهوَلاء الذين ذكرهم البغدادي تبعاً للاَشعري، وتبعهما الاِسفرائيني في كتابه «التبصير في الدين» والشهرستاني في «الملل والنحل» والرازي في «اعتقادات المسلمين والمشركين» تدور بين الصحيح والمختلق، فإنّ كثيراً منها

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 350.

( 43 )

فرق في عالم الوهم والخيال نسجها مناوئوا أهل البيت لتشويه سمعة الشيعة الاِمامية، ولنأتي بنموذج عنها وهم الفرق الاَربعة الاَخيرة، أعني: الهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية فإنّك لا ترى أثراً من هذه الفرق في كتب الشيعة الاِمامية.

أمّا الاَُولى: أي المنسوبة إلى هشام بن الحكم فمختلقة، فإنّ هشام بن الحكم من متكلّمي الشيعة الاِمامية وبطانتهم وممّن دعا له الاِمام الصادق _ عليه السلام _ فقال: « ماتزال موَيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

قال الشهرستاني:

هذا هشام بن الحكم صاحب غور في الاَُصول لا يجوز أن يُغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم، ودون مايُظهره من التشبيه!! و ذلك أنّه ألزم العلاّف (1).

سيوافيك أنّ ما نقله عنه من التشبيه يرجع إلى زمن شبابه قبل اتصاله بالاِمام الصادق _ عليه السلام _ ويعتبر الرجل بخواتيم أعماله ومعتقداته.

يقول أحمد أمين: أكبر شخصية شيعية في الكلام وكان جداً قوي الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه ونقلت له في كتب الاَدب مناظرات كثيرة متفرقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته.

إنّ الشيخ الاَشعري قد أطنب الكلام عنه وذكر له عقائد خرافية في تجسيمه سبحانه وعطف عليه هشام بن صادق الجواليقي واشتراكهما في التجسيم ومضاعفاته (2) وذكره البغدادي بنفس النص مع تلخيص (3)، وتبعهما من جاء بعدهما كالشهرستاني غير أنّ هوَلاء لابتعادهم عن التعرّف برجال الشيعة لم يعرفوا هشام بن الحكم حقّ المعرفة واشتبه عليهم الاَمر، فإنّ هشام كان بداية أمره

____________

(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|185.

(2) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 1|31 _ 34.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 65 _ 69.

( 44 )

من تلامذة أبي شاكر الديصاني صاحب النزعة الاِلحادية، ثم تبع جهم بن صفوان الجبري المتطرف المقتول ب_ «ترمذ» عام 128ه_، ولما التح_ق بالاِم_ام الصادق _ عليه السلام _ ودان بمذهب الاِمامية ترك ما كان يعتقد به من تجسيم وتشبيه فقد تطبعت عقليته على معارف أهل البيت إلى حد كبير، ولا يخفى على إنسان ملمّ بالحديث والكلام أنّ التنزيه شعار أهل البيت _ عليهم السلام _ ولقد كفانا الشيخ عبد اللّه نعمة في رسم حياة هشام رسماً واقعياً منزّهاً عن كل رأي مفتعل (1).

وأمّا الثانية: أعني الزرارية فهذه الفرقة المختلقة منسوبة إلى زرارة بن

أعين من أجلاّء تلاميذ الاِمامين الباقر والصادق _ عليهما السلام _. يقول النجاشي في حقه: شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم وكان قارئاً، فقيهاً، متكلماً، شاعراً، أديباً، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين (2)وقد ذكرنا له ترجمة ضافية طبعت في مقدمة مسنده، مات رحمه اللّه عام 150ه_، ولم يكن له أي شطح في العقيدة أو اعوجاج في الفكر، وإنّما كان يسير على ضوء إماميه الباقر والصادق _ عليهما السلام _ وقد أثنيا عليه بجمل ضافية، ومسنده المطبوع لاَصدق دليل على براءته في الكلام واضطلاعه في الفقه.

نعم أنّ الضغائن والحقد على هذا المتكلّم وعلى من سبقه _ هشام بن الحكم _ دفع المخالفين على رميهم بالانحراف الفكري، قال البغدادي: ومنهم الزرارية أتباع زرارة بن أعين الرافضي، في دعواها حدوث جميع صفات اللّه عزّ وجلّ وإنّها من جنس صفات اللّه عزّ وجلّ وزعموا أنّ اللّه تعالى لم يكن في الاَزل حياً، ولاعالماً ولا قادراً ولا مريداً ولاسميعاً، ولا بصيراً وإنما استحق هذه الاَوصاف حين أحدث لنفسه حياة وقدرة وعلماً وأرادة وسمعاً وبصراً. (3)

____________

(1) لاحظ كتابه حياة هشام بن الحكم، طبع بيروت.

(2) النجاشي: الرجال: 1|397 برقم 461. ولاحظ مقدمة الموَلّف على مسنده.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 230.

( 45 )

ما عزى إليه، نسبة مفتعلة، والرجل ممّن برع في الفقه الاَكبر والاَصغر في أحضان الاِمامين الباقر والصادق _ عليهما السلام _ وحاشا أنّ يقول مثله بحدوث الاَوصاف الثبوتية للّه.

وأمّا الثالثة: فهي اليونسية المنسوبة إلى يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين بن موسى، مولى بني أسد، فقد كان حافظاً للحديث، فقيهاً في الدين، متكلّماً على مذهب أهل البيت. يقول النجاشي:

كان وجهاً في أصحابنا، متقدماً ،عظيم المنزلة، ولد في أيام هشام

بن عبد الملك ورأى جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ بين الصفا والمروة ولم يرو عنه، وروى عن أبي الحسن موسى والرضا _ عليهما السلام _، وكان الرضا _ عليه السلام _ يشير إليه في العلم والفتيا له كتاب يوم وليلة وقد قال في حقّه الاِمام العسكري _ عليه السلام _: «أتاه اللّه بكل حرف نوراً يوم القيامة» وكتب أُخرى ذكرها النجاشي(1).

وقد نسب إليه البغدادي من أنّه كان يقول: إنّ اللّه تعالى يحمله حملة عرشه وإن كان هو أقوى منها (2).

وأمّا الرابعة: فهوَلاء يريدون من الشيطان، محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي، كوفي صيرفي يلقّب ب_ «موَمن الطاق» و«صاحب الطاق»، وإنّما لقبه المخالفون بشيطان الطاق، وكان دكانه في طاق المحامل بالكوفة فيرجع إليه في النقد فيرد رداً فيخرج كما يقول فيقال شيطان الطاق. له كتاب الاحتجاج في إمامة أمير الموَمنين، وكتاب رد فيه على الخوارج، ومناظرات مع أبي حنيفة والمرجئة.

وقال ابن النديم: كان متكلماً حاذقاً. وله من الكتب: الاِمامة وكتاب المعرفة

____________

(1) النجاشي: الرجال: 2|421 _ 422.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق: 228، والنسبة مفتعلة، والعدل والتنزيه من شعار أئمة أهل البيت، وما نقل أشبه بكلام المجسّمة من الحنابلة والحشوية.

( 46 )

وكتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول، وكتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة (1).

نسب إليه البغدادي من أنّ اّللّه تعالى إنّما يعلم الاَشياء إذا قدرها وأرادها، ولا يكون قبل تقديره الاَشياء عالماً بها، وإلاّ ما صحّ تكليف العباد (2)

إنّ دراسة حياة هوَلاء الاَكابر تشهد على أنّهم من حفاظ أحاديث أهل البيت ومن مقتفي آثارهم، فعقيدتهم لاتختلف قدر شعرة مما كان عليه الاِمام الصادق والاِمام الكاظم _ عليهما السلام _.

هوَلاء كانوا صواعق تنزل

على روَوس المنافقين وتدمر أوكار أفكارهم، فلم يجد الخصوم بدّاً من الازدراء بهم حتى لقّبوا بعضهم بالشيطانية تنابزاً بالاَلقاب.

نحن نسلم أنّ له رأياً فيما ترجع إلى الاستطاعة كما زعمها الاَشعري في موَمن الطاق ومن تقدّمه (3)

أفيصح أن يعد هوَلاء موَسّسين لفرق إسلامية بحجّة أنّ لهم رأياً في مسألة كلامه ولو صلح ذلك لبلغت عدد الفرق الاِسلامية المائة بل المئات، إذ ما من مسألة كلامية إلاّ فيها خلاف بين علماء الكلام.

هذا ما يرجع إلى الفرق الاَربعة التي ذكرها البغدادي في آخر الفرق للاِمامية، ولنرجع إلى ماصدّر به فرق الاِمامية ونشرحها بالمشراط العلمي.

* * *

____________

(1) ابن النديم: الفهرست: 264، وأيضاً: 258.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق: 71.

(3) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 43.

( 47 )

قالوا: منهم الكاملية:

يقول البغدادي: هوَلاء أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبي كامل، وكان يزعم بأنّ الصحابة قد كفروا بتركهم بيعة علي، وكفر عليّ، بتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم كما لزمه قتال أصحاب صفين، وكان بشار بن برد الشاعر الاَعمى على هذا المذهب، وروى أنّه قيل: له ماتقول في الصحابة؟ قال: كفروا، فقيل له: فماذا تقول في علي؟ فتمثل بقول الشاعر:

وما شر الثلاثة أم عمرو * بصاحبك الذي لا تصبحينا

وحكى أصحاب المقالات عن بشار أنّه ضم إلى ضلالته في تكفير الصحابة وتكفير علي معهم ضلالتين أُخريتين.

إحداهما: قوله برجعته إلى الدنيا قبل يوم القيامة، كما ذهب إليه أصحاب الرجعة من الرافضة.

الثانية: قوله بتصويب إبليس في تفضيل النار على الاَرض، واستدلوا في ذلك بقول بشار في شعر له:

الاَرض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار (1)

يلاحظ عليه: بما ذكرنا في أوّل الفصل من أنّ عد فرقة من المذاهب الاِسلامية مشروط بوجود المقسم في القسم فلو لم

يشم القسم رائحة المقسم فلا يصح عدّه قسماً منه، فإنّ التشيع بالمعنى الاصطلاحي هو الاعتقاد بأنّ علياً _ عليه السلام _ هو المنصوب للقيادة بعد رحيل الرسول الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ومعنى ذلك لزوم متابعته والاقتفاء بأثره، وأنّه الرجل الاَمثل والاَفضل بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، فإذا كان الرجل مبغضاً

____________

(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 54، والاِسفرائيني، التبصير: 35، تحقيق كمال يوسف الحوت.

( 48 )

ومكفّراً لعلي وإن كان مكفّراً لسائر الخلفاء، فهل يصح عدّه من الشيعة وعدّ مذهبه فرقة من فرق الشيعة الاِمامية؟!.

لا أدري ولا المنجم يدري ولا القراء يدرون !!

على أنّ الرجعة ليست بمعنى رجوع جميع الناس إلى الدنيا المستلزم لاِنكار البعث، بل المقصود رجوع عدد قليل من الصلحاء والطواغيت عند ظهور المهدي _ عليه السلام _ ولعل عددهم لا يتجاوز عدد الاَصابع، وقد أوضحنا معناها في الجزء السادس من هذه الموسوعة (1).

ومنهم المحمدية:

هوَلاء ينتظرون محمد (النفس الزكية) بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولا يصدّقون بقتله ولا بموته، ويزعمون أنّه في جبل حاجز من ناحية نجد إلى أن يوَمل بالخروج، وكان المغيرة بن سعيد العجلي مع ضلالاته في التشبيه يقول لاَصحابه: إنّ المهدي المنتظر، محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ابن علي، ويستدل على ذلك بأنّ اسمه كاسم رسول اللّه واسم أبيه عبد اللّه كاسم أبي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وقال في الحديث عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قوله في المهدي: «إنّ اسمه يوافق اسمي، واسم أبيه اسم أبي» فلما أظهر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن

الحسن بن علي دعوته بالمدينة واستولى على مكة والمدينة، واستولى أخوه إبراهيم بن عبد اللّه على البصرة، واستولى أخوهما الثالث _ وهو إدريس بن عبد اللّه _ على بلاد المغرب، وكان ذلك في زمان الخليفة أبي جعفر المنصور فبعث المنصور إلى حرب «محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن» بعيسى بن موسى في جيش كثيف قاتلوا محمّداً بالمدينة وقتلوه في المعركة، ثم أنفذ بعيسى بن موسى أيضاً إلى حرب «إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي» مع جنده، فقتلواإبراهيم بباب

____________

(1) السبحاني: موسوعة بحوث في الملل والنحل: 6|363.

( 49 )

حمرين على الستة عشر فرسخاً من الكوفة، ومات في تلك الفتنة إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بأرض المغرب، وقيل: إنّه سُمَّ بها، ومات عبد اللّه بن الحسن بن الحسن والد أُولئك الاِخوة الثلاثة في سجن المنصور، وقبره بالقادسية، وهو مشهد معروف يزار (1).

يلاحظ عليه: من سبر تاريخ العلويين يذعن بأنّه كانت في عصر الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وأيام إمامته (114 _ 148ه_) فكرتان تسودهم، فمن معتقد بأن طريق إنقاذ الاَُمة الاِسلامية من أيدي الاَمويين ثم العباسيين يكمن في الكفاح المسلّح، إلى آخر بأنّ الظروف لاتسمح للكفاح المسلح وإنّما الواجب توعية الناس وتثقيفهم وتعليمهم وإعدادهم إلى الظرف المناسب.

وقد سلك زيد الثائر الدرب وفق المعتقد الاَوّل، وأعقبه أبناوَه:يحيى بن زيد وعيسى بن زيد، ثم الحسنيون عامة، ولذلك قام محمد بن إبراهيم بن الحسن المثنى بطرق هذا الباب وأثار ثورة مع إخوته كما عرفت، ولم يكن له ولا لاِخوته أو غيره أي دعوة إلى شخصهم وإنّما فرضوا على أنفسهم إزالة الحكومة الجائرة ثم تفويض الاَمر إلى الاَليق والاَمثل من أئمة أهل البيت _

عليهم السلام _ ،وعلى ضوء ذلك فلا يصح لنا عد ثائر على الظلم موَسساً لمذهب ومكوناً لفرقة، وأمّا أنّ أمثال المغيرة بن سعيد من رجال العبث والفساد الذين استبطلوه بتعريفهم إيّاه للملاَ على أنّه المهدي المنتظر فلا يمت إلى الثائر بصلة، وقد تقدّم أنّ أئمة أهل البيت تبرّأوا من ابن سعيد وأذنابه عملاء الفسق والفساد.

ومنهم: الباقرية والجعفرية:

إنّ الاِمامية عن بكرة أبيهم يعتقدون بأنّ الاَئمة اثنا عشر خلفاء اللّه بعد وفاة

____________

(1) البغداي: الف_رق بين الف_رق: 57 _ 58، وقد بسط الكلام في هذه الفرقة الاِسفرائيني في التبصير: 35 _ 36.

( 50 ) الرسول الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد ذكر الرسول الاَكرم أسماءهم لخُلَّص أصحابه، منهم جابر بن عبد اللّه الاَنصاري وغيره (1)وقد تضافر عن الرسول حسب ما رواه أحمد في صحيحه أنّه يملك هذه الاَُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل (2)وروى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلّهم من قريش» (3)وروى مسلم عنه أيضاً يقول: سمعتُ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «لا يزال الاِسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لاَبي: ماقال؟ فقال: كلّهم من قريش(4).

إلى غير ذلك من الروايات الناصة على أنّ خلفاء الرسول اثنا عشر خليفة، وقد ذكرنا متون الروايات في الجزء السادس من هذه الموسوعة

(5).

وقد اتفقت الاِمامية على أنّ محمداً الباقر وجعفراً الصادق _ عليهما السلام _ من الاَئمة الاثني عشر بلا ريب أو شك، كما اتفقت الاَُمّة على فضلهما وجلالتهما بلا ريب أو

شك.

قال ابن خلّكان: أبو جعفر محمد بن زين العابدين الملقب ب_ «الباقر» أحد الاَئمة الاثني عشر في اعتقاد الاِمامية، وهو والد جعفر الصادق، كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر، لاَنّه تبقّر في العلم، أي توسّع، وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لاَهل التقى * وخير من لبّى على الاَجْبُلِ

(6)

____________

(1) الحويزي: نور الثقلين: 1|414، في تفسير قوله تعالى: (أطيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرسولَ) (النساء _ 59).

(2) أحمد بن حنبل، المسند: 1|398.

(3) البخاري: الصحيح: 9|101، كتاب الاَحكام الباب51 (باب الاستخلاف)

(4) مسلم: الصحيح: 6|3.

(5) السبحاني: بحوث في الملل والنحل: 6|58 _ 62.

(6) ابن خلّكان: وفيات الاَعيان: 4|174.

( 51 )

وهذا هو الشهرستاني يعرف الاِمام جعفر الصادق _ عليه السلام _ بقوله: وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة

(1).

نعم كان الاعتقاد بظهور المهدي أمراً مسلماً بين المسلمين عامّة والشيعة خاصة، وربما تطرأ الشبهة للعوام في حقّ بعض الاَئمة، وقد نقل البغدادي أنّ من بين الشيعة من يقول: إنّ الاِمام الباقر هو المهدي المنتظر، ويستدل بما روي عن النبي أنّه قال لجابر بن عبد اللّه الاَنصاري: «إنّك تلقاه فاقرئه مني السلام» وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان قد عمي في آخر عمره، وكان يمشي في المدينة ويقول: ياباقر، ياباقر، متى ألقاك؟ فمرّ يوماً في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبياً كان في حجرها، فقال لها: من هذا؟ فقالت: هذا محمد ابن علي بن الحسين بن علي، فضمه إلى صدره وقبّل رأسه ويديه ثم قال: يابني، جدّك رسول اللّه يقرئك السلام. ثم قال

جابر: قد نعيت إلي نفسي، فمات في تلك الليلة

(2).

وتبعه الاِسفرائيني في «التبصير»، ونسبا إلى بعض الشيعة أنّهم اعتقدوا بأنّ المهدي المنتظر هو أبو جعفر الباقر _ عليه السلام _ وليس في كتب الشيعة من هذه الفرقة من أثر، ولعله كانت هنا شبهة لبعض الناس فماتت الشبهة بموتهم.

ومنهم: الناووسية:

قال الاَشعري: وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى أبي جعفر محمد بن علي، وأنّ

____________

(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|166.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق: 60.

( 52 ) أبا جعفر نصّ على إمامة جعفر بن محمد، وأنّ جعفر بن محمّد حيّ لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره، وهو القائم المهدي وهذه الفرقة تسمّى الناووسية، لقبوا برئيس لهم يقال له: «عجلان بن ناووس» من أهل البصرة (1).

وفي الحور العين:إنّهم أتباع رجل يقال له «ناووس» وقيل: نسبوا إلى قرية ناووس

(2) .

إذا تردّد أمر موَسس المذهب من أنّه هو «ناووس» أو ابنه عجلان، أو شخص ثالث منسوب إلى «ناووس» يكون أولى بأن يشك الاِنسان في أصله وغاية ما يمكن أن يقال طروء شبهة لشخص أو شخصين في أمر المهدي فزعموا أنّه الاِمام الصادق _ عليه السلام _ لكن ماتت الشبهة بموت أصحابها ولايعد مثل ذلك فرقة، غير أنّ حبّ أصحاب المقالات لتكثير فرق الشيعة أوّلاً، وفرق المسلمين ثانياً لتجسيد حديث افتراق الاَُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، جرّهم إلى عدّ هوَلاء فرقة.

والحاصل بما أنّه لم يذكر لهم دور في الحياة، ولا حركة في المجتمع، يظن أنّه حصلت شبهة في مسألة المهدي، فزعم الرجل أنّه الاِمام الصادق وتبعه واحد أو اثنان، ثم ماتت الفرقة بموت المشتبه فلا يعد مثل ذلك فرقة.

نحن نطلق الفرقة على جماعة لهم منهج في العقيدة أو مذهب في الفقه أو لهم دعايات وبلاغات

وحركات في المجتمع.

إلى هنا لم نجد للشيعة الاِمامية فرقة صحيحة قابلة للذكر فهي بين خارجة عن الدين من رأس كالغلاة، ومغمورة في أطباق الاِبهام كالكيسانية، أو طارئة عليها الشبهة ولم يكتب لها البقاء إلاّ أياماً قلائل، والمظنون أنّ الشيعة الاِمامية إلى عصر الاِمام الصادق _ عليه السلام _ كانوا متماسكين غير منفصلين.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 25.

(2) الحاكم الجشمي: الحور العين: 162.

( 53 )

قال الشهرستاني: إنّ الاِمامية متفقون في الاِمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق _ عليه السلام _، ومختلفون في المنصوص عليه من أولاده، إذ كانت له خمسة أولاد، وقيل ستة: محمد وإسحاق وعبد اللّه وموسى وإسماعيل

(1).

* * *

الفرق الواقعية للشيعة بعد رحيل الاِمام الصادق _ عليه السلام_:

لقد عرفت أنّ جماهير الشعية كانوا متماسكين غير مختلفين، ولو طرأت هناك شبهة فلواحد أو اثنين فلم تكن موَثرة على التحامهم.

نعم، توفي الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وكان الضغط على الشيعة شديداً وكان أبو جعفر المنصور ذلك الحاكم الطاغي يقتل العلويين بقسوة شديدة، ففي هذه الظروف أي عام 148ه_ لبى الاِمام الصادق _ عليه السلام _ دعوة ربّه ولم يكن في إمكانه التصريح العام بالاِمام الذي بعده، حتى أنّه لما مات أوصى إلى خمسة أشخاص منهم أبو جعفر المنصور ومنهم حاكم المدينة وثالثهم زوجته، وبذلك جعل الاَمر مخفياً على الاَعداء. وعند ذلك نشأ اختلاف بين الشيعة وتفرّقوا إلى فرق ثلاث:

الاَُولى: السميطية:

قالوا بأنّ الاِمام هو محمد بن جعفر والاِمامة في ولده، نسبت تلك العقيدة إلى رئيس لهم باسم يحيى بن سميط

(2)ولم يكتب البقاء لهذه الفرقة وليس لها رسم ولا اسم بين كتب الشيعة الذين هم أعرف بفرقهم.

____________

(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|167.

(2) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 27، البغدادي: الفرق

بين الفرق: 61، الاِسفرائيني: التبصير: 23.

وفي الحور العين: يحيى بن أبي شميط.

( 54 ) الثانية: الفطحية:

وهم القائلون بإمامة الاثني عشر مع عبد اللّه الاَفطح ابن الصادق _ عليه السلام _ يدخلونه بين أبيه وأخيه (الاِمام الكاظم _ عليه السلام _) ، وعن الشهيد _ رحمه اللّه _ أنّهم يدخلونه بين الكاظم والرضا _ عليهما السلام _ وقد كان أفطح الرأس، وقيل: أفطح الرجلين، وإنّما دخلت عليهم الشبهة مما رووا عن الاَئمة: الاِمامة في الاَكبر من ولد الاِمام، ثم منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنوه بمسائل من الحلال والحرام ولم يكن عنده جواب، ولما ظهرت منه الاَشياء التي لا ينبغي أنّ تظهر من الاِمام، ثم إنّ عبد اللّه مات بعد أبيه بسبعين يوماً، فرجع الباقون _ الشذّاذ منهم _ عن القول بإمامته إلى القول بإمامة أبي الحسن موسى _ عليه السلام _ .

وقد أسماهم أبو الحسن الاَشعري ب_: «العماري_ة» وقال: وأصحاب هذه المقالة منسوبون إلى زعيم منهم يسمى: عماراً، ولعل المراد منه هو: عمار بن موسى الساباطي من روَساء الفطحية. قال: الشيخ الطوسي: عمار بن موسى الساباطي وكان فطحياً له كتاب كبير جيد معتمد

(1).

الثالثة: الاِسماعيلية:

وربّما يعبر عنهم بالقرامطة: وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر ولما مات إسماعيل في حياة أبيه صارت الاِمامة في ابنه محمد بن إسماعيل، وهم فرقة كبيرة موجودة في العصر الحاضر.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 27، والبغدادي: الفرق بين الفرق: 62. والنوبختي: فرق الشيعة: 68، والطوسي : الفهرست: برقم 527.

( 55 ) الرابعة: الواقفية:

إنّ الشيعة الاِمامية القائلة بإمامة الاثني عشر قالت بإنّ الاِمام بعد جعفر الصادق _ عليه السلام _ هو ابنه موسى بن جعفر _ عليه السلام _ ولهم على إمامته

براهين وحجج مقنعة، فلما توفي وقفت عدّة على إمامة موسى _ عليه السلام _ ولم يقولوا بإمامة ولده علي بن موسى الرضا _ عليه السلام _ .

قال الاَشعري: وهذا الصنف يدعون الواقفة لاَنّهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه إلى غيره، وبعض مخالفي هذه الفرقة يدعونهم بالممطورة، وذلك أنّ رجلاً منهم ناظر يونس بن عبد الرحمن فقال له يونس: أنتم أهون عليّ من الكلاب الممطورة، فلزمهم هذا النبز وربما يطلق عليهم: الموسوية

(1).

هذه الفرق الاَربعة، السميطية، الفطحية، الاِسماعيلية والواقفية هي الفرق الواقعية للشيعة بعد الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وقد هلكت جميعها ولم يبق منهم إلاّ الاِسماعيلية وأمّا النصيرية، أعني: أصحاب محمد بن نصير الفهري، فهم من الغلاة الذين لا يمتّون إلى الاِسلام والتشيع بصلة، ظهرت في عصر الاِمام الهادي _ عليه السلام _ وهم أصحاب محمد بن نصير النميريّ وقيل فيهم غير ذلك ومثلهم المفوضة ببعض معانيها. بما أنّ نطاق هذا الجزء يضيق عن التبسط سنبحث عن هذه الفرق في مقدّمة الجزء الثامن المختص بالاِسماعيلية بفضل من اللّه تبارك وتعالى.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 28 _ 29.

الفصل الثاني حياة زيد في عصر الاَئمة الثلاثة

الفصل الثاني حياة زيد في عصر الاَئمة الثلاثة

_ عليهم السلام _

بَخَس الموَرخون حقوق آل البيت جميعاً، وحقوق زيد الثائر الشهيد خصوصاً ولم يذكروا من أحواله شيئاً كثيراً، مع أنّهم استقصوا بيان حياة الجائرين من بني أُمية والعباس وذكروا مجالس المجون والخلاعة لهم، وما جرى بينهم وبين المغنّيات وسائر الاَجلاف فيها. من القصص والهزليّات وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على اضطهاد أهل البيت حتى عند أهل القلم والبيان، فأخفوا آثارهم ومناقبهم. ولاَجل ذلك نذكر في المقام ما وقفنا عليه في طيات الكتب معتذرين عن قلة ما

نهدي إلى سدنة ثائرنا _ قدس اللّه نفسه الزكية _ .

فنقول:

حياته في عصر الاِمام زين العابدين _ عليه السلام _ :

أدرك زيد بن علي من الاَئمة الاثني عشر، ثلاثة:

1_ والده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ (38 _ 94 ه_).

( 58 )

2_ أخوه الاَكبر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين _ عليه السلام _ (57_ 114ه_).

3_ ابن أخيه الاِمام جعفر بن محمد الصادق _ عليه السلام _ (83 _ 148ه_).

فلنذكر فيما يرجع إلى المحور الاَوّل من المحاور الثلاثة، نسبه وميلاده ومواصفاته الخلقية وما يمتّ إليه بصلة.

نسبه الوضّاح :

هو زيد الشهيد، بن زين العابدين علي، بن سيد الشهداء الحسين، بن مولى الموحدين وسيد الوصيين علي، بن حامي الرسول والذائد عن حريمه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أبي طالب، هوَلاء آباوَه فله أن يفتخر ويقول:

أُولئك آبائ_ي فجئن_ي بمثله_م * إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وأمّا أُمّه فاسمها حورية أو حوراء اشتراها المختار بن أبي عبيدة الثقفي وأهداها إلى علي بن الحسين _ عليهما السلام _ روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: انّ المختار بن أبي عبيدة اشترى جارية بثلاثين ألفاً. فقال لها: أدبري، فأدبرت، ثم قال لها: أقبلي، فأقبلت، ثم قال: ما أرى أحداً أحقّ بها من علي بن الحسين، فبعث بها إليه، وهي أُم زيد بن علي _ عليه السلام _ وأنجبت له زيداً وعمر، وعلياً وخديجة (1) .

روى ابن قولويه (م 369 ه_) قال: روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند علي بن الحسين _ عليه السلام _ فكان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس فجاءُوه يوم ولد فيه زيد، فبشّروه به بعد صلاة الفجر، قال:

فالتفت إلى أصحابه وقال: «أي شيء ترون أن أُسمّي هذا المولود؟» فقال كل رجل منهم: سمّه كذا، سمّه كذا. قال: فقال: «يا غلام عليّ بالمصحف»، فجاءُوا بالمصحف، فوضعه على

____________

(1) أبو الفرج :مقاتل الطالبيين: 86، المكتبة الحيدرية، النجف الاَشرف (1385ه_ _ 1965م) .

( 59 )

حجره. قال: ثم فتحه، فنظر إلى أوّل حرف في الورقة، فإذا فيه: "فَضَّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجراً عَظِيماً" (النساء _ 95) قال: ثم طبقه، ثم فتحه، فنظر فإذا في أوّل الورقة: "إنَّ اللّهَ اشتَرى مِنَ المُوَمِنِينَ أنفُسَهُم وأموالَهمْ بِأنَّ لَهُمُ الجنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والاِنجِيلِ والقُرآنِ ومَنْ أوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بايَعْتُم بِهِ وذلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم" (التوبة _ 111) ثم قال: «هو واللّه زيد، هو واللّه زيد». فسمّي زيداً(1).

وفي الروض النضير بعد نقل الآيتين، قال الاِمام: «عزّيت عن هذا المولود وأنّه لمن الشهداء» (2)وإنّما اختار الاِمام هذا الاسم بعد التفاوَل بالقرآن والمفاجأة بالآيتين، في صدر الورقةلما تضافر عن النبي والوصي والحسين بن علي _ عليهم السلام _ أنّه قال مشيراً إلى الحسين _ عليه السلام _: «إنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد، ويقتل بالكوفة، يصلب بالكناسة، ويخرج من قبره نبشاً، تفتح لروحه أبواب السماء وتبتهج به أهل السماوات» (3)فأيقن أنّ المولود هو الذي تنبّأ به الرسول الاَعظم _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

ميلاده :

اختلف الموَرّخون في ميلاده، ويرجع بعضُ الاختلافِ في ميلاده، إلى الاختلاف في مقتله، وأنّه هل استشهد سنة مائة وعشرين، أو مائة وإحدى وعشرين، أو مائة وثنتين وعشرين، أو مائة وثلاث وعشرين، وبما أنّ المشهور أنّه

____________

(1) ابن إدريس: السرائر: 3|638، قسم المستطرفات، فيما استطرفه

من روايات أبي القاسم بن قولويه وحميد بن أحمد المحلي (582 _ 652ه_) : الحدائق الوردية: 137 _ 138.

(2) السياغي: الروض النضير: 1|100.

(3) الصدوق: عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ : 1|250، الباب 25، وحميد بن أحمد المحلي: الحدائق الوردية: 138 _ 139، وسيوافيك تفصيل التنبّوَات في محلها.

( 60 )

استشهد عن عمر يناهز (42 سنة) ، وتلك الشهرة منضمة إلى الاختلاف في نفس الميلاد، صارا سبباً للاختلاف الاَكثر في ميلاده، وها أنّا نسرد أقوال الموَرخين والمترجمين، وعلى جميع الاَقوال يدور ميلاده بين سنة (75) و (79) وربما يبدو أنّ الحقّ غير ذلك، وسيوافيك آخر البحث:

1_ قال محمد بن سعد: قتل يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة ويقال: سنة اثنتين وعشرين ومائة (1).

2 _ وقال البخاري: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي عن أبيه، روى عنه عبد الرحمن بن الحارث ويقال: كنيته أبو الحسين، أخو محمد بن علي، وحسين بن علي قتل سنة ثنتين وعشرين ومائة (2).

3 _ وقال ابن حِبّان في الثقات: رأى جماعة من أصحاب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وروى عنه ولده، وقتل سنة ثنتين وعشرين ومائة (3).

4 _ وعن مصعب بن عبد اللّه الزبيري: قتل زيد بن علي بالكوفة. قتله يوسف بن عمر في زمن هشام بن عبد الملك وقتل يوم الاثنين لثلاث خلت من صفر سنة عشرين ومائة، وهو يوم قتل، ابن اثنتان وأربعين سنة (4).

5 _ وقال الذهبي: اختلف في تاريخ مصرعه على أقوال: فقال مصعب الزبيري: قتل في صفر سنة عشرين ومائة وله اثنتان وأربعون سنة.

وقال أبو نعيم: قتل يوم عاشوراء سنة اثنتين وعشرين ومائة، رواه

ابن سعد.

وقال الزبير بن بكار: قال محمد بن الحسن: قتل زيد يوم الاثنين ثاني صفر

____________

(1) ابن سعد: الطبقات: 5|326.

(2) البخاري: التاريخ الكبير: 2|403 برقم 1341.

(3) ابن حبان: الثقات: 4|249 _ 250.

(4) المزي: تهذيب الكمال: 10|98.

( 61 )

سنة اثنتين وعشرين ومائة (1)

6 _ وقال الصفدي: وكانوا قد صلبوه بالكناسة سنة إحدى واثنتين أو ثلاث وعشرين ومائة، وله اثنتان أو أربع وأربعون سنة ثم حرقوه بالنار، فسمّي زيد النار، ولم يزل مصلوباً إلى سنة ست وعشرين ثم أُنزل بعد أربع سنين من صلبه (2)

7 _ وروى السياغي عن الاِمام المرش_د باللّه في أمالي_ه أنّه ول_د سنة 75 واستشهد سنة 122ه_ (3).

وسيوافيك عن الطبري والجزري في الفصل المختص بثورته أنّهما ذكرا تاريخ خروجه واستشهاده عام 122ه_.

القول الحق في ميلاده :

ولكن هنا احتمالاً آخر لا يتفق مع جميع الاَقوال لكن توَيده القرائن والروايات وهي أنّ أُم زيد كما تقدم _ كانت أمة أهداها المختار إلى الاِمام زين العابدين _ عليه السلام _ _ وقد خرج المختار عام 66 وقتل عام 67ه_، وطبع الحال يقتضي أنّه أهداها إلى الاِمام في أحد العامين، ولا يمكن تأخره عنهما، وبما أنّ زيداً كان أوّل ولدٍ أنجبت فلا محيص عن القول بأنّ زيداً من مواليد سنة 67ه_ أو بعدها، ولو قلنا بتأخر ولادة زيد إلى عام 75ه_ وما بعده فلازم ذلك أن لا يمسّها الاِمام إلى ذلك العام أو كانت لا تلد إلى تلك السنة أو أولدت ولكن لم يكن له حظ من البقاء والكل بعيد. وعلى ضوء ذلك يحتمل قوياً أنّ يكون ميلاد زيد هو

____________

(1) الذهبي: تاريخ الاِسلام ووفيات المشاهير والاَعلام: 107 _ 108 (حوادث سنة 121 _ 140ه_) .

(2) الصفدي: الوافي بالوفيات:

15|34. (إنّ «زيد النار» لقب زيد بن موسى بن جعفر الذي خرج في عصر «المأمون» وأحرق بيوت بني العباس: والظاهر أنّ الصفدي قد سها في تسمية زيد بن علي به).

(3) السياغي: الروض النضير: 1|96.

( 62 )

عام قتل المختار، أعني: 67ه_، أو عام بعده، فلو أخذ في مقتله بالقول المشهور، وأنّه استشهد عام 122ه_، يكون عمره عند ذاك حوالي 55 سنة.

هذا وتوَيد ذلك روايات تنصّ على أنّ أُمّه حملت زيداً عام الاَهداء وإليك نصّها:

1 _ روى الشيخ أبو القاسم فرات بن إبراهيم الكوفي _ من أعلام أوائل القرن الرابع _ في تفسيره عن الجعفي عن أبيه، قال: كنت أُدمن الحجّ فأمرّ على علي ابن الحسين _ عليهما السلام _ فأُسلِّمُ عليه ففي بعض حججي غدا علينا علي بن الحسين _ عليهما السلام _ ووجهه مشرق فقال: «جاءني رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في ليلتي هذه حتى أخذ بيدي فأدخلني الجنّة، فزوّجني حوراء فواقعتها فعلقته، فصاح بي رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: يا علي بن الحسين سمِّ المولود منها زيداً».

قال: فما قمنا من مجلس عليّ بن الحسين ذلك اليوم، وعلي بن الحسين _ عليهما السلام _ يقصّ الروَيا حتى أرسل المختار بن أبي عبيدة بأُم زيد أرسل بها إليه المختار ابن أبي عبيدة هدية إلى علي بن الحسين _ عليهما السلام _ شراها بثلاثين ألفاً، فلما رأينا إشغافه بها تفرّقنا من المجلس، فلما كان من قابل حججت ومررت على علي بن الحسين ( _ عليهما السلام _.أ) لاَُسلِّم عليه فأخرج بزيد على كتفه الاَيسر وله ثلاثة أشهر وهو يتلو هذه الآية ويومىَ بيده إلى زيد وهو يقول: "هذا تَأوِيلُ

رُوَيايَ مِن قَبلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً"(1)

2 _ روى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي وقال: وعن أبي حمزة الثمالي قال: كنت أزور علي بن الحسين _ عليهما السلام _ في كل سنة مرّة في وقت الحجّ، فأتيته سنة وإذا على فخذه صبيّ، فقام الصبي فوقع على عتبة الباب فانشجّ رأسه، فوثب إليه علي بن الحسين _ عليهما السلام _ مُهَروِلاً فجعل ينشف دمه بثوبه

____________

(1) فرات بن إبراهيم: التفسير: 200، تحقيق محمد الكاظم.والآية 100 من سورة يوسف.

( 63 )

ويقول له: «يابني أُعيذك باللّه أن تكون المصلوب في الكناسة!» قلت: بأبي أنت وأُمي أيّ كناسة؟ قال: «كناسة الكوفة». قلت: جعلت فداك ويكون ذلك ؟ قال: «أي واللّه إن عشت بعدي لترينّ هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً في الكناسة ثم ينزل فيحرق ويدق ويذرى في البر».

قلت: جعلت فداك وما اسم هذا الغلام؟ قال: «زيد». ثم دمعت عيناه، ثم قال: «ألا أُحدثك بحديث ابني هذا، بينما أنا ليلة ساجد وراكع، ذهب بي النوم فرأيت كأنّي في الجنة، وكأنّ رسول اللّه وعلياً وفاطمة والحسن والحسين _ صلوات اللّه عليهم أجمعين _ قد زوّجوني جارية من الحور العين، فواقعتها واغتسلت عند سدرة المنتهى وَوَلِّيت، وهاتف يهتف بي: لِيُهنَّك زيد، ليهنّك زيد، ليهنّك زيد. فاستيقظت فأصبت جنابة، فقمت فتطهرت وصليت صلاة الفجر، فدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه جارية ملفوف كمها على يده، مخمرة بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أُريد علي بن الحسين. فقلت: أنا علي بن الحسين. قال: أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي وهو يقرئك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها

بستمائة دينار وهذه ستمائة دينار فاستعن بها على دهرك (1) ودفع إليّ كتاباً، فأدخلت الرجل والجارية وكتبت له جواب كتابه، وقلت للجارية: ما اسمك ؟ قالت: حوراء. فهيّوَوها لي وبتُّ بها عروساً فعلقت بهذا الغلام فسمّيته زيداً، وهو هذا، وسرّي ما قلت لك».

____________

(1) روى ابن الاَثير: أنّ المختار وجد في بيت المال تسعة آلاف ألف فقسّمها بين أصحابه (الكامل: 4|226) ولعله عند ذاك بعث بهذه الدنانير إلى علي بن الحسين _ عليهما السلام _، فيكون عام الاِهداء هو عام الخروج.

( 64 )

قال أبو حمزة: فما لبثت إلاّ برهة حتى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق فسلّمت عليه. ثم قلت: جعلت فداك ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلفُ إليه فجئته ليلة النصف من شعبان فسلمت عليه وجلست عنده. فقال: يا أبا حمزة تقوم حتى تزور قبر أمير الموَمنين علي _ عليه السلام _ ؟ _ قلت: نعم جعلت فداك.

ثم ساق أبو حمزة الحديث حتى قال:

أتينا الذكوات البيض فقال: هذا قبر علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ ثم رجعنا فكان من أمره ما كان. فواللّه لقد رأيته مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً بالكناسة ثم أُحرق ودق وذُري في الهواء (1)

3 _ ما رواه أبو القاسم علي الخزاز قال: عن زيد بن علي _ عليه السلام _ قال: كنت عند أبي علي بن الحسين _ عليه السلام _ إذ دخل عليه جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، (م78ه_) فبينما هو يحدثه إذ خرج أخي محمد من بعض الحجر، فأشخص جابر ببصره نحوه ثم قام إليه فقال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثم قال: أدبر، فأدبر، فقال: شمائل كشمائل رسول

اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ما اسمك يا غلام؟ قال: «محمد». قال: ابن من؟ قال: «ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب»، قال: أنت إذاً الباقر. قال: فأبكى (فانكبّ) عليه وقبّل رأسه ويديه ثم قال: يا محمد إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقرئك السلام. قال: «على رسول اللّه أفضل السلام وعليك يا جابر بما أبلغت السلام».

ثم عاد إلى مصلاّه، فأقبل يحدث أبي ويقول: إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لي يوماً: يا جابر إذا أدركت ولدي الباقر فاقرأه مني السلام فإنّه سميّي وأشبه الناس بي، علمه علمي وحكمه حكمي، سبعة من ولده أُمناء

____________

(1) الثقفي: الغارات: 2|860 _ 861؛ وابن طاووس: فرحة الغريّ: 51، المطبوع في ذيل مكارم الاَخلاق.

( 65 )

معصومون أئمة أبرار، والسابع مهديهم الذي يملاَ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. ثمّ تلا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: "وَجَعَلناهُمْ أئمّةً يَهدُونَ بِأَمرنا وأوْحَيْنا إلَيْهِم فِعْلَ الخَيْراتِ وإقَامِ الصَّلاةِ وإيتَاءَ الزَّكاةِ وكَانُوا لَنا عابِدِينَ" (1) .

المشهور أنّ جابر، توفي بين السبعين والثمانين من الهجرة(2)

وهذه الروايات المسندة، التي رواها الاَثبات من العلماء، مع ما ذكرنا من القرينة يدفع جميع الاَقوال ويثبت أنّ ميلاده كان متقدماً على عقد السبعين كما عرفت.

إكمال :

ولعل ما يرويه الكليني في كافيه من تعبير عبد الملك تزويج الاِمام السجاد، أمته راجع إلى أُم زيد التي كانت أمة وتزوجها الاِمام بعد الاعتاق، وإليك النص:

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن عليّ بن الحسين _ عليه السلام _ أعتق جارية له ثم تزوّجها، فكتب العين إلى عبدالملك.

ثم

كتب عبد الملك إلى علي بن الحسين _ عليه السلام _: « أمّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنّه كان في أكفّائك من قريش من تُمجّد به في الصهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت، ولا على ولدك أبقيت والسلام.

فكتب إليه علي بن الحسين _ عليه السلام _: «أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنّفني بتزويجي مولاتي وتزعم أنّه قد كان في نساء قريش من أتمجّد به في

____________

(1) الخزاز: كفاية الاَثر في النص على الاَئمة الاثني عشر: 298.والآية 73 من سورة الاَنبياء.

(2) قال الشيخ الطوسي في رجاله: أنّه توفي عام 78، وبه قال ابن قتيبة في معارفه، والطبري في ذيوله لاحظ: قاموس الرجال لشيخنا التستري: 2|519.

( 66 )

الصهر، واستنجبه في الولد، وأنّه ليس فوق رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مرتقاً في مجد، ولا مستزاد في كرم. وإنّما كانت ملك يميني خرجت منّي، أراد اللّه عزّ وجلّ منّي بأمر التمس به ثوابه، ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكياً في دين اللّه فليس يخل به شيء من أمره، وقد رفع اللّه بالاِسلام الخسيسة، وتمّم به النقيصة، وأذهب اللوَم، فلا لوَم على أمرىَ مسلم إنّما اللوَم لوَم الجاهلية والسلام».

فلمّا قرأ، الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير الموَمنين لشدّ ما فخر عليك علي بن الحسين!! فقال: يا بني لا تقل ذلك فإنّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر، أنّ علي بن الحسين _ عليه السلام _ يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(1).

مواصفاته الخلقية :

نقل السياغي عن الشيخ أبي محمد يحيى بن يوسف بن محمد الحجوري الشافعي: أنَّ زيداً كان أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام

الخلق، طويل القامة، كث اللحية، عريض الصدر، أقنى الاَنف، أسود الرأس واللحية، إلاّ أنّه خالطه الشيب في عارضيه.

كان مثل جده _ عليه السلام _ في شجاعته وسخاوته وفصاحته وبلاغته وعلمه وحلمه _ إلى أن قال: _ وما أشبه حاله بقول من قال:

فما إن براه اللّه إلاّ لاَربع * يقرّ له القاصي بهنّ مع الداني

إمامٌ لاَخيارٍ، وقلبٌ لجحفلٍ * وفارسُ ميدانٍ وصدرٌ لاِيوانِ

____________

(1) الكليني: الكافي: 5|344.

( 67 )

إلى أن قال: ونحن نعلم بأنّ من بني أُمية من خطب له في ثمانين ألف منبر، فإذا مات، مات ذكره معه، وكان من بني العباس من كانت دولته خمسين سنة وملك أقطار الاَرض من شرق وغرب فما كان ذكرهم إلاّ مدّة حياتهم (1).

روى أبو الفرج عن مولى آل الزبير، قال: كنّا عند علي بن الحسين _ عليه السلام _ فدعا ابناً له يقال له: زيد، فكبا لوجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «أُعيذك باللّه أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة من نظر إلى عورته متعمداً أصلى اللّه وجهه النار» (2).

وعن أبي خالد الواسطي وأبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر _ عليه السلام _ أنّه قال لهما: «يا أبا خالد، وأنت يا أبا حمزة إنّ أبي دعا زيداً فاستقرأه القرآن، فقرأ عليه، فسأله عن المعضلات ثم دعا له وقبّل بين عينيه»، ثم قال أبو جعفر _ عليه السلام _: «يا أبا حمزة إنّ زيداً أُعطي من العلم علينا بسطة» (3).

والظاهر أنّ الراوي صحّف كلمة الاِمام وأضاف لفظة «علينا» وأنّ أبا جعفر قال: إنّ زيداً أُعطي من العلم بسطة مشيراً إلى قوله سبحانه: "وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْم" (البقرة _ 247) .

ولو صحّ ما ذكره السياغي فيرجع كونه ذا قراءة خاصة

إلى عصره والده السجاد _ عليه السلام _: فقال أبو سعيد الحميري أنّه ضليع بعدّة علوم منها علم القرآن، ووجوه القراءات وله قراءة خاصة مفردة مروية عنه (4).

ونقل الشيخ الطوسي في الفهرست أنّ قراءته هي عين قراءة جده الاِمام

____________

(1) السياغي: الروض النضير: 1|97، حميد بن أحمد المحلي: الحدائق الوردية: 138.

(2) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 89.

(3) السياغي: الروض النضير: 1|102، حميد بن أحمد المحلي: الحدائق الوردية: 142.

(4) الحور العين: 186.

( 68 )

علي ابن أبي طالب _ عليه السلام _ (1).

قال محقّق تفسيره في مقدمته: «ولعلّ أوّل من جمع قراءته بكتاب مستقل عمر بن موسى الوجيهي الذي كان معاصراً لزيد فقال عنها: «إنّ هذه القراءة سمعتها عن زيد بن علي _ عليه السلام _ » وكان هذا الكتاب موجوداً بعد سنة إحدى وستين ومائتين فقد استنسخها إبراهيم بن مسكين في السنة ذاتها ونقل عنه بعد ذلك يحيى بن كهمش.

وقد جمع قراءته أيضاً الحسن بن علي الاَهوازي. ولعل أبا حيان قد اطّلع عليها أو على قسم منها على الاَقل، فقد استشهد منها في كتابه البحر المحيط فذكر «أنّ الاَهوازي... في قراءة زيد بن علي أنّه قرأ ربّ العالمينَ الرحمنَ الرحيمَ بنصب الثلاثة».

وجمعها أيضاً أبو حيان في كتاب سمّاه: «النير الجلي في قراءة زيد بن علي».

ووردت قراءة زيد أيضاً كاملة في كتب القراءة والتفسير لكنها مقرونة بغيرها من القراءات حسب ورود كل منها على الآية القرآنية الكريمة.

فقد جاءت بهذه الطريقة في كتب القراءات كما في كتاب «شواذ القراءة» للكرماني، وأيضاً في كتاب «معجم القراءات القرآنية».

وكذلك وردت كاملة في كتب التفسير كما في كتاب «البحر المحيط» لاَبي حيان وكذلك ضمها الآلوسي لكتابه في التفسير المسمّى «روح المعاني» (2).

وقال الكاتب الچلبي:

كتاب «النير الجلي في قراءة زيد»لاَبي علي الاَهوازي المقري (3) .

____________

(1) الطوسي: الفهرست: 140.

(2) الدكتور حسن محمد تقي الحكيم: تفسير الشهيد زيد بن علي: 37، المقدمة.

(3) الكاتب الچلبي: كشف الظنون:2|624.

( 69 )

وفي الختام:

نقل المقريزي عن عاصم بن عبيد اللّه أنّه قال: لقد أُصيب عندكم رجل ماكان في زمانكم مثله، ولا أراه يكون بعده مثله (زيد بن علي) لقد رأيته وهو غلام حدث، وأنّه ليسمع الشيء من ذكر اللّه فيغشى عليه، حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا... (1).

* * *

حياته في عصر الاِمام الباقر _ عليه السلام _ :

التحق الاِمام زيد العابدين _ عليه السلام _ بالرفيق الاَعلى، ونصّ على إمامة ولده البارّ، أبي جعفر محمد الباقر _ عليه السلام _ الذي دان بفضله وعلمه وورعه الداني والقاصي، والموَالف والمخالف قال ابن حجر: سمّي الاِمام باقراً، لاَنّه من بقر الاَرض أي شقّها وإثارة مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الاَحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطويّة والسريرة، ومن ثم قيل هو باقر العلم وشاهر علمه ورافعه(2).

لقد استنارت بقية الصحابة ووجوه التابعين، من نوره، وارتووا من منهل علمه، فكان الاحتفال بمجالسه أكبر احتفال، يوم ذاك. توفي الاِمام زين العابدين _ عليه السلام _، وزيد بن علي في أوان حلُمه، أو بعده بقليل فضّمه الاِمام الباقر إلى أولاده فكان يعطف عليه ويحنو إليه كالوالد الروَوف بالنسبة إلى أولاده إلى أن شبّ وترعرع، وبلغ في العلم والعمل ما بلغ، وقد نصّ بذلك أكثر من كتب عن زيد:

____________

(1) السياغي: الروض النضير: 1| 98، لاحظ الخطط للمقريزي: 2|419.

(2) ابن حجر: الصواعق المحرقة: 200، ط2، مكتبة القاهرة (1385ه_ _ 1965م)

.

( 70 )

1 _ قال الشيخ في فصل أصحاب الاِمام الباقر _ عليه السلام _: «زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن، أخوه _ عليه السلام _، ذكره أيضاً في أصحاب أبيه زين العابدين _ عليه السلام _ (1)

2 _ قال المزي: روى عن: أبان بن عثمان، وعبيد اللّه بن أبي رافع، وعروة بن الزبير وأبيه علي بن الحسين وأخيه أبي جعفر محمد بن علي الباقر (2).

3 _ وذكره بهذا النصّ ابن حجر في تهذيب التهذيب (3).

4 _ وقال الذهبي: زيد بن علي بن الحسين... الهاشمي العلوي أخو أبي جعفر... روى عن: أبيه وأخيه أبي جعفر وعروة وكان أحد العلماء الصلحاء بدت منه هفوة (4) فاستشهد فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته (5).

لقد عاش زيد تحت رعاية أخيه الكبير البار الحنون فتلقى منه الحديث والتفسير والاَُصول والمعارف حتى فاق وبرع أقرانه.

قال ابن زهرة: وقد مات أبوه (زيد) عام 94ه_ أي وهو في الرابعة عشرة من عمره فتلقى الرواية عن أخيه محمد الباقر _ عليه السلام _ الذي يكبره بسن تسمح بأن يكون له أباً إذ إنّ الاِمام جعفر الصادق بن الاِمام محمد الباقر _ عليهما السلام _، كان مثل سن الاِمام زيد رضي اللّه عنهم أجمعين.

____________

(1) الشيخ الطوسي: الرجال: باب الزاي: 89 _ 122.

(2) جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 10|96.

(3) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب: 3|419.

(4) أُنظر إلى كلام الرجل، وتسميته الخروج على الظلم والعدوان هفوة والمداراة مع الظالمين ثباتاً على الدين. ولا عتب لاَنّه من الذين رأوا الخروج على الظالمين حراماً، على خلاف قول رسول اللّه من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً حرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول

اللّه، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان، فلم يُغير عليه بفعل أو قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله (الطبري: التاريخ: 4|304) وسيوافيك الكلام في هذا المجال في المستقبل.

(5) الذهبي: تاريخ الاِسلام: 105 (حوادث سنة 121 _ 140ه_) .

( 71 )

وما كان من المعقول أن يجمع الاِمام زيد وهو في سن الرابعة عشرة كل علم آل البيت فلابد أن يكمل أشطراً من أخيه الذي تلقى علم أبيه كاملاً، وقد كان الباقر _ عليه السلام _ إماماً في الفضل والعلم، وأخذ عنه كثيرون من العلماء ورووا عنه ومن هوَلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق، وقد نال الباقر _ عليه السلام _ فضل الاِمامة العلمية، حتى أنّه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب(1) .

كان الاِمام الباقر _ عليه السلام _ ينظر إليه نظر أخٍ عطوف ويثني عليه أحياناً ويطريه، ويأمر بعض أصحابه بإنشاء طرائف تمثل شخصية زيد ونفسيته وإليك بعض ما وقفنا عليه:

5 _ روى الصدوق في الاَمالي عن أبي الجارود قال: إنّي لجالس عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر _ عليهما السلام _ إذ أقبل زيد فلما نظر إليه وهو مقبل، قال: «هذا سيد أهل بيته والطالب بأوتارهم لقد أنجبت أُمٌّ، ولدتك يازيد» (2).

6 _ وعن جابر الجعفي قال سمعت أبا جعفر _ عليه السلام _ وقد نظر إلى أخيه زيد بن علي فتلا هذه الآية: « "فالّذِينَ هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلي وقاتَلُوا وقُتِلُوا ..." الآية، وقال: هذا واللّه من أهل ذلك» (3).

7 _ وعنه أيضاً سألت محمد بن علي _ عليهما السلام _ عن أخيه زيد فقال: «سألتني عن رجل ملىء إيماناً وعلماً من أطراف شعره وقدمه

وهو سيد أهل بيته»(4).

دخل زيد على الاِمام الباقر _ عليه السلام _ فلما رآه تلا: "يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوامينَ للّهِ شُهداءَ بالقِسطِ" ثم قال: «أنت واللّه يا زيد من أهل ذلك» (5).

____________

(1) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الاِسلامية: 2| 465.

(2) الصدوق: الاَمالي: 335، الحديث 11.

(3) السياغي: الروض النضير: 4|104.والآيتان من سورة آل عمران: 195 وسورة المائدة: 8.

(4) السياغي: الروض النضير: 4|104.والآيتان من سورة آل عمران: 195 وسورة المائدة: 8.

(5) السياغي: الروض النضير: 4|104.والآيتان من سورة آل عمران: 195 وسورة المائدة: 8.

( 72 )

8 _ روى الصدوق عن جابر الجعفي، قال: دخلت على الباقر _ عليه السلام _ وعنده زيد أخوه، فدخل عليه معروف بن خربوذ المكي، قال له أبو جعفر _ عليه السلام _: «يامعروف أنشدني من طرائف ما عندك»، فأنشد:

لعمرك ! ما إن أبو مالك * بوان، ولا بضعيف قواه

ولا بألدّ «لدى قوله» (1) * يعادي الحكيم إذا ما نهاه

ولكنه سيد بارع * كريم الطبايع حلو نثاه (2) إذا سُدته، سُدتَ مِطواعة * ومهما وكلت إليه كفاه

قال: فوضع أبو جعفر _ عليه السلام _ يده على كتفي زيد، وقال: هذه صفتك يا أبا الحسين! (3).

9 _ روى أبو الفرج عن أبي جعفر _ عليه السلام _ أنّه قال له بعد التمثل بالاَبيات السابقة: «ولقد أنجبت أُمّ ولدتك يا زيد. اللّهم أشدد أُزري بزيد» (4).

* * *

____________

(1) ورواه في الاَغاني بالنحو التالي:

ولا بالاَلدَّ، ل__ه ف____ارغ * يعادي أخاه إذا ما نه_اه (الاَغاني: 24|106) .

(2) بتقديم النون على الثاء المثلثة لاحظ تعليقة المحقّق على البحار: 46|169.

(3) عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ :1|251 ح5 الباب 25، أبو الفرج: الاَغاني: 24|106، ورواه في الاَغاني

بالنحو التالي:

ول_ك_نّ_ه هيِّ___ن ليّ___نٌ * كعالي_ة الرم_ح عَردٌ نَساه

قال المعلّق: عرد نساه شديد ساقه. (الاَغاني: 24|106)

(4) أبو الفرج: الاَغاني: 24|107 ومر صدره في حديث الصدوق.

( 73 )

حياته في عصر الاِمام الصادق _ عليه السلام _ :

1 _ لم يذكر التاريخ شيئاً من حياته في عصر الاِمام الصادق _ عليه السلام _، غير تجواله في البلاد، لدعم الخروج، وجمع العُدّة والعِدِّة، الذي سيمر عليك في الفصول الآتية غير أنّه لو صحّ ما يرويه أبو الفرج الاصفهاني عن عبد اللّه بن جرير أنّه رأى أنّ جعفر بن محمد _ عليه السلام _ «يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج» (1)لدل على أنّ الاِمام _ عليه السلام _ كان يكرمه لكونه عم_ه _ وهو بمنزلة الاَب _ ولاَنّه أكبر منه سناً، خصوصاً على ما حقّقنا من أنّه من مواليد عام 67 أو 68، فيدل على تواضعه وكمال أدبه، وقد كان ذلك رائجاً بين بني هاشم.

وقد كان بين زيد، وعبد اللّه بن الحسن المثنى مناظرة في صدقات علي _ عليه السلام _ فكانا يتحاكمان إلى قاض، فإذا قاما من عنده أسرع عبد اللّه إلى دابة زيد فأمسك له بالركاب (2).

وقد كانت أواصر الحب والود بين الاِمام وعمه متبقية إلى يوم حمامه، ولما بلغ نعيه إلى المدينة أخذ الناس يفدون إلى الاِمام ويعزّونه.

2 _ روى أبو الفرج عن فضيل بن رسام: دخلت علي جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ أُعزّيه عن عمّه ثم قلت له: ألا أُنشدك شعر السيد (الحميري) فقال: «أنشد» فأنشدته قصيدته (العينية المعروفة) التي يقول فيها:

الناس يوم البعث راياتهم * خمس فمنها ه__الك أرب_ع (3)

____________

(1) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 87.

(2) سيوافيك شرح المحاكمة بينهما.

(3)

أبو الفرج: الاَغاني: 7|251، وللقصة صلة، فمن أراد فليرجع إلى مصدرها.

( 74 )

3 _ لمّا توفي الاِمام أبو جعفر الباقر _ عليه السلام _ أنشد زيد قصيدة _ سنوافيك بها في فصل خطبه وأشعاره _ عزّى فيها الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وقال:

أبا جعفر الخير أنت الاِمام * وأنت المرجي لبلوى غدي (1)

ويظهر من بعض الروايات أنّه استشار الاِمام الصادق _ عليه السلام _ في خروجه فقال له: «يا عم إن رضيت أن تكون المقتول (المصلوب) بالكناسة فشأنَك» فلمّا ولّى، قال جعفر بن محمد _ عليهما السلام _: «ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه» (2) .

روى الصدوق عن معمر بن خيثم: كنت جالساً عند الصادق _ عليه السلام _ فجاء زيد بن علي بن الحسين فأخذ بعضادتي الباب، فقال له الصادق _ عليه السلام _: «أُعيذك أن تكون المصلوب بالكناسة» (3).

كل ذلك يدلّ على ودٍّ عميق للعمّ، وأدب لائق بأهل البيت.

____________

(1) ابن شهر آشوب: المناقب: 4|197، طبعة دار الاَضواء، بيروت.

(2) عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ : 1|248 ح1، عنه البحار: 46|174 ح27.

(3) الصدوق: العيون: 1، الباب 25، الحديث: 4، طبعة قم. وسنوافيك ببقية الرواية.

الفصل الثالث في خطبه، وكلماته

الفصل الثالث في خطبه، وكلماته

وأشعاره، ومناظراته وعبادته

كان زيد الشهيد فصيحاً، بليغاً يأخذ بجوامع الكلم ويستعملها في مواردها وقد شهد به الصديق والعدو، قال الواقدي: وبلغ هشام بن عبد الملك مقامُ زيد بالكوفة، فكتب إلى يوسف بن عمر: أشخِصْ زيداً إلى المدينة فإنّي أخاف أن يخرجه أهل الكوفة لاَنّه حلو الكلام، شديد البيان، خليق بتمويه الكلام (1)وإليك بعض ما أثر عنه من المواعظ والحكم والاَدب ونحوها:

1 _ روى أبو الموَيد موفق بن أحمد المدعو ب_ «أخطب خوارزم»: «قيل لزيد

ابن علي: الصمت خير أم الكلام؟ فقال: قبح اللّه المساكتة، ما أفسدها للبيان، وأجلبها للعيّ والحصر، واللّه للمماراة أسرع في هدم الفتى من النار في يبس العرفج، ومن السيل إلى الحدور (2) (3).

____________

(1) سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 300، اليعقوبي: التاريخ: 2|325 الخوارزمي: مقتل الحسين: 2|119.

(2) الحدور على وزن رسول هو المكان ينحدر منه. (لسان العرب: 4|172، مادة «حدر)».

(3) محسن الاَمين: أعيان الشيعة: 7|123، نقلاً عن مقتل الحسين للخوارزمي.

( 76 )

فقد فضل الكلام على السكوت، وذم المماراة، فالكلام أفضل بشرط أن لا يكون مماراة.

2 _ إذا تلا زيد بن علي قوله سبحانه: "وإن تَتَولَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَكُم"(محمد _ 38) .

يقول: «إنّ كلام اللّه هذا تهديد وتخويف، ثم يقول: اللّهم لا تجعلنا ممّن تولّى عنك فاستبدلت به بدلا ً» (1).

3 _ قال زيد بن علي لاَصحابه: «أُوصيكم بتقوى اللّه، فإنّ الموصي بها لم يدَّخر نصيحة، ولم يقصِّ_ر في الاِبلاغ، فاتقوا اللّه في الاَمر الذي لا يفوتكم منه شيء وإن جهلتموه وأجملوا في الطلب، ولاتستعينوا بنعم اللّه على معاصيه، وتفكّروا، وأبصروا هل لكم قبل خالقكم من عمل صالح قدمتموه فَشَكَرَه لكم، فبذلك جعلكم اللّه تعالى من أهل الكتاب والسنّة، وفضّلكم على أديان أبائكم، ألم يستخرجكم نطفاً من أصلاب قوم، كانوا كافرين، حتى بثّكم في حجور أهل التوحيد، وبث من سواكم في حجور أهل الشرك، فبأي سوابق أعمالكم طهركم إلاّ بمنّه وفضله الذي يوَتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم» (2).

4 _ وقال مبيّناً لما هو الغاية من الخروج: «وإنّما خرجت على بني أُمية الذين قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت اللّه بحجر المنجنيق والنار» (3).

5 _ روى عبد

اللّه بن مسلم بن بابك قال: خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة، كان نصف الليل واستوت الثريا فقال: «يا بابكيّ، ما ترى هذه الثريا أترى أن

____________

(1) محسن الاَمين: أعيان الشيعة: 7|123.

(2) الاَمير أُسامة بن مرشد، لباب الآداب نقلاً عن المدائن كما في زيد الشهيد للسيد الاَمين العاملي: 92.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق: 35 _ 36.

( 77 )

أحداً ينالها؟» قلت: لا، قال: «واللّه لوددت أن يدي ملصقة بها فأقع إلى الاَرض أو حيث أقع، فأتقطَّع قطعة قطعة وإنّ اللّه أصلح بين أمة محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _» (1) .

6_ إنّ زيداً كتَّب كتائبه، فلمّ_ا خفقت راياته رفع يده إلى السماء فقال: «الحمد للّه الذي أكمل لي ديني، واللّه ما يسرني إنّي لقيت محمّداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنههم عن منكر».

وفي رواية أُخرى: «واللّه إنّي لاَستحيي من رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ إذا لقيته ولم آمر أُمته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر واللّه ما أُبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه إن أُجّجت لي نار وقذفتُ فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه عزّ وجلّ، واللّه لا ينصرني أحد إلاّ كان في الرفيق الاَعلى مع محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين _ صلوات اللّه عليهم _ ويحكم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ونحن بنوه، يا معشر الفقهاء وأهل الحجى أنا حجة اللّه عليكم هذه يدي مع أيديكم، على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتابه...» (2).

7_ كانت بيعته التي يبايع عليها الناس هي: «إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه،

وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسوية ورد الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا، وجهل حقنا. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا نعم، وضع يده على يده ثم يقول: «عليك عهد اللّه وميثاقه وذمته أو ذمة رسول اللّه لتفينّ ببيعتي، ولتقاتلنّ عدوي، ولتنصحنّ لي في السر والعلانية» فإذا قال نعم مسح يده على يده، ثم قال: «اللهم اشهد» (3).

____________

(1) المجلسي: البحار: 44|329.

(2) أخطب خوارزم: مقتل الحسين: 2|108.

(3) الطبري: التاريخ: 5|492، ابن الاَثير: الكامل: 4|233، باختلاف يسير في الكلمات.

( 78 )

8 _ ومن كلامه: «إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه وإلى السنن أنّ تحيى، وإلى البدع أن تدفع، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل» (1).

9 _ ومن كلامه المعروف قاله لهشام أنّه: « لم يكره قوم قطُّ حدّ السيف إلاّ ذلّوا» (2).

10_ وروى ابن عساكر أنّه قال: «واللّه ما كره قوم الجهاد في سبيل اللّه إلاّ ضربهم اللّه تعالى بالذل» (3)

11_ وقال أيضاً لهشام: «أنّه ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه، ولا يصغر دون تقوى اللّه» (4)

إلى غير ذلك من الكلمات التي سيمرّ بعضها عليك في المستقبل. غير أنّ كل ذلك حكم قصيرة يباري فيها، ما ورثه عن مطلع الفصاحة والبلاغة جدّه الاِمام أمير الموَمنين.

ثم لزيد خطب، ورسائل، نكتفي من كل منهما بواحد، والاِمعان فيهما يعرف مقدرته على إنشاء الكلام البليغ، وإبداعه المعاني السامية، في جمل قصيرة وإليك الخطبة ثم الرسالة:

12 _ خطبته التي، يعرّف فيها موقفه من الخروج وأنّه ليس إلاّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنهاض المسلمين لاِزالة المروانيّين عن منصة الحكومة الاِسلامية ورد الاَمر إلى أهل بيت النبي وإليك

نصها:

«يا أيّها الناس إنّ اللّه قد بعث في كل زمان خيرة، ومن كل خيرة منتجباً

____________

(1) الطبري: التاريخ: 5| 498؛ ابن الاَثير: الكامل: 5|243.

(2) المفيد: الاِرشاد: 269.

(3) مختصر تاريخ دمشق: 9|151.

(4) المسعودي: مروج الذهب: 3|206، طبعة دار الاَندلس، بيروت.

( 79 )

خيرة منه قال: "اللّهُ أعلَمُ حَيْثُ يَجعَلُ رِسالَتَه" (الاَنعام _ 124) فلم يزل اللّه يتناسخ خيرته حتى خرج محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من أفضل تربة وأطهر عترة أُخرجت للناس، فلمّا قبض اللّه محمّداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولا عارف أمخركم (1) بعد زخورها وحصّن حصونك على سائر الاَحياء بأنّ محمداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان قريشياً، ودانت العجم للعرب بأنّ محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان عربياً حتى ظهرت الكلمة وتمت النعمة فاتّقوا اللّه عباد اللّه وأجيبوا إلى الحقّ وكونوا أعواناً لمن دعاكم إليه، ولاتأخذوا سنّة بني إسرائيل، كذَّبوا أنبياءهم، وقتلوا أهل بيت نبيهم.

ثم أنا أُذكركم أيّ_ها السامعون لدعوتنا، المتفهّمون لمقالتنا، باللّه العظيم الذي لم يذكر المذكورون بمثله، إذا ذكروه وجلت قلوبكم واقشعرَّت لذلك جلودكم، ألستم تعلمون أنّا ولد نبيكم المظلومون المقهورون، فلا سهمُ وُفينا، ولا تراث أُعطينا، وما زالت بيوتاً تهدم وحرمتنا تنتهك وقائلنا يعرف، يولد مولودنا في الخوف، وينشأ ناشئنا بالقهر ويموت ميّتنا بالذل؟

ويحكم إنّ اللّه قد فرض عليكم جهاد أهل البغي والعدوان من أُمتكم على بغيهم، وفرض نصرة أوليائه الداعين إلى اللّه وإلى كتابه قال: "ولَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُ_رُهُ إنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز" (الحجّ _40) .

ويحكم إنّا قوم غَضِبْنا للّه ربّنا، ونقمنا الجور المعمول به في أهل ملتنا، ووضعنا من توارث الاِمامة والخلافة، وحكم بالهوى ونقض العهد، وصلّ_ى الصلاة لغير

وقتها، وأخذ الزكاة من غير وجهها ودفعها إلى غير أهلها، ونسك المناسك بغير هديها، وأزال الاَفياء والاَخماس والغنائم ومنعها الفقراء والمساكين وابن السبيل، وعطّل الحدود وأخذ منه الجزيل، وحكم بالرشا والشفاعات والمنازل، وقرب الفاسقين ومثل بالصالحين، واستعمل الخيانة وخوّن أهل الاَمانة،

____________

(1) وفي نسخة: أنجزكم.

( 80 )

وسلّط المجوس وجهز الجيوش، وخلد في المحابس وجلد المبين وقتل الوالد، وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف بغير مأخوذ من كتاب اللّه وسنّة نبيه.

ثم يزعم زاعمكم الهزاز على قلبه، يطمع خطيئته إنّ اللّه استخلفه يحكم بخلافته، ويصد عن سبيله وينتهك محارمه ويقتل من دعا إلى أمره، فمن أشرّ عند اللّه منزلة ممّن افترى على اللّه كذباً أو صد عن سبيله أو بغاه عوجاً، ومن أعظم عند اللّه أجراً ممّن أطاعه وأدان بأمره وجاهد في سبيله وسارع في الجهاد، ومن أشرّ عند اللّه منزلة ممّن يزعم أن بغير ذلك يحقّ عليه ثم يترك ذلك استخفافاً بحقّه وتهاوناً في أمر اللّه وإيثاراً لدنياه، "ومَنْ أحْسَنُ قَوْلاً ممّن دَعا إلى اللّهِ وعَمِلَ صالِحاً وقالَ إنّني مِنَ المُسْلِمين" (فصلت _ 33)(1)

13 _ روى حميد بن أحمد المحلي (582 _ 652ه_) بالاِسناد المنتهي إلى أبي الجارود أن زيداً لمّا ظهر، خطب وقال: «الحمد للّه الذي منّ علينا بالبصيرة وجعل لنا قلوباً عاقلة، وأسماعاً واعية، وقد أفلح من جعل الخير شعاره، والحقّ دثاره _ إلى أن قال: _ فمن سمع دعوتنا هذه الجامعة غير المفرِّقة، العادلة غير الجائرة، فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه ومن يليه من أهل الباطل، ودعائم النفاق، فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن ردّ علينا دعوتنا وأبى إجابتنا واختار الدنيا الزائلة الآفلة، على الآخرة الباقية، فاللّه من أُولئك برىء، وهو

يحكم بيننا وبينكم.

إذا لقيتم القوم فادعوهم إلى أمركم، فلاَن يستجيب لكم رجل واحد خير ممّا طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة، وعليكم بسيرة أمير الموَمنين علي بن طالب _ عليه السلام _ بالبصرة والشام: لا تتبعوا مُدبِراً ولا تُجهِزوا على جريح ولا تفتحوا باباً مغلقاً، واللّه على ما أقول وكيل.

____________

(1) فرات بن إبراهيم الكوفي: التفسير: 136 _ 137، ط 1، تحقيق محمد الكاظم، موَسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الاِرشاد، طهران (1410 ه_ _ 1990م) .

( 81 )

عباد اللّه لا تقاتلوا على الشك فتضلّوا عن سبيل اللّه، ولكن البصيرة ثم القتال، فإنّ اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ. عباد اللّه: البصيرة» قال أبو الجارود: يابن رسول اللّه، يبذل الرجل نفسه عن غير بصيرة؟ قال: «نعم أنّ أكثر من ترى عشقت نفوسهم الدنيا فالطمع أرداهم إلاّ القليل الذين لا تخطر الدنيا على قلوبهم، ولا لها يسعون فأُولئك مني وأنا منهم» (1).

14 _ وها نحن ننشر في المقام رسالته إلى علماء الاَُمّة قبيل خروجه، فحاول فيها بكل وسيلة تشجيع الناس على رفض الظلم والمطالبة بالحرية والعدالة.

قام بتحقيقها وتصحيحها محمد يحيى سالم عزان عن أربع نسخ، نوّه بخصوصيتها في مقدمتها ونشرها دار التراث اليمني صنعاء عام 1412ه_.

وإليك نصها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين حتى يرضى وصلّى اللّه وسلم وبارك وترحّم وتحنّن وسلّم على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد.

إلى علماء الاَُمّة الذين وجبت للّه عليهم الحجّة.

من «زيد بن علي» ابن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

سلام على أهل ولاية اللّه وحزبه.

ثم إنّي أُوصيكم معشر العلماء بحظّكم من اللّه في تقواه وطاعته، وأن لا تبيعوه بالمكس (2)من الثمن، والحقير من البدل، واليسير

من العِوَض، فإنّ كلّ

____________

(1) حميد المحلي: الحدائق الوردية: 141، الطبعة الثانية _ 1405ه_ ق. وقد جئنا بخلاصة الخطبة ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع الى المصدر.

(2) المكس: النقص والظلم.

( 82 )

شيء آثرتموه وعملتم له من الدنيا ليس بخَلَف ممّا زيّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعاهم واستحفظهم من أمره ونهيه، ذلك بأنّ العاقبة للمتقين، والحسرة والندامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.

[الاعتبار من الاَُمم السابقة]

فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا، وانظروا وتدبّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الاَُمّة من سوء ثنائه على الاَحبار والرهبان.

إذ يقول: "لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والاَحبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاِثْمَ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" (1).

وإنّما عاب ذلك عليهم بأنّهم كانوا يشاهدون الظلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر، ويعملون الفساد فلا ينهونهم عن ذلك، ويرون حقّ اللّه مضيعاً، ومال اللّه دُولة يوَكل بينهم ظلماً ودولة بين الاَغنياء، فلا يمنعون من ذلك رغبة فيما عندهم من العَرَض الآفل، والمنزل الزائل، ومداهنة (2)منهم على أنفسهم.

وقد قال اللّه عزّ وجلّ لكم: "يَا أَيُّ_ها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الاَحْبارِ والرُّهْبَانِ لَيَأكُلُونَ أموالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ وَالفِضَّةَ وَلايُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّ_رْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ"(3)كيما تحذروا.

وإذا رأيتم العالم بهذه الحالة والمنزلة فأنزلوه منزلة من عاث في أموال الناس بالمصانعة (4)، والمداهنة، والمضارعة (5)لظلمة أهل زمانهم، وأكابر

____________

(1) المائدة: 63.

(2) المداهنة: المداراة والملاينة، وداهن على نفسه أبقى عليها.

(3) التوبة: 34.

(4) المصانعة: الرشوة والمداراة.

(5) المضارعة: التقرب والمقارنة.

( 83 )

قومهم، فلم ينهوهم عن منكر فعلوه. رغبة فيما كانوا ينالون من السحت (1) بالسكوت عنهم.

وكان صدودهم عن سبيل اللّه بالاِتباع لهم، والاغترار بإدهانهم (2) ومقارنتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد. ذلك بأنّ أتباع العلماء

يختارون لاَنفسهم ما اختار علماوَهم. فحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين.

إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في كتابه: "إِنّا أنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُوراً يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ والاَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون" (3).

فعاب علماء التوراة والاِنجيل بتركهم ما استحفظهم من كتابه، وجَعَلَهم عليه شهداء خشية الناس، ومواتاة (4)للظالمين، ورضاً منهم بأعمال المفسدين. فلم يوَثروا اللّه بالخشية فسخط اللّه عليهم لمّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً، ومتاعاً من الدنيا زائلاً. والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غضارتها (5)وعيشتها ونعيمها وبهجتها، ذلك بأنّ اللّه هو علاّم الغيوب.

قد علم بأنّ ركوب معصيته، وترك طاعته، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه، إنّما يلحق بالعلماء للرهبة والرغبة من عند غير اللّه، لاَنّهم علماء باللّه، وبكتابه وبسنّة نبيّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

____________

(1) السحت: ما خبث من المكاسب.

(2) الاِدهان والمداهنة بمعنى: المصانعة واللين، وقيل: الاِدهان الغش.

(3) المائدة: 44.

(4) المواتاة: حسن المطاوعة والموافقة.

(5) غضارة الدنيا: النعمة والسعة والخصب.

( 84 )

[الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]

ولعمري لو لم يكن نال علماء الاَزمنة من ظلمتها، وأكابرها، ومفسديها، شدة وغلظة وعداوة، ما وصّاهم اللّه تعالى وحذّرهم. ذلك أنّهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا ولا يخلدون في جنّته بالشهوات.

فكره اللّه تعالى للعلماء _ المستحفظين كتبه وسنّته وأحكامه _ ترك ما استحفظهم، رغبة في ثواب من دونه، ورهبة عقوبة غيره. وقد ميزكم اللّه تعالى حقّ تميز، ووسمكم سمة (1)لا تخفى على ذي لب، وذلك حين قال لكم: "والمُوَْمِنُونَ وَالمُوَْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ

يَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ إنَّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيم" (2).

فبدأ بفضيلة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.

ولعمري لقد استفتح الآية في نعت الموَمنين بفريضة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.

وقال تعالى في الآخرين: "المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ" (3).

فلعمري لقد استفتح الآية في ذمّهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا.

____________

(1) السمة: العلامة.

(2) التوبة: 71.

(3) التوبة: 67.

( 85 )

واعلموا أنّ فريضة اللّه تعالى في الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أُقيمت له استقامت الفرائض بأسرها هَيّنُها وشديدها.

وذلك أنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو:

الدعاء إلى الاِسلام، والاِخراج من الظلمة، ورد الظالم، وقسمة الفيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصلة الاَرحام، والوفاء بالعهد، والاِحسان، واجتناب المحارم، كل هذا من الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول اللّه تعالى لكم: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرّ وَالتَقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الاِثْمِ وَالعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ" (1)فقد ثبت فرض اللّه تعالى فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (2).

[دور العلماء ومكانتهم ]

عباد اللّه فإنّما تصلح الاَُمور على أيدي العلماء وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين، الجائرين، فكذلك الجهّال والسفهاء إذا كانت الاَُمور في أيديهم، لم يستطيعوا إلاّ بالجهل والسفه إقامتها فحينئذ تصرخ المواريث، وتضج الاَحكام، ويفتضح المسلمون (3).

وأنتم أيّها العلماء عصابة مشهورة، وبالورع مذكورة، وإلى عبادة اللّه

____________

(1) المائدة: 2.

(2) المائدة: 7.

(3) يفتضح المسلمون بمعنى يفرط المسلمون.

قال الزمخشري: سمعتهم يقولون: افتضحنا فيك أي فرطنا في زيارتك وتفقدك.

( 86 )

منسوبة، وبدراسة القرآن معروفة، ولكم في أعين الناس مهابة، وفي المدائن والاَسواق مكرمة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه. يُبدَأ بكم عند الدُعوَة، والتُحَفَة (1)، ويشار إليكم في المجالس، وتشفعون في الحاجات، إذا امتنعت على الطالبين. وآثاركم متبعة، وطرقكم تسلك.

كل ذلك لما يرجوه عندكم من هو دونكم من النجاة في عرفان حقّ اللّه تعالى. فلاتكونوا عند إيثار (2)حقّ اللّه تعالى غافلين، ولاَمره مضيّعين، فتكونوا كالاَطباء الذين أخذوا ثمن الدواء وأعطبوا المرضى. وكرعاة استوفوا الاَجر وضلّوا عن المرعى. وكحرّاس مدينة أسلموها إلى الاَعداء، هذا مثل علماء السوء.

لا مالاً تبذلونه للّه تعالى، ولانفوساً تخاطرون بها في جنب اللّه تعالى، ولاداراً عطلتموها، ولازوجة فارقتموها، ولاعشيرة عاديتموها. فلاتتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه.

فترون أنّكم تسعون في النور، وتتلقاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عزّ وجلّ؟ كيف تطمعون في السلامة يوم الطامة؟! وقد أخرجتم الاَمانة، وفارقتم العلم، وأدهنتم في الدين. وقد رأيتم عهد اللّه منقوضاً، ودينه مبغوضاً، وأنتم لاتفزعون ومن اللّه لاترهبون.

فلو صبرتم على الاَذى، وتحملّتم الموَنة في جنب اللّه لكانت أُمور اللّه صادرة عنكم، وواردة إليكم.

____________

(1) التحفة: بضم المثناة وتسكين المهملة: البر واللطف.

(2) الاِيثار: التقديم والتفضيل، والمعنى هنا: فلا تكونوا غافلين عند إيثار وتقديم حقّ اللّه تعالى والدفاع عنه.

( 87 )

عباد اللّه لاتمكّنوا الظالمين من قِيَادِكم (1)بالطمع فيما بأيديهم من حطام الدنيا الزائل، وتراثها الآفل، فتخسروا حظّكم من اللّه عزّ وجلّ.

عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين، والاعتصام بالكتاب المتين، ولاتعجبوا بالحياة الفانية فما عند اللّه هو خير لكم، وإنّ الآخرة هي دار القرار.

عباد اللّه اندبوا الاِيمان ونوحوا على القرآن، فو الذي

نفس «زيد بن علي» بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهل بيت نبيّكم _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ولا أصبتم فضلاً إلاّ أصابوه فأصبتم فضله.

[إلى علماء السوء]

فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنّها لناهية لكم عنها، ومحذرة لكم منها، نصحت لكم الدنيا بتصرفها فاستغششتموها، وتَفَتحت لكم الدنيا فاستحسنتموها، وصدقتكم عن نفسها فكذبتموها.

فيا علماء السوء هذا مهادكم الذي مهدتموه للظالمين، وهذا أمانكم الذي أتمنتموه (2) للخائنين، وهذه شهادتكم للمبطلين. فأنتم معهم في النار غداً خالدون. "ذلِكُم بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ فِى الاَرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ وَبِمَا كُنْتُم تَمْرَحُونَ"(3)

فلو كنتم سلّمتم إلى أهل الحقّ حقهم، وأقررتم لاَهل الفضل بفضلهم لكنتم أولياء اللّه، ولكنتم من العلماء به حقاً، الذين امتدحهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه بالخشية منهم.

____________

(1) القياد كالمقود: ما يقاد به، واستعماله هنا مجاز ، والمعنى: لا تمكّنوا الظالمين من قودكم كما تقاد البهائم.

(2) أتمنتموه بمعنى أمنتموه، حكاه في اللسان عن ثعلب وقال: وهي نادرة.

(3) غافر: 75.

( 88 )

فلا أنتم علمتم الجاهل، ولا أنتم أرشدتم الضال، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون، ولابشرط اللّه عليكم تقومون، ولا في فكاك رقابكم [ولا السلب إلاّ سلبكم].

يا علماء السوء اعتبروا حالكم، وتفكّروا في أمركم، وستذكرون ما أقول لكم.

يا علماء السوء إنّما أمنتم عند الجبارين بالاِدهان، وفزتم بما في أيديكم بالمقاربة، وقربتم منهم بالمصانعة (1)، قد أبحتم الدين، وعطّلتم القرآن، فعاد علمكم حجّة للّه عليكم، وستعلمون إذا حشرج الصدر، وجاءت الطامة، ونزلت الداهية.

يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة، وأشدهم عقوبة، إن كنتم تعقلون، ذلك بأنّ اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم إذ جعل الاَُمور ترد إليكم، وتصدر عنكم.

الاَحكام من قبلكم تلتمس، والسنن من جهتكم تختبر. يقول المتبعون لكم: أنتم حجّتنا

بيننا وبين ربّنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذه المنزلة؟

فوالذي نفس «زيد بن علي» بيده لو بيّنتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحقّ الذي تعرفون، لتضعضع بنيان الجبارين، ولتهدّم أساس الظالمين، ولكنّكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلاً، وأدهنتم في دينه، وفارقتم كتابه.

هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق، كي تتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاِثم والعدوان، فأمكنتم الظلمة من الظلم، وزيّنتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة، فهذا حالكم.

فيا علماء السوء فمحوتم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً،

____________

(1) المصانعة: المداراة والمداهنة.

( 89 )

فند(1) واللّه نديد البعير الشارد، هرباً منكم.

فبسوء صنيعكم سفكت دماء القائمين بدعوة الحقّ من ذرية النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ورفعت روَوسهم فوق الاَسنّة، وصُفّدُوا في الحديد، وخلص إليهم الذل، واستشعروا الكرب وتسربلوا الاَحزان، يتنفسون الصعداء (2)، ويتشاكون الجهد.

فهذا ما قدّمتم لاَنفسكم، وهذا ما حملتموه على ظهوركم، فاللّه المستعان، وهو الحكم بيننا وبينكم، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

[دعوة إلى الجهاد ]

وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أُريد من القيام به فيكم. وهو: العمل بكتاب اللّه، وإحياء سنّة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

فبالكتاب قوام الاِيمان، وبالسنّة يثبت الدين. وإنّما البدع أكاذيب تخترع، وأهواء تتّبع، يتولّ_ى فيها وعليها رجال رجالاً صدّوهم عن دين اللّه، وذادوهم عن صراطه، فإذا غيّرها الموَمن، ونهى عنها المُوَحّد، قال المفسدون: جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!

وأيم اللّه ما البدعة إلاّ التي أحدث الجائرون، ولا الفساد إلاّ الذي حكم به الظالمون.

وقد دعوتكم إلى الكتاب. فأجيبوا داعي اللّه، وانصروه، فوالذي بإذنه دعوتكم، وبأمره نصحت لكم، ما ألتمس أثرة على موَمن، ولا ظلماً لمعاهد، ولوددت أنّي قد حميتكم مراتع (3)الهلكة، وهديتكم من الضلالة،

ولو كنت أوقد

____________

(1) ند البعير: شرد ونفر.

(2) في القاموس: بالضم بعده سكون، وفي لسان العرب: بالضم بعده تحريك بالفتح: النفس بتوجع، وفي شرح القاموس الاَوّل أصح.

(3) مراتع: مواضع.

( 90 )

ناراً فأقذف بنفسي فيها، لا يقربني ذلك من سخط اللّه، زهداً في هذه الحياة الدنيا، ورغبة منّي في نجاتكم، وخلاصكم. فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والموفورين حظاً ونصيباً.

عباد اللّه انصحوا داعي الحقّ وانصروه إذ قد دعاكم لما يحييكم. ذلك بأنّ الكتاب يدعو إلى اللّه، وإلى العدل والمعروف، ويزجر عن المنكر.

فقد نظرنا لكم وأردنا صلاحكم، ونحن أولى الناس بكم. رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ «جدّنا»، والسابق إليه الموَمن به «أبونا»، وبنته سيدة النسوان «أُمّنا»، فمن نزل منكم منزلتنا. فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه، ولا تنكلوا عن الحق، فبالحق يُكبَت (1)عدوّكم، وتمنع حريمكم، وتأمن ساحتكم.

وذلك أنّا ننزع الجائرين عن الجنود، والخزائن، والمدائن، والفيء، والغنائم، ونثبت الاَمين الموَتمن، غير الراشي والمرتشي، الناقض للعهد. فإن نظهر فهذا عهدنا، وإن نستشهد فقد نصحنا لربّنا، وأدّينا الحقّ إليه من أنفسنا، فالجنة مثوانا ومنقلبنا، فأي هذا يكره الموَمن، وفي أي هذا يرهب المسلم، وقد قال اللّه عزّ وجل لنبيه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: "وَلاَ تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أثِيماً" (2).

وإذا بدأت الخيانة، وخربت الاَمانة، وعمل بالجور، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على الموَمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!

اللّهم قد طلبنا المعذرة إليك، وقد عرّفتنا إنّك لاتصلح عمل المفسدين، فأنت اللّهم وليّنا، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحقّ.

هذا ما نقول، وهذا ما ندعو إليه، فمن أجابنا إلى الحقّ فأنت تثيبه وتجازيه،

____________

(1) يكبت: يرد العدو ويغيضه.

(2) النساء: 107.

(

91 )

ومن أبى إلاّ عتوّاً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوّه وعناده.

فاللّه اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه، وسارعوا إليه، واتخذوه حكماً فيما شجر بينكم، وعدلاً فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنّا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مسلمون، لنا وعلينا. لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا، إلاّ سلطانك، ولانلتمس بذلك أثرة على موَمن، ولا موَمنة، ولاحر، ولا عبد.

عباد اللّه فأجيبونا إجابة حسنة تكن لكم البشرى.

يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: "فَبَشِّ_رْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ" (1) .

ويقول: "وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِ_مَّن دَعَا إِلى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقالَ إِنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ" (2).

[مكانة أهل البيت _ عليهم السلام _ ]

عباد اللّه فاسرعوا بالاِنابة وأبذلوا النصيحة، فنحن أعلم الاَُمّة باللّه، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل «القرآن»، وفينا كان يهبط «جبريل» _ عليه السلام _، ومن عندنا اقتبس الخير. فمن علم خيراً فمنّا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن الناهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود اللّه.

عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أُمّتنا، وأخرب أمانتنا، وعطّل كتابنا، وتشرف بفضل شرفنا. وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أُمورنا، والجهاد في سبيل خالقنا، وشريعة نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _، صابرين على الحق، لا نجزع من نائبة من ظلمنا، ولا نرهب الموت إذا سلم لنا ديننا.

____________

(1) الزمر: 17 _ 18.

(2) فصلت: 33.

( 92 )

فتعاونوا، وانصروا، يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: "يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُ_رُوا اللّهَ يَنْصُ_رْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقدامَكُمْ" (1).

ويقول اللّه عزّ وجلّ: "وَليَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُ_رُهُ إنَّ اللّه لَقَويٌّ عَزيزٌ * الّذِينَ إنْ مَكّنَّاهُمْ فِي الاَرضِ أقامُوا الصّّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمعَرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللّهِ عاقِبَةُ الاَُمورِ"

(2).

عباد اللّه فالتمكين قد ثبت بإثبات الشريعة، وبإكمال الدين يقول اللّه عزّ وجلّ: "فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أنْتَ بِمَلُوم" (3).

وقال اللّه عزّ وجلّ فيما احتج به عليكم: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسلامَ دِيناً" (4).

عباد اللّه فقد أكمل اللّه تعالى الدين، وأتم النعمة، فلا تنقصوا دين اللّه من كماله، ولا تبدّلوا نعمة اللّه كفراً فيحل بكم بأسه وعقابه.

عباد اللّه إنّ الظالمين قد استحلّوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتّخذوا خذلانكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقّنا، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً للّه، فأنتم شركاوَهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكل مال للّه أنفقوه، وكل جمع جمعوه، وكل سيف شحذوه (5)، وكل عدل تركوه، وكل جور ركبوه، وكل ذمة للّه تعالى أخفروها (6) وكل مسلم أذلّوه، وكل كتاب نبذوه، وكل

____________

(1) محمد: 7.

(2) الحج: 40_ 41.

(3) الذاريات: 54.

(4) المائدة: 3.

(5) شحذوه: أحدّوه.

(6) أخفره: نقض عهده.

( 93 )

حكم للّه تعالى عطّلوه، وكل عهد للّه تعالى نقضوه، فأنتم المعينون لهم على ذلك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.

عباد اللّه إنّ الاَحبار والرهبان من كل أُمّة مسوَولون عما استحفظوا عليه، فأعدّوا جواباً للّه عزّ وجلّ على سوَاله.

اللهم إنّي أسألك بنبيّنا محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تثبّتاً منك على الحقّ الذي ندعو إليه وأنت الشهيد فيما بيننا، الفاصل بالحقّ فيما فيه اختلفنا، ولاتستوي الحسنة ولا السيئة.

والسلام على من أجاب الحقّ، وكان عوناً من أعوانه الدالّين عليه.

تمّ ذلك بحمد اللّه ومنّه.

* * *

مناظراته :

إنّ لزيد الشهيد مناظرات جرت بينه وبين هشام وأُناس أُخر وفيها دلالة واضحة على قوة منطقه، ونضاجة فكره وبالاَخص على حضور بديهته نقتطف ما يلي:

1 _ روى موفق الدين عن

معمر بن خيثم: قال لي زيد بن علي: كنت أُباري هشام بن عبد الملك وأُكايده في الكلام، فدخلت عليه يوماً فذكر بني أُمية، فقال: واللّه هم أشدّ قريش أركاناً، وأشدّ قريش مكاناً، وأشدّ قريش سلطاناً، وأكثر قريش أعواناً، كانوا روَوس قريش في جاهليّتها، وملوكهم في إسلامها فقلت له: على من تفخر؟ أعلى بني هاشم، أوّل من أطعم الطعامَ وضرب الهامَ وخضعت لها قريش بإرغام، أم على بني المطلب سيد مُضر جميعاً، وإن قلت معد كلّها صدَقت، إذا ركب مشوا، وإذا انتعل احتفوا، وإذا تكلّم سكتوا، وكان يطعم الوحوش في روَوس

( 94 ) الجبال والطير، والسباع والاِنس في السهل، حافر زمزم، وساقي الحجيج، أم على بنيه أشرف رجال، أم على نبي اللّه ورسوله حمله اللّه على البراق، وجعل الجنة عن يمينه، والنار عن شماله فمن تبعه دخل الجنة، ومن تأخّر عنه دخل النار، أم على أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ أخي رسول اللّه وابن عمه المفرِّج الكرب عنه وأوّل من قال لا إله إلاّ اللّه بعد رسول اللّه لم يبارزه فارس قط إلاّ قتله، وقال فيه رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مالم يقله في أحد من أصحابه ولا لاَحد من أهل بيته، قال: فاحمر وجهه (1).

2 _ دخل زيد على هشام بن عبد الملك، وقد جمع له هشام أهل الشام وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه، فقال له زيد: إنّه ليس من عباد اللّه أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه، ولا من عباد اللّه أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه، وأنا أُوصيك بتقوى اللّه يا أمير الموَمنين فاتقه، فقال

له هشام: أنت الموَهل نفسك للخلافة، الراجي لها؟ وما أنت وذاك لا أُمّ لك وإنّما أنت ابن أمة، فقال له زيد: إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند اللّه من نبيّ بعثه وهو ابن أمة، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية، لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم _ عليهما السلام _ فالنبوة أعظم منزلة عند اللّه أم الخلافة يا هشام؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهو ابن علي بن أبي طالب، فوثب هشام عن مجلسه (وزيد في عمدة الطالب ووثب الشاميون) ودعا قهرمانه فقال: لا يبيتن هذا في عسكري (الليلة) فخرج زيد وهو يقول: إنّه لم يكره قط أحد حد السيوف إلاّ ذلّوا

(2).

3 _ قد وشي بزيد إلى هشام، فسأله عن ذلك فقال: أحلف لك. قال هشام: فإذا حلفت أفأُصدقك؟! قال: إتق اللّه. قال هشام: أومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى

____________

(1) موفق الدين الخوارزمي : مقتل الحسين: 2 | 117 .

(2) المفيد: الاِرشاد: 268،طبعة النجف الاَشرف.

( 95 ) اللّه، قال: لا أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه، ولا أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه. قال هشام: بلغني أنّك تريد الخلافة وأنت لا تصلح لها لاَنّك ابن أمة قال: قد كان إسماعيل بن إبراهيم ابن أمة وإسحق ابن حرة، فأخرج اللّه من صلب إسماعيل النبيّ الكريم، فعندها قال له هشام: قم، قال: إذاً لا تراني إلاّ حيث تكره (1).

4 _ روى خالد بن صفوان اليمامي، قال: أتينا زي_د بن علي وهو يومئذ بالرصافة، رصافة هشام بن عبد الملك، فدخلنا عليه في نفر من أهل الشام وعلمائهم وجاءُوا معهم برجل انقاد له أهل الشام في البلاغة، والبصر

بالحجج، وكلّمنا زيد بن علي في الجماعة وقلنا: إنّ اللّه مع الجماعة وأنّ أهل الجماعة حجّة اللّه على خلقه، وأنّ أهل القلّة هم أهل البدعة والضلالة، قال: فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّ_ى على محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم تكلّم بكلام ما سمعت قرشيّاً ولا عربيّاً أبلغ موعظة، ولا أظهر حجّة ولا أفصح لهجة منه، قال: ثم أخرج إلينا كتاباً قاله في الجماعة والقلة، ذكر من كتاب اللّه فلم يذكر كثيراً إلاّ ذمّه ولم يذكر قليلاً إلاّ مدحه، والقليل في الطاعة هم أهل الجماعة، والكثير في المعصية هم أهل البدع. قال خالد بن صفوان: فيئس الشامي فما أحلى ولا أمر (كذا) وسكت الشاميون فما يجيبون بقليل ولا كثير، ثم قاموا من عنده فخرجوا وقالوا لصاحبهم: فعل اللّه بك وفعل، غررتنا وفعلت، زعمت أنّك لا تدع له حجّة إلاّ كسرتها فخرست، فلم تنطق، فقال لهم: ويلكم كيف أكلّم رجلاً إنّما حاجّني بكتاب اللّه أفأستطيع أن أرد كلام اللّه؟! فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: ما رأيت في الدنيا رجلاً قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج غير زيد بن علي _ عليهما السلام _

(2).

____________

(1) مختار البيان والتبيين كما في زيد الشهيد للاَمين: 48 _ 49.

(2) حميد المحلي: الحدائق الوردية: 142 _ 143؛ السياغي: الروض النضير: 1|100.

( 96 ) أشعاره :

هذه نتف من مناظراته وفيها غنى وكفاية، فلنعطف عنان البحث إلى ما جادت به قريحته في مواقف مختلفة ويبدو أنّه لا ينظم الشعر إلاّ في مجالات قليلة، يصبّ ما في نفسه من جوى وشكوى، وحماس في قالب النظم وإليك بعض ما وقفنا عليه:

1 _ روى أبو الفرج عن زكريا قال: أردت الخروج إلى

الحجّ فمررت بالمدينة، فقلت: لو دخلت على زيد بن علي، فدخلت فسلمت عليه فسمعته يتمثّل:

ومن يطلب المال الممنّع بالقنا * يعش ماجداً أو تخترمه المخارم

متى تجمع القلب الذكي وصارماً * وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم

يقول: فخرجت من عنده وظننت أنّ في نفسه شيئاً وكان من أمره ما كان

(1)

2 _ روى الخزاز عن ابن بكير أنّه قال لزيد: يابن رسول اللّه هل عهد إليكم رسول اللّه متى يقوم قائمكم؟ قال: يا بن بكير، إنّك لن تلحقه، وإن هذا الاَمر يليه ستة أوصياء بعد هذا، ثم يجعل اللّه خروج قائمنا فيملاَها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، قلت يا بن رسول اللّه ألست صاحب هذا الاَمر؟ فقال: أنا من العترة، فعدت فعاد إليّ، فقلت: يا بن رسول اللّه هذا الذي قلته عنك أو عن رسول اللّه؟ فقال: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، لا ولكن عهد، عهِدَه إلينا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم أنشأ يقول:

____________

(1) أبوالفرج: مقاتل الطالبيين: 89.

( 97 )

نحن سادات قريش * وقوام الحقّ فينا

نحن الاَنوار التي من * قبل كون الخلق كنّا

نحن منّا المصطفى ال * _مختار والمهدي منّا

فبنا قد عرف اللّه * وبالحق أقمنا

سوف يصلاه سعيراً * من تولى اليوم عنّا

(1)

3 _ روى ابن شهر آشوب في المناقب أنّه رثى الاِمام الباقر _ عليه السلام _ بأبيات وقال:

ثوى باقر العلم في ملحد * إمام الورى طيب المولد

فمن لي سوى جعفر بعده * إمام الورى الاَوحد الاَمجد

أبا جعفر الخير أنت الاِمام * وأنت المرجى لبلوى غد

(2)

4 _ اجتمع مع هشام فأهانه، فخرج عن مجلسه وهو يقول: «من أحب

الحياة ذل» ثم أنشأ يقول:

مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا * سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا

لاتطمعوا أن تهينونا ونكرمكم * وان نكفّ الاَذى عنكم وتوَذونا

واللّه يعلم أنّا لا نحبّكم * ولانلومكم أن لا تحبّونا

كلّ امرىءٍ مولعٌ في بغض صاحبه فنحمد اللّه نقلوكم وتقلونا

(3)

____________

(1) الخزاز القمي: كفاية الاَثر: 296 _ 297.

(2) ابن شهر آشوب: المناقب: 4|197، طبعة دار الاَضواء، بيروت.

(3) ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق: 9|156.

( 98 )

5 _ روى ابن الاَثير لما أهانه هشام، وقال: أُخرج، قال: أخرج ثم لا أكون إلاّ حيث تكره، فقال له سالم: يا أبا الحسين لا يظهرن هذا منك، فخرج من عنده وسار إلى الكوفة ولمّا خرج من مجلس هشام أنشد:

شرّده الخ_وف وأزرى به * كذاك من يكره حرّ الجلاد

منخرق النعلين يشكو الوجى * تنكثه أطراف مرو حداد

قد كان في الموت له راحة * والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث اللّه له دولة * تترك آثار العدا كالرماد

(1)

6 _ روى السيد محسن الاَمين في أعيان الشيعة نقلاً عن الخوارزمي في مقتله: إنّ أبا الحسين لما رأى الاَرض قد طوقت جوراً ورأى قلة الاَعوان، وتخاذل الناس، كانت الشهادة أحب الميتات إليه فخرج وهو يتمثل بهذين البيتين:

إن المحكم ما لم يرتقب حسداً * لو لم يرهب السيف أو وخز القنا صفا

من عاذ بالسيف لاقى فرجة عجباً * موتاً على عجل أو عاش فانتصفا

(2)

7 _ روى ابن الاَثير، قال محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب لزيد: أذكرك اللّه يا زيد، لما لحقت بأهلك ولا تأتي أهل الكوفة، فإنّهم لا يفون لك، فلم يقبل، فقال له: خُرِجَ بنا أُسراء على غير ذنب من الحجاز، إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق،

إلى قيس ثقيف يلعب بنا ثم قال:

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|206.

(2) الاَمين: أعيان الشيعة: 7|116.

( 99 )

بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني * أصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها إنّ المنية منهل * لا بد أن أُسقى بكأس المنهل

إنّ المنية لو تُمثَّل مُثّلتْ * مثلي (كذا) إذا نزلوا بضيق المنزل

فاقني حياءك لا أبا لُكِ وأعلمي * إنّي امروَ سأموت إن لم أُقتل

(1)

8 _ روى المرتضى في الفصول المختارة عن الحسين بن زيد، قال: حدثني مولاي قال: كنت مع زيد بن علي _ عليه السلام _ بواسط فذكر قوم الشيخين وعلياً فقدّموهما عليه، فلمّا قاموا قال لي زيد: قد سمعت كلام هوَلاء وقد قلت أبياتاً فادفعها إليهم وهي:

من شرّف الاَقوام يوماً برأيه * فإنّ علياً شرّفته المناقبُ

وقول رسول اللّه والحقّ قوله * وإن رغمت منهم أُنوف كواذب

بأنّك منّي ياعلي معالنا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب

دعاه ببدر فاستجاب لاَمره * وما زال في ذات الاِله يضارب

فما زال يعلوهم به وكأنّه * شهاب تلقاه القوابس ثاقب

(2)

9 _ قال السيد الاَمين: وممّا نسب إليه قوله:

لو يعلم الناس ما في العرف من شرف * لشرفوا العرف في الدنيا على الشرف

وبادروا بالذي تحوي أكفهم * من الخطير ولو أشفوا على التلف

(3)

____________

(1) ابن الاَثير: الكامل: 5|233، طبعة دار صادر.

(2) المرتضى، الفصول المختارة من العيون والمحاسن:25.

(3) تاريخ ابن عساكر: 6|20.

( 100 )

10 _ روى عن نسمة السحر أنّ هذين البيتين له:

يقولون زيداً لا يزكى بما له * وكيف يزكي المال من هو باذله

إذا حال حول لم يكن في أكفنا * من المال إلاّ رسمه وفواضله

(1)

11 _ روى الديلمي: أنّه لما جرى بينه وبين هشام كلام خرج _ عليه السلام _ وهو يقول:

حكم الكتاب وطاعة

الرحمن * فرضا جهاد الجائر الخوان

كيف النجاة لاَُمّة قد بدلت * ما جاء في الفرقان والقرآن

فالمسرعون إلى فرائض ربّهم * برئوا من الآثام والعدوان

والكافرون بحكمه وبفرضه * كالساجدين لصورة الاَوثان

(2) لكل أُناس مقبر بفنائهم * فهم ينقصون والقبور تزيد

فما إن تزال دار حيٍّ قد أُخربت * وقبرٌ بأفناء البيوت جديد

هم جيرة الاَحياء أمّا مزارهم * فدانٍ وأمّا الملتقى فبعيد

(3)

12 _ تمثل زيد بالاَبيات التالية وقد تمثل بها علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ يوم صفين والحسين بن علي _ عليهما السلام _ يوم قتل وهي لضرار بن الخطاب الفهري:

____________

(1) الاَمين العاملي: زيد الشهيد: 94، نقلاً عن نسمة السحر فيمن تشيع وشعر.

(2) السياغي، الروض النضير: 1|107.

(3) ابن عبد ربّه: العقد الفريد: 3|236.

( 101 )

مهلاً بني عمنا ظلامتن * اإنّ بنا سورة من الفلق

لمثلكم نحمل السيوف ولا * تغمز أحسابنا من الدقق

إنّي لاَنمي إذا انتميت إلى * عز عزيز ومفتر صدق

بيض بساط كان أعينهم * تكحل يوم الهياج بالعلق

(1)

لما خرج زيد بن علي كتب للكميت: اخرج عنّا يا أعيمش ألست القائل :

ما أُبالي إذا حفظت أبا القا * سم فيكم ملامة اللوام

فكتب إليه الكميت:

تجود لكم نفسي بما دون وثبة * تظل بها الغربان حولي تحجل

(2)

* * *

هذا زيد، وهذه كلمه وخطبه، وحججه ومناظراته، وشعره وقريضه وعند ذاك تقف على صدق ما رواه الخوارزمي في مقتله عن خالد بن صفوان قال: انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة في بني هاشم إلى زيد بن علي _ رضي اللّه عنه _ (3).

أمّا الفصاحة والخطابة فقد عرفت نماذج من كلامه، وأمّا العبادة، فيكفي في

____________

(1) الاَغاني:19|191.

(2) الاَغاني: 17|34.

(3) الخوارزمي: المقتل: 2|119.

( 102 ) تهالكه فيها: ما رواه فرات بن إبراهيم عن

رجل: قال صحبت زيداً ما بين مكّة والمدينة وكان يصلّ_ي الفريضة ثم يصلّي ما بين الصلاة إلى الصلاة ويصلّ_ي الليل كلّه ويكثر التسبيح ويكرر هذه الآية: "وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد" ، فصلّ_ى ليلة معي وقرأ هذه الآية إلى قريب نصف الليل فانتبهت من نومي فإذا أنا به مادّ يديه نحو السماء وهو يقول:

إلهي عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة، ثم انتحب، فقمت إليه وقلت: يا بن رسول اللّه لقد جزعت في ليلتك هذه جزعاً ما كنت أعرفه، فقال: ويحك يا نازلي أنّي نمت هذه الليلة وأنا ساجد فرأيت جماعة عليهم لباس لم أر أحسن منه فجلسوا حولي وأنا ساجد فقال رئيسهم: هل هو هذا ؟ فقالوا: نعم. فقال: أبشر يا زيد فإنّك مقتول في اللّه ومصلوب ومحروق بالنار ولا تمسّك النار بعدها أبداً، فانتبهت وأنا فزع

(1).

روى الخزاز عن يحيى بن زيد أنّه قال له في حديث: يا أبا عبد اللّه إنّي أُخبرك عن أبي _ عليه السلام _ وزهده وعبادته إنّه كان يصلّ_ي في نهاره ما شاء اللّه، فإذا جنّ الليل عليه نام نومة خفيفة ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر سجد سجدة ثم يصلّ_ي الفجر ثم يجلس للتعقيب حتى يرتفع النهار، ثم يذهب لقضاء حوائجه، فإذا كان قريب الزوال أتى وجلس في مصلاّه واشتغل بالتسبيح والتمجيد للرب المجيد، فإذا صار الزوال صلى الظهر وجلس، ثم يصلي العصر ثم يشتغل بالتعقيب ساعة ثم يسجد سجدة، فإذا غربت الشمس صلّى المغرب والعشاء، فقلت: هل كان يصوم دائماً؟ قال:

لا

____________

(1) فرات بن إبراهيم: التفسير: 435. والآية 19 من سورة ق.

( 103 ) ولكنّه يصوم في كل سنة ثلاثة أشهر، وفي كل شهر ثلاثة أيام ثم أخرج إليّ صحيفة كاملة فيها أدعية علي بن الحسين _ عليه السلام_(1)

روى أبو الفرج بسند عن محمد بن الفرات: رأيت زيد بن علي وقد أثر السجود بوجهه أثّراً خفيفاً وكان في خاتمه «اصبر تُوَجر وتوقّ تنج»

(2).

____________

(1) الخزاز القمي: كفاية الاَثر: 304 _ 305.

(2) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 87 و 89.

الفصل الرابع مشايخه وتلاميذه

الفصل الرابع مشايخه وتلاميذه

في الحديث والتفسير

إنّ أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ كانوا في غنى عن الحضور لدى الغير، والرجوع إليهم في مجال العقائد والاَُصول، والاَحكام والفروع، والاَخلاق والسلوك وكل ما يمتّ إلى الدين بصلة، وتحتاج إليه الاَُمّة. وذلك لا للمبالغة في مقامهم، أو الغلو في علومهم. بل لاَجل تنصيص النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عليهم، حيث إنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تارة يصوّرهم بأنّهم أعدال القرآن وقرناوَه، من تمسك بهما لن يضل أبداً (1)، وأُخرى بأنّ مثلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (2)، وثالثة بأنّهم كالنجوم، فكما أنّ الكواكب أمان لاَهل الاَرض من الغرق، فكذلك أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ أمان للاَُمّة من الاختلاف (3) ، إلى غير ذلك من الاَحاديث المتواترة أو المتضافرة الدالة على أنّ أئمة أهل البيت مراجع الاَُمّة، ومصادر الاَحكام، وهم عن

____________

(1) حديث الثقلين: اتفق الفريقان على نقله وتصحيحه لايشك فيه إلاّ العدو الغاشم.

(2) تلويح إلى قول النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _:« مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

(3)

قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «النجوم أمان لاَهل الاَرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاَُمّتي من الاختلاف في الدين»لاحظ في الوقوف على مصادرها المراجعات للسيد شرف الدين العاملي المراجعة الثانية: 40 _ 46 طبعة الاَعلمي، لبنان.

( 106 )

علومهم ومعارفهم يصدرون، وإلى أقوالهم وأفعالهم يسكنون. ومن كان هذا وصفه ومقامه فيحتلّ من مخروط الاَُمّة مكان الرأس والقمة، ونعم ما قال القائل:

فَوال أُناساً قولهم وكلامهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

وما ربّما يرى من أنّ أحد الاَئمة، يروي حديثاً عن صحابي أو تابعي كالاِمام الباقر _ عليه السلام _ إذا روى مثلاً عن جابر، فإنّما هو لاَجل إقناع السائل الذي اعتاد بقبول الرواية إذا أُسند إلى النبي الاَكرم وإلاّ فالاِمام الباقر _ عليه السلام _ في غنى عن الاِسناد إليه وهو معدن علم النبي وموئله وهكذا أبناوَه المعصومون.

هذا هو حال أئمة أهل البيت وأمّا العلماء المنتمون إليهم بالنسب كالحسنيّين والحسينيّين فيصدرون عن معارفهم ويحتجون بأقوالهم وأفعالهم أيضاً وربّما ينقلون عن الغير ويسكنون إليهم وذلك لا للاِعراض عن أئمتهم، بل اقتداء بقول نبيهم _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «الحكمة ضالة الموَمن أين وجدها أخذها» ولاَجل ذلك نرى أنّ زيد الثائر أخذ الحديث عن غيرهم، كما أخذ عنه الكثيرون من المحدّثين والفقهاء. وإليك بيان هذا الفصل من فصول حياته.

مشايخه :

كان لزيد الثائر تنقلات وسفرات كثيرة بين المدن الاِسلامية بين المدينة ومكّة، والحجاز والشام والعراق، ففي هذه الرحلات أخذ العلم والحديث عن لفيف، وإليك أسماء مشايخه أوّلاً، ثم تلامذته.

روى عن: أبان بن عثمان بن عفان، وعبيد اللّه بن أبي رافع، وعروة بن الزبير، وأبيه علي بن الحسين زين العابدين _ عليه السلام _، وأخيه

أبي جعفر محمد بن علي الباقر _ عليه السلام _ (1).

____________

(1) المزي: تهذي_ب الكمال: 10|96، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5|389 ، تاريخ الاسلام القسم المختص بحوادث (سنة 121_ 141)ص105، ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب:3|419.

( 107 )

تلامذته:

روى عنه: الاَجلح بن عبد اللّه الكندي، وآدم بن عبد اللّه الخثعمي، وإسحاق بن سالم، وإسماعيل بن عبد الرحمان السدي، وبسام الصيرفي، وأبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثمالي، وابن أخيه جعفر بن محمد بن علي الصادق، وابنه حسين بن زيد بن علي، وخالد بن صفوان، وأبو سلمة راشد بن سعد الصائغ الكوفي، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وزياد بن علاقة، أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني، وسعيد بن خثيم الهلالي، وسعيد بن متصور المِشرفي الكوفي، وسليمان الاَعمش، وشعبة بن الحجاج، وعباد بن كثير، وعبد اللّه بن عمر بن معاوية، وعبد اللّه بن عيسى بن عبد الرحمان بن أبي ليلى، وعبد الرحمان بن الحارث ابن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وعبد الرحمان بن أبي الزناد، وعبيد اللّه بن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب، وعبيد بن اصطفى، وأبو هريرة عُريف بن درهم، وعمر بن موسى، وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وابنه عيسى بن زيد بن علي، وفضيل بن مرزوق، وكثير النواء، وكيسان أبو عمر القصار الكوفي، ومحمد ابن سالم، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، والمطّلب بن زياد، وأبو الزناد موح ابن علي الكوفي، وهارون بن سعد العجلي، وهاشم بن البريد (1) .

ثم إنّ علاّمة صنعاء السياغي فصل من يروي عنه من أولاده عمّن ليس منهم، فقال:

تلامذته: أولاده السادة الاَبرار:

عيسى بن زيد، ومحمد بن زيد، وحسين بن زيد، ويحيى بن زيد.

____________

(1) جمال الدين المزي: تهذيب الكمال:

10|96. هذا ما ذكره جمال الدين، ونذكر المشهورين منهم في قائمة خاصة.

( 108 )

فعيسى بن زيد الاَوحد الذي أخذ عنه سفيان الثوري، وكان زاهد أهل زمانه وهو جد العراقيين.

ومحمد بن زيد، جد الذين ببلاد العجم.

وحسين بن زيد، جد المشهورين من ذرية زيد بن علي.

ويحيى بن زيد هو القائم بالاِمامة بعده.

مشاهير أصحابه الذين أخذوا عنه العلم :

ما نقلناه عن جمال الدين المزّي يهدف إلى مطلق من أخذ عنه العلم، سواء اشتهر بالاَخذ عنه أم لا وفي هذه القائمة نخص المشهورين وبين المذكورين في القائمتين من النسب الاَربع عموم وخصوص من وجه.

1 _ منصور بن المعتمر بن عبد اللّه السلمي الكوفي مات سنة 132 ه_ احتج به البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

2 _ هارون بن سعد العجلي أو الجعفي الكوفي وهو من شيوخ مسلم.

3 _ معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الاَنصاري استشهد مع الاِمام زيد وصلب معه.

4 _ أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني وهو الذي تنسب إليه الجارودية الزيدية.

5 _ الحسن بن صالح وأخوه.

6 _ علي بن صالح وكلاهما بتريان، لاحظ رجال الكشي برقم 108.

7 _ هاشم صاحب البريد وقد جاء في سند الكافي في باب معرفة الاَئمة يروي عن الصادق _ عليه السلام _ لاحظ تنقيح المقال: 3|288.

( 109 )

8 _ محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى من أصحاب الاِمام الصادق _ عليه السلام _ لاحظ تنقيح المقال: 3|136.

9 _ سلمة بن كهيل أحد المبايعين لزيد له ترجمة في رجال الكشي برقم: 205.

10 _ عمرو بن خالد الواسطي راوي مسنده وستوافيك ترجمته عند البحث عن آثار زيد العلمية.

11 _ إسماعيل بن عبد الرحمان السدّي من كبار علماء الكوفة مات سنة 127ه_.

12

_ أبو الزناد: موح بن علي الكوفي. له ترجمة في تهذيب الكمال: 1|456.

13 _ سليمان بن مهران الاَعمش من كبار علماء الكوفة ولد سنة ستين وتوفي عام 148ه_.

14 _ الاَجلح بن عبد اللّه الكندي. لاحظ تنقيح المقال: 1|266.

15 _ معمر بن خثيم الهلالي له ترجمة في تنقيح المقال: 3|234.

16 _ سعيد بن خثيم الهلالي له ترجمة في تنقيح المقال: 2|26.

17 _ شعبة بن الحجاج بن ورد (83 _ 160ه_) من العلماء كان ينتقل بين الكوفة والبصرة وواسط.

18 _ قيس بن الربيع من أصحاب الصادقين _ عليهما السلام _ . تنقيح المقال: 3|31.

19_ سفيان بن أبي السمط، اق_رأ ترجمت_ه في تنقيح المقال: 2|38، بسقوط «أبي» من العبارة.

20 _ محمد بن الفرات الجرمي. له ترجمة في رجال الكشي، برقم: 428.

( 110 )

21 _ فضيل بن الزبير الرسان له ترجمة في تنقيح المقال: 2|13.

22 _ عبد اللّه بن الزبير: أخو فضيل بن الزبير لاحظ رجال الكشي برقم: 287.

23 _ سالم بن أبي حفصة ترجمه الكشي برقم 109.

24 _ عبد اللّه بن عتيبة.

25 _ زبيد اليامي (1)وهو من صغار التابعين توفي عام 221أو 421ه_.

هوَلاء مشاهير تلامذته، وأمّا غيره فقد أتى بأسمائهم العلاّمة السياغي في كتابه، فمن أراد فليرجع إليه، وقد تعرفت على ما ذكره جمال الدين المزّي في ذلك المجال (2)

ثم إنّ أولاد عبد اللّه بن الحسن بن الحسن المثنى الذين أخذوا من زيد عبارة عن:

1 _ محمد بن عبد اللّه: النفس الزكية.

2 _ إبراهيم بن عبد اللّه: النفس الرضية.

3 _ إدريس بن عبد اللّه.

4 _ يحيى بن عبد اللّه.

5 _ السيد موسى بن عبد اللّه.

فهوَلاء أخذوا العلم عن أبيهم وعن زيد وبعض أصحابه أيضاً(3).

* * *

____________

(1) السياغي: الروض

النضير: 1|114 _ 115.

(2) جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 10|96.

(3) السياغي: الروض النضير: 1|115.

( 111 )

إنّ العلاّمة السياغي وغيره عدّوا كثيراً من فقهاء أهل السنّة ونسّاكهم من أتباع الاِمام زيد، وحاولوا بذلك شيوع إمامته والاقتداء به يوم ظهوره وخروجه، ولكن الموَيد لثورة زيد، غير كونه تابعاً لزيد في الاَُصول والفروع.

وهناك كلمة قيّمة لنشوان الحميري قد رفع بها الستر عن وجه الحقيقة وقال: «اجتمع طوائف الناس على اختلاف آرائهم على مبايعته، فلم يكن المعتزلي أسرع إليها من المرجىَ، ولا المرجىَ من الخارجي، فكانت بيعته _ عليه السلام _ مشتملة على فرق الاَُمّة على اختلافها (1).

إنّ أبا حنيفة إمام السنّة دعم خروج زيد بالمال، وأفتى بوجوب نصرة زيد وقد أرسل المال إليه، كما هو مذكور في غير واحد من المعاجم، مع أنه لم يكن تابعاً لزيد لا في الاَُصول ولا في الفروع.

حديث المنتمين إلى زيد :

إنّ لفيفاً من فقهاء أهل السنّة، كانوا يعانون من جور بني أُمية وطغيانهم، لمّا وقفوا على خروج زيد قاموا بدعمه وإمداده بالقول والعمل، فصاروا معروفين بالزيدية وما هم من الزيدية بشيء إلاّ تصويب خروج زيد، وإمداده، والزيدي عندنا، من يقتفيه في العقيدة والعمل.

وبذلك يظهر التأمل في بعض ما ذكره الحاكم الجشمي البيهقي (413 _ 494ه_) في جلاء الاَبصار.

قال: وعن محمد بن زيد قال: بعث أبو حنيفة _ رحمه اللّه _ إلى زيد بن علي _ عليهما السلام _ بمال، وقال: استعن به على ما أنت فيه. وعن فضيل ابن الزبير قال: كنت رسول زيد بن علي إلى أبي حنيفة، فسألني من يأتيه من الفقهاء؟ فقلت:

____________

(1) نشوان الحميري: الحور العين: 185.ولكلامه صلة سيوافيك.

( 112 )

سلمة بن كهيل ويزيد بن أبي زياد وهارون بن

سعد وأبو هاشم الرماني وحجاج ابن دينار وغيرهم كثير. وعن شعبة قال: سمعت الاَعمش يقول: واللّه لولا ضرارة بي لخرجت معه، واللّه ليُخذُلنَّه واللّه ليُسلمُنَّه كما فعلوا بجده وعمه. وعن عقبة بن إسحاق السلمي قال: كان منصور بن المعتمر يدور على الناس يأخذ البيعة لزيد ابن علي. وعن ليث قال: جاءنا منصور يدعونا إلى الخروج مع زيد بن علي. وعن حماد بن زيد وذكر سفيان الثوري فقال: كان ذاك زيدياً، وعن أبي معاوية وذكر عنده سفيان فقال: نحن أعرف بهذا منكم، كان سفيان من هذه الشيعة وكان منصور يأخذ البيعة لزيد بن علي. وذكر السيد أبو طالب بإسناده عن أبي عوانة قال: كان سفيان زيدياً، وكان إذا ذكر زيد بن علي يقول: بذل مهجته لربّه، وقام بالحقّ لخالقه، ولحق بالشهداء المرزوقين من آبائه. وقال أبو عوانة: كان زيد بن علي يرى الحياة غراماً، وكان ضجراً بالحياة. وعن الواقدي قال: كان سفيان زيدياً. وعن النضر بن حميد الكندي قال: شهدت سعد بن إبراهيم بالمدينة حين نعي إليه زيد بن علي _ عليهما السلام _، فبكى واشتد حزنه واشتد جزعه، وتخلف في منزله يعزّى بعد سبعة أيام، فسمعته يقول: ما خلف مثله. وعن الصادق _ يعني جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ _: «عمي زيد خرج على ما خرج عليه آباوَه، ووددت أنّي استطعت أن أصنع كما صنع عمي، فأكون مثل عمي، من قتل مع زيد كمن قتل مع الحسين ابن علي _ عليهما السلام _ » (1).

وعلى هذا الغرار قول ابن العماد الحنبلي، قال: وكان ممن بايعه منصور بن المعتمر، ومحمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى، وهلال بن خباب بن الاَرت وابن شبرمة ومسعر

بن كدام وغيرهم(2)

____________

(1) السياغي: الروض النضير: 1|104.

(2) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: 1|158.

( 113 )

إنّ القول بالتشيع يجمعه الاعتقاد، بخلافة الاِمام علي أمير الموَمنين عن النبي الاَكرم نصاً جليّاً أو خفياً كما يدّعيه بعض الزيدية، ولم يكن هوَلاء متشيعين بهذا المعنى نعم كانوا موَيدين ثورة زيد ومدعمين لها بألوان مختلفة.

حتى إنّ بعض الموَيدين لثورته، والمبايعين له، قد استقال بعد البيعة كما روى في حق كثير النواء حيث بايع فاستقال وأقاله زيد وقال:

للحرب أقوام لها خلقوا * وللتجارة والسلطان أقوام

خير البرية من أمسى تجارته * تقوى الاِله، وضرب يجتلي الهام (1)

الثناء عليه ممزوجاً مع المغالاة :

1 _ روى المقريزي عن أحمد بن محمد بن الحسي_ن بن زيد بن علي، قال: حدثنا أهلي أنّ زيداً _ عليه السلام _ ماتوسد القرآن منذ احتلم حتى قتل، وأمّا الصيام فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

ولعله أراد بقوله: «ماتوسد القرآن» الكناية عن قيام الليل واستكمال قراءة القرآن في صلاة التهجد (2).

2 _ قال نشوان الحميري في شرح «رس_الة الحور العين»: فلمّا شهر فضله وتقدمه وبراعته وعرف كماله الذي تقدم به أهل عصره اجتمع طوائف الناس على اختلاف رأيهم على مبايعته، فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلي، ولا المعتزلي أسرع إليها من المرجىَ، ولا المرجىَ من الخارجي، فكانت بيعته _ عليه السلام _ مشتملة على فرق الاَُمّة مع اختلافهم. ولم يشذ عن بيعته إلاّ هذه الفرقة

____________

(1) المفيد: الاختصاص: 128، ط 1379؛ المجلسي: البحار: 46|181.

(2) المقريزي: الخطط: 2|419، كما في الروض النضير: 1|99.

( 114 )

القليلة التوفيق _ أخزاهم اللّه تعالى _ قال: ومن الواضح الذي لا أشكال فيه أنّ زيد بن علي _ عليه السلام _ يُذكر مع المتكلمين إن ذكروا، ويُذكر

مع الزهاد، ويُذكر مع الشجعان، وأهل المعرفة بالضبط والسياسة، فكان أفضل العترة لاَنّه كان مشاركاً لجماعتهم في جميع خصال الفضل، ومتميزاً عنهم بوجوه لم يشاركوه فيها، فمنها اختصاصه بعلم الكلام (1)، الذي هو أجلّ العلوم، وطريق النجاة، والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلاّ معه، والتقدم فيه والاشتهار عند الخاص والعام. هذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يصفه في صنعه الكلام ويفتخر به ويشهد له بنهاية التقدم، وجعفر بن حرب في كتاب «الديانة» وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبد اللّه الاِسكافي وغيره ينتسبون إليه في كتبهم، ويقولون نحن زيدية، وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه، مع أنّهاتنظر إلى سائر الناس بالعين التي تنظر بها ملائكة السماء إلى أهل الاَرض مثلاً. فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه على كل أحد في فضيلته لما انقادت إليه المعتزلة (2).

المغالاة في علمه وفقهه :

إنّ الغلو هو الخروج عن الحد، قال سبحانه: "يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُوُُلوا على اللّهِ إلاّ الحَق" (النساء _ 171) . وقال سبحانه: "قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَق" (المائدة _ 77) . وقال الاِمام علي _ عليه السلام _ وهو يصف الغلوّ وخلافه يقول: الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد» (3).

____________

(1) سيوافيك أنّه لم يوَثر من زيد، أي رأي كلامي وإنّ تتلمذه على واصل غير ثابت.

(2) السياغي: الروض النضير: 1|101، لاحظ شرح رسالة الحور العين: 185.

(3) الرضي: نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 347.

( 115 )

المغالا ة في أي موضوع من الموضوعات تلازم الكذب أوّلاً، والاِغراء بالجهل ثانياً، وبخس الحق ثالثاً إلى غير ذلك من المضاعفات، من غير فرق بين أن

يتعلق بأمر ديني أو غيره، وهنا نذكر شيئاً مما قيل في حقّه من المغالاة:

1 _ اتفقت كلمة أصحاب المعاجم على أنّ زيداً، أخذ عن والده وأخيه محمد الباقر _ عليهما السلام _ ولم ينكر أحد ذلك وقد تخرج من مدرسة أخيه عشرات المحدثين والفقهاء والمتكلمين، لا يشق غبارهم ولا يدرك شأوهم غير أنّ هناك من يروقه الحط عن مكانة أئمة أهل البيت، أو الخضوع للعاطفة، أو الحسد لمنزلة أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ فلا يرضى إلاّ بترفيع زيد عليه، يقول: لقد علم زيد، القرآن من حيث لم يعلمه أبو جعفر، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لاَنّ زيداً علم القرآن، وأُوتي فهمه. وأبو جعفر أخذ من أفواه الرجال. قال الديلمي: وقد قيل لاَبي جعفر: باقر علم الاَنبياء والعالم ورأس الشيعة في زمانه. وعنه: واللّه لقد علمت أهل بيتي فما علّمت أفضل من زيد بن علي ولقد استوسقت له الفضائل، واجتمع له الخير، وكمل فيه الحقّ فما يساميه أحد إلاّ والحقّ ينكسه ويزهقه (1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ زيداً من علماء أهل البيت وأفاضلهم، وهو علم القرآن وأُوتي فهمه، ولكنه من أين أخذ علمه هل أخذ عن أبيه زين العابدين، وأخيه باقر العلوم _ عليهما السلام _ فإذاً تنتفي المغالاة، أو من غيرهما، ومن هو ذاك الغير الذي علّم زيداً، وصار زيد في علم القرآن عيالاً عليه، وبرع وترعرع وتقدم على أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ ؟!

وثانياً: ما مصدر هذه الاَُكذوبة من أنّ أبا جعفر _ عليه السلام _ أخذ من أفواه الرجال، إذ لم يأت في أي مصدر من المصادر، إنّ الاَئمة الاثني عشر _ عليهم

____________

(1) الروض النضير: 1|101 وهذا القضاء الجائر نسبه الديلمي

في مشكاة الاَنوار إلى عبد اللّه بن محمد ابن علي بن الحنفية.

( 116 )

السلام _ حضروا مجلس درس أحد من الصحابة والتابعين والعلماء، نعم ربّما روى بعضهم حديثاً عن الرسول مسنداً إلى بعض الصحابة أو التابعين وهو غير الدراسة والتعلّم لديهم.وقد مضى وجه النقل عنهم.

هذا هو ابن سعد يعرّفه بقوله: «محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين كان عالماً عابداً ثقة، روى عنه الاَئمة أبو حنيفة وغيره. وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب، ويعني بالحكم، الحكم بن عتيبة، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه» (1).

أفمن يسلم عليه النبي عن طريق جابر يقول جابر: كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «ياجابر يولد مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقوم سيد العابدين فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام» (2).

يقول المفيد: لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين _ عليهما السلام _ في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ وروى عنه معالم الدين، بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين، وسارت بذكر كلامه الاَخبار وانشدت في مدائحه الاَشعار (3).

وبذلك يظهر حال ما رواه الذهبي وغيره عن الاِمام الصادق _ عليه السلام _ أنّه عرف عمه بقوله: «كان واللّه أقرأنا لكتاب اللّه وأفقهنا في دين اللّه، وأوصلنا

____________

(1) سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 1|302.

(2) المصدر نفسه: 3. 3، أخرجه أيضاً ابن حجر في لسان الميزان: 5|198، وابن حجر الهيثمي

في الصواعق المحرقة: 199، والمناوي في الكواكب الدّريّة: 1|164 وغير ذلك.

(3) المفيد: الارشاد: 261 _ 262.

( 117 )

للرحم ما تركنا وفينا مثله» (1)ولو صح الحديث لحمل على التفضيل النسبي بالنسبة إلى سائر الهاشميين.

تطرف بعد تطرف:

ومن ذلك ما يرويه حميد بن أحمد المحلي قال: روينا بالاسناد الموثوقة أيضاً أنّ زيد بن علي _ عليهما السلام _ سأل محمد بن علي الباقر _ عليهما السلام _ كتاباً كان لاَبيه، قال: فقال له محمد بن علي: نعم، ثم نسي ولم يبعث إليه، فمكث سنة ثم ذكر، فلقى زيداً فقال: أي أخي ألم تسأل كتاب أبيك؟ قال: بلى. قال: واللّه ما منعني أن أبعث به إلاّ النسيان. قال: فقال له زيد: وقد استغنيتُ عنه. قال: تستغني عن كتاب أبيك؟ قال: نعم استغنيت عنه بكتاب اللّه، قال: فاسألك عما فيه؟ قال له زيد: نعم، قال: فبعث محمداً إلى الكتاب، ثم أقبل فسأله عن حرف حرف وأقبل زيد يجيبه حتى فرغ من آخر الكتاب، فقال له محمد: واللّه ما حرمت منه حرفاً واحداً (2) .

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ظاهر الحديث أنّ اللقاء بين الاَخوين كان بعيداًبشهور غير متقارب كما هو ظاهر قوله: فمكث سنة ثم ذكر فلقى زيداً، وهذا ما لا تعطيه ظروف الحياة في المدينة المنورة.

وثانياً: أنّ ما نقله عن زيد من حديث الاستغناء إنّما يصح لو كان الكتاب، كتاباً عادّياً غير مرتبط بتفسير القرآن وحل معضلاته ومشكلاته، أو مبيّناً لمخصصاته ومقيداته، ولكن الظاهر أنّ الكتاب كان على خلاف ذلك ومع ذلك كيف يمكن الاستغناء عنه بالقرآن.

____________

(1) جم_ال الدين المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 10|98، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5|390وتاريخ الاِسلام (حوادث _ 121 _ 140ه_) ص 106.

(2) الحدائق

الوردية: 140.

( 118 )

( 119 )

الفصل الخامس الآثار العلمية الباقية عن زيد

الفصل الخامس الآثار العلمية الباقية عن زيد

كان وليد البيت العلوي، مفسّراً للقرآن، عارفاً بالسنّة، ترك آثاراً علمية إمّا أملاها على تلاميذه، أو حرّرها بقلمه ويراعه ونأتي في المقام بما وقفنا عليه من الآثار:

1 _ المجموع الفقهي.

2 _ المجموع الحديثي.

نسب إلى زيد المجموع الفقهي تارة والحديثي أُخرى، والمسند ثالثة. روى الجميع أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي غير أنّ الكتب الثلاثة هي المطبوعة باسم المسند، وأمّا تسميته بالحديثي والفقهي فلاَجل أنّ الكتاب يتضمّن روايات عن زيد عن آبائه كما يتضمن آراء له فلو كان الكتابان في بدء الاَمر مختلفين فهو في المطبوع كتاب واحد، وأمّا توصيفه بالمسند لاَنّ ما في الكتاب يحتوي رواياته عن آبائه، وقد جمع _ ما رواه أبو خالد عن زيد _ عبد العزيز بن إسحاق بلا تبويب شأنَ المسانيد، وبوبّه بعد قرون الحسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي في سنة 1201ه_ وكان قبل التبويب مجزّأ على ستة أبواب على أصل الجامع له، والمطبوع

( 120 )

هو ما بوبّه الديلمي.

والناظر في المجموع الحديثي يميز الحديث عن المجموع الفقهي فنرى في كتاب الطهارة باب ذكر الوضوء لونين من الكلام.

أ: حدثني زيد بن علي بن الحسين (عن أبيه سقط عن المطبوع) عن جده الحسين بن علي إلى أن قال: رأيت رسول اللّه توضّأ فغسل وجهه.

ب: وسألت زيداً بن علي عن الرجل ينسى مسح رأسه حتى يجفّ وضووَه.

ومثل الثاني إذا قال: وقال زيد بن علي رضي اللّه عنه «المضمضة والاستنشاق سنّة ...»

والقسم الاَوّل حديث، ولكن الثاني وما يليه، من المجموع الفقهي.

وأخبار المجموع النبويةُ المرفوعة مائتا حديث وثمانية وعشرون حديثاً.

والعلوية ثمانمائة وعشرون خبراً.

وقد تلقاها أئمة الزيدية بالقبول وقالوا: هو أوّل كتاب جمع

في الفقه وقال منهم:

زيد يزيد على الورى * في أصله وفروعه

فالفضل مجموع به * والعلم في مجموعه

وقد شرحه لفيف من الزيدية أوسعها شرح القاضي العلامة شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي الحيمي اليمني الصنعاني، ولد بصنعاء سنة 1180 ه_ وتوفي سنة 1221ه_، أسماه «الروض النضير في شرح مجموع الفقه الكبير»، وقد طبع طبعتين، الطبعة الثانية محقّقة طبع عام 1388ه_، وشرحه هذا يشتمل على تخريج الاَحاديث وشرحها واستنباط الاَحكام المأخوذة منها مع ذكر أقوال العلماء

( 121 )

في مسائل الخلاف والتكلّم في ما عارضها من الاَحاديث بالجمع أو الترجيح، والكتاب يدلّ على سعة باعه واتقانه الفقه والاَُصول (1).

والشارح وإن جعل المحور، مسند الاِمام زيد، لكنه يستدل على ما ورد فيه شيء بالطرق المألوفة في الفقه السنّي من الاحتجاج بما ورد في الصحاح والمسانيد من مراسيل وموقوفات للصحابة وبأُمور لا تعترف بها أئمّة أهل البيت من القياس وغيره، ولذلك أصبح الكتاب أشبه بفقه أهل السنّة، ولاَجل ذلك يقول الشيخ محمّد بخيت المطيعي الحنفي المصري في تقريظه على الكتاب: «وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الاِمام الاَعظم أبي حنيفة النعمان وماذا عنى أن تقول في كتاب يوافق ما فيه، ما بكتبنا ومذاهبنا» (2)وسوف ندرس المجموع من حيث الاعتبار في الفصل القادم.

* * *

3 _ تفسير غريب القرآن :

الغريب من الغرابة وهي الغموض والخفاء، فالغريب هو الغامض من الكلام وكان النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ والاِمام علي _ عليه السلام _ وتلميذه ابن عباس وغيرهم من الصحابة يفسّرون غريب القرآن الكريم وقد جاء في أسئلة نافع بن الاَزرق( 277) سوَالاً وجّهها هو وزميله إلى ابن عباس، وأجاب عنها (3) .

ولعل أوّل من ألّف في غريب القرآن

هو أبان بن تغلب بن رياح البكري (ت

____________

(1) لاحظ ما كتب حول الكتاب بقلم عدّة من الاَعلام في مقدمته، ط2، مكتبة الموَيد، الطائف، 1388ه_ _ 1968م.

(2) الروض النضير: 17، المقدمة.

(3) السيوطي: الاتقان: 2|69_ 104.

( 122 )

141ه_) من أصحاب الاِمام السجاد والباقر والصادق _ عليهم السلام _ وكانت له عندهم منزلة، وله قراءة مفردة مشهورة عند القراء (1).

لكن لو صحت نسبة تفسير غريب القرآن المطبوع حديثاً لزيد، المحقّق على يد فضيلة الدكتور حسن محمد تقي الحكيم، لَسبقه زيد في التأليف، فهو أوّل باكورة في هذا النوع ظهر في الصعيد الاِسلامي، ويظهر من مقارنة هذا الكتاب مع كتاب المجاز لاَبي عبيدة (ت 212ه_) الذي ألّفه في غريب القرآن أنّه كان لهذا الكتاب تأثير بالغ في كتاب أبي عبيدة مباشرة أو بالوساطة (2).

والكتاب يبتدىَ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس ويركز في التفسير على الغريب ولذلك لا يذكر من آيات السورة إلاّ ما هو موضع نظره.

وردت نسبة الكتاب إليه في بعض الكتب مثلاً:

1 _ جاء في كتاب الاَمالي لابن الشجري: قال الاِمام أبو الحسين زيد بن علي _ عليهما السلام _ في تفسير الغريب.

2 _ جاء في طبقات الزيدية لصارم الدين في ترجمة حياة أبي خالد قوله: وروي عن أبي خالد تفسير الغريب للاِمام زيد بن علي، عطاء بن السائب.

3 _ جاء في كتاب الروض النضير: روى عن أبي خالد تفسير الغريب للاِمام زيد بن علي، عطاء بن السائب (3).

ونستطيع أن نوَيد نسبة الكتاب إلى الاِمام الثائر بالرجوع إلى المواضع التي يمكن أن يظهر فيها مذهبه وعقيدته.

____________

(1) النجاشي: الرجال: 1|73 برقم 6، السيوطي: بغية الوعاة: 76.

(2) عن مقدمة المحقّق ص55، ثم ذكر دلائل التأثير بشكل واضح.

(3) تفسير غريب

القرآن، مقدّمة المحقّق ص48 وذكر مصادر ما نقل.

( 123 )

ومن تلك الآيات آية البلاغ، فهو يقول في تفسير قوله: "يا أيُّ_ها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإن لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاس" قال زيد بن علي _ عليهما السلام _ : هذه لعلي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه خاصة: "واللّه يعصمك من الناس" أي يمنعك منهم (1).

ومنها آية الذكر، قال في تفسير قوله سبحانه: "فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْر" (النحل _ 43) قال الاِمام زيد بن علي _ عليهما السلام _: نحن أهل الذكر (2).

فالتفسيران يوَيدان أنّ الكتاب لشيعي يرى النص لعليّ يوم الغدير، ويرى أنّ المرجع بعد الكتاب والرسول، هو عترته.

كما يعلم كونه نافياً للروَية التي كانت يوم ذاك عقيدة أصحاب الحديث. يقول في تفسير قوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَة" (القيامة: 22 _ 23) معناه مشرقة وناضرة: منتظرة للثواب (3).

هذه نظرة عابرة إلى التفسير، ولو قرىَ بإمعان ودقة، يتبين أن التفسير لمن تربّى في أحضان أئمة أهل البيت والعترة الطاهرة _ عليهم السلام _.

4 _ الصفوة :

والكتاب، دراسة قرآنية هادئة يتبنى بيان فضائل أهل البيت _ عليهم السلام _، وتقديمهم على سائر الناس في مختلف المجالات، وإنّ السبب لدبيب الفساد بين المسلمين صرف القيادة عنهم، ودفعها إلى غيرهم. حقّقه الكاتب ناجي حسن، طبع في مطبعة الآداب في النجف الاَشرف بلا تاريخ، اعتمد في التصحيح

____________

(1) تفسير غريب القرآن، ص129، ط بيروت، 1412ه_.

(2) تفسير غريب القرآن: ص 18 و 359.

(3) تفسير غريب القرآن: ص 18 و 359.

( 124 )

على تصوير نسخة واحدة محفوظة بمكتبة المتحف البريطاني تحت رقم 203 زيدية.

رواها أبو الطيب علي بن محمد بن مخلد الكوفي:

قال:

حدثني إسماعيل بن يزيد العطارد.

قال: حدثنا حسين بن نصر بن مزاحم المنقري

قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري

قال: حدثني أبي وحماد بن يعلى الثمالي

عن أبي الزناد، وأصحاب زيد بن علي عن زيد بن علي _ عليه السلام _ أوّله:

أمّا بعد فإنّي أُوصيك بتقوى اللّه الذي خلقك ورزقك.

5 _ رسالته إلى علماء الاَُمّة :

نشرت _ موَخراً _ رس_الة بهذا الاس_م عن دار التراث اليمني في صنع_اء، حقّقها محمد يحيى سالم غفران وهي الرسالة التي بعثها الاِمام الثائر إلى علماء الاَُمّة مبيّناً فيها تفاصيل دعوته وبيان أهدافه التي خرج مجاهداً من أجلها وهي تعطي صورة واضحة من روح ثورية للاِمام، وتمرد على الحكم الاَموي، وصياح على علماء السوء الذين كان لهم الدور البارز في تخدير حماس الجماهير، وتشويه مفاهيم الدين، وتثبيت ملك الظالمين.

وبما أنّ للرسالة أثرها الرسالي الجهادي الحماسي وتمثل الهدف الاَمثل لنضال الاِمام وكفاحه وتمرّده على الحكم الاَموي نشرناها في الفصل الثالث مشفوعاً بالشكر للناشر والمحقّق، وقد حقّقها عن نسخ أربع، قدّم تفاصيلها في المقدمة، وشفّعها بذكر موارد اقتبس العلماء من هذه الرسالة مع نسبة ما اقتبسوه إلى الاِمام.

( 125 )

6 _ منسك الحج أو مناسك الحج

رسالة في بيان أعمال الحجّ ومناسكه نشره العلاّمة السيد محمد علي الشهرستاني ببغداد سنة 1342ه_ و يوجد من الكتاب نسخ مخطوطة في مكتبة برلين برقم 10360 وغيرها (1).

هذه هي الآثار المنشورة التي وقفنا على نشرها وطبعها وقرأناها وهناك آثار له لم تنشر إلى الآن أو نشرت ولم نقف على نشرها ومنها نسخ في المكتبات والمتاحف، وقد بذل الدكتور حسن محمد تقي الحكيم محقّق تفسير غريب القرآن لزيد جُهداً في الوقوف على تلك الآثار نقتبس من مقدمته ما

يلي:

7 _ رسال_ة في أثبات وصي_ة أمير الموَمنين وإثبات إمامته وإمامة الحسن والحسين وذريتهما، توجد نسخة منها في مكتبة برلين برقم 9681(الاَوراق 16ب _ 19ب، من سنة 850 ه_ تقريباً) (2)وقال: توجد عندي صورة منها.

8 _ رسالة في أجوبة زيد بن علي، على مسائل لاَخ له من أهل المدينة، توجد في مكتبة وهبي457|4 (الاَوراق 81ب _ 84ب، من القرن العاشر الهجري)(3).

9 _ رسالة في الاِمامة إلى واصل بن عطاء. توجد في مكتبة وهبي457|2 (الاَوراق 77 ب _ 78 ب من القرن العاشر الهجري)(4)

10 _ تثبيت الاِمام_ة. مخطوطة المتحف البريطاني ملحق 336 ،مخطوطات شرقية رقم 3971 (الاَوراق 25 _ 28 من سنة 1215ه_) وتوجد أيضاً في مكتبة

____________

(1) لاحظ مقدّمة تفسير غريب القرآن لمحقّقها الدكتور حسن محمد تقي الحكيم: 43.

(2) انظ_ر تاريخ الاَدب العربي لبروكلمان: 3|324 ؛ وتاريخ التراث العربي: الجزء 3 من المجلد 1|324؛ والروض النضير: 1|117.

(3) انظر تاريخ التراث العربي: ج 3 من المجلَّد 1|326، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.

(4) انظر تاريخ التراث العربي: ج 3 من المجلَّد 1|326، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.

( 126 ) أمبروزيانا في ميلانو بإيطاليا رقم 74أ (الاَوراق 78أ _ 188 ب من سنة 1035ه_)(1).

11 _ تفسير سورة الفاتحة وبعض آيات القرآن. يوجد في مكتبة برلين رقم 10224( الاَوراق 9 _ 16 من حوالي سنة 850 ه_)

(2)

12 _ رسالة في حقوق اللّه. توجد في مكتبة الفاتيكان رقم 1027 (الورقتان 130 _ 131، من سنة 1332 ه_) وتوجد أيضاً في مكتبة وهبي رقم 457|3 (الاَوراق 78 ب _ 81أ ، القرن العاشر الهجري)

(3).

13 _ الرد على المرجئة. يوجد هذا الكتاب مخطوطاً في مكتبة برلين رقم 10265 (الاَوراق من 1

_ 116، من حوالي سنة 850ه_)

(4)

14 _ قراءة زيد بن علي. يوجد الكتاب في مكتبة امبروزيانا في (ميلانو) في إيطاليا، رقم 289ف.

هذه هي الكتب الباقية من ثائرنا ولعل اللّه سبحانه يقيض رجال العلم لنشر ما بقي من آثاره وربما يذكر له رسائل، عفى عليها الزمان فالاَولى عطف عنان البحث، على دراسة مجموعه الفقهي والحديثي، حتى نقوّمهما سنداً ومتناً في الفصل الآتي.

____________

(1) أُنظر تاريخ الاَدب العربي لبروكلمان: 3|324؛ وتاريخ التراث العربي: الجزء 3 من المجلد 1|324.

(2) أُنظر تاريخ الاَدب العربي لبروكلمان: 3|323؛ وتاريخ التراث العربي: الجزء 3 من المجلد: 1|323.

(3) أُنظر تاريخ الاَدب العربي لبروكلمان: 3|324؛ وتاريخ التراث العربي: المجلد 1 الجزء 3|326 و 323؛ وتفسير غريب القرآن: 41، المقدمة.

(4) أُنظر تاريخ الاَدب العربي لبروكلمان: 3|324؛ وتاريخ التراث العربي: المجلد 1 الجزء 3|326 و 323؛ وتفسير غريب القرآن: 41، المقدمة.

الفصل السادس دراسة مسند الاِمام زيد

الفصل السادس دراسة مسند الاِمام زيد

سنداً ومضموناً

لقد وقفت على الآثار الباقية من الاِمام زيد، والمهُم منها هو مجموعه الفقهي والحديثي الذي اشتهر باسم المسند للاِمام زيد، فتلزم علينا دراسته من حيث الاعتبار، وما فيه بعض المخالفة لفقه أهل البيت، أعني: الصادقين ومن بعدهم فنقول:

روي المجموعُ عن الاِمام زيد بالسند التالي:

1 _ حدثني (1) عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر بن الهيثم القاضي البغدادي قال:

2 _ حدثنا أبو القاسم علي بن محمد النخعي الكوفي. قال:

3 _ حدثنا سليمان بن إبراهيم بن عبيد المحاربي. قال:

4 _ حدثني نصر بن مزاحم المنقري العطار قال:

5 _ حدثني إبراهيم بن الزبرقان التيمي قال:

6 _ حدثني أبو خالد الواسطي رحمهم اللّه تعالى قال:

____________

(1) والقائل هو علي بن العباس الذي هو أحد الرواة عن عبد العزيز جامع المجموع.

( 128 )

7 _ حدثني زيد

بن علي بن الحسين عن أبيه: علي بن الحسين، عن جده الحسين بن علي، عن أمير الموَمنين علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _.

وقد وصلنا المجموع بهذا السند وهو مذكور في صدره (1)وفي الصفحة التي تلي آخر الكتاب (2).

وقد ذكر شارح المجموع شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي (1180 _ 1221ه_) سنده إلى الكتاب، فأخذ أوّلاً بذكر أُستاذه وشيخه أبي يوسف الحسين ابن يوسف (3) إلى أن انتهى إلى أبي القاسم علي بن محمد النخعي الآنف ذكره، غير أنّ المهم دراسة وثاقة هوَلاء المشايخ الذين تنتهي إليهم رواية المسند في جميع الاَعصار فنبتدىَ بدراسة حال من وقع في أوّل السند.

أ _ عبد العزيز بن إسحاق بن البقال:

قال الذهبي: كان في حدود الستين وثلاثمائة قال ابن أبي الفوارس الحافظ: له مذهب خبيث، ولم تكن في الرواية بذاك، سمعت منه أحاديث رديّة.

قلت: له تصانيف على رأي الزيدية عاش تسعين عاماً. ثم روى الذهبي عنه بإسناده الحديث التالي:

قال: إنّ نزول اللّه إلى الشيء إقباله عليه من غير نزول، ثم وصفه بأنّ إسناده مظلم ومتنه مختلق (4).

لانستطيع أن نساير ابن أبي الفوارس في قوله: «له مذهب خبيث» ولم يكن مذهبه سوى محبته لآل البيت أو دعمه مبدأ الخروج على بني أُمية الذي لا يروق

____________

(1) مسند الاِمام زيد: 247.

(2) المصدر نفسه: 282.

(3) توفّي بصنعاء سنة 1231ه_ عن ثمانين سنة.

(4) الذهبي: ميزان الاعتدال: 2|623 برقم 5083.

( 129 )

السلفيّين ومن لف لفّهم، فإنّ مذهبهم هو المماشاة مع الظالمين و السكوت أمام ظلمهم، وعدم الخروج عليهم.

كما لا نستطيع أن نساير الذهبي حيث وصف اسناد حديثه بالظلمة ومتنه بالاختلاق، وما هذا إلاّ لاَنّ الذهبي يتظاهر بالتنزيه، ولكن يعتنق لبّاً التجسيم بشهادة أنّ كتبه

تمدح المجسمةومن يثبت للّه الحركة والجهة من أوصاف الجسم وإذا ذكر المشبهة أطال الكلام فيهم بالمدح والوصف، وربّما سود صحائف في حقهم خصوصاً في كتابه «سير أعلام النبلاء» وأمّا إذا بلغ إلى أهل التوحيد والتنزيه فلا يخرج إلاّ بالهمز واللمز وهو دأبه يلمسه كل دوَوب على مطالعة رجاله وتاريخه.

والحديث لما كان على طرف النقيض من عقيدته، وصف اسناده بالظلمة ومتنه بالاختلاق، صدق اللّه العلي العظيم حيث قال: "كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون" .

وأمّا الشيعة فقد ورد في كتبهم ذكر في حقّ عبد العزيز بن إسحاق البقال فعنونه الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم _ عليهم السلام _ قال: عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر الزيدي البقال الكوفي وكان زيدياً يكنى أبا القاسم سمع منه التلعكبري سنة ست وعشرين وثلاثمائة (1).

وقال في الفهرست: عبد العزيز بن إسحاق له كتاب في طبقات الشيعة، وعنونه ابن داود في القسم الثاني (2)من رجاله، ومعنى كونه من القسم الثاني أنّه ممن ورد فيه ذم وإن كان ورد فيه مدح عن آخرين.كما عنونه العلاّمة في هذا القسم (3) من كتابه الخلاصة، ومعناه أنّه لا يعمل برواياته.

____________

(1) الطوسي: الرجال: 483، باب من لم يرو عنهم، برقم 37.

(2) القسم الثاني من كتابه مختص بمن ورد فيه أدنى جرح، ولو كان أوثق الثقات وعمل بخبره.

(3) القسم الثاني: من كتابه مختص بمن لايعمل بروايته ومن لايعمل بروايته أعم من كونه مطعوناً أو لا.

( 130 )

ومع ذلك نرى أنّ الشيخ أبا زهرة يقول: إنّ الرجل موضع طعن جمهور المحدثين من أهل السنّة كما أنّه موضع طعن الاِمامية، لكنه موضع تقدير وتوثيق الزيدية أجمعين (1).

وما ذكره أخيراً حقّ لا غبار عليه لكن ما نسبه

إلى الاِمامية لا مصدر له سوى أنّه ورد في القسم الثاني من رجال العلاّمة وابن داود وقد عرفت في التعليقة معنى ذلك.

وأمّا الزيدية فقد اتفقوا على وثاقته وقالوا: أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي البقال شيخ الزيدية ببغداد. قال في الطبقات: روى مجموع الاِمام زيد بن علي _ عليه السلام _ الفقهي الكبير المرتب المبوب عن علي بن محمد النخعي، وقد سمع منه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن الحسني سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. وقال في مطلع البدور: هو شيخ الزيدية ببغداد، والعراق، وكان عالماً محدثاً حافظاً، وقال في غيره: كان علاّمة كبيراً وفاضلاً شهيراً، سمحاً، عالماً زاهداً، سعيداً ولياً لآل محمّد، رأساً في العلوم، مهيمناً على المظنون والعلوم، له كتاب في إسناد مذهب الزيدية وتعدادهم، وذكر تلامذة زيد بن علي وأصحابه الذين أخذوا عنه العلم (2).

* * *

ب: أبو القاسم علي بن محمّد النخعي الكوفي:

وهو أُستاذ عبد العزيز بن إسحاق، ولم نجد له عنواناً في كتب الرجال للشيعة، وأمّا أهل السنة فقال الذهبي: علي بن محمد: أبو القاسم الشريف

____________

(1) الاِمام زيد: 262.

(2) السياغي: الروض النضير: 1|61، ثم ذكر ترجمة الذهبي ونقده.

( 131 )

الزيدي الحراني شيخ القرّاء وتلميذ النقاش وثّقه أبو عمرو الداني، واتّهمه عبد العزيز الكتاني، ذكرته في طبقات القراء (1)وهل الترجمة للشيخ النخعي أو لغيره المشترك معه في الكنية والاسم واسم الاَب؟ احتمالان، نعم ذكر الذهبي في ترجمة عثمان بن أبي شيبة وقال: «يحيى» (2)بن محمد بن كاس النخعي قال: حدّثنا: إبراهيم بن عبد اللّه الحصاف، قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة تفسيره فقال: وجعل السفينة في رجل أخيه فقيل إنّما هو السقاية، فقال: أنا وأخي أبو بكر

لا نقرّ لعاصم (3).

وقال في تذكرة الحفاظ: وفيها «سنة أربع وعشرين وثلاثمائة» توفي شيخ الحنفية علي بن كاس النخعي الكوفي (4).

وذكره في طبقات الحنفية فقال: علي بن محمد بن الحسن بن كاس الكاسي النخعي القاضي الكوفي، روى عن محمد بن علي بن عفان، وعنه أبو القاسم المطرزي والمستكي أُستاذ الضميري وله «الاَركان الخمسة» توفي أربع وعشرين وثلاثمائة (5) .

وعند ذلك يظهر لنا سر تلاقي الفقه الزيدي والفقه الحنفي إلى حد كبير، فإنّ الفقه الموروث من زيد لم يكن على حد يتجاوب مع متطلبات المجتمع الاِسلامي آنذاك، فلم يكن بدّ من بسطه في ضوء القواعد الاَُصولية، فإذا كان المفتي حنفياً يبسطه حسب الضوابط التي يعتبرها دليلاً على الحكم فيدخل فيه القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، ولا تهمه مخالفة

____________

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال: 3|155 برقم 5935.

(2) وفي التعليقة: علي وهو الصحيح.

(3) الذهبي: ميزان الاعتدال: 3|37 _ 38 برقم 5518.

(4) الذهبي: تذكرة الحفاظ: 3|821 في ضمن ترجمة ابن الشرقي.

(5) السيّاغي: الروض النضير: 1|64.

( 132 )

أئمة أهل البيت، الذين جاءوا إلى الساحة بعد مقتل زيد، وقد بيّ_ن الشيخ الكوثري هذا التلاقي بشكل آخر فقال: «إنّ ذلك التوافق العظيم بين آل زيد وبين فقهاء العراق في ثلاثة أرباع المسائل إنّما نشأ من اتحاد مصدر علوم الفريقين، لاَنّ فقهاء الكوفة والعراق إنّما توارثوا الفقه طبقة فطبقة عن علي وابن مسعود وسائر كبار فقهاء الصحابة الذين نشروا العلم بالكوفة ولاسيما الذين تديّروها (1)بعد انتقال علي كرم اللّه وجهه إليها، واستمروا بها في عهد الاَُمويين ثم عن فقهاء أصحابهم وأصحاب عمر، وابن عباس ومعاذ الذين انتقلوا إليها واستقروا بها ابتعاداً عن معاقل الاَُمويين، ثم عن أصحاب أصحابهم الفقهاء رضي اللّه عنهم الذين بهم

صارت الكوفة مصدر العلم الناضج في ذلك العهد وكانت علوم الحجاز والمدينة المنورة يتشارك فيها فقهاء الاَمصار لكثرة حجهم عاماً فعاماً في تلك الاَعصار(2)

ج _ سليمان بن إبراهيم بن عبيد المحاربي :

هو جد علي بن محمد النخعي أبو أُمّه، قال في الطبقات: يروي عن نصر بن مزاحم المنقري سمع منه مجموعي الاِمام زيد بن علي _ عليه السلام _ «الحديثي» و«الفقهي» وسمعهما عليه علي بن محمد بن كاس (أي النخعي) وكان سماعه عليه سنة خمس وستين ومائتين (3)ولم أجد له عنواناً في كتب الرجال لاَصحابنا الاِمامية.

د _ نصر بن مزاحم المنقري العطار :

قال الذهبي: نصر بن مزاحم الكوفي، عن قيس بن الربيع وطبقته، رافضي، جلد، تركوه. مات سنة اثنتي عشرة ومائتين، حدّث عنه: نوح بن حبيب وأبو

____________

(1) من الدير: أخذوه مكاناً.

(2) الروض النضير: ص28، المقدمة.

(3) السياغي: الروض النضير: 1|64.

( 133 )

سعيد الاَشجّ وجماعة، قال العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير . وقال أبو خيثمة: كان كذاباً، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، متروك، وقال الدار قطني: ضعيف وروى أيضاً عن شعبة (1).

ما ذكره الذهبي وشيوخه، شنشنة أعرفها من كل من يكنّ لاَهل البيت غيظاً وعداء وإن كان يتجنب عن إظهاره، فمن روى فضيلة فيهم أو أنشد قريضاً فهو عندهم رافضي، كذاب، خبيث، متروك الحديث إلى غير ذلك، وأمّا المجسّمة والمشبهة ومن يتولّى آل أُمية وسلاطينهم، فهو جليل، ثقة، يكتب حديثه ويحتج به.

وأمّا أصحابنا فقد اتفقوا على وثاقته قال النجاشي: نصر بن مزاحم مستقيم الطريقة، صالح الاَمر، غير أنّه يروي عن الضعفاء كتبه. حِسان، منها: كتاب الجمل (2)بل وذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الاِمام الباقر _ عليه السلام _ (3).

إنّ الرجل مع كونه شيعياً،

علوي الولاء، لكنه عندما يسرد وقائع صفين يسرده بشكل كاتب محايد فهو حين يذكر مثالب معاوية، يذكر شعر الشاميّين في الطعن على الاِمام وحزبه، وهذا يدل على أنّه كان رجلاً رحب الصدر لايستفزه المذهب إلى الاكتفاء بذكر كلام طرف واحد، ويذكر كلام المبطل بتمامه أيضاً.

ه_ _ إبراهيم بن الزبرقان :

قال الذهبي: وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا يحتج به روى عنه أبو نعيم(4).

____________

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال: 4|253 _ 254، لاحظ تاريخ بغداد: ج 13 برقم 7245.

(2) النجاشي: الرجال: 2|384 برقم 1149.

(3) الشيخ الطوسي: الرجال: برقم: 3 باب أصحاب الاِمام الباقر _ عليه السلام _ ولكنه بعيد لاَنّ الاِمام توفّي سنة 114ه_ وتوفّي نصر عام 212ه_.

(4) ميزان الاعتدال: 1|31.

( 134 )

وقال في طبقات الزيدية: روى عن أبي خالد الواسطي مجموعي الاِمام زيد ابن علي، وله رواية عن مجاهد، وعنه نصر بن مزاحم، وقال: حدثني المجموع الكبير المرتب جميعه، عن أبي خالد، وروى عنه أبو نعيم الحافظ، واحتج به أئمتنا، ووثقه الموَيد باللّه ووثقه من المحدثين ابن معين، وقال نصر بن مزاحم: كان من خيار المسلمين، وكان خاصاً بأبي خالد الواسطي، وقال ابن أبي الحديد: هو في رجال الحديث وقال غيره من رجال الشيعة المحدثين، وعيب عليه بالتشيع. وقال أبو حاتم: لا يحتج به (1).

وأمّا أصحابنا الاِمامية فذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وقال: إبراهيم بن الزبرقان التيمي الكوفي، أسند عنه (2)فقد أهملوه من حيث التوثيق وعدمه.

و _ أبو خالد، عمرو بن خالد :

لقد اضطربت كلمة الرجاليين في حقه فأهل السنّة على تضعيفه. قال الذهبي: عمرو بن خالد القرشي، كوفي، أبو خالد، تحول إلى واسط.

قال وكيع: كان في جوارنا، يضع

الحديث، فلما فطن له تحوّل إلى واسط.

وقال معلى بن منصور عن أبي عوانة: كان عمرو بن خالد يشتري الصحف من الصيادلة ويحدّث بها.

وروى عباس، عن يحيى، قال: كذاب غير ثقة. حدث عنه أبو حفص الاَب_ّار وغيره، فروى عن زيد بن علي، عن آبائه.

وروى عثمان بن سعيد، عن يحيى، قال: عمرو بن خالد الذي يروي عنه

____________

(1) السياغي: الروض النضير: 1|66.

(2) الطوسي: الرجال: 144 برقم 40.

( 135 )

الاَب_ّار كذاب. وروى أحمد بن ثابت، عن أحمد بن حنبل، قال: عمرو بن خالد الواسطي كذاب.

وقال النسائي: روى عن حبيب بن أبي ثابت، كوفي ليس بثقة. وقال الدارقطني: كذاب.

وروى إبراهيم بن هراسة أحد المتروكين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن علي، قال: لعن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الذكرين أحدهما يلعب بصاحبه (1).

وأظن أن هذا الصخب والهياج حول الرجل لاَجل أنّه من موالي أئمة أهل البيت والمجاهرين بولائهم، وهذا يكفي في التضعيف وصب القارعات عليه.

وأعجب منه ما ذكره الذهبي في آخر كلامه من الحكم بوضع لعن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الذكرين أحدهما يلعب بصاحبه، فإنّه مروي عن الفريقين.

كيف يشك الذهبي في صحة الحديث مع أنّ الكتاب يصدّقه حيث يخص جواز الالتذاذ بالجنس بموردين ويقول: "والّذِين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيْمانُهُم" (الموَمنون: 5 _ 6) وما ورد في الحديث ليس منهما فجاز لعنه.

روى السيوطي في مسنده من كتاب جمع الجوامع من قسم الاَفعال فقال: عن الحرث، عن علي: «قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: سبعة لايكلمهم اللّه يوم القيامة ولاينظر إليهم ويقال لهم أدخلوا النار مع الداخلين إلاّ

أن يتوبوا: الفاعل والمفعول به، والناكح يده...».

أخرج البيهقي عن ابن عباس:« أنّ النبي قال: لعن اللّه من وقع على بهيمة،

____________

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال:3|257. وفي المتن يغلب أحدهما صاحبه.

( 136 )

ولعن اللّه من عمل عمل قوم لوط، إلى غير ذلك من الروايات التي رواها أهل السنّة (1) وأمّا الشيعة فحدث عنه ولا حرج، فقد عدّه الكشي في ترجمة الحسين بن علوان، من رجال أهل السنّة الذين لهم ميل ومحبة شديدة (2).

وظاهر النجاشي أنّه إمامي حيث ألّفه لذكر رجال الاِمامية ولو ذكر من غيرهم لاَشار إلى مذهبه وهو عنونه وذكر سنده إلى كتابه من دون إيعاز إلى مذهبه (3)إلاّ إذا قيل إنّه ترك ذكر مذهبه في المقام لكونه معروفاً.

وعده الشيخ في الفهرست من موَلفي الشيعة وقال: أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي له كتاب ذكره ابن النديم (4)فعدّه من أصحاب الاِمام الباقر وعمرو بن خالد الواسطي بتري.

وستعرف كلامه عند سرد الروايات المروية عن زيد في الكتب الاَربعة عند الكلام على رواية زيد أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ غسل رجليه، والقرائن تشهد أنّه شيعي زيدي، ويدلّ عليه مضافاً إلى إطباق الزيدية عليه ما رواه الكشي في ذيل ترجمة محمد بن سالم بياع القصب: محمد بن مسعود، قال: حدثني أبو عبد اللّه الشاذاني _ وكتب به _ إلى أن قال: حدثني الفضل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو يعقوب المقري وكان من كبار الزيدية، قال: أخبرنا عمرو بن خالد وكان من روَساء الزيدية عن أبي الجارود وكان رأس الزيدية قال: كنت عند أبي جعفر _ عليه السلام _ جالساً إذ أقبل زيد بن علي فلمّا نظر إليه أبو جعفر قال:

____________

(1) السياغي: الروض النضير: 1|85

_ 86؛ ولاحظ وسائل الشيعة: 18، الاَبواب الستة من أبواب اللواط: 416_ 424، والباب الثالث من أبواب نكاح البهائم ووطء الاَموات والاستمناء: 574. هذا إذا فهمنا من الحديث الناكح بيده أو لعب أحد الذكرين بالآخر، وإلاّ يكون الحديث مجملاً.

(2) الكشي: الرجال: 333، برقم 252، وما ذكره هنا ينافي ما ذكره برقم 106 من كونه من روَساء الزيدية.

(3) النجاشي: الرجال: 2، برقم 762.

(4) الطوسي: الفهرست: برقم 849.

( 137 )

«هذا سيد أهل بيتي والطالب بأوتارهم» ومنزل عمرو بن خالد كان عند مسجد سماك وذكر ابن فضال أنّه ثقة (1).

وإذا كان لبعض هذه النقاشات في هوَلاء، مظنة صدق، غير أنّ الشيخ النجاشي ( 372 _ 450ه_) يروي_ه بسن_د آخر نأتي بنصّه حتى يتبيّ_ن أنّ للكتاب سندين أو أكثر .

أخبرنا محمد بن عثمان (النصيبي) قال: حدثنا علي بن محمد بن الزبير، عن علي بن الحسن بن فضال، عن نصر بن مزاحم عنه (أبي خالد) بكتابه (2).

ولاَجل إيقاف القارىء على عناية الاِمامية بروايات زيد، نأتي بما وقفنا عليه في الكتب الاَربعة بعد حذف المكررات فنقول:

الرواية عن زيد بن علي في الكتب الاَربعة :

احتجت الاِمامية بالروايات المروية عن زيد بن علي عن آبائه _ عليهم السلام _ إذا لم تكن مخالفة لما اتفقت عليه روايات أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ وروي عنه في الكتب الاَربعة تسعة وثلاثون حديثاً _ بعد حذف المكررات _ وأكثر ما روي فيها موجود في مسنده كما سنشير إليه في مواضعه:

والراوي عنه:

إمّا عمرو بن خالد _ غالباً _.

أو أبو خالد الواسطي.في موردين وكلاهما واحد.

أو هاشم بن يزيد. في مورد واحد.

أو الحسين بن علوان.

____________

(1) الكشي: الرجال: 231 برقم419.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 769.

( 138 )

والظاهر وقوع السقط

في الاَخير والصحيح الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد فإنّ الحسين بن علوان يروي عن زيد بواسطة عمرو بن خالد كثيراً.

ولاَجل إيقاف القارىَ على اهتمام محدثي الاِمامية بما روي عنه نأتي في هذا الفصل بخصوص ما روي عنه في الكتب الاَربعة ونترك الباقي لوقت آخر، وقد استعنّا في تخريج رواياته بالحاسب الآلي، ورتبنا الروايات حسب ترتيب أبواب الفقه المألوف بين أصحابنا وربما يكون، بين ما روي فيها والموجود في مسنده اختلاف يسير في اللفظ.

كتاب الطهارة

روى الشيخ الطوسي:

1 _ روى محمد بن الحسن الصفار عن عبد اللّه بن المنبه (1)عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي _ عليهم السلام _ قال: «جلست أتوضأ وأقبل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حين ابتدأت في الوضوء فقال لي: تمضمض واستنشق واستن، ثم غسلت وجهي ثلاثاً، فقال: قد يخرجك من ذلك المرتان، قال: فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين، فقال: قد يجزيك من ذلك المرة، وغسلت قدمي، فقال لي:« يا علي خلّل ما بين الاَصابع لا تخلل بالنار» (2).

وعلّق عليه الشيخ قال: هذا الخبر موافق للعامة قد ورد مورد التقية، لاَنّ المعلوم من مذهب الاَئمة _ عليهم السلام _ مسح الرجلين في الوضوء دون غسلهما.

____________

(1) والظاهر وقوع التصحيف في السند، والصحيح المنبه بن عبيد اللّه كما في كثير من الاَسانيد.

(2) الطوسي: محمد بن الحسن: (ت 460 ه_) ، التهذيب: 1|93، الباب: 4 باب صفة الوضوء الحديث 97 و رواه الاِمام المهدي لدين اللّه محمد بن المطهر في المنهاج الجلي، (لاحظ تعليقة مسند زيدص 53) .

وراجع أيضاً: الطوسي: الاستبصار: 1|65، الباب 37، الحديث8.

( 139 )

روى الشيخ

الطوسي:

2 _ أخبرني الشيخ (محمد بن النعمان) عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّه، عن المنبه بن عبيد اللّه، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «سألت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما ؟فقال: إنّ الحيض والجنابة حيث جعلهما اللّه عزّ وجلّ ليس في العرق، فلا يغسلان ثوبهما» (1).

روى الشيخ الطوسي:

3 _ سعد، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبيد اللّه، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «الغسل من سبعة من الجنابة وهو واجب، ومن غسل الميت وإن تطهرت أجزاك» وذكر غير ذلك (2).

في غسل الميت والصلاة عليه :

روى الشيخ الطوسي:

4 _ سعد بن عبد اللّه، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد اللّه (3) عن الحسين

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 1|269، الباب12 (باب تطهير الثوب) الحديث: 79، زيد بن علي: المسند: ص61 وراجع: الطوسي: الاستبصار: 1|185، الباب110، الحديث: 5.

(2) الطوسي: التهذيب: 1|464، الباب 23، الحديث162، وعلّق الشيخ والطوسي على قوله: وإن تطهّرت أجزاك، أنّه محمول على التقية لوجوب الغسل وعدم كفاية التطهير.

(3) هكذا في النسخة والظاهر عبيد اللّه بقرينة سائر الروايات.

( 140 )

بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي _ عليهم السلام _ قال: «إذا مات الرجل في السفر مع النساء ليس فيهن امرأته ولا ذو محرم من نسائه، قال: يوزرنه إلى الركبتين، ويصبن عليه الماء صباً، ولا ينظرن إلى

عورته، ولا يلمسنه بأيديهن ويطهرنه، فإذا كان معه نساء ذوات محرم يوزرنه ويصببن عليه الماء صباً ويمسسن جسده ولا يمسسن فرجه (1).

روى الشيخ الطوسي:

5 _ سعد بن عبد اللّه، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي _ عليهم السلام _ قال: أتى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نفر فقالوا إنّ امرأة توفيت معنا وليس معها ذو محرم، فقال: «كيف صنعتم؟» فقالوا: صببنا عليها الماء صباً، فقال: «أما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسلها؟» قالوا: لا، قال: «أفلا يمّمتموها؟» (2)

روى الشيخ الطوسي:

6 _ وبهذا الاِسناد (3)، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي بصير، عن أيوب ابن محمد الرقي، عن عمرو بن أيوب الموصلي، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «إنّ قوماً أتوا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقالوا: يارسول اللّه مات صاحب لنا وهو

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 1|441، الباب23، الحديث 71: زيد بن علي: المسند: ص145 ورواه أيضاً في التهذيب: 1|343، الباب 13، الحديث168، باختلاف يسير . و الاستبصار: 2|201، الباب118، الحديث7.

(2) الطوسي: التهذيب: 1|443، الباب23، الحديث78؛ و الاستبصار: 1|203، الباب 118، الحديث14.

(3) أي أخبرني الشيخ المفيد عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحسن.

( 141 )

مجدور فإن غسلناه انسلخ، فقال: يمّموه» (1).

7 _ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي _ عليهم

السلام _ أنّه سئل عن رجل يحترق بالنار، فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صباً وأن يصلّ_ى عليه (2).

روى الشيخ الطوسي:

8 _ روى علي بن الحسين، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد اللّه (3)، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ في الصلاة على الطفل أنّه كان يقول: «اللّهم اجعله لاَبويه ولنا سلفاً وفرطاً وأجراً» (4).

روى الشيخ الطوسي:

9 _ علي بن الحسين، عن سعد، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبيد اللّه، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير الموَمنين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ قال: «يسل الرجل سلاّ ويستقبل المرأة استقبالاً، ويكون أولى الناس بالمرأة في موَخرها» (5).

____________

(1) الشيخ الطوسي: التهذيب: 1|333، الباب13، الحديث145.

(2) الكليني: الكافي: 3|213؛ الحديث6؛ زيد بن علي: المسند: 147؛ الطوسي: التهذيب: 1|333، الباب13، الحديث144.

(3) الظاهر عبيد اللّه.

(4) الطوسي: التهذيب: 3|195، الباب13، الحديث21؛ زيد بن علي: المسند: 150.

(5) الطوسي: التهذيب: 1|326، الباب13 باب تلقين المحتضرين، الحديث119؛ زيد بن علي: المسند، باب 152، باختلاف يسير.

( 142 )

أحكام الشهيد

روى الكليني:

10 _ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ قال: قال أمير الموَمنين صلوات اللّه عليه: «ينزع عن الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلاّ أن يكون أصابه دم فإن أصابه دم ترك ولا يترك عليه شيء معقود إلاّ حل» (1).

روى الطوسي:

11 _ محمد بن

الحسن الصفار عن عبد اللّه بن المنبه (2)عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه _ عليهم السلام _ قال: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «للشهيد سبع خصال من اللّه: أوّل قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة: يكسى من كسوة الجنّة، والرابعة: يبتدره خزنة الجنّة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة: أن يرى منزلته، والسادسة: يقال لروحه أسرح في الجنّة حيث شئت والسابعة: أن ينظر في وجه اللّه وإنّها لراحة لكل نبي وشهيد» (3).

____________

(1) الكليني: الكافي: 3|211، الحديث4؛ زيد بن علي: المسند: 146 (باب الشهيد) الطوسي، التهذيب: 1|332، الحديث 140.

(2) الظاهر وقوع التصحيف في السند، والصحيح عن المنبه بن عبيد اللّه كما في كثير من الاَسانيد.

(3) الطوسي: التهذيب: 6|121، الباب22، الحديث3؛ زيد بن علي، المسند: 351. وقد ورد أبسط مما في المتن هنا.

( 143 )

روى الشيخ الطوسي:

12 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه _ عليهم السلام _ قال: قال رسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواره في ثيابه، وإن بقى أياماً حتى تتغير جراحته غسل» (1).

كتاب الصلاة

قال الصدوق:

13 _ روي عن زيد بن علي بن الحسين _ عليه السلام _ أنّه قال: «سألت أبي سيد العابدين _ عليه السلام _ فقلت له: يا أبه أخبرني عن جدنا رسول

اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لمّا عرج به إلى السماء وأمره ربه عزّ وجلّ بخمسين صلاة كيف لم يسأله التخفيف عن أُمّته حتى قال له موسى بن عمران _ عليه السلام _: إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف فأنّ أُمّتك لا تطيق ذلك؟ فقال: «يابُنيَّ أن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لايقترح على ربه عزّ وجلّ فلا يراجعه في شيء يأمره به، فلمّا سأله موسى _ عليه السلام _ ذلك وصار شفيعاً لاَُمّته إليه لم يجز له أن يرد شفاعة أخيه موسى _ عليه السلام _ فرجع إلى ربّه عزّ وجلّ فسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات» قال: فقلت له: يا أبه فلم لم يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى _ عليه السلام _ أن يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ويسأله التخفيف؟ فقال: « يا بُنيَّ أراد _ عليه السلام _ أن يحصل

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 6|168، الباب22، الحديث7؛ زيد بن علي: المسند: 146. وللشيخ الطوسي تعليقة على الرواية فإنّها غير معمول بها عند الاَصحاب؛ أيضاً الشيخ الطوسي: الاستبصار: 1|25، الباب 125، الحديث 6.

( 144 )

لاَُمّته التخفيف مع أجر خمسين صلاة لقول اللّه عزّ وجلّ: "مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْ_رُ أمثَالِها" ألا ترى أنّه _ عليه السلام _ لما هبط إلى الاَرض نزل عليه جبرئيل _ عليه السلام _ فقال: يامحمّد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول (لك) : إنّها خمس بخمسين "ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وما أنا بِظَلاّمٍ لِلعَبِيد" » قال: فقلت له: يا أبه أليس اللّه جلّ ذكره لا يوصف بمكان؟ فقال: «بلى تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً»

قلت: فما معنى قول موسى _ عليه السلام _ لرسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: إرجع إلى ربّك؟ فقال: «معناه معنى قول إبراهيم _ عليه السلام _: "إنّي ذَاهِبٌ إلى رَبّي سَيَهْدِين" ومعنى قول موسى _ عليه السلام _ "وَعجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى" ومعنى قوله عزّ وجلّ: "فَفِرُّوا إلى اللّه" يعني حجّوا إلى بيت اللّه، يابني إنّ الكعبة بيت اللّه فمن حجّ بيت اللّه فقد قصد إلى اللّه، والمساجد بيوت اللّه فمن سعى إليها فقد سعى إلى اللّه وقصد إليه، والمصلّ_ي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ، فإنّ للّه تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه ألا تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: "تَعْرُجُ الَمَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْه" ويقول (اللّه) عزّ وجلّ في قصة عيسى بن مريم _ عليهما السلام _: "بَل رَفَعَهُ اللّهُ إلَيْه" ويقول اللّه عزّ وجلّ: "إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيِّبُ والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُه"»(1)

روى الشيخ الطوسي:

14 _ محمد بن الحسن الصفار، عن عبد اللّه بن المنبه (2)، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي _ عليه

____________

(1) الصدوق: من لايحضره الفقيه: 1| 198، الحديث 603، وفي الحديث نكات بديعة ولم نجده في مسنده.

(2) الصحيح: المنبه بن عبيد اللّه كما في سائر الاَسانيد.

( 145 )

السلام _ أنّه أتاه رجل فقال: يا أمير الموَمنين واللّه إنّي لاَحبك للّه فقال له: «ولكني أُبغضك للّه» قال: ولم؟ قال: «لاَنّك تبغي في الاَذان، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً (1) ، سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: من أخذ على

تعليم القرآن أجراً كان حظّه، يوم القيامة» (2).

روى الشيخ الطوسي:

15 _ محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: دخل رجلان المسجد وقد صلّى الناس، فقال: لهما علي _ عليه السلام _ «إن شئتما فليوَم أحدكما صاحبه ولا يوَذن ولايقيم» (3).

روى الشيخ الطوسي:

16_ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: «الاَغلف لا يوَم القوم وإن كان أقرأهم، لاَنّه ضيع من السنّة أعظمها، ولا تقبل له شهادة ولا يصلّى عليه إلاّ أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه» (4) .

____________

(1) الطوسي: الاستبصار: 3|65 الباب 38، الحديث 2.

(2) الطوسى: التهذيب: 6|376، الباب 93، الحديث 220؛ زيد بن علي: المسند: 85، وفي المسند تتغنّى مكان تبغي وهو الاَصح.

(3) الطوسي: التهذيب: 2|281، الباب13، الحديث 21، و 3|55، الباب 13، الحديث 103؛ زيد بن علي: المسند: 113 باختلاف.

(4) الطوسي: التهذيب: 3|30، الباب 3، الحديث 20؛ زيد بن علي: المسند: 151 باختلاف يسير.

( 146 )

روى الشيخ الطوسي:

17 _ سعد، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: «صلّى بنا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الظهر خمس ركعات ثم انفتل فقال له بعض القوم: يارسول اللّه هل زيد في الصلاة شيء؟ فقال: وماذاك؟ قال: صليت بنا خمس ركعات قال: فاستقبل القبلة

وكبر وهو جالس ثم سجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع ثم سلم وكان يقول: هما المرغمتان».

قال محمد بن الحسن: هذا خبر شاذ لا يعمل عليه لاَنّا قد بينا أن من زاد في الصلاة وعلم ذلك، يجب عليه استئناف الصلاة، وإذا شك في الزيادة فإنّه يسجد السجدتين المرغمتين، ويجوز أن يكون _ عليه السلام _ إنّما فعل ذلك لاَنّ قول واحد له لم يكن مما يقطع به، ويجوز أن يكون كان غلطاً منه وإنّما سجد السجدتين احتياطاً (1)

روى الشيخ الطوسي:

18 _ روى سعد بن عبد اللّه، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي _ عليه السلام _ قال: صليت مع أبي _ عليه السلام _ المغرب فنسى فاتحة الكتاب في الركع__ة الاَُولى فقرأها في الثانية

(2)

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 2|349، الباب14، الحديث 37؛ الاستبصار: 1|377، الباب 219، الحديث5؛ زيد بن علي: المسند: 109.

(2) الطوسي: التهذيب: 2|148، الباب 23، الحديث36؛ زيد بن علي: المسند: 94. والرواية مطروحة لتضمنها نسبة السهو إلى الاِمام المعصوم مع بعد مضمونها لعدم طروء النسيان في الركعة الاَُولى بالنسبة إلى فاتحة الكتاب. وراجع أيضاً: الطوسي: الاستبصار: 1|354، الباب206، الحديث7.

( 147 )

في الضمان

روى الشيخ الطوسي:

19 _ عنه

(1) ، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ أنّه أتى بحمال كانت عليه قارورة عظيمة كانت فيها دهن فكسرها فضمّنها إيّاه، وكان يقول: كل عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترك؟ فقال: الذي يعمل لي ولك ولذا (2).

روى الشيخ الطوسي:

20 _ روى محم_د بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء،

عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ أنّه أتاه رجل تكاري دابة فهلكت، فأقرّ أنّه جاز بها الوقت فضمّنه الثمن ولم يجعل عليه كراء

(3).

روى الشيخ الطوسي:

21 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ أنّه كان يضمن صاحب الكلب إذا عقر نهاراً ولايضمنه إذا عقر بالليل، وإذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون، وإذا دخلت بغير إذنهم فلا ضمان عليهم

(4).

____________

(1) أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.

(2) الطوسي: التهذيب: 7|222، الباب 20، الحديث85؛ زيد بن علي: المسند: 254.

(3) الطوسي: الاستبصار: 3|135، الباب88، الحديث3. قال الشيخ: الوجه في هذه الرواية ضرب من التقيّة لاَنّها موافقة لمذهب كثير من العامة.

(4) الطوسي: التهذيب: 10|228، باب الاثنين إذا قتلا، الحديث 31.

( 148 )

في الربا

روى الشيخ الطوسي:

22 _ عنه

(1) ، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «لعن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه» (2).

في الخمر

روى الكليني:

23 _ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ قال: لعن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه

(3)

في النكاح

روى الشيخ الطوسي:

24 _ روى محمد بن أحمد

بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _

____________

(1) أي عن الحسين بن سعيد الاَهوازي.

(2) الطوسي: التهذيب: 7|15، الباب1، الحديث 64؛ زيد بن علي: المسند: 229 باختلاف يسير.

(3) الكليني: الكافي: 6|398، الحديث10.

( 149 ) عليه السلام _ : إنّ امرأة أتته ورجل قد تزوجها ودخل بها وسمى لها مهراً وسمى لمهرها أجلاً فقال له علي _ عليه السلام _: «لا أجل لك في مهرها إذا دخلت بها فأدّ إليها حقها»(1).

روى الشيخ الطوسي:

25 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ أنّه قال: «الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لاتحل له أبداً »

(2).

روى الشيخ الطوسي:

26 _ روى محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «حرم رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يوم خيبر لحوم الحمر الاَهلية ونكاح المتعة»

(3).

في الطلاق

روى الشيخ الطوسي:

27 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي الجوزاء، عن الحسين [بن علوان]

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 7|358، الباب 31 من أبواب النكاح، الحديث 20؛ الاستبصار: 3|221، الباب 138، الحديث4؛ زيد بن علي: المسند: 27.

(2) الطوسي: التهذيب: 7|317، الباب 27 من أبواب النكاح، الحديث17، والرواية مطروحة لدى الاِمامية لعدم كفاية الرضعة الواحدة بالاتفاق عندهم، وفي المسند: 282: سألت زيداً عن المصة والمصتين، قال: تحرم.

(3) الطوسي: التهذيب: 7|251، الباب 24، الحديث10؛ زيد

بن علي المسند: 271، وفي المسند: نهى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن نكاح المتعة عام خيبر. والرواية وردت مورد التقية.

( 150 ) عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ في رجل أظهر طلاق امرأته وأشهد عليه وأسرّ رجعتها ثم خرج فلمّا رجع وجدها قد تزوجت قال: «لاحقّ له عليها من أجل أنّه أسرّ رجعتها وأظهر طلاقها» (1).

في الحدود

روى الشيخ الطوسي:

28_ عنه

(2) ، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ قال: سئل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن الساحر؟ فقال: إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حل دمه(3)

روى الشيخ الطوسي:

29 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «إذا أسلم الاَب جر الولد إلى الاِسلام، فمن أدرك من ولده دعى إلى الاِسلام فإن أبى قتل، وإذا أسلم الولد لم يجر أبويه ولم يكن بينهما ميراث»

(4) .

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 8|44، الباب 3 من أبواب الطلاق، الحديث5.

(2) أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.

(3) الطوس_ي: التهذيب: 6|283، الب__اب 91، الحديث185؛ و ج 10|147، الباب 10 من الزيادات، الحديث16؛ زيد بن علي: المسند: 303، وفي المسند: حد الساحر القتل.

(4) الطوسي: التهذيب: 8|236، العتق الباب1، الحديث 85. أن لا يرث الاَب، ويرث الولد، لاَنّ الاِسلام يزيد عزّاً لا حرماناً.

( 151 ) روى الصدوق:

30 _ محمد بن أحمد بن يحيى،

عن محمد بن الحسين، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _، عن علي _ عليه السلام _ في رجل قذف امرأته ثم خرج فجأة وقد توفيت قال: «يخير واحدة من ثنتين يقال له: إن شئت ألزمت نفسك الذنب فيقام عليك الحد وتعطى الميراث، وإن شئت أقررت فلاعَنْت أدنى قرابتها إليها ولا ميراث لك»

(1)

.

في الديات

روى الشيخ الطوسي:

31_ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 8|194، الباب 8 باب اللعان، الحديث 38؛ الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 3|539، الباب2 الحديث 4856.

( 152 ) الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _ قال: لاتعقل العاقلة إلاّ ما قامت عليه البينة، قال: وأتاه رجل فاعترف عنده فجعله في ماله خاصة ولم يجعل على العاقلة شيئاً (1).

روى الشيخ الطوسي:

32 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: «المعتق على دبر فهو من الثلث وما جنى هو والمكاتب وأُم الولد فالمولى ضامن لجنايتهم»

(2).

في القصاص

روى الشيخ الطوسي:

33 _ عن محمد بن أحمد بن يحي_ى، عن أبي جعفر، عن أبي الج_وزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليهم السلام _ قال: «ليس بين الرجل والنساء قصاص إلاّ في النفس»

(3).

روى الشيخ الطوسي:

34 _ ع_ن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الج_وزاء عن الحسين بن

علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: «ليس بين الرجال والنساء قصاص إلاّ في النفس، وليس بين الاَحرار والمماليك قصاص إلاّ في النفس عمداً، وليس بين الصبيان قصاص في شيء إلاّ في النفس»

(4).

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 10|175، باب البينات على القتل، الحديث 24؛ والاستبصار: 4|262، الباب 152، الحديث5؛ لاحظ المسند: 306.

(2) الطوسي: التهذي_ب: 8|262، التدبير الباب2، الحديث17؛ و الاستبصار: 4|31، الباب 15، الحديث 19.

(3) الطوسي: الاستبصار: 4|266، الباب 154، الحديث7.

(4) الطوسي: التهذيب: 10|279، باب القصاص، الحديث 18؛ لاحظ المسند: 307.

( 153 )

ما لا يختص بباب

روى الشيخ الطوسي:

35 _ عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: أتى النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ رجل فقال: يارسول اللّه أنّ أبي عمد إلى مملوك لي فاعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «أنت ومالك من هبة اللّه لاَبيك، أنت سهم من كنانته يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ويجعل من يشاء عقيماً، جازت عتاقة أبيك، يتناول والدك من مالك وبدنك، وليس لك أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئاً إلاّ بإذنه»

(1).

روى الشيخ الطوسي:

36 _ محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن الحسن ابن الحسين الاَنصاري، عن يحيى بن معلى الاَسلمي، عن هاشم بن يزيد قال: سمعت زيد بن علي _ عليه السلام _ يقول: كان علي _ عليه السلام _ في حربه أعظم أجراً من قيامه مع رسول

اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في حربه قال: قلت بأي شيء تقول أصلحك اللّه؟ قال: فقال لي: لاَنّه كان مع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تابعاً ولم يكن له إلاّ أجر تبعيته وكان في هذه متبوعاً وكان له أجر كل من تبعه

(2) .

روى الكليني:

37 _ عنه [أي عن علي بن إبراهيم]، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن أبي

____________

(1) الطوسي: التهذيب: 8|235، كتاب العتق الباب 1، الحديث 82.

(2) الطوسي: التهذيب: 6|170، الباب 179، الحديث4.

( 154 ) خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما» (1) .

روى الشيخ الطوسي:

38 _ محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين ابن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي _ عليه السلام _ قال: «أتيت أنا ورسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ رجلاً من الاَنصار فإذا فرس له يكيد بنفسه، فقال له رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: انحره يضعف لك به أجران: بنحرك إيّاه واحتسابك له، فقال: يارسول اللّه إلي منه شيء؟ قال: نعم كل وأطعمني قال: فأهدى للنبي _ عليه السلام _ فخذاً منه فأكل منه وأطعمني»

(2) .

روى الشيخ الطوسي:

39 _ عنه

(3) عن أبي جعفر، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه _ عليهم السلام _: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: إذا التقى المسلمان

بسيفهما على غير سنّة، القاتل والمقتول في النار» فقيل: يارسول اللّه القاتل فما بال المقتول؟! قال: «لاَنّه أراد قتلاً » (4)

هذه هي 39 حديثاً نقلها مصنّفو الكتب الاَربعة عن الاِمام زيد التي نقلها عن أبيه عن آبائه.

____________

(1) الكلين_ي: الكافي: 6| 48، الحديث5. الطوسي: التهذيب: 8|12، الباب 5 من أبواب الطلاق، الحديث 35.

(2) التهذيب: 9|48، كتاب الصيد والذبائح، الباب 1، الحديث 101.

(3) أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.

(4) الطوسي: التهذيب: 6|174، الباب 79، الحديث 25.

الفصل السابع هل كان زيد معتزليّ المبدأ والفكرة

الفصل السابع هل كان زيد معتزليّ المبدأ والفكرة

ولمّا كان أحد الاَُمور الدافعة إلى القول بأنّ زيداً كان ذا منهاج كلامي خاص، هو صلته بواصل رئيس المعتزلة، نطرح الموضوع على طاولة البحث ليتبيّ_ن مدى صحة ذلك الوهم.

هل كانت الصلة بين زيد وواصل بن عطاء على أساس أنّهما يذهبان إلى وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أحد الاَُصول الخمسة لدى المعتزلة (1) أو أنّ الصلة بينهما كانت على أساس أنّ زيداً تتلمذ على واصل وتخرج عليه في الاَُصول. المعروف هو الثاني، والحقّ هو الاَوّل لوجوه:

أوّلاً: كانت العاصمة العلمية للمسلمين يوم ذاك (أوائل القرن الثاني الهجري) هي المدينة المنورة، فكانت تزدحم بالعلماء والمفكرين، وعلى رأسهم محمد الباقر _ عليه السلام _ وبعده شيخ الهاشميين عبد اللّه بن الحسن بن الحسن وغيرهما من مشاهير المحدثين والمفسرين وعلى ضوء ذلك فلم يكن في ذلك أي حافز لمغادرة المدينة إلى العراق ثم البصرة. ولم تكن البصرة يوم ذاك إلاّ

____________

(1) الانتصار: 5؛ ومقالات الاِسلاميين: 1|278.

( 156 )

مركزاً أدبياً لغوياً ثم مركز الاَهواء والملل والآراء والنحل.

ثانياً: قد عرفت فيما سبق أنّ زيداً الثائر من مواليد عام 67 ه_، وواصل بن عطاء من مواليد 80 ه_.

فهو أكبر منه بكثير. فلو صحّ أن يتتلمذ على أحد في العراق فيجب أن يتتلمذ على شيخ واصل، الحسن البصري، في البصرة أو يتتلمذ على شيخه في المدينة المنورة وهو أبو هاشم ابن محمد الحنفية أُستاذ واصل. وبعد ذلك كله، فلم يكن عند واصل شيء بديع قصرت عنه يد زيد. فإنّه أخذ ما أخذ عن أبي هاشم، كما حققناه في الجزء الثالث (1)من تلك الموسوعة، فالذي شهّر واصل في الاَوساط الاِسلامية هو القول بالتوحيد والعدل والتركيز على كون الاِنسان مختاراً، ورد القضاء والقدر بالمعنى السالب عن الاِنسان الاختيارَ والحريةَ وهو قد أخذه من أبي هاشم وهو عن أبيه، وهو عن وصي الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أمير الموَمنين علي بن أبي طالب _ عليه السلام _، فربيب البيت الهاشمي، أعني: زيداً، كان غنياً عن التوسل بواصل في معرفة ما كان يجده في بيته العامر بالعلم والمعرفة.

وثالثاً: لم يذكر أحد من الموَرخين ولا أصحاب المقالات تتلمذ زيد على واصل قبل الشهرستاني وإنّما انفرد هو بذلك وتبعه غيره، فلا تجد منه أثراً في فرق الشيعة للنوبختي، ولا في مقالات الاِسلاميين للاَشعري، ولا الفرق بين الفرق للبغدادي ولا لابن حزم في الفصل. وعلى ذلك فلا يركن إلى كلام تفرد به الشهرستاني البعيد عن بيئة زيد وعصره، وقد استشهد الاِمام في أوائل القرن الثاني، وتوفي الشهرستاني عام 548ه_.

هذا هو الحقّ القراح الذي لا مرية فيه، ولا أظن بزيد ولا بإنسان دونه تربّى في أحضان البيت النبوي، أن يتتلمذ في الاَُصول والعقائد على أمثال واصل، صنيع أبي هاشم في المدينة، ثم الحسن البصري في البصرة، والمتفردّ بآراء وعقائد لا

____________

(1) السبحاني: بحوث في الملل والنحل: 3|189.

( 157 )

يساندها

علماء أهل البيت وأئمتهم. وأظن أنّ المصدر لما ذكره، هو تعاطف الزيديين مع المعتزلة في العصور اللاحقة على وجه صارت الاَُصول الخمسة مقبولة لدى الزيديين، فصار ذلك سبباً لحدس الشهرستاني أنّ زيداً تتلمذ على واصل، ومنه أخذ الاَُصول وسرى إلى أتباعه ومقتفيه، غافلاً عن عدم الملازمة بين الاعتقادين، ولو خضعت الزيدية لهذه الاَُصول فلجهة أُخرى سيوافيك بيانها. ولنذكر عبارة الشهرستاني ثم نذكر ماذكره بعض المحقّقين من السنّة والزيدية.

يقول: «وزيد بن علي لمّا كان مذهبه هذا المذهب: (كل فاطمي عالم زاهد شجاع، سخيّ خرج بالاِمامة يكون إماماً واجب الطاعة) أراد أن يحص_ل الاَُصول والفروع حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الاَُصول لواصل بن عطاء الغزال الاَلثغ رأس المعتزلة ورئيسهم. مع اعتقاد واصل أنّ جده علي بن أبي طالب (رض) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب. وأنّ أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لابعينه وصارت أصحابه كلهم معتزلة» (1) .

وقد سرى هذا الخطاء إلى غير واحد ممن كتب عن زيد فاتخذه حقيقة راهنة.

قال ابن أبي الدم في «الفرق الاِسلامية»: الزيدية أصحاب زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان زيد قد آثر تحصيل علم الاَُصول. فتتلمذ لواصل بن عطاء رئيس المعتزلة ورأسهم وأوّلهم فقرأ عليه واقتبس منه علم الاعتزال وصار زيد وجميع أصحابه معتزلة في المذهب والاعتقاد، وكان أخوه الباقر محمد بن علي يعيب عليه كونه قرأ على واصل بن عطاء وتتلمذ له واقتبس منه مع كونه يجوِّز الخطأ على جده علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ بسب خروجه إلى حرب الجمل والنهروان، ولاَنّ واصلاً كان يتكلم

____________

(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 1|138.

(

158 )

في القضاء والقدر على خلاف مذهب أهل البيت _ عليهم السلام _ (1).

كلام الشيخ أبو زهرة:

لقد تلقى الشيخ أبو زهرة ما ذكره الشهرستاني أمراً صحيحاً واستنتج من كلامه أُموراً ثلاثة ولكنه تنظر فيه بما يلي:

«ولكن أيصح أن نقول إنّ زيداً تتلمذ على واصل في هذه المرحلة؟ إنّ الرجلين كانا في سن واحدة فقد ولد كلاهما في سنة 80 (2)من الهجرة النبوية أو قريباً من ذلك ويظهر أنّهما عندما التقيا كان زيد في سن قد نضجت لاَنّ واصلاً لا يمكن أن يكون في مقام من يدرس مستقلاً إلاّ إذا كان في سن ناضجة.

ولهذا نرى أنّ التقاء زيد _ رضي اللّه عنه _ بواصل بن عطاء كان التقاء مذاكرة علمية وليس التقاء تلميذ عن أُستاذ، فإنّ السن متقاربة وزيد كان ناضجاً فهو قد أراد أن يعرف النواحي المختلفة حول أُصول العقائد، كما تلقي فروع الاَحكام عن أُسرته وفي المدينة مهد علم الفروع _ إلى أن قال _: وقبل رحلة زيد إلى البصرة أيسوغ لنا أن نقول إنّه ما كان من قبل، على علم بأُصول المعتزلة؟ لعل الاِجابة عن هذا السوَال توجب علينا أن نرجع إلى علماء آل البيت قبل زيد والذين عاصروه وهنا نجد من الاَخبار، ما يذكر أنّ علماء آل البيت تكلموا في العقائد وكانوا قريبين مما قاله واصل بن عطاء بل إنّا نجد من يقول إنّ واصلاً تلقى عقيدة الاعتزال عن آل البيت فقد كانوا على علم به وخصوصاً محمد ابن الحنفية ابن علي رضي اللّه عنهما، فقد كان عالماً غواصاً في العلوم، وقد قال فيه الشهرستاني: «وكان كثير العلم، غزير المعرفة، وقّاد الفكر، مصيب الخواطر، قد أخبره أمير الموَمنين (أي علي) عن أحوال

الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم، قد اختار العزلة، وآثر

____________

(1) الصفدي: الوافي بالوفيات: 15|35.

(2) عرفت ما هو الحقّ في ميلاده.

( 159 )

الخمول على الشهرة» (1).

هذا كلامه وياليت الاَُستاذ رافق كلامه بذكر المصادر، ولا يقضي في الموضوع بشكل قاطع.

وهذا ما نلمسه من كتب الاَُستاذ أبي زهرة مع كثرة ما كتب. وعلى كل تقدير فلا دليل على تتلمذ زيد لواصل، لو لم يكن دليل على عدمه، وكون اتباعه معتزليين في العقيدة لا يكون دليل على كون إمامهم كذلك.

كلام بعض المعاصرين من الزيدية :

إنّ لبعض المعاصرين من علماء الزيدية تحقيقاً رائعاً في المقام نأتي بنصه _ مع طوله _ :

«من الاَغلاط الشائعة نسبة الزيدية إلى المعتزلة_ في أُصول الدين والتوحيد وعلم الكلام _ والقول بأنّ الاِمام زيد بن علي قد تتلمذ على رئيس المعتزلة واصل ابن عطاء.

ولعل الشهرستاني المتوفى 548ه_ هو أوّل من سجّل هذه الغلطة في كتابه (الملل والنحل) ثم تابعه أكثر من بحث عن الاعتزال والمعتزلة. إمّا لاِهمالهم الفحص والتمحيص لما يروونه، وإمّا لاَنّه قد وافق ما يريدون قوله عن الزيدية والزيديين.

ولا أعتقد أنّ للشهرستاني أيَّ دليل قوي على قوله. وربّما أنّه جعل من التوافق بين الزيدية والمعتزلة في أكثر مسائل الاَُصول الدينية دليلاً على قوله، ولكن هذا غير كاف قطعاً لاِلحاق فرقة بأُخرى. لاَنّه لو اعتبر التوافق في رأي ما، دليلاً على توحيد فرقة مع أُخرى لما تميزت فيما بينها كل المذاهب الاِسلامية المعروفة اليوم وقبل اليوم، لاَنّها تتوافق في كثير من المسائل وبالاَخص الفقهية الفرعية منها.

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام زيد: 39 _ 40.

( 160 )

أمّا القول بأنّ الاِمام زيداً قد تتلمذ لواصل بن عطاء. من أجل أن يحصل على علم الاَُصول والفروع حتى يتحلّ_ى بالعلم

كما يقول الشهرستاني _ فهو أغرب وأعجب. ذلك لاَنّ المعلوم عند جميع الموَرخين والباحثين والعالمين _ أنّ المدينة المنورة _ وليست البصرة _ هي معدن العلم ومدينته، كما قال الاِمام أبو حنيفة _ رحمه اللّه _ لمن سأله عمن تلقى علمه فقال: كنت في معدن العلم ولزمت فقيهاً من فقهائهم. وهو يعني الاِمام جعفر الصادق _ رحمه اللّه _ حيث لازمه عامين، وكان يقول: لولا السنتان لهلك النعمان» (1).

فهل من المعقول أن يخرج الاِمام زيد من معدن العلم وينبوعه ومدينته ليذهب إلى البصرة ليحصل على علم الفروع والاَُصول حتى يتحلّ_ى بالعلم كما قال الشهرستاني؟ إنّه لاَمر غريب وعجيب حقاً!! وهو مع ذلك قول مخالف لما أجمع عليه الموَرخون فقد قالوا إنّ واصل بن عطاء هو الذي أخذ العلم من معدن العلم ومدينته، ولازم أهل البيت النبوي الشريف الذي يعد من مشاهيره في عصره الاِمام زيد بن علي. وأجمعوا على أنّ واصل بن عطاء كان مولى لآل محمد بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ _ أي آل محمد ب_ن الحنفي__ة _ وأخذ العلم عن ابن_ه أبي هاشم عبد اللّه بن الحنفية. وأنّه بعد 21 عاماً من عمره سافر إلى البصرة سنة 101 ه_ حيث التقى فيها بالزاهد عمرو بن عبيد فزامله في حلقة الحسن البصري حتى حدث الخلاف بين واصل وأُستاذه الحسن البصري في تسمية مرتكب الكبيرة من المسلمين حيث قالت الخوارج هو كافر. وقالت المرجئة: هو موَمن. فقال الحسن البصري: هو منافق. فقال واصل: هو فاسق. والفسق منزلة بين المنزلتين: منزلة الكفر والنفاق. ومنزلة الاِيمان، وبعد أن رجع عمرو بن عبيد إلى قوله وفارقا حلقة الحسن، أطلق عليهما لاعتزالهما الحلقة (اسم المعتزلة)

ثم صار

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام الصادق _ عليه السلام _: 28.

( 161 )

اسماً لمن تابعهم في مسائل علم الكلام، بل لقد نصّ المحقّقون من المعتزلة والزيدية على أنّ مسألة المنزلة بين المنزلتين هذه قد أخذها واصل بن عطاء من أُستاذه أبي هاشم عبد اللّه ابن محمد بن الحنفية (1).

وإذا كان لابد من نسبته إلى فرقة من الفرق فينسب إلى الفرقة (العدلية) والعدلية كلمة تطلق على كل من يقول بالعدل والتوحيد وينفي الجبر والتشبيه والتجسيم للّه، تعالى اللّه عن ذلك، ولهذا صحّ للقاضي عبد الجبار بن أحمد المتوفى 415 ه_. وللاِمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى، ان يجعلا من رجال الطبقة الاَُولى للعدلية كلَّ الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة ممن صرح بالعدل ونفي الجبر. وقد جعلا الاِمام زيد بن علي وأبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية أُستاذ واصل من رجال الطبقة الثالثة وجعلا واصل بن عطا وعمرو بن عبيد من رجال الطبقة الرابعة.

وقد توهم البعض من المتأخرين أنّ الطبقات التي أشرت إليها هي طبقات المعتزلة والصحيح غيره. لاَنّ البحث في طبقات القاضي وفي الملل والنحل للمهدي كان عن العدلية، وليس عن المعتزلة، ولفظه في الملل والنحل (2)مسألة (له) أي قالت المعتزلة: وأجمعت العدلية على أنّ للعالم محدثاً قديماً قادراً عالماً حياً ... حتى قال: وقد رتب القاضي _ أي عبد الجبار _ طبقاتهم ونحن نشير إلى جملتها. ثم أشار في المسألة التي تلتها إلى طبقاتهم.

فالاِمام المهدي حكى عن المعتزلة روايتهم لما اجمعت عليه العدلية. ثم رتب طبقاتهم كما فعل القاضي عبد الجبار مستدلاً بأقوالهم في العدل ونفي الجبر(3).

____________

(1) شرح الاَُصول الخمسة: 137 _ 138.

(2) البحر الزخار: 1|44 _ 45.

(3) علي بن عبد الكريم

شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق: 21.

( 162 )

وبعد هذا البيان الضافي من العلمين، لا يبقى أي شك في أنّه لم يكن لوليد البيت النبوي أية دراسة لدى واصل بن عطاء، وأقصى ما يمكن أن يقال: كانت بينهما مزاملة أو محادثة في تطبيق أصل الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على الساحة الاِسلامية. ونضيف في المقام أمرين:

1 _ أنّه لو تتلمذ زيد على واصل أو كان معتزلياً في العقائد، لانعكست آراء أُستاذه في الكتب الموروثة منه، مع أنّه ليس من تلك الاَُصول فيها عين ولا أثر، غير التركيز على الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استنتجه من الكتاب والسنّة واختمر به منذ شبابه إلى التحاقه بربه.

2 _ أنّ ابن المرتضى، جعل زيد بن علي في طبقاته مقدماً على طبقة واصل ابن عطاء (1) ولو صحّ الزعم المعروف كان عليه أن يجعله متأخراً عنه، لكونه في الاعتزال عيال عليه.

____________

(1) ابن المرتضى: المنية والاَمل: 17و 28، تحقيق سوسنة ديفلدفلزر، بيروت 1380ه_ _ 1961م؛ والقاضي عبد الجبار الهمذاني: فرق وطبقات المعتزلة: 32 و 41، تحقيق الدكتور علي سامي النشار وعصام الدين محمد علي، دار المطبوعات الجامعية، القاهرة، 1972م.

( 163 )

الفصل الثامن هل كان زيد إماماً

الفصل الثامن هل كان زيد إماماً

في الاَُصول والعقائد، والفروع والاَحكام؟

إنّ للمذهب الزيدي السائد حالياً في اليمن وغيرها بعدين: بعداً فقهياً _ يُلحقه بالمذاهب الفقهية المعروفة، وهذا ما يبحث عنه في تاريخ الفقه وطبقات الفقهاء _ وبُعداً عقائدياً، وهذا هو المسوّغ لطرحه في كتب الملل والنحل، ولاشك أنّ المذهب الزيدي الذي تبنّاه أئمة الزيدية طيلة قُرُون، من عهد أحمد بن عيسى ابن زيد موَلف الاَمالي (ت 247 ه_) إلى عهود الاَقطاب الثلاثة كان يتمتع ببعدين متميزين العقيدة والفقه، وهوَلاء الاَقطاب عبارة

عن:

1 _ الاِمام القاسم الرسّ_ي.

2 _ الاِمام الهادي يحيى بن الحسين.

3 _ الاِمام الناصر الاَطروش.

فكان عندهم الفقه والعقيدة ولكل ميزة وسمة، تضفي له صبغة خاصة في مجاله إنّما الكلام في المذهب الموروث عن نفس الاِمام أي زيد الثائر، فهل كان لمذهبه بعدان، فقهي وعقائدي؟ أو كان لمذهبه بعد واحد؟ أو لم يكن هذا ولا ذاك

( 164 )

بل كان رجلاً ثورياً وإماماً للجهاد والنضال ومفسراً للقرآن، ومحدّثاً للسنّة النبوية، ومفتياً في ضوئهما أحياناً؟ وتظهر حقيقة الحال فيما يأتي ولنقدم البحث في العقائد ثم نتبعه بالبحث في الفقه.

إنّ ربيب البيت العلوي زيداً الثائر قد تعلم الاَُصول والعقائد، من أئمة أهل البيت وعلى رأسهم والده الاِمام زين العابدين وأخيه الاِمام الباقر _ عليهما السلام _، فكان القول بالتوحيد ورفض التجسيم والجهة، والعدل وتنزيهه سبحانه عن كل سوء وشين، والقول بعصمة الاَنبياء ومصونيتهم عن الخطأ والزلل، ونفي القدر بمعنى السالب للاختيار والحرية والموجب للغوية بعث الاَنبياء والرسل، إلى غير ذلك من الاَُصول الرائجة في باب الاِمامة والمعاد _ كان القول بهذه الاَُصول _ أمراً واضحاً لدى الهاشميين والعلويين ورثها كابر عن كابر، فلو قال به زيد، فلا يجعله ذا منهج كلامي خاص.

إنّما الكلام فيما ينسب مناسب إليه من الآراء حول سائر الموضوعات، وسيوافيك إنّها آراء الزيدية، لاصلة لها بزيد، وأنّ ربطها ونسبتها إليه، خال عن الدليل.

قال الحاكم أبو سعد المحسَّن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي (413 _ 494ه_) في كتابه جلاء الاَبصار :

وإذ قد بينا المذاهب المحدثة والبدع المولدة، بقى ما كان عليه النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأصحابه وعلماء أهل البيت، وهو القول بتوحيد اللّه، ونفي التشبيه، والقول بعدله، وبراءته من كل سوء، والقول

بعصمة أنبيائه، وصدق ما جاءوا به على ما نطق به الكتاب، ومشايخ العدل، أخذوها من علماء أهل البيت. أخذها واصل بن عطاء عن محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم وكان مع ذلك من أصحاب النفس الزكية، وكان عمرو بن عبيد قد تأهب للخروج إلى زيد بن علي _

( 165 )

عليه السلام _ فورد الخبر بقتله. وكان مطر الوراق، وبشير الرحال من أصحاب إبراهيم بن عبد اللّه، وكان حَكَمُ المعتزلي من أصحاب عيسى بن زيد، والروايات بذلك من علماء أهل البيت _ عليهم السلام _ ظاهرة، وكتب القاسم ويحيى والناصر والمهدي _ يعني أبا عبد اللّه الداعي _ وأحمد بن عيسى وغيرهم من أئمتهم عليهم السلام مشحونة بذكر العدل والتوحيد.

وروى أنّ أبا الخطاب وجماعة دخلوا على زيد بن علي _ عليهما السلام _ فسألوه عن مذهبه، فقال: إنّي أبرأ، إلى اللّه من المشبهة الذين شبّهوا اللّه بخلقه، ومن المجبرة الذين حملوا ذنوبهم على اللّه، ومن المرجئة الذين طمَّعوا الفسّاق في عفو اللّه، ومن المارقة الذين كفّروا أمير الموَمنين، ومن الرافضة الذين كفّروا أبا بكر وعمر، وهذا عين مذهب أهل العدل، وكان إمام هذه الطائفة بعد أمير الموَمنين والحسن والحسين ومحمد بن علي (1)وعلي بن الحسين، زيد بن علي بن الحسين عليه السلام ورحمة اللّه وبركاته وجميع أولاد أمير الموَمنين، إلاّ أنّ زيداً تقدمهم بالفضل والعلم والجهاد في سبيل اللّه (2).

هذا مجمل القضاء في الموضوع وقد «شهد شاهد من أهلها» على ما ذكرنا غير أنّ البرهنة على المختار، وأنّ ما نسب إلى زيد من الآراء فإنّما هي أرآء الزيدية، لا الاِمام القائد ولاَجل ذلك، لانجد أثراً من هذه الآراء المعزوّة إليه في الكتب الموروثة منه. حتى لو

وجدنا أنّ أئمة الزيدية لهجوا بها _ كالقاسم الرسي _ رأس القاسمية (170_242ه_) والناصر الاَطروش _ رأس الناصرية (230 _ 304ه_) موَسس المذهب الزيدي في بلاد الديلم والجبل، والاِمام الهادي إلى الحقّ به رأس الهادوية في اليمن (245 _ 298ه_) لا يكون ذلك دليلاً على ثبوته من إمامهم، لاَنّ

____________

(1) يريد محمدبن الحنفية بقرينة تقديمه على والد زيد: علي بن الحسين _ عليهما السلام _.

(2) السياغي: الروض النضير: 1|99 _ 100.

( 166 )

الاَئمة المتأخرين عن زيد، اجتهدوا في الاَُصول والفروع فضموا ما ورثوه من إمامهم إلى ما حصلوه بمساعيهم فيهما، فلا يسوغ لباحث أن ينسب شيئاً إلى زيد، بحجة تواجده في كتب هوَلاء الاَئمة المتأخرين. وإن أردت التفصيل في الآراء المعزوّة إليه عن كثب فلاحظ ما يلي:

1 _ مرتكب الكبيرة :

كانت الخوارج تصفه بالكفر والشرك. والمرجئة بالاِيمان، وكان الحسن البصري يصفه بالنفاق، وذهب واصل إلى أنّه لا كافر ولا موَمن بل في منزله بين المنزلتين (1) .

واستظهر الشيخ أبو زهرة أنّ زيداً يوافق المعتزلة في هذا الرأي غير أنّه لا يراه مخلداً في النار على خلاف المعتزلة واستظهره من كتاب أوائل المقالات، مع أنّه نسبه إلى الزيدية دون زيد حيث قال: وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك وزعموا أنّ مرتكب الكبائر ممن ذكرناه فاسق ليس بموَمن ولا مسلم (2)ولا يصح القضاء البات بهذا المقدار.

2 _ رأيه في القدر :

لقد استنبط أبو زهرة مما ذكره ابن المرتضى في المنية والاَمل خصوصاً من الرسالة التي كتبها ابن عباس إلى جبرية أهل الشام، أنّ عقيدة زيد في القدر، هو أنّه يجمع بين الاِيمان بالقضاء والقدر، واعتبار الاِنسان مختاراً في طاعاته ومعاصيه، وأنّ معاصيه ليس قهراً عن

اللّه تعالى، ولا غلبة عليه (3).

____________

(1) لاحظ دليله حول هذا الاَصل: الجزء الثالث: 225.

(2) الظاهر أن يقول ولا كافر لينطبق على عقيدة المعتزلة.

(3) أبو زهرة: الاِمام زيد: 209.

( 167 )

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما هو عقيدة كل آل البيت أخذوه من مستقى الوحي وكلام الوصي علي _ عليه السلام _ وقد أوضح الحال عندما سأله رجل عند منصرفه من صفين بما هو معروف (1)وقد اشتهر عنهم: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الاَمرين» وزيد وغيره وجميع الشيعة أمام هذا الاَصل سواسية.

3 _ رأيه في البداء :

لقد كثر اللغط والجَلَبَة حول البداء فمن طاعن عليه بأنّ معنى قولهم بدا للّه، هو ظهور ما خفي عليه، وهو يستلزم جهله سبحانه بالمستقبل وتغيير إرادته المستلزمة لحدوث ذاته إلى غير ذلك من المضاعفات، ومن قائل بأنّ المقصود من بدا للّه، هو أنّه بدا للناس من اللّه والاِطلاق من باب المشاكلة، والنبي الاَكرم هو الاَُسوة في الاِطلاق فقد وصفه سبحانه بهذا في كلامه ونقلها البخاري (2)وإلاّ فأي مسلم واع يلهج بتجويز الجهل أو تغيير إرادته، فمن المأسوف عليه جداً أنّ الناقمين من الشيعة في قولهم بالبداء تساهلوا في بيان عقيدتهم وراجعوا في تبيين مواقفهم إلى كتاب خصمائهم.

نعم ذكر الشيخ المفيد على أنّ الاِمامية اتفقوا على أنّ إطلاق لفظ البداء في وصف اللّه تعالى وإن كان ذلك من جهة السمع دون القياس وأضاف: وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية والمرجئة وأصحاب الحديث على خلاف الاِمامية(3).

وما ذكره المفيد إنّما هو عقيدة الزيدية، لا الاِمام زيد، ولا ملازمة بين الرأيين والمخالف لو وقف على مقصود الاِمامية من البداء لما خالفه وتلقاه أمراً صحيحاً، ولاَجل أنّ الشيخ أبا زهرة وقف على مقاصدهم البداء بعد

الاحتكاك بعلمائهم

____________

(1) الرضي: نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 78.

(2) البخاري: الصحيح: 4|171، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع.

(3) المفيد: أوائل المقالات: 13|53.

( 168 )

وكتبهم صرح بما ذكرناه فلاحظ (1).

4 _ الرجعة والمهدي:

ذهبت الاِمامية إلى القول بالرجعة وإنّ اللّه سبحانه يرد قوماً من الاَموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعزّ منهم فريقاً، ويذلّ فريقاً وقد ذكرنا دليلهم من الكتاب والسنّة في الجزء السادس من هذه الموسوعة فلاحظ، غير أنّ الشيخ المفيد ذكر مخالفة الزيدية لهذا الاَصل في كلامه السابق، وجعله الشيخ أبا زهرة دليلاً على كونه معتقد زيد والاَصل الذي نشأ عليه (2).

والعجب أنّه عطف القول بالمهدي على فكرة الرجعة ونسب إلى الاِمام الجليل نفي فكرة المهدي وقال: الاِمام زيد قد نفى فكرة المهدي المنتظر، فنفى معها فكرة الرجعة، لاَنّ الرجعة كما تصورها الاِمامية ومن قبلهم الكيسانية تقتضي وجود المهدي، وبما أنّ لا مهدي في نظر الاِمام زيد، لاَنّ الاِمام يجب أن يكون غير مستور وأن يدعو لنفسه فلا يوجد إمام مكتوم ولا مغيب (3).

إنّ ما ذكره الشيخ أبو زهرة زلة لاتستقال، فكيف يمكن أنّ يستدل على عقيدة إنسان مثل زيد، بكلمة لم يثبت كونه قائلها، وعلى فرض كونه قائلها فإنّما قال بها في ظروف خاصة، لا في الاِمام الذي اتفقت الشرائع السماوية عليه، ولاسيما مسانيد السنّة وصحاحها.

أقول: لقد تواترت النصوص الصحيحة والاَخبار المروية من طريق أهل السنّة والشيعة الموَكدة على إمامة أهل البيت _ عليهم السلام _ والمشيرة صراحة إلى أنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، وأنّ آخر هوَلاء الاَئمة هو الذي يملاَ

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام زيد: 212.

(2) أبو زهرة: الاِمام زيد: 212.

(3) أبو زهرة: الاِمام زيد: 212.

( 169 )

الاَرض _ في عه_ده _

ع_دلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا، وأنّ أحاديث الاِمام الثاني عشر الموسوم بالمهدي المنتظر قد رواها جملة من محدثي السنّة في صحاحهم المختلفة كأمثال الترمذي (المتوفى عام 297ه_) وأبي داود (المتوفى عام 275ه_) وابن ماجة (المتوفى عام 275ه_) وغيرهم، حيث أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وصحابته، أمثال علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وأُم سلمة زوجة الرسول الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وغيرهم:

1 _ روى الاِمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملاَها عدلاً كما ملئت جورا» (1) .

2 _ أخرج أبو داود عن عبد اللّه بن مسعود: أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىَ اسمه اسمي» (2) .

3 _ أخرج أبو داود عن أُم سلمة _ رضي اللّه عنها _ قالت: سمعت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» (3).

4 _ أخرج الترمذي عن ابن مسعود: أن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «يلي رجل من أهل بيتي يواطىَ اسمه اسمي»(4).

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه. يقول الدكتور عبد الباقي: إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين، إنّها مجموعة من الاَحاديث والآثار تبلغ الثمانين

تقريباً، اجتمع

____________

(1) مسند أحمد: 1|99 و 3|17، 70.

(2) جامع الاَُصول: 11|48 برقم 7810.

(3) جامع الاَُصول: 11|48 برقم 7812.

(4) المصدر نفسه: برقم 7810.

( 170 )

على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (1).

5 _ لا معجزة للاَئمة :

إذا كانت الاِمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا، وإمرة إلهية (لاشعبية) واستمراراً لوظائف النبوة كلّها، سوى تحمل الوحي الاِلهي، ومحتاجاً إلى تنصيب النبي الاَكرم بأمر من اللّه سبحانه، فالتعرف على الاِمام المنصوب، يتوقف على دليل يعرفه كالنبي الاَعظم، وهو أحد الاَُمور التالية:

1 _ نص صريح متواتر لايدع شكاً للاِنسان أنّه خليفة الرسول.

2 _ أو كرامة خارقة للعادة مقارنة لدعوى الاِمامة والخلافة عن الرسول مورثة لليقين بصلته باللّه سبحانه.

3 _ أو وجود قرائن وشواهد تفيد القطع أنّه منصوب من اللّه سبحانه لهداية الاَُمّة.

نعم لو كانت الاِمامة مقاماً شعبياً، تختاره الاَُمّة الاِسلامية لقيادتها وتنظيم أمرها. فهو لا يحتاج إلى شيء من النص، والكرامة الخارقة للعادة، ولا إلى العلم المفاض من اللّه سبحانه.

وبما أنّ الاِمامة عند الشيعة إنّما هي بالمعنى، الاَوّل، وهي عندهم من الاَُصول اشترطوا فيها: النص، والعلم بما تحتاج إليه الاَُمّة في مجال الدين والقيادة، أو الكرامة الخارقة للعادة المورثة لليقين بكونه رجلاً إلهياً صادقاً فيما يدعي من الخلافة والاِمامة. وهذا على خلاف ما يذهب إليه أهل السنّة فإنّها عندهم حكومة عرفية، وإمارة زمنية، يُنصب ويعزل بأمر الشعب وإرادته وعزله ونصبه. أو يُنصب بإرادة الحاكم السابق.

____________

(1) الدكتور عبد الباقي: بين يدي الساعة 123.

( 171 )

غير أنّ أبا زهرة زعم أنّ الاِمام زيد لا يرتضي شيئاً من هذا وذلك لاَنّه يرى أنّ الاِمام من بني فاطمة رجل ككل الناس ليس بمعصوم عن الخطأ وليس علمه فيضاً ولو إشراقاً، بل

علمه بالدرس والبحث ويُخطىَ ويصيب كغيره من الناس ومادام كذلك فإنّه لا يحتاج إلى خارق العادات (1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما هو عقيدة أئمة الزيدية الذين جاءوا إلى الساحة، شاهرين سيوفهم. فقاموا بالاَمر في اليمن وغيره ولولاه لما استقرت إمامتهم، _ بعد كونهم أفراداً عاديين _ وأمّا كونه معتقد زيد فلم يقم عليه دليل، مع كونه معتقداً بإمامة الاِمام علي والسبطين وأبيه وأخيه _ عليهم السلام _ بالنص، وهو واضح لمن تتبع شوارد النصوص.

أضف إلى ذلك أنّ ظهور الكرامات على الاَولياء والاَبرار مما جوّزه أكثر الفرق وإنّما خالف فيه المعتزلة بشبهة أنّه تبطل دلالة المعجزة على النبوة. لكن جوزه من المعتزلة ابن الاَخشيد، وأبو الحسين البصري وكذا محقّقو الاَشعرية كالجويني والغزالي وفخر الدين الرازي وغيرهم، وأمّا الزيدية فالمذكور في كلام الشيخ المفيد، أنّهم يوافقون المعتزلة في نفي صدورها لكن في كلام المتأخرين منهم ما يدلّ على العكس، فقد نقل العلاّمة الشيخ فضل الزنجاني في تعليقته على أوائل المقالات عن الاِمام أبي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني الذي كان من أفاضل الزيدية ومن القائمين بالاَمر باليمن (2)في كتابه الكبير المسمّى بالشامل إلى ذهاب الزيدية إلى جواز ظهورها (3).

وياحبذا راجع أبا زهرة الكتب الفلسفية كالاِشارات والشفاء للشيخ

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام زيد: وكان عليه أن يلاحظ أوائل المقالات: 41، 42 كما لاحظ سائر الموارد.

(2) ولد بصنعاء سنة 669 وتوفّي عام 747 وكانت مدّة خلافته 51 سنة.

(3) الزنجاني( 1301 _ 1360): تعليقة أوائل المقالات: 41، طبعة تبريز.

( 172 )

الرئيس (1)، حتى يقف على أنّ صدور الكرامات من الاَولياء ليس أمراً معضلاً، بل الاَُصول العقلية توَيده والكتاب والسنّة يوافقانه.

6 _ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

إنّ الاَمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، من الاَُصول المسلّمة لدى المسلمين عامّة من غير فرق بين الفرق: المعتزلة والاَشاعرة والاِمامية. قال القاضي عبد الجبار: «لا خلاف بين الاَُمّة في وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (2) .قال الشيخ المفيد: «إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجّة على من لاعلم لديه إلاّ بذكره...» (3).

وهو مشروط بشروط مذكورة في كتب القوم، غير أنّ الشيخ أبا زهرة زعم أنّ الاَصل المذكور، لايجتمع مع القول بالتقية، وزعم أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد الثائر أخذا بالاَصل الاَوّل، وأمّا أباه أعني: علي زين العابدين رأى من الحكمة ألاّ يخرج إلاّ مع العدد والقوة، ولاَنّ تلك الحوادث (حوادث كربلاء) جعلته يشك في وجود النصراء الاَقوياء في اعتقادهم، فانصرف إلى العلم غير راض ولامطمئن للباطل.

_ ثم قال: _ ومن هنا تولد عند الشيعة مبدأ التقية وهي السكوت عن مقاومة الباطل من غير رضا به _ إلى أن قال: _ إنّ زيداً آمن بالاَصل الاَوّل وروي إنّه رخص في التقية لكنه كان في أوّل حياته وفي وقت انصرافه للدراسة كان يأخذ بمبدأ التقية، لكنّه بعد أن درس الفرق المختلفة والتقى بأهل العراق غلب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).

____________

(1) أبو علي: الاِشارات: 3|497.

(2) القاضي عبد الجبار: شرح الاَُصول الخمسة: 741.

(3) المفيد: أوائل المقالات: 98.

(4) أبو زهرة: الاِمام زيد: 215 _ 217.

( 173 )

يلاحظ عليه: أنّ هذا أشبه بكلام من لا يعرف موضع الاَصلين ومركزهما (وأُجلّ الشيخ أبا زهرة من أن يكون من تلك الزمرة) ويزعم أنّ بين الاَصلين مطاردة، وأنّ الزعيم الاِسلامي إمّا أن يختار الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يلتجىء إلى التقية، وأنت إذا راجعت إلى

ما أسلفناه في الجزء الثالث حول الاَصل الاَوّل وفي الجزء السادس حول التقية لعرفت أنّ الاَصلين من الاَُصول الاِسلامية المتقنة ولكل موردٍ وموقف حسب شروطهما وضوابطهما، فلو أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد بن علي قاما بالاَمر وأمرا بالمعروف والنهي عن المنكر لاَجل ظروف فرضته عليهما، ولو كانت تلك الشروط مهيأة في زمن ابنه زين العابدين وأخيه محمد بن الحنفية لقاما مثل ما قاما، فلو نرى أنّ الاَخيرين التزما البيت وصارا جليسيه فلظروف فُرضت عليهما، ولعمر الحقّ أنّ مثل هذا الكلام من شيخ المصريين غريب جداً إذ كيف يقول: «ومن هنا _ أي قعود الاِمام السجاد ومحمد الحنفية عن الاَمر بالمعروف _ تولد عند الشيعة مبدأ التقية؟! أو ما يذكر قول اللّه سبحانه: "إلاّ أن تَتَّقُوا مِنهُم تُقاة" (آل عمران _ 28) أو قوله سبحانه: "مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بِعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمانِ" (النحل _ 28) .

أو ما قرأ كلمات المفسرين حولهما حتى عمّموا مفادهما إلى اتقاء المسلم من المسلم الظالم؟ والحقّ أنّ الشيخ أبا زهرة مع كونه كاتباً ذا صدر رحب وإطلاع وسيع وقلم سيّال، لكنه يخرج الظنون بصورة الاَُمور الواضحة القطعية ويضفي على حدسيّاته صبغة الجزم.

7 _ الصفات ليست غير الذات :

ذهبت العدلية _ من غير فرق بين المعتزلة والاِمامية والزيدية _ إلى أنّ صفات اللّه الذاتية كالعلم والقدرة والحياة غير ذاته مفهوماً، وعينها مصداقاً، دفعاً لوصمة التركيب، الملازم للاِمكان، المنزّه عنه سبحانه، قال الشيخ المفيد: «إنّ اللّه

( 174 )

عزّ وجلّ اسمه حي لنفسه لا بحياة وأنّه قادر لنفسه، وعالم لنفسه، لا بمعنى كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات _ إلى أن قال: _ وهذا مذهب الاِمامية كافة والمعتزلة

إلاّ من سميناه (أبا هاشم الجبائي) وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والحكمة (1).

وقد تبع هوَلاء خطب الاِمام علي _ عليه السلام _ وكلماته، فإنّه أوّل من شقّ هذا الطريق، وأوضح المنهج، وحكم بحكم بات على توحيد الصفات مع الذات. قال: «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاِخلاص له، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه» (2).

والعجب أنّ الشيخ أبا زهرة نسب عينية الصفات إلى زيد وصوّره أنّه من آرائه، والحقّ أنّه من أرائه، لكنه لابمعنى أنّه ذو منهج كلامي بل كل ما نسب إليه لا يخلو من أمرين: إمّا أنّه ليس من زيد وإنّما هو من أتباعه ومقتفي أثره، أو هو من زيد ولكنه أخذه من أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _.

فقد حصحص الحقّ وبان أنّ زيداً لم يكن مفكراً كلامياً غارقاً في البحوث الكلامية نظير واصل بن عطاء، أو عمرو بن عبيد أو أبي جعفر موَمن الطاق وهشام بن الحكم، بل كان زيد رجلاً ثورياً له صلة بتفسير القرآن وجمع الروايات وعظة الناس وهدايتهم إلى الطريق المهيع.

ثم إنّ الشيخ أبا زهرة استخرج عقائده الكلامية _ حسب ما عرفت _ من

____________

(1) المفيد: أوائل المقالات: 18.

(2) الرضي: نهج البلاغة: الخطبة 1.

( 175 )

أسباب عقيمة غير منتجة وبما أنّه أشار إليها في آخر كلامه نأتي بنصه، ثم بملاحظتنا، يقول:

«حاولت استخراج عقائده الكلامية من الاَُمور التالية:

1

_ أن يكون ذلك رأياً لواصل بن عطاء الذي صاحبه، وقدّر علماء النحل أنّه اختار منهاجه وطريقه، أو كان كلاهما على منهاج واحد ورأي واحد، فاعتبر كل كلام لواصل في هذه المسائل آراء للاِمام زيد إلاّ ما ثبت أنّه لم يقله، أو لم يكن من المعقول أن يكون قد قاله، كقول واصل: إنّ علياً في قتال معاوية لم يكن على حقّ بيقين، فليس ذلك نظر أهل البيت بالاتفاق.

2 _ إنّ ما ينسب إلى الزيدية من أقوال ونراه في ذاته معقولاً وقريباً من منطق الاِمام زيد وتفكيره فإنّا نقرر أنّه رأي زيد _ رضي اللّه عنه _ لاَنّ الزيدية إذا استثنينا الجارودية منهم، يتلاقون في أكثر آرائهم مع الاِمام زيد، فهم له في الجملة متبعون.

3 _ إنّ ما يقوله بعض المتصلين به أو الذين ثبت اتصالهم به نعتبره إذا اتفق ما يقوله الزيدية أو ينسب مزكياً لنسبة تلك الاَقوال إليه (1).

يلاحظ عليه: أنّ القياس الاَوّل عقيم جداً إذ لا نعلم مدى تعاطف زيد مع واصل وزمالته معه، حتى نتخذ عقيدة الجليس دليلاً على عقيدة الجليس الآخر.

وأضعف منه الطريق الثاني فإنّ الزيدية كسائر الفرق، مارسوا علم الكلام وحضروا محافل البحث والنقاش ثم أتّخذوا موقفاً في كل مسألة، وكيف يمكن أن ينسب وليد فكر هوَلاء لزيد المحدِّث المفسِّر غير المهتّم إلا بإنهاض المسلمين ضد الطغاة وإزالتهم عن منصّة الحكم واستغلال الصلحاء بالحكم؟!.

ومنه يظهر حال الطريق الثالث فلا نطيل الكلام.

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام زيد: 222 _ 224.

( 176 )

كل ما ذكرنا يرجع إلى زيد، وأمّا الزيدية فلهم عندنا حساب خاص سوف نرجع إلى إرائهم وعقائدهم في مجال الاَُصول والفقه في فصل مستقل.

زلة بعدها زلة :

قد عرفت مدى صحّة كلام

الشيخ أبو زهرة في نسبه هذه الآراء إلى زيد وقد تبعه من جاء بعده، من دون ترو وتحقيق، فنرى أنّ الدكتور «أحمد محمود صبحي» يتبعه عشوائياً وينسب تلك الآراء إلى زيد حرفاً بحرف، فنسب إليه إنكار القول بالبداء، والتقية، والعصمة، والعلم اللدني، والمهدوية، وذكر أنّ آراء زيد في ذلك المجال متعارضة وآراء الاِمامية وذكر أنّ مصدر كلامه هو كتاب «نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام» للدكتور علي سامي النشار، وأظن أنّه ذكره بعنوان أحد المصادر، وإلاّ فالمصدر الواقعي لكلامه هو كتاب أبي زهرة ووحدة الصياغة تعرب عن عيلولتهما على الشيخ وعلى كل تقدير فقد خبطوا خبطة عشواء وبذلك أفسدوا الاَمر على المجتمع الاِسلامي وصوروا أنّ الاِمام زيد كان يخالف الرأي العام لسائر الاَئمة الاثني عشر، ولعله كان هذا هو المقصد من إلقاء الحجر في الماء الراكد. وإيجاد الفرقة أو توسيعها بين الطائفتين.

* * *

قد أسفر وجه الحقيقة وبان أنّ زيداً كان علويّ المبدأ والفكرة، ولم يكن له في الاَُصول والعقائد سوى ما عند العترة الطاهرة بقي الكلام من كونه صاحب مذهب فقهي خاص، على أساس منهج معين وهذا هو الذي نأخذه بالبحث.

( 177 )

هل كان لزيد مذهب فقهي خاص ؟

هل كان لزيد مذهب فقهي خاص كسائر المذاهب الفقهية الذائعة في عصره وبعده؟

وهل كان لزيد منهاج خاص يسير عليه في استنباطه وافتائه؟

وهل الاَئمة الزيدية _ وأخص بالذكر أئمة الاجتهاد منهم _ مشوا على ضوء آرائه ولم يخالفوه، والفقه الزيدي الموجود، تبسيط لفقهه ورأيه؟

هذه موضوعات ثلاثة جديرة بالبحث والدراسة على ضوء ما ورثناه من زيد من الكتب، والفقه الزيدي الرائج اليوم.

فلنشرح الموضوع الاَوّل فنقول:

كان زيد رجلاً عابداً زاهداً، حليف القرآن والعبادة، وتعلّم ما تعلم في أحضان والده وأخيه

الاِمام الباقر _ عليه السلام _ وروى عن عدّة من التابعين، ولم يكن موطنه يوم ذاك، مهداً لمذهب فقهي خاص يتميز بسماته عن المذاهب الاَُخر حتى يكون الاِمام أحدهم، ويكون له مذهب متمايز عن الآخرين، وأقصى ما كان يتمتع به التابعون والراوون عنهم، هو الاِفتاء في ضوء الروايات الواصلة إليهم، وتجريدها عن الاسناد، أو استثمار الضوابط التي تلقوها عن الرسول الاَعظم واستخراج أحكام الجزئيات منها أو التخريج على أقوال الصحابة وغيره، وأين هذا من كونه إمام مذهب خاص له سمات وميزات، تميزه عن سائر المذاهب الفقهية، كما هو الحال في المذاهب المعروفة ولاسيما المذاهب الاَربعة؟ هذا حال زيد في موطنه، وأمّا حاله في غيره، فقد غادر المدينة كراراً، ونزل الشام والكوفة، إمّا بالجبر والاضطرار، أو بالحرية والاختيار، ولم تكن الغاية له في تلك الرحلات إلاّ إجابة الجبر، أو دعم المبدأ وإنهاض المسلمين ضد الاَمويين وبالتالي، دعم الجهاد

( 178 )

والنضال المسلح، وأين هذا من الاختلاف في أندية الدروس، ومحافل البحث والدراسة، لاستثمار ما تلقاه وصبغه بصبغة خاصة تعطي له سمة وميزة؟!

وهذا ما يعطيه الاِمعان في حياته، والغور في الآثار الباقية منه وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّه كان يفتي عند السوَال، بمضمون الرواية، أو ببسط الضوابط الكلية.

وبذلك يعلم حال السوَال الثاني، فإنّ المراد من المنهاج الخاص، هو القواعد الكلية الاَُصولية التي منها يستمد الفقه، وبها ينصبغ، فالفقه المستمد من القياس والاستحسان غير الفقه المستنبط من الكتاب والسنّة والوقوف فيما لا نص فيه، ومن المعلوم أنّه لم يكن لزيد ذلك المنهاج ولو كان لبان في آثاره العلمية، أو نقله طلابه وملازموه كما هو الحال في أبي حنيفة، فقد انعكست آراوَه على فقه تلاميذه كالشيباني وأبي يوسف وغيرهما.

وأمّا

الموضوع الثالث فالاِجابة عنه سهلة، بعد الوقوف على اعتبار الاجتهاد المطلق عند الزيدية فقد فتحوا _ كالاِمامية _ بابَ الاجتهاد المطلق في الفروع والاَُصول فخالفوا زيداً في قسم من الفروع، وركنوا إلى أُصول لم يعلم الركون به من إمامهم.

وإن شئت قلت: هناك فرق بين اجتهاد الاَحناف، والشوافع واجتهاد أئمة الزيدية فالطائفة الاَُولى كانوا مجتهدين لكن مقيدين بأُصول إمامهم ومناهجه. وكانوا يبذلون مساعيهم لاستكشاف آراء إمامهم في ضوء الاَُصول الواصلة إليهم منه. وأمّا أئمة الزيدية، فلاَجل فتح باب الاجتهاد المطلق صاروا مجتهدين مستقلين ربما وافقوا إمامهم، وأحياناً خالفوه ولذلك ترى بعداً شاسعاً بين المجموع الفقهي المنقول عن الاِمام زيد وكتاب الاَحكام للاِمام الهادي المطبوع المنتشر في جزئين، ومثله الروض النضير فالموَلف وإن كان زيدياً، لكن كتابه هذا،

( 179 )

أُلّف على ضوء الاجتهاد المطلق، فيستهدي من روايات الصحاح والمسانيد والقواعد الدارجة بين المذاهب الاَربعة التي رفضها أئمة أهل البيت أوّلاً ولم يثبت حجيتها عند الاِمام زيد ثانياً.

يقول أبو زهرة: « ويجب أن يعلم أنّ الفقه الزيدي ليس كله فقه الاِمام زيد، بل هو فقه طائفة كبيرة من آل البيت كالهادي والناصر وغيرهم ممن جاءوا بعده وخصوصاً أنّ باب الاجتهاد فيه كان مفتوحاً لم يغلق (1).

ويقول في موضع آخر في سبب انتشار المذهب الزيدي وأنّ من أسبابه: «فتح باب الاختيار من المذاهب الاَُخرى فقد صار هذا المذهب بهذا الاختيار حديقة غنّاء تلتقي فيها أشكال الفقه الاِسلامي المختلفة، وأغراسه المتبائنة وجناه المختلف الاَلوان والطعوم، وإن كان ذلك نتيجة لفتح باب الاجتهاد فيه، فقد اختاروا باجتهادهم من المذاهب الاَُخرى ما يتفق مع منطق المذهب أو أُصوله، وأُصوله متحدة أو على الاَقل متقاربة مع جملة الاَُصول التي قررها فقهاء المسلمين» (2)

.

والحقيقة هي: أنّ المذهب الفقهي المعروف بالمذهب الزيدي في اليمن، نسبةً إلى الاِمام زيد أو المذهب الهادوي كما يروق للبعض اليوم أن يسميه وينسبه إلى الاِمام الهادي يحيى بن الحسين ولا فارق بين الاِمامين إلاّ في مسائل يسيرة جداً، نتيجة الاجتهاد المفتوح بابه في المذهب الزيدي حتى اليوم وإلى الاَبد إن شاء اللّه _ هذا المذهب لم يكن مذهب إمام معين، ولكنّه خلاصة أبحاث عميقة، ودراسات واسعة مختلفة في كل مجالات الفقه الاِسلامي العظيم، وجهود مضنية استمرت في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون، وقام بتلك الاَبحاث

____________

(1) أبو زهرة: الاِمام زيد: 331.

(2) أبو زهرة: الاِمام زيد: 488.

( 180 )

والدراسات أئمة أعلام من أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين، معتمدين في كل ذلك على المحكم من كتاب اللّه، والصحيح من سنّة رسول اللّه، وعلى القياس، والاِجماع، وأحياناً على الاستصحاب، والاستحسان، والمناسب المرسل _ المصالح المرسلة _ وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنّة إثباتاً أو نفياً كما سيأتي في موضعه إن شاء اللّه. وبسبب ذلك تصارع الاَئمة وأتباعهم أزماناً عديدة مع دسائس الملحدين وأفكار المندسين، كما تعاركوا مع جبابرة الاَهواء السياسية والاَحقاد العنصرية، جاعلين الاخلاص رائدهم، والحقّ مقصدهم، ورضوان اللّه غايتهم (1) .

ولعل حقيقة الحال تعلم من دراسة ما بقي منه من الآثار وأخص بالذكر ما طبعت وانتشرت منها فإنها مرآة ضمير الرجل، والمرء بآرائه وأفكاره.

____________

(1) علي بن عبد الكريم: الزيدية نظرية وتطبيق: 14.

الفصل التاسع هل دعا إلى نفسه

الفصل التاسع هل دعا إلى نفسه

أو دعا إلى الرضا من العترة

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين إمام الثورة والجهاد _ الذي يقابل الظالمين والغاصبين بالطرد والقتل، ويُعبِّدَ الطريق لصلحاء الاَُمّة في

المستقبل حتى يتفكروا في أمرهم بعد قمع الظالمين _ والاِمام الذي فرضتْ طاعته من قَبل إمّا بتنصيص من اللّه ورسوله أو بإتفاق من أهل الحل والعقد أو ما أشبه ذلك. وزيد الثائر لم يكن من قبيل الثاني، وإنّما كان إمام الثورة والجهاد. قام بأخذ الثأر والاَمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، وإزاحة الظلم وتدمير عرش الاَمويين، فهو بهذا المعنى كان إماماً لا شك فيه، وقد أطبقت الزيدية والاِمامية على كونه إماماً بهذا المعنى ومن نسب غير ذلك إلى الاِمامية فهو باهت كاذب إنّما الكلام في كونه الاِمام المنصوص عليه بلسان النبي الاَكرم وأوصيائه فلم يكن زيد إماماً بهذا المعنى ولا إماماً مختاراً من قبل الاَُمّة ولا ادّعاه هو ولا أحد من أتباعه ومقتفيه، والذي يوضح ذلك ما نص عليه الشيخ المفيد وهو من متكلمي الشيعة في القرن الرابع. روى تلميذه المرتضى:

قال: حضر المفيد مسجد الكوفة، فاجتمع إليه أكثر من خمسمائة فقال له

( 182 )

رجل من الزيدية _ أراد الفتنة_: بأي شيء استجزت إنكار إمامة زيد؟ فقال: ظننت عليّ باطلاً وقولي في زيد لا يخالفني فيه أحد من الزيدية. فقال: وما مذهبك فيه؟ قال: إنّي أُثبت من إمامة زيد ما تثبته، وأُنفي ما تنفيه وأقول كان إماماً في العلم والزهد والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنفي عنه الاِمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنصَّ والمعجزة، وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية، فلم يتمالك من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له وبطلت حيلة الرجل (1).

ولعل الجوّ السائد على مجلس المناظرة _ كما يظهر من كلام تلميذه الجليل السيد المرتضى _ لم يسمح للشيخ المفيد، أن ينفي حتى الشق الثاني وهو كونه إماماً مفترضة طاعت_ه باختيار

الاَُمّة.

نعم تضافرت الروايات على بيعة جماعة كثيرة معه لكن متعلق البيعة، هو الجهاد والنضال، وكونه أميره ورائده لا على الاِمامة بعد النجاح واكتساح الاَشواك.

نعم أنّ الطائفة الزيدية المتشكلة بعد رحيل الاِمام الثائر زعموا أنّه ادّعى الاِمامة لنفسه وكان الجهاد، لرفع الموانع عن طريق إمامته وحاكميته وقد اغترّوا بظواهر الاَمر، ولم يتدبروا في القرائن الحافة به.

وبذلك الزعم _ صارت الاِمامة عند الاِمامية غيرها عند الزيدية وذلك:

إنّ مفهوم الاِمامة لدى الشيعة الاِمامية غيرها لدى الزيدية، فالطائفة الاَُولى تشترط في الاِمام النص والعصمة والمعجزة وكونه أعلم الاَُمّة وأفضلها سواء أقام بالسيف أم لا، وإنّم_ا يتبع في القيام والجهاد مصالح الاَُمّة الاِسلامية فهي بين ما يفرض عليه القيام والجهاد أو يفرض عليه إرشاد الاَُمّة عن طريق آخر.

____________

(1) المرتضى: الفصول المختارة: 277.

( 183 )

وهذا بخلاف الاِمامة لدى الزيدية فلايشترط فيها ما ذكرنا، قال الشيخ المفيد: الاِمامة عَلَم على من دان بوجوب الاِمامة ووجودها في كل زمان، وأوجب النصَّ الجلي والعصمة والكمال لكل إمام، ثم حصر الاِمامة في ولد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ وساقها إلى الرضا علي بن موسى الرضا.

وأمّا الزيدية فهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب، والحسن والحسين وزيد بن علي _ عليهم السلام _، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة، ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (1) .

وقال ابن المرتضى: «فالزيدية منسوبة إلى زيد بن علي _ عليه السلام _ يجمع مذهبهم تفضيل علي _ عليه السلام _ وأولويته بالاِمامة وقصرها في البطنين، واستحقاقها بالفضل والطلب لا بالوراثة ووجوب الخروج على الجائرين (2).

والذي يعرب عن موقفه في الاِمامة ما جاء في خطبه وفيها هذه الجمل

التالية:

كلمات لزيد تعرب عن موقفه:

1 _ الحمد للّه الذي أكمل لي ديني بعد أن كنتُ استحيي من رسول اللّه أن أرِدَ عليه ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنه عن منكر(3)

2 _ واعلموا أنّه ماترك قوم الجهادَ قط إلاّ حُقِّروا وذلّوا(4)

____________

(1) المفيد: أوائل المقالات: 8.

(2) ابن المرتضى: البحر الزخار: 1|40 وسيوافيك تفصيل عقيدتهم في الاِمامة فانتظر.

(3) السياغي: الروض النضير: 1|102.

(4) المصدر نفسه.

( 184 )

3 _ أيّها الناس أعينوني على أنباط الشام فواللّه لايعينني عليهم منكم أحد إلاّ رجوت أن يأتيني يوم القيامة آمنا... (1).

ولاَجل ذلك تضافرت الروايات من طرقنا على أنّ زيداً ما دعا إلى نفسه وإنّما دعا إلى الرضا من آل محمّد، وأنّه لو ظفر لوفى، ومعنى هذه الروايات أنّه كان يمهّد الطريق لولاية الاِمام المنصوص عليه في لسان النبي والاَئمة الصادقين، وإليك بعض النصوص:

1 _ قال الصادق _ عليه السلام _: إنّ زيداً كان موَمناً وكان عارفاً وكان صدوقاً أما إنّه لو ظفر لوفى، أما إنّه لو ملك عرف كيف يضعها(2).

2 _ وقال _ عليه السلام _: إنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه، وإنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (3).

3 _ وقال الاِمام الرضا _ عليه السلام _ في جواب سوَال المأمون عن ادّعاء زيد ما لم يكن له بحق:

إنّ زيد بن علي لم يدعُ ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى للّه من ذلك أنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدعي أنّ اللّه نصَّ عليه ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم وكان زيد بن

علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية! "وجَاهِدُوا فِي اللّهِ حقّ جِهادِه" (4).

إنّ الاِمام الرضا _ عليه السلام _ نصَّ على موقف زيد من الاِمامة وهو أنّه كان

____________

(1) المصدر نفسه: 1|127 _ 128، والاَنباط: أخلاط الناس وعوامهم.

(2) الكليني: الكافي: الروضة الحديث 381.

(3) الكشي: الرجال: ترجمة السيد إسماعيل الحميري: برقم 144 ص 242.

(4) عيون أخبار الرضا، الباب 25، ص 249. وسيوافيك تفصيل المذاكرة بينهما ص 199 فلاحظ.

( 185 )

إمام الجهاد وقد جسّد قوله سبحانه: «وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده» (1)وأين هو من الاِمامة المنصوص عليها من جانب اللّه بلسان نبيه وأوصيائه السابقين أو الاِمام المختار من جانب الاَُمّة. ولو كان زيد يتظاهر بالاِمامة فإنّما كان لغاية كسح الاَشواك عن طريقها ثم تسليم الاَمر إلى الاِمام المنصوص.

إنّ هناك نكتة اجتماعية وهي أنّ زيداً قام موطّناً نفسه على الشهادة، ومستميتاً متيقناً بأنّه سوف يقتل ويستشهد، وقد سمع من أبيه وأخيه وابن أخيه أنّه سوف يقتل ويصلب في الكناسة، وأنّه لم يكن شاكاً ولامتردداً في هذا الاَمر ومن كان هذا مآله ومستقبله فهل يمكن أن يدّعي الاِمامة بالمعنى المعروف بين المتكلمين أي قيادة الاَُمّة في جوانب شتى إلى الصلاح والفلاح، فإنّ القيام بهذا الواجب فرع الحياة وهو كان على الطرف الخلاف من هذا، فلم يبق إلاّ أن يكون أميراً في الجهاد قائداً في النضال، وإن قصرت حياته، وقلّ بقاوَه.

اعترافه بإمامة الاِمام الصادق _ عليه السلام _ :

1 _ إنّ زيداً كان معترفاً بإمامة ابن أخيه جعفر الصادق _ عليه السلام _ بلا كلام، وكان يقول: من أراد الجهاد فإليّ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر (2).

2 _ روى الصدوق في الاَمالي: عن عمرو بن خالد: قال زيد بن علي

بن الحسين بن علي بن أبي طالب: في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه، حجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه(3).

____________

(1) سيأتي نصّ الاِمام: في ص 199 _ 200 في ضمن الرواية الثالثة عشرة.

(2) الخزاز القمي: كفاية الاَثر: ص 302.

(3) الصدوق: الاَمالي: 542 بحار الاَنوار: 46|173.

( 186 )

3 _ روى الكشي عن عمار الساباطي، قال: كان سليمان بن خالد خرج مع زيد بن علي، قال: فقال له رجل ونحن وقوف في ناحية وزيد واقف في ناحية: ماتقول في زيد أهو خير من جعفر؟ قال سليمان: قلت واللّه ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا، فحرّك رأسه وأتى زيداً وقصّ عليه القصة فمضيت فانتهيت إلى زيد وهو يقول: جعفر إمامنا في الحلال والحرام (1).

4 _ إنّ يحيى بن زيد سأل أباه عن الاَئمة، فقال: الاَئمة اثنا عشر، أربعة من الماضين وثمانية من الباقين فقلت: فسمّهم يا أبة. فقال: أمّا الماضون فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومن الباقين أخي الباقر وبعده جعفر الصادق ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهدي ابنه، فقلت له يا أبة: ألست منهم؟

قال: لا، ولكنّي من العترة، فقلت: فمن أين عرفت أساميهم؟ قال: عهد معهود عهده إلينا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _(2)

5 _ روى محمد بن مسلم: دخلت على زيد بن علي وقلت: إنّ قوماً يزعمون أنّك صاحب هذا الاَمر، قال: لا ولكنّي من العترة، قلت: فلمن يكون هذا الاَمر بعدكم؟ قال: سبعة من الخلفاء المهدي منهم.

قال محمد بن مسلم:

دخلت على الباقر محمد بن علي _ عليهما السلام _، فأخبرته بذلك فقال: صدق أخي زيد، سبيل هذا الاَمر بعدي سبعة من الاَوصياء والمهدي منهم، ثم بكى _ عليه السلام _ وقال: وكأنّي به وقد صُلِب في الكناسة. يابن مسلم حدّثني أبي عن أبيه الحسين: قال: وضع رسول اللّه يده على كتفي، قال:

____________

(1) الكشي: الرجال: ترجمة سليمان بن خالد برقم: 205 ص308.

(2) الخزاز: كفاية الاَثر: 300 وسيوافيك تذييل الخزاز بعد هذا الحديث، ورواياتها مسانيد، لا مراسيل اقتصرنا على نقل المتون روماً للاختصار.

( 187 )

ياحسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يُقتل مظلوماً إذا كان يوم القيامة حشر أصحابه إلى الجنة (1).

6 _ روى الخزاز عن عبد العلاء ... قلت: فأنت صاحب الاَمر؟ قال: لا ولكنّي من العترة، قلت: فإلى من تأمرنا؟ قال: عليك بصاحب الشعر وأشار إلى الصادق _ عليه السلام _ (2).

7 _ روى الخزاز قال: عن المتوكل بن هارون قال: لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه وهو متوجه إلى خراسان، فما رأيت رجلاً في عقله وفضله، فسألته عن أبيه _ عليه السلام _ فقال: إنّه قتل وصلب بالكناسة ثم بكى وبكيت حتى غشي عليه. فلما سكن قلت له: يا ابن رسول اللّه وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي وقد علم من أهل الكوفة ما علم؟ فقال: نعم لقد سألته عن ذلك فقال: سمعت أبي _ عليه السلام _ يحدّث عن أبيه الحسين بن علي _ عليهما السلام _ قال: وضع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يده على صلبي فقال: ياحسين يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد يقتل شهيداً إذا كان يوم القيامة يتخطّى هو وأصحابه

رقاب الناس ويدخل الجنّة، فأحببت أن أكون كما وصفني رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

ثم قال: رحم اللّه أبي زيداً، كان واللّه أحد المتعبّدين، قائم ليله، صائم نهاره يجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ حقّ جهاده. فقلت: يا ابن رسول اللّه هكذا يكون الاِمام بهذه الصفة. فقال: يا أبا عبد اللّه إنّ أبي لم يكن بإمام ولكن كان من سادات الكرام وزهادهم، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه، وقد جاء عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فيمن ادّعى الاِمامة كاذباً، فقال: مه يا أبا عبد اللّه إنّ أبي _ عليه السلام _ كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحقّ وإنّما قال: «أدعوكم إلى الرضا

____________

(1) الخزاز: كفاية الاَثر: 306.

(2) الخزاز: كفاية الاَثر: 307.

( 188 )

من آل محمد» عنى بذلك عمّي جعفر. قلت: فهو اليوم صاحب هذا الاَمر؟ قال: نعم هو أفقه بني هاشم.

ثم قال: يا أبا عبد اللّه إنّي أُخبرك عن أبي _ عليه السلام _ وزهده وعبادته، إنّه كان يصلّ_ي في نهاره ما شاء اللّه، فإذا جنّ عليه الليل نام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلّ_ي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرّع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر. فإذا طلع الفجر سجد سجدة. ثم يقوم يصلي الغداة إذا وضح الفجر، فإذا فرغ من صلاته قعد في التعقيب إلى أن يتعالى النهار، ثم يقوم في حاجته ساعة، فإذا قرب الزوال قعد في مصلاه فسبح اللّه تعالى ومجّده إلى وقت الصلاة، فإذا حان وقت الصلاة قام فصلى الاَُولى وجلس هنيئة وصلى العصر وقعد تعقيبه ساعة، ثم سجد سجدة

فإذا غابت الشمس صلى العشاء والعتمة. قلت: كان يصوم دهره؟ قال: لا ولكنه كان يصوم في السنة ثلاثة أشهر ويصوم في الشهر ثلاثة أيام. قلت: فكان يفتي الناس في معالم دينهم؟ قال: ما أذكر ذلك عنه. ثم أخرج إليّ صحيفة كاملة فيها أدعية علي بن الحسين _ عليهما السلام _ (1)

8 _ روى الخزاز في حديث طويل عن محمد بن بكير قال: دخلت على زيد بن علي وعنده صالح بن بشر فسلمت عليه وهو يريد الخروج إلى العراق فقلت له: يا بن رسول اللّه... هل عهد إليكم رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ متى يقوم قائمكم؟ قال: يا ابن بكير إنّك لن تلحقه، وإنّ هذا الاَمر تليه ستة من الاَوصياء بعد هذا ثم يجعل اللّه خروج قائمنا، فيملاَها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلما، فقلت: يا ابن رسول اللّه ألست صاحب هذا الاَمر؟ فقال: أنا من العترة، فعدت فعاد إليّ فقلت: هذا الذي تقول، عنك أو عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ فقال: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، لا ولكن عهد عهده إلينا رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ثم أنشأ يقول:

____________

(1) الخزاز: كفاية الاَثر: 303.

( 189 )

نحن سادات قريش * وقوام الحقّ فينا

نحن أنوار التي من * قبل كون الخلق كنّا

نحن منّا المصطفى المختار * والمهدي منّا

فبنا قد عرف اللّه * وبالحق أقمنا

سوف يصلاه سعيراً من * تولى اليوم عنّا (1)

9 _ روى ابن شهر آشوب قال: ونسب إلى زيد أنّه رثا الباقر _ عليه السلام _ بهذه الاَبيات:

ثوى باقر العلم في ملحد * إمامُ الورى طيب المولد

فمن لي سوى جعفر

بعده * إمام الورى الاَوحد الاَمجد

أيا جعفر الخير أنت الاِمام * وأنت المرجى لبلوى غد (2)

نصوص الاِمامية في تفسير خروجه:

نعم تفرقت الشيعة بعد استشهاده إلى فرقتين فرقة تقتفي زيد بن علي وتراه إماماً وفرقة أُخرى تقتفي الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وكان بينهما نقاشات وخلافات نشبت من الجهل بموقف زيد، ولو كان لهم علم به لما كان لهذا الانقسام وجه، وقد أوضحه أعلام الاِمامية في كتبهم وإليك بعض كلماتهم:

1 _ قال شيخنا المفيد في إرشاده وقال: واعتقد كثير من الشيعة فيه بالاِمامة وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو إلى الرضا من آل محمد

____________

(1) الخزاز: كفاية الاَثر: 297.

(2) ابن شهر آشوب: المناقب: 4|197 طبعة بيروت. وقد مرّت الاَشعار في الفصل الثالث أيضاً بمناسبة بيان خطبه وأشعاره.

( 190 )

فظنّوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها به لمعرفته باستحقاق أخيه _ عليه السلام _ للاِمامة من قبله ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد اللّه (1).

2 _ قال أبو القاسم القمي الخزاز _ بعد نقل كلام يحيى بن زيد _ الذي تعرفت عليه: فإن قال قائل: فزيد بن علي إذا سمع هذه الاَخبار وهذه الاَحاديث من الثقات المعصومين وآمن بها واعتقدها. فلماذا خرج بالسيف وادّعى الاِمامة لنفسه وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد وهو بالمحل الشريف الجليل، معروف بالستر والصلاح، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد، وهذا ما لا يفعله إلاّ معاند أو جاحد، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل؟

فأقول في ذلك وباللّه التوفيق: إنّ زيد بن علي بن الحسين _ عليهم السلام _ خرج على سبيل الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد _ عليهما السلام _، وإنّما

وقع الخلاف من جهة الناس، وذلك أنّ زيد بن علي _ عليه السلام _ لما خرج ولم يخرج جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ توهم من الشيعة أنّ امتناع جعفر كان للمخالفة وإنّما كان لضرب من التدبير، فلمّا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا: ليس الاِمام من جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره وإنّما الاِمام من خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة، وأمّا جعفر وزيد _ عليهما السلام _ فما كان بينهما خلاف.

والدليل على صحة قولنا قول زيد بن علي _ عليه السلام _: «من أراد الجهاد فإليّ ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر» ولو ادّعى الاِمامة لنفسه لم ينف كمال العلم عن نفسه إذ الاِمام يكون أعلم من الرعية، ومن المشهور قول جعفر _ عليه السلام _ «رحم اللّه عمي زيداً لو ظفر لوفاه إنّما دعا إلى الرضا من آل محمد وأنا الرضا»(2).

____________

(1) الاِرشاد: 268، طبعة النجف الاَشرف.

(2) الخزاز القمي: كفاية الاَثر: 301 _ 302.

( 191 )

3 _ قال شيخنا المجلسي: إعلم أنّ الاَخبار اختلفت وتعارضت في أحوال زيد وأضرابه كما عرفت لكن الاَخبار الدالة على جلالة زيد ومدحه، وعدم كونه مدعياً لغير الحقّ أكثر، وقد حكم أكثر الاَصحاب بعلو شأنّه (1).

وقال أيضاً: «وكان يدعو إلى الرضا من آل محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأنّه كان عازماً على أنّه إن غلب على الاَمر فوضه إلى أفضلهم وإليه ذهب أكثر أصحابنا ولم أر في كلامهم غيره (2).

4 _ وقال الزنوزي في رياض الجنّة: إنّ زيد بن علي كان دائماً في فكر الانتقام والاَخذ بثأر جده الحسين _ عليه السلام _ ومن

هذه الجهة توهم بعضهم أنّه ادّعى الاِمامة وهذا الظن خطأ لاَنّه كان عارفاً برتبة أخيه وكان حاضراً في وقت وصية أبيه ووضع أخيه في مكانه وكان متيقناً أنّ الاِمامة لاَخيه وبعده للصادق _ عليه السلام _ (3).

5 _ وعن السيد الجليل بهاء الدين علي بن عبد الحميد النبلي النجفي رضوان اللّه عليه في كتابه الاَنوار المضيئة أنّه قال: زعم طوائف ممن لا رشد لهم أنّ زيد بن علي بن الحسين _ عليهم السلام _ خرج يدعو لنفسه وقد افتروا عليه الكذب، وبهتوه بما لم يدّعه لاَنّه كان عين إخوته بعد أبي جعفر _ عليه السلام _ وأفضلهم ورعاً وفقهاً وسخاءً وشجاعة وعلماً وزهداً وكان يُدعى حليف القرآن وحيث إنّه خرج بالسيف ودعا إلى الرضا من آل محمد زعم كثير من الناس لا سيما جهال أهل الكوفة هذا الزعم، وتوهموا أنّه دعا إلى نفسه ولم يكن يريدها له لمعرفته باستحقاق أخيه الاِمامة من قبله وابن أخيه لوصية أخيه إليه بها من بعده _ إلى أن قال: _ وقد انتشرت الزيدية فكثروا وهم الآن طوائف كثيرة في كل صقع أكثرهم باليمن ومكة وكيلان (4).

____________

(1) المجلسي: البحار: 46|205 ومرآة العقول: 1|261.

(2) المجلسي: البحار: 46|205 ومرآة العقول: 1|261.

(3) السيد الاَمين: زيد الشهيد: 35، نقلاً عن رياض الجنّة وهي بعد مخطوطة.

(4) المصدر نفسه: 35 _ 36.

( 192 )

6 _ وقال السيد صدر الدين: « لو لم يظهر الصادق _ عليه السلام _ عدم الرضا بخروجه، ويصوب أصحابه في معارضتهم وإسكاتهم إياه، ولم يجب بالاِبهام والاعجام عند السوَال عن خروجه، لكان في ذلك نقض الغرض والتعريض بهلاك الاِمام (1) .

7 _ قال السيد علي خان المشعشعي الحويزي في كلام له: «ولا

ريب أنّ قصده ونيته إن استقام له الاَمر إرجاع الحقّ إلى أهله ويدلّ على ذلك رضاهم عنه، وإنّما لم يمنعه أبو عبد اللّه الصادق _ عليه السلام _ من الخروج مع علمه بأنّ هذا الاَمر لا يتم له وأنّه يقتل لاَنّهم _ عليهم السلام _ يعلمون ما يقع بهم وبذريتهم، وماقدر لهم لاَنّ عندهم علم ما كان وما يكون، وكان يعلم أن لا مفر مما قدر فلا وجه للمنع (2)

اً .

8 _ وقال المحقق المامقاني: « إنّما ادعى الاِمامة ليتبعوه فيستنقذ الحقّ من المتغلبين، ثم يسلمه إلى أهله والظاهر أنّ هذا هو الضرب من التدبير الذي أشار إليه العياشي في كتابه مقتضب الاَثر(3)

لما كانت الروايات المروية عن زيد على قسمين، قسم ورد التصريح فيه بأسماء الاَئمه الاثني عشر كالرواية الرابعة وقسم أجمل فيه الكلام، كسائر الروايات التالية، علّق عليها السيّد عبد الرزاق المقرم بما يلي:

9 وقال السيّد المقرّم: وهذه الاَحاديث وإن لم تصرح بأسماء الاَئمة الذين يلون الخلافة من عترة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لكن تفيدنا القطع ببراءته

____________

(1) السيد صدر الدين بن الفقيه السيد محمد العاملي في تعليقته على ترجمة زيد من منتهى المقال وهي مخطوطة. لاحظ زيد الشهيد للسيد المقرم: 87.

(2) الحويزي: نكت البيان: كما في وقائع الاَيام لشيخنا الخياباني قسم الصيام: 44.

(3) المامقاني: تنقيح المق_ال: 1|469 _ 470. ما نقله من كت_اب مقتضب الاَثر للعياشي فإنّما هو الخزاز في كتابه: كفاية الاَثر، وليس في الكتاب الاَوّل عين ولا أثر ممّا نقله.

( 193 )

من تلك الدعاوى الفارغة من كل حقيقة، وأنّه طاهر الضمير، قابل لاِيداع أسرار الاِمامة فيه ومع ملاحظة رواية ابنه يحيى (الرابعة) يتضح المراد مما أجمل في هذه

الاَحاديث.

ولو أعرضنا عن جميع ذلك لاَفادنا اعترافه باستحقاق الصادق _ عليه السلام _ للخلافة بعد الباقر _ عليه السلام _ وأنّه الحجّة التي لايضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه، سلوكه المحجّة البيضاء والطريق اللاحب في الاِمامة. وهل يقع الشك في اعترافه بإمامة الصادق _ عليه السلام _ وهو يقول لعبد اللّه بن أبي العلاء (الرواية السادسة) وقد قال له: «أنت صاحب هذا الاَمر، قال: لا ولكنّي من العترة _ قال له: _ فإلى من تأمرني، قال: عليك بصاحب الشعر».

روى الكشي عن سورة بن كليب قال: قال لي زيد بن علي: ياسورة كيف علمتم أن أصاحبكم على ما تذكرونه؟

قال: قلت على الخبير سقطت. قال فقال: هات! فقلت له: كنّا نأتي أخاك محمد بن علي _ عليه السلام _ نسأله فيقول: قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه حتى مضى أخوك فأتيناكم وأنت فيمن أتينا، فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه، حتى أتينا ابن أخيك جعفراً فقال لنا كلما قال أبوه قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقال تعالى، فتبسّم وقال: أما واللّه إنّ قلت بذا فانّ كتب علي صلوات اللّه عليه عنده(1)

ثم إنّ السيد المقرم _ بعد المناقشة في دلالة أو سند الروايات الذامّة ونقدها نقداً علمياً _ يقول: «من جميع ما مر فقد تجلّ_ى الحقّ، وانكشف بطلان دعواه الاِمامة لنفسه عن جد وعقيدة، وما هي إلاّ أساطير لفقهاء دعاة الباطل للحطّ من كرامة تلك الذات الطاهرة بغضاً وعدواناً، وإن تكن تلك الدعاوى، فإنّما الغرض منها استنقاذه الحقّ من أيدي المتغلبين عليه، ولاة الجور وأرباب الباطل وإعادته

____________

(1) الكشي: الرجال: ترجمة

سورة بن كليب برقم 240.

( 194 )

إلى أهله كما يفصح عنه قول الصادق _ عليه السلام _: «كان زيد عالماً وصدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه» وهذا من أهم الوسائل إلى استحصال الحقّ المغصوب، وإعادة سلطان العدل إلى أهله، ولو أعلن الدعوة للاِمام الصادق _ كما يريده ضعيف النظر، قاصر البصيرة، لرأيت هناك الاَضرار البالغة التي تلحق الاِمام من أئمة الجور "تَكادُ السَّمواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الاََرْضُ وَتَخرُّ الجِبال"(1).

____________

(1) السيد المقرم: زيد الشهيد: 63 و 86.

( 195 )

الفصل العاشرموقف أئمة أهل البيت

الفصل العاشرموقف أئمة أهل البيت

من خروج زيد وجهاده

إنَّ موقف أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ من خروج ثائرهم، كان إيجابياً، لا سلبياً وكانوا يرون أنّ خروجه ونضاله، مطابق للكتاب والسنّة، بمعنى أنّ الخروج حين ذاك لم يكن تكليفاً إلزامياً على الاِمام ولا على غيره، ولكنه لو خرج مسلم لاِزالة الطغاة عن منصّة الحكم، وتبديد هياكل الفساد والظلم، من دون أن يدعو إلى نفسه، كان على المسلمين عونه ومناصرته، وإجابة دعوته.

وكان خروج زيد على هذا الخط الذي رسمناه وهذا ما يستفاد من الروايات المستفيضة، وإليك بعض ما وقفنا عليه:

1_ لمّا بلغ قت_ل زيد إلى الاِمام الص_ادق _ عليه السلام _ قال: «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، عند اللّه أحتسب عمي إنّه كان نعم العم. إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا، مضى واللّه عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه وعلي والحسين صلوات اللّه عليهم» (1).

____________

(1) الصدوق: عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ : 1|252 ح6، الباب 25.

( 196 )

2 _ وقال أيضاً في حديث: «إنّ الباكي على زيد فمعه في الجنّة، فإمّا الشامت فشريك

في دمه» (1)

3 _ وقال الشيخ المفيد: لما قتل زيد بلغ ذلك من أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ كل مبلغ، وحزن له حزناً عظيماً حتى بان عليه وفرّق من ماله في عيال من أُصيب معه من أصحابه ألف دينار . روى ذلك أبو خالد الواسطي قال: سلّم إليَّ أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ ألف دينار أمرني أن أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد، فأصاب عيال عبد اللّه بن الزبير أخي فضيل الرسان أربعة دنانير (2).

4 _ روى ابن سيابة قال: دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ ألف دينار وأمرني ان أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد بن علي _ عليه السلام _ فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن الزبير أخا فضيل الرسّان أربعة دنانير(3).

5 _ روى الصدوق عن عبد اللّه بن سيابة أنّه أتى رسول بس_ام الصيرفي بكتاب فيه: أمّا بعد، فإنّ زيد بن علي قد خرج يوم الاَربعاء غرة صفر، ومكث الاَربعاء والخميس وقتل يوم الجمعة، وقتل معه فلان وفلان، فدخلنا على الصادق _ عليه السلام _ فدفعنا إليه الكتاب، فقرأه وبكى، ثم قال: «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. عند اللّه أحتسب عمي، إنّه نعم العم، إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ...» إلى آخر ما مر في الحديث الاَوّل (4).

6 _ روى ابن شهر آشوب بلغ الصادق _ عليه السلام _ قول الحكيم بن عباس الكلبي:

____________

(1) بحار الاَنوار: 46|193 ح 63.

(2) المفيد: الاِرشاد: 269، الباب 175، حياة الاِمام علي بن الحسين، لاحظ الحديث العاشر أيضاً.

(3) الصدوق: عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _ : 1|249، بحار الاَنوار: 46|170.

(4) الصدوق: عيون أخبار

الرضا _ عليه السلام _ : 1|249؛ الباب 25.

( 197 )

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة * ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

وقستم بعثمان علياً سفاهة * وعثمان خير من علي وأطيب

فرفع الصادق _ عليه السلام _ يديه إلى السماء وهما يرعشان. فقال: «اللهم إن كان عبدُك كاذباً فسلط عليه كلبك»، فبعثه بنو أُمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها افترسه الاَسد واتصل خبره بجعفر _ عليه السلام _، فخر للّه ساجداً، ثم قال: «الحمد للّه الذي أنجزنا وعده» (1).

7_ روى الصدوق في معاني الاَخبار، قال: كنّا عند أبي عبد اللّه فذكر زيد، ومن خرج معه، فهمَّ بعض أصحاب المجلس أن يتناوله، فانتهره أبو عبد اللّه، وقال: «مهلاً ليس لكم أن تدخلوا فيما بيننا إلاّ بسبيل خير، إنّه لم تمت نفس منّا إلاّ وتدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق الناقة» قلت: وما فواق الناقة؟ قال: «حلابها» (2) .

8 _ روى الحلبي: قال قال أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «إنّ آل أبي سفيان: قتلوا الحسين بن علي _ صلوات اللّه عليه _ فنزع اللّه ملكهم، وقتل هشام زيد بن علي فنزع اللّه ملكه، وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع اللّه ملكه» (3).

9_ روى الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: انتهيت إلى زيد بن علي صبيحة يوم خرج بالكوفة، فسمتعه يقول: من يعينني منكم على قتال أنباط أهل الشام؟ فو الذي بعث محمداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالحقّ بشيراً ونذيراً لا يعينني على قتالهم منكم إلاّ أخذت بيده يوم القيامة، فأدخلته الجنّة بإذن اللّه تعالى، فلمّا قتل _ رضي اللّه عنه _ اكتريت راحلة وتوجهت نحو المدينة فدخلت

____________

(1)

المناقب: 3|360، بحار الاَنوار: 46|192.

(2) معاني الاَخبار: 392، بحار الاَنوار: 46|179.

(3) الصدوق: ثواب الاَعمال وعقابها: 198، بحار الاَنوار: 46|182.

( 198 )

على أبي عبد اللّه فقلت في نفسي واللّه لا أخبرته بقتل زيد فيجزع عليه، فلما دخلت عليه قال: «ما فعل بعمي زيد ؟!» فخنقتني العبرة، فقال: «قتلوه؟» قلت: أي واللّه قتلوه، قال: «فصلبوه؟» قلت: أي واللّه فصلبوه، فأقبل يبكي ودموعه تنحدر من جانب خده كأنّها الجمان ثم قال: «يافضيل شهدت مع عمي زيد قتال أهل الشام؟» قلت: نعم، قال: «فكم قتلتَ منهم ؟» قلت: ستة، قال: «فلعلك شاك في دمائهم؟» فقلت: لو كنت شاكاً في دمائهم ماقتلتهم، فسمتعه يقول: «أشركني اللّه في تلك الدماء، مضى واللّه عمي وأصحابه مثل مامضى عليه علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ وأصحابه» (1).

10 _ وروى الص_دوق عن حمزة بن حمران ق_ال: دخلت على الصادق _ عليه السلام _ فقال لي: «يا حمزة من أين أقبلت؟» فقلت: من الكوفة، فبكى حتى بلّت دموعه لحيته!فقلت له: يا بن رسول اللّه! مالك أكثرت من البكاء؟ فقال: «ذكرت عمي زيد وماصنع به فبكيت» فقلت له: وما الذي ذكرت منه؟ قال: مقتله وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكب عليه وقال له: أبشر يا أبتاه! فإنّك ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين _ عليهم السلام _ قال: أجل يابنيّ! ثم دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها ودفن وأُجري عليه الماء، وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر _ لعنه اللّه _ من الغد، فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف وصلبه في الكناسة أربع

سنين، ثم أمر به فأُحرق بالنار وذري في الرياح، فلعن اللّه قاتله وخاذله، وإلى اللّه جل اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته، وبه نستعين على عدونا وهو خير مستعان (2).

____________

(1) عيون أخبار الرضا _ عليه السلام _: 1|253.

(2) أم_الي الص_دوق: 321، المجل_س: 62 ح3؛ وأم_الي الطوس_ي: 2|48؛ والمجل_سي: البح_ار: 46|172.

( 199 )

11 _ قال الصادق _ عليه السلام _ لاَبي ولاّد الكاهلي: «رأيت عمي زيداً؟» قال: نعم رأيته مصلوباً، ورأيت الناس بين شامت وبين محزون محترق، فقال: «أمّا الباكي فمعه في الجنّة وأمّا الشامت فشريك في دمه» (1).

12 _ روى الراوندي عن الحسن بن راشد قال: ذكرت زيد بن علي فتنقَّصته عند أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ فقال: «لاتفعل، رحم اللّه عمي أتى أبي، فقال: إنّي أُريد الخروج على هذا الطاغية. فقال: لاتفعل، فإنّي أخاف أن تكون المقتول المصلوب على ظهر الكوفة _ إلى أن قال الاِمام _ عليه السلام _ للحسن: _ ياحسن إنّا أهل بيت لا يخرج أحدنا من الدنيا حتى يقرّ لكل ذي فضل فضله» (2).

13_ روى الصدوق عن أبي عبدون عن أبيه قال: لمّا حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون، وكان قد خرج بالبصرة، وأحرق دور ولد العباس، ووهب المأمون جرمه لاَخيه علي بن موسى الرضا _ عليه السلام _ وقال له: لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج من قبله زيد بن علي فقتل ولولا مكانتك لقتلته فليس ما أتاه بصغير! فقال: _ عليه السلام _ له:

«لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنّه كان من علماء آل محمد _ عليهم السلام _ غضب له، فجاهد أعداءه حتى قتل في

سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنّه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم اللّه عمي زيداً إنّه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، ولقد استشارني في خروجه فقلت له: ياعم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك، فلما ولي قال جعفر بن محمد _ عليه السلام _: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه».

فقال المأمون: أليس قد جاء في من ادّعى الاِمامة بغير حقها ما

____________

(1) الاَربلي: كشف الغمة: 2|442.

(2) الخرائج والجرائح: 232، البحار: 46|185.

( 200 )

جاء؟ فقال: _ عليه السلام _: «إنّ زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق، وإنّه كان أتقى من ذلك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد _ عليهم السلام _ إنّما جاء ما جاء في من يدّعي أنّ اللّه نصَّ عليه، ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم، وكان زيد بن علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية:

"وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتَباكُم" » (1).

14 _ روى الشيخ الطوسي عن مهزم بن أبي بردة الاَسدي قال: دخلت المدينة حِدثان صلب زيد _ رضي اللّه عنه _ فدخلت على أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ فساعة رآني قال: «يامهزم ما فعل بزيد؟» قال: قلت: صلب، قال: « أين؟» قال: قلت: في كناسة بني أسد، قال: « أنت رأيته مصلوباً في كناسة بني أسد؟» قال: قلت: نعم، قال: فبكى حتى بكت النساء خلف الستور ثم قال: «أما واللّه لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه بعد» قال فجعلت أُفكر وأقول أي شيءٍ طلَبتهم بعد القتل والصلب؟ قال: فودعته وانصرفت حتى انتهيت الكناسة، فإذا أنا بجماعة

فأشرفت عليهم، فإذا زيد قد أنزلوه من خشبته يريدون أن يحرقوه قال قلت: هذه الطلبة التي قال لي (2).

15 _ روى الكليني عن سليمان بن خالد قال: قال لي أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «كيف صنعتم بعمي زيد؟» قلت: إنّهم كانوا يحرسونه فلما شفّ الناس أخذنا خشبته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجدوه فأحرقوه فقال: «أفلا أوقرتموه حديداً وألقيتموه في الفرات _ صلى اللّه عليه _» ولعن قاتله (3).

____________

(1) الصدوق: عيون الاَخبار: 1|249، الباب 25.

(2) الطوسي: الاَمالي: 682.

(3) الكليني: الكافي: 8|161.

( 201 )

16 _ روى الكليني عن الحسن بن الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ أذن في هلاك بني أُمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أيام» (1) .

17 _ روى أيض_اً عن أب_ي هاش_م الجعفري ق_ال: س_أل_ت الرضا عن المصلوب؟ فقال: «أما علمت أنّ جدي صلّ_ى على عمه»(2).

18 _ روى الكش_ي في ترجمة السي_د الحميري عن فضيل الرسان، قال: دخلت على أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ بعد ماقتل زيد بن علي _ عليه السلام _ فادخلت بيتاً في جوف بيت، وقال لي: «يا فضيل، قتل عمي زيد بن علي؟» قلت: نعم جعلت فداك، فقال: «رحمه اللّه، أما إنّه كان موَمناً وكان عارفاً وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما إنّه لو ظفر لوفى، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها، قلت: ياسيدي ألا أُنشدك شعراً؟ قال: «أمهل» ثم أمر بستور فسدلت، وبأبواب فتحت، ثم قال: «أنشد» فأ نشدته:

لاَُمّ عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامها بلقع (3)

هذه نماذج مما ورد عن أئمة أهل البيت حول جهاد زيد واستشهاده، ولو

ضمت إليها ما ورد عنهم من المدائح حال حياته وقبل ميلاده، مما تقدم لما بقي شك في أنّ ثائر أهل البيت كان رجلاً مثالياً متقياً، عادلاً، مخالفاً لهواه، لايهمه سوى تجسيد الاِسلام بين الورى، وتبديد هياكل الظلم والطغيان.

يقول السيد المق_رم _ بعد نق_ل الاَحاديث المادح_ة _: «على ض_وء ه_ذه

____________

(1) الكليني: الكافي: 8|161.

(2) الكليني: الكافي: 3|215.

(3) الكشي: الرجال: 242 برقم 133، وذكر قسماً من عينية السيد الحميري المعروفة.

( 202 )

الاَحاديث الكريمة نعرف من الحقيقة أنصعَها ويتجلّ_ى من أعماق الاَصداف لوَلوَها، وانّ تلك الشخصية الشامخة على سبب وثيق من معادن الحقّ، وذات كرامة قدسية تهبط من الملاَ الاَعلى، وأنّ الاَئمة الهداة يتفألون من غرة تلك النهضة الهاشمية أن يعود الحقّ إلى نصابه، وهي القوة التي تتحطم بها هياكل الباطل وتعقد عليها الآمال، وهي التي أظهرت مظلومية الاَئمة، ومثّلت للملاَ أحقيتهم بالخلافة، من غيرهم ذوي الاَطماع وأرباب الشهوات، وانكشف لنا بكل وضوح امتثاله أمر الاِمام في نقض دعائم الاِلحاد وتبديد جيش الظلم والباطل، وتفريق جماهير الشرك وأحزاب الضلال، وعبدة المطامع والاَهواء، خصوصاً إذا قرأنا قول الباقر _ عليه السلام _: «ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه» وقول الصادق _ عليه السلام _: «إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه» وقوله: «أشركني اللّه في تلك الدماء» وقوله عندما سئل عن مبايعته: «بايعوه» وقوله: «خرج على ما خرج عليه آباوَه» وقوله: «برىَ اللّه ممن تبرّأ من عمي زيد». فإنّ هذه الاَحاديث تدلنا على أنّه لم يقصد إلاّ إصلاح أُمّة جده _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولم يدع إلاّ إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

وهناك جملة أُخرى من الاَحاديث حكت لنا مقايسة الاِمام _ عليه السلام _ شهادة زيد بالشهداء

الذين استشهدوا مع النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وعلي والحسين _ عليهما السلام _ وقد استشهد هنالك رجال كانت لهم منازل عالية ومقامات رفيعة يغبطهم عليها جميع الشهداء، وقد نال زيد بذلك التشبيه والمقايسة تلك المراتب العاليه وحاز ذلك الشرف الباهر، فحقيق إذاً إذا قال الباقر _ عليه السلام _ في دعائه: «اللهم أُشدد أزري بزيد»، وقال النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «يأتي زيد وأصحابه يوم القيامة يتخطّون رقاب الناس غُرّاً محجلين يدخلون الجنّة بغير حساب، وكانوا فرحين مسرورين بما أُوتي لهم من النعيم الدائم» (1).

____________

(1) المقرم: زيد الشهيد: 59.

الفصل الحادي عشر الخط الثوري

الفصل الحادي عشر الخط الثوري

المدعَم من قبل أئمة أهل البيت

كان الاِمام الصادق _ عليه السلام _ يعيش في جو مفعم بالمراقبة والملاحقة من جانب الحكومة الاَموية وكانت عيون النظام ترصده عن كثب وترفع تقارير عن حياته اليومية إلى العاصمة، ولاَجل ذلك كان الاِمام يتجنب عن التظاهر بأية ثورة ضد النظام إذ نتيجة ذلك هو إلقاء القبض على الاِمام، وإنهاء حياته، وإطفاء نور الاِمامة والقضاء على الجامعة العلمية التي أسسها الاِمام في عاصمة الاِسلام وربّى في حجره وحضنه مئات المفسرين والمحدثين وقد أعاد بذلك، السنّة النبوية والاَحكام الشرعية إلى الساحة الاِسلامية بعد اندراسها، كما فعل أبوه الاِمام الباقر _ عليه السلام _ كذلك، وفي القضاء على حياته أو الحيلولة بينه وبين الاَُمّة خسارة كبرى لا تجبر بشهادته.

ومن جانب آخر، كان خروج زيد الثائر مورد الرغبة من الاِمام فكيف لا يرضى بذلك وهو يثير المسلمين ضد النظام ويحرضهم على تقويضه وقلبه، وهي خطوة كبرى للمنية العظيمة.

( 204 )

وبملاحظة هذين الاَمرين يعلم أنّه لم يكن للاِمام بد من الاِبهام في الكلام بشكل

تفهم البطانة موقفه من استشهاده ويتحيّر الاَجانب فيه، وهذا هو السبب لوجود الاِبهام والاِعجام في كلامه.

ففي موقف يبكي على عمّه ويسيل دموعه على خديه، وتبكي من كانت وراء الستار من الهاشميات، يُعرِّف عمّه شهيداً ويعرّف الشهداء في موكبه كالشهداء الذين أراقوا دماءهم مع رسول اللّه وعلي والحسين _ عليهم السلام _ وربما يزيد على ذلك ويقول: «إنّ الباكي على زيد معه في الجنّة والشامت له شريك في دمه» إلى غير ذلك من الاِطراء والثناء على عمّه والذين استشهدوا في طريقه(1) .

وفي موقف آخر يتظاهر بالابتعاد عن خروج زيد واستشهاده، فكل من يرد عليه من الكوفة يسأله عن عمه ويكرر السوَال، وكأنّه لم يكن مطلعاً عما جرى عليه من المصائب، كل ذلك كان ضرباً من التدبير للاِمام _ عليه السلام _ فأي رضى أولى من دعائه على الحكيم بن عباس الذي أنشأ شعراً في حقّ زيد، وقال:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة * ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

فرفع الصادق _ عليه السلام _ يديه إلى السماء وهما ترتعشان، وقال: «اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلبك» (2).

إنّ بقاء الاِسلام رهن دعامتين:

الاَُولى: التعليم والتربية وتثقيف الاَُمّة ووعيها وتعليم الكتاب والسنة وغير ذلك مما يرجع إلى الثقافة الاِسلامية العامة.

الثانية: إصلاح المجتمع والحفاظ على البيئة وتفويض الاَمر إلى صلحاء

____________

(1) أُنظر إلى الروايات الواردة تحت «عنوان موقف الاَئمة من استشهاده» في هذا الجزء.

(2) مضى مصدره في ص 197، الرواية السادسة، فراجع.

( 205 )

الاَُمّة الذين عليهم تجسيد الاِسلام في الساحة الاجتماعية ولايتم ذلك إلاّ بالكفاح ضدَّ الظالمين وإبادتهم وتسليم الاَمر إلى صلحاء الاَُمّة.

وكانت المصالح الزمنية تفرض الاَمر الاَوّل على عاتق الاِمام الصادق _ عليه السلام _ إذ كان هو

عالم الاَُمّة وراعيها، والواقف بأسرار الكتاب والسنّة، ولولاهما لما قامت هذه الدعامة وسقطت يومذاك، وأمّا الدعامة الثانية فكان على عاتق زيد الثاثر، والثائرون بعده على خط الاِمام زيد كيحيى بن زيد، وعيسى بن زيد، والحسين بن زيد، ومحمد بن زيد (دون الحسنيّين الذين ثاروا في عصر العباسيين) وكانوا هم القائمون بهذه الفريضة فكيف يمكن للاِمام أن يُخطّئهم من صميم ذاته لذلك يرى أنّه يصف الزيدية، وقاء، ويقول لاَصحابه: كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنّه لا يصبكم أمر تخصون به أبداً ولا تزال الزيدية لكم وقاءً أبدا(1).

إنّ بعض المتحمسين من الشبان في عصر الاِمام الصادق _ عليه السلام _ كانوا يفرضون عليه أن يودع زيداً عند الوفود إلى العراق، ويدعو له ويتظاهر بدعم نضاله وجهاده وعندما بلغه استشهاده، يعلن الحداد العام ويجلس في بيته للعزاء وما أشبه ذلك، لكن كانت هذه أفكاراً فوضوية تختمر في صدور أُناس لم يكن لهم إلمام بالظروف المحدقة بالاِمام، فما قام به الاِمام من السير بين الخطين كان هو الموَمّن لحياته، ونضاله العلمي وخدماته المشكورة ولم يكن القضاء على حياة الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وجامعته العلمية عند الخلفاء أشد من القضاء على حياة زيد الثائر.

وفي نهاية المطاف نقول: لم يكن قيام زيد وخروجه أقل قيمة من خروج المختار الثائر، نرى أنّ الاِمام علي بن الحسين وعمه محمد بن الحنفية والهاشميات يخرجون من حدادهم على الاِمام الحسين _ عليه السلام _ عندما

____________

(1) الكليني: الكافي: 2|باب التقية، الحديث13.

( 206 )

بعث المختار بروَوس الخونة وقتلة الاِمام الحسين _ عليه السلام _ حتى أنّ الاِمام السجاد _ عليه السلام _ يخر ساجداً ويعد عمل المختار مشكوراً، فأين المختار من زيد الثائر وإن كان عمل

الجميع مشكوراً.

ومع أنّ الاِمام الصادق _ عليه السلام _ قام بمواقف مشكورة في عيال زيد، ومن أُصيب معه، ولكن لما كان المتطرفون غير راضين بهذا الحد، وكانوا يطلبون من الاِمام نضالاً باهراً مثل زيد، فقاموا بوجه الاِمام _ عليه السلام _ في مواقف عديدة لم تكن محمودة، ولو نرى في بعض الاَحاديث أنّ الاِمام يتبرّأ من الزيدية فإنّما تبرّأ من المتطرفين غير العارفين بالمواقف الصحيحة في تلك الاَيام الخطيرة لا من زيد الثائر، ولا المستشهدين بين يديه ولا المقتفين أثره بعد استشهاده، عارفين بواجباتهم وواجبات أئمة أهل البيت، وبذلك تقدر على فهم الروايات الواردة في ذم بعض الزيدية فليس الذم راجعاً إلى زيد الطاهر، ولا إلى المقتفين أثره في ميدان النضال، ولا إلى مجيبيه بل راجع إلى المتطرفين المنتمين إليه، وكان هو _ قدّس اللّه سرّه _ بريئاً عنهم. فلنذكر بعضها إيقافاً للقارىء بمفادها:

1 _ عن عمر بن يزيد قال: سألته عن الصدقة على النصَّاب وعلى الزيدية؟ فقال: «لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من استطعت» وقال: « الزيدية هم النصاب» (1).

2 _ قد كان من المعروف أنّ الاِمام من كان عنده سلاح رسول اللّه ومتاعه وكان ذلك كلّه عند الاِمام الصادق _ عليه السلام _ كما سنذكر، وقد كان ذلك الاَمر ثقيلاً على بعض الزيدية، فكانوا يحاجون الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وينكرون وجود السلاح ومتاع رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عنده ويقولون: إنّه عند عبد اللّه بن الحسن المثنى.

____________

(1) الحر العاملي: وسائل الشيعة: 6| كتاب الزكاة، الباب 5 من أبواب المستحقين، الحديث5، لاحظ التهذيب: 4|54، الحديث12.

( 207 )

روى الكليني عن سعيد السمان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه

_ عليه السلام _ إذ دخل عليه رجلان من الزيدية، فقالا له: أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال: فقال: «لا » (1)، قال: فقالا له: قد أخبرنا عنك الثقات إنك تفتي، وتقر وتقول به (بأنّ فيكم إماماً مفترض الطاعة) ونسمّيهم لك فلان وفلان وهم أصحاب ورع وتشمير وهم ممّن لا يكذب، فغضب أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ فقال: «ما أمرتهم بهذا» (بوجود إمام مفترض الطاعة) فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا، فقال لي: «أتعرف هذين؟» قلت: نعم هما من أهل سوقنا، وهما من الزيدية، وهما يزعمان أنّ سيف رسول اللّه عند عبد اللّه بن الحسن، فقال: «كذبا لعنهما اللّه واللّه ما رآه عبد اللّه بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ولا رآه أبوه. اللّهم إلاّ أن يكون رآه عند علي بن الحسين _ عليه السلام _ ...» (2).

ترى أنّ موقف الرجلين أمام الاِمام الصادق _ عليه السلام _ هو موقف أخذ الاِقرار منه بإمامة زيد ومن بعده وتكذيب إمامته وقيادته وأنّه ليس عنده سلاح رسول اللّه ولا متاعه فلم يكن بد من الاِمام _ عليه السلام _ من التعرض عليهم.

والذي يدلّ على ذلك ما رواه الكليني عن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين _ عليه السلام _ عن أبي جعفر _ عليه السلام _ قال: لما حضر علي بن الحسين الوفاة قبل ذلك أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده قال: يا محمد احمل هذا الصندوق. قال: فحمل بين أربعة فلما توفي جاء إخوته يدعون [ما] في الصندوق، فقالوا: أعطنا نصيباً من الصندوق، فقال: واللّه مالكم فيه شيء، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليّ، فكان في الصندوق سلاح رسول

اللّه وكتبه (3).

____________

(1) قاله _ عليه السلام _ تقية أو تورية اتّقاء شرهما.

(2) الكليني: الكافي: 1|232 _ 233، كتاب الحجّة، باب ما عند الاَئمة من سلاح رسول اللّه ومتاعه.

(3) الكافي: 1|305، كتاب الحجّة، باب الاِشارة والنص على أبي جعفر _ عليه السلام _ ، الحديث1.

( 208 )

وفي رواية أُخرى: التفت علي بن الحسين إلى ولده وهو في الموت وهم مجتمعون عنده، ثم التفت إلى محمد بن علي، فقال: «يامحمد هذا الصندوق، اذهب به إلى بيتك، قال: أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكن كان مملوءاً علماً»(1).

3 _ روى الكليني عن عبد اللّه بن المغيرة قال: قلت لاَبي الحسن _ عليه السلام _: إنّ لي جارين أحدهما ناصب، والآخر زيدي ولابد من معاشرتهما فمن أُعاشر ؟ فقال: «هما سيّان، من كذَّب بآية من آيات اللّه فقد نبذ الاِسلام وراء ظهره، وهو المكذب بجميع القرآن والاَنبياء والمرسلين» قال: ثم قال: « إنَّ هذا نصب لكم، وهذا الزيدي نصب لنا» (2).

فكما أنّ المتشابه من الآيات تردّ على المحكمات وتستوضح بها، فهكذا الخبر المتشابه يفسر بالمحكم منه، فأين استرحامه لعمه وبكاءه عليه، ودعاءه على شاعر السوء، من هذه التعرضات والنقاشات، فتحمل الطائفة الثانية، على المتطرفين غير العارفين بمقام الاِمام الصادق _ عليه السلام _ مضافاً إلى أنّ في مضمونهما من القرائن المثبتة. فلاحظ.

الخط الثوري الثابت لاَئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ :

كان لزيد عند الاِمام الصادق _ عليه السلام _، حساب خاص لا يعدل به إلى غيره، ويفضّله على الهاشميين ويتلقاه عالماً صدوقاً، غير متجاوزٍ عن طريق الحقّ وكان يعلن على أصحابه، أنّه لو ظفر لوفى بما نوى ودعا إليه، ولاَجل ذلك ليس من البعيد أن

يقال إنّه كان مأذوناً من قبل الاِمام سراً كما نقله شيخنا المجلسي (3)

____________

(1) الكليني: الكافي: 1|305، كتاب الحجّة، باب الاِش_ارة والن_ص على أبي جعفر _ عليه السلام _، الحديث 2.

(2) الكليني: الكافي: 8|235، برقم 314.

(3) المجلسي: مرآة العقول: 1|261.

( 209 )

ويكفي في المقام ما يرويه الكليني: عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ : «فانظروا على أي شيء تخرجون ولاتقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد _ عليهم السلام _ ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم، إلى الرضا من آل محمد _ عليهم السلام _ فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم» (1).

ولم يكن له ذلك الموقف مع الحسنيّين الذين خرجوا، بعد زيد وابنه يحيى، وصاروا أئمة للزيدية للفرق الواضح بين زيد وابنه، وبين بني عبد اللّه بن الحسن، أعني:

1 _ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية خرج بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة من سنة خمسة وأربعين ومائة وقتل في شهر رمضان تلك السنة قتله أبو جعفر المنصور.

2 _ إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، خرج بالبصرة وقتل هناك في نفس السنة التي قتل فيها أخوه محمد بن عبد اللّه، وأُخذ رأسه وحمل إلى أبي جعفر المنصور ودفن بباخمرى.

وسيوافيك ترجمتهم في القسم الثاني من الكتاب.

والذي يعرب عن ذلك ما رواه أبو الفرج في كتابه عن عبد اللّه بن محمد بن علي، قال: إنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالاَبواء

وفيهم:

1 _ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

2 _ وأبو جعفر المنصور.

____________

(1) الكليني: الكافي: 8|264، برقم 381.

( 210 )

3 _ وصالح بن علي.

4 _ وعبد اللّه (1)بن الحسن بن الحسن بن علي.

5 _ ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.

6 _ وإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.

7 _ ومحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان.

فقال صالح بن علي: قد علمتم أنّكم الذين تمد الناس أعينهم إليهم، وقد جمعكم اللّه في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم، تعطونه إياها من أنفسكم وتوافقوا على ذلك، حتى يفتح اللّه وهو خير الفاتحين.

فحمد اللّه عبد اللّه بن الحسن وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلم لنبايعه.

وقال أبو جعفر: لاَيّ شيء تخدعون أنفسكم، واللّه لقد علمتم ما الناس إلى أحدٍ أصور (2) أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى، يريد به محمد بن عبد اللّه (3)، قالوا: قد واللّه صدقت، إنّ هذا الذي نعلم، فبايعوا محمداً جميعاً ومسحوا على يده.

قال عيسى (4) : وجاء رسول عبد اللّه بن الحسن إلى أبي: أن أئتنا، فإنّا مجتمعون لاَمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد _ عليه السلام _.

وقال غير عيسى: إنّ عبد اللّه بن الحسن قال لمن حضر: لاتريدوا جعفراً

____________

(1) وعبد اللّه بن الحسن كان أكبر سناً من الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وكان من مواليد عام سبعين من الهجرة.

(2) أصور: بمعنى (أميل) كما في مكان آخر من مقاتل الطالبيين ص 257 وفي الاِرشاد (أطول) .

(3) أُنظر إلى هذا الخداع السياسي والنفاق المبطن فيصوره المنصور في هذا المجلس بما سمعت، ثم بعد تصدّره

منصّة الحكم يقتله.

(4) عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي.

( 211 )

فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم.

قال عيسى بن عبد اللّه بن محمد: فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له؟ فجئتهم فإذا بمحمد بن عبد اللّه يصلي على طنفسة رجل مثنية فقلت لهم: أرسلني أبي إليكم أسألكم لاَيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد ابن عبد اللّه.

قال: وجاء جعفر بن محمد _ عليه السلام _، فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه.

فقال جعفر _ عليه السلام _: «لاتفعلوا فإنّ هذا الاَمر لم يأت بعد، إن كنت ترى _ يعني عبد اللّه _ أنّ ابنك هذا هو المهدي فليس به، ولا هذا أوانه، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنّا واللّه لاندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الاَمر» (1).

فغضب عبد اللّه بن الحسن، وقال: لقد علمتُ خلاف ما تقول، [واللّه ما أطلعك على غيبه] ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.

فقال: «واللّه ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم» وضرب بيده على ظهر أبي العباس (2)، ثم ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن، وقال: «إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لهم، وإن ابنيك لمقتولان». ثم نهض فتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: أرأيت صاحب الرداء الاَصفر _ يعني أبا جعفر _؟ فقال له: نعم، قال: قال: «إنّا واللّه نجده يقتله» قال له عبد العزيز: أيقتل محمداً؟ قال: «نعم»، فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة، ثم قال: واللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.

____________

(1) بما أنّه أمير الجهاد، لا إمام الفقه

والاجتهاد ولا الاِمام المفترض الطاعة.

(2) إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

( 212 )

قال: فلمّا قال جعفر _ عليه السلام _ ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد اللّه أتقول هذا؟ قال: «نعم أقوله واللّه وأعلمه»(1).

قال أبو الفرج: وحدثني علي بن العباس المقانعي قال: أخبرنا بكار بن أحمد قال: حدثنا الحسن بن الحسين، عن عنبسة بن نجاد العابد قال: كان جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ إذا رأى محمد بن عبد اللّه بن الحسن تغرغرت عيناه ثم يقول: «بنفسي هو، إنّ الناس ليقولون فيه، وإنّه لمقتول، ليس هو في كتاب علي _ عليه السلام _ من خلفاء هذه الاَُمّة» (2).

والاِمعان في هذه الرواية يعرب عن أمرين:

الاَوّل: أنّ محمد بن عبد اللّه اتّخذ موقفاً غير موقف زيد بن علي، حيث إنّ عبد اللّه بن الحسن يريد أن يصف، ابنه بأنّه هو المهدي الموعود كما قال: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه ولم يردّه ابنه وكأنّه قبله.

فيردعه الاِمام بقوله: «إنّ ابنك هذا ليس هو المهدي ولا أخاه».

ولكنّه رافقهم إذا خرجوا مثلما خرج زيد وقال مخاطباً أباه: «وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا واللّه لا ندعك وأنت شيخنا، ونبايع ابنك في هذا الاَمر».

ولما كان كلام الاِمام مخالفاً لما يهواه عبد اللّه غضب عليه وقال: واللّه ما أطلعك على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.

ورغم هذا الموقف الجافي كيف يمكن للاِمام _ عليه السلام _ أن يرافقهم،

____________

(1) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 206.

(2) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 208، الاِرشاد: 294.

( 213 )

ويوَيدهم، ويساندهم، ولكنّه في نهاية المجلس تنبأ بما وجده

في الكتب الموروثة، أنّ محمد بن عبد اللّه وأخاه يقتلان ويكون الرابح هو أبو جعفر المنصور صاحب الرداء الاَصفر، وقد وقع ما وقع، ورآه الناس حسب ما أخبر به الاِمام.

وبذلك يعرف مفاد الاَحاديث التي ترفض عمل الزيدية في العصور اللاحقة لحركة زيد فلا يرفض زيداً، ولا ابنه يحيى ولاثورته ونضاله، وإنّما يرفض أتباعه في العصور بعد استشهاده حيث كانوا يعاندون أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ ونذكر منها ما يلي:

1 _ روى الشيخ الطوسي عن عبد الملك أنّه قال لاَبي عبد اللّه: قلت: فإنّ الزيدية تقول ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ أنّه لا يرى الجهاد، فقال: «إنّي لا أرى!! بلى واللّه إنّي لا أراه ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم» (1).

2 _ روى الكليني عن عبد الملك بن أعين قال لاَبي عبد اللّه _ عليه السلام _: إنّ الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد اللّه (2)فهل له سلطان؟ فقال: «واللّه إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وملك يملك الاَرض لا واللّه ما محمد بن عبد اللّه في واحد منهما» (3)وبذلك يعلم مفاد سائر الاَحاديث (4)فلاحظ.

وحصيلة البحث أنّ الخط الرائج لاَئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ بالنسبة للثورات والانتفاضات التي تحققت على يد الحسينيين والحسنيين إنّما كان هو خط العدل والاقتصاد.

____________

(1) الكليني: الكافي: 5|19، باب من يجب عليه الجهاد: الحديث 1، 2.

(2) محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية من أئمة الزيدية.

(3) الكليني: الكافي: 1|242 باب ذكر الصحيفة، رقم 7.

(4) لاحظ الكافي: 7|376، كتاب الديات باب فيما فيه نصاب من البهائم، الحديث17.

( 214 )

فلو كان الحافز عند الثائر هو الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

والاِنكار على الظلم والعدوان، وتخليص المجتمع الاِسلامي من الفساد والدمار فالاِمام الصادق _ عليه السلام _ ومن بعده كانوا يوَيدون ذلك العمل، ويكون الثائر حينئذ مأذوناً من قبل الاِمام وتأخذ الثورة لنفسها صفة المشروعية.

وأمّا إذا كان الحافز عند الثائر إلى الثورة هو دعوة الناس إلى إمامة نفسه، وادّعاء الخلافة عن رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وإنّه _ والعياذ باللّه _ المهدي الموعود فلا يكون هناك أيّ مبرر لموافقتهم ومساندتهم.

( 215 )

الفصل الثاني عشر موقف علماء الشيعة

الفصل الثاني عشر موقف علماء الشيعة

من جلالة ووثاقة زيد الشهيد

إنّ موقف علماء الشيعة الاِمامية نفس موقف النبي وعترته الطاهرة _ عليهم السلام _ وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ كلماتهم في حقه:

1 _ قال المفيد: كان عين إخوته بعد أبي جعفر _ عليه السلام _ وأفضلهم، وكان ورعاً، عابداً فقيهاً، سخياً، شجاعاً، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويطلب بثارات الحسين _ عليه السلام _ (1).

2 _ وقال النسابة أبو الحسن علي بن محمد العمري: كان زيد أحد سادات بني هاشم فضلاً وفهماً خرج أيام هشام الاَحول ابن عبد اللّه (2)فقتل وصلب ست سنين، وقيل أُحرق وذري في الفرات _ لعن اللّه ظالميه _ (3).

3 _ وقال الطبرسي: إنّ زيداً كان من علماء آل محمد، غضب للّه فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله (4).

____________

(1) الاِرشاد: 268، ط النجف.

(2) والظاهر عبد الملك.

(3) المجدي في الاَنساب: 1|156.

(4) أُنظر: رياض العلماء: 2|338.

( 216 )

4 _ وقال ابن داود: زيد بن علي بن الحسين قتل سنة إحدى وعشرين ومائة، وله اثنتان وأربعون سنة شهد له الصادق _ عليه السلام _ بالوفاء وترحم له(1).

5 _ قال الشهيد الاَوّل في القواعد: وجاز أن يكون

خروجهم بإذن إمامٍ واجب الطاعة كخروج زيد بن علي _ عليه السلام _ وغيره من بني علي _ عليه السلام _ (2) .

6 _ قال الشيخ عبد اللّه الاَفندي التبريزي: السيد الجليل الشهيد أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين، إمام الزيدية وكان سيداً كبيراً عظيماً في أهله وعند شيعة أبيه، ولكن اختلفت الاَخبار وتعارضت الآثار بل كلام العلماء الاَخيار أيضاً في مدحه وقدحه، والروايات في فضله كثيرة، وقد ألّف جماعة من متأخري علماء الشيعة ومتقدميهم كتباً عديدة مقصورة على ذكر فضائله كما يظهر من مطاوي كتب الرجال ومن غيرها أيضاً.

ومن المتأخرين ميرزا محمد الاسترآبادي فله رسالة في أحوال زيد بن علي. هذا وأورد فيه كلام المفيد في الاِرشاد بتمامه، ونقل فيها أيضاً ما رواه الطبرسي في أعلام الورى، وما رواه ابن طاووس في ربيع الشيعة ونحوهما، وبالجملة فقد أورد فيها روايات كثيرة في مدحه.

قال بعض أفاضل السادات المعاصرين ضوعف قدره في أوائل شرح الصحيفة: هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ أُمّه أُمّ ولد كان جمّ الفضائل عظيم المناقب، وكان يقال له: حليف القرآن. روى أبو نصر البخاري عن أبي الجارود، قال: قدمت المدينة، فجعلت كلّما سألت عن زيد بن علي. قيل لي: ذلك حليف القرآن. ذاك أُسطوانة المسجد من كثرة صلاته.

____________

(1) ابن داود: الرجال: 1|10 (ذكره في القسم الاَوّل الذي خصّه بالموثوقين بخلاف القسم الثاني فقد خصّه بالمجروحين والمهملين).

(2) القواعد: 2|207 (ضمن القاعدة: 221) .

( 217 )

وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في آخر رسالته المعمولة في إثبات وجود القائم _ عليه السلام _: الآن أيضاً إنّا معشر الاِمامية لا نقول في زيداً _

رضي اللّه عنه _ إلاّ خيراً وكان جعفر الصادق _ عليه السلام _ قد قال لاَصحابه: «إنّ زيداً يتخطّى يوم القيامة أهل المحشر حتى يدخل الجنّة» والروايات عن أئمتنا في هذا المعنى كثيرة(1).

7 _ قال الكاظمي: اتّفق علماء الاِسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله، وقد روي في ذلك أخبار كثيرة حتى عقد ابن بابويه في العيون باباً لذلك(2).

8 _ قال المحدّث النوري: وأمّا زيد بن علي فهو عندنا جليل القدر عظيم الشأن، كبير المنزلة، وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول على التقية(3).

9 _ قال المحقّق المامقاني: إنّي أعتبر زيداً ثقة وأخباره صحاحاً اصطلاحاً بعد كون خروجه بإذن الصادق _ عليه السلام _ لمقصد عقلائي عظيم وهو مطالبة حقّ الاِمامة إتماماً للحجّة وقطعاً لعذرهم بعدم مطالب له وقول جمع فيه بالاِمامة بتسويل الشيطان مع نفيه إياها من نفسه، وإثباته إياها لابن أخيه الصادق لا يزري فيه كعدم إزراء نسبة القائلين بإمامته إليه أحكاماً فقهية مخالفة للحق(4)

10 _ وقال المحقّق الخوئي: وقد استفاضت الروايات غير ما ذكرناه في مدح زيد وجلالته وأنّه طلب بخروجه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر _ إلى أن قال: _ وإنّ استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في أسنادها (5).

____________

(1) رياض العلماء وحياض الفضلاء: 2|318، وقد ترجم زيد بن علي ترجمة وافية، طالع هذا الجزء ص 318 _ 352.

(2) راجع تكملة الرجال: 352، تنقيح المقال: 1|467.

(3) المستدرك: 3|599.

(4) تنقيح المقال: 1|469، 470.

(5) معجم رجال الحديث: 7|347 _ 349.

( 218 )

ثم إنّه أفرد غير واحد من أعلام الاِمامية تأليفاً في زيد وفضله ومآثره، فمنهم:

1 _ إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي (م 283 ه_) له كتاب أخبار زيد.

2 _ محمد بن

زكريا مولى بني غلاب (م 298 ه_) له أخبار زيد.

3 _ عبد العزيز بن يحيى الجلودي (م 368ه_) له أخبار زيد.

4 _ محمد بن عبد اللّه الشيباني (م 372ه_) له كتاب فضائل زيد.

5 _ الشيخ الصدوق أبو جعفر القمي (م 381ه_) له كتاب في أخباره.

6 _ ميرزا محم_د الاستراب_ادي صاحب الرج_ال الكبير (م 1028ه_) ل_ه رسالة في أحوال زيد.

7 _ السيد محسن الاَمين العاملي أحد كبار علماء الاِمامية في القرن الرابع عشر (م 1373ه_) له كتاب أبو الحسين زيد الشهيد وقد طبع في الشام.

8 _ السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم، له كتاب زيد الشهيد وفي ذيله كتاب تنزيه المختار، وقد طبع عام 1355ه_.

هذه كلمات علماء الشيعة الاِمامية في حقّ زيد وليس هناك من الشيعة الاِمامية من يبغضه أو يذمّه ولو ورد فيه روايات ذم فإنّما هي مطروحة أو موَوّلة لاتعادل ماتواترت عليه من الروايات الدالة على وثاقته، وجلالة قدره فمن أراد رمي الشيعة الاِمامية بغير هذا فهو كذاب يُعدُّ من رماة القول على عواهنه.

نعم بعدما خرج زيد، وجاهد وناضل وقتل وصلب وأُحرق اتّخذه أعداء الشيعة ذريعة للطعن على إمام الوقت جعفر الصادق _ عليه السلام _ وتوهم بعض الشيعة أنّ الاِمام من قام ونهض وجاهد، دون غيره وهذا لا صلة له بزيد الثائر.

وبذلك تقف على قيمة كلام رجلين يُعدّان من رماة القول على عواهنه:

أحدهما: أحمد بن تيمية في كتاب «منهاج السنّة».

ثانيهما: الآلوسي البغدادي.

( 219 )

قال ابن تيمية: إنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه، وشهدوا عليه بالكفر والفسوق (1).

وقال الآلوسي: الرافضة مثلهم كمثل اليهود، الرافضة يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة _ رضي اللّه عنها _ بل يسبونهم كزيد بن علي(2).

أقول: إنّ الرافضة

_ حسب تسمية الآلوسي _ يقتفون أثر أئمتهم في كل صغيرة وكبيرة، فإذا كان هذا موقف أئمتهم فكيف يمكن للشيعة التخطّي عنه، والعجب أنّ الكاتبين كتبا ماكتبا ولم يرجعا إلى معاجم الرجال للشيعة وقد أطبقت معاجمهم على تزكيته وترفيع مقامه وتبجيله بكل كلمة.

* * *

بين أُباة الضيم وحماة الذل :

لم أجد أحداً ممن كتب عن زيد، وكفاحه وجهاده الرسالي الذي عرف به، من القدامى والجدد من يغمطه حقه ويزدري به، ويتكلم فيه بهمز أو لمز، غير الكاتب السلفي: الشيخ شمس الدين الذهبي، ومع أنّه يصف زيداً بأنّه كان أحد العلماء والصلحاء، لكنّه يصف جهاده سقطة وزلّة يقول في موضع من كتبه: «بدت منه هفوة فاستشهد، فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته» (3)وفي كتاب آخر: «خرج متأوّلاً، قتل شهيداً وليته لم يخرج» (4).

____________

(1) ابن تيمية: منهاج السنة: 2|126.

(2) السنة والشيعة: 52.

(3) تاريخ الاِسلام: حوادث (121 _ 141ه_) ص 105. انظر إلى التناقض في كلامه إذ لو كان خروجه زلّة فكيف صار سبباً لرفع درجته في الآخرة.

(4) سير أعلام النبلاء: 5|391.

( 220 )

أقول: ما ذكره شنشنة أعرفها من كل سلفي يرى الجهاد والكفاح على الظلم والعدوان، أمراً محرّماً، والحياة مع الظالمين ومهادنتهم أمراً مشروعاً وسعادة، فهم حماة الذلّ، ودعاة الهوان، وأين هم من أُباة الظلم والضيم.

ومن أُصول الطائفة الاَُولى: الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم، من عدل أو جور، ولا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا (1)وماذكره على طرف الخلاف مع ما حدّثه السبط الشهيد عن جده رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وذلك عندما اقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد اللّه ابن زياد لاِكراه

الحسين على إعطاء البيعة ليزيد، وإرساله قهراً إلى الكوفة، فعند ذلك قام الاِمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحُرّ بقوله: أيّها الناس إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «من رآى سلطاناً جائراً مستحلاً حُرَمَ اللّه ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يُدخله مدخله، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله...» (2).

كيف يكون جهاده هفوة، مع أنّ الرسول الاَعظم تنبّأ به وأثنى عليه عندما نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال: المظلوم من أهل بيتي، سميّ هذا، المقتول في اللّه، المصلوب من أُمتي سميّ هذا، ثم قال: ادنُ منّي يازيد _ زادك اللّه حباً عندي _ بإنّك سميّ الحبيب من ولدي (3).وقد بكى الوصي وأبكى، أفيصح العزاء والبكاء على السقطة والزلة.

____________

(1) أبو الحسين الملطي: التنبيه والرد: 15.

(2) الطبري: التاريخ: 4|304.

(3) أخرجه السيوطي في الجامع الكبير كما في الروض النضير: 1|108.

( 221 )

وما أحسن قول أخي الاَوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا مانوى حقاً وجاهد مسلما

و واسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم * كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما(1)

ما عشت أراك الدهر عجبا :

لا أظنّ من قرأ صحائف حياة الملك الاَموي «هشام بن عبد الملك» يشك في أنّه كان دموياً سفّاكاً، لا يرى لدم الاِنسان أيّة قيمة إذا ظنّ ولو واحداً بالمائة، إنّه يريد

خلافه، وقتل زيد وصلبه وإبقاء جثمانه الطاهر على الخشبة أربع أو ست سنوات، ثم حرقه ونسفه وذروه في الرياح والمياه، دليل واضح على أنّ الرجل بلغ في القسوة غايتها.

ومع ذلك كله ترى أنّ ابن سعد جاء في الطبقات ما يضيق به الاِنسان ذرعاً يقول: أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا سحبل بن محمد قال: ما رأيت أحداً من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشدّ عليه من هشام بن عبد الملك وقد دخله من مقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد أمر شديد وقال: وددت أنّي كنت افتديتهما.

ثم ينقل عن أبي الزناد: ما كان فيهم أحد أكره إليه الدماء من هشام بن عبد الملك ولقد ثقل عليه خروج زيد بن علي، فما كان شيء حتى أتى برأسه، وصلب بدنه بالكوفة. ولي ذلك يوسف بن عمر في خلافة هشام بن عبد الملك (2).

أقول: نعم ولي ذلك يوسف بن عمر لكن بأمر منه حتى أنّ عامله في الكوفة

____________

(1) المفيد: الاِرشاد: 225.

(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى: 5|326.

( 222 )

والحيرة كان غافلاً عمّا يجري فيها من وثوب الناس على زيد ومبايعتهم له، إلى أن كشف عنه هشام، وأمره بما أمره.

روى أبو الفرج قال: لما قتل زيد رثاه الكميت بقصيدة هجا فيها بني أُمية يقول فيها:

فيا ربّ هل إلاّ بك النصر يُبتغى * وياربّ هل إلاّ عليك المعول

وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي، والحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها هشام بن عبد الملك أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يُقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده، فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره فأُخذ وحبس في المخيّس... (1).

يقول ابن العماد الحنبلي في حوادث سنة 125:

وفيها مات في

ربيع الآخر، الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الاَموي، وكانت خلافته عشرين سنة إلاّ شهراً، وكانت داره عند الخواصين بدمشق فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال. عاش أربعاً وخمسين سنة، وكان أبيض سميناً أحول، سديداً حسن الكلام، شكس الاَخلاق، شديد الجمع للمال قليل البذل، وكان حازماً متيقّ_ظاً لايغيب عنه شيء من أمر ملكه، قال المسعودي: كان هشام أحول، فظّاً، غليظاً، يجمع الاَموال ويعمّر الاَرض، ويستجيد الخيل، وأقام الحلبة. اجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لاَحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب، ولامتها، واصطنع الرجال، وقوّى الثغور واتّخذ القنى، والبرك بمكة وغير ذلك من الآبار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية، وفي أيامه عمل الحرز فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه، ومنعوا ما في أيديهم فقلّ الاِفضال وانقطع

____________

(1) الاَغاني: 17|4.

( 223 )

الرفد ولم ير زمان أصعب من زمانه.

ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماوَه فطافوا به وفيه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون ويقولون: بارك اللّه لاَمير الموَمنين فقال: وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه ثم قال: أُدع قيّمه فدُعي به فقال له: أقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل أحد منه شيئاً، وكان أخوه مسلمة مازحه قبل أن يلي الاَمر فقال له: ياهشام أتوَمل الخلافة وأنت جبان بخيل قال: أي واللّه العليم الحليم.

ومن نوادره ما روي أنّه تمادى في الصيد فوقع على غلام فأمر ببعض الاَمر!!فأبى الغلام وأغلظ له في القول وقال له: لا قرب اللّه دارك ولا حيّا مزارك _ في قصة طويلة

فيها _ أنّه أمر بقتله وقرب له نطع الدم فأنشأ الغلام يقول:

نبئت أنّ الباز علّق مرّة * عصفور برّ ساقه المقدور

فتكلّم العصفور في أظفاره * والباز منهمك عليه يطير

ما فيّ ما يغني لبطنك شبعة * ولئن أكلت فإنّني لحقير

فتعجّب الباز المدل بنفسه * عجباً وأفلت ذلك العصفور

فضحك هشام وقال: يا غلام أحش فاه دراً وجواهر (1).

أقول: إذا كان هذا أكره الخلفاء للدماء وأشدهم عليه فمن هو أحرصهم عليها وعلى إراقتها، وكأنّي بشاعر المعرة يخاطب ابن سعد صاحب الطبقات ومن لفّ لفّه ويقول:

إذا وصف الطائي بالبخل مادر * وعيّر قساً بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت خفية * وقال الدجى للصبح لونك حائل

وطاولت الاَرض، السماء ترفعاً * وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فياموتُ زُر إنّ الحياة ذميمةويانفس جدي، إنّ دهرك هازلا

____________

(1) عماد الدين الحنبلي: شذرات الذهب: 162 _ 164.

الفصل الثالث عشر الثورات الناجمة عن ثورة

الفصل الثالث عشر الثورات الناجمة عن ثورة

الاِمام الحسين

_ عليه السلام _

1 _ ثورة أهل المدينة ومأساة الحرة.

2 _ ثورة عبد اللّه بن الزبير في مكة المكرّمة أيام خلافة يزيد وبعدها.

3 _ ثورة التوابين المستميتين في الكوفة.

4 _ ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي.

5 _ ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث أيام عبد الملك.

( 226 )

أُباة الضيم وأخبارهم

قال ابن أبي الحديد:

سيد أهل الاِباء الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف، اختياراً له على الدنيّة، أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب _ عليهما السلام _ عُرِض عليه الاَمان، فأنِفَ من الذلّ، وخاف من ابن زياد أن ينالَه بنوعٍ من الهوان؛ إن لم يقتُله، فاختار الموت على ذلك (1)

الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين _ عليه السلام _ :

أرى أنّ اللازم قبل كل شيء تبيين جذور ثورة الاِمام

زيد، وما دفعه إلى الخروج وهل كان هناك حافز نفساني دفعه إلى القيام واكتساح الاَشواك عن طريق الخلافة التي كان يتبنّاها، أو كان هناك دافع خارجي يحضّه ويشوّقه إلى قبض الخلافة والزعامة، أو لا هذا ولا ذاك بل كان مستلهماً من ثورة جده الاِمام الحسين _ عليه السلام _ وكانت ثورته استمراراً لثورته، تلك الثورة التي أنارة الدرب لكل من يطلب الحقّ ويضحي في سبيله.

إنّ ثورة الحسين _ عليه السلام _ منذ تفجرها صارت أُسوة وقدوة للمضطهدين على وجه البسيطة، والمعذبين تحت نير الطغاة، وعلى المعانين من حكومات الجور والتعسف في الاَوساط الاِسلامية وانحراف الدول والحكومات عن خط العدل والاقتصاد.

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3|249.

( 227 )

وقد لمس الثائرون أنّ ثورة الحسين _ عليه السلام _ كانت ثورة مبدئية إلهية، لاَجل صيانة الدين عن التحريف والمجتمع عن الانحراف والاعتساف، فلاَجل إيقاف القارىَ على مبادىَ ثورته وغاياتها نذكر الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام الحسين _ عليه السلام _ إلى الثورة والتضحية بشيخه، وكهله، وطفله الرضيع، حتى يتبين عمق الثورة وملامحها وآثارها. سلام اللّه عليه وعلى الثائرين المتأثرين التابعين لخطه.

الخصومة بين الحسين _ عليه السلام _ والحاكم الاَموي كانت مبدئية :

كانت الخصومة بين الهاشميين والاَمويين قائمة على قدم وساق منذ عصور قبل الاِسلام، وكانت الخصومة عند ذاك تتسم بالقبلية وإن كان العداء السائد يتغذى من أُمور تمت إلى المعنوية والمثالية بصلة، حيث إنّ الهاشمي كان عنوان الفضل والفضيلة ومثالاً للتقى على عكس ما كان أُمية وبنوه عليه، فكانوا منغمرين في الانهيار الخلقي، والانكباب على المادة والماديات وقد ألّف الموَرخ الشهير المقريزي كتاباً خاصاً أسماه ب_ «النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم» نقتطف شيئاً

قليلاً منه، حتى يتبيّن أنّ التخاصم في ذلك العصر وإن كان متسماً بالنزاع القبلي ولكنه كان مبنياً على تمتع بني هاشم بنفسيات كريمة وروحيات طيبة حيث كانوا رافلين في حلل الفضائل والفواضل على جانب الخلاف مما كانت عليه بنو أُمية.

مناشدة هاشم وأُمية :

نافر أُمية هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق، تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الحمق وكان منزله بعسفان وخرج مع أُمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث

( 228 )

بن فهر ابن مالك الفهري، فقال الكاهن: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر وما اهتدى بعَلَم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أُمية إلى المآثر أوّل منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر».

فأخذ هاشم الاِبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أُمية إلى الشام فأقام به عشر سنين فكان هذا أوّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أُمية، ولم يك_ن أُمية في نفسه هناك وإنّما يرفعه أبوه وبنوه وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار، ويدلّ على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أُمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدامه عليه وقال:

أبوك معاهر وأبوه عفّ * وذاد الفيل عن بلد ح_رام

وذلك أنّ أُمية كان يعرض لامرأة من بني زهرة، فضربه رجل منهم، ضربة بالسيف وأراد بنو أُمية ومن تابعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن العدي السهمي وكانوا أخواله... (1)

جاء نبي الاِسلام بدين سمح قد شطب على جميع ما كان في الجاهلية من أحقاد وضغائن، وقال في خطبة حجّة الوداع: ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية

تحت قدمي موضوع» (2).

وبعد حروب ومعارك دامية قتلت فيها أبطال قريش وصناديدهم، كما استشهد لفيف من المهاجرين والاَنصار، دخل بنو أُمية في حظيرة الاِسلام متظاهرين به ولكن مبطنين الكفر والنفاق شأن كل حزب منهزم أمام تيّار جارف، فكانوا ينتهزون الفرص ليقضوا على الاِسلام باسم الاِسلام، وعلى العدل والتقى

____________

(1) النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم: 20 _ 21.

(2) الصدوق: الخصال: 487.

( 229 )

باسم الخلافة عن رسول اللّه وقد ظهرت بوادر ذلك في مجلس الخليفة عثمان بن عفان عندما بويع من جانب شورى سداسية أشبه بمسرحية سياسية حيث دخل عثمان بيته ومعه بنو أُمية، جالسين حوله، يتبجحون بإناخة جمل الخلافة على بابهم، وقد تلقاها رئيس القبيلة أبو سفيان إنّها إمرة سياسية أو سلطة بشرية وصلت إليهم، وإنّه كان كذلك في عصر الخليفتين السابقين وحتى الرسول الاَكرم وأنّه لم تكن هناك أية إمرة إلهية وخلافة دينية وليس هناك جنّة ولانار.

يقول أبو بكر الجوهري: إنّ أبا سفيان، قال لما بويع عثمان: كان هذا الاَمر في تيم، وأنّى لتيم هذا الاَمر. ثم صار إلى عدي فأبعد وأبعد، ثم رجعت إلى منازلها، واستقر الاَمر قراره، فتلقفوها تلقف الكرة.

وقال أيضاً: إنّ أبا سفيان قال لعثمان: بأبي أنت. أنفق ولا تكن كأبي حجر، وتُداولوها يابني أُمية تداول الولدان الكرة، فواللّه ما من جنةولا نار، وكان الزبير حاضراً، فقال عثمان لاَبي سفيان: أُغرب، فقال: يابني أهاهنا أحدٌ؟ قال الزبير: نعم واللّه لا كتمتها عليك (1)

أسّس عثمان حكومة أموية بحتة عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة فولاها الوليد بن عقبة وكان أخاً لعثمان من أُمّه، كما أنّه عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر عام 27ه_، واستعمل عليه عبد اللّه بن سعد

بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة، وهو ابن خال عثمان، وأبقى معاوية على ولايته على الشام ولما كثرت الشكوى على عامله بالكوفة: الوليد بن عقبة، عزله فولى مكانه سعيد بن العاص، حتى قيل إنّ سبعاً وخمسين من ولاته وعماله الكبار كانوا من بني أُمية (2)

إنّ هذه الحوادث المريرة وأضعافها التي حفظها التاريخ وجئنا بقليل منها

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج: 2|45 نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

(2) لاحظ: الدينوري: الاَخبار الطوال: 139، ابن الاَثير: الكامل: 3|88 _ 89، الطبري: التاريخ: 3|339 و 445 وغيرها.

( 230 )

في الجزء الخامس من هذه الموسوعة أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ضد الخليفة حتى انتهت إلى قتله في داره، والمهاجرون والاَنصار، بين مجهز عليه، أو موَلّب ضده، أو مستبشر بمقتله أو صامت رهين بيته محايد عن الطرفين (1)

قُتل عثمان بسيف مروان بن الحكم الذي سلّه عليه بأعماله المأساوية في بلاطه، وجاء بعده الاِمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ بإلحاح من الجماهير وبايعوه على أن يرد الاِسلام إلى عصر الرسول، وقد امتنع في بدء الاَمر عن قبول الخلافة وتزهد فيها كما تزهد في عصر الخلفاء، غير أنّه لمّا تمت الحجّة عليه ورأى أنّ في التقاعس عن قبولها ضرراً على الاِسلام والمسلمين أخذ بزمام الخلافة بيد من حديد وقد خضعت له الاَوساط الاِسلامية بعمالها وأُمرائها قاطبة إلاّ معاوية بن أبي سفيان، فقد استمر على العناد، واقفاً على أنّه لو بايع الاِمام للحقه العزل عن العمل، ومصادرة الاَموال الطائلة. فبقي على المخالفة وألّب بعض المهاجرين والاَنصار على الاِمام حتى بايعهم خفاء إلى أن يبايعهم جلياً بعد سحب الاِمام عن ساحة الخلافة، إلى أن آل الاَمر إلى تأجيج نار حروب ثلاثة (الجمل

وصفين والنهروان) قد عرفت تفاصيلها في الجزء الخامس، فلو قتل في الجمل قرابة أربعة عشر ألف مقاتل من الطرفين، أو قتل في صفين سبعين ألف مقاتل من العراقيين والشاميين، أو نشبت حروب دامية بين أنصار علي والخارجين على بيعته، طوال سنين، فكلّها من جرائم وآثام ذلك الخلاف والعناد والخروج على الاِمام.

التحق الاِمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ إلى الرفيق الاَعلى وقتل بيد أشقى الاَوّلين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم عام أربعين، ومعاوية بعدُ قابع على كرسيه، وقد صفا له الجوّ برحيل علي _ عليه السلام _ فلم ير في الساحة إنساناً منافساً ولا مخالفاً سوى، الحسن بن علي _ عليه السلام _ لاَنّ الجماهير من المهاجرين والاَنصار الذين كانوا مع علي في العراق بايعوه بالخلافة والاِمامة ولكن معاوية خالفه ولم يبايعه كما

____________

(1) الطبري: التاريخ: 3|399.

( 231 )

خالف أباه ولم يبايعه بل حاربه.

نشب الخلاف بين معاوية والحسن بن علي وانجر الاَمر إلى تجنيد الجنود ونفرهم إلى ميادين الحرب وبعد حوادث مريرة رأى الاِمام الحسن _ عليه السلام _ أنّ الاَصلح هو التنازل والتصالح تحت شروط ومبادىَ خاصة حفظها التاريخ، ومن أهم الشروط التي وقَّع عليها كل من معاوية والحسن بن علي، هو أنّه ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً (1)ولكن معاوية لم يكن ممن يعتمد على قوله وعهده ولا على حلفه ويمينه.

إنّ معاوية من الفئة الذين يقولون ولا يفعلون وقد أظهر نواياه بعدما تم التصالح فقال: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا انّكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لاَتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وإنّي كنت منّيت الحسن أشياء وأعطيته أشياء وجميعها

تحت قدمي هاتين لا أفي بشيء منها له. (2)

رجع الحسن بن علي إلى مدينة جده، ومعه أخوه الحسين وبنو هاشم وكان يتجرع الغصص من آل أُمية طيلة حياته إلى أن سمّه معاوية بتغرير زوجته فوافاه الاَجل عام خمسين من الهجرة النبوية، وكان يضرب به المثل في الصبر والحلم. قال أبو الفرج: لما مات الحسن بن علي _ عليهما السلام _ وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره، فقال له الحسين _ عليه السلام _: أتحمل سريره أما واللّه كنت تجرعه الغيظ، فقال: مروان إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (3)

لم يكن معاوية يجترىَ على نقض ما وقع من عدم العهد إلى أحد ما دام الحسن في قيد الحياة، وكان يتحين الفرص لنقض العهد واليمين وقد نقض أكثر

____________

(1) ابن صباغ المالكي: الفصول المهمة: 163.

(2) المفيد: الاِرشاد: 191.

(3) أبو الفرج الاَصفهاني: مقاتل ا،لطالبيين: 49، طبعة النجف الاَشرف.

( 232 )

ما عهد ولم يبق إلاّ شيء واحد وهو أن لا يعهد إلى أحد وكان ولده يزيد أُمنيته وقرة عينه، ولما مات الحسن رأى الجو صافياً، فمهد الطريق لتنصيبه والياً من بعده، وقد بذل في طريق أُمنيته أموالاً طائلة لاَصحاب الدنيا من الصحابة والتابعين حتى أرضى طائفة بترغيبه ونقوده، وطائفة أُخرى بتخويفه وترهيبه. نعم بقى هناك لفيف قليل اشتروا سخط المخلوق برضا الخالق فلم يبايعوه بل ثاروا عليه ووبخوا معاوية على نقض عهده، منهم: أبو الشهداء الحسين بن علي فقد جاهر وطرد بيعته وذلك عندما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد فقام وحمد اللّه وصلى على الرسول، فقال بعد كلام: «وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لاَُمّة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت

غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به ومن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لاَترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك لما تحاول فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه»(1)

تسنم معاوية منصة الحكومة فكان يحكم كالقياصرة والاَكاسرة إلى ان أدركته المنية عام ستين وجلس مكانه وليده وربيبه، ونظيره في الخَلق والخُلق، واهتز العالم الاِسلامي حينذاك حيث أحسّوا أنّ إنساناً خمِّيراً وسكّيراً لاعباً بالكلاب والقردة، تصدى للاِمارة وفي الحقيقة للقضاء على الاِسلام والمسلمين باسم الخلافة عن النبي الاَكرم، فعند ذاك تمت الحجّة على الحسين بن علي _ عليه السلام _ فجاهر بالخلاف والصمود أمامه حيث تجسد في الزمان قول جده رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه» (2)

____________

(1) ابن قتيبة: الاِمام والسياسية: 1|169.

(2) الكليني: الكافي: 1|54، ط الغفاري.

( 233 )

وكان يزيد يحس بذلك عن كثب فكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين بالبيعة له، فلما اجتمع مع عامله فعرض عليه البيعة فرفض بعد جدال عنيف بحضور مروان بن الحكم، وأصبح الحسين من غده يستمع الاَخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ونصحه بالبيعة ليزيد فعندئذ ارتجّ الحسين وثارت ثورته وقال: «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعلى الاِسلام السلام إذا بليت الاَُمة براع مثل يزيد»، ثم قال: «يا مروان أترشدني لبيعة يزيد، يزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللاً ولا ألومك، فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك

الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول اللّه، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، إليك عني ياعدو اللّه فإنّا أهل بيت رسول اللّه، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا وقد سمعت جدي رسول اللّه يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد» (1)

دوافعه نحو الثورة :

هذه الكلمة المباركة من الحسين بن علي _ عليهما السلام _ في أعتاب تفجير الثورة تعرب عن أنّ خلافه مع يزيد لم يكن خلافاً قبلياً ولا استمراراً له، وإنّما كان يثور عليه لاَجل أنّ الحاكم يتّسم بمبادىَ هدامة للدين، ولو أُتيحت له الفرصة لقضى على الاِسلام والمسلمين، فلاَجل ذلك قام عن مجلس الوليد ولم يبايعه وترك مدينة جده والتجأ إلى مكة المكرمة، وليست هذه الكلمة كلمة وحيدة معربة عن نواياه وحوافزه التي دفعته إلى الثورة فكم لها من نظير في حياته.

وإليك كلمته الثانية عندما نزل منطقة البيضة من العراق واعترضه الجيش الاَموي بقيادة الحر بن يزيد التميمي اليربوعي، فقال واقفاً بعد أن حمد اللّه وأثنى

____________

(1) الخوارزمي: مقتل الحسين: 1|184 _ 185.

( 234 )

عليه: «أيها الناس أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله» (1)

ترى أنّ الاِمام يعلل ثورته على

يزيد في البيان الاَوّل بأنّه رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة معلن للفسق، وإن هذه الصفات لا تتفق مع شروط الخلافة كما أنّه يعلل ثورته في البيان الثاني بأنّه سلطان جائر، مستحل لحرام اللّه ناكث لعهده، مخالف لسنّة رسوله عامل في عباده بالاِثم والعدوان. كل ذلك يعرب عن أنّ ثورته لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية، بل مبدئية بحتة.

وهناك للاِمام بيان ثالث ورابع وخامس و ... يعرّف موقفه من الحاكم الاَموي، يعرف دافعه إلى النضال والكفاح نأتي بثالثة:

كتب الاِمام إلى روَساء الاَخماس والاَشراف بالبصرة كتاباً جاء فيه: «وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ، فاللّه أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين» (2)

وفي هذه المقتطفات من خطب ورسائل الاِمام أدلّة واضحة على أنّ الثورة لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية بل كانت ثورة دينية عقائدية بحتة، وكان الدافع المهم للتضحية ترسيم خط الشهادة والفداء لكل من يطلب رضى الحقّ، وبالتالي

____________

(1) ابن الاَثير: الكامل: 3|280، الطبري: التاريخ: 4|300.

(2) الخوارزمي: المقتل: 1|88، الفصل 9.

( 235 )

قطع جذور الشر وتحطيم قوى الكفر والمنكر، وإن طال سنين، وقد نجح الاِمام في ثورته هذه إلى أن انتهى الاَمر إلى اجتثاث جذور بني أُمية عن أديم الاَرض وغلق ملفهم بقتل حمارهم مروان عام 132ه_. ق.

نجاح الاِمام الحسين _ عليه السلام _ في ثورته :

لقد درسنا الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام إلى الثورة غير أنّه بقي هنا أن نتحدث عن نتائجها وعن عطائها، إذ

بالوقوف عليها يعلم أنّه كان في ثورته ناجحاً أو فاشلاً، إنّ هناك من ينظر إلى ثورة الحسين من منظار سياسي ضيق أو مادي بحت أضيق، فيظن أنّ ثورته كانت فاشلة حيث إنّ الاِمام استشهد ولم ينل الخلافة، والمسلمون بقوا بعد الثورة على ما كانوا عليه قبلها، فكان الاِرهاب والتشريد حليفهم، وكانت الحكومة الاَموية هي الحاكمة في البلاد الاِسلامية قرابة سبعين سنة.

هذا ما يتصوره بعض الكتاب في ثورة الحسين، وكأنّ نجاح الثورة في منطقهم، هو نجاحها في يومها أو بعد أيام، وهذا الزعم من هوَلاء ناش من الجهل بالحقّ أو التجاهل به، فلاَجل قلع هذا التعتيم نركّز من عطاء الثورة في المقام على أمرين مهمين ونترك الباقي لاَقلام الكاتبين في ثورة الحسين:

1 _ إنّ الاِمام بتضحية نفسه ونفيسه، أعلم الاَُمّة فظاظة الاَُمويين وقسوة سياستهم، وابتعادهم عن الناموس البشري فضلاً عن الناموس الديني وتوغلهم في الغلظة الجاهلية، وعادات الكفر الدفين.

ثار في وجه الحكم السائد ليُعلم الملاَ الديني أنّهم لم يوقروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً، ولم يرقبوا على رضيع ولم يعطفوا على امرأة فقدّم إلى ساحات المفاداة، أغصان الرسالة وأوراد النبوة، وأنوار الخلافة، ولم تبق جوهرة من هاتيك

( 236 )

الجواهر الفريدة، فلم يعتم هو ولا هوَلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.

سل كربلا كم من حشاً لمحمّدٍ * نهبت بها وكم استجذت من يد

أقمار تمٍّ غالها خسف الردى * وانثالها بصروفها الزمن الردي(1)

2 _ لم يكن الحسين _ عليه السلام _ يطلب ملكاً عضوضاً ولا سلطة بشرية وإنّما يطلب إيقاظ الاَُمّة بواجبه الحتمي، وما هو إلاّ إقامة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنّ الاَُمّة نسيت ذينك العمادين وذلك لعوامل خلفت رفض ذينك الاَمرين المهمين.

كانت الاَُمّة تعيش

بين الترغيب والترهيب فصارت محايدة عن كل عمل إيجابي يغير الوضع الحاضر وهم بين راضٍ بما يجري، وبين مبغض صامت، يترك الاَمر إلى اللّه تبارك وتعالى، فكانت القلوب مشفقة والاَيدي مغلولة وعلى الاَلسن أُوكية.

وكيف يصح لمسلم واع، التساهل أمام عربدة يزيد بالكفر الصريح في شعره ونثره، وإنكار الوحي والرسالة وهذا هو التاريخ يحكي لنا: أنّه لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله، والروَوس على الرماح وقد أشرفوا ثنيّة جيرون نعب الغراب فأنشأ يزيد يقول:

لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الشموس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لاتصح * فلقد قضيت من الغريم ديوني(2)

يعني أنّه قتل بمن قتل رسول اللّه يوم بدر كجده عتبة وخاله وليد بن عتبة، وغيرهما وهذا كفر صريح لا يلهج به إلاّ المنكر للرسالات والنبوات ورسالة سيد الرسل.

____________

(1) الاَميني: الغدير: 3|264.

(2) ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 235.

( 237 )

ولم يقتصر بذلك بل أخذ ينشد شعر ابن الزبعرى حين حضر رأس الحسين بين يديه وقال:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاَسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا قتل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يايزيد لاتشل

لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحيٌ نزل (1)

وليس ذلك ببعيد عن ابن معاوية فإنّ أباه كان يشمئز من سماع الشهادة الثانية على رسالة محمد فكان يقول: للّه أبوك يا ابن عبد اللّه لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك مع اسم ربّ العالمين (2)

ولما قال له المغيرة بن شعبة: لقد كبرت فلو أظهرت عدلاً لاِخوانك من بني هاشم فإنّه لم يكن عندهم شيء تخافه

قال: هيهات مَلِكَ أخو تيم، وفعل ما فعل، فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فعمل ما عمل فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عثمان.

وانّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأي عمل يبقى مع هذا لا أُم لك واللّه إلاّ دفنا دفنا.

____________

(1) البيتان الاَوّلان لابن الزبعرى، والثلاثة الاَخيرة ليزيد، لاحظ تذكرة الخواص: 235.

(2) شرح النهج الحديدي: 2|537.

( 238 )

ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأُشير عليه بالترك فأعرض عما كان عليه(1).

فلما قام الحسين في وجه الحكومة بأولاده وأصحابه القليلين، فقد نفث في جسم الاَُمّة روح الكفاح والنضال وحطمت كل حاجز نفسي واجتماعي كان يوقفهم عن القيام، وأثبت أنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الظروف الحرجة ليس رهن العِدّة والعُدّة بل إذا حاق الخطر بالاَُمّة من ملوكها وأمرائها وزعمائها وأصبحوا يسوقون الناس بأفعالهم وأعمالهم، والمجتمع إلى العيش الجاهلي، وجب على الموَمن الاستنكار بقلبه ولسانه ويده فكان في قيامه تحطيم السدود المزعومة الممانعة عن القيام بالفريضة، ولاَجل ذلك استتبعت ثورته، ثورات عديدة تترى من غير فرق بين من ثار وهو على خط الاِمام وبين من ثار في وجه الطغمة الاَموية ولم يكن على خطه وفكره ولكن الكل كانوا مستلهمين من تلك الثورة العارمة، ولولا حركة الحسين _ عليه السلام _ لما كان لهذه الحركات أيّ

أثر في المجتمع الاِسلامي، وإن كنت في ريب من ذلك فعليك بدراسة الثورات المتتابعة بعد قيامه ونهضته.

قضى الاِمام نحبه في اليوم العاشر من محرم الحرام عام 61ه_ والرضاء بقضاء اللّه وقدره بين شفتيه (2)وهو ظمآن لم يشرب الماء منذ ثلاثة أيام، والفرات يموج بمياهه وحيتانه «سبيل على الرواد منهله العذب» دون الحسين وأولاده وأصحابه حتى يموتوا عطشى. ولم يقتصر عدوّه الغاشم بقتله حتى همّ

____________

(1) مروج الذهب: 2|343. آخر أخبار المأمون.

(2) قال _ عليه السلام _ وهو طريح مصرعه: «رضاءً بقضائك، وتسليماً لاَمرك، لا معبود سواك، ياغياث المستغيثين».

( 239 )

برضِّ صدره وظهره بالخيل، ليقضي بذلك على جسم الاِمام كلّه. لكنّه فاته أنّ شهداء طريق الحقّ، أحياء عند ربّهم يرزقون، أحياء بين الشعوب الحية، وأنّه سوف ينقلب الاَمر لصالح الاِمام وضد العدو حتى في اليوم الذي قضى عليه وأنّه _ عليه السلام _ سيجعل من أعدائه الذين وجهوا إليه سيوفهم ورماحهم، أنصاراً صامدين، وثواراً مناضلين.

روى الموَرخون: لما قتل الحسين وتسابق العسكر إلى نهب خيام آل الرسول ونهبوا ما فيها أولاً، وأضرموا النار ثانياً وبنات الزهراء حواسر مسلبات، باكيات فنظرت امرأة من آل بكر بن وائل، كانت مع زوجها، إلى بنات رسول اللّه بهذا الحال فصاحت: يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه، يالثارات رسول اللّه فردها زوجها إلى رحله (1)

كان ذلك الهتاف من ذلك الوقت، نواة للثورة على العدو، وإن لم يشعر به العدو، واكتفى بجرها إلى رحله.

كان الحسين فاتحاً في نهضته، إذ لم يكن يتبنّى شيئاً سوى إيقاظ شعور الاَُمّة بلزوم القضاء على دعاة الضلال، وكسح أشواك الباطل، عن طريق الشريعة، وتعريف الملاء بالذين هم الاَحق بالخلافة والقيادة.

إنّ أئمة أهل

البيت _ عليهم السلام _ غذّوا الاَُمّة بتحريضهم على عقد المحافل والمجالس لذكر حادثة الطف، وما جرى على الحسين من مصائب تدك الجبال الرواسي، وتذيب القلوب القاسية وقد اتخذوا أساليب مختلفة في إحياء حديث الطف بتشكيل أندية العزاء في بيوتهم تارة، ودعوة الناس إليها ثانياً، فقال الاِمام الباقر _ عليه السلام _ «رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا» (2)فكان

____________

(1) ابن نما: مثير الاَحزان: 4، ابن طاووس: اللهوف: 74.

(2) المجلسي: البحار: 74|354 ح 31.

( 240 )

لتلك الذكريات أثراً باهراً في تخليد الثورة في نفوس الاَُمّة حتى اتخذه الاَحرار مقياساً للسير في ضوئه مصباحاً وإليك نزراً يسيراً من الثورات التالية لثورة الاِمام _ عليه السلام _.

( 241 )

1

ثورة أهل المدينة

وإخراج عامل يزيد

لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غِرّة عبد اللّه بن الزبير فلا يجده إلاّ محترزاً ممتنعاً، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين، وثار ابن الزبير بالحجاز ... فعزل يزيد الوليد، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة، فيهم: عبد اللّه بن حنظلة، غسيل الملائكة وعبد اللّه ابن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمنذر بن الزبير ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم، وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللّه بن حنظلة، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً، مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.

فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر بن الزبير فإنّه قدم العراق على ابن زياد وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف دينار، فلمّا قدم أُولئك النفر الوفد، المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين

يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحراب وهم اللصوص وإنّا نشهدكم إنّا قد خلعناه.

وقام عبد اللّه بن حنظلة الغسيل فقال: جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ

( 242 )

بنيّ هوَلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لاَتقوّى به فخلعه الناس، وبايعوا عبد اللّه بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم (1)

ولما دخل عام 63ه_ أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد، وحصروا بني أُمية بعد بيعتهم عبد اللّه بن حنظلة، فاجتمع بنو أُمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم فردّ وقال: لا أُحب أن أتولّى ذلك.

وبعث إلى عبيد اللّه بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير بمكة فقال: واللّه لا جمعتهما للفاسق، قتل ابن رسول اللّه وغزو الكعبة. ثم أرسل إليه يعتذر.

فبعث إلى مسلم بن عقبة المري، وهو الذي سمّي مسرفاً، وهو شيخ كبير فاستجاب، فنادى في الناس بالتجهز إلى الحجاز، وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار، فانتدب لذلك اثنا عشر ألفاً، وخرج يزيد يعرضهم، فأقبل مسلم إلى المدينة ودخل من ناحية الحرّة وضرب فسطاطه بين الصفين واقتتل الصفان قتالاً شديداً وانتهى الاَمر، إلى غلبة قوات الشام على أهل المدينة بعدما قتل من الطرفين أُناس كثير، ولم يقتصر المسرف بذلك بل أباح المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والاَموال... (2)

____________

(1) ابن الاَثير الجزري: الكامل: 4|103.

(2) المصدر نفسه: 4|111_ 117، الطبري: التاريخ: 4|372 _ 380، موَسسة الاَعلمي _ بيروت.

( 243 )

2

ثورة عبد اللّه بن الزبير

عبد اللّه

بن الزبير بن العوام ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً، وكان أبوه ابن عمة علي _ عليه السلام _ وهو ابن خاله، وهو ممن سلّ سيفه يوم السقيفة لصالح علي وقال: لا أغمد سيفي حتى يبايع علي، ولكن _ و للاَسف _ كان ولده على الطرف النقيض من ذلك فهو كما قال علي _ عليه السلام _: ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد اللّه فأفسده (1)وهو الذي دفع أباه إلى محاربة الاِمام في وقعة الجمل بعد ما ندم وأراد التصالح والتراجع.

ومع هذا هو ممن اتخذ ثورة الاِمام حجّة على خروجه في وجه الحاكم الاَموي وروى الطبري بسنده إلى عبد الملك بن نوفل قال: حدثني أبي: قال لما قتل الحسين _ عليه السلام _ قام ابن الزبير في أهل مكة وعظّم مقتله، وعاب أهل الكوفة خاصة ولام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه وصلّ_ى على محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : إنّ أهل العراق غدر فجر إلاّ قليلاً، وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق وأنّهم دعوا حسيناً لينصروه ويولوه عليهم، فلمّا قدم عليهم صاروا إليه، فقالوا له: إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية، فيمضي فيك حكمه وإمّا أن تحارب فرأى واللّه أنّه هو مقتول ولكنّه اختار

____________

(1) تنقيح المقال: 2|184، مادة «عبد اللّه بن الزبير».

( 244 )

الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم اللّه حسيناً، وأخزى قاتل حسين _ إلى أن قال: _ أفبعد الحسين نطمئن إلى هوَلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً لا ولا نراهم لذلك أهلاً. أما واللّه لقد قتلوه، طويلاً بالليل قيامه، كثيراً في النهار صيامه، أحقّ بما

هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل.

أما واللّه ما كان يبدل بالقرآن، الغناء، ولا بالبكاء من خشية اللّه الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس في حلَق الذِّكر الركض في تطلاب الصيد (يعرض بذلك يزيد) فسوف يلقون غياً.

فثار إليه أصحابه فقالوا له: أيها الرجل أظهر بيعتك فإنّه لم يبق أحد (إذ هلك حسين) ينازعك هذا الاَمر وقد كان يبايع الناس سراً ويظهر أنّه عائذ بالبيت (1)

لما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه، واستخلف على المدينة رَوْح بن زِنباع الجُذاميّ، وقيل: استخلف عمرو بن مخرمة الاَشجعي، فلمّا انتهى إلى المشلَّل نزل به الموت، وقيل: مات بثنيّة هَرْشَى، فلمّا مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لاَربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد اللّه بن الزبير واجتمعوا عليه، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة فحمل أهل الشام عليهم حملةً انكشف منها أصحاب عبد اللّه، ثم نزل فصاح بأصحابه، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه.

هذا في الحصر الاَوّل ثم أقاموا يقاتلونه بقية المحرم وصفر كلّه حتى مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الاَوّل سنة أربع وستين، ولاَجل القضاء على ابن الزبير

____________

(1) الطبري: التاريخ: 4|364، ابن الاَثير: الكامل: 4|98 _ 99.

( 245 )

المتحصن في المسجد الحرام رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار، وكانت الحرب طاحنة إذ بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر ولم يكن أمامهم إلاّ طريق واحد وهو الرجوع إلى الشام واختار الرجوع إليها (1)

كان ابن الزبير يسوس الحجاز والعراق وفيهما عماله إلى أن استولى عبد الملك على العراق عام إحدى وسبعين من الهجرة وانحصرت إمارة ابن الزبير

بالحجاز وعند ذاك وجّه عبد الملك، الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين وقيل في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال عبد اللّه بن الزبير، وقدم مكة وحصر ابن الزبير والتجأ هو وأصحابه إلى المسجد الحرام، ونصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة إلى أن خرج أصحابه إلى الحجاج بالآمان، و قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء من جمادي الآخرة عام ثلاث وسبعين من الهجرة (2)

____________

(1) ابن الاَثير: الكامل: 4|123 _ 124، الطبري: التاريخ: 4|381 _ 384.

(2) الطبري: التاريخ: 5|24، ابن الاَثير: الكامل: 4|349 _ 356.

( 246 )

3

ثورة التوابين في الكوفة

إنّ ثورة أهل المدينة على عامل يزيد وإخراجه من المدينة، وحركة ابن الزبير واستيلاوَه على الحجاز والعراق، لم يكن ردّ فعل مباشر لقتل الحسين _ عليه السلام _ وإن كانا متأثرين من ثورته وحركته، وهذا بخلاف حركة التوابين فقد كانت ردّ فعل مباشر لقتله، حيث أحسّوا أنّهم قصّروا في حقّ إمامهم، إذ دعاهم فلم يجيبوا، وذلك عار عليهم. يتبعهم عذاب أليم، وأنّه لا يغسل العار والاَثم عنهم إلاّ بالثورة على قاتليه وعلى رأسهم، النظام الحاكم.

يقول الطبري: «لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم، ورأت أنّها قد أخطأت خطأ كبيراً، بدعائهم الحسين إلى النصرة، وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم، لم ينصروه، ورأوا أنّه لا يُغسل عارهم والاِثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من روَوس الشيعة:

1_ سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

2 _ المسيب بن نَجَبة الفزاري، وكان من أصحاب علي _ عليه السلام _ وخيارهم.

3 _

عبد اللّه بن سعد بن نفيل الاَزدي.

4 _ عبد اللّه بن وال التيميّ.

5 _ رفاعة بن شدّاد البجلي.

إنّ هوَلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار

( 247 )

أصحاب علي ومعهم أُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم قال: فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام وقال:

1 _ ق_د ابتلينا بطول العمر والتعرض لاَنواع الفتن، فنرغب إلى ربّنا ألاّ يجعلنا ممن يقول له غداً: "أوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فِيه مَن تَذَكَّر وجاءَكُمُ النَّذِير"(1).

فإنّ أمير الموَمنين _ عليه السلام _ قال:

العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلاّ وقد بلغه وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتفريط شيعتنا حتى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين، في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا، يسألنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانية وسرّاً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتِل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألستنا ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله، والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا ذلك، وما أنا بعد لقائه، لعقوبته بآمن.

أيّها القوم ولّوا عليكم رجلاً منكم فإنّه لابد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم.

2 _ وتكلّم رفاعة بن شداد وقال: إنّ اللّه قد هداك لاَصوب القول ودعوت إلى أرشد الاَُمور، ودعوت

إلى جهاد الفاسقين، وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك قلت: ولّوا أمركم رجلاً منكم، تفزعون إليه، وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت

____________

(1) فاطر: 37.

( 248 )

ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً، وفينا متنصّحاً وفي جماعتنا محباً، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولّينا هذا الاَمر شيخ الشيعة صاحب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وذا السابقة والقدم، سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه، الموثوق بحزمه.

ثم تكلّم كل من عبد اللّه بن وال، وعبد اللّه بن سعد وتكلّما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته.

3 _ تكلّم سليمان بن صرد وقال: فإنّي واللّه لخائف ألاّ يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أُولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا، ونمنِّيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونَينا وعجزنا، وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون، حتى قتل فينا، ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يُعطاه، إتخذه الفاسقون غرضاً للنبل، ودريئة للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربّكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والاَبناء حتى يرضى اللّه، واللّه ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَنْ قتله أو تبيروا، ألا لا تهابوا الموت فواللّه ما هابه امروَ قطّ إلاّ ذلّ، كونوا كالاولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم "إنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقتُلوا أنْفُسَكُمْ ذلكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ" فما فعل

القوم جثوا على الركب واللّه ومدّوا الاَعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلاّ الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه، أشحذوا السيوف وركّبوا الاَسنة وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا:

4 _ فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال: أمّا أنا فواللّه لو أعلم أنّ قتلي نفسي

( 249 )

يخرجني من ذنبي ويرضي عنّي ربّي لقتلتها، ولكن هذا أُمر به قوم كانوا قبلنا، ونُهينا عنه فأُشهد اللّه ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أُقاتل به عدوّي، صدقة على المسلمين أُقوّيهم به على قتال القاسطين.

5 _ وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال: وأنا أُشهدكم على مثل ذلك، فقال سليمان بن صرد: حسبكم من أراد من هذا شيئاً، فليأت بماله عبد اللّه ابن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم، جهزنا به ذوي الخُلَّة والمسكنة من أشياعكم (1)

6 _ ثم أخذ سليمان بن صرد يكاتب وجوه الشيعة في الاَطراف وكتب سليمان بن صرد: إلى سعد بن حذيفة اليمان (2)يعلمه بما عزموا عليه، ويدعوه إلى مساعدتهم، ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنّهم على الحركة إليه والمساعدة له.

وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنّى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثنى: إننّا معشر الشيعة حمدنا اللّه على ما عزمتم عليه، ونحن موافوك إن شاء اللّه للاَجل الذي ضربت وكتب في

أسفله أبياتاً (3)

لم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس _ في السر _ إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين.

فلمّ_ا مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد هلك هذا الطاغية،

____________

(1) الطبري: التاريخ: 4|426 _ 428.

(2) لاحظ نصّ الكتاب: تاريخ الطبري: 4|429 _ 430.

(3) ابن الاَثير: الكامل: 4|158 _ 162، الطبري: التاريخ: 431.

( 250 )

والاَمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم.

فقال سليمان بن صرد: لاتعجلوا، إنّي قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشدّ الناس عليكم، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، وكانوا جَزَرَاً لعدوهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم هذا، شيعتكم وغير شيعتكم فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه، ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد، وهم يريدون قتال أهل الشام الذين أقاموا دعائم عرش يزيد، وعدم التعرض بمن في الكوفة من قتلة الحسين _ عليه السلام _ على جانب الخلاف من ثورة المختار.

مسير التوابين:

لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى روَوس أصحابه فأتوه، فلمّا أهلّ ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج في تلك الليلة، فلمّا أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه

عددهم فأرسل حكيم بن منقذ الكندي، والوليد بن عصير الكناني في الكوفة فناديا: يالثارات الحسين فكانا أوّل (1)خلق اللّه دعوا يالثارات الحسين.

فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه فقال: سبحان اللّه ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلاّ أربعة

____________

(1) لقد سبق أنّه أوّل من دعا به، هو امرأة من بني بكر بن وائل يوم عاشورا عند إضرام النار في الخيام.

( 251 )

آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال: أيّها الناس من كان خرج، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا، ونحن منه، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب: إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .

فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الاَهواز، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه، وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه، وكان قولهم عند ضريحه: «اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فاغفر لنا ما مضى، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين

وإنّا نشهدك أنّا على دينهم، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.

ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الاَسود، ثم أخذوا على الاَنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه، فكتب إليه جواباً _ بعد أن شكره وأثنى عليه _: أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.

( 252 )

ثم ساروا حتى انتهوا إلى «قرقيسيا» على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فردّ المال وأخذ الفرس وقال: لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي، وبعث «زفر» إليهم، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.

ثم ارتحلوا من الغد، وخرج «زفر» يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم: الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي، وعبيد اللّه بن زياد، في عدد كثير مثل الشوك والشجر، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين، فإذا جاءنا هذا العدو، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال: قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.

وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام

سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال: أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة، فإن قتل، فالاَمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل، فإن قتل، فالاَمير عبد اللّه بن وال، فإن قتل، فالاَمير رفاعة بن شداد، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.

كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّ_ى الشاميون عسكرهم وانهزموا، فغنم

( 253 )

منه أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.

وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً، فخرج أصحاب سليمان إليه لاَربع بقين من جمادي الاَُولى، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (1) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الاَمر إلى أهل بيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين، والميسرة أيضاً على الميمنة، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم، وما زال الظفر

لاَصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.

فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.

فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب، ورأى سليمان ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه، فقاتلوهم، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّ_ا رأى الحُصين صبرهم

____________

(1) كذا في النسخة.

( 254 ) وبأسهم، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان، رحمه اللّه، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.

فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً، ثم قتل، رحمه اللّه، بعد أن قتل رجالاً.

فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما، ثم قرأ: "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا" وحفّ به من كان معه من الاَزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة، فسرّ الناس فقال

عبد اللّه بن سعد: ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.

فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً، وبقيت الراية ليس عندها أحد، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لاَصحابه: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصب، والسرور الذي ليس بعده حزن، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين، والرواح إلى الجنّة، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.

ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد، فلما كان المساء تولى قتالهم

( 255 ) أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو: "ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً" الآية، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال: إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال: بئس ما ظننت، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الاَجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.

فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا: لتأخذ الراية. فقال: إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا

ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الاَحمر: هلكنا واللّه، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة: نعم ما رأيت، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الاَمان، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.

وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الاَمان، قال: قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.

فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد

( 256 ) عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم، فلم يبعث في آثارهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة، فأقاموا ثلاثاً، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.

ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ «هيت» فأتاه الخبر، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا، فسار

كل طائفة إلى بلدهم.

ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً، فأرسل إليه: أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الاَجر، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة، ولا ربا ربوة، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه اللّه، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إنّي أنا الاَمير المأمور، والاَمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، المقيّد من الاَوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، أدعوكم إلى كتاب اللّه، وسنّة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين، والسلام»

(1)

هذه هي ثورة التوابين، المشرقة، وهممهم العالية، وتفاديهم في سبيل الهدى، وقد بُذل لهم الاَمان فلم يقبلوا فقد: "صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه"

(2)فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية، على عاتقهم.

وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها: «لقد اعتبر التوابون أنّ

____________

(1) الجزري: الكامل: 4|175 _ 186.

(2) الاَحزاب: 23.

( 257 ) المسوَول الاَوّل والاَهم عن قتل الحسين _ عليه السلام _ هو النظام، وليس الاَشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين _ عليه السلام _ (1)

إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم، والرغبة الحارة عن التكفير، وكونها صادرة عن هذه البواعث، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير _ ومع ذلك _ إنّها أثّرت في

مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاَموي.

____________

(1) محمد مهدي شمس الدين: ثورة الحسين: 264.

( 258 )

4

ثورة المختار

المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي _ عليه السلام _ وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه: «ياكيّس! ياكيّس!» ولذا لُقّبَ بالكيسان (1)

إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين _ عليهما السلام _ على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال: الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (2)

وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لاَهل البيت _ عليهم السلام _ فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام _ عليه السلام _ ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.

____________

(1) الكشي: الرجال: 116.

(2) المصدر نفسه.

( 259 )

يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل _ عليه السلام _ خرج قبل الاَجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة، وكان في قرية تدعى «لقفا» فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما، ففعلا

وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (1)عينه، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين _ عليه السلام _ فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (2)

خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الاَمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الاَمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي:

مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الاَوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة

____________

(1) شتر: قلب جفنه.

(2) اليعقوبي: التاريخ: 2|258، ط دار صادر _ بيروت، الطبري: التاريخ: 4|441 _ 442.

( 260 )

ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، نادى المختار: يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الاَوتار، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم

أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الاَوّل سنة 64ه_ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (1)

وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.

مغادرته مكة إلى الكوفة :

ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لاَنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة، يقول المسعودي: نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (2)ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده، وقد كان العراق تحت قدرته، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه، ولما قدم صعد

____________

(1) الطبري: التاريخ: 4|445 _ 446.

(2) المسعودي: مروج الذهب: 3|73 _ 74.

( 261 )

المنبر وخطبهم وقال: أمّا بعد فإنّ أمير الموَمنين (ابن الزبير) بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلاّ برضا منكم، وأن أتّبع وصية عمر ابن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان

بن عفان فاتقوا اللّه واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فواللّه لاَُوقعنَّ بالسقيم العاصي، ولاَُقيمنّ درع الاَصعر المرتاب (1)

ولو كان كلامه مقياساً لشعوره ودهائه وسياسته، فهذه الخطابة التي ألقاها، دليل على عدم تعرفه على بيئته، والنفسيات الحاكمة على سكانها فإنّ ما ذكره إنّما كان يتجاوب مع أفكار قليل من أهل الكوفة الذين كانوا يتجاوبون مع بني أُمية ويحبّون خطهم، وأمّا الاَكثرية الساحقة، فكانوا على خلاف تلك الفكرة.

ولاَجل ذلك قام السائب بن مالك الاَشعري ولم يمهله لاِتمام كلامه وقال: «أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يحمل عنّا فضله، وأن لا يقسم إلاّ فينا، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا وكان يفعل بالناس خيرا».

فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبرّ، وعندئذ تنبه عبد اللّه بن مطيع أنّ كلامه لم يكن بليغاً مطابقاً لمقتضى الحال فعاد بتلطيف ما سبق وقال: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها ثم نزل (2)

لمس المختار ما تتبناه الاَكثرية الساحقة من أهل الكوفة والعراق ولم يكن آنذاك في وسعه تحقيق العدل الاجتماعي الذي سار به علي _ عليه السلام _ في أيامه، ولكن كانت فيه مقدرة عظيمة على أخذ الثأر حتى يتمكن من الاَخذ بمجامع القلوب.

____________

(1) الجزري: الكامل في التاريخ: 4|211 _ 213.

(2) الجزري: 4|213.

( 262 )

ميزة ثورة المختار :

وتتميز ثورة المختار عن ثورة التوابين بأنّ ثورة هوَلاء كانت متوجّهة على النظام الاَموي بالذات دون الذين ارتكبوا الجرائم

بالمباشرة، وذلك لاعتقادهم بأنّ النظام هو الاَساس لقتل الحسين _ عليه السلام _ دون الاَشخاص العملاء، فلابد من السعي لقطع جذور السبب قبل مكافحة المسبب، فلاَجل ذلك تركوا الكوفة وفيها قتلة الحسين _ عليه السلام _ فتوجهوا إلى الشام وقد استشهد كثير منهم في معركة الحرب مع الشاميين وتراجع القليل منهم إلى الكوفة وعلى رأسهم رفاعة بن شداد الاَمير الاَخير لهم، وتفرقوا في عشائرهم.

أمّا المختار فقد كانت ثورته متوجهه بالذات إلى القتلة، وتطهير أرض العراق من جراثيم العيث والفساد من الاَمويين، وأمّا الذي حداه إلى اتّخاذ هذا الاَُسلوب في ثورته هو أنّ العراقيين قد استجابوا لابن الزبير وبايعوه وطردوا عامل الاَمويين من الكوفة باسم عمرو بن حريث، وذلك قبل خروج المختار، وكانت أُمنيتهم من تلك البيعة أمرين:

1 _ تحقيق العدل الاِجتماعي والسير وراء الاِصلاح الذي قام به الاِمام علي _ عليه السلام _.

2 _ أخذ الثأر من قاتل الاِمام الحسين _ عليه السلام _ .

أمّا الاَمر الاَوّل فلم يتحقّق منه شيء واضح حتى يقنع العراقيين، وأمّا الثاني فكان على طرف النقيض من أُمنيتهم حيث كانت هياكل الاِثم كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وغيرهم مقربين إلى السلطة، فصار ذلك سبباً لتسرّب الضعف إلى سلطان ابن الزبير في القلوب فكانوا يتحيّنون الفرص للخروج عن بيعته وإقامة نظام جديد يحقّق العدل الاجتماعي الذي مارسوه في

( 263 )

عهد الاِمام علي وأخذ الثأر من قتلة الاِمام.

نهض المختار والشيعة هم الاَغلبية الساحقة على الكوفة _ غير راضين من سلطة ابن الزبير وعامله في الكوفة عبد اللّه بن مطيع واجتمعت الشيعة حول المختار واتفقوا على الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى.

إنّ ثورة المختار كانت ثورة

وهاجة أنارت الطريق للثائرين الآتين بعده، غير أنّ حولها إبهامات وتأملات أهمها كونها مبعوثة أو مدعمة من جانب ابن الحنفية مع أنّ الاِمام القائم مقام الحسين ووليه وسلطان دمه هو علي بن الحسين زين العابدين _ عليهما السلام _ ولعلّ اتصاله بابن الحنفية لاَجل أنّه قام بالاَمر وقد مضت خمس سنين من شهادة الاِمام وكان محمد الحنفية شخصية معروفة من عصر الاِمام علي ويعد من علماء أهل البيت فاستجاز منه حتى يتخذه رصيداً لثورته ولا يعد ذلك دليلاً على أنّه كان معتقداً بإمامته على أنّه لم يظهر لابن الحنفية أية دعوة لنفسه، ولو رمي بالدعوة فإنّما هو من أساطير المخالفين لاَجل تشويه سمعته والتشكيك في قلوب الشيعة، مع أنّ المختار أرسل الرسل وروَوس القتلة إلى علي بن الحسين _ عليه السلام _ أثناء ثورته كما سيوافيك.

خرج المختار بعد مناوشات واشتباكات بينه وبين عبد اللّه بن مطيع، عامل ابن الزبير في الكوفة حتى غلب عليه المختار، فدخل المختار القصر وبات فيه وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال:

«الحمد للّه الذي وعد وليه النصر، وعدوّه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعداً مفعولاً، وقضاءً مقضياً وقد خاب من افترى، أيّها الناس إنّا رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية فقيل لنا في الراية إنّ إِرفعوها، وفي الغاية أن أجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي.

( 264 )

_ وقال في نهاية كلامه: _ فلا والذي جعل السماء سقفاً محفوظاً والاَرض فجاجاً سبلاً، ما بايعتم بعدَ بيعة علي بن أبي طالب وآل علي، أهدى منها».

ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه والطلب

بدماء أهل البيت وجهاد المحلّين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا (1)

وأقبل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودة الاَشراف ويحسن السيرة، وقيل له: إنّ عبد اللّه بن مطيع في دار أبي موسى، فسكت فلمّا أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال: تجهّز بهذه فقد علمت مكانك وأنّك لم يمنعك من الخروج إلاّ عدم النفقة وكان بينهما صداقة (2)

نهض المختار بالكوفة لاَربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاَوّل سنة 66ه_ وبقي إلى شهر رمضان من سنة 67ه_ وكانت ولايته ما يقارب 18 شهراً فجدّ في الاَمر وبالغ في النصرة وتتبّع أُولئك الاَرجاس وقد أخذ الثأر من قتلة الحسين _ عليه السلام _. ونذكر هنا شيئاً قليلاً من قتاله وكفاحه في ساحة الاَخذ بالثأر :

كان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فزحف إليه عبيد اللّه بن زياد بعد قتله سليمان بن صرد (الاَمير الاَوّل للتوابين)، فحاربه عبد الرحمن وكتب إلى المختار بخبره. فوجّه إليه يزيد بن أنس، ثم وجّه إبراهيم بن مالك بن الحارث الاَشتر، فلقي عبيد اللّه بن زياد فقتله، وقتل الحصين ابن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما بالنار وأقام والياً على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق

____________

(1) ابن الاَثير: الكامل: 4|211 _ 226بتلخيص.

(2) الجزري: الكامل: 4|225 _ 226.

( 265 )

والٍ، ووجّه برأس عبيد اللّه بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه، وقال له: قف بباب علي بن الحسين فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فادخل إليه، فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين _ عليهما السلام _ فلمّا فتحت

أبوابه ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة ومنزل الوحي أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد اللّه بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت، ودخل الرسول فأخرج الرأس فلمّا رآه علي علي بن الحسين قال: أبعده اللّه إلى النار.

وروى بعضهم أنّ علي بن الحسين _ عليهما السلام _ لم يُرَ ضاحكاً يوماً قط، منذ قتل أبوه، إلاّ في ذلك اليوم، وأنّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام، فلمّا أُتي برأس عبيد اللّه بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرقت في أهل المدينة، وامتشطت نساء آل رسول اللّه، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي _ عليهما السلام _.

وتتبّع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقاً عظيماً، حتى لم يبق منهم كثير أحدٍ، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف العذاب (1)

وقد جاء الجزري بتفصيل قتل قادة الجيش الاَموي في كربلاء. قال:

وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته، وقيل أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدّة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.

وبعث المختار غلاماً له يدعى زربى في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه أحاطوا بالبيت الذي فيه شمر، وقام شمر وقد اتّزر ببرد وكان أبرص فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجّلوه عن لبس ثيابه

____________

(1) اليعقوبي: التاريخ: 2|259.

( 266 )

وسلاحه، وكان أصحابه قد فارقوه فلمّ_ا أبعدوا عنه، سمعوا التكبير وقائلاً يقول: قتل الخبيث، قتله ابن أبي الكنود وأُلقيت جثته للكلاب (1)

ثم أُرسل إلى خولي بن يزيد الاَصبحي وهو صاحب رأس الحسين _ عليه السلام _ فاختفى في

مخرجه فدخل أصحاب المختار يفتّشون عنه، فخرجت امرأته، واسمها العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين فقالت لهم: ماتريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قَوْصرّة فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.

وبعث المختار أبا عمرة إلى عمر بن سعد فأتاه وقال: أجب الاَمير فقام عمر، فعثر في جبة له، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار، فقال المختار لابنه «حفص بن عمر» وهو جالس عنده: أتعرف من هذا؟ قال: نعم ولا خير في العيش بعده فأمر به فقتل، وقال المختار : هذا بحسين، وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء، واللّه لو قتلتُ به ثلاثة أرباع قريش، ما وفوا أُنملة من أنامله، ثم بعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنّه قد قتل من قدر عليه وإنّه في طلب الباقين ممن حضر القتل (2)

ثم إنّ المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي، وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم. كما بعث إلى قاتل علي بن الحسين وهو مرّة ابن منقذ فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضُ_رب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلّت يده بعد ذلك.

وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدّعي قتل الحسين فرآه قد هرب إلى البصرة فهدم داره، كما أرسل إلى محمد بن الاَشعث ولم يجده وقد كان هرب

____________

(1) الجزري: الكامل: 4|236 _ 237 باختصار .

(2) الجزري: الكامل: 4|241 _ 242.

( 267 )

إلى مصعب، فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، كان زياد قد هدمها(1)

وفي الختام نذكر عمله القيم الذي أنجى

به لفيفاً من أهل بيت النبي الاَكرم من الاِحراق بالنار.

إنّ عبد اللّه بن الزبير حبس محمد الحنفية وأصحابه بزمزم وتوعدهم بالقتل والاِحراق وإعطاء اللّه عهداً إن لم يُبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً.

فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه، أنّ يبعث إلى المختار يعلمه حالهم فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة فقرأ المختار الكتاب على الناس، فبكى الناس وقالوا: سرّحنا إليه، وعجّل، فبعث إليهم ثمانمائة راكب من أهل القوة، حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يالثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الاَجل يومان، فكسروا الباب، ودخلوا على ابن الحنفية يستأذنون القتال وهو يقول: إنّي لا أستحلّ القتال في الحرم. فخافهم ابن الزبير وتركهم. وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه فأبى عليهم فاجتمع في الشعب أربعة آلاف رجل فقسّم بينهم المال وعزوا وامتنعوا (2).

ونقل الجزري أنّ ابن عباس كان أيضاً محبوساً مع محمد الحنفية فأزال جيش المختار الضرر عن كليهما، ولما قتل المختار قوى عليهما ابن الزبير فخرجا إلى الطائف ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به وصلّ_ى عليه ابن الحنفية(3).

____________

(1) الجزري: الكامل: 4|242 _ 244.

(2) الجزري: الكامل: 4|250 _ 254.

(3) الجزري: الكامل: 4|250 _ 254.

( 268 )

قتل المختار بجيش مصعب بن الزبير :

كان المختار يسيطر على قسم كبير من أراضي العراق من الكوفة إلى الموصل وغيرهما وكان أمامه عدوين غاشمين: أحدهما عبد اللّه بن الزبير حيث كان يحكم على العراق كله غير أنّه أخرج المختار عامله من الكوفة وبقيت البصرة بيد عامله مصعب بن

الزبير، ثانيهما عبد الملك بن مروان الخليفة الاَموي الذي كانت بيده مفاتيح الاَقطار الاِسلامية غير العراق والحجاز.

وكان مصعب يتحيّن الفرصة للهجوم على الكوفة وعزل المختار وكان عبد اللّه يشجّعه على ذلك ناسياً عمله المشرق عند ما ضرب جيش الشام الحصار على ابن الزبير، فقد حارب المختار ذلك الجيش المكثَّف أياماً عديدة، ولكن الملك عقيم. هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ المختار تتبّع قتلة الحسين _ عليه السلام _ بيتاً بيتاً وجدّ في الاَمر، وقتل أُولئك الاَرجاس، ولاَجل فتكه وقتله، هرب قسم من أشراف الكوفة الذين كان لهم يد في قتل الحسين _ عليه السلام _ منهم شبث بن ربعي، حيث ورد البصرة على هيئة خاصة يحرض والي البصرة على قتال المختار وهو في عمله هذا اتّبع ضمضم بن عمرو الغفاري عند ما أرسله أبو سفيان ليخبر قريشاً بالخطر الذي يحدق بتجارتهم، فاستأجر ذلك الرجل وأمره بأن يجدع بعيره، ويقطع رحله ويشقّ قميصه من قبله ودبره، ويصيح: الغوث الغوث.

قام شبث بن ربعي بنفس ذلك العمل (والجنس إلى الجنس يميل) جاء راكباً بغلة قد قطع ذنبها وقطع أطراف أُذنها في قباء مشقوق وهو ينادي: وا غوثاه، فقال الاَشراف الهاربون إلى البصرة لمصعب: سر بنا إلى محاربة هذا الرجل الذي هدم دورنا وأخذوا يحرضونه على ذلك.

( 269 )

فجاء مصعب بجيش كثيف وقد وقعت بينهما حروب طاحنة في أقطار متعددة إلى أن انحسر المختار إلى الكوفة، وتخبّأ بالقصر.

فحاصره ابن الزبير بقصر الاِمارة مع أربعمائة رجل من أصحابه أياماً، وقد كان المختار يخرج من القصر فيقاتل ويرجع إلى أن قتل لاَربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، خرج بمن معه مستميتين فقتلوا وقتل المختار وجاء القاتل برأسه إلى مصعب بن

الزبير فأجازه بثلاثين ألف درهم، ثم ابتدأ الجيش بقتل الناهضين معه وقتلوا رجالاً كثيراً، ثم بعث مصعب على حرم المختار ودعاهنّ إلى البراءة فرجعت ابنة سمرة بن جندب ولعنته وتبرّأت منه فأطلق سراحها وأبت زوجته الاََُُخرى ابنة النعمان بن بشير وقالت: شهادة أُرزقها ثم أتركها، كلا إنّها موتة ثم الجنّة والقدوم على الرسول وأهل بيته، فأمر بها مصعب وقتلت صبراً.

( 270 )

5

ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث

لا يهمّنا في المقام بيان تفاصيل الثورة التي جاءت في تاريخ الطبري والكامل وغيرهما وإنّما يهمّنا الاِلماع إلى النقطة الحساسة في خطب الثائرين على النظام الاَموي، فقد ترى فيها محاكات عن خطب الاِمام أبي الشهداء وبذلك صاروا مستلهمين ثورتهم من ثورته، و فكرتهم من فكرته، وقد نقموا من النظام بنفس ما نقم به الاِمام منهم، وإليك بيانها على وجه موجز:

أرسل الحجاج، عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث إلى سجستان على رأس جيش عراقي وقد فتحوا من البلاد شيئاً كثيراً وكتب القائد في النهاية إلى الحجاج أنّ رأيه إيقاف الحرب في هذه البلاد حتى يعرفوا طريقها، ويجبوا خراجها، ولما وصل الكتاب إلى الحجاج كتب إليه كتاباً وبّخه فيه على إيقاف الحرب، ثم أردفه بكتاب ثانٍ وثالث يأمره بالتوغّل في الحرب وأنّه إن أظهر العجز فالاَمير أخوه إسحاق بن محمد.

ولما وصلت كتب الحجاج إلى عبد الرحمن جمع أصحابه وقال: أيّها الناس! إنّي لكم ناصح ولصلاحكم محب، ثم ذكر ما دار بينه وبين الحجاج عن طريق الكتب، وأنّه أمره بالتوغل في الحرب في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالاَمس. وقال: إنّما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا: لا بل نأبى على

عدوّ اللّه، ولا نسمع له ولا نطيع.

( 271 )

وقد تكلّم فيمن تكلّم عامر بن واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه: أما بعد فإنّ الحجاج واللّه ما يرى بكم إلاّ ما رأى القائل الاَوّل إذ قال لاَخيه: إحمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك وإن نجا فلك، إنّ الحجاج واللّه ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد، وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الاَعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدوّ اللّه الحجاج وبايعوا عبد الرحمن فإن_ّي أُشهدكم أن_ّي أوّل خالع، فنادى الناس من كل جانب: فعلنا، فعلنا قد خلعنا عدوّ اللّه.

وقام عبد الموَمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانياً وكان على شرطته حين أقبل فقال: عباد اللّه إنّكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم مابقيتم، وجمّركم تجمير فرعون الجنود فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث، ولن تعاينوا الاَحبة فيما أرى أو يموت أكثركم. بايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدوّ اللّه وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه اللّه من أرض العراق فبايعه الناس ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء.

ثم إنّه خرج عبد الرحمن من سجستان مقبلاً إلى العراق فلمّا دخل فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إنّا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة نبيّه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلّين.

ثم بعد وقوع اشتباكات عنيفة بين عبد الرحمن وجنود الحجاج، دخل عبد الرحمن البصرة، وبايعه

الناس من كهولها وقرائها على حرب الحجاج وخلع عبد الملك وكان ذلك في آخر ذي الحجّة من سنة 81ه_، فصارت الحرب في

( 272 )

الحقيقة بين الشاميين يرأسهم الحجاج، والعراقيين يقودهم عبد الرحمن.

مضى ابن الاَشعث إلى جانب الكوفة والحجاج خلف عبد الرحمن إلى أن حصل التقابل بين الجندين في دير الجماجم (1)فلمّا حمل أهل الشام على العراقيين ناداهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، فقال: يا معشر القرّاء إنّ الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إن_ّي سمعت عليّاً رفع اللّه درجته في الصالحين وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين، يقول يوم التقينا أهل الشام: «أيّ_ها الموَمنون إنّه من رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه، فقد سلم، وبرىَ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكر بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين، فقاتلوا هوَلاء المحلّين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.

وقال أبو البختري: أيّ_ها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فواللّه لئن ظهروا عليكم ليفسدنّ عليكم دينكم وليغلبنّ على دنياكم.

وقال الشعبي: يا أهل الاِسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فواللّه ما أعلم قوماً على بسيط الاَرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم فليكن بهم البدار.

وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولاتأثموا من قتالهم بنيّة ويقين وعلى آثامهم، قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبّ_رهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاح (2)

____________

(1) دير الجماجم: بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البرّ للسالك إلى البصرة قال أبو عبيدة: الجمجمة: القدح من الخشب وبذلك سمُيَ دير الجماجم لاَنّه يعمل فيه الاَقداح من الخشب (معجم البلدان: 2|501).

(2)

الطبري: التاريخ: 5|145 _ 163.

( 273 )

إلى غير ذلك من الخطب التي أُلقيت في ذلك المقام وإن تمت الحرب لصالح الحجاج وقضى على ثورة ابن الاَشعث يوم الاَربعاء لاَربع عشرة مضت من جمادي الاَُخرى عام 83ه_ ولكنّها كانت ثورة وهّاجة في وجه العدو استتبعت ثورات أُخرى حتى قضت على بني أُمية من رأس.

وأُعلّق على ثورة عبد الرحمن بأُمور:

1 _ إنّ الاِمعان في هذه الكلم الموجزة يقتضي بأنّ القوم كانوا مستلهمين من خطب الاِمام أمير الموَمنين وخطب سيد الشهداء يوم عاشوراء وغيره، ويظهر ذلك بمقارنة خطب أبي الشهداء منذ غادر المدينة إلى أن استشهد في الطف، وبهذا يظهر أنّ هذه الثورات كانت نابعة عن ثورة الحسين ولولاها لما تتابعت هذه الثورات وبالتالي كان الحكم بيد الاَمويين إلى قرون كما كان الاَمر كذلك بيد العباسيين ولم يكونوا أحسن سلوكاً من الاَمويين.

2 _ نرى أنّ سعيد بن جبير ذلك التابعي العظيم وكميل بن زياد النخعي، ممن شاركوا في هذه الثورة وجاهدوا تحت راية عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث مع أنّ بين المقود والقائد بعد المشرقين، فهوَلاء كانوا علويين وعبد الرحمن وأبوه محمد ابن الاَشعث كانا عثمانيَّي الهوى، فإنّ محمد بن الاَشعث هو الذي قضى على ثورة مسلم في الكوفة وقتله وشارك في قتل الحسين. وما هذا إلاّ لاَنّ روَساء الشيعة آنذاك استثمروا الفرصة وشاركوا في هذه الثورة ليقضوا على العدوّ الغاشم بيد غيرهم، ولاَجل ذلك لما وضعت الحرب أوزارها دعا الحجاج بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتصّ من عثمان أمير الموَمنين قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا. فقال: واللّه ما أدري على أيّنا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عليّ حين

عفوت عنه؟ ثم قال: أيّها الرجل من ثقيف لا تصرف عليَّ أنيابك ولاتهدّم عليّ تهدُّم الكثيب، ولاتكشر كشران الذئب، واللّه ما بقي من

( 274 )

عمري إلاّ ضِمْءُ الحمار فإنّه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، إقض ما أنت قاض فإنّ الموعد اللّه وبعد القتل الحساب. قال الحجاج: فإنّ الحجّة عليك. قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى كنتَ فيمن قتل عثمان وخلعت أمير الموَمنين. أُقتلوه، فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بن كنانة (1)

3 _ إنّ الحجاج كان ممن نكست فطرته فالمعروف كان عنده منكراً والمنكر معروفاً، وكان قتل الاَبرياء وتعذيبهم بألوان العذاب شيئاً سهلاً عنده. يقول الموَرخون: لما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم واعطائه الاَموال بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه: أمّا بعد: فقد بلغ أمير الموَمنين سرفك في الدماء وتبذيرك في الاَموال ولا يحتمل أمير الموَمنين هاتين الخصلتين لاَحد من الناس، وقد حكم عليك أمير الموَمنين في الدماء في الخطاء الدية وفي العمد القود، وفي الاَموال ردّها إلى مواضعها...

فلمّا بلغ كتاب عبد الملك إليه كتب إليه في الجواب: واللّه ما عليَّ من عقل ولا قود، ما أصبتُ القوم فأدِيَهُم، ولاظلمتهم فأُقاد بهم، ولا أعطيتهم إلاّ لك، ولا قتلت إلاّ فيك... (2)

وكان سعيد بن الجبير وكميل بن زياد ومئات من التابعين الاَبرياء كانوا ممن تستباح دماوَهم وأموالهم فخضّب وجه الاَرض بسيول الدماء ... وإلى اللّه المشتكى.

4 _ وإنّ من العج_ب العج_اب مشاركة الحس_ن المثنى في انتفاضة ابن الاَشعث ولاَجل ذلك يعدّه ابن المرتضى سلفاً للزيدية، ولم يكن زيد يوم ذاك إلاّ طفلاً أو مراهقاً، وبما أنّ أهل البيت كانوا يعانون من النظام الاَمويّ المتمثل يوم

____________

(1) الطبري: التاريخ: 5|169 _ 170.

(2)

المسعودي: مروج الذهب: 3|134 _ 135.

( 275 )

ذلك في بني مروان، شاركوا في مثل هذه الانتفاضة لاتفاقهم معه في الهدف الموَقّت أعني إزالة عبد الملك عن الحكم (1)

إلى هنا تمت الثورات المتقدمة على ثورة الاِمام زيد وقد اتضح كونها مستلهمة من ثورة الحسين بوجه وحان حين الكلام في ثورة زيد الشهيد التي أنارت الطريق للثائرين المتأخرين الذين أنهضهم بثورته، للقضاء على النظام السائد في مدّة لا تتجاوز عشر سنين وإليك البيان.

____________

(1) البحر الزخار: المقدمة |225، وسيوافيك الكلام عند ذكر أئمة الزيدية.

( 276 )

( 277 )

القسم الثاني : فهرس إجمالي لفصول القسم

اشاره

القسم الثاني : فهرس إجمالي لفصول القسم الثاني ، العشرة

الفصل الاَوّل عرض إجمالي للثائرين بعد الاِمام زيد

الفصل الاَوّل عرض إجمالي للثائرين بعد الاِمام زيد

وهم بين داع وإمام

إنّ ثورة زيد بن علي كانت ثورة عارمة بوجه الظالمين هزّت وضعضعت أركان الدولة الاَموية وساعدت على إزالتهم عن أديم الاَرض، وقد استغلّها العباسيون في تنظيم حركتهم لاِقامة دولتهم وقد تركت ثورته في القلوب محبّة للثائر ومن حبا حبوه بشكل قلّ نظيره، حتى أنّ يحيى بن زيد لما أُطلق سراحه اتّخذ الخراسانيون من قيد قدميه فصوصاً لخواتيمهم، يتبركون بها، وهذا يدلّ على عمق تأثير ثورة زيد في قلوب المسلمين. ولاِيقاف القارىَ على الاَحداث التي وقعت بعد ثورته، نذكر الذين نهجوا منهجه وساروا على دربه، أخذوا بزمام الثورة وقادوها، واحداً بعد الآخر، وإليك أسماءهم أوّلاً، ثم الاِدلاء بحياتهم وثورتهم، ثانياً:

1 _ يحيى بن زيد، الذي اشترك مع أبيه في الثورة وبقي بعد مقتل أبيه.

2 _ محمد بن عبد اللّه بن الحسن المعروف بالنفس الزكية المستشهد عام 145 ه_، خرج بالمدينة مطالباً بإرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، وكان

( 330 )

محمد قد شارك في ثورة زيد بن علي ولما فشلت عاد إلى المدينة، وسيوافيك أنّ يحيى بن زيد قد فوّض الاَمر إلى النفس الزكية.

3 _ لما قتل محمد بن عبد اللّه قام أخوه إبراهيم بن عبد اللّه في نفس العام في البصرة، التحق به أنصار زيد بن علي، لمواصلة القتال من جديد. إلى أن قضى عليه أبو جعفر المنصور في نفس العام.

4 _ ولما قتل محمد بن عبد اللّه، مضى أخوه إدريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس وبعث المنصور من اغتاله بالسم وقام ولده إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن مقامه،

وأسّس دولة الاَدارسة في المغرب. ذكر تفصيله المسعودي في مروج الذهب (1)وسيوافيك الكلام فيه في محلّه.

5 _ عيسى بن زيد بن علي، أخو يحيى بن زيد، وقد توارى بعد ثورة أخيه فمات متوارياً عام 166ه_.

6 _ محمد بن إبراهيم (طباطبا)، فقد خرج في خلافة المأمون ودعا إلى الرضا من آل محمد وكانت له أتباع وغلب على بلاد العراق وهزمت جيوش المأمون التي أُرسلت للقضاء عليه، وصلت سيطرة ابن طباطبا إلى الحجاز حتى أنّ الحسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي المعروف ب_ «الاَفطس» دعا له بالمدينة، وتوفي عام 199ه_.

7 _ محمد بن محمد بن زيد بن علي، وكان أبو السرايا قائداً عاماً لجيشه وكان قبل ذلك داعية لابن طباطبا.

لما توفي محمد بن إبراهيم (طباطبا) هرب أخوه القاسم بن إبراهيم

____________

(1) المسعودي مروج الذهب: 3|296، قال: وقد أتينا على خبرهم عند ذكرنا بخبر عبيد اللّه صاحب المغرب، وبنائه المدينة المعروف بالمدينة.

( 331 )

(طباطبا) إلى الهند وتوفي هناك عام 254 ه_ فعاد ابنه الحسين بن القاسم إلى اليمن، وعند ذلك تواصلت قيادة الثورة بابنه الآخر أعني:

8 _ محمد بن القاسم بن علي بن عمر الاَشرف بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، فقد ظهر في الطالقان عام 219 ه_ ودعا إلى الرضا من آل محمد، ولكن أُلقي القبض عليه فجيء به إلى المعتصم فسجن.

9 _ يحي_ى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، خرج بالكوفه عام 250ه_ غير أنّ ثورته فشلت.

10 _ يحيى بن الحسين بن القاسم، المعروف بالزاهد وقد دعا لنفسه بصعده وبويع للاِمامة عام 288 ه_.

ثم إنّ الاِمام يحيى بن الحسين أسس دولة زيدية

باليمن وقامت بالاِمامة واحد بعد الآخر وكلّهم من أبناء القاسم إلى أن أُقصيت الزيدية عن الحكم في اليمن بحلول الجمهورية، وذلك في شهر ربيع الاَوّل من سنة 1382ه_، وسيوافيك أسماء أئمتهم إلى المنصور باللّه محمد البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين. في محلّه.

11 _ قامت دولة زيدية أُخرى في طبرستان بين 250 _ 360ه_.

وفي عام 250ه_ ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب في طبرستان أيام المستعين، واستطاع السيطرة على طبرستان وجرجان بعد قتال مرير ضد محمد بن طاهر أمير خراسان وتوفي عام 270ه_.

12 _ ق_ام مقامه أخوه محمد بن زيد ودخل بلاد الديلم عام 277 ه_ وامتلكها وتمت بيعة رافع له.

( 332 )

وفي عام 287 ه_ سار محمد بن زيد نحو خراسان للاستيلاء عليها، فاصطدم بإسماعيل الساماني المتوفى عام 295 ه_ ومات متأثراً بجراحه.

13 _ ثم ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن علي المعروف ب_ «الاَطروش» وقد كان يدعو الناس إلى الاِسلام على مذهب زيد بن علي، وكانوا على دين المجوسية فاستجابوا له واستطاع عام 301، أن يستولي على طبرستان والديلم إلى أن وافته المنية عام 304 ه_.

14 _ وجاء بعده الحسن بن القاسم (الملقب بالداعي) بن الحسن بن علي ابن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط.

15 _ وقام مقامه محمد بن الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط المتوفى سنة 360ه_.

هذه جدولة موجزة وضعتها أمام القارىء للثائرين المشهورين، وإلاّ الثوار الداعون إلى منهج الاِمام زيد أكثر من ذلك، وقد ذكر الاِمام الاَشعري منهم

اثنين وعشرين نفراً كلّهم من العلويين، حيث ضرجوا بدمائهم، أو أُقصوا من ديارهم، لاِرجاع العدالة والدين إلى الساحة الاِسلامية، ولعلّ بين قرّاء الكتاب من له رغبة في الوقوف على أسماء الجميع، _ ولذلك _ نذكر نصّ الشيخ الاَشعري بتلخيص.

قائمة الثائرين بعد زيد الشهيد :

قال الاَشعري: هذا ذكر من خرج من آل النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فذكر أوّلاً خروج أبي الشهداء الحسين بن علي _ عليهما السلام _، ثم خروج زيد بن علي على وجه التفصيل، وأوجز الكلام فيما يأتي، أعني بهم:

( 333 )

1 _ يحيى بن زيد...

2 _ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، ذو النفس الزكية.

3 _ إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، أخو محمد.

4 _ الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن، قتيل فخ.

5 _ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي، صار إلى الديلم.

6 _ محمد بن جعفر بن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن المثنى خرج ب_ «تاهرت».

7 _ محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي.

8 _ محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

9 _ إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، _ قدّس سرّه _ خرج مرة باليمن وبالعراق أُخرى.

10 _ محمد بن القاسم من ولد الحسين بن علي، بخراسان، خرج ببلدة يقال لها طالقان.

11 _ محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الملقب ب_ «الديباج» لحسن وجهه، خرج داعية لمحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، فلما مات محمد بن

إبراهيم دعا لنفسه.

12 _ الاَفطس خرج بالمدينة داعياً لمحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، فلما مات محمد بن إبراهيم دعا إلى نفسه.

13 _ عل_ي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، خرج في خلافة المعتصم.

14 _ الحسن بن زيد بن الحسن بن علي أبي طالب، خرج بطبرستان في سنة 250ه_.

( 334 )

15 _ وخرج بقزوين، الكوكبي وهو من ولد الاَرقط، واسمه: الحسن بن أحمد بن إسماعيل، من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب.

16 _ وخرج بالكوفة أيام المستعين، أبو الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

17 _ وخرج في أيامه أيضاً، الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد اللّه من ولد الحسين بن علي.

18 _ خرج بسواد الكوفة أيام فتنة المستعين، ابن الاَفطس.

19 _ وخرج بسواد المدينة سنة 250ه_ ، إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم من ولد الحسن بن علي فغلب عليها وتوفي عام 252ه_.

20 _ خلف أخوه محمد بن يوسف وجاء به أبو الساج، وقتل كثيراً من أصحابه وهرب محمد فمات في هربه.

21 _ خرج بالكوفة في آخر أيام بني أُمية، عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وحاربه عبد اللّه بن عمر فغادر الكوفة عازماً إلى فارس، فمات فيها.

22 _ وخرج صاحب البصرة وكان يدّعى أنّه علي بن محمد بن علي بن عيسى ابن زيد بن علي وأنصاره الزنج وغلب على البصرة سنة 257 ه_ وقتل سنة 270ه_.

23 _ وخرج بأرض الشام المقتول على الدّكة، فظفر به المكتفي باللّه بعد حروب ووقايع كانت (1)

والنسبة بين ما ذكرناه وما ذكره الاَشعري عموم وخصوص من

وجه، وهو

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 75 _ 85.

( 335 )

بعد لم يذكر الثائر الطائر الصيت يحيى بن الحسين الذي أقام الدولة في اليمن، كما ترك بعض الثائرين الموَسسين للدولة في طبرستان.

والجدير بالدراسة، هو البحث عن الحافز أو الحوافز التي كانت تدفع هوَلاء الاَماثل الاَشراف نحو القتال في الساحة، فكانوا يرون بأُم أعينهم، أنّه لا يقوم واحد منهم إلاّ ويقتل أو يسجن ويعذّب بألوان العذاب، ومع ذلك كانوا يبادلون هدوء الحياة وملاذّها بالشهادة في المعارك، والصلب على المشانق، وقتل الاَولاد والاَصحاب، ونهب الاَموال.

وهذه هي النقطة الحساسة في حياة العلويين التي تحتاج إلى دراسة معمقة بحياد ورحابة صدر وبما أنّ موسوعتنا، موسوعة تاريخ العقائد، لا تاريخ الشخصيات والحوادث، نرجىء البحث عنها إلى آونة أُخرى، وفي نهاية المطاف نقول: يُقسّم الثائرون بعد زيد الشهيد إلى أصناف أربعة:

1 _ أصحاب الانتفاضة: الذين قاموا بوجه الظلم، بعد استشهاد زيد في أقطار مختلفة وعلموا أنّ أعواد المشانق نصب أعينهم وكان نصيبهم من القيام هو الشهادة، وإيقاظ الاَُمّة وأداء الواجب من دون أن يوَسّسوا دولة في قطر من الاَقطار، وإنّما كانت أعمالهم أشبه بما يعبر عنها اليوم بالانتفاضة.

الذين ساروا على درب الاِمام زيد وصار التوفيق نصيبهم، فأسّسوا دولة في قطر من الاَقطار امتدت قرناً أو قروناً، وهوَلاء عبارة عن:

2 _ أئمة الزيدية في اليمن: ابتداءً بالاِمام يحيى بن الحسين الذي قام بالاَمر عام 284 ه_ وتوفي عام 298 ه_، وانتهاءً بحياة المنصور باللّه محمد البدر الذي أُزيل عن الحكم بقيام الجمهورية عام 1382ه_.

3 _ أئمة الزيدية في طبرستان: ابتداءً من الحسن بن زيد بن محمد بن

( 336 )

إسماعيل الذي قام بالحكم وأسّس الدولة سنة 250 ه_ وانتهاءً بمحمد بن الحسن ابن القاسم

الذي توفي سنة 360ه_.

4 _ دعاة الزيدية في المغرب: ابتداءً بإدريس بن عبد اللّه المحض وانتهاء بأحد احفاده، وسيوافيك تفصيله.

فنذكرهم على وجه التفصيل في فصول:

( 337 )

الفصل الثاني أصحاب الانتفاضة

الفصل الثاني أصحاب الانتفاضة

استشهد زيد بن علي _ رضي اللّه عنه _ وهو في طريق دعوته إلى كسح الظلم ونشر العدل، وأشعل فتيل الثورة وبقيت نارها بعد استشهاده متأجّج_ة بين أولاده وأصحابه، بيد كابر بعد كابر. وإليك مَن نهج منهاجه:

1

يحيى بن زيد بن علي

(107 _ 125 ه_)

هو يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ وأُمّه «ريطة» بنت أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية، وإيّاها عنى أبو ثميلة الآبار بقوله:

فلعل راحم أُمّ موسى والذي * نجّاه من لجج خضمّ مزبد

سيسرُ «ريطة» بعد حزن فوَادها * يحيى، ويحيى في الكتائب يرتدي

وأُمّ «ريطة» هي بنت الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، أُمّها ابنة المطلب بن أبي وادعة السهمي.

شرف تتابع كابر عن كابر * كالرمح انبوب على انبوب

( 338 )

وقد ذكر أبو الفرج الاَصفهاني ثورته واستشهاده على وجه مبسط، وجاء الجزري باختصاره في الكامل ونذكر نصّ الثاني:

لمّا قتل زيد بن علي ودفنه يحيى ابنه، سار بعد قتل أبيه، إلى خراسان، فأتى «بلخ» فأقام بها عند الحريش بن عمرو بن داود حتى هلك هشام، وولي الوليد بن يزيد. فكتب يوسف بن عمر إلى «نصر» بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش، وقال له: خذه أشد الاَخذ، فأخذ «نصر» الحريش، فطالبه بيحيى، فقال: لا علم لي به. فأمر به فجلد ستمائة سوط. فقال الحريش: واللّه لو أنّه تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فلما رأى ذلك قريش بن الحريش قال: لا تقتل

أبي وأنا أدلّك على يحيى، فدلّه عليه، فأخذه «نصر» وكتب إلى الوليد يُخبره، فكتب الوليد يأمره أن يوَمِّنه ويخلّي سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه «نصر» وأمره أن يلحق بالوليد وأمر له بألفي درهم، فسار إلى «سرخس» فأقام بها، فكتب «نصر» إلى عبد اللّه بن قيس بن عباد يأمره أن يسيّره عنها، فسيّره عنها، فسار حتى انتهى إلى «بيهق»، وخاف أن يغتاله يوسف بن عمر فعاد إلى نيسابور، وبها عمرو بن زرارة، وكان مع يحيى سبعون رجلاً، فرأى «يحيى» تجاراً، فأخذ هو وأصحابه دوابهم وقالوا: علينا أثمانها، فكتب عمرو بن زرارة إلى «نصر» يخبره، فكتب «نصر» يأمره بمحاربته، فقاتله عمرو، وهو في عشرة آلاف ويحيى في سبعين رجلاً، فهزمهم يحيى وقتل عمراً وأصاب دواب كثيرة وسار حتى مرّ بهرات فلم يعرض لمن بها وسار عنها.

وسرّح «نصر بن سيار» سالم بن أحْوز في طلب يحيى، فلحقه بالجوزجان فقاتله قتالاً شديداً، فرُمي يحيى بسهم فأصاب جبهته، رماه رجل من عَنَزة يقال له عيسى، فقُتل أصحاب يحيى من عند آخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه.

فلمّ_ا بلغ الوليد قتل يحيى، كتب إلى يوسف بن عمر: خذ عُجَيْل أهل العراق فأنزله من جذعه، _ يعني زيداً _ ، وأحرقه بالنار ثم انسفه باليمّ نسفاً. فأمر

( 339 )

يوسف به فأُحرق، ثم رضّه وحمله في سفينة ثم ذرّاه في الفرات.

وأمّا يحيى فإنّه لما قتل صلب بالجوزجان، فلم يزل مصلوباً حتى ظهر أبو مسلم الخراساني واستولى على خراسان، فأنزله وصلّى عليه ودفنه وأمر بالنياحة عليه في خراسان، وأخذ أبو مسلم ديوان بني أُمية وعرف منه أسماء من حضر قتل يحيى، فمن كان حياً قتله، ومن كان ميتاً خلفه في أهله بسوء (1)

وقال السيد المدني في

شرح الصحيفة:

«لما قتل أبوه زيد بن علي، خرج يحيى حتى نزل بالمدائن، فبعث يوسف بن عمر في طلبه، فخرج إلى الريّ ثم إلى نيسابور من خراسان، فسألوه المقام بها فقال: بلدة لم تُرفع فيها لعلي وآله راية لا حاجة لي في المقام بها، ثم خرج إلى «سرخس» وأقام بها عند يزيد بن عمر التميمي ستة أشهر، حتى مضى هشام بن عبد الملك لسبيله، وولى بعده الوليد بن يزيد فكتب إلى «نصر بن سيار» في طلبه فأخذه ببلخ وقيّده وحبسه، فقال عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه، لما بلغه ذلك:

أليس بعين اللّه ما تفعلونه * عشية يحيى موثق بالسلاسل

كلاب عوت لا قدّس اللّه سرها * فجئن بصيد لايح_ل لآكل

وكتب نصر بن سيار إلى يوسف بن عمر، يخبره بحبسه وكتب يوسف إلى الوليد، فكتب الوليد إليه بأن يحذره الفتنة ويخلّى سبيله فخلّى سبيله وأعطاه ألفي درهم وبغلين، فخرج حتى نزل الجوزجان (2)فلحق به قوم من أهلها ومن الطالقان، زهاء خمسمائة رجل، فبعث إليه «نصر بن سيار»، سالم بن أحور فاقتتلوا

____________

(1) أبو الفرج الاَصفهاني: مقاتل الطالبيين: 103 _ 108، والجزري: الكامل: 5|271 _ 272.

(2) الجوزجان: بزاي بين الجيمين المفتوحتين: كورة واسعة من كور بلخ بخراسان.

( 340 )

أشد قتال ثلاثة أيام حتى قتل جميع أصحاب يحيى وبقي وحده فقتل عصر يوم الجمعة سنة خمس وعشرين ومائة، وله ثماني عشرة سنة، وبعث برأسه إلى الوليد، فبعث به الوليد إلى المدينة، فوضع في حجر أُمه «ريطة» فنظرت إليه، وقالت: شردتموه عنّي طويلاً، وأهديتموه إليّ قتيلاً، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه بكرة وأصيلاً.

فلمّا قتل عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه بن العباس،

مروان بن محمد بن مروان، بعث برأسه حتى وضع في حجر أُمّه فارتاعت. فقال: هذا بيحيى بن زيد، وكان الذي احتز رأس يحيى بن زيد، سورة بن أبحر، وأخذ العنبري سلبه، وهذان أخذهما أبو مسلم المروزي فقطع أيديهما وأرجلهما وصلبهما. ولاعقب ليحيى بن زيد (1).

هذا ما يذكره الموَرّخون وقد كان ليحيى عند الاِمام الصادق _ عليه السلام _ مكانة عالية، وقد استشهد ولم يكمل العقد الثاني من عمره الشريف حيث تولد عام 107ه_ واستشهد في عام 125ه_ ولما سمع الاِمام الصادق شهادته وصلبه حزن حزناً عظيماً ومن كلامه في حقّ يحيى فيما بعد قال: «إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين ابن علي صلوات اللّه عليه فنزع اللّه ملكهم، وقتل هشام، زيد بن علي فنزع اللّه ملكه، وقتل الوليد، يحيى بن زيد رحمه اللّه فنزع اللّه ملكه» (2)

أمّا أعلام الاِمامية فقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الاِمام الصادق _ عليه السلام _ وقال: يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدني، ومن غرائب الكلام عدّه من أصحاب الكاظم _ عليه السلام _ مع أنّه ولد عام 128ه_ بعد ثلاثة سنين من استشهاد يحيى بن زيد.

____________

(1) السيد علي خان المدني: رياض السالكين: 1|69 _ 70.

(2) المجلسي: البحار: 46|182 ح 46.

( 341 )

يحيى بن زيد والصحيفة السجادية :

إنّ الصحيفة السجادية نسخة من علوم أئمة أهل البيت، وهي أدعية للاِمام السجاد تهز كل إنسان إذا قرأها بدقة وإمعان، وقد أودع فيها الاِمام كنوزاً من المعارف، وعلّم الاِنسان كيفية الدعاء والابتهال إلى اللّه سبحانه، انشأها سيد الساجدين في عصر الظلم والقتل والتشريد وقد كانت نسخة منها عند زيد الثائر، وقد أوصى بها إلى

ولده يحيى، وهو أيضاً أوصى إلى: محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب وذكر تفصيله عمير بن المتوكل الثقفي البلخي عن أبيه متوكل بن هارون قال:

لقيت يحيى بن زيد بن علي _ عليه السلام _ وهو متوجه إلى خراسان فسلّمت عليه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلتُ: من الحجّ، فسألني عن أهله وبني عمّه بالمدينة وأحفى السوَال عن جعفر بن محمد فأخبرته بخبره وخبرهم وحزنهم على أبيه زيد بن علي _ عليه السلام _ فقال لي: قد كان عمي محمد بن علي _ عليه السلام _ أشار إلى أبي بترك الخروج وعرّفه أنّه إن هو خرج وفارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره، فهل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد _ عليه السلام _ ؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟ قلتُ: نعم، قال: بم ذكرني؟ قلتُ: جعلتُ فداك ما أُحبّ أن أستقبلك بما سمعته منه، فقال: أبالموت تخوفني؟ هات ما سمعته، فقلت سمعته يقول:

إنّك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصلب، فتغير وجهه وقال: "يَمحُوا اللّهُ ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِندَه أُمُّ الكِتاب" يا متوكل إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّد هذا الاَمر بنا، وجعل لنا العلم والسيف، فجمعا لنا وخصّ بنو عمنا بالعلم وحده، فقلت: جعلت فداك إنّي رأيت الناس إلى ابن عمك جعفر _ عليه السلام _ أميل منهم إليك وإلى أبيك، فقال: إنّ عمي محمد بن علي وابنه جعفر _ عليهما السلام _ دعوا الناس إلى الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت، فقلت: يابن رسول اللّه أهم أعلم أم أنتم؟

( 342 )

فأطرق إلى الاَرض مليّاً ثم رفع رأسه وقال: كلّنا له علم غير أنّهم يعلمون كلّ ما

نعلم ولا نعلم كلّ ما يعلمون.

ثم قال لي: أكتبت من ابن عمي شيئاً ؟ قلت: نعم، قال: أرينه، فأخرجت إليه وجوهاً من العلم وأخرجت له دعاء أملاه عليّ أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ وحدثني أنّ أباه محمد بن علي _ عليهما السلام _ أملاه عليه، وأخبره أنّه من دعاء أبيه علي بن الحسين _ عليهما السلام _ من دعاء الصحيفة الكاملة، فنظر فيه يحيى حتى أتى على آخره وقال لي: أتأذن في نسخه فقلت: يابن رسول اللّه أتستأذن فيما هو عنكم، فقال: أما أنّي لاَخرجن إليك صحيفة من الدعاء الكامل ممّا حفظه أبي عن أبيه، وانّ أبي أوصاني بصونها ومنعها غير أهلها، قال عمير: قال أبي: فقمت إليه فقبلت رأسه، وقلت له: واللّه يابن رسول اللّه إنّي لاَدين اللّه بحبكم وطاعتكم وأنّي لاَرجو أن يسعدني في حياتي ومماتي بولايتكم. فرمى صحيفتي التي دفعتها إليه إلى غلام كان معه وقال: أُكتب هذا الدعاء بخط بيّن وحسن وأعرضه عليّ لعلّي أحفظه، فإنّي كنت أطلبه من جعفر حفظه اللّه فيمنعنيه قال المتوكل: فندمت على ما فعلت ولم أدر ما أصنع ولم يكن أبو عبد اللّه _ عليه السلام _ تقدم إليّ ألاّ أدفعه إلى أحد.

ثم دعا بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة فنظر إلى الخاتم وقبّله وبكى ثم فضّه وفتح القفل، ثم نشر الصحيفة ووضعها على عينيه وأمرّها على وجهه، وقال: واللّه يامتوكل لولا ما ذكرت من قول ابن عمي إنّني أُقتل وأُصلب لما دفعتها إليك ولكنت بها ضنيناً ولكني أعلم أنّ قوله حقّ أخذه عن آبائه وأنّه سيصح، فخفت أن يقع مثل هذا العلم إلى بني أُمية فيكتموه ويدّخروه في خزائنهم لاَنفسهم، فاقبضها واكفينها وتربص

بها، فإذا قضى اللّه من أمري وأمر هوَلاء القوم ما هو قاض، فهي أمانة لي عندك حتى توصلها إلى ابني عمي: محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي _ عليهما السلام _ فإنّهما القائمان في

( 343 )

هذا الاَمر بعدي.

قال المتوكل: فقبضت الصحيفة، فلما قتل يحيى بن زيد صرت إلى المدينة فلقيت أبا عبد اللّه _ عليه السلام _: فحدّثته الحديث عن يحيى فبكى واشتد وجده به، وقال: «رحم اللّه ابن عمي وألحقه بآبائه وأجداده، واللّه يا متوكل مامنعني من دفع الدعاء إليه إلاّ الذي خافه على صحيفة أبيه، وأين الصحيفة؟» فقلت: ها هي، ففتحها، أو قال: «هذا واللّه خط عمي زيد ودعاء جدي علي بن الحسين _ عليهما السلام _ » ثم قال لابنه: «قم يا إسماعيل فأتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه وصونه» فقام إسماعيل فأخرج صحيفة كأنّها الصحيفة التي دفعها إليّ يحيى بن زيد فقبّلها أبو عبد اللّه ووضعها على عينه وقال: « هذا خط أبي وإملاء جدي _ عليهما السلام _ بمشهد مني» فقلت: يابن رسول اللّه إن رأيت أن أعرضها مع صحيفة زيد ويحيى، فأذن لي، وقال: «قد رأيتك لذلك أهلاً» فنظرتُ وإذا هما أمر واحد ولم أجد حرفاً منها يخالف ما في الصحيفة الاَُخرى، ثم استأذنت أبا عبد اللّه _ عليه السلام _ في دفع الصحيفة إلى ابني عبد اللّه بن الحسن، فقال: «إنّ اللّه يأمركم أن توَدوا الاَمانات إلى أهلها، نعم فأدفعها إليهما» فلما نهضت للقائهما قال لي: «مكانك» ثم وجّه إلى محمد وإبراهيم فجاءا، فقال: هذا ميراث ابن عمكما يحيى من أبيه قد خصّكما به دون إخوته ونحن مشترطون عليكما فيه شرطاً، فقالا: رحمك اللّه

قل فقولك المقبول، فقال: «لا تخرجا بهذه الصحيفة من المدينة» قالا: ولم ذاك؟ قال: «إنّ ابن عمكما خاف عليهما أمراً أخافه أنا عليكما» قالا: إنّما خاف عليها حين علم أنّه يقتل، فقال: أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «وأنتما فلاتأمنا فواللّه إنّي لاَعلم أنّكما ستخرجان كما خرج وستقتلان كما قتل» فقاما وهما يقولان: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

فلمّا خرجا قال لي أبو عبد اللّه _ عليه السلام _: «يامتوكل كيف قال لك يحيى إنّ عمي محمد بن علي وابنه جعفراً دعوا الناس إلى الحياة ودعوناهم إلى

( 344 )

الموت» قلت: نعم أصلحك اللّه قد قال لي ابن عمك يحيى ذلك، فقال: «يرحم اللّه يحيى انّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي _ عليه السلام _ إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أخذته نعسة وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقرى، فاستوى رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ جالساً والحزن يُعرف في وجهه، فأتاه جبريل _ عليه السلام _ بهذه الآية: "وما جَعَلْنا الرُّوَيا الّتي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغياناً كَبيراً" (1)يعني بني أُمية قال: ياجبريل أعلى عهدي يكونون وفي زمني، قال: لا ولكن تدور رحى الاِسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الاِسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها ثم ملك الفراعنة قال وأنزل اللّه تعالى في ذلك: "إنّا أنزلناهُ فِي ليلة القَدْرِ * وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ * ليلةُ

القَدْرِ خيرٌ من ألفِ شَهْر" (2)يملكها بنو أُمية ليس فيها ليلة القدر، قال: فأطلع اللّه عزّ وجلّ نبيه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الاَُمّة وملكها طول هذه المدّة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن اللّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا، أخبر اللّه نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم قال وأنزل اللّه تعالى فيهم: "ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوارَ* جَهنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئسَ القَرَار" (3)ونعمة اللّه محمد وأهل بيته، حبهم إيمان يدخل الجنة وبغضهم كفر ونفاق يدخل النار، فأسر رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ذلك إلى علي وأهل بيته» (4)

____________

(1) الاِسراء: 60.

(2) القدر: 1 _ 3.

(3) إبراهيم: 28.

(4) الصحيفة السجادية: قسم المقدمة، لاحظ رياض السالكين: 1|69 _ 187 قسم المتن.

( 345 )

وسيوافيك خبر أخيه: عيسى بن زيد بعد أخبار محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن المثنى وذلك حفظاً للتسلسل الزمني، فسلام اللّه عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

وقد رثى يحيى بن زيد لفيف من الشعراء منهم دعبل الخزاعي بتائيته المعروفة المشهورة التي تبلغ مائة وعشرين بيتاً رائعاً وفيها من مناقب أهل البيت ومصائبهم الجم الغفير ومطلعها قوله:

تجاوبن بالاَرنان والزفرات * نوائح عجم اللفظ والنطقات

يخبرن بالاَنفاس عن سر أنفس * أُسارى هوىً ماضٍ وآخر آت

إلى أن انتقل عن كل ما يوشح به أوائل القصائد إلى قوله:

فكيف ومن أنى بطالب زلفة * إلى اللّه بعد الصوم والصلوات

سوى حبّ أبناء النبي ورهطه * وبغض بني الزرقاء والعبلات

وهند وما أدّت سمية وابنها *

أُولو الكفر في الاِسلام والفجرات

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ومحكمه بالزور والشبهات

ثم إلى أن جدد المطلع بقوله:

بكيت لرسم الدار من عرفات * وأجريت دمع العين بالعبرات

وبانَ عرى صبري وهاجت صبابتي * رسوم ديار قد عفت وعرات

مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول اللّه بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمرات

( 346 )

ثم إلى أن قال عطر اللّه مرقده وفاه:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً * وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير فاندبي * نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة * وأُخرى بفخ نالها صلواتي

وأُخرى بأرض الجوزجان محلها * وقبر بباخمرى لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكية * تضمنها الرحمن في الغرفات

قبور ببطن النهر من جنب كربلا * معرسهم منها بشط فرات

توفوا عطاشا بالفرات فليتني * توفيت فيهم قبل حين وفاتي (1)

* * *

____________

(1) ذكرها غير واحد من الاَُدباء والموَرخين، ومن أراد أن يقف على جميعها فليرجع إلى: روضات الجنات: 3|302 _ 304 والغدير: 2|349.

( 347 )

أصحاب الانتفاضة

2

عبد اللّه بن الحسن

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب

(70 _ 145 ه_)

إنّ عبد اللّه بن الحسن والد محمد النفس الزكية وإبراهيم اللّذين استشهدا في عصر المنصور بطيبة والبصرة.

فلابد من الاِشارة إلى حياة الوالد قبل الولدين.

يطلق عليه عبد اللّه المحض، لاَنّ أباه هو الحسن بن الحسن السبط، وأُمّه فاطمة بنت الحسين السبط، فهو منسوب إلى رسول اللّه، من كلا الطرفين وكان قوي النفس شجاعاً، ولما قدم أبو العباس السفاح وأهله سرّاً على أبي سلمة الخلاّل الكوفة ستر أمرهم، وعزم أن يجعل الخلافة شورى بين ولد علي والعباس حتى يختاروا من أرادوا، فكتب

إلى ثلاثة نفر منهم: جعفر بن محمد _ عليهما السلام _ وعمر بن علي بن الحسين، وعبد اللّه بن الحسن، ووجّه بالكتب مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة فبدأ بجعفر بن محمد _ عليهما السلام _ ولقيه ليلاً وأعلمه أنّه رسول أبي سلمة وأنّ معه كتاباً إليه منه، فقال: «ما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري» فقال الرسول: تقرأ الكتاب وتجيب عليه بما رأيت، فقال جعفر لخادمه: «قدّم مني السراج» فقدّمه فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه فقال: ألا تجيبه؟ فقال: « قد رأيت الجواب» (1)

____________

(1) ذكر الشهرستاني أنّ الاِمام الصادق _ عليه السلام _: قال له: «ماأنت من رجالي، ولا الزمان زماني» الملل والنحل: 1|154، ط 1402.

( 348 )

فخرج من عنده وأتى عبد اللّه بن الحسن بن الحسن فقبّل كتابه وركب إلى جعفر بن محمد، فقال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني لاَمر، ويراني أحقّ الناس به وقد جاءته شيعتنا، من خراسان فقال له جعفر الصادق _ عليه السلام _: «ومتى صاروا شيعتك؟ أنت وجهت أبا سلمة إلى خراسان؟ وأمرته بلبس السواد؟ هل تعرف أحداً منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون من شيعتك وأنت لاتعرفهم إلاّ يعرفونك؟ فإن هذه الدولة ستتم إلى هوَلاء القوم ولاتتم لاَحد من آل أبي طالب وقد جاءني مثل ماجاءك» فانصرف غير راض بما قاله.

وأمّا عمر بن علي بن الحسين فردّ الكتاب وقال: ما أعرف كاتبه فأُجيبه.

ومات عبد اللّه المحض في حبس أبي جعفر الدوانيقي مخنوقاً وهو ابن خمس وسبعين سنة.

وقد ذكر المسعودي كيفية القبض عليه وقال: وكان المنصور قبض على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي _ عليه السلام _ وكثير من أهل بيته وذلك في سنة أربع

وأربعين ومائة في منصرفه من الحجّ، فحملوا من المدينة إلى الربذة من جادة العراق وكان ممّن حمله مع عبد اللّه بن الحسن: إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وأبو بكر بن الحسن بن الحسن، وعلي الخير، وأخوه العباس، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن، والحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن، ومعهم محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أخو عبد اللّه بن الحسن بن الحسن لاَُمّه فاطمة ابنة الحسين بن علي، وجدتهما فاطمة بنت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

فجرد المنصور بالربذة محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان فضربه ألف سوط، وسأله عن ابني أخيه محمد وإبراهيم فأنكر أن يعرف مكانهما، فسألت جدته العثماني في ذلك الوقت، وارتحل المنصور عن الربذة وهو في قبة، وأوهن القوم بالجهد، فحملوا على المحامل المكشوفة، فمر بهم المنصور في قبته على الجمازة، فصاح به عبد اللّه بن الحسن يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بكم يوم بدر،

( 349 )

فصيرهم إلى الكوفة، وحبسوا في سرداب تحت الاَرض لا يفرّقون بين ضياء النهار وسواد الليل، وخلّ_ى منهم: سليمان وعبد اللّه ابني داود بن الحسن بن الحسن، وموسى بن عبد اللّه بن الحسن، والحسن بن جعفر، وحبس الآخرين ممن ذكرنا حتى ماتوا وذلك على شاطىء الفرات من قنطرة الكوفة، ومواضعهم بالكوفة تزار في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد هدم عليهم الموضع، وكانوا يتوضّوَن في مواضعهم فاشتدت عليهم الرائحة، فاحتال بعض مواليهم حتى أدخل عليهم شيئاً من الغالية، فكانوا يدفعون بشمها تلك الروائح المنتنة، وكان الورم في أقدامهم، فلا يزال يرتفع حتى يبلغ الفوَاد فيموت صاحبه.

وذكر أنّهم لمّا حبسوا في هذا

الموضع أشكل عليهم أوقات الصلاة، فجزّأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلّون الصلاة على فراغ كل واحد منهم من جزئه وكان عدد من بقي منهم خمسة، فمات اسماعيل بن الحسن فترك عندهم فجيف، فصعق داود بن الحسن فمات، وأتى برأس إبراهيم بن عبد اللّه فوجه به المنصور مع الربيع إليهم فوضع الرأس بين أيديهم وعبد اللّه يصلي، فقال له إدريس أخوه: اسرع في صلاتك يا أبا محمد، فالتفت إليه وأخذ الرأس فوضعه في حجره، وقال له: أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم، واللّه لقد كنت من الذين قال اللّه عزّ وجلّ فيهم:

"الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ولا يَنقُضُونَ المِيثاقَ * والّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أن يُوصَل" إلى آخر الآية، فقال له الربيع: كيف أبو القاسم في نفسه؟ قال: كما قال الشاعر:

فتى كان يحميه من الذلّ سيفه * ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابها

ثم التفت إلى الربيع: فقال: قل لصاحبك قد مضى من بوَسنا أيّام ومن نعيمك أيّام؟ والملتقى، القيامة. قال الربيع: فما رأيت المنصور قطّ أشدّ انكساراً منه

( 350 )

في الوقت الذي بلغته الرسالة... (1)

وكان يتولى صدقات أمير الموَمنين علي _ عليه السلام _ بعد أبيه الحسن، ونازعه في ذلك زيد بن علي بن الحسين، وأعقب عبد اللّه المحض من ستة رجال:

1 _ محمد ذي النفس الزكية، المقتول بقرب المدينة.

2 _ إبراهيم قتيل باخمرى، قريب الكوفة.

3 _ موسى الجون.

4 _ يحيى بن عبد اللّه صاحب الديلم.

5 _ سليمان بن عبد اللّه.

6 _ إدريس بن عبد اللّه (2)

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|298. والآيتان 20 و 21 من سورة الرعد.

(2) النسابة ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 101 _ 103.

( 351 )

أصحاب الانتفاضة

3

محمد بن عبد اللّه

بن الحسن

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب

النفس الزكية

(100 _ 145 ه_)

محمد بن عبد اللّه المعروف بالنفس الزكية المقتول عام 145ه_ في أيّام أبي جعفر المنصور ، هو الثائر الثاني، وقد ذكر الشهرستاني أنّ يحيى بن زيد أوصى إليه، ولذلك يعد إماماً ثانياً بعده.

وتقدّم أنّ أباه عبد اللّه من أكابر بني هاشم وكان الجميع يكِّن له الاحترام، وكان أكبر سناً من الاِمام الصادق _ عليه السلام _ كما تقدم _ ومع ذلك كان يدعو الناس لبيعة ولده محمد، وهذا وما سبق من قبول دعوة أبي سلمة الخلال يكشفان عن روح ثوريّة أوّلاً، وسذاجة في الاَُمور السياسية ثانياً.

ولما قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثر خلاعته ومجانته عام 126 ه_ تهيّأت الظروف المناسبة للدعوة إلى بني هاشم، ففي هذا الظرف الهادىء جمع عبد اللّه بن الحسن، بني هاشم وألقى فيهم خطبة نقلها أبو الفرج الاَصفهاني في كتابه وقال: إنّكم أهل البيت قد فضّلكم اللّه بالرسالة واختاركم لها وأكثركم بركة ياذرية محمد بن عبد اللّه بنو عمه وعترته، وأولى الناس بالفزع في أمر اللّه، من

( 352 )

وضعه اللّه موضعكم من نبيّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد ترون كتاب اللّه معطلاً، وسنّة نبيه متروكة، والباطل حياً، والحقّ ميتاً، قاتلوا للّه في الطلب لرضاه بما هو أهله قبل أن ينزع منكم اسمكم وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل وكانوا أحب خلقه إليه، وقد علمتهم أنّا لم نزل نسمع أنّ هوَلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الاَمر من أيديهم، فقد قتلوا صاحبهم _ يعني الوليد بن يزيد _ ، فهلم نبايع محمداً، فقد علمتم أنّه المهدي.

فقالوا: لم يجتمع أصحابنا بعد، ولو اجتمعوا فعلنا، ولسنا نرى

أبا عبد اللّه جعفر بن محمد.

وبعد محاولات حضر الاِمام الصادق _ عليه السلام _ مجلس القوم فاطلع على أمر القوم وأنّهم يريدون بيعة محمد بن إبراهيم، فقالوا: قد علمت ماصنعوا بنا بنو أُمية وقد رأينا أنّ نبايع لهذا الفتى.

فقال: لاتفعلوا فإنّ الاَمر لم يأت بعد، فغضب عبد اللّه وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ولكنه يحملك على ذلك الحسد لابني، فقال: لا واللّه، ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم و ضرب يده على ظهر أبي العباس (السفاح) ثم نهض واتبعه عبد الصمد وأبو جعفر المنصور فقالا : يا أبا عبد اللّه أتقول ذلك؟ قال: «نعم واللّه أقوله وأعلمه».

وفي رواية قال لعبد اللّه بن الحسن: «إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهوَلاء وإنّ ابنيك لمقتولان» فتفرق أهل المجلس ولم يجتمعوا بعدها.

وقال عبد اللّه بن جعفر بن المسوّر، فخرج جعفر بن محمد يتوكأ على يدي فقال لي: « أرأيت صاحب الرداء الاَصفر؟» يعني أبا جعفر المنصور، قلت: نعم، قال: «فإنّا واللّه نجده يقتل محمداً»، قلت: أو يقتل محمداً ؟! قال: «نعم» فقلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة. ثم ما خرجت واللّه من الدنيا حتى رأيته قتله (1)

____________

(1) أبو الفرج الاَصفهاني: مقاتل الطالبيين: 171 _ 172.

( 353 )

حكى ابن عنبة أنّ محمد بن عبد اللّه بن الحسن ولد سنة 100ه_ بلا خلاف، وقيل مات سنة 145ه_ في رمضان، وقيل في الخامس والعشرين من رجب، وقال البخاري: وهو ابن خمس وأربعين سنة وأشهراً، وكان المنصور قد بايع له ولاَخيه إبراهيم مع جماعة من بني هاشم، فلمّا بويع لبني العباس اختفى محمد وإبراهيم مدّة خلافة السفاح فلما ملك المنص_ور (136 ه_) وعل_م أنّهما على عزم

الخروج جدّ في طلبهما وقبض على أبيهما وجماعة من أهلهما فيحكى أنّهما أتيا أباهما وهو في السجن وقالا له: يقتل رجلان من آل محمد خير من أن يقتل ثمانية، فقال لهما: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.

ولما عزم «محمد» على الخروج واعد أخاه إبراهيم على الظهور في يوم واحد، وذهب محمد إلى المدينة وإبراهيم إلى البصرة، فاتفق أنّ إبراهيم مرض فخرج أخوه بالمدينة وهو مريض بالبصرة، ولما خلص من مرضه وظهر أتاه خبر أخيه أنّه قتل وهو على المنبر يخطب.

ومن عجيب ما يروى عن محمد بن عبد اللّه أنّه لما أحس بالخذلان دخل داره وأمر بالتنور فسجّر ثم عمد إلى الدفتر الذي أثبت فيه أسماء الذين بايعوه فألقاه في التنور فاحترق، ثم خرج فقاتل حتى قتل بأحجار الزيت، قريباً من المدينة.

وكان مالك بن أنس الفقيه قد أفتى بالخروج مع محمد وبايعه ولذلك تغير المنصور عليه فقال: إنّه خلع أكتافه (1)

وقد ذكر الموَرخون دعوته وشهادته بين موجز في القول ومعتدل في البيان ومفصل في القصة وبما أنّ في كلامهم ما يلقي الضوء على حياة القائد، نذكر بعض نصوصهم.

____________

(1) النسابة ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 104 _ 105.

( 354 )

وممّن أوجز فيه الكلام أبو حنيفة الدينوري (ت 282ه_) في «الاَخبار الطوال» قال: وفي ذلك العام (145ه_) خرج على المنصور، محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ الملقب بالنفس الزكية فوجّه إليه أبو جعفر _ المنصور _ عيسى بن موسى بن علي في خيل فقتل رحمه اللّه، وخرج أخوه إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن فقتل

رضوان اللّه عليه

(1).

وقال اليعقوبي: «وظهر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بالمدينة مستهل رجب سنة 145ه_، فاجتمع معه خلق عظيم وأتته كتب أهل البلدان ووفودهم، فأخذ رياح بن عثمان بن حيّان المري عامل أبي جعفر، فأوثقه بالحديد وحبسه، وتوجه (أخوه) إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلى البصرة وقد اجتمع جماعة فأقام مستتراً، وهو يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته، فلما بلغ أبا جعفر أراد الخروج إلى المدينة ثم خاف أن يدع العراق مع ما بلغه من أمر إبراهيم، فوجّه عيسى بن موسى الهاشمي، ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم فصار إلى المدينة، وخرج محمد إليه في أصحابه فقاتلهم في شهر رمضان ومضى أصحابه إلى الحبس فقتل رياح بن عثمان وكانت أسماء ابنة عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بالمدينة وكانت معادية لمحمد بن عبد اللّه، فوجهت بخمار أسود قد جعلته مع مولى لها حتى نصبه على مأذنة المسجد، ووجّهت بمولى لها يقال له: مجيب العامري إلى عسكر محمد، صاح: الهزيمة الهزيمة قد دخل المسوّدة المدينة، فلمّا رأى الناس العلم الاَسود انهزموا وأقام محمد يقاتل حتى قتل، فلمّا قتل محمد بن عبد اللّه بن الحسن، وجه عيسى بن موسى، كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة فدخلها، فتتبع أصحاب محمد فقتلهم وانصرف إلى العراق

(2)

____________

(1) الدينوري الاَخبار الطوال: 385، طبع مصر، الحلبي، وممّن أوجز الكلام فيه النسابة العلوي العمري صاحب المجدي: 37.

(2) ابن واضح الاِخباري: تاريخ اليعقوبي: 2|376.

( 355 ) وقال المسعودي: وفي سنة خمس وأربعين ومائة كان ظهور محمد بن عبد اللّه ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم بالمدينة، وكان قد بُويع له من

كثير من الاَنصار وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد اللّه بن الحسن وعمومته، وكثير من أهله وعدتهم، ولما ظهر محمد بن عبد اللّه بالمدينة، استشار إسحاق بن مسلم العقيلي وكان شيخاً ذا رأي وتجربة فأشار إلى ما لم يستحسنه أبو جعفر وبينما كان يتفكر في كيفية المقابلة مع محمد بن إبراهيم بلغه أنّ إبراهيم أخا محمد خرج بالبصرة يدعو إلى أخيه، فبعث عيسى بن موسى في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأتبعه محمد بن قحطبة في جيش كثيف فقاتلوا محمداً بالمدينة حتى قتل وهو ابن خمس وأربعين سنة ولما اتصل بإبراهيم قتل أخيه، محمد بن عبد اللّه وهو بالبصرة صعد المنبر فنعاه وتمثّل:

أبالمنازل ياخير الفوارس من * يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

اللّه يعلم أنّي لو خشيتُهم * وأوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخيَّ لهم * حتى نموت جميعاً أو نعيش معا

تفرّق إخوة محمد في البلاد :

وقد كان تفرّق أخوة محمد وولده في البلدان يدعون إلى إمامته فكان فيمن توجه ابنه، علي بن محمد إلى مصر فقتل بها، وسار ابنه عبد اللّه إلى خراسان فهرب لما طُلب، إلى السند فقتل هناك، وسار ابنه الحسن إلى اليمن فحبس فمات في الحبس، وسار أخوه موسى إلى الجزيرة، ومضى أخوه يحيى إلى الري، ثم إلى طبرستان، ومضى أخوه إدريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس

( 356 ) فبعث المنصور من اغتاله بالسم وقام ولده إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن مقامه (1)

هوَلاء من الموَرخين قد أوجزوا الكلام في دعوته وشهادته، وقد فصّل أبو الفرج الاَصفهاني

(2)في

المقامين وابن الاثير في الكامل وقد ذكر كتاب المنصور إلى محمد بن إبراهيم، كما ذكر جوابه إليه (3)

* * *

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|294 _ 296، وسيوافيك ذيل هذا النص في البحث عن تأسيس دولة زيدية في المغرب باسم الاَدارسة.

(2) راجع: مقاتل الطالبيين: 176 _ 200.

(3) ابن الاَثير: الكامل: 5|522 _ 554، وفيه لما قتل محمد صادر عيسى أموال بني الحسن وحتى أموال الاِمام الصادق، لاحظ ص 553.

( 357 )

أصحاب الانتفاضة

4

إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن

(103 _ 145 ه_)

إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن أخو محمد ذو النفس الزكية الثائر الثالث بعد يحيى بن زيد والنفس الزكية، وقد تقدم اتفاق الاَخوين على الثورة في يوم واحد في قطرين مختلفين، وقد عرفت تأخّر إبراهيم عن أخيه في الخروج.

قال المسعودي: مضى إبراهيم أخوه إلى البصرة وظهر بها، فأجابه أهل فارس والاَهواز وغيرهما من الاَمصار وسار من البصرة في عساكر كثيرة من الزيدية وجماعة ممن يذهب إلى قول البغداديين من المعتزلة وغيرهم، ومعه عيسى بن زيد بن علي ابن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسيّر إليه المنصور عيسى بن موسى وسعيد بن سلم في العساكر، فحارب حتى قتل في الموضع المعروف ب_«باخمرى» وذلك على ستة عشر فرسخاً من الكوفة من أرض الطف، وهو الموضع الذي ذكرته الشعراء ممن رثى إبراهيم. فممّن ذكر ذلك:

دعبل بن علي الخزاعي، في قصيدته الرائعة التائية التي نقل قسم منها عند ذكر شهادة أخيه محمد النفس الزكية وفيها قوله:

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة * وأُخرى بفخّ نالها صلوات

وأُخرى بأرض الجوزجان محلها * وقبر بباخمرى لدى الغربات

( 358 )

وقتل معه من الزيدية من شيعته أربعمائة رجل، وقيل: خمسمائة رجل

(1)

وقال صاحب المجدي: وكان إبراهيم يكنى أبا الحسن، قتل بأرض «باخمرى» وهي قرية تقارب الكوفة وظَهَر ليلة الاِثنين غرة شهر رمضان سنة 145ه_ وذلك بالبصرة وكان مقتله بعد مقتل أخيه محمد (رضي اللّه عنهما) في ذي الحجّة من السنة المذكورة.

وبايع إبراهيم وجوه المسلمين منهم بشير الرحال، وأبو حنيفة الفقيه، والاَعمش، وعباد بن المنصور القاضي صاحب مسجد عباد بالبصرة، والمفضل بن محمد وشعبة الحافظ إلى نظائرهم (2)

وقال النسابة ابن عنبة: كان إبرهيم من كبار العلماء في فنون كثيرة، يقال إنّه كان أيام اختفائه في البصرة قد اختفى عند المفضل بن محمد الضبي، فطلب منه دواوين العرب ليطالعها فأتاه بما قدر عليه فأعلم إبراهيم على ثمانين قصيدة. فلمّا قتل إبراهيم استخرجها المفضل وسماها ب_ (المفضليات) وقرئت بعده على الاَصمعي فزاد بها، وظهر إبراهيم ليلة الاِثنين غرة شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة بالبصرة وبايعه وجوه الناس _ إلى أن قال: _ ويقال: إنّ أبا حنيفة الفقيه بايعه أيضاً وكان قد أفتى الناس بالخروج معه، فيحكى أنّ امرأة أتته فقالت: إنّك أفتيت ابني بالخروج مع إبراهيم فخرج فقتل. فقال لها: ليتني كنتُ مكانَ ابنك. وكتب إليه أبو حنيفة: أما بعد: فإنّي قد جهزت إليك أربعة آلاف درهم ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات الناس عندي للحقت بك، فإذا لقيت القوم وظفرت بهم فافعل كما فعل أبوك في أهل صفين، أُقتل مدبرهم وأجهز على جريحهم، ولا تفعل كما فعل أبوك في أهل الجمل فإنّ القوم لهم فئة. ويقال: إنّ

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|296 _ 297.

(2) النسابة العلوي العمري: المجدي في أنساب الطالبيين: 42.

( 359 )

هذا الكتاب وقع إلى الدوانيقي وكان سبب تغيّره على أبي حنيفة _ إلى أن قال:

_ وجيء برأس إبراهيم فوضعه في طشت بين يديه والحسن بن زيد بن الحسن بن علي واقف على رأسه عليه السواد فخنقته العبرة والتفت إليه المنصور وقال: أتعرف رأس من هذا؟ فقال: نعم:

فتى كان تحميه من الضيم نفسه * وينجي__ه من دار اله_وان اجتنابها

فقال المنصور: صدقت ولكن أراد رأسي فكان رأسه أهون عليَّ ولوددت أنّه فاء إلى طاعتي، ويقول أيضاً: وحمل ابن أبي الكلام الجعفري رأسه إلى مصر(1).

* * *

____________

(1) ابن المهنا: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 109_ 110، ولعله دفنه في المحل المعروف برأس الحسين _ عليه السلام _.

( 360 )

أصحاب الانتفاضة

5

عيسى بن زيد الثائر

(... _ 168 ه_)

أحد أولاد زيد الثائر المعروف ب_ «موتم الاَشبال»، وكان وصي إبراهيم _ قتيل باخمرى _ بن عبد اللّه المحض وحامل رايته، فلمّا قتل إبراهيم اختفى عيسى إلى أن مات، وكان أبو جعفر المنصور قد بذل له الاَمان وأكده وكان شديد الخوف منه لم يأمن وثوبه عليه، فقيل لعيسى في ذلك فقال: واللّه لئن يبيتنَّ ليلة واحدة خائفاً منّي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وإنّما يسمّى موتم الاَشبال لاَنّه قتل أسداً له أشبال فسمّي موتم الاَشبال. فخرج عيسى مع محمد بن عبد اللّه النفس الزكية ثم مع أخيه إبراهيم، وكان إبراهيم قد جعل له الاَمر بعده وكان حامل رايته فلمّا قتل إبراهيم استتر ولم يتم له الخروج فبقي مستتراً أيام المنصور وأيّام المهدي وأيام الهادي وصلّى عليه الحسن بن صالح سراً ودفنه.

وقد ذكر النسابة ابن عنبة من حياته شيئاً كثيراً يوَجّج الفوَاد ومما ذكره أنّه كان في أيّام اختفائه يستقي الماء على جمل، وقال: حكى لي الشيخ النقيب تاج الدين بإسناده عن محمد بن زيد

الشهيد: قال محمد بن محمد: قلت لاَبي محمد بن زيد: أُريد أن أرى عمي عيسى، فقال: اذهب إلى الكوفة فإذا وصلتها اذهب إلى الشارع الفلاني واجلس هناك فإنّه سيمر عليك رجل آدم طويل، له سجادة بين عينيه، يسوق جملاً عليه مزادتان، كلّما خطا خطوة كبّر اللّه سبحانه، وسبّحه وهلّله

( 361 )

وقدّسه، فذلك عمك عيسى فقم إليه فسلّم عليه، قال محمد بن محمد بن زيد فذهبت إلى الكوفة فلمّا وصلتها جلستُ حيث أمرني أبي فلم ألبث أن جاء الرجل الذي وصفه لي أبي وبين يديه جمل عليه راوية فقمت إليه وأكببت على يديه أُقبّلهما فذعر مني فقلت: أنا محمد بن زيد (1)فسكن ثم أناخ جمله وجلس إليَّ في ظل حائط هناك وحدثني ساعة، وسألني عن أهلي وأصحابه ثم ودّعني وقال لي: يابني لاتعد إليّ بعد هذا فإنّي أخشى الشهرة (2)

وقال صاحب المجدي: وكان من أصحاب محمد بن عبد اللّه قتيل «أحجار الزيت» فاختفى عيسى من يد المهدي ومات في الاستتار على أيام الرشيد وكان شيخنا أبو الحسن يقول: كان ابن دينار يزعم أنّه قتل زيد ولابنه الحسين أربع سنين ولابنه عيسى سنة ولابنه محمد أربعون يوماً (3)وعلى ذلك فقد توفي عيسى حوالي عام 167 للهجرة.

* * *

____________

(1) كذا في النسخة المطبوعة والصحيح محمد بن محمد بن زيد ولعل الحذف للسهولة.

(2) ابن عنبة: عمدة الطالب، في أنساب آل أبي طالب: 286 _ 287.

(3) أبو الحسن العلوي العمري: المجدي في أنساب الطالبيين: 186 _ 187.

( 362 )

أصحاب الانتفاضة

6

الحسين بن علي الفخيّ

( ... _ 169 ه_)

هو الحسين بن علي بن الحسن المثلث أي الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب _ عليه السلام _ قال صاحب

المجدي: ومن ولد علي زين العابدين الحسن المثلث، الحسين بن علي وهو الشهيد صاحب فخ، خرج ومعه جماعة من العلويين زمن الهادي موسى بن المهدي بن المنصور بمكة، وجاء موسى بن عيسى ابن على ومحمد بن سليمان بن المنصور فقتلاهم بفخ يوم التروية سنة تسع وستين ومائة. وقيل: سنة سبعين، وحملا رأسه إلى الهادي، فأنكر الهادي فعلهما وأمضاءهما حكم السيف فيهم دون رأيه، ونقل أبو نصر البخاري عن محمد الجواد ابن علي الرضا _ عليهما السلام _ أنّه قال: لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ (1)

* * *

____________

(1) النسابة ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 182 _ 183.

( 363 )

أصحاب الانتفاضة

7

محمد بن إبراهيم طباطبا

(173 _ 199 ه_)

هو محمد بن إبراهيم (طباطبا) بن إسماعيل بن علي الغمر بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (1)

قال صاحب المجدي: أمّا إبراهيم بن إسماعيل بن الغمر فهو طباطبا ولقب بذلك لاَنّه أراد أن يقول قبا فقال طبا، لردّة في لسانه، وكان له خطر وتقدم وأبرزَ صفحتَه ودعا إلى الرضا من آل محمد. فولد إبراهيم بن إسماعيل بن الغمر ثلاثة عشر ولداً، منهم: بنتان وهما: لبابة وفاطمة، والذكور: جعفر، وإبراهيم، وإسماعيل، وموسى، وهارون، وعلي، وعبداللّه، ومحمد.

هذا هو الوالد وأمّا الولد أي محمد، يقول في حقّه: «إنّه صاحب أبي السرايا يكنّى أبا عبد اللّه، خرج بالكوفة فجأة وانقرض ولده غير انّ رجلاً منهم يقال له محمد بن الحسين بن جعفر بن محمد هذا، صاحب أبي السرايا خرج إلى بلاد الحبشة فما نعرف له خبراً (2)

____________

(1) سيوافيك في الفصل القادم أنّ الاِمام يحيى موَسس الدولة الزيدية في اليمن عام 284 من أحفاد

إبراهيم إذ نسبه: يحيى بن الحسين، بن القاسم بن إبراهيم طبا طبا.

(2) النسابة العلوي العمري: المجدي: 72.

( 364 )

وقال ابن عنبة: ومن ولد إبراهيم طباطبا أيضاً محمد بن إبراهيم ويكنى أبا عبد اللّه أحد أئمة الزيدية، خرج بالكوفة داعياً إلى الرضا من آل محمد، وخرج معه أبو السرايا (السري بن منصور) الشيباني في أيام المنصور، فغلب على الكوفة ودعا بالآفاق ولقّب بأمير الموَمنين وعظم أمره ثم مات فجأة، وانقرض عقبه، وكان من ولده محمد بن الحسين بن جعفر بن محمد هذا، خرج إلى الحبشة فما يعرف له خبر. وفي بعض النسخ مات 199ه_ وقيل: سمّاه أبو السرايا سماً ومات منه واللّه أعلم (1).

وقال الطبري في حوادث سنة 199ه_: وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنّة وهو الذي يقال له ابن طباطبا وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبا السرايا واسمه السري بن منصور (2)

وبما أنّ أبا السرايا جاء اسمه في ذكر لفيف من الثائرين، نذكر عنه شيئاً.

يقول خير الدين الزركليّ: السري بن منصور الشيباني ثائر شجاع من الاَُمراء العصاميين فجمع عصابة كان يقطع بها الطريق، ثم لحق بيزيد بن مزيد الشيباني بأرمينيا ومعه ثلاثون فارساً فجعله في القواد فاشتهرت شجاعته، ولما نشبت فتنة الاَمين والمأمون انتقل إلى عسكر هرثمة بن أعين وسار معه نحو ألفي مقاتل وخوطب بالاَمير، ولما قتل الاَمين نقص هرثمة من أرزاقه وأرزاق أصحابه فخرج في نحو مائتي فارس فحصر عامل عين التمر وأخذ ما معه من المال ففرّقه في أصحابه، ثم

استولى على الاَنبار وذهب إلى الرقة وقد كثر جمعه فلقيه بهما ابن

____________

(1) ابن عنبة: عمدة الطالب: 172.

(2) الطبري: التاريخ: 7|117.

( 365 )

طباطبا العلوي (محمد بن إبراهيم) وكان قد خرج على بني العباس، فبايعه أبو السرايا وتولّ_ى قيادة جنده، واستوليا على الكوفة، فضرب بها أبو السرايا الدرهم، وسيّر الجيوش إلى البصرة ونواحيها، وعمل على ضبط بغداد، وامتلك المدائن وواسطاً، واستفحل أمره، وأرسل العمال والاَُمراء إلى اليمن والحجاز وواسط والاَهواز، وتوالت عليه جيوش العباسيين فلم تضعضعه إلى أن قتله الحسن بن سهل وبعث برأسه إلى المأمون ونصبت جثته على جسر بغداد (1)

وقد فصل أبو الفرج الكلام حول خروج أبو السرايا ولقائه مع محمد بن إبراهيم يرجع ملخصه إلى ما ذكره خير الدين، ولذلك اقتصرنا عليه (2)

و ليعلم أنّ القاسم الرسّي الذي يعتبر الاِمام الثاني للزيدية من فريق الاَئمة المجتهدين هو أخو محمد بن إبراهيم، كما أنّ الاِمام الهادي الذي أسس دولة فيها هو حفيد القاسم الرسّي، فالكل من أغصان الشجرة الطيبة العلوية.

* * *

____________

(1) خير الدين الزركل__ي: الاَعلام: 3|82 نقلاً عن البداية والنهاية: 10|244 ومقاتل الطالبيين: 338، والطبري: التاريخ: 10|227.

(2) انظر: أبو الفرج الاَصفهاني، مقاتل الطالبيين: 518 _ 536.تحقيق سيد أحمد صقر.

( 366 )

أصحاب الانتفاضة

8

محمد بن محمد بن زيد بن علي

(182 _ 202 ه_)

يحدّث صاحب المجدي عن أبيه فيقول: محمد بن زيد الشهيد بن علي بن الحسين _ عليه السلام _ وكان بليغاً، وله أحد عشر ولداً، منهم: محمداً الاَكبر وكان على عهد المأمون وهو صاحب أبي السرايا بعد ابن طباطبا قبره بمرو، وكان سقي سماً (1).

وقال ابن عنبة: وكان لمحمد بن زيد الشهيد عدّة بنين، منهم محمد بن محمد ابن زيد. ولما خرج أبو السرايا وأخذ

البيعة لمحمد بن إبراهيم بن إسماعيل (المذكور آنفاً) وتوفي «محمد» فجأة نصب أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن زيد هذا، ولقبه «الموَيد» فندب الحسن بن سهل إليه هرثمة بن أعين، فحاربه وأسره وحمله إلى الحسن بن سهل فحمله الحسن إلى المأمون، فتعجب المأمون من صغر سنه وقال: كيف رأيت اللّه في الصنع بابن عمك؟ فقال محمد بن محمد بن زيد:

رأيت أمين اللّه في العفو والحلم * وكان يسيراً عنده أعظم الجرم

فأعرض عن جهلي وداوي سقامه * بعفو جرى عن جلده هبوه السقم

وتوفي محمد بن محمد بن زيد بمرو وسقاه المأمون السم 202 ه_ وهو ابن عشرين سنة، فيقال: إنّه كان ينظر كبده يخرج من حلقه قطعاً فيلقيه في طشت ويقلبه بخلال في يده (2)

____________

(1) النسابة العلوي العمري: المجدي: 184.

(2) ابن عنبة: عمدة الطالب: 300، لاحظ أيضاً مقاتل الطالبيين: 343 و 517 من الطبعة الاَُخرى.

( 367 )

أصحاب الانتفاضة

9

محمد بن القاسم بن علي بن عمر

ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

( ... _ بعد 319 ه_)

قال صاحب المجدي: أمّا الوالد أي القاسم بن علي بن عمر فهو يكنى ب_ «أبي علي» وكان شاعراً وقد اختفى ببغداد، وأمّا الولد فقد أشخصه الرشيد من الحجاز وحبسه وأفلت من الحبس (1)

وقال ابو الفرج: محمد بن القاسم يكنى أبا جعفر، وكانت العامة تلقّبه الصوفي، لاِنّه كان يُدْمِن لبس ثياب من الصوف الاَبيض، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن المذهب، وكان يذهب إلى القول بالعدل والتوحيد ويرى رأي الزيدية الجارودية، خرج في أيام المعتصم بالطالقان، فأخذه عبد اللّه بن طاهر ووجّه به الى المعتصم (2)

يقول المسعودي: وفي هذه السنة أي 219 ه_ أخاف المعتصم، محمد بن القاسم

بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهم اللّه، وكان بالكوفة من العبادة والزهد والورع في نهاية الوصف، فلمّا خاف على نفسه هرب فصار إلى خراسان، فتنقل في مواضع كثيرة من كورها كمرو، وسرخس والطالقان ونسا، فكانت له هناك حروب وكوائن وانقاد إليه وإلى إمامته خلق كثير

____________

(1) النسابة العلوي: المجدي: 149.

(2) أبو الفرج الاَصفهاني: مقاتل الطالبيين: 382.

( 368 )

من الناس، ثم حمله عبد اللّه بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في أزج اتخذه في بستان بسر من رأى. وقد تنوزع في محمد بن القاسم، فمن قائل يقول: إنّه قتل بالسم، ومنهم من يقول: إنّ ناساً من شيعته من الطالقان أتوا ذلك البستان فتأتوا للخدمة فيه من غرس وزراعة، واتخذوا سلالم من الجبال واللبود والطالقانية ونقبوا الاَزج وأخرجوه، فذهبوا به فلم يعرف له خبر إلى اليوم، وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزيدية إلى هذا الوقت وهو سنة 333ه_ (1)

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|464 _ 465.

( 369 )

الفصل الثالث أئمة الزيدية ودولتهم في اليمن

الفصل الثالث أئمة الزيدية ودولتهم في اليمن

قد تعرفت على أسماء وحياة الثائرين بعد زيد الشهيد إجمالاً، وهوَلاء الاَماثل قاموا في وجه الظلم في مناطق مختلفة، بصورة انتفاضات ناجحة وغير ناجحة.

ويأتي الآن دور الثائرين الاَفاضل، الموَسسين دولاً في قطر كبير من الاَقطار الثلاثة وهوَلاء عبارة عن:

أئمة الزيدية وتأسيس الدولة في اليمن.

أئمة الزيدية وتأسيس الدولة في طبرستان.

أئمة الزيدية وتأسيس الدولة في المغرب.

وإليك البيان ابتداء من أئمتهم في اليمن وأوّل ثائرهم وفي الحقيقة موَسس دولتهم هو:

1

يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا

قال صاحب المجدي في حقّ والده: الحسين بن القاسم الرسّي كان سيداً كريماً ولد له يحيى، وهو أبو الحسين الهادي، الجليل، الفارس،

الديّن، إمام الزيدية وكان مصنفاً، شاعراً، ظهر باليمن مات سنة 298ه_ وكان يتولى الجهاد بنفسه

( 370 )

ويلبس جبة صوف وكان قشفاً رحمه اللّه (1)

وقال ابن عنبة: أمّا أبو عبد اللّه الحسين بن القاسم الرسي وكان سيداً كريماً، فأعقب من رجلين:

1 _ أبو الحسين يحيى الهادي.

2 _ أبو محمد عبد اللّه السيد العالم.

أمّا يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسّي يكنى أبا عبد اللّه، كان إماماً من أئمة الزيدية، جليلاً فارساً، ورعاً، مصنفاً، شاعراً، ظهر باليمن ويلقب بالهادي إلى الحقّ، وكان يتولى الجهاد بنفسه ويلبس جبة صوف، له تصانيف كبار في الفقه قريبة من مذهب أبي حنيفة، وكان ظهوره باليمن أيام المعتضد سنة 280 ه_ وتوفي هناك عام 298 ه_ وخُطِبَ له بمك_ة سبع سنين، وأولاده أئمة الزيدية وملوك اليمن وقد ولي الحكومة بعد رحيل الهادي ولداه:

1 _ أبو القاسم محمد المرتضى، قام بالاَمر بعد أبيه.

2 _ أحمد الناصر قام بالاَمر بعد تنازل أخيه.

وسيوافيك ترجمة الوالد والولدين في الفصل السادس المختص ببيان أعلامهم المجتهدين، وإليك أسماء الاَئمة الذين كان لهم الحكم إلى قيام الجمهورية عام 1382ه_.

وقد توالت الاِمامة من عقب الاِمام يحيى بعد الولدين إلى قيام الجمهورية العربية في أرض اليمن إلاّ في فترات قليلة، فلاَجل إيقاف القارىَ على أسمائهم نأتي بالقائمة التالية ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك.

____________

(1) النسابة العلوي العمري: المجدي: 78.

( 371 )

سلسلة أئمة الزيدية في اليمن:

قد قام غير واحد من الزيدية بذكر أئمتهم حسب التسلسل الزمني، وتصدّيهم لاَمر الاِمامة منهم:

أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت 840ه_) في مقدمة البح_ر الزخار قال: «باب في تعداد أئمة الزيدية» والمقصود الدعاة دون المقتصدين هو مرتب على مراتبهم في القيام _ عليهم السلام _

أولهم علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه بويع له في المدينة...

ثم ولده الحسن بن علي قام يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان...

ثم أخوه الحسين بن علي قام حين أتى نعي معاوية...

ثم الحسن بن الحسن قام ودعا وبايعه خلق كثير...

ثم زيد بن علي قام يوم الاَربعاء...

ثم يحيى بن زيد قام ودعا ...

ثم ساق أسماء الاَئمة إلى والده الاِمام المهدي علي بن محمد بن علي بن منصور بن يحيى بن مفضل بن الحجاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن الاِمام يوسف الداعي بن يحيى بن أحمد الناصر بن الهادي إلى الحق ولد سنة 705 ه_ وتوفي سنة 774ه_. (1)

ولا تعجب من ذكر الاِمام علي بن أبي طالب والحسنين، والحسن بن الحسن، وزيد بن علي دون الاِمام زين العابدين، من أئمة الزيدية مع أنّ زيداً تولد وقام بالدعوة بعد قرن وربع وذلك لاَجل أنّ المراد من الزيدية هي يتَّبعُ المنهج

____________

(1) البحر الزخار: 225 _ 231، آخر كتاب الجواهر والدرر في سيرة سيد البشر.

( 372 )

الخاص في باب الاِمامة وهو الذي قام ودعا إلى إمامته وبويع وخرج، وله من الموَهلات والمواصفات المذكورة في بابها، والاِمام والسبطان مشوا على هذا الدرب دون الاِمام السجاد _ عليه السلام _ .

وممن قام بتدوين أسماء وحياة أئمة الزيدية موَلف كتاب «التحف شرح الزلف» فقد نظم أسماء الاَئمة نظماً وشرحها شرحاً، والموَلف أُنموذج السلف السيد مجد الدين بن محمد بن منصور الحسن الموَيدي شيخ الزيدية في العصر الحاضر باليمن فقد أتى بأسمائهم وقليلاً من حياتهم إلى الاِمام المتوكل على اللّه يحيى بن الاِمام المنصور باللّه محمد بن يحيى الذي قام بعده وفاة أبيه سنة 1322ه_ قال: فجنّد الجنود وخفقت له الرايات،

وصفت البنود، وفي أيامه النعمة الكبرى والمنة العظمى إخراجه الاَتراك وإجلاوَهم من اليمن وفي هذا التاريخ (1365ه_) أوامره ونواهيه في أرض اليمن جارية (1)

وقد سبق زمن تأليف الكتاب على دعوة الاِمامين بعد المتوكل ولم يذكر منهما شيئاً أعني:

1 _ الناصر لدين اللّه أحمد بن يحيى حميد الدين (ت 1382ه_) .

2 _ المنصور باللّه محمد البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين.

حيث لم يحكم الثاني إلاّ أياماً قلائل وأُزيل عن الحكم بقيام الثورة وإعلان الجمهورية بقيام أحد العسكريين باسم السلال عام 1383ه_.

وبما أنّا استوفينا ذكر الاَئمة الدعاة حتى عصر الاِمام يحيى الهادي نذكر سلسلة الزيدية بعد عصره إلى زماننا هذا، وقد استخرجت القائمة من عدّة مصادر ولم نذكر فيها الدعاة الذين ليسوا بأئمة بل هم حسب مصطلح الزيدية مقتصدون،

____________

(1) التحف شرح الزلف: 194 ولاحظ أيضاً كتاب اليمن عبر التاريخ: 250 _ 259 تأليف أحمد حسين شرف الدين وهو يذكر أئمّة الزيدية باليمن فقط.

( 373 )

وقد عقد في البحر الزخار باباً لاَسماء هوَلاء أيضاً (1)

وقد استعنت في تنظيم القائمة، أحد الفضلاء أعني الشيخ علي اليمني دامت إفاضاته.

1 _ الاِم_ام المرتضى لدي_ن اللّه محم_د بن يحيى وهو ابن الهادي يحيى بن الحسين، بويع له بالاِمامة في غرة محرم سنة 299 ه_ بعد وفاة الهادي واستمر في الحكم عشرة أشهر ثم تنازل عن الحكم لما رأى من تخاذل بعض الناس، وتوفي في أيام أخيه الناصر أحمد سنة عشر وثلاثمائة وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وكان يلقب بجبريل الاَرض لنسكه، ودفن بجوار الهادي في مدينة صعدة في اليمن.

2 _ الاِمام الناصر أحمد بن الهادي يحيى بن الحسين، بويع له بعد تنازل المرتضى محمد وكان حين وفاة الهادي في الحجاز ثم قدم

بعد ذلك، وكانت له حروب مع القرامطة وهزمهم في جميعها وصفت له أكثر اليمن، واستمر في الحكم حتى توفي سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين ودفن بجوار أبيه وأخيه.

3 _ المنصور باللّه القاسم بن علي بن عبد اللّه العياني قام ببلاد خثعم من أرض الشام ثم خرج إلى اليمن وتوفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بقرية عيان شمال اليمن وهو من ذرية محمدبن القاسم بن إبراهيم طباطبا.

4 _ الاِمام الناصر أبو الفتح الديلمي وهو أبو الفتح بن الحسين بن محمد من ذرية علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قام في بلاد الديلم شمال إيران في عام ثلاثين وأربعمائة، ثم خرج إلى اليمن فاستولى على أكثر اليمن واستشهد سنة نيف وأربعين أو خمسين وأربعمائة في وقعة بينه وبين علي بن محمد الصليحي.

____________

(1) البحر الزخار: المقدمة|225، والمراد من المقتصدين هم الذين لم يتمكنوا من الخروج وإن كانت لهم دعوة.

( 374 )

5 _ الاِمام المتوكل على اللّه أحمد بن سليمان من ذرية الناصر أحمد بن الهادي، استولى على جميع اليمن وخطب له بينبع وخيبر وتوفي في ربيع سنة ست وخمسين وخمسمائة عن ست وستين سنة.

6 _ الاِمام المنصور باللّه عبد اللّه بن حمزة ينتهي نسبه إلى عبد اللّه بن الحسين ابن القاسم بن إبراهيم طباطبا، دعوته سنة أربع وتسعين وخمسمائة ويعتبر مجدد المذهب الزيدي في القرن السابع الهجري، توفي في محرم سنة أربع عشرة وستمائة عن عمر يناهز الثانية والخمسين.

7 _ الاِمام المهدي أحمد بن الحسين من ذرية محمد بن القاسم بن إبراهيم طباطبا، دعا إلى اللّه سنة ست وأربعين وستمائة وقتل سنة ست وخمسين وستمائة.

8 _ الاِمام المنصور باللّه الحسن بن بدر الدين دعا

في الخامس والعشرين من شوال سنة سبع وخمسين وستمائة وتوفي سنة سبعين وستمائة عن أربع وسبعين عاماً.

9 _ الاِمام المتوكل على اللّه المطهر بن يحيى وكانت دعوته سنة ست وسبعين وستمائة وتوفي في سنة سبع وتسعين وستمائة.

10 _ الاِمام المهدي محمد بن المطهر وكانت دعوته سنة إحدى وسبعمائة وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة عن سبعين عاماً، ويعتبر من المجددين للمذهب الزيدي في القرن الثامن.

11 _ الاِمام الموَيد باللّه يحيى بن حمزة ينتهي نسبه إلى الاِمام علي بن موسى الرضا من جهة الاِمام الجواد _ عليه السلام _ ثم الاِمام علي الهادي _ عليه السلام _ وكان قيامه سنت تسع وعشرين وسبعمائة وتوفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

12 _ الاِم_ام المهدي لدين اللّه علي بن محمد، كانت ولادته سن_ة سبعمائة وخمسة للهجرة ودعوته سنة سبعمائة وخمسين للهجرة وتوفي في جمادي

( 375 )

الآخرة سنة سبعمائة وأربعة وسبعين للهجرة وقيل في ربيع الاَوّل من نفس العام.

13 _ الاِم_ام الهادي لدين اللّه علي بن الموَيد، كانت دعوت_ه سن__ة س_ت وسبعمائة وتوفي في العاشر من محرم سنة ست وثلاثين وثمانمائة عن ثمانين سنة، ومدّة حكمه ما يقرب من أربعين سنة.

14 _ الاِمام المهدي لدين اللّه أحمد بن يحيى المرتضى، ولادته سنة سبعمائة وأربعة وستين وكانت دعوته سنة سبعمائة وثلاثة وتسعين فأُسر وحبس فلمّا آيس الهادي علي بن الموَيد من خروجه من الحبس دعا لنفسه، وتوفي المهدي في سنة ثمانمائة وأربعين للهجرة.

15 _ الاِمام المتوك_ل على اللّه المطه_ر بن محمد وهو من ذرية عبد اللّه بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم طباطبا.

كان قيامه في سنة ثمانمائة وإحدى وأربعين وتوفي في صفر سنة تسع وسبعين وثمانمائة.

16 _ الاِمام الهادي عز الدين بن الحسن،

كانت دعوته في تسعة شوال سنة ثمانين وثمانمائة ويعتبر مجدداً للدين في القرن التاسع الهجري، وحكم اليمن ومكّة وكانت وفاته في رجب سنة تسعمائة عن خمس وخمسين عاماً.

17 _ الاِمام المتوكل على اللّه يحيى شرف الدين بن شمس الدين بن الاِمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، كانت بيعته في جمادي الاَُولى سنة اثنتي عشرة وتسعمائة وفي أيامه خرج الجراكسة والاَتراك من اليمن وتوفي سنة خمس وستين وتسعمائة وهو ابن سبع وثمانين سنة.

18 _ الاِمام الهادي الحسن بن عز الدين، كانت دعوته أواخر أيام الاِمام شرف الدين وذلك بإشارة من الاِمام شرف الدين بعد ذهاب بصره، فبويع له سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وتوفي سنة سبع وثمانين وتسعمائة عن سبع وسبعين سنة.

( 376 )

19 _ الاِمام الناصر لدين اللّه الحسن بن علي بن داود، بويع له سنة أربع وثمانين وتسعمائة، أسّره الاَتراك سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة في سادس عشر من شهر رمضان وسجن في اليمن سنة ثم أُرسل إلى القسطنطينية وبقي مسجوناً إلى أن توفي سنة أربع وعشرين وألف للهجرة.

20 _ الاِمام المنصور باللّه القاسم بن محمد بن علي، بويع له في محرم سنة ألف وستة هجرية، وهو مجدد القرن الحادي عشر، وهو وأولاده الذين أخرجوا الاَتراك من اليمن وتوفي سنة ألف وتسعة وعشرين هجرية.

21 _ الاِمام الموَيد باللّه محمد بن القاسم بن محمد، بويع له بعد وفاة أبيه القاسم بن محمد وتوفي بعد صلاة الجمعة في اليوم الثامن من شهر رجب في سنة ألف وأربع وخمسين للهجرة، وفي أيامه تم خروج الاَتراك نهائياً من اليمن.

22 _ الاِمام المتوكل على اللّه إسماعيل بن القاسم بن محمد، بويع له بعد وفاة الموَيد سنة أربع وخمسين وألف وتوفي في

جمادي الآخر سنة سبع وثمانين وألف وامتدّ حكمه إلى ظفار عمان.

23 _ الاِمام المنصور باللّه القاسم بن الموَيد باللّه محمد بن القاسم بن محمد، بويع له بعد وفاة عمه المتوكل على اللّه إسماعيل وتوفي سنة ألف وسبعة وعشرين للهجرة النبوية على صاحبها وآله السلام.

24 _ الاِمام الموَيد باللّه محمد بن المتوكل على اللّه إسماعيل، دعا بعد وفاة الموَيد وتوفي سنة سبع وتسعين وألف للهجرة.

25 _ الاِمام المتوكل على اللّه إسماعيل بن أحمد بن عبد اللّه الكبسي المغلس دعوته سنة إحدى وعشرين ومائتين وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائتين ويعتبر مجدداً للمذهب الزيدي في القرن الثاني عشر.

26 _ الاِم_ام المنصور باللّه أبو محمد أحمد بن هاشم بن المحسن، كانت

( 377 )

دعوته سنة ألف ومائتين وأربع وستين وتوفي سنة ألف ومائتين وتسع وستين.

27 _ الاِمام المنصور باللّه محمد بن عبد اللّه الوزير، كانت دعوته سنة ألف ومائتين وسبعين ثم اعتزل بعد سنة من قيامه وتوفي سنة ألف وثلاثمائة وسبعة.

28 _ الاِمام المتوكل على اللّه المحسن بن أحمد الحوثي، كانت دعوته في سنة ألف ومائتين وإحدى وسبعين وتوفي سنة ألف ومائتين وخمس وتسعين.

29 _ الاِمام المهدي لدين اللّه أبو القاسم محمد بن القاسم بن إسماعيل الحسيني يرجع نسبه إلى الاِمام يحيى بن حمزة الحسيني، كانت دعوته سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين للهجرة ثم أُخذ بعد ذلك وسجنه الاَتراك وتوفي سنة ألف وثلاثمائة وتسعة عشر للهجرة.

30 _ الاِمام الهادي لدين اللّه شرف الدين بن محمد الحسيني، يرجع نسبه إلى الاِمام يحيى بن حمزة الحسيني خرج أواخر القرن الثالث عشر أثناء سجن الاِمام المهدي وتوفي سنة ألف وثلاثمائة وسبعة.

31 _ الاِمام المنصور باللّه محمد بن يحيى بن محمد حميد الدين وهو

من ذرية الاِمام القاسم بن محمد، دعا سنة سبع وثلاثمائة وهو وابنه الاِمام يحيى حميد الدين من أخرج الاَتراك من اليمن وتوفي سنة ألف وثلاثمائة واثنين وعشرين.

32 _ الاِمام المتوكل على اللّه يحيى بن محمد حميد الدين، دعا بعد وفاة والده المنصور باللّه محمد في سنة ألف وثلاثمائة واثنين وعشرين، وهو الذي أخرج الاَتراك نهائياً من اليمن وله المنة الكبرى في إبقاء اليمن بعيداً عن الاستعمار والاَجانب، واستمرّ حكم الاِمام يحيى حتى استشهد سنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين.

هوَلاء هم الاَئمة الذين حكموا اليمن بعد الهادي يحيى بن الحسين وهم

( 378 )

الذين أجمعوا على إمامتهم وكان هناك غيرهم ممن حكم اليمن إلاّ أنّهم لم يصلوا إلى درجة الاِمامة عندهم وهم إمّا دعاة أو محتسبون، وجاء بعد الاِمام يحيى من أخذ بثأره الاِمام أحمد بن يحيى حميد الدين كان عالماً جليلاً وفارساً شجاعاً وكان عادلاً في حكمه إلاّ أنّه لم تكتمل شروط الاِمامة فيه واستمر حكمه إلى سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وثمانين للهجرة.

* * *

( 379 )

الفصل الرابع أئمة الزيدية ودولتهم في طبرستان

الفصل الرابع أئمة الزيدية ودولتهم في طبرستان

وقد أسّس بعض الثائرين على منهج زيد الثائر دولة زيدية في طبرستان، وهم بين داع وإمام، أو بين إمام جهاد، وإمام اجتهاد، نعم هنا مشكلة وهو اجتماع إمامين في عصر واحد وإن كانا في قطرين، وسيوافيك أنّ الناصر الاَطروش من أئمة الزيدية في طبرستان كان معاصراً مع الاِمام الهادي يحيى بن الحسين الذي توفي 298ه_، وإليك أسماءهم وقليلاً من حياتهم:

1 _ الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 270ه_) .

قال المسعودى: وفي خلافة المستعين وذلك في سنة 250ه_، ظهر ببلاد

طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل، بن الحسن، بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب _ رضي اللّه عنهم _ فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة وقتال شديد وما زالت في يده إلى أن مات سنة سبعين و مائتين(1).

وقال الجزري: وفيها توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولي مكانه أخوه

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 4|68.

( 380 )

محمد بن زيد.

وكان الحسن جواداً مدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وكان متواضعاً للّه تعالى.

حكى عنه أنّه مدحه شاعر فقال: اللّه فرد، وابن زيد فرد، فقال: بفيك الحجر، ياكذاب، هلا قلت اللّه فرد، وابن زيد عبد. ثم نزل عن مكانه، وخرّ ساجداً للّه تعالى، وألصق خده بالتراب وحرم الشاعر (1)

2 _ أخوه: محمد بن زيد بن محمد بن إسماعيل، فقام مكانه أخيه «الحسن» وحاربه رافع بن هرثمة ودخل محمد بن زيد إلى الديلم في سنة 277ه_، فصارت في يده وبايعه بعد ذلك رافع بن هرثمة، وصار في جملته وانقاد لدعوته والقول بطاعته (إلى أن توفي سنة 287ه_ بعد ما أُثخن في معركة الحرب مع السامانيين) وكان الحسن بن زيد ومحمد بن زيد يدعوان إلى الرضا من آل محمد وكذلك من طرأ بعدهما ببلاد طبرستان (2)

3 _ الاِمام الناصر للحقّ الاَطروش، أبو محمد: الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الاَشرف (3)بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (032 _ 304ه_) وستوافيك ترجمته في الفصل القادم.

4 _ الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط (ت 316ه_)

.

قال الموَيدي: هو الاِمام الداعي إلى اللّه أبو محمد الحسن بن القاسم بن

____________

(1) الجزري: الكامل: 7|407.

(2) المسعودي: مروج الذهب: 4|68.

(3) إنّما يوصف بالاَشرف لكونه من جانب الاَب والاَُمّ علوياً في مقابل عمر الاَطرف إذ كان علوياً من جانب الاَب.

( 381 )

الحسن بن علي بن عبد الرحمن الشجري: كان هذا الاِمام من أركان الناصر للحق الحسن بن علي الاطروش، وكان يضرب بعدله المثل، واستشهد سنة ست عشرة وثلاثمائة وله اثنتان وخمسون سنة، وأقام أود الدين الحنيف في نيسابور والري ونواحيهما وفي الجبل والديلم.

وقال الموَيدي في الزلف:

كذا الحسن بن القاسم بن الفرد بعده * فلم يبق في جيلان للحقّ مانع (1)

5 _ محم_د بن الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط (ت 360ه_) .

قال الموَيدي: هو الاِمام أبو عبد اللّه المهدي لدين اللّه محمد بن الاِمام الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن الشجري بن القاسم بن الحسن بن زيد ابن الحسن السبط.

وهذا الاِمام الذي جمع بين القاسمية والناصرية بعد التباين العظيم بسبب الاختلاف في الاجتهاد فأظهر القول بأنّ كل مجتهد يصيب في الاجتهاديات وهو الذي قيل فيه لو مادت الاَرض لشيء لعظمه لمادت لعلم أبي عبد اللّه الداعي ووالده الاِمام الحسن بن القاسم الذي تقدم بعد الاِمام الناصر الاطروش.

قام ببغداد ثم وصل الديلم وبايعه من علماء الاَُمّة أربعة آلاف، سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة قبضه اللّه ب_ «هوسم» سنة 360ه_، روي عن الاِمام أبي طالب أنّه مات مسموماً (2)

وبذهاب هوَلاء، ذهبت الدولة الزيدية في طبرستان ولهم إلى الآن آثار وقبور تزار.

____________

(1) مجد الدين الموَيدي: التحف شرح الزلف: 72 _ 73.

(2) التحف شرح الزلف: 83 _ 84.

الفصل الخامس الدولة الزيدية في المغرب

الفصل الخامس الدولة الزيدية في المغرب

الادارسة :

كان لعبد اللّه المحض أي عبد اللّه بن الحسن بن الحسن السبط _ عليه السلام _ ستة أبناء قد ذكرنا أسماءهم عند ذكر ثورة محمد بن عبد اللّه النفس الزكية، منهم:

1 _ إدريس بن عبد اللّه المحض :

قال المسعودي: لما خرج محمد بن عبد اللّه المحض المعروف بالنفس الزكية تفرق إخوته في البلاد، يدعون إلى إمامته، فكان فيمن توجه، ابنه علي بن محمد إلى مصر، فقتل هناك، وسار ابنه الحسن إلى اليمن فحبس فمات في الحبس، وسار إخوة موسى إلى الجزيرة، ومضى أخوه يحيى إلى الريّ، ثم إلى طبرستان، ومضى أخوه إدريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس فبعث المنصور من اغتاله بالسم فيما احتوى عليه من مدن المغرب

(1)

قال العلوي العمري النسابة: كان إدريس بن عبد اللّه مع الحسين صاحب

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|396.

( 383 ) الفخ (1)، فلما قتل الحسين انهزم حتى لحق بالمغرب فسمّ هناك (2).

وقال ابن عنبة: لما قتل الحسين انهزم إدريس حتى دخل المغرب فسمّ هناك بعد أن ملك، وكان قد هرب إلى فاس وطنجة ومعه مولاه راشد ودعاهم إلى الدين فأجابوه وملكوه، فاغتم الرشيد (هارون) لذلك حتى امتنع من النوم ودعا سليمان ابن جرير الرقي متكلم الزيدية وأعطاه سماً، فورد سليمان بن جرير متوسماً بالمذهب فسرّ به إدريس بن عبد اللّه ثم طلب منه عزة ووجد خلوة من مولاه راشد فسقاه السم فهرب، فخرج راشد خلفه فضربه على وجهه ضربة منكرة وفاته، وعاد وقد مضى إدريس لسبيله.

كانت بيعة إدريس بن عبد اللّه في شهر رمضان سنة 172ه_ واستمر بالاَمر إلى ست سنين إلاّ ستة شهر

(3)

وقال الزركلي: إدريس بن عبد اللّه بن

الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب: موَسس دولة الاَدارسة في المغرب وإليه نسبتها، أوّل ما عرف عنه أنّه كان مع الحسين بن علي بن الحسن المثلث، في المدينة أيام ثورته على الهادي العباسي سنة 169ه_ ثم قتل الحسين، فانهزم إدريس إلى مصر فالمغرب الاَقصى سنة 172ه_، ونزل بمدينة وليلي (على مقربة من مكناس وهي اليوم مدينة قصر فرعون) وكان كبيرها يومئذ إسحاق بن محمد فعرّفه إدريس بنفسه، فأجاره وأكرمه، ثم جمع البربر على القيام بدعوته، وخلع طاعة بني العباس، فتم له الاَمر (يوم الجمعة 4 رمضان 172ه_) فجمع جيشاً كثيفاً وخرج به غازياً فبلغ بلاد تادَلة

____________

(1) فخ _ بفتح أوّله وتشديد ثانيه _ واد بمكة قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن العلوي يوم التروية سنة 169 ه_ وقتل معه جماعة من أهل بيته وفيه دفن عبد اللّه بن عمرو جماعة من الصحابة، انظر مراصد الاِطلاع، ما دة فخ.

(2) النسابة العلوي العمرى: المجدي: 62.

(3) ابن عنبة: عمدة الطالب: 157 _ 158.

( 384 ) (قرب فاس) ففتح معاقلها، وعاد إلى وليلي، ثم غزا تلمسان فبايع له صاحبها، وعظم أمر إدريس فاستمر إلى أن توفي مسموماً في وليلي في عام 177 ه_ وهو أول من دخل المغرب من الطالبيين، ومن نسله الباقي إلى الآن في المغرب شرفاء العلم (العلميون) والشرفاء الوزانيون، والريسيون، والشبيهيون، والطاهريون الجوطيون، والعمرانيون، والتونسيون (أهل دار القيطون) والطالبيون، والغالبيون، والدباغيون، والكتانيون، والشفشاويون، والوَدْغيريون، والدرقاويون، والزكاريون(1).

* * *

2 _ إدريس بن إدريس بن عبد اللّه المحض :

يقول ابن عنبة: وأعقب إدريس بن عبد اللّه المحض من ابنه إدريس وحده، وكان إدريس بن إدريس لما مات أبوه حملاً، وأُمه أم ولد بربرية، ولما

مات إدريس ابن عبد اللّه وضعت المغاربة التاج على بطن جاريته أُم إدريس فولدته بعد أربعة أشهر، قال الشيخ أبو نصر البخاري: قد خفي على الناس حديث إدريس لبعده عنهم ونسبوه إلى مولاه راشد، وقالوا: «إنّه احتال في ذلك لبقاء الملك له، ولم يعقب إدريس بن عبد اللّه وليس الاَمر كذلك فإنّ داود بن قاسم الجعفري وهو أحد كبار العلماء وممن له معرفة بالنسب، حكى أنّه كان حاضراً قصة إدريس بن عبد اللّه وسمّه وولادة إدريس بن إدريس، قال: وكنت معه بالمغرب فما رأيت أشجع منه ولا أحسن وجهاً، وقال الرضا بن موسى الكاظم _ عليهما السلام _: «إدريس بن إدريس ابن عبد اللّه من شجعان أهل البيت واللّه ماترك فينا مثله» وقال أبو هاشم داود بن القاسم بن إسحق بن عبد اللّه بن جعفر الطيار: أنشدني إدريس بن إدريس لنفسه _ أبياتاً شعرية _ .

____________

(1) الزركلي: الاَعلام : 1| 279.

( 385 )

وكان لاِدريس بن إدريس بن عبد اللّه المحض أحد عشر رجلاً وبنتين: رقية وأُم محمد، ولكنه أعقب من سبعة، وهم:

1 _ القاسم 2 _ عيسى 3 _ عمر 4 _ داود 5 _ يحيى 6 _ عبد اللّه 7 _ حمزة.

وقد قيل: إنّه أعقب من غير هوَلاء أيضاً ولكل منهم ممالك في بلاد المغرب هم بها ملوك إلى الآن

(1)

وفي تعليقة الكتاب: والذي أولدهم إدريس بن إدريس أحد عشر رجلاً، وبنتين: رقية وأُم محمد، والذي أعقب فيهم سبعة، والذي ملك الاَمر منهم في بلاد المغرب محمد واستمر بالاَمر ثماني سنين ثم توفي في شهر ربيع الاَوّل سنة 221 ه_، وقام بعده أولاده ثم أحفاده وكان آخرهم الحسن بن القاسم كنون بن محمد بن القاسم

بن إدريس الذي تولى الملك سنة 348 وقتل سنة 375 وبموته انقرضت دولة الاَدارسة من بلاد المغرب وقد ملكوا الاَمر 200 سنة تقريباً.

وقال ابن عذارى المراكشي: أخذت الهجرات العربية تنثال على مراكش من أفريقية والاَندلس، فقرر إدريس الثاني تأسيس عاصمة له وشرع في إنشاء مدينة فاس عام 192 ه_ حيث سكن البربر المنطقة الشرقية والعرب المنطقة الغربية، وقد أصبحت هذه المدينة مركزاً من أكبر مراكز الاِسلام علمياً ودينياً وتجارياً وصناعياً.

قام إدريس الثاني بحملات عسكرية في جبال أطلس وظل يتنقل بعدها بين فاس وتلمسان ووليله إلى أن مات مسموماً عام 213 ه_ في ظروف غامضة.

ترك اثني عشر ولداً هم: محمد وأحمد و عبد اللّه وعيسى وإدريس وجعفر

____________

(1) ابن عنبة: عمدة الطالب: 159 ومعنى ذلك بقاء حكمهم وسلطتهم إلى أوائل القرن التاسع.

( 386 ) ويحيى وحمزة وعبد اللّه والقاسم وداود ويحيى، ولّي منهم: محمد بن إدريس، ففرّق البلاد على إخوته بأمر جدته البربرية «كنزة» ولكن الخلاف نشأ بين بعض الاِخوة ولم تستقرّ بعدها دولة الاَدارسة بسبب منازعة الخوارج لهم برئاسة عبد الرزاق الخارجي الصفري إلى أنّ انتهت عام 323ه_ (1)

وقال الزركلي: إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، أبو القاسم: ثاني ملوك الاَدارسة في المغرب الاَقصى، وباني مدينة فاس. ولد في وليلي (بجبل زرهون. على نحو 30 كم من مكناس) وتوفي أبوه وهو جنين، فقام بشوَون البربر راشد (مولى أبيه إدريس الاَوّل وأمينه) وقتل راشد سنة 186ه_ فقام بكفالة إدريس أبو خالد العبدي، حتى بلغ الحادية عشر، فبايعه البربر في جامع وليلي سنة 188ه_ فتولّى ملك أبيه وأحسن تدبيره وكان جواداً فصيحاً حازماً، أحبته رعيته. واستمال أهل تونس وطرابلس الغرب والاَندلس إليه (وكانت في يد

العباسيين بالمشرق، يحكمها ولاتهم) وغصت وليلي بالوفود والسكان فاختلط مدينة «فاس» سنة 192 ه_ وانتق_ل إليها. وغزا بلاد المصامدة فاستولى عليها، وقبائل نفزة (من أهل المغرب الاَوسط) فانقادت إليه، وزار تلمسان _ وكان أبوه قد افتتحها _ فأصلح سورها وجامعها وأقام فيها ثلاث سنوات، ثم عاد إلى فاس. وانتظمت له كلمة البربر وزناتة، واقتطع المغربين (الاَقصى والاَوسط) عن دولة العباسيين من لدن السوس الاَقصى إلى وادي شلف. وصفا له ملك المغرب وضرب السكة باسمه وتوفي بفاس

(2)في 312ه_. وكان قد ولد عام 771ه_ وبذلك يكون عمره 36عاماً.

____________

(1) ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب في أخبار الاَندلسي والمغرب: 210 كما في الزيدية للدكتور أحمد محمود صبحي: 113.

(2) الزركلي: الاَعلام: 1| 278.

الفصل السادس الاَعلام المجتهدون من الزيدية

الفصل السادس الاَعلام المجتهدون من الزيدية

إنّ أعلام الزيدية بين إمام جهاد واستشهاد وإمام فقه واجتهاد، فمن الطبقة الاَُولى:

1 _ يحيى بن زيد.

2 _ محمد النفس الزكية.

3 _ إبراهيم بن عبد اللّه.

4 _ عيسى بن زيد.

5 _ الحسين الفخيّ.

6 _ يحيى بن عبد اللّه .

7 _ ابن طباطبا.

8 _ محمد بن محمد بن زيد، وغيرهم.

وقد تعرفت على موجز أحوالهم وجهادهم واستشهادهم.

نعم هناك أئمة فقه واجتهاد أشادوا هذا المذهب بتفكيرهم وبجهادهم العلمي المتواصل عبر القرون منضماً إلى حروبهم مع المتمردين والظالمين، وها

( 388 )

نحن نأتي على ذكر لفيف منهم مع الاِشارة إلى حياتهم وتأليفاتهم، وأفضل مرجع لدراسة أحوالهم إلى القرن السابع، كتاب «الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية»، تأليف أبي الحسن حسام الدين حميد بن أحمد المحلي (582_ 652ه_).

وقد ألّف في ذلك المجال كتب تتضمن حياة أئمة الزيدية نشير إلى أسمائها:

1 _ «قرة العيون في أخبار اليمن الميمون» لوجيه الدين عبد الرحمن بن علي (ت944ه_) نشرها القاضي محمد بن

علي الاَكوع.

2 _ «مص_ادر الفكر العربي الاِسلامي» في اليم_ن لعبد اللّه الحبشي، طبع بيروت _ 1978 م.

3 _ «اتحاف المهتدين بذكر الاَئمة المجدّدين» لمحمد بن محمد بن يحيى «زبارة» (ت 1380ه_) .

4 _ «الب_در الطال_ع بمحاسن من بعد القرن الساب__ع» للشوكاني (ت 1250ه_) .

5 _ «حكام اليمن المجتهدون» لعبد اللّه محمد الحبشي، طبع بيروت.

6 _ «مطل_ع البدور، ومجم_ع البح__ور» لابن أبي الرج__ال صف_ي الدين (ت 1092ه_) مخطوط.

7_ «طبقات الزيديّة» تأليف إبراهيم بن القاسم الشهاري (ت 1153ه_) مخطوط.

إلى غير ذلك ممّايقف عليه المتتبع في آثار الزيدية.

* * *

( 389 )

1

أحمد بن عيسى بن زيد بن علي

(157 _ 247 ه_)

الاِمام أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ يكنّى أبا عبد اللّه، وأُمّه عاتكة بنت الفضل بن عبد الرحمن بن العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.

ولد يوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة 157ه_، توفي والده وهو صغير السن.

قال أبو الفرج الاَصفهاني: إنّه وُشيَ إلى هارون بأحمد بن عيسى والقاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين فأمر بإشخاصهما إليه من الحجاز فلمّا وصلا إليه، أمر بحبسهما فحبسا في سعة عند الفضل بن الربيع مكاناً عنده قال: فاحتال بعض الزيدية فدسّ إليهما فالوذجاً في حاجات أحدهما مُبْنج فأطعما المُبْنج الموكّلين فلمّا علما إلى ذلك قد بلغ فيهم خرجا، _ إلى أن قال: _ ولم يزل مدّة ببغداد مستتراً، وقد بلغ الرشيد خبره، فوضع الرصد في كل موضع، وأمر بتفتيش كل دار، يتّهم صاحبهما بالتشيع وطلب أحمد فيها، فلم يزل ذلك دأبه حتى أمكنه التخلص فمضى إلى البصرة فأقام بها (1)

وقال الذهبي: أحمد بن عيسى

بن زيد له كتاب «الصيام» روى عن حسين (يريد الحسين بن علوان) روى عنه محمد بن منصور الكوفي (2)

وقال السيد الموَيّدي: الاِمام أبو عبد اللّه أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن

____________

(1) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 408 _ 409.

(2) الذهبي: ميزان الاعتدال: 1|127 برقم 512.

( 390 )

الحسين السبط _ عليهم السلام _ فقيه آل محمد، وله الاَمالي المعروفة بعلوم آل محمد سمّاها الاِمام المنصور باللّه «بدائع الاَنوار» توفي وقد جاوز الثمانين سنة 247ه_ وقد كان حبسه الرشيد ثم أخرجه اللّه تعالى وبقي في البصرة إلى أن توفّي.

أولاده: محمد وعلي (1)

أقول: يروي عن حسين بن علوان كثيراً ومحمد بن بكر العلائي، وعن محمد ابن بكر عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _.

وروى عنه: ابناه: علي ومحمد، ومحمد بن المنصور المرادي بواسطة ابنيه المذكورين وبلا واسطة ولم يرو عن أبيه.

وأمّا كتاب الاَمالي فهو الذي طبع باسم «رأب الصدع» في ثلاثة أجزاء بتحقيق العلامة علي بن إسماعيل بن عبد اللّه الموَيد الصنعاني وصدر عن دار النفائس ببيروت عام 1410ه_ وقال محقق الكتاب إنّه كصحيح البخاري عند أهل البيت النبوي الشريف (2)

وقد أخرج الموَلف فيه 2790 حديثاً عن الرسول وأئمة أهل البيت والباقر والصادق _ عليهم السلام _ ، وقد أكثر النقل عن النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن غير طريق علي وأبنائه _ عليهم السلام _ ، كما حدّث عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ والكتاب جدير بالمطالعة والدراسة والاستفادة والاعتماد عليه، عند صحّة السند، فلا يتمّ جامع حديثي للشيعة إلاّ بنقل ما ورد فيه عن أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _.

وقد استخرج المحقّق _ المغفور

له _ مصادر ما رواه عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن طريق الصحابة والتابعين،وقصرت يده عن استخراج ما رواه عن أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ عن المصادر الحديثية الشيعيّة، ليكون آية للصحة والاِتقان. وذيّل الجزء الثالث برسالة أسماها: «تعريف برواة الاَحاديث والآثار الواردة في الكتاب» وهي ممتعة.

الجامع لاَحاديثه هو أبو جعفر محمد بن منصور بن يزيد المرادي. وإليك

____________

(1) الموَيدي: التحف شرح الزلف: 45.

(2) رأب الصدع: 1|11.

( 391 )

سند الحديث الاَوّل:

أخبرنا أبو جعفر محمد بن منصور بن يزيد، قال: حدثني أحمد بن عيسى بن زيد عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد عن آبائه عن علي _ عليه السلام _ وإليك ترجمتهم:

1 _ محمد بن منصور بن يزيد (1)ولقد رجعت في ترجمة محمد بن منصور المرادي إلى العلامة بدر الدين أحد العلماء الكبار في اليمن والذي يزور حالياً الجمهورية الاِسلامية في إيران، وحرّر شيئاً ما هذا ملخصه:

ترجمة محمد بن منصور الكوفي المرادي موَلف الامالي:

قال العلامة أحمد بن صالح ابن أبي الرجال أحد كبار علماء الزيدية في كتابه مطلع البدور:

شيخ العترة والشيعة، عذب الشريعة، لمن أراد بحار الشريعة محمد بن منصور المقري المرادي كان الاَئمة يجلّونه إجلال الاَب الكريم وهو ينزلهم في منزلهم الشريف العظيم، وكان شيخاً معمّراً قد ذكر في عمره بخط بعض الطلبة كلام لم يتفق عندي فانقله.

وهو الذي جمع أمالي أحمد بن عيسى، وهو أحد الاَربعة الذين اعتمد عليهم في الجامع الكافي، لاَنّ موَلف الجامع الكافي وهو صاحب «المقنع» وهو الذي قال الذهبي فيه: الامام المحدث الثقة العالم مسند الكوفة أبو عبد اللّه محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي جمع كتاباً فيه علم

الاَئمة بالعراق فاجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره.

وقال السيد العلاّمة صارم الدين إبراهيم بن محمد _ عليه السلام _ لمحمد بن منصور، تفسير، قلت: وذكر بعض شيوخنا رضى اللّه عنه أنّ لمحمد بن منصور

____________

(1) لم يترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ولافي ميزان الاعتدال، ولا جمال الدين المزّي في تهذيب الكمال.

( 392 )

كتاب التفسير الكبير، وكتاب التفسير الصغير، وكتاب أحمد بن عيسى _ عليه السلام _ لعله يريد الاَمالي وسيرة الاَئمة العادلة، وكتاب رسالة بخراسان، وبعض ينسبها إلى الحسن بن زيد بطبرستان. انتهى.

وقال ابن النديم: المرادي من الزيدية وهو أبو جعفر محمد بن منصور المرادي الزيدي وله من الكتب: كتاب التفسير الكبير، كتاب التفسير الصغير، كتاب أحمد بن عيسى، كتاب سيرة الاَئمة العادلة، وله كتب في الاحكام مثل طهارة وصلاة وغير ذلك على تلاوة كتب الفقه، وله كتاب الخميس. كتاب رسالته على لسان بعض الطالبيين إلى الحسن بن زيد بطبرستان (1)

2 _ أحمد بن عيسى بن زيد، وقد مرت ترجمته.

3 _ حسين بن علوان، قال النجاشي: الكلبي ولاءً كوفي عامي (غير شيعي) وأخوه الحسن يكنّى أبا محمد، ثقة، رويا عن أبي عبد اللّه _ عليه السلام _ وليس للحسن كتاب، والحسن أخص بنا وأولى، روى الحسين عن الاَعمش، وهشام بن عروة، وللحسين كتاب تختلف رواياته (2)

4 _ أبو خالد: قال النجاشي: عمرو بن خالد الواسطي عن زيد بن علي له كتاب كبير رواه عنه نصر بن مزاحم المنقري وغيره (3)روى الصدوق في أماليه بإسناده عن عمرو بن خالد قال: قال لي زيد بن علي بن الحسين: في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر بن

محمد _ عليه السلام _ لايضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه (4)وضعفه الذهبي تبعاً لعادته من تضعيف شيعة أهل البيت _ عليهم السلام _ ومواليهم (5)

____________

(1) ابن النديم: الفهرست: 244.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 11.

(3) النجاشي: الرجال: برقم 769.

(4) المامقاني: تنقيح المقال: 2|330 برقم 8691.

(5) الذهبي: ميزان الاعتدال: 3|257 برقم 6359.

( 393 )

2

القاسم الرسي

(169 _ 246ه_)

القاسم بن إبراهيم (طباطبا) بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى المعروف بالقاسم الرسي، فهو الحجر الاَساس لظهور الاَئمة في اليمن وهو جد الاِمام الهادي يحيى بن الحسين الذي خرج في اليمن وأسّس حكومة زيدية فيها طالت قروناً.

وممن ترجمه: أبو الحسن حسام الدين حميد الدين المحلي فقد ذكر نسبه، وصفاته، وطرفاً من مناقبه وأحواله وزهده وقسماً من الوصايا والحكم والآداب المنقولة منه، ثم شرح دعوته وقال: لما استشهد أخوه محمد بن إبراهيم _ عليه السلام _ وهو بمصر دعا إلى نفسه وبثّ الدعاة وهو على حال الاستتار فأجابه عالَم من الناس من بلدان مختلفة، وجاءته بيعة أهل مكة، والمدينة، والكوفة، وأهل الريّ، وقزوين، وطبرستان وتخوم الديلم، وكاتبه أهل العدل من البصرة والاَهواز، وحثّوه على الظهور وإظهار الدعوة.

وأقام _ عليه السلام _ بمصر نحو عشر سنين واشتد الطلب له هناك من عبد اللّه ابن طاهر فلم يمكنه المقام، فعاد إلى بلاد الحجاز وتهامة وخرج جماعة من دعاته من بني عمه وغيرهم إلى بلخ والطالقان والجوزجان، فبايعه كثير من أهلها وسألوه أن ينفذ إليهم بولد له ليظهروا الدعوة، فانتشر خبره قبل التمكن من ذلك، فوجهت الجيوش في طلبه فانحاز إلى حيّ من البدو، واستخفى فيهم وأراد الخروج بالمدينة في وقت من الاَوقات فأشار عليه أصحابه بأن لا يفعل ذلك _ إلى أن

قال: _ ولم يزل على هذه الطريقة، مثابراً على الدعوة، صابراً على التغرّب والتردّد في النواحي والبلدان متحملاً للشدة مجتهداً في إظهار دين اللّه.

ولما تهيّأت مقدمات ظهوره وكانت له بيعات كثيرة في أوقات مختلفة أوّلها

( 394 )

(سنة 199ه_) والبيعة الجامعة كانت سنة 219 ه_ في منزل محمد بن منصور المرادي بالكوفة. فشلت دعوته ولم تساعده المقادير إلى كل ما أراد، فانتقل إلى الرسِّ في آخر أيامه، وهي أرض اشتراها وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة، وبنى هناك لنفسه ولولده وتوفي بها سنة 246ه_ وله سبع وسبعون سنة، ودفن فيها ومشهده معروف يزوره من يريد زيارته.

وله من الموَلفات:

1 _ الدليل الكبير، وقد بالغ فيه في الكلام على الفلاسفة.

2 _ الدليل الصغير.

3 _ كتاب العدل والتوحيد الكبير، وفيه من أُصول العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد والمبالغة في الكلام على الجبرية على لطافة حجمه، ما يشهد بغزارة علمه، ووفور فهمه.

4 _ الرد على ابن المقفّع.

5 _ الرد على النصارى.

6 _ كتاب المسترشد.

7 _ كتاب الرد على المجبرة.

8 _ كتاب تأويل العرش والكرسي.

9 _ كتاب المسألة وفيها مناظرته مع الملحد

10 _ كتاب تثبيت الاِمامة وتقديم أمير الموَمنين على المشايخ.

11 _ كتاب الفرائض والسنن.

12 _ كتاب الطهارة.

13 _ كتاب صلاة اليوم والليلة.

14 _ كتاب مسائل علي بن جهشيار.

15 _ كتاب الناسخ والمنسوخ.

16 _ كتاب سياسة النفس (1).

____________

(1) حسام الدين المحلي: الحدائق الوردية: 2|2 _ 6؛ ولاحظ الاَعلام للزركلي: 5|171. التحف شرح الزلف 63 _ 70.

( 395 )

3

يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي

(245 _ 298ه_)

هو الاِمام الهادي إلى الحقّ المبين، أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم ابن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن

أبي طالب. ولد بالمدينة المطهرة سنة 245ه_ وحمل إلى جده القاسم فوضعه في حجره المبارك وعوّذه، وقال لابنه: بم سمّيته؟ قال: يحيى، وقد كان للحسين أخ يسمى يحيى توفي قبل ذلك، فبكى القاسم حين ذكره وقال: هو واللّه، يحيى صاحب اليمن. _ إلى أن قال: _ أقام اللّه به الدين في أرض اليمن وأحيا به رسوم الفرائض والسنن، فجدد أحكام خاتم النبيين، وآثار سيد الوصيين.

قيامه سنة 280ه_، وله مع القرامطة الخارجين عن الاِسلام نيف وسبعون وقعة كانت له اليد فيها كلها، ومع بني الحارث نيف وسبعون وقعة _ إلى أن قال: _ وخطب له بمكة المشرفة سبعة سنين كما ذكر ذلك في عمدة الطالب وغيره، وقبضه اللّه إليه شهيداً بالسم وهو في ثلاث وخمسين سنة ليلة الاَحد لعشر بقين من ذي الحجّة سنة 298ه_، ودفن يوم الاِثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسّسه بصعدة (1)

ذكر حسام الدين المحلّ_ي طرفاً من مناقبه وأحواله وسيرته، وأنّه الموَسس للدولة الزيدية في اليمن، وإليك فهرساً من أسماء كتبه التي ذكرها المحلي وقال: وصنف التصانيف الفائقة والكتب البديعة:

____________

(1) مجد الدين الموَيدي: شرح الزلف: 62 _ 70 بتلخيص.

( 396 )

1 _ كتاب المنتخب في الفقه، وهو من جلائل الكتب وفيه فقه واسع وعلم رائع. 2 _ كتاب الفنون في الفقه، مهذب ملخص. 3 _ كتاب المسائل. 4 _ كتاب مسائل محمد بن سعيد. 5 _ كتاب الرضاع.6 _ كتاب المزارعة.7 _ كتاب أُمهات الاَولاد. 8 _ كتاب الولاء. 9 _ كتاب القياس.

ومنها في التوحيد كتب جليلة القدر: 1 _ كتاب التوحيد 2 _ كتاب المسترشد 3 _ كتاب الاِرادة والمشيئة 4 _ الرد على ابن الحنفية في الكلام على

الجبرية 5 _ نوادر القرامطة 6 _ كت_اب أُصول الدي_ن 7 _ كت_اب الاِم_ام_ة 8 _ كت_اب إثبات النبوة والوصية 9 _ كتاب الرد على الاِمامية 10_ كتاب البالغ المدرك 11 _ كتاب المنزلة بين المنزلتين 12 _ كت_اب الحملة 13 _ كت_اب الديانة 14 _ كت_اب الخشي_ة 15_ كتاب تفسير خطايا الاَنبياء 16 _ كت_اب الرد على ابن جرير 17 _ كت__اب التفسير في 6 أجزاء 18 _ كتاب معان القرآن في 9أجزاء 19 _ كتاب الفوائد جزءان إلى غير ذلك، وقد ذكر عبد اللّه بن محمد الحبشي له 77 أثراً أتى بأسمائها وخصوصياتها ومحل نسخها المخطوطة.

وقد طبع منه كتابان:

الاَوّل: كتاب الاَحكام وقد طبع في جزأين وهو يشمل الكتب التالية:

1 _ الطه_ارة. 2_ الصلاة. 3 _ الجنائ_ز. 4 _ الزكاة. 5 _ الصيام. 6 _ الحجّ. 7 _ النكاح. 8 _ الطلاق. 9 _ الرضاع. 10 _ النفقات. 11_ البيوع. 12_ الشفعة. 13_ الشركة. 14 _ المضاربة. 15 _ الرهن. 16 _ الكفالة، والضمان، والحوالة، والوكالة.17 _ الغصب والاِق_رار. 18 _ التفليس. 19 _ الصل_ح. 20 _ الاِيم_ان، والنذور، والكفارات. 21_ الدع_وى. 22 _ المزارع_ة. 23 _ الهب_ة، والصدق__ة، والعمرى، والرقبي، والعارية، والوديعة. 24 _ الضالة، واللقطة، واللقيط. 25_ الحدود. 26 _ الديات، والجراحة، والجنايات. 27 _ الفرائض. 28 _ الصيد.

( 397 )

29 _ الذبائح. 30_ الاَطعمة والاَشربة واللباس. 31 _ الوصايا. 32 _ القاضي، والقضاء، والشهادات. 33 _ السير. 34 _ الزهد، والآداب، وغيره من محاسن الاَخلاق.

الثاني: كتاب الردّ والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية أجاب فيه على ثلاث وأربعين سوَالاً وجهه الحسن على القائلين بالاختيار.

قال الاِمام، في صدر الكتاب: فإنّه وقع

إلينا كلام الحسن (1)بن الحنفية، يوَكد فيه الجبر، ويشدد في ذلك منه الاَمر، ويزعم فيه أنّ اللّه سبحانه جبر العباد أجمعين من الملائكة المقربين، والاَنبياء المرسلين، وجميع الثقلين على كل الاَعمال من صالح أو طالح فرأينا أن نجيبه في ذلك وننقض عليه ما جاء به من المهالك ونثبت عليه في ذلك كله لربنا وسيدنا وخالقنا ما هو أهله مما هو عليه وما لا يجوز لخلق اللّه، أن يقول بغيره فيه، فاختصرنا له في قوله الجواب، وتركنا خشية التطويل، كثيراً من الاَسباب، فلينظر من نظر في قولناوقوله، وجوابنا لسوَاله بلب حاضر ورأيٍ حيٍّ صادر، يبن له الحقّ إن شاء اللّه ويثبت في قلبة الصدق (2)

طبعت الرسالة ضمن رسائل العدل والتوحيد في 177 صفحة.

وطبعته معها، رسائل أُخر عام 1400ه_ في بيروت بإشراف سيف الدين الكاتب المجاز من جامعة الاَزهر.

وقد خرج مرتين، مرة سنة 280 ه_ حتى بلغ موضعاً يقال له الشرفة بالقرب من صنعاء وأذعن له الناس بالطاعة، وأقام مدّة يسيرة، حتى خذله أهل البلاد، فعاد إلى الحجاز ثم وصلت كتبهم إليه سنة 283 ه_ فأجاب طلبهم.

____________

(1) وهو من أحفاد محمد الحنفية، أعني: الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد الحنفية، ألّف رسالة يوَكّد فيها الجبر، طبعت الرسالة في ضمن البدايات الكلامية من جانب المستشرقين.

(2) الاِمام الهادي يحيى بن الحسين: الرد والاحتجاج ضمن رسائل العدل والتوحيد: 19.

( 398 )

وقد ذكر الموَيدي قسماً من أشعاره وقصائده، ومما قال:

نحن الفواطم لهونا طعن القنا * ومدامنا حرب يدور رحاها

ومما كتب إلى بني حرث مع كتاب:

خذوا حذركم مني فإنّي مسيِّر * إليكم جيوش اللّه واللّه غالب (1)

* * *

____________

(1) حسام الدين المحلي: الحدائق الوردية: 2|13 _ 21، عبد اللّه

محمد الحبشي: حكام اليمن الموَلفون المجتهدون 21 _ 45.

( 399 )

4

الناصر للحقّ، الاَطروش أبو محمد الحسن بن علي

(230 _ 304ه_)

هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن، بن علي بن عمر الاَشرف بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ .

أحد الاَئمة الزيديين، موَسس دولتها في طبرستان، صاحب التآليف والتصانيف، وقد كان مع محمد بن زيد إلى أن قتل محمد بجرجان فجرّه القضاء إلى بلاد الديلم وهم كفار فأسلموا على يديه، وظهروا وذلك سنة 287ه_ بعد ظهور الهادي في اليمن بسبع سنين (1) واستنقذهم من الضيم وبقي على هذه الحالة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلى أن استولى على أهلها سنة 301ه_.

ذكره حسام الدين المحلي وحكى طرفاً من مناقبه فقال: وحكي أنّه _ عليه السلام _ حضر لغذاء بعض الاَشراف فلما سمع البكاء من داره، قال: هذا الميت الذي يبكى عليه مات حتف أنفه على فراشه وبين أهله وعشيرته، وإنّما الاَسف على أُولئك النفوس الطاهرة التي قتلت تحت أديم السماء، وفرّق بين الاَجساد والروَوس، وعلى الذين قتلوا في الحبوس وفي القيود والكبول.

وله تآليف نذكرها:

1 _ كتاب «البساط» 2 _ كتاب في التفسير احتج فيه بألف بيت من الشعر

____________

(1) التقدير بالسبع باعتبار القيام الاَوّل، لاَنّه قام أوّلاً سنة 280 ه_ ولم يكن ناجحاً، وقام ثانياً عام 283 ه_.

( 400 )

3 _ كتاب «الحج_اج الواضح_ة»، وفيه دلائ_ل حسنة على إمامة أمير الموَمنين. 4_ كتاب «الاَمالي»، إلى غير ذلك مما يبلغ إلى أربعة عشر كتاباً واسع وأُلِّفَ في فقهه كتاب «الحاصر لفقه الناصر» للسيد الموَيد باللّه، وكتاب «الناظم» للسيد أبي طالب، وكتاب «الموجز» للشيخ أبي القاسم البستي، وكتاب «الاِبانة» للشيخ العالم أبي جعفر

محمد بن يعقوب الهوسمي، (هذه الكتب الاَربعة أُلفت في فقه الناصر وجميع أهل الجبل من الزيدية كلهم على مذهبه في الفروع) توفي ليلة الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة 304ه_ وله أربع وسبعون سنة. ومن أحسن شعره قصيدة أوّلها:

أناف على السبعين ذا الحول رابع * ولاب_د لي إلاّ إلى اللّه راج__ع

وصرت تقومن__ي العص__ا * أدبّ كأنّي كلما قمت راك__ع (1)

وكانت مدّة ظهوره ب_ «آمل» ثلاث سنين وأشهراً ودفن فيها ومشهده هناك معروف. وعلى ضوء ذلك فلو كانت إمامته مختصة بهذه السنين الاَخيرة فلا يكون في وقت واحد إمامان. ولكن المعروف أنّه دعا إلى نفسه قبل ذلك كما عرفت حيث دخل بلاد ديلم عام 287ه_ داعياً إلى نفسه.

قال مجد الدين الموَيدي: وكان يرد بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه، ويقول: أنا ابن رسول اللّه وهذا كتاب اللّه، فمن أجاب إلى هذا وإلاّ فهذا. قال محمد بن جرير الطبري في تاريخه، ولم ير الناس مثل عدل الاَطروش وحسن سيرته وإقامته الحقّ. وقال ابن حزم: كان الاَطروش، فاضلاً حسن المذهب، عدلاً في أحكامه، ولى طبرستان...

____________

(1) حسام الدين المحلي: الحدائق الوردية: 2|28 _ 40. والتحف شرح الزلف: 70 _ 73.

( 401 )

وقال الاِمام أبو طالب: وكان يحث الناس على نصرة الهادي يحيى بن الحسين (1) ويقول من يمكنه أن ينصره وقرب منه فنصرته واجبة عليه. ومن تمكن من نصرتي وقرب مني فلينصرني. كان طويل القامة يضرب إلى الاَُدمة، به طرش من ضربة.

أولاده:

أبو الحسن الاَديب الشاعر، وأبو القاسم جعفر وأبي الحسين أحمد وقد أشار، موَلف التحف إلى تعاصر الاِمامين: الهادي والناصر في قطرين بقوله:

وعاصره في الجي_ل أفض_ل قائ_م * وأبسل من يدعى إذا انحاز هالع (2)

* * *

____________

(1) في المصدر الحسن

وهو مصحف الحسين.

(2) الموَيدي: التحف شرح الزلف: 70 _ 73.الهالع: الجبان

( 402 )

5

الاِمام المرتضى أبو القاسم محمد بن يحيى

(278 _ 313ه_)

هو ابن الاِمام الهادي بايعه الناس بعد وفاة والده سنة 299ه_، وأقام بصعدة وفي يده بلاد همدان ونجران وخولان، وسيّر جنوده لقتال القرامطة، فقتلوا في كل فج واستقامت له الاَُمور، وبويع يوم الخميس لاِحدى وعشرين ليلة مضت من ذي القعدة من سنة 299ه_ وكان ورعاً متقللاً من المعاش كثير العبادة موَثراً للعلم والعمل وقد تخلّ_ى عن الحكم بعد سنتين لاَخيه الناصر بعد أن رأى أشياء ساءته من عشيرته وله من العمر 32 سنة.

موَلفاته:

1 _ الاَُصول في العدل والتوحيد 2 _ تفسير القرآن 7 أجزاء 3 _ جواب ابن فضل القرمطي 4 _ جواب مسائ_ل ابن مه_دي 4 أج__زاء 5 _ رسالة الاِمام المرتضى إلى أهل طبرستان 6 _ الرسائ_ل السبع المنتقاة 7 _ الرد على الروافض 8 _ الرد على القرامطة أتباع علي بن فضل 9 _ الشرح والبيان في تفسير القرآن.

وله شعر جيد، وله قصيدة مطلعها:

ياحي همدان انّ اللّه فضلكم * بنصر آل رسول اللّه في الكتب (1)

ولما تنازل ورثه في الحكم أخوه الآتي:

* * *

____________

(1) حسام الدين المحلي: الحدائق الوردية: 2| 41_ 46، الحبشي: حكام اليمن: 46.

( 403 )

6

الناصر لدين اللّه أحمد بن يحيى ابن الحسين

ولد الاِمام الهادي

(... _ 320ه_)

ذكر حسام الدين المحلي طرفاً من مناقبه وشعره وظهوره وأجمل الكلام في سبب تنازل أخيه الاِمام المرتضى عن الحكم لصالحه، وقد كانت بيعته سنة 301 ه_، يقول: وبويع له بالخلافة يوم الجمعة في مسجد الهادي إلى الحقّ (والده) واجتمع إليه خلق كثير من الناس، ثم أقبلت نجران وأهل همدان فبايعوه على الطاعة، فأرسل قواده

واعماله إلى جميع مخالفيه وساس الاَُمور أحسن سياسة، وكانت أكثر حروبه مع الباطنية، إلى أن وافته المنية سنة 320ه_ وكانت مدّة ظهوره نحو عشرين سنة ودفن بصعده إلى جنب أخيه وأبيه ومشاهدهم معروفة مزورة(1).

* * *

____________

(1) حسام الدين المحلي: الحدائق الوردية: 2|46 _ 53، وحكام اليمن للحبشي: 54 وفيه أنّه توفي عام 325 ه_ .

( 404 )

7

الاِمام السيد الموَيد أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون

(333 _ 411ه_)

من أئمة الزيدية في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس، ترجمه حسام الدين المحلي في الحدائق الوردية وقال: نسب تعنو له الاَنوار، وتغض من شعاعها الشموس والاَقمار، ينتهي إلى جوهر النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ جواهره، ونمت إلى عنصره الكريم عناصره، وهذا هو الفضل الرائق، والحسب الفائق.

كان وحيد عصره وفريد دهره، والحافظ لعلوم العترة _ عليهم السلام _ والناصر لفقه الذرية الكرام فَأُخذ عنه مذهب الزيدية، وقرِىَ عليه الكلام على طريقة البغدادية وكان في الاَصل إمامياً فوضح له الحقّ فانقاد له أحسن انقياد واختلف أيضاً إلى أبي الحسين علي بن إسماعيل بن إدريس. وقُرأ عليه فقه الزيدية والحنفية وروى عنه الحديث عن الناصر للحق _ عليه السلام _.

وكان أبو الحسين هذا من أجلة أهل طبرستان رئاسة وستراً وفضلاً وعلماً، قال مصنف سيرته: وكان _ عليه السلام _ في الورع والتقشف والاحتياط والتفرد إلى حد يقصر العبارَة عنه، والفهم عن الاِحاطة وتصوّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علومهم مبلغاً منيعاً وحلّ التصوف والزهد محلاّ ً رفيعاً وصنف سياسة المريدين.

وكان يحمل السمك من السوق إلى داره، وكانت الشيعة يتشبثون ويتبركون بحمله فلا يمكن أحداً من حمله، ويقول: أنا أحمله قسراً للهوى وتركاً للتكبر لا لاعواز من يحمله.

(

405 )

وكان قدس اللّه روحه يجالس الفقراء وأهل المسكنة ويكابر أهل السير والعفة ويميل إليهم، وكان يرد الهدايا والوصايا إلى بيت المال وكان يكثر ذكر الصالحين وإذا خلى بنفسه يتلو القرآن بصوت حزين إلى آخر ما ذكره (1)

وقال الزركلي: أحمد بن الحسين بن هارون الاَقطع، من أبناء زيد بن الحسن العلوي الطالبي القرشي، أبو الحسين: إمام زيدي، من أهل طبرستان. مولده بها في آمل، ودعوته الاَُولى سنة 380 بويع له بالديلم ولقب بالسيد «الموَيد باللّه» ومدة ملكه عشرون سنة. وكان غزير العلم، له مصنفات في الفقه والكلام، منها «الاَمالي» و« التجريد» في علم الاَثر، و «شرحه» في أربعة مجلدات (2)

أقول: له ترجمة ضافية في مقدمة الجزء الاَوّل من كتابه «شرح التجريد في فقه الزيدية».

وما ذكره حسام الدين المحلي من أنه كان إمامياً، ثم صار زيدياً، حقّ، وقد نبه بذلك الشيخ الطوسي في أوائل كتاب التهذيب ناقلاً عن الشيخ المفيد أنّه قال: إنّ أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحقّ ويدين بالاِمامة فرجع عنها لما التبس عليه الاَمر في اختلاف الاَحاديث وترك المذهب، ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها. وهذا يدل على أنّه دخل فيه على غير بصيرة واعتقد المذهب من جهة التقليد، لاَنّ الاختلاف في الفروع لا يوجب ترك ما ثبت بالاَدلة من الاَُصول (3).

أقول: قد ذكرنا علل اختلاف الاَخبار المروية عن أئمة أهل البيت وذكرنا أسبابها المختلفة، مقرونا بالشواهد في محاضراتنا في الاَُصول (4)وكان الشيخ أبا

____________

(1) حسام الدين المحلى: الحدائق الوردية: 2|65_ 66.

(2) الزركلي، الاَعلام: 1|116.

(3) الطوسي: التهذيب: 1|2_3.

(4) المحصول: 4|429 _ 437.

( 406 )

الحسين لم يكن واقفاً عليها عن كثب، وإلاّ لما ترك المذهب، وقد وصل إلينا من كتبه، كتابه

«شرح التجريد في فقه الزيدية» في ثلاثة أجزاء كبار _ على القطع الرحلي، نشرته مكتب عنبر بدمشق عام 1405 والكتاب شرح لفتاوى الاِمامين: القاسم بن إبراهيم الرسي، والهادي يحيى بن الحسين بوجه مبّسط، وقد تجلّ_ى فيه تبحره في الفقه الزيدي بعيداً عن الفقه الحنفي كما هو ظاهر لمن طالع الكتاب بالاِمعان والدقة ولاَبي الحسين الهاروني، شعر رائق منه ما يمدح به الصاحب بن عباد نقتبس منه ما يلي:

سقى عهدها، صوب من المزن الهاطل * يحيّى بها تلك الربا والمنازل

منازل نجم الوصل فيهن طالع * يضىء ونجم الهجر فيهن آفل

إلى أن يقول:

ألا أيّها ذا الصاحب الماجد الذي * أنا مله العليا غيوث هواطل

أنامل لو كنت تشير إلى الصفا * تفجر للعافين منها جداول

إليك عميد المجد سارت ركابهم * وليس لهم إلاّ علاك وسايل

وأسعدتهم والنحس لولاك ناجم * وأعذرتهم والذل لولاك شامل

فكل زمان لم تزينه عاطل * وكل مديح غير مدحك باطل (1)

____________

(1) شرح التجريد: قسم المقدمة: بقلم يوسف بن السيد محمد الموَيد الحسن: 71 _ 72.

( 407 )

8

الحاكم الجشمي

(413 _ 494ه_)

المحس_ن بن محمد بن كرامة الجشم_ي البيهق_ي، المعروف ب_ «الح_اكم الجشمي»، أحد المفسرين العظام المتبحرين في علام الكلام، شيخ الزمخشري. قرأ بنيسابور وغيرها. واشتهر بصنعاء «اليمن» وتوفي مقتولاً بمكة. له تآليف يبلغ إلى اثنين وأربعين، وإليك بعضها:

1 _ «التهذيب» في تفسير القرآن، في ثمانية أجزاء، ويوجد منها الجزء 4، 6، 8 في مكتبة الفاتيكان تاريخ كتابتها سنة 565ه_.

2 _ شرح عيون المسائل في علم الكلام.

3 _ التأثير والموَثر في الكلام.

4 _ المنتخب في فقه الزيدية .

5 _ السفينة في التاريخ إلى زمانه في أربعة أجزاء.

6 _ تحكيم العقول في الاَُصول.

7 _ الاِمامة على مذهب الزيدية.

8 _

الرسالة التامة في نصيحة العامة.

9 _ جلاء الاَبصار في علم الحديث.

10_ «تفسيران » بالفارسية، مبسوط وموجز (1)

إنّ الكعبي المعتزلي ألف كتاباً باسم «ذكر المعتزلة» وأكمله عبد الجبار القاضي المعتزلي بكتاب أسماه «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» وقد استدركه الحاكم الجشمي بطبقتين من طبقات المعتزلة: الحادية عشرة، والثانية عشرة، وقد طبعه فوَاد السيد، أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية عام 1406ه_

(2)

____________

(1) الزركلي، الاَعلام: 5|289.

(2) لاحظ: بحوث في الملل والنحل: 3|408 _ 409.

( 408 )

9

أبو سعيد نشوان بن سعيد الحميري

(... _ 573ه_)

كان أوحد أهل عصره، وأعلم أهل زمانه في اللغة والنحو والاِنسان والتواريخ وسائر ما يتصل بفنون الاَدب، شاعراً، كاتباً خطيباً مفوها. وكانت له في الفرائض اليد الطولى.

قال السيوطي: الفقيه العلاّمة المعتزلي النحوي اللغوي، كذا ذكره الخزرجي، وقال: كان أوحد أهل عصره، وأعلم أهل دهره، فقيهاً نبيلاً، عالماً متفنّناً، عارفاً بالنحو واللغة والاَُصول والفروع والاَنساب والتواريخ وسائر فنون الاَدب، شاعراً فصيحاً بليغاً مفوهاً.

صنف: شمس العلوم في اللغة، ثمانية أجزاء.

قال في البلغة: سلك فيها مسلكاً غريباً، يذكر الكلمة من اللغة، فإن كان لها نفع من جهة الطلب ذكره، فاختصره ولده في جزأين وسمّاه «ضياء الحلوم».

وقال ياقوت: استولى نشوان على تلاع وحصون وقدّمه أهل جبل صَبِ_ر، حتى صار ملكاً.

وقال غيره: مات بعد عصر يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجّة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

(1)

وكان نشوان ذا نفس وثّابة، طموحة إلى المعالي، لاترضى إلاّ بالوصول إلى قمة المجد والجمع بين شرف العلم وشرف الملك.

____________

(1) بغية الوعاة: 2|312 برقم 2057.

( 409 ) موَلفاته:

1 _ شمس العلوم ودواء كلام العرب من العلوم، وه_و من كتب الاَدب الهامة ألّفه في ثمانية أجزاء ورتبه على حروف المعجم، وهو أشبه بدائرة المعارف الرائجة في عصرنا، وقد اختصر هذا

الكتاب ابنه في جزأين وسمّاه «ضياء الحلوم» كما مرّ وقد نشرت منتخبات منه في أخبار اليمن بعناية عظيم الدين أحمد مطبوعة في مطبعة بريد في مدينة ليدن في سنة 1916م.

2 _ القصي_دة الحميري_ة أو النشوانية، وهي خلاص__ة السيرة لملوك حمير، والاِذواء والاِقبال، مطلعها.

الاَمر ج_د وه_و غ_ير مزاح * فاعمل لنفسك صالحاً ياصاح

3 _ كتاب القوافي

4 _ التبيان في تفسير القرآن

5 _ أحكام صنعاء وزبيد

6 _ ارجوزة في الشهور الرومية

7 _ رسالة على التصريف

آخرها رسالة «الحور العين وتنبيه السامعين».وقد طبعت عام 1367ه_ بتحقيق كمال مصطفى وذكر ترجمة الموَلف في أوّله شكر اللّه مساعيه. وقدّم له المحقق محمد زاهد الكوثري. ومن قرأ الكتاب يقف على أنّه كان زيدياً، ومع ذلك ربما لا يصرح بمذهبه.

ومن ذلك ما يذكره في باب الاِمامة عدّة نظريات، منها: نظرية إبراهيم بن سيار النظام، وهي إمامة أكرم الخلق وخيرهم عند اللّه، فمن كان أتقى الناس للّه،

( 410 ) وأكرمهم عند اللّه، وأعلمهم باللّه، وأعملهم بطاعته، كان أولاهم بالاِمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً كان أو أعجمياً، ثم يقول: قال مصنف الكتاب: وهذا المذهب الذي ذهب إليه النظام هو أقرب الوجوه إلى العدل وأبعدها عن المحاباة (1).

ومن المعلوم أنّ الضابط الذي أعطاه النظام وقبله الموَلف لا ينطبق إلاّ على علي _ عليه السلام _، مع ذلك لم يصرّح الموَلف بالاسم.

وقد خص فصلاً لفضل زيد

(2)وذكر خروجه: ويظهر منه أنّ باليمن في عصره كان فرقتين فقط:

الجارودية من الزيدية، والمباركية من الاِسماعيلية

(3)

وفي الكتاب بحوث واسعة حول الفرق الاِسلامية، ولاَجل ذلك صار الكتاب ممتعاً.

وقد ترجمه الزركلي

(4)ولم يزد شيئاً عما جاء في مقدمة ذلك الكتاب.

____________

(1) الحور العين: 252.

(2) الحور العين: 188.

(3) نفس المصدر: 156.

(4) الاَعلام: 8|20.

(

411 )

10

الاِمام المنصور باللّه: عبد اللّه بن حمزة بن سليمان

(561 _ 614ه_)

عبد اللّه بن حمزة بن سليمان المنتهي نسبه إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الحسن بن المثنى، كان آية في الحفظ، قرأ الاَُصولين على حسام الدين أبي محمد الحسن بن محمد الرصاص. وألف كتباً كثيراً وله شعراً رائق نقلها حسام الدين المحلي في الحدائق الوردية وترجم له، ترجمة ضافية استغرق خمسين صفحة ذكر أنّه دعا لنفسه عام 593ه_، وبويع عام 594ه_ وتوفي عام 614 ه_ بأرض حولان، قال عبد اللّه الحبشي: تسلم الاِمامة بتكليف من أهل عصره. وكان يأمل في دعوة الاَمير عماد الدين بن يحيى فاعتذر عنها وتحملها الاِمام عبد اللّه، على مشقّة. وفي بداية دعوته جاءت رسائل من أهل حصن «ميتك» يطلبونه لتخليصهم من نفوذ بني حاتم. وكانوا قد استولوا على ناحيتهم فاعتذر فلم يقبلوا عذره وما زالوا به حتى أقبل عليهم وخلّصهم من بني حاتم. ويقول الموَرخون: إنّه قبل أن يدخل حصن «ميتك» أرسل إلى أهله يقول: «قد ملكت هذا الحصن ولكم فيه حقّ العمارة ولست أُقيم إلاّ برضاكم، فإن تأذنوا لي وإلاّ خرجت عنه» فقالوا بأجمعهم: رضينا بك، فأقام بين ظهرانيهم سنتين وثلاثة أشهر.

وأكثر أخباره معارك مع سلاطين بني حاتم، وكان قد أتى من مصر إلى اليمن سيف الاِسلام «طغتكين» سنة 579ه_، فوقعت بينه وبين الاِمام بعض المعارك كتلك الوقعة التي قتل فيها أخوه الاِمام محمد بن حمزة.

وما زالت الحروب بينهم حتى مات «طغتكين» سنة 593ه_. وتم الصل_ح

( 412 )

بينه وبين السلطان علي بن حاتم بعد أن جدّد لنفسه الدعوة.

وله كتب في شتى المواضيع من الفقه وأُصوله والكلام والحديث والاَدب:

1_ صفوة الاَخيار في أُصول الفقه 2_ حديقة الحكم

النبوية شرح الاَربعين السلفية 3_ الشافي في أُصول الدين أربعة أجزاء4_ الرسالة الهادية بالاَدلة البادية في السبي 5_ الاَجوبة الكافية بالاَدلة الوافية 6_ الدرة اليمنية في أحكام السبي والغنيمة 7_ الاختيار المنصورية في المسائل الفقهية 8_ الاِيضاح لعجمة الاِفصاح أكثره يتعلق بالسير 9_ كتاب الفتاوى مرتب على كتب الفقه 10_ الرسالة القاهرة بالاَدلة الباهرة في الفقه 11_ الرسالة الحاكمة بالاَدلة العالمة 12_ الرسالة الناصحة المشيرة بترك الاعتراض على السيرة.13_ العقيدة النبوية في الاَُصول الدينية. 14_ الرسالة الفارقة بين الزيدية والمارقة. 15_ الرسالة النافعة بالاَدلة القاطعة 16 _ الرسالة الكافية إلى أهل العقول الوافية 17_ الرسالة الناصحة بالاَدلة الواضحة. 18_ الجوهرة الشفافة الرادعة للرسالة الطوافة 19_ الاَجوبة الرافعة للاِشكال 20_ الزبدة في أُصول الدين 21_ العقد الثمين في الاِمامة 22_ القاطعة للاَوارد في الجهاد 23_ كتاب تحفة الاِخوان 24_ الرسالة التهامية 25_ ديوانه.

ومن شعره الرائق قوله في حقّ الوصي:

بني عمنا! إنّ يوم «الغدير» * يشهد للفارس المعلم

أبينا علي وصي الرسول * ومن خصه باللوا الاَعظم

لكم حرمة بانتساب إليه * وها نحن من لحمه والدم

لاَن كان يجمعنا هاشم * فأين السنام من المنسم؟

وإن كنتم كنجوم السماء * فنحن الاَهلّة للاَنجم

ونحن بنو بنته دونكم * ونحن بنو عمه المسلم

حماه أبونا أبو طالب * وأسلم والناس لم تسلم

( 413 )

وقد كان يكتم إيمانه * فأمّا الولاء فلا يكتم

وأي الفضائل لم نحوها * ببذل النوال وضرب الكمي؟

قفونا محمد في فعله * وأنتم قفوتم أبا مجرم (1)

هدى الملك هدي العروس * فكافئتموه بسفك الدم

ورثنا الكتاب وأحكامه * على مفصح الناس والاَعجم

فإن تفزعوا نحو بارئكم * فزعنا إلى آية المحكم

أشرب الخمور وفعل الفجور * من شيم النفر الاَكرم؟

قتلتم هداة الورى الطاهرين *

كفعل يزيد الشقي العمي

فخرتم بملك لكم زائل * يقصر عن ملكنا الاَدوم

ولابد للملك من رجعه * إلى مسلك المنهج الاَقوم

إلى النفر الشمّ أهل الكسا * ومن طلب الحقّ لم يظلم(2)

وقد ترجمه الزركلي في الاَعلام وذكر صورة تآليفه مشيراً إلى المخطوط منه والمطبوع وذكر «العقد الثمين» ورمز بعلامة «خ» مشيراً إلى أنّه مخطوط (3)مع أنّه طبع في الثمانينات بعد قيام الجمهورية وهو رد على الاِماميّة، ولاَجل إيقاف القارىَ على نماذج من نقده على الاِمامية نأتي بنظره في النص على إمامة علي، وهو ممن يقول بأنّ النص كان خفياً لا جليّاً، قال:

الخلاف بين الشيعة في علي بن أبي طالب أمير الموَمنين في وجوه:

أحدها: في كيفية النصّ عليه _ عليه السلام _ بعد اتفاقهم على ثبوت إمامته بالنص.

____________

(1) يعني أبا مسلم الخراساني، عبد الرحمن القائم بالدعوة العباسية سنة 129ه_.

(2) مصادر الترجمة: الحدائق الوردية: 2|132 _ 182. الغدير: 5|396 _ 400، حكّام اليمن: 82.

(3) الزركلي: الاَعلام: 4|83 ولاحظ: التحف شرح الزلف: 103 _ 105.

( 414 )

ثانيها: في حاله بعد ظهور قتله وإخبار الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بذلك وإخبار علي _ عليه السلام _ بذلك من بعده وكون ذلك معلوماً بالضرورة.

وثالثها: في حكم المتقدمين عليه، المخالفين له:

ونحن نترك كلامه في الاَمرين الاَخيرين ونقتصر بكلامه في الاَمر الاَوّل، وقد اختار أن النصّ على إمامته لم يكن جلياً بل كان خفياً ولكن الاِمامية تقول بكونه جلياً قال: وأمّا الاِمامية فقد ادّعوا أنّ النصّ جلي بحيث نعلم أنّ الجميع اضطروا إلى العلم بالمراد، وان الكلّ علموا أنّ قصد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كون علي إمام الاَُمّة بعده بلا فصل.....

ثمّ أشكل عليه بقوله: إنّه لو كان

المراد من النصّ معلوماً بالضرورة لاستغنوا عن الكشف والبيان كما هو الحال في الاَُمور الضرورية، مثلاً إنّا لا ننصب لاَهل الاِسلام الدليل على أنّ الصلوات خمس، وأنّ الزكاة مفروضة في الاَموال، وأنّ الحجّ إلى بيت اللّه، وأنّ نبيّ هذه الاَُمّة محمّد رسول اللّه، لما كانت هذه معلومة ضرورة، لم تفتقر إلى بيان ولا كشف. ولما رأى علماءهم المبرزين كالشريف المرتضى الموسوي ومن تقدمه وتأخر عنه من أهل الكلام، بالغوا في تبيين معنى الآية والخبر بل الاَخبار علمنا أنّهم من اعتقاد الضرورة، على شفا جرف هار، لاَنّ من تحمل المشقة في إظهار الظاهر كان عابثاً وكيف يكشف المكشوف أو مجتهد في صفة المشاهد المعروف.

ولاَنّا قد اتفقنا نحن وإيّاهم ونحن الجم الغفير والعدد المتعذر الانحصار الكثير، فكيف لم يحصل العلم لكلّنا أو بعضنا. ونحن وإيّاهم قد اتفقنا على أنّ الاِمام بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بلا فصل علي بن أبي طالب وأنّ من تقدم عليه فقد أخطأ وعصى، فلو كان ما ذكروا من النصّ يوصل إلى الضرورة لوصلنا لاتفاقنا نحن وإيّاهم على العلم بالدليل وكيفية ترتيب الاستدلال فلو حصل العلم لهم، لحصل

( 415 )

لنا ضرورة (1).

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الاِمامة _ حسب عقيدة الشيعة _ من الاَُصول التي يعتبر فيها العلم، ولا يكفي فيها الظن والحدس ولا خبر الآحاد، والمراد من العلم، هو العلم بما صدر عنه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فإذا كان المطلوب فيها العلم، ثم الاعتقاد وعقد القلب فهو يطلب لنفسه أن يكون النص الوارد في ذلك المجال جلياً مورثاً للعلم واليقين، ذابّاً للشك والريب عن أذهان المكلّفين حاضرهم وغائبهم، وكل من وصل إليه خطابه إلى يوم

القيامة، وإلاّ فلا ينتج إلاّ الظن والشك غير المفيدين في ذلك الباب.

وبعبارة أُخرى: إذا كان الاِعلام بإمامة علي واجباً على النبي من اللّه سبحانه، اذاً لا يخلو الاَمر من حالتين: إمّا أن يكون مع تمكنه من النص الجليّ، أو لا معه، والثاني لا تصدقه حياة النبي خصوصاً القسم الاَخير منها، عندما استقر الاسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه (2)فكان النبي، مطاعاً ومهاباً ، منذ وعى الوحي الاِلهي بملاَ قلبه "الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسالاتِ اللّه وَيَخْشَونَهُ وَلا يَخْشَونَ أحداً أبداً وَكَفى باللّه حسيباً"(الاَحزاب _ 39) وعلى ضوء ذلك فكان في وسع النبي، التنصيص الواضح بولاية الاِمام في أنّه سبحانه جعله إماماً للناس بعد رحيله. إذاً العدول عنه إلى النص الخفي، تعريض للاَُمّة، للتفرقة والنزاع، وزرع لبذر الخلاف والنقاش ومع أنّه سبحانه يقول: "وَاعَتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَميعاً ولا تَفَرَّقوا" (آل عمران _ 103) .

ثانياً: أنّ القضايا البديهية في المنطق تنقسم إلى أقسام، بعضها غنية عن

____________

(1) الاِمام المنصور باللّه حمزة بن عبد اللّه بن سليمان: العقد الثمين: 7 _ 8.

(2) اقتباس من كلام الاِمام علي نهج البلاغة: الخطبة 56.

( 416 )

الكشف والبيان والبرهنة والاستدلال دون البعض الآخر والمجموع عبارة عن:

1 _ الاَوّليات 2 _ المشاهدات 3 _ المتواترات 4 _ التجربيات 5 _ الحدسيات 6 _ الفطريات.

ولكل تعريف واحد، والثلاثة الاَُول وإن كانت غنية عن البرهنة والاستدلال، لكن الثلاثة الاَخيرة، بحاجة إليها. مع كونها من أُصول اليقينيات والبديهيات لدى المنطقيين.

مثلاً كون نور القمر مستفاداً من الشمس من الحدسيات، لكن الاِذعان بالحكم المذكور غير غني عن البيان، ولاَجل ذلك يستدل عليه بتشكل القمر عند اعتراض الاَرض بينه وبين الشمس، ومثلها التجربيات التي لا تفارق عن بذل الجهد، في طريق المطلوب أيّاماً

وشهوراً. وأمّا الفطريات فمصطلح المنطقيين فيها غير مصطلح القرآن، فهي عندهم عبارة عما لا يصدقه العقل بمجرد تصور طرفيها _ كالاَوّليّات _ بل لا بد من وسيط إلاّ أنّ هذا الوسيط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى الفكر.

وعلى ذلك فليس كل قضية ضرورية، غنية عن الكشف والبيان.

إنّ الاِمام ابن حمزة جعل القضايا الضرورية مساوية للاَوّليّات التي يصدقها العقل لذاتها وبدون سبب خارج عن ذاتها مثل قولنا، الكل أعظم من الجزء وغفل عن أنّ المراد من النصّ الجلي هو المفيد للعلم بالضرورة وإن كانت الاِفادة متوقفة على أُمور بسيطة، لو التفت إليها، لحصل العلم، فبذل الجهد في الاستدلال بحديث الغدير، سنداً ومضموناً لا ينافي كونها من القضايا اليقينية المفيدة لليقين ولو بعد التأمل في أُمور حوله.

وثالثاً: أنّ النبي الاَكرم ألقى حديث الغدير الذي هو من أوضح الاَدلة على إمامة علي _ عليه السلام _ في منصرفه عن حجة الوداع في أرض تسمى ب_«غدير

( 417 )

خم»، ألقاه في محتشد عظيم ضمّ إلى نفسه أزيد من ثمانين ألف صحابي من أقطار مختلفة.

وقد وقف من شهد الواقعة على مقاصد النبي ومآربه، من غير شك ولا ترديد فيها، ولكن ابتعاد الاَجيال اللاحقة، عن عصر الرسول، صار سبباً، لاختفاء كثير من القرائن اللفظية والحالية التي كان لها دور في تبيين المقصود فمست الحاجة بجمعها وترصيفها على وجه، تحكي لنا الواقعة على ما هي عليها، بلا زيادة ولا نقيصة حتى يصير الغائب كالحاضر في فهم المراد، وينتقلا بالضرورة إلى معنى واحد.

وبعبارة أُخرى: الغرض من البيان والكشف إحضار الواقعة بمالها من الخصوصيات المسموعة والمرئية في عقلية الغائب حتى يكون هو والحاضر في رحاب الخطاب سيان، وهذا طبيعة كل قضية حصل الفصل

الزمني بينها والجيل اللاحق، فليس للقائل بصحة الواقعة إلاّ مسير واحد، وهو إخراج الواقعة عن ملفِّ التاريخ وتصويرها على وجه كأنّ الجيل اللاحق، يرى نفس ما رآه السابق حتى يكون الجيلان أمام التاريخ سواسية، ومثل ذلك لا يُخرج الواقعة عن كونها جلية.

* * *

( 418 )

11

الموَيد باللّه يحيى بن حمزة بن علي

(669 _ 749ه_)

هو الاِمام الموَيد باللّه، أبو إدريس يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر بن علي التقي ابن محمد الجواد بن الاِمام علي الرضا.

وهو المعروف بعلمه الجم، واطّلاعه الواسع، وتوغّله في علم الكلام وبروزه في أسرار البلاغة والفصاحة، يعرّفه الموَيدي بقوله:

هذا الاِمام من منن اللّه على أرض اليمن، وأنواره المضيئة في جبين الزمن، نفع اللّه بعلومه الاَئمة وأفاض من بركاته على هذه الاَُمّة، قام بالحكم بعد وفاة الاِمام محمد بن المطهر سنة 729ه_ وتوفي 749ه_ عن عمر يناهز 82 سنة.

وأمّا موَلفاته فهي كثيرة جداً وقد وصل إلينا منها الكتاب الآتي:

الطراز المتضمن لاَسرار البلاغة وعلوم حقائق الاِعجاز، فرغ منه موَلفه سنة 728 ه_ طبع بالقاهرة عام 1332 ه_ بمطبعة المقتطف في ثلاثة أجزاء وهذا الكتاب من حسنات الدهر، وقد أفادنا كثيراً عند البحث عن إعجاز القرآن في محاضراتنا في الاِلهيّات.

ومن تأليفاته المهمة أيضاً:

الشامل لحقائق الاَدلة العقلية وأُصول المسائل الدنيوية، ومنه نسخة في المكتبة العربية في اليمن برقم 88 وهذا هو الكتاب الذي استخرجه الدكتور أحمد

( 419 )

محمود صبحي آراء الموَلف الكلامية منه وضم إليه آراء مختلف المتكلمين الذين أدلوا بآرائهم حول مختلف الموضوعات.

غير أنّ الذي أبرزه بين العلماء هو كتابان:

الاَوّل: كتاب الطراز على ما عرفت.

الثاني: كتاب الانتصار في الفقه، وهو

الينبوع الذي نهل منه ابن المرتضى (وستوافيك ترجمته) وهو المادة الاَُولى لكتاب البحر الزخار. ويذكر أنّه في 18 مجلداً، وقد ذكر غير واحد من المترجمين له كتاب:

الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي، وهو شرح لكتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي (1)

* * *

____________

(1) الموَيدي: التحف شرح الزلف: 120 _ 123، وانظر حكام اليمن: 133 _ 148، ولاحظ الاِمام المجتهد يحيى بن حمزة وآراءه الكلامية تأليف الدكتور أحمد محمود صبحي، نشره عام 1410ه_.

( 420 )

12

أحمد بن يحيى بن المرتضى

المهدي لدين للّه

(764 _ 840 ه_)

موَلّف البحر الزخار

ابن المرتضى أحد الاَئمّة الزيديين اللامعين، لايشق غباره، فهو بحر لا يبارى في الفقه والاَُصول ولنذكر شيئاً من حياته: قال مجد الدين الموَيدي:

الاِمام المهدي لدين اللّه، أحد من ارتضع من العلوم لبابها، واكترع من لجج البحار عبابها، هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن المرتضى بن أحمد بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن المفضل الكبير بن عبد اللّه الحجاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف بن الاِمام يحيى بن الاِمام الناصر لدين اللّه أحمد بن يحيى الحسين بن القاسم الرسيّ.

تلقى العلوم الاَدبية واللغوية والدينية من أُسرته وبلغ إلى حد بايعه العلماء بالاِمامة بعد وفاة الاِمام الناصر صلاح الدين بن محمد عام 793 ه_ بينما بايع الوزراء ابن الاِمام الناصر يعني علي بن صلاح. فصارت الغلبة نصيب الثاني فسجن ابن المرتضى، ولقد كان التوفيق حليفه في السجن فتفرغ للتأليف وانتج آثاراً لها مكانة كبرى في الاَوساط العلمية لا سيما الزيدية إلى أن وافته المنية عام 840ه_.

وينقل الموَيد أنّ الهادي بن إبراهيم يستعطف عليّ بن صلاح الذي سجن

( 421 )

ابن المرتضى ويطلب منه إطلاق سراحه بالاَبيات الشعرية

التالية:

فقلت له فداك أبي وأُمي * تلطف بالقرابة والرحامة

فإنّ السيد المهدي منكم * بمنزلة تحق له الفخامة

ألم يكن جدك المهدي خالاً * له وكفى بذاك في الرحامة

أخاف إذا استمر القيد فيه * تجىء مقيداً يوم القيامة

فيسألك الاِله بأي ذنب * تقيده وتحبسه ظلامة (1)

أُعتقل ابن المرتضى في سجن صنعاء سبع سنوات ثم أفرج عنه فتوجه إلى «ثلاء» سنة 801 ه_ إلى صعدة سنة 802 ه_ وفي سنة 816 ه_ رحل إلى بلاد حجّة وتزوج هناك وعكف إلى التأليف وترك الترقب بالمهدي وأراح قلبه من مشاكل السياسة، وقد ترجمه غير واحد من الاَعلام منهم: الشوكاني، قال:

(ولد) بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 775ه_ خمس وسبعين وسبعمائة (2) قرأ في علم العربية فلبث في قراءة النحو والتصريف والمعاني والبيان قدر سبع سنين. وبرع في هذه العلوم الثلاثة وفاق غيره من أبناء زمانه ثم أخذ في علم الكلام على صنوه الهادي، وعلى القاضي يحيى بن محمد المدحجي فسمع على الآخر الخلاصة وحفظ الغياضة ثم شرح الاَُصول للسيد مانكديم، ثم أخذ في علم اللطيف فقرأ تذكرة ابن متويه على القاضي المذكور مرة. ثم على القاضي على بن عبد اللّه بن أبي الخير مرة أُخرى ثم قرأ عليه المحيط والمعتمد لاَبي الحسين البصري ومنتهى السوَل. وسمع على الفقيه علي بن صالح السيرة النبوية ونظام الغريب، ومقامات الحريري. وعلى المقرىَ المعروف بابن

____________

(1) التحف شرح الزلف: 127 _ 128.

(2) ويروى أنّه ولد 774 ه_ كما عليه المقدم للكتاب البحر الزخار.

( 422 )

النساخ الكشاف، وعلى أخيه الهادي المتقدم علم الفقه وقرأ غير ذلك وتبحر في العلوم واشتهر فضله وبعد صيته وصنف التصانيف.

ففي أُصول الدين: «نكت الفرائد في معرفة الملك الواحد»

و «القلائد وشرحها الدرر الفرائد» و «الملل وشرحها الاَُمنية والاَمل» و «رياضة الاَفهام في لطيف الكلام» وشرحها «دامغ الاَوهام» وفي أُصول الفقه: «كتاب الفصول في معاني جوهرة الاَُصول» و «معيار العقول وشرحه منهاج الوصول» وفي علم النحو: «الكوكب الزاهر شرح مقدمة طاهر» و «الشافية شرح الكافية» و «المكلّل بفرائد معاني المفصل» و «تاج علوم الاَدب في قانون كلام العرب» و «أكليل التاج وجوهرة الوهاج» وفي الفقه: «الاَزهار» وشرحه «الغيث المدرار» في أربعة مجلدات «والبحر الزخار» في مجلدين.

وفي الحديث: كتاب «الاَنوار في الآثار الناصة على مسائل الاَزهار» في مجلد لطيف وكتاب «القمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار».

وفي علم الطريقة: «تكملة الاَحكام» وفي الفرائض: «كتاب الفائض» .

وفي المنطق: «القسطاس» وفي التاريخ: «الجواهر» و «الدرر» وشرحها يواقيت السير. وقد انتفع الناس بمصنفاته لاسيما الفقهية فإنّ عمدة زيدية اليمن في جميع جهاته على الاَزهار وشرحه والبحر الزخار (1)

وقد بسط الكلام في سيره وآثاره علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين.

قال: فلاحظ من سيرة المهدي _ عليه السلام _ انّه بعد أن خرج من سجن صنعاء جنّد نفسَه للجهاد والجلاد، ولكن جهادُه وجلاده في هذه الفترة لم يكن مع المنصور علي بن صلاح ولا مع غيره وإنّما كان مع الجهلِ والبدعِ والضلالاتِ،

____________

(1) الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع: 1|122.

( 423 )

جاهَد هذا الثالوثَ الرهيبَ بلسانه، وبيانه، وسلوكه، وخرج بنفسه من أجل ذلك إلى القرية وتجول في السهول حيثما تسكن القبائل وتأوي إليها النسور القشاعم من أحفاد الاَنصار وأشبال أحفاد الاَنصار، وفيها حمل راية الجهاد ونادى بوجوب الاجتهاد وبحرية وقدسية الفكر والرأي للانتقاد الحرّ والاستنباط الحرّ من مصادر الاِسلام الاَُولى كتاب اللّه وسنّة رسوله _ صلى

الله عليه وآله وسلم _ والاستفادة من الثروات الفكرية التي خلَفها الاَئمة الهادونَ، والعلماء المجتهدون في كل أصقاع الاَرض، ومن أجل ذلك ألّف الموَلفات الشاملة وحرر الرسالات الصادعة وبدّد الشبهات بالحجج النيرات، ولذا ظهرت بعض موَلفاته في هذه الفترة على النحو التالي:

في «ثلا» وبعد خروجه من السجن ألف كتاب (البحر الزخار) الجامع لمذاهب علماء الاَمصار وفيه تظهر آراوَه وأنظاره الخاصة في كل المسائل التي اشتمل عليها الكتاب.

وفي سنة 816 ه_ سافر من «ثلا» إلى بلاد مسور وفيه مكث ما شاء اللّه وبدأ في كتابة «غايات الاَفكار» وهو شرح لما تضمنه كتاب «البحر الزخار» من العلوم.

وبعد أن سافر إلى الاَهنوم وأصلح أحوال أهله رجع إلى «الحيمة» لنفس الغرض، ومنها استدعاه أهل حراز لاِصلاح شأنهم ومكث في «حراز» ما شاء اللّه وفيه ألف «الدامغ» و «منهاج الوصول لمعيار العقول» و كتاب «علوم الاَدب» و «القسطاس في المنطق» و «القاموس الفائض في الفرائض» ثم رجع إلى «مسور» لزيارة أولاده وفي هذه الفترة ألف «القمر النوار» .

ثم نزل «الدقائق» من بلاد «لاعة» وفيها ألف «حياة القلوب» .

وفي سنة 836ه_ توفي الاِمام الهادي علي بن الموَيد وأوصى بتسليم ما كان بيده من الحصون إلى الاِمام المهدي صاحب الترجمة فأمر ابنه الحسن بن الموَيد بتعهدها وافتقادها، أمّا الاِمام نفسه فقد رحل إلى ظفير حجّة، حيث اتّخذه وطناً له

( 424 )

وذلك في سنة 838 ه_، وفي سنة 840ه_ توفاه اللّه شهيداً بالطاعون وقبره بالظفير مشهور رحمه اللّه وجزاه خيراً وألحقنا به صالحين (1)

آثاره المعروفة :

ثم إنّ الذي شهّر الاِمام ابن المرتضى هو آثاره القيمة نذكر منها ما يلي:

1 _ البحر الزخار الجامع لمذاهب أهل الاَمصار:

وقد طبع مرة واحدة عام 1368 مبتوراً مشتملاً

على أربعة فنون:

1_ الاَحكام الفقهية 2 _ الفرائض الشرعية 3 _ الغرائب من فقه السيرة النبوية المسمّى بالدرة 4 _ تكملة الاَحكام والتصفية عن بواطن الآثار.

ثم طبع ثانياً عام 1393ه_ منضماً إلى الكتب التالية:

1 _ أُصول الدين، 2 _ أُصول الفقه، 3 _ علم اللطيف (الفلسفة) 4 _ الملل والنحل 5 _ آيات الاَحكام 6 _ تاريخ سيرة سيد البشر وأصحابه العشرة الغرر، وعترته المنتجبين الزهر.

وقد طبع الكتاب في سبعة أجزاء، والجزء الاَوّل باسم المقدّمة، والكتاب مشتمل على عشرة فنون، وهو موسوعة كبيرة أحتفل بها العلماء في الاَوساط المتنورة.

2 _ كتاب الاَزهار في فقه الاَئمة الاَطهار :

وقد حظي الكتاب بالاهتمام البالغ من قبل المقلّدين والمجتهدين وربما يقال نظمت ونضدت فيه مسائل الفقه، أو ثمانية وعشرين ألفاً من مسائل الشريعة منطوقاً ومفهوماً وعليه اعتمدت الزيدية حتى عصرنا هذا.

____________

(1) البحر الزخار، ج1: المقدمة بقلم علي بن عبد الكريم بن محمد الفضيل شرف الدين:19_ 26.

( 425 )

والحقّ أنّه لم يحظ متن فقهي من متون الاَئمة بمثل ما حظى به متن الاَزهار من عناية العلماء واهتمامهم بتعليقاتهم، وهو بين الزيدية، كالعروة الوثقى عند الاِمامية.

ولقد ألّف بعده كتابان: الآثار، والهداية على غرار الاَزهار، ولكن لم يحرزا القبول والاَوّل لحفيد الموَلّف شرف الدين المتوفى سنة 965ه_ والثاني لصارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير المتوفى سنة 924ه_.

وهناك من قام بمناقشة المضمون وكيفية الاستنباط كالعلامة الجلال في كتابه ضوء النهار، ورد عليه، ابن الاَمير في كتابه «منحة الغفّار».

إلى أن وصلت النوبة للشوكاني فقام بالتعليق عليه مع النقد اللاذع وسمّى كتابه ب_ «السيل الجرار المتدفق على حدائق الاَزهار» والاسم يعرب عن المسمّى وهو بصدد هدم ما بناه الاِمام، وتخريب ما أرساه وقد أثار هذا

النوع من التأليف مشاعر أكثر رجالات العلم المتحررين، فكتبوا ردوداً عليه.

وأما تصانيفه فيبلغ عدد الجمع 33 وقد طبع قسم منها ضمن البحر الزخار وتعرفت على فهرسته في ترجمة الشوكاني له.

ولم يكتف الاِمام بالرسائل والمواعظ والموَلفات في نشر علومه وأفكاره، بل قرض الشعر ونظّم القصائد الهادفة، وله قصيدة تذكر أبناء فاطمة الزهراء _ سلام اللّه عليها _ ويقول:

إذا ما رأيت الفاطمي تمردا * أقام على كسب المعاصي وأخلدا

فذاك الذي لما أكتسى ثوب عزة * تبدل أثواب الدناءة وارتدا

فياسوءتا للفاطمي إذا أتى * أسير المعاصي يوم يلقى محمدا

فلو لم يكن إلاّ الحياء عقوبة * ولم يخش أن يصلى الجحيم مخلّدا

( 426 )

لكان له واللّه أعظم وازعٍ * من النكر والفحشاء كهلاً وأمردا

فقل لبني الزهراء إن محمدا * بنى لكموا بيت التقاء وشيدا

وأنّ أباكم حيدر بعده الذي * حماه وقد قامت إلى هدمه العدى

فلا تهدموا بنيان والدكم وقد * تحسى أبوكم دونه جرع الردا

فشّر فتىً في العالمين فتى أتى * وقد أصلحت كفا أبيه فأفسدا

نظرة في كتاب طبقات المعتزلة:

إنّ من سبر كتاب طبقات المعتزلة لابن المرتضى يقف على أنّه يرى منهج الاعتزال صورة صحيحة للاِسلام، وأنّه والاعتزال، وجهان لعملة واحدة حيث ذكر للمعتزلة اثنتي عشر طبقة إلى عصره. بالشكل التالي:

الطبقة الاَُولى: الخلفاء الاَربعة وعبد اللّه بن العباس وعبد اللّه بن مسعود وغيرهم من الصحابة.

الطبقة الثانية: الحسنان اللّذين منهما اشتهر القول بالتوحيد والعدل ثم ذكر أسماء عدّة من تلك الطبقة.

الطبقة الثالثة: الحسن بن الحسن المثنى، وعبد اللّه بن الحسن وأولاده: النفس الزكية وغيره (1)ومن أولاد علي أبو هاشم عبد اللّه بن محمد الحنفية.

الطبقة الرابعة: غيلان بن مسلم الدمشقي وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد إلى أن انتهى إلى الطبقة

الاَخيرة.

____________

(1) لو كان المقياس في تنظيم الطبقات هو التقدم الزمني، فالاَولى عد أولاد عبد اللّه بن الحسن من الطبقة اللاحقة.

( 427 )

إنّ واصل بن عطاء هو موَسس منهج الاعتزال، وقد انتقل إلى أحد الاَُصول الخمسة أي المنزلة بين المنزلتين من النقاش الدائر بينه وبين الحسن البصري، ثم تكامل المنهج وتصقّل عبر العصور فكيف يكون الاعتزال صورة أُخرى للاِسلام؟

ومن قرأ كتاب طبقات المعتزلة للاِمام ابن المرتضى، لا يشك في أنّ الكاتب معتزلي مائة بالمائة، ومع ذلك هو زيدي متمسك بأهداب المذهب الزيدي كذلك فكيف جمع بينهما. لا أدري، ولعله، اعتزل في غير باب الاِمامة.

* * *

( 428 )

13

الاِمام المنصور باللّه القاسم بن محمد علي

(1029)

موَلف كتابي : الاساس، والاعتصام

هو الاِمام الاَجل المنصور باللّه أبو محمد القاسم بن محمد بن علي بن محمد ابن علي بن الرشيد بن أحمد بن الاَمير الحسين الاَملحي بن علي بن يحيى بن محمد ابن يوسف الاَشل بن القاسم بن الاِمام الداعي إلى اللّه يوسف بن الاِمام المنصور باللّه يحيى بن الاِمام الناصر أحمد بن الاِمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين قام بعد إياسه من خروج الاِمام الناصر الحسن بن علي في المحرم سنة ست وألف وطهّر الاَرض من الردى. ونشر فيها الاِيمان والهدى ولقد جدد اللّه بعلمه وسيفه الدين الحنيف وأحيى بجهاده واجتهاده معالم الشرع الشريف وطلع عليه السلام من أيّام الشدائد إلى الحصن المنيع جبل برط من بلد همدان بن زيد.

قبضه اللّه ثاني عشر شهر ربيع الاَوّل سنة تسع وعشرين وألف عن اثنتين وستين سنة.

أولاده:

محمد وعلي الشهيد _ أحمد _ والحسن _ والحسين _ وإسماعيل وإسحاق درج _ ويحيى _ وعبد اللّه _ ويوسف.

موَلفاته:

ومن موَلفاته الاعتصام في السنة بلغ فيه

إلى الحجّ وأتمه السيد العلامة أحمد ابن يوسف زيارة المتوفى سنة 1252ه_.

المرقاة _ في أُصول الفقه.

( 429 )

الاِرشاد والتحذير وغير ذلك.

والاَساس في أُصول الدين الذي يقول فيه الاَبيات البليغة من البحر الكامل.

هذا الاَساس كرامة فتلقه * ياصاحبي بكرامة الاِنصاف

واحرز نفيساً من نفائس نثره * جمعت بغوض في خِضمِّ صاف

جمع المهيمن بيننا في دينه * جمعاً يفي بإصابة وتصادف(1)

وله شروح.

وقال مجد الدين في مقدمة كتاب الاعتصام: هو الذي ألّف اللّه به الدين بعد شتاته، ووصل به حبل الاسلام بعد انبتاته، ورفع بدعوته من الملة الحنفية اعلامها، وأنفذ بجهاده من الشريعة المطهرة في الاَقطار أحكامها، وجلى الظلم، وكشف به البهم، ذو الآيات الظاهرة والبراهين الزاهرة، والاَخلاق النبوية، والعلوم العلوية، الذي كشف به غياهب ظلم الظالمين، الاِمام الاَعظم الداعي إلى التي هي أقوم، أبو محمد مولانا الاِمام أمير الموَمنين، وسيد المسلمين، والصادع بالحقّ المبين، المحيي لطريقة سلف الاَئمة السابقين، المنصور باللّه القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الاَمير الحسين بن الاَمير علي بن يحيى العالم البر بن محمد العالم التقي بن يوسف الاَصغر الاَشل بن الاِمام الداعي إلى اللّه القاسم بن الاِمام الداعي إلى اللّه يوسف الاَكبر بن الاِمام المنصور باللّه يحيى بن الاِمام الناصر لدين اللّه أحمد بن الاِمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين الحافظ بن الاِمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشّبه بن الحسن الرضي بن الحسن السبط بن أمير الموَمنين وسيد الوصيين وأفضل الصديقين علي بن أبي طالب وابن فاطمة البتول الزهراء،

____________

(1) مجد الدين: التحف في شرح الزلف:

( 430 )

والصديقة الكبرى، سيدة نساء الاَعاجم والاَعارب ابنة سيد المرسلين، وختم النبيين

أحمد الاَمين، صلوات اللّه وسلامه وتحياته وإكرامه عليهم أجمعين ما أنهلت السحايب، وأنارت الكواكب وانزاحت بأنوار هدايتهم الغياهب (1)

هذا وكتابه الاَكياس خير دليل على شجاعته الاَدبية في بيان الحقّ، وترك التقية أو المماشاة مع أهل السنّة قال في فصل «حكم أبي بكر في فدك».

«قال الاِمام يحيى والاِمام المهدي _ عليهما السلام _ : وحكم أبي بكر في فدك صحيح، لاَنّه حكم باجتهاده.

قلنا: هو المنازع، وأيّما منازع حكم لنفسه فحكمه باطل إجماعاً، ولو لم يخالف اجتهاده قال الشاعر:

ومن يكن القاضي له من خصومة * أضرّ به إقراره وجحوده

وأيضاً فانّ الاِمام عندهما ( _ عليهما السلام _ ) علي _ عليه السلام _ ، وهو لم يرض ولايته، فكيف يصح قضاوَه.

وأيضاً كانت اليد لفاطمة _ عليها السلام _ ، لاَنّ في الرواية أنّها ( _ عليها السلام _ ) أتته تطلب حقها بعد أن رفع عاملها، فايجاب البينة عليها خلاف الاِجماع.

وأيضاً اعتمد على خبره وهو: «نحن معاشر الاَنبياء لا نورث ما خلفناه صدقة» مع احتمال أن يكون معناه: أنّ الصدقة (أي الزكاة التي لا تحلّ لبني هاشم غير موروثة بل تصرف في مصرفها).

ولفاطمة _ عليها السلام _ أن تعتمد على خبرها وخبر علي والحسن والحسين _ عليهم السلام _ . صح لنا ذلك من رواية الهادي _ عليه السلام _ (في كتاب «تثبيت الاِمامة)» (أُم أيمن (أنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنحلها) مع أنّه نصّ صريح لا يحتمل التأويل (2)

____________

(1) الاعتصام بحبل اللّه المتين، المقدمة: 1 ، بقلم مجد الدين بن محمد الموَيدي. مفتي الزيدية في اليمن حالياً.

(2) القاسم بن محمد: الاَساس لعقائد الاَكياس: 165.

( 431 )

ومع ذلك نرى أنّه يتتعتع ويتلعثم في بيان

حكم من تقدم الوصي.

ولا يجتري أن يحكم بأنّهم بغوا على الاِمام وعصوه قال:

واختلف في حكم من تقدم الوصي _ عليه السلام _ .

والحقّ أنّهم إن لم يعلموا استحقاقه _ عليه السلام _ دونهم بعد التحري فلا إثم عليهم، وإن أخطأوا لقوله تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُم جُناحٌ فيما أخطأتم به" (الاَحزاب _ 5) ولم يفصل.

وقوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : (رفع عن أُمتي الخطأ والنسيان) ولم يفصل.

وإن علموا فخطيئتهم كبيرة للاِجماع على أنّ منع إمام الحقّ من تناول الواجب أو منع الواجب منه بغى عليه، والاِجماع على أنّ البغي عليه فسق، لاَنّه اتباع لغير سبيل الموَمنين واللّه تعالى يقول:

"ويتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُوَْمِنينَ نُوَلّهِ ما تَولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّم وساءَتْ مَصِيرا" (النساء _ 115) ولعل توقف من أئمتنا _ عليهم السلام _ لعدم حصول العلم بأنّهم علموا أو جهلوا (ذلك) ومعارضة إبقائهم على الاَصل من الجهل باستحقاقه ( _ عليه السلام _ ) ، بأنّ الاَصل في أعمال المكلفين التي تعلق بالحقوق العمد، ألا نرى أن رجلاً قتل رجلاً، ثم ادعى الخطأ أنّه لا يقبل قوله بالاِجماع.

وبوجوب حمل علماء الصحابة على السلامة، وعدم الاِخلال بتعريفهم، إذ مثل ذلك واجب لقوله تعالى: "إنَّ الذِينَ يَكتُمونَ ما أنزَلنا مِنَ البيِّناتِ والهُدَى مِن بعد ما بينّاهُ للناسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاعِنُون" (البقرة _ 159) ولنقل تعريفهم إياهم نقلاً لم يبلغ حد التواتر وجب الوقف في حقهم دون علماء الصحابة لحصول العلم بتلبّسهم بالمعصية، وهو اغتصاب إمامته _ عليه السلام _ ، ولم يحصل مثل ذلك في حقّ علماء الصحابة (1)

____________

(1) القاسم بن محمد : الاَساس لعقائد الاَكياس: 162 _ 163.

( 432 )

( 433 )

الفصل السابع شخصيات زيدية ذات اتجاهات خاصة

الفصل السابع

شخصيات زيدية ذات اتجاهات خاصة

الطابع الفريد للمذهب الزيدي، هو أنّه عقليّ في الاَُصول والعقائد، يقتفي أثر الدليل والبرهان ويتعرض للشكوك والشبهات، ويجيب عنها، وهو يرافق المعتزلة في أكثر المسائل إلاّ ما يرجع إلى الاِمامة، ويناضل الاَشاعرة في غالبها. ومع أنّ المذهب الاَشعري، هو المذهب المعتدل بين المذهب العقلي المحض (الاعتزال) والنقليّ المحضّ (الحشوية) فالمذهب الزيدي لايرافقه إلاّ في الاَقل القليل في مجال العقائد.

وأمّا اتجاهه في الفقه فهو نفس ذلك الاتجاه، فالفقه الرائج بين الزيدية هو فقه الاِم_ام يحي_ى اله_ادي (245 _ 298 ه_) ، موَلّف «الاَحكام» ولكنه حنفيّ الاتجاه، يعمل بالقياس والاستحسان، ويرجّح بالعقل عند تعارض الاَدلة.

هذا هو طابع المذهب الزيدي، ومع ذلك ترى أنّ شخصيات بارزة نقضوا ذلك الاِطار، وتحرّروا عن القيد الذي ضربه المذهب عليهم، وهم بين:

متفتّح مع السلف وأهل الحديث، أو موَيد للحركة الوهابية المدّمرة لآثار الرسالة باسم مكافحة الشرك.

والممثّل للاتجاه الاَوّل، هو ابن الوزير في القرن الثامن، كما أنّ الممثّل للاتجاه الثاني، الاَمير الصنعاني في القرن الثاني عشر، والجامع بين الاتجاهين في القرن الثالث عشر هو الشوكاني وبما أنّه كان لهم دور في تطوير المذهب الزيدي في بعض الاَدوار، وإن غاب نجمهم بعد حين، ناسب أن نشير إلى زوايا من حياتهم وتفكيراتهم حسب التسلسل الزمني.

( 434 )

زيدي تسنّن

1

ابن الوزير محمد بن إبراهيم

(775 _ 840 ه_)

هو محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن المنصور، بن محمد، بن العفيف، بن مفضل بن الحجاج، بن عليّ، بن يحيى بن القاسم، ابن الاِمام الداعي يوسف، ابن الاِمام المنصور باللّه يحيى بن الناصر أحمد ابن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي

بن أبي طالب رضي اللّه عنهم جميعاً، ولد في رجب عام 775ه_ وتوفي في محرم عام 840ه_، مجتهد باحث، من أعيان اليمن وهو أخو الهادي بن إبراهيم تعلّم بصنعاء وصعدة ومكة، وأقبل في أواخر عمره على العبادة (1)

يعرّفه ابن حجر العسقلاني: أنّه مقبل على الاشتغال بالحديث، شديدُ الميل إلى السنّة بخلاف أهل بيته (2)

ويقول الشوكاني: «وكلامه لا يشبه كلام أهل عصره ولا كلام من بعده بل هو نمط من كلام ابن حزم وابن تيمية وهو في عداد أئمة الزيدية المجتهدين الذين لا يرفعون إلى التقليد رأساً ولا يشوبون دينهم بشيء من البدع الذي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب شيء منها» (3)

وكلامه في كتاب «إيثار الحقّ على الخلق» يعرف موقفه من المذاهب

____________

(1) الشوكاني: البدر الطالع لمحاسن من بعد القرن السابع: 2|81 برقم 39، وقد ذكر نسبه الزركلي بغير ماذكرناه، وماذكرناه هو المعتمد، لاَنّ الشوكاني من أهل البيت.

(2) المصدر نفسه: 83.

(3) المصدر نفسه: 83.

( 435 )

الكلامية يقول فيه:

لقد رأيت مصنفي كتب المذاهب ينتصر فيها المصنف لمذهب واحدٍ في القويّ والضعيف، ولم يسلك أحد منهم مسلك مصنفي كتب الفقه التي تذكر فيها مذاهب أهل الملة الاِسلامية، ويقوّى فيها ما قوّته الدلائل البرهانية سواء أكانت لقريب أم بعيد، لصديق أم بغيض، وكتب العقائد أحقّ بسلوك هذا المسلك من كتب الفروع، أمّا كون الحقّ واحداً فصحيح، ولكن لا يستلزم أن يكون الصواب في جميع المواضع المتفرقة قد اجتمع لفرقة منها إلاّ ما حصل فيه إجماع من الاَُمّة والعترة، وانّ من أندر الاَشياء أن يحرص المتكلم على معرفة الحقّ في أقوال المخالفين.

والذي وسّع دائرة المراء والضلال هو البحث عما لا يُعلَم والسعي فيما لا يُدرك والاشتغال بالبحث عن الدقائق التي

لاطريق إلى معرفتها، السير في الطريق التي لا توصل إلى المطلوب. وليس طلب أي علم بجحود ولا كل مطلوب بموجود.

إنّ المحتاج إليه من المعارف الاِسلامية في الاَُصول سبعة أُمور كلها فطرية جليّة وهي:

1 _ إثبات العلوم الضرورية التي يبتني الاِسلام على ثبوتها.

2 _ ثبوت الربّ عزّ وجلّ.

3 _ توحيده سبحانه وتعالى.

4 _ كماله بأسمائه.

5 _ ثبوت النبوّات.

6 _ الاِيمان بجميع الاَنبياء وعدم التفريق بينهم.

7 _ ترك الابتداع في الدين بالزيادة على ما جاء به الاَنبياء أو النقص عنه.

( 436 )

هذه الاَُمور السبعة تكفي العامّي فإن تعرض فيها لشبهة قادحة تمكن من حلها عن طريق القرينة الجلية (1)

إنّ ما ذكره ابن الوزير من أنّه يكفي العامّي الاعتقاد بالاَُمور وإن كان أمراً صحيحاً، لكن إلزام الجميع بالعمل على نمط واحد، أمر لا يقبله العقل وهل يصح إيقاف البحث على وجوه أصحاب العقول والاَدمغة الكبيرة، كالفارابي وابن سينا، وابن رشد والرازي ونصير الدين الطوسي ومن جاء بعدهم بحجّة أنّه يكفيهم تحصيل البرهان على الاَُمور المذكورة.

إنّ تحريم الحوار الصحيح والمناظرة المبنيّة على الاَُسس الصحيحة ممّا دعى إليه الذكر الحكيم، وأحاديث العترة الطاهرة وقد قدّمنا شيئاً من ذلك في غضون الاَجزاء السابقة.

أظنّ انّ الوزير تأثر بالتيار السلفيّ الذي أثاره ابن تيميّة (661 _ 728 ه_) وتلميذه ابن القيّم (ت 751ه_) قريباً من عصره وبلغ إلى أرض الحجاز واليمن، ولقد كانت الاَذهان الساذجة، أرضاً خصبة لتلك الفكرة فإنّها كانت تحمل حقاً وباطلاً فمن جانب تدعو إلى الاجتهاد الحرّ وترك التقليد، لاِمام من أئمة الفقه، ومن جانب آخر، يدعو إلى إغلاق العقل وإعدامه في مجال المعارف وتقليد حرفية النصوص الواردة فيها. وإن انتهى إلى القول بالتشبيه والتجسيم والجهة، غاية الاَمر يتبرّأون من

مضاعفاتها، بلفظ «بلا كيف».

إنّ ابن الوزير مع ذكائه وتوقّده، تأثر بموجة الفكر السلفي، وابتدع من حيث لا يشعر، فزعم أنّ السلفية مذهب، مع أنّه ليس بمذهب وليس السلف خيراً من الخلف، ولا الخلف بأقصر منهم عقلاً ووعياً، والحجّة هو الكتاب والسنّة الصحيحة والعقل الصريح الذي لولاه، لانسدّ باب المعرفة، فما معنى ترجيح

____________

(1) إيثار الحقّ على الخلق.

( 437 ) السلف على الخلف، ورفض تقليد الاَئمة الفقهية، ووضع قيد السلفية على العقول والاَفئدة مكان تقليدهم.

يقول الشوكاني: إنّ صاحب الترجمة لما ارتحل إلى مكة وقرأ علم الحديث على شيخه ابن ظهيرة قال له: ما أحسن يا مولانا لو انتسبتَ إلى الاِمام الشافعي أو أبي حنيفة؟ فغضب وقال: لو احتجت إلى هذا النسب والتقليدات، ما اخترت غير الاِمام القاسم بن إبراهيم (الرسي) أو حفيده الهادي.

ثم إنّه أتى بأسماء كتبه: وإليك ما ذكره:

1 _ العواصم والقواصم في الذب عن سنّة أبي القاسم.

2 _ الروض الباسم وهو مختصر كتاب العواصم (وقد طبع في مصر في إدارة الطباعة المنيرية) .

3 _ ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، يقول الشوكاني: وهو كتاب في غاية الاِفادة والاِجادة على أُسلوب مخترع لا يقدر على مثله إلاّ مثله، طبع بمصر عام 1349ه_.

4 _ نصر الاَعيان على شر العميان، ردّ فيه على المعري.

5 _ البرهان القاطع في معرفة الصانع ألّفه عام 801 ه_، وطبع بمصر عام 801ه_.

6 _ التنقيح في علوم الحديث.

7 _ إيثار الحقّ على الخلق، المطبوع بمصر عام 1318ه_.

إلى غير ذلك مما ذكره الشوكاني وغيره

(1)

____________

(1) البدر الطالع: 2|90، الاَعلام للزركلي: 5|300.

( 438 )

زيدي تسنّن وتوهّب

2

ابن الاَمير: محمد بن إسماعيل

(1099 _ 1186 ه_)

موَلّف سبل السلام

هو محمد بن إسماعيل بن صلاح، ينتهي نسبه إلى الاَمير يحيى بن

حمزة الحسني، الذي تعرفت عليه.

ولد بكحلان، ثم انتقلت أُسرته عام 1110ه_ إلى صنعاء عاصمة اليمن، وتعلّم النحو والبيان وعلوم الفقه وأُصول الدين، ثم سافر إلى الحجاز مرتين، وأخذ علوم الحديث هناك وبرع في العلوم المختلفة حتى برع أقرانه وتفرّد بالرئاسة العلمية في صنعاء وأظهر الاجتهاد والوقوف مع الاَدلة ونفر من التقليد وزيّف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية.

ومن كتبه النافعة كتاب «سبل السلام في شرح بلوغ المرام» لابن حجر.

أمّا بلوغ المرام فقد ألّفه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وجمع فيه كل الاَحاديث التي استنبط الفقهاء منها الاَحكام الفقهية مبيناً عقب كلّ منها، من أخرجه من أئمة الحديث كالبخاريّ ومسلم، ومالك، وأبي داود، وغيرهم موضحاً درجة الحديث من صحة أو حسن أو ضعف، مرتّباً له على أبواب الفقه، وضمّ إلى ذلك في آخر الكتاب قسماً مهماً في الآداب والاَخلاق والذكر والدعاء.

أمّا الشرح فالاَصل كما يقوله الشوكاني هو «البدر التمام» للمغربي، اختصره

( 439 )

محمد بن إسماعيل الاَمير، فبيّن لغته وسبب الضعف فيما ضعّفه الحافظ ابن حجر، إذ أنكره، أو وهمه أو أعلّه، وذكر ما يدلّ عليه الحديث من الاَحكام الفقهية ومن قال بها من كبار المجتهدين صحابة وتابعين وأئمة المذاهب _ رض _ ومن خالفها مبيّناً نوع المخالفة ودليلها، ثم يقضي بالكتاب والسنّة غير متحيز إلى مذهب من المذاهب (1)

قال الشوكاني: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن: منها في أيام المتوكل على اللّه القاسم بن الحسين، ثم في أيّام ولده الاِمام المنصور باللّه الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الاِمام المهدي العباس بن الحسين، وتجمع العوام لقتله مرّة بعد مرّة حفظه اللّه من كيدهم، وكفاه شرّهم وولاه الاِمام المنصور باللّه، الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك

إلى أيّام ولده المهديّ _ إلى أن قال: _ وكانت العامة ترميه بالنصب مستدلين على ذلك بكونه عاكفاً على الاَُمّهات، وسائر كتب الحديث، عاملاً بما فيها، ومن صنع هذا الصنع رمته العامّة بذلك لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة كرفع اليدين وضمّهما (القبض والتكتف) (2).

هنا ملاحظات :

1 _ إنّ ابن الاَمير بلغ درجة الاجتهاد المطلق، فرفض الالتزام بمذهب خاصّ وقام يعمل برأيه وهو بغية كل طالب داع. لكن المظاهرة على مخالفة العامة لماذا ؟!فإنّ رفع اليد وضمها الذي يعبر عنه في الفقه الاِمامي بالتكتف أو قبض اليد اليسري باليمنى، كما هو التعبير الرائج اليوم، سنّة وليس بفرض _ لو لم يكن بدعة أُموية _ (3) أو ما كان من واجب ابن الاَمير عقلاً ترك السنّة، لدفع الفتنة.

____________

(1) سبل السلام مقدمة المحقّق: محمد بن عبد العزيز الخولي الطبعة الرابعة _ 1379، والبدر الطالع: 2|137، برقم 417.

(2) الشوكاني: البدر الطالع: 2|134.

(3) لاحظ: الاعتصام بالكتاب والسنّة للموَلف: 61.

( 440 )

وقد روي أنّ الاِمام الشافعي زار مرقد الاِمام أبي حنيفة وصلى فيه ولم يَقنُت، ثم سئل عن ترك القنوت مع أنّه مذهبه، قال توقيراً للاِمام فإنّه لا يرى القنوت سائغاً.

هذا هو عقل الاِمام الشافعي وتدبيره وليكن لنا أُسوة:

2 _ إنّ الاقتص_ار بما في بلوغ الم_رام من الروايات، في مقام الاِفتاء شاهد صدق على أنّ الرجل ترك مذهب أهل البيت تماماً، وتفتح على روايات أهل السنّة وصار ينقض ويبرم في ظل أحاديثهم. ومن المعلوم أنّ التظاهر بتلك الفكرة في الاَوساط الزيدية يثير حفيظة الاَكثرين وليس المروي عن أئمة أهل البيت، بأدنى مما روى عن الصحابة والتابعين.

3 _ يبدو أنّ ابن الاَمير كان إنساناً ساذجاً متأثراً بكل تيّار

يصل إليه إذا رافق نفسيته، ولما بلغ إليه خروج محمد بن عبد الوهاب في نجد، ووقف على رأيه من تدمير آثار الرسالة والنهي عن التوسل والزيارة أخذ بترويج أفكاره ولم يقتصر بذلك وقد ألّف كتاباً في ذلك المضمار أسماه «تطهير الاعتقاد من أدران الاِلحاد» واسمه يحكى عن مدى تعصبه بالتوهّب، قد أكثر عنه النقل السيد الاَمين _ قدّس سرّه _ في كتاب كشف الارتياب (1) وهذا يعرب عن ان ابن الاَمير اغترّ بمنهجه من دون دراسة وتحليل ثم إنّه أنشأ قصيدة في مدح الداعي وهنّأ به وقال:

سلام على نجد ومن حلّ في نجدٍ * وإن كان تسليمي على البعد، لا يُجدي

إلى أن يقول:

وقد جاءت الاَخبار عنه بأنّه * يُعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي

ثم هو يتعاطف مع مقولة الحركة ومحتواها، ويقول في مدح محمد بن عبد الوهاب:

____________

(1) كشف الارتياب: 10.

( 441 )

ويعمر أركان الشريعة، هادماً * مشاهد ضلّ الناس فيه عن الرشد

أعادوا بها معنى «سواع» ومثله * « يغوث» و «ودٍ» بئس ذلك من ودِّ

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها * كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ

وقد سرّني ما جاءني من طريقة * وكنت أرى هذه الطريقة لي وحدي

ولما أتته الاَنباء عن قائد الحركة بأنّه يسفك الدماء، وينهب الاَموال، ويكفّر الاَُمة المحمدية في جميع الاَقطار، تراجع عن التأييد شكلياً لا من حيث المحتوى، وقال في قصيدة نقض فيها، قصيدته الاَُولى، مستهلها:

رجعتُ عن القول الذي قلتُ في النجدي * وقد صحّ لي عنه خلاف الذي عندي

ظننت به خيراً وقلت عسى عسى * نجد ناصحاً يهدي الاَنام ويستهدي

فقد خابَ فيه الظنّ لا خاب نصحنا * وما كل ظنٍّ للحقائق لي مهدي

ثم أخذ في ردّ شكل تطبيق المبدأ، فقال:

أبن لي

أبن لي لماذا سفكتَ دماءهم * لماذا نهبت المال قصداً على عمد

وقد عصموا هذا وهذا بقول: لا * إله سوى اللّه المهيمن ذي المجد

وهذا لعمري غير ما أنت فيه من * تجاريك في قتل لمن كان في نجد

فمالك في سفك الدماء قطّ حجّة * خف اللّه واحذر ما تسرّ وما تبدي

( 442 )

لقد عزب عن ابن الاَمير أنّه هو الذي أحلّ سفك دمائهم حيث شبههم في قصيدته الاَُولى عبّاد «سواع» و «ود» وهل يكون دم الوثني ! محترماً مصوناً.

إنّ الاَمير ندم حين ما لا ينفعه الندم، وقد أظهر الندامة بعد سفك الدماء الطاهرة، وقتل النفوس الاَبرياء، ونهب الاَموال، وتدمير البيوت والخيام، بحجّة أنّهم يتوسلون بالنبي، أو يزورون قبره الشريف ومن قرأ تاريخ الوهابية الاَثيمة يقف على أنّه أُسس على قتل الآف من الرجال والنساء والاَطفال، الذين كانوا يقولون: لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه، يصلّون، يزكون، ويحجّون ومانقموا منهم إلاّ أنّهم كانوا يعزّرون النبي الاَكرم، ويمجّدون نبي التوحيد، ويتبرّكون بآثاره، كما كانت الصحابة متبركين بها.

وعلى كل تقدير فقد تخلّى ابن الوزير عن المذهب الزيدي وتحول إلى سلفي وهابي، وتسرع في تأييد موقف ابن عبد الوهاب، فلو كان مذهب السلف، الاِخافة وسلّ السيف، وضرب الرقاب، وتدمير آثار الرسالة، وإنساء الاَنبياء والاَولياء عن الاَذهان، وإثبات جهة الفوق والاستواء على العرش الذي هو فوق السموات والاَرض، والجسمية والغضب والضحك واليد اليمنى والشمال، والاَصابع والكف للّه سبحانه بمعانيها اللغوية، فألف سلام اللّه على الخلف مع بدعه المزعومة، وتوسلاّته المختلقة بزعمهم.

( 443 )

زيدي تسنّن وتوهّب

3

محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه الشوكاني الصنعاني

(1172 _ 1250ه_)

أحد الشخصيات البارزة في اليمن الخضراء قد ترجم لنفسه في كتابه البدر الطالع وقال:

نشأ

بصنعاء فقرأ القرآن على جماعة من المعلمين، وختمه على الفقيه حسن ابن عبد اللّه الهبل، وجوّده على جماعة من مشايخ القرآن، بصنعاء ثم حفظ الاَزهار للاِمام المهدي، ومختصر الفرائض للعصيفري، والملحة للحريري، والكافية والشافية لابن الحاجب، والتهذيب للتفتازاني، والتلخيص للقزويني، والغاية لابن الاِمام، وبعض مختصر المنتهى لابن الحاجب، ومنظومة الجزريّ، ومنظومة الجزاز في العروض وآداب البحث للعضدي ورسالة الوضع له أيضاً. وكان حفظه لهذه المختصرات قبل الشروع في الطلب، وبعضها بعد ذلك، ثم قبل شروعه في الطلب كان كثير الاشتغال بمطالعة كتب التواريخ ومجاميع الاَدب من أيام كونه في المكتب فطالع كتباً عدّة، ومجاميع كثيرة، ثم شرع في الطلب وقرأ على والده رحمه اللّه شرح الاَزهار، إلى آخر ما ذكره من الكتب التي قرأها على مشايخه أو سمعها من أساتذته و _ ذكر _ أنّه سمع البخاري من أوّله إلى آخره على السيّد العلامة علي بن إبراهيم، وسمع صحيح مسلم جميعاً وسنن الترمذي جميعاً وبعض موطأ مالك وبعض شفاء القاضي عياض على السيد العلامة عبد القادر بن أحمد، وكذلك سمع منه بعض جامع الاَُصول، وبعض سنن النسائي وبعض سنن

( 444 )

ابن ماجة، وسمع جميع سنن أبي داود وتخريجها للمنذري، وبعض المعالم للخطابي _ إلى أن قال: _ وكذلك بعض المنتقى لابن تيميّة على السيد القادر بن أحمد وكذلك سمع شرح بلوغ المرام (1)

لقد ترك الشوكاني آثاراً في التفسير والفقه والحديث والكلام وهنا نذكر من آثاره ما يلي:

1 _ فتح القدير في التفسير، وقد طبع في خمسة أجزاء جمع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

2 _ نيل الاَوطار شرح منتقى الاَخبار في الحديث، والمنتقى تأليف الشيخ أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن

عبد اللّه الحرّاني (542 _ 621 ه_) جد ابن تيمية.

3 _ القول المفيد في أدلّة الاجتهاد والتقليد.

4 _ إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والميعاد والنبوات، ردّ به على موسى بن ميمون الاَندلسي اليهودي.

إنّ الاِلمام بحياة الشوكاني دراسة وقراءة، أُستاذاً وشيخاً، تعرب عن أنّه كان سلفيّ المذهب، متحرّراً عن التقيّد بمذهب أحد الاَئمة، وكتابه «نيل الاَوطار» يشهد على ذلك. وقد أوجد هزّة في الاَوساط اليمنية، وهو وإن أخذ من السلفية، بهذا الجانب، الجميل، ولكنّه تورّط في مغبّة لوازم التجسيم والتشبيه، وتتلخص عقائده في الاَُمور التالية:

أوّلاً: يرى حمل صفات اللّه تعالى الواردة في القرآن والسنّة على ظاهرها من غير تأويل، وقد ألّف رسالة في ذلك سمّ_اها: «التحف بمذهب السلف» ويذكر في تفسير قوله سبحانه: "وَسِعَ كُرسيّهُ السَّمواتِ والاَرض" (البقرة _ 255) أنّ

____________

(1) الشوكاني: البدر الطالع: 2|214 _ 217.

( 445 )

الكرسي جسم وردت به الآثار بصفته. ثم ذكر الاَقوال الاَُخر.

وقال: والحقّ هو الاَوّل، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلى مجرد خيالات وضلالات (1).

والمتتبع في تفسيره يجد أنّه يقوي مذهب السلف في غالب المواضع حتى روَية اللّه في الآخرة لو سلم كونها مذهب السلف.

ثانياً: لا يرى للمجتهد تقليد أئمة المذاهب الفقهية، وهو في تلك الفكرة مصيب مشكور، لكنّه أفرط في تطبيق الآيات الذامة للمشركين في تقليدهم الآباء، على مقلدي أئمة المذاهب (2)

نحن نقدر كسر قيد الالتزام بالمذاهب الفقهية للمستطيع استخراج الاَحكام عن أدلتها الشرعية، لكن المجتهد المطلق عبارة عمن استوعب الاَدلّة واستقصاها ومنها الاَحاديث المروية عن أئمة أهل البيت التي رواها شيعتهم من زيدية وإسماعيلية وإمامية، لكن الاَسف أنّ المتخرجين في حقول الفقه إمّا مقلد لاَئمة الفقه أو خارج عن هذا الاِطار، ولكنّه ضارب عن أحاديث

العترة، مع أنّها أحد الثقلين.

ثالثاً: إنّ الرجل جمع بين القولين المتضادين، فمن جانب يرى أنّ الشهداء أحياء حقيقة لا مجازاً.

قال في تفسير قوله تعالى: "وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أمواتاً بَل أحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزقُون" (آل عمران _ 154) :

____________

(1) الشوكاني: فتح القدير: 1|277 _ 373، ط، دار المعرفة بالاَُفست بيروت، لبنان وكل ما ننقله فهو من هذه الطبعة.

(2) لاحظ فتح القدير، سورة الاَعراف، تفسير قوله سبحانه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا آباءنا عليها...) (الآية 28) .

( 446 )

أي لاتقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه هم أموات بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لاَبدانهم بعد سلب أرواحهم، لاَنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الاَمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم، الذي هو بالنسبة إلى علم اللّه كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ (1)

ومن جانب آخر يرى التوسل بالاَنبياء مخالفاً للذكر الحكيم وقد أفاض الكلام في الاِنكار على التوسل عند تفسير قوله سبحانه: "قُل لا أَملِكُ لِنَفسي ضَرَّاً وَ لا نَفعاً إلاّ ما شاءَ اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةً أجَلٌ إذا جاءَ أَجَلُهُم فلا يَسْتَأخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون" (يونس _ 49) فقد ذكر في تفسير الآية نفس ما ورثه من ابن تيمية ولاعق قصعته محمد بن عبد الوهاب (2) ولولا خوف الاِطالة لاَتيت بنص كلامه ليقف القارىَ على وحدة النسج، وبما أنّنا أفضنا في الجزء الرابع من هذه الموسوعة الكلام في التوسل، نطوي الكلام غير أنّا نذكر هنا نكته وهي:

إنّ المتوسل لايدّعي أنّ النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يملك نفعه أو ضرّه، حتى يقال: إنّه لا يملك نفع نفسه

ولا ضره، فكيف بغيره، وإنّما يقول: إنّ الاَنبياء والصديقين والشهداء أحياء حسب ما قرره الشوكاني، والصلة بيننا وبينه موجودة، فنطلب منهم الدعاء كما نطلبه منهم في حال الحياة، وربّما توسل بذواتهم ومقاماتهم، وذلك لاستمطار رحمته سبحانه، وجلب رضوانه، والمخاطب الحقيقي لقضاء الحاجة هو اللّه سبحانه والركائب مناخة على أبوابه سبحانه.

رابعاً: إنّ الشوكاني وإن كسر قيد الالتزام بمذهب الزيدية، ولكنّه لم يتخلّ عنه تماماً في بعض الموارد من تفسيره فربما يذكر بعض الروايات الدالّة على

____________

(1) فتح القدير: 1|159.

(2) فتح القدير: 2|446 _ 450.

( 447 )

إمامة علي عليه الصلاة والسلام، لكن بشكل هادىَ، حيث ذكر في تفسير قوله سبحانه: "إنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُوَتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ راكعُونَ" (المائدة _ 55) قولين:

أحدهما: إنّها نزلت في حقّ عبادة بن الصامت، وثانيهما: أنّها نزلت في حقّ علي، وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس، قال: تصدّق عليّ بخاتم وهو راكع. فقال: النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ للسائل: «من أعطاك هذا الخاتم؟» قال: هذا الراكع، فأنزل اللّه فيه: "إِنّما وَلِيُّكُم اللّهُ وَرَسُولهُ" وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس، قال: نزلت في علي بن أبي طالب إلى آخر ما ذكره (1)

ويذكر في تفسير قوله سبحانه: "إِنّما يُريدُ اللّه لِيُذهِبَ عَنْكُمْ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَّهِّرَكُم تَطهيرا" (الاَحزاب _ 23) قولين:

الاَوّل: أنّها نزلت في زوجات النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ثم قال: قال أبو سعيد الخدري ومجاهد، وقتادة إنّ أهل البيت المذكورين في الآية علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للاِناث، وهو قوله: «عنكم ،

وليطهركم» ولو كان للنساء خاصة لقال: عنكنّ، يطهركنّ. وأجاب الاَوّلون عن هذا التذكير باعتبار لفظ الاَهل كما قال سبحانه: "أتعجبينَ مِنْ أمرِ اللّهِ رحمةُ اللّهِ وبركاتُهُ عَليكُمْ أهلَ البَيتِ" وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير. ثم إنّه ذكر أدلّة القولين وخرج بأنّ الحقّ شموله للطائفتين (2)

ولعلّ هذا الجمع الذي لجأ إليه، كان مقتضى ظروفه، وإلاّ فكيف يمكن

____________

(1) فتح القدير: 2|350.

(2) فتح القدير: 4|279 _ 280.

( 448 )

القول بالجمع، وهو خرق للاِجماع المركب أوّلاً، ومخالف للروايات المتضافرة من أنّ النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ جمع علياً وابنيه وزوجته تحت الكساء وقال: هوَلاء أهل بيت، ولم يجز لاَُمّ سلمة أن تدخل تحت الكساء.

لكنه قد قصر في بعض المواضع، حيث لم يذكر نزول قوله سبحانه: "اليومَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأتممتُ عليكُمْ نِعمَتي ورضِيتُ لكمُ الاِسلامَ دِيناً" (المائدة _ 3) في حقّ علي مع تضافر الروايات. وفسر إكمال الدين بإكمال ظهوره على الاَديان كلها، وغلبته لها (1)

نعم، ذكر في تفسير قوله سبحانه: "يا أيُّها الرَّسولُ بلِّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ وإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بلَّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ" (المائدة _ 67) قال: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وقال: وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه: ( ياأي_ّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك" أنّ علياً مولى الموَمنين "وإنْ لَ_مْ تَفعلْ فَما بلَّغتَ رِسالَتَهُ واللّهُ يَعصِمُكَ منَ النّاس" (2)

وعلى كل تقدير فما يذكره في

حقّ أئمة أهل البيت أثر من آثار نشأته بين الزيدية، ولكنّه في مجال العقيدة سلفيّ، يتمسك بحرفية القرآن ويجوّز الروَية في الآخرة (3). ويذهب في مجال الفقه إلى حجّية كل صحابي من غير فرق بين المعلوم والمجهول، حتى ألّف كتاباً باسم «القول المقبول في ردّ خبر المجهول من غير صحابة الرسول» (4)ويصدر عن الصحاح والمسانيد ويخالف مذهب الزيدية

____________

(1) فتح القدير: 2|11.

(2) فتح القدير: 2|60.

(3) فتح القدير:1|86 في تفسير قوله سبحانه: (وإذ قلتم ياموسى لن نوَمن لك حتى نرى اللّه جهرة).

(4) نيل الاَوطار: المقدمة (و) .

( 449 )

كثيراً. وكتابه المعروف «السيل الجرار المتدفق على حدائق الاَزهار» يعد ثورة عارمة على الزيدية في المجالات الفقهية. وإليك الكلام في هذا الكتاب.

قصة «السيل الجرار المتدفق» :

ألّف أحمد بن يحيى بن المرتضى (775 _ 845ه_) كتاباً باسم «الاَزهار في فقه الاَئمة الاَطهار».

ثم شرحه باسم «الغيث المدرار». ألّفه على مذهب الاِمام الهادي الزيدي في الفروع، يقول المقدِّم لكتاب البحر الزخار في مقدمته: «والكتاب لشموله وتحقيقه، وبلاغة أُسلوبه، وحسن تبويبه يعدّ من آيات الاِمام (أحمد بن يحيى بن المرتضى) التي اختصه اللّه بها ومنحه إياه لنفع الموَمنين وانتشال الجاهلين من ظلام الحيرة إلى نور المعرفة والهدى» (1)

وقد ألّفه الاِمام في السجن بين عام «794 _ 801ه_ » وبما أنّ الكتاب باقة أزهار من الفقه الهادوي فيظن أنّه راجع إليه بعد الخروج من السجن إلاّ إذا كانت المصادر فيه متوفّرة وقد كان العمل عليه في المحاكم والاَوساط العلمية.

ومن المعلوم أنّ فكرة التحرير من الفقه الهادوي، الذي غرس بذرتها ابن الوزير، وسقاها ابن الاَمير، على طرف النقيض من محتويات الكتاب واشتهاره بين العلماء ولاَجل ذلك قام الشوكاني بنقده بكتاب أسماه «السيل الجرار، المتدفق على

حدائق الاَزهار» فأثار بكتابه هذا، والاسم الذي سمّ_اه به حفيظة كثير من الزيديين قال في مقدمة الكتاب:

فإنّ مختصر الاَزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الاَعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار، وكان قد وقع في كثير من

____________

(1) مقدمة البحر الزخار: 18.

( 450 )

مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين: أحببت أن أكون حكماً بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم، فمن كان أهلاً للترجيح ومتأهلاً للتقسيم والتصحيح فهو إن شاء اللّه سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعاً ولما ينوبه ذخراً، وأمّا من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له: «ماذا يغشّك ياحمامة فادرجي» وقد طبع الكتاب في مجلدات أربعة قام بطبعه المجلس الاَعلى للشوَون الاِسلامية بعد قيام الجمهورية العربية في اليمن. وذلك أيضاً في طريق أهدافه من هدم آثار الاِمامة في اليمن ولو بيد علمائها.

وفي الختام نذكر تأليفه المفيد وهو «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع»، ألّفه لغاية خاصة وهو أنّ الخلف ليس بأقل من السلف، ولامسوغ للتقليد لاَئمة الفقه بل يجب التحرر عن الالتزام بفقه إمام خاص، قال في مقدمته: فإنّه لما شاع على ألسن جماعة من الرعاع، اختصاص سلف هذه الاَُمّة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها. حتى اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الاَربعة تعذّر وجود مجتهد بعد المائة السادسة كما نقل عن البعض، أو بعد المائة السابعة كما زعمه آخرون. وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة لا يخفى على من له أدنى حظّ من علم، وأنزر نصيب من عرفان، وأحقر حصة من فهم، لاَنّها

قصر للتفضّل الاِلهي، والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض، وعلى أهل عصر دون عصر، وأبناء دهر دون دهر بدون برهان ولا قرآن على أنّ هذه المقالة المخذولة والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الاَعصار المتأخرة عن قائم بحجج اللّه، ومترجم عن كتابه وسنّة رسوله، ومبيّن لما شرعه لعباده، وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية، وذهاب الدين بلا شك وهو تعالى قد تكفّل بحفظ دينه

( 451 )

وليس المراد حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبيّنه للناس في كل وقت وعند كل حاجة.

حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم مما بلغني خبره إلى عصرنا هذا، ليعلم صاحب تلك المقالة أنّ اللّه وله المنّة قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها، من يقلّ نظيره من أهل العصور المتقدمة كما سيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا الكتاب وحلّ عن عنقه، عرى التقليد وقد ضممت إلى العلماء من بلغني خبره من العباد والخلفاء والملوك والروَساء والاَُدباء ولم أذكر منهم إلاّ من له جلالة قدر ونبالة ذكر وفخامة شأن دون من لم يكن كذلك (1)

وطبع الكتاب في جزئين يشتمل الجزء الاَوّل على 354 ترجمة للشخصيات العلمية والسياسية، وقد وقع الخطأ في أرقام تراجم الجزء الثاني فالظاهر منه أنّ الجزئين يحتوي على ترجمة 596 شخصية وقد فرغ من تأليف الكتاب عام 1213ه_.

ثم إنّ النسابة المعروف اليمني محمد بن محمد بن يحيى بن زبارة، ذيّله بملحق، أتى فيه بترجمة 440 شخصية من مشاهير اليمن لكن على وجه الاختصار، وقد ترجم من عثر عليه من

تراجم من بعد القرن السابع إلى أثناء القرن الثاني عشر من رجال اليمن الميمون، ولم يسجّل فيه تراجم الرجال الذين ذكروا في كتاب «نيل الاَوطار من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث» ألّفه في القاهرة عام 1348 ه_ شكر اللّه مساعيه.

____________

(1) الشوكاني: البدر الطالع: 1|2.

( 452 )

( 453 )

الفصل الثامن فرق الزيدية في كتب تاريخ العقائد

الفصل الثامن فرق الزيدية في كتب تاريخ العقائد

قد ذكر موَرخو العقائد، للزيدية فرقاً بين مقتصر على الثلاثة، وإلى مفيض إلى ستة، وثمانية، وإليك نصوصهم حسب التسلسل الزمني في التأليف:

1 _ قال الاَشعري: «والزيدية» ست فرق:

فمنهم: الجارودية: أصحاب «أبي الجارود» وإنّما سمّوا «جارودية» لاَنّهم قالوا بقول: «أبي الجارود» يزعمون أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الاِمام من بعده وأنّ الناس ضلّوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم «الحسن» من بعد علي هو الاِمام ثم «الحسين» هو الاِمام من بعد الحسن.

وافترقت الجارودية فرقتين: فرقة زعمت أنّ علياً نصّ على إمامة «الحسن» وأنّ الحسن نص على إمامة «الحسين» ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربّه وكان عالماً فاضلاً فهو الاِمام، وفرقة زعمت أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نص على «الحسن» بعد علي وعلى «الحسين» بعد الحسن ليقوم واحد بعد واحد.

وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق: فزعمت فرقة أنّ «محمد بن عبد اللّه بن الحسن» لم يمت وأنّه يخرج ويغلب، وفرقة أُخرى زعمت أنّ «محمد

( 454 )

بن القاسم» صاحب الطالقان حي لم يمت وأنّه يخرج ويغلب، وفرقة قالت مثل ذلك «يحيى بن عمر» صاحب الكوفة.

والفرقة

الثانية من الزيدية، «السليمانية»: أصحاب «سليمان بن جرير الزيدي» يزعمون أنّ الاِمامة شورى وانّها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وانّها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال، ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر.

وحكى «زرقان» عن سليمان بن جرير أنّه كان يزعم أنّ بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل، وانّ الاَُمّة قد تركت الاَصلح في بيعتهم أياهما، وكان سليمان بن جرير يقدم على عثمان ويكفره عند الاَحداث التي نقمت عليه، ويزعم أنّه قد ثبت عنده أنّ علي بن أبي طالب لايضل ولاتقوم عليه شهادة عادلة بضلالة، ولايوجب علم هذه النكتة على العامة إذ كان إنّما تجب هذه النكتة من طريق الروايات الصحيحة عنده.

والفرقة الثالثة: من الزيدية: «البترية»: أصحاب «الحسن بن صالح بن حي» وأصحاب «كثير النواء» وإنّما سمّوا «بترية» لاَنّ «كثيراً» كان يلقب بالاَبتر، يزعمون أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأولاهم بالاِمامة، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لاَنّ علياً ترك ذلك لهما، ويقفون في عثمان وفي قتلته ولايقدمون عليه بإكفار، وينكرون رجعة الاَموات إلى الدنيا، ولايرون لعلي إمامة إلاّ حين بويع، وقد حكي أنّ «الحسن بن صالح بن حي» كان يتبرّأ من عثمان رضوان اللّه عليه بعد الاَحداث التي نقمت عليه.

والفرقة الرابعة من الزيدية: «النعيمية»: أصحاب «نعيم بن اليمان» يزعمون أنّ علياً كان مستحقاً للاِمامة وأنّه أفضل الناس بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وأنّ الاَُمّة ليست بمخطئة خطأ أثم في أن ولّت أبا بكر وعمر رضوان اللّه

( 455 )

تعالى عليهما، ولكنها مخطئة خطأ بيّناً في ترك الاَفضل وتبرّأوا

من عثمان ومن محارب علي وشهدوا عليه بالكفر.

والفرقة الخامسة من الزيدية: يتبرّأون من أبي بكر وعمر ولا ينكرون رجعة الاَموات قبل يوم القيامة.

والفرقة السادسة من الزيدية: يتولّون أبا بكر وعمر، ولايتبرّأون ممن برىء منهما، وينكرون رجعة الاَموات ويتبرّأون ممن دان بها وهم «اليعقوبية» أصحاب رجل يدعى «يعقوب» (1)

* * *

2 _ قال المسعودي: إنّ الزيدية كانت في عصرهم ثمانية فرق: أوّلها الفرقة المعروفة ب_ «الجارودية» وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي، وذهبوا إلى أنّ الاِمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين دون غيرهما، ثم الفرقة الثانية المعروفة ب_ «المرئية»، ثم الفرقة الثالثة المعروفة ب_ «الاَبرقية»، ثم الفرقة الرابعة المعروفة ب_ «اليعقوبية» وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي. ثم الفرقة الخامسة المعروفة ب_ «العقبية» ثم الفرقة السادسة المعروفة ب_ «الاَبترية» وهم أصحاب كثير الاَبتر والحسن بن صالح بن حي. ثم الفرقة السابعة المعروفة ب_ «الجريرية » وهم أصحاب سليمان بن جرير. ثم الفرقة الثامنة المعروفة ب_ «اليمانية» وهم أصحاب محمد بن يمان الكوفي، وقد زاد هوَلاء في المذاهب وفرّعوا مذاهب على ما سلف من أُصولهم (2)

3 _ قال نشوان الحميري: افترقت الزيدية ثلاث فرق: بترية وجريرية

____________

(1) الاَشعري: مذاهب الاِسلاميين: 66 _ 69.

(2) المسعودي: مروج الذهب: 2|183.

( 456 )

وجارودية. فقالت البترية: إنّ علياً _ عليه السلام _ كان أفضل الناس بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأولاهم بالاِمامة، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لاَنّ علياً _ عليه السلام _ سلم لهما ذلك، بمنزلة رجل كان له حقّ على رجل فتركه له، ووقفت في أمر عثمان، وشهدت بالكفر على من حارب علياً، وسمّوا البترية، لاَنّهم نسبوا إلى كثير النواء، وكان المغيرة

بن سعيد يلقب كثيراً ب_ «الاَبتر».

وقالت الجريرية: إنّ علياً كان الاِمام بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وأنّ بيعة أبي بكر وعمر كانت خطأ لا يستحق عليه اسم الكفر، ولا اسم الفسوق، وأنّ الاَُمّة قد تركت الاَصلح، وبرئت من عثمان سبب أحداثه، وشهدت عليه وعلى من حارب علياً بالكفر.

وقالت الجارودية: إنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على علي _ عليه السلام _ بالاِشارة والوصف دون التسمية والتعيين، وإنّه أشار إليه ووصفه بالصفات التي لم توجد إلاّ فيه، وإنّ الاَُمّة ضلت وكفرت بصرفها الاَمر إلى غيره، وإنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على الحسن والحسين _ عليهما السلام _ بمثل نصّه على علي، ثم إنّ الاِمام بعد هوَلاء الثلاثة ليس بمنصوص عليه، ولكن الاِمامة شورى بين الاَفاضل من ولد الحسن والحسين، فمن شهر منهم سيفه ودعا إلى سبيل ربّه وباين الظالمين، وكان صحيح النسب من هذين البطنين، وكان عالماً زاهداً شجاعاً، فهو الاِمام.

وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق:

أ _ فرقة زعمت أنّ محمد بن عبد اللّه النفس الزكية بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب لم يمت ولا يموت، حتى يملاَ الاَرض عدلاً، وأنّه القائم المهدي المنتظر عندهم، وكان محمد بن عبد اللّه خرج على المنصور فقتل بالمدينة.

ب _ وفرقة زعمت أنّ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن

( 457 )

الحسين ابن علي بن أبي طالب، حي لم يمت ولا يموت، حتى يملاَ الاَرض عدلاً، وأنّه المهدي المنتظر عندهم، وكان محمد بن القاسم هذا خرج على المعتصم بالطالقان فأسره المعتصم، فلم يدر بعد ذلك كيف خبره.

وفرقة

زعمت أنّ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حي لم يمت، وأنّه القائم المنتظر عندهم، ولايموت حتى يملاَ الاَرض عدلاً، وكان يحيى بن عمر هذا خرج على المستعين، فقتل بالكوفة. هذه رواية أبي القاسم البلخي عن الزيدية، وليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية، وهم بصنعاء وصعدة وما يليهما (1)

دراسة حول فرق الزيدية :

قد تعرفت على كلمات الموَرّخين في فرق الزيدية، فهي بين ما يحصرهم في ثلاث، إلى آخر يعدهم ست فرق، إلى ثالث يحسبهم ثماني فرق، وهذا الاختلاف يكشف عن وجود غيوم تُلبّد سماء الواقع، ولكن الذي يهمنا هنا، مسألة أُخرى، أنّ هذه الفرق، كلها قد بادت وذهبت أدراج الرياح مع بقاء الزيدية في اليمن، والذي يميز الزيدية عن سائر الفرق الاِسلامية ليس شيء مما ورد في عقائد هذه الفرق وإنّما هو عبارة عن القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ووجوب الخروج _ الثورة _ على الظلمة، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب لا بالوراثة مع القول بتفضيل علي كرم اللّه وجهه وأولويته بالاِمامة وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين (2)

____________

(1) نشوان الحميري: الحور العين: 155.

(2) علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق: 11 المطبوع عام 1405 ه_ ط. عمان.

( 458 )

ولايوجد اليوم في اليمن بين الزيدية من المفاهيم الكلامية المنسوبة إلى الفرق كالجارودية، أو السليمانية، أو البترية أو الصالحية، إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الذي تعرفت عليه وهو القول بإمامة زيد والخروج على وجه الظلمة واستمرار الاِمامة في بطن الحسنين، وأن_ّها بالطلب والفضل وأمّا أسماء تلك الفرق والعقائد المنسوب

إليهم فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والموَلّفات في الفرق الاِسلامية كالملل والنحل ونحوها.

فإذا كانت الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين فالبحث عن هذه الفرق من ناحية إيجابياتها وسلبياتها ليس مهماً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللازم دراسة المفهوم الجامع بين فرقهم، نعم هناك أمرين هامين يجب التنبيه عليهما:

1 _ في تسميتهم بالزيدية:

إنّ موَرخي العقائد يسمّونهم بالزيدية شأنهم شأن سائر الفرق التابعة لاِمامها من غير فرق بين كونه إماماً في الاَُصول والعقائد كالشيخ الاَشعري، أو إماماً في الفقه والاَحكام كالحنفي والشافعي، فتصور لنا هذه التسمية (الزيدية) أنّ هذه الفرق تلقّت أُصولها وفروعها من إمامهم زيد الشهيد، كما أخذت الاَشاعرة أُصولها من الشيخ الاَشعري، والحنفية من إمامها أبي حنيفة.

ولكن هذه التسمية بهذا المفاد خاطئة جداً، لاَنّه لم تكن لزيد عقيدة خاصة في المسائل الكلامية حتى يكون أتباعه عيالاً له في هذا المجال، كما أنّه لم يكن له كتاب فقهي استدلالي حتى يرجع المقلِّدون، إليه في الفروع.

نعم إنّ الثابت عن زيد الشهيد، أنّه كان يقول بالتوحيد والعدل شأن كل علوي يقتفي أثر الاِمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _. فليس القول بهذين الاَصلين دليلاً على أنّهم اقتفوا زيداً في هذين الاَصلين.

( 459 )

كما أنّ الثابت عنه في مجال الفقه يعود إلى المسند الذي تعرفت عليه، وهو لا يتجاوز عن نقل أحاديث فقهية، ولا يعلم منه مدى فقاهته واستطاعته في استخراج الفروع من الاَُصول، وعلى فرض التسليم بذلك فالفقهاء المعروفون بالزيدية ابتداء من الاِمام أحمد بن عيسى، إلى الاِمام القاسم الرسّ_ي، إلى الاِمام يحيى الهادي، إلى الناصر الاَطروش، حتى تصل النوبة إلى الاِمام المجتهد يحيى بن حمزة والاِمام المهدي بن المرتضى موَلّف «البحر

الزخار» إلى غيرهم من فقهاء كبار، فهوَلاء لم يعلم من أحوالهم أنّهم اعتمدوا في فتاواهم على فتوى إمام مذهبهم زيد، بل المعلوم خلافه، فإنّ الفقه المعروف بالفقه الزيدي إنّما وصل إلى ما وصل من السعة نتيجة جهد هوَلاء الفقهاء الكبار، فهذا الفقه عطاء بحوثهم الشخصية التي ليس لها صلة بزيد.

ويوَيد ذلك: إنّ المذهب الزيدي يحرم التقليد على كل متمكن من أخذ الحكم من كتاب اللّه وسنة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو غيرهما من الاَدلّة الشرعية، ولايبيحه في الفروع إلاّ لغير المتمكن من الاجتهاد، لقوله تعالى: "فَاسألُوا أهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون" (النحل _ 43) (1)

فإذا كان الاَمر كذلك فالعطاء الموجود في الفقه الزيدي وأُصوله يرجع إلى رجال المذهب الزيدي على اختلاف طبقاتهم، وهم بين إمام في المذهب كالاِمام القاسم بن إبراهيم المتوفى عام 242 ه_ وحفيده الاِمام الهادي يحيى بن الحسين المتوفى عام 298ه_ والاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي المتوفى عام 304ه_.

____________

(1) علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق: 11.

( 460 )

إلى مخرّج للمذهب وهم الذين استخرجوا من كلام الاَئمة أو احتجاجاتهم أحكاماً لاتتعارض مع الكتاب والسنة ومن رجال هذه الطبقة:

1 _ العلاّمة محمد بن منصور المردي المتوفى حوالي عام 290ه_.

2_ العلاّمة أبو العباس أحمد بن إبراهيم المتوفى سنة 353ه_.

3_ العلاّمة أحمد بن الحسين بن هارون الحسني المتوفى عام 416ه_.

4_ العلام_ة أبو طال_ب يحيى ب_ن الحسين بن هرون الحسني المتوفى سنة 424ه_.

إلى محصّل، وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الاَئمة وما استخرج منها، ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم، منهم:

العلاّمة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة.

وسيأتي تفصيل طبقات رجال المذهب

الزيدي في خاتمة المطاف ضمن الاَمر الثامن (1)

فإذا كان المذهب الزيدي قد نضج في هذه الاَعصار وتبلور في ظل جهود هوَلاء الفطاحل الاَعلام، فهو عطاء علمائهم ومفكّريهم في الكتاب والسنّة وسائر القواعد الاجتهادية، ولا يمت إلى إمامهم زيد بصلة.

فعلى ذلك، فإنّ هوَلاء في فقههم قبل كونهم زيديين، رسّيون، انتساباً إلى الاِمام الاَوّل القاسم بن إبراهيم، وهادويون انتساباً إلى الاِمام الثاني يحيى بن الحسين، أو ناصريّون انتساباً إلى الاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي.

وممن يدعم تلك الفكرة عالم اليمن الحالي السيد مجد الدين الموَيدي في تقديمه على كتاب «الزيدية نظرية وتطبيق» يقول: فأمّا المذهب الفقهي المعروف المتداول بين أهل الفقه في اليمن فليس المراد به المذهب الزيدي كما يتوهم ولا مذهب جملة أهل البيت، بل المراد به في الاَصل كما نص عليه الاَعلام المحقّقون قواعد وأُصول أخذوها من أقوال الاِمام القاسم بن إبراهيم وأولاده وحفيده الهادي

____________

(1) لاحظ ص 524.

( 461 )

إلى الحقّ وولديه المرتضى والناصر عليهم السلام نصاً أو تخريجاً، ثم توسعوا في ذلك فصاروا يذهِّبون على ما ترجح عندهم على مقتضى تلك القواعد وإن خالف نصّ الاِمام الهادي إلى الحقّ _ عليه السلام _ ، الذي هو إمام المذهب على التحقيق فضلاً عن غيره، ولهذا رجّح كثير من الاَئمة الاَعلام للمتابع أن يأخذ بالنص ويترك التخريج المخالف له ومنهم الاِمام المجدد للدين المنصور باللّه القاسم بن محمد فإنّه ضعف التخاريج غاية التضعيف وبسط القول في ذلك بما فيه الكفاية في كتابه الاِرشاد وكذا غيره من الاَئمة _ عليهم السلام _ (1)

والذي يثبت أنّ المذهب الزيدي حصيلة التفكير الحرّ في الكتاب والسنّة ولايمت إلى الاِمام زيد، هو وجود الاجتهاد وعدم غلق بابه خلال العصور المتقدمة، من

دون أن يتخذوا آراء الاِمام الواحد حقاً غير قابل للخدش كما عليه الاَحناف والشوافع والحنابلة والمالكية.

يقول الفضيل شرف الدين: العلم المميز للمذهب الزيدي على امتداد التاريخ الاِسلامي هو التجديد المستمر دون التقيد باجتهاد فرد واحد من أئمته أو علمائه أو التمحور الفكري حول ما توصلوا إليه من اجتهادات. فإنّ المطّلع المتتبع لتاريخ الفكر الزيدي يعلم بأنّه بقي منفتحاً على جميع المذاهب الاِسلامية المعتبرة يأخذ منها ماله أساس ومستند من كتاب اللّه والصحيح من سنّة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ دونما تعصب، أو جمود، أو انغلاق، بل أنّ من قواعد المذهب عدم جواز التقليد عند المتمكنين من العلماء القادرين على استنباط الاَحكام من الكتاب والسنّة. وبذلك بقي المذهب وعلماوَه روّاد تجديد وإصلاح يعملون لاِيجاد حلول لمختلف قضايا الحياة المتجدّدة في كل العصور إيماناً منهم بأنّ الدين الاِسلامي الحنيف الذي أُنزل على خاتم الاَنبياء _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ليبلّغه إلى البشرية جمعاء هذا الدين قد

____________

(1) تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق| و _ ز .

( 462 )

جاء واسعاً رحباً ليستوعب مختلف قضايا البشرية في مختلف المجتمعات والعصور ويضع لها الحلول الاِيجابية الناجعة، وإلاّ لما كان القرآن آخر الكتب السماوية المنزلة، ولما كان محمد خاتم الرسل والاَنبياء وآخرهم حتى قيام الساعة (1)

فإذا كان هذا هو الطابع الاَوّل للمذهب الزيدي فمن المستحيل نسبه إلى الاِمام الثائر زيد الشهيد الذي لم ترث منه الزيدية إلاّ بضع أحاديث من غير تحليل.

والكلام الحقّ إنّ الزيدي عبارة عن من يقول بالعدل والتوحيد وإمامة زيد ابن علي بعد الاَئمة، الثلاثة علي والسبطين _ عليهم السلام _ ووجوب الخروج على الظلمة، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب،

هذا هو العنصر المقوم في كون الرجل زيدياً، وأما سوى ذلك مما يوجد في كتبهم فهو عطاء علمائهم المفكرين طيلة القرون.

وهناك من أعلام الزيدية من يصرّ على خلاف تلك النظرية، فيرى أنّ إطلاق اسم الزيدية على أتباع الاِمام زيد يرجع إليه مستدلاً بقول الاِمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية: «أما واللّه لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عموداً إذا اعوجّ ولم ننحو إلاّ أثره ولم نقتبس إلاّ من نوره» (2)

يلاحظ عليه: أنّ النص لا يدلّ على وجود التسمية، كما لا يدل على أنّ هناك منهجاً كلامياً أو فقهياً لزيد الثائر، وإنّما يدلّ على اتباع أثره في أصل واحد وهو الثورة على الظالمين لاِحياء ما اندثر من السنن، ونحن بدورنا نجلّ زيد الشهيد عن أن يفرق وحدة المسلمين وبالاَخص شيعة جده أمير الموَمنين ويقسمهم إلى زيدي وغير زيدي فيوسع الصدع بدل رأبه، قال سبحانه: "قُلْ هُوَ القَادِرُ على أن

____________

(1) الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق|أ.

(2) تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق|د.

( 463 )

يَبعَثَ عَلَيكُمْ عَذاباً مِن فَوْقِكُم أوْ مِنَ تَحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُون" (الاَنعام _ 65) .

وفي نهاية المطاف إنّي أُرجح قول من يقول إنّ هذه النسبة لم يطلقها الاِمام زيد على أتباعه ولا أطلقها في البداية أتباعه على أنفسهم، ولما جاء الثائرون بعد زيد، ناهجين منهجه، صارت اللفظة إشارة لمن يسلك مسلكه في مجال الخروج على الظلمة وإنقاذ المسلمين من كابوس الاَُمويين أو العباسيين، من دون أن يكون فيه دلالة على مذهب كلامي أو فقهي. وعلى ذلك فالزيدية شعار حرية وعزة وكرامة، وجهاد وتضحية في

سبيل اللّه وليس شعاراً لمذهب خاص سوى ما عرفت من الاِيمان بإمامة الاِمام علي وسبطيه _ عليهم السلام _.

* * *

الفصل التاسع في عقائد الزيدية

الفصل التاسع في عقائد الزيدية

قد ساقنا الغور في حياة زيد الثائر الشهيد، إلى الحكم بأنّه لم يكن صاحب منهج كلامي، ولا فقهيّ فلو كان يقول بالعدل والتوحيد، ويكافح الجبر والتشبيه، فلاَجل أنّه ورثهما عن أبيه وجده عن علي _ عليهم السلام _ وإن كان يفتي في مورد أو موارد فقد كان يصدر عن الحديث الذي يرويه عن الرسول الاَعظم عن طريق آبائه الطاهرين وهذا المقدار من الموَهلات لا يصيّر الاِنسان، من أصحاب المناهج في علمي الكلام والفقه.

نعم جاء بعد زيد، مفكرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيديّ، متفتحين في الاَُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفية الاستنباط مع الحنفية، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الاَُصول والفروع وما أرسوه هوَلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

أين زيد ربيب البيت العلويّ، من القول بالاَُصول الخمسة التي تبناها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، ومن جاء بعدهما من أعلام المعتزلة، حتى صارت مندسّة في مذهب الزيدية، بلا زيادة ونقيصة إلى يومنا هذا؟

أين زيد الذي انتهل من المعين العذب العلويّ الذي رفض العمل بالقياس والاستحسان، من القول بأنّهما من مصادر التشريع الاِسلامي كما عليه المذهب

( 466 )

الفقهي للزيدية؟

ومن ألمّ بحياة أئمة أهل البيت ابتداءًَ بالاِمام علي _ عليه السلام _ وانتهاءً إلى حياة الاَئمة كالصادقين والكاظم والرضا، يقف على أنهم _ عليهم السلام _ في منتأى من القول بهذا وذاك، كيف وكان النزاع بينهم وبين مشايخ المعتزلة قائماً على

قدم وساق وقد حفظت كتب الحديث والسير، لفيفاً منها، وكان الرفض للقياس والاستحسان والظنون التي ما أُنزل بها من سلطان، شعار مذهبهم، به كانوا يُعرفون وبه كانوا يمُيزون لكن _ للاَسف _ نجد دخول هذه العناصر في مذهب الزيدية الذي ينتمي إلى أئمة أهل البيت، عليّ _ عليه السلام _ ومن بعده.

اتفقت الاَُمّة الاِسلامية ولا سيما الاِمامية والزيدية على أنّ الرسول أوصى بالتمسك بالثقلين وأنّه لا يعدل بهما إلى غيرهما، وشبّه الرسول الاَعظم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أهل بيته بسفينة وقال: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق». وبالتالي أمر بركوبها في تمام الطريق، ولايشك أحد في أنّ الباقرين والكاظمين من أئمة أهل البيت، ومع ذلك فقد فارقت الزيدية هوَلاء في حياتهم العلمية والعملية وبالتالي اقتدوا ببعض الاَئمة دون البعض الآخر، وركبوا السفينة في بعض الطريق لا في جميعها وصار هذا وذاك سبباً لحدوث شقة كبيرة بين المذهب الزيدي، وماكان عليه متأخرو أئمة أهل البيت الذي وعاه عنهم شيعتهم من عصر الاِمام علي إلى آخر الاَئمة الاثني عشر _ عليهم السلام _، واشتهر باسم المذهب الاِمامي.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة ساقتهم إلى ذلك، الظروف السائدة عليهم وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، و إن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثم التقت الزيدية في العدل والتوحيد، مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ

( 467 )

شعارهم في جميع الظروف والاَدوار، رفض الجبر، والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الاَصلين عيال على الاِمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _.

كما أنّهم التقوا في الاَُصول الثلاثة:

1 _

الوعد والوعيد.

2 _ المنزلة بين المنزلتين.

3 _ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الاَُصول في مذهبهم، وحكموا بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة لاَنّها للعدول دون الفساق، فهي إذاً بمعنى ترفيع الدرجة لا الحط من الذنوب كل ذلك أخذاً بالاَصل الاَوّل، كما جعلوا الفاسق، في منزلة بين المنزلتين فهو عندهم لا موَمن ولا كافر بل هو فاسق، أخذاً بالاَصل الثاني، ولكنّهم تخبّطوا في الاَصل الثالث وزعموا أنّه أصل مختص بالمعتزلة والزيدية، مع أنّ الاِمامية يشاركونهم في هذه الاَُصول عند اجتماع الشرائط، أي وجود دولة إسلامية يرأسها الاِمام المعصوم أو النائب عنه بإسم الفقيه العادل.

إنّ الزيدية التقت في القول بحجّية القياس والاستحسان والاِجماع بما هو هو، دون كونه كاشفاً عن قول المعصوم، وحجية قول الصحابي وفعله، مع أهل السنّة ولذلك صاروا أكثر فرق الشيعة اعتدالاً _ عند أهل السنّة _ وميلاً إلى التفتح معهم.

ولكنّ العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة التي تميز هذا المذهب عما سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى التفتح مع الاِمامية والاِسماعيلية هو القول بإمامة علي والحسنين بالنص الجلي أو الخفي عن النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _

( 468 )

والقول بأنّ تقدم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

هذا هو واقع المذاهب، وعموده الفقري، فقد أخذوا من كل مذهب ضغثاً.

نعم كانت عناية مشايخ الزيدية في العصور الاَوّلية، بالنقل عن الصادقين والاَخذ بقولهما أكثر من الذين جاءوا بعدهم. وهذا أحمد بن عيسى بن زيد، موَلف الاَمالي فقد أكثر فيها النقل عنهما وعن غيرهما من أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ ، ولكن أين هو من البحر الزخار لابن المرتضى (764 _ 840ه_) أو سبل السلام للاَمير

محمد بن إسماعيل الاَمير اليمني الصنعاني (1059 _ 1182ه_) أو الروض النضير للسباعي، أو نيل الاَوطار في شرح منتقى الاَخبار للشوكاني (1173 _ 1250ه_) ، فإنهم لايصدرون في عام_ة المسائل إلاّ ما شذ، إلاّ عما يصدر عنه فقهاء أهل السنة، فالمصادر الحديثية هي الصحاح والمسانيد، والحجج الفقهية بعد الكتاب والسنّة، هي القياس والاستحسان، وكأنّه لم يكن هنا باقر ولا صادق، ولاكاظم ولا رضا _ عليهم السلام _ ونسوا وتناسوا مقاماتهم وعلومهم.

نحن نأتي في هذه العجالة بأُصول عقائدهم مستندين إلى ما ألفه الاِمام المرتضى في مقدمة البحر الزخار، مقتصرين على الروَوس دون الشعب المتفرقة منها. وفي هذه القائمة لعقائدهم يتجلى مدى انتمائهم، للمعتزلة أو للسنّة والشيعة، والنص لابن المرتضى بتلخيص منّا.

1 _ صفاته عين ذاته، ويستحق بها صفاته لذاته لا لمعان (زائدة) خلافاً للاَشعرية حيث يقول: «لمعان قديمة بذاته ليست إياه ولا بعضه ولا غيره».

وقد أشار بذلك إلى المعاني الزائدة التي أثبتها الاَشعري وهي ثمانية مجموعة في قول بعضهم:

حياة، وعلم، وقدرة، وإرادة * كلام وإبصار وسمع مع البقاء

2 _ لا يُرى سبحانه، ولا يجوز عليه الروَية وإلاّ لرأيناه الآن لارتفاع الموانع

( 469 )

الثمانية (1). ولا اختص بجهة يتصل بها الشعاع.

3 _ ليس بذي ماهية: وعليه المعتزلة والزيدية وأكثر الخوارج والمرجئة.

4 _ حسن الاَشياء وقبحها عقليان، وأكثر الزيدي_ة على أنّه يقبح الشيء لوقوعه على وجه من كونه ظلماً أو كذباً أو مفسدة إذ متى علمناه كذلك، علمنا قبحه.

5 _ مريد بإرادة حادثة: هو سبحانه مريد بإرادة حادثة. خلافاً للكلابية والاَشعرية حيث قالوا بإرادة قديمة، وقالت النجارية بإرادة نفس ذاته، قلنا: إذاً للزم إيجاده جميع المرادات، إذ لا اختصاص لذاته ببعضها.

6 _ متكلم بكلام: وكلام اللّه تعالى فعله

الحروف والاَصوات.

7 _ فعل العبد غير مخلوق فيه: وخالفت الجهمية وجعلت نسبته إلى العبد مجازاً كطال وقصر.

وقالت النجارية والكلابية وضرار، وحفص: خلق للّه وكسب للعبد، لنا وقوعه بحسب دواعيه وانتفاوَه بحسب كراهيته مستمراً بذلك يعلم تأثير الموَثر (العبد) سلمنا لزوم سقوط حسن المدح والذم، وسبّه لنفسه، تعالى اللّه عن ذلك.

8 _ تكليف ما لا يطاق قبيح: وكانت المجبرة لا تلتزمه حتى صرح الاَشعري بجوازه، لنا تكليف الضرير بنقط المصحف ومن لا جناح له بالطيران، معلوم قبحه ضرورة وقوله تعالى: "إلاّ وسعها" .

9 _ المعاصي ليس بقضاء اللّه.

10 _ لا يطلق على اللّه أنّه يضل الخلق.

11 _ الوعد والوعيد: وهو أصل في كلام المعتزلة والزيدية وقد عقد ابن المرتضى باباً وفرع عليه فروعاً والغاية المتوخاة منها، الحكم بخلود المسلم الفاسق في النار، وإن شئت قلت: خلود مرتكب الكبيرة الذي مات بلا توبة فيها

____________

(1) أشار في التعليقة إلى الموانع الثمانية فلاحظ.

( 470 )

ولم أعثر على نصّ في كلام ابن المرتضى، ولكن صرّح به غير واحد من علمائهم ونأتي بنص العالم المعاصر الزيدي في كتابه «الزيدية نظرية وتطبيق» قال:

أمّا الزيدية وسائر العدلية فقالوا: من مات موَمناً فهو من أصحاب الجنّة خالداً فيها أبداً، ومن مات كافراً أو عاصياً لم يتب فهو من أصحاب السعير خالداً فيها أبداً لقوله تعالى: "ومَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها أبَداً" (الجن _ 23) وقوله: "وإنّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَومَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ" (الانفطار _ 16) وقوله تعالى: "بَلى مَنْ كسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدونَ" (البقرة _ 81) (1)

13 _ مرتكب الكبيرة لا موَمن ولا كافر: بل فاسق وفي منزلة

بين المنزلتين وهذا أحد أُصول المعتزلة لكن الزيدية أدخلوه في الاَصل السابق الوعد والوعيد، قال ابن المرتضى:

والفاسق (مرتكب الكبيرة) ليس بكافر، خلافاً للخوارج، ولا موَمن خلافاً للمرجئة إذ هو مدح والفسق ذم فلا يجتمعان (2)

14 _ الاِمامة تجب شرعاً لا عقلاً وعليه إجماع الصحابة.

15 _ النص على إمامة عليّ والحسنين: الاَشعرية: لم ينص _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على إمام بعده، وقالت الزيدية: بل نصّ على عليّ والحسنين (3)وقالت البكرية على أبي بكر.

16 _ عقد الاِمامة: وتعقد الاِمامة بالدعوة مع الكمال ولا تنعقد بالغلبة

____________

(1) علي بن عبد الكريم: الزيدية نظرية وتطبيق: 76 وقد أوضحنا عدم دلالة الآيات على مايرونه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن هذا الاَصل عند المعتزلة فلاحظ.

(2) عزب عن المرتضى إنّما لا يجوز الجمع بين المدح والذم إذا كان المبدأ واحداً أي إذا ذمّ ومدح لاَجل ملاك واحد. دونما إذا كان المبدأ مختلفاً والحيثيات، متعددة فهو من حيث إيمانه في القلب ممدوح ومن حيث اقترافه المعصية مذموم.

(3) وقال محقق الكتاب: ومنها قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما » رواه الاَمير الحسين في كتاب الشفا ورواه الاَمير الحسن بن بدر الدين في العقد الثمين.

( 471 )

خلاف الحشوية.

وأوضحه المحقّق في هامش الكتاب وقال مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الاَكثرية مع وجود المنازع، وكل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له.

17 _ معدن الاِمامة البطنان: الزيدية: على أنّ معدن الاِمامة البطنان، للاِجماع على صحتهما ولا دليل على غيرهما، وقالت الاِمامية: بل أولاد الحسين وقالت الاَشعرية بل

قريش.

18 _ الاِمامان في زمان واحد: أكثر الزيدية لا يصلح إمامان في زمان فقالت الكرامية والزيدية: يصح، لنا إجماع الصحابة بعد قول الاَنصار: منّا أمير ومنكم أمير وإذا عقد لاِثنين في وقت واحد بطلا ويستأنف كنكاح وليّين.

19 _ ومن اعتبر العقد: كفى بيعه واحد برضا أربعة من أهل الحل والعقد وقال أبو القاسم البلخي: يكفي واحد وإن لم يرض غيره، لنا لم يعقد عمر و أبو عبيدة لاَبي بكر إلاّ برضا سالم وبشير وأُسيد وبايع عبد الرحمن عثمان، برضا الباقين (1).

20 _ الاِمام بعد الرسول عليّ، ثم الحسن ثم الحسين _ عليهم السلام _ للاَخبار المشهورة.

21 _ القضاء في فدك صحيح خلافاً للاِمامية وبعض الزيدية. لنا: لو كان باطلاً لنقضه علي ولو كان ظلماً لاَنكره بنو هاشم والمسلمون. (2)

22 _ خطأ المتقدم_ين على عل_يّ في الخلافة قطعي، لمخالفتهم، ولا يقطع

____________

(1) أُنظر كيف يستدل بفعل من ترك وصية الرسول حسب اعترافه على مسألة أُصولية.

(2) ولعله لم يبلغه قول علي _ عليه السلام _ في فدك: «نعم قد كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عليها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم اللّه» كما تبلغه خطبة الصديقة الطاهرة حول فدك التي كان بنو هاشم يحفظونها ويعلّمونها أولادهم.

( 472 )

لفسقهم إذ لم يفعلوه تمرداً بل لشبهة فلا تمنع الترضية عليهم لتقدم القطع بإيمانهم فلا يبطل بالشك فيه.

23 _ خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعي لبغيهم على إمام الحقّ.

24 _ توبة الناكثين: الاَكثر أنّه قد صحت توبتهم، وقالت الاِمامية وبعض الزيدية: لا.

25 _ الاَكثر أنّ معاوية فاسق لبغيه، لم تثبت توبته فيجب التبرّي منه.

26 _ يجب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بالقول والسيف مع

اجتماع الشروط قالت الحشوية: لا وقالت الاِمامية: بشرط وجود الاِمام لنا: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّة" (آل عمران _ 104) "فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي" (الحجرات _ 10) .

هذه روَوس عقائد الزيدية استخرجناها من كتاب القلائد في تصحيح الاعتقاد، المطبوع في مقدمة البحر الزخار ص 52 _ 96 والموَلف ممن يشار إليه بين علماء الزيدية، وهو موَلف البحر الزخار، ومن أحد أئمة الفقه والاجتهاد في القرن التاسع.

* * *

النص بالجلي أو الخفي على إمامة علي _ عليه السلام _ :

إنّ كتب تاريخ العقائد طفحت بهذا العنوان، فمثلاً نقلوا بأنّ الجارودية ذهبت إلى أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على إمامة عليّ بالوصف دون النص (1) ومعنى هذا أنّ النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قد بيّن الملامح العامة للاِمام، وكان علي _ عليه السلام _ هو المصداق الوحيد لهذه الملامح.

____________

(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 67، البغدادي: الفرق بين الفرق: 30.

( 473 )

وقال النوبختي عن الجارودية: إنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّ على عليّ _ عليه السلام _ بالوصف دون التسمية، والناس مقصرون إذا لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف (1)

وربما يعبرون بأنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ نصّّ على ولاية الاِمام نصاً خفياً غير جلي.

هذه الكلمات ونظائرها توجد، في التعبير عن المذهب الجارودي في مقام الاِمامة.

وأمّا السليمانية أو الجريرية فأظهروا المرونة أكثر من الجارودية، فقد قالوا: إنّ الاِمامة شورى وأنّها تنعقد بعقد رجلين من خيار الاَُمّة، وأجازوا إجازة المفضول وأثبتوا إمامة أبي بكر وعمر، وزعموا أنّ الاَُمّة تركت الاَصل في البيعة لها، لاَنّ علياً كان أولى بالاِمامة منهما، إلاّ أنّ الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفراً

ولافسقاً(2).

والذي أظن _ وظنّ الاَلمعي ص_واب _ أنّ النظرتين قد صدرتا تقية وصيانة لوجودهم بين أهل السنّة. ومع أنّ الزيدية يرفضون التقية كما سيوافيك، ولكنّهم عملوا بها حيث لا يشاوَون، فإنّهم قد عاشروا أهل السنّة في بيئة واحدة ومجتمع واحد تربطهم أحكام واحدة، حيث رأوا أنّ التعبير عن واقع المذهب أي وجود النصّ على الاسم وإن شئت قلت: وجود النصّ الصريح يستلزم تفسيق الصحابة، وهذا لا يتلائم وطبيعة حياتهم، فلذلك جعلوا من هذا التعبير واجهة لعقيدتهم الواقعية فجمعوا _ حسب زعمهم _ بين العقيدة والهدف في الحياة. كيف وأئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ عن بكرة أبيهم يرون النصّ على خلافة علي _ عليه السلام _ وهذا المميز لشيعة أئمة أهل البيت عن غيرهم. والذي يميز الشيعة عن غيرهم من الفرق هو هذا العنصر فقط، وما سوى ذلك عقائد كلامية مستخرجة

____________

(1) النوبختي: فرق الشيعة: 74.

(2) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 68، البغدادي: الفرق بين الفرق: 32.

( 474 )

من الكتاب والسنّة.

فإن كان ما ذكرناه مقبولاً لدى القارىَ وإلاّ فإنّ هذا النوع من التفكير تطرّق إلى المذهب الزيدي في العصور السابقة عن طريق معاشرتهم مع معتزلة بغداد، الذين قالوا بأفضلية الاِمام علي _ عليه السلام _ وجواز تقديم المفضول على الفاضل.وقد مرّ تحقيق القول في ترجمة حمزة بن عبد اللّه فلاحظ.

( 475 )

العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين

تأليف الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد

(582 _ 662)

بعد أن أخرجت عقائد الزيدية من كتاب البحر الزخار، وقفت على رسالة مختصرة باسم العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين لموَلّفه العلامة الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد المطبوع باليمن، نشرته دار التراث اليمني صنعاء، و مكتبة التراث الاِسلامي بصعده وهي من أوائل

الكتب الدراسية في حقل أُصول الدين والموَلّف من أجلّ علماء الزيدية، وأكثرهم تأليفاً وتعد كتبه من أهم الاَُصول التي يعتمد عليها علماء الزيدية ويدرسونها كمناهج (1)وإليك نصها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه المختصّ بصفات الاِلهية والقدم، المتعالي عن الحدوث والعدم، الذي لم يسبقه وقت ولا زمان، ولاتحويه جهة ولا مكان، جلّ سبحانه. دلّ على ذاته بما ابتدعه من غرائب مصنوعاته، وعجائب مخلوقاته، حتى نطق صامتها بالاِقرار بربوبيته بغير مَذْوَد، وبرز مجادلاً لكل من عطّل وألحد.

وصلواته وسلامه على سيدنا محمد الذي هو بالمعجزات موَيد، وفي المرسلين مرَجّب ومسوّد، وعلى آله الغرّ الهداة، والولاة على جميع الولاة، وعلى

____________

(1) إقرأ ترجمته في: تاريخ اليمن الفكري: 3|289 و 308، والاعلام: 2|255، التحف شرح الرلف: 178.

( 476 )

صحابته المكرّمين الموَيدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

التوحيد

[الدلالة على أن اللّه تعالى خالق العالم ]

أيّها الطالب للرشاد، والهارب بنفسه عن هُوّة الاِلحاد.

فإذا قيل لك: من ربك؟

فقل: ربي اللّه.

فإن قيل لك: بم عرفت ذلك؟

فقل: لاَنّه خلقني، ومن خلق شيئاً فهو ربّه.

فإن قيل لك: بمَ عرفت أنّه خلقك؟

قل: لاَنّي لم أكن شيئاً ثم صرتُ شيئاً، ولم أكن قادراً ثم صرت قادراً، و [كنت] صغيراً ثم صرت كبيراً، ولم أكن عاقلاً ثم صرت عاقلاً، وشاهدت الاَشياء تحدث بعد أن لم تكن؛ فرأيت الولد يخرج ولا يعلم شيئاً، ثم يصير رضيعاً، ثم طفلاً، ثم غُلاماً، ثم بالغاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً. ثم رأيت نحو ذلك من هبوب الرياح بعد أن لم تكن، وسكونها بعد هبوبها، وطلوع الكواكب بعد أُفولها، وأفولها بعد طلوعها، وظهور السحاب وزواله، وكذلك المطر والنبات والثمار المختلفات. وكل ذلك دلائل الحدوث.

وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من محدِث، لاَنّها قد اشتركت

في الجسميّة، ثم افترقت هيئاتها وصورها؛ فننظر سماءً، وأرضاً، وثماراً، وأشجاراً، وآباراً، وبحوراً، وأنهاراً، وإناثاً، وذكوراً، وأحياءً، وأمواتاً، وجمعاً، وأشتاتاً.

( 477 )

وكذلك ننظر إلى الاَعراض الضروريات المعلومات، فإنّها اشتركت في كونها أعراضاً، ثم افترقت وانقسمت بين شهوةٍ ونفرةٍ، وحياةٍ وقدرةٍ، ويبوسةٍ ورطوبة، وطُعومٍ مكروهة ومحبوبة، وروائح شتى، وحرّ وبرد، ووجاء وفناء، وألوان متضادّة على المحل، وموت يقطع الرزق والاَمل.

فنعرف أنّه لابد من مخالف خالف بينها، وأحدث ماشاهدنا حدوثه منها، وأنّه غيرٌ لها، لاَنّها لاتُحدِث نفسها، إذ الشيء لايُحدثُ نفسه، لاَنّه يُوَدّي إلى أن يكون قَبلَ نفسه، وغيراً لها، وكذلك لاتصوّر أنفسها، ولاتخالف بين هيئتها، ولايقع ذلك بشيء مما يقوله الجاهلون، من طبع أو مادّة، أو فلك، أو نجم، أو علّة، أو عقل، أو روح، أو نفس، أو غير ذلك مما يقولونه؛ لاَنّ ذلك إن كان من قبيل الموجبات لم تخلُ: أن تكون موجودة، أو معدومة. والموجودة لا تخل: أن تكون قديمة، أو محدثة. ولايجوز ثبوت ذلك لعلّة قديمة ولامعدومة، لاَنّه لو كان كما زعموا لكان يلزم وجود العالم بما فيه في الاَزل، واستغناوَه عن تلك العلل.

ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك لعلّة محدثة، لاَنّها لاتخلو: إمّا أن تكون مماثلة لما تقدم [منها]، أو مخالفة [له]، إن كانت مماثلة وجب أن يكون معلولها متماثلاً، وفي علمنا باختلاف ذلك العالم دلالة على بطلان القول بأنّه عن علة مماثلة أو علل متماثلات.

ولا يجوز أن يكون لعلة مخالفة، ولا علل مخالفة، لاَنّها حينئذ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف؛ الذي لاَجله احتاج إليها، فيدور الكلام إلى ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل.

فيجب الاقتصار على المحقّق المعلوم، والقضاء بأنّ الذي أحدثها وصوّرها، وخالف بينها هو الفاعل المختار، وهو الحيّ

القيوم.

( 478 )

فصل [في أنّ اللّه تعالى قادر]

فإن قيل: ربّك قادر، أم غير قادر؟

فقل: بل هو قادر؛ لاَنّه أوجد هذه الاَفعال التي هي العالم، والفعل لا يصح إلاّ من قادر.

أوجده تعالى لا بمماسّة، ولا بآلة: "إنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون" [يس: 82].

فصل [في أنّ اللّه تعالى عالم]

فإنّ قيل: أربك عالم، أم غير عالم؟

فقل: بل هو عالم، وبرهان ذلك ما نشاهده فيما خلقه من بدائع الحكمة، وغرائب الصنعة؛ فإنّ فيها من الاِحكام والترتيب، ما يعجز عن وصفه اللبيب، [وكل ذلك لا يصح إلاّ من عالم، كما أنّ الكتابة المحكمة لا تصح إلاّ من عالم بها، وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم، فيجب أن يعلم جميع المعلومات، على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.

وهو سبحانه يعلم ما أجنّه الليل، وأضاء عليه النهار، ويعلم عدد قطر الاَمطار، ومثاقيل البحار، ويعلم السرّ _ وهو ما بين اثنين _ وما هو أخفى _ وهو ما لم يخرج من بين شفتين _ "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ" [المجادلة: 7] بعلمه لايلاصقهم، وهو شاخص عنهم ولايفارقهم].

( 479 )

فصل [في أنّ اللّه تعالى حي]

فإن قيل: أربك حيّ، أم لا ؟

فقل: بل حيٌّ، لاَنّه تعالى لو لم يكن حيّاً لم يكن قادراً، ولا عالماً، لاَن الميّت والجماد لا يفعلان فعلاً، ولايحدثان صنعاً.

فصل [في أنّ اللّه تعالى قديم]

فإن قيل: أربّك قديم، أم غير قديم؟

فقل: هو موجود لا أوّل لِوجوده؛ لاَنّه لو كان لوجوده أوّلٌ لكان محدَثاً، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدِث، إلى ما لا يتناهى، وذلك محالٌ، فهو قديم، قادر،

حيٌّ، عليم، لم يزل ولا يزال، ولايخرج عن ذلك في حال من الاَحوال، لاَنّه لو لم يكن كذلك لم يكن له بدٌّ من فاعل فعله، وجاعلٍ _ على صفات الكمال _ جعله، أو يكون لعلّة، وقد ثبت أنّه تعالى قديم؛ فلايصح القول بشيء من ذلك.

فصل [في أنّ اللّه تعالى سميع بصير]

فإن قيل: أربك سميع بصير؟

فقل: أجل لاَنّه حيٌّ كما تقدم، ولايعتريه شيء من الآفات، لاَنّ الآفات لاتجوز إلاّ على الاَجسام، وهو تعالى ليس بجسم، لاَنّ الاَجسام محدَثة كما تقدم، وهو تعالى قديم أيضاً.

( 480 )

فصل [في أنّ اللّه تعالى لايشبه الاَشياء]

فإن قيل: أربّك مشبه الاَشياء؟

فقل: ربّي لايشبه الاَشياء؛ لاَنّ الاَشياء سواه: جوهرٌ، وعرَضٌ، وجسم. ولايجوز أن يكون جوهراً، ولا عرضاً؛ لاَنّهما غير حيّين ولاقادرين، وهو تعالى حيّ قادر، ولاَنّهما محدَثان وهو قديم ولا يجوز أن يكون جسماً، لاَنّا قد بيّنا أنّه خالق الاَجسام، والشيء لايخلق مثله، ولاَنّ الجسم موَلّف مصنوع، يفترق ويجتمع، ويسكن ويتحرّك، ويكون في الجهات، وتسبقه الاَوقات، وكل ذلك شواهد الحدوث، وقد ثبت أنّه تعالى قديم، فلا يجوز أن يكون محدَثاً بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وإذا لم يكن جوهراً ولاجسماً ولاعرضاً لم يوصف بالكيف، ولا الاَين، ولا الحيث، ولا البين، ولا الوجه، ولا الجنب، ولا اليدين، لم يقطعه بعد، ولم يسبقه قبل، ولم يجزّئه بعضٌ، ولا جمعه كلٌّ، ليس في الاَرض ولا في السماء، ولا حلّ في متحيّز أصلاً، ولا حدّه فوقٌ ولاتحت، ولايمين، ولا شمال، ولا خلفٌ، ولا أمام، ولا يجوز عليه المجيء ولا الذهاب، ولا الهبوط ولا الصعود.

كان قبل خلق العالم ولا مكان، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان، وهو خالق المكان مستغن عن المكان، وخالق الزمان فلم يتقدمه

زمان، ليس بنور ولا ظلام، لاَنّ جميع ما ذكر فان في القدم.

ولاَجل ذلك نقول: إنّه لا يجوز أن يقال: هو طويل، ولا قصير، ولا عريض ولا عميق، ولا شويه ولامليح، ولا أن يقال: هو يسترّ أو يغتمّ، أو يظنّ أو يهتمّ، أو يعزمُ، أو يوَلّم، أو يلتذّ أو يشتهي، أو ينفرُ، لاَنّ ذلك كلّه شواهد الوجود بعد العدم، ومنافٍ لما هو عليه من صفات الكمال والعظمة والجلال.

( 481 )

فصل [في آيات الصفات]

فإن قيل: إنّه قد ذكر في القرآن: "يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة: 64) ، وإنّ له جنباً، وعيناً، وأعيناً، ونفساً، وأيدٍ، لقوله: "مِمّا عَمِلَتْهُ أَيْدِينا" [يس: 71] ووجهاً.

فقل: يداه نعمتاه، ويَدُهُ قُدْرَتُه، والاَيدي هي: القدرة، والقوة أيضاً.

وجنباً في قوله تعالى: "يَاحَسْرَتى عَلَى مَافَرَّطْتُ فِيْ جَنْبِ اللّه" [الزمر: 56]، أي: في طاعته.

ونفساً في قوله تعالى: "تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" [المائدة: 116]، المراد به: تعلم سرّي وغيبي، ولا أعلم سرّكَ وغيبك.

ووجهه: ذاته، ونفسه: ذاته، وقوله تعالى: "فَثَمَّ وَجْهُ اللّه" [البقرة: 115]، أي الجهة التي وجّهكم إليها.

وما ذكر من العين والاَعين فالمراد به الحفظ والكَلاءَة والعلم.

وقوله: "اسْتَوى عَلَى العَرْشِ" [الاَعراف: 54]، استواوَه: استيلاوَه بالقدرة والسلطان، ليس كمثله شيء، ولا يشبهه ميّت ولا حي.

فصل [في أنّ اللّه تعالى غني]

فإن قيل: أربك غني أم لا ؟

فقل: إنّه غنيٌّ لم يزل ولا يزال، ولاتجوز عليه الحاجة في حال من الاَحوال، لاَنّ الحاجة لاتجوز إلاّ على من جازت عليه المنفعة والمضرة، واللّذة والاَلم، وهذه الاَُمور لاتجوز إلاّ على من جازت عليه الشهوة والنفرة، وهما لا يجوزان إلاّ على الاَجسام؛ فيسترُّ الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به، وينمو ويزداد بتناوله،

( 482 )

ويغتم بإدراك ما ينفر عنه ويتضرر به، وينقص

بتناوله. وقد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم، بل هو خالق الجسم، فكيف يخلق مثل ذاته، أو تشاركه الاَجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شيء من ذلك.

فصل [في أنّ اللّه لا يُرى بالاَبصار]

فإن قيل: أربك يرى بالاَبصار، أم لا يرى؟

فقل: هذه مقالة باطلة عند أُولي الاَبصار، لاَنّه لو رئي في مكان لدل ذلك على حُدُوثه، لاَنّ ما حواه محْدُودٌ محدث.

فإن قيل: إنّه يرى في غير مكان. فهذا لا يعقل، بل فيه نفي الروَية، وقد قال تعالى: "لاتُدْرِكُهُ الاََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبْصَارَ" [الاَنعام: 103]، فنفى نفياً عاماً لجميع المكلفين، و [لجميع] أوقات الدنيا والآخرة.

وقال اللّه تعالى لموسى _ لما سأله الروَية _: "لَنْ تَرَانِي" [الاَعراف: 143]، ولم يسأل موسى _ عليه السلام _ الروَية لنفسه، بل عن سوَال قومه، كما حكاه اللّه في قصص قومه: "فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوْا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ" [النساء: 153]، ولو سألها لنفسه لصعق معهم. ولما لم يقع منه خطيئة إلا سوَاله لهم الروَية من دون إذن، قال لربه عزّ وجلّ: "أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا" [الاَعراف: 155].

فصل [في أنّ اللّه تعالى واحد]

فإن قيل: أربّك واحدٌ لا ثاني له، أم لا ؟

فقل: بلى هو واحد لا ثاني له في الجلال، متفرد هو بصفات الكمال؛ لاَنّه لو

( 483 )

كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختصّ بها، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادراً، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع، ولصح بينهما التعارض والتمانع، ولو قدّرنا هذا الجائز لاَدى إلى اجتماع الضدين من الاَفعال، أو عجز القديم عن المراد، وكل ذلك محال، تعالى عنه ذو الجلال؛ لقوله: "لَوْ كَان فِيهِمَا

آلِهَةٌ إلاّ اللّه لَفَسَدَتا" (الاَنبياء: 22) ، ولقوله عزّ قائلاً: "أَم جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ" [الرعد: 16] فتبين أنّ الخلق يشهد بإله واحد، وأنّه ليس هناك خلق ثانٍ يشهد بإله ثان، وهذا واضح؛ فإنّ هذا العالم دليلٌ على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل، وأوضح السبُل.

ويَدُل على ذلك قوله عزّ وجلّ: "فَاعْلَمْ أَنّهُ لا إِلهَ إلاّ اللّه" [محمد: 19]، وقوله: "شَهِدَ اللّه أَنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوْا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ" [آل عمران: 18]، وقوله: "وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌج "البقرة: 163]، وقوله: "قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ" [الصمد: 1].

(العدل)

[فصل في أنّ اللّه تعالى عدل حكيم]

فإن قيل: أربّك عدل حكيم؟

فقل: أجل، فإنّه لا يفعل القبح ولا يُخِلُّ بالواجب من جهة الحكمة، وأفعاله كلّها حسنة.

وإنّما قلنا: إنّه لا يفعل القبيح لاَنّه إنّما يقع ممن جهلَ قُبْحَه، أو دعته حاجة إلى فِعْلِه وإن عَلِمَ قبحَه، وهو تعالى عالم بقبح القبائح؛ لاَنّها من جملة المعلومات

( 484 )

وهو عالم بجميعها كما تقدم، وغنيّ عن فعلها كما تقدم أيضاً، وعالم باستغنائه عنها، وكل من كان بهذه الاَوصاف فإنّه لا يفعل القبيح، ألا ترى أنّ من مُلْكُه ألفي ألف قنْطارٍ من الذَّهب؛ فإنّه لا يسرق الدّانق، لعلمه بقبح السرق، وغناه عن أخذ الدانق، وعلمه باستغنائه عنه، وكذلك لو قيل للعاقل: إن صدقت أعطيناك درهماً، وإن كذبت أعطيناك درهماً، فإنّه لا يختار الكذب _ في هذه الحال _ على الصدق، [وهما] على وتيرة واحدة، وطريقة مستمرة، ولاعِلّة لذلك إلاّ ما ذكرناه.

فصل [في أنّ أفعال العباد منهم] (1)

فإن قيل: هل ربّك خَلَق أفعال العباد؟

فقل: لا يقول ذلك إلاّ أهل الضلال والعناد، كيف يأمرهم

بفعل ما قد خَلَق وأمضى، أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّر وقضى، ولاَنّ الاِنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثّناء، والذمّ والاستهزاء، والثواب والجزاء، فكيف يكون ذلك من العلي الاَعلى؟! ولاَنّه يحصل بحسب قصدِه ودواعيه، وينتفي بحسب كراهته وصرفه على طريقة واحدة، ولاَن اللّه تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم، فقال:

"يَكْسِبُونَ" ، و "يَمْكُرُونَ" ، و "يَفْعَلُونَ" ، و "يَصْنَعُونَ" ، و "يَكْفُرون" ، و "يَخْلُقُونَ إِفْكاً" ، ونحو ذلك في القرآن كثير، ولكنّه تعالى أمَرَ تخييراً، ونهى تحذيراً، أَقدَرَهُم على فعل الضِّدين، وهداهم النجدين، ومكّنهم في الحالين، لم يمنعهم عن فعل المعاصي جبراً، ولا قهرهم على فعل الطاعات قهراً،

____________

(1) التعبير موهم للتفويض وهنا تفترق الزيدية عن الاِمامية، فانّ لاَفعال العباد عند الاِمامية نسبتين: نسبة إلى اللّه سبحانه، ونسبة إلى العبد، ولاَجل وجود النسبة، فأفعالهم منسوبة إليهم بالمباشرة وهم الفاعلون حقيقة، وإلى اللّه سبحانه بنحو من النسب إمّا بالتسبيب، أو اللطف منها، ولاَجل ذلك روى عن الاَئمة _ عليهم السلام _ أنّه: «لا جبر ولاتفويض».

( 485 )

ولو شاء لفعل كما قال عزّ وجلّ: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الاََرْضِ جَمِيعاً" [يونس: 99ج يريد به مشيئة الاِجبار لا مشيئة الاختيار، لاَنّه لو أكرههم لم يكونوا مكلّفين، ولَبَطل الغرض ببعثة المرسلين.

فصل [في أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه]

فإن قيل: ربّك يعذب أحداً بغير ذنبه؟

فقل: لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه؛ لاَنّ عقاب من لا ذنب له ظلم، والظلم قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، وقد قال تعالى: "وَلاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى" [الاَنعام: 164].

فصل [في أنّ اللّه لا يقضي إلاّ بالحق] (1)

فإن قيل: أربك يقضي بغير الحق؟

فقل: كلاّ، بل لا يقضي بالكفر والفساد، لما في ذلك

من مخالفة الحكمة والسداد، لقوله تعالى: "وَاللّهُ يَقْضِي بِالحقِّ" [غافر: 20]، فلا يجوز القول بأنّ المعاصي بقضاء اللّه تعالى وقَدَره بمعنى الخلق والاَمر، لاَنّها باطلٌ، ولاَنّ إجماع المسلمين منعقدٌ على أنّ الرضى بالمعاصي لايجوز، وإجماعهم منعقد على أنّ الرضا بقضاء اللّه واجب، ولا مخلص إذاً من ذلك إلاّ بالقول بأنّ المعاصي ليست

____________

(1) العنوان حسن جداً، لكن إخراج المعاصي عن مجال قضائه وإرادته سبحانه يستلزم التفويض الممقوت، فالحق أنّ كل ما يوجد في الكون من حسن وجميل، وإيمان وكفر، وطاعة وعصيان، ليس خارجاً عن قضائه وعلمه وإرادته لكن على وجه لا يستلزم الجبر ولا يسلب الاختيار. والتفصيل يطلب من محله.

( 486 )

بقضاء اللّه؛ بمعنى أنّه خلقها، ولا أنّه أمر بها، وأمّا أنّه تعالى عالم بها فهو تعالى عالم بها، لاَنّها من جملة المعلومات، وعِلْمُه بها لم يحمل العبد على فعلها، ولم يجبره على صنعها كما تقدم.

فصل [في أنّ اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته]

فإن قيل: هل ربك يُكلّف أحداً فوق طاقته؟

فقل: لا، بل لا يكلف أحداً إلاّ ما يطيق؛ لاَنّ تكليف ما لا يطاق قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، فقد قال تعالى: "لاَ يُكَلّفُ اللّه ُنَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، والوسع: دون الطّاقة، وقال: "إلاّ مَا آتَاهَا" [الطلاق: 7].

فصل [في أنّ اللّه لا يريد شيئاً من القبائح] (1)

فإن قيل: أربك يريد شيئاً من القبائح؟

فقل: إنّه تعالى لا يريد شيئاً منها، فلا يريد الظلم، ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد، لاَنّ ذلك كله يرجع إلى إرادة القبيح، وإرادة القبيح هي قبيحة، وهو تعالى لا يفعل القبيح.

ألا ترى أنّه لو أخبرنا مُخبرٌ ظاهرهُ العدالة، بأنّه يريد الزنا والظلم لسقطت عدالته، ونقصت منزلته، عند جميع العقلاء، ولا علّة

لذلك إلاّ أنّه أتى قبيحاً، وهو إرادة القبيح.

وقد قال تعالى: "وَاللّه لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ" [البقرة: 205].

وقال: "وَلاَيَرْضَى لِعِبادِهِ الكُفْرَ" [الزمر: 71].

وقال: "ومَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً للعِبادْ" [غافر: 31].

____________

(1) مضى الكلام فيه في التعليقة السابقة.

( 487 )

فصل [في أنّ اللّه لا يفعل ما هو مفسدة]

فإن قيل: فهل ربّك يفعل لعباده ما هو مَفْسَدة؟

فقل: كلاّ، بل لا يفعل إلاّ الصّلاح، ولايبلوهم إلاّ بما يدعوهم إلى الفلاح، سواء كان ذلك محنة أو نعمة؛ لاَنّه تعالى لا يفعل إلاّ الصّواب والحكمة كما تقدم، فإذا أمرضهم وابتلاهم أو امتحنهم بفوت ما أعطاهم، فلابُدّ من اعتبار المكلفين؛ ليخرج بذلك عن كونه عَبَثاً، وقد نبّه على ذلك بقوله تعالى: "أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ هُمْ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ" [التوبة: 126]، ولابُدّ من العِوَض الموفّي على ذلك بأضعاف مضاعفة، ليخرج بذلك عن كونه ظلماً، وقد ورَدَ ذلك في السنّة كثيراً، والغَرَضُ الاختصار.

(النبوة)

فصل [في معرفة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ]

فإن قيل: فقد أكملت معرفة ربّك، فمن نبيك؟

فقل: محمّد _ صلى الله عليه وآله وسلم _.

فإن قيل: فما برهانك على ذلك؟

فقل: لاَنّه جاء بالمعجزة عقيب ادّعائه النبوّة، وكل من كان كذلك فهو نبيّ صادق.

فإن قيل: فما برهانك على أنّه جاء بالمعجز عقيب ادّعائه النبوّة؟

فقل: المعلوم ضرورة أنّه كان في الدنيا قبيلةٌ تُسمّى قريش، وأن فيهم قبيلة تسمّى: بنو هاشم، وأنّه كان فيهم رجلٌ اسمه: محمد بن عبد اللّه، والمعلوم ضرورةً

( 488 )

أنّه ادّعى النبوة، وأنّه جاء بالقرآن بعد ادعاء النبوة، وأنّه مشتمل على آيات التحدّي، وأنّه كان يتلوها على المشركين ويسمعونها وهم النّهاية في الفصاحة، والمعلوم ضرورةً شدّةُ عداوتهم له.

وإنّما قلنا: بأنّه

معجز لاَنّه تحداهم على أنّ يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بأنّ يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك؛ لاَنّهم لو قدروا على معارضته _ مع شدّة عداوتهم له وعلمهم بأنّ معارضته بمثل ما جاء به تبطلُ دعواه _ لما عدلوا عنها إلى الشّاقّ من محاربته، التي لا تدل على بطلان دعواه، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.

ولاَنّ القرآن مشتمل على الاِخبار بالغيوب المستقبلة، وعلى الاِخبار عن الاَُمور الماضية، فكان الاَمر على ما أخبر في الماضي والمستقبل، فدَلّ ذلك على كونه معجزاً، لايقدر عليه أحد من البشر.

وله معجزات كثيرة تقارب ألف معجزة، نحو: مجيء الشجرة إليه، وجريها على الماء كالسفينة، وسير الشّجرة، وإحيائه الموتى، وتسبيح الحصى في يده، ونحو ذلك كثير، وإنما قلنا بأنّ من كان كذلك فهو نبي صادق؛ لاَنّ إظهار المعجز على أيدي الكَذّابين قبيح، وهو تعالى لا يفعله، وإذا ثبت صدقُهُ وصحّت نبوته، وجب تصديقه فيما أخبرنا به عن الاَنبياء والمرسلين قبله، ووجب القضاء بصحة نبوتهم وتصديق رسالتهم، وهذا واضح.

فصل [في معرفة القرآن]

فإن قيل: فما اعتقادك في القرآن؟

فقل: اعتقادي أنّه كلام اللّه تعالى، وأنّه كلام مسموع محدثٌ مخلوق.

فإن قيل: فما دليلك على ذلك؟

( 489 )

فقل، أمّا قولي: إنّه كلام اللّه تعالى، فلقوله تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه" [التوبة: 6]، المعلوم أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس بشيء غير هذا القرآن، ولاَنّ المعلوم ضرورة أنّ النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ كان يدين ويخبر بذلك، وهو لا يدين إلاّ بالحق، ولا يخبر إلاّ بالصدق، لاَنّ ظهور المعجز على يديه قد استأمن وقوع الخطأ فيما يدين به، وظهور

الكذب فيما يخبر به.

وأمّا قولي: إنّه مسموعٌ فذلك معلوم بالحسّ ولقوله تعالى: "إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً" (الجن: 1) والمعلوم ضرورة أنّ ذلك المسموع هذا القرآن.

وأمّا قولي: إنّه محدَثٌ؛ فلاَنّه فعل من أفعاله تعالى، والفاعل متقدم على فعله بالضّرورة، ومايتقدمه غيره فهو مُحدَث، ولاَنّ بعضه متقدم على بعض، وذلك يدل على أنّه محدَث، ولقوله تعالى: "مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍج "[الاَنبياء: 2]. والذكر هو القرآن، لقوله تعالى: "وإنّهُ لَذِكْرٌ لكَ ولِقَوْمِكَ" [الزخرف: 44]، أيْ شَرَفٌ لك ولقومك.

وأمّا قولي: إنّه مخلوقٌ؛ فلاَنّه مُرَتَّبٌ منظومٌ على مقدارٍ معلومٍ موافقٍ للمصلحة. بهذه الصِّفةِ المنزَّلة جَازَ وَصفهُ بأنّه مخلوقٌ، ولِما رواه عمر بن الخطاب، عن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أنّه قال: «كان اللّه ولا شيء ثم خلق الذكر»، والذكر هو القرآن كما تقدم.

ثم قل: وأعتقد أنّه حقّ لا باطل فيه، لقوله تعالى: "وَإِنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ" [فصلت: 41 و 42].

ثم قل: وأعتقد أنّه لا تناقض فيه ولا تعارض ولا اختلاف، "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوْا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثيراً" [النساء: 82].

( 490 )

(الاِمامة)

فصل [في إمامة الاِمام علي _ عليه السلام _ ]

فإن قيل: من أوّلُ الاَئمة بعد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وأولى الاَُمّة بالخلافة بعده بلا فصل؟

فقل: ذلك أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب.

فإن قيل: هذه دعوى، فما برهانك؟

فقل: الكتاب، والسنّة، وإجماع العترة.

أمّا الكتاب، فقوله تعالى: "إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" [المائده: 55]، ولم يوَتِ الزكاةَ في حالِ ركوعه غيرُ علي _ عليه السلام _، وذلك أنّ سائلاً سأل

على عهد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في حال ركوع عليٍ في الصلاة، وذلك في مسجد النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _، فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فأشار إليه _ عليه السلام _ بخاتمه وهو راكع ونواه زكاة، فأخذه السائلُ، فنزل جبريل _ عليه السلام _ بهذه الآية على رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في الحال، فكانت في علي _ عليه السلام _ خاصة دون غيره من الاَُمّة. وهي تفيد معنى الاِمامة لاَنّ الوليّ هو: المالك للتصرّف، كما يقال هنا: ولي المرأة، وولي اليتيم، أي المالك للتصرف عليهما.

وأمّا السنّة، فخبر الغدير، وهو قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خَذَلَهُ»، فقال له عمر: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل موَمن وموَمنة.

وروينا عن الموَيد باللّه بإسناده إلى الصادق جعفر بن محمد الباقر أنّه سُئِلَ

( 491 )

عن معنى هذا الخير، فقال: سئل عنها _ واللّه _ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال: «اللّه مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه، وأنا ولي الموَمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي، فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه».

وإذا ثبت ذلك فإنّه يفيد معنى الاِمامة؛ لاَنّا لا نعني بقولنا: فلان إمام إلاّ أنّه أولى بالتصرف في الاَُمّة من أنفسهم، ولاَنّ لفظ المولى لا يفهم منه

[إلاّ] مالك بالتصرف، كما يقال: هذا مولى العبد، أي المالك للتصرف فيه، وهذا يفيد معنى الاِمامة كما تقدم.

ومما يدلّ على ذلك من السنّة: (خبر المنزلة) وهو معلوم كخبر الغدير، وهو قوله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لانبيّ بعدي»، فاستثنى النبوة، فدَلَّ ذلك على شموله لخصال الفضل كلها، ومن جملتها مِلْك التصرف على الاَُمّة، وأنّه أولى الخلق بالتصرف منهم، وذلك معنى الاِمامة كما تقدم.

وأمّا الاِجماع فإجماع العترة منعقد على ذلك.

فصل [في إمامة الحسنين]

فإن قيل: لمن الاِمامة بعد علي _ عليه السلام _ ؟

فقل: هي للحسن ولده من بعده، ثم هي للحسين من بعد أخيه _ عليهما السلام _.

فإن قيل: فما الدليل على إمامتهما؟

فقل: الخبر المعلوم، وهو قول النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما»، وهذا نصُّ جَلِيّ على إمامتهما،

( 492 )

وفيه إشارة إلى إمامة أبيهما، لاَنّه لا يكون خيراً منه إلاّ إمام شاركه في خصال الاِمامة وزاد عليه فيها، فيكون حينئذ خيراً منه، وهذا واضح، والاِجماع منعقد على أنّه لا ولاية لهما على الاَُمّة في زمن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _، ولا في زمن علي _ عليه السلام _ إلاّ عن أمرهما، وأنّه لا ولاية للحسين في زمن أخيه الحسن إلاّ عن أمره، فبقيت الاِمامة مخصوصة بالاِجماع.

فصل [في الاِمامة بعد الحسنين] (1)

فإن قيل: لمن الاِمامة بعدهما؟

فقل: هي محصورة في البطنين ومحظورة على من عدا أولاد السبطين، فهي لمن قام ودعا من أولاد من ينتمي نسبه من قِبَل أبيه إلى أحدهما، متى كان جامعاً لخصال الاِمامة، من: العِلْمِ الباهر، والفضل الظاهر، والشجاعة، والسخاء،

وجودة الرأي بلا امتراء، والقوة على تدبير الاَُمور، والورع المشهور.

فإن قيل: ما الذي يدل على ذلك؟

فقل: أمّا الذي يدلّ على الحصر فهو أنّ العقل يقضي بقبح الاِمامة، لاَنّها تقتضي التصرف في أُمور ضارة من القتل، والصّلب، ونحوهما، وقد انعقد إجماع المسلمين على جوازها في أولاد فاطمة _ عليها السلام _، ولا دليل يدل على جوازها في غيرهم، فبقي من عداهم لا يصلح، ولاَنّ العترة أجمعت على أنّها لاتجوز في غيرهم، وإجماعهم حجّة.

وأمّا الذي يدلّ على اعتبار خصال الاِمامة التي ذكرنا فهو إجماع المسلمين.

فإن قيل: فسّروا لنا هذه الخصال.

فقل: أمّا العلمُ، فإنّه يكون عارفاً بتوحيد اللّه وعدله، وما يدخل تحت ذلك،

____________

(1) الاِمامية قائلة بالنصّ بعدهما إلى الاِمام الثاني عشر، فالمخالفة بين الطائفتين واضحة في هذا المقام.

( 493 )

وأن يكون عارفاً بأُصول الشرائع وكونها الاَدلة، وهي أربعة: الكتاب، والسنّة، والاِجماع، والقياس، والمراد بذلك أن يكون فهماً في معرفة أوامر القرآن والسنّة ونواهيهما، وعامّهما، وخاصّهما، ومجملهما، ومبينهما، وناسخهما، ومنسوخهما، عارفاً بمواضع الوفاق، وطُرُق الخلاف في فروع الفقه، لئلاّ يجتهد في مواضع الاِجماع، فيتحرى في معرفة القياس والاجتهاد، ليمكنه ردّ الفرع إلى أصله.

وأمّا الفضل، فأن يكون أشهر أهل زمانه بالزيادة على غيره في خصال الاِمامة أو كأشهرهم.

وأمّا الشجاعة، فإنّه يكون بحيث لا يجبن عن لقاء أعداء اللّه، وأن يكون رابط الجأش وإن لم يكُثُر قَتْلُه وقِتالُه.

وأمّا السخاء، فأن يكون سخياً بوضع الحقوق في مواضعها.

وأمّا جودة الرأي، فأن يكون بالمنزلة التي يُرْجَعُ إليه عند التباس الاَُمور.

وأمّا القوة على تدبير الاَُمور، فلا يكون منه نقص في عقله، ولا آفة في جسمه، يضعف لاَجل ذلك عن النظر في أُمور الدّين وإصلاح أحوال المسلمين.

وأمّا الورع، فأن يكون كافّاً عن المقبحات، قائماً بالواجبات.

فرع [في

طريق معرفة مواصفات الاِمام]

فإن قيل: فما الطريق إلى إثبات كونه على هذه الخصال؟

فقل: أمّا كونه عالماً فيحصل العلم به للعلماء بالمباحثة والمناظرة، ويحصل لغيرهم من الاَتْباع العلم بكونه عالماً بوقوع الاِطباق والاِجماع على كونه كذلك.

وأمّا سائر الخصال فلابد من حصول العلم بكونه عليها، وإن كان غائباً، فإنّه يحصل العلم التواتري بذلك، وكذلك حكم العلم إذا كان غائباً، فإن طريق العلم به

( 494 )

الاَخبار المتواترة للعلماء وغيرهم، وإن كان حاضراً فلابد من حصول العلم بكونه جامعاً لها، لاَنّها من أُصول الدين، فلايأخذ بالاَمارات المقتضية للظن بكونه جامعاً لها.

فصل [الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

فإن قيل: فماذا تدين به في الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

فقل: أدين اللّه تعالى أنّه يجب الاَمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون" [آل عمران: 104]، وإنما قلنا: إنّه يجب الاَمر بالمعروف الواجب؛ لاِجماع المسلمين أنّه لا يجب الاَمر بالمعروف المندوب، فلم يبق إلاّ القضاء بالاَمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان وإلاّ بطلت فائدة الآية، ومعلوم خلاف ذلك، وقلنا: يجب النهي عن كل منكر لاِجماع المسلمين على ذلك؛ ولاَنّ المنكرات كلها قبائح فيجب النهي عنها جميعاً مع الاِمكان، كما يلزم الاَمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان.

(المعاد)

فصل [في الوعد والوعيد]

فإن قيل: فماذا تدين به في الوعد والوعيد؟

فقل: أدين اللّه بأنّه لابدّ من الثواب للموَمنين إذا ماتوا على الاِيمان مستقيمين، ودخولهم جنات النعيم: "لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِمُخْرَجِينَ" [الحجر: 48] "خَالِدِينَ فِيْها أَبَداً" .

( 495 )

وأدين اللّه بصحة ما وعد به من سعة الجنة، وطيب مساكنها، وسرُرها الموضوعة، ومآكلها المستلذة المستطابة، وفواكهها الكثيرة التي ليست بمقطوعة ولا ممنوعة، وأنهارها الجارية

التي ليست بمستقذرة ولا آسنة، ولا متغيرة ولا آجنةٍ، وملابسها الفاخرة، وزوجاتها الحسان الطاهرة، والبهية النّاضِرة، ونحو ذلك مما بيّنه اللّه تعالى في كتابه المجيد، وهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأدين اللّه تعالى أنّه لابدَّ من عقاب الكافرين في جهنم بالعذاب الاَليم، وشراب الحميم، وشجرة الزَّقُّوم طعام الاَثيم، وأنّهم يخلّدون فيها أبداً، ويلبسون ثياباً من نار، وسرابيل من القَطِران، كلّما نضجت جلودُهم بدّلهم اللّه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين.

فصل [في أهل الكبائر]

فإنّ قيل: ماذا تدين به في أهل الكبائر سوى أهل الكفر؟

فقل: أُسمّيهم: فُسّاقاً، ومجرمين، وطغاة، وظالمين، لاِجماع الاَُمّة على تسميتهم بذلك، ولا أُسمّيهم كفاراً على الاِطلاق، ولاموَمنين (1) لفقد الدلالة على ذلك.

وأدين اللّه تعالى بأنّهم متى ماتوا مُصرّين على الكبائر فإنّهم يدخلون نار جهنم، ويخلّدون (2)فيها أبداً، ولا يخرجون في حال من الاَحوال، لقوله تعالى:

____________

(1) عند الاِمامية أنّهم موَمنون وللاِيمان درجات ومراتب وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند الكلام عن الاَصل الرابع للمعتزلة: المنزلة بين المنزلتين.

(2) عند الاِمامية أنّهم غير مخلدين وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند الكلام في الوعد والوعيد عند المعتزلة.

( 496 )

"إنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهّنمَ خَالِدُونَ" [الزخرف: 74]، والفاسق عاصٍ، كما أنّ الكافر عاصٍ، فيجب حمل ذلك على عمومه، إلاّ ما خصّته دلالةٌ. وقوله تعالى: : "والَّذينَ لا يَدْعون معَ اللّهِ إِلهاً آخرَ لاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاّ بالحقّ وَلاَ يَزْنُوْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيامَةِ وَيَخَلُد فِيهِ مُهَاناً" [الفرقان: 68 _ 69]. وإجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة.

فصل [في صفة الموَمن وما يجب

في حقّه]

فإن قيل: فمن الموَمن، وما يجب في حقه؟

فقل: الموَمن من أتى بالواجبات، واجتنب المُقَبّحات، فمن كان كذلك؛ فإنّا نسميه: موَمناً، ومسلماً، وزكياً، وتقياً، وبراً، وولياً، وصالحاً، وذلك إجماع، ويجب: إجلاله، وتعظيمه، واحترامه، وتشميته، وموالاته، ومودّته، وتحرم: معاداته، وبُغضُه، وتحظر: نميمته، وغيبَتُهُ، وهو إجماع أيضاً، ومضمون ذلك أن تُحِبَّ له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، وبذلك وردت السنّة.

فصل [في صفة الكافر]

فإن قيل: فمن الكافر؟

فقل: من لم يَعْلَمْ له خالقاً، أو لم يَعْلَم شيئاً من صفاته التي يتميز بها عن غيره، من كونه قادراً لذاته، عالماً لذاته، حياً لذاته، ونحو ذلك من صفاته المتقدمة، فمن جحد شيئاً من ذلك أو شك أو قلد، أو اعتقد أنّه في مكان دون مكان، أو أنّه

( 497 )

في كل مكان، أو شكّ في ذلك، أو اعتقد له شريكاً أو أنّه يفعل المعاصي أو يُرِيدها، أو يَشُكّ في شيء من ذلك، أو جحد رَسُولَ اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو ردّ ما عُلم من الدّين ضرورة باضطراب أو شك في شيء من ذلك، فهو كافرٌ بالاِجماع، ويجوز أن نسمّيه: فاجراً، وفاسقاً وطاغياً، ومارقاً، ومجرماً، وضالماً، وآثماً، وغاشماً، ونحو ذلك من الاَسماء المشتقة من أفعاله بلا خلاف.

وإن كان يُظهرُ الاِيمان ويبطنُ الكفر، جاز أن نسميه مع ذلك: منافقاً، بالاِجماع.

ومن كانت هذه حالته _ أعني غير المنافق _ جاز قتله وقتاله، وحصره، وأخذ ماله، وتجب معاملته بنقيض ما ذكرنا أنّه يجب من حقّ الموَمن، وقد ذكرنا أحكامه مفصّلة في (ثمرات الاَفكار في أحكام الكفار) .

فصل [في صفة الفاسق]

فإن قيل: فمن الفاسق وما حكمه؟

قلنا: أمّا الفاسق فهو مُرْتَكِبُ الكبائر سوى الكفر، نحو الزاني، وشارب الخمرة، والقاذف، ومن فرّ

من زحف المسلمين غير متحرفٍ لقتال ولا متحيز إلى فئة، وتاركُ الجهاد بعد وجوبه عليه، وتاركُ الصلاة، والصيام، والحج، مع وجوب ذلك عليه، غيرُ مُستحلّ لتركه ولا مستخفّ، والسارق من سرق عشرة دراهم _ أي قفلة _ فما فوق بغير حق، ونحو ذلك من الكبائر، فمن فعل ذلك أو شيئاًمنه، فإنّه يجوز أن نسميه بالاَسماء المتقدمة قبل هذه في الكافر، إلاّ لفظ: الكافر، والمنافق، فإنّ ما عداهما إجماع أنّه يجوز تسميته به، وأمّا المنافق فلا بد من دلالة تدل على

( 498 )

جواز إطلاقه عليه، وأمّا لفظ: الكافر، فمنعه كثير من العلماء، وأجاز إطلاقه جماعةٌ مع التنبيه، فقالوا: هو كافر نعمة، وهو الصحيح؛ لاَنّه مروي عن علي _ عليه السلام _، وهو إجماع العترة، ولِمُوافقة الكتاب.

وأمّا حكمه فحكم الكافر فيما تقدم إلاّ القتل والقتال، وأخذ الاَموال فلا يجوز إلاّ بالحق، ولايجوز قتله على الاِطلاق، وكذلك حصره فلا يجوز بحال من الاَحوال.

فرع [في الفرق بين فعل اللّه وفعل العبد]

فإن قيل: ما الفرق بين فعل اللّه وبين فعل العبد؟

فقل: فعل اللّه جواهر وأعراض وأجسام، يعجز عن فعلها جملة الاَنام، ومضمونه أنّ كلما وقف على قصد العبد واختياره تحقيقاً أو تقديراً فهو فعله، ومالم يكن كذا فليس بفعله.

فصل [في أنّه لا بد من الموت والفناء]

ثم قل أيُّ_ها الطالب للنجاة: وأدين اللّه تعالى بأنّه لا بد من الموت والفناء، والاِعادة بعد ذلك للحساب والجزاء، والنفخ في الصور، وبعثرة القبور، والحشر للعرض المشهور، والاِشهاد على الاَعمال بغير زور، ووضع الموازين، وأخذ الكتب بالشمال واليمين، والبعث والسوَال للمكلفين، وأن ينقسموا فريق في الجنّة وفريق في السعير، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين، وأنّه لابد من المناصفة بين المظلومين والظالمين، لدلالة العدل بيقين.

(

499 )

فصل [في الشفاعة]

فإن قيل: ما تقول في الشفاعة؟

فقل: أدين اللّه تعالى بثبوتها يوم الدين، وإنما تكون خاصة للموَمنين (1)_ دون من مات مص_رّاً من المجرمين على الكبائر _ ليزيدهم نعيماً إلى نعيمهم، وسروراً إلى سرورهم، ولمن ورد العَرْضَ وقد استوت حسناته وسيئاته، فيشفع له النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _؛ ليرقى درجة أعلى من درجة غير المكلفين من الصبيان والمجانين، وإنّما قلنا: إنّه لا بد من ثبوتها، لقوله تعالى: "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً" [الاِسراء: 79]، قيل: هو الشفاعة، وقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «من كذب بالشفاعة لم ينالها يوم القيامة».

وأمّا أنّها تكون لمن ذكرناها، فلقوله تعالى: "مَا لِلظّالمينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَشَفِيعٍ يُطَاعُ" [غافر: 18]، "مَا لِلظّالِمينَ مِنْ أَنْصَار " [البقرة: 270]، وقول النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «ليست شفاعتي لاَهل الكبائر من أُمتي»، وقوله تعالى: "وَلاَيَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى" [الاَنبياء: 28] كل ذلك يدلُّ على ما قلنا.

وتم بذلك ما أردنا ذكره للمسترشدين، تعرّضاً منّا لثواب ربّ العالمين، ربّنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب. وصلّ اللّهم وسلم على محمد صفيك وخاتم أنبيائك، وعلى آله سفن النجاة آمين. وتوفنا مسلمين آمين اللّهمّ آمين.

* * *

____________

(1) أراد بالموَمنين العدول وعند الاِمامية يعم العادل والفاسق وقد بينا الدليل في الجزء الثالث عند الكلام في الشفاعة عند المعتزلة.

وهذه المواضع الثلاثة ، هي من مواضع الاتفاق بين المعتزلة والزيدية .

( 500 )

مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم

وهناك رسالة أُخرى في عقائد الزيدية باسمّ «مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم» للعلامة أحمد بن الحسن الرصاص المتوفّى عام 600 _ أو _ 650وعلى كل

تقدير فالرسالة تنتمي إلى النصف الاَوّل من القرن السابع كالرسالة السابقة وهي معروفة بالثلاثين مسألة، وقد حقّقها الدكتور محمد عبد السلام كفافي أُستاذ الآداب الاِسلامية بجامعة القاهرة وجامعة بيروت العربية وقوّم نصّها بالعثور على مخطوطات في مكتبة المتحف البرطاني بلندن، ولها نسخ في مكتبات أوربا يقول المحقق: «والظاهر من كثرة عدد النسخ أنّ هذه الرسالة كانت ذائعة بين أتباع المذهب الزيدي ولاعجب في ذلك فهي تلخص معتقداتهم تلخيصاً وافياً في صفحات قلائل» (1)

إنّ تعاصر الموَلفين وتقارب مضامين الرسالتين، ورغبة القراء إلى الاختصار حفزتنا إلى نشر الرسالة الاَُولى فقط.

____________

1 _ مصباح العلوم : المقدمة 5.

( 501 )

الفصل العاشر في أُمور متفرقة

الفصل العاشر في أُمور متفرقة

الاَوّل: حلقات المناظرة بين الاِمامية والزيدية :

يشهد التاريخ على أنّ حلقات المناظرة كانت تنعقد في الجامعات وبيوت الشخصيات في عصر الشيخ المفيد (336 _ 413ه_) ويشارك فيها الاِمامي والزيدي والمعتزلي وغيرهم، وكان الشيخ يناظر كل هذه الفرق، ببلاغة تثير إعجاب المشاركين.

وقد ذكر السيد المرتضى (355 _ 463ه_) قسماً من هذه المناظرات في كتابه «الفصول المختارة» الذي اختاره من كتاب «العيون والمحاسن» لاَُستاذه الشيخ المفيد، وقد طبع الاَوّل دون الثاني.

ونذكر هنا أجوبة الشيخ للاعتراضات الثلاثة التي طرحها أحد شيوخ الزيدية المعروف بالطبراني ويدور الجميع على محاور ثلاثة.

إنّ الاِمامية حنبلية من جهات ثلاث:

1 _ يعتمدون على المنامات كالحنابلة.

2 _ يدّعون المعجزات لاَ كابرهم كالحنابلة.

3 _ يرون زيارة القبور مثلهم.

( 502 )

وإليك الاعتراضات والاَجوبة بنصهما.

قال الشيخ: كان يختلف إليّ حدَث من أولاد الاَنصار ويتعلّم الكلام فقال لي يوماً: اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية، فقال لي: أنتم يامعشر الاِمامية حنبلية وأنتم تستهزئون بالحنبلية، فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال: لاَنّ الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك، والحنبلية تدّعي

المعجزات لاَكابرها وأنتم كذلك، والحنبلية ترى زيارة القبور والاِعتكاف عندها وأنتم كذلك، فلم يكن عندي جواب أرتضيه، فما الجواب؟

الجواب على الاعتراض الاَوّل:

قال الشيخ أدام اللّه عزّه: فقلت له: أرجع فقل له: قد عرضتُ ما ألقيته إليّ على فلانٍ، فقال لي: قل له إن كانت الاِمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ فالمسلمون بأجمعهم حنبلية والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول: "إذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبيهِ ياأبَتِ إنّي رَأيتُ أحَدَ عَشَرَ كَوكَباً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأيتُهُمْ لِي ساجِدِينَ * قَالَ يابُنيَّ لاتَقصُصْ رُوَياكَ عَلَى إخوَتِكَ فَيَكيدُوا لَكَ كَيداً إنّ الشَّيطانَ لِلاِنسانِ عَدُوٌّ مُبين" (يوسف: 4 _ 5) .

فأثبتَ اللّه جلّ اسمه المنام وجعل له تأويلاً عرفه أولياءه _ عليهم السلام _ وأثبتته الاَنبياء ودان به خلفاوَهم وأتباعهم من الموَمنين واعتمدوه في علم ما يكون وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له.

وقال سبحانه: "وَدَخَلَ مَعَهُ السِجنَ فَتيانِ قالَ أحَدُهُما إنّي أراني أعصِرُ خَمراً وَقالَ الآخرُ إنّي أراني أحمِلُ فَوقَ رَأسي خُبزاً تَأكُلُ الطَيرُ مِنهُ نَبّئنا بِتَأويله إنّا نراكَ مِنَ المُحسِنين" (يوسف _ 36) .

فنبّأهما _ عليه السلام _ بتأويله وذلك على تحقيق منه لحكم المنام، وكان سوَالهما له مع جهلهما بنبوته دليلاً على أنّ المنامات حقّ عندهم، والتأويل لاَكثرها

( 503 )

صحيح إذا وافق معناها، وقال عزّ اسمه: "وَقالَ المَلِكُ إنّي أرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عُجافٌ وَسَبْعَ سُنْبلاتٍ خُضرٍ وَأُخَرُ يابِساتٍ يا أيّها المَلاَ أفتُوني في روَياي إن كُنتُمْ لِلروَيا تُعَبرُونَ * قَالوا أضغاثُ أحلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأويلِ الاَحلامِ بِعالِمين" (يوسف: 43 _ 44) ثم فسرها يوسف _ عليه السلام _ وكان الاَمر كما قال.

وقال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل _ عليهما السلام

_: "فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يابُنيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فَانظُرْ ماذا تَرى قال يا أبتِ افعل ما تُوَمر سَتَجِدُني إن شاءَ اللّهُ مِنَ الصابِرين" (الصافات: 102) فأثبتا _ عليهما السلام _ الروَيا وأوجبا الحكم ولم يقل إسماعيل لاَبيه _ عليه السلام _ يا أبت لا تسفك دمي بروَيا رأيتها فإنّ الروَيا قد تكون من حديث النفس، وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض كما ذهبت إليه المعتزلة.

فقول الاِمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن، وقول هذا الشيخ هو قول الملاَ من أصحاب الملك حين قالوا: "أضغاث أحلام" ومع ذلك فإنّا لسنا نثبت الاَحكام الدينية من جهة المنامات وإنّما نثبت من تأويلها ما جاء الاَثر به عن ورثة الاَنبياء _ عليهم السلام _.

الجواب على الاعتراض الثاني :

فأمّا قولنا في المعجزات فهو كما قال اللّه تعالى: "وَأوحَيْنا إلى أُمّ مُوسى أن أرضِعيه فإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألقيهِ في اليمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحزَني إنّا رادُّوه إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلين" (القصص _ 7) .

فَضمَّنَ هذا القولُ تصحيح المنام إذ كانَ الوَحي إليها في المنام، وضمَّنَ المعجز لها لعلمها بما كان قبل كونه.

وقال سبحانه في قصة مريم _ عليها السلام _: "فَأشارت إلِيهِ قَالَوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهدِ صَبِيا * قالَ إنّي عَبدُ اللّه آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبيّاً * وَجَعَلَني

( 504 )

مُبارَكاً أينَ ما كُنْتُ وَأوصاني بالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً" (مريم _ 29 _ 31) فكان نطق المسيح _ عليه السلام _ معجزاً لمريم _ عليهما السلام _ إذ كان شاهداً ببراءة ساحتها. وأُمّ موسى _ عليه السلام _ ومريم لم تكونا نبيين ولا مرسلين ولكنهما كانتا من عباد اللّه الصالحين. فعلى

مذهب هذا الشيخ كتاب اللّه يصحح الحنبلية.

الجواب على الاعتراض الثالث :

وأمّا زيارة القبور فقد أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حتى رووا «منْ حجَّ ولم يزره متعمداً فقد جفاه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وثلم حجّهُ بذلك الفعل»، وقد قال رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «من سلّم عليّ من عند قبري سمعته، ومن سلّم عليَّ من بعيد بلغته» سلام اللّه عليه ورحمته وبركاته وقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ للحسن _ عليه السلام _: «من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنّة».

وقال أيضاً: في حديث له أوّل مشروح في غير هذا الكتاب: «تزوركم طائفة من أُمتي تريد به برّي وصلَتي فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف فأخذت بأعضادها وأنجيتها من أهواله وشدائده».

ولا خلاف بين الاَُمّة أنّ رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لما فرغ من حجّة الوداع لاذ بقبر درس فقعد عنده طويلاً ثم استعبر فقيل له: يارسول اللّه ما هذا القبر؟ فقال: هذا قبر أُمّي آمنة بنت وهب سألت اللّه في زيارتها فأذن لي.

وقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الاَضاحي ألا فادخروها».

وقد كان أمر في حياته _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بزيارة قبر حمزة _ عليه السلام _ وكان _ عليه السلام _ يلمّ به وبالشهداء، ولم تزل فاطمة _ عليها السلام _ بعد وفاته _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تغدو إلى قبره وتروح لزيارته وكان أهل بيته والمسلمون يثبرون على

زيارته وملازمة قبره _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فإن كان ما تذهب إليه الاِمامية من زيارة مشاهد الاَئمة _ عليهم السلام _ حنبلية وسخفاً من

( 505 )

الفعل، فالاِسلام مبني على الحنبلية ورأس الحنبلية رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وهذا قول متهافت جداً يدلّ على قلة دين قائله وضعف رأيه وبصيرته.

ثم قال له: يجب أن تعلم أنّ الذي حكيت عنه قد حرّف القول وقبّحه ولم يأت به على وجهه، والذي نذهب إليه في الروَيا أنّها على أضرب: فضرب منه يبشر اللّه به عباده ويحذرهم. وضرب تهويل من الشيطان وكذب يخطر ببال النائم. وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض، ولسنا نعتمد على المنامات كما حكاه لكننا نأنس بما نبشر به، ونتخوف مما نحذر منها ومن وصل إليه شيء من علمها عن ورثة الاَنبياء _ عليهم السلام _ مَيزّ بين حقّ تأويلها وباطله ومتى لم يصل إليه شيء من ذلك كان على الرجاء والخوف.

وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الاَنبياء _ عليهم السلام _ من أنّها وحي لاَنّ تلك مقطوع بصحتها وهذه مشكوك فيها مع أنّ منها أشياء قد اتفق ذوو العادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.

وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الاِمامية ولكنه قصد الاَُمّة ونصر البراهمة والملاحدة، مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي هاشم ويعظّمه ويختاره، وأبو هاشم يقول في كتابه «المسألة في الاِمامة»: إنّ أبا بكر رأى في منام كان عليه ثوباً جديداً عليه رقمان ففسره على النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال له: إن صدقت روَياك تبشر بخير (فستخبر بولدين خ) وتلي

الخلافة سنتين، فلم يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب بها الخلافة وجعلها دلالة على الاِمامة. فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو هاشم رئيس المعتزلة عنده حنبلياً بل يكون عنده أبو بكر حنبلياً بل رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لاَنّه صحح المنام وأوجب به الاَحكام، وهذا من بهرج المقال (1)

____________

(1) السيد المرتضى : الفصول المختارة : 128 _ 132 .

( 506 )

الثاني: وجود المزاملة بين الطائفتين:

إنّ السبر في التاريخ يثبت بأنّ المزاملة العلمية والاجتماعية بين الشيعة الزيدية والشيعة الاِمامية في الاَعصار السابقة كانت وطيدة. وكانت كل طائفة تعرف ما عند الطائفة الاَُخرى من العقائد والاَحكام، والاَدب والشعر. وكانت المجالس المنعقدة في الجامعات والبيوت تحتفل بهما معاً. فكان يدور بينهما النقاش والاِفادة والاستفادة، ويظهر ذلك من كتاب الشيخ المفيد أعني الفصول المختارة. كما يظهر أيضاً من الرجوع إلى كتابه أوائل المقالات على أنّ له رسالة خاصة في عقائد الجارودية من الزيدية.

كل ذلك يعرب عن صلة وثيقة بين الطائفتين. ولا إشكال أنّ الصلة كانت لصالحهما. ولكن لانعلم في أي عصر ضعفت هذه الصلة إلى أن كادت أن تنقطع.

فلاَجل ذلك لانكاد نرى زيديّاً في جامعة النجف الاَشرف وسائر حوزات الشيعة الاِمامية وبالعكس إلاّ نادراً. كما لا نرى أي صلة بين الطائفتين في الكتب الموَلفة في العصور الاَخيرة من عصر ابن المرتضى إلى يومنا هذا.

ولعلّ الاَجواء والظروف السياسية قد أوجدت تلك الهوة ما بينهما فخسرت الطائفتان علمياً وأدبياً إذ هما صنوان يقومان على جذور واحدة.

اسأله سبحانه أن يعيد الوحدة ما بين المسلمين عموماً، وبين الطائفتين خصوصاً.

( 507 )

الثالث: نشر الثقافة الزيدية :

إنّ الزيدية _ بحق _ تركت ثروة

علمية في جميع مجالات العلوم الاِسلامية خصوصاً في الاَدب والكلام والفقه، وتراثهم الباقي، وفهارس مكتباتهم يشهد على ذلك بوضوح. ولعل أحد العلل في تطور علومهم خصوصاً في الفقه عدم التزامهم بالاَخذ بالمذاهب الفقهية المعروفة وإن كانوا متأثرين بالفقه الحنفي.

فوجود الاجتهاد واستمراره في حياتهم من عصر القاسم الرسيّ إلى يومنا هذا ضخّم ثقافتهم، وأعطى لها أبعاداً كثيرة.

غير أنّ من الموَسوف عليه عدم اطّلاع المسلمين على تلك الثقافة لاَنّها صارت محصورة في اليمن وما والاها.

وقد قام العلاّمة البحاثة السيد أحمد الحسيني دام علاه بفهرسة كتبهم بعد رحلتين إلى اليمن الخصيب فجاء مجهوده مطبوعاً في أجزاء ثلاثة ذكر فيها أسماء (3346) من كتبهم المختلفة حسب الحروف الاَبجدية وأردفها بالفهارس العامة أهمها فهرس أسماء الموَلفين فقد ذكر أسماء الموَلفات حين التعرض لاَسماء الموَلفين وبذلك يغني الاِنسان عن ملاحظة كل كتاب في محله. ومن حسن الحظ أنّ مكتبة الجامع الكبير بصنعاء تحفل بمخطوطات كثيرة للزيدية فعلى المهتمين بالتراث الاِسلامي السعي في تصويرها قبل أن تندثر.

وللتعرف على الشخصيات الزيدية وعلى ثقافاتهم وكتبهم لا محيص من الرجوع إلى كتبهم المختلفة في التراجم والرجال والتاريخ.

ومن هذه الكتب ما نذكره فيما يلي والكل مخطوط لم ير النور:

( 508 )

1 _ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر: تأليف يوسف بن يحيى الحسني الصنعاني (1121ه_) ترجم فيه لمائة وأربعة وتسعين من شعراء الشيعة المتقدمين والمتأخرين منهم.

2 _ نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الاَلف: تأليف السيد محمد بن محمد زبارة الحسني الصنعاني 1380 ه_ ترجم لاَعلام اليمن في القرون الاَربعة بعد الاَلف الهجري إلى سنة 1375ه_. وقد أسمى لكل قرن اسماً.

3 _ مطلع البدور ومجمع البحور: تأليف القاضي أحمد بن صالح أبي الرجال الصنعاني (ت 1092ه_)

وهو في أربعة أجزاء تشتمل على أكثر من1360 ترجمة.

4_ نشر كتاب الحدائق الوردية: لحميد الدين المحلي نشراً جديداً يناسب روح العصر.

إلى غير ذلك من الكتب التي تعرّف أئمة الزيدية وشخصياتهم.

نعم أُلّفت في العصور الاَخيرة كتب في تاريخ اليمن لها قيمتها، وللموَلفين أجرهم.

( 509 )

الرابع: صيغة الحكومة الاِسلامية لدى الزيدية:

إنّ للحكومة الاِسلامية حسب ما يعطي الاِمعان في الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين أُسساً وأركاناً ثلاثة لكلٍّ شأنه ومكانته:

1 _ السلطة التشريعية :

للسلطة التشريعية مراحل ثلاث بعضها بيد اللّه سبحانه، والبعض الآخر موكول إلى الاَُمّة الاِسلامية في ضمن شرائط:

1 _ التشريع والتقنين للّه خاصة بالاَصالة فلا شارع ولا مقنّن سواه ولا يحق لاَحد _ كان من كان وبلغ ما بلغ من العلم والثقافة والمكانة الفكرية والاجتماعية _ أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً أو يحرم حراماً فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه، إذ الحكم، حكمان: إلهي وجاهليّ ولا ثالث لهما فإذا لم يكن معزوّاً إليه، فهو حكم جاهلي قال سبحانه: "أفَحُكمُ الجاهِليةِ يَبغُون وَمَن أحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنُون"(المائده _ 50) .

نعم هناك مرحلتان: مفوضتان إلى فريق من الاَُمّة لهم صلاحيّات خاصة وهما:

1 _ مرحلة التشخيص: أي استنباط الحكم الاِلهي من الكتاب والسنّة، فهي للفقهاء العدول، يبذلون جهدهم لفهم حكم اللّه واستخراجه من الاَدلّة الشرعية.

2 _ مرحلة التخطيط وتبيين برامج البلاد حسب الضوابط الاِسلامية وهي للخبراء وذوي الاِطلاع من الاَُمّة وهذا ما يصطلح عليه اليوم بالمجلس النيابي.

والفرق بين صيغة الحكومة الاِسلامية والاَنظمة البشرية الغربية والشرقية، هو أنّ سلطة التشريع بيد اللّه سبحانه فيها دون تلك الاَنظمة إذ فيها بيد وكلاء

( 510 )

الشعب فالمجلس النيابي عندهم مجلس التقنين والتشريع وعند المسلمين مجلس التخطيط والتنظيم في ضوء قوانين السماء.

2

_ السلطة التنفيذية :

المراد بالسلطة التنفيذية في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء وما يتبعها من دوائر ومديريات منتشرة في أنحاء البلاد ومهمّتها تنفيذ ما يقرره مجلس الشورى من تصميمات وقرارات ومخطّطات في شتى حقول الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي يقع على عاتقها مهمة إدارة البلاد بصورة مباشرة، لها ألوان وصيغ في الاَنظمة البشرية وأما لونها في الحكومة الاِسلامية فليس إلاّ كون السلطة _ إذا لم يكن هناك نصّ من اللّه سبحانه على شخص خاص _ موضع رضا الاَُمّة لاَنّها تتسلم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، ولولا الرضا لعاد إلى الاستبداد المبغوض عند الشرع والعقل وقد بسطنا الكلام حول السلطة التنفيذية وصلاحياتها من التخصص، والوثاقة، والزهد، والعدل، وكونها موضع رضا الاَُمّة في كتابنا: «مفاهيم القرآن» (1)

3 _ السلطة القضائية:

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، والتنازع إلى التوافق وبالتالي ينشر العدل ويصون الحقوق والحرمات، غير أنّه لا يصلح ذلك المقام إلاّ لفريق من الشعب يتمتعون بالبلوغ والعقل والاِيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم بالقانون الاِلهي والذكورة، سليم الذاكرة، وعندئذ يحقّق القاضي أهدافه السامية.

____________

(1) مفاهيم القرآن : 2 | 205 _ 210 .

( 511 )

لا استبداد في الحكومة الاِسلامية :

وما ذكرناه يوقف الاِنسان على صورة بسيطة من الحكومة الاِسلامية المتجلية في نظرية الاِمامة أو الخلافة وليس فيها أي استبداد وسلب الحريات، وأمّا تخصيص التشريع باللّه سبحانه، فلاَنّه سبحانه أعرف بمصالح عباده، ولاَنّ التقنين سلطة على الاَموال والنفوس وهي فرع وجود الولاية عليهما، ولا ولاية لاَحد على أحد إلاّ للّه سبحانه، فلاَجل ذلك خصّ التشريع به سبحانه، وأمّا المرحلتان الباقيتان أعني الاِفتاء والتخطيط، فيقوم به فريق منهم، لهم صلاحيات وقابليّات. فالاِفتاء وإن كان

رهن شروط ولكنه لا يشترط فيه رضا الاَُمّة، لاَنّه مقام علمي، يتوقف على حيازته ويكفي ثبوت الصلاحية له، اقترانه بتصديق الخبراء.

نعم التصدي للتخطيط، رهن رضا الاَُمّة وتحقيق الرضا وتجسيدها يتبع مصالح العصر وشعور الاَُمّة.

وأمّا السلطة التنفيذية، فلو كان الحاكم منصوباً من اللّه سبحانه، فهو المتبع، كما في مورد الرسول، والاِمام المنصوص بعده، وإلا فالسلطة لفريق من الاَُمّة، يتمتع بصفات وقابليات مذكورة في السنّة، أهمها كونها موضع رضا الاَُمّة، ويتجسّد رضاهم بصورة مختلفة مذكورة في محلها.

ومثلها السلطة القضائية فلا يصلح لها إلاّ فريق لهم صفات وموَهلات، وتنتهي سلطته، إلى رضا الاَُمّة الذي يتجسد بصور شتى.

نظرية الاِمامة لدى الزيدية :

إنّ المطروح لدى الزيدية من الاِمامة غير ما ذكرنا ولو كان الملاك لتبيين مذهبهم ما ذكره كتّاب العقائد من غيرهم، وابن المرتضى من أنفسهم، فنظام الاِمامة في غير مورد المنصوص عليه عندهم، أمر لا يلائم روح الكتاب والسنّة ولا

( 512 )

متطلبات العصر، لاَنّهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين (بالتنصيص السماوي) وزيد بن علي ولاِمامة كل فاطميّ دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (1)

وقال الشهرستاني: إنّهم (الزيدية) يعتبرون في نظام الاِمامة اتّباع كلّ فاطمي عالم، شجاعُ، سخي، خرج بالاِمامة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين _ عليهما السلام _ وربّما جوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة (2)

ويقول ابن المرتضى وتنعقد بالدعوة مع الكمال.

الاِمعان في كتب الزيدية حول الاِمامة أو ما حرروه بأقلامهم، يعرب عن أنّ دعائم الاِمامة عندهم ثلاثة:

1 _ الوراثة: كون الداعي فاطميّاً.

2 _ الدعوة إلى الاِمامة.

3 _ الخروج بالسيف.

ولكن باب

المناقشة فيها مفتوح.

أمّا المبدأ الاَوّل فإذا كان الاِمام منصوصاً من قبل اللّه فالمتبع أمره فاطمياً كان أو لا، وإن كان أمره سبحانه في غير الاِمام علي _ عليه السلام _ منطبقاً عليه، لكن لا بملاك كونهم فاطميين بل بملاكات خاصة أهّلتهم لاَن يكونوا أُولي الاَمر، وواجبي الطاعة قال سبحانه: "أطِيِعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الاَمر مِنكُم" (النساء _ 59) .

____________

(1) المفيد أوائل المقالات: 39، طبعة جماعة المدرسين.

(2) 2 _ الشهرستاني : الملل والنحل : 1 | 154 .

( 513 )

وإذا كان غير منصوص فاللازم كون الاِمام ذا قابليات توَهّله لاشغال منصب الاِمامة سواء أكان فاطمياً أم لا، فالاِصرار على هذا المبدأ خصوصاً فيما إذا كان غير الفاطمي أب_صر وأعلم، وأتقى وأزهد وأوقع في القلوب، غير صحيح.

ثم إنّ المبدأ الثاني والثالث يثيران الرغبة والطمع في كل فاطمي يرى نفسه عادلاً، وعالماً وشجاعاً فعند ذلك ينتهي الاَمر إلى النزاع والتشاجر وربما _ لا سمح اللّه _ إلى إراقة الدماء.

وحاصل الكلام: أنّ مكافحة الاستبداد ورفض ابتزاز أمر الاَُمّة بلا رضا منها، رهن أحد أمرين:

1 _ أن يصدر من اللّه الرحمن الرحيم على عباده، الواقف على مصالحهم ومفاسدهم، تنصيص على ولاية أحد، كالنبي الاَعظم وأئمة أهل البيت عند الشيعة.

2 _ مشاركة الشعب في بناء النظام حتى يكون مورد رضاهم بنحو من الاَنحاء ولاشيء ثالث، وإلاّ فلو لم يكن هذا ولا ذاك كثر الطالب وزادت الدعوة وربما ينتهي إلى حروب دامية، وما ذكره الاِمام يحيى بن الحسين لحسم النزاع لايفيد شيئاً حيث قال: إن تشابها في العلم فالاِمامة لاَورعهما وإن تشابها في الورع والعلم، فالاِمامة لاَزهدهما، وإن تشابها في ذلك كله فالاِمامة لاَسخاهما، وإن تشابها فلاَشجعهما، فلاَرحمهما....

إنّ ما ذكره من

الضابط لحسم مادة الخلاف لو كانت مفيدة فإنّما تفيد في رفع النزاع في إمامة المسجد، لا في رفع النزاع في الزعامة الكبرى، إذ كل يزعم أنّه، أعلم، وأورع، وأزهد، وأسخى، وأشجع، وربما يحلف عليه ويجمع الجموع...

فلاَجل ذلك المأزق الذي يواجه فكرة الاِمامة لدى الزيدية عاد المفكرون

( 514 )

من متأخّريهم إلى طرح الفكرة بشكل يلائم روح العصر ويقول أحد الكتاب:

أمّا الزيدية فلهم طريقان لاختيار الاِمام بعد المنصوص عليهم:

1 _ ترشيح الشخص العارف من نفسه، الاَهلية بواسطة منشور _ الدعوة _ يوضح فيه موجبات الدعوة وأهليّته للقيام بالاِمامة ومنهج عمله فيها.

وعند ذلك يجتمع العلماء والزعماء والمثقفون _ رجال الحل والعقد _ ويصلون لمناقشته واختياره ان كان غير معروف لديهم، ويتشاورون فيما بينهم في موضوع كفاءته ومكانته، فإذا ارتضوه بعد ذلك بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره.

2 _ يُرشِّ_ح رج_ال الح_ل والعق_د واح_داً لمن يرونه صالحاً لهذا المنصب العظيم، وإذا وافقهم على ترشيحه بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره

(1)

ولعل هذه الاَُطروحة التي قدمها الفاضل المعاصر تزيح بعض النقاش حول النظرية، ويصوّرها تصويراً هادئاً قابلاً للتجسيد كما أنّ المعلّق على البحر الزخار، طرح نظرية الاِمامة بالشكل التالي معلقاً على قول ابن المرتضى «وتنعقد بالدعوة مع الكمال» قوله: مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الاَكثرية مع عدم وجود المنازع، كل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له

(2)

إنّ ما نقلناه عن العلمين وإن كان يهوّن الخطب في مسألة الاِمامة، لكن التاريخ يشهد على أنّ السيرة جرت على سيادة من غلب، ولم يكن ترشيح الشخص، أو ترشيح رجال الحل والعقد واحداً من الصلحاء إلاّ حبراً على ورق إلاّ

____________

1 _ الزيدية نظرية وتطبيق

: 118 .

(2) ابن المرتضى : مقدمة البحر الزخار: 92 .

( 515 ) في فترات قليلة.

هذا وما ماثله أعطت حجة للوسائل الاِعلامية أن تتهجم على نظام الاِمامة بأنّه حكومة استبدادية تسلب فيها الحريات بإرادة الفرد السائس، ويرافق دائماً بالضغط على الشعب، وتثني على الجمهورية بأنّ فيها ضماناً على الحريات المعقولة ولم تزل الحرب الاِعلامية قائمة على قدم وساق تدعمها المعسكرات الغربية والشرقية المحاربة لكل نظام ديني قائم في أي قطر من أقطار العالم، إلى أن أُججّ نار الحرب المبيرة لكل رطب ويابس، في بلد فقير كاليمن التي لا تملك إلاّ جمال الطبيعة وانتهت إلى انتصار المخالفين في ظل القوات المكثفة التي كانت وراءها الجمهورية العربية المتحدة، في أيّام جمال عبد الناصر فسقط نظام الاِمامة سياسيّاً وحكومياً وإن كانت القلوب الموَمنة متنبّئة بها.

فالمرجو من اللّه سبحانه أن يوفق المسلمين لتوحيد الكلمة كما وفقهم لكلمة التوحيد، ويجمع شملهم، ويثير شعور المفكرين إلى واجبهم تجاه الحكومة الاِسلامية إنّه بذلك قدير وبالاِجابة جدير.

( 516 ) الخامس: المحاربة بين الطائفتين من الشيعة:

إنّ الزيدية والاِسماعيلية، من الفرق الشيعية، وبينهما موَتلفات ومفترقات، وقد اتفقت الطائفتان، على أنّ تحقيق القيادة الاِسلامية بعد رحيل النبي الاَعظم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ليس بالبيعة والاختيار، ولا للاَُمة فيها حظّ، ولا نصيب شأن كلّ مورد سبقت مشيئته على إرادة الاَُمّة ومشيئتها، قال سبحانه: "وَما كَانَ لِمُوَمِنٍ وَلا مُوَمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ" (الاَحزاب _ 36) بل تحقيقها بالنص من الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ على فرد من آحاد الاَُمّة وقد اتفقتا على أنَّ النصّ صدر منه في علي _ عليه السلام _ وابنيه: الحسن

والحسين _ عليهما السلام _، غير أنّ الزيدية قالت باستمرارها بعد الحسين السبط _ عليه السلام _ بالخروج والدعوة وقد تمثلت الضابطة في بادىَ بدئها بخروج الاِمام زيد، ثم ابنه يحيى وهكذا، لكن الاِسماعيلية قالت باستمرار النصّ الاِلهي بعد الحسين على إمامة زين العابدين فابنه الاِمام الباقر، فالاِمام الصادق، وبعده ابنه إسماعيل الذي هو مهدي الاَُمّة عندهم وسيوافيك تفاصيل عقائدهم في الجزء الثامن المختص بفرق الشيعة الباقية.

وطبيعة الحال كانت تقتضي سيادة الوئام والالتحام بين الفرقتين والتعايش الهادىَ في البيئات التي تحتضن كلتا الفرقتين، كاليمن الخصيب وجنوب الجزيرة كحضرموت ونجران ولكن خاب الظنُّ وخسر، لاَنّ تاريخ اليمن تاريخ دمويّ يحكي عن كون الحرب لم تزل بينهما سجالاً _ تبيد البلاد والعباد وتهلك الحرث والنسل _ قروناً كثيرة.

إنّ أئمة الزيدية وإن خرجوا بالسيف وأعلنوا الجهاد، ولكن لم يكن جهادهم مع المشركين والكافرين بل كانت مع إخوانهم الاِسماعيلية (القرامطة) وهذا هو الاِمام الهادي موَسس الدولة الزيدية في اليمن في أواخر القرن الثالث،

( 517 ) فقد قدم اليمن وقد غطتها القرامطة والباطنية فجرى له معهم نيف وثمانون وقعة (1) ثم بدت الحروب بين الطائفتين في زمن المتوكل على اللّه (المطهر بن يحيى) وبعده الاِمام يحيى بن حمزة الموَيد باللّه (669 _ 769ه_) وكان الانتصار في أغلب الوقائع مع الزيدية، وفي النهاية لم تجد الاِسماعيلية بداً من اللجوء إلى الجبال، والتحصن بها حفظاً لشوَونهم الدينية.

ومن جرّاء هذه الفتن والحروب المدمّرة، صارت حياة الطائفتين في أغلب العصور، حياة دموية تأكل الحرب أخضرهم ويابسهم وربما تشعل فتيل الحرب بين مدعيين للاِمامة من الزيدية، باعتضاد كل بقبيلته وأُسرته، وقد انتهت الخلافات القبلية إلى ظهور الجمهورية فأطاحت بالاِمامة على الاِطلاق وقالت: لا زيد ولا

عمرو، ولا إبراهيم ولا إسماعيل.

"وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنكُمْ خاصَّة" (الاَنفال _ 25) .

____________

(1) التحف شرح الزلف : 64 .

( 518 )

السادس: في الصلة بين الزيدية والمعتزلة:

كانت الصلة العلمية بين الزيدية والمعتزلة موجودة، منذ ظهرتا على صفحة الوجود، حيث إنّ كلتا الطائفتين يرون العدل والتوحيد من الاَُصول، ويكافحون الجبر والتشبيه، حتى أنّ الاِمام «مانكديم» المستطهر باللّه أحمد بن الحسين بن أبي هاشم المتوفّى عام 425ه_، تتلمذ على القاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى عام 415ه_. وكتب ما أملاه الاَُستاد، حول الاَُصول الخمسة وقد طبع بهذا الاسم ولم يخالفه إلاّ فيما يرجع إلى الاِمامة (1).

ولما قامت ملوك الغزاونة وسلاطين السلاجقة بتحريك الحنابلة والحشوية، بإبادة المعتزلة وقتلهم وتسعير النار في مكتباتهم وآثارهم وفي عقر دارهم، عمد بعض الزيدية، بنقل ما أمكن من كتبهم من العراق إلى اليمن منهم القاضي عبد السلام (550 _ 573ه_) فقد نقل المغني للقاضي عبد الجبار، والاَُصول الخمسة، وغيرهما من الآثار الكلامية لهم من العراق إلى اليمن وكانت اليمن تحتضن بها إلى أن نشرتها أخيراً البعثة العلمية المصرية بعد الفحص في مكتبات اليمن، وللزيدية فضل حفظ بعض تراث المعتزلة من الاندثار والانطماس. ولولاهم لكانت مصيرها، مصير سائر الآثار للمعتزلة. قاتل اللّه العصبية العمياء.

____________

(1) راج__ع مقدم_ة الاَُص_ول الخمس_ة بقلم محقّقها ص 29 وقد ضبط وفاة «مانكديم» سنة 425ه_. والتحف شرح الزلف: 88.

( 519 )

السابع: عصارة من رسالة أحد المعاصرين الزيديين:

إنّ السيد العلامة بدر الدين الحوثي الحسني اليماني، _ الذي زار قم وزارنا في موَسستنا، وهو الشخصية العلمية الفريدة للزيدية حالياً بعد السيد العلامة مجد الدين الموَيّدي موَلف التحف في شرح الزلف، نشر كتيباً باسم «الزيدية في اليمن» بيّن فيه ملامح مذهب الزيدية

وعقائدهم ومصادرهم الكبرى في مختلف العلوم، وقدم لها الاَُستاذ علي أحمد الرازحي وقد أهدى نسخة إلينا نقتبس منها ما يلي:

الزيدية عنوان لطائفة عظيمة من طوائف المسلمين كان لها حضورها الملموس في ميداني الفكر والبسالة تحت ظلال قائدها العظيم الاِمام زيد بن علي شهيد الحقّ والعدل والكرامة.

ولئن كان لكل طائفة معالم بارزة تتميز بها وتعرف من خلالها، فانّ للزيدية معالم بارزة يراها لها الموالف والمخالف الذي لم يُعم التعصب عين بصيرته:

أحدها: وهو أولاها: المنزلة المنيفة التي يتبوّأها العقل عندها حيث تجعله الحاكم الذي لا يتعقبه أي حاكم غيره، والحجّة التي بها استحق الاِنسان الخطاب من ربّ العالمين، ومن خلاله استوحت أُصول عقيدتها حين أقصاه الآخرون وصغروا عظيم منزلته.

ثانيهما: احترام آراء الآخرين من المخالفين لها في الاَُصول والفروع وعرضها عرضاً رفيقاً بعيداً عن أي تجريح أو تبديع أو تضليل حتى لكأنّ كتبها رياض غنّاء مما يخوِّلها أن تكون تراثاً لكل الطوائف.

الثالث: صيحتها في وجه الظلم والاستبداد، والقهر، وسحق الكرامات حين

( 520 )

تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض، وحين تغيرت وشوهت بعض مفاهيم الاِسلام الناصعة على يدي حكام متسلطين لا يمتلكون أي شرعية (1)

يقول السيد بدر الدين: إنّ الحركات العلمية ظهرت في اليمن بفضل الاِمامين الهادي وجده القاسم، وبما أنّ الزيدية لا يلتزمون التقليد للهادي بل كلَّ من تمكن من الاجتهاد، عمل بالدليل، ظهر بعض الخلافات بينهم، كما ظهر من بعضهم الميل إلى المعتزلة في غير مسألة الاِمامة وحصل من بعضهم إنكار ذلك لكن العقائد الاَُصلية الهامّة لا يظهر بينهم فيه خلاف.

ثم إنّ الموَلف أتى بأُصول عقائد الزيدية التي منها التوحيد، والعدل والنبوات وصيانة القرآن من التحريف، والاِيمان بالآخرة والبعث بعد الموت والشفاعة التي هي زيادة خير إلى خير،

لا إنقاذ أحد من النار والاِمامة التنصيصية إلى السبط الشهيد، ثم جاء دور الدعوة والخروج وتحقق بزيد الثائر ومن سار على دربه...

وقد قام الموَلف بتعريف الكتب والمصادر وقال:

وأهم كتبهم: كتب الهادي والقاسم.

منها: كتاب الاَحكام، والمنتخب والمجموعة الفاخرة التي تجمع عدّة رسائل للهادي، ومن محاسن الكتب وأنفعها كتب القاسم بن إبراهيم وهي كتب صغار بعضها في مجموع القاسم.

ومن مراجع الزيدية (في الفقه) شرح التجريد للاِمام الموَيد باللّه أحمد بن الحسين الهاروني المدفون بلنجا (2) ومن مراجعهم في علم الكلام، حقائق

____________

(1) الزيدية في اليمن، قسم المقدمة 3 _ 5.

(2) المعروف اليوم بلنگرود وقبره موجود هناك.

( 521 )

المعرفة للاِمام أحمد بن سليمان وهو من أئمة الزيدية.

ومنها: كتاب الاَساس للاِمام القاسم بن محمد وهو من أئمة الزيدية. وقد طبع الكتاب.

ومن مراجع الزيدية في الاَخير في الفقه شرح الاَزهار وحواشيه.

ومن مراجع الزيدية في الحديث ما تضمنه شرح التجريد (للهاروني) .

وكتاب أمالي أحمد بن عيسى ومجموع زيد بن علي، وأمالي أبي طالب المسمى ب_ «تيسير المطالب» ، وأمالي المرشد باللّه وكتاب الاعتصام للاِمام القاسم بن محمد.

ومن مراجعهم في التاريخ: «بلوغ الاَماني» للسيد يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد، ومن كتبهم في أسانيد الكتب بلوغ الاَماني في إسناد كتب من آل من أُنزلت عليه المثاني.

ومن كتبهم في الردّ على المخالفين: الشافي للاِمام المنصور باللّه عبد اللّه بن حمزة وهو كتاب عظيم مطبوع، وفرائد اللئالي في الردّ على المقبلي للمنصور باللّه محمد بن عبد اللّه الوزير وهو مجلد ضخم.

ومن مراجع الزيدية في أُصول الفقه: كتاب بداية العقول شرح غاية السوَال تأليف الحسين بن الاِمام القاسم بن محمد وهو مطبوع، وشرح الكافل.

ومن مراجع الزيدية في التفسير: كتاب المصابيح، تفسير الشرقي وهو كبير غير

مطبوع، ولهم موَلفات في التفسير يتعسر تحصيلها فيميل الطلاب لقراءة الكشاف.

ثم أشار السيد بدر الدين ببعض الفروع التي اتفقت فيها الزيدية مع الاِمامية وقال:

ومن مذاهبيهم في الفقه أنّ مسح الخفين لا يجزي في الوضوء، ومسح

( 522 )

الخمار لا يجزي في الوضوء، وأنّ مس الذكر لا ينقض الوضوء، ومن مذاهبهم الاَذان بحيّ على خير العمل ولا يقولون: الصلاة خير من النوم ولا يجعلون الكف على الكف في الصدر في الصلاة، ولا يوَمّنون بعد الفاتحة، وتثنية الاَذان إلاّ التهليل في آخره وكذا الاِقامة. ومن مذاهبهم الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلاة في الفاتحة وفي السورة وأنّ الصلاة جماعة لا تصح بإمامة الفاسق، ومن في حكمه، وأن لا يعتدّوا بجمعة الظلمة، وأنّ التكبير على الجنازة خمس، وأنّه لا يصلّى على الميت الفاسق، والمذهب السائد عندهم في الزكاة أنّه لا يجوز تسليمها إلى الظلمة إلاّ كرها.

ومن مذاهب الزيدية استحباب صيام يوم الشك بنية مشروطة، ومن مذاهبه أنّها لا تجب طاعة الظلمة ولا تجوز معاونتهم ولا موالاتهم، ويجب عندهم اتّباع أهل البيت _ عليهم السلام _ عملاً بحديث الثقلين: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

ومن مذاهبهم في الصحابة أن فيهم الصالحين ومنهم من غيّ_ر وبدّل، وفيهم منافقون فيجرح من ظهر فيه الجارح، ولا ينزلّون منزلة المعصومين ولا يتبعون فيهم طريقة العامّة الّذين يقدسونهم على الاِطلاق، والمذهب السائد في الزيدية هو اجتناب كتب العامّة أو عدم اعتمادها في الغالب اتّ_هاماً لكثير من رواتهم من الفئة الباغية والخوارج والدعاة إلى بدعتهم ولكنهم يأخذون منها ما يوافق الحقّ تأكيداً واحتجاجاً على المخالف،

ومنهم من يرى قبول رواية كافر التأويل وفاسق التأويل ولكن لا يعتمد على ما في تلك الكتب على حد اعتماد كتب أهل الحقّ(1)

____________

(1) الزيدية في اليمن: 14 _ 15.

( 523 )

هذا هو كلام السيد بدر الدين وهو بكلامه هذا يتفتح على الاِمامية وكان لفيف من الزيدية عبر التاريخ على هذا الطريق، رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.

"فَبَشِّرْ عِبادي * الّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أحسَنَهُ أُولئِكَ الّذِينَ هَداهُمُ اللّه وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الاَلباب" (الزمر: 17_ 18) .

( 524 )

الثامن: في طبقات رجال المذهب الزيدي :

وكما كان لكل مذهب، أعلام، فللمذهب الزيدي أيضاً أعلام منقسمة إلى الطبقات التالية:

1 _ طبقة الموَسّسين.

2 _ طبقة المخرجين.

3 _ طبقة المحصلين.

4 _ طبقة المذاكرين.

وقد اقتبسنا هذا التقسيم مما ذكره الكاتب المعاصر الزيدي علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين في كتابه: «الزيدية نظرية وتطبيق» فقد قسّم أعلام المذهب الزيدي إلى الطبقات التالية:

طبقة الموَسسين: وتساوى هذه الطبقة إمام المذهب في نظر المذاهب الاَُخرى، ومن هذه الطبقة:

1 _ الاِمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ عليهم السلام _ مات شهيداً سنة 122ه_.

2 _ الاِمام القاسم بن إبراهيم مات سنة 242ه_.

3 _ حفيده الاِمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم وهو الموَسس للمذهب في اليمن مات سنة 298ه_.

4 _ الاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الاَشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم وهو الموَسس للمذهب الزيدي في خراسان مات سنة 304ه_.

( 525 )

الطبقة الثانية: طبقة المخرجين للمذهب: وهم الذين استخرجوا من كلام الاَئمة أو احتجاجاتهم بواسطة القياس أو المفهوم، أحكاماً

لا تتعارض مع الكتاب والسنّة لا جملة ولا تفصيلاً، ومن رجال هذه الطبقة:

1 _ العلاّمة محمد بن منصور المرادي مات سنة 200ه_ ونيف وتسعين.

2 _ العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم مات سنة 353ه_.

3 _ العلامة الاِمام الموَيد باللّه أحمد بن الحسين بن هارون الحسني مات سنة 416ه_.

4 _ العلامة الاِمام أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون الحسني مات سنة 424ه_.

5 _ العلامة علي بن بلال الآملي مولى الاِمامين الموَيد باللّه وأبي طالب.

6 _ العلامة أحمد بن محمد الاَزرقي الهدوي.

والطبقة الثالثة: طبقة المحصلين: وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الاَئمة وما استخرج منها ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم، ومن رجال هذه الطبقة:

1 _ العلامة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة وهو من أتباع الموَيد باللّه.

2 _ العلامة السيد علي بن العباس بن إبراهيم راوي إجماعات أهل البيت، مات سنة 340ه_ تقريباً.

3 _ العلامة القاضي الحسن بن محمد بن أبي طاهر الرصاص، مات سنة 584 ه_.

4 _ العلامة الاِمام الحسين بن بدر الدين، مات سنة 662ه_.

( 526 )

5 _ العلامة زيد بن علي بن الحسن بن علي البيهقي، مات في تهامة في عهد الاِمام أحمد بن سليمان وهو في طريقه إلى مكّة المكرمة.

6 _ العلامة القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام البهلولي، مات سنة 573ه_.

7 _ العلامة الاِمام عبد اللّه بن حمزة، مات سنة 614ه_.

والطبقة الرابعة، طبقة المذاكرين: وهم الذين راجعوا أقوال من تقدّمهم وبلغتهم بالرواية وفحصوها سنداً ومتنا وعرضوها على أُصول المذهب وقواعده المستمدة من صرائح الكتاب والسنّة ثم أقرّوا ما توافق معها واعتبروه هو المذهب، وما لم يوافقها لم يعتبروه مذهباً للفرقة الزيدية، وكان في نظرهم

رأياً خاصاً بصاحبه غير معاب عليه لاعتبار أنّ كل مجتهد في الفروع مصيب (1) ومن رجال هذه الطبقة:

1 _ العلامة القاضي محمد بن سليمان بن أبي الرجال الصعدي، مات سنة 730ه_.

2 _ العلامة القاضي عبد اللّه بن زيد العنسي، مات سنة 667ه_.

3 _ العلامة القاضي يحيى بن حسن البحيبح، وقد عاصر الاِمام يحيى بن حمزة.

4 _ العلامة الاِمام يحيى بن حمزة، مات سنة 749ه_.

5 _ العلامة الاِمام عز الدين بن الحسن الموَيدي، مات سنة 900ه_.

6 _ العلامة القاضي محمد بن يحيى حنش، مات سنة 717ه_.

7 _ العلامه القاضي يوسف بن أحمد بن عثمان الثلاثي، مات سنة 832ه_.

____________

(1) لعله يريد: انّه مأجور وإلاّ فالحق واحد فكيف يكون الكل مصيباً.

( 527 )

8 _ العلامة الاِمام أحمد بن يحيى بن المرتضى، مات شهيداً بالطاعون سنة 840ه_.

ومعظم رجال طبقات المذهب الزيدي من العلماء المجتهدين. ولذلك فلا يصدق عليهم القول بأنّهم في مستوى طبقة مجتهدي المذهب لاَنّ هذه الطبقة لاتظهر دائماً إلاّ بين رجال المذاهب التي لا توجب الاجتهاد على المتمكن منه وليس كذلك المذهب الزيدي. وبالتجوز يمكن أن يوجد في طبقات المذهب من هو في درجة المجتهد المنتسب. أمّا الاَكثر فهم في درجة المجتهد المطلق. وقد ظهر من هوَلاء بعد طبقة المذاكرين الكثير ومنهم: الاِمام يحيى شرف الدين مات سنة 965 ه_ والاِمام القاسم بن محمد مات سنة 1029 ه_ والاِمام محمد بن إسماعيل الاَمير مات سنة 1182ه_. والاِمام عبد القادر بن أحمد عبد القادر بن الناصر شرف الدين مات سنة 1207 ه_ وغيرهم.

وكانت كل الموَلفات الزيدية لاتقتصر على ذكر القول المختار لديها، وإنّما تجمع كل الاَقوال المشهورة للاَئمة والعلماء: أي أنّها موَلفات أُممية وموسوعات لما توَلف فيه. لذلك

فالقول المختار للمذهب إنّما كان يوَخذ من أفواه المشائخ ويتناقل بالرواية، حتى جاء القاضي حسن بن أحمد الشبيبي رحمه اللّه مات سنة 1169ه_ فوضع كلمة (مذهب) في كتابه شرح الاَزهار على القول المختار للمذهب تمييزاً له عن سائر أقوال الاَئمة والعلماء الزاخر بها كتاب شرح الاَزهار المعروف واستحسن هذه العلامة سائر العلماء في عصره. ولمكانته في العلم والتقوى تلقّفها عنه الطلاب، وصارت نسخته من أهم المراجع في ذلك عند الطلاب. كما ذكره الموَلف الموَرخ السيد محمد زباره رحمه اللّه في ملحق البدر الطالع ص 68 (1)

____________

(1) علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية و تطبيق: 16 _ 18.

( 528 )

بلغ الكلام إلى هنا عشية يوم العشرين من ربيع الاَوّل من شهور عام 1316هجرية.

بقي الكلام حول الفرق الباقية من الشيعة وأهمها: الاِسماعيلية وبعدها الفطحية والواقفية والنصيرية وسنقوم _ بإذن اللّه _ بدراسة مذاهبهم في الجزء الثامن وبه تتم أجزاء هذه الموسوعة المباركة إن شاء اللّه.

تم هذا الجزء بيد موَلّفه جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين السبحاني التبريزي. وأرجو من اللّه سبحانه أن يجعله خير وسيلة للصلة بين الطائفتين المتمسكتين بالثقلين كتاب اللّه وأهل البيت آمين رب العالمين.

* * *

الجزء الثامن (اسماعيلية)

تمهيد

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين .

أما بعد فهذا هو الجزء الثامن من موسوعة «بحوث في الملل والنحل» نقدمه للقراء الكرام حول الاِسماعيلية وغيرها من الفرق الشيعية وبه تنتهي سلسلة تلك البحوث نحمده سبحانه ونشكره أنّه بذلك حقيق.

تمهيد

الاِسماعيلية فرقة من الشيعة القائلة بأنّ الاِمامة بالتنصيص من النبي أو الاِمام القائم مقامه، غير انّ هناك خلافاً بين الزيدية والاِمامية في عدد الاَئمة ومفهوم التنصيص.

فالاَئمّة المنصوصة

خلافتهم وإمامتهم بعد النبي عند الزيدية لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير الموَمنين - - عليه السّلام- - ، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين - عليهم السّلام- وبشهادة الاَخير غلقت دائرة التنصيص، وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة على تفصيل مرّ في الجزء السابع.

وأمّا الاَئمّة المنصوصون عند الاِمامية فاثنا عشر إماماً، آخرهم غائبهم، يُظهره اللّه سبحانه عندما يشاء وقد حُوِّل أمر الاَُمّة _ في زمان غيبته _ إلى الفقيه العارف بالاَحكام والسنن، والواقف على مصالح المسلمين، على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

( 4 )

وأمّا الاِسماعيلية فقد افترقت إلى فرق مختلفة:

1. القرامطة: القائلة بإمامة محمد بن إسماعيل ابن الاِمام الصادق و غيبته، ثمّ دخلت الاِمامة في كهف الاستتار.

2. الدروز: وهم يسوقون الاِمامة إلى الاِمام الحادي عشر الحاكم بأمر اللّه، ثمّ يقولون بغيبته وينتظرون ظهوره.

3. المستعلية: وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى الاِمام الثالث عشر المستنصر باللّه، ويقولون بإمامة ابنه المستعلى باللّه بعده، وهم المعروفون بالبهرة، وقد انقسمت المستعلية سنة 999ه_ إلى فرقتين: داودية وسليمانية ، سيوافيك بيانها.

4. النزارية: وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى المستنصر باللّه، ثمّ يقولون بإمامة ابنه الآخر نزار بن معد، وقد انقسمت النزارية إلى: موَمنية وقاسمية المعروفة بالآغاخانية، وسيأتي سبب الانقسام وزمانه والركب الاِمامي منقطع عن السير عند الجميع إلاّ القاسمية حيث يقولون باستمرار الاِمامة إلى العصر الحاضر.

هذا كلّه حول اختلافهم في استمرار الاِمامة، وأمّا اختلافهم مع الزيدية والاِمامية في مفهوم التنصيص، فإنّه عند الفرقتين الاَخيرتين يرجع إلى تعيين الاِمام والقائم بالاَمر باللفظ والاشهاد، بخلاف الاِسماعيلية فإنّها تنتقل عندهم من الآباء إلى الاَبناء، ويكون انتقالُها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نص من الاَب بتعيين الابن، وإذا كان للاَب عدة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة

يستطيع أن يعرف من هو الاِمام الذي وقع عليه النص. فالقول بأنّ الاِمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

وعلى كلّ تقدير فهذه الفرقة، منشقة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد الاِمام الصادق - عليه السّلام- و هي متواجدة في كثير من الاَقطار، منها: الهند، وباكستان، واليمن ونواحيها، وسوريا، ولبنان وأفغانستان، وإفريقية وإيران ونحقّق مذهبهم وفرقهم وآثارهم في ضمن فصول:

( 5 )

الفصل الاَوّل

الفصل الاَوّل

الخطوط العريضة

للمذهب الاِسماعيلي

( 6 )

( 7 )

إنّ للمذهب الاِسماعيلي آراءً وعقائداً ، ستوافيك تفاصيلها في الفصول الآتية نذكرها هنا على وجه الاِيجاز :

الاَُولى: إنتماوَهم إلى بيت الوحي والرسالة

كانت الدعوة الاِسماعيلية يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم؛ غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تُضمن لها البقاء، وتستقطب أهواءَ الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل التي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة، وكونهم من ذرية الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء - عليها السّلام- ، وكان المسلمون منذُ عهدِ الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك انّ الثورات التي نشبتْ ضدّ الاَُمويين كانت تحمل شعار حب أهل البيت - عليهم السّلام- والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الاِسماعيلية تفتخر بانتماء أئمتهم إلى النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - حتى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم، اشتهروا بالفاطميين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجة انّ الاَبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وانّتكريم ذرية الرسول - صلّى الله

عليه وآله وسلّم - تكريم له - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، فشتان مابين بيت أُسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوانه، وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم.

( 8 )

الثانية: تأويل الظواهر

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الاِسماعيلية، وهي إحدى الدعائم الاَساسية بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر، لم تتميز عن سائر الفرق الشيعية إلاّ بصَرف الاِمامة عن الاِمام الكاظم - عليه السّلام- إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الاِمامة وتصنيفها إلى أصناف، سيوافيك بيانه.

و لم يكن تأويل الظواهر أمراً مبتدعاً، بل سبقهم ثلة من المندسّين في أصحاب الاِمام الصادق - عليه السّلام- الذين طردهم الاِمام ولعنهم وحذّر شيعته من الاختلاط بهم، لصيانتهم عن التأثر بآرائهم والانجراف في متاهاتهم كأبي منصور، وأبي الخطاب، والمغيرة بن سعيد، وغيرهم من ملاحدة عصره وزنادقة زمانه.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالاَهواء والميول جعل المذهب الاِسماعيلي يتطور مع تطور الزمان، ويتكيّف بمكيفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشرع أو الضرورة الدينية.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفية

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهمّ ميزات العصر العباسي حيث كانوا يرفضون كل بحثٍ عقلي خارج عن هذا الاِطار خاصّة في عهد المنصور والرشيد، فقد طردوا حماة البحث الحرّ والانفتاح الفكري وضيّقوا عليهم.

إنّ هذه الظاهرة على خلاف الشريعة، التي تدعو إلى التفكّر والتعقّل. وكان

( 9 )

الاِمام علي - عليه السّلام- أوّل من

فتحَ باب الاَبحاث العقلية على مصراعيه وبيّن الخطوط العريضة لكثير من العقائد على ضوء البرهان والدليل.

إنّ ظاهرة الجمود في أوساط العباسيين ولّدت ردّ فعلٍ عند أئمة الاِسماعيليّة، فانجرفوا في تيارات المسائل الفلسفية وجعلوها من صميم الدين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الاِسلامية عيناً ولا أثراً.

يقول الموَرّخ الاِسماعيلي المعاصر: إنّ كلمة «إسماعيلية» كانت في بادىَ الاَمر تدل على أنّها من إحدى الفرق الشيعية المعتدلة، لكنّها صارت مع تطور الزمن حركة عقلية تدلّ على أصحاب مذاهب دينية مختلفة، وأحزاب سياسية واجتماعية متعدّدة، وآراء فلسفية وعلمية متنوعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة

ظهرت الدعوة الاِسماعيلية في ظروف ساد فيها سلطانُ العباسيين شرقَ الاَرض وغربها، ونشروا في كلّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الاَخبار _ خاصة أخبار مخالفيهم ومناوئيهم _ إلى مركز الخلافة الاِسلامية، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يكتب النجاح لكلّدعوة تقوم ضد السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارَها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة بحيث لو قورنت مع أحدث التنظيمات الحزبية العصرية، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّ_ى في هذا المضمار، وقد ابتكروا

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية :14، والموَلف سوري إسماعيلي وفي طليعة كُتّابهم.

( 10 )

أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

يقول الموَرخ الاِسماعيلي المعاصر: وبالحقيقة لم توجه أية دولة من الدول، أو فرقة من الفرق، اهتماماً خاصاً بالدعاية وتنظيمها، كما اهتمّت بها الاِسماعيلية، فجعلت منها الوسيلة الرئيسية لتحقيق نجاح الحركة في دور الستر والتخفّي،

ودور الظهور وا لبناء معاً. ولقد أحدث التخطيط الدعاوي المنظم تنظيماًعجيباً لم يسبقهم إليه أحد في العالم، وابتكرت الاَساليب المبنية على أُسس مكينة مستوحاة من عقيدتها الصميمة.

ولقد برعوا براعة لا توصف في تنظيم أجهزة الدعاية _ على قِلّة الوسائل في ذلك العصر _ واستطاعوا أن يشرفوا بسرعة فائقة على أقاصي بقاع البلدان الاِسلامية، ويتنسمون أخبار أتباعهم في الاَبعاد المتناهية.وذلك بما نظموا من أساليب وأحدثوا من وسائل. وقد كان للحمام الزاجل _ الذي برع في استخدامه دعاة الاِسماعيلية _ أثره الفعّال في تنظيم نقل الاَخبار والمراسلات السرية الهامّة.(1)

الخامسة: إضفاء طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم

شعرت الدعوة الاِسماعيلية أيام نشوئها بأنّه لا بقاء لها إلاّ إذا أضفتْ طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم بحيث توجب مخالفتهم مروقاً عن الدين وخروجاً عن طاعة الاِمام «والجدير بالاهتمام انّ الاِمام الاِسماعيلي _ والذي يعتبر رئيساً للدعوة _ جعل الدعاة من (حدود الدين) إمعاناً منه في إسباغ الفضائل عليهم ليتمكّنوا من نشر الدعوة وتوجيه الاَتباع والمريدين دونما أيّة معارضة أو مخالفة،

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:37.

( 11 )

لاَنّ مخالفتهم ومعارضتهم تعتبر بالنسبة للاِسماعيلية مروقاً عن الدين، وخروجاً عن طاعة الاِمام نفسه، لاَنّهم من صلب العقيدة وحدودها». (1)

إنّ الاِمامة تحتل عند الاِسماعيلية مركزاً مرموقاً ولها درجات ومقامات مختلفة _ سيوافيك تفصيلها في مظانها _ حتى أضحت من أبرز سمات المذهب الاِسماعيلي فهم يعتقدون بالنطقاء الستة، وانّ كلّ ناطق رسول يتلوه أئمة سبعة:

1. فآدم رسول ناطق تلته أئمة سبعة بعده.

2. فنوح رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

3. فإبراهيم رسول ناطق جاءت بعده أئمة سبعة.

4. فموسى رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

5. فعيسى رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

6. فمحمّد رسول ناطق تلته أئمة سبعة، وهم:

علي بن أبي طالب،

الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد ابن علي الباقر، جعفر بن محمد الصادق، إسماعيل بن جعفر.

وبذلك يتم دور الاَئمة السبعة ويكون التالي رسولاً ناطقاً سابعاً وناسخاً للشريعة السابقة وهو محمد بن إسماعيل وهذا ممّا يصادم عقائد جمهور المسلمين من أنّ نبيّ الاِسلام - صلّى الله عليه وآله وسلّم - هو خاتم الاَنبياء والمرسلين، وشريعته خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب.

فعند ذلك وقعت الاِسماعيلية في مأزق كبير سيوافيك تفصيله في الفصول الآتية إن شاء اللّه تعالى.

____________

1. المصدر السابق:37.

( 12 )

السادسة: تربية الفدائيين للدفاع عن المذهب

إنّ الاَقلية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيين مضحِّين بأنفسهم في سبيل الدعوة لصيانة أئمّتهم ودعاتهم من تعرض الاَعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والاِقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة، ويكلَّفون بالتضحيات الجسدية، وتنفيذ أوامر الاِمام أو نائبه، وإليك أحد النماذج المذكورة في التاريخ:

في سنة 500 هجرية فكر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يثأر لاَبيه وهاجم قلاع الاِسماعيلية ، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائييه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيين.

وفي سنة 501ه_ حوصرت قلعة «آلموت» من قبل السلطان السلجوقي واشتد الحصار عليها، فأرسل السلطان رسولاً إلى الحسن بن الصباح يطلب منه الاستسلام، ويدعوه لطاعته، فنادى الحسن أحد فدائييه وقال له: ألقي بنفسك من هذا البرج ففعل، وقال للثاني: اطعن نفسك بهذا الخنجر ففعل، فقال للرسول: اذهب وقل لمولاك إنّه لدي سبعونَ ألفاً من الرجال الاَُمناء المخلَصين أمثال هوَلاء الذين يبذلون دماءهم في سبيل عقيدتهم المثلى. (1)

وقد تفشّت هذه الظاهرة بين أوساطهم، وآل أمر الاَتباع إلى طاعة عمياء لاَئمتهم ودعاتهم في كلّ حكم

يصدر عن القيادة العامة، أو الدعاة الخاصين دون الاِفصاح عن أسبابه، وبلغ بهم الاَمر إطاعتهم لاَئمّتهم في رفع بعض الاَحكام الاِسلامية عن الجيل الاِسماعيلي بحجة انّالعصر يضاده، ويشهد على ذلك ما كتبه الموَرّخ الاِسماعيلي إذ يقول عن إمام عصره آغا خان الثالث إنّه قال: «إنّ الحجاب يتعارض والعقائد الاِسماعيلية، وإنّي أُهيب بكل إسماعيلية أن تنزع

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:263.

( 13 )

نقابَها، وتنزل إلى معترك الحياة لتساهم مساهمة فعالة في بناء الهيكل الاجتماعي والديني للطائفة الاِسماعيلية خاصّة وللعالم الاِسلامي عامة، وأن تعمل جنباً إلى جنب مع الرجل في مختلف نواحي الحياة إسوة بجميع النساء الاِسماعيليات في العالم، وآمل في زيارتي القادمة أن لا أرى أثراً للحجاب بين النساء الاِسماعيليات، وآمرك أن تبلغ ما سمعت لعموم الاِسماعيليات بدون إبطاء». (1)

السابعة: كتمان الوثائق

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنية السرية وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها التي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للاَسف الشديد انّ الاِسماعيلية كتموا وثائقهم وكتاباتهم وموَلفاتهم وكلّ شيء يعود لهم ولم يبذلوها لاَحد سواهم، فصار البحث عن الاِسماعيلية بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم انّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم، خارج عن أدب البحث النزيه.

وهذا ليس شيئاً عجيباً إنّما العجب انّ الموَرّخين المعاصرين من الاِسماعيلية واجهوا نفس هذه المشكلة منذ زمن طويل، يقول مصطفى غالب وهو من طليعة كتّاب الاِسماعيلية:«من المشاكل المستعصية التي يصعب على الموَرّخ والباحث حلّها وسبر أغوارها، وهو يستعرض تاريخ الدعوات الباطنية السرية، وتنظيماتها، حرص تلك الدعوات الشديد على كتمان وثائقهم ومصادرهم _ إلى أن يقول: _ والمعلومات التي نقدّمها للمهتمّين بالدراسات الاِسلامية

مستقاة من الوثائق والمصادر الاِسماعيلية السرية». (2)

____________

1. المصدر السابق:265، الخطاب لمن رفع السوَال إليه وهو الكاتب مصطفى غالب السوريّ.

2. المصدر نفسه: 35.

( 14 )

نعم كانت الدعوة الاِسماعيلية محفوفة بالغموض والاَسرار إلى أن جاء دور بعض المستشرقين فوقفوا على بعض تلك الوثائق ونشروها، وأوّل من طرق هذا الباب المستشرق الروسي الكبير البروفسور «ايفانوف» عضو جمعية الدراسات الاِسلامية في «بومبايي» وبعده البروفسور «لويس ماسينيون» المستشرق الفرنسي الشهير، ثمّ الدكتور «شتروطمان» الاَلماني عميد معهد الدراسات الشرقية بجامعة هامبورغ، و«مسيو هانري كوربن» أُستاذ الفلسفة الاِسلامية في جامعة طهران، والمستشرق الانكليزي «برنارد لويس».

يقول الموَرخ المعاصر: حتى سنة 1922 ميلادية كانت المكتبات في جميع أنحاء العالم فقيرة بالكتب الاِسماعيلية إلى أن قام المستشرق الاَلماني «ادوارد برون» بإنشاء مكتبة إسماعيلية ضخمة غايتها إظهار الآثار العلمية لطائفة كانت في مقدمة الطوائف الاِسلامية في الناحية الفكرية والفلسفية والعلمية، ولم يقتصر نشاط أُولئك المستشرقين عند حدود التأليف والنشر، بل تعدّاه إلى الدعاية المنتظمة سواء في المجلاّت العلمية الكبرى، كمجلة المتحف الآسيوية التي كانت تصدرها أكاديمية العلوم الروسية في مدينة «بطروسبورغ» ويشرف على تحريرها «ايفانوف» وبعض المستشرقين الروس أمثال «سامينوف» وغيره ممن دبّجوا المقالات الطوال عن العقيدة الاِسماعيلية.

ففي سنة 1918 كتب المستشرق «سامينوف» مقاله الاَوّل عن الدعوة الاِسماعيلية وقد جمعه بنفسه ونشره في مجلته كما نقل إلى اللغة الاِنكليزية عدداً ضخماً من الكتب الاِسماعيلية الموَلفة باللغتين «الكجراتية» و«الاَُوردية» _ إلى أن قال: _ لقد أحدثت تلك الدراسات الهامة ثورة فكرية وانقلاباً عكسياً في العالم الاِسلامي، حيث قام عدد من الاَساتذة المصريين بنشر الآثار الاِسماعيلية في العهود الفاطمية، فأخرجوا إلى حيّز الوجود عدداً لا بأس به من الكتب القيّمة

( 15 )

وأظهروا للعالم أجمع آثار هذه الفرقة. (1)

وبالرغم

ممّا ذكره الموَرخ المعاصر من أنّ المصريين أظهروا للعالم أجمع آثار هذه الفرقة، لكنّا نرى أنّه يعتمد في كتابه على وثائق خطية موجودة في مكتبته الخاصة، أومكتبة دعاة مذهبه في سورية، ويكشف هذا عن وجود لفيف من المصادر مخبوءة لم تر النور لحد الآن.

الثامنة: الاَئمّة المستورون

إنّ الاِسماعيلية أعطت للاِمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الاِمامة إلى رتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيات واختصاصات واسعة، وسيوافيك بيان تلك الدرجات والرتب، غير أنّ المهم هنا الاِشارة إلى تصنيفهم الاِمام إلى مستور، دخل كهف الاستتار؛ وظاهر، يملك جاهاًو سلطاناً في المجتمع.

فالاَئمّة المستورون هم الاَئمّة الاَربعة الاَوائل الذين جاءوا بعد إسماعيل، ونشروا الدعوة سراًو كتماناً، وهم:

1. محمد بن إسماعيل الملقّب ب_«الحبيب»: ولد سنة 132ه_ في المدينة المنورة، وتسلّم شوَون الاِمامة واستتر عن الاَنظار خشية وقوعه بيد الاَعداء، ولقّب بالاِمام المكتوم، لاَنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية، وتوفي عام 193ه_.

2. عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الملقّب ب_«الوفي»: ولد عام 179ه_ في مدينة محمود آباد، وتولّى الاِمامة عام 193ه_ بعد وفاة أبيه، وسكن السلْمية عام 194ه_ مصطحباً بعدد من أتباعه، وهو الذي نظم الدعوة تنظيماً دقيقاً، توفي عام 212ه_.

3. أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الملقب ب_ «التقي»: ولد عام

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:22_23.

( 16 )

198، وتولّ_ى الاِمامة عام 212ه_، سكن السلمية سراً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة، توفي فيها عام 265ه_.

4. الحسين بن أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل المقلب ب_ «الرضي»: ولد عام 212 ه_، وقيل 228ه_؛ وتولّى الاِمامة عام 265 ه_، ويقال انّه اتخذ عبد اللّه بن ميمون القداح حجة له وحجاباً عليه، توفي عام 289ه_.

والمعروف بين الاِسماعيلية انّعبيد اللّه المهدي _ الذي هاجر

إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطمية _ كان ابتداءً لعهد الاَئمّة الظاهرين الذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار .

التاسعة: انّهم عُرِّفوا بالاِسماعيلية تارة، والباطنية أُخرى، والملاحدة ثالثاً، وبالسبعية رابعاً.

قال المحقّق الطوسي: إنّما سُمُّوا بالاِسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق.

والباطنية لقولهم: كلّ ظاهر فله باطن، يكون ذلك الباطن مصدراً وذلك الظاهر مظهراً له، ولا يكون ظاهر لا باطن له إلاّ ما هو مثل السراب، ولا باطن لا ظاهر له إلاّ خيال لا أصل له.

ولقّبوا بالملاحدة لعدولهم من ظواهر الشريعة إلى بواطنها في بعض الاَحوال. (1)

وأمّا تسميتهم بالسبعية، لاَنّهم قالوا: إنّما الاَئمّة تدور على سبعة سبعة، كأيام الاَُسبوع، والسماوات السبع، والكواكب السبع. (2)فدور الاِمامة عندهم لا يتجاوز عن سبعة، ثمّ يأتي دور آخر على هذا الشكل.

____________

1. كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد:301.

2. الشهرستاني: الملل والنحل: 1|200.

( 17 )

ويقول أيضاً : قالوا الاِمام في عهد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - كان علياً - عليه السّلام- ، وبعده كان ابنه الحسن إماماً مستودعاً، وبعده الحسين إماماً مستقراً ولذلك لم تذهب الاِمامة في ذرية الحسن - عليه السّلام- ، ثمّ نزلت الاِمامة في ذرية الحسين، وانتهت بعده إلى علي ابنه، ثمّ إلى محمد ابنه، ثمّ إلى جعفر ابنه، ثمّإلى إسماعيل ابنه وهو السابع. (1)

و معنى ذلك انّ الدور تمّ بإسماعيل، وهو متم الدور، وانّ ابنه بادىَ للدور الآخر كالتالي:

1. محمد بن إسماعيل.

2. عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الملقب بالرضي.

3. أحمد بن عبد اللّه الملقب بالوفي.

4. الحسين بن أحمد الملقب بالتقي.

5. عبيد اللّه المهدي بن الحسين.

6. القائم.

7. المنصور، وبه يتم الدور ويبتدأ دور آخر بالاِمام المعز لدين اللّه.

ولو قلنا بخروج الحسن - عليه السّلام- لكونه

إماماً مستودعاً لا مستقراً يتم الدور بمحمد بن إسماعيل. ويأتي الدور الجديد، وسيوافيك تفصيله في بيان أدوار الاِمامة.

وعلى كلّتقدير فالسبعة عندهم لها مكانة خاصة، فلا يتجاوز دور الاَئمّة في تمام مراحلها عن السبعة.

العاشرة: انّ المذهب الاِسماعيلي لم يظهر على مسرح الحياة بصورة مذهب مدوّن متكامل، وإنّما أخذ بالتكامل عبر العصور، وفي ظل احتكاك الدعاة بأصحاب الحركات الباطنية أوّلاً، وأصحاب الفلسفات ثانياً.وقد ظهر في أوّل يوم

____________

1. كشف الفوائد:303، المتن.

( 18 )

نشوئه بصورة عقيدة بسيطة، وهو أنّ الاِمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل، وانّه لم يمت بل غاب ويظهر حتى يملك الاَرض وهو القائم، وهذه هي الاِسماعيلية المحضة، ولم يخالط هذه العقيدة شيء آخر.

نعم لما كان قبولها محفوفاً بغموض، فرجع بعضهم عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنّهم انّ الاِمامة كانت في أبيه، وانّالابن أحقّ بمقام الاِمامة من الاَخ.

والظاهر من الشيخ المفيد أنّ الفرقة الاَُولى انقرضت ولم يبق منهم من يومأ إليه والفرقة الباقية إلى اليوم هي الاِسماعيلية غير الخالصة. (1)ثمّ صار المذهب الواحد مذاهب متشتتة ومختلفة.و قد كان للدعاة تأثير في نضوج العقيدة الاِسماعيلية وتكاملها مع اختلاف بينهم في بعض الاَُصول فمثلاً الداعي النسفي (..._331ه_) وضع كتابه «المحصول» في فلسفة المذهب.

ثمّ جاء بعده أبو حاتم الرازي (260_ 322ه_) فوضع كتابه «الاِصلاح» وخالف فيه أقوال من سبقه.

ثمّ جاء بعده أبو يعقوب السجستاني الذي كان حيّاً سنة (360ه_) وكان أُستاذاً للكرماني فانتصر للنسفي وخالف أبا حاتم.

ثمّ جاء الكرماني (352_411ه_) فألّف كتاب «راحة العقل»، واستطاع أن يوفق بين آراء شيخه «السجستاني» وبين آراء «أبي حاتم الرازي».

أضف إلى ذلك أنّ تأويل الظواهر لا يعتمد على ضابطة فكل يوَوّلها على ذوقه وسليقته، فتجد بينهم خلافاً شديداً في

المسائل التأويلية.

الحادية عشرة: الذي ظهر لي من التتبّع في كتب الاِسماعيلية انّالفرقة المستعلية القاطنين في اليمن والهند أقرب إلى الحقّوعقائد جمهور المسلمين من

____________

1. المفيد: الاِرشاد:285.

( 19 )

النزارية، فالطبقة الاَُولى متعبّدون بالظواهر وتطبيق العمل على الشريعة بخلاف أغلب النزارية خصوصاً الدعاة المتأخرين منهم، فإنّهم يواجهون الاَحداث الطارئة والمستجدة بالتدخل في الشريعة (1) ويظهر ذلك من أبحاثنا الآتية.

وأخيراً فالمذهب الاِسماعيلي اكتنفه غموض وأحاطه إبهام، فإصابة الحقّ في جميع المراحل أمر مشكل، نستعينه سبحانه أن يوفقنا لبيان الحقّ ويحفظنا عن العثرة انّه هو المجيب.

والذي يهم الباحث هو تبيين جذور المذهب وانه كيف نشأ؟ وهل كان هناك اتصال بين الاِسماعيلية ، والحركات الباطنية التي نشأت في عصر الصادق عليه السّلام أو لا ؟ وهذا هو الذي نطرحه على طاولة البحث في الفصل القادم بعد المرور على كلمات أصحاب المعاجم في حقّهم.

____________

1. أعيان الشيعة:10|202_24.

الفصل الثاني

الفصل الثاني

الاِسماعيلية

في

معاجم الملل والنحل

( 22 )

( 23 )

إنّ للاِسماعيلية ذكراً في كتب الملل والنحل لا يتجاوز عن ذكر تاريخ إمامهم الاَوّل، إسماعيل بن جعفر الصادق، وشيء يسير عن عقيدتهم فيه، دون تبيين عقائدهم وأُصولهم التي يعتقدون بها، والاَحكام والفروع التي يصدرون عنها، وكلّ أخذ عن الآخر، وربما زاد شيئاً، لا يُسمن ولا يغني من جوع، وإليك نصوصهم:

1. قال النوبختي :فلمّ_ا توفي أبو عبد اللّه جعفر بن محمد - عليه السّلام- افترقت شيعته بعده إلى ست ف_رق _ إلى أن ق_ال: _ وفرقة زعمت أنّ الاِمام بعد جعفر بن محمد، ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لاَنّه خاف فغيّبه عنهم، وزعموا أنّ إسماعيل لا يموت حتى يملك الاَرض، ويقوم بأمر الناس، وأنّه هو

القائم، لاَنّ أباه أشار إليه بالاِمامة بعده، وقلّدهم ذلك له، وأخبرهم أنّه صاحبه؛ والاِمام لا يقول إلاّ الحقّ، فلما ظهر موته علمنا انّه قد صدَق، وانّه القائم، وانّه لم يمت، وهذه الفرقة هي «الاِسماعيلية» الخالصة. وأُمّ إسماعيل وعبد اللّه ابني جعفر بن محمد - عليه السّلام- فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليه السّلام- و أُمّها أُمُّ حبيب بنت عمر بن علي بن أبي طالب - عليه السّلام- ، وأُمّها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب - عليهم السّلام- .

وفرقة ثالثة زعمت أنّ الاِمام بعد جعفر بن محمد، محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأُمّه أُمّ ولد، وقالوا: إنّ الاَمر كان لاِسماعيل في حياة أبيه فلمّ_ا توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الاَمرَ لمحمد بن إسماعيل، وكان الحقّ له، ولا يجوز غير ذلك لاَنّها لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين عليمها السّلام ، ولا تكون

( 24 )

إلاّ في الاَعقاب، ولم يكن لاَخوي إسماعيل عبد اللّه وموسى في الاِمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية حقّمع علي بن الحسين؛ وأصحاب هذا القول يسمّون «المباركية» برئيس لهم كان يسمى (المبارك) مولى إسماعيل بن جعفر. (1)

2. قال الاَشعري: والصنف السابع عشر من الرافضة يزعمون أنّ جعفر بن محمد مات وأنّ الاِمام بعد جعفر، ابنه (إسماعيل)، وأنكروا أن يكون إسماعيل ماتَ في حياة أبيه، وقالوا: لا يموت حتى يملك، لاَنّ أباه قدكان يخبر أنّه وصيّه والاِمام بعده.

والصنف الثامن عشر من الرافضة وهم «القرامطة» يزعمون أنّ النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - نص على علي بن أبي طالب، وأنّعلياً نصّعلى إمامة ابنه (الحسن)، وانّالحسنَ ابن علي نصَّ على إمامة

أخيه الحسين بن علي ، وأنّالحسين بن علي نصّعلى إمامة ابنه علي بن الحسين، وأنّ علي بن الحسين نصّعلى إمامة ابنه محمد بن علي، ونصَّ محمد بن علي ، على إمامة ابنه جعفر، ونصّجعفر على إمامة ابن ابنه«محمد بن إسماعيل»، وزعموا أنّ «محمد بن إسماعيل» حيّ إلى اليوم لم يمت ولا يموت حتى يملك الاَرض، وأنّه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم، يخبرون فيها أنّ سابع الاَئمّة قائمهم.

والصنف التاسع عشر من الرافضة يسوقون الاِمامة من علي بن أبي طالب على سبيل ما حكينا عن «القرامطة» حتى ينتهوا (بها) إلى جعفر بن محمد، ويزعمون أنّجعفر بن محمد جعلها لاِسماعيل ابنه، دون سائر ولده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه صارت في ابنه محمد بن إسماعيل، وهذا الصنف يُدعون ، «المباركية» نُسِبوا إلى رئيس لهم يقال له (المبارك) وزعموا أنّمحمد بن إسماعيل

____________

1. النوبختي: فرق الشيعة:66_ 69، ولكلام النوبختي صلة سيوافيك عند التعرض لجذور المذهب الاِسماعيلي.

( 25 )

قد مات، وأنّها في ولده من بعده. (1)

3. وقال البغدادي: الاِسماعيلية وهوَلاء ساقوا الاِمامة إلى جعفر، وزعموا أنّ الاِمام بعده ابنه إسماعيل، وافترق هوَلاء فرقتين:

فرقة: منتظرة لاِسماعيل بن جعفر؛ مع اتّفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.

وفرقة قالت: كان الاِمام بعد جعفر، سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للاِمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه، علمنا أنّه إنّما نصبَ ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل.(2)

4. وقال الاسفرائيني: وهم يزعمون أنّ الاِمامة صارت من جعفر إلى ابنه إسماعيل، وكذّبهم في هذه المقالة جميعُ أهل التواريخ، لِما صح عندهم من موت إسماعيل قبل أبيه

جعفر؛ وقوم من هذه الطائفة يقولون بإمامة محمد بن إسماعيل. وهذا مذهب الاِسماعيلية من الباطنية. (3)

5. وقال الشهرستاني: الاِسماعيلية الواقفية قالوا: إنّ الاِمام بعد جعفر إسماعيل، نصّاً عليه باتّفاق من أولاده، إلاّ أنّهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه. فمنهم من قال: لم يمت، إلاّ أنّه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس، وعقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة.

ومنهم من قال: الموت صحيح، والنصّ لا يَرجعُ قهقرى، والفائدة في النص بقاء الاِمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيره. فالاِمام بعد إسماعيل، محمد بن إسماعيل؛ وهوَلاء يقال لهم«المباركيّة». ثمّ منهم من وقف على محمد بن

____________

1. الاَشعري: مقالات الاِسلاميين:22_27، ولكلام الاَشعري صلة سيوافيك بيانها في محلّه.

2. البغدادي: الفرق بين الفرق:62.

3. الاسفراييني: التبصير:38.

( 26 )

إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته.

و منهم من ساق الاِمامة في المستورين منهم، ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم، وهم «الباطنية».

وسنذكر مذاهبهم على الانفراد. وإنّما مذهب هذه الفرقة الوقف على إسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل. والاِسماعيلية المشهورة في الفرق منهم هم «الباطنية التعليمية» الذين لهم مقالة مفردة. (1)

6. وقال المفيد: ولما مات إسماعيلرحمه الله انصرف القول عن إمامته من كان يظن ذلك، فيعتقده من أصحاب أبيه، وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه، ولا من الرواة عنه، وكانوا من الاَباعد والاَطراف.

فلما مات الصادق - عليه السّلام- انتقل فريق منهم إلى القولِ بإمامة موسى بن جعفر عليمها السّلام ، وافترق الباقون فريقين، فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا: بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل، لظنهم أنّ الاِمامة كانت في أبيه، وأنّ الابن أحقّ بمقام الاِمامة من الاَخ.

وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل، وهم اليوم شُذّاذ لا يعرف منهم أحد يومى إليه، وهذان

الفريقان يسميان بالاِسماعيلية، والمعروف منهم الآن مَنْ يزعم أنّ الاِمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان. (2)

7. وقال صاحب الاَعيان: الاِسماعيلية هم القائلون بإمامة إسماعيل هذا، ويدل كلام المفيد (الماضي) على أنّ هذا القول كان موجوداً من عصر الصادق - عليه السّلام- ، وأنّ شِرذمة اعتقدوا حياته، أو بعد موت أبيه بقى بعضهم على القول بحياة إسماعيل، وبعضهم قال: بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل، ولقب الاِسماعيلية يعم الفريقين، وأنّ الموجود منهم في عصر المفيد من يزعم أنّ الاِمامة بعد إسماعيل

____________

1. الشهرستاني: الملل والنحل:1|167_ 168.

2. المفيد: الاِرشاد: 285.

( 27 )

في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان.

و يقال الاِسماعيلية «السبعية» أيضاً باعتبار مخالفتهم للاثني عشرية في الاِمام السابع. وفرقة من الاِسماعيلية تدعى الباطنية وكان لها ذكر مستفيض في التاريخ وصارت لها قوة، وشدّة، ووقائع عدّة مع الملوك والاَُمراء، كما فصلته كتب التاريخ.

وفي أنساب السمعاني: «الفرقة الاِسماعيلية جماعة من الباطنية ينتسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، لانتساب زعيمهم المغربي إلى محمد بن إسماعيل. وفي كتاب الشجرة انّه لم يعقب (انتهى).

و «الاِسماعيلية » اليوم فرقتان: إحداهما:

الآغاخانية

يسوقون الاِمامة في ذرية إسماعيل، ويعدّون فيهم جملة من خلفاء مصر، حتى ينتهوا إلى محمد شاه (الآغاخان الثالث) الموجود اليوم في بمبيَ، ويبعثون إليه بخمس أموالهم، ومنهم الذين بسلْمية من بلاد حَماة.

والفرقة الثانية: البُهْرَة

بضم الباء وسكون الهاء وفتح الراء، لفظ هندي، معناه الجدّ والعمل، وهم يسوقون الاِمامة في ولد إسماعيل، حتى ينتهوا إلى شخص يقولون: إنّه المهدي المنتظر، وإنّه غائب. (1)

____________

1. الاَولى أن يقال: هم يسوقون الاِمامة بعد المستنصر، إلى المستعلي، فالآمر بأحكام اللّه، فالحافظ لدين اللّه، فالظافر لدين اللّه، فالظاهر بأمر اللّه، فالفائز، فالعاضد، عند ذلك دخلت الدعوة

المستعلية في كهف الاستتار بل دخلت بعد وفاة الآمر بأحكام اللّه، وهوَلاء الاَئمة الاَربعة كانت دعاة، لاَنّ الاَمر بأحكام اللّه مات بلا عقب وربما يقال ولد له باسم الطيب،و ثالثة بأنّ المولود كان أُنثى.

( 28 )

أمّا الذي يطلقون عليه اسم سلطان البهرة فالظاهر أنّه من قبيل النائب عن الاِمام الغائب، ويبلغ عدد البهرة في الهند واليمن وغيرها نحو أربعمائة ألف، وهم أهل جدّ وكسب، ولا يوجد بينهم فقير، والفقير منهم يُوجِدون له عملاً من تجارة أو غيرها يكتفي به، ولهم ملاجىَ وتكايا عامة في البلاد التي يقصدونها للحج والزيارة، في مكّة، والمدينة، والنجف، وكربلاء، وغيرها.وهي مبانٍ تامة المرافق يَنزلونها ولا يحتاجون إلى النزول في فندق أو خلافه، وهم متمسكون بشرائع الدين. وكان خلفاء مصر الفاطميون على مذهب الاِسماعيلية، القائلين بانتقال الاِمامة من الصادق - عليه السّلام- إلى ولده إسماعيل، ثمّ في أولاده، وكانوا يقيمون شعائر الاِسلام، ويحافظون على أحكامه، وما كان يذمهم أو بعضهم بعض الموَرّخين إلاّ للعداوة المذهبية، ولا يمكن التصديق بما ينسبه بعض الموَرّخين إلى بعضهم، بعد تأصّل العداوة المذهبية في النفوس، كما أنّ جماعة من أهل هذا العصر يخلطون بين الفريقين جهلاً أو تجاهلاً. (1)

***

هذه الاَقوال والآراء فيهم، توقفنا على أنّالقومَ لم يكن لهم موقف واحد تجاه سوق الاِمامة بعد وفاة الاِمام الصادق - عليه السّلام- .

فمنهم من أنكر الواضحات، وقال: بأنّ إسماعيل لم يمت، وإنّه القائم، وهذه هي الاِسماعيلية الخالصة. (2)

وأمّا اشهاد الاِمام على موته فلم يكن إلاّ إظهاراً لموته تقيةً من خلفاء بني العباس، وأنّه عقد محضراً، وأشهدَعليه عامل المنصور بالمدينة. (3)

وهذه الطائفة لا تسوق الاِمامة بعد إسماعيل إلى غيره، وإنّما تنتظر خروج

____________

1. السيد الاَمين: أعيان الشيعة:3|316.

2. النوبختي: فرق الشيعة:

60.

3. الشهرستاني: الملل والنحل: 1|167.

( 29 )

قائمهم.

ومنهم من قال: إنّ موته صحيح، وإنّ الاِمام الصادق لَمّا نصّ على إمامته، والنص لا يرجع قهقرى، ففائدة النص بقاء الاِمامة في أولاد المنص_وص عليه دون غيرهم، فالاِمام بعد إسماعيل، محمد بن إسماعيل، ثمّ إنّ هذه الطائف__ة على رأيين:

فمنهم: من وقف على محمد بن إسماعيل، وقال: برجعته بعد غيبته؛ وهوَلاء القرامطة.

ومنهم: من ساق الاِمامة في المستورين منهم، ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم.

وقد سبقت الاِشارة إلى نص الشيخ المفيد،و أنّه لا يعرف من الواقفين على إسماعيل، أو ابنه محمد المنتظرين لرجعته أحداً؛ والمعروف هو سوق الاِمامة في ولد إسماعيل إلى آخر الزمان.

و سيوافيك الكلام في الاَئمة المستورين والظاهرين إن شاء اللّه.

هذا ما وقفنا عليه في معاجم الملل والنحل وهو _ كما ترى _ لا يغني الباحث ، فليس فيها شيء من أُصولهم وعقائدهم، ولا من فروعهم، وثوراتهم، ودولهم، وحضارتهم، وكتبهم وآثارهم العلمية.

والمهم في المقام هو دراسة جذور المذهب وانّه كيف نشأ وهذا ما سنبحث عنه في الفصل القادم إن شاء اللّه.

( 30 )

( 31 )

الفصل الثالث

الفصل الثالث

الحركات الباطنية

في

عصر الاِمام الصادق - عليه السّلام-

( 32 )

( 33 )

من المشاكل التي واجهت أئمّة أهل البيت - عليهم السّلام- هي الحركات الباطنية التي تزعّمها الموالي والعناصر المستسلمة، المندسَّة بين أصحاب أئمة أهل البيت - عليهم السّلام- في عصر الصادقين عليمها السّلام .

فقد سنحت الظروف للاِمام الباقر والصادقعليمها السّلام أن يوَسّسا جامعة إسلامية كبيرة دامت نصف قرن كان لها صدى كبير في العالم الاِسلامي، فقاما بتربية نخبة من الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين البارزين، وحفظا بذلك السنّة النبوية من الاندثار بعدما كان التحدّث بها وكتابتها أمراً محظوراً أو مكروهاً إلى عهد الخليفة العباسي المنصور الدوانيقي.

فأضحت

تلك الجامعة شوكة في أعين خصومها،فقامت ثلة من العناصر الدخيلة بالانخراط في صفوف أصحاب الاَئمّة بغية التخريب والتضليل، وتشويه سمعة أئمّة أهل البيت - عليهم السّلام- أوّلاً، وهدم كيان الاِسلام ثانياً. وقد شكَّلت تلك العناصر فيما بعد اللبنة الاَُولى للحركات الباطنية التي جرّت الويلات على الاِسلام والمسلمين، فاتخذ الاِمام الصادق - عليه السّلام- موقفاً حازماً أمامها تجنباً لاَخطارها، فأعلن للملاَ الاِسلامي براءته من تلك الفئات المنحرفة عن الدين والاِسلام وتكفيرها وانّ عاقبتها النار.

و من جملة الذين أبدعوا الحركات الباطنية وأغروا جماعة من شيعة أئمّة أهل البيت - عليهم السّلام- هو محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الاَسدي، وزملاوَه، نظير: المغيرة بن سعيد، وبشار الشعيري وغيرهم، فقد تبرّأ منهم الاِمام - عليه السّلام- على روَوس الاَشهاد. ونركز البحث هنا على رئيس الفرقة الباطنية ، أعني: أبا زينب محمد بن مقلاص الاَسدي.

( 34 )

ولعرض صورة صحيحة عن عقائد الخطابية، نأتي بنصوص علماء الفريقين ليتبين من خلالها جذور الدعوة الاِسماعيلية ، وانّها ليست سوى استمراراً لتلك الحركة الباطنية التي تزعّمها أبو زينب:

1. الكشي والخطابية

إنّ الكشي أحد الرجاليين الذي عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، ووضع كتابه في الرجال على أساس الروايات المروية عن أئمة أهل البيت في حقّ الرواة، فقال ما هذا نصّه:

1. روى أبو أُسامة قال: قال رجل لاَبي عبد اللّه - عليه السّلام- :أُوَخر المغرب حتى تستبين النجوم؟ فقال: «خطابية؟! انّ جبرئيل أنزلها على رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - حين سقط القرص».

2. كتب أبو عبد اللّه إلى أبي الخطاب: «بلغني أنّك تزعم أنّالزنا رجل، وأنّ الخمر رجل، وأنّ الصلاة رجل، والصيام رجل، والفواحش رجل، وليس هو كما تقول، أنا أصل

الحقّ وفروع الحقّ طاعة اللّه، وعدونا أصل الشر وفروعهم الفواحش، وكيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع؟»

3. قيل للاِمام الصادق - عليه السّلام- روي عنكم أنّ الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام رجال، فقال: «ما كان اللّه عزّ وجلّ ليخاطب خلقه بمالا يعلمون».

4. روى أبو بصير قال: قال لي أبو عبد اللّه - عليه السّلام- :«يا أبا محمد: أبرأ ممّن يزعم انّا أرباب» قلت: برىَ اللّه منه، فقال: «أبرأ ممّن زعم أنّا أنبياء» قلت: برىَ اللّه منه.

5. روى عبد الصمد بن بشير عن مصادف قال: ما لبّى القوم الذين لبّوا بالكوفة _ أي قالوا: لبيك جعفر، وهوَلاء هم الغلاة فيه _ دخلت علي أبي عبد اللّه - عليه السّلام- فأخبرته بذلك، فخرّ ساجداً ودق جوَجوَه بالاَرض وبكى _ إلى أن قال:_ فندمت على إخباري إيّاه، فقلت: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا، فق_ال:

( 35 )

«إنّ عيسى لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لكان حقاً على اللّه أن يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكت عمّا قال فيّ أبو الخطاب لكان حقاً على اللّه أن يصم سمعي ويعمي بصري».

6.روى علي بن حسان عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه، قال: ذكر عنده جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطاب فقيل انّه صار إلى ببروذ، وقال فيهم وهو الذي في السماء إله وفي الاَرض إله قال هو الاِمام، فقال أبو عبد اللّه - عليه السّلام- :«لا واللّه لا يأويني وإياه سقف بيت أبداً، هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، واللّه ما صغر عظمة اللّه تصغيرهم شيئاً قط، وانّ عزيراً جال في صدره ما قالت اليهود فمحا اللّه اسمه من النبوة».

7. روى

الحسن الوشاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «من قال بأنّنا أنبياء اللّه، فعليه لعنة اللّه».

8. روى ابن مسكان عمّن حدّثه عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: سمعته يقول: «لعن اللّه من قال فينا مالا نقوله في أنفسنا، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا».

9. عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: قلت لاَبي عبد اللّه: إنّ قوماً يزعمون انّكم آلهة يتلون علينا بذلك قرآناً: يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم، قال: «يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هوَلاء براء، برىَ اللّه منهم ورسوله ما هوَلاء على ديني ودين آبائي». (1)

فلما نهض أبو الخطاب بدعوته الفاسدة، ووصلت إلى مسامع عامل الخليفة دعا عيسى بن موسى للقضاء عليها واجتثاث جذورها.

____________

1. الروايات مأخوذة من رجال الكشي: 246_260، موَسسة الاَعلمي، بيروت. ولاحظ الوسائل، الجزء 3 الباب 18 من أبواب المواقيت، فقد جاءت فيه روايات تذم عمل أبي الخطاب وتحذر الشيعة من اتباعه.

( 36 )

10. كان سالم من أصحاب أبي الخطاب، وكان في المسجد يوم بعث عيسى ابن موسى بن علي بن عبد اللّه بن العباس _ وكان عامل المنصور على الكوفة _ إلى أبي الخطاب لمّا بلغه انّهم أظهروا الاِباحات، ودعوا الناس إلى نبوة أبي الخطاب، وانّهم يجتمعون في المسجد ولزموا الاَساطين يرون الناس انّهم قد لزموها للعبادة، وبعث إليهم رجلاً فقتلهم جميعاً لم يفلت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى يعدّ فيهم، فلمّا جنّه الليل خرج من بينهم فتخلص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبي خديجة. (1)

هذه نصوص عشرة توقفك

على جلية الحال، وانّ الحركة الباطنية أُسست بيد الخطابية، وسيظهر انّ أتباع أبي زينب تحولوا فيما بعد إلى جانب محمد بن إسماعيل ووجدوه مرتعاً خصباً، عندها تألّق نجم ابن إسماعيل بعد انتمائهم له.

هذه الروايات التي رواها الكشي تعرب عن وجود القول بالاِلوهية والمقامات الغيبية للاَئمّة حتى انّ الحلول في الاَئمّة كان من نتاج أفكار أبي زينب وأصحابه في أواسط القرن الثاني،حتّى طردهم الاِمام الصادق ولعنهم وتبرّأ منهم، ونهى أصحابه عن مخالطتهم.

2. الاَشعري والخطابية

وليس الكشي ممّن انفرد في نقل تلك العقائد، فقد نسبها إليهم الاَشعري أيضاً في «مقالات الاِسلاميين» وذكر ما هذا نصه:

الخطابية على خمس فرق: كلّهم يزعمون انّ الاَئمة أنبياء محدَّثون، ورسل اللّه وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان: واحد ناطق والآخر صامت، فالناطق محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، والصامت علي بن أبي طالب، فهم في الاَرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق، يعلمون ما كان، و ما هو كائن، وزعموا أنّ أبا الخطاب

____________

1. رجال الكشي:301.وقد اقتصرنا من الكثير بالقليل، ومن أراد التفصيل فليرجع إليه.

( 37 )

نبي، وانّ أُولئك الرسل فرضوا عليهم طاعة أبي الخطاب، وقالوا: الاَئمة آلهة، وقالوا في أنفسهم مثل ذلك، وقالوا: ولد الحسين أبناء اللّه وأحباوَه، ثمّ قالوا ذلك في أنفسهم، وتأوّلوا قول اللّه تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ" (1) قالوا: فهو آدم ونحن ولده، وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنّه إله، وزعموا أنّ جعفر بن محمد إلههم أيضاً إلاّ أنّ أبا الخطاب أعظم منه، وأعظم من عليّ، وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة، وهم يتديّنون بشهادة الزور لموافقيهم.

والفرقة الثانية من «الخطابية»: وهي الفرقة السابعة

من الغالية يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له«معمر» وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب، وزعموا أنّ الدنيا لا تفنى، وانّ الجنّة ما يصيب الناس من الخير والنعمة والعافية، وانّ النار ما يصيب الناس من خلاف ذلك، وقالوا بالتناسخ، وانّهم لا يموتون، ولكن يرفعون بأبدانهم إلى الملكوت، وتوضع للناس أجساد شبه أجسادهم، واستحلوا الخمر والزنا واستحلوا سائر المحرمات، ودانوا بترك الصلاة، وهم يُسمّون «المعمرية» ويقال انّهم يسمّون «العمومية».

والفرقة الثالثة من «الخطابية»: وهي الثامنة من الغالية يقال لهم«البزيغية» أصحاب «بزيغ بن موسى» يزعمون أنّ جعفر بن محمد هو اللّه، وأنّه ليس بالذي يرون، وأنّه تشبّه للناس بهذه الصورة، وزعموا أنّ كلّ ما يحدث في قلوبهم وحي، وأنّ كلّ موَمن يوحى إليه وتأوّلوا في ذلك قوله تعالى:"وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّبِإِذْنِ اللّهِ" (2) أي بوحي من اللّه، وقوله:"وَ أَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" . (3) "إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوارِيّين" (4) وزعموا أنّ منهم من هو خير من جبريل وميكائيل

____________

1. ص:72.

2. آل عمران:145.

3. النحل:68.

4. المائدة:111.

( 38 )

ومحمد، وزعموا أنّه لا يموتُ منهم أحد، وأنّ أحدهم إذا بلغت عبادَته رُفع إلى الملكوت، وادّعوا معاينة أمواتهم، وزعموا أنّهم يرونَهم بكرة وعشية.

والفرقة الرابعة من «الخطابية»: وهي التاسعة من الغالية يقال لهم«العميرية» أصحاب «عمير بن بيان العجلي» وهذه الفرقة تكذِّب من قال منهم انّهم لا يموتون، ويزعمون أنّهم يموتون، ولا يزال خلف منهم في الاَرض أئمّة أنبياء، وعبدوا جعفراً كما عبده «اليعمريون»، وزعموا أنّه ربهم، وقد كانوا ضربوا خيمة في كناسة الكوفة، ثم اجتمعوا إلى عبادة جعفر، فأخذ يزيد بن عمر ابن هبيرة ، «عمير بن البيان» فقتله في الكناسة، وحبس بعضهم.

والفرقة الخامسة من «الخطابية»: وهي العاشرة من الغالية يقال

لهم «المفضلية» لاَنّ رئيسهم كان صيرفياً يقال له «المفضّل» يقولون بربوبية جعفر، كما قال غيرهم من أصناف الخطابية، وانتحلوا النبوة والرسالة وإنّما خالفوا في البراءة من «أبي الخطاب» لاَنّ جعفراً أظهر البراءة منه. (1)

3. النوبختي والخطابية

وقد ذكر النوبختي فرقهم، وأضاف: إنّ الخطابية هم الذين خرجوا في حياة أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليمها السّلام فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد اللّه بن العباس، وكان عاملاً على الكوفة، فبلغه عنهم أنّهم أظهروا الاِباحات، ودعوا إلى نبوة أبي الخطاب، وأنّهم مجتمعون في مسجد الكوفة، فبعث إليه فحاربوه وامتنعوا عليه، وكانوا سبعين رجلاً، فقتلهم جميعاً، فلم يفلت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات فعدّ في القتلى، فتخلّص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقّب بأبي خديجة وكان يزعم أنّه مات فرجع، فحاربوا عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين، لاَنّهم جعلوا القصب مكان الرماح.

____________

1. الاَشعري: مقالات الاِسلاميين:10_ 13.

( 39 )

وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإنّ قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضرّكم ولا تخلّ فيكم، فقدّمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلمّا قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً، قالوا له: ما ترى ما يحل بنا من القوم وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يُوَثر، وقد عمل سلاحهم فينا وقُتل من ترى منهم، فذكر لهم ما رواه العامة أنّه قال لهم: إن كان قد بدا للّه فيكم فما ذنبي، وقال لهم ما رواه الشيعة: يا قوم قد بُليتم وامتحنتم وأُذن في قتلكم، فقاتلوا على دينكم وأحسابكم، ولا تعطوا بلدتكم، فتذلّوا مع أنّكم لا تتخلصون من القتل فموتوا كراماً، فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخرهم، وأُسر أبوالخطاب فأُتي به عيسى بن موسى فقتله في دار

الرزق على شاطىَ الفرات، وصلب مع جماعة منهم، ثمّ أمر بإحراقه فأُحرقوا، وبعث بروَوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثمّ أُحرقت. (1)

4. الطبري والحركات الباطنية

يظهر ممّا رواه الطبري في تاريخه وابن الجوزي في منتظمه تفشّي هذا النوع من الاِلحاد عند غير الخطابية أيضاً، وإليك نص ابن الجوزي في هذا المقام:

خروج الراوندية، وهم قوم من أهل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم، إلاّ أنّهم يقولون بتناسخ الاَرواح، ويدّعون أنّ روح آدم - عليه السّلام- في عثمان بن نهيك، وأنّ ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأنّالهيثم بن معاوية جبرائيل.

وهوَلاء طائفة من الباطنية يسمّون السبعية يقولون: الاَرضون سبع، والسماوات سبع، والاَُسبوع سبعة يدل على أنّ دور الاَئمّة يتم بسبعة. فعدوا: العباس، ثمّ ابنه عبد اللّه، ثمّابنه علي، ثمّمحمد بن علي، ثمّإبراهيم، ثمّالسفاح،

____________

1. النوبختي:فرق الشيعة:69_70.

( 40 )

ثمّالمنصور، فقالوا: هو السابع. وكانوا يطوفون حول قصر المنصور ويقولون: هذا قصر ربنا.

فأرسل المنصور، فحبس منهم مائتين _ وكانوا ستمائة _ فغضب أصحابهم الباقون ودخلوا السجن، فأخرجوهم وقصدوا نحو المنصور، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة، وخرج المنصور ماشياً ولم يكن عنده دابة، فمن ذلك الوقت ارتبط فرساً، فسمى: فرس النوبة، يكون معه في قصره، فأتى بدابة فركبها وجاء معن بن زائدة فرمى بنفسه وقال: أُنشدك اللّه يا أمير الموَمنين إلاّ رجعت، فإنّي أخاف عليك. فلم يقبل وخرج، فاجتمع إليه الناس، وجاء عثمان بن نهيك فكلّمهم، فرموه بنشابة وكانت سبب هلاكه، ثمّ حمل الناس عليهم فقتلوهم، وكان ذلك في المدينة الهاشمية بالكوفة في سنة إحدى وأربعين. (1)

تحول الخطابية إلى الاِسماعيلية

إنّ الخطابية بعد قتل زعيمهم توجهوا إلى محمد بن إسماعيل، وقد كان بعض الضالين يوَم والده إسماعيل بن

جعفر، ولكن الاِمام الصادق - عليه السّلام- آيسه من إضلاله.

روى الكشي عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول للمفضل بن عمر الجعفي:«يا كافر، يا مشرك مالك ولاِبني» _ يعني : إسماعيل بن جعفر _ وكان منقطعاً إليه يقول فيه مع الخطابية، ثمّ رجع عنه. (2)

والذي يدل على أنّ المذهب الاِسماعيلي نشأ وترعرع في أحضان الخطابية، وإن لم يتبنى كل ما تبنّته الخطابية، هي النصوص التاريخية التي سنتلوها عليك واحداً تلو الآخر:

____________

1. ابن الجوزي: المنتظم: 8|29_30، تاريخ الطبري: 6|147_ 148.

2. الكشي: الرجال: 321 برقم 581، في ترجمة المفضل بن عمر .

( 41 )

1. قال النوبختي: ثمّخرج _ بعد قتل أبي الخطاب _ من قال بمقالته من أهل الكوفةو غيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبي الخطاب، فقالوا بإمامته وأقاموا عليها.

و صنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة، إلى أن قال: فقالت فرقة منهم إنّ روح جعفر بن محمد جعلت في أبي الخطاب، ثمّ تحوّلت بعد غيبة أبي الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممّن قال بهذه المقالة تسمّى القرامطة. (1)

2. إنّ تقسيم الاِمام إلى صامت وناطق من صميم عقائد الاِسماعيلية، ونرى نفس ذلك التقسيم لدى الخطابية، وقد مر تصريح الاَشعري بذلك حينما قال:

منهم رسولان: واحد ناطق، والآخر صامت؛ فالناطق محمد، والصامت علي ابن أبي طالب. (2)

و يذكر ذلك التقسيم أيضاً البغدادي عند ذكره للخطابية حيث قال:

وأتباعه كانوا يقولون ينبغي أن يكون في كلّ وقت إمام ناطق وآخر ساكت، والاَئمّة يكونون آلهة، ويعرفون الغيب، ويقولون انّ علياً في وقت النبي صامتاً، وكان النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ناطقاً، ثمّ صار علي بعده

ناطقاً. وهكذا يقولون في الاَئمة بعد أن انتهى الاَمر إلى جعفر ، وكان أبو الخطاب في وقته إماماً صامتاً وصار بعده ناطقاً.(3)

3. قال المقريزي: إنّ أتباع أبي الخطاب متفقون على أنّ الاَئمّة مثل علي وأولاده كلّهم أنبياء، وإنّه لابدّ من رسولين لكلّ أُمّة أحدهما ناطق والآخر صامت،

____________

1. النوبختي: فرق الشيعة: 71.

2. مقالات الاِسلاميين:10.

3. البغدادي: الفرق بين الفرق:247_ 248.

( 42 )

فكان محمد ناطقاً وعلي صامتاً، وإنّ جعفر بن محمد الصادق - عليه السّلام- كان نبياً، ثمّ انتقلت النبوة إلى أبي الخطاب. (1)

4. قد وقفت على ما نقلناه عن الكشي من أنّ الخطابية كانت توَوّل الآيات إلى مفاهيم غير مفهومة من ظواهر الآيات، حتى أنّه أوّل الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام بأنّها رجال، فلما بلغ التأويل إلى الاِمام الصادق - عليه السّلام- فقال رداً عليه:«ما كان اللّه عزّوجلّ ليخاطب خلقه بمالا يعلمون». (2)

ومن الواضح أنّ الاِسماعيلية وضعت لكلّ ظاهر باطناً، واتخذت من التأويل ركناً أساسياً لها.

كما وذكر الشهرستاني والمقريزي شيئاً من تأويلات الخطابية. (3)

قال الشهرستاني: زعم أبو الخطاب أنّ الاَئمّة أنبياء ثمّ آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية آبائه وهم أبناء اللّه وأحباوَه. وا لاِلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الاِمامة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والاَنوار. وزعم أنّ جعفراً هو الاِله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه، ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها، ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته، قتله بسبخة الكوفة. (4)

وقد عرفت أيضاً شيئاً من تأويلاتهم في كلام الكشي.

و من خلال استعراض تلك النصوص نخرج بهذه النتيجة انّ حقيقة التطرّف المشاهد في المذهب الاِسماعيلي طرأت عليه من قبل أصحاب أبي الخطاب

الذين استغلوا إمامة محمد بن إسماعيل لبث آرائهم.

____________

1. المقريزي: الخطط:2|352.

2. الكشي: ترجمة ابن الخطاب، برقم 135.

3. الشهرستاني: الملل والنحل:1|159؛ المقريزي: الخطط:2|252.

4. الشهرستاني: الملل والنحل:1|159؛ المقريزي: الخطط:2|252.

( 43 )

إنّ للمذهب الاِسماعيلي دعائم ثلاث:

الاَوّل: التمسك بالتأويل، والقول بأنّ لكلّ ظاهر باطناً.

الثاني: أخذ الفلسفة اليونانية، بأبعادها المختلفة في الاِلهيات والطبيعيات والفلكيات سناداً وعماداً للمذهب كما سيظهر.

الثالث: الغلو في حقّ أئمّتهم وتزويدهم بصلاحيات واختصاصات واسعة لا دليل عليها من العقل ولا الشرع . (1)

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ الاِسماعيلية كانت فرقة واحدة، فانشقت إلى: قرامطة ودروز، وبهرة، ونزارية وسيوافيك تفصيلها في الفصول الآتية.

____________

1. تقدّم الكلام في ذلك تفصيلاً في الفصل الاَوّل.

الفصل الرابع : عبد الله بن ميمون القدّاح

اشاره

الفصل الرابع : عبد الله بن ميمون القدّاح إسماعيلي أو اثنا عشري؟

عبد اللّه بن ميمون القداح إسماعيلي أو اثنا

عبد اللّه بن ميمون القداح إسماعيلي أو اثنا عشري ؟

( 46 )

( 47 )

إنّ عبد اللّه بن ميمون القدّاح (190_270ه_) من أقطاب الدعوة الاِسماعيلية،و سيوافيك نصوص الرجاليين في حقّه، غير انّا نركز في هذا المقام على أنّ عبد اللّه بن ميمون الاِسماعيلي غير عبد اللّه بن ميمون الاثني عشري، فهما شخصان، لا شخص واحد، فنقول:

إنّ عبد اللّه بن ميمون القداح أحد رواة الشيعة، المعروفين بالوثاقة، وقد روى زهاء ستين رواية عن أئمة أهل البيت في مختلف الاَبواب الفقهية، فتارة عن الصادق - عليه السّلام- مباشرة، وأُخرى عن الباقر وعلي بن أبي طالب بالواسطة، ولم نر في كتب الرجال الشيعية أي غموض في سيرته إلاّالشيء اليسير من اتهامه بالتزيّد.

وأمّا أبوه فقد صحب أئمّة ثلاثة هم: زين العابدين علي بن الحسين عليمها السّلام و الاِمام الباقر محمد بن علي عليمها السّلام والاِمام الصادق جعفر بن محمد عليمها السّلام ، ولم يذكر له توثيق.

هذا من جانب ومن جانب آخر يحدّثنا كتّاب المقالات انّ عبد اللّه بن ميمون القداح وأبوه قد انضما إلى الحركة الباطنية وتحرّكا في رقعة كبيرة من العالم الاِسلامي بين الكوفة والمغرب.

كلُّ ذلك ممّا يجعل الباحث في حيرة من أمرهما، ولكن الحقّ انّما ذكرته كتب الرجال عن شخصية عبد اللّه بن ميمون وأبيه تختلف ماهويَّة عمّا ذكره أصحاب المقالات له ولاَبيه، وإنّما حصل الخلط للاشتراك في التسمية، ولا يتجلّى ذلك بوضوح إلاّبعد الوقوف على نصوص كلّ منها.

إنّ مقارنة النصوص لدليل واضح على تعدد المسمّيين ولنذكر نصوص الرجاليين من الشيعة أوّلاً.

( 48 )

عبد اللّه بن ميمون الاِمامي في كتب الرجال

عبد اللّه بن ميمون الاِمامي في كتب الرجال

قال البرقي في فصل أصحاب الاِمام الصادق - عليه السّلام- :عبد اللّه بن ميمون القداح، مولى بني

مخزوم، كان يبري القداح. (1)

وقال الكشي: عبد اللّه بن ميمون القداح المكي، قال حدثني حمدويه، عن أيّوب بن نوح، عن جعفر بن يحيى، عن أبي خالد، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي جعفر - عليه السّلام- قال: «يا ابن ميمون كم أنتم بمكة؟» قلت: نحن أربعة، قال: «أما إنّكم نور في ظلمات الاَرض». (2)

وقال النجاشي: عبد اللّه بن ميمون بن الاَسود القداح مولى بني مخزوم يبري القداح، روى أبوه عن: أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليمها السّلام ، وروى هو عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- ، وكان ثقة. له كتب، منها: كتاب «مبعث النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأخباره»، وكتاب «صفة الجنة والنار» ثمّ ذكر سنده إلى كتبه. (3)

وقال الشيخ الطوسي: عبد اللّه بن ميمون القداح له كتاب، ثمّ ذكر سنده إلى كتابه. (4)

وقال الشيخ أيضاً: عبد اللّه بن ميمون القداح المكي، كان يبري القداح، مولى بني مخزوم. (5)

وذكر أباه في أصحاب علي بن الحسين عليمها السّلام (6)وذكره أيضاً في

____________

1. رجال البرقي:22، طبعة جامعة طهران.

2. الكشي: الرجال: برقم 124، وقد أتى بنفس النص تحت رقم 247.

3. النجاشي: الرجال: برقم555.

4. الطوسي: الفهرست:129برقم 443.

5. الفهرست: أصحاب الاِمام الصادق، باب العين برقم 40.

6. الرجال: أصحاب علي بن الحسين، باب الميم، برقم 10.

( 49 )

أصحاب الاِمام الباقر، وقال: ميمون القداح مولى بني مخزوم مكي. (1)

هذا ما في كتب الشيعة، وأمّا الكتب الرجالية لاَهل السنة، فقد ذكره ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال: عبد اللّه بن ميمون بن داود القداح المخزومي، مولاهم المكي.

روى عن: جعفر بن محمد، وإسماعيل بن أُميّة، ويحيى بن الاَنصاري، وعثمان بن الاَسود وغيرهم. (2)

وقال في «تقريب التهذيب»: عبد اللّه بن

ميمون بن داود القداح المخزومي، المكي، متروك من الثامنة. (3)

و تتلخّص مواصفاته التي ذكرت في الكتب الرجالية بالاَُمور التالية:

الاَوّل: اسمه ونسبه: وهو عبد اللّه بن ميمون بن الاَسود أو ابن داود.

الثاني: الوطن: فهو مكي من بني مخزوم، وقد عرفت عن الكشي انّأبا جعفر الباقر - عليه السّلام- قال له: يابن ميمون كم أنتم بمكة؟

الثالث: الولاء: انّه مخزومي ولاءً كما قال النجاشي: مولى بني مخزوم.و مثله الشيخ في الفهرست.

الرابع: العصر: فقد عاصر والده الاَئمّة الثلاثة: زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق - عليهم السّلام- .

وأمّا الولد فقد عاصر الاِمامين: الباقر والصادق عليمها السّلام و روى عنهما، كما في رواية الكشي انّأبا جعفر، قال: «يابن ميمون كم أنتم بمكة؟».

____________

1. المصدر السابق: أصحاب الاِمام الباقر، باب الجيم، برقم 13.

2. ابن حجر: تهذيب التهذيب:6|49، وقد سمّى جدّه «داود»، خلافاً للنجاشي حيث سمّاه «الاَسود».

3. ابن حجر: تقريب التهذيب:1|455، برقم 679.

( 50 )

وما في رجال النجاشي من أنّه روى عن أبي عبد اللّه محمول على كثرة رواياته عن أبي عبد اللّه وقلّته عن أبي جعفر، وإلاّ فقد عرفت نقل الكشي روايته عن أبي جعفر مباشرة إلاّ أن يقال بسقوط الواسطة عن قلم الكشي.

وبما أنّالوالد صحب الاَئمة الثلاثة:

1. الاِمام زين العابدين - عليه السّلام- (م 94).

2. الاِمام الباقر - عليه السّلام- (م 114).

3. الاِمام الصادق - عليه السّلام- (م 148).

و الولد صحب الاِمام الباقر والصادق عليمها السّلام فقط ، ولم يرو شيئاً عن الاِمام الكاظم - عليه السّلام- ، وطبيعة الحال تقتضي أنّالوالد توفي في حياة الاِمام الصادق - عليه السّلام- وتوفي الولد أواخر إمامته أو بعدها بقليل.

و يوَيد ذلك: انّ أبا عبد اللّه البرقي والد صاحب المحاسن، وأحمد بن محمد بن

عيسى الاَشعري كلاهما (1) ممّن لقيا الرضا - عليه السّلام- مع أنّهما يرويان عن عبداللّه بن ميمون بواسطة جعفر بن محمد بن عبيد اللّه ، فيكون عبد اللّه، متأخراً عن جعفر ومعاصراً لتلامذة الاِمام الصادق.

الخامس: وجه التلقيب: فقدلقّب ب_ «القداح»، لاَنّه كان يبري القداح.

عبد اللّه بن ميمون الاِسماعيلي

عبد اللّه بن ميمون الاِسماعيلي

و إليك بيان ما يذكره أصحاب المقالات والموَرّخون حوله:

1. قال البغدادي في «الفرق بين الفرق»:

قال أصحاب المقالات إنّ الذين أسّسوا دعوة الباطنية جماعة: منهم

____________

1. لاحظ رجال النجاشي: برقم 555، وفهرست الشيخ، أصحاب الاِمام الصادق، باب العين، برقم 40.

( 51 )

«ميمون بن ديصان» المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الاَهواز، ومنهم: محمد بن الحسين الملقب بدندان، اجتمعوا كلّهم مع ميمون ابن ديصان في سجن والي العراق، فأسّسوا في ذلك السجن مذاهب الباطنية، ثمّظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بدندان، وابتدأ بالدعوة في ناحية توز.

فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل مع أهل الجبل المعروف بالبدين، ثمّ رحل ميمون بن ديصان إلى ناحية المغرب وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب وزعم أنّه من نسله، فلمّا دخل في دعوته قوم من غلاة الرفض والحُلُولية منهم ادّعى انّه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبل الاَغبياء ذلك منه على جهل منهم بأنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب عند علماء الاَنساب. (1)

2. قال ابن النديم: إنّ عبد اللّه بن ميمون _ ويعرف ميمون بالقداح _ وكان من أهل قوزح العباس بقرب مدينة الاَهواز، وأبوه ميمون الذي تنسب إليه الفرقة الميمونية التي أظهرت اتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الذي دعا إلى إلهية علي بن أبي طالب،

وكان ميمون وابنه ديصانيين، وادّعى عبد اللّه انّه نبي مدة طويلة، وكان يظهر الشعابيذ، ويذكر انّالاَرض تطوى له فيمضي إلى أين أحب في أقرب مدة، وكان يخبر بالاَحداث الكائنات في البلدان الشاسعة، وكان له مرتبون في مواضع يرغبهم ويحسن إليهم ويعاونونه على نواميسه ومعهم طيور يطلقونها من المواضع المتفرقة إلى الموضع الذي فيه بيت عبد اللّه، فيخبر من حضره بما يكون فيتمَوّه ذلك عليهم.

إلى أن قال: وصار إلى البصرة فنزل على قوم من أولاد عقيل بن أبي طالب، فكبس هناك، فهرب إلى سلمية بقرب حمص.

____________

1. البغدادي: الفرق بين الفرق: 282.

( 52 )

إلى أن قال: قد كان قبل بني القداح قريب ممّن يتعصب للمجوس ودولتها، وكان ممّن واطأ عبد اللّه أمره رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بزيدان من ناحية الكرخ من كتاب أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وكان هذا الرجل متفلسفاً، حاذقاً بعلم النجوم، شعوبياً، شديد الغيض من دولة الاِسلام. (1)

3. قال ابن الاَثير: فلما يئس أعداء الاِسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الاَحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأُمور قد ضبطها المحدّثون وأفسدوا الصحيح بالتأويل. فكان أوّل من فعل ذلك: أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة وغيرهما، فألقوا إلى من وثقوا به انّلكل شيء من العبادات باطناً، وانّاللّه تعالى لم يوجب على أوليائه ومن عرف الاَئمّة والاَبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرم عليهم شيئاً وأباحوا لهم نكاح الاَُمّهات والاَخوات، وإنّما هذه قيود للعامة ساقطة عن الخاصة.

وكانوا يظهرون التشيّع لآل النبي ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة، وتفرّق أصحابهم في البلاد، وأظهروا الزهد والعبادة يغرون الناس بذلك

وهم على خلافه، فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة.

إلى أن قال: ونشأ لابن ديصان (أبو شاكر ميمون بن ديصان) ابن يقال له عبد اللّه القداح علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة فحذق وتقدم، إلى أن قال: وإنّما لقب القداح لاَنّه كان يعالج العيون ويقدحها، فلمّا توفي القداح (عبد اللّه) قام بعده ابنه أحمد مقامه، إلى آخر ما ذكر. (2)

وإليك مواصفات الرجل حسب ما ذكره البغدادي، وغيره من الموَرّخين فهي تختلف عمّا تعرفت عليه في الاَوّل.

____________

1. ابن النديم: الفهرست: 278_281، نقله عن أبي عبد اللّه بن الرزام وتبرأ من صدق ما نقله وكذبه.

2. الجزري: الكامل:8|27_ 29.

( 53 )

الاَوّل: اسمه ونسبه: عبد اللّه بن ميمون بن ديصان.

الثاني: الوطن : كان من الاَهواز أو من الكوفة، فانّمحمد بن أبي زينب وأتباعه كانوا كوفيين. (1)

الثالث: الولاء: كان مولىً لجعفر بن محمد الصادق، والظاهر انّ مراده هو حبه له.

الرابع: العصر: فالرجل حسب ما يذكره البغدادي ممّن ذهب لناحية المغرب وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب هذا من جانب، ومن جانب نرى أنّالاَئمّة الاِسماعيلية توجهوا إلى المغرب في أواسط القرن الثالث، لاَنّ الاِمام المستور الحسين بن أحمد (219_265ه_) التقى بالنجف الاَشرف بالداعي أبي قاسم حسن بن فرح بن حوشب وعلي بن الفضل فأثر فيهما وأحضرهما إلى سلمية، ثم جهّزهما بعد ذلك إلى اليمن، وفي عهده تمّإرسال أبي عبد اللّه الشيعي إلى المغرب. (2)

فيعلم من خلالها أنّ التمهيد لبسط نفوذهم في المغرب بدأ في أواسط القرن الثالث وانّميمون بن ديصان الوالد قصدها في تلك الآونة وقد أرّخ الكاتب الاِسماعيلي مصطفى غالب في تقديمه لكتاب كنز الولد انّ عبد اللّه بن ميمون القداح ولد سنة 190 وتوفي سنة

270ه_ (3) فأين هو من عبد اللّه بن ميمون المعدود من أصحاب الباقر والصادقعليمها السّلام ، الذي توفي في أواسط القرن الثاني؟!

الخامس: وجه التلقيب: انّه كان يقدح العيون.

أضف إلى ذلك انّه من البعيد أن يروي المشايخ الكبار، كجعفر بن محمد الاَشعري، والحسن بن علي بن فضال، وأحمد بن إسحاق بن سعد، وحمّاد بن عيسى، وعبد اللّه بن المغيرة عمّن خدم الاِسماعيلية وتآمر على الاِمامية الاثني

____________

1. الجزري: الكامل:8|30.

(2) 2 الجزري: الكامل: 8|28.

3. كنز الولد: 19، المقدّمة.

( 54 )

عشرية، ولو افترضنا انّهم أخذوا منه الرواية حين استقامته، لصرّحوا به.

و ممن حقّق هذا الاَمر تفصيلاً صاحب أعيان الشيعة، فلاحظ. (1)

لعب عبد اللّه بن ميمون القدّاح دوراً هاماً في نشر أفكار الخطابية وبثّها في أتباع محمد بن إسماعيل، وكان حلقة وصل بين الخطابية والاِسماعيلية، وأخيراً التحق بالاِمام محمد بن إسماعيل وصار من دعاته، وكلّ الآفات التي أصابت العقيدة الاِسماعيلية تعود إليه وإلى زميله محمد بن الحسين الملقب ب_«دندان» .

و يشهد كثير من النصوص التاريخية على ذلك، نكتفي منها بالقليل.

يقول ابن الاَثير: يأس أعداء الاِسلام من استئصاله بالقوة فأخذوا في وضع الاَحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأُمور قد ضبطها المحدّثون، وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.

فكان أوّل من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب «الميزان» فألقوا إلى من وثقوا به انَّ لكل شيء من العبادات باطناً، وانّ اللّه تعالى لم يوجب على أوليائه ولا من عرف الاَئمّة والاَبواب، صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك، ولا حرّم عليهم شيئاً وأباحوا لهم نكاح الاَُمّهات والاَخوات، وإنّما هذه قيود للعامة ساقطة عن الخاصّة.

وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي - صلّى الله

عليه وآله وسلّم - ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة، وتفرّق أصحابهم في البلاد، فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة.

ونشأ لابن ديصان ابن يقال له عبد اللّه القدّاح ، علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة. وكان بنواحي كرخ واصفهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب ب_«دندان» فسار إليه القدّاح وعرّفه من ذلك مازاد به محلّه. (2)

____________

1. الاَمين: أعيان الشيعة:8|84،و في الذيل: انّالترجمة ممّا لم يكتبها الموَلف وإنّما استدركها الشيخ محمد مهدي شمس الدين.

2. ابن الاَثير: الكامل: 8|28_ 29، حوادث عام 296.

( 55 )

و من طالع تاريخ الاِسماعيلية و كتبهم يقف على أنّ لاَبي عبد اللّه بن ميمون القدّاح وربيبه القدح المعلّى في صياغة العقيدة الاِسماعيلية.

فقد خرجنا بهذه النتيجة انّالخطابية وعلى حسب تعبير النوبختي «المباركيّة» هم جذور الاِسماعيلية وانّ ميمون بن ديصان، ثمّ ابنه عبد اللّه بن ميمون القداح، وزميله المعروف ب_«دندان» هم حلقة الوصل بين الفرقتين.

ما روي عن عبد اللّه بن ميمون الاِمامى في

ما روي عن عبد اللّه بن ميمون الاِمامى في الجوامع الحديثية

إنّ لعبد اللّه بن ميمون بن الاَسود المخزومي روايات في مختلف الاَبواب قد نقلها أصحاب الكتب الاَربعة في جوامعهم وهي تناهز 49 حديثاً، وليس في رواياته أيّ شذوذ إلاّ في رواية واحدة. والتمعّن فيها يوقف الاِنسان على أنّه كان فقيهاً متقناً في النقل. وإليك ما وقفنا عليه:

1. روى عبد اللّه بن ميمون، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: «جاء رجل من الاَنصار إلى النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقال: يا رسول اللّه أُحب أن تشهد لي على نحل نحلتها ابني، قال: مالك ولد سواه؟ قال: نعم، قال: فنحلتها كما نحلته؟ قال: لا، قال: فانّا معاشر الاَنبياء لا نشهد على الجنف». (1)

2. روى عبد اللّه

بن ميمون، عن أبي عبد اللّه ، عن أبيه عليمها السّلام قال: «كان أصحاب رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - بتبوك يعبّون الماء، فقال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : اشربوا في أيديكم، فإنّها من خير آنيتكم». (2)

3. روى عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه - عليه السّلام- ، قال: «الركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب». (3)

____________

1. الفقيه: 3|40، الحديث 134.

2. الفقيه :3|223، الحديث 1036.

3. الفقيه: 3|242، الحديث 1146.

( 56 )

4. روى عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه - عليهم السّلام- قال: «قال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : الصبي والصبي، والصبي والصبية،والصبية والصبية يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين». (1)

5. روى عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- عن أبيه - عليه السّلام- قال: «أُتي أمير الموَمنين - عليه السّلام- برجل قد ضرب رجلاً حتى انتقص من بصره، فدعا برجال من أسنانه ثمّ أراهم شيئاً، فنظر ما انتقص من بصره، فأعطاه دية ما انتقص من بصره». (2)

6. عن عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه - عليه السّلام- انّالنبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قال: «الرزق أسرع إلى من يطعم الطعام من السكين في السنام». (3)

7. عن أحمد بن إسحاق بن سعد، عن عبد اللّه بن ميمون، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه - عليه السّلام- قال: «قال الفضل بن العباس: أُهدي إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بغلة أهداها له كسرى أو قيصر، فركبها النبي - صلّى الله عليه

وآله وسلّم - بجلّمن شعر وأردفني خلفه، ثمّقال لي: يا غلام احفظ اللّه يحفظك، واحفظ اللّه تجده أمامك، تعرّف إلى اللّه عزّوجلّ في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه عزّ وجلّ، فقد مضى القلم بما هو كائن، فلوجهد الناس أن ينفعوك بأمرٍ لم يكتبه اللّه لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بأمرٍ لم يكتبه اللّه عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع، فاصبر، فإنّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أنّالصبر مع النصر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّمع العسر يسراً، انّ مع العسر يسراً». (4)

____________

1. الفقيه:3|276، الحديث 1310.

2. الفقيه:4|97، الحديث 321.

3. الكافي: 4|51، الحديث 10.

4. الفقيه:4|296، الحديث 896.

( 57 )

8. علي بن حاتم، عن محمد بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن علي بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد، عن علي بن الحسين، عن أمير الموَمنين - عليهم السّلام- : «اللّهمّ إنّك أعلنت سبيلاً من سبلك فجعلت فيه رضاك، وندبت إليه أولياءك وجعلته أشرف سبلك عندك ثواباً، وأكرمهم لديك مآباً وأحبها إليك مسلكاً، ثمّ اشتريت فيه من الموَمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيلك فيقتلون ويُقتلون وعداً عليك حقّاً، فاجعلني ممّن اشترى فيه منك نفسه، ثمّوفى لك ببيعه الذي بايعك عليه، غير ناكث، ولا ناقض عهداً، ولا مبدل تبديلاً، إلاّ استنجازاً لموعودك، واستيجاباً لمحبتك، وتقرباً به إليك، فصلّ على محمد وآله واجعله خاتمة عملي، وارزقني فيه لك وبك مشهداً توجب لي به الرضا، وتحط عني به الخطايا، اجعلني في الاَحياء المرزوقين بأيدي العداة

العصاة تحت لواء الحق وراية الهدى، ماض على نصرتهم قدماً غير مولٍّ دبراً، ولا محدث شكاً، وأعوذ بك عند ذلك من الذنب المحبط للاَعمال». (1)

9. عن الحسن بن علي ، عن جعفر بن محمد ، عن عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه - عليه السّلام- قال: «كان رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ الموَذنون». (2)

10. محمد بن علي بن محبوب، عن الحسن بن علي، عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه عليمها السّلام قال:«كان المقام لازقاً بالبيت فحولّه عمر». (3)

11. الحسن بن علي الكرخي، عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن

____________

1. التهذيب: 3|81، الحديث 237.

2. التهذيب: 3|244، الحديث 663.

3. التهذيب: 5|454، الحديث 1586.

( 58 )

ميمون، عن جعفر، عن أبيه عليمها السّلام : «كان النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - يستهدي من ماء زمزم وهو بالمدينة». (1)

12. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «دخل أمير الموَمنين صلوات اللّه عليه المسجد، فإذا هو برجل على باب المسجد، كئيب حزين، فقال له أمير الموَمنين - عليه السّلام- مالك؟ قال: يا أمير الموَمنين أُصبت بأبي وأُمي وأخي وأخشى أن أكون قد وجلت، فقال له أمير الموَمنين - عليه السّلام- :عليك بتقوى اللّه والصبر تقدم عليه غداً؛ والصبر في الاَُمور بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الاَُمور فسدت الاَُمور». (2)

13. عن حماد، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليمها السّلام قال: «زكاة الفطرة

صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير، أو صاع من إقط عن كلّإنسان حرّ أو عبد، صغير أو كبير ، وليس على من لا يجد ما يتصدق به حرج». (3)

14. عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- أنّعلياً صلوات اللّه عليه كان يقول إذا أصبح: «سبحان اللّه الملك القدُّوس _ ثلاثاً _ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحويل عافيتك، ومن فجأة نقمتك، ومن درك الشقاء، ومن شرّما سبق في الليل، اللّهمّ إنّي أسألك بعزّة ملكك، وشدّة قوّتك،وبعظيم سلطانك، وبقدرتك على خلقك»، ثمّسل حاجتك. (4)

15. عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه

____________

1. التهذيب:5|471، الحديث 1657.

2. الكافي: 2|90، الحديث 9.

3. التهذيب:4|75، الحديث 211.

4. الكافي:2|527، الحديث 16.

( 59 )

عليمها السّلام قال: «المحرمة لا تتنقّب، لاَنّ إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه». (1)

16. عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، قال: سمعت أبا عبد اللّه - عليه السّلام- يقول: «إنّ رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وقف بعرفات، فلمّا همّت الشمس أن تغيب قبل أن تندفع، قال: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر، ومن تشتّت الاَمر، ومن شر ما يحدث بالليل والنهار، أمسى ظلمي مستجيراً بعفوك، وأمسى خوفي مستجيراً بأمانك، وأمسى ذلّي مستجيراً بعزِّك، وأمسى وجهي الفاني مستجيراً بوجهك الباقي، يا خير من سئل، ويا أجود من أعطى جلّلني برحمتك، وألبسني عافيتك، واصرف عني شرّ جميع خلقك». (2)

17.عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه - عليه

السّلام- قال: «للعبد أن يستثني ما بينه وبين أربعين يوماً إذا نسي، انّرسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أتاه ناس من اليهود فسألوه عن أشياء، فقال لهم: تعالوا غداً أُحدّثكم ولم يستثن، فاحتبس جبرئيل - عليه السّلام- عنه أربعين يوماً ثمّأتاه وقال:"وَلا تَقُولَنَّ لشايْءٍ إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاّ أَنْ يشاء اللّه واذْكُرْ ربّك إِذا نَسِيتَ" (3).(4)

18. عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليمها السّلام قال: «ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء والاحتلام والحجامة، وقد احتجم النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وهو صائم،و كان لا يرى بأساً بالكحل للصائم». (5)

19. عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن ميمون، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «للعبد أن يستثني ما بينه وبين أربعين يوماً إذا نسي». (6)

____________

1. الكافي:4|345، الحديث 7؛ الفقيه:2|219، الحديث 1009.

2. الكافي: 4|464، الحديث 5.

3. الكهف:23_24.

4. الفقيه:3|229، الحديث 1081.

5. التهذيب:4|260، الحديث 775.

6. التهذيب:8|281، الحديث 1029.

( 60 )

20. عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «كان أمير الموَمنين صلوات اللّه عليه يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الاحتلام، ومن سوء الاَحلام ، وأن يلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام». (1)

21. علي بن الحسن بن فضال، عن محمد بن الحسن بن الجهم، عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليمها السّلام قال: «قال علي - عليه السّلام- : إذا طلّق الرجل المرأة فهو أحقّ بها ما لم تغتسل من الثالثة». (2)

22. روى عبد اللّه بن ميمون باسناده قال: قال رسول اللّه - صلّى الله

عليه وآله وسلّم - : «إذا ضللتم الطريق فتيامنوا». (3)

23. محمد بن أحمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون قال: أُتي علي - عليه السّلام- بأسير يوم صفين فبايعه، فقال علي - عليه السّلام- : «لا أقتلك انّي أخاف اللّه ربّالعالمين، فخلّ_ى سبيله، وأعطى سلبه الذي جاء به». (4)

24. عن ابن فضال، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «حرّمت الجنة على الديّوث». (5)

25. عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «قال يعقوب لابنه: يا بني لا تزن، فإنّ الطائر لو زنا لتناثر ريشه». (6)

____________

1. الكافي:2|536، الحديث 5.

2. التهذيب:8|125، الحديث 432.

3. الفقيه: 2|197، الحديث 896.

4. التهذيب:6|153، الحديث 269.

5. الكافي: 5|537، الحديث 8، باب الغيرة.

6. الكافي: 5|542، الحديث 8، باب الزاني؛ الفقيه:4|13،الحديث 13.

( 61 )

26. عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الاَشعري،عن ابن القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «كان النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إذا شرب اللبن قال: اللّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه». (1)

27. عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر ، عن أبيه - عليه السّلام- قال: «قال النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم، ونهى أن يتنعل الرجل وهو قائم». (2)

28. عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر، عن أبيه ، عن آبائه - عليهم السّلام- ، قال:« انكسفت الشمس في زمن رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فصلّى

بالناس ركعتين، فطوّل حتى غشي على بعض القوم ممّن كان وراءه من طول القيام». (3)

29. عن جعفر بن محمد، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر، عن أبيه عليمها السّلام أنّ علياً - عليه السّلام- كان يقول: «من فاته صيام الثلاثة أيام في الحج، وهي قبل التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة فليصم أيام التشريق، فقد أذن له». (4)

30. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح؛ وعلي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «قال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة، وانّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وانّه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الاَرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر،و إنّ العلماء ورثة الاَنبياء، إنّالاَنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر». (5)

____________

1. الكافي:6|336، الحديث 3.

2. التهذيب: 3|255، الحديث 709.

3. التهذيب: 3|293، الحديث 885.

4. التهذيب: 5|229، الحديث 778.

5. الكافي: 1|34، الحديث 1.

( 62 )

31. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: قال: «إنّ هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة». (1)

32. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- عن آبائه - عليهم السّلام- قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقال: يا رسول اللّه

ما العلم؟ قال: الانصات، قال: ثمّ مه؟ قال: الاستماع، قال: ثمّ مه؟ قال: الحفظ، قال: ثمّمه؟قال: العمل به، قال: ثمّمه يا رسول اللّه؟ قال: نشره». (2)

33. عن جعفر بن محمد الاَشعري ، عن عبد اللّه بن ميمون القداح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «كان أمير الموَمنين صلوات اللّه عليه يقول: أفضل العبادة العفاف». (3)

34. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «قال أمير الموَمنين - عليه السّلام- :الموَمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يوَلف». (4)

35. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال:«من أطعم موَمناًحتّى يشبعه لم يدر أحدٌ من خلق اللّه ماله من الاَجر في الآخرة، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ اللّه ربّالعالمين، ثمّقال: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان، ثمّتلا قول اللّه عزّوجلّ "أَوْ إِطْعامٌ في يَومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَة" (5)». (6)

____________

1. الكافي: 1|40، الحديث 3.

2. الكافي:1|48، الحديث 4.

3. الكافي:2|79، الحديث 3.

4. الكافي:2|102، الحديث 17.

5. البلد:14_16.

6. الكافي:2|201، الحديث 6.

( 63 )

36. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك، قال: قال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : لولا أن أشقّ على أُمتي لاَمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة». (1)

37. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: «كان أمير الموَمنين - عليه السّلام- إذا

حضر أحداً من أهل بيته الموت، قال له: لا إله إلاّ اللّه العلي العظيم، سبحان اللّه ربّالسماوات السبع وربّ الاَرضين السبع وما بينهما وربّ العرش العظيم ، والحمد للّه ربّالعالمين فإذا قالها المريض، قال: اذهب فليس عليك بأس». (2)

38. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه - عليهم السّلام- قال: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء». (3)

39. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر، عن أبيهعليمها السّلام : أنّعلياً صلوات اللّه عليه قال لرجل كبير لم يحجّ قطّ: «إن شئت أن تجهّز رجلاً، ثمّأبعثه أن يحجّ عنك». (4)

40. عن جعفر بن محمد الاَشعري عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر - عليه السّلام- : أنّ علياً - عليه السّلام- كان لا يرى بأساً بعقد الثوب إذا قصر، ثمّ يصلّى فيه وإن كان محرماً. (5)

41. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه عن آبائه - عليهم السّلام- قال:«قال النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ما استفاد امروَ مسلم فائدة بعد الاِسلام

____________

1. الكافي:3|22، الحديث 1.

2. الكافي:3|124، الحديث 7.

3. الكافي:4|28، الحديث 1.

4. الكافي:4|272، الحديث 1.

5. الكافي:4|347، الحديث 3.

( 64 )

أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله». (1)

42. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّهبن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- : إنّ علي بن الحسين عليمها السّلام كان يتزوّج وهو يتعرق عرقاً يأكل ما يزيد على أن يقول: الحمد للّه وصلّى اللّه على محمد وآله، ويستغفر اللّه

عزّ وجلّ، وقد زوّجناك على شرط اللّه، ثمّ قال علي بن الحسين عليمها السّلام : إذا حمد اللّه فقد خطب. (2)

43. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن آبائه - عليهم السّلام- قال: «كان بالمدينة رجلان يسمّى أحدهما هيت والآخر مانع، فقالا لرجل ورسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - يسمع: إذا افتتحتم الطائف إن شاء اللّه فعليك بابنة غيلان الثقفية، فإنّها شموع بخلاء مبتلة هيفاء شنباء، إذا جلست تثنّت، وإذا تكلّمت غنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان بين رجليها مثل القدح، فقال النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - :لا أريكما من أُولي الاربة من الرجال، فأمر بهما رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فغرّب بهما إلى مكان يقال له: العرايا، وكانا يتسوّفان في كلّ جمعة». (3)

44. عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليمها السّلام قال: «للزاني ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أمّا التي في الدنيا: فيذهب بنور الوجه، ويورث الفقر، ويعجّل الفناء؛ وأمّاالتي في الآخرة: فسخط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار». (4)

45.عن الحسن بن عليّ، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الدعاء كهف الاِجابة، كما أنّالسحاب كهف المطر». (5)

____________

1. الكافي:5|327، الحديث 1؛ التهذيب:7|240، الحديث 1047.

2. الكافي:5|368، الحديث 2.

3. الكافي:5|523، الحديث 3.

4. الكافي:5|541، الحديث 3؛ الفقيه:3|375، الحديث 1774.

5. الكافي:2|471، الحديث 1.

( 65 )

46. عن الحسن بن علي، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - عليهم السّلام- قال: «سجدتا

السهو بعد التسليم وقبل الكلام».

(1)

47. عن عبد اللّه بن المغيرة، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه، عن علي - عليهم السّلام- : انّه كان إذا خرج من الخلاء قال:«الحمد للّه الذي رزقني لذّته، وأبقى قوته في جسدي، وأخرج عني أذاه يا لها من نعمة».

(2)

48. عن محمد بن الحسن بن أبي الجهم، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللّه، عن أبيهعليمها السّلام قال: «جاء قنبر مولى علي - عليه السّلام- بفطرة إليه قال: فجاء بجراب فيه سويق عليه خاتم قال: فقال له رجل: يا أمير الموَمنين إنّهذا لهو البخل تختم على طعامك!! قال: فضحك علي - عليه السّلام- قال: ثمّ قال: أو غير ذلك؟ لا أحب أن يدخل بطني شيء إلاّ شيء أعرف سبيله، قال: ثمّ كسر الخاتم، فأخرج منه سويقاً، فجعل منه في قدح فأعطاه إياه، فأخذ القدح فلمّ_ا أراد أن يشرب قال:

بسم اللّه اللّهمّلك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم».

(3)

49.عن جعفر بن محمد الاَشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر - عليه السّلام- قال: «قال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : إنّ أعجل الخير ثواباً صلة الرحم».

(4)

إنّ حامل تلك الدرر اللامعة وراويها، أجلّ من أن يكون موصوفاً بما وصف به عبد اللّه بن ميمون الاِسماعيلي في كتب الملل والنحل أو في سائر المعاجم.

____________

1. التهذيب: 2|195، الحديث768.

2. التهذيب:1|29، الحديث 77؛و ص 351، الحديث 1039.

3. التهذيب:4|200، الحديث 578.

4. الكافي:2|152، الحديث 15.

( 66 )

( 67 )

الفصل الخامس : في الأئمّة المستورين

الفصل الخامس في الاَئمة المستورين

الفصل الخامس في الاَئمة المستورين

( 68 )

( 69 )

يرجع نشوء الاِسماعيلية وتكوّنهم، إلى القول بإمامة إسماعيل بن

جعفر الصادق - عليه السّلام- و استمرارها في عقبه، فهو الاِمام الاَوّل، وقد تلته أئمّة :

1. إسماعيل بن جعفر.

2. محمد بن إسماعيل.

3. عبد اللّه بن محمد.

4. أحمد بن عبد اللّه.

5. الحسين بن أحمد.

6. عبيد اللّه المهدي بن الحسين، موَسس الدولة الفاطمية في المغرب.

7. محمد القائم.

8. إسماعيل بن محمد المنصور.

9. معد بن إسماعيل «المعز».

10. نزار بن معد «العزيز».

11. الحسن بن نزار «الحاكم».

12. علي بن الحسن« الظاهر».

13. معد بن علي المستنصر.

وهوَلاء هم الاَئمّة المتّفق عليهم بين الفرق الاِسماعيلية الثلاث: المستعلية، والنزارية الموَمنية، والنزارية القاسمية (الآغاخانية).

( 70 )

ثمّ اختلفوا إلى فرقتين، فذهبت المستعلية إلى أنّ الاِمام القائم بالاَمر بعد المستنصر عبارة عن كلّ من :

1. أحمد المستعلي.

2. الآمر بأحكام اللّه.

3. الطيّب بن الآمر.

ثمّ جاء دور الستر فلا إمام ظاهر.

لكن النزارية بكلا فريقيها قالوا باستمرار الاِمامة بعد المستنصر، وقالوا: إنّ الاِمامَ القائم بالاَمر عبارة عن كلِّ من:

1. نزار بن معد.

2. حسن بن معد (جلال الدين).

3.محمد بن حسن(علاء الدين).

4. محمود بن محمد (ركن الدين).

5. محمد بن محمود (شمس الدين).

ثمّ افترقت النزارية إلى فرقتين:

الف: النزارية الموَمنية.

ب: النزارية القاسمية الآغاخانية.

فكلّ ساقوا الاِمامة بعد شمس الدين، بشكل خاص لا يلتقيان أبداً إلى العصر الحاضر. وستوافيك أسماوَهم.

و سنقوم بترجمة الاَئمّة المتّفق عليهم بين جميع الفرق، الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة عشر إماماً آخرهم المستنصر.وقد عقدنا لبيانه فصلين مستقلين، أحدهما في الاَئمّة المستورين، والثاني في المتظاهرين بالاِمامة.

( 71 )

الاِمام الاَوّل (1)

الاِمام الاَوّل (1)

إسماعيل بن جعفر الصادق

(110_145ه_)

إنّ إسماعيل هو الاِمام الاَوّل والموَسِّس للمذهب، فوالده الاِمام الصادق - عليه السّلام- غنيّ عن التعريف، وفضله أشهر من أن يذكر، وُلِد الاِمام الصادق عام 80ه_ على قول و83 على قول آخر وتوفي عام 148 ه_، وهو من عظماء أهل البيت

- عليهم السّلام- وساداتهم، ذو علوم جَمّة، وعبادة موفورة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة... إلى غير ذلك من فضائل ومآثر يقصر عنها القلمُ والبيان؛ وقد أنجب - عليه السّلام- عشرة أولاد، هم إسماعيل ويليه عبد اللّه، وموسى الكاظم، وإسحاق، ومحمد، والعباس وعلي، وأمّا الاِناث، فأكبرهنّ أُمّ فروة، ثمّ أسماء، وفاطمة.

لقد تزوج - عليه السّلام- فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين، فأنجب منها إسماعيل وعبد اللّه وأُمّ فروة.

وكان إسماعيل أكبر الاِخوة وكان أبو عبد اللّه - عليه السّلام- شديد المحبة له والبر به والاِشفاق عليه، مات في حياة أبيه - عليه السّلام- «بالعريض»، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة، حتى دفن بالبقيع (2)

____________

1. المبدأ في عدّ الاَئمة للاِسماعيليّة، هو موَسس الفرقة _ حسب زعمهم _ وإن كان هو الاِمام السابع عندهم ثمّ إنّ الاَقوال في ميلاد ووفاة إسماعيل كثيرة وما ذكرناه أحد الاَقوال.

2. المفيد: الاِرشاد:284.

( 72 )

ولذلك كان من اللازم استعراض سيرته وسيرة بعض أولاده ممن كان لهم دور في نشوء هذه الفرقة فنقول:

عنونه الشيخ في أصحاب رجال الصادق - عليه السّلام- و اقتصر على اسمه واسم آبائه، وقال: إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المدني. (1)

وقال ابن عنبة: وأمّا إسماعيل بن جعفر الصادق - عليه السّلام- ويكنى أبا محمد، وأُمّه فاطمة بنت الحسين الاَثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليه السّلام- ويعرف بإسماعيل الاَعرج، وكان أكبر ولد أبيه، وأحبَّهم إليه، كان يحبُه حباً شديداً، وتوفي في حياة أبيه «بالعريض»، فحمل على رقاب الرجال إلى البقيع، فدفن به سنة ثلاث وثلاثين ومائة، قبل وفاة الصادق - عليه السّلام- بعشرين سنة، كذا قال أبو

القاسم ابن خداع نسّابة المصريين. (2)

وقال ابن خلدون :تُوفّي قبل أبيه، وكان أبو جعفر المنصور طلبه، فشهد له عامل المدينة بأنّه مات. (3)

قال المفيد: لمّا توفي إسماعيل جزع أبو عبد اللّه عليه جزعاً شديداً، وحزن عليه حزناً عظيماً، وتقدّم سريرَه بغير حذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على الاَرض قبلَ دفنه مراراً، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه. (4)

لم نقف في حياة إسماعيل على شيء سوى ما نقله ابن أبي الحديد حيث قال: كان القاسم بن محمد بن طلحة (5) يلقّب «أبا بعرة»، ولي شرطة الكوفة،

____________

1. الطوسي: الرجال: 149 برقم 81.

2. ابن عنبة: عمدة الطالب: 233، ولعلَّ العشرين في العبارة مصحف خمس عشرة لاَنّ الفاصل الزمني بين الوفاتين لا يتجاوز هذا المقدار على جميع الاَقوال لاَنّها في حقّه مختلفة فانّه مضافاً إلى ما ذكره من أنّه توفي عام 138 وقيل توفي عام 143.

3. تاريخ ابن خلدون: 4|39.

4. المفيد: الاِرشاد: 284.

5. هو طلحة بن عبيد اللّه التيمي المقتول بالجمل سنة 36ه_ .

( 73 )

لعيسى ابن موسى العباسي _ فكلَّم إسماعيل بن جعفر الصادق بكلام خرجا فيه إلى المنافرة.

فقال القاسم: لم يزل فضلنا وإحساننا سابغاً عليكم يا بني هاشم، وعلى بني عبد مناف كافة.

فقال إسماعيل: أيّ فضل وإحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف؟! أغضب أبوك جدي بقوله: «ليموتن محمد ولنجولنّ بين خلاخيل نسائه، كما جال بين خلاخيل نسائنا»، فأنزل اللّه تعالى مراغمة لاَبيك: "وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُوَذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً" (1) ومنع ابن عمك أُمّي من حقّها في فدك، وغيرها من ميراث أبيها، وأجلب أبوكَ على عثمان، وحصره حتى قُتِل، ونكثَ بيعة علىٍّ، وشام السيف في وجهه، وأفسد

قلوبَ المسلمين عليه، فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هوَلاء، أسديتم إليهم إحساناً، فعرّفني من هم، جعلت فداك؟! (2)

و روى الكشي بسنده عن عنبسة العابد: كنت مع جعفر بن محمد بباب الخليفة أبي جعفر بالحيرة، حين أُتي ببسّام، وإسماعيل بن جعفر بن محمد، فأُدخلا على أبي جعفر (3)فأُخرج بسّام مقتولاً ، وأُخرِج إسماعيل بن جعفر بن محمد، قال: فرفع جعفر رأسه إليه، قال: أفعلتها يا فاسق، أبشر بالنار. (4)

قلت: الضمير في «إليه» يرجع إلى المنصور من باب خطاب الغائبين بما يقتضيه الحال.

والحديث يدل على أنّه وشي عليهما لدى المنصور فطلبهما، فقتل بسّاماً

____________

1. الاَحزاب: 53.

2. ابن أبي الحديد: شرح النهج:9|323.

3. هو أبو جعفر المنصور الدوانيقي.

4. الكشي: الرجال: ترجمة بسام بن عبد اللّه الصيرفي برقم 121.

( 74 )

وأطلق إسماعيل.و لعلّه ثبتت براءته مما نسب إليه .

و روى الكشي أيضاً في ترجمة عبد اللّه بن شريك العامري، عن أبي خديجة الجمّال، قال: سمعت أبا عبد اللّه ، يقول: إنّي سألت اللّه في إسماعيل أن يُبقيه بعدي فأبى، ولكنّه قد أعطاني فيه منزلة أُخرى، انّه يكون أوّل منشور في عشرة من أصحابه، ومنهم عبد اللّه بن شريك وهو صاحب لوائه. (1)

و الحديث يدل على انّ الاِمام الصادق - عليه السّلام- كان يحبّه كثيراً،و لعلّ إسماعيل مرض، فدعا أبوه اللّه تعالى أن يشفيه ولكن اللّه قدّر موته، كما يدل على وثاقته أيضاً.

ويظهر ممّا رواه الكشي في ترجمة المفضل بن مزيد، أخي شعيب الكاتب، أنّه كان مأموراً بدفع جوائز إلى بني هاشم، وكان أسماءُ أصحاب الجوائز مكتوباً في كتابٍ، ناولَ الكتابَ للاِمام الصادق - عليه السّلام- فلما رآه قال: ما أرى لاِسماعيل هاهنا شيئاً، فأجاب المفضل: هذا الذي خرج إلينا.

(2)

ومن راجع الكتب الحديثية يرى أنّ هناك روايات يظهر منها جلالة منزلة إسماعيل، عند والده نذكر منها ما يلي:

1. الاِمام الصادق - عليه السّلام- يستأجر من يحجّ عن إسماعيل:

روى الكليني بسنده، عن عبد اللّه بن سنان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه - عليه السّلام- إذ دخل عليه رجل فأعطاه ثلاثين ديناراً يحجّ بها عن إسماعيل، ولم يترك شيئاً من العمرةِ إلى الحجّ إلاّ اشترط عليه أن يسعى في وادي مُحسِّر، ثمّ قال: يا هذا، إذا أنت فعلتَ هذا كانَ لاِسماعيل حجة بما أنفق من ماله، وكانت لك تسْع بما أتعبَت من بدنك. (3)

____________

1. الكشي: الرجال: 190، برقم 97.

2. الكشي: الرجال: 320، برقم 237.

3. الوسائل: الجزء 8، الباب 1 من أبواب النيابة في الحجّ، الحديث 1.

( 75 )

2. الاِمام ينصحه من الائتمان بالفاسق:

روى الكليني بسنده، عن حريز بن عبد اللّه السجستاني، قال: كانت لاِسماعيل بن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرجَ إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبت إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن، وعندي كذا وكذا ديناراً، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد اللّه - عليه السّلام- : يا بُنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال: يا بُنيّ لا تفعل.

فعصى إسماعيلُ أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها، ولم يأته بشيء منها، فخرج إسماعيل وقضى أنّ أبا عبد اللّه - عليه السّلام- حجّ وحجّ إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت، ويقول: اللهمّ أجرني واخلف عليّفلحقه أبو عبد اللّه - عليه السّلام- فهمزه بيده من خلفه، فقال له: مَهْ يا بني فلا واللّه مالك على اللّه (هذا) حجة ولا

لك أن يأجرك ولا يُخلف عليك، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته، فقال إسماعيل: يا أبت إنّ_ي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت الناس يقولون.

فقال: يا بُني إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه: "يُوَْمِنُ بِاللّهِ ويُوَْمِنُ للمُوَمِنين" (1)يقول: يصدِّق اللّه ويصدق للموَمنين فإذا شهد عندك الموَمنون فصدِّقهم ولا تأتمن شارب الخمر، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه:"وَلا تُوَتُوا السفهاءَ أَموالَكُم" (2)فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟! إنّ شارب الخمر لا يُزوَّج إذا خَطِب، ولا يُشفَّع إذا شَفَع، ولا يُوَتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه، على اللّه أن يأجره ولا يخلف عليه. (3)

____________

1. التوبة: 61.

2. النساء: 5.

3. الكافي: 5|299.

( 76 )

قلة رواياته

لم نجد في الجوامع الحديثية شيئاً يروى عنه، إلاّ الحديثين التاليين، ولعلّ قصر عمره وموته في حياة والده صارا سبباً لقلة الرواية عنه، وإليك ما وقفنا عليه من رواياته:

1. روى الكليني بسنده، عن أبي أيّوب الخزاز، قال: سألت إسماعيل بن جعفر، متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قال: قلتُ: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته.(1)

2. روى الشيخ الطوسي، عن داود بن فرقد، عن إسماعيل بن جعفر، قال: اختصم رجلان إلى داود - عليه السّلام- في بقرة فجاء هذا ببيّنة على أنّها له، وجاء هذا ببيّنة على أنّها له، قال: فدخل داود - عليه السّلام- المحرابَ فقال: يا رب إنّه قد أعياني أن أحكم بين هذين، فكُن أنتَ الذي تحكم، فأوحى اللّه عزّوجلّ إليه اخرج فخذ

البقرة من الذي في يده، فادفعها إلى الآخر، واضرب عنقه، قال: فضجت بنو إسرائيل من ذلك، وقالوا: جاء هذا ببينّة وجاء هذا ببيّنة، وكان أحقّهما بإعطائها الذي في يديه، فأخذها منه، وضرب عنقه، فأعطاها هذا... قال: فدخل داود - عليه السّلام- المحرابَ فقال: يا ربّ قد ضجَّتْ بنو إسرائيل ممّا حكمتُ، فأوحى إليه ربُّه أنّ الذي كانت البقرة في يده لقي أب الآخر فقتله وأخذ البقرة منه، إذا جاءك مثل هذا فاحكم بينهم بما ترى ولا تسألني أن أحكم حتى الحساب. (2)

____________

1. الكافي:7|388.

2. التهذيب:6|287، الحديث 797.

( 77 )

وفاته

قد عرفت أنّ ابن عنبة ذكر أنّه توفي عام (133ه_)، وقال صاحب تهذيب الكمال: إسماعيل إمام مات وهو صغير، ولم يروَعنه شيء من الحديث. (1)

و أرّخ الزركلي في الاَعلام وفاته سنة (143ه_) ولعله تبع صاحب دائرة المعارف الاِسلامية حيث قال: توفي إسماعيل في المدينة سنة (143ه_) أي قبل وفاة أبيه بخمسة أعوام. (2)

و القول الثاني أقرب للصواب، لاَنّه لو كان توفي سنة (133ه_) لكانت وفاته قبل وفاة أبيه بخمسة عشر عاماً، وهذا المقدار من الفاصل الزمني، يوجب انقطاع الناس عنه، ونسيانهم له عند وفاة أبيه.

وقال عارف تامر السوري من كُتّاب الاِسماعيلية : إنّإسماعيل ولد سنة 101 في المدينة المنورة، وادّعى والده الصادق أنّه مات سنة 138ه_ بموجب محضر أشهد عليه عامل الخليفة المنصور العباسي. (3)

استشهاد الاِمام الصادق - عليه السّلام- على موته:

كان الاِمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الاِمامة لم تُكْتب لاِسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الذين كتبت لهم الخلافة والاِمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الاَعظم.

و من الدواعي التي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشك في نفوس

____________

1. الاَعلام:1|311، نقلاً عن تهذيب الكمال.

2. الزركلي: الاَعلام:1|311.

3.

عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:180.

( 78 )

الشيعة في ذلك اليوم، هو ما اشتهر من أنّ الاِمامة للولد الاَكبر. وكان إسماعيل أكبرَ أولاده فكانت أماني الشيعة معقودة عليه _ حسب الضابطة _ صحّت أم لم تصح ، ولاَجل ذلك تركزت جهود الاِمام الصادق - عليه السّلام- على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهةو انّ الاِمامة لغيره، فتراه تارة ينصَّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل، وأنّه قد انتقل إلى رحمة اللّه، ولن يصلحَ للقيادة والاِمامة.

وإليك نماذج توَيد النهج الثاني الذي انتهجه الاِمام - عليه السّلام- لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة، وأمّا القسم الاَوّل أي النصوص على إمامة أخيه فموكولة إلى محلّها (1)

1. روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد اللّه - عليه السّلام- و عند يمينه سيّدُ ولده موسى - عليه السّلام- ، وقُدّامه مرقد مغطى، فقال لي: «يا زرارة، جئني بداود بن كثير الرقي، وحمران، وأبي بصير». ودخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت فأحضرت مَنْ أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثرَ واحد، حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داودُ إكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه فقال أبو عبد اللّه - عليه السّلام- : «يا داود أحيٌّ هو أم ميت؟» قال داود: يا مولايَ هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتى أتى على آخر مَن في المجلس،و انتهى عليهم بأسرهم وكلٌّ يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللهمّ اشهد»، ثمّ أمر بغَسْله وحنوطه، وادراجه في أثوابه.

فلمّ_ا فرغ منه قال للمفضل: «يا مفضّل احسر عن وجهه»، فحسَر عن وجهه، فقال: «أحيٌّ هو أم ميّت؟» فقال: ميّت، قال: «اللهم

اشهد عليهم»؛ ثمّحُمِل إلى قبره، فلما وضع في لَحده قال: «يا مفضل اكشف عن وجهه» وقال

____________

1. سوف يأتي شيء منه عند عرض الفطحيّة فلاحظ.

( 79 )

للجماعة: «أحيٌّ هو أم ميت؟» قلنا له: ميت فقال: «اللهمّ اشهد، واشهدوا، فإنّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور اللّه بأفواههم _ ثم أومأ إلى موسى _ واللّه متم نوره ولو كره المشركون»، ثم حثونا عليه التراب ثمّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنَّط، المكفَّن، المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللهم اشهد»، ثمّ أخذ بيد موسى - عليه السّلام- و قال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث اللّه الاَرض ومن عليها». (1)

2. روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي كهمس، قال: حضرتُ موتَ إسماعيل وأبو عبد اللّه - عليه السّلام- جالس عنده فلمّ_ا حضره الموت، شدّ لحييه وغمّضه، وغطّى عليه المِلْحَفة، ثمّ أمر بتهيئته، فلمّ_ا فرغ من أمره، دعا بكفنه فكتب في حاشية الكفن: إسماعيل يشهد أن لا إله إلاّ اللّه. (2)

3. روى الصدوق بسنده عن أبي كهمس قال حضرت موت إسماعيل ورأيت أبا عبد اللّه - عليه السّلام- وقد سجد سجدة فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه فنظر إليه، ثمّ سجد سجدة أُخرى أطول من الاَُولى ثمّ رفع رأسه، وقد حضره الموت فغمّضه وربط لحيته، وغطّى عليه الملحفة، ثمّقام، ورأيتُ وجهه وقد دخل منه شيء اللّه أعلم به، ثمّ قام فدخل منزله فمكث ساعة ثمّ خرج علينا مدهِناً، مكتَحلاً، عليه ثياب غير ثيابه التي كانت عليه، ووجهه غير الذي دخل به، فأمر ونهى في أمره، حتى إذا فرغ، دعا بكفنه، فكتب في حاشية الكفن: إسماعيل يشهد أن لا إله إلاّ اللّه.(3)

و هذه الروايات و خاصّة ما نقلناه

عن أبي خديجة الجمّال حاكية عن جلالة إسماعيل، ويوَكّدها تقبيل الاِمام له بعد موته مراراً.

____________

1. النعماني: الغيبة: 327، الحديث 8، ولاحظ بحار الاَنوار:48|21.

2. الوسائل: الجزء 2، الباب 29 من أبواب التكفين، الحديث 1.

3. الوسائل: الجزء 2، الباب 29 من أبواب التكفين ، الحديث 2.

( 80 )

نعم هناك روايات تدل على ذمّه ذكرها الكشي في ترجمة عدّة، مثل إبراهيم ابن أبي سمال، وعبد الرحمان بن سيابة، والفيض المختار، وقد ناقش السيد الخوئي، اسنادها فلاحظ. (1)

وقد أخطأ الكاتب الاِسماعيلي، مصطفى غالب السوري في فهم رأي الشيعة في معرض كتابته عن إمامه، حيث قال:

غير أنّ موَرّخي الشيعة، والسنة، يذهبون في إسماعيل مذهباً مختلفاً كلّ الاختلاف عمّا يقوله الاِسماعيلية. فيقولون: إنّ إسماعيل لم يكن يصلح للاِمامة، كونه كان يشربُ الخمر، وأنّه كان من أصدقاء أبي الخطاب الملْحِد الذي تبّ_رأ منه الاِمام الصادق، وأنّ الصادق أظهر فرحه لموت ابنه إسماعيل، وعلى هذه الصورة اضطربت الروايات، واختلفت الاَقاويل في أمر إسماعيل، فأصبح أكثر الباحثين لا يدرون حقيقة أمره، ولا سيّما أنّه الاِمام الذي تنسب إليه الحركة الاِسماعيلية التي قامت بدورٍ هامٍّ في تاريخ العالم الاِسلامي منذ ظهورها. (2)

قد عرفت عقيدة الشيعة الاِماميّة في حقّ إسماعيل وانّهم _ عن بكرة أبيهم _ يذكرون إسماعيل بخير، اقتداء بإمامهم الصادق - عليه السّلام- وأنّ رميه بشرب الخمر من صنيع أعداء أهل البيت - عليهم السّلام- حيث كانوا لا يتمكّنون من رمي أئمة الشيعة بالسفاسف فيوجهونها إلى أولادهم المظلومين المضطهدين.

هل كان عمل الاِمام تغطية لستره؟

إنّ الاِسماعيلية تدّعي أنّ ما قام به الاِمام الصادق - عليه السّلام- كان تغطية، لستره عن أعين العباسيين، الذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم

____________

1. السيد الخوئي: معجم رجال

الحديث: 3|124_127، برقم 1307.

2. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسلامية: 16.

( 81 )

التي اعتبرتها الدولة العباسية منافية لقوانينها. والمعروف انّه توجه إلى «سلَمية» ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستراً بقية حياته.

مات في البصرة سنة 143ه__، وكان أخ_وه موسى بن جعف_ر «الكاظم» حجاباً عليه، أمّا ولي عهده محمد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (1)

وعلى ما ذكره القائل _ خلافاً لاَكثر الاِسماعيلية _ فقد مات في حياة أبيه، فكيف يكون إماماً بعد أبيه وهو رهين التراب؟!

اسطورة حياته بعد رحيل أبيه

غير أنّ بعضهم يجازفون في القول، ويدعون أمراً خارقاً للعادة، ويقولون: والاَمر الهام في قضية إسماعيل وإمامته، هو أنّه عاش بعد أبيه، وأثبت هذا الخبر كثيرون من الموَلفين المعاصرين له مما يدل على أنّ إسماعيل بقى بعد أبيه اثنتي عشرة سنة.

ولقد حكى أنّ إسماعيل حين ترك المدينة سرّاً، رُئي ثانية في البصرة، حيث بلغ رفعة، بما أظهر من مقدرة نادرة بشفاء المرضى والمعلولين، وخشية من اكتشاف الاَمر، ترك البصرة ورحل إلى سوريا واستقر فيها، ولكن ليس بطمأنينة تامّة حيث حالما سمع الخليفة «المنصور» الذي كان يحكم الجزيرة العربية، بوجود إسماعيل، أمر واليه في دمشق بإرساله إسماعيل تحت الحراسة إلى بلاطه، ولكنَّ الوالي لم يكن يحترم الاِمام إسماعيل فحسب، بل كان من أتباعه، وبناء عليه ولينقذ الوالي سيده الروحي، نصح الاِمام أن يترك سوريا لعدّة أيّام، وما أن ابتعد

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:180.

( 82 )

الاِمام عن سوريا، حتى أعلن الوالي التفتيش الدقيق عنه، وكتب للخليفة أنّه لم يجد لاِسماعيل أثراً في أيّ مكان. (1)

أقول: ما ذكره انّ كثيراً من الموَلفين المعاصرين لاِسماعيل أثبتوا حياته بعد

وفاة أبيه، شيء لم يدعمه بالدليل، فَمَنْ هوَلاء الموَلّفون المعاصرون الذين أثبتوا حياته بعد الاِمام الصادق، وما هي كتبهم؟! نعم أوعز الكاتب في الهامش إلى عمدة الطالب، وتقدم نصُّهُ (2) وليس فيه أيُّ إشارة إلى ذلك، فضلاً عن إشارته إلى كثيرٍ من الموَلفين المعاصرين للاِمام إسماعيل، هكذا تحرّف الحقائق بيد العابثين اللاعبين بتاريخ أُمتنا المجيدة، أو بيد سماسرة الاَهواء فيبيحون الكذب لدعم المذهب.

وقد اعترف بهذه الحقيقة الكاتب الاِسماعيلي عامر تامر حيث قال:هناك أقوال كثيرة لموَرخين يوَكدون فيها أنّه مات في عهد والده، وأنّ قصة ظهوره في البصرة أُسطورة لا تقوم على حقيقة، ومهما يكن من أمر فالاِسماعيليون اشتهروا بالتخفّي والاستتار، والمحافظة على أئمّتهم. لذلك ليس بعيداً أن تكون الرواية الاَُولى صحيحة. (3)

إنّ تفسير قصة وفاة إسماعيل بالتمويه والتغطية فكره ورثها الجُدُد من الاِسماعيلين عن أسلافهم، قال مصطفى غالب: «ولكن أغلب موَرّخي الاِسماعيلية يقولون: إنّ قصة وفاة إسماعيل في حياة أبيه كانت قصة أرادَ بها الاِمام جعفر الصادق التمويه والتغطية على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي كان يُطارد أئمة الشيعة في كلّمكان، وتحت كلّ شمس، فخاف جعفر الصادق على ابنه وخليفته إسماعيل، فادّعى موته وأتى بشهود كتبوا المحضر إلى الخليفة

____________

1. أ.س. بيكلي: مدخل إلى تاريخ الاِسماعيلية:20.

2. مرّ نصّه ص 72.

3. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام: 180_181.

( 83 )

العباسي، الذي أظهر سروراً وارتياحاً لوفاة إسماعيل الذي كان إليه أمر إمامة الشيعة، ثمّ شُوهِد إسماعيل بعد ذلك في البصرة، وفي بعض البلدان الفارسية. وعلى هذا الاَساس لم تسقط الاِمامة عن إسماعيل بالموت قبل أبيه لاَنّه مات بعد أبيه. (1)

ويقول في موضع آخر: ورأينا الاَخير في هذا الموضوع بعد أن اطّلعنا على جميع ما كتب حول إمامة إسماعيل،

نقول: بأنّالاِمام جعفر الصادق قد شعر بالاَخطار التي تهدِّد حياة ابنه الاِمام إسماعيل، بعد أن نصّ عليه، وأصبح وليّاً للعهد، فأمره أن يستتر وكان ذلك عام 145ه_ ، خشية نقمة الخلفاء العباسيين وتدبّر الاَمر بأن كتب محضراً بوفاته، وشهد عليه عامل المنصور، الذي كان بدوره من الاِسماعيلين.

و فوراً توجه إسماعيل إلى سلمية، ومنها إلى دمشق، وعلم المنصور بذلك، فكتب إلى عامله أن يلقي القبض على الاِمام إسماعيل، ولكن عامله المذكور كان قد اعتنق المذهب الاِسماعيلي، فعرض الكتاب على الاِمام إسماعيل، الذي ترك البلاد نحو العراق حيث شوهد بالبصرة عام 151ه_ ، وقد مرّ على مقعد فشفاه بإذن اللّه، ولبث الاِمام إسماعيل عدّة سنوات يتنقل سرّاً بين أتباعه، حتى توفي بالبصرة عام 158ه_ .

ويوَكد كتاب دستور المنجمين أنّ إسماعيل هو أوّل إمام مستور وكان بدء ستره سنة 145ه_ ولم يمت إلاّ بعد سبع (2)سنين». (3)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال ، ولم يكن الاِمام الصادق - عليه السّلام- ولا

____________

(1) 1 .مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 16 ترى أنّالموَرخ الاَوّل الاِسماعيلي يذكر موته في حياة أبيه وهذا يوَكد على موته بعده، فما هو الحق؟ وما هو المتوقع من مذهب حجر أساسه الريب والشك؟!!

2. فيكون وفاته على هذا عام 151، لا عام 158 كما ذكره قبل سطر .

3. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 142_143.

( 84 )

أصحابه الاَجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السرية، حتى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس، وهوبعدُ حيّ يُرزق، ولم يكن عامل الخليفة بالمدينة المنورة بليداً، يكتفي بالتنويه، حتى يتسلَّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العباسية.

والعجب أنّ الكاتب يذكر في كلامه الثاني أنّعامل الخليفة في المدينة كان بدوره من الاِسماعيليين، مع أنّه

لم يكن في ذلك اليوم أثر للاِسماعيلية :«وكانت الاِمامة لاَبيه الاِمام الصادق - عليه السّلام- فكيف يكون في حياة الصادق - عليه السّلام- من الاِسماعيلية؟! وأعجب منه أنّه يعتمد في إثبات معتقده بدستور المنجمين، ثمّ يذكر له مصدراً في التعليقة بالشكل التالي «بلوشيه 57_ 58 دى خويه 203».

إنّ عقيدة إسلامية مبنيّة على تنبّوَ المنجمين _ وما أكثر أخطائهم _ عقيدةٌمنهارةٌ وفاشلة.

و لو أنّ هوَلاء التجأوا في تصحيح إمامة ابنه، محمد بن إسماعيل إلى القول بعدم بطلان إمامة إسماعيل بموته في حياة والده، ولمّا توفي الاِمام الصادق تسلّم عبد اللّه بن إسماعيل الاِمامة من والده، لكان أرجح من اللجوء إلى بعض الاَساطير التي لا قيمة علمية لها في مجالات البحوث التاريخية والعقائدية المبتنية على أُسس علمية دقيقة.

والحقّ أنّه توفي أيام حياة أبيه، بشهادة الاَخبار المتضافرة التي تعرفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمالها؟! وستر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يعلن بها موته فانّه منهج وأُسلوب السياسيين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والموَامرة، ومن يريد تفسير فعلَ الاِمام عن هذا الطريق فهو من هوَلاء الجماعة « وكلّ إناء بالذي فيه ينضح». وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

( 85 )

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لاِسماعيل ولا لولده الاِمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولده، بشهادة أنّ المهدي العباسي الذي تسلم عرش الخلافة بعد المنص_ور العباسي 158_ 169ه_ كان متشدداً على أصحاب الاَهواء والفرق، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على الناس، فقال يونس: قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة، ومرّة

أُخرى بمدينة الوضاح، فقال: إنّ ابن المفضل صنف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة حتى قال في كتابه: وفرقة يقال لهم الزرارية، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي، وفرقة يقال لهم اليعفورية، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الاَقطع، وفرقة يقال لهم الجواليقية. قال يونس: ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه. (1)

ترى انّه يذكر جميع الفرق المزعومة للشيعة، حتى يذكر العمارية المنسوبة إلى عمار الساباطي الذي لم يكن له يوم ذاك أيّ تابع إلاّ كونه فطحياً موَمناً بإمامة عبد اللّه الاَفطح، ولا يذكر الاِسماعيلية ؟! فلو كانت لاِسماعيل دعوة سرية أيّام المنصور، ثمّ لابنه محمد، حيث كانا ينتقلان من بلد إلى بلد، كان من المحتّم مجيء اسمه في قائمة أصحاب الاَهواء. كلّ ذلك يدلّ على أنّ المذهب قد نشأ بعد لاَي من الدهر .

إلى هنا تمّ البحث في الاِمام الاَوّل، وكانت حصيلته هي:

أنّ الرجل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتُوفي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أيُّ دعوةٍ للاِمامة، ولم تظْهر أيَّ دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العباسي الذي تُوفي عام 169ه_، وقد مضى على وفاة الاِمام الصادق - عليه السّلام- إحدى وعشرون سنة.

____________

1. الكشي: الرجال: 227.

( 86 )

الاِمام الثاني محمد بن إسماعيل

الاِمام الثاني محمد بن إسماعيل

(132_193ه_)

محمد بن إسماعيل، هو الاِمام الثاني للاِسماعيلية، قال ابن عنبة: أعقب إسماعيل من محمد وعلي ابني إسماعيل، أمّا محمد بن إسماعيل فقال شيخ الشرف العبيدلي: هو إمام الميمونية وقبره ببغداد.

ويصفه الكاتب الاِسماعيلي أنّه ولد سنة 141 في المدينة عندما توفي والده الاِمام إسماعيل، اضطر لترك المدينة خوفاً من مراقبة الرشيد العباسي، الذي استطاع بنشاطه من إخماد كافة الثورات والدعوات الاِمامية، فذهب إلى الكوفة، ومنها إلى فرغانة، ثمّ إلى نيسابور،

عمل على نشر دعوته بنشاط في الجزيرة العربية، وفي كافة البلدان الاِسلامية، وقد استطاع التموية على الخلفاء العباسيين والاِفلات من قبضتهم، وهم المهدي والهادي والرشيد.

إزداد تستراً بعد أن أعطى الرشيدُ أمراً بالقبض عليه، ثمّ إنّه رَحَل إلى الريّ ومنها إلى نهاوند، وفيها عقد زواجه على ابنة أميرها أبي المنصور بن جوشن، وبعد ذلك توجه إلى «تدْمُر» في سوريا حيث جعلها مركزاً لاِقامته ونشر دعوته، وجّه الرشيد جيشاً لاِلقاء القبض عليه عندما كان في نهاوند، ولكن أتباعه تمكنوا من الانتصار على الجيش المذكور وردّوه خائباً.

يقال أنّه هو الذي أرسل الداعيين: الحلواني وأبا سفيان إلى المغرب، تُوفِي

( 87 )

في مدينة «تَدْمر» و دفن في جبل واقع إلى الشمال الغربي منها، ويعرف حتى الآن بضريح محمد بن علي، وفاته سنة 193ه_.

يقال إنّ حجته هو ميمون القداح، والحقيقة أنّ الاِمام محمد بن إسماعيل هو نفسه كان يحمل لقبي ميمون والقداح.

ترك عدداً من الاَولاد ومنهم عبد اللّه الذي كان وليّاً للعهد. (1)

أقول: للقارىَ الكريم أن ينظر إلى كلمات ذلك الكاتب بنظر الشك والريبة، ويتفحّص عن مآخذ كلامه ومصادر نقله، فإنّ ما وقفنا عليه في السير والآثار لا يدعم كلامه، وذلك للاَسباب التالية:

1. إنّ شيخ الشرف العبيدلي قال: إنّه توفي ببغداد، وقبره هناك، والكاتب يذكر أنّه توفي ب_«تدمر» بسوريا، وقبره هناك، وله ضريح معروف بضريح «محمد بن علي» ولكن من أينَ علم انّه ضريح محمد بن إسماعيل؟! وأنّه حُرِّفَ اسم والده.

2. الروايات المتضافرة من الفريقين تشهد على أنّه كانت بينه وبين الرشيد صلة وكان موقفه منه، موقف العين، وقد أخبره بما يجري في أوساط العلويين، من جمع الاَموال للثورة، والدعوة إلى الاِمامة.و من هذه الروايات التي وقفنا عليها:

روى ابن عنبة، عن

أبي القاسم بن إسماعيل نسابة المصريين، أنّ موسى الكاظم - عليه السّلام- كان يخاف ابن أخيه محمد بن إسماعيل، ويبرّه، وهو لا يترك السعي به إلى السلطان من بني العباس.

وقال أبو نصر البخاري: كان محمد بن إسماعيل بن الصادق - عليه السّلام- مع موسى الكاظم - عليه السّلام- يكتب له السر إلى شيعته في الآفاق. فلما ورد الرشيد الحجاز، سعى (2)

محمد بن إسماعيل بعمه إلى الرشيد. فقال: أعلمتَ أنّفي الاَرض خليفتين

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:181.

2. ذكر الشيخ المفيد أنّ الساعي بعمه الكاظم - عليه السّلام- إلى الرشيد هو علي بن إسماعيل لا أخوه محمد. وذكر قصة السعاية أُنظر (الاِرشاد) باب ذكر السبب في وفاته - عليه السّلام- .

( 88 )

يجبى إليهما الخراج؟ فقال الرشيد: ويلك أنا ومن؟ قال: موسى بن جعفر. وأظهر أسرارَه فقبض الرشيد على موسى الكاظم - عليه السّلام- و حبسه، وكان سبب هلاكه، وحظى محمد بن إسماعيل عند الرشيد، وخرج معه إلى العراق، ومات ببغداد، ودعا عليه موسى بن جعفر عليمها السّلام بدعاء استجابه اللّه تعالى فيه وفي أولاده، ولمّا لِيْمَ (1) موسى بن جعفر عليمها السّلام في صلة محمد بن إسماعيل والاتصال مع سعيه به. قال: إنّي حدثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، الرحم إذا قُطِعتَ فوَصَلْتَ ثمّ قُطِعَتْ فَوصلت ثمّ قُطِعْتَ فوصلتَ ثمُ قُطِعَت قطعها اللّه تعالى، وإنّما أردتُ أن يقطع اللّه رحمه من رحمي. (2)

هذا ما رواه ابن عنبة من طرق أهل السنّة، كما رواه محدّثوا الشيعة ونأتي بنصّ أفضلهم وأوسعهم اطلاعاً، أعني: الشيخ الكليني المتوفى عام 329ه_ في الكافي.

روى الكليني بسند صحيح (3) عن علي بن

جعفر قال: جاءني محمد بن إسماعيل وقد اعتمرنا عمرة رجب، ونحن يومئذ بمكة، فقال: يا عمُّ إنّي أُريد بغداد، وقد أحببتُ أن أُودِّعَ عمي أبا الحسن _ يعني موسى بن جعفر - عليه السّلام- _ وأحببت أن تذهبَمعي إليه، فخرجتُ معه نحو أخي، وهو في داره التي بالحوبة، وذلك بعد المغرب بقليل، فضربت البابَ فأجابني أخي، فقال: مَنْ هذا؟ فقلت: علي، فقال: هو ذا أُخرِجُ _ وكان بطيء الوضوء _ فقلت: العجل، قال: واعجل فخرج وعليه ازار ممشّق (4) قد عقده في عنقه حتى قعد تحت عتبة الباب، فقال عليّ بن جعفر: فانكببتُ عليه فقبّلتُ رأسه، وقلت: قد جئتك في أمر إن تره صواباً

____________

1. فعل ماضي مجهول من اللوم.

2. ابن عنبة: عمدة الطالب: 233.

3. رواه عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى العبيدي، عن موسى بن القاسم البجلي و هو نجل معاوية بن وهب البجلي، عن علي بن جعفر، والرواة ثقات والرواية صحيحة.

4. أي مصبوغ بالمشق وهو الطين الاَحمر.

( 89 )

فاللّه وفق له، وإن يكن غير ذلك، فما أكثر ما نخطىَ، قال: وما هو؟ قلتُ: هذا ابن أخيك يريد أن يودعك ويخرجَ إلى بغداد، فقال لي: أُدعه، فدعوتُه وكان متنحيّاً، فدنا منه فقبّل رأسه.

وقال: جعلت فداك أوصني فقال: أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي، فقال مجيباًله: من أرادك بسوء فعل اللّه به، وجعل يدعو على من يريده بسوء، ثمّ عاد فقبّل رأسه، فقال: يا عمُّ أوصني، فقال: أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي، فقال: من أرادك بسوء فَعَلَ اللّه به وفعل، ثمّ عاد فقبّل رأسه، ثمّ قال: يا عم أوصني، فقال: أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي، فدعا على من أراده بسوء، ثمّتنحّى عنه،

ومضيت معه، فقال لي أخي: يا عليّ مكانَك فقمتُ مكاني فدخل منزله، ثمّدعاني فدخلتُ إليه، فتناول صرّة فيها مائة دينار فأعطانيها. وقال: قل لابن أخيك يستعين بها على سفره، قال عليّ: فأخذتها فأدرجتها في حاشية ردائي، ثمّ ناولني مائة أُخرى وقال: أعطه أيضاً، ثمّناولني صرة أُخرى وقال: أعطه أيضاً.

فقلت: جعلت فداك، إذا كنتَتخاف منه مثلَ الذي ذكرتَ، فلِمَ تعينه على نفسك؟ فقال: إذا وصلتُه وقطعني قطع اللّه أجله، ثمّتناول مخدَّه أدم، فيها ثلاثة آلاف درهم وضح (1) وقال: أعطه هذه أيضاً قال: فخرجت إليه فأعطيته المائة الاَُولى ففرح بها فرحاً شديداً ودعا لعمِّه، ثمّ أعطيته الثانية والثالثة ففرح بها حتى ظننت انّه سيرجع ولا يخرج، ثمّ أعطيته الثلاثة آلاف درهم فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسلّم عليه بالخلافة، وقال: ما ظننتُ أنّفي الاَرض خليفتين، حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة، فأرسل هارون إليه بمائة ألف درهم فرماه اللّه بالذبحة (2)فما نظر منها إلى درهم ولا مسّه.(3)

____________

1. الوضح: الدرهم الصحيح. لسان العرب: 2|635، مادة «وضح».

2. الذبحة: وجع في الحلق، أو دم يخنق فيقتل . لسان العرب: 2|438، مادة «ذبح».

3. الكليني: الكافي: 1|485_ 486.

( 90 )

روى الكشي في رجاله، عن أبي جعفر محمد بن قولويه القمي، قال: حدثني بعض المشايخ، عن علي بن جعفر بن محمد عليمها السّلام ، قال: جاءني محمد بن إسماعيل ابن جعفر يسألني أن أسأل أبا لحسن موسى - عليه السّلام- ، أن يأذن له في الخروج إلى العراق، وأن يرضى عنه ويوصيه بوصيّة، قال: فتجنّبت حتى دخل المتوضّى ... فلمّ_ا خرج قلت له: إنّابن أخيك محمد بن إسماعيل، يسألك أن تأذن له في الخروج إلى العراق، وأن

توصيه. فأذن له - عليه السّلام- ، فلمّا رجع إلى مجلسه قام محمد بن إسماعيل، وقال: يا عم أحبَّ أن توصيني. فقال: «أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي». فقال: لعن اللّه من يسعى في دمك. ثمّ قال: يا عم أوصني، فقال:«أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي». قال: ثمّ ناوله أبو الحسن - عليه السّلام- صرة فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها محمد، ثمّ ناوله أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها، ثمّ أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً، فقبضها ثمّ أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده. فقلتُ له في ذلك: استكثرته؟ فقال: «هذا ليكون أوكد لحجّتي إذا قطعني ووصلتُه». قال: فخرج إلى العراق، فلمّا ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل، واستأذن على هارون وقال للحاجب: قل لاَمير الموَمنين إنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب. فقال الحاجب: انزل أوّلاً وغيّر ثياب طريقك وَ عُدْ لاَُدخلك إليه بغير إذن فقد نام أمير الموَمنين في هذا الوقت. فقال: أعلم أمير الموَمنين انّي حضرتُ ولم تأذن لي، فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن إسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل قال: يا أمير الموَمنين خليفتان في الاَرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج وأنت بالعراق يجبى لك الخراج. فقال: واللّه؟! فقال: واللّه. فقال: واللّه؟! قال: فأمر له بمائة ألف درهم، فلمّا قبضها وحمل إلى منزله أخذته الريحة في جوف ليلته، فمات، وحول من الغد المال الذي حمل إليه. (1)

____________

1. الكشي: الرجال:226، في ترجمة هشام بن الحكم.

( 91 )

و رواه ابن شهر آشوب في مناقبه. (1)

فلو صحّ ما ذكراه فكيف تكون له ثورة أيام الرشيد وهو يتعامل معه، معاملة العيون والجواسيس، أو السعاة

والوشاة.

نعم نقل أبو الفرج الاصفهاني نفس القصة وتبعه الشيخ المفيد (2)ولكن الساعي في كليهما هو علي بن إسماعيل أخو محمد بن إسماعيل، لكن السند قاصر، لاَنّ الاصفهاني يرويه عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة المتوفى عام 332ه_، عن شيخه: يحيى بن الحسن العلوي (3)والرواية مرسلة إذ لا يتمكن ابن عقدة من نقل القصة بواسطة واحدة، كيف والاِمام الكاظم قد أُخذ في آخر السبعينات بعد المائة، وتوفي عام 183ه_ (4)ولاَجل الاِيماء إلى الاِرسال أضاف المفيد بعد إنهاء السند قولَه عن مشايخهم: فما نقله الكليني بسند صحيح هو المعتبر.

***

وما ذكره:«وجّه الرشيد جيشاً لاِلقاء القبض عليه عندما كان في نهاوند...» لم أقف على مصدره ولقد تصفّحت حياة الرشيد (170_193ه_) في تاريخ الطبري، ومروج الذهب للمسعودي، وكامل الجزري، فلم أجد فيها شيئاً من الحرب المزعومة وانتصار محمد بن إسماعيل على جيش الرشيد.

نعم نقل الجزري في حوادث سنة 312ه_ : انه ظهر في الكوفة رجل ادّعى انّه «محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو رئيس الاِسماعيلية، وجمع جمعاً عظيماً من الاَعراب وأهل السواد واستفحل أمره في شوال، فسيّر إليه جيش من بغداد، فقاتلوه وظفروا به وانهزم،

____________

1. ابن شهر آشوب: المناقب:4|326، قريباً مما نقله الكليني والكشي.

2. المفيد: الاِرشاد: 298.

3. في إرشاد المفيد: أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى عن مشايخهم.

4. الجزري: الكامل: 6|164، لاحظ حوادث سنة 183ه_.

( 92 )

وقتل كثير من أصحابه. (1)

قال مصطفى غالب: ويعتبر الاِمام محمد بن إسماعيل أوّل الاَئمة المستورين،و الناطق السابع ومتم الدور، لاَنّ إمامته كانت بداية دور جديد في تاريخ الدعوة الاِسماعيلية، فقام بنسخ الشريعة التي سبقته، وبذلك جمع بين النطق والاِمامة، ورفع

التكاليف الظاهرة للشريعة، ونادى بالتأويل، واهتم بالباطن، ولذلك قال فيه الداعي إدريس: «وإنّما خص محمد بن إسماعيل بذلك لانتظامه في سلك مقامات دور الستر، لاَنّك إذا عددت آدم ووصيه وأئمّة دوره، كان خاتمهم الناطق،وهو نوح - عليه السّلام- وإذا عددت عيسى ووصيه قائمة دوره، كان محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّممتسلماً لمراتبهم، وهو الناطق خاتم للنطقاء، وكان وصيّه - عليه السّلام- بالفضل منفرداً به، وإذا عددت الاَئمّة في دوره كان محمد بن إسماعيل سابعهم، وللسابع قوّة على من تقدّمه، فلذلك صار ناطقاً وخاتماً للاَُسبوع، وقائماً وهو ناسخ شريعة صاحب الدور السادس، ببيان معانيها وإظهار باطنها المبطن فيها. (2)

ولولا انّه فسّ_ر نسخ الشريعة ببيان معانيها وإظهار باطنها المبطن فيها، كان المتبادر منه أنّه كان صاحب شريعة ودين حديث وهو كما ترى.

ثمّ إنّ ظاهر كلامه انّ النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - كان خاتماً للدور الثاني، وانّ الدور الثالث يبتدأ بوصي النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - علي أمير الموَمنين - عليه السّلام- و بما انّهم لا يعدّون الحسن بن علي في أئمتهم، يكون محمد بن إسماعيل هو سابع الاَئمّة وأفضلهم.

إنّ ما ذكره اعتبارات وتخيّلات لم يقم عليها دليل، فما هو الدليل القاطع العقلي أو النقلي على هذا الدور ، وإنّ كلّ سابع، خاتم له.

____________

1. الجزري: الكامل:8|157.

2. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:148.

( 93 )

الاِمام الثالث عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل

الاِمام الثالث عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل

(179_212ه_)

ولد في بلدة نيسابور عام 179 ه_ من ألقابه: المستور، والرضي، والناصر، والعطار، وعبد اللّه الاَكبر، كان كثير التنقل بين نهاوند والاَهواز وطبرستان.

عرف أنّه كان معاصراً للرشيد، وقد أدرك عصر المأمون. سمّى جميع دعاته باسمه حتى لا يعرف .عندما خرج من فرغانة

إلى الديلم، وكان يصحبه أخوه حسين. وفي الديلم تزوّج فتاة علوية وولد له منها أحمد.

و ألّف في سلمية رسائل «إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء».

توفي سنة 212 ه_، ودفن في سلمية (1) وضريحه يعرف بالاِمام إسماعيل.(2)

إنّ من يدرس كتاب رسائل «إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء» يقف على أنّه أثر لجنة علمية لا تأليف شاب لم يتجاوز عمره الثلاثين إلاّ قليلاً.

إنّ هذا الكتاب أُلّف في القرن الرابع الهجري، وقد قامت بتأليفه جماعة، وكان أبو حيان التوحيدي على معرفة بأحوال أحد أفرادها، وقد وصفه لصمصام الدولة الذي ولي الاَمر في سنة 372ه_. (3)

____________

1. بليدة بالشام من أعمال حمص.

2. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:182.

3. ابن الاَثير: الكامل في التاريخ: 9|22.

( 94 )

ففي مقدمة المحقّق : تألّفتْ هذه الجماعة في القرن الرابع الهجري، وكان موطنها البصرة، ولها فرع في بغداد، ولم يعرف من أشخاصها سوى خمسة يتغشاهم الغموض والشك... فقيل إنّ أحدهم هوأبو سليمان محمد بن معشر البستي المعروف بالمقدسي، والآخر أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، ثمّ أبو أحمد المهرجاني، فأبو الحسن العوفي، فزيد بن رفاعة، ويوَخذ من كلام لاَبي حيّان التوحيدي أثبته أحمد زكي باشا في مقدمته لرسائل الاِخوان انّ زيد بن رفاعة كان متهماً بمذهبه، وانّ الوزير صمصام الدولة بن عضد الدولة سأله عنه. (1)

____________

1. رسائل إخوان الصفا وخلاّن الوفاء:5، المقدمة.

( 95 )

الاِمام الرابع أحمد بن عبد اللّه

الاِمام الرابع أحمد بن عبد اللّه

(198_265ه_)

عرّفه الكاتب عارف تامر بقوله: ولد في سلمية سنة 198ه_، واتخذ من هذه المدينة مقراً له ومركزاً لتوزيع الدعاة ونشر التعاليم في المناطق الاَُخرى. كان على جانب كبير من العلم، وإليه تنسب رسالة الجامعة لاِخوان الصفاء وخلاّن الوفاء.

ولد له ولدان هما: الحسن وسعيد.

كان يتنقل بين الديلم والكوفة، وغيرهما في سبيل التجارة.

والحقيقة أنّ ذلك لم يكن إلاّ في سبيل نشر الدعاية والاَفكار الاِسماعيلية. لقبه الوفي.

عاصر المأمون واشترك في إثارة الناس عليه، إلى أن يقول: كان يقضي فصل الشتاء في سلَمية، والصيف في مصياف. نشاط الدعاة في عصره بلغ الاَوج خاصة في المجال العلمي.

مات في مصياف سنة 265ه_ عن 67 عاماً، ودفن فيها في جبل مشهد.

(1)

و يقول الموَرّخ المعاصر: ولقد تعرض الاِمام أثناء وجوده في السلَمية لمضايقات الخلفاء العباسيين المستمرة، لذلك وجد بأنّ السلَمية لم تعد مكاناً صالحاً له، فغادرها سرّاً إلى الري حيث استقر فيها مدّة طويلة عمل خلالها لنشر دعوته على نطاق واسع، فاعتنقها أكثر الملوك والاَُمراء، وقدّموا جميع إمكانياتهم

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:182.

( 96 )

لمساعدة الدعاة في سبيل نشرها وتعميمها في جميع الاَقطار الشرقية، والجدير بالذكر انّ أكثر الحكام والولاة في العهد العباسي كانوا يتظاهرون بنقمتهم على الاِسماعيلية، بينما كانوا يدينون بعقائدها في الباطن وينصرون الدعاة، ويعملون سراً على تقوية الدعوة وإنجاحها. (1)

وقد ذكر عارف تامر انّ لقبه هوالوفي في حين أنّ مصطفى غالب قد لقبه بمحمد التقي، والظاهر انّهما لقبين لشخص واحد.

ولا يذهب عليك ما في كلامه من المبالغة من اعتناق أكثر الحكام والولاة لعقائد الاِسماعيلية، فإنّالموَرّخين المعاصرين

(2) قد اعتادا على المبالغة في الثناء وانتشار الدعوة من دون أن يذكرا لكلامهما مصدراً.

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:167.

2. عارف تامر، مصطفى غالب، والثاني أكثر مبالغة.

( 97 )

الاِمام الخامس الحسين بن أحمد

الاِمام الخامس الحسين بن أحمد

(219_ 289ه_)

ولد في مصياف سنة 219ه_، كان مركز إقامته في سلمية. اشتهر بثروته المالية الطائلة.

من ألقابه: المرتضى ، والمقتدى، والزكي، والهادي، والتقي.

لخص رسالة الجامعة برسالة موجزة سمّ_اها جامعة الجامعة.

كان على علاقات طيبة مع الهاشميين القاطنين في سلمية، التقى بالنجف الاَشرف بالداعي أبي

قاسم حسن بن فرح بن حوشب (منصور اليمن) وعلي بن الفضل حيث كانا يدعوان للحسن العسكري الاثني عشري فأثّر فيهما وأحضرهما إلى سلمية، ثمّ جهزهما بعد ذلك إلى اليمن.

وفي عهده تم إرسال أبي عبد اللّه الشيعي (1)(2)إلى المغرب.

في عصره دبَّ الوهن إلى الدولة العباسية وأحدقت بها الثورات والاضطرابات، تولى ابن طولون في عهده شوَون مصر وأوكل إليه تنظيم بلاد الشام أيضاً. كانت الاَموال الطائلة تحمل إليه من كافة الجهات حتى من آذربيجان.

____________

1. والقرائن تشهد انّالمراد منه، هو عبد اللّه بن ميمون القداح.

2. وصار بعد ذلك داعية عبيد اللّه المهدي الاِمام السادس، وسيوافيك تفصيله في ترجمة «عبيد اللّه».

( 98 )

مات في سلمية ودفن في مقام جده عبد اللّه بن محمد وكان ذلك سنة 265. (1)

ما ذكره من أنّه توفي عام 265ه_ غير صحيح، لاَنّه عام وفاة والده ولعلّه تصحيف سنة 289ه_. وقد أرّخ ميلاده ووفاته موَلف تاريخ الدعوة الاِسماعيلية كما ذكرنا وقال: وعهد بالاِمامة من بعده لابنه محمد المهدي (2)وقال له: إنّك ستهاجر بعدي هجرة وتلقى محناً شديدة. (3)

قد سبق وأن ذكرنا أنّ محمد بن إسماعيل _ أي الاِمام الثاني _ أرسل الداعيين : الحلواني وأبا سفيان إلى المغرب، ولكن لم يحددا تاريخ البعث، فبما انّ محمد بن إسماعيل استلم الاِمامة _ حسب رأي الاِسماعيلية _ عام 158ه_ وتوفي عام 193ه_ ، فيكون إرسالهما بين الحدين.

كان الداعيان مهتمين بالتبليغ والدعوة في أيام الاَئمّة الثلاثة إلى أن استلم الاِمام الحسين بن أحمد زمام الاِمامة، ووقف بأنّ الدعوة في المغرب تتقدم باستمرار، فحينئذٍ طلب من الداعية الكبير أبي عبد اللّه الحسين أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي _ الذي كان يدعو الناس إلى المذهب الاِسماعيلي في البصرة _

الذهاب إلى اليمن ويدرس هناك على ابن حوشب ويطيعه ويقتدي به، ثمّ يذهب بعد فراغه من الدراسة، إلى المغرب قاصداً بلدة «كتامة».

توجه أبو عبد اللّه إلى اليمن حيث شهد مجالس ابن حوشب وأصبح من كبار أصحابه، فلمّا أتى خبر وفاة الحلواني وأبي سفيان دعاة المغرب إلى ابن حوشب قال لاَبي عبد اللّه الشيعي: إنّأرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك، فبادر فانّها موطّأة ممهّدة لك.

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:183.

2. عبيد اللّه المهدي.

3. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:171.و لم يذكر مصدراً لكلامه.

( 99 )

فخرج أبو عبد اللّه إلى مكة وأعطاه ابن حوشب مالاً وسيّر معه عبد اللّه بن أبي ملاحف، فلمّا قدم أبو عبد اللّه مكة سأل عن حجاج كتامة، فأرشِد إليهم، فاجتمع بهم، ولم يُعرِّفهم قصدَه، وجلس قريباً منهم، فسمعهم يتحدثون بفضائل أهل البيت، فأظهر استحسان ذلك، وحدّثهم بمالم يعلموه، فلمّ_ا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والانبساط معه، فأذن لهم في ذلك، فسألوه أين مقصده، فقال: أُريد مصر، ففرِحوا بصحبته.

وكان من روَساء الكتاميين بمكة رجل اسمه «حُريث الجُميلي»، وآخر اسمه موسى بن مكاد فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه، وأظهر لهم العبادة والزهد، فازدادوا فيه رغبة وخدموه، وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية، فقالوا: ما له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام، قال: أفتحملون السلاح؟ قالوا: هو شغلنا، ولم يزل يتعرّف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر، فلمّا أراد وداعهم قالوا له: أي شيء تطلب بمصر؟ قال: أطلب التعليم بها (1) قالوا: إذا كنت تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ، ونحن أعرف بحقك، ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم بعد

الخضوع والسوَال، فسار معهم.

فلما قاربوا بلادَهم لقيهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره، فرغبُوا في نزوله عندهم واقترعوا فيمن يضيِّفه منهم، ثمّ رحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف شهر ربيع الاَوّل سنة ثمانين ومائتين ، فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه، فقال لهم: أين يكون فج الاَخيار؟ فتعجبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليان، فقال : إليه نقصد، ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم، فأرضى بذلك الجميع.

و سار إلى جبل يقال له إنكجان، وفيه فج الاَخيار، فقال: هذا فج الاَخيار، وما سمي إلاّ بكم ولقد جاء في الآثار: انّللمهدي هجرة تنبو عن الاَوطان، ينصره

____________

1. يريد تعليم مذهب أهل البيت - عليهم السّلام- .

( 100 )

فيها الاَخيار من أهل ذلك الزمان، قوم مشتق اسمهم من الكتمان، فإنّهم كتامة وبخروجكم من هذا الفج يسمّى فجُ الاَخيار.

ثمّ إنّه قال للكتاميين: أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبوسفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لاَمره. ثمّ إنّ الحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة، فأخذ أبا عبد اللّه إليه، ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة. ثمّ كان الاَمر على ذلك حتى توفي الاِمام الحسين بن أحمد عام 289ه_ وعهد بالاِمامة من بعده لابنه محمد المهدي، وقال له: إنّك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محناً شديدة، فلمّا قام عبيد اللّه بعد أبيه انتشرت دعوته، وأرسل إليه أبو عبد اللّه الشيعي رجالاً من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح اللّه عليه وانّهم ينتظرونه. وهذا ما سنذكره في سيرة الاِمام التالي الاِمام عبيد

اللّه المهدي. (1)

***

هوَلاء هم الاَئمّة المستورون عند الاِسماعيلية، والذي يدلّ على ذلك أنّ القاضي النعمان وصفهم بالاستتار، وجعل مبدأ الظهور قيام عبد اللّه الاِمام المهدي باللّه، وإليك أبياته في أُرجوزته يقول:

واشتدت المحنة بعد جعفرٍ * فانصرف الاَمر إلى التستر

وكان قد أقام بعضَ ولده * مقامَه لمّا رأى من جَلدِه

فجعل الاَمر له في ستر * فلم يكن قالوا بذاك يدري

لخوفه عليه من أعدائه * إلاّ ثقاتُ محضِ أوليائِه

____________

1. الجزري: الكامل: 8|31 _ 37؛ تاريخ ابن خلدون:4|40_44،و أيضاًص 261.وقد لخصنا القصة وحذفنا ما ليس له صلة بالموضوع كالحروب التي خاضها أبو عبد اللّه الشيعي.

( 101 )

وأهلُه الذين قد كانوا معه * فقام بالاَمر، وقاموا أربعة

لمّا مضى كلّهم لصلبه * مستترين بعده بحسبه

قد دخلوا في جملة الرعية * لشدة المحنة والرزية

و كلهم له دعاة تسري * ودعوة في الناس كانت تجري

يعرفهم في كل عصر وزمن * وكل حين وأوان، كلُّ مَن

والاهم،وكلُّ أوليائهم * يعلم ما علم من أسمائهم

ولم يكن يمنعني من ذكرهم * إلاّ احتفاظي بمصون سرهم (1)

و ليس لي بأن أقول جهراً * ما كان قد أَُُدّي إليّ سرّاً

وهم على الجملة كانوا استتروا * و لم يكونوا إذ تولّوا ظهروا

بل دخلوا في جملة السواد * لخوفهم من سطوة الاَعادي

حتى إذا انتهى الكتاب أجله * وصار أمر اللّه فيمن جعله

بمنّه مفتاحَ قفل الدين * أيّده بالنصر والتمكين (2)

و ممّا ينبغي إلفات القارىَ إليه انّ القاضي في كتابه «الاَُرجوزة المختارة» وإن ذكر في المقام استتار الاَئمة بعد رحيل الاِمام الصادق وهو يوافق عقيدة الاِسماعيلية، لكنّه في مقام الرد والنقد، رد على جميع الفرق الشيعية ماعدا الاِمامية الاثني عشرية ، فقد رد على مقالات الحريرية، الراوندية، الحصينية، الزيدية، الجارودية، البترية،

المغيرية، الكيسانية، الكربية، البيانية، المختارية، الحارثية،

____________

1. لوصحّ ما ذكره يجب على سائر الدعاة سلوك مسلكه وعدم التنويه بأسمائهم، لكن المشهور خلافه، ولعلّ الاختلاف في أسمائهم وسائر خصوصياتهم دفعه إلى هذا الاعتذار.

2. القاضي النعمان: الاَرجوزة المختارة:191_192، والاَُرجوزة تبحث عن قضية الاِمامة منذ وفاة الرسول، إلى عصره، والظاهر أنّه ألّفها في عهد الخليفة الفاطمي الثاني القائم بأمر اللّه وكان حكمه من سنة 322 إلى 334 كما استظهر محقّق الكتاب.

( 102 )

العباسية، الرزامية.و لم يردّ على الاِمامية بشيء فلو لم يكن المذهب الاثنا عشري مرضيّاً عنده لما فاته التعرض عليه، كيف وهو من أعظم فرق الشيعة؟!

وهذا يدل على أنّ الموَلف كان إمامياً اثني عشرياً _ حسب رأي المحدّث النوري _، ويعيش في حال التقية في عصر الخليفة الفاطمي المعزّ بدين اللّه في القاهرة ويجاريه، وقد ألف دعائم الاِسلام، الذي اعتمدت عليه الاِسماعيلية والاثنا عشرية، وإنّما المهم هو كتاب «تأويل الدعائم» الذي انفرد المذهب الاِسماعيلي في الاعتماد عليه.ولعلّه كان هناك مبرر لتأليف هذا الكتاب وما ماثله واللّه العالم.

و مع ذلك سيوافيك ما يخالف هذا الرأي في الفصل الثالث عشر ضمن ترجمة أبي حنيفة النعمان.

إلى هنا تمت ترجمة سيرة الاَئمّة المستورين، فلوجعلنا إسماعيل بن جعفر أوّل الاَئمّة، فالاَئمّة المستورون خمسة وهم:

1. إسماعيل بن جعفر، وقد عرفت أنّه لم تكن له أيّة دعوة، وإنّما ذكرناه في هذه القائمة مجاراة للقوم.

2. محمد بن إسماعيل، ولم تثبت عندنا له دعوة، بل كان يتعاطى مع هارون الرشيد على ما عرفت.

3. عبد اللّه بن إسماعيل، المعروف بالوفي.

4. الاِمام أحمد بن عبد اللّه، المعروف بالتقي.

5. الحسين بن أحمد، المعروف بالرضي.

وعلى هذا فالاِمام السادس أعني عبيد اللّه المهدي _ الذي خرج عن كهف الاستتار، وأسّس دولة إسماعيلية

بإفريقية_ هو ابن الاِمام السابق، أعني: الحسين بن أحمد، وعلى ذلك جرى موَرخو الاِسماعيلية فيذكرونه ابناً للاِمام السابق، ومع

( 103 )

ذلك ففي نسبه خلاف كما سيوافيك تفصيله.

تتمة

الموجود في كتب أنساب الطالبيين أنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لم يعقّب إلاّ من رجلين، ولم يتعرّضوا لعبد اللّه بن محمد، فضلاً عن أحمد بن عبد اللّه وولده الحسين.

قال الرازي: ولمحمد بن إسماعيل هذا من الاَولاد المعقبين اثنان: إسماعيل الثاني، وجعفر الاَكبر السلامي. (1)

وقال أبو طالب الاَزوَرقاني: وعقّب محمد من رجلين: جعفر الاَكبر السلامي، وإسماعيل الثاني. (2)

وقال ابن عنبة: وأعقب محمد بن إسماعيل من رجلين: إسماعيل الثاني، وجعفر الشاعر «السلامي». (3)

نعم ذكر الشهرستاني: انّ ثلاثة من أولاد محمد بن إسماعيل بقوا مستورين لا وقوف لاَحد عليهم: الرضي، والوفي، والتقي "قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيل" (4)ثمّ ظهر المهدي بالمغرب وبنى المهدية. (5)

ولكن ما ذكره الشهرستاني رأي تفرّد به.

ولذلك نرى أنّ بعض علماء الاَنساب جعل أئمّة الاِسماعيلية على الترتيب التالي:

____________

1. الرازي: الشجرة المباركة:101.

2. أبو طالب الاَزورقاني: الفخري في انساب الطالبيين:23.

3. ابن عنبة:عمدة الطالب:234.

4. الكهف:22.

5. الرازي: الشجرة المباركة:103.

( 104 )

1. إسماعيل بن الاِمام جعفر الصادق.

2. محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، المعروف بالمكتوم.

3. ابنه: جعفر بن محمد السلامي، المعروف بالمصدق.

4. ابنه: محمد بن جعفر، المعروف بالحبيب. (1)

5. ابنه: عبيد اللّه المهدي ابن محمد الحبيب، وعليه يكون المهدي الاِمام الخامس.

وفي بعض الروايات انّه ابن جعفر بن الحسن بن الحسن، بن محمد بن جعفر الشاعر السلامي بن محمد بن إسماعيل. (2)

____________

1. ابن عنبة:عمدة الطالب:235_ 236.

2. أُنظر تراجم محمد المكتوم، جعفر المصدق، محمد الحبيب في الاَعلام:6|34، 2|126، 6|70 نقلاً عن اتعاظ الحنفاء بأخبار الاَئمة الفاطميين الخلفاء.

( 105 )

الفصل السادس : في الأئمّة الظاهرين

الاِمام السادس عبيد اللّه المهدي

الاِمام السادس

عبيد اللّه المهدي

(260_322ه_)

الاِمام عبيد اللّه الملقب بالمهدي، هو موَسس الدولة الاِسماعيلية في المغرب.

ولد بسلمية التي هي بلدة بالشام من اعمال حمص عام 260_ 259 ودعي له بالخلافة على منابر: رقادة، والقيروان، يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة 289ه_، فخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العباس، وبنى البلدة المعروفة ب_«المهدية» وتوفي بها عام 322ه_.

إذا سبرنا التاريخ نجد أنّ الموَرخين، وأصحاب المعاجم، لا يمسّون إسماعيل ولا الاَئمّة الذين تلوه بكلمة مشينة، وإنّما يذكرونهم كسائر الفرق فلهم مالهم وعليهم ما عليهم، فلما وصل الاَمر إلى عبيد اللّه الذي أسس دولة شيعية في المغرب و تعاقب على حكمها خلفاء تمكنوا من إرساء دعائمها وتقوية مرتكزاتها، ثارت ثائرة السنّة المعاندين، وأخذوا يصبّون عليهم قوارع الكلم، ويرمونهم بأفظع النسب والتهم، ممّا يندى لها الجبين، والذي دعاهم لذلك أمران:

الاَوّل: عداوَهم السياسي، فهوَلاء الخلفاء أخرجوا المغرب ومصر والشامات من قبضة الخليفة ببغداد،مما حرض البلاط العباسي ووعاظ الخلفاء على سبّهم والطعن في نسبهم، وانّ نسب عبد اللّه المهدي لا يصل إلى آل علي، بل إلى مجوسي أو يهودي.

( 108 )

الثاني: بغضهم للشيعة، فلقد قام الخلفاء الفاطميون بتأسيس دولة إسلامية شيعية، لاَوّل مرة في أقصاع كبيرة من الاَرض وأشاعوا فيها التشيع، وحب أهل البيت، وأمروا بإدخال «حي على خير العمل» في الاَذان، وترك بعض البدع، كإقامة صلاة التراويح جماعة وغيرها، ممّا حدا بالمتعصبين من أهل السنّة كالذهبي، ومن لف لفه _ الذي كان لا يقيم للاَشاعرة من أهل العقائد ولا لغير الحنابلة من أهل الفقه وزناً ولا قيمة، فكيف للشيعة المنزهة للّه سبحانه عن الجسم ولوازمه _ أن يسبّهم ويتّهمهم بتهم رخيصة، وانّهم من عناصر يهودية قلبوا الاِسلام ظهراً لبطن.

فما نرى في

كتب التاريخ والمعاجم حول نسب عبيد اللّه المهدي، ك_«وفيات الاَعيان» لابن خلكان، وسير أعلام النبلاء للذهبي وغيرهما لا يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها، لاَنّها وليدة أجواء العداء السياسي، والاختلاف المذهبي، اللّذين يعميان ويصمان.

نعم هناك من رد تلك التهم المشينة من الموَرخين برحابة صدر كابن خلدون في مقدمته، والمقريزي في خططه.

يقول ابن خلدون: أوّلهم عبيد اللّه المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق (1) بن محمد المكتوم بن (2)جعفر الصادق، ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم وبالمحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم، وشهد فيه أعلام الاَئمّة، وقد مرّ ذكرهم. فإنّ كتاب المعتضد

____________

1. هو جعفر الاَكبر السلامي، ولد محمد بن إسماعيل ابن الاِمام الصادق - عليه السّلام- و ربما يعبر عنه بالمصدق ليتميز عن جدّه الاِمام الصادق - عليه السّلام- .

2. سقط عن الطبع: ابن إسماعيل بن جعفر الصادق، أُنظر عمدة الطالب: 235،وقد ذكر ابن خلدون نفسه في مكان آخر نسبه وقال: لما توفّي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الاِمام عهد إلى ابنه عبيد اللّه وقال: أنت المهدي...التاريخ 4|44.

( 109 )

إلى ابن الاَغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه، لمّا سار إلى المغرب، شاهد بصحة نسبه، وشعر الشريف الرضي مسجل بذلك. والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت،و قد كان نسبهم ببغداد منكراً عند أعدائهم شيعة بني العباس منذ مائة سنة، فتلون الناس بمذهب أهل الدولة وجاءت شهادة عليه مع أنّها شهادة على النفي، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم حتى في مكة والمدينة أدل شيء على صحّة نسبهم.

وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمونَ القدح وغيره، فكفاه ذلك

إثماً و سفسفة. (1)

ثمّ إنّ تقي الدين المقريزي بعد ما نقل أقوال المخالفين في حقّ عبيد اللّه المهدي _ حيث إنّهم وصفوه تارة بأنّه ابن مجوسي، وأُخرى أنّه ابن يهودي _ أخذ بالقضاء العادل وقال:

وهذه أقوال إن أنصفت تبيّن لك أنّها موضوعة، فإنّبني علي بن أبي طالب _ رضي اللّه عنه _ قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة، فما الحامل لشيعتهم على الاِعراض عنهم والدعاء لابن مجوسيّ أو لابن يهودي؟! فهذا ممّا لا يفعله أحد ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف، وإنّما جاء ذلك من قبل ضَعَفة خلفاء بني العباس عندما غصوا بمكان الفاطميّين، فإنّهم كانوا قد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة، وملِكوا من بني العباس بلاد المغرب ومصر والشام وديارَ بكر والحرمين واليمن، وخطب لهم ببغداد نحو أربعين خطبة وعجزت عساكر بني العباس عن مقاومتهم.

فلاذت حينئذٍ بتنفير الكافة عنهم بإشاعة الطعن في نسبهم، وبث ذلك عنهم خلفاوَهم وأعجب به أولياوَهم وأُمراء دولتهم الذين كانوا يحاربون عساكر الفاطميين كي يدفعوا بذلك عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن مقاومتهم،

____________

1. ابن خلدون: التاريخ :4|40.

( 110 )

و دفعهم عمّا غُلِبُوا عليه من ديار مصر، والشام والحرمين حتى اشتهر ذلك ببغداد، وأسجل القضاة بنفيهم من نسب العلويين، وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان الرضي والمرتضى (1)وأبو حامد الاسفرائيني والقدوري في عدّة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة اثنتين وأربعمائة أيام القادر.

وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر، وعرف بين الناس ببغداد وأهلها من شيعة بني العباس، الطاعنون في هذا النسب، والمتطيّرون من بني علي ابن أبي طالب، الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الاَفاعيل القبيحة، فنقل الاَخباريون

وأهل التاريخ ذلك كما سمعوه، ورووه حسب ما تلقوه من غير تدبّر، والحقّ من وراء هذا.

وكفاك بكتاب المعتضد من خلائف بني العباس حجة، فإنّه كتب في شأن عبيد اللّه إلى ابن الاَغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة (2) بالقبض على عبيد اللّه، فتفطّن _ أعزك اللّه _ لصحّة هذا الشاهد، فإنّ المعتضد لولا صحّة نسب عبيد اللّه عنده ما كتب لمن ذكرنا بالقبض عليه، إذ القوم حينئذٍ لا يَدْعون لِدعيّ البتة ولا يذعنون له بوجه، وإنّما ينقادون لمن كان علوّياً، فخاف ممّا وقع، ولو كان عنده من الاَدعياء، لما مرّ له بفكر ولا خافه على ضيعة من ضياع الاَرض.

وإنّما كان القوم، أعني: بني علي بن أبي طالب، تحتَ ترقّب الخوف من بني العباس لتطلّبهم لهم في كلّ وقت، وقصدهم إيّاهم دائماً بأنواع من العقاب، فصاروا ما بين طريد شريد، وبين خائف يترقّب، ومع ذلك فإنّ لشيعتهم الكثيرة المنتشرة في أقطارهم من المحبة لهم، والاِقبال عليهم مالا مزيد عليه، وتكرّر قيام

____________

1. سيوافيك كلام الرضي الذي نقله ابن أبي الحديد في شرحه.

2. سجلماسة مدينة انشئت سنة 140ه_ ، وتقع في محلة تافيلات اليوم في طرف صحراء المغرب على بعد حوالي 325 كلم إلى الجنوب الشرقي لمدينة فاس، عمرها بربر مكناسة، ولمّا تولاّها اليسع بن سمغون المكناسي أحاطها بسور وبنى بها عدّة مصانع و قصور ، وقد استمر عمران هذه المدينة إلى القرن العاشر الهجري.(دولة التشيع في بلاد المغرب: 109).

( 111 )

الرجال منهم مرّة بعد مرّة والطلب عليهم من ورائهم، فلاذوا بالاختفاء ولم يكادوا يُعْرفُون، حتى تسمّى محمد بن إسماعيل الاِمام جدُ عبيد اللّه المهدي بالمكتوم، سمّ_اه بذلك الشيعة عند اتّفاقهم على إخفائه، حذراً من المتغلّبين عليهم، وكانت الشيعة

فرقاً.

فمنهم من كان يذهب إلى أنّ الاِمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه، وهوَلاء يعرفون من بين فرق الشيعة بالاِسماعيلية من أجل انّهم يرون أنّ الاِمام من بعد جعفر ابنه إسماعيل، وانّ الاِمام بعد إسماعيل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المكتوم، وبعد ابنه محمد المكتوم، ابنه جعفر الصادق (1) ومن بعد جعفر الصادق، ابنه محمد الحبيب، وكانوا أهل غلو في دعاويهم في هوَلاء الاَئمّة.

وكان محمد بن جعفر هذا يوَمل ظهوره وانّه يصير له دولة، وكان باليمن من أهل هذا المذهب كثير بعدن وبإفريقية وفي كتامة و نفره، تلقوا ذلك من عهد جعفر الصادق، فقدم على محمد (الحبيب) بن جعفر والد عبيد اللّه رجل من شيعته باليمن فبعث معه الحسن بن حوشب في سنة ثمان وستين ومائتين، فأظهرا أمرهما باليمن، وأشهرا الدعوة في سنة سبعين، وصار لابن حوشب دولة بصنعاء، وبثّ الدعاة بأقطار الاَرض، وكان من جملة دعاته أبو عبد اللّه الشيعي، فسيّره إلى المغرب فلقي كتامة ودعاهم، فلمّا مات محمد (الحبيب) بن جعفر عهد لابنه عبيد اللّه فطلبه المكتفي العباسي وكان يسكن عسكر مكرم، فسار إلى الشام، ثمّ سار إلى المغرب فكان من أمره ما كان، وكانت رجال هذه الدولة الذين قاموا ببلاد المغرب وديار مصر أربعة عشر رجلاً .

هذه خلاصة أخبارهم في أنسابهم، فتفطّن ولا تغتر بزخرف القول الذي لفّقوه من الطعن فيهم، واللّه يهدي من يشاء. (2)

____________

1. كان التعبير بالمصدَّق.

2. المقريزي: الخطط: 1|348_ 349.

( 112 )

ولا يظن القارىَ الكريم انّ الكاتب بصدد الدفاع عن عقيدتهم وأُصولهم، وما اقترفوه من الاَعمال الشنيعة كسائر الخلفاء وا لملوك، وإنّما الهدف إيقاف القارىَ على بَخس حملة الاَقلام لحق هوَلاء، ولو كان لآل البيت حرية ولم

يكن لهم اضطهاد لما التجأوا إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى أقاصي البلاد هرباً ممّا يحيط بهم من الاَخطار.

ونعم ما قال العزيز باللّه أحد الخلفاء الفاطميين:

نحن بنو المصطفى ذوو مَحن * أوّلنا مبتلى وخاتمنا

عجيبة في الاَيام محنَتنا * يجرعها في الحياة كاظمنا

يفرح هذا الورى بعيدهم * طرّاً وأعيادنا مآتمنا (1)

إنّ الباطل إذا خلص من شائبة الحق، لا يمكن أن يدوم 272 سنة حاكماً، 208 أعوام منها على مصر، وعلى مساحات شاسعة من المغرب والشام والعراق، فلم تكن الدعوة إلحادية، ولا مجوسية ، ولا يهودية، بل دعوة إسلامية على نهج آل البيت، لكنّهم ضلّوا في الطريق، فأخذوا ببعض وتركوا بعضاً.

أضف إلى ذلك انّ الناس بايعوا الحاكم باللّه الاِمام الحادي عشر وهو ابن خمس وستين سنة ممّا يدلّل على أنّ قلوب الاَُمّة كانت تهوي إليهم لمّا شاهدوا بأمّ أعينهم من إشاعة للعدل وعمران للبلاد، وبسط للثقافة وأمن للطرق.

وأمّا ما نسب المقريزي إلى الشريف الرضي من أنّه وافق القوم في نفي انتسابهم إلى البيت العلوي فيصفه ابن أبي الحديد ويقول:

«ذكر أبو الحسن الصابي وابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما: أنّ القادر باللّه عقد مجلساً أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي، وابنه أبا القاسم المرتضى وجماعةمن القضاة والشهود والفقهاء، وأبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي

____________

1. الذهبي: سير الاَعلام:15|167_ 168.وسيوافيك أيضاً في ترجمته، فانتظر.

( 113 )

أوّلها:

ما مقامي على الهَوان وعندي * مِقْول صارِم وأنف حَمِيّ

و إباء مُحلِّقٌ بي عن الضي * __م كما زاغَ طائر وحشيّ

أي عذر له إلى المجد إن ذ * ل غلام في غمده المشرفيّ

أحمل الضيمَ في بلاد الاَعادي * و بمصر الخليفةُ العلوي

من أبوه أبي، ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيدُ القصيّ

لفَّ عِرقي بِعِرْقِه سيدا

النا * س جميعاً محمد وعليّ

وقال القادر للنقيب أبي أحمد: قل لولدك محمد: أيَّ هوان قد أقام عليه عندنا؟! أيّ ضيم لقي من جهتنا؟! وأي ذُلّ أصابه في مملكتنا؟! وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه؟! أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا؟! ألم نولِّه النقابة؟! ألم نولِّه المظالم؟! ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز، وجعلناه أمير الحجيج؟! فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا؟! ما نظنّه كان يكون لو حصل عنده إلاّ واحداً من أبناء الطالبيين بمصر.

فقال النقيب أبو أحمد: أمّا هذا الشعر فممّا لم نسمعه منه، ولا رأيناه بخطه، ولا يبعد أن يكون بعضُ أعدائه نَحله إيّاه، وعزاه إليه.

فقال القادر: إن كان كذلك، فلتكتب الآن محضراً يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر، ويكتُب محمد خطَه فيه. فكتب محضراً بذلك، شهد فيه جميع من حضر المجلس، منهم النقيب أبو أحمد، وابنه المرتضى، وحمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطّه فيه، حَمَله أبوه وأخوه، فامتنع من سطر خطه، وقال: لا أكتب وأخاف دعاة صاحب مصر، وأنكر الشعر، وكتب خطه وأقسم فيه أنّه ليس بشعره، وأنّه لا يعرفه. فأجبره أبوه على أن يكتب خطّه في المحضر، فلم يفعل، وقال: أخ_اف دعاة المصريين وغيلته_م لي فانّهم معروفون بذلك، فق_ال أب_وه:

( 114 )

يا عجباه، أتخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ، ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع؟! وحلف ألاّ يكلّمه، وكذلك المرتضى، فعلا ذلك تقية وخوفاً من القادر، وتسكيناً له.

و لمّا انتهى الاَمر إلى القادر سكتَ على سوءٍ أضمره، وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة، وولاّها محمد بن عمر النهر السايسي. (1)

ذهاب عبيد اللّه إلى إفريقية

لمّا تمكن أبو عبد اللّه واستقر أمره مهّد الطريق لاِمامة عبيد

اللّه المهدي، فبعثَ برجال من كتامة إلى سلمية في أرض الشام، فقدِموا على عبيد اللّه وأخبروه بما فتح اللّه عليه، وكان قد اشتهر هناك انّالخليفة المكتفي طلبه، فخرج من سلَمية فارّاً ومعه ابنه أبوالقاسم نزّار، ومعهما أهلهما فأقاما بمصر مستقرين، ثمّسار إلى طرابلس وقد سبقَ خبره إلى «زيادة اللّه» فسار إلى قسطيلية فقدم كتاب «زيادة اللّه» ابن الاَغلب إلى عامل طرابلس بأخذ عبيد اللّه وقد فاتهم، فلم يدركوه، فرحل إلى سجلماسة وأقام بها، فوافى عامله على سجلماسة كتاب زيادة اللّه، بالقبض على عبيد اللّه فلم يجد بداً من أن قبض عليه وسجنه. فلمّا دخل شهر رمضان سار أبو عبد اللّه من رقادة في جيوش عظيمة يريد سجلماسة، فحاربه اليسع يوماً كاملاً إلى الليل ثمّ فر عاملها في خاصته، فدخل أبو عبد اللّه من الغد إلى البلد وأخرج عبيد اللّه وابنه ومشى في ركابهما بجميع روَساء القبائل، وهو يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل بهما إلى فسطاط وأقاما فيها أربعين يوماً، ثمّ سار إلى إفريقية في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ونزل برقادة، وقسّم على وجوه كتامة أعمال إفريقية. (2)

____________

1. شرح نهج البلاغة: 1|37_ 39.

(2) 2 . المقريزي: الخطط المقريزية:1|350، دار صادر؛ ابن خلكان: وفيات الاَعيان:2|192.

( 115 )

ولكن العجب انّ عبيد اللّه جزى أبا عبد اللّه الشيعي جزاء السنمار، وذلك انّ المهدي لما استقامت له البلاد، ودانت له العباد، وباشر الاَُمور بنفسه وكف يد أبي عبد اللّه ويد أخيه أبي العباس، داخل أبا العباس الحسد وعظم عليه الفطام عن الاَمر والنهي والاَخذ والعطاء، فأقبل يزري على المهدي في مجلس أخيه ويتكلّم فيه وأخوه ينهاه ولا يرضى فعله فلا يزيده ذلك إلاّلجاجاً،

ولم يزل حتى أثّر في قلب أخيه وكلّ ذلك يصل إلى المهدي وهو يتغافل، ثمّ صار أبوالعباس يقول: إنّ هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعتَه وندعو إليه، لاَنّ المهدي يختم بالحجة ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان في كتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهدي بذلك وقال: إن كنت المهدي، فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك، فقتله، فخافه أبو عبد اللّه و علم أنّ المهدي قد تغيّر عليه واتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي وعزموا على قتل المهدي، واجتمع معهم قبائل كتامة إلاّقليلاً منهم وكان معهم رجل يظهر أنّه منهم وينقل ما يجري إلى المهدي.

فلمّا وقف المهديّ على أمرهم حاربهم وأمر رجالاً معه أن يرصدوا أبا عبد اللّه وأخاه أبا العباس ويقتلوهما. (1)

ولكن الاِسماعيلية تنكر ذلك، وتقول: وهذه الاَقوال لا يقرّها المنطق، ولا يمكن أن يصدّقها العقل، فلو كان أبو عبد اللّه الشيعي يبغي الخلافة لنفسه لكان باستطاعته أن يحصل عليها قبل قدوم الاِمام محمد المهدي إلى إفريقية عندما كانت جيوشه يربو عددها على المائة ألف مقاتل بينما كان الاِمام المهدي في الرملة بطريقه إليه.

ثمّ يقول: إنّ أبا عبد اللّه الشيعي قضى آخر أيّامه بقرب الاِمام مخلِصاً له

____________

1. الجزري: الكامل في التاريخ :8|50_53، دار صادر.

( 116 )

حتّى أدركته الوفاة، فدفن باحتفال مهيب وصلّى عليه الاِمام المهدي. (1)

ولكن فات الكاتب أنّ أبا عبد اللّه الشيعي وإن كان لا يبغي الخلافة لنفسه لفقدانه الرصيد الشعبي ، ومع ذلك كان يتطلع للمشاركة في الاَُمور ، وقد حال المهدي دون ذلك، فعند ذلك ثارت ثائرته. وتآمر على إمامه.

ثمّ إنّ هناك نكتة أُخرى هامة وهي أنّالنبي - صلّى الله عليه وآله

وسلّم - أخبر عن خروج المهدي في آخر الزمان، وانّه يملك الشرق والغرب، ويجري القسط والعدل بين الناس، فاتخذ المهدي هذا الخبر الذائع الصيت ذريعة لاستقطاب الناس حوله، وقد سمّى نفسه محمّداً، ولقب نفسه بالمهدي فتقمّص أوصاف المهدي الذي أخبر به النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، ليتخذها وسيلة لتحقيق مآربه وانّه مفترض الطاعة.

وقد مات عبيد اللّه في ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الاَوّل سنة 322ه_ بالمهدية في القيروان عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، وقام بعده ابنه.

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:183.

( 117 )

الاِمام السابع القائم بأمر اللّه

الاِمام السابع القائم بأمر اللّه

(280_ 334ه_)

ولد الاِمام القائم بأمر اللّه، ابن الاِمام عبيد اللّه المهدي، في محرم سنة 280 هجرية «بالسلَمية»، وارتحل مع أبيه الاِمام محمد المهدي إلى المغرب، وعَهد إليه بالاِمامة من بعده حسب الاَُصول الاِسماعيلية، فاقتفى إثر أبيه وخطا خطاه، ونهج نهجه، وعمل جاهداً على تعزيز وازدهار الدعوة الاِسماعيلية، وتعميمها في جميع البلدان والاَقاليم، ووجّه اهتمامَه الزائد لتنظيم وتقويةَ البحرية الاِسماعيلية، فشكل اسطولاً عظيماً، تمكن بواسطته من قهر العصابات البحرية المالطية، التي كانت تأتي بأعمال القرصنة لغزو البلاد الاِسماعيلية، وقيامهم بأعمال النهب والسلب والتخريب.و احتلَّ الاسطول الاِسماعيلي «جنوه» و«لونبارتي» و«غرناطة» وغيرها من البلاد الايطالية التي كانت خاضعة لحكم الروم، كما فتح الاِسماعيلية جزيرة «صقليا». (1)

يقول المقريزي: كان اسمه بالمشرق عبد الرحمان فتسمى في بلاد المغرب بمحمد، فلما فرغ من جميع ما يريده وتمكّن، أظهر موتَ أبيه، واستقلّ بالاَمر وله سبع وأربعون سنة، وتبع سيرة أبيه، وثار عليه جماعة فظفر بهم، وبثَّ جيوشَه في البرّ والبحر فسبَوا وغَنِمُوا من بلد «جنوه» وبعث جيشاً إلى مصر فملكوا

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ

الدعوة الاِسماعيلية: 184.

( 118 )

الاسكندرية، والاخشيد يومئذٍ أمير مصر، فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة خرج عليه أبو يزيد مخلد بن كندار النكاري الخارجي بإفريقية، واشتدّت شوكتُه وكثرت أتباعه، وهزمَجيوشَ القائم غير مرة، وكان مذهبه تكفير أهل الملّة ، وإراقة دمائهم ديانة، فملك «باجه» وحرّقها، وقتل الاَطفال، وسبى النسوان، ثمّملك القيروان، فاضطرب القائم، وخاف الناس، وهمّوا بالنقلة من «زويلة» وقوى أمر أبي يزيد ونازل المهدية وحصر القائم بها، وكاد أن يغلب عليها، فلما بلغ المصلّى حيث أشار المهدي أنّه يصل، هزمه أصحاب القائم وقتلوا كثيراً من أصحابه، وكانت له قصص وأنباء، إلى أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، عن أربع وخمسين سنة وتسعة أشهر، ولم يرق منبراً، ولا ركب دابّة لصيدٍ مدّة خلافته حتى مات، وصلى مرّةً على جنازةٍ، وصلى بالناس العيدَ مرة واحدة، وكانت مدّة خلافته اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وأيّاماً، و ترك أبا الظاهر إسماعيل، وأبا عبد اللّه جعفر أو حمزة، وعدنان، وعدّة أُخر، وقام من بعده ابنه. (1)

يقول الجزري في حوادث سنة (334): وفي هذه السنة توفي القائم بأمر اللّه، أبو القاسم محمد بن عبد اللّه المهدي العلوي صاحب إفريقية، لثلاث عشرة مضت من شوال، وقام بالاَمر بعده ابنه إسماعيل، وتلقّب المنصور باللّه، وكتم موته (2) خوفاً أن يعلم بذلك أبو يزيد، وهو بالقرب منه على «سوسة» وأبقى الاَُمور على حالها، ولم يتسمّ بالخليفة، ولم يغير السكّة، ولا الخطبة، ولا البنود، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد، فلما فرغ منه أظهر موته، وتسمّى بالخلافة، وعمل آلات الحرب والمراكب، وكان شهماً شجاعاً، وضبط الملك والبلاد. (3)

____________

1. المقريزي: كتاب الخطط المقريزية: 351،

دار صادر.

2. كسيرة أبيه في حقّ المهدي.

3. الجزري: الكامل في التاريخ: 8|455، دار صادر.

( 119 )

وقد ذكره الذهبي السلفي وبالغ في ذمه، وسلك في ترجمته نفس ما سلكه في ترجمة أبيه، ولاَجل ذلك تركنا النقل عنه، ومن أراد الوقوف عليه فليرجع إلى كتابه. (1)

____________

1. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 15|151، موَسسة الرسالة.

( 120 )

الاِمام الثامن الاِمام المنصور باللّه

الاِمام الثامن الاِمام المنصور باللّه

(303_346ه_)

ولد الاِمام المنصور باللّه ، إسماعيل بن الاِمام القائم ب_«المهدية» في أوّل جمادى الآخرة سنة 303ه_، وقيل: ولد بالقيروان سنة 302ه_، تسلّم شوَون الاِمامة بعد وفاة أبيه سنة 334ه_، وكان سياسيّاً عظيماً، ومحارباً قديراً، وخطيباً من أفصح الخطباء وأبلغهم. (1)

وقال المقريزي: جدّ في حرب أبي يزيد حتى ظفر به وحمل إليه فمات من جراحات كانت به، سلخ المحرّم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ولم يزل المنصور إلى أن مات سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة عن إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر، وكانت مدّة خلافته ثمان سنين وقيل سبع سنين وعشرة أيّام، وقد اختلف في تاريخ ولادته فقيل: ولد أوّل ليلة من جمادى الآخرة سنة 303ه_ بالمهدية، وقيل: بل ولد في سنة اثنتين وقيل: سنة إحدى وثلاثمائة، وكان خطيباً بليغاً يرتجل الخطبة لوقته شجاعاً عاقلاً، وقام من بعده ابنه. (2)

يقول الموَرخ المعاصر: وما زال أبو يزيد هارباً والجيوش تلاحقه حتى التجأ إلى جبل البربر، وجمع خلقاً كثيراً لمقابلة جيش الاِمام المنصور، ولكنّه هزم،

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:189.

2. المقريزي: الخطط: 1|351، دار صادر.

( 121 )

فأدركه أحد الاَُمراء الاِسماعيليين وقبض عليه وساقه إلى الاِمام المنصور، وكان ذلك سنة 336 هجرية، فقتله وأمر الاِمام أن تبنى مدينة «المنصورية» تيمّناً بذلك الانتصار العظيم، ثمّ عاد الاِمام إلى المهدية في شهر رمضان عام 336

هجرية، فعهد بالاِمامة من بعده لولده المعز لدين اللّه، وتوفي يوم الاَحد في الثالث والعشرين من شوال سنة 346هجرية، ودفن جسده الطاهر في مدينة المنصورة، وقيل كانت وفاته سنة 343 هجرية ودفن بالمهدية. (1)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 190.

( 122 )

الاِمام التاسع المعزّ لدين اللّه

الاِمام التاسع المعزّ لدين اللّه

موَسس الدولة الفاطمية في مصر

(319_365ه_)

وهو أوّل خليفة فاطمي ملك مصر وخرج إليها، وكان مغرىً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين، وكان المعز عالماً، فاضلاً، جواداً، شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه في حسن السيرة، وإنصاف الرعية، وستر ما يدعون إليه إلاّ عن الخاصة، ثمّ أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلاّ أنّه لم يخرج فيه إلى حد يذم به. (1)

يقول المقريزي: المعز لدين اللّه أبو تميم، «معد» ولد للنصف من رمضان سنة 319ه_ فانقاد إليه البربر وأحسن إليهم، فعظم أمره واختص من مواليه، «بجوهر» وكنّاه بأبي الحسين، وأعلى قدره، وسيّره في رتبة الوزارة، وعقدَ له على جيش كثيف، فدوّخ المغرب، وافتتح مدناً، وقهر عدّة أكابر وأسّ_رهم، حتى أتى البحر المحيط الذي لا عمارة بعده، ثمّ قدم غانماً مظفراً، فعظم قدرُه عند المعزّ، ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الاِخشيدي صاحب مصر أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر حتى تهيأ أمره، وبرز للمسير، فلمّا ثبتت قدم جوهر بمصر، عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه في بلاد المغرب، فوقع اختياره على «يوسف بن زيري الصنهاجي»، وقال له: تأهب

____________

1. الجزري: الكامل في التاريخ: 8|664.

( 123 )

لخلافة المغرب، فأكبر ذلك وقال: يا مولانا أنت وآباوَك الاَئمة من ولد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ما صفا لكم المغرب فكيف يصفو لي وأنا صنهاجيّ بربريّ؟! قتلتني يا

مولانا بغير سيف ولا رمح. فما زال به المعز حتى أجاب.

فلمّا ملك جوهرُ مصر بادر حسن بن جعفر الحسني بالدعاء للمعز في مكة، وبعث إلى «جوهر»بالخبر، فسيّر إلى المعزّ يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله، وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة، فعقد له جوهر جسراً جديداً عند المختار بالجزيرة، فسار إليه وقد زيّنت له مدينة الفسطاط فلم يشقها، ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد اللّه المهدي، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فعندما دخل القصر صلّى ركعتين، وأمر فكتب في سائر مدن مصر : خير الناس بعد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أمير الموَمنين علي بن أبي طالب، وأثبت اسم المعزّ لدين اللّه واسم أبيه عبد اللّه الاَمير، وجلس في القصر على سرير الذهب، وصلّى بالناس صلاة عيد الفطر في المصلّى، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء وعمل عيد غدير خم. وقدمت القرامطة إلى مصر فسير إليهم الجيوش وهزموهم، ومازال إلى أن توفي من علة اعتلّها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعةأشهر وعشرة أيّام وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريباً، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة (1) ووفاته بالقاهرة لاَربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكانت مدّة خلافته بالمغرب وديار مصر ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أيّام وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر وإليه تنسب القاهرة المعزية، لاَنّ عبده «جوهراً» القائد بناها حسب ما رسم له.

وكان المعز عالماً، فاضلاً، جواداً، أحسن السيرة منصفاً للرعية، مغرماً بالنجوم، أُقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام والحرمين وبعض

____________

1. وقد أرخ ميلاده عارف

تامر ب_347 وهو خطأ واضح.

( 124 )

اعمال العراق، وقام من بعده ابنه العزيز باللّه أبو منصور نزار. (1)

يقول ابن خلكان: وكان المعز عاقلاً، حازماً، سرياً، أديباً، حسن النظر في النجامة، وينسب إليه من الشعر قوله:

للّه ما صنعت بنا * تلك المحاجر في المعاجر

أمضي وأقضي في النفو * س من الخناجر في الحناجر

ولقد تعبت ببينكم * تعب المهاجر في الهواجر

و ينسب إليه أيضاً:

اطلع الحسن من جبينك شمسا * فوق ورد في وجنتيك اطلا

و كأن الجمال خاف على الور * د جفافاً فمد بالشعر ظلا

و هو معنى غريب بديع. (2)

و يقول في موضع آخر : ملك المعز أبو تميم معد بن المنصور العبيدي الديار ا لمصرية على يد القائد جوهر، وجاء المعزّ بعد ذلك من إفريقية، وكان يُطعن في نسبه، فلمّا قرب من البلد وخرج الناس للقائه، اجتمع به جماعة من الاَشراف، فقال له من بينهم ابن طباطبا: إلى من ينتسب مولانا؟ فقال له المعزّ: سنعقد مجلساً ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا. فلمّ_ا استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم،و قال: هل بقي من روَسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق معتبر، فسلّ عند ذلك نصف سيفه وقال: هذا نسبي، ونثر عليهم ذهباً كثيراً،

____________

1. وفيات الاَعيان:5|224. المقريزي: كتاب الخطط المقريزية:1|352_354، دار صادر . ومن الغريب أنّ المقريزي ذكر ولادة المعز سنة 317 تارة وأُخرى بسنة 319، وقد اعتمدنا في تعيين سنة ولادته على نقل ابن خلكان.

2. ابن خلكان: وفيات الاَعيان:5|228.

( 125 )

وقال: هذا حسبي، فقالوا جميعاً: سمعنا وأطعنا. (1)

لا شكّ انّ عصر المعز لدين اللّه من العصور الذهبية للاِسماعيلية حيث أصبحت مصر داراً للخلافة، وأصبح الاِمام المعز أوّل خليفة فاطمي فيها، فعمل على ترقية العلوم والثقافة، وأمر

ببناء الجامع الاَزهر، وجعله داراً للعلوم ومنهلاً للثقافة والفكر، وشجّع العلماء، وخصّص لهم المبالغ الطائلة، فوفدوا عليه من كلّقطر حيث وجدوا المساعدات.

كما أشرف بنفسه على تأليف الكتب على غرار المذهب الاِسماعيلي، فتقدمت الثقافة الاِسماعيلية تقدماً باهراً، وازدهر في عصره فقهاء وشعراء وفلاسفة يشار إليهم بالبنان.

فمن فقهاء عصره: القاضي النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي موَلف كتاب «دعائم الاِسلام»، توفي بالقاهرة في 29 من جمادى الثانية سنة 363ه_، وصلّى عليه الاِمام المعز لدين اللّه.

خدم المهدي باللّه موَسس الدولة الفاطمية تسع سنوات، ثمّ ولي قضاء طرابلس في عهد القائم بأمر اللّه الخليفة الثاني للفاطميين، وفي عهد الخليفة الثالث المنصور باللّه عين قاضياً للمنصورية، ووصل إلى أعلى المراتب في عهد المعز لدين اللّه الخليفة الرابع الفاطمي إذ رفعه إلى مرتبة قاضي القضاة وداعي الدعاة.

وقد نشر كتابه لاَوّل مرّة في مستدرك الوسائل للمحدّث النوري (1254_1320ه_) مبعّضاً وموزعاً أحاديثه على أبواب الكتب الفقهية كما تم طبعه مستقلاً بتحقيق آصف بن علي أصغر فيضي في مصر عام 1374ه_، وطبع ثالثاً على الاَُفست في بيروت عام 1383ه_.

____________

1. ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 3|81.

( 126 )

ومن شعراء عصره ابن هانىَ الاَندلسي، وهو محمد بن هانىَ الاَندلسي من قرية اشبيلية، ولد عام 320ه_ ولقب بأبي القاسم، ولما اتهم بمذهب الاِسماعيلية غادر الاَندلس نازلاً إلى المغرب، واتصل بأميره، فبالغ في إكرامه وأحسن إليه، ولما وصل خبره إلى المعز طلبه من أمير المغرب، فأقام عنده حتى ارتحل الاِمام المعز إلى مصر فلحق به فيها.

كان ابن هانىَ من فحول الشعراء، ولكن قصائده تحكي عن غلوه في حقّ الاَئمّة الاِسماعيلية حيث تفوح منها رائحة الاِلحاد، وقد أعطى لهم ما للخالق من الاَوصاف، وإليك مقتطفات من أشعاره:

قال:

ما شئتَ لا

ماشاءت الاَقدارُ * فاحكم فأنتَالواحدُ القهّار

وكانّما أنت النبي محمّد * وكأنّما أنصارك الاَنصار

أنت الذي كانت تبشّرنا به * في كتبها الاَحبارُوالاَخبار

هذا إمام المتقين و من به * قد دوخ الطغيان والكفار

هذا الذي ترجى النجاة بحبِّه * و به يُحطُ الاِصر والاَوزار

هذا الذي تجدي شفاعته غداً * حقاً وتخم_د أن تراه النارُ

(1)

إنّ بيته الاَوّل ينم عن غلوّه غلواً يكسي صفة الخالق على المخلوق.

و من العجب أنّ الموَرّخ الاِسماعيلي المعاصر حاول تصحيح الاَشعار، ودفع الفاسد بالاَفسد، حيث قال في تعليقته: إنّ العقيدة الاِسماعيلية تنزّه الخالق عن الصفات كالعالم والقادر والصانع و...، فإنّ إطلاق الصفات عليه يوجب الكثرة في ذاته عندهم، وهم يروون عن الاِمام الباقر محمد بن علي زين العابدين

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:209.

( 127 )

قوله:«إنّ اللّه عالم على المعنى انّه يوَتي العلم من يشاء لا على معنى انّ العلم قائم بذاته، وانّه تعالى قادر على معنى أنّ القدرة قائمة بذاتها».

ولمّا كان الاِمام قائماً مقام الاَمر والكلمة في هذا العالم فجميع صفات الباري واقفة عليه، ومن هنا نجد انّ إطلاق كلمة الواحد القهار على المعز إنّما هي حسب الاعتقاد.

(1)

عزب عن هذا المسكين أوّلاً: انّ إطلاق الصفات عليه سبحانه لا توجب الكثرة في ذاته عند المحقّقين، وذلك لاَنّ الاَوصاف وإن كانت مختلفة مفهوماً لكنّها متحدة وجوداً، فذاته نفس العلم والقدرة والحياة، لا انّكلّ واحدة من هذه الصفات تمثل جزءاً من ذاته.

وثانياً: انّه لوصحّ ما ذكره من التفسير في العالم والقادر بمعنى أنّه سبحانه يعطي العلم والقدرة لا يصحّ ذلك في الواحد القهار، إذ معناه عندئذ انّ الاِمام يهب الوحدة والقهر من يشاء لكي يصحّ إطلاقها على الاِمام ، ولا شكّ انّ في ما جاء به الشاعر غلواً

واضحاً، عصمنا اللّه من غلو الغالين وإبطاء التالين.

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:209 الهامش.

الاِمام العاشر العزيز باللّه

الاِمام العاشر العزيز باللّه

(344 - 386 ه_ )(1)

نزار بن معد، العزيز باللّه، ولي العهد بمصر يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر سنة 365ه_، واستقل بالاَمر بعد وفاة أبيه، وكان يوم الجمعة حادي عشر الشهرالمذكور وسُتِرتْ وفاة أبيه وسُلّم عليه بالخلافة، وكان شجاعاً، حسن العفو عند المقدرة، ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب «يتيمة الدهر» وأورد له شعراً قاله في بعض الاَعياد، وقد وافق موت بعض أولاده وعقد عليه المآتم وهو:

نحن بنو المصطفى ذوو محن * يجرعها في الحياة كاظمنا

عجيبة في الاَنام محنتنا * أوّلنا مبتلى وخاتمنا

يفرح هذا الورى بعيدهم * طرّاً وأعيادنا مآتمنا

و فتحت له حُمْص وحماة وشَيْزَر، وحلب، والموصل ، وخطب له باليمن ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجهاً إلى الشام، فابتدأت به العلّة في العشر الاَخير من رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولم يزل مرضه يزيد حتى توفي في مسلخ الحمّ_ام في الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رمضان

____________

1. وقد أرّخ عارف تامر تاريخ وفاته 368 وهو خطأ.

( 129 )

سنة ست وثمانين و ثلاثمائة. (1)بمدينة بلبيس وحمل إلى القاهرة.

وذكر ابن خلكان انّ تاريخ وفاته في الثامن والعشرين من شهر رمضان، في حين انّالمقريزي ذكره في الثامن والعشرين من رجب مع توافقهما في سنة وفاته.

قال ابن الاَثير: في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزار ابن المعز أبي تميم معد العلوي، صاحب مصر لليلتين بقيتا من رمضان وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف، بمدينة بلبيس، وكان برز إليها لغزو الروم، فلحقه عدة أمراض، منها: النقرس، والحصا، والقولنج، فاتصلت به إلى الشامات.

وكانت خلافته إحدى

وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، ومولده بالمهدية من إفريقية. (2)

قال الذهبي: وكان كريماً، شجاعاً، صفوحاً، أسمر، أصهب الشعر، أعين، أشهل، بعيد ما بين المنكبين، حسن الاَخلاق، قريباً من الرعية، مغرى بالصيد، ويكثر من صيد السباع، ولا يوَثر سفك الدماء.

وفي سنة 367ه_ جرت وقعات بين المصريين وهفتكين الاَمير، وقتل خلق، وضرب المثل بشجاعة هفتكين وهزم الجيوش، وفرّ منه جوهر القائد، فسار لحربه صاحب مصر العزيز بنفسه، فالتقوا بالرملة، وكان «هفتكين» على فرس أدهم يجول في الناس، فبعث إليه العزيز رسولاً يقول: أزعجتني وأحوجتني لمباشرة الحرب، وأنا طالب للصلح، وأهب لك الشام كلّه.

قال: فات الاَمر، ووقعت الحرب، فحمل العزيز بنفسه عليه في الاَبطال، فانهزم هفتكين ومن معه من القرامطة، واستحرَّ بهم القتل.

وفي سنة 377ه_ تهيأ العزيز لغزو الروم فأُحرقت مراكبه، فغضب وقتل

____________

1. ابن خلكان: وفيات الاَعيان:5|371_374.

2. ابن الاَثير: الكامل في التاريخ:9|116.

( 130 )

مائتي نفس اتهمهم، ثمّ وصلت رسل طاغية الروم بهديّة، تطلب الهدنة، فأجاب بشرط أن لا يبقى في مملكتهم أسير، وبأن يخطبوا للعزيز بقسطنطينية في جامعها، وعقدت سبعة أعوام. (1)

____________

1. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 15|167_172.

( 131 )

الاِمام الحادي عشر الحاكم بأمر اللّه

الاِمام الحادي عشر الحاكم بأمر اللّه

(375_411ه_)

هو منصور بن نزار (1)ولد يوم الخميس لاَربع ليال بقين من شهر ربيع الاَوّل سنة 375ه_، وبويع في اليوم الذي توفي فيه والده أي سنة 368ه_، وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام وهو من الشخصيات القليلة التي لم تتجلّ شخصيته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحية زعم مناوئوه انّها من البدع.

يقول الجزري: وبنى الجامع براشدة، وأخرج إلى الجوامع والمساجد، من الآلات،والمصاحف، والستور والحصر ما لم ير الناس مثله، وحمل أهل الذمة على الاِسلام، أو المسير إلى مأمنهم، أو لبس الغيار، فأسلم كثير منهم، ثمّ كان

الرجل منهم بعد ذلك يلقاه، ويقول له: إنّني أُريد العود إلى ديني، فيأذن له.

أظن انّ إدخال الحصر إلى المساجد، لاَجل أنّالمسجود عليه في مذهب الشيعة يجب أن يكون إمّا أرضاً، أو ما أنبتته الاَرض، فبما أنّ المساجد كانت مفروشة فحمل الحصر على ذلك.

و يقول أيضاً: ثمّ أمر في سنة 399ه_ بترك صلاة التراويح، فاجتمع الناس بالجامع العتيق، وصلّى بهم إمام جميع رمضان، فأخذه وقتله، ولم يصل أحد

____________

1. وأسماه في «الاِمامة في الاِسلام» ب_ «الحسن بن نزار» ولكن في الخطط،وتاريخ الدعوة الاِسماعيلية حسب ما أثبتناه.

( 132 )

التراويح إلى سنة 408ه_. (1)

أقول: لقد قام الخليفةبمهمته، فإنّ صلاة التراويح كانت تقام في عصر النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - و الخليفة الاَوّل بغير جماعة، وإنّما أُقيمت جماعة في عصر الخليفة الثاني، واصفاً إيّاهابالبدعة الحسنة، ولمّا تسلّم الاِمام أمير الموَمنين علي - عليه السّلام- زمام الخلافة نهى الناس عن إقامتها جماعة، فلمّ_ا رأى إصرار الناس على إقامتها جماعة تركهم وما يهوون.

وأمّا رميه بتهمة قتل الاِمام بعد انقضاء شهر رمضان، فما لا يقبله العقل، إذ كان في وسع الخليفة منعه من إقامتها أوّل الشهر فأي مصلحة كانت تكمن في استمهاله إلى آخر الشهر واكتسابه مكانة في القلوب ثمّ قتله؟!

يقول المقريزي: جامع الحاكم بني خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة، وأوّل من أسّسه أمير الموَمنين العزيز باللّه، نزار بن المعز لدين اللّه معد، وخطب فيه وصلّى بالناس الجمعة، ثمّ أكمله ابنه الحاكم بأمر اللّه، فلمّا وسّع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة، وجعل أبوابها حيث هي اليوم صار جامعُ الحاكم داخل القاهرة. (2)

و ينقل أيضاً انّ الحاكم بأمر اللّه أمر في سنة 393ه_ أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير

يعقوب بن كاس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار، فابتدأ بالعمل فيه وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح وعمل لها أركاناً، طول كلّ ركن مائة ذراع.

و في سنة 403ه_ أمر الحاكم بأمر اللّه بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل، فكان تكسير ما ذرع للحصر 36 ألف ذراع، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.

____________

1. الجزري: الكامل في التاريخ:9|316_317.

2. المقريزي: الخطط: 2|277.

( 133 )

وتم بناء الجامع الجديد بباب الفتوح، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع وكثير من قناديل فضة، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له، ونصب فيه المنبر، وتكامل فرشه وتعليقه، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الاَزهر أن يمضوا إليه،فمضوا وصار الناس طول ليلتهم يمشون من كلّواحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم ولا اعتراض من أحد من عسس القصر، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح، وصلّى فيه الحاكم بأمر اللّه بالناس صلاة الجمعة، وهي أوّل صلاة أُقيمت فيه بعد فراغه. (1)

ما ذكرنا من محاسن أعماله قد أخفاها أعداوَه، وبدل ذلك فقد نالوا منه وأكثروا في ذمّه وذكر مساوىَ أعماله، حتى تجد انّ الذهبي قد بالغ في ذمّه ووصفه بقوله: «العبيدي، المصري، الرافضي بل الاِسماعيلي الزنديق المدّعي الربوبية».

ثمّ يقول في موضع آخر: وكان شيطاناً مريداً، جباراً عنيداً، كثير التلوّن، سفاكاً للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر، جواداً ممدحاً، له شأن عجيب ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كلّ وقت أحكاماً يلزم الرعية بها إلى آخر ما ذكر.(2)

و على أيّ حال فهو من الشخصيات

القلقة التي تجمع بين محاسن الاَعمال ومساوئها.

ولولا انّ الحاكم كان من الشيعة لما وجد الذهبي السلفي في نفسه مبرراً لصب هذه التقريعات.

وقد اكتفينا بذلك في ترجمته، لاَنّ فيها أُموراً متناقضة ومتضادة لا يمكن الاِذعان بصحّة واحد منها.

____________

1. المقريزي: الخطط:2|277، دار صادر.

2. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 15|174.

( 134 )

انشقاق الاِسماعيلية

انشقاق الاِسماعيلية

كانت الاِسماعيلية فرقة واحدة، غير انّه طرأ عليهم الانشقاق، فقال قوم منهم: بإلوهية الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم ب_ «الدروز»، يقطنون لبنان.

فالدروز إسماعيلية محرّفة، وسيوافيك البحث عن هذه الفرقة وعقائدها في باب خاصّ، وهي أكثر غموضاً من سابقتها، فهم يمسكون بكتبهم ووثائقهم عن الآخرين.

يقول الموَرخ المعاصر: وفي سنة 408 استدعى الحاكم كبير دعاته، وأحد المقربين إليه الموثوق بهم سيدنا «الحمزة بن علي» الفارسي الملقب ب_ «الدرزي» وأمره أن يذهب إلى بلاد الشام ليتسلم رئاسة الدعوة الاِسماعيلية فيها، ويجعل مقره «وادي التيم»، لاَنّ الاَخبار التي وردت إلى بيت الدعوة تفيد بأنّ إسماعيلية وادي التيم تسيطر عليهم التفرقة والاختلافات الداخلية، حول تولّي رئاسة الدعوة هناك ولقبه الاِمام ب_«السند الهادي».

تمكّن الدرزي في وقت قليل من السيطرة على الموقف في وادي التيم وإعادة الهدوء والسكينة في البلاد، وعمل جاهداً لتوسيع وانتشار الدعوة الاِسماعيلية في تلك البلاد.

لبث الدرزي رئيساً للدعوة الاِسماعيلية وكبيراً لدعاتها في بلاد الشام حتى أُعلنت وفاة الاِمام الحاكم وولاية ابنه الطاهر.

لم يعترف الدرزي بوفاة الاِمام الحاكم، مدّعياً بأنّ وفاته لم تكن سوى نوع من الغيبة لتخليص أنفس مريدي الاِمام من الاَدران، وبقي متمسكاً بإمامة الحاكم ومنتظراً عودته من تلك الغيبة، وبذلك أعلن انفصاله عن الاِسماعيلية التي لا تعتقد بالغيبة، وتقول بفناء الجسم وبقاء سر الاِمامة بالروح، فينتقل بموجب النص إلى إمام آخر وهو المنصوص عليه من قبل الاِمام

المتوفى، وسميت الفرقة

( 135 )

التي تبعت الدرزي بالدرزية نسبة إليه.

وهكذا يتبين للقارىَ الكريم بأنّ الدرزية والاِسماعيلية عقيدتان من أصل واحد. (1)

وأمّا عن مصير الحاكم فمجمل القول فيه انّه فُقد في سنة 411ه_، ولم يعلم مصيره، وحامت حول كيفية اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر .

يقول الذهبي: وثمّ اليوم طائفة من طغام الاِسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم، وما يعتقدون إلاّ بأنّه باق، وانّه سيظهر (2)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 238_ 239.

2. الذهبي: سير أعلام النبلاء:15|108، ابن الاَثير: الكامل في التاريخ : 9|11.

( 136 )

الاِمام الثاني عشر

الاِمام الثاني عشر

الظاهر لاِعزاز دين اللّه

علي بن منصور (1)

(395_427ه_)

هو علي بن منصور ، ولد ليلة الاَربعاء من شهر رمضان سنة ثلاثمائة وخمس وتسعين، وبويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً يقول ابن خلكان: كانت ولايته بعد فقد أبيه بمدّة، لاَنّ أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة 411ه_، وكان الناس يرجون ظهورَه ويتبعون آثاره إلى أن تحقّقوا عدمه، فأقام ولده المذكور في يوم النحر من السنة المذكورة. (2)

وقد أطنب المقريزي في سيرته وذكر حوادث حياته.

يقول المقريزي: مات الظاهر في النصف من شعبان سنة 427 ه_ عن اثنين وثلاثين سنة إلاّ أيّاماً، وكانت مدّة خلافته 15 سنة وثمانيةأشهر. (3)

وذكر الذهبي فتنة القرامطة عام 413 ه_ فنقل عن محمد بن علي بن عبد الرحمان العلوي الكوفي انّه قال: لما صليت الجمعة والركب بعدُبمنى، قام رجل،

____________

1. سماه عارف تامر علي بن الحسن ، وفي المقريزي وتاريخ الدعوة كما أثبتناه.

2. ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 3|407، دار صادر.

3. المقريزي: الخطط:1|355.

( 137 )

فضرب الحجر الاَسود بدبّوس ثلاثاً، وقال: إلى متى يُعبد الحجر فيمنعني محمد ممّا أفعله؟ فإنّي اليوم أهدم هذا البيت، فاتقاه الناس، وكاد يفلت، وكان

أشقر، أحمر، جسيماً، تام القامة، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه، فاحتسب رجل، فوجأه بخنجر، وتكاثروا عليه، فأُحرق، وقتل جماعة من أصحابه وثارت الفتنة، فقتل نحو العشرين ونهب المصريون وقيل: أخذ أربعة من أصحابه، فأقرّوا بأنّهم مائة تبايعوا على ذلك، فضربت أعناق الاَربعة، وتهشّم وجه الحجر، وتساقط منه شظايا وخرج مُكْسَ_رُه أسمر إلى صفرة. (1)

ويقال انّ الظاهر شنّ على الدروز حرباً محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطمية الاَصيلة، مدة خلافته كانت ستة عشر عاماً ... لم تنته هجمات الصليبيين عن الاَراضي والثغور العائدة للدولة الفاطمية، وقّع هدنة مع الروم. (2)

____________

1. الذهبي: سير أعلام النبلاء:15|185_186، موَسسة الرسالة.

2. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:189.

( 138 )

الاِمام الثالث عشر

الاِمام الثالث عشر

المستنصر باللّه

(420 - 487 ه_)(1)

هو معد بن علي، ولد يوم الثلاثاء في الثالث عشر من شهر جمادى الآخر سنة 420ه_، وبويع بالخلافة يوم الاَحد في منتصف شهر شعبان سنة 427ه_، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظل في الحكم ستين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الاِسلامية.

يقول ابن خلكان: وجرى على أيامه مالم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممّن تقدّمه ولا تأخره، منها:

1. قضية أبي الحارث أرسلان البساسيري، فإنّه لمّا عظم أمره وكبر شأنه ببغداد، قطع خطبة الاِمام القائم وخطب للمستنصر المذكور، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة، ودعا له على منابرها مدّة سنة.

2. انّه ثار في أيّامه علي بن محمد الصليحي وملك بلاد اليمن، ودعا للمستنصر على منابرها بعد الخطبة.

3. انّه أقام في الاَمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.

____________

1. أرّخ كل من الكاتبين عارف تامر ومصطفى غالب تاريخ ولادته420ه_ .

( 139 )

4. انّه ولي العهد

وهو ابن سبع سنين.

5. انّ دعوتهم لم تزل قائمة بالمغرب منذ قام جدهم المهدي إلى أيام المعز، ولمّا توجه المعز إلى مصر واستخلف بلكين بن زيري كانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت إلى أن قطعها المعز بن باديس في أيام المستنصر، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.

6. أنّه حدث في أيّامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف - عليه السّلام- حتى قيل انّه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً، وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكلّمن معه من الخواص مترجّلون ليس لهم دواب يركبونها، و كانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الانشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الاَمر توجهت أُم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وتفرّق أهل مصر في البلاد وتشتتوا.(1)

وذكر الذهبي تفاصيل حياته بحسب السنين التي مرت عليه. (2)

و لقي المستنصر شدائداً وأهوالاً، وانفتقت عليه الفتوق بديار مصر أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر غير خاشع. (3)

وقد توفي في الثامن عشر من ذي الحجة، ودامت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر.

إلى هنا تمت ترجمة الاَئمّة الثلاثة عشر الذين اتّفقت كلمة الاِسماعيلية على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذ عنهم سوى الدروز الذين انشقوا عن

____________

1. ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 5|229_230، دار صادر.

2. الذهبي: سير أعلام النبلاء:1|186_ 196.

3. الجزري: الكامل: 10|237.

( 140 )

الاِسماعيلية في عهد خلافة الحاكم بأمر اللّه، وصار وفاة المستنصر باللّه سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الاِسماعيلية بين: مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي ابن المستنصر باللّه، ونزارية تقول بإمامة نزار ابن المستنصر.

فالمستعلية هم المعروفون في

هذه الاَيام بالبُهرة، وقد انقسموا إلى: سليمانية وداودية؛ كما أنّ النزاريين هم القائلون بإمامة نزار ابن المستنصر ، وانقسموا إلى: موَمنية وقاسمية. وقد اتّفقت الطائفتان الاَخيرتان في بعض الاَئمة، واختلفت في البعض الآخر، وسيوافيك تفصيل الجميع.

( 141 )

الفصل السابع : في أئمّة المستعلية

الاِمام الاَوّل

الاِمام الاَوّل

المستعلي باللّه

(467_495ه_)

قد ذكرنا _ فيما سبق _ أنّالمستنصر قد عهد في حياته بالخلافة لابنه «نزار» وقد بويع بعد وفاة أبيه، ولكن خلعه الاَفضل وبايع المستعلي باللّه، وسبب خلعه أنّ الاَفضل ركب مرّة أيّام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً، و«نزار» خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الاَفضل، فصاح به نزار: انزلْ، يا أرمني، كلب، عن الفرس، ما أقلَّ أدبَك. فحقدها عليه، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه على نفسه، وبايع المستعلي، فهرب نزار إلى الاسكندرية، وبها ناصر الدّولة «افتكين»، فبايعه أهل الاسكندرية، وسمّوه المصطفي لدين اللّه، فخطب بالناس، ولعن الاَفضل، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدّولة ابن عمار، قاضي الاسكندرية، فسار إليه الاَفضل، وحاصره بالاسكندرية، وأخذ«افتكين» فقتله، وتسلّم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات، وقتل القاضي جلال الدولة ابن عمار ومن أعانه. (1)

وحيث إنّه لم يتم الاتّفاق على إمامة هوَلاء فقد عقدنا لهم فصلاً مستقلاً.

يقول ابن خلكان: وكانت ولادة المستعلي (أحمد بن معد) لعشر ليال بقين من محرم سنة تسع وستين وأربعمائة، بالقاهرة وبويع في يوم عيد غدير خم، وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وتوفي بمصر يوم الثلاثاء

____________

1. ابن الاَثير: الكامل في التاريخ:10|237 _ 238، دار صادر.

( 144 )

لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وله من العمر ثمان وعشرون سنة وأيام (1) فكانت مدّة ولايته سبع سنين وكسراً، وتولّ_ى بعده ولدُه أبو علي المنصور، الملقب بالآمر، وله

من العمر خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولم يكن في من تسمى بالخلافة قط أصغر منه، ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده الفرس، وقام بتدبير دولته الاَفضل ابن أمير الجيوش، أحسن قيام، إلى أن قتل. (2)

الاِمام الثاني

الاِمام الثاني

الآمر بأحكام اللّه

(490 _ 524ه_)

هو منصور بن أحمد، ولد في القاهرة في الثالث عشر من محرم، وبويع بالخلافة يوم وفاة والده في الثالث عشر من صفر سنة 495ه_، وكان له من العمر خمس سنوات، وفي عهده سقطت مدينة «صور» بأيدي الصليبيين، وذلك بعد سقوط انطاكية وبيت المقدس وقيصارية وعكا وبانياس وطرابلس، وأكثرها كانت فاطميّة.

من آثاره العمرانية الجامع الاَقمر في القاهرة، وتجديد قصر القرافة، وفتح مكتبة دار العلوم للمطالعة والتدريس، قتله النزاريون انتقاماً لاِمامهم نزار، وكان في هودج يقوم بالنزهة بين الجزيرة والقاهرة، وقد حُمل إلى القصر، ولكنّه لم يلبث

____________

1. لو كان له من العمر ثمان وعشرون عاماً عند الوفاة لكانت ولادته عام 467، لا ما ذكره من انّولادته 469ه_.

2. ابن خلكان: وفيات الاَعيان: دار صادر:1|180.

( 145 )

أن فارق الحياة في الرابع عشر من ذي القعدة سنة 524ه_، وكان عمره 34 عاماً وتسعة أشهر وعشرين يوماً. (1)

قال ابن خلكان: ولما انقضت أيّامه، خرج من القاهرة صبيحة يوم الثلاثاء في الثالث من ذي القعدة سنة 524ه_ ونزل إلى مصر، وعدى على الجسر إلى الجزيرة التي قبالة مصر، فكمُن له قوم بالاَسلحة وتواعدوا على قتله في السّكة التي يمر فيها، فلمّا مرّ بهم وثبوا عليه فلعبوا عليه بأسيافهم، وكان قد جاوز الجسر وحده مع عدّة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصته وشيعته، فحُمل في النيل في زورق ولم يمت، وأُدخل القاهرة وهو حيٌّ، وجيء به إلى القصر

من ليلته، فمات ولم يعقب، وهو العاشر من أولاد المهدي عبيد اللّه القائم بسجلماسة، إلى أن يقول: وكان ربعة، شديدَ الاَدمة، جاحظ العينين، حسن الخط والمعرفة والعقل. (2)

ومع هذا فيصفه بكونه «قبيح السيرة، ظلم الناس وأخذ أموالهم وسفك دماءهم، وارتكب المحذورات واستحسن القبائح المحظورات، فابتهج الناس بقتله». (3)

س

ولا يخفى وجود التضاد بين الوصفين، فلو كان حسن المعرفة والعقل لما قبحت سيرته وما أخذ أموالَ الناس ولا أراق دماءهم. واللّه العالم.

وكان يطم_ع إلى عرش العباسيين في العراق، ولكنَّ الاَحداث الداخليّة حالت بينه وبين أُمنيته .

يقول المقريزي:و كانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة على بغداد، ومن شعره في ذلك:

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:190_191.

2. ابن خلكان: وفيات الاَعيان : 5|301 _ 302، و لاحظ الخطط المقريزية: 1|357 و 2|290.

3. وفيات الاَعيان: 5|302.

( 146 )

دع اللوم عني لست مني بموثق * فلابدّ لي من صدمة المتحقق

وأسقى جيادي من فرات ودجلة * وأجمع شمل الدين بعد التفرق

وقال:

أما والذي حجّت إلى ركن بيته * جراثيم ركبان مقلّدة شهبا

لاقتحمن الحرب حتى يقال لي * ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا

و ينزل روح اللّه عيسى ابن مريم * فيرضى بنا صحباً ونرضى به صحبا(1)

والمهم في تاريخه، أنّه قتل الاَفضل الذي مَهّدَ الطريقَ لاَبيه المستعلي في زمانه، ويقال أنّه قتل بأشارة أو موَامرة الآمر بأحكام اللّه.

يقول المقريزي: وفي يوم الثلاثاء، السابع عشر من صفر، سنة خمس وتسعين، أحضره الاَفضل بن أمير الجيوش، وبايع له ونصبه مكان أبيه، ونعته بالآمر بأحكام اللّه، وركب الاَفضل فرساً، وجعل في السّرج شيئاً، وأركبه عليه لينمو شخص الآمر، وصار ظهره في حجر الاَفضل، فلم يَزلْ تحت حجره حتّى قتل الاَفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة. (2)

وقد مرّ آنفاً

قول ابن خلكان بأنّ الآمر بأحكام اللّه مات ولم يعقب، وربَّما يقال أنّالآمر مات وامرأته حامل بالطّيب، وربّما يقال بأنّ امرأته ولدت أُنثى، فلاَجل ذلك عهد الآمر بأحكام اللّه الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثمّ إلى العاضد.

و سنتطرق إلى حياة الاَئمة الاَربعة الذين لم يكونوا من صُلب الاِمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه، ولاَجل ذلك لا تصح تسميتهم بالاَئمة ، وإنّما

____________

1. المقريزي: الخطط: 2|191.

2. المقريزي: الخطط: 2|290.

( 147 )

هم دعاة، حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيِّب بالستر، وما تزال تنتظر دعوته، وتوقفت عن السير وراء الركب الاِمامي، واتبعت نظام الدعاة المطلقين. (1)

الاِمام الثالث

الاِمام الثالث

الحافظ لدين اللّه

(467 _ 544ه_)

ولد بعسقلان سنة 467ه_، عندما مات الآمر، وتوفي في الخامس من جمادى الاَُولى سنة 544ه_، فدامت دولته عشرين سنة سوى خمسة أشهر، وعاش سبع وسبعين سنة، وقام بعده ولده الظاهر. (2)

عبد المجيد الملقب بالحافظ، ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر، بويع بالقاهرة يوم مقتل ابن عمّه الآمر، بولاية العهد وتدبير المملكة، حتى يظهر الحمل المخلف عن الآمر، فغلب عليه أبو علي أحمد بن الاَفضل، في صبيحة يوم مبايعته، وكان الآمر لمّا قتل الاَفضل اعتقل جميع أولاده وفيهم أبو علي المذكور، فأخرجه الجند من الاعتقال لما قُتل الآمر، وبايعوه فسار إلى القصر، وقبض على الحافظ المذكور، واستقلّ بالاَمر وقام به أحسن قيام، وردّ على المصادرين أموالهم، وأظهر مذهب الاِماميّة وتمسك بالاَئمّة الاثني عشر، ورفض الحافظ وأهل بيته، ودعا على المنابر للقائم في آخر الزمان المعروف بالاِمام المنتظر على زعمهم، وكتب اسمه على السّكة، ونهى أن يوَذن (حي على خير العمل) وأقام كذلك، إلى أن وثب عليه

____________

1. عارف تامر:الاِمامة في الاِسلام:191.

2. ابن خلكان،

وفيات الاَعيان:3|236، دار صادر.

( 148 )

رجل من الخاصّة بالبستان الكبير بظاهر القاهرة، في النصف من المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة فقتله، وكان ذلك بتدبير الحافظ، فبادر الاَجناد بإخراج الحافظ، وبايعوه ولقبوه الحافظ، ودعي له على المنابر. (1)

الاِمام الرابع

الاِمام الرابع

الظافر بأمر اللّه

(527_ 549ه_)

هو إسماعيل بن عبد المجيد ولد في القاهرة يوم الاَحد منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة، واغتيل في منتصف محرم سنة 549ه_، بويع الظافر يوم مات أبوه، بوصيّة أبيه، وكان أصغر أولاد أبيه سناً، ولي الاَمر بعد أبيه وكان شاباً جميلاً.

وهو الذي انشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين، قتله نصر بن عباس أحد أبناء وزرائه، وقد ذكر الموَرخون سبب قتله وتفصيله، فمن أراد فليراج__ع. (2)

وعاش الظافر 22 سنة.

____________

1. وفيات الاَعيان: 3|235 _ 236، و سير أعلام النبلاء:15|199.

2. المقريزي: الخطط:2|30 وذكره بايجاز ابن خلكان في وفيات الاَعيان:1|237،والذهبي في سير أعلام النبلاء: 15|204.

( 149 )

الاِمام الخامس

الاِمام الخامس

الفائز بنصر اللّه

(544 _ 555ه_)

هو عيسى بن إسماعيل ولد عام 544ه_، وتسلّم الخلافة وله خمس سنين، وبقى على سدّة الخلافة ست سنين، ولَمّا اُغتيل أبوه، أقامه الوزير عباس مكان والده، تغطية لِما ارتكبه ابنُه من قتل الاِمام الظافر، فلمّا قدم طلائع بن رزيك، والي الاشمونين بمجموعة إلى القاهرة، فرّ عباس، واستولى طلائع على الوزارة، وتلقّب بالصالح، وقام بأمر الدولة، إلى أن مات الفائز لثلاثة عشرة بقيت من رجب سنة 555ه_ عن إحدى عشرة سنة وستة أشهر ويومين، منها في الخلافة ست سنين وخمسة أشهر وأيام. (1)

الاِمام السادس

الاِمام السادس

العاضد لدين اللّه

(546_567ه_)

هو عبد اللّه بن يوسف ولد عام 546ه_ وتوفي عام 567ه_، وهو عبد اللّه ابن يوسف بن عبد المجيد بن محمد بن المنتصر، أقامه طلائع بن رزيك، بعد الفائز، ولي المملكة بعد وفاة ابن عمّه الفائز بنصر اللّه، وكان العاضد شديدَ التشيّع، بويع وعمره آنذاك إحدى عشرة سنة، وقام الصالح بن رزيك، أخو طلائع بن رزيك، بتدبير الاَُمور، إلى أن قتل في رمضان سنة 556ه_ فقام من بعده

____________

1. المقريزي: الخطط:1|357، لاحظ وفيات الاَعيان:3|291،رقم الترجمة 514،والذهبي: سير اعلام النبلاء:15|207 رقم الترجمة 78، وقصد فصل الاَخيران الكلام في حياته.

( 150 )

ابنه رزيك بن طلائع، وحسنت سيرته.

يقول المقريزي: فلما قوى تمكّن الافرنج في القاهرة عام 564ه_، وجاروا في حكمهم بها، وركبوا المسلمين بأنواع الاِهانة، فسار مري ملك الافرنج يريد أخذ القاهرة، ونزل على مدينة بلبيس وأخذها عنوة، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه ويحثّه على نجدة الاِسلام وإنقاذ المسلمين من الافرنج، فجهّز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير، وسيّرهم إلى مصر، فلما اطّلع الافرنج على قدوم شيركوه، رحلوا عن القاهرة في السابع من

ربيع الآخر، ونزل شيركوه بالقاهرة، فخلع عليه العاضد وأكرمه، وتقلّد وزارة العاضد وقام بالدولة شهرين وخمسة أيّام، ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، ففوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فساس الاَُمور ودبّر لنفسه، فبذل الاَموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمرُهُ في ازدياد، وأمر العاضد في نقصان، واستبدَّ بالاَُمور ومنع العاضد من التصرّف حتى تبيّ_ن للناس ما يريده من إزالة الدولة، إلى أن كان من واقعة العبيد ما كان فأبادهم وأفناهم، و من حينئذٍ تلاشى العاضد وانحل أمره ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبع صلاح الدين جُندَ العاضد، وأخذ دور الاَُمراء، وإقطاعاتهم، فوهبها لاَصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله فقدموا من الشام عليه، وعزل قضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر، وقد زاد المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتى مرض ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيّام، وكان كريماً ليّ_ن الجانب مرّت به مخاوف وشدائد، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب، ومصر، منذ قام عبيد اللّه المهدي إلى أن مات العاضد 272سنة، منها بالقاهرة 208 سنين فسبحان الباقي. (1)

____________

1. المقريزي، الخطط: 1|358_ 359 باختصار ، وابن خلكان: وفيات الاَعيان:3|109_ 112، والذهبي: سير اعلام النبلاء:15|207_215.

( 151 )

جناية التاريخ على الفاطميين

إنّ لكلّ دول ةأجلاً مسمّى، كما أنّ لطلوعها ونشوئها عللاً، كذلك لزوالها وإبادتها أسباباً سنّة اللّه سبحانه الذي قد كتب على كلّأُمّة أمرَ زوالها وفنائها قال سبحانه: "كُلّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَ يَبْقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجَلالِ وَ الاِِكْرام " (1)وقال سبحانه: "ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلد أفَإن متّ فَهُمُ الْخاِلدُون" . (2)

لا شكّ أنّكلَّ دولة يرأسها غيرُ معصوم

لا تخلو من أخطاء وهفوات، بل من جرائم وآثام، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن، تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

ومع ذلك فالدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد، فقد كانت لديهم زلاّت وعثرات ومآثم وجرائم كسائر الدول.

إلاّ أنّهم قاموا بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّالدولة الموَمنة باللّه سبحانه وشريعته، كالجامع الاَزهر،_ الذي ظل عبر الدهور يُنير الدرب لاَكثر من ألف سنة _ ، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة، ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الاِسلامية إلى مرتبة عالية، وتلك الاَعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

وممّا يدلّ على أنّ حكمهم لم يكن حكماً استبدادياً، ولم تكن سيرتهم على سفك الدماء، أنّ البعضَ منهم تسلموا الخلافة وهم بين خمس سنين إلى عشر سنين، فلوكانت حكومتهم حكومة ظالمة ومالكة للرقاب بالتعسف والظلم، لانهار ملكهم منذ أوائل خلافتهم، ولم يدم ثلاثة قرون، وسط عدوّين شرسين، الخلافة العباسيّة من جانب، والافرنج من جانب آخر.

غير أنّا نرى أنّ أكثر الموَرّخين يصوّرونهم كالفراعنة، وأنّهم فراعنة الاَعصار

____________

1. الرحمن:26_27.

2. الاَنبياء:34.

( 152 )

الاِسلامية، كالقبطيين الذي كانوا فراعنة أعصارهم، لا لم يكونوا بهذه المثابة، كما لم يكونوا نزيهين عن الآثام، خلطوا المحاسن بالمساوىَ، شأن كلّ ملك يحكم ، وإن كانت محاسنهم أكثر من مساوئهم، فأظن أنّ ما كتبته أقلام السير والتاريخ كلّها حدسيّات وتخمينات أخذوها من رماة القول على عواهنه، فيجب على القارىَ دراسة سيرة الفاطميين من رأس وأخذها من معين صاف غير مشوب بالعداء.

والذي يدل على ذلك أنّ الفقيه عمارة اليمني كتب إلى صلاح الدين قصيدة متضمنة شرح حاله وضرورته وسماها «شكاية المتظلم ونكاية المتألم» وهي بديعة ورثى أصحاب القصر عند زوال ملكهم، بقصيدة لاميّة أجاد فيها. (1)

وعلى

كلّ تقدير، فبعد وفاة الطيّب بن الآمر وخلافة الاَئمّة الاَربعة المتأخرة، الحافظ، الظافر، الفائز ثمّ العاضد، دخلت الدعوة المستعلية بالستر وتوقفت عن السير وراء الركب الاِمامي واتبعت نظام الدعاة مكان الاَئمّة.

إلى هنا تم بيان أئمة المستعلية، التي افترقت بعد المستنصر باللّه، وصارت فرقة عظيمة معروفة بالبهرة، ولهم اليوم في الهند نشاطات، ومدارس ودعايات، وهم يمسكون بكتبهم عن الغير ويبخلون بها.

إنّ الاِسماعيلية المستعلية انقسمت سنة 999ه_ إلى فرقتين: داودية، وسليمانية، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق، داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخراً، يدعى سليمان بن الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق، للفرقة الاِسماعيلية المستعلية الداودية اليوم، هو طاهر سيف الدين، ويقيم في بومباي _ الهند _ أمّا الداعي المطلق للفرقة المستعلية السليمانية، فهو علي بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (2)

____________

1. ابن خلكان: وفيات الاَعيان:434.

2. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:162.

الفصل الثامن : في أئمّة النزارية المؤمنية

اشاره

الفصل الثامن : في أئمّة النزارية المؤمنية والآغاخانية

قائمة الاَئمّة النزارية الموَمنية:

قائمة الاَئمّة النزارية الموَمنية:

1. نزار بن معد.

2. حسن بن نزار.

3. محمد بن الحسن.

4. حسن بن محمد «جلال الدين».

5. محمد بن الحسن«علاء الدين».

6. محمود بن محمد «ركن الدين».

7. محمد بن محمود «شمس الدين».

8. موَمن بن محمد.

9. محمد بن موَمن.

10. رضي الدين بن محمد.

11. طاهر بن رضي الدين.

12. رضي الدين الثاني بن طاهر.

13. طاهر بن رضي الدين الثاني.

14. حيدر بن طاهر.

15. صدر الدين بن حيدر.

16. معين الدين بن صدر الدين.

17. عطية اللّه بن معين الدين.

18. عزيز بن عطية اللّه.

19. معين الدين الثاني بن عزيز.

20. محمد بن معين الدين الثاني.

21. حيدر بن محمد.

22. محمد بن حيدر (الاَمير الباقر). (1)

ولد هذا الاِمام الاَخير في أورنك آباد عام 1179ه_، لقبه محمد الباقر (وتوفي سنة 1210ه_)، كلّ ما عرف عنه حتى الآن، هو أنّه آخر إمام من أسرة موَمن، يحتفظ الاِسماعيليون في سوريا بفرمان مرسل منه، من بلدة أورنك آباد بالهند، إلى الاِسماعيليين في سوريا، وفي عهده توقف الفرع الموَمني النزاري عن الركب الاِمام_ي، ولم يبق بين فرق الاِسماعيليين سوى القاسمية _ الآغاخانية _ سائرة على المنهج دون توقف. (2)

____________

1. الاِمامة في الاِسلام: 178.

2. الاِمامة في الاِسلام:214.

( 157 )

قائمة الاَئمّة النزارية القاسمية _ الآغاخانية:

قائمة الاَئمّة النزارية القاسمية _ الآغاخانية:

1. نزار بن معد.

2. هادي.

3. مهتدي.

4. قاهر .

5. حسن على ذكره السلام.

6. أعلى محمد.

7. جلال الدين حسن.

8. علاء الدين محمد.

9. ركن الدين خورشاه.

10. شمس الدين محمد.

11. قاسم شاه.

12. اسلام شاه.

13. محمد بن اسلام.

14. المستنصر باللّه الثاني.

15. عبد السلام.

16. غريب ميرزا.

17. أبو الذر علي .

18. مراد ميرزا .

19. ذو الفقار علي.

20. نور الدين علي.

21. خليل اللّه علي.

22. نزار علي.

23. السيد علي.

24. حسن علي.

25. قاسم علي.

26. أبو الحسن علي.

27. خليل اللّه علي.

28. حسن علي.

29. علي شاه.

30. سلطان محمد شاه

31.

كريم خان. (1)

فعدد الاَئمّة عند النزارية الموَمنية بعد المستنصر يبلغ 22 إماماً، وعند الآغاخانية يبلغ 31 إماماً.

____________

1. الاِمامة في الاِسلام: 178.

( 158 )

إنّ الاختلاف بدأ يدبُ بعد الاِمام نزار ابن المستنصر، ففي الشجرة الموَمنية نرى إمامين بعد نزار، هما: حسن، ومحمد، ثمّ حسن جلال الدين، وفي الشجرة القاسميّة نرى خمسة أئمّة بعد نزار، هم: هادي، ومهتدي، وقاهر، وحسن على ذكره السلام، وأعلى محمد، ثم يأتي جلال الدين حسن، هذا ويلاحظ أنّه بعد هذا الالتقاء عند حسن جلال الدين، تعود الشجرتان إلى السير جنباً إلى جنب حتى محمد شمس الدّين، فبعد وفاة هذا الاَخير ظهر اختلاف من نوع جديد، فالمعلوم أنّه كان للاِمام محمد شمس الدين ثلاثة أولاد، هم: موَمن شاه، وقاسم شاه، وكياشاه.

فالموَمنيّة اعترفت بإمامة موَمن شاه، وسارت وراءه، ووراء ولده من بعده حتى آخرهم أمير محمد باقر سنة 1210ه_، والقاسميّة سارت وراء قاسم شاه، وولده الذين هم أسرة آغاخان. (1)

ثمّ إنّ بسط الكلام في ترجمة هوَلاء الاَئمّة يحوجنا إلى تأليف كتاب مفرد، ولنقتصر على ترجمة الاَئمّة الذين حكموا قلعة آلموت من قلاع قزوين، التي دمّرها هولاكو سنة 654ه_. وكان آخر الاَئمّة في تلك القلاع الاِمام ركن الدين، الذي ولد عام 625ه_ وأُسّر بيد جيوش التتر، وقتل سنة 654ه_ عند ما كانت الجيوش التترية تعبر نهر جيحون لتسليم الاِمام والاَسرى إلى هولاكو.

وأمّا الباقي فسنترك ذكر سيرتهم، ومن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر التالية:

1. الاِمامة في الاِسلام تأليف عارف تامر، 2. تاريخ الدعوة الاِسماعيلية لمصطفى غالب.

____________

1. الاِمامة في الاِسلام: 171.

( 159 )

الاِمام الاَوّل

الاِمام الاَوّل

المصطفى باللّه

نزار بن معد المستنصر

(437 _ 490ه_)

قد تعرفت على أنّالمستنصر عهد بالولاية لابنه نزار إلاّ أنّ الاَفضل رئيس الوزراء، سعى لخلعه، وبايع أخاه

الاَصغر أحمد المستعلي، وقد ذكرنا سبب هذا الخلاف، فغادر الاِمام نزار القاهرة بصحبة عدّة من رجال دعوته، ونزل الاسكندرية بدعوة من حاكمها، فسار إليه الاَفضل على رأس جيش وحاصر الاسكندرية، وعندما اشتدَّ الحصار عليها غادرها الاِمام نزار مع أهل بيته متخفّياً بزي التجار، نحو «سجلماسة» حيث مكث عند عمّته هناك بضعة أشهر، حتى عادت إليه الرسل التي أوفدها لاِبلاغ الحسن بن الصباح عن محل إقامته، فسار إلى جبال الطالقان مع أهل بيته ومن بقي معه من دعاته وخدمه، حيث استقر بقلعة «آلموت» بين رجال دعوته المخلصين، وعمل مع الحسن بن الصباح على تأسيس الدولة النزارية، وبعد أن تمّ له ذلك أصابه مرض شديدٌ استدعى على أثره دعاته ونص على إمامة ابنه (علي) وذلك سنة 490ه_، وتوفي في اليوم الثاني ودفن في قلعة الموت. (1)

هذا ما يذكره ذلك الموَرخ، ولكنَّ غيره من الموَرخين يذكرون شيئاً آخر، وهو أنّالاَفضل لحق به ونشبت بينهم معارك ضارية انتهت بمقتل نزار، وقد انتقم

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:255.

( 160 )

النزاريون بمقتله فيما بعد بأن قتلوا الخليفة الفاطمي الآمر بن المستعلي، ورئيس الوزراء الاَفضل نفسه. وعلى كلّتقدير فقد توفي عام 490ه_ إمّا في الاسكندرية مقتولاً، أو في قلعة آلموت. (1)

وتجدر الاِشارة إلى أنّ الحسن بن الصباح شيخ الجبل(428 _ 518ه_) هو الموَسس الواقعي للاِمامة النزارية، ولولا بيعته لابن المستنصر لما كان للنزارية دولة.

إنّ ابن الصباح قصد المستنصر باللّه في زياراته واجتمع به، وخاطبه في إقامة الدعوة له فأجاب الدعوة له في بلاد العجم، فعاد ودعا الناس إليه سراً، ثمّ أظهرها وملك قلاع آلموت.

يقول الجزري: وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً، كافياً، عالماً بالهندسة، والحساب، والنجوم والسحر وغير ذلك؛ وكان رئيس الري

إنسان يقال له أبو مسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يوماً من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلمّا هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه، فطاف البلاد، ووصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالاً، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن: فمن الاِمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى موطنه، فلمّا رأى قلعة آلموت واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر، وأظهر الزهد، ولبس المسح، فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه، يجلس إليه يتبرك به.

فلمّا أحكم الحسن أمره، دخل يوماً على العلوي بالقلعة، فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة، فتبسم العلوي وظنّه يمزح، فأمر ابن الصباح

____________

1. وليعلم أنّنزار بن معد المذكور في المقام غير نزار بن معد العزيز باللّه الاِمام العاشر للاِسماعيلية.

( 161 )

بعض أصحابه بإخراج العلوي، فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة.

و لما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكراً إلى قلعة آلموت، فحصروه فيها، وأخذوا عليه الطرق، فضاق ذرعه بالحصر، فأرسل من قتل نظام الملك، فلمّا قتل رجع العسكر عنها. (1)

وقال الذهبي: الحسن بن الصباح الملقب بالكيا صاحب الدعوة النزارية وجدّ أصحاب قلعة آلموت.

كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم، وله أخبار يطول شرحها، إلى أن قال: وأصله من مرو، وقد أكثر التطواف مابين مصر إلى بلد كاشغر، يغوي الخلق ويضل الجهلة، إلى أن صار منه ما صار، وكان قوي المشاركة في الفلسفة والهندسة وكثير المكر والحيل، بعيد الغور.

قال أبو حامد الغزالي:

شاهدت قصة الحسن بن الصباح لما تزهد تحت حصون آلموت، فكان أهل الحصن يتمنّون صعوده إليهم ويمتنع، ويقول : أما ترون المنكر كيف فشا وفسد الناس؟ فتبعه خلق، ثمّ خرج أمير الحصن يتصيد فنهض أصحابه وملكوا الحصن، ثمّكثرت قلاعهم. (2)

واستعرض حسن الاَمين في «دائرة المعارف الشيعية» تاريخ الاِسماعيلية، والانشقاق الذي طرأ على الخلافة الفاطمية بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر، وانقسامها إلى فرقتين هي: المستعلية والنزارية وموقف الحسن بن الصباح منهما، حيث قال:

و كان الحسن بن الصباح من أشد الناس إنكاراً لخلافة أحمد المستعلي وأكثرهم تحمسّاً لنزار. ويضيف قائلاً:

____________

1. الكامل في التاريخ:10|316_ 317.

2. الذهبي: ميزان الاعتدال:1|500.

( 162 )

وثمة من يقول من النزاريين إنّ الحسن بن الصباح كان في مصر حين وقوع الخلاف على ولاية العهد ، فلم يقر ما جرى، وكان ممّن يرون أنّ المستنصر كان مكرهاً على تولية ولده أحمد، وأنّ الاَمر هو لنزار لا لاَحمد، ففر الحسن بن الصباح من مصر داعياً لنزار، ثمّ أرسل بعض فدائييه، فأحضروا ابناً لنزار إلى قلعة آلموت.

وفي قول آخر: إنّه لم يخرج من مصر حتى أخرج معه ابناً لنزار، واسمه في سلسلة الاَئمة النزاريين علي ولقبه الهادي، فأخفاه الحسن وستره.

و مهما يكن من أمر فقد أصبح الحسن بن الصباح الرجل الاَوّل والموجه الفعلي للدعوة النزارية.

وبعد ذلك استعرض حسن الاَمين الانحراف الخطير الذي طرأ على الدعوة النزارية وتخلّيها عن الاِسلام كعقيدة وعمل، حيث قال:

توفي الحسن بن الصباح سنة 518ه_ فخلفه من خلفه في قيادة الدعوة النزارية دون أن يعلن هو أو غيره ممّن خلفه عن عقيدة جديدة، حتى انتهى الاَمر إلى الحسن الثاني بن محمد بن بزرك أُميد سنة 558ه_، فإذا به يعلن التخلّي عن الاِسلام كعقيدة وعمل والاَخذ

بمفهوم جديد للدين يتعارض كل التعارض مع مفهوم الاِسلام له.

و يصف الموَرخ علاء الدين عطاء الملك الجويني (م 658ه_) هذا الاَمر وتفاصيله ويوم حدوثه، ثمّ يقول:

فأعلن _ أي الحسن الثاني _ أنّرسالة قد جاءته من الاِمام المستتر مع دليل جديد.

ثمّ قال: «إنّ إمام وقتنا قد بعث إليكم صلواته ورحمته ودعاكم عباده المختارين، ولقد أعفاكم من أعباء تكاليف الشريعة وآل بكم إلى البعث.

ثمّ يقول الجويني: وأكد حسن بالتصريح بأنّه كما في عصر الشريعة إذا لم

( 163 )

يطع إنسان ولم يعبد بل تبع حكم القيامة بحجة أنّالطاعة والعبادة هما أمران روحيان كان ينكل به ويرجم ويقتل، كذلك الآن في عصر القيامة إذا تقيد إنسان بحرفية الشريعة وواظب على العبادة الجسدية والشعائر فانّ ذلك تعصب ينكل به ويرجم ويقتل من أجله.

ثمّ أكمل حسن كلامه قائلاً: لقد أُعفي الناس من تكاليف الشريعة، لاَنّ عليهم في فترة القيامة هذه أن يتوجّهوا بكلّ جوارحهم نحو اللّه، ويهجروا كل الشعائر الدينية وجميع العبادات القائمة. فقد وضع في الشريعة بأنّ على الناس عبادة اللّه خمس مرات في اليوم وأن يكونوا معه. وهذا التكليف كان ظاهرياً فقط. ولكن الآن في أيام القيامة عليهم أن يكونوا دائماً مع اللّه في قلوبهم، وأن يبقوا نفوسهم متوجهة دائماً نحو الحضرة الاِلهية، فإنّها الصلاة الحقيقية. انتهى.

وقد أثّر كلامه في الجموع المحتشدة تحت منبره يقول الموَرخ الجويني:

وفي ذلك اليوم الذي اقترفت فيه هذه القبائح وأُفشيت فيه تلك المساوىَ في «مأمون آباد» عش الكفر، لعب الجميع على الجنك والرباب، وشربوا الخمر بشكل مكشوف على نفس درجات ذلك المنبر وفي مكان جلوس الخطيب.

نعم كان بين الموَمنين بالمذهب من أنكر عليهم ذلك، فنرى أنّ يوم الاَحد السادس من ربيع الاَوّل سنة 561ه_

قام شقيق زوجة الحسن بطعنه في قلعة (لمسر) فمضى المفتري من هذه الدنيا إلى نار اللّه الموقدة، ولكن الانحراف لم ينته باغتيال أصله، بل بقي مستمراً على عهد خليفته ابنه «علاء محمد» الذي تولّى بعد أبيه وهو في التاسعة عشرة من عمره وتوفي سنة 607 ه_،كما كانت المعارضة الشديدة مستمرة، وإذا كان قد تزعمها في عهد حسن، شقيق زوجته، فقد تزعمها الآن حفيد حسن وسميّه جلال الدين حسن، إذ كان على خلاف أبيه وجدّه في العقيدة متشدداً في خلافه لهما كلّ التشدد.

وقام بإصلاحات كبيرة، فقد اتصل بحكام الاَقطار الاِسلامية يعلنهم

( 164 )

العودة إلى الاِسلام ليوثق الصلات بهم وبجمهور المسلمين بعد الذي شاع عن انحراف جدّه وما أعلنه من خروج على الشريعة، فراسل الخليفة في بغداد«الناصر لدين اللّه» وغيره من الملوك والاَُمراء، كما أرسل والدته وزوجته إلى الحجّ وأمر ببناء المساجد وقرّب إليه الفقهاء والقرّاء.

و من البديهي أن لا يكون «جلال الدين حسن» قد استطاع استئصال جذور الانحراف، وأن يظل للانحراف أتباعه الآخذون به شأن جميع الدعوات في كلّزمان ومكان.

على أنّ أمر دولة هوَلاء النزاريين لم يطل كثيراً بعد جلال الدين، فقد انتهى ملكهم على يد هولاكو سنة 654ه_، لكن مَن أخذوا بأقوال الحسن الثاني بن محمد وانحرافه لم ينتهوا، بل ظل للدعوة من يحملها من جيل إلى جيل حتى هذا الجيل وهم اليوم أتباع آغاخان وظلوا هم وحدهم منفردين باسم الاِسماعيليين بعد أن تبرأ من هذا الاسم أصحابه الحقيقيين وتسمّوا باسم البهرة. (1)

____________

1. حسن الاَمين: دائرة المعارف الاِسلامية الشيعية:4|73_75.

( 165 )

الاِمام الثاني

الاِمام الثاني

علي الهادي بن الاِمام نزار

(470 _ 530ه_)

ولد الاِمام علي الهادي بن الاِمام نزار سنة 470ه_ وارتحل مع والده الاِمام نزار إلى قلعة آلموت،

ولما توفي أبوه ع_ام 490ه_ أصبح إماماً للاِسماعيليّة ولم يتجاوز عمره عن عشرين سنة.

وقد انتشر المذهب الاِسماعيلي في عهده على يد داعيته الحسن بن الصباح، شيخ الجبل، المعروف بالمقدرةوالبطش.

عمد الاِمام إلى تأليف جيش قويّ من الاِسماعيليّة، قسّمه إلى فرقتين، الفرقة الاَُولى أسماها(الفدائية)، وهي المكلّفة ببذل التضحيات السريعة المستعجلة، وتنفيذ الاَوامر السرية الهامة، ولقد تدرّب أفراد تلك الفرقة أعظم تدريب على استعمال كافة أنواع الاَسلحة، وعلى الفروسية، كما لُقّنوا مختلف العلوم الفلسفية، وأتقنوا أغلب لُغات أهالي تلك البلاد. أمّاالفرقة الثانية سميت ب_(الرفقاء) وهم المكلَّفون بنشر الدعوة الاِسماعيليّة بأُسلوبهم الخاص في مختلف الاَقطار والاَقاليم، وهم المدافعون عن مذهبهم بالعلم والفلسفة، وعلى الغالب كانوا يتولون الوظائف الاِدارية في البلاد التي يوفدون إليها لنشر الدعوة.

وفي سنة 530هجرية توفي الاِمام علي الهادي، بعد أن مكث في الاِمامة أربعين عاماً، ودفن في قلعة «لامستر» بعد أنْ نصَّ على إمامة ولده محمد المهتدي.(1)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:257_262.

( 166 )

الاِمام الثالث

الاِمام الثالث

محمد المهتدي بن الاِمام علي

(500 _ 552ه_)

ولد الاِمام محمد بن علي بن الاِمام نزار الملقب بالمهتدي سنة 500 ه_ في قلعة «لامستر»، وأصبح إماماً للاِسماعيلية بعد وفاة أبيه الاِمام علي الهادي سنة 530ه_.

كان أوّل عمل قام به أن نقل مقرّه إلى قلعة آلموت، ووجه إهتمامه لبعث الجيش الاِسماعيلي (الفدائية) من جديد، وتدريبه تدريباً كاملاً ليستطيع الدفاع عن القلاع والحصون الاِسماعيلية.

وقد وجه عنايته أيضاً لتنظيم الدعاة، وتلقينهم أُصول العقائد الاِسماعيلية ، وتدريبهم على المباحثة والمناقشة في الفلسفة، والفقه الاِسلامي والعقائد الاِسلامية، كما أوجد بينهم نظام الشيفرة ليستعملوه في اتصالاتهم الداخلية والخارجية فاستعملوا الاَعداد للدلالة على الاَحرف الاَبجدية،و تعرضت الاِسماعيليّة أيضاً لكثير من الهجمات الداخلية والغزوات الخارجيّة.

وفي سنة 552ه_ توفي الاِمام المهتدي ودفن

في قلعة آلموت بعد أن نصَّ على إمامة ولده حسن. (1)

____________

1. المصدر السابق: 266.

( 167 )

الاِمام الرابع

الاِمام الرابع

القاهر بقوة اللّه

حسن بن محمد بن علي بن نزار

(520 _ 557ه_)

ولد سنة 520ه_ في قلعة آلموت، وأصبح بعد وفاة أبيه 552ه_ إماماً بموجب النص، وكان عمره آنذاك 28 سنة، وعين الداعي محمد كيا بزرك آميد نائباً عنه وكبيراً لدعاته.

عمل الداعي بكل إخلاص ووزع الدعاة الاَكفاء على جميع المناطق، ووجّه عناية خاصة للفرقة الفدائية، التي كانت تحتل المكان الاَوّل في الجيش الاِسماعيلي، وأنشأ مدرسة خاصّةً لتثقيف الفدائية وتدريبهم التدريب الكامل على استعمال الاَسلحة، وتلقينهم أغلب اللغات المستعملة في ذلك الوقت.

توفي سنة 557ه_ ودفن في قلعة آلموت بعد أن نصَّ على إمامة ولده الحسن علي. (1)

____________

1. المصدر نفسه:272.

( 168 )

الاِمام الخامس

الاِمام الخامس

الاِمام الحسن علي بن الاِمام حسن القاهر

(539_ 561ه_)

ولد الاِمام حسن علي بن الحسن بن محمد بن علي بن نزار سنة 539ه_، في قلعة آلموت، وتولّ_ى الاِمامة بعد وفاة أبيه سنة 557 ه_.

وقام بتنظيم الدعوة الاِسماعيليّة فوزّع الدعاة الاَكفّاء على الاَقاليم الخاضعة للنفوذ الاِسماعيلي.

توفي في السادس من ربيع الاَوّل سنة 561 ودفن في قلعة آلموت. (1)

الاِمام السادس

الاِمام السادس

الاِمام أعلى محمد بن الاِمام الحسن علي

(553_607ه_)

ولد الاِمام أعلى محمد سنة 553ه_ في قلعة آلموت، وتولّ_ى الاِمامة بعد وفاة أبيه سنة 561ه_، وهو في الثامنة من عمره.

و وجّه عناية خاصّة (للمناظرات العلمية ) فخصّص يوماً واحداً من كلّ أُسبوع لاِجراء المناظرات الفلسفية، والفقهية بين الدعاة، يحضرها بنفسه ليحكم بين المتناظرين فيعلّيهم ويرقّيهم في مراتب الدعوة، حسب ما يظهروه من كفاءة

____________

1. المصدر نفسه:275.

( 169 )

علميّة ، وهذا ما ساعد الدعاة على تفهّم أُصول المذهب الاِسماعيلي.

توفي الاِمام أعلى محمد سنة 607ه_ ودفن في قلعة آلموت بعد أن نصَّ على ولاية ابنه جلال الدين،و استمرت إمامته 46 سنة. (1)

الاِمام السابع

الاِمام السابع

الاِمام جلال الدين حسن بن أعلى محمد

(582_ 618ه_)

ولد الاِمام حسن بن أعلى، الملقب بجلال الدين سنة 582ه_ في قلعة آلموت، وأصبح إماماً بعد وفاة أبيه سنة 607ه_.

عمل على توثيق عُرى الصداقة بين الاِسماعيلية والعالم الاِسلامي، ولهذا لقّبوه ب_«المسلم الجديد» كما أنّ علاقاته بالعباسيين زادت وثوقاً، وخاصّةً مع الخليفة الناصر لدين اللّه.

تنقل كثيراً في سوريا والعراق وآذربيجان، وأدّى فريضة الحج مع عائلته مرتين، تحالف مع جلال الدين خوارزمشاه، عندما غزا چنگيزخان إيران، وذلك انقاذً لمعاقله ولاَتباعه. قتل بموَامرة من النساء بالسُم سنة 618ه_، وخلّف ولداً هو محمد بن الحسن «علاء الدين». (2)

____________

1. المصدر نفسه:277.

2. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:192؛ تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:284.

( 170 )

الاِمام الثامن

الاِمام الثامن

علاء الدين محمد بن الحسن

(608_ 653ه_)

ولد الاِمام علاء الدين محمد بن الاِمام جلال الدين سنة 608ه_ في قلعة آلموت، وجلس على أريكة الاِمامة الاِسماعيليّة سنة 618ه_، وهو في العاشرة من عمره، ودامت إمامته 35 عاماً.

و من العجب أنّ الموَرّخ المعاصر مصطفى غالب ذكر سقوط مدينة بغداد في عصر هذا الاِمام مع أنّ سقوط بغداد تم بعد تدمير قلاع الاِسماعيليّة، لاَنّ مسير التتر كان من قزوين ثمّ همدان ثمّ بغداد.

و توفي عام 653 ه_ ودفن في آلموت. (1)

الاِمام التاسع

الاِمام التاسع

ركن الدين خورشاه بن الاِمام علاء الدين

(629_ 654ه_)

ولد الاِمام ركن الدين خورشاه بن الاِمام علاء الدين محمد سنة629ه_ في قلعة آلموت، وأصبح إماماً بعد وفاة أبيه سنة 653ه_، وأرسل هولاكو التتري جيشاً بقيادة بوكيان التتري لاَطراف كوهستان لمحاربة الاَمير ناصر الدين أمير

____________

1. تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:286.

( 171 )

تلك المقاطعة الذي كان يقيم في قلعة (سرخوست).

و أرسل جيشاً آخر لحصار بقية القلاع الاِسماعيليّة، ولقد استمر ذلك الحصار مدّة ستة أشهر، نفدت بعدها موَونة الاِسماعيليين، ففتحوا أبواب قلاعهم واشتبكوا مع التتر في معارك قويّة طاحنة، قتل فيها اثنا عشر ألف إسماعيلي وثلاثون ألف تتري، واحتلت الجيوش الغازية جميع القلاع الاِسماعيليّة ودمّرتها عن بكره أبيها فجعلتها قاعاً صفصفاً، وأُلقي القبض على الاِمام ركن الدين خورشاه مع ولده الاَصغر مظفر الدين، وابن أخيه سيف الدين، وبعض دعاته، وأخذوهم إلى الخليفة في بغداد.

و في طريق العودة بينما كانت الجيوش التترية تعبر نهر (جيحون) توفي الاِمام ركن الدين خورشاه وكانت وفاته سنة 654ه_، ودفن على ضفة ذلك النهر اليمني.

أمّا بقية الاَسرى فسلّموا لهولاكو الذي أمر بإعدامهم جميعاً،والتمثيل بجثثهم، ولم تستمر إمامة ركن الدين سوى عاماً واحداً، قضاه في الحروب والحصار، وبانتهاء عهده ودّعت

الاَئمة الاِسماعيلية بلاد آلموت لتستقر في آذربيجان بعد أن دام حكمهم فيها ما يقارب 214 عام. (1)

***

إلى هنا وقفت على أئمّة النزارية، من الاِسماعيليّة وأمّا غيرهم من الاَئمّة الباقية الذين تسلموا مسند الاِمامة بعد تدمير قلاع آلموت فيحتاج إلى تأليف مفرد.

إنّ الكتب الاِسماعيليّة التاريخية المخطوطة والمصادر الصوريّة القديمة، منذ عام 710ه_ حتى سنة 1210 ه_ جاءت حافلة بذكر أُسرة موَمن شاه وحدها،

____________

1. تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:289_290.

( 172 )

وبعد سنة 1210ه_ انطفأ وخبا كلُّ نشاط علمىٍّ من جانب هذه الفرقة (الموَمنية) وقامت الا َُسرة الثانية (القاسميّة) تحتل مركزها وتبرز على مسرح الاِسماعيلية النزارية وبما أنّ الاَُسرة الآغا خانية تزعّمت الاِسماعيلية النزارية ما يربو عن القرنين، فلذلك خصصنا الفصل التالي لبيان حياة تلك الاَُسرة.

إنّ الفرقة الاِسماعيلية النزارية الموَمنية تقطن في عهدنا الحاضر في بلدتي «القدموس» و«مصياف» السوريتين وفي بعض قرى سلمية وفي سلمية نفسها، وأمّا الفرقة القاسمية النزارية الآغاخانية فتقطن في سلمية،وما يتبعها من القرى، وفي نهر الخوابي قرب طرطوس، كما تقطن في إيران،والهند،وباكستان، وبورما، والصين ،وإفريقية الشرقية ،و الكونغو ومدغشقر و زنجبار وغيرها. (1)

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:170.

( 173 )

الفصل التاسع

الفصل التاسع

في

الاَسرة الآغاخانية

( 174 )

( 175 )

قد عرفت أنّ النزاريّة انقسمت إلى طائفتين: «موَمنيّة» و«قاسمية» ويطلق على«القاسمية» في الآونة الاَخيرة «الآغا خانية» واشتهروا في هذه الاَعصار باللقب الاَخير وأئمة هذه الاَُسرة هم:

1. حسن علي شاه.

2. علي شاه.

3. سلطان محمد شاه.

4. كريم خان.

1. حسن علي شاه: (1219_ 1298ه_)

ولد في بلدة محلاّت سنة 1219 ه_ وهو أوّل من لُقّب ب_«آغا خان» كان معاصراً للشاه «محمد القاجاري» وفي عهده قُتل الشاه القاجاري وجلس مكانه فتح علي شاه، وقد عامل الاِسماعيليين معاملة طيبة، وزوّج حسن علي شاه من كريمته، ولكنَّ

حياته لم تطل فمات، واستلم مكانه «علي محمد شاه».

فلاحظ أنّ مركز الاِمام حسن علي شاه قد أصبح قويّاً وخطيراً، فاعتبره خطراً على شوَون المملكة، وأمر بإبعاده عن إيران، فذهب إلى السند، واستقر بين أتباعه الكثيرين في كراتشي يُنظّم أُمورهم ويصلح أحوالهم، ويقرّب وجهات النظر بين ملوك السند والبريطانيين، وأخيراً انتقل إلى الهند.

وتوفي سنة 1298 ه_ ودفن في محلة «مجكائون» أو «حسن آباد» عن أربعة أولاد، هم: آغا علي شاه، وآغا جهانگير شاه، وآغا جنگي شاه، وآغا جلال شاه،

( 176 )

وكان عليُّ هو وصيّه ووريث الاِمامة. (1)

يقول الموَرّخ المعاصر مصطفى غالب: دخل الاِمام حسن علي شاه مدينة «بومباي» واسْتقبِل من قبل حاكم تلك المدينة ورجال السلك السياسي وممثلي الدول ومختلف طبقات الشعب،و منحته المملكة البريطانية لقب صاحب السمو،وأرفع وسام للسلام في المملكة. (2)

ولعلّ مغادرته لاِيران وإقامته في بومباي هيّأت له أرضية الاتصال بالبلاط البريطاني، وتوثقت عُرى الصداقة بينهما عبر العصور، فلم تزل أئمة الطائفة بعده متهمين بالعمالة للبريطانيين.

2. علي شاه: (1246 _1302ه_)

ولد عام 1246ه_ في بلدة محلاّت، وجلس على مسند الاِمامة بعد وفاة أبيه سنة 1298ه_، واشتهر ب_«آغا خان الثاني» والدته هي كريمة فتح علي شاه القاجاري.

يذكر أنّه كان مولعاً بصيد الاَُسود والرماية، وقوة الساعد والرجولة. تزوّج شمس الملوك ابنة ميرزا علي خان الاِيرانية.

أنجب ثلاثة أولاد، هم: سلطان محمد شاه، وشهاب الدين شاه، ونور شاه، ووليُّ عهده هو السلطان محمد شاه آغا خان الثالث.

وفي احتفال مهيب ضم آلاف الاِسماعيليّة الذين قدموا لتقديم الزكاة والخمس للاِمام، أعلن الاِمام علي شاه بأنّ نجله الاَكبر سلطان محمد شاه قد أصبح وليّاً للعهد، وسيكون إماماً من بعده.

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:228.

2. مصطفى غالب:تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:336.

( 177 )

قدم إليه وفد

من إسماعيليّة سوريا، وطلبوا من الاِمام رفع مشاكلهم وأن يدفع إليهم السلطان العثماني مكاناً يقطنون فيه بعد أن ضاقت بهم معاقلهم، فقام الاِمام بتنفيذ طلبهم واتصل بالسلطان العثماني إلى أن أصدر السلطان أمره إلى والي دمشق ليسمح للاِسماعيليّة بأن يختاروا مكاناً ليشيدوا فيه مساكن لهم، شريطة أن يعفوا من الضرائب والجندية، تجمّع الاِسماعيليون بزعامة الاَمير إسماعيل، وذهبوا باتجاه المنطقة الشرقيّة حتى وصلوا إلى سهول السلمية فقرروا أن يعيدوا تأسيس مدينة «السلمية» التاريخية، بعد أن دمّرتها الحروب.

توفي الاِمام علي شاه سنة 1302ه_، ونقل جسده إلى مدينة كربلاء ودفن هناك.

(1)

3. سلطان محمد شاه «آغا خان الثالث»: (1294_1380ه_)

ولد «محمد سلطان الحسيني» المعروف بآغا خان الثالث عام 1294ه_ في محلة «شهر العسل» بكراتشي، وفي الثامنة من عمره اجتمع به رجال الدعوة الاِسماعيليّة في الهند وسلّموه شوَون الاِمامة باحتفال مهيب، وتزوّج في سن العشرين ابنة عمّه «شاه زاده» وزار الغرب لاَوّل مرّة واصلاً إلى لندن، فمنح لقب «كوماندور» للامبراطورية الهندية. كما زار ألمانيا وفرنسا وإيران وتركيا ومناطق عديدة من العالم، وتزوّج عدّة مرّات، وساهم بإنشاء جامعة عليكرة، وبإرسال بعثة إسلامية لتدريس الدين الاِسلامي في اليابان.

وفي حياته نقاط جديرة بالمطالعة، منها:

1.يقول عارف تامر: ورأيته في القاهرة سنة 1956م يقول لاَتباعه الذين جاءوا لزيارته: علّموا أولادكم العلوم العمليّة، وأبعدوهم عن العلوم النظرية،

____________

1. الاِمامة في الاِسلام:228 _ 229؛ وتاريخ الدعوة الاِسماعيلية:339 _ 341.

( 178 )

فالعالم قادم على انقلاب خطير وتطور سريع في ميدان الاستنباط والاختراع. (1)

أقول: ماذا يقصد من العلوم النظرية؟ وهل تختص بالعلوم الدينية، أعني: الكلام والتفسير والفقه، أو تشمل سائر العلوم الاِنسانية الاَُخرى كمعرفة النفس وعلم الاجتماع والقانون؟و على أيّة حال فإرشاداته لا اعتبار بها، وكان الاَفضل أن يرشدهم بالقول: علّموا

أولادكم الصناعات الحديثة والعلوم العمليّة إلى جانب سائر العلوم، يقول سبحانه:"وَ قالَ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاِِيمان"

(2)فإنّتزويد البشر بالصناعات الحديثة دون الاِيمان كتزويد المجنون بالسلاح، والذي يكبح جماح البشر عن استخدامه لتلك الصناعات الحديثة من سبيل الشر، هو الاِيمان باللّه، والاعتقاد بالمبدأ والمعاد، التي تتكفل العلوم النظرية بيانه.

2. يقول _ للوفد الاِسلامي الذي جاء يطالبه بالمساهمة ببناء كلية إسلامية في مدينة «منباسا» كينيا_: إنّني لا أُساهم إلاّ بإنشاء مدرسة صناعية كبرى لتعليم الصناعات المختلفة، والمهن الحرّة، فقد كفانا نوماً وركضاً وراء الخيالات والاَحلام.

(3)

أقول: ماذا يريد بقوله: كفانا نوماً و ركضاً وراء الخيالات والاَحلام؟! فهل مقصوده أنّ العلوم الدينيّة هي منبع للخيالات والاَحلام؟! فحينئذٍ ستكون قيادته مبنيّة على الاَوهام والخيالات، فما أشبه كلامه بفعل من تسلّق الشجرة وأخذ يقطع ما تحته. بل إنّ كلامه هذا تفريغ واضح وصريح لحالة القداسة الدينية التي طالما حاول أن يظهر بها أمام المسلمين عامة وأتباعه بصورة خاصة.

3. يقول الموَرّخ المعاصر مصطفى غالب: سمو آغا خان يملك قصوراً كثيرة في جميع أنحاء العالم، وطائرات حديثة من أفخر طراز، وعدداً كبيراً من

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:231.

2. الروم:56.

3. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:233.

( 179 )

أحدث اصطبلات الجياد في العالم، ويحتفظ بفصيلة جياد (هاراث) التي تملكها أُسرته منذ زمن بعيد، ومنها ينتج أحسن خيول السباق المعروفة، وقد ربحت هذه الخيول أكبر الجوائز العالمية لسباق (دربي).

والاِمام آغا خان يُعد من أغنى أغنياء العالم، إذ يُقدّر إيراده السنوي بمبلغ يتراوح بين 600 ألف و10 ملايين دولار، وقد قُدّرت مجموعة الجواهر التي يملكها بمبلغ 200 مليون دولار.

(1)

لا شكّ أنّ حياة البذخ التي عاشها الاِمام آغا خان ليست نتيجة كد عمله ومحصول جهده إنّما هي أموال شرعية باسم

الزكاة والخمس قدمتها إليه الطائفة الاِسماعيليّة المتشكلة من الفلاحين والعمال وأصحاب المكاسب الحرّة، لا أنّها أموال شخصيّة للاِمام، بل ملك لمنصب الاِمامة يصرفها في المشاريع الخيرية، فأين حياة البذخ هذه ممّا كان عليه الاِمام أمير الموَمنين ذلك الاَُسوة الحسنة لعامة البشر والمسلمين خاصة حيث يكتب إلى عامله بالبصرة عثمان بن حنيف: «ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضىَ بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، إلى أن يقول: ولعلّ بالحجاز واليمامة من لا طمع له بالقرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناًوحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ * وحولك أكباد تحن إلى الق_د

أ أقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير الموَمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها».

(2)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:366.

2. نهج البلاغة: قسم الرسائل، رقم 45، تعليق صبحي الصالح.

( 180 )

4. يقول: ويجب أن لا يغرب عن بالكم، بأنّ هذه المشاريع لا يمكن أن تتحقق، ولا يكتب النجاح لهذه النهضة الاِصلاحية إلاّ إذا دفعت ضريبة العشر، والعشر هذا تضحية جزئية واجبة على كلّ إسماعيلي يعتقد ولايتنا ويخلص لنا.

(1)

ويلاحظ عليه: بأنّ الفريضة مختلفة في الزكاة، وليست مبعضة بالعشر كما هو واضح، لمن له أدنى إلمام بالفقه الاِسلامي من سنة وشيعة، كما أنّ الواجب في المعادن، والركائز، وأرباح المكاسب، هو الخمس، لا العشر، فالتركيز على العشر، وحذف المعايير الاَُخر إبطال للشريعة.

5. ومن نصائحه لاَتباعه أنّه أمرهم بالزهد، ويقول: لا تسرفوا شيئاً على طقوس الاَموات والزواج، وازهدوا في لذائذ الحياة الدنيا،

وادّخروا شيئاً من نفقاتكم الشهريّة، وابتاعوا بها سندات شركات التأمين وأوراق الدولة المالية.

(2)

إنّ هذه النصيحة ممزوجة بالحقّ والباطل، فهو يأمرُ أتباعه بالزهد، بينما يعيش هو حياة البذخ والاِسراف، أتقولون مالا تفعلون؟!

6. قال لزوجته الفرنسية في صباح اليوم الذي قرّر أن تتم به حفلة زواجهما:

ابنتي العزيزة!!...

أنت لا تجهلين ولا ريب بأنّي أميرٌ شرقي كبيرٌ وأعتقد بأنّك تجهلين بأنّ آلافاً وآلافاً من البشر يعتقدون بأنّ الاِله متجسم فيَّ تقريباً.

(3)

أقول: يبدو بأنّه إمّا يصحح عقيدة أتباعه في حقّه ، أو يخطّئهم، فعلى الوجه الاَوّل هو إله متجسِّم حسب عقيدته، وعلى الوجه الثاني مقصّر في إضفاء الشرعية على عقيدة قومه، وعدم تخطئتهم، وإرشادهم إلى الحقّ.

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:365.

2. المصدر السابق: 368.

3. المصدر السابق: 372.

( 181 )

الاِمام يتعلّم على يد مأمومه

قال الموَرّخ الاِسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: وسموّه يجيد اللغات الشرقية والغربية من الهندية والفارسية والعربية والتركية، والانكليزية والفرنسية والاِيطالية والاَلمانية، وغيرها من اللغات العديدة، كلُّ هذا بدون أن يدخل أيَّ مدرسة أو يتلّقى علومه في أيّ معهد، وقد تلقّى تعليمه الاَوّل على أيدي والدته التي علّمته تعليماً صحيحاً، فجعلته يتقن اللغات الاَُوروبية والعربية والفارسية. (1)

وقال عارف تامر: وتوفي والده علي شاه، وهو في الثامنة من عمره، فاجتمع به رجال الدعوة الاِسماعيليّة في الهند، وسلّموه شوَون الاِمامة باحتفال مهيب. وكان هذا من الاَسباب التي حفّزت والدته على مضاعفة السهر على حياته، وإحضار المربّين الاختصاصين، والاَساتذة الماهرين ، عملوا على تدريسه اللغات الاَجنبية والفارسية والعربية. (2)

و هنا نقطة جديرة بالاِمعان وهي أنّالثابت في عقيدتهم أنّ الاِمام منصوص لا يتلقّى العلم إلاّ عن الغيب فعلمه لدني.

فلا أدري ما هذا الاِمام. الذي يتلقّى العلم عن مأمومه، وهل الاِمام ذو العلم اللدني بحاجة

إلى دخول المدارس البشرية، وتعلّم اللغات والعلوم وغير ذلك.

وفي يوم الخميس الساعة الثانية ظهراً الحادي عشر من تموز سنة 1957م المواف_ق (1377ه_) توفي الآغا خان في قصره بسويسرا، ونقل جثمانه جوّاً إلى أسوان بمصر. ودفن في المقبرة التي شرع بتشييدها على رأس ربوة الجبل الاَصفر غرب مدينة أسوان في مصر. (3)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:351.

2. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:234.

3. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:392.

( 182 )

و لما توفي آغا خان الثالث في سويسرا توجه زعماء الاِسماعيلية من مختلف أنحاء العالم إلى مقر الآغا خان في قصر بركان، حيث حضروا فتح وصيّة الاِمام الراحل التي كانت مودعة في بنك (لويدز) في بريطانيا.

واستناداً إلى هذه الوصية فقد تم إعلان إمامة كريم بن علي شاه الحسيني، ولُقّب بآغا خان الرابع. (1)

و من الطريف بالذكر هو أنّالاِمام آغا خان الثالث قد عهد بالاِمامة لابنه الاَمير على خان في حياته، يقول مصطفى غالب: أصبح الاَمير علي خان وليّاً لعهد الاِمامة الاِسماعيليّة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1927 ميلادية وجرت احتفالات عظيمة بهذه المناسبة، عمّت جميع البلدان الاِسماعيليّة. (2)

وقد خاب أمل الاَمير علي خان لما فُتحت وصيّة والده التي كانت مُودعة في بنك (لويدز) في بريطانيا والتي تنصُّ على إمامة حفيده كريم بن علي شاه الحسيني (آغا خان الرابع)، ولا أجد تفسيراً لها إلاّبنشوب الخلافات بينهما.

و ممّا جاء في وصيته التي أبطل بها إ مامة ابنه:

و نظراً إلى الظروف التي تغيّرت تغيّراً أساسياً في العالم في السنوات الاَخيرة، ونظراً للتغيّ_رات الكبرى التي وقعت، ومن بينها اكتشاف العلوم الذرية، فإنّي على يقين أنّمصلحة الطائفة الاِسماعيليّة تقتضي أن يخلفني شابٌ نشأ وترعرع في السنوات الاَخيرة وسط هذا العصر الحديث،

وأن تكون له نظرةٌ جديدة للحياة عند تولّي زعامة الطائفة الاِسماعيليّة، لذلك أختار حفيدي كريم خان، ليكون خليفة لي وزعيماً للطائفة من بعدي. (3)

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 402_403.

2. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية :393.

3. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:402.

( 183 )

وقد توفي ولده علي خان المعزول في الخامس عشر من ذي القعدة سنة 1380 هجرية، بحادث اصطدام سيارته التي كان يقودها بنفسه، ودفن جثمانه موَقتاً في قصره الخاص في نويللي بفرنسا، ريثما يتم نقله إلى مقرّه الاَخير في سلَمية سوريا تنفيذاًلوصيته.

فالاِمام الحاضر للاِسماعيليّة هو كريم حفيد (آغا خان الثالث) لا ولده.

كريم بن علي بن محمد

آغا خان الرابع

ولد سنة 1938 م في مدينة جنيف بسويسرا، والده هو الاَميرعلي خان الذي أُقصي عن مركز الاِمامة بموجب وصية والده سلطان محمد شاه (آغا خان الث_ال_ث)، وأُمّه هي الاَميرة البريطانية (جون بربارايولد) ابنة اللورد تشارستون، تلقّى علومه الاَوّلية في مدارس سويسرا، فأتقن الانكليزية والفرنسية والاِسبانية، كما درس اللغة العربية، وبعد أن أكمل تحصيله في سويسرا انتسب إلى جامعة (هارفرد الاَميركية).

كان كثير التنقل والاَسفار، يمارس الرياضة الصعبة، وقد نجا مرتين من حادثتي اصطدام مروعتين، ويولي الشوَون الاقتصادية والمالية اهتمامه، ويتجنّب الخوض ببحر السياسة. كما ويقوم بزيارة لاِفريقية وسوريا ولبنان وإيران في العام، لتفقد شوَون أتباعه ومعالجة قضاياهم. وهو لا يزال حيّاً يرزق. (1)

هوَلاء أئمّة النزاريّة القاسمية الآغاخانية، وهم الفرقة المنحصرة باستمرار الاِمامة في أولاد إسماعيل، وفق المذهب الاِسماعيلي، فاللّه سبحانه يعلم هل تستمر الاِمامة بعد رحيله أوتدخل في كهف الغيبة.

____________

1. الاِمامة في الاِسلام:237؛ وتاريخ الدعوة الاِسماعيلية:403.

( 184 )

( 185 )

الفصل العاشر : في الإسماعيلية والأُصول

اشاره

الفصل العاشر : في الإسماعيلية والأُصول الخمسة

عقيدتهم في التوحيد

1. عقيدتهم في توحيده سبحانه، أنّه واحد لا مثل

1. عقيدتهم في توحيده سبحانه، أنّه واحد لا مثل له ولا ضد:

يقول الكرماني في المشرع الخامس: إنّه تعالى لا ضد له ولا مثل (1) ثمّ يستدل عليه.

ويقول علي بن محمد الوليد (الداعي الاِسماعيلي اليمني): إنّه تعالى واحد لا من عدد، ولا يُعتقد فيه كثرة، أو إزدواج أشكال المخلوقات، واختلاف البسائط والمركبات (2) ثمّيستدل عليه.

و يقول أحد الدعاة الاِسماعيلية في قصيدة له في العقائد:

الحمد للّه القديم الاَزلي * المبدع العالي معلِّ العلل

باري البرايا الدائم الفرد الصمد * والجاعل الواحد أصلاً للعدد (3)

____________

1. راحة العقل:47.

2. علي بن محمد الوليد: تاج العقائد ومعدن الفوائد:21.

3. القصيدة الشافية:1.

( 192 )

2. انّه سبحانه ليس أيسا:

2. انّه سبحانه ليس أيسا:

إنّالاَيس بمعنى الوجود، ولعلّ أوّل من استعمله هو الفيلسوف الكندي، وقد اشتهر في الفلسفة الاِسلاميّة أنّالممكن من ذاته أن يكون ليس، ومن علّته أن يكون أيس، وإن كانت هذه الكلمة في التعبير عن مكانة الممكن تعبيراً غير دقيق، لاَنّ معناه ، أنّالممكن من ذاته يقتضي العدمَ، وهذه علامة الممتنع لا الممكن، فالممكن لا يقتضي من صميم ذاته أحدَ الشيئين، الاَيس والليس.

وعلى كلّ تقدير فهوَلاء يستنكرون وصفه سبحانه بالاَيس، المرادف للوجود.

وقد استدل عليه الداعي الكرماني بوجه مبسّط نأخذ منه ماله صلة بصميم الموضوع، وحاصل ما ذكره يرجع إلى أمرين:

الاَوّل: لمّا كان الاَيس _ في كونه أيساً _ محتاجاً إلى ما يستند إليه في الوجود، وكان هو _ عزّ كبرياوَه _ متعالياً عن الحاجة فيما هوهو إلى غير، به يتعلق، مابه هوهو، كان من ذلك الحكم، بأنّه تعالى خارج عن أن يكون أيساً، لتعلّق كون الاَيس أيساً بالذي يتأوّل عليه الذي جعله أيساً، واستحالة الاَمر في أن يكون هو تعالى أيساً، ولا هو يحتاج فيما هوهو إلى غير

به هوهو، فيستند إليه، تكبّر عن ذلك وتعزّز وتعالى علوّاً كبيراً.

فإذا كان هو عزّوعلا غير محتاج فيما هوهو إلى غير، به يتعلّق ، ما به هوهو، فمحال كونه أيسا.

وحاصل هذا الوجه مع تعقيده في التعبير، يرجع إلى أمر واضح، وهو أنّه لوكان موصوفاً بالوجود، فبما أنّالصفة غير الموصوف، يحتاج في وصفه به إلى الغير، وهو تعالى غني عمّا سواه.

ولو كان ما جاء به الكرماني مذهباً للاِسماعيليّة فهو يُعرب عن عدم نضوج الفلسفة اليونانية في أوساطهم، فهوَلاء يتصوّرون أنّ الوجود أمر عارض على

( 193 )

الواجب، فيبحثون عن مسبب العروض، مع أنّه إذا كان ماهيته انيّته، وكان تقدّست أسماوَه عين الوجود، فالاستدلال ساقط من رأسه، والمسألة مطروحة في الفلسفة الاِسلامية على وجه مبسط، وفي ذلك الصدد يقول الحكيم السبزواري:

والحقّ ماهيّته إنِّيَّته * إذ مقتضى العروض معلوليّته

فمن أراد التفصيل فليرجع إلى المصدرين في الهامش. (1)

الثاني: أنّ اللّه تعالى إن كان أيساً، فلا يخلو أن يكون إمّا جوهراً، وإمّا عرضاً.

فإن كان جوهراً، فلا يخلو أن يكون إمّا جسماً أو لا جسماً (المجرد).

فإن كان جسماً، فانقسام ذاته إلى ما به وجودها، يقتضي وجود ما يتقدم عليه بكون كلّ متكثر مسبوقاً متأوّلاً عليه، وهو يتعالى بسبحانيّته عن أن يتأوّل عليه غيره.

وإن كان لا جسماً، فلا يخلو أن يكون إمّا قائماً بالقوة مثل الاَنفس، أو قائماً بالفعل مثل العقول.

فإن كان قائماً بالقوّة، فحاجته إلى ما به يخرج إلى الفعل تقتضي ما يتقدّم عليه، وهو يتعالى عن ذلك.

وإن كان قائماً بالفعل ، فلا يخلو من أن يكون إمّا فاعلاً في ذاته من غير حاجة إلى غيرٍ به يتم فعله، أو فاعلاً في غيرٍ به يتم فعله.

فإن كان فاعلاً في غير به يتم فعله،

فلنقصانه في فعله وحاجته إلى ما يتم به فعله، تقتضي ما يتأوّل عليه، وهو يتعالى عن ذلك.

وإن كان فاعلاً في ذاته، من غير حاجة إلى غيرٍ به يتم فعله، فلاستيعاب ذاته النسب المختلفة بكثرة المعاني المتغايرة، بكونه في ذاته فاعلاً ومفعولاً بذاته،

____________

1. راجع الاَسفار لصدر المتألهين:1|96، باب في أنّ الحق تعالى إنيّة صرفة؛ وشرح المنظومة للحكيم السبزواري:2|96.

( 194 )

يقتضي ما عنه وجوده الذي لا تكون فيه كثرة ولا قلّة بهذه النسب، وهو يتعالى عن ذلك.

وإن كان عَرضاً، وكان وجودُ العرض مستنداً إلى وجود ما يتقدم عليه من الجوهر، الذي به وجوده، وهو يتعالى ويتكبر عن أن تتعلّق هويته بما يتأوّل عليه، بطل أن يكون عرضاً. (1)

وحاصل هذا الوجه أنّ كونه سبحانه موصوفاً بالاَيس، لا يخلو من صور أربع:

أ: أن يكون جوهراً جسمانياً.

ب: أن يكون عرضاً.

ج: أن يكون جوهراً مجرداً، قائماً بالقوّة، مثل الاَنفس.

د: أن يكون جوهراً مجرداً قائماً بالفعل، مثل العقول.

الصورة الاَُولى: تستلزم أن يكون موَلّفاً من أجزاء، والاَجزاء متقدّمة على الكُلّ، فيكون محتاجاً إلى غيره.

و مثلها الصورة الثانية: لحاجة العرض إلى وجود موضوع متقدم عليه.

ومثلها الثالثة:لاَنّه إذا كان قائماً بالقوّة، فيحتاج إلى من يخرجه إلى الفعل، وأن يكون المخرج متقدّماً عليه، وهو سبحانه غني.

وأمّا الصورة الرابعة: فقد فصّل فيها الكلام ولها شقان:

الاَوّل: أن يكون فاعلاً في ذاته، من غير حاجة إلى غير به يتم فعله، فهذا يستلزم اجتماع النسب المختلفة في ذاته.

الثاني: أن يكون فاعلاً في غيرٍ به يتم فعله، فهو يستلزم حاجته إلى ما يتمُّ به فعله، وهو غني على الاِطلاق.

____________

1. راحة العقل:39_40.

( 195 )

والاستدلال مبني على أنّه صوّر للواجب ماهيّة بين كونها جوهراً أو عرضاً، والجوهر جسماني أو نفساني، أوعقلائي، والفروض كلّها

باطلة، لاَنّ القائل بكونه وجوداً، وأيسا، يقول: هو والوجود متساويان؛ الواجب = الوجود.

ولا يذهب عليك أنّ الفرض الرابع، وهو كونه موجوداً بالفعل مردداً بين كونه فاعلاً في ذاته، أو فاعلاً في غير، لا يخلو عن تعقيد وغموض.

ثمّ إنّ الداعي ذكرَ وجهاً ثالثاً لعدم كونه سبحانه أيساً، ليس له قيمة تذكر، فمن أراد فليرجع إليه. (1)

3. في نفي التسمية عنه:

3. في نفي التسمية عنه:

يقول الداعي الاِسماعيلي علي بن محمد الوليد: إنّوضع التسمية عليه محال، إذ كانت التسمية إنَّما جعلت وسماً يوسم بها المخلوقات، ليكون الخلق بها فصولاً فصولاً، يتميّز بها كلّ صورة عن الصورة الاَُخرى، حتى ينحفظ كلّ صنف منها، ويمكن للعقل الحكاية عنها إذا دعت الحاجة إليها، فيكون بذلك ظهور أشكال العالم في أيّ تسمية وسم بها، وهو متعال، ليس له صورة نفسانية،ولا عقلية،ولا طبيعيّة،ولا صناعيّة، بل يتعالى بعظيم شأنه، وقوّة سلطانه عن أن يوسم بما يوسم به أسباب خلقته، وفنون بريته ،و قد اتفقت فحول العلماء على أنّه تعالى لم يزل ولا شيء معه، لا جوهراً ولا عرضاً. (2)

ولا يذهب عليك، أنّعنوان البحث غير منطبق على ما جاء فيه، فلو كان العنوان من جانب الموَلّف، وإلاّ فالعنوان يهدف إلى شيء، وما ورد فيه إلى شيء آخر، فإنّ تسمية اللّه سبحانه أمر اتّفق عليه كافّة أهل التوحيد، ومراده هو نفي

____________

1. راحة العقل:40.

2. علي بن محمد الوليد: تاج العقائد ومعدن الفوائد:26.

( 196 )

الماهيّة، كالجوهرية والعرضية.

كما أنّمراده في بحث آخر في الكتاب، تحت عنوان «في نفي الحدّعنه» هو نفي كونه متناهياً.

4. نفي الصفات عنه:

4. نفي الصفات عنه:

إنّنفي الصفات عنه سبحانه، مما اشتهر عن الاِمام أمير الموَمنين - عليه السّلام- في خطبه، وعنه أخذت المعتزلة، قال - عليه السّلام- : «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاِخلاص له، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلِّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار

إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عده، ومن قال: «فيم» فقد ضمّنه، ومن قال: «عَلامَ؟» فقد أخلى منه».(1)

وقد ذهبت الاِماميّة، وقسم من المعتزلة، تبعاً للاَدلة العقليّة، التي أشار إليها الاِمام في كلامه، بأنّ المرادَنفي الصفات الزائدة عليه، لا نفي الصفات على الاِطلاق، فاللّه سبحانه علمٌ كلّه، قدرة كلّه، حياة كلّه، وهكذا، لا أنّه شيء، وعلمه شيء آخر ؛ خلافاً للاَشاعرة، فقد ذهبوا إلى زيادة الصفات على الذات مع كونها قديمة، فأورد عليهم باستلزامه القول بالقدماء الثمانية.

ولكن الاِسماعيليّة ذهبت إلى نفي الصفات عنه على الاِطلاق، واكتفت في مقام معرفته سبحانه بالقول بهويته وذاته دون وصفه بصفات، حتى الصفات الجماليّة والكماليّة، ولهذا نرى أنّ الداعي الكرماني يعترض على المعتزلة الذين

____________

1. نهج البلاغة: الخطبة الاَُولى.

( 197 )

قالوا بنفي الصفات قائلاً:

إنّ المتأمّل المنصف، إذا فحص عن ذلك بفكره، علم أنّ كلاً من المخالفين قد زيّن مذهبه، بأن عمد في توحيده لمعبوده ما عمدناه، وقصد ما قصدناه، في استعمال حرف (لا ) في نفي (1)ما يستحق الغير عن اللّه تعالى، خاصّة المعتزلة الذين صدّروا كتبهم، وزيّنوها بقولهم في أُصول مذهبهم: بأنّ اللّه تعالى لا يوصف بصفات المخلوقين...و هذا من قولهم، هو أصل مذهبنا، وعليه قاعدة دعوتنا، بأنّنا لا نقول على اللّه تعالى، ما يقال على المخلوقين، وهو المعتمد في توحيد معبودنا، والمقصود في أنحاء كلامنا، لكن المعتزلة قالوا بأفواههم قول الموحدين، واعتقدوا بأفئدتهم اعتقاد الملحدين، بنقضهم قولهم أوّلاً بأنّاللّه لا يوصف بصفات المخلوقين، بإطلاقهم على اللّه سبحانه وتعالى ما يستحقه غير اللّه تعالى، من الصفات من القول بأنّه حيٌّ قادرٌ، عالمٌ، وسائر الصفات، نعوذ باللّه. (2)

ويقول علي بن محمد الوليد: إنّنفي الصفات عنه معتقد صحيح، لا يسوغ تركه، لاَنّ الصفات

تلحق الجوهر، إمّا في الاَجسام وإمّا في النفوس، ويكون في الاَجسام كيفيات من خارجها، كالاَقدار، والاَلوان، وما يجري مجراها، وفي النفوس كيفيات من داخلها، كالعلم، والجهل، ومايجري هذا المجرى، وهو يتعالى عن أن يكون له داخل أو خارج.

و ممّا تقرر عند كل ذي عقل أنّ الصفات تلحق الموصوف من غيره، لا من ذاته، ألا ترى أنّصفات الاَجسام التي هي لها، تأتي من خارجها كالاَقدار والاَلوان، وما يجري مجراها، وفي النفوس كيفيات من داخلها، كالعلم، والجهل ومايجري هذا المجرى، وهو يتعالى أن يكون له داخلاً أو خارجاً، ومما تقرر عند كلّ ذي عقل أنّ الصفات تلحق الموصوف من غيره لا من ذاته. (3)

____________

1. وفي المصدر (النفي)؛ راحة العقل:52.

2. راحة العقل:52_53.

3. علي بن محمد الوليد: تاج العقائدو معدن الفوائد:27.

( 198 )

5. الصّادر الاَوّل هو الموصوف بالصفات العليا:

5. الصّادر الاَوّل هو الموصوف بالصفات العليا:

لمّا ذهبت الاِسماعيليّة إلى نفي الصفات عنه سبحانه، مع أنّ الكتاب والسنّة مليئان بهما، لم يكن لهم بُد من إرجاع تلك الصفات إلى المبدع الاَوّل، الذي هو الموجود الاَوّل، وإليه تنتهي الموجودات، وهو الصادر عنه سبحانه بالاِبداع، لا بالفيض والاِشراق، كما عليه إخوان الصفا. (1)

قال الداعي علي بن محمد الوليد: إنّ الباري تعالى وتقدّس لمّا تعاظم عن أن يُنال بصفة توجد في الموجودات، لقصور الموجودات عن وصفه بما تستحقه الاِلهيّة، جعل موجوداً أوّلاً تتعلّق الصفات به، عطفاً ورحمةً ومنّة على عقول عباده أن تهلك وتضل، إذا لم تستند إلى ما تقف عنده، فتوقع الصفات عليه، فجعل للعالم مبدأ مبدعاً، وهو الاَوّل في الوجود من مراتب الموجودات، وكان المبدع حق لوجوده عن المتعالى سبحانه، غاية تنتهي إليها الموجودات.

ثمّإنّه أفاض الكلام في صفاته، وعرّفه بكونه: موجوداً حقاً واحداً،تامّاً، باقياً، عاقلاً، عالماً، قادراً،

حيّاً، فاعلاً.

ثمّ قال: الحياة ذات جامعة لهذه الاَُمور وبها هي فاعلة. (2)

وقال الداعي الكرماني في هذا الصدد:

«فالاِبداع هو الحقّ والحقيقة، وهو الوجود الاَوّل، وهو الموجود الاَوّل، وهو الوحدة، وهو الواحد، وهو الاَزل، وهو الاَزلي، وهو العقل الاَوّل، وهو المعقول الاَوّل، وهو العلم، وهو العالم الاَوّل، وهو القدرة، وهو القادر الاَوّل، وهو الحياة، وهو الحيّ الاَوّل، ذات واحدة، تلحقها هذه الصفات، يستحق بعضها لذاته، وبعضها بإضافةٍ إلى غيره، من غير أن تكون هناك كثرة بالذات.

____________

1. رسائل اخوان الصفا:3|189، طبعة بيروت.

2. علي بن محمد الوليد: تاج العقائد ومعدن الفوائد:40_41.

( 199 )

إلى أن قال: وهذه الاَُمور وجودها له ضروري، لكونه أوّلاً في الوجود الواجب، احتوائه على أشرف الكمالات وأشرف الموجودات.

إلى أن يقول: وجوهر هذا الاِبداع جوهر الحياة، وعينه عين الحياة، والحياة متقدمة على سائر هذه الصفات، ولذلك قدَّم اللّه تعالى عند وصفه سمة الحياة في قوله تعالى: "اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم" (1)فهو متوحّد من جهة كونه إبداعاً وشيئاً واحداً، ومتكثّر من جهة الموجود فيه من الصفات، على ما بيّناه. (2)

أقول: إنّ المبدع الاَوّل حسب ما يذكرونه هو الاِله الثاني، غير أنّه يفارقه بأنّه المبدَع بإبداعه سبحانه، وبذلك يفترق عن إله العالمين.

وأعجب منه أنّالكرماني يصفه بأنّه أزليٌّ، ولعلَّ المراد أنّه قديم زماناً وحادثاً ذاتاً.

على أنّهذا الكلام باطلٌ من أصله، وذلك: لاِمكان وصفه سبحانه بالاَوصاف الجماليّة، والكماليّة، من دون أن يطرأ على ذاته وصمة النقص، وذلك بحذف المبادىَ، والاَخذ بالغايات، فهو سبحانه علم، لا بما أنّه كيف، بل بما هو وجود بحت، وأنّ الوصف ربَّما يكون له من الكمال على حدٍّ يكون قائماً بذاته لا طارئاً على الذات، وما يلاحظ من المباينة بين الوصف والموصوف، فإنّما هو

من خصوصيات المورد أيْ الممكنات، ولا يجب أن يكون كلّ وصف كذلك.

____________

1. البقرة:255.

2. راحة العقل: 83، طبعة القاهرة.

( 200 )

عقيدتهم في العدل

عقيدتهم في العدل

عقيدتهم في العدل

قد تعرّفت في البحث السابق على أنّهم لا يصفونه سبحانه بوصف، ويعتقدون أنّه فوق الوصف، وأنّغاية التوحيد نفي الوصف، وإثبات الهوية، ولهذا لا تجد عنواناً لهذا الفصل في كتبهم حسب ما وصل بأيدينا، ولكن يمكن استكشاف عقيدتهم في عدله سبحانه من خلال دراستهم لفعل الاِنسان، وهل هو إنسان مسيّر أو مخيّر؟

1. الاِنسان مخيّر لا مسيّر

1. الاِنسان مخيّر لا مسيّر

يقول الداعي علي بن محمد الوليد: الاِنسان مجبور في حال تركيبه، ورزقه، ومدّته، وحركات طبائعه، والكيان بنشوئه، ومايحدث عليه مقهور عليه مغيّب عن إدراكه وعيانه، ليكون مفتقراً بالدعاء والتضرّع إلى خالقه، إذ لو كشف له لفسد حاله.و مخيّ_ر غير مجبور فيما يعتقد لنفسه، من علومه، وصناعته، ومذاهبه، و معتقداته.

إلى أن قال: ولولا ذلك لما كانت لها منفعة بإرسال الرسل، وقبول العلم، وتلقي الفوائد والانصياع لاَوامر اللّه تعالى، إذ لو كانت مجبورة لاستغنت عن كلّ شيء تستفيده.

ثمّ استدلّ بآيات منها قوله تعالى: "وَ أَنْ لَيْسَ لِلاِِنْسانِ إِلاّما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى" (1)إلى غير ذلك من الآيات. (2)

____________

1. النجم: 39_40.

2. تاج العقائد: 166_ 168.

--------------------------------------------------------------------------------

( 201 )

2. القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار

2. القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار

إنّ القضاء والقدر من العقائد الاِسلاميّة التي لا محيص لمسلم عن الاعتقاد بهما، غير أنّ البحث فيهما ينصّب على نكتة مهمة وهي هل أنّهما يسلبان الاختيار أو لا ؟

فالظاهر من أهل السنّة، إلاّمَنْ شذَّ، تفسيرهما على وجه يسلبان الاختيار، على خلاف ما ذهبت إليه العدليّة.

والاِسماعيليّة تُثبت القضاء والقدر حقيقةً لا مجازاً، ولكنها تُنفي كونهما سالبين للاختيار.

يقول الداعي علي بن محمد الوليد: القضاء والقدر حقيقة لا مجاز، ولهما في الخلق أحوال على ما رتب الفاعل سبحانه، من غير جبر يلزم النفوس الآدمية الدخول إلى النار أو الجنة.

إلى أن قال:إذ لو كان كذلك لذهبت النبوات والاَوامر المسطورات في الكتب المنزّلة، في ذم قوم على ما اقترفوه، ومدح قوم على ما فعلوه.

ثمّإنّه فسّر القضاء بمعنى الفراغ، والاَمر، والخبر، والفعل، والوصيّة، وأرجع الجميع إلى معنى الفراغ.

وأمّا القدر: فقد فسّ_ره بأنّه من

المقدار، والتقدير، والترتيب، ثمّ جعل له تفاسير ثمانية، ومن أراد فليرجع إليه. (1)

وقد نقل في آخر الفصل رسالة الحسن البصري إلى الحسين بن علي عليمها السّلام يسأله عن القضاء والقدر، كما نقل جواب الاِمام إليه، وقد جاءت هذه الرسالة أيضاً في كتاب «تحف العقول» للحلبي الحراني مع اختلاف يسير.

____________

1. تاج العقائد: 179.

--------------------------------------------------------------------------------

( 202 )

عقيدتهم في النبوة

1. النبوّة أعلى درجات البشر

1. النبوّة أعلى درجات البشر

النبوّة :عبارة عن ارتقاء النفس إلى مرتبة تصلح لاَن يتحمل الوحي.

يقول الداعي علي بن محمد الوليد: إنّالرسول الحائز لرتبة الرسالة، لا ينبغي أن يكون كمالاً يفوق كماله ولا علماً يخرج عن علمه، وأنّه الذي به تكون سعادة أهل الدور من أوّله إلى آخره، وأنّ السعادة الفلكيّة، والاَشخاص العاليّة، والموَثرات، خدم له في زمانه.

والوجود مكشوف له، وبين يديه، فنظره ثاقب، وإحاطته كلّية، وحدود أوضاعه مبرّأة من النقص، وجميع ما يأتي به محرر، لا يحتاج إلى زيادة، وأقواله لا تردّ، ولا يوجد فيما ينطق به خلل، وجوهره المقدّس نهاية في الشرف، وأنّ القوة الملكية عليه أغلب وحواسه خادمة لنفسه، وعقله لا ينظر إلاّإلى أوامر اللّه تعالى خالقه، وأنّه في نهاية من المنازل من مولودات العالم في حسنه. (1)

2. الرسالة الخاصة والعامة

2. الرسالة الخاصة والعامة

إنّ الرسالة على ضربين: خاصّة، وعامّة.

____________

1. تاج العقائد:57_ 58.

( 203 )

فالرسالة العامّة شاملة طبعاً، وعقلاً، ولولا الرسالة الاَُولى العامّة، لن تُقبل الرسالة الخاصّة، وذلك لاَنّه تعالى خلق الصورة الآدميّة، وأكمل منافعها، وسوّاها على أحسنِ هيئة، ووضع فيها العقل الغريزي، الذي إليه ترجع أحوال الصورة لنيل منافعها، فهو الرسول الاَوّل المُعدُّ لقبول أمر الرسول الثاني، الخاص لمنافع النفس في الآخرة، مثلما كان الاَوّل لمنافع الدنيا، وعلى الاَوّل يعول في الاغتذاء، وطلب المصالح بغير ثواب ولا عقاب، إذ هو أمرٌ بديهي لمنافع الصورة، وعلى الثاني يكون الحساب والعقاب، إذ هو أمرٌ ربّانيّ، يدعو إلى دار غير دار الطبيعة.

إلى أن قال:

فإذا أظهر الرسول الرسالة، كانت الفضيلة على المستضيء المنتفع بها، وذلك القادح هو الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلى الخلق وحجّته على أهل زمانه، وهو لسانه فيهم، وترجمانه في العالم السفلي بأسره،

والمتبحّر أبداً في الحكمة. (1)

أقول: إنّتسمية العقل الاِنسانيّ بالرسول لا يخلو من شيء، والاَولى تسميته بالحُجّة الباطنة، في مقابل الحجّة الظاهرة، الذي هو النبي.

3. الوحي

3. الوحي

إنّ الوحي: إلهام خاص بالاَنبياء والمرسلين ،إذا كانت لغاية التشريع، وتبيين الوظائف لمن بعثوا إليهم، وله طرق ثلاثة، جاء في الذكر الحكيم، قال سبحانه:

"وَ ما كانَلِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَرَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ".(2)

____________

1. تاج العقائد: 48_50.

2. الشورى:51.

( 204 )

وأمّا الوحي عند الاِسماعيليّة، فيقول الداعي علي بن محمد الوليد: إنّ الوحي: هو ما قبلته نفس الرسول من العقل، وقبله العقل من أمر باريه، ولم يخالفه علم تألفه النفس الناطقة، بقواها، ثمّ تتأمّل منه النفس ما ليس لها استنباطاً بذاتها، ولا تستخرجه بفكرها، وتكون فيه غاية لسداد قصدها، ومصلحة لجميع أمرها.

إلى أن قال: والفرق بين الوحي وغيره من سائر العلوم، أنّ الوحيَ يرد على من يوحى إليه مفروغاً منه، قد استغنى عن الزيادة فيه والنقصان منه، كما يقع الصحيح للمستمع من المتكلم، وصفه ومعناه خارجين عن قدرة من جاء به، وليس كذلك العلوم، لاَنّها تكون بالمقايسة، وكثرة الذّوبِ فيها، وإعمال الفكر و الرّويّة والتأليف والتحرير. (1)

ثمّ للداعي الكرماني كلام مفصّلٌ في الوحي لا يخلو من تعقيد. أعرضنا عن نقله . (2)

4. في أنّالاَنبياء لا يولدون من سِفاح

4. في أنّالاَنبياء لا يولدون من سِفاح

يقول علي بن محمد الوليد: إنّ الاَنبياء والاَئمّة - عليهم السّلام- لا يلدهم الكفّار ، ولا يولدون من سِفاح، ثمّ استدلَّ ببعض الآيات، وما جاء في التاريخ في حقّ عبد المطلب وأبي طالب. (3)

5. في صفات الاَنبياء

5. في صفات الاَنبياء

يقول الداعي الكرماني: الموَيد المبعوث مجمع الفضائل الطبيعيّة، التي هي

____________

1. تاج العقائد: 47_ 48.

2. راجع راحة العقل: 409_410.

3. تاج العقائد:51.

( 205 )

أسبابٌ في نيل السعادة الاَبديّة، وهو فيها على أمر يكون به على النهاية في جميعها، من جودة الفهم والتصوّر لما يشار إليه ويومأ، ومن جَودة الحفظ لما يراه الخاطر والعين على تباينه، ويدركه السمع من الصوت على اختلافه، ومن جودة الفِطنة والذكاء والتوقّد فيهما، ومن جودة الذكر، ومن جودة الاَعضاء وسلامتها، والقدرة على التأنّ_ي بمعاناة أُمور الحرب ومباشرتها والصبر عليها، ومن جودة الفطرة والطبع، ومن جودة النحيزة (الخير) في السلامة والانقياد لكلّ خير، فيكون خالياً من الرذائل، التي هي الشره والطمع والرغبة في المأكول والمشروب والمنكوح زيادة على الحاجة، واللعب واللهو، وعاطلاً في الجملة، من الاَُمور التي تعوق على النفس سعادتها.

ويكون عظيم النفس كريماً، محبّاً للعدل، مبغضاً للظلم والجور، موَثراً لما يعود على النفس منفعته من العبادة، مقداماً في الاَُمور، جسوراً عليها، لا يروعه أمر في جنب ما يراه صواباً بجوهره. (1)

6. الرسول الناطق

6. الرسول الناطق

الرسول الناطق، هو الاَصل الذي يصدر عنه الدين بما فيه من علم وعمل، وبمن فيه من أئمة يدعون إلى التحقّق بكمال العلم عن طريق العبادة الظاهرة.

(2)

وفي الحقيقة، الرسولُ الناطق عندهم، عبارة عن أُولي العزم من الرُّسل، غير أنّهم يعدون آدم منهم، والمشهور عند سائر المسلمين أنّه ليس منهم، ويضيفون إليهم محمد بن إسماعيل باسم القائم؛ وإليك أسماءهم: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد، القائم.

____________

1. راحة العقل:421_ 422.

2. مصطفى غالب: في مقدمة كتاب الينابيع:17.

( 206 )

وكلّ واحد منهم رسول ناطق، يتقدّمه إمام مقيم ويتلوه الاَئمة الاَساس _ المتم _ المستقر _ المستودع _ وهم يتعاملون مع القائم الذي

يبتدأ به الدور، أعني: محمد بن إسماعيل، معاملة الرسول الناطق، ولا يشترط أن يكون في كلّدور إمامٌ مستودعٌ، فإنّه إنّما يتسلّم شوَون الاِمامة في الظروف الاستثنائية، وكأنّه ينوب عن الاِمام المستقر كما سيتضح معنى ذلك.

ولا يخفى أنّ في صميم العقائد الاِسماعيليّة تناقضاً وتعارضاً، فمن جانب نراهم يصرّحون بخاتميّة النبوة والرسالة، وأنّ القرآن حجّة خالدةً إلى يوم القيامة، وأنّه لا ينسخ القرآن إلاّ بالقرآن.

(1)

ومع ذلك فمحمد بن إسماعيل ، المعبّر عنه بالقائم عندهم من النطقاء

(2)

ولاَجل إيضاح ذلك سوف نبحث عن عقيدتهم في الاِمامة إن شاء اللّه.

7. في المعجزات التي يأتي بها الرسل

7. في المعجزات التي يأتي بها الرسل

قال علي بن محمد الوليد: إنّ المعجزات التي ترد وقت إظهار الشرائع من الرسول حقيقية، وإنّها على ثلاثة أقسام:

الاَوّل: خرق العادة في تكوين العالم بظهور ما يعجز العقل عن وجوده من الاَُمور الطبيعية، من ردّ ما في الطبيعة عن قانونه المعهود لقهر العقول، ودخولها تحت أمر المعقولات، ومن أجله يعلم أنّه متصل بالفاعل، الذي لا يتعذّر عليه متى أراد، إذ كلّما في العالم لا يتحرك إلاّ بمادته وتدبيره.

الثاني: ما يأتي به الشخص المبعوث من النطق المنسوب إلى من أظهر له المعجزات، وأعجز كافّة أهل الدور عن الاِتيان بمثله.

____________

1. تاج العقائد: 98.

2. وقد مرّ كلامهم في ذلك ص 92. وما علقنا عليه فلاحظ.

( 207 )

الثالث: جميع الفضائل الموجودة في أشخاص العالم فيه حتى لا يوجد فوق كماله كمال في وقته.

(1)

أقول: إنّ القسم الثاني الذي يريد به القرآن الكريم داخل تحت القسم الاَوّل، فلا وجه لعدّه قسماً ثانياً.

والقسم الثالث: كمالات النبي، ولا تعدّ معجزة.

8. في أنّ الرسول الخاتم أفضل الرّسل

8. في أنّ الرسول الخاتم أفضل الرّسل

يُفضَّلُ رسول اللّه على سائر الرسل والاَنبياء من وجوه، أفضلها الوجوه التالية:

أ: هو أنّه سبحانه جعل شريعته موَيّدة لا تُنسخ أبداً، وجعل الاِمامة في ذريّته إلى قيام السّاعة، ولم يُقدَّر ذلك لغيره.

ب: انّاللّه عزّوجلّ أعطاه الشفاعة في الخلق. ولم يعطها إلى نبي قبله.

ج: انّالاَنبياء قبله بطلت معجزاتهم من بعدهم، ومعجزة محمّد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وهي «القرآن» ثابتة موَيّدة لا تفنى أبداً إلى حين زوال أحكام الدنيا.

(2)

9. في أنّ الشريعة موافقة للحكمة

9. في أنّ الشريعة موافقة للحكمة

إنّ الحكمة والفلسفة العقليّة، هي والحكمة الشرعيّة سواء، لاَنّ اللّه سبحانه خلق في عباده حكماء، وعقلاء، ومحال أن يشرع لهم شرعاً غير محكم وغير معقول، ولا يبعث برسالته وشرعه إلاّ حكيماً عاقلاً مدركاً مبيّناً لِما تحتاجه العقول، ويكلّف لها بما يسعدها ويقوّي نورها ويعظّم خطرها.

(3)

____________

1. تاج العقائد: 97.

2. تاج العقائد:59_ 60.

3. المصدر نفسه: 101.

( 208 )

10. في أنّالشريعة لها ظاهر وباطن

10. في أنّالشريعة لها ظاهر وباطن

يقول علي بن محمد الوليد: إنّالشارع قد وضع أحكام شريعته وعباداتها من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك، مضّمنة للاَُمور العقليّة والاَحكام والمعاني الاِلهيّة، وما يتخصص منها من الاَُمور الظاهرة المشاكلة لظاهر الجسم، والاَُمور الباطنة المشاكلة للعقل، والنفس، وكلُّ من حقق ذلك كانت معتقداته سالمة.

(1)

أقول: هذا المقام هو المزلقة الكبرى للاِسماعيلية الموَوّلة ، إذ كلُّ إمام وداعٍ، يسرح بخياله فيضع لكل ظاهر باطناً ولكلّ واجب حقيقةً، يسمي أحدهما بالشريعة الظاهرية والآخر بالباطنية من دون أن يدلّ عليه بدليل من عقل أو نقل، فكلُّ ما يذكرونه من البواطن للشريعة ذوقيات، أشبه بذوقيات العرفاء في تأويل الاَسماء والصفات وغير ذلك، وكأنّالجميع فروع من شجرة واحدة. وستوافيك نظرية المثل والممثول في فصل خاص، وتقف على تأويلاتهم.

____________

1. تاج العقائد: 101.

عقيدتهم في الاِمامة

عقيدتهم في الاِمامة

عقيدتهم في الاِمامة

تحتل الاِمامة عند الاِسماعيلية مركزاً مرموقاً حيث جعلوها على درجات ومقامات وزودوا الاَئمة بصلاحيات واختصاصات، ولتسليط الضوء على عقيدتهم فيها نبحث في مقامين:

المقام الاَوّل: الاِمامة المطلقة

المقام الاَوّل: الاِمامة المطلقة

إنّدرجات الاَئمّة ورتبهم لا تتجاوز عن الخمسة من دون أن تختص بالشريعة الاِسلامية، بل تعم الشرائع السماوية كلّها، وبما أنّمذهب الاِسماعيلية أُحيط بهالة من الغموض عبر القرون لم يكن من الممكن أن يقف أحداً عليها إلاّطبقة خاصة من علمائهم، وكانوا يبخلون بآرائهم وكتبهم على الغير، غير أنّ الاَحوال الحاضرة رفعت الستر عن كتبهم ومنشوراتهم، فقام المستشرقون وفي مقدّمتهم «ايفانوف» الروسي وتبعه عدد آخر من المحقّقين بنشر آثارهم، وعند ذلك تجلّت الحقيقة بوجهها الناصع، كما قام الكاتبان الاِسماعيليان عارف تامر ومصطفى غالب ببذل الجهود الحثيثة في نشر آثار تلك الطائفة، فكشفا النقاب عن وجه العقيدة الاِسماعيلية وبيّناها بوجه واضح خالياً من الغموض والتعقيد الموجودين في عامة كتب الاِسماعيلية وإن كان بين الكاتبين اختلاف في بعض

( 210 )

الموارد، ونحن نعتمد في تفسير درجات الاِمامة على كتاب «الاِمامة في الاِسلام» للكاتب عارف تامر، وإليك بيانه:

درجات الاِمامة خمس وهي:

1. الاِمام المقيم.

2. الاِمام الاَساس.

3. الاِمام المتم.

4. الاِمام المستقر.

5. الاِمام المستودع.

و ربما يضاف إليها رتبتان الاِمام القائم بالقوة،و الاِمام القائم بالفعل.

فالمهم هو الوقوف على هذه الدرجات.

يعتقد عارف تامر في كتابه «الاِمامة في الاِسلام» انّ هذه الدرجات ظلّت حقبة طويلة من الزمن مجهولة لدى الباحثين إلاّ طبقة خاصة من العلماء، أو لا أقلّ في التقية والاستتار و الكتمان.

1. الاِمام المقيم

هوالذي يقيم الرسول الناطق ويعلّمه ويربّيه ويدرجه في مراتب رسالة النطق، وينعم عليه بالاِمدادات وأحياناً يطلقون عليه اسم«رب الوقت» و«صاحب العصر»، وتعتبر هذه الرتبة أعلى مراتب الاِمامة وأرفعها وأكثرها دقة وسرية.

2. الاِمام الاَساس

هو الذي يرافق

الناطق في كافة مراحل حياته، ويكون ساعده الاَيمن،

( 211 )

وأمين سره، والقائم بأعمال الرسالة الكبرى، والمنفذ للاَوامر العليا، فمنه تتسلسل الاَئمة المستقرون في الاَدوار الزمنية، وهو المسوَول عن شوَون الدعوة الباطنية القائمة على الطبقة الخاصة ممن عرفوا «التأويل» ووصلوا إلى العلوم الاِلهية العليا.

3. الاِمام المتم

هو الذي يتم أداء الرسالة في نهاية الدور، والدور كما هو معروف أصلاً يقوم به سبعة من الاَئمة، فالاِمام المتم يكون سابعاً ومتماً لرسالة الدور، وانّ قوته تكون معادلة لقوة الاَئمّة الستة الذين سبقوه في الدور نفسه بمجموعهم. ومن جهة ثانية يطلق عليه اسم ناطق الدور أيضاً، أي انّ وجوده يشبه وجود الناطق بالنسبة للاَدوار. أمّا الاِمام الذي يأتي بعده فيكون قائماً بدور جديد، وموَسساً لبنيان حديث.

4. الاِمام المستقر

هو الذي يملك صلاحية توريث الاِمامة لولده، كما أنّه صاحب النص على الاِمام الذي يأتي بعده، ويسمّونه أيضاً الاِمام بجوهر والمتسلم شوَون الاِمامة بعد الناطق مباشرة، والقائم بأعباء الاِمامة أصالة.

5. الاِمام المستودع

هو الذي يتسلّم شوَون الاِمامة في الظروف والاَدوار الاستثنائية، وهو الذي يقوم بمهماتها نيابة عن الاِمام المستقر بنفس الصلاحيات المستقرة للاِمام المستقر، ومن الواضح أنّه لا يستطيع أن يورث الاِمامة لاَحد من ولده، كما أنّهم يطلقون عليه (نائب غيبة). (1)

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام:143_144.

( 212 )

والعجب انّهم عندما بحثوا موضوع الاِمامة لم يجعلوا تسلسلها من إسماعيل ابن جعفر الصادق فحسب، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وحجتهم انّ الاِمامة إذا كانت قد بدأت من هذا العهد المبكر فتكون محدثة ولا يقوم وجودها على أساس (1)، فذهبوا إلى عهد بدء الخليقة المعروف من عصر آدم إلى يومنا هذا، ثمّ أضافوا إلى ذلك قولهم بالاَدوار والاَكوار، فقد جعلوا كل دور يتألف من إمام

مقيم ورسول ناطق أو أساس له، ومن سبعة أئمة يكون سابعهم متم الدور، ويمكن أن يزيد عدد الاَئمّة عن سبعة في ظروف أُخرى وفي فترات استثنائية، وهذه الزيادة تحصل في عداد الاَئمّة المستودعين دون الاَئمّة المستقرين، أمّا الدور فيكون عادة صغيراً وكبيراً، فالدور الصغير هو الفترة التي تقع بين كلّ ناطق وناطق يقوم فيها سبعة أئمّة. أمّا الدور الكبير فيبتدىَ من عهد آدم إلى القائم المنتظر الذي يسمّى دوره الدور السابع، ويكون بالوقت ذاته متماً لعدد النطقاء الستة.

فلاَجل عرض صورة عن عقائدهم في مجال تسلسل الاِمامة من عصر أبينا آدم إلى يومنا هذا سوف نأتي بالجداول التي استخرجها، عارف تامر في كتاب «الاِمامة» ومصطفى غالب في كتاب «تاريخ الدعوة الاِسماعيلية».

يقول عارف تامر: إنّ هذا الموضوع من أدق المواضيع وأصعبها، بل هو بالحقيقة من الدعائم المتينة في عقائد الاِسماعيلية، وقد يبدو لكل باحث فيها انّ دعاتها حافظوا على سريته التامة طيلة العصور الماضية وجعلوا معرفته مقتصرة على طبقة خاصة من العلماء والدعاة. (2)

و سوف توافيك تلك الجداول تحت عنوان «شجرة الاِمامة الاِسماعيلية» في الفصل الحادي عشر فانتظر.

____________

1. ماذا يعنون من هذه الجملة، هل الاِمامة أمر أزلي، أو الاِمام موجود قديم مع تضافر البراهين على حدوث ما سوى اللّه سبحانه؟!

2. الاِمامة في الاِسلام:141.

( 213 )

المقام الثاني: في الاِمامة الخاصة

المقام الثاني: في الاِمامة الخاصة

قد تعرفت على نظام الاِمامة في مذهب الاِسماعيلية ولكن المهم هو الوقوف على ملامح الاِمامة عندهم بصورة عامة، وقد تصدّى لذكرها الداعي اليمني علي ابن محمد الوليد في كتابه «تاج العقائد» ونحن ننقل منه ما يبيّن عقيدتهم في ذلك:

1. صاحب الوصية أفضل العالم بعد النبي في الدور

إنّ صاحب الوصية هو الذي جوهره لاحق بجوهره، وكماله مشتق من كماله،

وإنّ معاني أقواله ورموز شريعته وأسرار ملته وحقائق دينه توجد عنده، ولا تتعداه، ولا توَخذ إلاّ منه، وانّه المبرهن عن أغراضه، والمفصح لاَقواله، المبين لاَفعاله، القائم بالهداية بعده لمن قصد المعرفة لما جاء به، والحافظ لشريعته من الآراء المختلفة، وبذلك كان وصياً، ولا يوجد في الاَصحاب من يقوم مقامه، ولا يسد مسده في حفظ معاني تكليفه الذي أخذه عن باريه مع ما يوجد فيه من الطهارة، وصدق القول، وزكاة النفس، والاحتواء على العلوم، والقربة منه في الطبع، والجوهر، والسابقة، والصحبة،و الاَصل. (1)

2. في أنّ الاِمامة في آل بيت رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم -

يُعْتقد انّ الاِمامة في آل بيت رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من نسل علي وفاطمة فرض من اللّه سبحانه أكمل به الدين فلا يتم الدين إلاّ به، ولا يصحّ الاِيمان باللّه والرسول إلاّ بالاِيمان بالاِمام وا لحجّة، ويدل على فرض الاِمامة إجماع الاَُمّة على أنّ الدين والشريعة لا يقومان ولا يصانان إلاّ بالاِمام، وهذا حقّ لاَنّه سبحانه لا

____________

1. تاج العقائد: 65.

( 214 )

يترك الخلق سدى. ولا يمنعهم هذه الفريضة التي لا تسوغ الهداية إلاّ بها.

وإنّ الرسول نص على ذلك نصاً تشهد به الاَُمة كافة بقوله:«الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا، وأبوهما خير منهما»، ولم يحوج الاَُمّة إلى اختيارها في تنصيب الاِمام، بل نص عليها بهذا لاَنّ بالاِمامة كمال الدين.

فلو أنّ الرسول تركها حتى تكون الاَُمة هي التي تفعلها ويتم بما فعلوه (في) دين اللّه بقولهم انّ الرسول لم ينص على الوصية ولا استخلف أحداً لخرجت الاِمامة عن أن تكون فرضاً على الاَُمة، وكان سبيلها سبيل الولاة في كلّ زمان، القائمين بأُمور الناس.

إلى أن قال:

وقد اعترف المخالفون انّ إمامة الثلاثة ليست بنص، لاَنّهم قد جحدوا النص والوصية وفيما جرى في السقيفة من الاَُصول ما يجب للعاقل أن يفكر فيه وغير معيوب على المتخلّف عن بيعتهم والخلاف لهم فيها إذ كان الحال فيما تقرّر مشهوراً غير مستور، والعودة إلى الحقائق أولى لمن يعتمد عليها إذا كان طالباً للهداية مع ترك التعصب. (1)

3. في أنّ الاِمامة وارثة النبوة والوصاية

الاِمام يرث من النبوة الظواهر والاَحكام وجري الاَُمور على ما علمه من النظام.

ويرث من صاحب الوصاية المعاني التي ورثها عن النبوة، ليكون الكمال موجوداً لقاصده، ومسلماً في شريعته التي جعلها عصمة لمن التجأ إليها، وطهارة لمن التزم قوانينها وسار على محجَّتها، فتسلم له دنياه ويفوز في عقباه بالتجائه إلى من عنده علم النجاة وحقيقة الشريعة السالمة من كلّتغيير وتمويه مع سلامة

____________

1. المصدر نفسه:65_ 66.

( 215 )

توحيده لباريه. (1)

أقول: ولا يذهب عليك أنّ الاِمام على هذا أفضل من النبي كما هو أفضل من الوصي، لاَنّ الاِمام جامع للمنقبتين ظاهر الشريعة وباطنها، إلاّ إذا كان النبي رسولاً فهو جامع أيضاً للمنقبتين، ولا أدري من أين لهم هذه الضوابط والقواعد، وما هو الدليل على هذا التقسيم؟!

4. في انقطاع الوصاية بعد ذهاب الوصي

يُعْتقد أنّ الوصي إنّما يوصيه الرسول على معالم شريعته، وأسرار ملّته، وعيون هدايته، وحقيقة أقواله، وحفظ أسراره، فإذا قام بها ومضى إلى دار كرامته استحال قيام وصي ثان بعده، لاَنّ الشريعة لم تتغير، ولا ذهبت فتأتي أوامر جديدة تحتاج إلى من يوصّى بحفظها والقيام بمعانيها وضبط أحوالها، فلهذا كان انقطاع الوصية بعد مضي الوصي الذي خلّفه الرسول في العالم. (2)

5. في استمرار الاِمامة في العالم دون النبوة والوصاية

يُعْتقد: انّالاِمامة مستمرة الوجود في الاَدوار جميعها، من

أوّلها إلى آخرها، لاَنّ الاِمام هو الوارث لما جاء به النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من الشرع والوصي على البيان، لكونه حافظاً في الاَُمة على الهداية التي ورثها منهما، ولمّا كان أمر الرسول والوصي جارياً على أهل الدور من أوّله إلى آخره، كان من ذلك حفظ درجة الاِمامة على الدور بالاستمرار، والتوالي، إذ لم يبق زيادة تستجد فتحتاج إلى منزلة مستجدة، فكانت هداية موروثة منسوبة إلى أصل الدور، ومعلم الشريعة والبيان، فلا تزال هذه

____________

1. تاج العقائد: 66.

2. المصدر نفسه: 68.

( 216 )

الحالة مستمرة إلى حين تأذن الحكمة الاِلهية بتجديد شريعة ثانية، وأمر يحتاج العالم إليه لحفظ نظامه، ولمّا كانت هذه الشريعة، أي شريعة محمد، لا تنسخ، ولا يفقد حكمها حتى قيام الساعة، بقيت الاِمامة فيها موجودة، ومحفوظة إلى حين قيام الاَشهاد، ويوم التناد، فلهذا استمرت الاِمامة في العالم دون النبوة، والوصاية.(1)

وعلى هذا فكلّ إمام غائب أو حاضر بعد الاِمام الصادق يساوي في الفضل والعلم والكمال الاِمام المنصوص في يوم الدار ويوم الغدير، فالاِمام الحاضر، أعني به: كريم آغا خان، تساوي كفته في معالي الاَُمور كفّة الاِمام علي بن أبي طالب - عليه السّلام- فيقوم بنفس ما يقوم به الاِمام.

ياتُرَى ما هذا الجور في القضاء والاعتساف في الحكم، فكيف يكون الاِمام المذكور إماماً عالماً محيطاً بالشريعة وواقفاً على أسرارها مع أنّه تلقى علومه الاَوّلية في مدارس سويسرا فأتقن الانكليزية والفرنسية والاِسبانية كما درس اللغة العربية وبعد أن أكمل تحصيله في سويسرا انتسب إلى جامعة هارفرد الاَمريكية؟!!(2)

والاِمام الذي يتلقّى العلوم الظاهرية في المدارس والجامعات كيف يكون واسطة في الفيض ، واقفاً على الاَسرار، وإماماً يعادل في التقى والعصمة والعلم والفضل الاَئمّة المعصومين المنصوبين من

قبل النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ؟!

وكأنّي بابن المعرة يقول:

فيا م_وت زر إنّالحياة ذميم_ة * و يا جد جدي ان سعيك هازل

____________

1. تاج العقائد: 69.

2. راجع تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:403.

( 217 )

6. في أنّ الاِمام لا تجوز غيبته من الاَرض

إنّ الاِمام لا تجوز غيبته عن الاَُمة بوجه، ولا بسبب، وإن حدثت فترة فتكون خواص شيعته على اتصال به ويعرفون مقامه، ويدلّون من خلصت نيته إلى مقره.

والغيبة لا تخلو من ثلاث خصال:

1. أن تكون غيبته من قبل اللّه.

2. أن تكون من قبل نفسه.

3. أن تكون من قبل الناس وخيفة من أعدائه.

فباطل أن تكون الغيبة من قبل اللّه، لاَنّذلك لا يليق بالحكيم العادل.

وإذا رجعنا إلى نفسه فلا نجدها من قبلها، لاَنّه معصوم من الخطايا وفرض ولايته يوجب حضوره .

وإن كان من قبل الناس، فقد شكّ في دين اللّه، لاَنّ اللّه نصبه وتكفل إيصال الهداية إلى الاَُمة به، وعرّفه أنّه لا يخرج من العالم حتى يورث مقامه هادياً مثله.

إذن فليس لخوفه من الناس وجه.

إلى أن قال: والاِمام هوالحاكم بين عباد اللّه، الموهوب له الحكم من الحكيم الخبير والنائب في خلافته على الخلق، الوارث الاَرض، والمتصرف بأحكامها ولا يجب زواله ولا عدمه بوجه من الوجوه. (1)

أقول: إنّ المراد من الغيبة ليس هو الغيبة عن عالم الوجود كما تصوّره ذلك الكاتب، بل المراد من الغيبة هو الغيبة عن أعين الناس، فهو يبعث بين الناس فيعرفهم ولا يعرفونه، لا أنّه يخرج من الدنيا ويعيش في عالم آخر يباين ذلك

____________

1. تاج العقائد: 69_70.

( 218 )

العالم، وهذا يعرب عن أنّالداعي لم يرجع إلى كتب الاِمامية الاثني عشرية، وهو مع ذلك يتصرف في الاَُمور حسب مصالح الناس وإن كان الناس لا يعرفونه،

ويتشرف بحضوره ويتمتع بلقائه من هو أهل لذلك وإن كان يكتمه ولا يظهره إلاّللخاصة من الناس.

هذا هو القرآن الكريم يعرّف لنا ولياً من أوليائه سبحانه، كان يعيش بين الناس ويركب سفينتهم ويتصرف فيها أمام أعينهم وهم لا يعرفونه ويتصرف في أُمور أشد من ذلك يقتل غلاماً معصوماً بإذن من اللّه ولا يُلاحَق، ويبني جداراً في حال الانقضاض تحته كنز ليتيمين لغاية الستر عليه حتى يستخرجا كنزهما رحمة من ربه يقول سبحانه:

"أَمّا السَفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُّ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً* وَ أَمّا الغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُوَْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً* فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً* وَأَمّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" . (1)

وقد غاب عن أعين الناس على وجه لم يكن الرسول موسى - عليه السّلام- عارفاً به، وإنّما عرفه بتعريف من اللّه سبحانه.

فلماذا لا تكون غيبة الاِمام بهذه الصورة، أي يكون غائباًعن أعين الناس ولكن متصرفاً في مصالحهم ويلتقي مع خيار أُمته؟

هذا وانّ لاَصحابنا كتباً ورسالات حول غيبة الاِمام الثاني عشر كشفوا فيها علل الغيبة ومصالحها وفوائدها، فمن أراد فليرجع إليها. (2)

____________

1. الكهف:79_82.

2. لاحظ، كمال الدين للشيخ الصدوق، الغيبة للشيخ الطوسي، ومنتخب الاَثر للعلامة الصافي.

( 219 )

7. في الوصية بعد الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلى الوصي

يعتقد بوصية الرسول إلى علي بن أبي طالب - عليه السّلام- من اثني عشر وجهاً، منها:

1. قول النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : «لا يحل لامرىَ مسلم أن

يبيت ليلتين إلاّو وصيته مكتوبة عند رأسه».

2. إجماعنا على أنّالرسول استخلف علي في المدينة في غزوة تبوك مقتدياً باستخلاف موسى لاَخيه هارون عند مضيه لميقات ربه، وفي هذا الاستخلاف قال له: « يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي».

3. حديث الدار والاِنذار وقد ذكره المفسرون في تفسير قوله سبحانه:"وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبينَ" (1). (2)

أقول: والعجب انّه لم يذكر حديث الغدير الذي اتفقت الاَُمّة على نقله!!

8. في قعود علي عن الخلافة

ويعتقد انّ قعود الوصي بعد الوصية لم يكن عن عجز، ولا تفريط،و ذلك لاَنّ الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قد أعلمه عن دولة المتغلبين، وعقوبة اللّه عزّ وجلّ لهم في ذلك بقوله: «إنّ لك يا علي في أُمّتي من بعدي أمر، فإن ولّوك في عافية، وأجمعوا عليك في رضى، فقم بأُمورهم، وإن اختلفوا واتبعوا غيرك، فدعهم وماهم فيه، فإنّاللّه سيجعل لك مخرجاً».

فلمّا قام أمير الموَمنين في يوم الجمل وصفين والنهروان قام في الوصية أيضاً لقول الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : «يا علي تقاتل بعدي الناكثين والمارقين والقاسطين».

____________

1. الشعراء:214.

2. تاج العقائد: 60_64.

( 220 )

فليت شعري من هوَلاء الذين نكثوا ومرقوا وقسطوا حتى قاتلهم، هل هم غير أُمّة محمد الذين نكثوا بيعة وصيّه ومرقوا عن أمره، وقسطوا وأظهروا الاَحقاد الكامنة له ولاَهل بيته بالرغم من أوامر الرسول إليهم. (1)

9. في فساد إمامة المفضول

يعتقد فساد إمامة المفضول وإبطال إمامة المشرك الناقض لقوله عزّوجلّ:"وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَإِنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَوَمِنْ ذُرِّيَّتي قالَلا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ" . (2)

فجلّثناوَه وتقدّست أسماوَه بيّن أنّ عهد الاِمامة وخلافة اللّه تعالى لا تلحق من أشرك باللّه طرفة عين،

وإنّما يكون ميراثها في الطاهرين المصطفين العلماء، لقوله تعالى: "ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرِ" . (3)

وقوله:"أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون" . (4)

وقد ثبت انّ كلّ من دخل في الاِسلام من الجاهلية فقد عبد الاَصنام وتدنس بالشرك مع ما كانوا يفعلون برسول اللّه أيام حياته ممّا هو مشهور غير خفي.

و توقف كلّ واحد منهم بعده وحاجتهم إلى علم علي مع طهارته واصطفائه عليهم في حالتي العلم والجسم، وكونه لم يسجد لصنم، ولا توقف عن أمر محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ولا كانت له سابقة في الجاهلية، ولا أشرك في اللّه طرفة عين، ولا

____________

1. المصدر نفسه:72.

2. البقرة:124.

3. فاطر:32.

4. يونس:35.

( 221 )

تحمّل، ولا كذب، ولا داهن، ولا مال إلى مفضول، بالرغم من ميل الغير عنه إلى كل مفضول، مع إقرار المفضول على نفسه بقوله:«ولّيت عليكم ولست بخيركم» وغير ذلك من قوله: «فإن غلطت فردّوني، وإن اعوججت فقوّموني، فإنّ لي شيطاناً يغريني».

فليت شعري على أي شيء اعتمدوا بتقديم من قدّموه دون نص، أو وصية». (1)

10. في إبطال اختيار الاَُمّة للاِمام

ويعتقد انّ اختيار الاَُمّة لنفسها الاِمام غير جائز، لاَنّ إقامة الحدود على الاَُمّة هي للاِمام، ففيها بعض رسوم الشريعة المبسوطة إلى الاِمام، من دون الاَُمة، فإقامة الاِمام الذي تتعلّق به كلّ أُمور الشريعة، لاَنّه صاحب المقام العظيم، والمستخلف أولى أن يكون بأمر اللّه، وإذا كان إقامة الاِمام بأمر اللّه كان من ذلك الاِيجاب بأنّ الاختيار من الاَُمّة باطل.

وانّ صحّة العلم انّ المختار للاِمامة لا يكون إلاّ بعد الاِحاطة

بجميع ما يحتاج إليه في الاِمامة من علم الشريعة والكتاب والاَحكام، ثمّ العلم بأنّ ما عرف ممّا يحتاج إليه في الاِمامة موجود فيمن يختاره هوكاف فيه. (2)

11. في أنّ كلّ متوثب على مرتبة الاِمام فهو طاغوت

ويعتقد انّ كلّ من دفع الاِمام عن مقامه ومنزلته وعانده بعد وصية النبي له في كلّ عصر وزمان، إنّما هو المشار إليه باسم الطاغوت، وهو رئيس الجائرين

____________

1. تاج العقائد: 75_76.

2. تاج العقائد: 76.

( 222 )

الحائدين عن أمر الرسول، المعنيّ بالظالم، الذي توجهت إليه الاِشارة وإلى أمثاله في كلّ دور: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسولِ سَبيلاً" . (1) إلى قوله تعالى: "لَقَدْ أَضَلّني عَنِ الذِّكْرِ بعْدَ إِذْ جاءَني وَكانَ الشيطانُ لِلاِنْسانِ خَذُولاً" . (2)

فالطاغوت هو رئيس الجائرين المعتدي على المنصوص عليه، والشيطان معاضده على الباطل القائم في نصرته المنمِّق للاَحاديث الكاذبة ليصرف وجوه الناس إليه، ويصدّهم عن أمر اللّه ورسوله بالكون معه، والطاعة له، وإذا نظروا إلى ما تضمّنته الشريعة، يتبين لهم الاَمر على جليته، وتنفتح لهم طرق الهداية ويقع الانتباه ويزول الهوى ويشملهم التوفيق في قصدهم. (3)

12. في أنّ الاَرض لا تخلو من حجّة للّه فيها

يعتقد انّ الاَرض لا تخلو من حجّة للّه فيها: من نبي، أو وصي، أو إمام يقوم المسائل، ويقيم الحدود، ويحفظ المراسيم، ويمنع الفساد في الشرع، ويقبل الاَعمال، ويزكّي الاَفعال، وتقام به الحجة على الطالب، ويزيل المشكلات إذا حلت على المتعلمين، ويركز الاَُمة بعد غيبة نبيها، إذا كان شخصه غير مستقر البقاء في العالم، محفوظ النسب، معروف الولادة، متبِع دينَ آبائه، لا يرجع عن أقوالهم، ولا يقدم غيرهم، ولا يكون مأمون خلاف غيره، ولا مشير في الفضيلة إلى سواه، متبوع

لا تابع، مقصود لا قاصد، مرغوب في حكمه، وصحّة أفعاله، وتعاليمه، وهدايته، لاَنّ الرسول جعله دليلاً للمتعلم، ونجاة للحائر. (4)

____________

1. الفرقان:27.

2. الفرقان:29.

3. تاج العقائد: 78_ 79.

4. تاج العقائد: 70_ 71.

( 223 )

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ الاَرض لا تخلو من حجة للّه حق، ولكن السبب ليس ما جاء في كلامه من إقامة الحدود، وحفظ المراسم، ومنع الفساد؛ فإنّ ذلك يقوم به سائر الولاة أيضاً، وإنّما الوجه انّه الاِنسان الكامل وهو الغاية القصوى في الخلقة ويترتب على وجود ذلك الاِنسان الكامل بقاء العالم بإذن اللّه سبحانه وآخره لحصول الغاية وإلى ذلك يشير الحديث النبوي:

«أهل بيتي أمان لاَهل الاَرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الاَرض». (1)

وقوله: - صلّى الله عليه وآله وسلّم - لعلي - عليه السّلام- :«إنّي وأحد عشر من ولدي وأنت يا علي رزّ الاَرض _ أعني أوتادها وجبالها _ بنا أوتد اللّه الاَرض أن تُسيخ بأهلها فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الاَرض بأهلها ولم ينظروا». (2)

وقال - صلّى الله عليه وآله وسلّم - : «أهل بيتي أمان لاَهل الاَرض، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الاَرض من الآيات ما كانوا يوعدون». (3)

وقال الاِمام أمير الموَمنين - عليه السّلام- : «اللّهمّ بلى لا تخلو الاَرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً». (4)

13. منع المبتدي عن الكلام

ويُعتقد انّ منع المبتدي عن الكلام في الدين، صفات، واقتداء بأفعال اللّه، وذلك انّ اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الطفل يتكلم عند خروجه وولادته، وإنّما تأخر عن الكلام لحكمة أوجبها لتكون لاَبويه عنده فضيلة التنطيق، والتلقين، والتعليم، وكذلك المبتدي يمنع من المجادلة، والنطق بما يشق على

____________

1. الشريف الحضرمي: رشفة الصادي:78،

الصواعق المحرقة:233_234.

2. الغيبة:99، عنه البحار: 36|259 ح79.

3. الصواعق المحرقة:150.

(4) 4 .نهج البلاغه: 497، قسم الحكم، الحكمة رقم 147.

( 224 )

غيره، ومتى تعلم من شيخه أو معلّمه القائم له مقام الصورة، فيعلمه الاَُصول التي يجب الاحتياط بها نموذجاً يحتذى عليه في خطابه، وكلامه فيما يجب الاحتياط له. (1)

14. في أنّالقرآن لا ينسخه إلاّقرآن مثله

ويعتقد انّ القرآن لا ينسخه إلاّ قرآن مثله، والدلالة على ذلك موافقة السنّة للكتاب، قال اللّه تعالى: "وإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" . (2)قال النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - في خطبة الوداع:«لا يقولنّ عليَّ أحد منكم مالم أقله، فإنّي لم أحلل إلاّ ما أحلّه اللّه في كتابه، وكيف أُخالف كتاب اللّه وبه هداني؟ وكيف أخالف كتاب اللّه وبه هداني وعليّ أُنزل؟». (3)

15. في تخطئة القياس والاستحسان

لا ترخّص الشيعة قاطبة القضاء والافتاء بالقياس والاستحسان، والرأي غير المستنبط من الكتاب والسنّة ويظهر من الداعي علي بن محمد الوليد، اتّفاق الاِسماعيلية على منع العمل به قال:

إنّ الخطأ، القول بالرأي، والقياس، والاجتهاد والاستحسان، بدليل قوله تعالى:"وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتِكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" . (4)

وقال اللّه عزّوجلّ: "وَ قالُوا لَنْ تَمَسَنّا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ

____________

1. تاج العقائد: 181.

2. النحل: 101.

3. تاج العقائد: 98.

4. النحل:116.

( 225 )

اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ". (1)فالقائل في الدين برأيه واجتهاده قائل عن اللّه مالا يعلم.

قال النبي:«اتبعوا ولا تبدعوا، فإنّ البدعة رأس كلّضلالة، وكلّ ضلالة في النار».

وقال عبد اللّه بن جعفر بن

محمد: «إيّاك وخصلتان فيهما هلك من هلك، إيّاك أن تكتفي برأيك، أو تدين بمالا تعلم».

وقال - عليه السّلام- : «إيّاك والقياس، فإنّ أوّل من قاس إبليس فأخطأ في قوله: "قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِين" (2) ».

فالدين لا يصح إلاّ بالاقتداء والاتباع للكتاب والسنّة، والرضا، والتسليم، إلى الهادي الذي عرفناه، ورضيناه من غير ابتداع، ولا قول برأي ولا قياس، ولا تقليد سلف.

قال رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - :«الاَُمور ثلاثة: أمر قد بان لك رشده فاتبعه، وأمر بان لك غيّه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فرده إلى أهله».

وقال الاِمام جعفر بن محمد لاَبي حنيفة النعمان القائل بالرأي والقياس: «يا نعمان بلغني انّك تعمل بالقياس، فأخبرني إن كنت مصيباً: لم جعلت العين مالحة، والمنخران رطبان، والاَُذنان مرّتان، واللسان عذب؟» قال: لا أدري، فأخبرني جعلت فداك؟ فقال الصادق: «العين مالحة لاَنّها شحمة،ولا تصلحها إلاّ الملوحة؛ والاَنف رطب لاَنّه مجرى الدماغ والنفس؛ والاَُذن مرّة لقتل الدواب، متى دخلتها؛ وجعل اللسان عذب ليعرف به طعوم الاَشياء. يا نعمان إذا لم تعرف

____________

1. البقرة:80.

2. الاَعراف:12.

( 226 )

ما جعله اللّه في بنيتك، وأحكمه في صورتك لتمام منافعك، فكيف تقيس على دين اللّه عزّوجلّ؟!» فقال: أخبرني جعلت فداك، لم تقضي الحائض الصيام دون الصلاة؟ فقال - عليه السّلام- :«لاَنّالصلاة تكرر» قال: أخبرني لم وجب الغسل من الجنابة،و الوضوء من الغائط؟ قال: «لاَنّ الجنابة تخرج من جميع الجسد، بينما الغائط من مكان واحد» قال: أخبرني لم فضّل الرجل في الفرائض على الامرأة مع ضعفها، وقوته؟ قال:«لاَنّ اللّه تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ينفقون عليهن»، فقال أبو حنيفة: "اللّهُ أَعْلَمُ

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ" . (1)

فترك القياس سعادة للمكلّف، وضبط له عن الخوض في دين اللّه برأي النفس، والهوى الغالب، فإنّ أصل الشريعة ليس بقياس، لاَنّه أخذ عن اللّه تعالى بتعليم الملك، وأخذ من الرسول بتعليم دون قياس، وأخذ من الوصي بتعليم النبي، وأخذ من الاِمام بتعليم الوصي، وأخذ الرجال بتعليم الاِمام دون رأي من يرى، وقياس من قاس، واجتهاد من اجتهد، بالظنون الكاذبة، والرأي، والآراء المتناقضة. (2)

____________

1. الاَنعام:124.

2. تاج العقائد ومعدن الفوائد:82_84.

( 227 )

عقيدتهم في المعاد وما يرتبط به

عقيدتهم في المعاد وما يرتبط به

عقيدتهم في المعاد وما يرتبط به

المعاد بمعنى عود الاِنسان إلى الحياة الجديدة من أُسس الشرائع السماوية وهي حقيقة لا تنفك عن الاِيمان باللّه، لذا نرى أنّ أصحاب الشرائع اتّفقوا على وجود المعاد بعد الموت:"وَ أَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور " . (1)ولولا القول بالمعاد لما قام للدين عمود، ولا اخضرّ له عود.

نعم، اختلفوا في كونه جسمانياً أو روحانياً وعلى فرض كونه جسمانياً فهل الجسم المعاد جسم لطيف برزخي أوجسم عنصري؟

والاِمعان في الآيات الواردة حول المعاد يثبت الاَخير بلا شك، فهلمّ معي ندرس عقيدة الاِسماعيلية في المعاد وكيفيته.

1. في أنّ المعاد روحاني لا جسماني

1. في أنّ المعاد روحاني لا جسماني

قال الكرماني _ بعد بيان النشأة الاَُولى في الدنيا _ : ثمّ اللّه ينشأ النشأة الآخرة، بقوله تعالى: "وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاَُولى _ التي هي خلق أجسامكم من قبيل جسمكم _ فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ" (2)فهلا تتفكرون وتوازنون وتعلمون انّ النظام في الخلق والبعث واحد، وانّ النشأة الآخرة هي خلق الاَرواح وإحياوَها بروح

____________

1. الحج:7.

2. الواقعة:62.

( 228 )

القدس على مثال النشأة الاَُولى. ثمّ إنّه أفاض في الكلام ومحصّله: كما أنّ الاِنسان في عالم الاحشاء يكتسب آلات ليحس بها الكمالات عند مصيره إلى عالم الدنيا، فهكذا هو في عالم الجسم والدنيا يكتسب آلات ليلتذ بها عند مسيره إلى عالم الآخرة، فكما أنّه يستغني عند مسيره من عالم الاحشاء إلى عالم الحس عمّ_ا فيها، فهكذا عند مسيره من عالم الحس إلى عالم الآخرة وإليك عبارته:

ولما كان الاَمر في وجود النفس وكمالها كالاَمر في جسمها كما نطق به الكتاب الكريم، فالاِنسان ينتقل من رتبة النطفية إلى رتبة العلقية، و من رتبة العلقية إلى رتبة المضغية ومن رتبة المضغية كذلك أن يحصل له الآلات من عين وأُذن

ويد و رجل وأنف ولسان وغير ذلك من الاَُمور ليقوم بالفعل بها عند مصيره إلى عالم الحس إذ كان وجودها له في تلك الظلمات وضيق الاَحشاء لا لها، بل لفسحة الدنيا وما فيها فيكون ما يلتذ به أو يألم بحسب ما اكتسب في الاَحشاء من الآلات، فهكذا وجودها في جسمها لا له بل لذاتها التي تليق بعالم آخر إليه مصيرها وعند مفارقة الجسم من جسمها مصيراً إلى الآخرة التي إليها إنهاوَها كمفارقة جسمها الاَحشاء مصيراً إلى عالم الحس الذي إليه وروده وتكون ذاتها في آخرتها لذاتها آلة تجد بها الملاذ كالجسم الذي هو لها في دنياها آلة تجد بها الملاذ، وما يحصل لها من روح القدس في ذلك العالم كالروح الحسي الذي يحصل للجسم في هذا العالم. (1)

ومن تأمل فيما أفاض يذعن بأنّ المعاد عندهم روحاني لا جسماني، وقد صرح بذلك أيضاً الداعي علي بن محمد الوليد، وقال: ويعتقد انّ اللّه تعالى دعانا على ألسنة وسائطه بقبول أمره، إلى دار غير هذه الدار فهذه الدار صورية وتلك مادية ومابينهما صوري ومادي. (2)

____________

1. راحة العقل: 361، المشرع 13.

2. تاج العقائد: 165.

( 229 )

2. في التناسخ

2. في التناسخ

وهو عود الروح بعد مفارقة البدن إلى الدنيا عن طريق تعلقها ببدن آخر كتعلّقها بالجنين عند استعدادها لاِفاضة الروح وله أقسام مذكورة في محلّها. (1)

وربما ينسب القول بالتناسخ إلى الاِسماعيليّة، ولكن النسبة في غير محلّها.

يقول الداعي الكرماني: وأمّا من يرى الجزاء، مثل محمد بن زكريا والغلاة وأهل التناسخ، وانّه يكون في الدنيا، فمن اعتقادهم انّهذه الاَنفس لها وجود قبل أشخاصها بخلاف اعتقاد الدهرية وأمثالها ممّن ينحون نحوهم الذين يقولون انّوجودها بوجود أشخاصها، ويقولون: إنّها جوهر تتردد في الهياكل بحسب اكتسابها إلى

أن تصفو وتعود، فقد (2)أوردنا في كتابنا المعروف ب_«الرياض» و«ميزان العقل» وغيرهما من رسائلنا في فساد قولهم ما يغني سيّما ما يختص بذلك في كتابنا المعروف ب_«المقاييس» رداً على الغلاة وأشباههم. (3)

يقول الكاتب الاِسماعيلي مصطفى غالب: ويذهب أكثر الذين كتبوا عن عقائد الاِسماعيليّة من القدماء والمحدثين بأنّ الاِسماعيليّة يقولون بتناسخ الاَرواح، أي أنّ الروح بعد الموت تنتقل إلى إنسان آخر أو إلى حيوان أو نبات على نحو ما نراه في العقيدة البوذية أو النصيرية مثلاً، ويمكننا بعد أن درسنا كتب الاِسماعيلية السرية والعلنية دراسة دقيقة، أن نقول بأنّهم لا يدينون مطلقاً بالتناسخ، بل ذهبوا إلى أنّ الاِنسان بعد موته يستحيل عنصره الترابي (جسمه) إلى ما يجانسه من التراب، وينتقل عنصره الروحي (الروح) إلى الملاَ الاَعلى، فإن كان الاِنسان في حياته موَمناً بالاِمام فهي تحشر في زمرة الصالحين وتصبح ملكاً مدبراً،

____________

1. لاحظ شرح المنظومة للحكيم السبزواري:312.

2. جواب لقوله: امّا.

3. راحة العقل:364.

( 230 )

وإن كان شريراً عاصياً لاِمامه حشرت مع الاَبالسة والشياطين وهم أعداء الاِمام.

والاِمام نفسه يجري على جسده مثلما يجري على سائر الاَجساد بعد الموت، حيث يتحلّل كل قسم إلى ما يناسبه، فالجسم الترابي يعود إلى التراب، والنفس الشريفة تعود إلى ما يجانسها ويناسبها، فتصبح نفس الاِمام عقلاً من العقول المدبرة للعالم، فلا تتناسخ ولا تتلاشى أي تتقمص.

(1)

3. في الحساب

3. في الحساب

والحساب تابع للبعث وهو فعل يحدث عنه من النفس للنفس الثواب الذي هو الملاذ والمسار، والعقاب الذي هو الاَلم والعذاب والغم، وينقسم هذا الفعل إلى ما يكون وجوده في الدنيا، وإلى ما يكون وجوده في الآخرة.

فأمّا ما يكون وجوده في الدنيا فينقسم قسمين. ثمّ أفاض الكلام في القسمين.

(2)

4. في الجنة

4. في الجنة

يقول الكرماني: إنّها موصوفة بالسرمد والاَبد ووجود الملاذ فيها أجمع، وأنّها لا تستحيل، ولا تتغير، ولا يطرأ عليها حال، ولا تتبدل، والذي بهذه الصفة هو النهاية الاَُولة من الموجودات عن المتعالى سبحانه عن الموصوفات والصفات إبداعاً خارج الصفحة العليا من السماوات المعرب عنها بسدرة المنتهى الذي هوالمبدع الاَوّل.

(3)

____________

1. مصطفى غالب: في مقدمة كتاب الينابيع:16.

2. راحة العقل: 369.

3. راحة العقل: 379.

( 231 )

5. في الملائكة

5. في الملائكة

إنّ الملائكة على ضروب وكلّهم قد أُهّلوا لمنافع الخليقة، فلا يتعدى أحد منهم بغير ما وكّل به، كما قال وأخبر عنهم:"وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ"

(1)

والجوهر فيهم واحد، وإنّما اختلفت أسماوَهم لاَجل ما وكلوا به فمنهم من هو في العالم العقلي، ومنهم من هو في العالم الفلكي، ومنهم من هو في العالم الطبيعي لحفظ ارجائه، ثمّ استدل بالآيات القرآنية.

منها قوله:"فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ*وَ ما لا تُبْصِرونَ"

(2)يعني الملائكة الذين قد أخفى سبحانه ذواتهم عن النظر، وجعل المخلوق عن الطبائع محجوباً عنهم لا يراهم حتى يصير إمّا في منزلة النبي أو يخلص القبول من النبي بقرب الدرجة منه. (3)

6. في الجن

6. في الجن

ويعتقد انّ في الجن ذوات أرواح نارية وهوائية ومائية وترابية، ويعتقد انّ الجن صحيح لا ريب فيه وهم على ضروب في البقاع والمصالح والمنافع والفساد والضرر، إلى أن قال: فمنهم من هو في ارجاء العالم ممنوع عن مخالطة بني آدم، ومنهم من هو مخالط لبني آدم في أماكنهم.

(4)

____________

1. الصافات:164.

2. الحاقة:38_ 39.

3. تاج العقائد: 45.

الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر

في

شجرة الاِمامة الاِسماعيلية

( 234 )

( 235 )

تدّعي الاِسماعيليّة أنّ شجرة الاِمامة تبتدأ من حين هبوط آدم إلى يومنا هذا، ولم يجعلوا تسلسلها من إسماعيل بن جعفر الصادق، بل ذهبوا إلى عهد بدء الخليقة، فطبّقوا قواعدهم الاِماميّة، وسلسلوا الاِمامة تسلسلاً مستمرّاً إلى العصر الحاضر.

ثمّ أضافوا إلى ذلك قولهم بالاَدوار، والاَكوار، وقد جعلو كلَّ دور يتألّف من إمام مقيم، ورسولٍ ناطق، أو أساس له ومن سبعة أئمّة يكون سابعهم متمَّ الدَّور، ويمكن أن يزيد عدد الاَئمّة عن سبعة في ظروف أُخرى وفي فترات استثنائيّة، وهذه الزيادة تحصل في عداد الاَئمّة المستودعين، وليس في الاَئمّة المستقرين.

أمّا الدّور فيكون عبادة صغيراً أو كبيراً، فالدور الصغير هو الفترة التي تقع بين كلّ ناطق وناطق، ويقوم فيها سبعة أئمَّة، أمّا الدّور الكبير فيبتدأ من عهد آدم إلى القائم المنتظر ، الذي يُسمى دوره، الدور السابع، ويكون في الوقت ذاته متماً لعدد النطقاء الستة.

وفي الصفحات التالية تظهر الشجرة الاِسماعيليّة ، وتفرعاتها، وقد أخذناها من كتاب «الاِمامة في الاِسلام»، تأليف الكاتب الاِسماعيليّ عارف تامر (1)الذي يقول: إنّ شجرةَ الاِمامة عند الاِسماعيليّة ظلّت حقبة طويلة مجهولة لدى الباحثين، ومقصورة على طبقة خاصّةٍ من العلماء ، أو قُل في التقيّة والاستتار والكتمان.

وقد أفرده الاَُستاذ أيضاً في كتاب خاص أسماه «فروع الشجرة الاِسماعيليّة الاِماميّة» نشرته المطبعة الكاثوليكية، في

بيروت عام 1957م.

____________

1. الاِمامة في الاِسلام:145_161.

( 236 )

شجرة الاِمامة الاِسماعيليّة

منذ أَقدم العصور

الدور الاَوّل:

(و يبتدىَ من وقت هبوط آدم حتى ابتداء الطوفان، ومدته ألفان وثمانون عاماً وأربعة أشهر وخمسة عشر يوماً).

العدد الإمام المقيم الرسول الناطق أساس الدور الإمام المتم الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

هُنيد آدم هابيل 130 -

225

شيث

230 - 1144

لامك بن متوشالح أنوش بن (1) شيث 534_ 5831

قينان بن أنوش 625_ 1535

مهليئل بن قينان 795_ 1690

يارد بن مهليئل 960_ 1922

أخنوخ بن يارد 1122_ 1487

متوشالح بن اخنوخ 1287_2242.

لامك بن متوشالح 1454_ 2346

____________

1. وفي المصدر بنت، وما أثبتناه هو الصحيح.

( 237 )

التعليقات:

في هذا الدور يظهر لنا أنّ هُنيد (1)هو الاِمام المقيم، الذي ربّى وتعهّد، وأقام الرسول الناطق آدم، وفي هذا الدور أيضاً يظهر لآدم أساسان هما: هابيل وشيث، الاَوّل قتل بيد أخيه «قابيل» فاستلم منصبه بعد وفاته «شيث». ويظهر أنّ متمَّ الدَّور هو الاِمام السابع لامك بن متوشالح.

المعروف تاريخيّاً أنّهبوط آدم كان في عدن، وأنّ وفاته كانت في موقع غار أبي قبيس في أرض الكعبة، ويُقال : أنّ نوحاً بعد الطوفان استخرج جثته، ودفنها في النجف الاَشرف، إنّ الاَرقام التاريخيّة المذكورة أعلاه اعتبرناها في بدء ظهور آدم صفراًحتى طوفان نوح. ولهذا يكون آدم قد عمَّر 930 عاماً، وشيث تسعمائة واثني عشر 912، وأنوش هو أوّل من غرس النخل 950 عاماً، وقينان 910 أعوام، ومهليئل 895عاماً، ويارد 962 عاماً واخنوخ 365 عاماً، ومتوشالح 955 عاماً، ولامك 891 عاماً.

في المصادر التاريخيّة أنّ الاِمام الخامس أخنوخ هو إدريس أو هرمس المثلث، وهو أوّل من خط بالقلم، وكان مسكنه في الكوفة، وقد ولد قبل الطوفان بمدَّة يسيرة، أمّا ابتداء الطوفان فكان سنة 2242. انّالكتاب السماويَّ المتداول في الدّور الاَوّل هو «الصحف» وتنسب إلى آدم.

____________

1.

قال العلامة الروحاني:و لم يعلم انّ هُنَيْد مربى آدم وهو الاِمام المقيم هل هو من جنس آدم أو ملك أو جنّأو غيرها.

أقول: من العجب أنّه لم يأت اسمه في الذكر الحكيم،ولو كان له ذلك المقام الشامخ، فأولى أن يكون معلّم الملائكة، لا آدم ثمّ إنّ المذهب المبنيّ على هذه الحدسيات التي لا تقوم علىأساس قطعي لا يكتسب صبغة علميّة قطعيّة.

( 238 )

الدور الثاني:

«و يبتدىَ من وقت الطوفان سنة 2242، حتى ولادة إبراهيم الخليل، ومدّته تسعمائة واثنتان وسبعون سنة وستة أشهر وخمسة عشر يوماً.

العدد الإمام المقيم الرسول الناطق أساس الدور الإمام المتم الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

هود نوح

1642 -

350 سام

2142 -

5000

ناحور بن سروج أرفكشاد بن سام «2» بعد الطوفان _467

شالخ بن قينان بن أرفشكاد (1)672 _ 765

عابر بن شالخ 466 _ 930

فالج بن عابر 540 _ 879

رعوا بن فالج 670 _ 1009

سروج بن رعوا 802 _ 1132

ناحور بن سروج 932 _ 1140

التعليقات:

في هذا الدّور يظهر أنّ هوداً (2)هوالاِمام الذي أقام و أنعم و ربّى الرسول

____________

1. كذا في المصدر .

2. قال العلاّمة الروحاني: إنّ ظاهر الكتاب العزيز،. أنّ نوحاً - عليه السّلام- أقدم من هودعليه السّلام ، قال سبحانه:(وقومَ نُوحٍ مِنْ قَبلُ إنّهم كانوا همُ أظلم وأطغى) (النجم|52) فكيف يمكن للمتأخر زماناً أن يربّي المتقدم؟!

( 239 )

الناطق نوح، وأنّ نوحاً هو صاحب رسالة النطق، وأنّ ساماً هو أساس الدّور،ويظهر أنّه سقط من الشجرة اسم «قينان بن أرفكشاد» والد شالخ. وقينان هذا أُبعد عن الاِمامة وأسقط اسمُه من الشجرة الاِماميّة لاَنّه كان يتعاطى السّحر، فوصيَّة ارفكشاد تجاوزته إلى ولده شالخ. ويلاحظ أنّ هناك أكثر من مصدر تاريخي يوَكّد أنّ عابر بن شالخ هو «هود»، وبعض المصادر توَكّد أنّ فالج هو

ذو القرنين، أو هود، على اختلاف الروايات. و يلاحظ أنّ ناحور هو الاِمام المتمّ للدّور الثاني.

إنّ نوحاً ولد سنة 1642 من ولادة آدم، و عندما بلغ من العمر 600 عاماً جرى الطوفان الذي ابتدأ في العاشر من شهر رجب سنة 2242 من هبوط آدم، وقد دام الطوفان ستة أشهر، و انتهى في العاشر من شهر محرم سنة 2243.توفي نوح سنة 350 بعد الطوفان و عاش 950 عاماً، و دفن على جبل الجودي، من أعمال الموصل.وقد استوطن في مدّّة حياته الكوفة.

أمّا أساس الدّور سام، فقد عاش 600 عاماً. من الواضح أنّ أرفكشاد عاش 465 عاماً، و شالخ 464 عاماً، و عابر 460 عاماً، و فالج 339 عاماً، وسروج 330 عاماً، وناحور 205 أعوام.

الدور الثالث:

«و يبتدىَ من وقت ولادة إبراهيم حتى ظهور موسى، و مدَّته ألف و مائة و خمسون عاماً وسبعة أشهر و ثمانيةأيّام».

( 240 )

العدد الإمام المقيم الرسول الناطق أساس الدور المستقر أساس الدور المستودع الإمام المتم الإمام المستودع الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

تاريخ

1011 - 1316

إبراهيم

1081 - 1256

إسماعيل

86 - 227

إسحاق

100 - 280

شعيب

يعقوب بن إسحاق160_307

يوسف بن يعقوب250_361

افرايم بن يوسف 280

رازح بن عيص

أيوب بن موص

يونان بن أيوب

شعيب بن صيفون

قيذار بن إسماعيل

سلامان بن قيذار

بنت بن سلامان

الهميسع بن بنت

يقدم بن الهميسع

يقداد بن يقدم

أود بن يقداد

( 241 )

التعليقات:

في هذا الدّور يبدو أنّه ظهر تطور جديد على قصة الاِمامة، فالاَئمّة المستقرّون من ولد إسماعيل بن إبراهيم، يدخلون كهف التقية والاستتار و يحل محلّهم الاَئمة المستودعون، الذين هم من ولد إسحاق بن إبراهيم، و قد ظل هذا الوضع قائماًحتى ظهور الناطق السادس محمد، الذي ينحدر من أُسرة الاِمام المستقر إسماعيل، بينما الرسولان الناطقان، موسى و عيسى، ينحدران من أُسرة إسحاق بن إبراهيم الخليل، و من

الواضح أنّه في عهد محمد ينتهي دور الاستيداع، وتعود الاِمامة إلى الاَئمّة المستقرين.

مما يجدر ذكره أنّ الرسول الناطق إبراهيم، ولد في ا لاَهواز، و منها جاء إلى حوران، حيث اتخذها دار هجرة، و دفن في بيت المقدس، و قد عاش 113 عاماً، أمّا ولده الاَكبر إسماعيل، فوالدته هاجر و قد عاش 137 عاماً، و دفن في بيت اللّه الحرام، وأما إسحاق الابن الثاني ، فوالدته سارة، وكان يقيم بين الشام و القدس، وقد عاش 280 عاماً و دفن في بيت المقدس، و يأتي بعده ولده الذي عاش 307 أعوام، و قد دفن في القدس. و بعده يأتي أيضاً يوسف فقد عاش 110 أعوام ، و دفن في مصر. أمّا أيّوب، وهو الاِمام الخامس فقد توفي في (مسكنه) و عاش 93 عاماً، و يأتي بعده ابنه يونان، و هو يونس أو ذو النون، كما هو معروف، و مقامه في نينوى، قرب الموصل، على هذه الصفحة نلاحظ أنّ شعيب هو الاِمام المستودع المتمّ للدور الثالث، و كان يقيم في مديَن.

( 242 )

الدور الرابع:

العدد الإمام المقيم الرسول الناطق أساس الدور المستقر أساس الدور المستودع الإمام المتم الإمام المستودع الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

أُد

موسى

425 - 545

هارون 442

يوشع بن النون

436 - 28

زكريا

أيليا بن بسباس

أليسع بن أخطف

صموئيل الرائي 442_2494

داوَد بن بسي 419_535

سليمان بن داوَد 523_575

عمران بن ماثان

زكريا بن برخيا1616_ 1716

عدنان بن أُد

معد بن عدنان

نزار بن معد

مضر بن نزار

الياس بن مضر

مدركة بن الياس

خزيمة بن مدركة

( 243 )

التعليقات:

يلاحظ أنّه في هذا الدور لا يوجد أساس مستودع،وأنّالاَساس المستقر هو هارون أخو موسى. و يبدو أنّه بعد وفاته تسلَّم يوشع بن نون رتبته الاَساسيّة. من الواضح أنّ إيليا بن بسباس هو «إيليا النبي» ، و أنّ عمران بن

ماثان هو «روبيل» وأنّ زكريا هو الاِمام السابع المستودع المتمّ للدّور الرابع. في المصادر التاريخيّة أنّ موسى عاش 120 عاماً و نقل جثمانه من صحراء سيناء إلى القدس، وولادته كانت في السابع من آذار سنة 425، وأنّ صموئيل الرائي عاش 53 عاماً، وأنّ داوَد بن بسي عاش 116 عاماً، وأنّسليمان بن داوَد عاش 52عاماً، وأنّ زكرياء عاش 100 عام.

( 244 )

الدور الخامس:

«ويبتدىَ من وقت ولادة عيسى حتى ظهور محمّد، و مدّته ستمائة و سبعون سنة و ستة عشر يوماً».

العدد

الإمام المقيم

الرسول الناطق

أساس الدور المستقر

أساس الدور المستودع

الإمام المتم

الإمام المستودع

الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

خزيمة

عيسى

يحيى 1715 - 30

شمعون الصفا 1716 - 33

جرس بحيرا

مرقص أو عبد المسيح

فيلبس

اسطفانس

هرقل

أرميا

مروة الراهب

جرجس _ بحيرا

كنانة بن خزيمة

النضر بن كنانة

مالك بن النضر

فهر بن مالك

غالب بن فهر

لوَي بن غالب

كعب بن لوَي

مرة بن كعب

كلاب بن مرة

قصي بن كلاب

عبد مناف بن قصي

هاشم بن عبد مناف

عبد المطلب بن هاشم

عبد اللّه بن عبد اللّه

( 245 )

التعليقات:

في هذا الدّور يظهر على المسرح أربعة عشر إماماً مستقراً، يقابلهم سبعة أئمّة مستودعين، أيْ أنّ كلَّ إمام مستودع كان معاصراً لاِمامين مستقرين، ولم يجر مثل هذا في الاَدوار السابقة. ويلاحظ أنّ ولادة عيسى كانت سنة 1716 موسوية، أي بعد وفاة موسى، وقد قتل صلباً (1)سنة 9471، و عمّر ثلاثة وثلاثين عاماً، أمّا أساس الدّور المستقر فكان يحيى، و هو الذي ولد قبل ولادة عيسى بستة أشهر، و هو يوحنا المعمدان نفسه، و من المعروف انّ هيرودس الروماني قتله سنة 1746، وأنّ الاَساس الثاني المستقر للدور الخامس الذي سلم إليه هو «شمعون الصفا» أو سمعان بن يونان، أو بطرس الراهب ، و يعتبر مربي عيسى وحجّة عمران بن ماتان الذي ورد ترتيبه، الاِمام السادس المستودع في الدور الرابع.

ويلاحظ أنّ

جرجس أو بحيرا الراهب هو الاِمام السابع المستودع المتم للدور الخامس، وكان دعاته في الجزيرة العربية هم: عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل، و زيد بن عمران، و هو الذي سلّم وراثة الاَنبياء المستودعين، للاِمام المستقر المقيم أبو طالب، يوم جاء إليه من الجزيرة العربية إلى دير بصرى الشام مع النبي محمد. ويلاحظ أنّ الاِمام المستقر النضر بن كنانة، وكان يسمّى قيس، ولُقّب النضر لنضارته، وأنّ الاِمام المستقر هو فهر بن مالك، كان لقبه مجمع قريش، وأنّ كلاّب بن مرة كان يلقب بالحكيم، أو عروة، وأنّ قصي بن كلاب هو زيد، و سمّي قصي لاَنّه أُقصي عن عشيرته، وأنّ عبد مناف بن قصي اسمه المغيرة، وأنّ هاشم بن عبد المناف اسمه عمران، وأنّ عبد المطلب بن هاشم اسمه «شيبة الحمد».

____________

1. هذا الكلام تفنده الآية الشريفة: (وما قَتَلُوهُ ومَا صَلَبُوهُ ولكِن شُبِّهَ لَهُم ...) (النساء|157).

( 246 )

الدور السادس:

« يبتدىَ من تاريخ الهجرة المحمدية و ينتهي بظهور القائم المنتظر، ولا يمكن تحديد مدّته. إنّ الدور الكبير قد أصبح مقسماً إلى أدوار صغيرة».

العدد الإمام المقيم الرسول الناطق أساس الدور الإمام المتم الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

عمران

أبو طالب محمد

م 571 -

634 علي بن أبي طالب

محمد بن إسماعيل علي بن أبي طالب

الحسين بن علي

علي بن الحسين «زين العابدين»

محمد بن علي «الباقر»

جعفر بن محمد «الصادق»

إسماعيل بن جعفر

محمد بن إسماعيل

التعليقات:

في هذا الدور يظهر أنّ عمران أبا طالب، هو الاِمام المقيم في عهد الرسول الناطق محمد، و أنّ الاِمام محمد بن إسماعيل هو الاِمام السابع المتم.و يلاحظ أنّ الاِمام الحسن بن علي لم يذكر في شجرة النسب لاَنّه يعتبر إماماً مستودعاً لدى الاِسماعيليين، و هكذا محمد بن الحنفية، و موسى بن جعفر (الكاظم).

( 247

)

تتمة الدور السادس:

«ويبتدىَ من عهد معد بن إسماعيل«المعز لدين اللّه»، ولا يمكن بعد الآن الحكم على الاَئمّة المتمّين بعد أن ظهر الاختلاف و تشعبت الشجرات».

العدد العدد المتسلسل الإمام المتم الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

15

16

17

18

19

20

21 نزار بن معد «العزيز باللّه»

الحسين بن نزار «الحاكم بأمر اللّه»

علي بن الحسن «الظاهر لاِعزاز دين اللّه»

معد بن علي«المستنصر باللّه»

الاِسماعيلية، الاِسماعيلية، الاِسماعيلية

المستعلية الموَمنية القاسمية _ الآغاخانية

أحمد المستعلي نزار بن معد نزار بن معد

الآمر بأحكام اللّه حسن بن نزار هادي

الطيب بن الآمر محمد بن الحسن مهتدي

التعليقات:

من الملاحظ هنا أنّ الاِسماعيليين قد افترقوا بعد الاِمام الثامن عشر المستنصر باللّه، إلى ثلاث فرق هي: النزاريّة «القاسميّة» الآغاخانية، و النزاريّة الاِسماعيلية الموَمنيّة، والاِسماعيلية المستعلية، و يلاحظ أنّ الفرقة المستعلية قد توقفت عند الطيّب بن الآمر الاِمام الحادي و العشرين، الذي دخل كهف التقيّة و الاستتار، كما يلاحظ أنّ الفرقة الدرزية قد توقفت عند الاِمام السادس عشر الحاكم بأمر اللّه،و من الواضح أنّ النزاريّة نفسها قد انقسمت إلى فرقتين هما: الموَمنيّة، والقاسميّة (الآغا خانية)، كما سيظهر في الصفحات التالية.

( 248 )

تتمة الدور السادس

«و يبتدىَ من الاِمام النزاري الموَمني حسن بن محمد، و ينتهي برضي الدين ابن محمد، وبقاهر النزاري القاسمي، و ينتهي بشمس الدين محمد و هو الاِمام المتم السابع».

العدد

العدد المتسلسل

أئمة النزارية المؤمنية

أئمة النزارية القاسمية _ الآغاخانية

1

2

3

4

5

6

7

22

23

24

25

26

27

28

حسن بن محمد «جلال الدين»

محمد بن الحسن «علاء الدين»

محمود بن محمد «ركن الدين»

محمد بن محمود «شمس الدين»

موَمن شاه بن محمد «علاء الدين»

محمد بن موَمن «خداوند»

رضي الدين بن محمد «ضياء الدين»

قاهر

حسن على ذكره السلام

أعلى محمد

جلال الدين حسن

علاء الدين محمد

ركن الدين خير شاه

شمس الدين محمد

التعليقات:

يظهر أنّ الاختلاف لدى النزاريّة قد بدأ منذ عهد نزار بن المستنصر باللّه الفاطمي، ثمّ يظهر أنّ الفرقتين عادتا إلى الالتقاء مع

أربعة أئمة هم:حسن بن محمد و «جلال الدين» ومحمد بن الحسن و «علاء الدين» ومحمود بن محمد «ركن الدين» ومحمد بن محمود «شمس الدين» و هوَلاء يشكّلون الاَرقام: 22و 23 و 24 و 25. أمّا لدى النزارية القاسمية الآغاخانية فيشكّلون الاَرقام 25و26و27و 28. وبعد الاِمام محمد شمس الدين انقسمت النزارية انقساماً فعليّاً إلى فرقتين:

فالموَمنية ساقت الاِمامة بموَمن «الابن الاَكبر» ، و القاسمية ساقتها بقاسم «الابن الاَصغر»، و كلّهذا جاء مفصّلاً في الصفحات التالية:

( 249 )

تتمة الدور السادس

«و يبتدىَ من طاهر بن رضي الدين ، و ينتهي بعطية اللّه، و هو الخامس و الثلاثون في شجرة الموَمنية، أمّا لدى القاسمية فيبتدىَ بقاسم شاه و رقمه 29، و ينتهي بالاِمام أبي الذر علي، و هو الاِمام الخامس والثلاثون من شجرة قاسم».

العدد

العدد المتسلسل

أئمة النزارية المؤمنية

أئمة النزارية القاسمية _ الآغاخانية

1

2

3

4

5

6

7

29

30

31

32

33

34

35

طاهر بن رضي الدين «العزيز»

رضي الدين الثاني بن طاهر «شمس الدين»

طاهر شاه بن رضي الدين الثاني «حجة اللّه»

حيدر بن طاهر «خداوند»

صدر الدين بن حيدر «معز الدين»

معين الدين بن صدر الدين«قاهر»

عطية اللّه بن معين الدين «خداي بخش»

قاسم شاه

إسلام شاه

محمد بن إسلام

المستنصر باللّه الثاني

عبد السلام

غريب ميرزا

أبو الذر علي

التعليقات:

ماتزال الشجرتان النزاريتان قائمتين هنا، و هما الوحيدتان بين فرق الشيعة الاِماميّة اللتان ظلتا سائرتين على النهج الاِمامي.

( 250 )

تتمة الدور السادس:

«و يبتدىَ من عزيز بن عطية اللّه و رقمه 36، و ينتهي بالاِمام محمد بن حيدر «الاَمير الباقر» و هو الاِمام الخامس لدى الفرقة الموَمنية، و بعهده انقطعت الفرقة الموَمنيّة عن الاتصال، أمّا لدى القاسميّة فيبتدىَ من الاِمام مراد ميرزا، و ينتهي بحسن علي و هو متمٌّ و سابع.

العدد

العدد المتسلسل

أئمة النزارية المؤمنية

أئمة النزارية القاسمية _ الآغاخانية

1

2

3

4

5

6

7

36

37

38

39

40

41

42

عزيز بن عطية اللّه«الشاه»

معين الدين الثاني بن عزيز «خليل

اللّه»

محمد بن معين الدين «الاَمير المشرف»

حيدر بن محمد «المطهّر»

محمد بن حيدر «الاَمير محمد الباقر»

؟

؟

مراد ميرزا

ذو الفقار علي

نور الدين علي

خليل اللّه علي

نزار علي

السيد علي

حسن علي

التعليقات:

يظهر أنّ الفرقة الموَمنية النزارية توقفت عن السير الاِمامي في عهد الاِمام محمد بن حيدر الاَمير الباقر، رقم 40، وذلك سنة 1210ه_. أمّا شقيقتها القاسميّة. فظلت سائرة على المنهج الاِمامي حتى عهدنا الحاضر.

( 251 )

تتمة الدور السادس:

و يبتدىَ من الاِمام قاسم علي، و ينتهي بالاِمام «كريم علي خان» ، و ترتيبه التاسع والاَربعون، و هو متمم للدّور و سابع.

العدد

العدد المتسلسل

أئمة النزارية القاسمية _ الآغاخانية

1

2

3

4

5

6

7

43

44

45

46

47

48

49

قاسم علي

أبو الحسن علي

خليل اللّه علي

حسن علي «آغا خان الاَوّل»

علي شاه « « « « « »

سلطان محمد شاه « « « « « »

كريم علي خان « « « « « »

التعليقات:

يظهر أنّ الفرقة الموَمنيّة النزارية، قد اختفت عن المسرح الاِمامي، وأنّ النزارية القاسميّة الآغاخانية ظلّت وحدها سائرة دون انقطاع عن الركب الاِمامي حتى يومنا هذا، و هي الوحيدة بين الفرق الاِمامية التي لم تتوقف.

ويلاحظ أنّ الاِمام الاَخير التاسع والاَربعين «كريم خان» ليس هو ابن سلطان محمد شاه، بل حفيده، و يظهر أنّ اسم علي خان و هو النجل الاَكبر لسلطان محمد شاه، قد أسقط من الشجرة بموجب وصيّة عامّة من والده. إنّ الاَمير علي خان توفي في باريس بحادث سيارة بتاريخ 12 أيار سنة 1960، وكان يمثل باكستان في الاَُمم المتحدة.

( 252 )

تتمة الدور السادس:

«هذا الدّور الصغير يبتدىَ من الاِمام محمد إسماعيل حتى عهد الاِمام معد ابن إسماعيل «المعز لدين اللّه » و يعتبر جزءاً من الدّور الكبير الذي يبتدىَ من عهد محمد حتى القائم المنتظر».

العدد

العدد المتسلسل

الإمام المتم

الإمام المستقر

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

معد بن إسماعيل المعز لدين اللّه

عبد اللّه بن محمد

«الرضي»

أحمد بن عبد اللّه «الوفي»

الحسين بن أحمد «التقي»

عبيد اللّه المهدي

محمد بن علي «القائم»

إسماعيل بن محمد «المنصور باللّه»

معد بن إسماعيل «المعز لدين اللّه»

التعليقات:

يلاحظ هنا أنّه لم يعد هناك أيُّ وجود للناطق أو للاَساس، وأصبح الاِمام هو الذي يحمل مهمات الناطقية، كما أنّمهمات الاَساسيّة يحملها الحجّة أو الباب. في شجرات الدروز و المستعلية لا يرد اسم «عبيد اللّه المهدي» بين أسماء الاَئمّة المستقرين ويرد مكانه اسم «علي بن الحسين» و هذا لم تحقّقه المصادر ولا الوقائع حتى الآن. ومهما يكن من أمر فنحن ما نزال نعتبر «عبيد اللّه المهدي» إماماً مستقراً منتظرين المزيد من المعلومات والمصادر والاكتشافات التاريخية.(1)

____________

1. عارف تامر، الاِمامة في الاِسلام : 145 _ 161،و التعليقات كلها له.

( 253 )

تأملات في أدوار الاِمامة

إنّ ما ذكره الكاتب الاِسماعيلي، لا يخلو من تأمّلات، وإشكالات، نشير إليها:

الاَوّل: انّ ما ذكره من الاَدوار الستة للاِمامة و انّ كلَّ رسول ناطق تتلوه أئمّة سبعة، على النحو السابق، أمر مبنيٌّ على الظن و التخمين، لا على القطع واليقين، فإنّ التحدُّثَ عن الاَئمّة الذين قاموا بالاَمر، بعد الرسول الناطق، آدم، فنوح، فإبراهيم، فموسى، فعيسى، فمحم_د _ صلّى اللّه عليه و آله و - عليهم السّلام- _ يبتني على أساطير، لا يمكن الاِذعان بها، ولا أدري أنّ الكاتب إلى أيِّ كتابٍ، و سند قطعيّ اعتمد عليه في استخراج هذه القوائم، مع أنّه _ حسب اعتراف الكاتب _ يعترف بأنّهذه الدرجات بالتفصيل ظلّت مجهولة لدى الباحثين، ومقصورة على طبقة خاصة من العلماء.(1)

الثاني: أن تفسير الاِمام المقيم، بأنّه هو الذي يقيم الرسول الناطق، ويعلمه و يربيه، ويدرجه في مراتب رسالة النطق، و ينعم عليه بالاِمدادات، وأحياناً يطلقون عليه اسم «ربّ الوقت» و «صاحب العصر» و

تعتبر هذه الرتبة أعلى مراتب الاِمامة و أرفعها، وأكثرها دقَّة و سرّية(2) وعلى ما ذكره ف_«هُنيد» إمام مقيم لآدم، وهود لنوح، وتارح لاِبراهيم، و «أد» لموسى و خزيمة لعيسى، وأبو طالب لمحمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - . و معنى ذلك أنّهوَلاء أفضل من النطقاء الستة، الذين هم أُولو العزم من الرسل.

وهل «هُنيد» أفضل من آدم الذي اختاره اللّه سبحانه بتعليم الاَسماء؟! أو أنّ هود أفضل من شيخ الاَنبياء نوح، وهو الذي بُدئت به الشرائع؟! وهل تارح

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام: 142.

2. المصدر السابق: 143.

( 254 )

أفضل من إبراهيم، الذي وصفه اللّه سبحانه بصفات عظيمة في القرآن الكريم و لم يصف بها غيره؟! وبالتالي يلزم أن يكون أبوطالب - عليه السّلام- أفضل من محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - !!

الثالث: انّ الاِمام المتمّ هو الاِمام السابع، المتم لرسالة الدور، وأنّ قوته تكون معادلة لقوّة الاَئمّة الستة الذين سبقوه في الدور نفسه بمجموعهم،و من جهة ثالثة يطلق عليه اسم ناطق الدور أيْ أنّ وجوده يشبه وجود الناطق بالنسبة للاَدوار.

ومعنى ذلك أن يكون إسماعيل بن جعفر - عليه السّلام- أو محمد بن إسماعيل _ على القول بأنّه متمّ الدّور _ أفضلُ من خاتم النبيين الذي هوأفضل الخليقة باعتراف الفريقين.

الرابع: أنّ الكاتب أخرج الحسن بن علي عليمها السّلام عن قائمة الاِمامة، بحجّة أنّه لم يكن إماماً مستقراً، بل إماماً مستودعاً، ومعنى ذلك أنّ كلّ الاَئمّة الذين جاءوا بعد كلّ رسول ناطق من زمان آدم إلى زمان الخاتم، كانوا أئمّة مستقرين، وليس للكاتب دليل على ذلك، مع أنّ إخراجه ينافي قول الرسول الذي نقلته الاِسماعيليّة في كتبهم من قوله - صلّى الله عليه وآله

وسلّم - : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، و معنى كلامه أنّهما صنوان لا يتفاوتان.

الخامس: أنّ الكاتب بإخراجه الحسن بن علي عليمها السّلام عن قائمة الاِمامة، جعل محمداً بن إسماعيل هو الاِمام السابع الذي به يتم الدّور مع أنّ الاِسماعيليّة يعتبرونه رسولاً ناطقاً، و المتم في الاَدوار السابقة من زمان آدم إلى زمان نبي الاِسلام، لم يكن رسولاً ناطقاً.

والكاتب في الوقت نفسه جعله بادئاً للدور حيث قال في ص 156: هذا الدّور الصغير يبتدىَ من الاِمام محمد بن إسماعيل، حتى عهد الاِمام معد بن إسماعيل «المعز لدين اللّه»، ولو كان الميزان هو الاَدوار السابقة، لا يكون متمَّ الدّور، بادىَ الدور باسم الرسول الناطق.

( 255 )

وبالجملة أنّ جعل محمد بن إسماعيل متمّاً للدّور من جانب، وناطقاً سابعاً، ناسخاً للشريعة، التي سبقته من جانب آخر، أمران متناقضان، إذا كان الميزان هو الاَدوار السابقة.

لكن الظاهر من كلام مصطفى غالب، في كتابه «تاريخ الدعوة الاِسماعيليّة» غير ذلك، وأنّ متمَّ الدّور في الاَدوار السابقة أيضاً، هو الرسول الناطق، وأنّ نوحاً كان متمَّ الدّور، وفي الوقت نفسه رسولاً ناطقاً، وأنّمحمّداً - صلّى الله عليه وآله وسلّم - كان متمَّ الدَّور و في الوقت نفسه رسولاً ناطقاً. وقد استشهد على ما ذكره بكلام الداعي إدريس في كتابه «زهر المعاني» و إليك نصهما:

ويعتبر الاِمام محمد بن إسماعيل أوّل الاَئمّة المستورين، والناطق السابع، و متمّ الدّور، فقام بنسخ الشريعة التي سبقته، وبذلك جمع بين النطق و الاِمامة، و رفع التكاليف الظاهرة للشريعة، ونادى بالتأويل، واهتمَّ بالباطن.

و لذلك قال فيه الداعي إدريس في كتابه «زهر المعاني» ص 56: «إنّما خُصَّ محمد بن إسماعيل بذلك لانتظامه في سلك مقامات دور الستر، لاَنّك إذا عددت آدم

و وصيّه و أئمّة دوره، كان خاتمهم الناطق و هو نوح - عليه السّلام- ... و إذا عددت عيسى و وصيَّه وأئمّة دوره، كان محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - متسلّماً لمراتبهم، و هو الناطق خاتم للنطقاء، وكان وصيُّه - عليه السّلام- بالفضل منفرداً به، و إذا عددت الاَئمّة في دوره كان محمد بن إسماعيل سابعهم، و للسابع قوّةٌ على من تقدَّمهُ، فلذلك صار ناطقاً و خاتماً للاسبوع، و قائماً، وهو ناسخ شريعة صاحب الدّور السادس، ببيان معانيها، وإظهار باطنها المبطن فيها.(1)

فهذان الكاتبان اللّذان قاما في عصرنا هذا بنشر آثار الاِسماعيليّة، وتبيين عقائدها، قد صوّرا الاَدوار السابقة بصورتين متناقضتين.

فعارف تامر يصوّر الاَئمّة سبعة سابعهم متمّمهم، ويتلوه الرسول الناطق

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:148.

( 256 )

بادىَ الدّور الجديد؛ و مصطفى غالب يصوّرهم سبعة، سابعهم متمّمهم، وفي الوقت نفسه الرسول الناطق.

وهناك وجه آخر، و هو أن يختلف حكم الاَدوار الستة، مع الدَّور السابع، فيكون الاِمام المتمُّ في الدّور الاَخير متمّاً و رسولاً ناطقاً على خلاف الاَدوار الستة، و وجه ذلك أنّ هذا الدّور ليس دوراً مستقلاً، بل تتمّة للدور السادس، ولذلك يقول عارف تامر في التعريف بهذا الدور بالشكل التالي:

تتمة الدور السادس

وهذا الدور الصغير يبتدىَ من الاِمام محمد بن إسماعيل حتى عهد الاِمام «معد بن إسماعيل» المعز لدين اللّه، ويعتبر جزءاً من الدّور الكبير الذي يبتدىَ من عهد «محمد» حتى القائم المنتظر.(1)

وما ذكرنا من الوجه هو الظاهر من الحامدي في كتابه «كنز الولد» وسيوافيك نصّه في الفصل الخاص بترجمة أعلام الاِسماعيليّة.

السادس: أنّالمعروف بين الاِسماعليّة في العصور الاَُولى، أنّ محمد بن إسماعيل هو الرسول الناطق، وهو ناسخ للشريعة، وقد نسبه النوبختي إلى طائفة من الاِسماعيليّة باسم

القرامطة وقال: وزعموا أنّمحمد بن إسماعيل حيٌّ لم يمت وأنّه في بلاد الروم، وأنّه القائم المهدي؛ ومعنى القائم عندهم أنّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة، ينسخ بها شريعة محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وأنّ محمد بن إسماعيل من أُولو العزم، وأُولو العزم عندهم سبعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وعلي، ومحمد بن إسماعيل. (2)

ولما كان القول بذلك يصادم إتفاق جمهور المسلمين على أنّ شريعة الاِسلام هي الشريعة الخاتمة، و نبيّها هو النبي الخاتم ، وكتابه خاتم الكتب، تجد

____________

1. الاِمامة في الاِسلام:156.

2. النوبختي: الفرق بين الفرق:73.

( 257 )

أنّ مصطفى غالب، ينقل عن الداعي إدريس «عماد الدين» في كتابه«زهر المعاني» أنّ المراد أنّه يبيّن معاني الشريعة، ويظهر باطنها المبطن فيها. (1)

ولكنّه تصرّف في العقيدة، فإنّ الظاهر من عطف محمد بن إسماعيل على سائر النطقاء ، كنوح،و إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، أنّه ناسخ بالحقيقة، وإلاّ يلزم الاختلاف في معنى النسخ.

السابع: قد عرفت أنّ لازم القاعدة التي استنبطها الكاتب من بطون التاريخ، في أدوار الاِمامة أن تكون شريعة كلِّ رسول منتهية بظهور الاِمام السابع، ويكون الاِمام اللاحق بادئاً للدّور الجديد، مع أنّه يُرى انتقاض القاعدة في ظهور محمد بن إسماعيل، حيث جعل الكاتب عارف تامر دوره متماً للدّور السادس لا بادئاً للدّور الجديد، وأضاف بأنّه ينتهي بظهور الاِمام القائم المنتظر، ولا يمكن تحديدُ مدّته.

يلاحظ عليه: أنّ إدراج القائم المنتظر، الذي هو من صميم عقائد الاِماميّة الاثني عشريّة في عقائد الاِسماعيليّة غريب جداً من وجهين:

1. إخراج محمد بن إسماعيل عن مقامه العظيم في العقيدة الاِسماعيليّة، وجعل الاَدوار التالية حتى دور محمد بن إسماعيل من توابع دور محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - .

2. إنتظار الاِسماعيليّة

للقائم المنتظر، فإنّ القائم المنتظر في عقيدة الشيعة الاِماميّة أقلّ بكثير من صاحب الدور عند الاِسماعيليّة.

وأظن أن جعل الدور الذي بدأ به محمد بن إسماعيل جزءاً من الدّور السادس، لا دوراً مستقلاً لاَجل استقطاب نظر جمهور المسلمين إلى أنفسهم حتى ينسلكوا في عداد المسلمين. (2)

كلّ ذلك يُعرب عن عدم وجود نظام عقائدي منسق عندهم.

____________

1. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:148، نقلاً عن زهر المعاني:56.

2. الاِشكال السابع من إفادات العلاّمة الروحاني _ دام ظلّه _.

الفصل الثاني عشر

الفصل الثاني عشر

في

نظرية المثل والممثول

أو

تأويلات الاِسماعيلية

( 260 )

( 261 )

إنّ نظرية المثل والممثول تُعدُّ الحجر الاَساس لِعامّة عقائد الاِسماعيليّة، التي جعلت لكلِّ ظاهر باطناً، وسمّوا الاَوّل مثلاً، والثاني ممثولاً.وعليه تبتني نظرية التأويل الدينيّة الفلسفية، فتذهب إلى أنّ اللّه تعالى جعل كلَّ معاني الدّين في الموجودات، لذا يجب أن يُستدل بما في الطبيعة على إدراك حقيقةَ الدين، فما ظهر من أُمور الدين من العبادة العمليّة، التي بيّنها القرآن معاني يفهمها العامّة، ولكن لكلّ فريضة من فرائض الدين تأويلاً باطناً، لا يعلمه إلاّ الاَئمّة، وكبار حججهم وأبوابهم ودعاتهم. (1)

يقول الداعي الموَيد في الدين الشيرازي: خلق اللّه أمثالاً وممثولات، فجسم الاِنسان مثل، ونفسه ممثول، والدنيا مثَل والآخرة ممثول، وانَّ هذه الاَعلام التي خلقها اللّه تعالى، وجعل قُوام الحياة بها، من الشمس والقمر،و النجوم، لها ذوات قائمة، يحل منها محل المثل وانّقواها الباطنة التي توَثر في المصنوعات، هي ممثول تلك الاَمثال.

وقال صاحب المجالس المستنصرية: معشر الموَمنين انّ اللّه تعالى ضرب لكم الاَمثال جملاً وتفصيلاً، ولم يستح من صغر المثال إذا بيّن به ممثولاً، وجعل ظاهر القرآن على باطنه دليلاً، ومن قصيدة الموَيد للدين يقول فيها:

أقصد حمى ممث_وله دون المَث_ل * ذا أبرُ النحل (2)وهذا كالعسل

____________

1. مصطفى

غالب: في مقدمة الينابيع :13.

2. ابر النحل: لذعته.

( 262 )

واستناداً إلى نظرية المثل والممثول يجب أن يكون في العالم الاَرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحانيّ الباطن. (1)

1. العقول العشرة

إنّ الاِسماعيليّة استخدمت في تطبيق تلك النظرية، على ما تتبناه من تطبيق الدعوة الدينيّة على عالم التكوين نظرية الفلسفة اليونانية في كيفيّة حصول الكثرة في العالم، ولم يكن الهدف في استخدام نظريتهم، في بيان صدور الكثرات من الواحد البسيط، إلاّ تطبيقها على الدعوة الدينيّة، حتى يكون لكلِّ ظاهر باطن.

توضيحه: أثبتت البراهين الفلسفيّة أنّه سبحانه واحد، بسيط من جميع الجهات، لا كثرةَ فيه، لا خارجاً ولا عقلاً، ولا وهماً

ثمّ إنّهم بعد البرهنة على تلك القاعدة، وقعوا في مأزق وهو أنّه كيف صدرت من الواحد البسيط _ الذي لا يصدر عنه إلاّ الواحد _ هذه الكثرات في عالم العقول، والاَفلاك، والاَجسام؟

ذهب أرسطو وتلاميذه، ومن تبعهم من المسلمين كالفارابي والشيخ الرئيس، إلى أنّ الصادر منه سبحانه واحد، وهو: العقل الاَوّل، وهو مشتمل على جهتين:

جهة لعقله لمبدئه، وجهة إضافته إلى ماهيته.

فبالنظر إلى الجهة الاَُولى صدر العقل الثاني، وبالنظر إلى الجهة الثانية صدر الفلك الاَوّل ونفسه، الذي هو الفلك الاَقصى.

وصدر من العقل الثاني لهاتين الجهتين، العقل الثالث، والفلك الثاني مع نفسه، الذي هو فلك الثوابت.

____________

1. مصطفى غالب: في مقدمة الينابيع :13.

( 263 )

ثمّ صدر من العقل الثالث لهاتين الجهتين، العقل الرابع، والفلك الثالث مع نفسه، الذي هو فلك زحل.

وبهذا الترتيب، صدر العقل الخامس والفلك الرابع، الذي هو فلك المشتري، إلى أن وصل عدد العقول إلى عشرة، وعدد الاَفلاك مع نفوسها تسعة.

و تبنّى المذهب الاِسماعيلي، الذي هو مذهب ذو صبغة فلسفيّة يونانيّة هذه النظرية مع اختلاف يسير في التعبير لا غير، والفكرة

الرئيسيّة عندهم واحدة.

فمثلاً يعبّر الداعي الكرماني عن العقل الاَوّل بالمبدع، كما يعبّر عن العقل الثاني بالمنبعث الاَوّل، وكلا المسلكين يشتركان في أنّه يبتدىَ الصدور بالعقل الاَوّل، الذي تسمّيه فلسفةُ المشاء بالعقل الاَوّل، والمذهب الاِسماعيليّ بالمبدع الاَوّل، وتنتهي بالعقل الفعّال،ويتوسط بين العقل الاَوّل والعقل الفعّال سلسلة العقول، والاَفلاك الاَُخرى.

يقول الداعي الكرماني:

والعقل الاَوّل مركز لعالم العقول إلى العقل الفعّال، والعقل الفعّال عاقل للكل، وهو مركز لعالم الجسم ، من الاَجسام العالية الثابتة (الاَفلاك) إلى الاَجسام المستحيلة المسمّاة عالم الكون والفساد (العناصر الاَربعة). (1)

يقول الحكيم السبزواري في بيان تلك النظرية:

فالعقل الاَوّل لدى المش__اء * وجوبه مبدأ ثان جاء

وعقله لذاته للفلك * دان لدان سامك لسامك

وهكذا حتى لعاشرٍ وصل * والفيض منه في العناصر حصل

بالفقر معط لهيولى العنصر * و بالوجوب لنفوس صور

فللهيولى كثرة استعداد * بحركات السبعة الشداد (2)

____________

1. راحة العقل:127_ 129.

2. السبزواري: شرح المنظومة:185.

( 264 )

ثمّ إنّ المهم تطبيق هذه الدرجات الكونية على درجات الدعوة الدينيّة عند الاِسماعيليّة، فقد جعلوا لكل ظاهر باطناً، ولكلّ درجة كونيّة درجة دينيّة ،و إليك جدولاً يوضح ذلك:

1. العق_ل الاَوّل = الناطق.

2. العق_ل الث_اني= الفلك الاَقصى = الاَساس.

3. العق_ل الثالث= فلك الثوابت = الاِمام.

4. العق_ل الراب_ع = فلك زحل = الباب.

5. العقل الخامس= فلك المشتري= الحجّة.

6. العقل السادس=فلك المريخ= داعي البلاغ.

7. العق_ل السابع= فلك الشمس= الداعي المطلق.

8. العق_ل الثام_ن= فلك زهرة = الداعي المحدود.

9. العقل التاس_ع= فلك عطارد = المأذون المطلق.

10. العقل العاشر= فلك القمر = المأذون المحدود، وربّما يُطلق عليه المكاسر والمكالب. (1)

هذا عرض موجز عن الدرجات الدينيّة للدعوة، وأمّا تفسيرها فإليك بيانها إجمالاً:

1. الناطق: وله رتبة التنزيل.

2. الاَساس: وله رتبة التأويل.

3. الاِمام: وله رتبة الاَمر.

4. الباب: وله رتبة فصل الخطاب.

____________

1.

إنّ محقّقي كتاب راحة العقل لم يذكروا فلك الثوابت، ولهذا صار العقل ممثولاً لما دون القمر، وجعلوا فلك الاَفلاك والمحيط. فلكين مستقلين، مع أنّهما في هيئة بطليموس، فلك واحد، إلاّ أن يخلتف ترتيب العوالم العلوية عند الاِسماعيليّة مع ما هو الثابت في علم الهيئة (لاحظ راحة العقل، ص 25).

( 265 )

5. الحجّة: وله رتبة الحكم فيما كان حقّاً أو باطلاً.

6. داعي البلاغ:و له رتبة الاحتجاج، وتعريف المعاد.

7. الداعي المطلق: وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية.

8. الداعي المحصور، أو المحدود: وله رتبة تعريف الحدود السفليّة والعبادة الظاهرة.

9. المأذون المطلق: وله رتبة أخذ العهد والميثاق.

10. المأذون المحدود: وله رتبة جذب الاَنفس المستجيبة، وهو المكاسر.(1)

2. النطقاء السبعة وأمثالها:

وربّما يعبّرون عنها بالحروف السبعة (آ، ن، إ، م ، ع، م، ق) وهي الحروف الاَُولى من أسماء النطقاء السبعة، وهم: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد، قائم (2) مع أُسسهم ممثولين للاَفلاك السبعة بالشكل التالي:

المثل الممثول أساسه

1. زحل

2.المشتري

3. المريخ

4. الشمس

5. الزهرة

6. عطارد

7. القمر

آدم

نوح

إبراهيم

موسى

عيسى

محمد

القائم

شيث

سام

إسماعيل

يوشع

شمعون

علي

مهدي (3)

____________

1. مصطفى غالب: في مقدمة كتاب الينابيع23.

2. يريدون به محمد بن إسماعيل، لاَنّ والده توفي في حياة أبيه، فانتقلت الاِمامة إليه، وهو القائم والاِمام المستقر، وأمّا الاِمام الكاظم - عليه السّلام- فقد كان إماماً مستودعاً.

3. القصيدة الشافية: 38، قسم التعليقة .

( 266 )

3. الاَنوار الخمسة وأمثالها:

الاَنوار الخمسة، عبارة عن أُولى الموجودات في العالم، وهي: السابق،والتالي، والجد، والفتح، والخيال، وكلُّها ممثولات، ولها أمثلة في الحدود العلويّة، وفي عالم الدين،وعالم المادة بالشكل التالي:

المثل

المثل في العالم العلوي

الممثول في عالم الدين

المثل في عالم الجسم

1. السابق

2. التالي

3. الجد

4. الفتح

5. الخيال

العقل الكلّي

النفس الكلّي

إسرافيل

ميكائيل

جبرائيل

النبي

الاِمام

الوصي

الحجّة

الداعي

السماء

الاَرض

المعدن

النبات

الحيوان

وكلٌّ يأخذ الفيض من السابق، ويفيضه إلى التالي. (1)

وإلى هذه الاَنوار الخمسة يشير الداعي في قصيدته الشافيّة عند ذكر توبة

آدم وتوسله بها قائلاً:

وعاد للّه بحسن التوبة * آدم كي يغفر تلك الحوبة

وقال يا ربي إنّي أسأل * وإنّني عن زلّتي منفصل

مُبتهلاً بالخمسة الاَنوار * أوّل ما أبدعته في الدّار

من سابق كان بلا مثال * ولاحق يتلوه بالكمال

والجد ثم الفتح والخيال * وبالحروف السبعة الاَشكال (2)

____________

1. القصيدة الشافية: 37، قسم التعليقة؛ ناصر خسرو: خوان الاِخوان:199.

2. القصيدة الشافية:37.

( 267 )

نماذج من تأويلاتهم الفقهية

لما كان القول بالمثَل والممثول أساساً للتأويل، نذكر في المقام بعض تأويلاتهم في الشريعة.

قالت الاِسماعيليّة: إنّ لكلّ ظاهر في الشريعة، كالوضوء، والصلاة، والزكاة، والجهاد، والحج، والولاية، وغيرها باطناً، يجب الاِيمان به.

وقد كتب كثير من الفاطميين كُتباً في التأويل، غير أنّ قاضي القضاة، النعمان بن محمد، قام بأمرين:

الاَوّل: ألَّف كتاباً باسم «دعائم الاِسلام» وذكر الحلال والحرام والقضايا والاَحكام، وطبع الكتاب في جزءين وهو يشتمل على الكتب التالية:

1. كتاب الولاية.

2. كتاب الطهارة.

3. كتاب الصلاة.

4. كتاب الزكاة.

5. كتاب الصوم والاعتكاف.

6. كتاب الحج.

7. كتاب الجهاد.

8. كتاب البيوع والاَحكام.

9. كتاب الاَيمان والنذور.

10. كتاب الاَشربة.

11. كتاب الاَطعمة

12. كتاب الطب.

13. كتاب اللباس والطبيب.

14. كتاب الصيد.

15. كتاب الذبائح.

16. كتاب الضحايا والعقائق.

17. كتاب النكاح.

18. كتاب الطلاق.

19. كتاب العتق.

20. كتاب العطايا.

21. كتاب الوصايا.

22. كتاب الفرائض.

23. كتاب الدّيات.

24. كتاب الحدود.

25. كتاب السُّرّاق والمحاربين.

26. كتاب الرّدة والبدعة

27. كتاب الغصب والتعدّي.

28. كتاب العارية والوديعة.

29. كتاب اللفظة واللقيطة والآبق.

30. كتاب القسمة والبنيان.

31. كتاب الشهادات.

32. كتاب الدعوى والبينات.

33. كتاب آداب القضاة.

وهو في الحقيقة يحتوي على ظواهر الشريعة.

( 268 )

الثاني: ألَّف كتاباً، حاولَ فيه أن يبيّن التأويل الباطني لجميع الاَحكام، أسماه ب_«تأويل الدعائم» واستطاع أن يُنهي تأليف الجزء الاَوّل منه، والذي يشتمل على كتاب الولاية، والطهارة، والصلاة، ولكنَّ المنيّة حالت دون إتمامه لتأويل بقيّة الاَبواب الفقهية.

ولذا نقتصر في المقام على

ما جاء في هذا الكتاب، بوجه مُوجز، وهدفنا ذكر نماذج، منها فقط، لاَنّنا لا نروم التفصيل والاستقصاء في هذا البحث.

وليعلم أنّ للفاطميين كتباً كثيرةً في التأويل،وقد وَعَدَ محقّق كتاب «تأويل الدعائم» محمد حسن الاَعظمي أن ينشر بعضها في المستقبل. (1)

لمّا كان التأويل أمراً شخصيّاً، يختلف باختلاف الدّاعي،واختلاف ذوقه، اختلفت كلمة الدعاة أشدَّ الاختلاف، في مسائل كثيرة، يقول محقّق كتاب راحة العقل، ما هذا لفظه:

الداعي النخشبي وضع كتابه المحصول في فلسفة المذهب. وجاء بعده أبو حاتم الرازي، فوضع كتابه الاِصلاح، وخالف فيه أقوال من سبقه، ثمّ جاء أبو يعقوب السجستاني، أُستاذ الكرماني، فانتصر للنخشبي، وخالف أبا حاتم، ثمّ جاء الكرماني الذي استطاع أن يوفّق بين آراء شيخه وآراء أبي حاتم. (2)

إنّ المواضع المقتطفة من كتاب «تأويل الدعائم» يعرب عن أمرين:

الاَوّل: أنّ جميع التأويلات مبنيّة على: أُسس فلسفيّة ذوقيّة، لا تتمتع بالبرهان كأكثر تأويلات الصوفيّة.

الثاني: أنّ غالب التأويلات مبنيّة على ثبوت مقامات غيبيّة لاَئمّتهم. ومن أجل أن يقف القارىَ بنفسه، ويتيقن من صحة الدعوى التي ذكرناها هنا، سوف نستعرض مجموعة من النماذج لآرائهم، وهي:

____________

1. تأويل الدعائم: 35، قسم المقدمة.

2. راحة العقل: 17، مقدمة المحققين.

( 269 )

كتاب الولاية (الدعامة الاَُولى)

جاء في كتاب تأويل الدعائم: عن الباقر - عليه السّلام- : «بني الاِسلام على سبع دعائم: (1) الولاية: وهي أفضل وبها وبالوليّ يُنتهى إلى معرفتها، والطهارة، والصلاة،والزكاة،والصوم، والحج والجهاد»، فهذه كما قال - عليه السّلام- : دعائم الاِسلام قواعده، وأُصوله التي افترضها اللّه على عباده.

ولها في التأويل الباطني أمثال، فالولاية مَثلُها مَثلُ آدم(ص) لاَنّه أوّل من افترض اللّهُ عزّوجلّ ولايته، وأمر الملائكة بالسجود له، والسجود: الطاعة، وهي الولاية، ولم يكلفهم غير ذلك فسجدوا إلاّ إبليس، كما أخبر تعالى، فكانت

المحنةُ بآدم (ص) الولاية، وكان آدمُ مثلَها، ولابدَّ لجميع الخلق من اعتقاد ولايته، ومن لم يتولّه، لم تنفعْهُ ولاية من تولاّه من بَعده، إذا لم يدُن بولايته ويعترف بحقّه، وبأنّه أصل مَنْ أوجب اللّهُ ولايتَه من رسله وأنبيائه وأئمّة دينه، وهو أوّلهم وأبوهم.

والطهارة: مَثَلُها مَثَلُ نوح - عليه السّلام- ، وهو أوّل مبعوث ومرسل من قبل اللّه، لتطهير العباد من المعاصي والذنوب التي اقترفوها، ووقعوا فيها من بعد آدم (ص)، وهو أوّل ناطق من بعده، وأ وّلُ أُولي العزم من الرسل، أصحاب الشرائع،وجعلَ اللّه آيته التي جاء بها، الماء، الذي جعله للطهارة وسمّاه طهوراً.

والصلاة: مَثَلُها مَثَلُ إبراهيم (ص) وهو الذي بَنى البيتَ الحرام، ونصبَ المقام، فجعل اللّه البيت قبلة، والمقامَ مصلّى.

والزكاة: مثلها مثل موسى،وهو أوّل من دعا إليها ، وأُرسل بها، قال تعالى: "هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى* إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى* اذْهَبْ إِلى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغى* فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى" . (2)

____________

1. المرويّ عن طرقنا: بنى الاِسلام على خمس.

2. النازعات:15_ 18.

( 270 )

والصوم: مَثَلُه مثل عيسى - عليه السّلام- وهو (1)أوّل ما خاطب به أُمّه، أن تقولَ لِمَنْ رأته من البشر، وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها:"فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَومَ إِنْسِيّاً". (2)وكان هو كذلك يصوم دهره، ولم يكن يأتي النساء، كما لا يَجوز للصائم أن يأتيهنّ في حال صومه.

والحج: مَثَلُه مَثَلُ محمّد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وهو أوّل من أقام مناسك الحج، وسنَّ سنته، وكانت العرب وغيرها من الاَُمم، تحجّ البيت في الجاهليّة ولا تقيم شيئاً من مناسكه، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله: " وما كانَ

صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً". (3)

وكانوا يطوفون به عُراة، فكان أوّلُ شيء نهاهم عنه ذلك فقال، في العُمرة التي اعتمرها، قبل فتح مكة، بعد أن وادعَ أهلَها، وهم مشركون:«لا يطوفنّ بعد هذا بالبيت عريان، ولا عريانة»، وكانوا قدنصبوا حول البيت أصناماً لهم يعبدونها، فلمّا فتح اللّهُ مكّة كسّرها، وأزالها، وسنَّ لهم سُنن الحجّ، ومناسكه، وأقام لهم بأمر اللّهِ معالمه. وافترض فرائضه. وكان الحجّ خاتمة الاَعمال المفروضة، وكان هو - صلّى الله عليه وآله وسلّم - خاتم النبيين، فلم يبق بعدَ الحجّ من دعائم الاِسلام غير الجهاد، وهو مثل سابع الاَئمّة ، الذي يكون سابع اسبوعهم الاَخير، الذي هو صاحب القيامة. (4)

____________

1. الظاهر أنّ ضمير الفاعل يرجع إلى روح الاَمين.

2. مريم:26.

3. الاَنفال:35.

4. النعمان: تأويل الدعائم:1|51_52.

( 271 )

كتاب الطهارة (الدعامة الثانية)

قال صاحب تأويل الدعائم: لا يجزي في الظاهر صلاة بغير طهارة، ومن صلّى بغير طهارة لم تُجزِه صلاتُه، وعليه أن يتطهّر، وكذلك (في الباطن) لا تجزي ولا تنفع دعوة مستجيبٍ يدعى،ويوَخذ عليه عهد أولياء اللّهِ حتى يتطهّر من الذنوب، ويتبرأ من الباطل كلِّه، ومن جميع أهله، وإن تبرأ من الباطل بلسانه، مقيم على ذلك، لم تنفعه الدعوة، ولم يكن من أهلها، حتى يتوبَ ويتبرأ ممّا تجب البراءة منه، فيكون طاهراً من ذلك، كما قال تعالى: "وَذَرُوا ظاهِرَالاِِثْمِ وَ باطِنَهُ"(1).(2)

و يقول: إنّ الاَحداث التي توجب الطهارة لها في الباطن أمثال، يجب التطهّر منه بالعلم ، كما وجب التطهّر في الظاهر من هذه بالماء، فمثل الغائط مَثَل الكفر، والذي يطهّر منه من العلم الاِيمان باللّه، ومثَل البول مثل الشرك وهو درجات ومنازل،و الذي يطهر منه من العلم توحيد اللّه، ونفي الاَضداد والاَشباه، والشركاء عنه، ومثَل الريح تخرج

من الدُبر، مثل النفاق، والذي يطهّر منه من العلم التوبةُ والاِقلاع عنه، واليقين والاِخلاص والتصديق باللّه، وأنبيائه وأوليائه، وأئمّة دينه.(3)

أمّا غسل الوجه ففيه سبعة منافذ: العينان، والاَُذنان،و المنخران، والفم.

وأنّ أمثالَهم في الباطن، أمثال السبعة النطقاء الذين هم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى - عليهم السّلام- و محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وخاتم الاَئمّة من ذريته صاحب القيامة (ص)، ولابُدّ للمستجيب بعد البراءة، من الكفر والشرك والنفاق، من

____________

1. الاَنعام:120.

2. تأويل الدعائم:1|76.

3. تأويل الدعائم:1|79.

( 272 )

العلم والاِيمان والتصديق بمحمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ووصيّه علي ومن الاِيمان والتصديق بالنطقاء الستة، وهم: آدم، ونوح،و إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وبخاتم الاَئمّة صاحب القيامة (ص) وهو اليوم الآخر الذي ذكره اللّه في غير موضع من كتابه، وجعل الاَيّام السبعة أمثالاً لهم، فالاَحد مَثَل آدم - عليه السّلام- و الاِثنين مَثَل نوح - عليه السّلام- ، والثُلاثاء مَثَل إبراهيم، والاَربعاء مثل موسى - عليه السّلام- ، والخميس مَثَل عيسى - عليه السّلام- ، والجمعة مَثَل محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - جمع اللّه له علم النبيين،و فضلهم وأكملهم به، وجعله خاتمهم، وفضّله بأن جعل السابع من ذريته، ومن أهل دعوته. فكانَ غُسل الوجه مَثلاً على الاِقرار بهذه الاَسابيع وطاعتهم. (1)

في التيمّم:

يقول: التيمّم وضوء الضرورة، هذا من ظاهر الدّين، وأمّا باطن التيمّم لِمَن عُدِم الماءَ وأنّه في التأويل طهارة من أحدث حدثاً في الدّين من المستضعفين، مِنَ الموَمنين الّذين لا يجدون مفيداً للعلم ، ممّا يحدثونه عند ذوي العدالة من الموَمنين من ظاهر علم الاَئمّة الصادقين إلى أن يجد مفيداً من المطلقين.

إلى أن قال: ولا

ينبغي أن يتيمّم من لم يجد الماء إلاّ في آخر الوقت، بعد أن يطلب الماء.

وذلك في الباطن من اقترف ما يوجب عليه الطهارة بالعلم الحقيقي، فعليه أن يطلبه، ولا يُعجِّل بالقصد إلى غير مطلق، فيأخذ عنه ما يطهّره من العلم الظاهر، حتى يجتهد في طلب مفيد مطلق، فإذا بلغ في الطلب استطاعته وانتهى إلى آخر وقت، يعلم أنّه لا يجد ذلك، فحيئنذٍ يَقصد إلى من يفيده من الموَمنين، أهل الطهارة من ظاهر علم أولياء اللّه، ما يزيل عنه شكَ ما اقترفه وباطله.

إلى أن قال: قال الصادق (ص) في ذلك: إنّه إن وجد الماء وقد تيمّم وصلّى

____________

1. تأويل الدعائم:1|101 _ 102.

( 273 )

بتيمّمه ذلك، أجزأه وعليه أن يتطهّر بالماء أو يتيمّم، إن لم يجد الماء، لما يستقبله من الصلاة.

باطن ذلك أنّه إن فعلَ ما ذكرناه في دعوة إمام أو حدّ من حدوده، ثمّ دخلت على تلك الدعوة دعوة أُخرى، ولم يجد مفيداً، فهو على ما كان عليه، وإن وجده كان على ما وصفنا، وليس عليه شيء لما مضى. (1)

في ذكر التنظّف

يقول: الحيض علّة تُصيب النساء في الظاهر، وأمثال النساء _ كما ذكرنا في الباطن _ أمثال المستجيبين.

فتأويل جملة القول في الحيض في الباطن، أنّه علّة وفساد، يدخل على المستجيب في دينه، يحرم عليه من أجلها سماع الحكمة، والكون في جماعة أهل الدعوة، كما لا يحلّ في الظاهر للمرأة إذاحاضت أن تصلّي،ولا تدخل المسجد، وكذلك لا يحل لمفيد ذلك المستجيب، أن يفيده شيئاً من العلم إذا أحدث ذلك الحدث، حتى يتطهّر منه، بالتوبة والنزوع عنه، والاِقلاع، وينقطع عنه ما عرض من ذلك الفساد في دينه. (2)

ويقول أيضاً: قال الصادق - عليه السّلام- : إذا طهرت المرأة من

حيضها في وقت صلاة، فضيّعت الغسل، كان عليها قضاء تلك الصلاة.

تأويله: أنّ المقترِف إذا تابَ وانتصل ممّا اقترفه، ولم يتطهّر في ذلك بالعلم، كما وصفنا، كان عليه أن يتطهّر، وأن يسعى في إفادة ما فاته من الحكمة، بعد إقلاعه عمّا اقترفه.

فافهموا معشر الموَمنين ما تعبدكم اللّه به ظاهراً وباطناً ،فإنّ ذلك مرتبط

____________

1. تأويل الدعائم:1|123 _ 124.

2. تأويل الدعائم:1|161.

( 274 )

بعضه ببعض، يشهد كلّ شيء منه لصاحبه، ويطابقه ويوافقه فما وجب في الظاهر، وجب كذلك مثله ونظيره في الباطن، لا يجزي إقامة أحدهما دون الآخر، ولا يحلُّ في الظاهر ما حُرّم في الباطن، ولا في الباطن ما حُرم في الظاهر، وإيّاكم أن يستميلكم عن ذلك، تحريف المحرّفين، ولا شبهات الشياطين، فإنّ اللّه عزّوجلّ يقول: "وَ ذَرُوا ظاهِرَ الاِِثْمِ وَ باطِنَهُ" (1)وقال: "قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ" (2)وقال: "وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً" (3). (4)

كتاب الصلاة (الدعامة الثالثة)

يقول: الصلاة في الظاهر ما تعبّد اللّه عباده الموَمنين به، ليُثيبهم عليه، وذلك ممّا أنعم اللّهُ عزّوجلّ به عليهم، وقد أخبر تعالى أنّه "أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً" فظاهرالنّعمة في الصلاة إقامتها في الظاهر، بتمام ركوعها وسجودها وفروضها ومسنونها، وباطن النّعمة كذلك في إقامة دعوة الحقّ في كلّ عصرٍ كما هو في ظاهر الصلاة. (5)

و يقول أيضاً: افترض اللّهُ خمسَ صلوات في الليل والنهار سمّاها في كتابه.

وتأويل ذلك أنّ الخمس الصلوات في الليل والنهار في كلِّ يوم وليلة مثلها في الباطن مثلُ الخمس الدعوات لاَُولي العزم من الرسل الذين صبَروا على ما أُمروا به، ودَعوا إليه.

فصلاة الظهر وهي الصلاة الاَُولى مَثَلٌ لدعوة نوح (ص)، وهي الدعوة

____________

1. الاَنعام:120.

2. الاَعراف:33.

3. لقمان:20.

4. تأويل الدعائم:1|167.

5. تأويل

الدعائم:1|177.

( 275 )

الاَُولى، وهوأوّل أُولي العزم من الرّسل.

والعصر مَثَلٌ لدعوة إبراهيم (ص) وهو ثاني أُولي العزم، وهي الصلاة الثانية.

والمغرب وهي الصلاة الثالثة مَثَلٌ لدعوة موسى (ص) وهي الدعوة الثالثة، وهو ثالث أُولي العزم.

والعشاء الآخرة مَثَلٌ لدعوة عيسى (ص) وهي الدّعوة الرابعة، وهو الرابع من أُولي العزم، وهي الصلاة الرابعة.

والفجر وهي الصلاة الخامسة مَثَلٌ لدعوة محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وهي الدعوة الخامسة، وهو خامس أُولي العزم، فأمره اللّه بأن يُقيم الصلاة ظاهراًو باطناً... وأن يدعو فيها إلى مِثْل ما دعا أُولوا العزم من قبله. (1)

في عدد الصّلاة

يقول: ويتلو ذلك ذكر عددُ ما في كلّ صلاةٍ، من الركوع، وما يُجهر فيه منها بالقراءة،و ما يُخافت فيه منها.

تأويل ذلك: أنّ جملة عدد الركعات للخمس الصلوات في اليوم والليلة، الفرض من ذلك سبعَ عشرة ركعة والسُّنّة مِثلا الفريضة (أربع وثلاثون ركعة) والصلاة على سبعة أضرب، هذا ضرب منها.

والثاني: صلاة الكسوف، على خلاف صفة هذه ،لاَنّها ركعتان، في كلِّ ركعة خمس ركوع.

والثالث: صلاة العليل، والعريان، يصلّيان جالسين، وإذا لم يستطع العليل الصلاة، جالساً، صلّى مستلقياً أو مضطجعاً، وإذا لم يستطع الركوع والسجود،

____________

1. تأويل الدعائم:1|178_180.

( 276 )

يومىَ أي إيماء برأسه أو ببصره، إذا لم يستطع أن يومىَ برأسه.

والرابع: صلاة الخوف، تصلى على معنى غير معنى الصلاة في الاَمن، وتجزى على ركعة منها تكبيرة عند المواقفة والمسائفة.

والخامس: صلاة الاستسقاء،والاَعياد، والجُمَع، لها حدّ غير حدّ الصلاة في غير ذلك.

والسادس: صلاة الجنائز، ليس فيها ركوع ولا سجود.

والسابع: الصلاة على النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وهي لفظ باللسان بلا عمل بالاَركان.

فأمثال الستة الاَضرب من الصلاة أمثال الدعوة الستة النطقاء، وهم: آدم،و نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى -

عليه السّلام- و محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ... والصلاة السابعة التي هي الصلاة على النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وهي قول بلا عمل، مثل لدعوة آخر الاَئمّة وخاتمهم، وهو صاحب عصر القيامة، لاَنّه إذا قام رفع العمل، وقامت القيامة. (1)

في وقت الصّلاة

يقول: أوّل وقت الظهر زوال الشمس.

وتأويل ذلك: أنّ الشمس في الباطن مَثَلُها مثلُ وليّ الزمان من كاننبىٍّ أو إمام، ومثل طلوعِها مَثلُ قيام ذلك الوليّ و ظهوره، ومَثَلُ غروبها مَثَلُ نقلته وانقضاء أمره، وكان رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - في وقته مَثَلُه مثل الشمس، من وقت بعثه اللّه تعالى فيه إلى أن أكمل دينه الذي ابتعثه لاِقامته، وإكماله بإقامة وصيّه، وذلك قول اللّه تعالى الذي أنزل عليه في اليوم الذي قام فيه بولاية علي (ص) بغدير خم:"اَليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الاِِسلامَ"

____________

1. تأويل الدعائم:1|182.

( 277 )

دِيناً" (1)،

ل فلما فعل ذلك (ص) مال إلى النقلة عن دار الدنيا إلى معاده، فكان بينَ ذلك وبين وفاته سبعون ليلة.

وكان ذلك في التأويل مثل الزوال على رأس سبع ساعات، كما ذكرنا من النهار، التي جاء أنّ مَثَل عددها مثلُ عدد حروف اسمه واسم وصيّه (ص)، وذلك سبعةأحرف، محمدٌ أربعةُ أحرف، وعليٌّ ثلاثة أحرف، فذلك سبعة، مثل للسبع ساعات، التي تزول الشمس عندها التي مثلُها مثلُه (ص)، ومثل زوالها زواله، وانتقاله إلى معاده، الذي أعدّ اللّهُ له فيه الكرامة لديه.

(2)

في الاَذان والاِقامة

يقول: إنّ الاَذان مَثَلُهُ مَثَلُ الدعاء إلى ولاية الناطق، وهو النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - في وقته، والاِمام في عصره.

والاِقامة مثلُها مثلُ الدعاء إلى حجّته، وهو وليّ أمر

الاَُمّة من بعده، الذي يُقيمه لذلك في حياته، ويصير مقامه له بعد وفاته، فالاَذان ثماني عشرة كلمة... ومثل الاَذان، مثلُ الدعاء إلى دعوة الحقّ، وذلك مثلُ الدعاء إلى الستة النطقاء، وهم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى - عليهم السّلام- ومحمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ،و الدعاء إلى دعوة الحجج الاثني عشر وهم أكابر الدعاة أصحاب الجزائر، التي هي جزائر الاَرض الاثنتي عشرة جزيرة، بكلِّ جزيرةٍ منها داعٍ، يدعو إلى دعوة الحق، فدعوة الحق تشتمل على هذه الدعوات، وتوَكّد أمرها، وتُوجبُ الاِقرار بأصحابها، وكان ذلك مثل عدد كلمات الاَذان لكلّ دعوة منها كلمة؛ والاِقامة تسعَ عشرة كلمة... والاِقامة _ كما ذكرنا _ مثل النداء إلى الحُجّة فمثلُ الكلمة الزائدة فيها، مثل الدعوة إلى الحجّة، الذي هو أ ساس الناطق، فأمّا الدعاء إلى الاَئمّة وحججهم، فيدخل ذلك في دعوة أصحاب الجزائر، لاَنّ دعوتهم إلى كلِّ إمامٍ في وقته وحجّته.

(3)

____________

1. المائدة:3.

2. تأويل الدعائم:1|199.

3. تأويل الدعائم:1|214.

( 278 )

في ذكر المساجد

يقول: فالمساجد في الظاهر البيوت التي يجتمع الناس إليها، للصلاة فيها، وهي على طبقات، ودرجات فأعلاها المسجد الحرام.

ومثله مثلُ صاحب الزمان مَنْ كان من نبي أو إمام.

ومثل الاَمر بالحج والسعي إليه من أقطار الاَرض، مَثلُ واجبِ ذلك على الناس، لولي زمانهم أن يأتوه من كلّ أُفق من الآفاق.

ومثل مسجد الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - مثلُ الحجّة وكذلك، على الناس أن يأتوه كما يأتون المسجدَ الحرام.

ومثلُ مسجد بيت المقدس مثلُ بابه، أكبر الدعاة وبابهم، ويسمّى باب الاَبواب.

وجوامع الاَمصار أمثالها أمثال النقباء وهم أكابر الدعاة أصحاب الجزائر.

ومساجد القبائل أمثالها أمثال دعاة القبائل على مقاديرهم، كمثل المساجد في فضلها، وفضل بعضها على بعض، وسعتِها، وضيقها، كذلك الدعاة

منهم مشهورون بالفضل، وبعضهم أفضل من بعض وأوسع علماً.

(1)

في تكبيرة الاِفتتاح

يقول: إذا افتتحت الصلاة فارفع يديك، ولا تجاوز بهما أُذنيك، وأبسطهما بسطاً، ثمّ كبّر، فهذه التكبيرة التي تكون في أوّل الصلاة، هي تكبيرة الاِفتتاح، ورفع اليدين فيهما واجب عند أكثر الناس، إلاّ أنّهم يختلفون في منتهى حدِّ ذلك، والثابت عن أهل البيت - عليهم السّلام- ما جاء في هذه الرواية عن الصادق - عليه السّلام- أنّه لا يجاوز

____________

1. تأويل الدعائم:1|225.

( 279 )

بهما الاَُذنين، والذي يوَمر به في ذلك أن يحاذي بأطراف الاَصابع من اليدين أعلى الاَُذنين، ويحاذي بأسفل الكفين أسفلَ الذقن، فتكونُ اليدان قد حاذتا ما في الوجه من المنافذ السبعة، وهي: الفم، والمنخران، والعينان، والاَُذنان.

وتأويل ذلك أنّ مثل اليدين مثل الاِمام والحجّة، ومثل هذه المنافذ السبعة، مثل النطقاء السبعة، فمثل رفع اليدين إلى أن يحاذيهما، مثلُ الاِقرار في أوّل دعوة الحقّ بالاِمام والحجّة والنطقاء السبعة أعني: إمام الزمان وحجّته ، وأن لا يفرّق بين أحدٍ منهم، ومثل قوله:«اللّه أكبر» انّه شهادة وإقرار واعتقاد بأنّ اللّه أكبر وأجل وأعظم من كلّ شيء وأنّ النطقاء والاَئمّة والحج_ج _ وإن قرن اللّه طاعته_م بطاعته _ عباد من عباده مربوبون.

(1)

في القراءة

يقول: يقرأ في الصلاة في كلّ ركعة بعد بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، بفاتحة الكتاب، وفي الركعتين الاَوليين، بعد فاتحة الكتاب بسورة، ونُهي عن أن يُقال«آمين» بعد فراغ فاتحة الكتاب، كما تقول ذلك العامّة.

تأويل ذلك أنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تسعةَ عشر حرفاً، بسم اللّه سبعة أحرف، وهي مثل النطقاء السبعة، والسبعة الاَئمّة الذين يتعاقبون الاِمامة بين كل ناطقين، الرّحمن الرّحيم اثني عشر حرفاً مثل النقباء الاثني عشر.

وتأويل قراءته في كلّ ركعة بفاتحة الكتاب، من أنّها سبع آيات وأنّه

جاء في التفسير أنّ_ها السبع المثاني، لاَنّها تثنّى في كلّ ركعة، وانّ مَثَلَها ومثل قراءتها في الصلاة مثل الاِقرار بالسبعة الاَئمّة الذين يتعاقبون الاِمامة بين كلّ ناطقين، وانّ ذلك هو قول اللّه تعالى لمحمد نبيه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - :"وَ لَقَدْآتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِيَ"

(2)وتأويله

____________

1. تأويل الدعائم:1|259.

2. الحجر:87.

( 280 )

أنّه جعل في ذريته سبعة أئمّة يثنّى منهم اسبوع بعد اسبوع، كما يثنّى أيّام الجُمعة إلى أن تقوم الساعة وانّه جمع له علم النطقاء والاَئمّة من قبله والقرآن العظيم،و مثله في التأويل مثل أساس دعوته وأئمّته وهو وصيّه علي(ص).

وأمّا قراءة فاتحة الكتاب وسورة في كلّ ركعة تقرنان فيها فمَثَل ذلك في التأويل، مثل الاِقرار في دعوة الحقّ بإمام الزمان وحجّته وقول العامّة بعد فراغ سورة الحمد آمين زيادة فيها فنهى عن ذلك كما يُنهى عن إدخال غير أولياء اللّه في جملتهم،وعن زيادة غيرهم فيهم.

(1)

في صلاة العيدين

يقول: ليس في العيدين أذان ولا إقامة، ولا نافلة، ويُبدأ فيهما بالصلاة قبل الخطبة، خلاف الجُمعة؛و صلاةَ العيدين ركعتان يُجهر فيهما بالقراءة.

تأويل ذلك: أنّ مثل الخروج إلى العيدين مَثَلُ الخروج إلى جهاد الاَعداء،وأنّمثل الاَذان مثل الدعوة والخروج إلى العدو،وليست تقام له دعوة، إذ تقدم في دعوة الحقّ الاَمر به، وإنّما يُلزم الناس أن ينفروا ويخرجوا إليه، كما أوجب اللّهُ ذلك عليهم في كتابه.

ومعنى البدء في الصلاة يوم العيدين قبل الخطبة، خلاف الجمعة، أنّالخروج إلى العيدين مَثلُ الخروج إلى جهاد العدو، واستقبال القبلة في الصلاة مَثَلُ استقبال الاِمام بالطاعة والسمع له وذكرنا أنّ مثل الخطبة من الخطيب مثلُ التوقيف من الداعي مَنْ يدعوه على ما يأمره به، فكان مَثَلُ الاِبداء بالصلاة في العيدين مَثلُ إقبال الخارجين إلى جهاد الاَعداء في

حين خروجهم على إمامهم، والسّمع منهم والطاعة لما به يأمرهم، وما عليه يرتِّبهم ويقيمهم وفي مقاماتهم، فذلك مَثلُ الصلاة وبه يبتدىَ، ومثل الخطبة بعد ذلك مثل تحريض الاِمام

____________

1. المصدر نفسه:269.

( 281 )

الموَمنين على الجهاد، وأمره ونهيه إيّاهم في ذلك، بما يأمرهم به، وينهاهم عنه، ولذلك كان في خطبة العيدين الاَمر بالجهاد وبطاعة الاِمام، والتوبيخ على التقصير في العمل. (1)

هذه نماذج من تأويلات الاِسماعيليّة، في مجال الاَحكام الشرعيّة، ومن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع _ مضافاً إلى كتاب تأويل الدعائم _ إلى كتاب «وجه دين» للرحالة ناصر خسرو (394_471 أو 481ه_)، فقد قام بتأويل ما جاء من الاَحكام في غير واحد من الاَبواب، حتى الحدود والدّيات، والنكاح، والسفاح،و لكنّه ألّفه بلغة فارسية قديمة، فعلى من يريد المزيد من الاطلاع فليرجع إلى ذلك الكتاب، وقد طبع عام 1397ه_ طبعة أنيقة.

____________

1. تأويل الدعائم:1|323 _ 324.

الفصل الثالث عشر

الفصل الثالث عشر

في

أعلام الفكر الاِسماعيلي

( 284 )

( 285 )

ظهر المذهب الاِسماعيلي على الساحة الاِسلاميّة بطابَع دينيّ بحت، مدّعياً استمرار الاِمامة، المتجسّدة في إسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل، ولمّا اشتدَّ سلطانهم بقيام دولة لهم في شمال إفريقية، في بلاد المغرب، ومصر، ظهرت بينهم شخصيات بارزة في حقول السياسة والفلسفة والفقه والحديث والاَدب وغيرها، وبما أنّ دراسة سيرتهم وما قدموه من تراث للمجتمع الاِسلامي خارج عن موضوع كتابنا، لاَنّه رهن دراسة تاريخ الدولة الفاطميّة؛ فلنقتصر على ترجمة لفيف من أعلامهم ومفكّريهم، مِمّن كان لهم دور في نضج المذهب وتكامله وانتشاره.

1

أحمد بن حمدان بن أحمد الورثنياني

(أبوحاتم الرازي)

(260_322ه_)

أحمد بن حمدان بن أحمد الورثنياني الليثي (أبوحاتم الرازي) من زعماء الاِسماعيليّة وكُتّابهم، أوّل من ترجمه هو الصدوق في «تاريخ الري» حسب ما نقله ابن حجر في «لسان الميزان»، قال:

ذكره

أبو الحسن ابن بابويه في «تاريخ الري»، وقال: كان من أهل الفضل والاَدب، والمعرفة باللغة، وسمع الحديث كثيراً، وله تصانيف؛ ثمّ أظهر القول بالاِلحاد وصار من دعاة الاِسماعيليّة، وأضلّ جماعة من الاَكابر ومات في سنة

( 286 )

322ه_. (1)

و نقل صاحب الاَعيان عن الرياض ما هذا لفظه: كان من القدماء المعاصرين للصدوق، له كتاب الرد على محمد بن زكريا الطبيب الرازي في الاِلحاد وإنكار النبوة. (2)

وقال مصطفى غالب: كان داعياً كبيراً لبلاد الري وطبرستان وآذربيجان، وقد استطاع أن يُدخل أمير الري في المذهب الاِسماعيلي وكان من كبار دعاة القائم بأمر اللّه، ونوَكّد أنّه لعِب دوراً عظيماً في شوَون طهران والديلم والري، السياسيّة، فاستجاب لدعوته أعظم رجالات تلك البلاد، وله موَلفات عظيمة منها:

1. كتاب «الزينة»: كتاب في الفقه والفلسفة الاِسماعيليّة.

2. «أعلام النبوة»: كتاب يبحث في الفلسفة الاِسماعيليّة.

3. «الاِصلاح»: كتاب يبحث في التأويل.

4. «الجامع» كتاب في الفقه الاِسماعيلي. (3)

والحقيقة فإنّ أبا حاتم الرازي كان علماً من أعلام النهضة العلميّة عند الاِسماعيليّة،وقد ساهم بنشر التعاليم الفلسفيّة في كافّة الاَقطار الشرقيّة، وخاصّة في محيط الثقافة الاِسلاميّة العامّة، وبالرغم من كلّ هذا فإنّه لم يَسلم من اضطهاد الاَعداء في الديلم، وقد اضطر إلى الاختفاء في أواخر سني حياته، ومات سنة 322ه_ بعد تولية القائم الفاطمي شوَون الاِمامة الاِسماعيليّة، في بلاد المغرب، وقد عمّر اثنين وستين عاماً، كما قال بعض الموَرخين.

كان معاصراً لاَبي بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور، وصاحب

____________

1. لسان الميزان:1|164.

2. الاَمين العاملي: أعيان الشيعة:2|583، ولم نعثر على النص في رياض العلماء المطبوع.

3. مصطفى غالب: تاريخ الدعوة الاِسماعيلية :186.

( 287 )

الآراء الفلسفيّة المعروفة، التي خرج فيها على كثير من نظريات أرسطو الطبيعية والميتا فيزيائية، منكراً التوفيق بين الفلسفة والدين، معتقداً

بأنّ الفلسفة هي الطريق الوحيد لاِصلاح الفرد والمجتمع.

وقد دارت بينهما (أي بين الرازيين) مناقشات عنيفة ومتعددة، حضرها بعض العلماء والروَساء السياسيين، وقد دوّن أبو حاتم هذه المناقشات في كتابه «أعلام النبوة». (1)

وإليك كلاماً حول كتابه «أعلام النبوة»، فالكتاب يصوّر لنا معركة فكريّة عقائديّة بين رازيين، هما: أبو حاتم الداعي المتكلم الاِسماعيلي، ومحمد بن زكريا الطبيب المتفلسف حيث تعددت اللقاءات بينهما، ودار النقاش حول مواضيع شتى في جوانب الثقافة الاِسلاميّة، من عقائد فلسفيّة وكلام وطب وصيدلة وهيئة، وما إلى ذلك.

إنّ اختلاف الرأي بين الرجلين في هذه الجوانب لم يكن إلاّ مظاهر متعددة لاختلاف أساسي واحد بينهما في الرأي حول العقل الاِنساني، وتكليفه وحدود إمكانه من جانب،والنبوّة والضرورة إليها من جانب آخر. (2)

والكتاب جدير بالمطالعة وقد بدأ الموَلف كتابه بقوله:

ناظرني «الملحد» في أمر النبوّة وأورد كلاماً نحو ما رسمه في كتابه الذي قد ذكرناه فقال:

«من أين أوجبتم أنّاللّه اختصَّ قوماً بالنبوّة دون قوم، وفضلهم على الناس،وجعلهم أدلّة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك ويشلي بعضهم على بعض، ويوَكد بينهم العداوات

____________

1. كتاب الرياض: 8_ 9 المقدمة بقلم عارف تامر.

2. أبو حاتم الرازي: أعلام النبوة:4، المقدمة بقلم صلاح الصاوي.

( 288 )

ويكسر المحاربات ويهلك بذلك الناس؟!». (1)

ثمّذكر المناظرة.

وترجمه ابنُ النديم في «الفهرست»، وقال: وله من الكتب «كتاب الزينة» نحو 400 ورقة وكتاب «الجامع » وفيه فقه. (2)

2

محمد بن أحمد النسفي البردغي(النخشبي)

( ... _ 331ه_)

كان كبير دُعاة خراسان وتركستان، استطاع أن يدخل في المذهب الاِسماعيلي الكثيرين، من أهل تلك البلاد، اشتهر في تعمّقه بدراسة فلسفة المذهب الاِسماعيلي؛ ومن أشهر موَلفاته:

1. كتاب «المحصول» يتألّف من 400 صفحةجلّها في الفلسفة الاِسماعيليّة.

2. «كون العالم».

3. كتاب «الدعوة

الناجية».

4. كتاب «أُصول الشرع» يبحث في الفقه الاِسماعيلي، وفلسفة ما وراء الطبيعة.

توفي هذا الداعي سنة 331ه_. (3)

____________

1. أبو حاتم الرازي: أعلام النبوة:1، وطبع الكتاب في طهران عام 1397ه_ وترجمه خير الدين الزركلي و لم يأتي بشيء يذكر لاحظ الاَعلام:1|119.

2. ابن النديم: الفهرست:282.

3. تاريخ الدعوة الاِسماعيليّة:186_187، وقد ذكره باسم عبد اللّه بن أحمد النسفي البردغي، وجاء في مقدمة كتاب الرياض، للكرماني، باسم محمد بن أحمد النسفي، والمقدمة لعارف تامر.

( 289 )

يقول عارف تامر: إنّ أوّل جَدَل فَتح للاِسماعيليّة الآفاق الجديدة، ظهورُ كتاب «المحصول»، وهذا الكتاب وضع موضع التداول في بداية القرن الرابع الهجري، وينسب إلى الداعي السوري الاَكبر «محمد بن أحمد النسفي» الذي كان له الفضل بتحويل مذهب الدولة السامانية في آذربيجان إلى الاِسماعيليّة، وقد أُعدم سنة 331 ه_، كما جاء في كتاب «الفرق بين الفرق» لموَلفه عبد القاهر البغدادي. (1)

وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أنّ النسفي خلف، الحسين بن علي المروزي في خراسان، الذي مات في حبس نصر بن أحمد،و استغوى نصر بن أحمد وأدخله في الدعوة الاِسماعيليّة، وأغرمه دية المروزي، وزعم أنّه ينفذها إلى صاحب المغرب القيّم بالاَمر. فلحق نصر سقمٌ طرحه على فراشه، وندم على إجابته للنسفي، فأظهر ذلك ومات.

فجمع ابنه نوح بن نصر الفقهاء وأحضر النسفي، فناظروه وهتكوه وفضحوه، فقتل النسفي، وروَساء الدعاة ووجوهها من قواد نصر، ممن دخل في الدعوة ومزقهم كل ممزق. (2)

3

أبو يعقوب السجستاني

( 271_ وكان حيّاً عام 360ه_)

أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجزي أو السجستاني، ولد عام 271 ه_ في سجستان، وهي مقاطعة في جنوب خراسان يمتُّ بصِلة النسب إلى أُسرة فارسيّة،

____________

1. عارف تامر: كتاب الرياض:6، قسم المقدمة.

2. ابن النديم: الفهرست :239.

( 290 )

وقيل أنّه من أصل

عربي، جاء جدُّه من الكوفة، وقطن في سجستان.

نشأ السجستاني في مدارس الدعوة الاِسماعيليّة في اليمن، وأسهم مساهمة فعّالة في المناظرات العلميّة التي كانت تجري في ذلك العصر. (1)

يقول عنه الكاتب الاِسماعيلي عارف تامر: يعتبر أبو يعقوب إسحاق السجستاني (السجزي) في طليعة العلماء الذين كرّسوا أنفسهم لوضع قواعد فلسفيّة كونيّة قائمة على دعائم فكريّة عقائديّة إسماعيليّة، ونشرها وتعميمها في الاَقطار الاَُخرى، حتى اتّهم في أواخر حياته، بالكفر والاِلحاد، من الجمهور، ثمّ قتل أخيراً.

وقد لعب السجستاني دوراً هامّاً في مجال الفلسفة في القرن الثالث للهجرة، وقد ظهر أثره الفكري في تلميذه حميد الدين الكرماني (حجة العراقين) الذي سار على منهاجه، ودعا إلى تعاليمه.

عاصر الدعوة الاِسماعيليّة الباطنيّة في عصر الظهور أي ابان ازدهار الدولة الفاطميّة وظهورها كدولة إسلاميّة ذات كيان حضاري، وعلمي، واجتماعي، وسياسي. (2)

كتب كتاب «النصرة» الذي عارض فيه كتاب «الاِصلاح» الذي وضعه أبو حاتم الرازي في الرد على آراء النسفي التي وردت في كتابه«المحصول» وبذلك انتصر للنسفي على الرازي.

وقام الكرماني إلى تأليف كتابه «الرياض» بتقريب وجهات النظر بين الدعاة المتجادلين (النسفي، الرازي، السجستاني).

ترك السجستاني بعده موَلفات علميّة فلسفيّة عددها ينوف على الثلاثين

____________

1. مصطفى غالب: مقدمة الينابيع:46.

2. عارف تامر: مقدمة كتاب الرياض:10، نقل بتصرف.

( 291 )

ولعل أشهر كتبه:

1. كتاب النصرة، 2. كتاب الافتخار، 3. كتاب المقاليد، 4. كتاب مسيلة الاَحزان، 5. كتاب سلم النجاة، 6. كتاب سرائر المعاد والمعاش، 7. كتاب كشف المحجوب، 8. كتاب الوعظ، 9. كتاب أُسس البقاء، 10، كتاب خزانة الاَدلة، 11. كتاب تآلف الاَرواح، 12. كتاب تأويل الشريعة، 13. كتاب أساس الدعوة، 14. رسالة تحفة المستجيبين، 15. كتاب الينابيع (1)

وقد وقفنا من كتبه على كتاب ورسالة فالكتاب تحت عنوان «الينابيع» بتقديم وتحقيق مصطفى

غالب، نشره المكتب التجاري للطباعة في لبنان _ بيروت عام 1965 م.

و قد قسم السجستاني ينابيعه إلى أربعين يُنبوعاً، جعل كلَّ ينبوع مشابهاً لحدِّ من الحدود الدينيّة، المعروفة بالنظام الاِسماعيلي. ويظهر أنّه قد وضعه لطبقة خاصّة من الدعاة، وأصحاب المراتب العليا في الدعوة، وإلى الذين وصلوا في دراساتهم الفلسفيّة إلى الذروة.

و أمّا الرسالة فهي رسالة «تحفة المستجيبين» طبعت ضمن خمس رسائل إسماعيليّة بتحقيق وتقديم عارف تامر عام 1375ه_. كتبها لطبقة المستجيبين والطلاب الذين يرغبون في الاطلاع على الفلسفة الاِسماعيليّة، أو الدخول في الدعوة الهادية.

وقد ترجم له مصطفى غالب أيضاً في تاريخ الدعوة الاِسماعيلية ص 187.

ولادته ووفاته

ذكر مصطفى غالب أنّه ولد سنة 271ه_ في سجستان، ثمّ قال: وبعد اضطهاد مرير، قُتل في تركستان عام 331ه_.

____________

1. مقدمة الينابيع: 47.

( 292 )

غير أنّ الكاتب الاِسماعيلي عارف تامر يذكر خلاف ذلك ويقول: يذهب «ماسينيون» و«و.ايفانوف» إلى القول أنّه مات سنة 331ه_، ولكنّي أخالفهما في ذلك فالمعروف عن السجستاني أنّه كان أُستاذاً للكرماني، والكرماني ظل عائشاً حتى سنة 411ه_، إذن متى أخذ الكرماني عنه علوم الدعوة؟ وهناك نص صريح في كتاب «الافتخار» للسجستاني يذكر فيه أنّه وضعه سنة 360ه_، وقد ورد ذكر كتاب «الافتخار» في كتاب «الرياض» للسجستاني نفسه، أي أنّالسجستاني وضع كتاب «الرياض» بعدكتاب «الافتخار» أي سنة 360ه_.

وهذا يجعلنا نقول بل نوَكد: إنّ السجستاني كان داعياً في منطقة بخارى أيّام إمامة المعز لدين اللّه الفاطمي، أي انّه كان معاصراً لجعفر بن منصور اليمني، وللقاضي النعمان وغيرهما، من كبار الموَلفين وعلماء الدعوة في ذلك العصر العلمي الزاهر. (1)

وقال البغدادي عند البحث عن الباطنيّة: وظهر بنيسابور داعية لهم يعرف بالشعراني، وقتل بها في ولاية أبي بكر بن الحجاج عليها، وكان الشعراني

قد دعا الحسين بن علي المروزي، وقام بدعوته بعده محمد بن أحمد النسفي داعية أهل ماوراء النهر، وأبو يعقوب السجزي المعروف ب_«بندانه» وصنف النسفي لهم كتاب «المحصول» وصنف لهم أبو يعقوب كتاب «أساس الدعوة» وكتاب «تأويل الشرائع» و«كشف الاَسرار» وقتل النسفي والمعروف ب_ «بندانه» على ضلالتهما. (2)

وقال خير الدين الزركلي: إسحاق بن أحمد السجزي أو السجستاني أبو يعقوب، من علماء الاِسماعيليّة ودعاتهم يماني، اشتهر في سجستان، وقتل في تركستان، له تصانيف منها «الينابيع» قالوا: إنّه أهمُّ كتبهم. (3)

____________

1. عارف تامر: مقدمة خمس رسائل إسماعيلية:15_ 16.

2. البغدادي: الفرق بين الفرق:283.

3. خير الدين الزركلي: الاَعلام: 1|293.

( 293 )

4

أبوحنيفة النعمان

(..._363ه_)

قاضي القضاة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد التميمي، واختلف في تاريخ ولادته، فقال بعضهم: إنّها سنة 259ه_ وقال آخرون: إنّه ولد في العشر الاَخيرة من القرن الثالث.

إتّصل في أوّل عهده بموَسس الدولة الفاطمية عبيد اللّه المهدي، ورافق الدولة الجديدة خطوةً فخطوة، وبعد وفاة المهدي ولاّه «القائم بأمر اللّه» قضاء طرابلس الغرب، وفي عهد المنصور تولّى قضاء المنصورية، وكان قضاوَه يشمل سائر المدن الاِفريقيّة، مرجعاً لجميع القضاة حتى عهد المعز لدين اللّه الذي قرّبه إليه، وأدناه من مجلسه، فوضع فيه كتاب «المجالس والمسامرات».

ولما دخل المعز مصر، كان معه «النعمان» وكان قاضياً للجيش، فأصبح في مصر قاضياً للقضاة. (1)

وكان محط ثقة المعز لدين اللّه، جعله مستشاراً قضائياً له، وساعد المعز في المسائل الخاصّة بالدعوة، فقد وضع أُسس القانون الفاطمي، وينظر إليه على أنّه المشرع الاَكبر للفاطميين. يقول رواة الفاطميين: إنّه لم يوَلف شيئاً دون الرجوع إلى المعز لدين اللّه، ويعتبر أقوم كتبه كتاب «دعائم الاِسلام» أنّه من عمل المعز نفسه، وليس من عمل قاضيه الاَكبر، ولهذا كان هذا الكتاب

هوالقانون الرسمي منذ عهد المعز حتى نهاية الدولة الفاطميّة، كما يتضح ذلك من رسالة كتبها الحاكم بأمر

____________

1. أعيان الشيعة:10|223.

( 294 )

اللّه إلى داعيه باليمن، بل لا يزال هذا الكتاب هوالوحيد الذي يسيطر على حياة طائفة البهرة في الهند، وعليه المعول في أحوالهم الشخصيّة. (1)

توفي النعمان أوّل رجب سنة 363ه_ فخرج المعز يبين الحزن عليه، وصلّى عليه، وأضجعه في التابوت، ودفن في داره بالقاهرة (2)وذكر أحمد بن محمد بن عبد اللّه الفرغاني في «سيرة القائد جوهر» أنّه توفي في ليلة الجمعة سلخ جمادى الآخرة من السنة. (3)

بلغت موَلّفاته نحواً من سبعة وأربعين كتاباً، جمعت ألواناً شتى من العلوم في فقه، وتأويل وتفسير، وأخبار، وفيما نقل ابن خلكان عن ابن زولاق:«انّه ألّف لاَهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف».

وهذه الموَلفات بعضها محفوظ، وبعضها لا يوجد إلاّ بعض أجزائه وبعضها فُقد فلا يعرف إلاّاسمه، وإليك أسماء بعض تلك الموَلفات:

1. جزء من كتاب شرح الاَخبار ، في مكتبة برلين.

2. دعائم الاِسلام، وهذا الكتاب من أهم كتبه، مطبوع.

3. تأويل دعائم الاِسلام، مطبوع.

4. أساس التأويل، مطبوع.

5. جزء من كتاب المجالس والمسافرات.

6. كتاب الهمة في اتّباع الاَئمّة.

7. إفتتاح الدعوة، مطبوع.

8. الارجوزة المختارة، مطبوع.

9. الطهارة.

____________

1. دعائم الاِسلام: 1|12، قسم ا لمقدمة.

2. اتعاظ الحنفاء: 1|149.

3. ابن خلكان: وفيات الاَعيان:5|416.

( 295 )

10. التوحيدوالاِمامة. (1)

11. كتاب «الاقتصار» في الفقه، مطبوع.

12. كتاب «الاَخبار» في الفقه أيضاً.

13. ابتداء الدعوة للعبيديين، مطبوع في جزء.

وقال عنه ابن زولاق في كتاب «أخبار قضاة مصر» :إنّه كان عالماً بوجوه الفقه، وعلم اختلاف الفقهاء، واللغة والشعر، والمعرفة بأيّام الناس.

إلى أن قال: وله ردود على المخالفين: له رد على أبي حنيفة، وعلى مالك، والشافعي، وعلى ابن سريج، وكتاب «اختلاف الفقهاء» ينتصر فيه لاَهل

البيت، وله العقيدة الفقهية لقبها ب_ «المنتخبة». (2)

النعمان إسماعيلي لا اثني عشري

وقعت الشكوك حول مذهب النعمان وهل هو إسماعيليّ أو اثنا عشري؟ وبعد التتبع والاِمعان في الكتب التي تحت متناول أيدينا من آثار الموَلف، وهي:

1. الدعائم.

2. تأويل الدعائم.

3. الاَُرجوزة المختارة.

4. أساس التأويل.

5. كتاب الاقتصار في الفقه.

____________

1. أعيان الشيعة: 10|223.

2. ابن خلكان: وفيات الاَعيان:5|416. ومن أراد المزيد فليراجع المصادر التالية: معالم العلماء:126؛ العبر:2|117؛ دول الاِسلام: 1|224؛ سير اعلام النبلاء:16|150؛ اتعاظ الحنفاء:149؛ لسان الميزان:6|167؛ شذرات الذهب:3|47؛ رياض العلماء:4|375؛ ريحانة الاَدب: 7|73؛ روضات الجنات: 8|147.

( 296 )

6.رسالة افتتاح الدعوة.

7. الرسالة المذهبة.

اتضح أنّ الرجل إسماعيلي لا اثنا عشري، وإن كان محباً لاَهل البيت كثيراً، ويتنزّه عن بعض العقائد المنحرفة عند الاِسماعيليّة. وقد ذكر في باب «ذكر منازل الاَئمّة» شيئاً عن أحوال الغلاة كما وذكرمعاملة علي معهم بالاِحراق، إلى أن يقول: وكان في أعصار الاَئمّة من ولد علي مثل ذلك ما يطول الخبر بذكرهم، كالمغيرة بن سعيد (لعنه اللّه) وكان من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي ودعاته.

إلى أن قال: ولعن أبو جعفر ، المغيرة وأصحابه، ثمّ ذكر «أبا الخطاب» وعقيدتهم الاِباحيّة،وأنّ أبا جعفر لعنه كل ذلك يدل على سلامة عقيدته في حقّ الاَئمّة (1).

ومع ذلك كلّه فهو فقيه إسماعيلي اعتنق ذلك المذهب بعدما كان سنيّاً، ولم يكن إمامياً اثني عشرياً.

نعم ذكر المحدّث النوري، أنّالرجل كان إماميّاً اثني عشريّاً، وأنّ اقتصاره على الحديث عن الاَئمّة الست، لاَجل ستر الاَمر وكتمان السر، واستشهد على ذلك بوجوه غير مجدية نشير إلى بعضها:

الاَوّل: قال ابن خلكان: كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل، على مالا مزيد عليه، وله عدّة تصانيف _ إلى أن قال _: وكان مالكي المذهب ثمّ انتقل إلى مذهب الاِماميّة

وصنف كتاب «ابتداء الدعوة للعبيدين». (2)

أقول: إنّ المراد من الاِماميّة من يعتقد بإمامة علي وأولاده، سواء كان زيدياً أو إسماعيليّاً أو اثني عشرياً، والاِسماعيليّة يصفون أنفسهم بالاِماميّة لقولهم بإمامة

____________

1. لاحظ دعائم الاِسلام: 1|45، باب ذكر منازل الاَئمة.

2. وفيات الاَعيان: 5|415 برقم 766.

( 297 )

المنصوص عليهم؛ والذي يدل على ذلك أنّابن خلكان يذكر بعد قوله: «ثمّ انتقل إلى مذهب الاِماميّة» وصنف كتاب «ابتداء الدعوة للعبيديين» والمراد منه الدعوة «لعبيداللّه المهدي» موَسس الدولة الفاطميّة في المغرب ومصر.

وأمّا ما نقله ابن خلكان عن ابن زولاق، انّه قال: وللقاضي كتاب: «اختلاف الفقهاء» ينتصر فيه لاَهل البيت فليس دليلاً على ما يتبنّاه لاَنّ الفرق الثلاث كلّهم ينتمون إلى أهل البيت - عليهم السّلام- .

الثاني:

1. روايته عن أبي جعفر الثاني «الاِمام الجواد» - عليه السّلام- ، والرضا - عليه السّلام- ففي كتاب الوصايا عن ابن أبي عمير أنّه قال: كنت جالساً على باب أبي جعفر - عليه السّلام- إذ أقبلت امرأة، فقالت: استأذن لي على أبي جعفر - عليه السّلام- ،فقيل لها: وما تريدين منه؟قالت: أردت أن أسأله عن مسألة ، قيل لها: هذا الحكم، فقيه أهل العراق فاسأليه.

قالت: إنّزوجي هلك وترك ألف درهم،و كان لي عليه من صداق خمسمائة درهم، فأخذت صداقي،و أخذت ميراثي، ثمّجاء رجل فقال لي: عليه ألف درهم وكنت أعرف له ذلك، فشهدت بها.

فقال الحكم: اصبري حتى أتدبر في مسألتك وأحسبها وجعل يحسب، فخرج إليه أبو جعفر - عليه السّلام- وهو على ذلك، فقال: ما هذاالذي تحرك أصابعك يا حكم؟ فأخبره فما أتم الكلام حتى قال أبوجعفر - عليه السّلام- : أقرت له بثلثي ما بيديها، ولا ميراث له حتى تقضي.

ثمّ ذكر المحدّث النوري: أنّ المراد من

أبي جعفر هو الاِمام الجواد، لاَنّ ابن أبي عمير لم يدرك الصادق فضلاً عن الباقر - عليه السّلام- . (1)

____________

1. النوري: المستدرك:3|314، الفائدة الثانية.

( 298 )

أقول: إنّالنسخة الموجودة عند المحدّث النوري كانت مغلوطة محرّفة، وقد جاءت الرواية في كتاب دعائم الاِسلام في مصر بتحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، بالنحو التالي: عن الحكم بن عيينة (1) قال: كنت جالساً على باب أبي جعفر وذكر الحديث (2)

والشاهد على أنّالجالس كان هو الحكم بن عتيبة لا ابن أبي عمير ما في متن الرواية حيث قيل لها: هذا الحكم فقيه أهل العراق.

2. انّه روى في كتاب الميراث عن حذيفة بن منصور قال: مات أخ لي وترك ابنته فأمرت إسماعيل بن جابر أن يسأل أبا الحسن عليّاً _ صلوات اللّه عليه _ عن ذلك فسأله فقال: المال كلّه للابنة. (3)وقد تصفحنا كتاب الفرائض من الدعائم المطبوع بمصر فلم نعثر على الحديث. (4)

3. روى في كتاب الوقوف عن أبي جعفر محمد بن علي عليمها السّلام أنّبعض أصحابه كتب إليه أنّ فلاناً ابتاع ضيعة وجعل لك في الوقف الخمس الخ.

وهذا الخبر مروي في الكافي و التهذيب والفقيه مسنداً عن علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي جعفر الخ، وعلي بن مهزيار من أصحاب الجواد والرضا عليمها السّلام لم يدرك قبلهما من الاَئمّة أحداً. (5)

ما نقله عن علي بن مهزيار، و رواه الكليني في كتاب الوصايا (6) ورواه

____________

1. الصحيح، ا لحكم بن عتيبة، (47 _ 115 ه_) وهو من مشاهير فقهاء عصر أبي جعفر الباقر - عليه السّلام- . راجع رجال الكشي:177، ورجال الطوسي: 86 برقم 6.

2. دعائم الاِسلام: 2|360 برقم 1309.

3. المستدرك:3|314.

4. لاحظ الدعائم:2|365_400.

5. المستدرك: 3|314.

6. الكافي:7|36 برقم30.

( 299 )

الشيخ في

التهذيب (1)ورواه الصدوق في الفقيه. (2)

هذا في كتبنا وأمّا الدعائم، فقد رواه في كتاب الصدقة، بالنحو التالي:

عن أبي جعفر محمد بن علي عليمها السّلام ، أنّه قال: تصدَّق الحسين بن علي بدار، فقال له الحسن بن علي: تحوّل عنها.

وعنه أنّ بعض أصحابه كتب إليه: أنّفلاناً إبتاع ضَيعةً فأوقفها، وجعل لك في الوقف الخمس ... . (3)

غير أنّالمتبادر من أبي جعفر بقرينة مضمون الحديث حيث يحكي فعل الحسن بن علي هو الاِمام الباقر - عليه السّلام- ، وهو في كتابه يكرر النقل عن أبي جعفر ويذكر اسمه بعده، ويقول: محمد بن علي، ومراده الاِمام الباقر - عليه السّلام- .

وعلى ذلك فالضمير في الحديث الثاني يرجع إلى الاِمام الباقر.

نعم بقي هنا شيء وهو تقارب ما روي في الدعائم مع ما روي في جوامعنا في مضمون الخبر،و هو قابل للتأمّل.

4. ذكر في الدعاء بعد الصلاة:و روينا عن الاَئمّة، أنّهم أمروا بالتقرّب بعد كلّ صلاة فريضة، إذا سلّم المصلي بسط يديه ورفع باطنهما، ثم قال: اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بمحمد رسولك ونبيك، وبوصيّه علي وليّك، وبالاَئمّة من ولده الطاهرين، الحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد ويُسمّي الاَئمة إماماً إماماً إلى أن ينتهي لاِمام عصره.

ثمّ يقول: اللّهمّ إنّي أتقرّب إليك بهم. (4)

____________

(1) 1 . التهذيب:9|130 برقم 4.

2. الفقيه:4|178 برقم 628.

3. دعائم الاِسلام:2|344.

4. دعائم الاِسلام: 1|171.

( 300 )

قال النوري: غير خفي على المنصف أنّه لو كان إسماعيلياً، لذكر بعده إسماعيل بن جعفر بن محمد بن إسماعيل إلى إمام عصره المنصور باللّه والمهدي باللّه. (1)

أقول: إنّه لم يذكر أسماءهم إمّا لكثرتهم، أو لاِخفاء سرّهم كما ذكره في منظومته، فيقول:

ولم يكن يمنعني من ذكرهم * إلاّ احتفاظي بمصون

سرّهم

وليس لي بأن أقول جهراً * ما كان قد أُدِّي إليَّ سِرّا

وهم على الجملة كانوا استتروا * و لم يكونوا إذ تولوا ظهروا

بل دخلوا في جملة السواد * لخوفهم من سطوة الاَعادي

حتى إذا انتهى الكتاب أجله * وصار أمر اللّه فيمن جعله

بمنه مفتاح قفل الدين * أيّده بالنصر والتمكين

فقام عبد اللّه وهو الصادق * مهدينا صلى عليه الخالق (2)

إلى آخر ما ذكره، ومراده من المهدي، هو عبيد اللّه المهدي.

إلى هنا تبيّن أنّه لا دليل على كون الرجل اثني عشرياً إلى آخر عمره، أو كان اثني عشرياً، وعدل عنها إلى الاِسماعيليّة.

نعم بقي هنا شيء وهو أنّه ذكر في كتاب «الارجوزة المختارة» فرق الشيعة، وردَّ على الرونديّة، والزيديّة، والجاروديّة، والبتريّة، والمغيريّة، والكيسانيّة، والكربيّة، والبيانيّة، والمختارية والحارثيّة، والعباسيّة، والرزاميّة، ولم يذكر شيئاً ما عن الاِماميّة الاثني عشريّة.

____________

1. المستدرك:3|317.

2. الارجوزة المختارة:192.

( 301 )

و يقول:

وهذه أُصول قول الشيعة * ولو حكيت معها فروعه

لاتّسع القول بغير فائدة * و كانت الحجة فيه واحدة (1)

وهذا من العجب، مع أنّالاثني عشريّة، من أشهر الفرق، وهذا يدفعنا إلى القول، بأنّه كان يميل إليها بعض الميل، واللّه العالم.

نظرة في كتاب الدعائم

نرى في كتاب الدعائم أنّقاضي القضاة حفظ السنة المرويّة عن طريق أئمّة أهل البيت، وأنّه أكثر الرواية عن الصادقين عليمها السّلام ، غير أنّه لم تكن له صلة بعلماء المذهب الاثني عشري، ولذلك خالفهم في نفس كتاب الاِرث في موارد عديدة:

1. ممّا روي عن علي أنّه قضى في رجل هلك، ولم يخلّف وارثاً غير امرأته، فقضى لها بالميراث كلّه. وفي امرأة هلكت ولم تدع وارثاً غير زوج لها، فقضى له بالميراث كلّه.

فزعم أنّه يخالف ظاهر نص الكتاب، وثابت السنة. (2)

2. ما روي عن أبي جعفر

وأبي عبد اللّه، أنّهما قالا: لا يرث النساء من الاَرض شيئاً، وإنّما تعطى المرأة قيمة النقض.

قال: فهذا أيضاً لوحمل على ظاهره وعلى العموم، لكان يخالف كتاب اللّه

____________

1. الارجوزة المختارة:236.

2. دعائم الاِسلام:2|393.

( 302 )

جلّذكره، والسنّة وإجماع الاَئمّة والاَُمة. (1)

وما روي عن أئمّة أهل البيت، في عدم إرث النساء من الاَرض، مُخصص للقرآن والسنّة، وليس مخالفاً؛ والمخالف هو المتباين.

كما أنّ الردّ مازاد على الثمن والربع، في الفرع الاَوّل إلى الزوج والزوجة، لا يُعدّ مخالفاً للكتاب، لاَنّالكتاب ساكت عن حكم مازاد على الفريضة.

نعم نسب إليه المحدّث النوري، أنّه ممّن يُحرّم المتعة ولكنّالوارد في النسخة المطبوعة خلافه، قال القاضي: عن جعفر بن محمد، أنّه قال: إذا تزوّج الرجل المرأة بصداق إلى أجل، فالنكاح جائز، ولكن لابدّأن يعطيها شيئاً قبل أن يدخل بها، فيحل له نكاحها، ولو أن يعطيها ثوباً أو شيئاً يسيراً، فإن لم يجد شيئاً، فلا شيء عليه، وله أن يدخل بها، ويبقى الصداق ديناً عليه.

(2)

و في خاتمة المطاف: من طالع كتبه التي أومأنا إليها، يقف على أنّ الرجل فقيه إسماعيليّ، يدافع عن المذهب، وخلافة الخلفاء الفاطميين بحماس، خصوصاً في كتابه «افتتاح الدعوة في ظهور الدعوة العبيدية الفاطمية».

5

أحمد بن حميد الدّين بن عبد اللّه الكرماني

(352_ كان حيّاً سنة 411ه_)

حميد الدّين ، أحمد بن عبد اللّه الكرماني الداعي في عهد الحاكم باللّه (375_ 411ه_) والملقّب بحُجّ_ة العراقين، وكبير دعاة الاِسماعيليّة في جزيرة

____________

1. دعائم الاِسلام: 2|396.

2. دعائم الاِسلام:2|225 برقم 844.

( 303 )

العراق، وصاحب التآليف العديدة في المذهب الاِسماعيلي وإثبات الاِمامة للفاطميين، والردّ على مخالفيهم.

«ظهر أثره وعظم شأنه في عهد الخليفة الفاطمي «الحاكم بأمر اللّه» وكان لقبه المشهور «حجّة العراقين» أي أنّه كان مسوَولاً عن شوَون الدعوة الثقافيّة في فارس والعراق،

وفي القاهرة كان مركزه كمقام (حجّة جزيرة) فهو أحد الحجج الاثني عشر، المكلّفين بإدارة شوَون الدعوة الاِسماعيليّة في العالم، ثمّاستخدم بعد ذلك كرئيس لدار الحكمة في القاهرة، وهي الموَسسة الثقافيّة التي نستطيع أن نقول عنها: إنّها أوّل جامعة انشئت في العالم.

وفد على القاهرة سنة 408ه_، بناءً على طلب المأمون افتكين الضيف داعي دعاة الدولة الفاطميّة في عهد الحاكم بأمر اللّه، عندما حَمي وطيس المعارك الدينيّة، وقامت الدعوات الجديدة وراج سوق البدع التي كانت تهدف إلى الغلو والانحراف عن واقع وأُسس الدعوة.

ألّف كثيراً من الكتب أشهرها: «الرسالة الواعظة» في الردّ على الحسن الفرغاني، القائل بإلوهيّة الحاكم بأمر اللّه، و«البشارات» و«المصابيح» و«الرسالة المضيئة» و«المصابيح في إثبات الاِمامة» و«تنبيه الهادي والمستهدي»و «راحة العقل» و«الرسالة الدرّية» و«رسالة التوحيد في المعاد» و«الاَقوال الذهبية» و«تاج العقول» و«ميزان العقل» و«رسالة المعاد».

(1)وكتاب «الرياض في الحكم بين (الصادين) صاحبي الاِصلاح والنصرة» مطبوع، إلى غيرها من الموَلفات.

و قد ظلت سنة وفاته مجهولة بالرغم من وصول أكثر موَلفاته وآثاره إلينا.

يقول الكرماني عن نفسه في مقدمة كتابه «راحة العقل»: وموَلفه حميد الدين، أحمد بن عبد اللّه الداعي في جزيرة العراق وما وليها، من جهة الاِمام

____________

1. عارف تامر:مقدمة كتاب الرياض: 16_21.

( 304 )

الحاكم بأمر اللّه أمير الموَمنين، المنصوص عليه من جهة القائمين مقام الرسولصلّى الله عليه و آله و سلّم على ما بيّناه في كتبنا المعروفة بكتاب «المصابيح في الاِمامة» و«مباسم البشارات» و«الرسالة الكافية» وكتاب «تنبيه الهادي والمستهدي». ألّفه في سنة إحدى عشرة وأربعمائة (411) في ديار العراق.(1)

وهذا النصّ يدل على أنّه كان حيّاً في تلك السنة.

فما ذكره ايفانوف، من أنّه توفي بعد سنة 408 بقليل ليس تامّاً.

وكتابه «راحة العقل»، من أشهر موَلفاته، وقد حاول فيه أن يوفّق

بين الفلسفة اليونانيّة وما دانت به الاِسماعيليّة. وقد ذكرنا شيئاً من خصوصيات كتابه عند البحث عن عقائد الاِسماعيليّة.

يقول محقق الكتاب: يُعد الكرماني بحق شيخ فلاسفة الاِسماعيليّة فنحن نعلم أنّالدعاة قبله كانوا مختلفين أشدَّ الاختلاف في مسائل كثيرة، فالداعي النخشبي وضع كتابه «المحصول» في فلسفة المذهب، وجاء بعده أبو حاتم الرازي فوضع كتاب «الاِصلاح» وخالف فيه أقوال من سبقه، ثمّ جاء أبو يعقوب السجستاني أُستاذ الكرماني فانتصر للنخشبي، وخالف أبا حاتم، ثمّجاء الكرماني الذي استطاع أن يوفّق بين آراء شيخه، وبين آراء أبي حاتم، ولا نكاد نجد خلافاً يُذكر بين علماء الدعوة الاِسماعيليّة في فلسفة المذهب، بعد أقوال الكرماني، وإن كنّا نجد خلافاً شديداً بينهم في المسائل التأويليّة، لاَنّ التأويل شخصي يختلف باختلاف الداعي، وكل كتب الدعاة بعد الكرماني تتفق مع ما ورد في كتاب «راحة العقل».

(2)

وقد ترجمه مصطفى غالب في كتابه «تاريخ الدعوة الاِسماعيليّة» ضمن ترجمة سيرة الحاكم باللّه، وأنهى كتبه إلى 33 كتاباً، وذكر منها كتاب «الاِصابة في

____________

1. راحة العقل:20، مقدمة التحقيق للدكتور كامل حسين، ومحمد مصطفى حلمي.

2. المصدر السابق:17.

( 305 )

تفضيل علي على الصحابة». (1)

كما وترجمه خير الدّين الزركلي، ولم يأت بشيء جديد.

(2)

6

الموَيّد في الدين

(حدود390_470ه_)

هبة اللّه بن موسى بن داود الشيرازي، الموَيّد في الدّين، داعي الدعاة من زعماء الاِسماعيليّة. ولد بشيراز سنة 390ه_ ونشأ وتعلّم فيها، وكان له و لاَبيه دورٌ هامٌّ في بث الدّعوة الفاطميّة.

وغادر مدينته خوفاً من السلطان أبي كاليجار فخرج متنكراً إلى الاَهواز سنة (329ه_) ثمّ توجّه إلى حلّة منصور بن الحسين الاَسدي. وتوجه إلى مصر، فخدم المستنصر الفاطمي، في ديوان الاِنشاء وتقدّم إلى أن صار إليه أمر الدّعوة الفاطميّة (سنة 450ه_)و لقب بداعي الدعاة، وباب الاَبواب. ثمّنُحّي وأُبعَد إلى

الشام، وعاد إلى مصر فتوفي بها، عن نحو ثمانين عاماً، وصلّ_ى عليه المستنصر.

و قيل: إنّه استطاع أن يدخل الملك أبي كاليجار في المذهب الاِسماعيليّ، كما أدخل غيره من الوزراء و الاَُمراء، وكان يفحمهم ويقنعهم بغزارة علمه، وشدّة معرفته، في أُصول العقائد الاِسماعيليّة، وخاصّة نبوغه في علم التأويل الذي ترتكز عليه العقائد الفلسفيّة الاِسماعيليّة.

عظم أمر الموَيد، في تلك البلاد فسارت سيرته في الآفاق، ولقد استدعي إلى بيت الدعوة في مصر، نحو عام 438، ليلقي بعض المجالس التأويليّة،

____________

1. تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:241_ 243.

2. خير الدين الزركلي: الاَعلام:1|156.

( 306 )

وليتدرب التدريب النهائي على يدي الاِمام، فوصل القاهرة ودخل القصر معززاً مكرماً. (1)

و له تصانيف عديدة منها:

1. المرشد إلى أدب الاِسماعيليّة.

2. المجالس الموَيديّة.

3. السيرة الموَيديّة.

4. ديوان الموَيد في الدّين.

5. أساس التأويل، كتبه بالفارسيّة ترجمه عن العربيّة، وأصل الكتاب للقاضي النعمان.

(2) 6. شرح العماد.

7. جامع الحقائق في تحريم اللحوم والاَلبان.

8. القصيدة الاسكندريّة.

9. تأويل الاَرواح.

10. نهج العبادة.

وله قصيدة يذكر فيها حديث غدير خم نقتطف منها هذه الاَبيات:

لو أرادوا حقيقة الدّين كانوا * تبعاً للذي أقام الرسولُ

و أتت فيه آيةُ النصّ بلغ * يوم «خم» لمّا أتى جبريل

ذاكم المرتضى عليٌّ بحق * فبعلياه ينطق التنزيل

أهلُ بيت عليهم نزل الذكر * وفيه التحريم والتحليل

هم أمان من العمى وصراط * مستقيم لنا وظل ظليل

____________

1. تاريخ الدعوة الاِسماعيلية:250.

2. خير الدين الزركلي: الاَعلام:8|75.

( 307 )

كما وتوجد ترجمة له بقلمه، في كتاب أفرده في سيرته بين سنة 429 وسنة 450،و هو المصدر الوحيد للباحثين عن ترجمته، طبع بمصر في 184 صفحة . وللاَُستاذ محمد كامل حسين المصري، بكلّية الآداب، دراسة ضافية حول حياة المُترجَم، بحث عنها من شتّى النواحي في 186 صفحة، وجعلها مقدمة لديوانه المطبوع بمصر، ففي

الكتابين غنى، وكفاية عن التبسط في ترجمة الموَيد.

(1)

7

ناصر خسرو (الرحالة المعروف)

(394 _ 481ه_)

ناصر بن خسرو، من أحفاد الاِمام علي بن موسى الرضا - عليه السّلام- ،ولد في ذي القعدة عام 394ه_ في قصبة (قباذيان) من أعمال بلخ، وتوفي عام 481ه_، وهو خراساني الاَصل، بلخي المنشأ.

و كانت أُسرته من الاَُسر الغنيّة ، وقد اهتمّ والد المترجم بتربية ابنه وتعليمه، فحفظ القرآن وهو لم يبلغ بعدُ التاسعة من العمر، ودرس اللغة العربيّة وآدابها، والعلوم الاِسلاميّة، وعلوم النجوم والفلك والحساب والهندسة والجبر وتضلع في الفلسفة، إلى أن أُطلق عليه الحكيم.

وكان شاعراً فحلاً في اللغة الفارسيّة، وكان رحّالاً، ترك الاِقامة في موطنه واعتزم القيام برحلات في بعض الاَمصار، قاصداً فيها مكّة، يرافقه أخوه أبو سعيد خسرو العلوي، وغلام هندي، فقد شرع برحلته في شهر شعبان عام 437 ه_ فترك مرو وسافر إلى إقليم آذربيجان مارّاً بنيسابور، فدامغان، فسمنان، فالري، فقزوين،

____________

1. الاَميني: الغدير: 4|304_312.

( 308 )

ثمّ تبريز، وقد وصلها في عشرين صفر عام 438 ه_، وبعد أن أتمّ رحلته عام 444ه_، وقد بلغ من العمر 50 عاماً، وقطع في رحلته هذه التي طالت سبع سنوات، مسافة 2220 فرسخاً _ وبعد أن _ ساقه القضاء إلى مصر، وتوطّدت الصلة بينه وبين الخليفة الفاطمي بمصر، المستنصر باللّه، أبو تميم معد بن علي، الذي حكم مصر من سنة 427ه_ إلى سنة 478ه_، وقد أثرت فيه دعوتهم له، فاعتنق مذهبهم على يد أحد حُجّاب الدعوة في القاهرة، وسمّاه بالباب واجتاز المقامات، والدرجات الخاصّة بكبار قادة هذا المذهب، حتى بلغ درجة الحُجّة، واعتبر أحد الحجج الاثني عشر، في إحدى الجزر الاثني عشر، حسب تقسيمات الفاطميين.

وعاد إلى بلخ، وصار بينه وبين علماء المذهب السني نقاش ومعارضة،

إلى أن هرب من بلخ قبيل سنة (453ه_)، فلم يزل ينتقل من مدينة إلى مدينة، إلى أن انتهى به المطاف سنة (456ه_) إلى مدينة «غاريمكان» الواقعة قرب مدينة بدخشان، وأقام فيها مختفياً إلى أن وافاه الاَجل عام (481ه_) فدفن هناك، وقبره اليوم مزار للاِسماعيليّين.وقد ترك آثاراً كثيرةً نشير إلى بعضها:

1. «زاد المسافرين» الذي انتهى منه في سنة 453ه_، وهو من أضخم موَلفاته.

2. «وجه دين» في عقائد الاِسماعيليّة.

3. «خوان اخوان».

4. «دليل المتحيّرين» الذي أراد أن يثبت فيه أحقّية المذهب الفاطمي.

5. إكسير أعظم في المنطق، أو الفلسفة.

6. «رسالة المستوفي» في الفقه الاِسماعيلي.

(1)

____________

1. أعيان الشيع_ة: 10|202 _ 204، من أراد المزيد فليراج_ع المصادر التالية؛ رياض العلماء:5|232؛ مستدركات علم رجال الحديث:8|55؛ طبقات أعلام الشيعة:2|198؛ الذريعة:21|15؛ معجم الموَلفين:13|70.

( 309 )

8

محمد بن علي بن حسن الصوري

من علماء القرن الخامس

ولد في مدينة صور، وعاش رَدْحاً من الزمن في مدينة طرابلس، داعيّاً للفاطميين. هبط القاهرة في عهد الاِمام المستنصر باللّه الفاطمي (427_487ه_).

صنّف قصائد كثيرة ورسائل عديدة، أشهرها «التحفة الظاهرة» و«نفحات الاَئمّة» وقد رجّح عارف تامر، أنّه مات في حصون الدعوة الاِسماعيليّة الصوريّة بجبال «السماق» بعد تعيينه داعية للمذهب الاِسماعيلي فيها من قبل الاِمام «المستنصر باللّه».

و من أبرز تأليفاته، القصيدة الصورية، وقد ألّفها في عصر ازدهر فيه الاَدب، وبرز إلى ميدان العلم والاَدب ثلّة من العلماء، والاَُدباء، الذين قَدَّموا للمكتبة الاِسلامية العديد من الموَلفات، وجادت قرائح الشعراء بالشعر العربي الفاطمي، الذي كان في ذلك العصر وسيلة من وسائل الدّعاية الدينيّة، وداعياً للتعبير عن التعاليم الفلسفيّة وتعدُّ القصيدة الصورية من أقدم المصادر عن الاِسماعيليّة، ومن أهم الرسائل المعبَّرة عن العقائد الاِسماعيليّة، أو بالاَحرى، من الرسائل التي تُشّكل عنصراً هامّاً في العقائد الباطنيّة،ومرجعاً يرجع إليه عند

اختلاف وجهات النظر، ولذلك فقد تناقلتها الدعاة وحافظوا على سرّيتها وعدم تسرّبها.

وإليك مقاطع من قصيدته يشير فيها إلى تلك العقائد الباطنيّة ، منها:

1. انّ الاَسماء والصفات ليس للّه سبحانه، بل للمبدأ الاَوّل:

( 310 )

والعلم بالتوحيد أسمى العلم * فاصغ لما قد نال منه فهمي

فكلّما يجري على اللسان * من سائر الاَفكار والاَديان

وسائر الاَسماء والصفات * للمُبدع الاَوّل لا للذات

2. توحيده سبحانه:

وسائل يسأل هل هو واحد * أم أَحدُ حتى يصح الشاهد

قلنا له الواحد مبدأ للعدد * والاَحد المبدي له الفرد الصمد

والاَحد المبدع وهو الاَزل * والواحد المبدع وهو الاَوّل

أوّل من قام بتوحيد الاَحد * ودلّ بالعلم عليه من جحد

وصار للاَعداد أصلاً صدرت * عنه ومنه انبجست إذ ظهرت (1)

9

إبراهيم بن الحسين الحامدي

( ... _ 557ه_)

إبراهيم بن الحسين الهمداني الحامدي: من دعاة الاِسماعيليّة وعلمائهم في اليمن، عاصر الدّولة الصليحيّة فحينما قرّرت السيدة الحرّة أروى _ من أميرات الدّولة الصليحيّة _ أن تُفصل الدعوة عن الدّولة فصلاً تامّاً، عقدت موَتمراً لكبار السلاطين والدّعاة لانتخاب من يتولّى رئاسة الدّعوة، فوقع الاختيار على الداعي الذوَيب بن موسى الوادعي الهمداني (520 _ 536ه_) (2)ليتولّى هذه المهمّة.

____________

1. القصيدة الصورية:17، قسم المقدمة.

2. كذا في المصدر ، ولعلّ في التاريخ تصحيف .

( 311 )

وبعد أُفول نجم الدّولة الصليحيّة بوفاة السيّدة الحرّة. أصبحت الدّعوة منظّمة دينيّة بحتة يرأسها الداعي ذوَيب بن موسى، ومن الطبيعي حسب ترتيبات الدّعوة الاِسماعيليّة أن يختار من بين الدعاة داعياً مأذوناً له يساعده في أعماله، فاختار إبراهيم بن الحسين بن أبي السعود الحامدي الهمداني، وهو من كبار الدعاة العلماء الذين أوجدتهم مدارس الدّعوة الاِسماعيليّة المستعلية الطيبية في اليمن.

و لمّا توفي الذوَيب خلفه مأذونه إبراهيم داعياً مطلقاً للاِمام المستور، الطيّب ابن

الآمر في اليمن وما جاورها من البلاد والهند والسند وذلك سنة 536ه_. وجعل الشيخ علي بن الحسين بن جعفر الانف القريشي العبثمي، مأذوناً له، فكان له معاضداً على أمره، قائماً بنشر الدّعوة في سرّه وجهره، ولم يعمّر علي بن الحسين طويلاً فقد وافته المنية في سن_ة 554ه_، فاستعان الحامدي بابنه حاتم، حيث اتخذه مأذوناً له، ونقل مقرّه إلى صَنعاء، ثمّ أعلن عدم تدخله في سياسة الدولة، وواظب على دراسة العلوم،ونقل التراث العلمي الاِسماعيلي،وجمعه وتدريسه للدعاة التابعين لمدرسته، ووزّع الدعاة في بلاد اليمن والهند والسند، وفيه يقول الشاعر الحارثي:

أبا حسن أنقذت بالعلم انفسا * وأمّنتها من طارق الحدثان

فجوزيت بالحسنى وكوفيت بالمنى * ودمت سعيداً في أعزّ مكان

عمرت بصنعا دعوة طيبية * جعلت لها أسّاً وشُدت مباني

من كتبه: «كنز الولد» و«الابتداء والانتهاء»و «كتاب تسع وتسعين مسألة في الحقائق» و«الرسائل الشريفة في المعاني اللطيفة».

وفي عهد هذا الداعي الاَجل تعرضت الدّعوة المستعليّة الطيبية إلى هزّات عنيفة قاسيّة، لاَنّ ملوك آل زريع في عدن مالوا إلى الدعوة المستعليّة المجيديّة،

( 312 )

التي أخذت تنتشر بقوّة في أنحاء اليمن حتى أصبح لها دعاة نشيطون في قلب تنظيمات الدّعوة الطيبية،وفي معاقلها، كحراز، ونجران، واليمن الاَسفل، وكذلك أعلن ملوك همدان الياميون في صنعاء، وبلاد همدان، عن تنصّلهم من جميع الدّعوات والمذاهب.

و مع كلّ هذا فقد ظلّ الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، على إخلاصه للدّعوة الطيبية، مواصلاً نشاطه حتى توفّاه اللّه في صنعاء، في شهر شعبان سنة 557هجرية. (1)

وقد طبع للمترجم له كتاب «كنز الولد» بتحقيق مصطفى غالب عام 1391 ه_ نشرته جمعيّة المستشرقين الاَلمانيّة، والكتاب يتألف من أربعة عشر باباً، وقد استهل المقدّمة على عادة كتّاب العصر، بالاستعانة والتوكل، والشهادة، والسلام، ثمّ يذكر موضوع

الكتاب والاَسباب الداعيّة لتأليفه.

قال: واعلم هداك اللّه لاَوضح المسالك ونجّاك عن المهالك، أنّ لكلّ رابع من الاتماء قوّة وتأييداً، واستطالة وتشديداً. ولكلّ سابع، أعظم وأعلى وأقوم، يقوم مقام النطق، ونحن في دور سابع الاَشهاد، المتوجّه نحوه ملاحم آبائه وأجداده،والاشارات والرموز في أسانيدهم. والبشارات الموصوفة بالبركات والنعم والخيرات بظهور العلوم والمعجزات، وإشراق النور، وبنبوع الاَنهار، وأزهرار الاَشجار، بالخضرة والنوّار، حتى تتصل أنواره بنور القائم - عليه السّلام- على أتمّ تمام وأحسن نظام. (2)

و يظهر منه أنّ الاِمام السابع يقوم مقام النطق، أي يكون مع كونه إماماً، رسولاً ناطقاً فعليه يكون محمد بن إسماعيل مع كونه إماماً سابعاً، رسولاً ناطقاً، بادئاً للدور السابع، وأمّا عدّ نفسه بأنّه في دور سابع الاَشهاد، مع أنّه كان في

____________

1. مصطفى غالب: كنز الولد:31_33، قسم المقدمة؛ الزركلي: الاَعلام:1|36.

2. الحامدي: كنز الولد:5.

( 313 )

الدور الثامن، لاَنّ الدّور السابع ليس لمدّته أمد محدود، كما صرّح به في كتاب «الاِمامة في الاِسلام». (1)

وأمّا فهرس أبواب كتابه هذا، فهي:

الباب الاَوّل : في القول على التوحيد، من غير تشبيه ولا تعطيل.

الباب الثان__ي: في القول على الاِبداع الذي هو المبدع الاَوّل.

الباب الثال__ث: في القول على المنبعثين عن المبدع الاَوّل معاً، وتباينهما.

الباب الراب___ع: في القول على المنبعث الاَوّل القائم بالفعل. وما ذلك الفعل؟

الباب الخام_س: في القول على المنبعث الثاني القائم بالقوّة. وما سبب ذلك؟

الباب السادس: في القول على الهيولى والصورة وما هما في ذاتهما، وسبب تكثفهما وامتزاجهما؟

الباب الساب__ع: في القول على ظهور المواليد الثلاثة: المعدن، والنبات ،و الحيوان.

الباب الثام__ن: في القول على ظهور الشخص البشري أوّلاً، وفي كلّ ظهور بعد وفاء الكور.

الباب التاس__ع: في القول على ظهور الشخص الفاضل من تحت خط الاعتدال.

الباب العاش__ر: في القول على الارتقاء والصعود

إلى دار المعاد إن شاء اللّه تعالى.

الباب الحادي عشر: في القول على معرفة الحدود العلوّية والسفليّة.

الباب الثاني عشر: في القول على الثواب والارتقاء في الدرج إلى الجنّة الدانية والعالية، إن شاء اللّه.

الباب الثالث عشر: في القول على اتصال المستفيد بالمفيد وارتقائه إليه واتّصاله به.

الباب الرابع عش_ر: في القول على العذاب بحقيقته وكيفيته نعوذ باللّه منه.

____________

1. عارف تامر: الاِمامة في الاِسلام: 155.

( 314 )

10

علي بن محمد الوليد

(522_612ه_)

«علي بن محمد الوليد الاَنف العبشي القرشي» الداعي المطلق الخامس للاِسماعيليّة المستعليّة في اليمن، المولود سنة 522 ه_ والمتوفى سنة 612ه_، والمنحدر من أُسرة عربيّة عريقة، كان لها شأن في مجالات الاَدب والفلسفة، وقد لعب دوراً أدبيّاً فلسفيّاً هامّاً، في القرن السادس الهجري، وبالرغم من المصادر القليلة عن تاريخ حياته، إلاّ انّه يمكننا القول بأنّه ينحدر من أُسرة معروفة بإخلاصها للاَئمّة الفاطميين. يدلنا على ذلك والده الذي كان يلقب (بالاَنف) تيمّناً بأبرز عضو في وجه الاِنسان.

و لقد كان الداعي يتمتع بسمعة طيبة وعلم وافر فقد تحسنت أُمور الاتباع وأقبلوا عليه من كل حدب وصوب لسماع محاضراته والتزّود من علومه والدراسة عليه وأيده السلاطين والاَُمراء من همدان و جعل مقره مدينة صنعاء حيث اعتكف على الدراسة والتصنيف وكتابة الكتب والرسائل والمقالات التي يدافع فيها عن الدعوة ويشرح عقائدها ومعارفها الفكرية

وكان علي بن الوليد أيضاً من الشعراء البارزين، ففي ديوانه القوافي العذبة والتأملات، التي تدلّ على عراقته بفن الشعر:

ما العمر إن طال للاِنسان أو قصرا * بنافع في غد أو دافعٍ ضرراً

ولا حياة الفتى تُغني إذا هو لمْ * يكن بها قاضياً في دينه وطرا

فإن يمتْ جاهلاً ماذا أُريد به * فبالحقيقة في الدارين قد خسرا

( 315 )

أمّا موَلفاته فنشير إلى بعض

منها:

1. «تاج العقائد ومعدن الفوائد». يتضمن مائة مسألة في معتقدات مذهب الاِسماعيليّة.

2. «دافع الباطل وحتف المناضل» ألفه رداً على كتاب «المستظهري».و هو أوّل كتاب ردٍّ للغزالي على الباطنيّة.

3. «مختصر الاَُصول» ويشمل شرح المقالات وكيفية انقسامها والردّ على الفلاسفة وبعض الفرق.

4. رسالة «نظام الوجود في ترتيب الحدود».

5. رسالة «الاِيضاح والتبيين في كيفية تسلسل ولادتي الجسم والدين».

6. رسالة «تحفة المرتاد وغصَّة الاَضداد» في الرد على الفرقة المجيدية وإثبات إمامة الطيب بن الآمر وذكر تسلسل الاِمامة.

7. «لبَّ الفوائد وصفو العقائد» في المبدأ والمعاد. (1)

8.ديوان شعر وفيه أشعاره في الردّ على المخالفين وفي مدائح الاَئمة.

و كان وفاة هذا الداعي يوم الاَحد السابع والعشرين من شهر شعبان سنة 612ه_ عن عمر ناهز التسعين عاماً ودامت أيام دعوته ست سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيّام.

وقد أخذنا شيئاً من عقائدهم من كتاب «تاج العقائد» الذي يُعد أوضح كتاب وضع في بيان عقائد تلك الطائفة، والكتاب واضح العبارة جداً، بعيد عن الانحراف والاعتساف، إلاّ ما ندر، وهو يدل على أنّ طائفة الاِسماعيليّة القاطنة في اليمن كانوا بمعزل عن كثير من الزلاّت المشاهدة عند غيرهم.

____________

1. تاج العقائد ومعدن الفوائد:7_ 9، المقدمة، تحقيق عارف تامر.

( 316 )

( 317 )

الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر

في

التنظيمات السرّية الاِسماعيلية

( 318 )

( 319 )

التنظيمات السرّية الاِسماعيلية

إنّ طابَع الاَقلّية يستدعي امتلاك تنظيمات سرية يسودها التكاتف والتعاون لتصمد أمام العواصف التي تهددهم من جانب الاَكثرية، ولولا ذلك لتفكّكت وانفصمت عرى حياتهم ولانصهر كيانهم المستقل.

ظهرت الاِسماعيلية على مسرح الحياة في زمان ساده روح العداء لاَهل البيت - عليهم السّلام- وأتباعهم، وكانت الشيعة قذى في عيون الخلافة العباسية، لما يسودها من روح العصيان على السلطة والخروج عليها.

هذا وما شابهه صار سبباً لدخول أئمتهم في كهف الاستتار

والتقية وإحداث تنظيمات سرية في مختلف الاَدوار لتكون حصناً حصيناً لهم ولاَتباعهم، وقد ذكر التاريخ شيئاً كثيراً من تنظيماتهم ومخططاتهم المبتكرة والتي قلّما يشهد التاريخ لها من مثيل.

وهذا الكاتب الاِسماعيلي مصطفى غالب يشرح لنا الصورة الدقيقة عن التنظيمات السرية في أدوار الستر وفي عهد الدولة الاِسماعيلية في مصر والمغرب حيث يقول:

إذا أردنا أن نقارن تلك التنظيمات مع أحدث التنظيمات والتخطيطات الدعاوية العصرية المعروفة اليوم، لتبين لنا انّ الاِسماعيليين كان لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، من حيث ابتكار الاَساليب المبنية على أُسس مكينة مستوحاة من عقائدهم الصميمة، وتظهر عبقريتهم بوضوح من جهة البراعة في تنظيم أجهزتهم الدعاوية _ في قلّة الوسائل في تلك الاَيام _ ممّا جعلهم يستطيعون الاِشراف بسرعة فائقة على تنسم أخبار أتباعهم في الاَبعاد المتناهية، وذلك بما

( 320 )

ابتكروا من أساليب وأحدثوا من وسائل، وقد كان للحمام الزاجل الذي برع في استخدامه الدعاة، أثره الفعّال في نقل الاَخبار والمراسلات السرية الهامة.

ولقد كان الاِمام الاِسماعيلي الذي يعتبر رئيس الدعوة قد وفق بين جهاز الدعاية الذي نظّمه خير تنظيم، وبين نظام الفلك ودورته، وجعل العالم الذي كان معروفاً في تلك الاَيام مثل السنة الزمنية، فالسنة كما هو معروف مقسمة إلى اثني عشر شهراً، ولذلك يجب أن يقسم العالم إلى اثني عشر قسماً، أطلق على كل قسم اسم (جزيرة)و جعل على كل جزيرة من هذه الجزر داعياً، هو المسوَول الاَوّل عن الدعاية فيها، ولقب ب_(داعي دعاة الجزيرة) أو ب_(حجة الجزيرة). وقال: إنّ الدعوة لا يمكن استقامتها إلاّ باثني عشر داعياً يتولون إدارتها، فكان الاِمام ينتخب الدعاة من ذوي المواهب الخارقة، والقدرة الفائقة في بث الدعوة والعمل على نشرها بين مختلف الطبقات وقد جعل الدعاة من

(حدود الدين) إمعاناً في إسباغ الفضائل عليهم، ليتمكنوا من نشر الدعوة وتوجيه الاَتباع دونما أيّة معارضة أو مخالفة، لاَنّ مخالفتهم ومعارضتهم تعتبر بنظر الاِمام مروقاً عن الدين، وخروجاً عن طاعة الاِمام نفسه، لاَنّهم من صلب العقيدة وحدودها.

و لمّا كان الشهر ثلاثون يوماً لذلك كان لكل داعي جزيرة ثلاثون داعياًنقيباً لمساعدته في نشر الدعوة، وهم قوته التي يستعين بها في مجابهة الخصوم،وهم عيونه التي بها يعرف أسرار الخاصة والعامة، فكانوا بمثابة وزارئه ومستشاريه في كلّ ما يتعلّق بجزيرته.

ولمّا كان اليوم أربع وعشرين ساعة، اثنتي عشر ساعة بالليل، واثنتي عشر ساعة بالنهار ، وجب لكلّ داع نقيب أربعة وعشرين داعياً، منهم اثني عشر داعياً ظاهراً كظهور الشمس بالنهار، واثني عشر داعياً محجوباً مستتراً استتار الشمس بالليل. وبعملية حسابية بسيطة نجد انّعدد الدعاة الذين بثهم الاِمام الاِسماعيلي في العالم كان حوالي 8640 داعياً في وقت واحد.

( 321 )

التنظيمات السّرية للدعوة الاِسماعيليّة النزارية

ولما انتقلت الدعوة الاِسماعيلية النزارية إلى فارس، أجرى الاِمام النزاري بعض التعديلات، وأوجد تنظيمات تتناسب مع ظروفه وعصره وهي على قسمين:

1. القسم الخاص بالدعاية الدينية والذي ظل قريب الشبه من النظام السابق، ولو انّ عدد الدعاة تقلص ونقص، لاَنّ الاِمام النزاري جعل رتبة (الشيخ) في دعوته بدلاً من رتبة (داعي الدعاة) وعيّ_ن في كلّ منطقة من المناطق الاِسماعيلية له نواباً، وألحق بهوَلاء النواب عدداً غير محدود من الدعاة الذين كانوا يدعون الناس للمذهب الاِسماعيلي النزاري.

2. أمّا القسم الثاني فهو خاص بالفدائية والجيش، وهوَلاء كانوا يتبعون مباشرة مركز الاِمامة أو نائب الاِمام في قطره، ويتلقّون الاَوامر والمهمات السرية منه مباشرة.

وكانت الفدائية على ثلاث درجات:

أوّلا: الرفاق أو المقدمون: وهم قادة الجيش والفدائية ولهم مهمّة الاِشراف على التدريب،و السهر على

تنفيذ المهمات العسكرية وغير العسكرية.

ثانياً: مرتبة الفدائيين الذين ينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والاِقدام والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة فيكلفَّون بالتضحيات الجسدية، وبتنفيذ أوامر الاِمام أو نائبه.

ثالثاً: المستجيبون: وهم الذين يقضون دور التدريب والتعليم،وهوَلاء يدخلون مدارس الفدائية، وهم في سن مبكرة ويتلقون التدريب والتعليم في المدارس الخاصة بهم، على أيدي كبار المقدمين. ويسهر الاِمام نفسه أو نائبه الشيخ على تدريبهم وتعليمهم. (1)

____________

1. مصطفى غالب: في مقدمة كتاب الينابيع:21 _ 24.

( 322 )

( 323 )

الفصل الخامس عشر

الفصل الخامس عشر

في

القرامطة

( 324 )

( 325 )

لقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنّ الحركات الباطنيّة نشطت في أواسط القرن الثاني، وكان زعيمها هو أبو الخطاب، محمد بن مقلاص، فلمّا قتل انتهى أمره_م _ بعد فت_رة _ إلى الاجتماع حول محمد بن إسماعيل، ووجدوه مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم. فارتكزت الدّعوة الاِسماعيليّة على تلك الاَفكار في بادىَ الاَمر. وكان من نتيجة ذلك التحرك أن:

1. اتخذ الاَئمّة المستورون سوريا،وأخصّ بالذكر «السلمية» وما حولَها مركزاً للدّعوة، ومنها انتشرت إلى سائر الاَمصار.

2. انتشرت الدّعوة في اليمن بزعامة ابن حوشب «منصور اليمن».

3. أرسل ابن حوشب، أبا عبد اللّه الشيعي إلى إفريقية حيث آلت الاَحداث بعدها إلى تأسيس الخلافة الفاطميّة.

4. ظهور حركة القرامطة، وهذا ما سنبحثه في هذا الفصل.

إنّ من الاِسماعيليّة فرقة باسم المباركيّة قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل، بدل إسماعيل، وقد تشعبت منهم فرقة باسم القرامطة، كان لهم دورٌ مهم على الساحة السياسية والعقائدية أيّام عبيد اللّه المهدي، حسب ما يذكره التاريخ وما يزال الغموض يكتنف عقائدهم، وتاريخهم والجرائم التي قاموا بها، في أواخر القرن الثالث. ومن أجل تسليط الضوء على جانب من جوانب عقائدهم نستعرض ما ذكره أصحاب المقالات:

1.قال النوبختي: إنّما سُمّيت بهذا لرئيس

لهم من أهل السواد من أهل الاَنباط كان يلقب «قرمطويه» وكانوا في الاَصل على مقالة المباركيّة، ثمّ خالفوهم،

( 326 )

فقالوا لا يكون بعد محمد النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلاّسبعة أئمّة، علي بن أبي طالب وهو إمامٌ رسولٌ، والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر، وهو الاِمام القائم المهدي، وهو رسولٌ.

وزعموا أنّ النبيّ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - انقطعت عنه الرسالة في حياته، في اليوم الذي أُمر فيه بنصب علي بن أبي طالب - عليه السّلام- للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب، واعتلّوا في ذلك بقول رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - :«من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» وانّهذا القول منه خروج من الرسالة والنبوّة، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب، بأمر اللّه عزّوجلّ وانّالنبيّ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - بعد ذلك كان مأموماً لعليّ، محجوجاً به، فلمّا مضى عليٌّ صارت الاِمامة في الحسن، كما صارت من الحسن في الحسين ثمّ في علي بن الحسين، ثمّفي محمد بن علي، ثمّ كانت في جعفر بن محمد، ثم انقطعت عن جعفر في حياته، فصارت في إسماعيل بن جعفر، كما انقطعت الرسالة عن محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - في حياته، ثمّإنّ اللّه عزّوجلّ بدا له في إمامة جعفر، وإسماعيل، فصيّرها في محمد بن إسماعيل، إلى أن قال:

و زعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيٌّ، لم يمت، وأنّه في بلاد الروم، وأنّه القائم المهدي، ومعنى القائم عندهم، انّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة، ينسخ بها شريعة محمد، وانّ محمد بن إسماعيل

من أولي العزم، وأولي العزم عندهم سبعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وعلي - عليه السّلام- ، ومحمد بن إسماعيل، على معنىً.

قال: إنّالسماوات سبع وإنّالاَرضين سبع وإنّ الاِنسان بدنه سبع: يداه، ورجلاه، وظهره، وبطنه، وقلبه، وإنّ رأسه سبع: عيناه، أُذناه، منخراه، وفمه ، وفيه لسانه، كصدره الذي فيه قلبه، وإنّ الاَئمّة كذلك، وقلبهم محمد بن إسماعيل واعتلوا في نسخه شريعة محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وتبديلها، بأخبار، رووها عن أبي عبد اللّه جعفر ابن محمد - عليه السّلام- أنّه قال: لو قام قائمنا علمتم بالقرآن جديداً، وأنّه قال: إنّ

( 327 )

الاِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدا، فطوبى للغرباء، ونحو ذلك من أخبار القائم.

و انّ اللّه جعل لمحمد بن إسماعيل جنّة آدم (ص) ومعناها عندهم الاِباحة للمحارم،وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول اللّه عزّ وجلّ:"وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ" (1)أي موسى بن جعفر بن محمد، وولده من بعده من ادّعى منهم الاِمامة.

وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل، هو خاتم النبيين، الذي حكاه اللّه عزّوجلّ في كتابه، وأنّ الدّنيا اثنا عشر جزيرة، في كلّجزيرة حُجّة وأنّ الحجج اثنا عشر، ولكلّ حجّة داعية. ولكلّ داعية يد، يعنون بذلك أنّ اليد رَجلٌ له دلائل وبراهين يقيمها، ويُسمّون الحُجّة الاَب، والدّاعية الاَُم،و اليد الابن، يضاهون قول النصارى في ثالث ثلاثة، إنّ اللّه الاَب جل جلاله، والمسيح - عليه السّلام- الابن، وأُمّه مريم، والحُجّة الاَكبر هو الربّ وهو الاَب والدّاعية هي الاَُم، واليد هو الابن.

وزعموا أنّجميع الاَشياء التي فرض اللّه تعالى على عباده وسنّها نبيّه(ص) وأمر بها، لها ظاهر وباطن، وأنّجميع ما استعبد اللّه

به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة، أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها، وعليه العمل وفيه النجاة، وأنّ ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء، وهي جزء من العقاب الاَدنى، عذّب اللّه به قوماً إذ لم يعرفوا الحقّ ولم يقولوا به، وهذا أيضاً مذهب عامّة أصحاب أبي الخطاب، واستحلّوا استعراض الناسَ بالسيف وقتلهم على مذهب الخوارج في قتل أهل القبلة، وأخذ أموالهم، والشهادة عليهم بالكفر، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه عزّوجلّ:"فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" (2)ورأوا سبي النساء وقتل الاَطفال، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه تبارك وتعالى:"لا تَذَرْ علَى الاََرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً" . (3)

____________

1. البقرة:35.

2. التوبة:5.

3. نوح:26.

( 328 )

وزعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل مَنْ قال بالاِمامة مِمّنْ ليس على قولهم، وخاصّة من قال بإمامة موسى بن جعفر، وولده من بعده؛ وتأوّلوا في ذلك قولَ اللّه تعالى: "قاتِلُوا الَّذِينَ يَلوُنَكُمْ مِنَ الْكُفّارِوَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً" (1) فالواجب أن يُبدأ بهوَلاء، ثمّ بسائر الناس؛ وعددهم كثير، إلاّ أنّه لا شوكة لهم ولا قوّة، وهم بسواد الكوفة واليمن أكثر ولعلّهم أن يكونوا زُهاء مائة ألف. (2)

أقول: إنّ النوبختي أقدم مَن كتب عنهم من أصحاب المقالات، وقد عاصرهم، حيث إنّ القرامطة ظهرت سنة 267ه_، وتوفي النوبختي في أوائل القرن الرابع حوالي سنة 310 ه_، فما ذكره عنهم أدقّممّا ذكره غيره.

2.وقال الاَشعري: القرامطة يزعمون أنّالنبيّ نصّعلى إمامة ابنه الحسن _ وهكذا ينقل نصّ كلّ إمام على الاِمام المتأخر _ حتّى وصلت النوبة إلى نصّ جعفر علىإمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل.

و زعموا أنّمحمد بن إسماعيل حيٌّ إلى اليوم، ولم يمت ولا يموت حتّى يملك الاَرض، وأنّه هو المهدي الذي تقدّمت البشارة به، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن

أسلافهم يخبرون فيها أنّ سابع الاَئمّة قائمهم. (3)

3.وأمّا عبد القاهر البغدادي فلم يذكر القرامطة بالاسم، لكن نقل ما ذكره الاِمام الاَشعري في المقالات وقال: «و فرقة قالت كان الاِمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للاِمامة بعده، فلمّا مات إسماعيل في حياة أبيه، علمنا أنّه إنّما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل. (4)

____________

1. التوبة:123.

2. النوبختي: فرق الشيعة:72_76.

3. الاَشعري: مقالات الاِسلاميين:26.

4. عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق:63.

( 329 )

يظهر ممّا ذكره النوبختي في فرق الشيعة أنّهم كانوا يكفّرون جميع المسلمين حسب عقيدتهم، ولاَجله قاموا بقتل حجاج بيت اللّه الحرام عام 317ه_ في عهد المقتدر باللّه.

ذكر ابن الاَثير أنّه حج بالناس في هذه السنة (317ه_) المنصور الدّيلمي،و صار بهم من بغداد إلى مكّة فسلّموا في الطريق فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكّة، يوم التروية، فنهبَ هو وأصحابُه أموال الحُجّاج،وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الاَسود ونفذه إلى هجر فخرج إليه ابن محلب، أمير مكّة في جماعة من الاَشراف، فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم، فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات.

وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قُتلوا بغير كفن ولا غُسل، ولا صلى على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت، فقسّمها بين أصحابه، ونهب دُورَ أهل مكّة.

فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد اللّه العلوي بإفريقية، كتب إليه، يُنكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفرو الاِلحاد بما فعلت، وإن لم ترد على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم، ما أخذت منهم، وتردّ الحجر الاَسود إلى

مكانه، وتردّكسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الاَسود، واستعاد ما أمكنه من الاَموال من أهل مكّة فردّه، وقال: إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة، وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم. (1)

____________

1. ابن الاَثير: الكامل في التاريخ:8|207_ 208.

( 330 )

من هذا المقطع الذي ذكرناه من كلام ابن الاَثير يظهر أنّ عبيد اللّه المهدي ينكر عليهم ما ارتكبوه من جرائم شنيعة، وأنّهم بأعمالهم الوحشيّة هذه مهّدوا الطريق للاَعداء، ليتّهموهم بالاِلحاد، والخروج عن الدين. وهذا ممّا يوجب على الباحث العلمي إذا أراد أن يخرج بنتيجة إيجابية أن يجعل للقرامطة حساباً خاصاً وأن يدرسهم دراسة موضوعية تتسم بالعلميّة وعدم الخلط .

و للاِسماعيليّة التي كانت الخلافة الفاطميّة في مصر تتبناها حساباً آخر ولا يضربهما بسهم واحد.

( 331 )

الملامح العامّة للقرامطة

قد تعرّفت على الفرق الاِسماعيلية ، وإنّ منها القرامطة الّذين قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل وغيبته، وبذلك عطّلوا الاِمامة، وانقطعوا عن الركب الاِمامي، وحيث إنّه كان لهم دور في الاَعصار الغابرة لا بأس بذكر ملامحهم العامّة، وفرقهم، وعقائدهم، وما قاموا به من الاَحداث الاِرهابيّة، وقد وجدنا أنّ ما كتبه «طه ولي» حول تلك الفرقة في كتابه «القرامطة أوّل حركة اشتراكية في الاِسلام» هو أبسط ما كتب عنهم، فقمنا بتلخيص ما جاء في هذا الكتاب من المواضيع الهامّة .

القرامطة من إحدى الفرق الباطنية الّتي شغلت السلطات العباسيّة قُرابة قرن من الزمن، وأشاعت الاضطرابَ والقلقَ في الشرق العربي، بما خَلَقْته من أفكار ثوريّة، ما تزال آثارها باقية إلى أيّامنا الحاضرة، عبر الطوائف الدينية التي تحمل أسماءً مختلفة.

إنّ القرامطة جاءت من معنى لغويّ وهو قَرمطَ الرجلُ في خَطْوه، إذا قارب بين السطور في كتابته، ويقال: إنّ حمدانَ بن

الاَشعث موَسّس هذه الفرقة سُمي قرمط لقصر قامته ورجليه.

أسباب نشوء الحركة القرمطيّة وموَسّسها:

إنّ كلمة قَرمط بدأت بحمدان بن الاَشعث، وهو الذي نزل عنده الداعي الموَسِّس لهذه الفرقة: الحسين الاَهوازي، الذي جاء من ناحية خوزستان، وهذه التسمية _ أي القرامطة _ لم تتخذّها هذه الفرقة الباطنيّة لنفسها، وإنّما أطلقها أعداوَها عليها في العهود المبكِّرة لقيامها.

( 332 )

والحديث عن العوامل التي أدّت إلى نشوء الحركة القرمطية، وقيام دولة القرامطة، ذو شجون، والخوض فيه يحتاج إلى تفصيلات، لا يتسع لها مجال هذه الدراسة، التي قصدنا بها التعريف بالقرامطة، وحركتهم بأكثر ما أمكننا من الاِيجاز، دون الدخول في التناقضات التي تميّزت بها أقوال المحققين.

كان المجتمعُ الاِسلامي، في أواخر العهد الاَُموي يسير في طريق مُظلم، وأنّ الدولة الاَُمويّة الحاكمة، العربيّة النزعة والطابع، كما هو جليّ وواضح في تاريخها لم تكن تعتمد إلاّ على العناصر الخالصة التي تنحدر من أصل عربي فلم يُعِنْ بنو أُمية بغير قومهم العرب، فمنهم الولاة والقوّاد، وروَساء الدولة، والعمال وحكّام الاَقاليم، والمقاطعات، فضلاً عن أنّ زمام الاَسواق التجارية والمهنيّة والزراعيّة، والنفوذ والجاه، كان أيضاً بأيديهم، وبأيدي أنصارهم، ولهذا كره الموالي (غير العرب) حكمهم، وعملوا على إسقاطهم وكانوا معاول هدم في كيان الدّولة الاَُمويّة.

إنّ المجتمع الاَُموي كان يقوم على سيادة العنصر العربيّ، فكان لا يتمكن أيُّ إنسان من الانتساب إلى صفوفه إلاّ بطريق الولادة، ولم يكن أفراده يدفعون الضرائب عن أراضيهم، وكانوا وحدهم أصحاب الحقّ، بأن يتجنّدوا في الاَمصار، ويقبضوا الرواتب الشهرية المغرية، فضلاً عن حقّهم بالاَعطية من غنائم الفتوح، ولم يكن حلول العباسيين محلّالاَُمويين أكثر من مجرد تغيير الاَُسرة الحاكمة.

وبذلك تبين أنّالاَسباب التي أدّت إلى قيام الحركة القرمطية كانت هي أيضاً في جوهرها حركة قوميّة إقليميّة

وإقتصاديّة واجتماعيّة، ولعلّنا لا نأتي بجديد حين نقول: إنّالاَُمويين بسياستهم هذه: قد مهّدوا الطريق لمن يريد ضرب الدّولة الاِسلامية ، وكان أفضل وسيلة للمنفعلين بهذه الاَسباب أن اتخذوا من الصراع العقائدي بين بني أُميّة وبين بني هاشم، ذريعة لتقويض الحكم العربي العنصريّ، ونقض التعاليم الاِسلاميّة، وذلك بادّعائهم الولاء للهاشميين في مطالبتهم

( 333 )

بحقّهم بالخلافة دون الاَُمويين.

وهكذا تكون كلّ الحركات الباطنيّة توسلتْ بشعار الولاء لآل البيت النبوي، من أجل الوصول إلى هدف واحد وهو الثأر من حكام الوقت الّذين أشاعوا البدع الجاهليّة، تحت غطاء الاِسلام، ومنها التركيز على العنصر العربي، والحط من الموالي المسلمين.

كان ابتداء الدّعوة القرمطيّة في البحرين عن طريق رجل يُعرف بيحيى بن المهدي، الذي قصد بلدة القطيف، وحلّ فيها ضيفاً على رجل يُعرف بعلي بن المعلى بن حمدان، مولى الزياديّين، فأظهر له يحيى أنّه رسولُ المهدي، وكان ذلك في سنة 281ه_، وذكر أنّه خرج إلى شيعته في البلاد، يدعوهم إلى أمره وأنّ ظهوره قد قَرُب، فأخبر عليُّ بن المعلى، الشيعةَ من أهل القطيف، وقرأ عليهم الكتاب، الذي مع يحيى بن المهدي، المرسل إليهم من المهديّ، فأجابوه، وأنّهم خارجون معه ، إذا ظهر أمره. ووجّه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك، فأجابوه وكان أبو سعيد الجنابيّ يبيع للناس الطعامَو يحسب لهم بيعهم.

ويقول موَلّف «البحرين عِبر التاريخ»: إنّحمدان قرمط ابن الاَشعث، هو موَسّس حركة القرمطيين في واسط بين الكوفة والبصرة _ حيث أنشأ داراً للهجرة، وجعلها مركزاً لبث الدّعوة، ثمّ كلّف دعاته بإنشاء فروع للحركة، أهمّها على الاِطلاق فرعُ البحرين الذي أقامه أبو سعيد الجنابي.

فرق القرامطة:

القرامطة توزّعوا في أيّام ظهورهم إلى ثلاث فرق، ومرّوا في ثلاث مراحل، وتقلّبوا في ثلاثة أدوار:

الفرقة الاَُولى: وهي قرامطة السّواد

_ أي سواد العراق _ وقد أطلق لفظُ السواد على هذه المنطقة لكثرة النخيل الذي يُغَطِّي أرضها، ويطلق على هذه الفرقة

( 334 )

كذلك، اسم قرامطة الشمال، وأبرز دعاتهم «داندان» و«حمدان» و«عبادان» و«آل مهرويه».

الفرقة الثانية: قرامطة البحرين أو الخليج في شطه الغربي، وأبرزُ دعاتهم آل الجنابي.

الفرقة الثالثة: قرامطة القطيف وجنوبي البصرة، وأبرز دعاتهم أبو حاتم البوراني، وأبو الفوارس، وهذا يُعدُّ من كبارهم، وله مع الخليفة العباسي «المعتضد» محاورة مشهورة، ويُعتبر من أقوى الدعاة الّذين عرفهم القرامطة في تاريخهم.

انقسام القرامطة إلى حركتين بعدما كانت حركة واحدة

عندما هلك سليمان بن الحسن الجنابي «أبو طاهر»، زعيم الدولة القرمطية في البحرين، الذي هتك حرمة الكعبة، وقتل الكثير من الحجاج، ترك أولاداً غير أكفاء لخلافته في الزعامة، فتنافس أخواه سعيد وأحمد على الولاية، وأدّى هذا التنافس إلى انقسام جماعة القرامطة إلى حركتين متعاديتين بعدَ أن كانوا حركة واحدة متجانسة، وكان على رأس إحدى هاتين الحركتين أبناء سليمان (أبو طاهرالجنابي ) ومعهم سابور، وعمه أحمد، وانضم إليهم كبار هذه الطائفة، وكان هوَلاء خاضعين للعُبيديين في المغرب يتلقون منهم التوجيه وينفِّذون تعاليمهم، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «الفرقة العقدانية» أي أصحاب العقيدة.

وعلى رأس الحركة الثانية، سعيد المذكور الذي رفض التبعية للعُبيديين وآثر الاستقلال بشوَونه، ولاَجل تقوية مركزه ضد العبيديّين، الذين لم يعترفوا به، اتجه لمصانعة العباسيين الذين سارعوا لموآزرته بهدف تعميق الانقسام في صفوف هوَلاء القرامطة، لكي يسهل التخلص منهم جميعاً، وقد أدّى هذا الانقسام الذي رافقته حروب دامية بين الحركتين إلى التعجيل بنهاية القرامطة كقوة سياسية ومذهبية.

( 335 )

عقائد القرامطة

إنّ عقائد القرامطة ، هي مزيج من الحق والباطل شأن كلّ فرقة زائفة، فأخذت بتبنّي الاِمامة لاَئمّة أهل البيت وإظهار الاِخلاص لهم، ورفض

الحكومات الاَُموية والعباسية المخالفة للقرآن والسنّة والسيرة النبوية .و إليك بعض عقائدهم بشكل موجز:

1. نظرية الحلول عند القرامطة

والقرامطة ، قالوا بنظرية الحلول أو ما يسمى عند بعض الطوائف المعاصرة باسم حلول اللاهوت بالناسوت، فذهبوا إلى أنّأئمّتهم حلّت فيهم شخصيات الاَنبياء السابقين الذين بعثهم اللّه في الاَُمم الغابرة ابتداءً من آدم وانتهاءً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بل أنّهم تجاوزوا الاَنبياء.

لما دخل عبيد اللّه المهدي إلى رقادة بالمغرب مدحه محمد البديل، أحد موظفي الديوان عند أبي قضاعة بقوله:

حل برقادة المسيح * حل بها آدم ونوح

حل بها أحمد المصفّى * حل بها الكبش والذبيح

حل بها ذو المعالي * و كل شيء سواه ريح

2. الغلو عند القرامطة

تعتقد القرامطة أنّ الاِمام القائم هو محمد بن إسماعيل الذي يبعث بالرسل، ويسن شريعة جديدة ينسخ بها شريعة النبي محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - .

كما يعتقد القرامطة بأنّ روح اللّه تعالى تحل في أجساد أئمتهم فتعصمهم

( 336 )

من الزلل وترشدهم إلى صالح العمل.

وهم يعتقدون أيضاً أنّ أئمّتهم السبعة هم السبع المثاني الذين أشار القرآن الكريم إليهم، ورفعوهم إلى حدّ المغالاة.

3. التأويل الباطني في تفسير القرآن

تفردت الباطنية بتفسير القرآن الكريم على طريقة التأويل الباطني، وهو أن يتجاوز الاِنسان المعنى الظاهري للآية ويتجه إلى فهمها عن طريق تفسير كلماتها بما يخيل إليه أنّه المقصود الحقيقي من كلام اللّه، ومن الطبيعي أن يعتمد الباطنيون هذه الطريقة لتحميل الآيات المعنى الذي يوَيد وجهة نظرهم وأفكارهم المذهبية.

إنّالتأويل بمعناه الواقعي لدى الاِسماعيليين يختلف عن التفسير المعمول به لدى عامة الفرق الاِسلامية الاَُخرى،والتفسير معناه جلاء المعنى لكلّ كلمة غامضة لا يفهم معناها القارىَ والتأويل باطن المعنى أو رمزه أو جوهره وهو حقيقة مستترة وراء لفظة

لا تدل عليها، ومن هنا أعطى النظام الاِسماعيلي _ ومثله القرمطي _ الفك_ري صلاحية التفسير للناطق ووهب صلاحية التأويل للاِمام، فالناطق اعتبر ممثلاً للشريعة والاَحكام والفقه والقانون الظاهر، والاِمام اعتبر ممثلاً للحقيقة والتأويل،و الفلسفة والباطن، ومن الواضح أنّ أوّل منهاج دعوا إليه هو نظام التأويل، فإنّهم هذّبوه وصقلوه بأفكارهم وأدخلوا فيه النظرية العقلية التي تشذب الفعل والتسليم ليثبتوا للعالم الاِسلامي انّهم من العريقين في فهم الاَُصول الاِسلامية، فقالوا بالباطن وضرورته كما قالوا بالظاهر إلى جانبه، فلا يقبل الظاهر دون الباطن، ولا ينفع الباطن دون الظاهر، لاَنّ الباطن والظاهر كالجسد والروح تولد في اجتماعهما الفوائد ومعرفة المقاصد.

إنّ للقرآن مدلولاً، ظاهرياًو باطنياً، فالمعنى الظاهري واللغوي ليس هو المقصود بالذات والتمسك بهذا المعنى يوجب العذاب والمشقة، أمّا الاَخذ

( 337 )

بالمعنى الباطني فهو يوجب الانشراح والسعادة، لاَنّه يقضي بترك التكاليف والاَعمال الظاهرة وكان ابن ميمون يدس هذه الفكرة بصورة خفية وباطنة وما كان يتظاهر بها تجاه غير الاِسماعيليين _ القرامطة _ ولذلك كانت هذه الطريقة مبالغ فيها.

نهاية القرامطة سياسياً وعسكرياً

في منتصف القرن الرابع الهجري دخل القرامطة النهاية لاَسباب ذاتية وأُخرى خارجية، وما لبثوا أن زالوا عن مسرح الصراع في المشرق العربي من الناحيتين السياسية والعسكرية.

الاَسباب الذاتية

من الواضح أنّ الحركة القرمطية لم تستطع إخفاء مقاصدها الحقيقية في محاربة العقيدة الاِسلامية الصحيحة لا سيما بعد الانتصارات المحلية لبعض زعمائها على السلطة العباسية، فقد أساء المتأخرون من هوَلاء الزعماء التصرف بالنسبة للمجتمع الاِسلامي آنذاك، حتى أنّ العبيديين وهم على منوالهم في الاتجاه السياسي والعقائدي اضطروا إلى أن يتبرأوا منهم وأن يهاجموهم عسكرياً في أماكن تواجدهم ، حيث أوعزوا إلى قائدهم العسكري«جوهر الصقلي» بأن يذيع بياناً يستنكر فيه أعمال القرامطة ويتبرّأ من تصرفاتهم

المغايرة للاِسلام والضارة بالمسلمين، على أنّجوهر لم يكتف بهذا البيان بل حاربهم فعلاً على أرض فلسطين في الرملة (سنة 368ه_)و كانت هذه المعركة بداية النهاية بالنسبة للحركة القرمطية ولاَتباعها على مختلف المستويات وفي جميع البلدان التي انتشروا فيها بقوة الدعاية التبشيرية أو بقوة السلاح والاَرهاب.

وإنّه يمكن القول بأنّ حادثة العدوان الذي قام به القرامطة على مكة

( 338 )

المكرمة بقيادة أبي طاهر الجنابي، وما رافق ذلك من قتل الحجاج، واقتلاع الحجر الاَسود من مكانه، وأخذه إلى هجر، إنّ هذه الحادثة كانت بمثابة القنبلة الموقوتة التي انفجرت بعد حين ودمرت الكيان القرامطي من أساسه، حتى أنّ أبا محمد عبيد اللّه الذي أسس الدولة العبيدية وكان هو نفسه قرمطي العقيدة استهول هذه الحادثة وأفزعته مضاعفاتها السلبية في الاَوساط الاِسلامية، فأرسل كتاباً لنظرائه قرامطة البحرين ينكر فيه عليهم فعلتهم الشنيعة ويلوم أبا طاهر المذكور ويلعنه ويقيم عليه القيامة، بقوله:

قد حقّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والاِلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة وعلى غيرهم من الحجاج ما أخذت منهم، وترد الحجر الاَسود إلى مكانه، وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

وهذه الحادثة المشوَومة كانت (سنة 317ه_) و هنا فإنّنا نرى من الفائدة تسجيل وجهة نظر القرامطة في هذه الحادثة كما عبّر عنها أبو طاهر القرمطي الذي اقترف هذه الجريمة النكراء، وذلك من خلال الشعر الذي قاله في هذه المناسبة، والرد الذي أرسله إلى الخليفة العباسي المقتدر باللّه.

قال أبو طاهر في تبرير اقتلاع الحجر الاَسود والعدوان على البيت الحرام:

فلو كان هذا البيت للّه ربّنا * لصب علينا النار من فوقنا صبا

لانّا حججنا حجة جاهلية * مجللة لم تبق شرقاً ولا غرباً

و انّا تركنا بين زمزم

والصفا * كتائب، لا تبغي سوى ربها ربا

و لكن ربّ العرش جلّ جلاله * لم يتخذ بيتاً ولم يتخذ حجبا

ومن العوامل الذاتية الاَُخرى التي أضعفت القرامطة وأدّت إلى ذهاب ريحهم واضمحلال شوكتهم، الانقسام الذي فرّق أمرهم فيما بينهم، وخاصة بعد موت أبي طاهر سليمان مما اضطرهم إلى تعديل نظام (مجلس العقدانية) وتحويله (إلى مجلس السادة) الذي أوهن قيادتهم المركزية، والحروب التي شنها بعضهم على

( 339 )

بعض في عهدي أبي طاهر والاعلم خارج مركز قوتهم (البحرين) ممّا كبدهم أموالاً طائلة، وأضعف مواقفهم بعد كل معركة، وأدى إلى قيام حركات انفصالية داخل مجموعتهم لا سيما في عمان وا ليمن.

الاَسباب الخارجية

أمّا الاَسباب الخارجية التي أدّت إلى زوال الحركة كدولة ونظام ومجتمع، فإنّ الموَرخين يردّون ذلك إلى الظواهر السلبية التي عانوا منها في أُخريات أيامهم وهي التالية:

1. ظهور دولة بني بويه المناوئة للقرامطة التي نجحت في جرهم إلى حروب جانبية خلقت لهم أعداء من كلّ جانب، وخاصة من الدولة العبيدية المصرية.

2. قلة الاَموال التي كانت بحوزتهم، فلم يعودوا يتمكنون من الاستمرار في صرف المعتاد من العطايا على البدو ممّا أضعف موالاة هوَلاء لهم، وتحوّلوا عنهم إلى العباسيين لهذا السبب.

3. انقلاب قبائل إقليم البحرين نفسها عليهم، مثل: بني عقيل وبني تغلب، ونجاح هذه القبائل بالتغلب على بعض أطراف الدولة القرمطية مثل القطيف وما جاورها.

4. ومن العوامل الخارجية الاَُخرى التي قادت القرامطة إلى نهايتهم وتلاشيهم أنّ أسيادهم وحلفاءهم ورفاقهم في الاتجاه المذهبي والمبادىَ العقائدية، نعني: العبيديين حكام القاهرة، انقلبوا عليهم بعد أن ضاقوا ذرعاً بتأرجحهم بين الولاء لبغداد وبين الاستسلام للقاهرة، وبخروجهم عن كلّحد، وزاد غيّهم وسفكهم للدماء وغزوا مكة وفتكوا بالحاج واقتحموا البيت الحرام، ولمّا ذهبوا في جرأتهم إلى مهاجمة

الدولة الفاطمية ذاتها في الشام وانتزعوا منها دمشق وهاجموها في مصر منزلها الجديد، تنكرت لهم وأنكرت ثورتهم وتبرأت منهم.

( 340 )

نهاية القرامطة

وقد مرت نهاية القرامطة في مرحلتين:

الاَُولى: يوم طردوا من جزيرة أوال في البحرين

ففي سنة 458ه_ خرجت الجزيرة المذكورة عن طاعتهم ووالت العباسيين بعد سلسلة الحروب الداخلية التي خاضها المسلمون والمجاعة في هذه الجزيرة، فقد بنى أهل البحرين مسجداً لجذب التجار إلى جزيرتهم، ولمّا فرغوا من بناء هذا المسجد آل أمر الجزيرة إلى العباسيين.

الثانية: استئصال شأفتهم نهائياً من هذه البلاد

كانت هزيمة القرامطة في جزيرة أوال ذات أثر سلبي كبير عليهم، إذ عمد سكان الجزيرة إلى الاتصال بالسلاجقة والعباسيين في العراق وفي سنة 462ه_ بعثت بغداد بجيوش ألحقت الهزيمة تلو الهزيمة بالقرامطة، فاضطروا للارتداد إلى الاَحساء، فلحقت بهم إلى الاَحساء وحرضوا عليهم السكان بالمنشورات التي يستحثونهم فيها على الانضواء تحت لواء العباسيين في جهاد المبطلين القرامطة الملحدين، وفي استئصال ذكرهم ، وتطهير تلك البقعة من دنس كفرهم.

فاستجاب أهالي البلاد لهذه الاِثارة وانضموا إلى العساكر العباسيّة، وأصبح القرامطة محاطين بأعدائهم في شمالي الاَحساء الذين انتصروا عليهم في معركة الخندق سنة 470ه_.

وتعد هذه الواقعة من الوقائع الحاسمة في تاريخ الحركة القرمطية، لاَنّها قضت على دولة القرامطة وألغت وجودها نهائياً من خارطة العالم الاِسلامي.

* * *

هذا وقد لخصنا هذا المقال من كتاب طه ولي بتصرف يسير لما لمسنا منه من تطرف للحكم العربي المتمثل في الدولة الاَُموية والعباسية حيث رأى أنّهما يمثلان الدولة الاِسلامية الشرعية المجسدة لاَهداف النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وآماله.

الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر

في

فرقة الدروز

( 342 )

( 343 )

الدروز هي جمع الدرزي، والعامة تتكلّم بضم الدال، والصحيح هو فتحها. والظاهر انّ الكلمة تركية بمعنى

الخياط، وهي من الكلمات الدخيلة على العربية حتى يقال: درز يدرز درزاً، الثوب، خاطه، والدرزي: الخياط.

والدروز فرقة من الباطنية لهم عقائد سرية متفرقون بين جبال لبنان وحوران والجبل الاَعلى من أعمال حلب.

ولم يكتب عن الدروز شيء يصح الاعتماد عليه ولا هم من الطوائف التي تنشر عقائدها حتى يجد الباحث ما يعتمد عليه من الوثائق.

نعم كتب عنهم المستشرقون أشياءً لا يمكن الاعتماد عليها، وقد سبق منّا في ترجمة الاِمام الحادي عشر الحاكم باللّه انّالاِسماعيلية كانت فرقة واحدة وطرأ عليهم الانشقاق بالقول بإلوهية الحاكم وغيبته وهم اليوم معروفون بالدروز، وقلنا: إنّ الحاكم استدعى الحمزة بن علي الفارسي الملقّب بالدرزي وأمره أن يذهب إلى بلاد الشام ليتسلم رئاسة الدعوة الاِسماعيليّة فيها، ويجعل مقرّه «وادي التيم»، ولقبه الاِمام بالسيد الهادي، وتمكن الدرزيّ في وقت قليل من نشر الدعوة الاِسماعيليّة في تلك البلاد إلى أن وصلت إليه وفاة الاِمام الحاكم وتصدى ابنه الظاهر لمقام الولاية، ولكن الدرزيّ لم يعترف بوفاة الاِمام الحاكم بل ادّعى انّه غاب وبقى متمسكاً بإمامته ومنتظراً لعودته، وبذلك انفصلت الدرزية عن الاِسماعيليّة وكان ذلك الانشقاق عام 411ه_ . (1)

***

____________

1. لاحظ تاريخ الدعوة الاِسماعيلية: 238.

( 344 )

الدروز في موسوعات دائرة المعارف

إنّ الدروز من الفرق الباطنية التي يصعب الاطلاع على عقائدهم لاَنّهم راعوا جانب الحذر والتكتم عليها، ومع ذلك فقد نقل أصحاب دوائر المعارف أُموراً عنهم، ونحن نقتطف مما جاء فيها:

1. الدروز في دائرة المعارف البستانية (1)

بعد أن ذكرت الموسوعة مراكز توطّنهم وعدد نفوسهم وشيئاً من أحوالهم السياسية والآداب الاجتماعية و ما يزاولوه من المهن كالزراعة والتجارة، والحروب التي نشبت بينهم وبين غيرهم من الطوائف، قالت عن عقيدتهم ما هذا نصّه:

و إيمان الدروز، أنّ اللّه واحد، أحد، لابداءة

له ولا نهاية، وأنّالنفوس مخلّدة تتقمّص بالاَجساد البشرية (التناسخ)و لابدّ لها من ثواب وعقاب يوم المعاد بحسب أفعالها، وأنّ الدنيا تكونت بقوله تعالى كوني فكانت، والاَعمار مقدّرة بقوله:"وَ لَنْ يُوَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها" (2) وأنّ اللّه عارف بكل شيء، وهم يكرمون الاَنبياء المذكورين في الكتب المنزلة، ويوَمنون بالسيد المسيح ولكنّهم ينفون عنه الاِلوهية والصلب،وأسماء بعض الاَنبياء عندهم كأسمائهم في تلك الكتب، ولبعضهم أسماء أُخرى كالقدّيس جرجس، فإنّه عندهم الخضر، وأسماء أنبيائهم شعيب وسليمان وسلمان الفارسي ولقمان ويحيى، وعندهم انّه لابدّمن العرض والحساب يوم الحشر والنشر. وتنقسم هذه الطائفة إلى: عقّال وجهّال. فالعقال هم عمدة الطائفة، ولهم رئيسان دينيان يسمّيان بشيخي العقّال، والاَحكام الدينية مفوضة إليهم.

____________

1. وقد طبع الجزء الذي نقلنا الترجمة عنه عام 1883 م ، أي ما يعادل عام 1301 ه_ .

2. المنافقون:11.

( 345 )

وعندهم للوصية نفوذ تام، فإنّ الاِنسان مختار أن يوصي قبل موته بأملاكه لمن يشاء، قريباً كان أم غريباً. ولذلك قد منحتهم الدولة العلية منذ القديم قاضي مذهب لدعاوى الوصايا.

وقد أمر عقّالهم بتجنّب الشك، والشرك، والكذب، والقتل، والفسق، والزنا، والسرقة،والكبرياء، والرياء، والغش، والغضب، والحقد، والنميمة، والفساد، والخبث، والحسد،وشرب الخمور، والطمع، والغيبة، وجميع الشهوات والمحرمات والشبهات، ورفض كلّ منكر من المآكل والمشارب، ومجانبة التدخين،والهزل والمساخر والهزء والمضحكات، وجميع الاَفعال المغايرة لاِرادته تعالى،وترك الحلف باللّه صدقاً أو كذباً،والسب،و القذف،والدعاء بما فيه ضرر الناس.

وعندهم انّه على كلّ موَمن التحلّي بالعفاف،و الطهارة،و الفعل الجميل، والكرم بالعلم، والمال، وخوف اللّه وطاعته، والرصانة،و صيانة العرض،و صدق اللسان، وصونه من الاِفك والاِثم والزور والبهتان مع استمرار ذكر اللّه وتسبيحه وتقديمه، وتقديم الصلوات والتضرعات والتوسلات لعزته تعالى.

ولا يجوز لعاقل أن يخلو بامرأة، ولا أن يرد تحيّتها ما

لم يكن بينهما ثالث.

وشأنهم التهذيب وكره الزيف والترف. وكل عاقل ارتكب القتل أو الزنا أو السرقة أو غيرها من الآثام يطرد من مجلس العقال الذين يجلسون فيه للقيام بالفروض الدينية ويبقى مطروداً إلى أن تتحقّق ندامته وتوبته.

ومن شأن الدروز إكرام الضيف،و الشجاعة، والاقتصاد بالمعيشة.

ويسكنون الآن في جبل لبنان وقضاء «راشيا» وقضاء «حاصيا» وإقليم البلان والغوطة والشام وجبل حوران وجبل الكرامل والجبل الاَعلى ومرعش وحلب والحلة والكوفة، ومنهم عشيرة بني لام في العراق، وفي الغرب والهند.

( 346 )

وتناولنا من أحد أُدبائهم جملة أُخرى هذا ملخصها:

يوَمن الدروز بأنّ الدنيا حادثة وبوجود اللّه وان لا خالق سواه. وانّه قديم أزلي،أبدي، عادل، لا غرض لفعله، غني لا يحتاج، وحاكم قادر لا يجب عليه شيء، إن أثاب فبفضله وإن عاقب فبعدله، غير متبعّض، ولا له حد ولا نهاية، ويعتقدون القرآن الشريف اعتقاد السنية إلاّأنّهم يخالفونهم في تفسير بعض آياته الكريمة. ويعتقدون أيضاً أقوال حمزة وتعاليمه ويسمّونها كتب الحكمة؛ وتتضمن علم التوحيد، وكيفية خلق العالم وأسبابه وعلله، وذكر الاَنبياء، وأسمائهم وفضائلهم، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يجب على الاِنسان وما لا يجب عليه، وإثبات المعاد والحساب والعقاب واعتقاد التناسخ، وكون النفوس معدودة محدودة لا تزيد ولا تنقص باقية أزلية لا تفنى، مستقرة في أمكنتها غارقة في بحر عظمة اللاهوت، تفنى الاَجساد القائمة بها وتتلاشى وهي باقية إلى الاَبد لا تفنى ولا تتغير.

وهم ينقسمون باعتبار الطريقة المذهبية إلى قسمين:

طائعون ويعرفون بالعقال، وهم السالكون بمقتضى الطريقة المذهبية، كالامتناع عن التدخين وسائر المشروبات الروحية والابتعاد عن التأنّق في المأكولات والملبوسات وسائر اللذات الدنيوية والاقتصار على التقشف في المعيشة.

و شراحون ويعرفون بالجهال، وهم المخالفون للعقال في الامتناع عن التدخين والمشروبات الروحية وعن الترفّه في

المعيشة والتنعّم باللذات الدنيوية، ولذلك لا يسوغ لهم مطالعة القرآن الشريف، ولا متون الحكمة خلافاً للعقال، لاَنّ عندهم كتباً مقدسة لا يمسّها إلاّالطاهرون. والطهارة عندهم الامتناع عن سائر المحرمات والممنوعات، وإنّما يسوغ لهم تلاوة بعض شروح كتب دينية، ولهذا يقال لهم شراحون.

( 347 )

و يمتاز العقال عن الجهلاء بكونهم يتعمّمون بعمامة بيضاء ويلبسون الملابس البسيطة كالقباء والعباءة، ونسبة هوَلاء العقال إلى الجهال عدداً أكثر من ثلاثة أرباع.

أمّا شعائرهم في ختان الاَولاد والزواج والطلاق والصلاة على الجنازة فهي طبق الشعائر الاِسلامية غير انّه ليس من عوائدهم أن يتزوج أحدهم بغير امرأة واحدة، لا يسوغ التزوّج بها ثانية بعد الطلاق على الطريقة المعروفة بالرجعة، ولهم عيدان: عيد رمضان ويسمّونه بالعيد الصغير، وعيد الاَضحى ويسمّونه بالكبير، ولهم معابد كثيرة معدّة للصلوات يجتمعون فيها كلّ ليلة جمعة، ولاَكثر هذه المعابد أوقاف مخصوصة تنفق حاصلاتها على لوازم تلك المعابد. ولهم أيضاً معابد أُخرى معدّة للاَشخاص الذين يفرغون أوقاتهم لعبادة اللّه تعالى. وتسمّى هذه المعابد ب_ «الخلوات» وهي كالاَديرة عند المسيحيين عددها 40 في الجبل وخلافه. (1)

2. الدروز في دائرة المعارف المصرية (2)

هذا ما يذكره بطرس البستاني ويصور لهم صورة بيضاء ناصعة ويطهّرهم عن كلّما ينسب إليهم من المنكرات، وفي الوقت نفسه يصوّر لنا الكاتب محمد فريد وجدي صورة مشوّهة عنهم حينما قال:

ظلت معتقدات الدروز في طي الخفاء حتى استولى إبراهيم باشا بن محمد علي على معابدهم في جبل «حاصبيا» ووجد في كتبهم كنه مذهبهم تفصيلاً منها كلمة الشهادة عندهم :(ليس في السماء إله موجود ولا على الاَرض ربّمعبود إلاّ الحاكم بأمره).

من معتقداتهم أنّ الحاكم بأمر اللّه هو اللّه نفسه وقد ظهر على الاَرض عشر

____________

1. البستاني: دائرة المعارف : 7|675 _

677.

2. طبع سنة 1386 هجري، 1967 ميلادي.

( 348 )

مرات أُولاها في العلى، ثمّفي البارز إلى أن ظهر عاشر مرة في الحاكم بأمر اللّه، وأنّ الحاكم لم يمت بل اختفى حتى إذا خرج يأجوج ومأجوج _ ويسمّونهم القوم الكرام _ تجلّى الحاكم على الركن اليماني من البيت بمكة ودفع إلى حمزة سيفه المذهب فقتل به إبليس والشيطان، ثمّيهدمون الكعبة ويفتكون بالنصارى والمسلمين ويملكون الاَرض كلّها إلى الاَبد.

ويعتقدون أنّ إبليس ظهر في جسم آدم، ثمّ نوح، ثمّ إبراهيم، ثمّموسى، ثمّ عيسى، ثمّمحمد، وأنّالشيطان ظهر في جسم ابن آدم، ثمّ في جسم سام، ثمّ في إسماعيل، ثمّ في يوشع، ثمّ في شمعون الصفا، ثمّ في علي بن أبي طالب، ثمّ في قداح صاحب الدعوة القرمطية.

ويعتقدون بأنّعدد الاَرواح محدود، فالروح التي تخرج من جسد الميت تعود إلى الدنيا في جسد طفل جديد.

وهم يسبون جميع الاَنبياء، يقولون: إنّ الفحشاء والمنكر هما أبوبكر وعمر، ويقولون: إنّقوله تعالى: "إِنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الاََنْصابُ وَ الاََزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطان" (1)يراد به الاَئمّة الاَربعة وانّهم من عمل محمد.

و يعتقدون بالاِنجيل والقرآن، فيختارون منهما ما يستطيعون تأويله ويتركون ماعداه، ويقولون: إنّالقرآن أُوحي إلى سلمان الفارسي فأخذه محمد ونسبه لنفسه ويسمّونه في كتبهم المسطور المبين.

ويعتقدون أنّ الحاكم بأمر اللّه تجلّى لهم في أوّل سنة (408ه_) فأسقط عنهم التكاليف من صلاة وصيام وزكاة وحجّوجهاد وولاية وشهادة.

لدى الدروز طبقة تعرف بالمنزهين وهم عباد أهل ورع وزهد، ومنهم من لا يتزوج، ومن يصوم الدهر، ومن لا يذوق اللحم، ولا يشرب الخمر. (2)

____________

1. المائدة:90.

2. محمد فريد وجدي: دائرة المعارف: 4|26 _ 28.

( 349 )

عقائد الدروز

وقد تناولت دائرة المعارف الاِسلامية _ بعد أن استعرضت شيئاً من أحوالهم ومواطنهم وعاداتهم

وحرفهم _ جانباً من أبرز جوانب عقيدتهم، وهو اعتقادهم بإلوهية الحاكم، ما هذا نصّه:

1. اعتقادهم بإلوهية الحاكم

وقد قام مذهب الدروز على فكرة أنّ اللّه قد تجسد في الاِنسان في جميع الاَزمان وهم يتصورون أنّاللّه ذاته أو على الاَقل القوة الخالقة تتكون من مبادىَ متكثرة يصدر الواحد منها عن الآخر ويتجسد مبدأ من هذه المبادىَ في الاِنسان.

فالخليفة الحاكم وفقاً لهذه العقيدة يمثل اللّه في وحدانيته وهذا هو السبب في أنّ حمزة قد أطلق على مذهبه اسم مذهب «التوحيد» وهم يعبدون الحاكم ويسمّونه «ربنا» ويفسرون متناقضاته وقسوته تفسيراً رمزياً، فهو آخر من تجسد فيهم اللّه. وهم ينكرون وفاته ويقولون إنّه إنّما استتر وسيظهر في يوم ما وفقاً للعقيدة المهدوية.

ويلي الحاكم في المرتبة خمسة أئمّة كبار تتجسد فيهم المبادىَ التي صدرت عن اللّه:

فالاَوّل: تجسيد للعقل الكلي، وهو حمزة بن علي بن أحمد الزوزني الملقب ب_«العقل» ويرمز له ب_«الاَخضر» وهو الاِمام الاَعظم وآدم الحقيقي.

والثاني: تجسيد للنفس الكلية وهو إسماعيل بن محمد بن حامد التميمي الملقب ب_«النفس» ويرمز له ب_« الاَزرق» وهو صهر حمزة ووكيله في الدين.

والثالث: تجسيد للكلمة التي خرجت من النفس عن طريق العقل، وهو محمد بن وهب القرشي الملقب ب_ «الكلمة» ويرمزر له ب_«الاَحمر» وهو سفير

( 350 )

القدرة والشيخ الرضي.

والرابع: السابق وهو سلامة بن عبد الوهاب السَّمُري الملقب ب_ «السابق» ويرمز له ب_ «الاَصفر» أو«الجناح الاَيمن».

الخامس: التالي وهو بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموكي الملقب ب_ «التالي» أو «الجناح الاَيسر» ويرمز له ب_«البنفسجي» وهو آخر الحدود الخمسة وبه انغلقت الدعوة الدرزية وصارت سرية لا علنية.

و يلي هوَلاء الاَئمّة الكبار آخرون أدنى منهم مرتبة موزعون على ثلاث طبقات وهم: الداعي، والمأذون، والمكاسر و يعرف أيضاً بالنقيب.

ويعرف الداعي كذلك بالعمل،والمأذون بالفاتح.

ومعرفة ذات اللّه وصفاته وتجلياته في سلسلة المبادىَ المتجسدة في الاَئمّة وهي عقائد هذا المذهب. وتتلخص آدابه في سبعة أركان تقوم مقام أركان الاِسلام وهي:

1. حب الحقّ (بين الموَمنين دون غيرهم).

2. حفظ الاِخوان (الدروز).

3. التبروَ من العقيدة التي كان يدين بها الدرزي من قبل.

4. الابتعاد عن الشيطان وعن الضالين والاَبالسة.

5. التوحيد للحاكم في كلّعصر ومكان.

6. الرضا عن أفعال «ربنا» الحاكم أياً كانت.

7. الخضوع التام لاِرادته كما تتجلّى في أئمته على ما هو مفهوم.

و هذه القواعد واجبة الطاعة على كلّ درزي رجلاً كان أو امرأة. (1)

وقد قام بعض الباحثين بتأليف رسالة خاصة بعقائدهم أشار فيها إلى جوانب أُخرى منها _ غير ما نقلناه آنفاً _ وإليك نصّ المقال بتلخيص وتصرّف:

____________

1. دائرة المعارف الاِسلامية: 9|217_ 218.

( 351 )

2. التحريف الواضح للقرآن وانّ الاَنبياء أبالسة جاءوا للظاهر

كانت عقيدة الدروز بادىَ بدء توَمن بالقرآن وانّه من العلي الاَعلى كما توَمن بالنبي محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وبقية الاَنبياء كموسى وعيسى وإبراهيم - عليهم السّلام- و تجلّهم كثيراً، لكن بعد ذلك صارت هذه العقيدة لا توَمن باللّه إلاّ بالحاكم ولا بالاَنبياء بل تعدهم أصل الظاهر يحرفون الناس عن الباطن والحقيقة، واستطاع (حمزة بن علي) أن يجمع من متفرقات كثيرة حتى يكتب (المصحف المنفرد بذاته) أو كثيراً من رسائل الحكمة والتي صارت فيما بعد العقيدة الدرزية.

و يتظاهرون في المجتمع الاِسلامي بأنّهم مسلمون وينسبون أنفسهم إلى الاِسلام وقد يحفظون بعض آيات القرآن والتي وردت في «المصحف المنفرد بذاته» ويتظاهرون بإيمانهم بالقرآن والاَنبياء، وقد يعطون الرسائل الاَربعة الاَُولى لرسائل الحكمة التي وجدت على قبر الحاكم بأمر اللّه الفاطمي وذلك للتمويه والتظاهر بانتسابهم إلى الاِسلام.

لكنّهم يوَوّلون ما

جاء في ذلك إلى مبنى مباين ومغاير تماماً فالمسيح الحقّ هو حمزة، وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم هي حدود حمزة، والجنة التوحيد، والنار هي الشرك، والصدق هم أنبياء الحقّ، والكذب هم الاَبالسة ويقصدون بهم الاَنبياء: آدم، ثمّ نوح، ثمّإبراهيم ، ثمّموسى، ثمّ عيسى، ثمّمحمّد.

3. إيمانهم بالتناسخ واعتباره مبدأً أساسياً في عقيدتهم

يوَمنون بالتقمّص حيث تنتقل روح الاِنسان بعد موته إلى شخص آخر جديد وهكذا، ويتمسّكون أمام المسلمين بقوله تعالى: "تُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ" (1)، "أَمَتّنا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْن" (2)ويوجد في

____________

1. آل عمران:27.

2. غافر: 11.

( 352 )

«المصحف المنفرد بذاته»:

«لقد كبرت فرية تخرج من أفواه الذين جحدوا إذ قالوا لن نرجع إلى خلق جديد حتى يوم الحاقة قل اخسأوا في تقلباتكم إن تقولون إلاّكذباً».

ويعتبرون هذه الحالة وسيلة لوصول كلّ روح إلى درزي، ويتحقق بذلك المجتمع التوحيدي:إذ يعتقدون بمحدودية عدد الاَرواح، وشرار الاَرواح تتقمّص أجسام الكلاب.

و من هنا ينطلق الدروز في الاِيمان بأنّ الجسد هو الذي يموت بينما النفس تبقى خالدة والتقمّص في نظر الموحدين هو انتقال النفس بعد الموت مباشرة من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر والجسد هو قميص الروح وهذا القميص هو الذي يتغير عند الوفاة منتقلة إلى جسد إنسان آخر. (1)

يقول الشاعر الدرزي:

نحن الاَُلى هان الممات عليهم * الروح تبقى، والقميص يُمزّقُ

4. إسقاط التكاليف

أمّا الصلاة فهي ساقطة عنهم، والمقصود بها هي الصلة للقلوب مع مولاهم الحاكم.

وأمّا الزكاة فتعني: توحيد المولى الحاكم وتزكية القلوب وتطهيرها.

وأمّا الصوم فباطنه الصمت لقوله لمريم: "فَكُلي وَاشْرَبي وَ قَرِّي عَيْناً" (2) والصوم الحقيقي هو صيانة القلوب بتوحيد المولى الحاكم.

____________

1. محمد كرد علي: خطط الشام: 6|265.

2. مريم: 26.

( 353 )

أمّا الحج فهو معرفة المولى الحاكم والبيت هو توحيد

المولى، ويذكرون قول المنصور:

هلم اريك البيت توقن انّه * هو البيت بيت اللّه لا ما توهمنا

أبيت من الاَحجار، أعظم حرمة * أم المصطفى الهادي الذي نصب البينا

ويقصدون بالبيت هو توحيد الحاكم.

وأمّا الولاية فيقولون: إنّ الحاكم نسخها بقوله:(لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا للذي خلقهن) أي لا تسجدوا لعلي أو محمد، بل للحاكم وهو المشية إن كنتم إيّاه تعبدون.

كما أنّهم من القائلين بجواز الزواج من المحارم كالاَُخت وبتعدّد الزوجات وحلية شرب الخمر.

5. تفسير الشهادتين

إنّ شهادة (أن لا إله إلاّ اللّه) كلمتان دليل على السابق والتالي.

و هي أربعة فصول دليل على الاَصلين والاَساسين.

وهي سبع قطع دليل على النطقاء السبعة والاَوصياء السبعة والاَيام السبعة والسماوات السبعة والاَرضين السبعة والجبال السبعة والاَفلاك السبعة.

وهي 12 حرفاً دليل على 12 حجة أساسية.

وأمّا شهادة :(محمّد رسول اللّه) فهي 3 كلمات دليل على 3 حدود: الناطق والتالي فوقه والسابق فوق الكلي، وهي 6 قطع دليل على 6 نطقاء، وهي 12 حرفاً دليل على 12 حجة، وكذلك السماء 12 برجاً و12 جزيرة.

( 354 )

6. تقديسهم للعجل وإظهاره في مراسمهم واحتفالاتهم

يدعى الكثير بأنّهم من عبدة العجل، والواضح في مراسمهم واحتفالاتهم ظهور صورة العجل، وفي خلواتهم يذكرون العجل بشيء من التقديس والاِجلال، كما أنّهم يحرّمون قتله وأكله.

7. تأويل غريب ومنحرف للاَحاديث الاِسلامية

كما أنّهم يذكرون روايات علي بن أبي طالب - عليه السّلام- حول المهدي ويقولون في تأويلها المقصود به المهدي باللّه (أوّل خلفاء الدولة الفاطمية).

ويدّعون أنّ الحاكم سيرجع في آخر الزمان ليدين العالم ويبدد أعداءه من أمام وجهه، ويبسط ملكه على العالم،و تسبق رجعة الحاكم رجعة حمزة ليعدَّ لمجيء الاِله الحاكم ويحطم الاَضداد والاَبالسة المرتدين ويكسر الصلبان، ويهدم الكعبة التي يعتبرونها «مقطرة الكفرة» يقتل علوج الضلال

وقود الزنج في الاَغلال ونسخ الشرائع والطرائق، وظهور الحقائق وسبي النساء والاَطفال وذبح الرجال بسيف الحاكم على يد عبده القائم الناطق حمزة بن علي، فينصر مستجيبيه بعساكره الجرارة فيحيي كل البشر تحت رايته.

هذه هي أبرز سمات عقيدة الدروز والتي تعتبر السرية ركناً أساسياً لها خوفاً من المتطفلين كما أنّ كشفها قد يعرضها إلى إساءة فهمها ثمّ الاستهزاء بها وهذا يجر صاحبها إلى الهلكة.

كما أنّلهذه الفرقة طقوساً خاصة بهم.

منها: الميثاق: وهو انّ كلّ من يكتمل ويصل لسن الاَربعين عليه أن يعرض دينه بحضور شاهدين ويقسم ومما يقوله:

( 355 )

«آمنت باللّه ربّي الحاكم...و بجميع الحدود... وقد سلمت نفسي وذواتي ظاهراً وباطناً، علماًو عملاً، وأنا أُجاهد في سبيل مولانا سراً وعلانية بنفسي ومالي وولدي، واشهد مولاي هادي المستجيبين المنتقم من المشركين المرتدين حمزة بن علي بن أحمد من به أشرقت الشمس الاَزلية ونطقت فيه وله السحب الفضلية انّني قد تبرأت وخرجت من جميع الاَديان والمذاهب والمقالات والاعتقادات قديمها وحديثها، وآمنت بما أمر به مولانا الحاكم وأقر بأنّك أنت الحاكم الاِله الحقيقي المعبود والاِمام الموجود جلّذكرك». (1)

و منها: الخلوة : وهي أماكن اجتماعهم في جلساتهم الدينية في ليالي الجمع ويحضرها كبارهم العقال فقط ويقودها شيخ العقل أو أكبرهم علماً. (2)

ولعلّ ما نقلناه عن الباحثين سلط ضوءاً على جوانب من حياتهم وآدابهم وعقائدهم غير أنّ الكاتب خير الدين الزركلي ذكر في كتابه «الاَعلام» اتصاله ببعض المثقفين من الدروز وأخذ عنهم شيئاً من عقائدهم ولاِكمال الفائدة ننقل ما جاء في موسوعته، قال:

كنت قد جمعت طائفة من النصوص والمصادر للرجوع إليها عند كتابة هذه الترجمة، ومنها ما جاء في دائرة المعارف البريطانية 8:603_ 606 مادة «دروز» ودائرة البستاني «دروز» وعرضتها على صديقي

الشهيد «فوَاد سليم» وهو من مثقفي المنسوبين إلى المذهب الدرزي، فقال: إنّ في الدائرتين البريطانية والبستانية أغلاطاً، وصحّح ما أخذته عنهما منها. وأضاف من عنده زيادات مما اشتملت عليه الحاشية السابقة.و أطلعت بعد ذلك صديقي أيضاً «فوَاد حمزة» وهو من أُسرة درزية معروفة في لبنان، وكان يومئذٍ في الرياض _ بنجد _ وانقطعت صلته بالعقيدة التي نشأ عليها، كما ذكر لي مراراً، وسألته عن رأيه في الترجمة

____________

1. رسائل الحكمة:1|47، الرسالة رقم 5.

2. نقل بتصرف من رسالة فرقة الدروز، للسيد نبيل الحيدري.

( 356 )

والحاشية، فكتب لي: «هذا أصحّ ما كتب في الموضوع حتى الآن، وهو في الحقيقة ما يذهب إليه الجماعة » ثمّقال في رسالة أُخرى: «إنّ بعض الرسائل المقول إنّها لحمزة هي لغيره. وأكثر ما كتب هو من قلم علي بن أحمد السموقي الملقب ببهاء الدين. وكتب الدروز الستة هي من وضع أربعة أشخاص:

الاَوّل: الحاكم نفسه، وعدد رسائله قليل، منها «الميثاق» و«السجل» الذي وجد معلقاً على المساجد.

والثاني: حمزة، والرسائل التي تركها غير كثيرة.

والثالث: إسماعيل بن محمد التميمي الداعي المكنّى بصفوة المستجيبين وبالنفس، فله بعض الرسائل ومنها شعر اسمه«شعر النفس» وهو كملحمة.

والرابع: بهاء الدين الصابري أي علي بن أحمد السموقي، وله معظم الرسائل، وهو الذي نشر الدعوة ووطد أركانها أكثر ممن سبقه.

وقال في رسالة ثالثة: «لا شكّ في أنّ الحسن بن هاني كان من كبار الباطنيين، ولكنّه باطني في مبتدأ نشوء الدعوة قبل أن تدرك مبلغها الذي عرفت به في عصر الحاكم الفاطمي.و من الواضح أنّ الحاكميين كانوا آخر من انشق عن الاِسماعيلية ولذلك تجد في كتابات الفريقين مصطلحات واحدة، كالناطق، والاَساس، وداعي الدعاة، والنقباء، والمكاسرين، والعقل، والنفس الخ البانثيون الباطني».

وقال في رسالة رابعة: «لقد كثر

الكتاب في موضوع الاِسماعيليّة والفرق الباطنية كما كثر فيه الخلط من جانب الذين كتبوا.

والموضوع من الوجهة التاريخية جدير بالعناية لاَنّ هذه الفرق الباطنية هي التي أعملت معولها في بنيان الاِسلام تحت ستار من الغيرة الدينية.وقد قرأت عن ذلك الكثير ولكن معظم الكتاب لم يتمكّنوا من بلوغ الهدف. إذ أنّ معرفة حقائق

( 357 )

الدعوات الباطنية لا تتيسر إلاّ لمن كان مطلعاً على التاريخ الاِسلامي بوقائعه الظاهرة وكان في نفس الوقت من جماعة الداخلين في العملية.وقد تكون كتابات بطرس البستاني وكتابات دائرة المعارف البريطانية مهمة ولكن كما ذكرت لك يصعب على من كتب أن يتفقه كنه الدعوة مادام لا يعرف حقيقتها السرية وتفسيراتها الداخلية. (1)

____________

1. الاَعلام: 2|279.

( 358 )

أعلام الدروز

حمزة بن علي

(375 _ 433ه_)

حمزة بن علي بن أحمد الفارسي الحاكمي الدرزي، من كبار الباطنية، ومن موَسسي المذهب الدرزي، فارسي الاَصل، من مقاطعة زوزن، كان قزازاً أو لبادا، وتأدّب بالعربية وانتقل إلى القاهرة واتصل برجال الدعوة السرية من شيعة الحاكم بأمر اللّه الفاطمي، فأصبح من أركانها واستمر يعمل لها في الخفاء ويواصل رفع كتبه إلى الحاكم، حتى سنة 408 ه_ فأظهر الدعوة وجاهر بتأليه الحاكم، وقال: إنّه رسوله، وجعله الحاكم داعي الدعاة و لما هلك الحاكم وحل ابنه (الظاهر لاِعزاز دين اللّه) محلّه سنة 411 ه_ فترت الدعوة ثمّ طوردت بعد براءة الظاهر منها سنة 414 ه_ ، فاضطر حمزة إلى الرحيل ولحق به بعض أتباعه إلى بلاد الشام، واستقر أكثرهم في المقاطعة التي سمّيت بعد ذلك «جبل الدروز» في سورية وسمّوا بالدروز. وحمزة عندهم أوّل الحدود الخمسة المعصومين، ويكنّون عنه بالعقل. وله رسائل في مذهبهم والدعوة إلى الحاكم والردّعلى مخالفيهم منها:

1. «الواقعة » في الرد على الفاسق

النصيري.

2. «الرضا والتسليم» وفيها ذكر الدرزي محمد بن إسماعيل وعصيانه.

3. «التنزيه» لاِظهار تنزيه الاِله عن كلّوصف وإدراك، وفيها ذكر وزراء الدين ومضاديهم (أبالستهم) الخمسة.

4. «رسالة النساء».

5. «الصبحة الكائنة».

( 359 )

6. «نسخة سجل المجتبى».

7. «تقليد الرضى سفير القدرة».

8. «تقليد المقتنى».

9. «مكاتبة أهل الكدية البيضاء».

10. «شرط الاِمام صاحب الكشف».

11. «التحذير والتنبيه».

12. «البلاغ والنهاية».

13. «سبب الاَسباب والكنز لمن أيقن واستجاب».

وقد انقطع حمزة عن الكتابة بعد رحيله إلى الشام وانقطاع الصلة بينه وبين شيعة الحاكم في مصر. (1)توفي عام 334ه_. (2)

جمال الدين عبد اللّه التنوخي

(820 _ 884 ه_)

هو أكبر شخصية علمية بين الدروز ، ولد في عبيه سنة 820 ه_ ، وتوفي فيها في جمادى الآخرة سنة 884ه_ ، تتلمذ على يد الشيخ أبي علي مرعى زهر الدين، وانتقل إلى دمشق طمعاً في مزيد من العلم اثنتي عشرة سنة وبعدها عاد إلى عبيه، يمضي وقته في التدريس والعبادة حتى أقبل عليه التلاميذ من مختلف نواحي البلاد الدرزية، واشتهر أمره وصارت له مكانة عالية بين أكابر البلاد ومشايخها وأصبح المرجع الدرزي الوحيد لاَهل عصره.

____________

1. الزركلي: الاَعلام:2|278_ 279، نقل بتصرف.

2. وقد ادّعى الكاتب الدرزي صالح زهر الدين في كتابه «تاريخ الدروز»: 38، انّحمزة اختفى بعد غيبة الحاكم بوقت قصير في نهاية عام 411ه_.

( 360 )

و يعده الدروز اليوم قطباً من أقطاب المذهب الدرزي، وانّ شروحه على بعض رسائل الدروز أو رسائل الحكمة الدرزية كما يطلق عليها تنال عناية وافرة لدى شيوخ العقل الدروز.

و له مصنفات كثيرة، منها:

1. «اللغة العرباء» وهو معجم في اللغة العربية على غرار «الصحاح» للجوهري.

2. «سياسة الاَخيار في شرح كمالات النبي المختار».

3. «شروحات الاَمير السيد» وهي مجموعة شروح على بعض الرسائل التوحيدية .

4. رسالة من بين رسائل الدروز

المائة واحدى عشرة (1) قام بطبعها الكاتب الدرزي عجاج يوسف نويهض، ضمن كتابه الموسوم باسم «التنوخي الاَمير عبد اللّه والشيخ محمد أبو هلال».

والفصول التي طبعت هي في الموضوعات التالية:

1. في تحريم الخمر وكلّ مسكر.

2. في طلب الاستفادة والمرشد الاَمين.

3. في النهي عن الغضب ومحقه بالاعتصام بحبل اللّه .

4. في آداب جوارح البدن: اللسان، العين، الاَُذن، اليد، الرجل، البطن.

5. في اختلاف ألوان الاَطعمة.

6. في الحركة والرياضة قبل الطعام.

7. في آداب الزواج.

8. في ادخار المال وإنفاقه.

____________

1. عبد الرحمان البدوي، مذاهب الاِسلاميين: 644_ 649، نقل بتصرف؛ وله ترجمة في تاريخ الدروز للدكتور صالح زهر الدين: 268.

( 361 )

9. في النهي عن الاحتكار.

10. في الغنى نحو اللّه ونفسه والمحتاجين.

11. في معاملات البيع والشراء والقرض والوديعة.

12. في واجبات الدائن والمدين.

13. في الوصية.

14. في تربية الولد.

15. شذرات من أقوال التنوخي واختياره. (1)

يوسف الكفرقوقي

هو الشيخ يوسف سعيد برّو ، من كفرقوق في راشيا ، وعرف بهذا الاسم (الكفرقوقي) نسبه لقريته. كان شاعراً دينياً ومن كبار علماء الدروز، له كتاب ضخم اسمه «دور النحو في التوبة إلى الملك الغفور» توفي في قرية «ينطا» بعد عودته من دمشق، ودفن فيها. (2)

محمد أبو هلال

المعروف ب_ «الشيخ الفاضل»

(1005_ 1050 ه_)

ولد في قرية صغيرة من جبل الشيخ تدعى «الشعيرة»، انكب على القراءة والمطالعة، وبدأ نجمه يلمع ويتألق حتى توصل لمرتبة شيخ عقل الدروز كافة،

____________

1. عجاج نويهض: التنوخي الاَمير عبد اللّه والشيخ محمد أبو هلال: الطبعة الثانية، بيروت _1963 م.

2. صالح زهر الدين: تاريخ الدروز : 269؛ توفيق سلمان: أضواء على تاريخ مذهب التوحيد: 162_ 163، بيروت _ 1963 م.

( 362 )

ونال ثقتهم حتى أصبحوا يطلقون عليه اسم «الشيخ الفاضل»، وبرع في شعره براعة فائقة، وجميع الدروز يردّدون

شعره في اجتماعاتهم الدينية وطقوسهم، لاَنّها تمجيد للخالق والمآثر الدينية الحميدة، هذا وقد كتب عنه وعن آدابه أحد تلاميذه ويدعى أبو علي عبد الملك، ضمن كتاب اسمه «آداب الشيخ الفاضل» وفيه وصف لسيرة شيخه الفاضل في مرحلة تديّنه، وهي المرحلة التي كتب فيها الشعر حيث كان يبلغ من العمر الاَربعين أو خمسة وأربعين عاماً. توفي في بلدة عين عطا، ودفن فيها عام 1050ه_. (1)

____________

1. عارف أبو شقرا: ثلاثة علماء من شيوخ بني معروف: 82؛ عبد الرحمان بدوي: مذاهب الاِسلاميين: 653_657؛ الدكتور صالح زهر الدين: تاريخ الدروز : 269_ 270.

الفصل السابع عشر

الفصل السابع عشر

في

الفطحية

( 364 )

( 365 )

الفطحية : هم القائلون بإمامة الاَئمّة الاثني عشر مع عبد اللّه الاَفطح ابن الاِمام الصادق - عليه السّلام- يدخلونه بين أبيه الصادق وأخيه الكاظمعليمها السّلام و قد كان عبد اللّه أفطح الرأس.

والاَفطح كما في اللسان: عريض الرأس، ورأس أفطح ومفطّح: عريض. (1)

وقال الطريحي: أفطح الرجلين: عريضهما (2)وربما يفسّر باعوجاج في الرجل.

كان عبد اللّه بن جعفر الصادق - عليه السّلام- قد ادّعى الاِمامة والوصاية، بعد رحيل أبيه، وكان هو أكبر أولاد الاِمام بعد إسماعيل المتوفى في حياته، فتمسّك القائلون بإمامته بحديث رووه عن الاِمام أنّه قال:«الاِمامة في الاَكبر من ولد الاِمام» ولم يكن حظّه من الدنيا بعد رحيل أبيه إلاّ سبعين يوماً، فقد تُوفي أبوه الصادق - عليه السّلام- في الخامس والعشرين من شهر شوال عام 148ه_، فيكون قد توفي في خامس شهر ذي الحجة الحرام من نفس السنة وبرحيله عاد القائلون بإمامته إلى إمامة الاِمام موسى الكاظم - عليه السّلام- . ولقد ظهرت منه أشياء لا ينبغي أن تظهر من الاِمام لمّا امتحنوه بمسائل من الحلال والحرام ولم يكن عنده

جواب، وإليك ما وقفنا عليه من النصوص:

1. قال الحسن بن موسى النوبختي: قالت الفطحية: الاِمامة بعد جعفر في ابنه عبد اللّه بن جعفر الاَفطح، وذلك أنّه كان عند مضيّ جعفر، أكبرُ وُلْدِه سناً و جلس مجلس أبيه وادّعى الاِمامة ووصية أبيه، واعتلّوا بحديث يروونه عن أبي

____________

1. ابن منظور: لسان العرب:2|545، مادة «فطح».

2. الطريحي: مجمع البحرين:2|400، مادة «فطح».

( 366 )

عبد اللّه جعفر بن محمد أنّه قال: الاِمامة في الاَكبر من وُلْد الاِمام، فمالَ إلى عبد اللّه والقول بإمامته جُلَّ من قال بإمامة أبيه جعفر بن محمد غير نفر يسير عرفوا الحقّ فامْتَحنَوا عبد اللّه بمسائل في الحلال والحرام من الصلاة والزكاة وغير ذلك فلم يجدوا عنده علماً، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد اللّه بن جعفر هي«الفطحية» وسُمّوا بذلك لاَنّ عبد اللّه كان أفطح الرأس، وقال بعضهم: كان أفطح الرجلين، وقال بعض الرواة: نُسِبُوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد اللّه بن فطيح، ومال إلى هذه الفرقة جلّ مشايخ الشيعة وفقهائها ولم يشكّوا في أنّ الاِمامة في «عبد اللّه بن جعفر» وفي وُلْده من بعده، فمات عبد اللّه ولم يخلِّف ذكراً، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته _ سوى قليل منهم _ إلى القول بإمامة «موسى بن جعفر»، وقد كان رجع جماعة منهم في حياة عبد اللّه إلى موسى بن جعفر عليمها السّلام ، ثمّ رجع عامتهم بعد وفاته عن القول به، وبقى بعضهم على القول بإمامته ثمّ إمامة موسى بن جعفر من بعده، وعاش عبد اللّه بن جعفر بعد أبيه سبعين يوماً و نحوها. (1)

2. وقال الكشي: هم القائلون بإمامة عبد اللّه بن جعفر بن محمد، وسُمُّوا بذلك لاَنّه قيل إنّه كان أفطح

الرأس، وقال بعضهم: كان أفطح الرجلين، وقال بعضهم: إنّهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له «عبد اللّه بن فطيح» والذين قالوا بإمامته عامة مشايخ العصابة وفقهائها، مالوا إلى هذه المقالة فَدَخلْت عليهم الشبهة لما روي عنهم - عليهم السّلام- أنّهم قالوا: الاِمامة في الاَكبر من ولد الاِمام إذا مضى إمام. ثمّ منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنه بمسائل من الحلال والحرام لم يكن عنده فيها جواب، ولِما ظهر منه من الاَشياء التي لا ينبغي أن يظهر من الاِمام.

ثمّ إنّ عبد اللّه مات بعد أبيه بسبعين يوماً، فرجع الباقون إلاّ شاذاً منهم عن

____________

1. الحسن بن موسى النوبختي:فرق الشيعة:77_ 78.

( 367 )

القول بإمامته إلى القول بإمامة أبي الحسن موسى - عليه السّلام- و رجعوا إلى الخبر الذي روي: أنّ الاِمامة لا تكون في الاَخوين بعد الحسن والحسين عليمها السّلام و بقى شذّاذ منهم على القول بإمامته، وبعد أن مات قال بإمامة أبي الحسن موسى - عليه السّلام- .

وروي عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- أنّه قال لموسى: «يا بني انّ أخاك سيجلس مجلسي، ويدّعي الاِمامة بعدي، فلا تنازعه بكلمة،فإنّه أوّل أهلي لحوقاً بي». (1)

3. ونقل في ترجمة «هشام بن سالم الجواليقي» أنّه قال: كُنّا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد اللّه - عليه السّلام- أنا وموَمن الطاق أبو جعفر، والناس مجتمعون على أنّ عبد اللّه صاحب الاَمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد اللّه وذلك أنّهم رووا عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- أنّالاَمر في الكبير مالم يكن به عاهة، فدخلنا نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ قال: في مائتين خمسة.

قلنا: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف درهم. قلنا له: واللّه ما تقول في المرجئة هذا؟!، فرفع يده إلى السماء فقال: لا واللّه ما أدري ما تقول المرجئة.قال:فخرجنا من عنده ضُلاّلاً لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الاَحول، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد، وإلى من نتوجه، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج.

قال: فنحن كذلك إذ رأيتُ رجلاً شيخاً لا أعرفه يُومي إليّ بيده ، فخفتُ أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر (2) وذلك أنّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتّفق من شيعة جعفر فيضربون عنقه، فخفتُ أن يكون منهم، فقلت لاَبي جعفر: تنحّ فإنّي خائف على نفسي وعليك، وإنّما يريدني ليس يريدك، فتنحَّ عني لا تُهْلَك وتُعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك انّي ظننت أنّي

____________

1. الكشي: الرجال:219.

2. المراد أبو جعفر المنصور العباسي.

( 368 )

لا أقدر على التخلّص منه، فمازلتُ أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى - عليه السّلام- ثمّخلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب، فقال لي: أُدخل رحمك اللّه.

قال: فدخلت فإذا أبو الحسن - عليه السّلام- فقال لي ابتداءً:«لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليّ إليّ إليّ». قال: فقلتُ له: جعلتُفداك مضى أبوك؟ قال:«نعم». قال: قلت: جعلتُ فداك مضى في موتٍ؟ قال: «نعم». قلتُ: جعلتُ فداك فمَنْ لنا بعده؟فقال: «إن شاء اللّه أن يهديك، هداك». قلت: جعلتُ فداك إنّ عبد اللّه يزعم أنّه من بعد أبيه؟ فقال: «يريد عبد اللّه أن لا يُعبد اللّه». قال: قلتُ: جعلتُ فداك فمن لنا بعده؟ فقال: «إن شاء اللّه

أن يهديك هداك» أيضاً. قلت: جعلت فداك أنت هو؟ قال:«ما أقول ذلك»، قلت في نفسي: لم أُصبْ طريقَ المسألة. قال: قلت: جعلتُ فداك عليك إمام؟ قال: «لا ». قال: فدخلني شيء لا يعلمه إلاّاللّه إعظاماً له، وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلتُ عليه، قلت: جعلتُ فداك أسألك عمّا كان يسأل أبوك؟ قال:«سل تُخبر، ولا تُذِع، فإن أذعت فهو الذبح». قال: فسألته فإذا هو بحر .

قال: قلت: جعلت فداك شيعتُك وشيعة أبيك ضُلاّل فألقي إليهم وأدعهم إليك فقد أخذت عليّ بالكتمان؟ فقال:«من آنست منهم رشداً فالق عليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح _ وأشار بيده إلى حلقه _ قال: فخرجتُ من عنده فلقيتُ أبا جعفر، فقال لي: ما وراك؟ قال: قلت: الهدى. قال: فحدثتُه بالقصة، ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير. قال: فدخلوا عليه وسلّموا وسمِعوا كلامَه وسألوه. قال: ثمّ قطعوا عليه، قال: ثمّ لقينا الناس أفواجاً. قال: وكان كل من دخل عليه قطع عليه إلاّ طائفة مثل عمار وأصحابه، فبقي عبد اللّه لا يدخل عليه أحد إلاّ قليلاً من الناس. قال: فلمّا رأى ذلك وسأل عن حال الناس؟ قال: فأُخبر أنّ هشام بن سالم صدّ عنه الناس. قال: فقال هشام: فأقعد لي بالمدينة

( 369 )

غير واحد ليضربوني.(1)

4. وقال الاَشعري (260_324ه_) عند عدّ فرق الشيعة: ومنهم من يزعم أنّ الاِمام بعد جعفر ابنه «عبد اللّه بن جعفر» وكان أكبرَ من خلَف من ولده وهي في ولده، وأصحاب هذه المقالة يدعون العَمّارية، نُسِبوا إلى رئيس لهم يعرف ب_«عمّار»،و يُدعون الفطحية، لاَنّ عبد اللّه بن جعفر كان أفطحَ الرجلين، وأهل هذه المقالة يرجعون إلى عدد كثير.

فأمّا زرارة فإنّ جماعة من العمّارية

تدّعي أنّه كان على مقالتها، وأنّه لم يرجع عنها، وزعم بعضهم أنّه رجع إلى ذلك حين سأل «عبد اللّه بن جعفر» عن مسائل لم يجد عنده جوابها، وصار إلى الائتمام بموسى بن جعفر بن محمد، وأصحاب زرارة يدعون «الزرارية» ويدعون«التميمية». (2)

5.و تبعه البغدادي ولخّص كلامه قائلاً: العمارية وهم منسبون إلى زعيم منهم يسمّى عماراً، وهم يسوقون الاِمامة إلى جعفر الصادق، ثمّ زعموا انّ الاِمام بعده ولده عبد اللّه، وكان أكبر أولاده، وكان أفطح الرجلين، ولهذا قيل لاَتباعه «الفطحية». (3)

وقد خبط الرجلان فاخترعا فرقة باسم العَمّارية نسبة إلى عمار بن موسى الساباطي، مع أنّه رجل من أتباع «عبد اللّه» وأكثر ما يمكن أن يقال أنّه كان داعياً، لا صاحب مذهب.

وأمّا اتّهام الاَشعري زرارة بن أعين بأنّه كان من الفطحية مدة ثمّ رجع عنها، فليس له سند إلاّ روايات ضعاف، كأكثر ما ورد في حقّزرارة من الروايات

____________

1. الكشي: الرجال:239_ 241.

2. الاَشعري: مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلّين: 1|27، تصحيح هلموت ريز.

3. الفرق بين الفرق: 62 برقم 59.

( 370 )

الذامّة.(1)

مع أنّ الصحيح في حقّه ما نقله الصدوق في «كمال الدين» عن إبراهيم بن محمد الهمداني _ رضي اللّه عنه _ قال : قلت للرضا - عليه السّلام- يابن رسول اللّه أخبرني عن زرارة، هل كان يعرف حقّ أبيك؟ فقال - عليه السّلام- :«نعم»، فقلتُ له: فلمَ بعث ابنه عبيداً ليتعرف الخبر إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمد - عليه السّلام- ؟ فقال: «إنّ زرارة كان يعرف أمر أبي - عليه السّلام- و نصّ أبيه عليه، وإنّما بعث ابنه ليتعرّف من أبي هلْ يجوز له أن يرفع التقية في إظهار أمره، ونصّ أبيه عليه؟ وانّه لمّا أبطأ عنه طُولب بإظهار

قوله في أبي - عليه السّلام- ، فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره فرفع المصحف، وقال:اللّهمّ إنّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامتَه من ولد جعفر بن محمد - عليه السّلام- ». (2)

6. وقال الشهرستاني:«الفطحية قالوا بانتقال الاِمامة من الصادق إلى ابنه عبد اللّه الاَفطح، وهو أخو إسماعيل من أبيه وأُمّه، وأُمّهما فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي، وكان أسن أولاد الصادق.

زعموا أنّه قال: الاِمامة في أكبر أولاد الاِمام.وقال: الاِمام من يجلس مجلسي، وهو الذي جلس مجلسه. والاِمام لا يغسّله، ولا يصلّي عليه، ولا يأخذ خاتمه، ولا يواريه إلاّ الاِمام. وهو الذي تولّى ذلك كلّه. ودفع الصادق وديعة إلى بعض

____________

1. نقل الكشي الروايات الحاكية عن أنّ زرارة كان شاكاً في إمامة الكاظم - عليه السّلام- وانّه لما توفي الصادق - عليه السّلام- بعث ابنه «عبيد» للتحقيق عن أمر الاِمامة وانّه لعبد اللّه أو للكاظم عليمها السّلام ، ثمّ إنّ زرارة مات قبل أن يرجع إليه عبيد، ونقلها السيد الخوئي قّدس سّره في معجمه، معجم رجال الحديث: 7|230 _ 234،و ناقش في اسنادها وأثبت أنّها، ضعاف، ونحن نجلّ زرارة بن أعين الذي عاش مع الاِمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الصادق عليمها السّلام قرابة نصف قرن ، عن هذه الوصمة.

2. الصدوق: كمال الدين: 75، ط موَسسة النشر الاِسلامي.

( 371 )

أصحابه وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها منه وأن يتخذه إماماً. وما طلبها منه أحد إلاّ عبد اللّه، ومع ذلك ما عاشَ بعد أبيه إلاّ سبعين يوماً ومات ولم يعقب ولداً ذكراً.(1)

لقد غاب عن الشهرستاني مفاد قوله - عليه السّلام- : «الاِمام من يجلس مجلسي»، فلو صدر منه ذلك القول، فالمراد منه ما يقوم

بمثل ما كان الاِمام يقوم به في مجال بيان الاَُصول والفروع، وملء الفراغ الحاصل من رحيله، لا مجرّد جلوسه في مكانه وإن كان جاهلاً بأبسط المسائل.

كما أنّه لم يثبت أنّ عبد اللّه تولّى غسل الاِمام والصلاة عليه.

وقد روى ابن شهر آشوب عن أبي بصير ، عن موسى بن جعفرعليمها السّلام أنّه قال:«فيما أوصاني به أبي أن قال: يا بنيّ إذا أنا متُّ فلا يغسّلني أحد غيرك، فإنّ الاِمام لا يغسّله إلاّ إمام، واعلم أنّ «عبد اللّه» أخاك سيدعو الناس إلى نفسه فدعه، فإنّ عمره قصير. فلمّا أن مضى غسلته...». (2)

7. وقال الصدوق: قال الصادق لاَصحابه في ابنه عبد اللّه:«إنّه ليس على شيء فيما أنتم عليه وانّي أبرأ منه ، برىَ اللّه منه». (3)

8. قال المفيد: وكان عبد اللّه بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل، ولم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الاِكرام، وكان متهماً بالخلاف على أبيه في الاعتقاد.ويقال أنّه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذاهب المرجئة، وادّعى بعد أبيه الاِمامة، واحتج بأنّه أكبر إخوته الباقين، فاتّبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد اللّه - عليه السّلام- ، ثمّ رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى - عليه السّلام- ، لمّا تبيّنوا ضعفَ دعواه وقوة أمر أبي الحسن - عليه السّلام- ودلالة حقّه وبراهين إمامته، وأقام نفر

____________

1. الشهرستاني: الملل والنحل:1|167.ولاحظ التبصير للاِسفراييني:38.

2. ابن شهر آشوب:المناقب: 4|224.

3. اعتقادات الصدوق، المطبوع ضمن مصنفات المفيد: 113.

( 372 )

يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد اللّه وهم الطائفة الملقبة بالفطحية، وإنّما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد اللّه وكان أفطح الرجلين، ويقال انّهم لقبوا بذلك لاَنّ داعيهم إلى إمامة عبد اللّه كان يقال

له عبد اللّه بن الاَفطح. (1)

وقال أيضاً: وأمّا الفطحية فإنّ أمرها أيضاً واضح، وفساد قولها غير خاف ولا مستور عمّن تأمله، وذلك أنّهم لم يدّعوا نصاً من أبي عبد اللّه - عليه السّلام- على عبد اللّه، وانّما عملوا على ما رووه من أنّ الاِمامة تكون في الاَكبر، وهذا حديث لم يُرو قط إلاّ مشروطاً، وهو أنّه قد ورد أنّ الاِمامة تكون في الاَكبر مالم تكن به عاهة، وأهل الاِمامة القائلون بإمامة موسى بن جعفر - عليه السّلام- متواترون بأنّ عبد اللّه كان به عاهة بالدين، لاَنّه كان يذهب إلى مذاهب المرجئة الذين يقعون في علي - عليه السّلام- وعثمان، وانّأبا عبد اللّه - عليه السّلام- قال وقد خرج من عنده:«عبد اللّه هذا مرجىَ كبير» وانّه دخل عليه عبد اللّه يوماً وهو يحدث أصحابه، فلمّا رآه سكت حتى خرج، فسئل عن ذلك؟ فقال: «أو ما علمتم أنّه من المرجئة» هذا مع أنّه لم يكن له من العلم بما يتخصص به من العامة، ولا رُوي عنه شيء من الحلال والحرام، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الاَحكام، وقد ادّعى الاِمامة بعد أبيه، فامتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها وما أتى بالجواب، فأيّ علّة ممّا ذكرناه تمنع من إمامة هذا الرجل، مع أنّه لو لم تكن علّة تمنع من إمامته، لما جاز من أبيه صرف النص عنه، ولو لم يكن صرفه عنه لاَظهره فيه، ولو أظهره لنقل وكان معروفاً في أصحابه، وفي عجز القوم عن التعلّق بالنص عليه دليل على بطلان ما ذهبوا إليه. (2)

بقيت هنا أُمور :

الاَوّل: الظاهر ممّا ذكرنا أنّ أكثر القائلين بإمامة عبد اللّه بن جعفر عدلوا عن

____________

1. المفيد: الاِرشاد: 285_286.

2. العيون والمحاسن:253.

( 373 )

رأيهم،

وقالوا بإمامة أخيه موسى بن جعفر بعد إمامة أبيه جعفر الصادق، وأمّا القليل منهم فقال بإمامة موسى بن جعفر بعد الاَفطح، فصار عبد اللّه الاِمام السابع، وأخوه موسى الاِمام الثامن، وبذلك يتجاوز عدد الاَئمّة عن الاثني عشر، ولا أظن أنّهم وقفوا على عبد اللّه من دون الاعتقاد بإمامة الآخرين، وإلاّ كانوا واقفة لا فطحية، وسيوافيك الكلام في المذهب الواقفي عن قريب إن شاء اللّه.

الثاني: الظاهر ممّا نقله الصدوق عن بعضهم أنّ القائلين بإمامة عبد اللّه كانوا معروفين بالشمطية كما أنّ بعض الفطحية قال بإمامة إسماعيل بن جعفر بعد رحيل عبد اللّه، وإليك نص الصدوق ناقلاً عن بعضهم:

قال: قال صاحب الكتاب: وهذه الشمطية تدّعي إمامة عبد اللّه بن جعفر بن محمد من أبيه بالوراثة والوصية، وهذه الفطحية تدّعي إمامة إسماعيل ابن جعفر عن أبيه بالوراثة والوصية وقبل ذلك إنّما قالوا بإمامة عبد اللّه بن جعفر ويسمّون اليوم إسماعيلية. لاَنّه لم يبق للقائلين بإمامة عبد اللّه بن جعفر خلف ولا بقية، وفرقة من الفطحية يقال لهم القرامطة، قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر بالوراثة والوصية، وهذه الواقفة على موسى بن جعفر تدّعي الاِمامة لموسى وترتقب لرجعته. (1)

الثالث: بما أنّ أكثر القائلين بإمامة الاَفطح رجعوا عن رأيهم بعد ظهور الحقّ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لجرحهم، نعم من بقى منهم على عقيدته، وآمن بإمامة موسى بن جعفر أو إسماعيل بن جعفر حكمهم حكم سائر فرق الشيعة إذا كانوا متثبتين في القول، فيوَخذ برواياتهم، وإلاّ فلا.

الرابع: انّعدّ الفطحية مذهباً ونحلة، أمر غير صحيح لوجهين:

أحدهما: أنّ القول بإمامة عبد اللّه نشأ عن شبهة، دخلت في أذهانهم، ثمّ

____________

1. الصدوق: كمال الدين: 101_ 102.

( 374 )

زالت الشبهة، ولم يبق إلاّالقليل.

وثانيهما:

أنّ النحلة عبارة عن آراء في الاَُصول والعقائد أو في الفروع والاَحكام تكون سبباً لتمييز طائفة عن أُخرى، وأمّا الاتّفاق في عامة الاَُصول مع اختلاف في أمر واحد، كالاعتقاد بإمامة عبد اللّه ، فهذا مالا يبرر عدّ القول به نحلة، والقائلون به فرقة.

نعم، من يريد تكثير النحل، وزيادة عدد الفرق، يصحّ له ذكرهم فرقة من الفرق.

الخامس: انّ الفطحية وإن اشتركت مع الواقفية في مسألة عدم الاعتراف بالاِمام الحقيقي، ولكن الطائفة الاَُولى كانت أقل تعصباً من الاَُخرى بدليل أنّهم اعترفوا بإمامة موسى الكاظم - عليه السّلام- بعد رحيل إمامهم الاَفطح، لكن بين مُخطِّىَ نفسه في الاعتقاد بإمامة الاَفطح،و بين مصوِّب إمامته مع إمامة الكاظم - عليه السّلام- إلاّ أنّ الواقفية كانت متعصبة جدّاً حيث وقفت على إمامة موسى الكاظم - عليه السّلام- و لم تتجاوزه، وجرت مناظرات بينهم وبين القطعية الذين قطعوا بإمامة ابن الكاظم، علي بن موسى الرضا عليمها السّلام .

يقول المجلسي الاَوّل: واعلم أنّ الفطحية كانوا أقربَ إلى الحقّ من الواقفية، أو هم أبعد عن الحقّ من الفطحية، لاَنّ الفطحية لا ينكرون بقية الاَئمّة - عليهم السّلام- وكانوا يقولون بإمامتهم، ولهذا شُبهُوا بالحمير، بخلاف الواقفة، فإنّهم شُبهوا بالكلاب الممطورة، والشيخ ذكر الواقفية في كتاب الغيبة وأبطل مذهبهم بالاَخبار التي نقلوها. (1)

وقال العلاّمة المامقاني:لا يخفى عليك أنّ القول بالفطحية أقرب مذاهب

____________

1. المجلسي الاَوّل (محمد تقي): روضة المتقين:14|395.

( 375 )

الشيعة إلى الحقّ من وجهين:

أحدهما: انّ كلّ مذهب من المذاهب الفاسدة يتضمّن إنكار بعض الاَئمّة - عليهم السّلام- ، ومن المعلوم بالنصوص القطعية، أنّ من أنكر واحداً منهم كان كمن أنكر جميعهم، والفطحي يقول بإمامة الاثني عشر جميعاً ويضيف عبد اللّه بين الصادق والكاظم عليمها السّلام ،

فهو يقول بإمامة ثلاثة عشر، ويحمل أخبار الاثني عشر إماماً على الاثني عشر مِنْ ولد أمير الموَمنين - عليهم السّلام- ، فلا يموت الفطحي إلاّ عارفاً بإمام زمانه بخلاف من ماتَ من أهل سائر المذاهب فإنّه يموت جاهلاً بإمام زمانه.

نعم من مات من الفطحية في السبعين يوماً زمان حياة عبد اللّه بعد أبيه مات غير عارف لاِمام زمانه فمات ميتة جاهلية بخلاف من مات بعد وفاة عبد اللّه.

ثانيهما: انّكلّذي مذهب من المذاهب الفاسدة قد تلقّى ممّن يعتقده إماماً من غير الاثني عشر فروعاً مخالفة لفروعنا بخلاف الفطحية فإنّ عبد اللّه لم يبق إلاّ سبعين ولم يتلقّوا منه حكماًفرعياً وإنّما يعملون في الفروع بما تلقّوه من الاَئمة الاثني عشر، فالفطحية قائلون بالاثني عشر، عاملون بما تلقّوه من الاثني عشر، فليس خطأهم إلاّ زيادة عبد اللّه سبعين يوماً بين الصادق والكاظم عليمها السّلام ، وإيراث ذلك الفسقَ محلّتأمّل. (1)

يلاحظ على الثاني: بأنّ الواقفية أيضاً مثل الفطحية لم يتلقّوا فروعاً من غير الاَئمّة، نعم انّ الفطحية أخذوا منهم جميعاً والواقفية اقتصرت على الاَئمّة السبعة، فما ذكره من الوجه الثاني لا يعد فرقاً بين الطائفتين.

____________

1. عبد اللّه المامقاني: تنقيح المقال:1|193، الفائدة السابعة.

( 376 )

مشاهير الفطحية

انّ هناك لفيفاً من رواة الشيعة وُصفوا بالفطحية، وهم بين من ثبت على القول بإمامة الاَفطح ومن رجع عنه، وإليك أسماءهم المستخرجة من كتب الرجال:

1. أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن فضّال بن عمر بن أيمن.

2. إسحاق بن عمّار بن حيّان، مولى بني تغلب، أبو يعقوب الصيرفي الساباطي.

3. الحسن بن علي بن فضال.

4. عبد اللّه بن بكير بن أعين بن سنسن الشيباني الاَصبحي المدني.

5. عبد اللّه بن جعفر بن محمد بن

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السّلام- .

6. علي بن أسباط بن سالم بياع الزطّي المقري.

7. الاَزدي الساباطي (كوفي).

8. علي بن الحسن بن علي بن فضّال.

9. عمار بن موسى الساباطي.

10. محمد بن الحسن بن علي بن فضّال.

11. محمد بن سالم بن عبد الحميد.

12. مصدق بن صدقة المدائني.

( 377 )

الفصل الثامن عشر

الفصل الثامن عشر

في

الواقفية

( 378 )

( 379 )

التوقّف عند إمامة شخص بعد رحيل إمام ما، ظاهرة برزت عند الشيعة بين آونة وأُخرى، ولذلك صار لها إطلاقان:

الاَوّل: التوقّف بالمعنى العام من غير اختصاصه بالتوقّف على إمام خاص، فإنّ هناك طائفة توقّفت عند إمامة الحسين - عليه السّلام- ولم تتجاوز عنه وهم المعروفون بالكيسانية، كما أنّ هناك من توقّف عند إمامة الاِمام الباقر - عليه السّلام- ولم تتجاوز عنه - عليه السّلام- و هي المعروفة بالمنصورية أو المغيرية وهناك من توقّف عند إمامة الاِمام الصادق ولم يتجاوز عنه كالاِسماعيلية، وهذه الفرق حتى الزيدية من الواقفية الذين لم يعترفوا بإمامة الاَئمّة الاثني عشر قاطبة وتوقّفوا أثناء الطريق، ومع ذلك كلّه فلا يطلق عليهم الواقفية في كتب الرجال ولا في الملل والنحل، وإنّما يطلق عليهم نفس أسمائهم، وقد مرّ في الجزء السابع أنّ بعض هذه الفرق غلاة كفّار لا يعترف بهم.

الثاني: الطائفة المتوقّفة عند إمامة الاِمام موسى الكاظم - عليه السّلام- غير المعترفة بإمامة ابنه علي بن موسى الرضا - عليه السّلام- و هوَلاء المعروفون ب_«الواقفية». وقد اختصت بهم هذه التسمية، فلا تتبادر من هذه التسمية إلاّ تلك الطائفة.

قال المحقّق البهبهاني: اعلم أنّ الواقفة هم الذين وقفوا على الكاظم - عليه السّلام- ، و ربما يطلق الوقف على من وقف على غير الكاظم - عليه السّلام- من

الاَئمّة ...ولكن عند الاِطلاق ينصرف إلى من وقف على الاِمام الكاظم - عليه السّلام- ولا ينصرف إلى غيرهم إلاّ بالقرينة، ولعلّ من جملتها عدم دركه للكاظم - عليه السّلام- و موته قبله أو في زمانه، مثل سماعة بن مهران وعلي بن حيان ويحيى بن القاسم. (1)

____________

1. البهبهاني: الفوائد الرجالية:40.

( 380 )

سبب ظاهرة التوقف

إنّ السبب الغالب لبروز فكرة التوقف بين طائفة من الشيعة هو أنّها رزحت تحت نير الحكم الاَُموي والعباسي ولولا لجوئها إلى التقية واتخاذها سلاحاً لما كتب لها البقاء، حتى أنّ الاتهام بالزندقة والاِلحاد كان أخف وطأً من الاتّهام بالتشيّع في فترة خلافة عبد الملك بن مروان وإمارة الحجاج على العراق، فكان الاَئمّة لا يبوحون بأسرارهم إلاّ لخاصتهم، حتى نرى أنّ رحيل كلّ إمام تعقبه هوة بين الشيعة برهة من الزمن إلى أن يستقرَّ الرأي على الحقّ.

هذا هو السبب الغالب لنشوء بعض الفرق بين الشيعة الذين لم يكن لديهم أيّ اختلاف في الاَُصول والفروع إلاّ في القيادة والاِمامة.

إنّ عصر هارون الرشيد كان عصر القمع والكبت والتضييق على الشيعة وإمامهم، وكانت سياسته على غرار سياسة أبي جعفر الدوانيقي، والتاريخ يحدثنا عن السياسة التي اتبعها مع الاِمام موسى الكاظم - عليه السّلام- .

كان الاِمام مهوى قلوب الشيعة، يتلقون عنه أحكام الدين وأُصول المذهب، وربما تحمل إليه الاَموال من المشرق ومن المغرب فشق على هارون لمّا أخبره بعض جواسيسه بهذا الاَمر ، ولاَجل معالجة هذا الموقف الذي أشغل فكره، حجّ في تلك السنة وزار قبر النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقال: يا رسول اللّه إنّي أعتذر إليك من شيء أُريد أن أفعله، أُريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بأُمّتك وسفك دمائها.

ثمّ أمر به فأُخذ من المسجد فأُدخل إليه فقيّده ، وأُخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو - عليه السّلام- في إحديهما، ووجه مع كلّ واحدة منهما خيلاً، فأخذ بواحدة على طريق البصرة، والاَُخرى على طريق الكوفة، ليعمى على الناس أمره، وكان في التي مضت إلى البصرة.

وأمر الرسول أن يسلّمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور، وكان على البصرة

( 381 )

حينئذٍ، فمضى به، فحبسه عنده سنة.

ثمّ كتب إلى الرشيد أن خذه منّي و سلّمه إلى من شئت وإلاّ خلّيت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجّة، فما أقدر على ذلك، حتى أنّي لاَتسمّع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليّ أو عليك، فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة.

فوجّه من تسلّمه منه، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد فبقى عنده مدّة طويلة وأراد الرشيد على شيء من أمره فأبى.

فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلّمه منه، وأراد ذلك منه فلم يفعل.

و بلغه انّه عنده في رفاهية وسعة، وهو حينئذ بالرقة.

وقد أثار هذا الاَمر غضبَالرشيد إلى ان انتهى الاَمر بتجريد الفضل بن يحيى وضربه بسياط وعقابين. (1)

هذا هوموقف الرشيد مع الرجل الذي كان يحترمه جلّ المسلمين وينظرون إليه بأنّه من أئمّة أهل البيت، فكيف الحال مع سواد الناس إذا اتّهموا بالتشيّع وموالاة الاِمام - عليه السّلام- ؟!

قال ابن كثير: فلمّا طال سجن الاِمام الكاظم - عليه السّلام- كتب إلى الرشيد:«أمّا بعد يا أمير الموَمنين انّه لم ينقضِ عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون». (2)

ولم يزل الاِمام ينقل من سجن إلى سجن حتى انتهى به الاَمر إلى سجن السندي بن شاهك، فغال في

سجن الاِمام وزاد في تقييده، حتى جاء أمر الرشيد بدس السم للكاظم فانبرى السندي إلى تنفيذ هذا الاَمر، وكانت نهاية حياة الاِمام الطاهر على يده الفاجرة.

____________

1. الطوسي: الغيبة: 28_30 بتلخيص.

2. ابن كثير: البداية والنهاية: 10|190.

( 382 )

قال أبوالفرج الاصفهاني: لمّا توفي الاِمام مسموماً خشى الرشيد ردّة فعل المسلمين عند انتشار خبر موته، فأدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره ليشهدوا على أنّه مات حتف أنفه دون فعل من الرشيد وجلاوزته، ولمّا شهدوا على ذلك اخرج بجثمانه الطاهر، ووضع على الجسر ببغداد، ونودي بوفاته. (1)

هذه لمحة خاطفة عن حياة الاِمام موسى الكاظم - عليه السّلام- توقفك على الوضع السياسي السائد آنذاك في العراق والحجاز، وموقف الحكومة تجاه إمام الشيعة، أفهل يمكن للاِمام التصريح بالقائد من بعده؟!

ومع ذلك كلّه فإنّ الاِمام الكاظم له تنبوءات عن المستقبل المظلم الذي ينتظره بعض الشيعة، وإليك بعض ما روي في ذلك:

روي عن ابن سنان قال: دخلت على أبي الحسن موسى الكاظم من قبل أن يقدم العراق بسنة، وعليّ ابنه جالس بين يديه، فنظر إليّ وقال: «يا محمد أما إنّه ستكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع لذلك» قال: قلت: وما يكون جعلني اللّه فداك فقد أقلقتني؟ قال: «أصير إلى هذا الطاغية ، (2)أما إنّه لا يبدأني منه سوء ومن الذي يكون بعده» (3)قال: قلت: وما يكون جعلني اللّه فداك؟ قال:«يضل اللّه الظالمين ويفعل اللّه ما يشاء» . قال: قلت: وما ذلك جعلني اللّه فداك؟ قال:«من ظلم ابني هذا حقَّه، وجحده إمامته من بعدي كان كمن ظلم عليّ بن أبي طالب - عليه السّلام- إمامته وجحده حقّه بعد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - »

قال: قلت: واللّه لئن مدّ اللّه لي في العمر لاَسلِّمن له حقّه، ولاَقرّن بإمامته.

قال: «صدقت يا محمد يمدّ اللّه في عمرك وتسلِّم له حقّه - عليه السّلام- وتقرّله بإمامته وإمامة من يكون بعده»، قال: قلت: ومن ذاك؟ قال: «ابنه محمد»، قال:

____________

1. أبوالفرج الاصفهاني:مقاتل الطالبيين:504.

2. يريد به المهدي العباسي.

3. يريد به موسى بن المهدي.

( 383 )

قلت: له الرضا والتسليم. (1)

روى الكشي عن الحكم بن عيص، قال: دخلت مع خالي سليمان بن خالد على أبي عبد اللّه - عليه السّلام- فقال: «يا سليمان من هذا الغلام؟» فقال: ابن اختي، فقال: «هل يعرف هذا الاَمر؟» فقال: نعم، فقال: «الحمد للّه الذي لم يخلقه شيطاناً _ ثمّقال: _ يا سليمان عوِّذ باللّه ولدك من فتنة شيعتنا» فقلت: جعلت فداك وما تلك الفتنة؟! قال: «إنكارهم الاَئمّة - عليهم السّلام- و وقوفهم على ابني موسى - عليه السّلام- ، قال: ينكرون موته ويزعمون أن لا إمام بعده، أُولئك شرّالخلق». (2)

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها الشيخ الطوسي في كتاب «الغيبة» ممّا تدل على تنصيص الاِمام الكاظم - عليه السّلام- على إمامة ولده علي بن موسى الرضا - عليه السّلام- غير انّ حبَّ المال آل بالبعض إلى إنكار إمامته ، وقد رويت في ذلك روايات نذكر بعضها:

روى الطوسي في «الغيبة» بسنده عن يعقوب بن يزيد الاَنباري، عن بعض أصحابه، قال: مضى أبو إبراهيم - عليه السّلام- وعند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند عثمان بن عيسى الرواسي ثلاثون ألف دينار وخمس جوار، ومسكنه بمصر.

فبعث إليهم أبو الحسن الرضا - عليه السّلام- أن احملوا ما قِبَلكم من المال، وما كان اجتمع لاَبي عندكم من أثاث وجوار، فإنّي وارثه وقائم مقامه، وقد اقتسمنا

ميراثه ولا عذر لكم في حبس ما قد اجتمع لي ولوارثه، قبلكم، وكلام يشبه هذا.

فأمّا ابن أبي حمزة فإنّه أنكره ولم يعترف بما عنده، وكذلك زياد القندي.

وأمّا عثمان بن عيسى فانّه كتب إليه إنّ أباك _ صلوات اللّه عليه _ لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل، واعمل على أنّه قد مضى كما تقول: فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وأمّا الجواري فقد اعتقتهنّو تزوجت بهنّ. (3)

____________

1. الطوسي: الغيبة:33_34.

2. الكشي: الرجال: 389؛ البحار: 48|265، الحديث 24.

3. الطوسي: الغيبة:64_ 65، الحديث 67.

( 384 )

روى الكشي، عن يونس بن عبد الرحمان، قال: مات أبو الحسن وليس من قُوامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير، فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته، وكان عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار. (1)

روى الصدوق في «العلل» عن يونس بن عبد الرحمان قال: مات أبو الحسن - عليه السّلام- و ليس من قوّامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير، فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته، وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار، قال: فلمّا رأيت ذلك وتبيّن الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا - عليه السّلام- ما علمتُ تكلّمت ودعوت الناس إليه، قال: فبعثا إليّ، وقالا: ما يدعوك إلى هذا؟ إن كنتَ تريد المال فنحن نغنيك وضمِنا لي عشرة آلاف دينار، وقالا لي: كف، فأبيت وقلت لهم: إنّا رُوينا عن الصادقين - عليهم السّلام- أنّهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمَه، فإن لم يفعل سُلب منه نور الاِيمان، وما كنت لاَدع الجهاد في أمر اللّه على كلّحال، فناصباني وأضمرا لي العداوة.

وروى أيضاً عن أحمد بن حماد قال: أحد

القَوّام، عثمان بن عيسى الرواسي ، وكان يكون بمصر، وكان عنده مال كثير وست جواري، قال: فبعث إليه أبو الحسن الرضا - عليه السّلام- فيهن وفي المال، قال: فكتب إليه أنّ أباك لم يمت، قال: فكتب إليه : إنّ أبي قد مات، وقد اقتسمنا ميراثه، وقد صحّت الاَخبار بموته، واحتج عليه فيه، قال: فكتب إليه: إن لم يكن أبوك مات، فليس لك من ذلك شيء، وإن كان قد مات على ما تحكي، فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وقد اعتقت الجواري وتزوجتهنّ. (2)

إلى غيرها من الروايات الدالّة على أنّ سبب التوقف كان حبّ الجاه والمال .

____________

1. الكشي: الرجال:345.

2. الصدوق: علل الشرائع:235.

( 385 )

الواقفية في كتب الملل والنحل

جاءت الواقفية في كتب الملل والنحل على وجه الاِجمال، وهذا يعرب عن عدم وجود دور بارز لهم في عصر الغيبة، وستوافيك القائمة التي ذكرنا فيها بعض أسماء الرواة من الواقفية.

قال النوبختي _ بعدما بيّن أنّ الشيعة انقسمت بعد رحيل الاِمام الكاظم - عليه السّلام- إلى فرقتين، وبيّن الفرقة الثانية بالبيان التالي _:

1. وقالت الفرقة الثانية: إنّ موسى بن جعفر لم يمت، وإنّه حيّ، ولا يموت حتى يملك شرق الاَرض وغربها، ويملاَها كلها عدلاً كما ملئت جوراً، وإنّه القائم المهدي، وزعموا أنّه خرج من الحبس ولم يره أحد نهاراً ولم يعلم به، وأنّ السلطان وأصحابه ادّعوا موته، وموّهوا على الناس وكذبوا، وأنّه غاب عن الناس واختفى، ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر بن محمد عليمها السّلام أنّه قال: هو القائم المهدي فإن يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدقوا فإنّه القائم.

وقال بعضهم: إنّه القائم وقد مات، ولا تكون الاِمامة لغيره حتى يرجع، فيقوم ويظهر، و زعموا أنّه قد رجع بعد

موته إلاّ أنّه مختف في موضع من المواضع حي يأمر وينهى، وأنّأصحابه يلقونه ويرونه، واعتلّوا في ذلك بروايات عن أبيه، أنّه قال: سمّي القائم قائماً، لاَنّه يقوم بعدما يموت.

وقال بعضهم: إنّه قد مات، وإنّه القائم، وإنّ فيه شبهاً من عيسى بن مريم _ صلى اللّه عليه _ وانّه لم يرجع، ولكنّه يرجع في وقت قيامه فيملاَ الاَرض عدلاً كما ملئت جوراً، وإنّ أباه قال: إنّ فيه شبهاً من عيسى بن مريم، وإنّه يقتل في يدي ولد العباس فقد قتل.

وأنكر بعضهم قتله، وقالوا: مات ورفعه اللّه إليه، وإنّه يردّه عند قيامه، فسمّوا هوَلاء جميعاً الواقفية لوقوفهم على موسى بن جعفر على أنّه الاِمام القائم،

( 386 )

ولم يأتمّوا بعده بإمام ولم يتجاوزوه إلى غيره.

وقد قال بعضهم ممّن ذكر أنّه حي: إنّ الرضا - عليه السّلام- و من قام بعده ليسوا بأئمّة، ولكنّهم خلفاوَه واحداً بعد واحد إلى أوان خروجه، وإنّ على الناس القبول منهم والانتهاء إلى أمرهم.

وقد لقّب الواقفةَ بعضُ مخالفيها ممّن قال بإمامة علي بن موسى «الممطورة»وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها، وكان سبب ذلك انّعليّبن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمان ناظرا بعضهم، فقال له علي بن إسماعيل وقد اشتد الكلام بينهم: ما أنتم إلاّ كلاب ممطورة، أراد أنّكم أنتن من جيف، لاَنّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف، فلزمهم هذا اللقب فهم يُعرفون به اليوم، لاَنّه إذا قيل للرجل انّه ممطور فقد عرف أنّه من الواقفة على موسى بن جعفر خاصة، لاَنّ كل من مضى منهم فله واقفة قد وقفت عليه، وهذا اللقب لاَصحاب موسى. (1)

2.وقال الشيخ الاَشعري ملخصاً لما قاله النوبختي ما هذا نصه:

الصنف الثاني والعشرون من الرافضة يسوقون الاِمامة حتى

ينتهوا إلى جعفر بن محمد ويزعمون أنّجعفر بن محمد نصّ على إمامة ابنه موسى بن جعفر، وأنّ موسى بن جعفر حيّلم يَمت ولا يموتُ حتى يملك شرقَالاَرض وغربها، حتى يملاَ الاَرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماًوجوراً، وهذا الصنف يُدْعون «الواقفة»لاَنّهم وقفوا على «موسى بن جعفر»و لم يتجاوزوه إلى غيره، وبعض مخالفي هذه الفرقة يدعوهم «الممطورة» وذلك أنّرجلاً منهم ناظر «يونس بن عبد الرحمان» ويونس من القطعية الذين قطعوا على موت موسى بن جعفر، فقال له يونس: أنتم أهون عليّمن الكلاب الممطورة، فلزمهم هذا النبز. (2)

____________

1. النوبختي: فرق الشيعة:80_82، وفي ذيل كلامه إشارة إلى القسمين من الوقف كما ذكرناه.

2. الاَشعري: مقالات الاِسلاميين:28_ 29.

( 387 )

3.وقال البغدادي معبّراً عن الواقفة بالموسوية: هوَلاء الذين ساقوا الاِمامة إلى جعفر، ثمّزعموا أنّالاِمام بعد جعفر، كان ابنه موسى بن جعفر، وزعموا أنّموسى بن جعفر حيّ لم يمت وانّه هو المهدي المنتظر، وقالوا إنّه دخل دارَالرشيد ولم يخرج منها، وقد علمنا إمامته وشككنا في موته فلا نحكم في موته إلاّبيقين.

فقيل لهذه الفرقة الموسوية: إذا شككتم في حياته وموته، فشُكُّوا في إمامته ولا تقطعوا القول بأنّه باق وأنّه هوالمهديّ المنتظر، هذا مع علمكم بأنّ مشهد موسى بن جعفر معروف في الجانب الغربي من بغداد ويُزار.

و يقال لهذه الفرقة موسوية لانتظارها موسى بن جعفر .

ويقال لها الممطورة أيضاً، لاَنّ يونس بن عبد الرحمان القمّي كان من القطعية (الذين قطعوا على موت موسى بن جعفر) وناظر بعض الموسوية فقال في بعض كلامه : أنتم أهون على عيني من الكلاب الممطورة. (1)

4.وقال الشهرستاني _ بعد أن ذكر الاِمام موسى بن جعفر وانّه دفن في مقابر قريش ببغداد _: اختلفت الشيعة بعده...

فمنهم من توقّف في موته، وقال:

لا ندري أمات أم لم يمت؟ ويقال لهم الممطورة، سمّاهم بذلك علي بن إسماعيل فقال: ما أنتم إلاّ كلاباً ممطورة.

و منهم من قطع بموته ويقال لهم القطعية.

و منهم من توقّف عليه، وقال: إنّه لم يمت، وسيخرج بعد الغيبة، ويقال لهم الواقفة. (2)

إنّ ظاهرة الوقف بعد رحيل الاِمام الكاظم - عليه السّلام- كانت أمراً خطيراً يهدّد

____________

1. البغدادي: الفرق بين الفرق:63.

2. الشهرستاني: الملل والنحل: 169، ولاحظ التبصير للاسفرائيني:38، حيث عبّر عنهم بالموسوية.

( 388 )

كيان الشيعة، وتماسكها وانسجامها، وقد كانت الواقفة تتمسك بشبه، ربما تغري البسطاء من الشيعة، وتصدّهم عن القول بامتداد الاِمامة إلى عصر الاِمام المنتظر. ولعلّه لاَجل خطورة الوقف، ربما نرى وجود الحث المتزايد على زيارة الاِمام الرضا - عليه السّلام- من النبي والوصيّ والصادق والكاظم - عليهم السّلام- ليلفتوا نظر الشيعة إليه ولا يغفلوا عنه.

فقد روي عنه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أنّه قال: «ستدفن بضعة منّي بأرض خراسان، لا يزورها موَمن إلاّ أوجب اللّه له الجنّة، وحرّم جسده على النار». (1)

كما توجد روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت - عليهم السّلام- توَكد وتحث على زيارة الاِمام الرضا - عليه السّلام- و تبيّن فضلها. (2)

ولعلّ تلك الروايات تهدف إلى رفع الشبهات التي أوجدتها الواقفة في ذلك العصر، ولولا انّ الرضا هو الاِمام القائد بعد أبيه ، لما كان لهذا الحث وجه، وقد جابه الاِمام الرضا تلك الزوبعة بعظات بالغة، ومناظرات قيّمة، قام فيها بإزالة الالتباس عن شبههم.

وقد جمعها العالم الحجة الشيخ رياض محمد حبيب الناصري في كتابه«الواقفية» ، حيث بلغت ثماني مناظرات.و من أراد الوقوف على مضامينها فعليه الرجوع إلى ذلك الكتاب القيّم الذي طرح فيه الواقفية ودرسها دراسة تحليلية رائعة. (3)

____________

1. الصدوق:

الفقيه:2|351، الحديث 36.

2. راجع الكافي:4|584؛و الفقيه:2|348_351؛ والتهذيب:6|84.

3. الواقفية:1|151_163، ولقد رجعنا إلى ذلك الكتاب في دراسة هذه الطائفة فشكر اللّه مساعيه.

( 389 )

مشاهير الواقفية

يظهر من مراجعة الكتب الرجالية، انّعدد الواقفية لم يكن قليلاً، وقد ذكر الشيخ الطوسي فيهم حوالي أربعة وستين شخصاً، فمن مشاهيرهم:

1. سماعة بن مهران.

2. جعفر بن سماعة.

3. الحسن بن محمد بن سماعة.

4. زرعة بن محمد الحضرمي.

5. زياد بن مروان القندي.

6. داود بن الحصين.

7. درست بن أبي منصور.

8. عثمان بن عيسى الرواسي.

9. علي بن أبي حمزة البطائني.

10. علي بن الحسن الطاطري.

11. حنان بن سدير الصيرفي.

12. يحيى بن القاسم الحذاء.

13. يحيى بن الحسين بن زيد.

14. سعد بن خلف.

(1)

____________

1. وقد استخرج محقّق رجال الطوسي، أسماء الذين وصفوا بالوقف فيه ، تحت فهرست المنسوبين إلى المذاهب الفاسدة. رجال الطوسي: 589_591.

( 390 )

ثمّإنّ هناك لفيفاً آخر من الواقفية ذكرهم النجاشي في رجاله، وليس فيهم اسم سماعة بن مهران، ولا ولده جعفر، ولا سبطه محمد، و ربما تردّد بعضهم في عدّ سماعة من الواقفية، إذ لو كان كذلك لما خفي على مثل النجاشي، ولا على ابن الغضائري.

وقد جمع الشيخ الناصري أسماء الموصوفين بالوقف من الكتب الرجالية وغيرها، غير أنّ كثيراً منهم رجعوا عن الوقف.

ومن العجب العجاب انّسبعة أشخاص من أصحاب الاِجماع، رُمُوا بالوقف، وهوَلاء هم:

1. أحمد بن محمد بن أبي نصر.

2. جميل بن دراج.

3. حماد بن عيسى.

4. صفوان بن يحيى.

5. عثمان بن عيسى.

6. يونس بن عبد الرحمان.

7. عبد اللّه بن المغيرة.

و أظن أنّاتّ_هامهم بالوقف ربما يعود إلى فحصهم وترّيثهم في الاِمام الذي يعقب الاِمام الكاظم - عليه السّلام- بعد رحيله. ولو كان هذا هو المنطلق لوصفهم بالوقف فلا يوجد أي مبرر لهذا الرمي والوصف، وعلى أية حال فإنّهم رجعوا

عن الوقف، حتّى أنّ يونس بن عبد الرحمان كان في الصف المقدّم لمكافحة الوقف وهو الذي وصف الواقفية بالكلاب الممطورة كما في بعض الروايات، وهذا ما يثير الشكوك حول وصفه وزملائه بالوقف.

( 391 )

ثمّ إنّ هناك ردوداً بين الطائفتين ذكرها الطوسي في «الفهرست» و«الغيبة» فمن الكتب الموَلّفة في نصرة الواقفية:

1. «نصرة الواقفة»لعلي بن أحمد العلوي الموسوي، ذكره الشيخ.

(1)

2. «الصفة في الغيبة على مذهب الواقفة» لعبد اللّه بن جبلة.

(2)

3. رسالة لعلي بن الحسن الطاطري في نصرة مذهبه.

(3)

وهناك ردود من الاَصحاب على تلك الموَلفات، ذكرها النجاشي في رجاله، نذكر منها ما يلي:

1. الرد على الواقفة لاِسماعيل بن علي بن إسحاق بن سهل بن نوبخت.

(4)

2. الرد على الواقفة للحسن بن موسى الخشاب.

(5)

3. الرد على الواقفة للحسين بن علي البزوفري.

(6)

4. الرد على الواقفة لفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.

(7)

بقي الكلام في رجال الواقفة الذين وردت أسماوَهم في الكتب الرجالية، وكان لهم دور في نقل الحديث وتدوينه، فإليك فهرس أسمائهم، وأمّا الكلام عن تراجمهم وحالاتهم فموكول إلى محله.

____________

1. الطوسي: الغيبة:29.

2. النجاشي: الرجال: 2|13 برقم 561.

3. الطوسي: الفهرست:118 برقم 392.

4. النجاشي: الرجال: 1|121 برقم 67.

5. النجاشي: الرجال:1|143 برقم 84.

6. النجاشي: الرجال: 1|188 برقم 160.

(7) 7. النجاشي: الرجال: 2|174 برقم 846.

( 392 )

1. إبراهيم .2. أبو جبل.

3. أبو جعدة. 4. أبو جنادة الاَعمى.

5. أحمد بن أبي بشر السرّاج. 6. أحمد بن الحارث.

7. أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمّار.

8. أحمد بن زياد الخزّاز. 9. أحمد بن السري.

10. أحمد بن الفضل الخزاعي.

11. أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح بن قيس بن سالم القلاء السوّاق.

12. إدريس بن الفضل بن سليمان الخولاني.

13. إسحاق بن جرير بن يزيد بن جرير

بن عبد اللّه البجلي الكوفي.

14. إسماعيل بن أبي بكر محمد بن الربيع بن أبي السمّال الاَسدي.

15. إسماعيل بن عمر بن أبان الكلبي.

16. أُمية بن عمرو الشعيري. 17. بكر بن محمد بن جناح.

18. جعفر بن المثنى الخطيب.

19. جعفر بن محمد بن سماعة بن موسى بن رويد.

20. جندب بن أيوب. 21. جهم بن جعفر بن حيان.

22. الحسن بن علي بن أبي حمزة سالم البطائني.

23. الحسن بن محمد بن سماعة، أبو محمد الكندي الصيرفي الكوفي.

24. الحسين(من أصحاب الاِمام الكاظم - عليه السّلام- ).

25.الحسين بن أبي سعيد هاشم بن حيّان المكاري.

26. الحسين بن قياما. 27. الحسين بن كيسان.

28. الحسين بن المختار، أبو عبد اللّه القلانسي.

( 393 )

29. الحسين بن مهران بن محمد، أبو نصر السكوني.

30. الحسين بن موسى.

31. حصين بن المخارق بن عبد الرحمان بن ورقاء بن حبشي بن جنادة.

32. حميد بن زياد بن حمّاد بن حمّاد بن زياد هوار الدهقان.

33. حنان بن سدير بن حكيم بن صهيب الصيرفي.

34. داود بن الحصين الاَسدي.

35. دُرست بن أبي منصور محمد الواسطي.

36. زرعة بن محمد الحضرمي.

37. زكريا بن محمد، أبو عبد اللّه الموَمن.

38. زياد بن مروان الاَنباري القندي.

39. زيد بن موسى. 40. سعد بن أبي عمران الاَنصاري.

41. سعد بن خلف. 42. سلمة بن حيّان.

43. سماعة بن مهران بن عبد الرحمان الحضرمي.

44. عبد اللّه بن جبلة بن حيّان بن أبجر الكناني.

45. عبد اللّه بن عثمان الحنّاط. 46. عبد اللّه بن القاسم الحضرمي.

47. عبد اللّه بن القصير. 48. عبد اللّه النخّاس.

49. عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي.

50. عبيد اللّه بن أبي زيد أحمد بن عبيد اللّه بن محمد الانباري.

51. عثمان بن عيسى، أبو عمرو العامري الكلابي الرواسي.

52. عثمان بن عيسى الكلابي، مولى لبني

عامر، وليس بالرواسي.

53. علي بن أبي حمزة البطائني.

( 394 )

54. علي بن جعفر بن العباس الخزاعي المروزي.

55. علي بن الحسن بن محمد الطائي الجرمي المعروف بالطاطري.

56. علي بن الخطّاب. 57. علي بن سعيد المكاري.

58. علي بن عمر الاَعرج الكوفي.

59. علي بن محمد بن علي بن عمر بن رباح السوّاق، ويقال: القلاّء.

60. علي بن وهبان. 61. عمر بن رباح الزهري القلا.

62. عنبسة بن مصعب العجلي.

63. عيسى بن عيسى الكلابي مولى بني عامر _ وليس بالرواسي _.

64. غالب بن عثمان. 65. الفضل بن يونس الكاتب البغدادي.

66. القاسم بن إسماعيل القرشي، أبو محمد المنذر.

67. القاسم بن محمد الجوهري. 68. محمد بن بكر بن جناح.

69. محمد بن الحسن بن شمّون. 70. محمد بن عبد اللّه الجلاّب البصري.

71. محمد بن عبد اللّه بن غالب الاَنصاري البزاز.

72. محمد بن عبيد بن صاعد. 73. محمد بن عمر.

74. محمد بن محمد بن علي بن عمرو بن رباح.

75. مقاتل بن مقاتل بن قياما. 76. منصور بن يونس بزرج.

77. موسى بن بكر الواسطي. 78. موسى بن حماد الطيالسي الذرّاع.

79. هاشم بن حيان، أبو سعيد المكاري.

80. وهيب بن حفص، أبو علي الجريري.

81. يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين - عليه السّلام- .

82. يزيد بن خليفة الحارثي. 83. يوسف بن يعقوب.

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف

في

النصيرية

( 396 )

( 397 )

الكتابة عن النصيرية كسائر الفرق الشيعية أمر صعب لا سيما وانّهم اضطروا إلى التخفّي والانطواء على أنفسهم، وعاشوا في ظل التقية، ومن يتصفّح التاريخ يجد أنّه لا مندوحة لهم من التكتّم والتحفّظ في عقائدهم، فمعاجم الفرق مليئة بذمّهم وتفسيقهم وتكفيرهم، وقد أخذ بعضهم عن بعض، ولا يمكن الاعتمادعلى ما نقلوه عنهم إلاّ بالرجوع إلى كتب تلك الفرقة أو

التعايش معهم في أوطانهم حتى ينجلي الحقّ ليقف الاِنسان على مكامن عقائدهم وخفايا أُصولهم، ونحن نسرد قبل كلّ شيء ما ذكرته معاجم الفرق في هذا المقام من دون أيّ تعليق مسهب.

النصيرية في معاجم الملل والنحل

1. ولعلّ أوّل من ذكرهم من أصحاب المقالات هو الشيخ الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث، ويظهر منه أنّ_ها نشأت بعد وفاة الاِمام الهادي - عليه السّلام- عام 254ه_، فقال:

وقد شذّت فرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته، فقالت بنبوّة رجل يقال له محمد بن نصير النميري، وكان يدّعي أنّه نبي، بعثه أبو الحسن العسكري - عليه السّلام- ، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالاِباحة للمحارم ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أنّ ذلك من التواضع و التذلّل، وأنّها إحدى الشهوات والطيبات، وأنّ اللّه عزّ وجلّ لم يحرّم شيئاً من ذلك، وكان يقوي أسباب هذا النميري، محمد بن موسى بن

( 398 )

الحسن بن الفرات. (1)

أقول: ما ورد من النسب في هذا الكلام ممّا يستبعده العقل جداً، إذ كيف يمكن أن يتبنى أحد في حاضرة الخلافة الاِسلامية هذه المنكرات التي لا يرتضيها أيّ إنسان ساذج؟! ولو كان داعياً إلى هذه الاَُمور في أجواء نائية بعيدة ربّما يسهل تصديقه.

2. وقال الكشي (من أعلام القرن الرابع): وقالت فرقة بنبوة محمد بن نصير الفهري النميري، وذلك أنّه، ادّعى أنّه نبي، وأنّ علي بن محمد العسكري أرسله، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبية، ويقول بإباحة المحارم ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويقول: إنّه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات، وإنّ اللّه لم يحرّم شيئاً من ذلك. وكان

محمد ابن موسى بن الحسن بن فرات يقوي أسبابه ويعضده، وذكر أنّه رأى بعض الناس محمد بن نصير عياناً وغلام له على ظهره، فرآه على ذلك، فقال: إنّ هذا من اللذات وهو من التواضع للّه وترك التجبّر، وافترق الناس فيه بعده فرقاً. (2)

3. وقد ذكر الاَشعري المتوفّ_ى (324ه_) من أصن_اف الغالية، أصحاب الشريعي، وقال: يزعمون أنّ اللّه حلّ في خمسة أشخاص، ثمّ انتقل منه إلى ذكر النميرية، وقال: إنّ فرقة من الرافضة يقال لهم النميرية أصحاب النميري يقولون إنّ الباري كان حالاًّ في النميري. (3)

4. وقال البغدادي المتوفّى (429ه_)، في فصل عَقَده لبيان الفرقة الشُريعية أتباع الشريعي والنميرية أتباع محمد بن نصير النميري، ونقل نفس ما نقله الاَشعري في حقّ الرجلين و لم يزد عليه شيئاً.

____________

1. فرق الشيعة:93.

2. رجال الكشي: 438.

3. مقالات الاِسلاميين: 1|15.

( 399 )

ومن قارن كتاب الفرق بين الفرق مع كتاب مقالات الاِسلاميين يجد أنّه صورة ملخّصة من الثاني، غير أنّه زاد في بيان الفرق سبّاً وذمّاً غير لائق بشأن الكاتب. (1)

5. وقد عقد الشيخ الطوسي المتوفّى (460ه_) فصلاً لمدّعي البابية عدّ منها الشريعي، ومحمد بن نصير النميري.

قال:كان محمد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي عليمها السّلام فلمّا توفي أبو محمد، ادّعى مقام أبي جعفر محمد بن عثمان أنّه صاحب إمام الزمان، وادّعى له البابية، وفضحه اللّه تعالى بما ظهر منه من الاِلحاد والجهل، ولعن أبي جعفر محمد بن عثمان له وتبرّأه منه، واحتجابه عنه وادّعى ذلك الاَمر بعد الشُريعي.

ثمّ قال: قال أبو طالب الاَنباري: لما ظهر محمد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر (رض) وتبرّأ منه فبلغه ذلك، فقصد أبا جعفر (رض) ليعطف بقلبه عليه، أو يعتذر

إليه، فلم يأذن له وحجبه وردّه خائباً.

ثمّ نقل عن سعد بن أبي عبد اللّه ما نقلناه آنفاً عن النوبختي.

ثمّ قال: فلمّا اعتلّ محمد بن نصير العلّة التي توفي فيها، قيل له وهو مثقل اللسان: لمن هذا الاَمر من بعدك؟ فقال بلسان ضعيف ملجلج: أحمد، فلم يدروا من هو؟فافترقوا بعده ثلاث فرق، قالت فرقة: إنّه أحمد ابنه، وفرقة قالت: هو أحمد ابن محمد بن موسى بن الفرات، وفرقة قالت: إنّه أحمد بن أبي الحسين بن بشر بن يزيد، فتفرّقوا فلا يرجعون إلى شيء. (2)

ثمّ إنّ الشيخ أخرج في أسماء أصحاب الهادي - عليه السّلام- ، محمد بن حصين

____________

1. انظر الفرق بين الفرق:252.

2. الطوسي: الغيبة: 398_ 399.

( 400 )

الفهري، وقال: ملعون ولعلّه محمد بن نصير، فالحصين تصحيف لنصير. (1)

وأخرج في أصحاب الاِمام العسكري محمد بن موسى الصريعي، وقال المعلق:وفي بعض النسخ الشريعي، وهو أوّل من ادّعى البابية حسب تنصيص الشيخ الطوسي في الغيبة، ولم يذكر في أصحاب العسكري محمد بن نصير النميري. (2)

6. وقال الاسفرايني المتوفّى (471ه_): الفرقة التاسعة منهم الشريعية والنميرية، و الشريعية أتباع رجل كان يدعى شريعاً، وكان يقول: إنّ اللّه تعالى حلَّ في خمسة أشخاص في محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين، وكانوا يقولون: إنّ هوَلاء آلهة ولهوَلاء الخمسة خمسة أضداد، إلى أن قال: وكان النميري، خليفته وكان يدعي لنفسه مثله بعده وجملة النميرية والشريعية والخطابية وكانوا يدعون إلهيّة جعفر الصادق . (3)

ولا يخفى وجود التناقض في كلامه حيث فسر الشريعية بالاعتقاد بالاَُلوهية في الخمسة الطاهرة آخرهم الحسين - عليه السّلام- وقال في ذيل كلامه: إنّ الطوائف الثلاث: النميرية _ الشريعية _ الخطابية كانوا يدّعون إلهية جعفر الصادق.

ومع ذلك كلّه فما ذكره مأخوذ من الفرق

بين الفرق والمقالات وكأنّ الجميع عيال على الاَشعري.

8. وقال ابن أبي الحديد المتوفّ_ى (655ه_) في فصل عقده لذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم: إنّالنصيرية: فرقة أحدثها محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري - عليه السّلام- ، إلى أن قال: وكان محمد بن نصير من

____________

1. الطوسي: الرجال: أصحاب الاِمام الهادي - عليه السّلام- برقم 39.

2. الطوسي: الرجال: أصحاب الاِمام العسكري - عليه السّلام- برقم 19.

3. التبصير في الدين:129.

( 401 )

أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، فلمّا مات ادّعى وكالة لابن الحسن الذي تقول الاِمامية بإمامته ففضحه اللّه تعالى بما أظهره من الاِلحاد والغلو، والقول بالتناسخ، ثمّادّعى أنّه رسول ونبي من قبل اللّه تعالى، وأنّه أرسله علي بن محمد ابن الرضا، وجحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه، وادّعى بعد ذلك الربوبية وقال بإباحة المحارم. (1)

9. وقد بسط الكلام الشهرستاني (479_ 548ه_) في النصيرية والاِسحاقية وعدّهم من جملة غلاة الشيعة وقال: لهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم، وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الاِلهية على الاَئمة من أهل البيت _ إلى أن قال _ : «قالوا ولم يكن بعد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - شخص أفضل من علي (رضي اللّه عنه)، وبعده أولاده المعصومون وهم خير البرية، فظهر الحقّ بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم، فعن هذا أطلقنا اسم الاِلهية عليهم.

وإنّما أثبتنا هذا الاختصاص «لعلي» رضي اللّه عنه دون غيره لاَنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند اللّه تعالى، فيما يتعلق بباطن الاَسرار. قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا أحكم بالظاهر، واللّه يتولّ_ى السرائر» وعن هذا كان قتال المشركين إلى النبي - صلّى الله عليه وآله

وسلّم - وقتال المنافقين إلى علي رضي اللّه عنه.

وعن هذا شبهه بعيسى بن مريم - عليه السّلام- ، فقال - صلّى الله عليه وآله وسلّم - :«لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى بن مريم - عليه السّلام- ، لقلت فيك مقالاً». (2)

10.وقال العلاّمة الحلّي (648_ 726ه_): محمد بن الحصين الفهري من أصحاب أبي الحسن الثالث الهادي - عليه السّلام- كان ضعيفاً ملعوناً. (3)

____________

1. شرح نهج البلاغة:8|122، ولا يخفى أنّ ابن أبي الحديد تفرّد بإنكار النميري إمامة الحسن العسكري - عليه السّلام- وإمامة ابنه مع أنّه كان يدّعي البابية لابن العسكري سلام اللّه عليهم.

2. الملل والنحل: 1|168_ 169.

3. الخلاصة:2|252 برقم 22.

( 402 )

والعجب أنّه عنونه تارة أُخرى، وقال: محمد بن نصير بالنون المضمومة والصاد المهملة، قال ابن الغضائري: قال لي أبو محمد بن طلحة بن علي بن عبد اللّه بن غلاله، قال لنا أبو بكر بن الجعابي: كان محمد بن نصير من أفاضل أهل البصرة علماً وكان ضعيفاً بدو النصيرية وإليه ينسبون. (1)

ولعلهما شخصان مختلفان.

11. وقال الجرجاني المتوفّى (816ه_): النصيرية الذين قالوا إنّ اللّه حلّ في علي (رض). (2)

والباحث في كتب الرجال لاَصحابنا يجد أنّ_ها تعج بما رواه الشيخ في كتاب الغيبة، والكشي في رجاله. (3)

النصيرية فرقة بائدة

إذا كانت النصيرية هي التي عرّفها أصحاب المعاجم وغيرهم، فهذه الفرقة قد بادت لا تجد أحداً يتبنّى أفكارها بين المسلمين، إلاّ إذا كان مغفّلاً أو مغرضاً، وربّما تكون بعض هذه النسب ممّا لا أصل له في الواقع، وإنّما اتهمت بها بعض فرق الشيعة من قبل أعدائهم، فإنّ خصومهم من العباسيين شنّوا حملة شعواء ودعايات مزيفة ومضلّلة ضدهم، حتى يجد الباحث أنّالكتّاب والموَلّفين المدعومين من قبل السلطات

لا يألون جهداً في اتهامهم بأرخص التهم في العقيدة والعمل حتى صارت حقائق راهنة في حقّ هوَلاء، وتبعهم غير واحد من أصحابنا لحسن ظنّهم بما كتب حولهم.

____________

1. الخلاصة: 2|257 برقم 61.

2. التعريفات: 106.

3. انظر تنقيح المقال: 3|195.

( 403 )

محمد بن نصير النميري شخصيّة قلقة

الحقّ أن يقال إنّ ابن نصير شخصية قلقة، يكتنفها كثير من الغموض، فتارة يعدّونه من أفاضل أهل البصرة علماً وأنّه ضعيف (1)وأُخرى من أصحاب الاِمام الجواد - عليه السّلام- (2) وأُخرى أنّه من أصحاب الاِمام العسكري - عليه السّلام- وأنّه غال (3)وطوراً عدّوه فهرياً بصرياً مع أنّ هذين لا يجتمعان. (4)

وأخيراً تحيّروا في أمر هذا الرجل ووضعوا اسمه في قائمة المشتركات. (5)

ثمّ إنّ كتّاب الفرق ذكروا رجالاً كان لهم دور في حياة ذلك الرجل، منهم:

الشريعي أبو محمد، وقد عرفت ما قيل حوله؛ وابن فرات، وهو الذي ذكر النوبختي أنّه كان يقوي عضد محمد بن نصير، ومن الموَكد أنّ هذا الرجل ينتمي إلى أُسرة شيعية عريقة كان لها مركز ونفوذ في البلاط العباسي.وتقلّد جمع منهم الوزارة، منهم:

1. أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات تسنّم عرش الوزارة ثلاث مرّات، خلع وحبس خلالها، فقد تسلم الوزارة بين سنة 296و299ه_ ،ثمّ في سنة 304، وثالثة في سن_ة 311_313ه_ وقد اتّهموه بموَازرة الاَعراب البوادي الذين نهبوا بغداد، وكذلك اتهم بالزندقة وصودرت أمواله وذلك أيّام المقتدي باللّه

____________

1. المامقاني: تنقيح المقال: 3|195.

2. الطوسي: الرجال: أصحاب الاِمام الجواد برقم 10 و 26.

3. الطوسي: الرجال: أصحاب الاِمام العسكري - عليه السّلام- برقم 20.

4. الكشي: الرجال: برقم 383.

5. المامقاني: تنقيح المقال: 3|196.

( 404 )

العباسي.(1)

2. أبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات وزير الراضي باللّه العباسي.

3. أبو أحمد المحسن بن

الوزير أبي الحسن.

4. جعفر بن محمد أخو الوزير علي بن محمد. (2)

هذه هي النصيرية وهذه هي كلمات أصحاب المعاجم في حقّها ونحن على شكّ في صدق هذه النسب، لاَنّ أكثر من كتب عنهم يعدّون خصوماً لهم، ومن كتب عنهم من غير خصومهم لم يعتمد على أصل صحيح، فلا يبعد أن تكون هذه الفرقة على فرض وجودها في عصرها من الفرق البائدة التي عبث بها الزمان.

العلويون وأصل التسمية بالنصيرية

إنّ هناك أقلاماً مغرضة حاولت أن تنسب العلويين المنتشرين في الشام والعراق وتركيا وإيران إلى فرقة النصيرية البائدة اعتماداً على أُمور ينكرها العلويون اليوم قاطبة.

وأظن أنّ السبب في ذلك هو جور السلطات الظالمة التي أخذت تشوّه صحيفة العلويين وتسودّها، فأقامت فيهم السيف والقتل والفتك والتشريد، ولم تكتفِ بل أخذت بالافتراء عليهم لتنفّر الناس من الاختلاط بهم، وأنّهم زمرة وحشية هجمية، ممّا زاد في انكماش هذه الطائفة على نفسها، لذا نجد من المناسب الكتابة عنهم حسب ما كتبوه عن أنفسهم.

أمّا سبب تسمية العلويين بالنصيرية لاَنّه لما فتحت جهات بعلبك وحمص استمد أبو عبيدة الجراح نجدة، فأتاه من العراق خالد بن الوليد، ومن مصر عمرو

____________

1. الصابي: كتاب الوزراء:247.

2. الصابي: كتاب الوزراء:247.

( 405 )

ابن العاص، وأتاه من المدينة جماعة من أتباع علي - عليه السّلام- وهم ممّن حضروا بيعة غدير خم، وهم من الاَنصار، وعددهم يزيد عن أربعمائة وخمسين، فسمّيت هذه القوة الصغيرة، نصيرية، إذ كان من قواعد الجهاد تمليك الاَرض التي يفتحها الجيش لذلك الجيش نفسه، فقد سميت الاَراضي التي امتلكها جماعة النصيرية: جبل النصيرية، وهو عبارة عن جهات جبل الحلو وبعض قضاء العمرانية المعروف الآن ثمّ أصبح هذا الاسم علماً خاصاً لكلّ جبال العلويين من جبل لبنان إلى أنطاكية.

(1)

وهذا الرأي أقرب إلى الصواب، ذلك أنّ الموَرّخين الصليبيّين أطلقوا على هذا الجبل اسم «النصيرة» ويبدو انّ هذا الاسم قد حرّف إلى نصيرية و الذي يعزز القناعة بصحة هذا الرأي هو أنّإطلاق اسم نصيرية على هذا الجبل، لم يظهر إلاّ أثناء الحملات الصليبية، أي بعد ع_ام 498ه_ ، وإذا كان معنى ذلك أنّ اسم نصيرية قد تغلّب على اسم الجبل في زمن الشهرستاني.

وثمة آراء أُخرى قليلة ترى أنّ تسمية نصيرية نسبة إلى نصير غلام الاِمام عليّ بن أبي طالب - عليه السّلام- .ويبدو لنا خطل هذه الآراء، خاصة وأنّ التاريخ لم يذكر أنّ للاِمام علي غلاماً يدعى نصيراً. (2)

أهم عقائدهم

حسب المصادر المطّلعة على حالهم، فإنّ عقائد العلويين لا تختلف عن عقائد الشيعة الاثنا عشرية الاِمامية، وهي معروفة مسجّلة. (3)

____________

1. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:87_ 88.

2. هاشم عثمان: العلويون بين الاَُسطورة والحقيقة:35_36.

3. علي عزيز آل إبراهيم: العلويون والتشيع: 91_97، الدار الاِسلامية، بيروت، 1403ه_|1992م؛ وراجع العلويون بين الاَُسطورة والحقيقة لهاشم عثمان، وعقيدتنا وواقعنا لعبد الرحمان الخير.

( 406 )

وما يوجب السكون والاطمئنان في ذلك أنّ جميع الموَلفين وأرباب كتب الفرق و المذاهب عدّوهم من الشيعة الاِمامية الاثنا عشرية على الرغم ممّا نسبوا إليهم ورموهم بالغلو والتطرّف والباطنية وأمثال ذلك ممّا ستأتي الاِشارة إليه.

فالعلويون يوَمنون برسالة محمد بن عبد اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ولا يشكّون بإمامة ابن عمه علي بن أبي طالب والاَئمة الاَحد عشر من صلبه - عليهم السّلام- وينطقون بالشهادتين عن إيمان فحصنهم شهادة أنْ لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - والموالاة لآل بيته والصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد في سبيل اللّه والمعاد في

اليوم الآخر، وكتابهم القرآن، ما زاغوا عن هواه ولانهجوا منهجاً غير شريعته، ولهم مراجع دينية عرفوا بتمسّكهم بالدين وإقامة شعائرهم الدينية الاِسلامية، ويطرحون كلَّ حديث لم يشر إليه القرآن وجاء مخالفاً له، كما وأنّهم لا يوَيّدون قول من يقول بصحّة تأويل الآيات التي بحق محمد وآل محمد - عليهم السّلام- ، ويحترمون كل الشرائع السماوية، ويقدّسون كلَّ الاَنبياء، ولا يشكّون بصحّة ما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاَسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم، وهم للّه مسلمون، ولم يعصوا الرسول في عمل ولم يخالفوه في قول، ويحصرون كلمة العلم الكاملة بأهل البيت، ويعتمدون على جعفر بن محمد الصادق - عليه السّلام- في أبحاثهم الدينية وتأويل القرآن والفقه والفتوى، فلا شافعي ولا حنبلي ولا مالكي ولا حنفي عندهم، وكلّهم للّه حنفاء متّبعون ملّة أبيهم إبراهيم، وهو الذي سمّاهم المسلمين ويعبدون اللّه تعالى لا يشركون في عبادته حداً. (1)

ونترك الحديث إلى أحد كتابهم وهو الشيخ عبد الرحمان الخير يتحدث عن عقيدتهم في أُصول الدين وفروعه، حيث يقول:

أُصول الدين خمسة، وهي:

التوحيد و العدل والنبوّة والاِمامة والمعاد.

____________

1. أحمد زكي تفاحة: أصل العلويين وعقيدتهم:47_ 48.

( 407 )

التوحيد: نعتقد بوجود إله واحد خالق للعالم المرئي وغير المرئي، لا شريك له في الملك متصف بصفات الكمال، منزّه عن صفات النقص والمحال:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ الْسَمِيعُ الْبَصِير " (الشورى|11).

العدل: نعتقد بأنّ اللّه تعالى عادل منزّه عن الظلم، وعن فعل القبيح والعبث، لا يكلّف البشر غير ما هو في وسعهم وطاقتهم ولا يأمرهم إلاّ بما فيه صلاحهم ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه فسادهم ولو جهل كثير من العباد وجه الصلاح والفساد في أمره ونهيه سبحانه.

النبوّة: نعتقد بأنّ اللّه سبحانه يصطفي من خيرة

عباده الصالحين رسلاً لاِبلاغ رسالاته إلى الناس، ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ويحذّروهم عمّا فيه فسادهم في الدنيا والآخرة.

ونعتقد بأنّ الاَنبياء كثيرون، ذكر منهم في القرآن الكريم خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، أوّلهم سيدنا آدم - عليه السّلام- وآخرهم سيدنا محمد بن عبد اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وشريعته هي آخر الشرائع الاِلهية وأكملها، ونعتقد بأنّها صالحة لكلّ زمان و مكان.

ونعتقد بعصمة جميع الاَنبياء من السهو والنسيان، وارتكاب الذنوب عمداً وخطأ قبل البعثة، وبعدها، وأنّهم منزّهون عن جميع العيوب والنقائص، وأنّهم أكمل أهل زمانهم وأفضلهم وأجمعهم للصفات الحميدة، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.

الاِمامة: نعتقد بأنّ الاِمامة منصب تقتضيه الحكمة الاِلهية لمصلحة البشر في موَازرة الاَنبياء بنشر الدعوة الاِلهية، وفي القيام بعدهم بالمحافظة على تطبيق أحكامها بين الناس وبصون التشريع من التغيير والتحريف والتفسيرات الخاطئة.

ولذلك نعتقد اقتضاء اللطف الاِلهي بأن يكون الاِمام معيّناً بنص إلهي وأن يكون معصوماً مثل النبي سواء بسواء ليطمئن الموَمنون إلى الاقتداء به في جميع أعماله وأقواله.

( 408 )

ونعتقد بأنّ الاِمام بعد نبينا محمد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - هو سيدنا الاِمام علي بن أبي طالب عليه السّلام، ومن بعده ابناه الحسن والحسين، ثمّتسعة من ذرية الحسين - عليه السّلام- ، آخرهم المهدي عجّل اللّه فرجه، وعجل به فرج الموَمنين.

المعاد: نعتقد بأنّ اللّه سبحانه يعيد الناس بعد الموت للحساب، فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

كما ونوَمن بكل ما جاء في القرآن الكريم، وبما حدّث به النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من أخبار يوم البعث و النشور والجنّة والنار والعذاب والنعيم والصراط والميزان وغير ذلك ممّا أثبته كتاب اللّه وحديث رسوله الصحيح.

وأمّا فروع الدين: فكثيرة أهمّها الصلاة

والصيام والزكاة والحج والجهاد. (1)

الجبر والاختيار والتفويض

يقول أحد كتّابهم في هذا الصدد:

عقيدة المسلمين العلويين في هذه المسألة هي طبق ما جاء عن الاِمام أمير الموَمنين علي بن أبي طالب - عليه السّلام- وهو ينفي الجبر والاِهمال، وقد منح اللّه العباد القوّة على أفعالهم وأوكلهم فيها إلى نفوسهم فعلاً وتركاً بعد الوعد والوعيد، قال - عليه السّلام- في نهج البلاغة: «إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الاَنبياء لعباً ولم ينزل الكتاب عبثاً، ولا خلق السماوات والاَرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».

وقد شنع الاَمير الشاعر المكزون السنجاري على القائلين بالجبر ووصفهم بأنّ عبيد اللات خير منهم قال:

____________

1. عبد اللّه الخير: عقيدتنا وواقعنا نحن المسلمين العلويين:20_23، نقل بتلخيص.

( 409 )

عبيد اللات فيما جاء عنهم * يسبّون الاِله بغير علم

وأما المجبرون فعن يقين * يسبّون الاِله بكل ظلم

ويقول أيضاً:

إذا كان فعلي له مرادا * فلم بما قد أراد يعصى

ولم دعاني إلى أُمور * مني لها الخلف ليس يحصى

ومن احتجاجه على القائلين بالجبر قوله:

قل لمن قال إنّ باري البرايا * ليس في خلقه مريد سواه

من ترى ان أراد بالعبد سوءاً * راح في العبد كارهاً ما قضاه

اتقوا اللّه ذاك أمر محال * أن يرى ساخطاً رضاه رضاه

وإذا لم يكن فقد ثبت القو * ل لعبد ومان في مدعاه. (1)

ما حيك حولهم

وفي غياب المصادر الموثوقة، نسب مناوئوهم عقائد وآراء شتى إلى العلويين نشير في ما يلي إلى بعضها:

1. الاعتقاد بالحلول والغلو في حقّ الاَئمّة سيّما الاِمام علي بن أبي طالب عليه السّلام.(2)

2. التناسخ. (3)

3. نبوّة

النميري محمد بن نصير. (4)

____________

1. علي عزيز الاِبراهيم: العلويون والتشيع:76_83.

2. الشهرستاني: الملل والنحل:2|25، 26، سليمان الاذنى: الباكورة السليمانية: 87.

3. النوبختي : فرق الشيعة: 93 _ 94.

4. نفس المصدر .

( 410 )

4. شركة الاِمام علي مع رسول اللّه في نبوته. (1)

5. إباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً. (2)

6. افتراقهم إلى ثلاث فرق في خلافة محمد بن نصير النميري. (3)

7. عبادة السماء والشمس والقمر على تقاليد الفينيقيين والاعتقاد بوجود الاَئمّة - عليهم السّلام- فيها. (4)

وهذه الافتراءات والتهم إنّما تهدف إلى شيء واحد وهو تأليب الناس عليهم دون أن تستند إلى مصدر أو مستند أو وثيقة. ودون أن يتجشّم الموَلّفون لتحقيقها، فإنّ موَلّفي الفرق والملل والنحل كان همّ أكثرهم توسيع رقعة الخلاف، وخلق أكبر عدد ممكن من الفرق وطرح أشياء غريبة عجيبة وغير معقولة ولا مشروعة.

رميهم بالغلو والتطرّف

أُمُّ الاتهامات ضدّهم هي تهمة الغلو وتأليه الاِمام علي - عليه السّلام- حيث يكرره الموَلفون من قديم وجديد. (5)

ويترآى أنّ رميهم بالغلو والتطرف كان ردّ فعل من مناوئيهم حيث كان يرميهم هوَلاء بالتقصير في حقّ علي بن أبي طالب - عليه السّلام- أو عدم الاِيمان بفضائله وأفضليته من سائر الصحابة، حتى عدائهم له بتحريض من خلفاء الاَُمويين،

____________

1. المصدر نفسه.

2. الشهرستاني : الملل والنحل:2|25_26.

3. النوبختي: فرق الشيعة:115_116، الرازي فخر الدين: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين:61.

4. النوبختي: فرق الشيعة:115_116، وراجع: القلقشندي: صبح الاَعشى:13|222_ 253.

5. الدكتور عبد الرحمان بدوي: مذاهب الاِسلاميين: 2|425، دار العلم للملايين ، بيروت _ 1973م.

( 411 )

فقابلوا تهمة بتهمة. ولا غرو في ذلك فانّ النزاع السياسي والعسكري بين العشائر العلوية وخصومهم من الاَُمويين والعباسيين والعثمانيين الذين كانوا يتمتعون بالسلطة الرسمية تسبب في شن حرب إعلامية نفسية ضدّهم وسلب الشرعيّة عنهم

حتى يبرّر ذلك التنكيلَ بهم والفتكَ الذريع بحقهم، وقد أجاد شاعرهم الاَمير حسن المكزون السنجاري حينما أنشد:

قد بدت البغضاء منهم لنا * كما منالهم بدا الحب

وما لنا إلاّ موالاتنا * لآل طه عندهم ذنب

أعود للحديث عن عقيدة العلويين، فأقول ليس للعلويين مذهب خاصّ بهم يختلف عن مذهب أهل البيت - عليهم السّلام- كما يحاول أن يصوّر ذلك بعض الجهّال السذّج، وإنّما هم شيعة إمامية اثنا عشرية يتمذهبون بمذهب أهل البيت - عليهم السّلام- ويعولون عليه في أحكامهم ومعاملاتهم، إلاّ أنّ ثمة معتقدات علوية متميّزة سوف أحاول التركيز عليها باختصار.

أ. الطريقة الجنبلائية

يقال أحدثها في الشيعة العلويين رجل اسمه أبو محمد عبد اللّه الجنبلاني المعروف بالجنَّان، ويعتقد بعض العلويين أنّه من روَسائهم الكبار، ومن أعلم أهل عصره في التصوّف، وكان يقيم في العراق العجمي في بلدة جنبلا، ومن هنا اشتهر بالفارسي، ويقال إنّه سافر إلى مصر وهناك أدخل الحسين بن حمدان الخصيبي في طريقته، وقد تبعه الاَخير إلى جنبلا عند عودته فأخذ عنه الاَحكام الصوفية والفلسفية وعلوم النجوم والهيئة وبقية العلوم العصرية. (1)

والخصيبي أحد مشايخ العلويين الكبار وقد خلّف الجنبلاني في رئاسة

____________

1. علي عزيز إبراهيم العلوي: العلويون فدائيو الشيعة المجهولون:28_ 29.

( 412 )

مشيخة الطريقة وعنه يقول صاحب كتاب تاريخ العلويين:

كان دأب السيد حسين بن حمدان الخصيبي ووكلاوَه في الدين إرشاد بعض أفراد بقيّة الاَديان إلى دين الاِسلام، وهوَلاء يبقون بصفة أفراد مسلمين شيعة أي جعفرية، والذين يشاهد فيهم الكفاءة يدخلهم في الطريقة الجنبلائية. (1)

من هنا نعلم أنّ الرجل كانت غايته أن يدعو الناس إلى مذهب أهل البيت كما هو ظاهر، وأنّ الطريقة الجنبلائية ليست سوى معتقد صوفي كبقية المعتقدات الصوفية المكتومة لدى أكثر فرق المسلمين.

ب. العقيدة في

الباب

يرى العلويون أنّ الاَئمّة - عليهم السّلام- هم أوصياء الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ولمّا كانت الاَئمّة - عليهم السّلام- يحصون علوم الاَوّلين والآخرين كان لابدّ لهم من باب يوَخذ فيه عنهم مصداقاً، ولذلك اتبعوا الاَثر فاتخذوا باباً لكلّ منهم، والاَبواب هم:

1. الاِمام علي بن أبي طالب - عليه السّلام- باب مدينة العلم التي هي النبي، وبابه سلمان الفارسي.

2. الاِمام الحسن المجتبى - عليه السّلام- بابه قيس بن ورقة المعروف بالسفينة.

3. الاِمام الحسين الشهيد - عليه السّلام- بابه رشيد الهجري.

4. الاِمام علي زين العابدين - عليه السّلام- بابه عبد اللّه الغالب الكابلي.

5. الاِمام محمد الباقر - عليه السّلام- بابه يحيى بن معمر بن أُمّ الطويل الشمالي.

6. الاِمام جعفر الصادق - عليه السّلام- بابه جابر بن يزيد الجعفي.

7. الاِمام موسى الكاظم - عليه السّلام- بابه محمد بن أبي زينب الكاهلي.

8. الاِمام علي الرضا - عليه السّلام- بابه المفضل بن عمر.

9.الاِمام محمد الجواد - عليه السّلام- بابه محمد بن مفضل بن عمر.

____________

1. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:208.

( 413 )

10. الاِمام علي الهادي - عليه السّلام- بابه عمر بن الفرات، المشهور بالكاتب.

11. الاِمام حسن العسكري - عليه السّلام- بابه أبو شعيب محمد بن نصير النميري.

12. الاِمام الحجّة محمد المهدي - عليه السّلام- فلم يكن له باب.

المحنة والاضطهاد المتواصل

الشيعة عموماً كانوا يعتقدون عدم استحقاق الحكام العباسيين الذين استندوا إلى وسادة الخلافة، وكانوا يضطهدون الشعوب الاِسلامية باسم الدين، ومن جملة هوَلاء العلويون، فعمدت السلطة إلى قمعهم وتشريدهم وتعذيبهم، ونشير فيما يلي إلى بعض محنهم ومعاناتهم:

1. أيّام المتوكل العباسي اشتد الضغط على أتباع أهل البيت - عليهم السّلام- ، فهاجر جمع غفير منهم إلى أقاصي البلاد كبلاد

خراسان وبلاد الاَكراد، وذلك عام 236ه_ ، حيث أمر باستحضار أئمّة أهل البيت - عليهم السّلام- إلى العراق.وفي القرون التالية، هجم الجيش العباسي بمعاونة جماعة من المتعصبين من حي الرصافة ببغداد على حيٍّ آخر يسمى الكرخ، فنهبوا الدور، وأحرقوا المكتبات و المحلات التجارية والبيوت (1)

ِ حيث أمر الخليفة المنتصر بقتل الشيع ضحيتها أربعون ألفاً.

2. أيام السلطان المملوكي محمد بن قلاوون في عام 1305م أمر بتسيير حملة عسكرية عظيمة إلى جبال كسروان (جونيه حالياً بقرب بيروت) في لبنان لاِبادة الطوائف الشيعية هناك، ومن جملة من فتك بهم العرب العلويون الذين كانوا في شمال لبنان، ولا سيما في القنيطرة و العاقورة ونواحي البترون وعكا ثمّ امتدوا إلى كسروان، والذين تخلّصوا من الموت رحلوا إلى الشمال، أي جهات

____________

1. أحمد علي حسن: المسلمون العلويون في لبنان:30، ط 1، 1989م، بيروت؛ الشيخ محمود صالح: النبأ اليقين عن العلويين:154،موَسسة البلاغ ، بيروت _ 1987م.

( 414 )

اللاذقية وانطاكية. (1)

3. أيام السلطان سليم العثماني صدرت فتوى بطلب السلطان، اشتهرت بالفتوى الحامدية، فقتل على إثرها عدد كثير من الشيعة في حلب وجبال العلويين (2)ذى هذا بالاِضافة إلى تعذيبهم، وكان ذلك بعد انتصار 1516م في معركة مرج دابق، فزجّ السلطان بنصف مليون من الشعب التركي لمواجهة العلويين.

4. حوالي نهاية القرن الثامن عشر وعلى أثر مقتل طبيب انكليزي استحضر سليمان باشا وتسلّم ولاية طرابلس فقتل من قتل من العلويين. (3)

5. أيام ثورة الشيخ صالح العلي، في شهر ايار عام 1921 م قام الفرنسيون بحرب دون هوادة ضد الشعب العلوي وقتلوا جمعاً غفيراً منهم، وانتهت المعارك بانتصار الفرنسيين، وقيام الحكم الانتدابي في البلاد. (4)

هذا مع غض النظر عن المعارك الدامية بينهم وبين الفرنج الصليبيين والقراصنة الذين كانوا

يهاجمون الساحل الشامي وحدود الاَراضي الاِسلامية منذ القرن الثاني إلى أواخر أيام العثمانيين فيأخذون ضحايا من العلويين. (5)وإضافة إلى المعارك الداخلية والحروب الاَهلية الطائفية التي كانت تتأجّج نيرانها بدسائس أصحاب السلطة أو المستعمرين والصليبيين؛ كما نشاهد في حروب العلويين والاِسماعيلية، والحروب القبلية بين العشائر العلوية. (6)

____________

1. المصادر نفسها.

2. عبد الحسين شرف الدين :الفصول المهمة في تأليف الاَُمّة: المقدمة؛ علي عزيز إبراهيم: العلويون والتشيع: 43؛ محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:396_ 402 و445.

3. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:445.

4. الشيخ محمود الصالح: النبأ اليقين عن العلويين:169.

5. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:423_ 426 وص 308.

6. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:423_ 426 وص 308.

( 415 )

الخلط بين العلويين و الاِسماعيليين والقرامطة

هذا الاشتباه والخلط حصل لكثير من الباحثين منهم ابن تيمية في فتواه المشهورة حيث رمى الجميع بنبل واحد (1)مدّعياً أنّ الملاحدة الاِسماعيلية والقرامطة والباطنية والخرمية والمحمدة أسماء لطائفة واحدة. (2)

على الرغم من أنّ الخلافات العقائدية والمناوشات العسكرية لم تترك مجالاً للخلط والاشتباه، فنذكر فيما يلي الحروب الطاحنة التي قامت بين العلويين والاِسماعيلية على سبيل الاِيجاز:

1. في أيام حسن الصباح سكنت قوى الاِسماعيليين جبل القصيرة واستأجرت قلعة القدموس حتى استولوا على قلاع العلويين في مصياف والعليقة والخوابي وأبو قبيس وصهيون، وفي عام 520ه_ استولوا على قلعة بانياس، ولما هجم عليهم المسلمون من كلّ ناحية عندما رأوا عدم مساعدتهم، حالف الاِسماعيليون الصليبيين وسلّموهم قلعة بانياس عام 523ه_.

2. تداوم العداء بعد ذلك بين العلويين والاِسماعيليين حتى سنة 977ه_، حيث هجم عليهم العلويون واستولوا على قلاعهم ولكن سرعان ما أنجدت الحكومة العثمانية الاِسماعيليين وأعادت لهم مواقعهم.

3. في خلال سنة 1115ه_ جاءت عشيرة بني رسلان واستولت على قلعة مصياف، وقتلت جميع

الذكور الكبار، وسكنت مدّة ثمان سنين، وهذه العشيرة من العشائر العلوية.

____________

1. راجع نصّالفتوى في رسائل ابن تيمية؛ وتجدها كاملة في مذاهب الاِسلاميين لعبد الرحمان بدوي : 2|445.

2. نفس المصدر: 451.

( 416 )

4. ثمّ هاجمت بعض القوات العثمانية القلاع لنجدة الاِسماعيليين وقذفوهم بالمدافع وسلموا القلعة للاِسماعيليين.

5. تكررت هذه المناوشات حتى لم يبق للاِسماعيليين سوى القدموس.

(1)

وممن شهد بذلك من المحقّقين، الدكتور عارف تامر في كتابيه القرامطة، ومعجم الفرق الاِسلامية.

(2)

6. كانت هناك محاولات للتقريب بين عقائد الاِسماعيلية والعلويين باءت بالفشل بمساعي مشايخ العلويين العلماء على رأسهم حاتم الطوياني سنة 745ه_.

(3)

أهمّ العشائر العلوية

العشائر العلوية الرئيسة أربع: الحداديون والنميلانيون والرشاونة والخياطيون، وتقسم كلّ واحدة من هذه العشائر إلى أفخاذ وبطون، وترجع الثلاث الاَُولى منها إلى عشيرة المحارزة البشازعة التي هي أقدم العشائر جميعاً.

(4)

ومن عشائرهم نواصرة وقراحلة ورشاونة ورسالنة، جروية باشوطية ومقاورة، ومهالبة.

فهم يرجعون في نسبهم إلى فرعين رئيسيين:

____________

(1) 1 محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:338_340.

2. عارف تامر:معجم الفرق الاِسلامية:128 فمابعد.

3. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:378.

4. الدكتور وجيه محي الدين: مجلة النهضة العلوية؛ أحمد زكي تفاحة: أصل العلويين وعقيدتهم: 24_25، المطبعة العلمية، النجف الاَشرف _ 1376ه_| 1957م.

( 417 )

1. فرع القبائل اليمنية (العرب القحطانيين) من همدان وكندة.

(1)

2. فرع القبائل الشاميّة والعراقية من غسّان وبهرا وتنوخ.

(2)

الذين اعتنقوا المذهب الشيعي في وقت مبكر. بعض قبائلهم كالمحارزة يدّعون أنّهم هاشميون، وبعضهم ازداد عددهم بهجرة قبائل طي (نهاية القرن الثالث الهجري) وغسّان الذين دفعتهم الحروب الصليبية ومعهم الاَمير حسن بن المكزون (ت638ه_) من جبل سنجار في العراق إلى منطقة الشام في المنطقة الممتدة من طبرية وجبل عامل حتى حلب.

(3)

العشائر العلوية كانوا يسكنون بادية الشام أوّلاً ثمّ نزحوا إلى ديار ربيعة في الجزيرة الفراتية، وفي

العهد العثماني تركوا بلادهم وسكنوا بيلان، اضنه وانطاكية وقسم منهم سكنوا منطقة الكلبية بقرب اللاذقية في سوريا وقسم آخر منهم في جبال البهرة مع الاِسماعيليين، وتسمى جبال لكام، وقسم آخر منهم في جند الاَردن وطبريا بالقدس المحتلة.

ومعظم العلويين يحتشدون في سلسلة الجبال الممتدة من عكار

(4)جنوباً إلى طوروس شمالاً، ويتوزع بعضهم في محافظات حمص، حماة ودمشق وحوران كيليكيا ولواء الاسكندرون في سوريا، ويوجد في المهاجر الاَمريكية أكثر من ربع مليون علوي فضلاً عن الموجود منهم في لبنان والعراق وفلسطين وإيران. (5)

وكذلك في أُوربا من تركيا واليونان و بلغاريا إلى آلبانيا السفلى.

(6)

____________

1. تاريخ اليعقوبي:324،طبع ليدن.

2. الهمداني: صفة جزيرة العرب:132، وراجع تاريخ العلويين: لمحمد أمين غالب الطويل: 349_ 356.

3. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:356.

4. في لبنان و كذلك يتواجدون في وادي التيم، وفي جبال الظنيين(راجع لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني للدكتور محمد علي ملي).

5. عبد اللطيف يونس: الثورة العلوية؛ الدكتور سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام.

6. هاشم عثمان: العلويون بين الاَُسطورة و الحقيقة:40_ 41.

( 418 )

أعلام العلويين

1. إسحاق الاَحمر

(... _ 286ه_)

إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان النخعي، أبو يعقوب، الملقب بالاَحمر، من أهل الكوفة، رئيس الطائفة الاِسحاقية، وإليه نسبتهم وكانوا بالمدائن على نحلة النصيرية، وكان إسحاق يطلي بصره بما يغيره فسمي الاَحمر، وقيل: لبرص فيه. ذكره الذهبي في رجال الحديث وطعن به وبالغ في ذمه، عمل كتاباً في التوحيد سماه «الصراط».

(1)

2. المنتجب العاني

(330_400ه_)

محمد بن الحسن العاني الخديجي المضري، أبو الفضل، المنتجب، ولد في عانة عام 330ه_ وإليها نسبته، ونشأ فيها وفي بغداد حيث استقر مدّة، ثمّ انتقل إلى حلب وسكنها ثمّغادرها إلى جبال اللاذقية واتصل بحسين بن حمدان الخصيبي وتلقى عنه العقيدة والطريقة

وأصبح من دعاتها، وله ديوان شعر كان شاعراً وجدانياً غزير المعاني باطنياً.

(2)

____________

1. ميزان الاِعتدال: 1|196 برقم 784؛ البداية والنهاية:11|82؛ لسان الميزان:1|370؛ تاريخ بغداد:3|290و6|378؛ الاَعلام:1|295.

2. الزركلي: الاَعلام:6|82؛ بروكلمان: تاريخ الاَدب العربي: 3|358؛ الدكتور أسعد أحمد علي: فن المنتجب العاني وعرفانه:37، دار النعمان، بيروت _ 1968م.

( 419 )

3. الحسين بن حمدان الخصيبي

(260_ 358ه_)

ومن أعظم رجالات العلويين وعلمائهم الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلائي

(1) وكنيته أبو عبد اللّه، ولد في جنبلا سنة 06 سبع سنين، وحفظه وهو ابن عشر، وحج وهو ابن عشرين، وأتى حلب سنة 315ه_، وتوفي فيها عام 358ه_، وقبره يعرف بالشيخ يبرق. (2)

وشهد وفاته بعض تلامذته ومريديه، منهم: أبو محمد القيس البديعي، وأبو محمد الحسن بن محمد الاعزازي، وأبو الحسن محمد بن علي الجلي.

وأقوال الموَرخين المعاصرين عنه كثيرة بين متحامل عليه وحاقد، وبين ملتزم في الصمت، منهم: النجاشي، وابن الغضائري، وصاحب الخلاصة من المتحاملين عليه.

وفي الفهرست لابن النديم: الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلاني يكنّى أبا عبد اللّه، روى عنه التلعكبري وسمع منه في داره بالكوفة سنة 334ه_، وله فيه إجازة.

وفي لسان الميزان: الحسين بن حمدان بن خصيب الحصيبي أحد المصنفين في فقه الاِمامية، روى عنه أبو العباس بن عقدة وأثنى عليه وأطراه وامتدحه، كان يوَم سيف الدولة ابن حمدان في حلب.

(3)

وفي أعيان الشيعة للعلاّمة السيد محسن الاَمين العاملي ترجمة للخصيبي

____________

1. جنبلاء محدوداً بضمتين وثانية ساكنة، كورة ومنزل بين واسط والكوفة في العراق.

2. محمد أمين غالب الطويل: تاريخ العلويين:198؛ الطبرسي النوري: نفس الرحمن:142_144.

3. علي عزيز الاِبراهيم: العلويون والتشيع:129.

( 420 )

مفادها امتداحه والثناء عليه وكلّ ما نسب إليه من معاصريه وغيرهم لا أصل له ولا صحّة وإنّما كان طاهر السريرة والجيب وصحيح العقيدة. (1)

ومن أهم مصنفاته:

1. كتاب الهداية

الكبرى في تاريخ النبي والاَئمّة ومعجزاتهم وقد قدّم كتابه هذا إلى سيف الدولة الحمداني.

(2)

وهذا الكتاب يشتمل على أربعة عشر باباً في مناقب الرسول - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأهل بيته، أوّلها باب رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، وثانيها باب السيدة الزهراء - عليها السّلام- ، واثنا عشر باباً لكل إمام منهم باب من علي إلى المهدي - عليهم السّلام- ، غير انّه توسع في باب المهدي (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ). وقد عدّ في هذا الكتاب أسماء رسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ، و أسماء أمير الموَمنين علي بن أبي طالب - عليه السّلام- ، وأسماء فاطمة الزهراء و الحسن والحسين والاَئمة التسعة من ذرية الحسين - عليهم السّلام- في السرياني والعبراني والعربي و جميع اللغات المختلفة بجميع أسمائهم وكناهم والخاص والعام منهم، وأسماء أُمهاتهم ومواليدهم وأولادهم ودلائلهم وبراهينهم في الاَوقات، ووفراً من كلامهم وشاهدهم وأبوابهم والدلالة من كتاب اللّه عزّ وجلّ والاَخبار المروية المأثورة بالاَسانيد الصحيحة، وفضل شيعتهم.

2. الاِخوان 3. المسائل 4. تاريخ الاَئمة 5. الرسالة 6. أسماء النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأسماء الاَئمة.

(3)

____________

1. محسن الاَمين العاملي: أعيان الشيعة: 5|490_491.

2. الذريعة:25|164؛ أحمد زكي تفاحة: أصل العلويين وعقيدتهم:55؛ المامقاني: تنقيح المقال: 1|326.

3. أعيان الشيعة: 5|491.

( 421 )

4. الميمون الطبراني

(358 _ 426ه_)

سرور بن القاسم الطبراني ، أبو سعيد، الملقب بالميمون شيخ العلويين في اللاذقية، ورئيس الطريقة المعروفة عندهم بالجنبلانية، ولد في طبريا وإليها نسبته، وانتقل إلى حلب فتفقه بفقه العلويين أصحاب الخصيبي والجنبلاني، وصنف كتاباً في مذهبهم، ثمّرحل إلى اللاذقية والتف حوله من فيها منهم واستمر إلى أن توفي ودفن

بها على شاطىَ البحر في مسجد الشعراني.

(1)

5. الحسن بن مكزون السنجاري

(583 _ 638ه_)

هو الاَمير حسن بن يوسف مكزون ابن خضر، ينتهي نسبه إلى المهلّب بن أبي صفرة الاَزدي ولد عام 583ه_ في سنجار العراق، يعدّه العلويون في سورية من كبار رجالهم، كان مقامه في سنجار أميراً عليها، واستنجد به علويو اللاذقية ليدفع عنهم شرور الاِسماعيلية سنة 617ه_، فزحف إليهم سنة 620ه_ وأزال نفوذهم، ثمّ تصوّف وانصرف إلى العبادة، ومات في قرية «كفر سوسة» عام 638ه_ بقرب دمشق، وقبره معروف فيها.

(2)

له ديوان شعر، وكتاب تزكية النفس في العبادات الخمس، وهو صاحب

____________

1. الزركلي: الاَعلام: 3|81؛ ترمانيني: أحداث التاريخ الاِسلامي:2|1132.

2. الزركلي : الاَعلام:2|227.

( 422 )

نزعة فلسفية روحية تميل نحو فلسفة محي الدين العربي في تفسير القرآن على رأي المتصوفين، وأنّه يعارض ابن الفارض في تائيته في جملة قصائده التي مطلعها:

لبّيت لما دعتني ربّة الحجب * وغبت عني بها في شدّة الطرب

(1)

إلى غير ذلك من الشخصيات التي ذكرها أصحاب التراجم.

* * *

تم الجزء الثامن من

«موسوعة بحوث في الملل والنحل»

ولاح بدر تمامه في اليوم

الثاني من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1418

على يد الفقير إلى اللّه جعفر السبحاني

ابن الفقيه محمد حسين الخياباني التبريزي تغمده اللّه بواسع رحمته

حامداً للّه ومصلياً على النبي والآل

راجياً عفو ربّه وغفرانه

يوم المساق يوم تلتف الساق بالساق

____________

1. أحمد زكي تفاحة: أصل العلويين وعقيدتهم:29_30؛ يونس رمضان: تاريخ المكزون:2|340_ 341؛ أسعد أحمد علي: معرفة اللّه، و المكزون السنجاري: 1|510_ 511، دار الرائد العربي، بيروت، 1972م.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.